سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1412 ه.ق

الصفحات: 697

نسخة غير مصححة

المكتبة الإسلامية

محاضرات الاستاذ للحقّق الشيخ جعفر السبحاني

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية في شتی أبعادها الاجتماعية والرسالية والسياسية والعسكرية

بقلم جعفر الهادي

الجزء الأول

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

المجلد 1

اشارة

سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 ش.

سيّد المرسلين صلی اللّه عليه وآله / تأليف جعفر السبحاني. -- مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة 1412 ق. = 1370 ش.

ج1 -- (مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة. 390).

عربی.

شابك الدورة 6-396-470-964-978

ISBN 978-964-470-396-6

فهرست نويسی بر اساس اطلاعات فيپا.

ج1 (چاپ چهارم: 1429 ق = 1387 ش).

كتابنامه.

2ج (چاپ اوّل: 1413ق = 1371ش).

1. محمّد (صلی اللّه عليه وآله)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.الف. جامعۀ مدرسین حوزۀ علميۀ قم ، دفتر انتشارات اسلامی ب. عنوان.

9س 2س / 9 / 22 BP

297/193

كتابخانۀ ملّی ایران 1146-71م

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

(ج1)

تأليف: الاُستاذ المحقق آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني

تعريب: الاُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع: السيرة النبوية

طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 700

الطبعة: الرابعة

المطبوع: 1000 نسخة

التاريخ: 1429 ه.ق.

شابك ج1: 2-716-470-964-978

ISBN 978-964-470-716-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لم تزل السيرة المحمَّدية العطرة في جميع أبعادها موضع اهتمام الاُمة الاسلاميّة من لدن بزوغ فجر الإسلام العظيم ، ومنذ الأيّام الاُولى من البعثة النبوية الشريفة.

ولا غرو فقد كان الرسول الأكرم محمَّد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يجسد بسيرته المثلى قيم الدين ويمثل بأخلاقه السامية أخلاق القرآن ، ويعكس بمواقفه الرشيدة وبإدارته الحكيمة لشؤون الاُمة طريقة الإسلام في إدارة دفة الحياة.

هذا مضافاً إلى أنه كان القدوة الّتي أمر اللّه تعالى المسلمين بالاقتداء بها ، واقتفاء أثرها ، كما أنه كان الظاهرة الفريدة الباهرة في الأدب الرفيع والإنسانية الشفافة والعاطفة الصادقة والرحمة واللطف ، وغيرها ممّا كانت تفتقر بيئة ظهور الإسلام الاُولى إليه وتتعطش إلى مثله.

من هنا أخذ المسلمون يهتمّون بكل حركات الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وسكناته ، ويتأمّلون في جميع أعماله وتصرّفاته فاذا رأوا منه خُلقاً بادروا إلى تكراره في سلوكهم ، وإذا شاهدوا منه عملا أسرعوا إلى فعله في حياتهم ، وعمدوا في المآل إلى تسجيل كل صغيرة وكبيرة في هذا المجال ، وضبط كل دقيقة وجليلة في هذا الصعيد.

وفعلا كانت هذه السيرة الطيّبة العطرة المقدّسة هي المنهج العملي للمسلمين ، وهي سرّ تقدُّمهم ، وهي رمز عظمتهم وسموّهم ، وعلوّ شأنهم وشأوهم.

ص: 3

ولا تزال هذه السيرة المشرفة اليوم قادرة على أن تكون ضوء المسيرة ، ومشعل الطريق ، ومنهج العمل ومفتاح الانتصار في معركتنا ضدّ قوى الشرّ والطغيان.

وحيث إن أموراً اقحمت في هذه السيرة ، كما أنّ تطور الزمن وكيفية الدراسات اقتضيا إخراج دراسات في مجال السيرة تتناول البعد الذاتي والرساليّ والسياسيّ والقياديّ والعسكريّ لسيّد المرسلين صلى اللّه عليه وآله وسلم بالتحقيق والتحليل ، وتتناسب مع حاجة العصر ولغته ، لهذا رأت مؤسسة النشر الإسلامي أن تقدّم للجيل الحاضر خاصة وللمسلمين عامة هذه الدراسة القيمة في سيرة خاتم الانبياء محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تسامها بكثير من هذه المواصفات.

والدراسة هي مجموعة محاضرات للاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني الّذي عرف في الأوساط الإسلامية بتحقيقاته العميقة في الكتاب والسنّة والعقيدة والتاريخ.

وفي الوقت الّذي تقوم به المؤسسة - وللّه الحمد - بطبع هذه الدراسة القيمة ونشرها بعد مقابلتها تقدّم جزيل شكرها وامتنانها لسماحة الاستاذ الألمعي الشيخ جعفر الهادي لما بذله من جهود وافرة من تعريبها واستخراج النصوص من مصادرها سائلة اللّه سبحانه له ولسماحة الشيخ المحاضر ولها المزيد من التوفيق ، كما وتدعو المولى عزّ وعلا أن يتقبّل منا جميعاً وأن تشملنا شفاعة الرسول الأعظم وآله الأطهار عليهم السلام في يوم الحشر إنه خير موفق ومعين.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 4

السيرة المحمَّدية مدرسة الأجيال

« لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة »

القرآن الكريم

النبيُّ الأكرم « محمّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم اُسوةٌ للمسلمين ... أُسوةٌ يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم : الفردية والاجتماعية ، والسياسية ... اُسوة إلى الأبد ... في كل زمان ومكان ، في كل عصر ومصر ، لجميع المسلمين من كل لون ولغة.

ولكن كيف يتأسّى المسلمون - في مختلف الأجيال والأدوار - برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكيف يقتدون بسيرته المثلى ، ويهتدون بهديه العظيم؟

إنّ هذا لا يتسنّى إلاّ إذا كانت حياة رسول الإسلام بجميع خصوصياتها ، وتفاصيلها ، وفي جميع مجالاتها ونواحيها ، مدوّنة مسجّلة ، بل ومحلّلة تحليلا دقيقاً وعميقاً.

من هنا فان الضرورة تقضي بوجود تاريخ مدوَّن ، مشفوع بالتحليل الدقيق ، والدراسة الموضوعية لشخصية وسيرة سيد المرسلين صلى اللّه عليه وآله وسلم في كافة مجالاتها الشخصية والرسالية والسياسية والعسكرية.

حقاً إن في حياة رسول الإسلام العظيم « محمّد بن عبد اللّه » صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما هو واضحٌ لمن تتبعَ وتصفحَ - اُموراً دقيقة ، ولكن بالغة العظمة في مداليلها ومعانيها ، بالغة الأهميّة في معطياتها ودروسها.

ص: 5

فرسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء ، ورسالته وشريعته خاتمة الرسالات والشرائع ونهضته هي النهضة الكبرى الّتي مهّدلها الأنبياء السابقون ، وقد فتحت هذه النهضة الالهية صفحة جديدة في حياة البشرية ، وغيّرت مسار التاريخ الإنساني تغييراً جذرياً ، وأسست حضارة كبرى لا تزال أمواجها - رغم مرور أربعة عشر قرناً - حية نابضة ، فاعلة ، تهزُ الضمائر ، وتتفاعلُ مع العقول.

ولهذا فإنَّ السيرة المحمّدية مشحونةٌ بالمناهج والدروس ، زاخرة بالبصائر والعبر ، بقدر ما هي مليئة بالدقائق والحقائق ، واللطائف والاسرار.

حقا إن حياة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بحاجة إلى تعمق جديد كلما تجدّد الزمن ، وكلما تقدمت العلوم والمعارف ، وتطورت الحياة ، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدةٌ في شتى الأصعدة والمجالات.

ولا شك أنّ هذه المهمة ليست عملا بسيطاً ومهمّة سهلة ، وخاصة مع ما عليه الكثير من المصادر التاريخية الاُولى من تصحيف أوتحريف أوتشويه للحقائق ، أوتغيير للاُمور.

فان هذه المهمة تحتاج - في ما تحتاج إليه - إلى ثلاثة أشياء أساسية :

1 - عقلية متفتحة ، متدبرة ، نافذة متأنية.

2 - جهود كبيرة ، وتتبع واسع ، وتمييز للصحيح عن السقيم ، والدخيل عن الاصيل.

3 - معرفة بجوانب تتصل بالسيرة المحمَّدية اتصالا وثيقاً كالمعرفة بمكانة سيّد المرسلين صلى اللّه عليه وآله وسلم في القرآن الكريم.

فمع توفّر هذه الشروط يمكن الحصول على صورة نقيّة ، ومفيدة للسيرة المحمَّدية المباركة ، صورة تتفق مع روح القرآن ، وتلتقي مع الواقع ، وتصلح للاتساء ، والاقتداء ، والاهتداء والاقتفاء.

ولقد توفرت هذه الشروط - وللّه الحمدُ - في استاذنا العلامة الحجّة المحقّق سماحة الشيخ جعفر السبحاني ، حفظه اللّه.

ص: 6

فهو المعروف بسلسلته القرآنية « مفاهيم القرآن » الّتي تكشف عن إحاطة كبيرة بكتاب اللّه العزيز ، وإلمام قليل النظير بمفاهيمه.

ولهذا كان خيرَ من قام في عصرنا الحاضر بدراسة السيرة المحمَّدية الطاهرة العبقة ، فكان هذا العمل التاريخي المبارك الّذي توفّرت فيه المستلزمات الثلاثة الآنفة الذكر : العقلية المتفتحة ، والمعرفة الواسعة بالقرآن الكريم وخاصة في ما يتّصل بالرَّسول الأكرم ، إلى جانب التتبع الواسع والاستقصاء الكبير لمواقع العبرة والاسوة في حياة خاتم الأَنبياء وسيّد المرسلين.

ولا أجدني - في هذا التقديم العابر - بحاجة إلى ذكر نقاط القوة الكثيرة في هذه الدراسة المستوعبة لشخصية وحياة رسول الإسلام ، بل أرى أن يحاول القارئ الكريم بنفسه الاطلاع على ذلك حتّى لا يفوته شيء ممّا لا يفوّت ، وسيقف بنفسه أيضاً على جسامة ما بذل في هذه الدراسة من جهد ، وروعة ما ضُمِّنت من تحليل ، وأهمية ما احتوته من حقائق.

وفي الختام اسأل اللّه العلي القدير ان يتقبل منا جميعاً هذا الجهد ، ويجعله ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، انه خير معين.

قم

جعفر الهادي

30 شعبان 1409 هجرية

ص: 7

ص: 8

مقدّمة المحاضر

اشارة

التاريخُ في أَعظَم حَماساتِه

* مُختبرُ « الحياة » العظيم.

* « لقد عُمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم! ».

* حياة العظماء ، والخالدين.

* عندما يلتقي العالم الحاضر بالعالم الغابر.

* التاريخ بين التسجيل.

* أخطاء المستشرقين العجيبة.

يُحاولُ الإنسان دائماً أن ينظر إلى كل قضيّة من القضايا من نافذة الحس ، وإن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي ، لأنَّ أوثقَ المعلومات لديه هي تلك الّتي تتألف من هذه « المعلومات الحسية » ولهذا فإنَ المسائل الّتي تحظى بأَدلة حسّية اكثر تكسب في العادة قسطاً اكبر من ثقة الإنسان وتصديقه.

وعلى هذا الاساس عمَدَ العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية ، ويعكف العلماءُ في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الامور المتنوعة باسلوب خاص وطريقة معينة.

ولكن هل يمكن - تُرى - أن تدخلَ المسائلُ والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية ، وتخضع للمجهر والميكرسكوب ، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلاً ؛ هل يمكن أن نعرفَ عن طريق التجارب المختبرية ما يؤدّي إليه

ص: 9

الاختلافُ والتشرذم في المجتمع الواحد ، وما يصيب شعباً من الشعوب أو اُمة من الامم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييمُ ما تنتهي إليه جهودُ المستعمرين ، أو ما يؤول إليه الظلمُ والحيف ، من خلال تجربة حسية؟

أم هل يمكنُ الوقوفُ على نتائج « الاختلاف الطبقيّ » ، « والتمييز العنصريّ » في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

في الاجابة على كل هذه الاسئلة يجب أن نقول : كلا مَعَ الاسف.

وذلك لأنَّه لا توجَد للقضايا الاجتماعية - رغم أهميتها القصوى - مثل هذه المختبرات ، وحتّى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية ، فان إنشاءها وايجادها يكلِّف نفقات باهضةً ، وتستدعي جهوداً عظيمة.

ولكنَّ الأمر الّذي في مقدوره أن يقلّل من حجم هذا النقص إلى حدّ كبير هو أننا نملك اليوم شيئاً يسمى ب : « تاريخ الماضين » والّذي يشرح لنا ما كان عليه البشرُ - أفراداً وجماعات - طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الارض ، كما ويعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم ، من إنتصارات وهزائم ، ونجاحات وانتكاسات ، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الامم والشعوب من حوادث مرة أو حلوة.

إنَّ التاريخ يذكر لنا : كيف وُجدَت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم ، وكيفَ سلكت - بعد مدة - طريق السقوط والانقراض ، حتّى أنها قد مُحيت عن صفحة الوجود بالمرّة ، واصبحت خبراً بعد أثر ، وبالتالي ما هي العوامل الّتي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها.

إنّ حياة الماضين وتاريخهم يحتفظ لنا في صفحاته بقسط كبير ومهمّ جداً من هذه الحوادث ، ولهذا صحّ أن يقال : « التاريخ مختبر الحياة العظيم » ، فبمعونة التاريخ يمكن تقييم مختلف القضايا الاجتماعية ، ودراستها واستخلاص النتائج والعبر المفيدة منها.

ص: 10

وإنَّ من حُسن الحظ أننا لم نكن أول من حطَّ قدمه على هذا الكوكب ، فهذه الارضُ بسهولها وشعابها العريضة ، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الارض من قبلنا ، وشهدتا افراحهم واتراحهم ، همومهم وغمومهم ، وحروبهم ، ومصالحاتهم ، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار ، وارتقاء وهبوط ، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخربها تاريخ الشعوب والاقوام والامم.

صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم ، وغابوا جميعاً - أشخاصاً وأسراراً - في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار ، إلاّ أن قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الامور إما أنها قد دُوّنت بأيدي أصحابها ، أولا تزال طبقاتُ الارض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطياتها ، كما ولا تزال ذات الاطلال الصامتة - في ظاهرها - تشكل أضخم متحف ، واغنى معرض ، واكبر مختبر ، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه ، ويشرحُ رموزه وأسراره.

إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الامم الغابرة في الكتب ، أوفي الاطلال العظيمة ، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون في بطون التلال ، وثنايا الارض تعلّمنا اُموراً كثيرة ، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً جديداً وزمناً اضافياً ، لا يُستهان به وذلك بما تقدمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة ، والهدى والبصيرة.

أليست حصيلة العمر ما هي إلاّ ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟

ولقد اشار الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال :

« أيْ بُنيَّ! إنّي وإنْ لم اكن عمَرتُ عمرَ من كان قبلي ، فقَد نظرتُ في أعمالهم وفكَّرتُ في أخبارهم وسرت في آثارهم حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأَنَّي بما انتهى اليَّ من اُمورهم قد عمّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم » (1).

ص: 11


1- نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم 31.

ولكنّ المؤسف أن كُتُب التاريخ الموجودة الآن تعاني من نقص كبير من حيث الاشارة إلى العبر والدروس الاجتماعية المفيدة ، لأن هذه المصنفات لم تدوَّن لأَجل هذا الغرض ، ولهذا اُغفِلَ فيها - في الاغلب - كل ما هو مؤثرٌ في كشف الحقائق التاريخية ، وإبراز العلل الكامنة وراء الحوادث المتنوعة والوقائع المختلفة ، وبالتالي فقد تجاهلت تلك الكتب والدراساتُ ما هو المفتاح الطبيعيّ لحلِّ الرُموز الكبرى في مسيرة التاريخ البشري ، واعتنتْ - بدلا عن ذلك - بالقضايا التافهة.

لقد تصدّى كثيرٌ من المؤرّخين لتدوين وتسجيل القضايا التاريخية ، تارة بهدف التسلية واُخرى بدافع إبراز الفضل لأقوامهم أو طوائفهم ، واظهار تفوقها على الاقوام والطوائف الاُخرى ، وثالثة بدافع الحب والبغض ، او التعصب لهذا أو ذاك ولهذا عجزت هذه المؤلفات والكتب عن حل أية مشكلة ، وتبديد أية حيرة ، بل هي تزيد المرء ضلالا إلى ضلال ، وحيرة إلى حيرة!

ولكن رغم كل هذا يستطيع اُولو النباهة والبصيرة ، واصحاب الفهم والتحقيق ان يتوصلوا - من خلال مطالعة هذه المؤلفات التاريخية على ما فيها من عيوب ونقائص ، ومع ما فيها من أساطير عن الشعوب المختلفة - إلى ما يساعدهم على كشف الكثير من اسرار وخلفيات القضايا والامور المتعلقة بالشعوب الماضية ، تماماً كما يفعل الطبيبُ الحاذق ، أو القاضي البارعُ الّذي يمكنهما من خلال الوقوف على القرائن الجزئية المتفرقة ، التوصّل إلى اكتشاف نوع « المرض » أو حالة « المتهم » الحقيقية ، وما يعاني منه في واقعه النفسي.

* * *

إنَّ أعظم صفحات التاريخ قيمة هي تلك الّتي تعكس لنا حياة العظماء وسيرة الرجال الخالدين ، وتبحث عنها بصدق وامانة وموضوعية.

إنَّ لحياتهم أمواجاً خاصة ، كما أنها زاخرة بانواع الحوادث.

لقد كانوا عظماء حقاً ، وكذلك كان كل ما يرتبط بهم ، ومن ذلك تاريخهم ، إنه شيء عظيم يستحق التأمّل والتدبر ، فهو يتسِمُ بِلمعان يلفت الأنظار ، ويخلب

ص: 12

الالباب وإنّه غني بالعظات والعبر ، زاخرٌ بالبصائر والدروس وإلى درجة لا توصف.

إنهم معجزةُ الخليقة بلا ريب ، وإن حياتهم لهي - في الحقيقة - ملحمة التاريخ الكبرى ، وساحة البطولات الخالدة ، ومسرح الحماسات العظمى ، الحية النابضة على مر العصور ، والايام.

لقد كان اولئك العظماء يعيشون في الاغلب على خط الثورات والتغييرات الاجتماعية الاول ( وبعبارة أصحّ ) كانت الثورات والتحولات الاجتماعية تجد مصداقيتها في حياتهم وتتجسد في مواقفهم ، ولهذا كانوا يشكلون - في واقع الأمر - حلقة الاتصال بين الدنياوات المختلفة المتناقضة ، وكانت حياتهم الحافلة بالاحداث شاهدة للألوان المختلفة والمشاهد المثيرة المتنوعة.

* * *

وعلى رأس اُولئك الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين رسول الإسلام العظيم محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فانه لم تتسم حياة أحد - من حيث وفرة الاحداث ، وعظمة الأمواج ، كما اتسمت به حياته صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا اتصفت شخصية بمثل ما اتصف به ذلك النبي العظيم.

فلم يستطع احدٌ سواه أن يؤثِّر في بيئته ، ثم في جميع العالم ، وينفذ إلى أعماق الاعماق بمثل السرعة والسعة الّتي حصلت له صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ولم يوجد أيُّ واحد منهم قط من مجتمعه المنحطّ المتخلّف ، حضارة بتلك العظمة والشموخ ، كما فَعلهُ رسولُ الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم وتلك حقيقة يقرّبها كل مؤرخي الشرق والغرب.

إنّ مطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا الإنسان العظيم ، قادرة على أن تعلمنا الكثير الكثير ، وأن توقفنا على مشاهد متنوّعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة.

إن مشاهد عجيبة مثل الأَيام الاُولى مِن بناء الكعبة المعظمة ، واستيطان اسلاف النبي الكريم « مكة » وهجوم عسكر الفيل الفاشل لهدم بيت اللّه المعظم ، والاحداث والملابسات المرافقة لمولد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ص: 13

كما وإن مشاهد محزنة مثل وفاة « عبد اللّه » و « آمنة » والدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مطلع حياته الشريفة بتلك الكيفية المؤلمة.

ومشاهد عظيمة ومهيبة وحافلة بالاسرار مثل الايام الاولى من نزول الوحي ، وما جرى في جبل « حراء » وما تبعه من مواقف الاستقامة والمقاومة الّتي ابداها واتخذها رسول اللّه واصحابه المعدودون طيلة ثلاثة عشر عاماً ، في سبيل نشر الدين الاسلامي في مكة ، ومكافحة الوثنية والجاهلية.

وكذا مشاهد مثيرة وساخنة وحماسية مثل وقائع السنة الاُولى من الهجرة المباركة وما عقبتها من حوادث ومواقف.

* * *

ولقد الّفت حَول حياة رسول الإسلام أعظم قادة البشرية على الاطلاق كتبٌ ورسائلٌ ودراساتٌ كثيرة بحيث لواتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد لشكلت مكتبة عظيمة وضخمة.

ويمكن القولُ - بشكل قاطع - بأنه ليس ثمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والمؤرخين والمفكرين العالميين الكبار ، كما ليس ثمة شخصيّة من شخصيّات العالم كتب حولها المؤلفون والباحثون هذا القدر الهائل من المؤلفات والمصنفات ، والرسائل والكتب ، كما حصل لرسول الإسلام محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

إلاّ أن أكثر هذه الكتب والمؤلفات تعاني من أحد إشكالين : إما أن الكتاب جاء على نسق التسجيل المجرد للحوادث ، أو النصوص التاريخية ، من دون أن يتصدى فيه مؤلفه لتحليلها ، ودراسة خلفياتها ونتائجها ، وإصدار الحكم اللازم فيها ، بل إن البعض قد تجنب عن بيان علل الوقائع الإسلامية واسبابها ، وثمارها ومعطياتها كذلك.

أو أن المؤلّف - في بعضها الآخر - عمَد إلى طائفة من الآراء الحدسية ، والاجتهادات الباطلة ، العارية عن الدليل واثبتها في مؤلَّفه على أنها الحكم الحق ،

ص: 14

وخلط هذه الاحكام مع بيان الحوادث ، ومن ثم اخرج كتابه ذاك إلى الجمهور المتعطش إلى تاريخ الإسلام ، على أنّه التاريخ المحقَّق ، المُمخَّص.

إن الإشكال الّذي يَردُ على الطائفة الاولى هو : أن الهدف من التاريخ ليس هو مجرَّد تسجيل الحوادث التاريخية وضبطها وتدوينها ، إنما هو كتابة صفحات التاريخ ، وقضاياه وأحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها ، وإبراز عللها واسبابها ، وثمارها ونتائجها ، والتاريخ بهذا الشكل أعظم كنز تركه الأقدمون لنا ، ومثل هذا النوع من الدراسة التاريخية لم تُدوَّن - أو أنه قلّما دُوَّنت - حول أعظم قادة البشر ، محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد تجنب اكثر كتاب السيرة النبوية عن اظهار الرأي في الحوادث ، أو القيام باي تحليل للوقائع ، بحجة الحفاظ على اُصول الحوادث ونصوصها.

في حين أنَّ هذه العُذر ، وهذا الحجة غير كافية لتبرير هذا الموقف ، لأنه كان في مقدور اولئك المؤرخين - للحفاظ على ما ذكروه - أن يؤلفوا نوعين من الكتب ، نوعاً يختص بسرد الوقائع والنصوص التاريخية على ما هي عليه من دون ابداء رأي ، أو تحليل ودراسة ، ونوعاً آخر يعتني بذكر الحوادث والقضايا التاريخية مع تحليلها ودراستها بصورة موضوعية صحيحة أو ان يتم كلا الأمرين في كتاب واحد بأن تفرز الحوادث التاريخية عن التحليل والرأي.

على كل حال قلما نجد بين قدماء الكُتّاب المسلمين من تصدى للسيرة النبوية المحمَّدية الطاهرة بهذه الصورة ، وقلما يوجد هناك كتابٌ يتناولُ حياة خاتم الانبياء وسيّد المرسلين بالتحليل المذكور.

بل لابدّ من القول بان السيرة النبوية الطاهرة ليست هي وحدها التي حُرمت من مثل هذا النمط من التأليف والكتابة ، بل شمل هذا الحرمان اكثر الحوادث التاريخية الّتي وقعت على مر العصور الإسلامية فهي اُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق.

نعم إن أول من فتح هذا الطريق على وجه عامة المؤلفين والكتاب هو :

ص: 15

العلامة المغربي « ابن خلدون » (1) فقد أسس في مقدمته المعروفة باسم مقدمة ابن خلدون نمَط التاريخ التحليلي بنحو من الانحاء.

وأما الطائفة الثانية من تلك الكتب فهي وإن اُلفت على نمط التاريخ التحليلي واتسمت بصفة التحقيق والدراسة ولكن حيث ان بعضهم لم يتجشم عناء التتبع والاستقصاء ، أو أنه اعتمد في تحليله للحوادث على المصادر غير المتقنة وغير الصحيحة ، فقد تورط في أخطاء فضيعة محيّرة ، وأكثر مؤلفات المستشرقين - الّتي لم تكتَب في الأغلب بهدف التوصل إلى الحقيقة - من هذا النمط ، ومن هذه القماشة.

ولقد دأَب في هذه الدراسة - بعد ملاحظة هذه الاشكالات - على ان يقدم إلى القراء جهد امكانه كتاباً يخلو عن عيوب ونقائص كلتا الطائفتين.

مزايا هذا الكتاب :

قد لا يكون من الضروري بيان مزايا هذا الكتاب ، واستعراض امتيازاته في مقدمته ، فذلك أمرٌ ينبغي أن يقف عليه القارئ الكريم بنفسه ضمن مطالعته لهذه الدراسة ، إلاّ انه إلفاتاً لنظر القارئ نشير إلى مزيتين هامتين هما :

أولاً : أنّنا عمدنا - في هذا الكتاب - إلى تناول وبيان الحوادث والوقائع المهمة الّتي تنطوي على قَدَر ، اكبر من الفائدة ، والعبرة ، وأعرضنا صفحاً عن ذكر الاحداث الجزئية ، والوقائع الصغيرة مثل الكثير من السرايا.

ثم أننا أخذنا الحوادث التاريخية هذه من المصادر الأصلية ، والأولية ، الّتي دُوِّنت في القرون الإسلامية المشرقة الاولى ، فقد استخلصنا الحادثة من مجموعة تلك المصادر ، ثم أشرنا إلى مصدر أو مصدرين من المصادر الّتي ذكرت الحادثة

ص: 16


1- هو القاضي عبد الرحمان بن محمَّد الحضرمي المالكي المتوفى عام 808 ه- ، ومقدمته وتاريخه - على ما فيهما من أخطاء فضيعة في التحليل - معدودان من الكتب الجيدة المفيدة ، وهما مبتكران في نوعهما.

بصورة اكثر تفصيلا ودقة.

وربما يظن بعضُ القرّاء الكرام أننا اكتفينا في نقل الحوادث والوقائع بمراجعة مصدر أو مصدرين ممّا ذكرناه في أقصى الصفحة ( أي الهامش ) في حين أن الواقع هو غير هذا ، فنحن قد راجعنا حتّى في نقل الحوادث الصغيرة مهما صغرت ، اكثر المصادر الأصلية المعروفة ، وبعد التحقق والتشبث منها لخصناها وذكرناها في هذا الكتاب.

ولو أننا أشرنا - في جميع الحوادث والوقائع - إلى جميع المصادر الّتي مررنا بها لاستأثر جدول المصادر بقسم كبير من صفحات هذا الكتاب ، وهو أمرٌ من شأنه أن يبعث على الملل عند القرّاء ، فلكي لا يحس القرّاء بأيّ تعَب أو مَلَل من جانب ، ولأجل أن نحافظ على وثائقية الكتاب وأصالة أبحاثه وإتقانها من طرف آخر اكتفينا بذكر القدر اللازم من المصادر وتجنبنا تحشيدها بتلك الصورة الممِلّة.

وأما المزية الثانية : فإننا أشرنا - ضمن الدراسات اللازمة - إلى الاعتراضات والاشكالات ، بل وأحيانا إلى مواطن الاساءة الّتي قام بها المستشرقون المغرضون وأجبْنا على جميع الانتقادات والاعتراضات غير المبرَّرة وغير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة وصحيحة ، وجرَّدْناهم من الاسلحة الّتي شَهَرُوها في وجه الإسلام ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كما يقول المثل ، وتلك حقيقة يقف عليها القارئ الكريم بنحو أجلى في محلّها.

وعلى هذا الاساس عَمَدنا إلى ذكر رأي المؤلّفين الشيعة ( في المسائل المختلف فيها بين المؤرخين الشيعة والمؤرخين السنة ) مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة والمبرهنة عليه ، وأزحْنا كل ما يَدُور حول ذلك الرأي من شبهة أو إشكال ، ويستهدف إنكار صحته وحقانيته.

إننا إذ نقدّمُ هذه الدراسة التحليليّة لشخصية وحياة خاتم الأنبياة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى القراء الكرام نأمل أن يهتم بها عامّة المسلمين وخاصة المثقفين والشّباب منهم بوجه خاصّ ، ويتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيّة والتأمل

ص: 17

والتدبر ، ونآمل أن يستطيع شبابُنا المؤمن المتحمّس من أن يرسم خريطة حياته وحياة مجتمعه في ضوء ما يستلهمُه ويستوحيه من سيرة وحياة رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذه الحقبة البالغة الخطورة. واللّه وليّ التوفيق.

جعفر السبحاني

26 / جمادى الآخرة / 1392

ص: 18

سيّد المرسلين في ضوء القرآن الكريم

لقد سلّط القرآن الكريم الضوء على رسول الإسلام محمَّد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في آيات كثيرة تناولت بيان أسمائه ونشأته وصفاته وخصاله ، وبشارات الانبياء السابقين به وعصمته واُمّيته ورسالته وخاتميته وجهوده العظيمة التي بذلها في سبيل ابلاغ مهمته ، والخطابات الخاصة الالهية الموجّهة إليه وما يتوجب على المؤمنين تجاهه في حياته وبعد وفاته ، وما يتوجب عليهم تجاه أهل بيته وعترته ، ولكي تكون هذه الرؤية القرآنية الشاملة الدقيقة هي القاعدة الاساسية في دراسة الشخصية والسيرة المحمَّدية العظيمة آثرنا ادراج طائفة منها

ص: 19

في مقدمة هذا الكتاب.

* وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُسُلُ. ( آل عمران / 144 ).

* مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءٌ عَلى الكُفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. ( الفتح / 29 ).

* وَإذ قالَ عيسى ابْنُ مَرْيَمُ يا بَني إسرائيل إنّي رَسُولُ اللّهِ اِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بِيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرية وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِى مِنْ بَعدي اسْمُهُ أحْمَدٌ. ( الصف / 6 ).

* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَللآخِرَة خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدى وَوَجَدكَ عائلا فَأَغْنى. ( الضحى / 4 - 8 ).

* ألَم نَشْرَحْ لكَ صَدْركَ وَوَضعْنا عَنْكَ وزْرَكَ الَّذي أنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ. ( الانشراح / 1 - 4 ).

* وَإذ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكْمَة ثمَّ جاءكُمْ رَسولٌ مُصدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُوُمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إصْري قالوا أقْررنا قالَ فَاشْهَدوا وَأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدينَ. ( آل عمران / 81 ).

* ألَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيِّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكْتوباً عِنْدؤهُمْ في التَّوريةِ وَالأنجِيلِ يَأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْههُمْ عِنَ المُنْكَر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخبائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصّرَهُمْ وَالأَغْلالَ التَّي كانَتْ عَلَيْهِمْ. ( الأعراف / 157 ).

* الَّذينَ آتيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُم وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. ( البقرة / 146 ).

* الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ. ( الأنعام / 20 ).

* فآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذينَ يُؤْمنُ بِاللّهِ وكَلماتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ( الأعراف / 158 ).

* هُوَالَّذي بَعثَ في الاُميّينَ رَسُولا مِنْهُمء يَتْلوا عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتاب وَالحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلال مُبين وآخرينَ مِنْهم لَما يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ واللّهُ ذُوالْفَضلِ الْعَظيمِ. ( الجمعة / 2 ).

* وَأنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمكَ ما لم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظيماً. ( النساء / 113 ).

* وَما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِنْ كِتاب وَلا تخُطُهُ بِيَمينِكَ إذاً لارتَابَ المُبطِلُونَ. ( العنكبوت / 48 ).

ص: 20

* إقرأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلق خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَق إقْرأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. ( العلق / 1 - 5 ).

* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إنْ هُوَ اِلاّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمهُ شَديدُ القُوى ذو مَرَّة فَاسْتَوى وَهُوَ بالافُقِ الاَْعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدلّى فَكانَ قَاب قَوسَيْنِ أوْ أدْنى فَأَوحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رأى أو قتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ولَقَدْ رآهُ نَزلَةً أُخرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأوى إذْ يَغْشى السِّدرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبَّه الْكُبرى. ( النجم / 2 - 17 ).

* وَلَو تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الاَْقاوِيلِ لأَخَذْنا مِنْهُ بِالَيمينِ ثُمَّ لَقَطعْنا مِنْهُ الْوَتينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحد عَنْهُ حاجِزينَ. ( الحاقة / 44 - 47 ).

* وَما عَلَّمْناهُ الشِّعرَ وَما يَنْبَغي لَهُ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرآنٌ مُبينٌ. ( يس / 69 ).

* وَيَقُولُونَ أنَّنا لَتارِكُوا آلهَتِنا لِشاعِر مَجْنُون بَلْ جاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الُمُرْسَلينَ. ( الصافات / 36 - 37 ).

* إنَّهُ لَقَوْلُ رَسول كَريمْ وَما هوَ بَقَولِ شاعر قَليلا ما تُؤْمنُونَ. ( الحاقة / 40 ).

* وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنين. ( التكوير / 24 ).

* سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. ( الاعلى / 6 ).

* فَسَيكْفِيَكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ. ( البقرة / 137 ).

* وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ. ( المائدة / 67 ).

* وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالوا. ( التوبة / 74 ).

* إنّا كَفيْناكَ الْمُسْتَهْزئِينَ. ( الحجر / 95 ).

* وَإنْ كادوا لَيَفْتِنونَكَ عِنَ الَّذي أوْحَيْنا إليْكَ لَتَفْتَرى عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإذاً لاتَّخَذُوكَ خَليلا وَلَوْلا أنْ ثَبَّتناكَ لَقَدْ كِدْتَّ تَركَنُ إليْهِمْ شيئاً قَليلا. ( الاسراء / 73 - 74 ).

* أَلَيْسَ اللّهُ بَكاف عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذينَ مِنْ دُونِهِ. ( الزمر / 36 ).

* وَأصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بأَعْيُنِنا. ( الطور / 48 ).

* تِلْكَ آياتُ اللّه نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعالَمينَ. ( آل عمران / 108 ).

* اتْلُ ما أوحِيَ إليْكَ مِنَ الكِتابِ. ( العنكبوت / 45 ).

* واتَّبِع ما يُوحى إليْكَ مِنْ رَبِّكَ. ( الاحزاب / 2 ).

* وَأنْذِر عَشيرَتِكَ الأقْرَبينَ. ( الشعراء / 214 ).

ص: 21

* فَاصْدَعْ بِما تُؤمرُ. ( الحجر / 94 ).

* قلْ يا ايُّها النّاسُ إنَّما انا لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌ. ( الحج / 49 ).

* وَإنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِراط مُستَقيم. ( المؤمنون / 73 ).

* تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيراً. ( الفرقان / 1 ).

* وَما أرْسَلْناكَ إلاّ مُبَشِّراً وَنَذيراً. ( الفرقان / 56 ).

* وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ. ( الأنفال / 33 ).

* لَقد جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ. ( التوبة / 128 ).

* بِالْمؤمِنينَ رَؤوف رَحيمٌ. ( التوبة / 128 ).

* وَما أرسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. ( الأنبياء / 107 ).

* إنَّكَ لَعلى هُدىً مُسْتَقيم. ( الحج / 67 ).

* نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرينَ. ( الشعراء / 193 ).

* إنّا أرسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً وَلا تُسئلُ عَنْ أصْحابِ الْجَحيم. ( البقرة / 119 ).

* كَما أَرسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُم آياتِنا وَيُزكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكم الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونوا تَعْلَمُونَ. ( البقرة / 151 ).

* لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلى الْمؤمِنينَ إذْ بَعثَ فيهِمْ رَسولا مِنْ انْفُسِهمْ يَتلْو عَليْهِمْ آياتِهِ وَيُزكِّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وَإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبينْ. ( آل عمران / 164 ).

* هُوَ الَّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقَّ لَيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً. مُحمَّدٌ رَسُولُ اللّه. ( الفتح / 28 - 29 ).

* يا ايُّها النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً وَداعِياً إلى اللّهِ بِإذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً. ( الاحزاب / 46 ).

* وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً وَنَذيراً. ( سبأ / 28 ).

* قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِواحِدَة أنْ تَقُوموا للّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة إنْ هُوَ إلاّ نَذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذاب شَديد. ( سبأ / 46 ).

* فَفِرّوا إلى اللّهِ إنّي لَكُم مِنْهُ نَذيرٌ مُبينٌ. ( الذاريات / 50 ).

* وَأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولا وَكَفى باللّهِ شَهيداً. ( النساء / 78 ).

* وَأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظيماً. ( النساء / 113 ).

ص: 22

* إنّا أوْحَينا إليْكَ كَما أوْحَينا إلى نُوح والنَّبِيينَ مِنْ بَعْدِهِ. ( النساء / 163 ).

* لكن اللّه يَشْهَدُ بِما أنزَلَ إليْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والْملئكَةُ يَشْهَدونَ وَكَفى بِاللّهِ شَهيداً. ( النساء 166 ).

* ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسولَ اللّه وَخاتَمَ النَّبِيَّينَ. ( الاحزاب / 40 ).

* قُلْ يا أيّها الناسُ إنّي رَسُولُ اللّه إلَيْكُم جَميعاً. ( الاعراف / 158 ).

* وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعِزَّة للّهِ جَميعاً هُوَ السَّميعُ الْعَلِيمُ. ( يونس / 65 ).

* فَلعَلَّكَ تاركٌ بَعْض ما يُوحى إليْكَ وَضائِقٌ بِه صَدرُكَ أنْ يَقُولوا لَوْلا أُنزلَ عَليْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنّما أنْتَ نَذيرُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شيء وَكِيلٌ. ( هود / 12 ).

* وَكُلاّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ انْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجاءَكَ في هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤمِنينَ. ( هود / 120 ).

* وَلَقَدِ اسْتُهزئ بِرُسلُ مِنْ قَبْلِكَ فَأَملَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَروا ثُمَّ اخَذْتُهُمْ فَكَيفَ كانَ عِقابِ. ( الرعد / 32 ).

* لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما متَّعْنا بِهِ أزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحزْنْ عَلَيْهِمْ. ( الحجر / 88 ).

* وَلَقَد نَعْلم ُ انَّكَ يَضيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولونَ فَسبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتى يَأتِيكَ الْيَقينُ. ( الحجر / 99 ).

* وَأُصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحزَنْ عَلَيْهمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا يَمْكُرونَ إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. ( النحل / 128 ).

* فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤمنُوا بِهذا الْحَديثِ أسفاً. ( الكهف / 6 ).

* فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولونَ. ( طه / 130 ).

* وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقدْ كَذَّبتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إبْراهيمَ وَقَوْمُ لُوط وَأصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّب مُوسى فَأَمْلَيتُ لِلْكافِرينَ ثُمَّ أخذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِير. ( الحج / 42 - 44 ).

* وَكذلِكَ جَعلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الُمجْرِمينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادياً وَنَصيراً. ( الفرقان / 31 ).

* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألاّ يَكُونوا مُؤمِنينَ. ( الشعراء / 3 ).

* وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ في ضَيْق مِمّا يَمْكُرُونَ. ( النحل / 127 ).

* فَاصْبِر إنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلا يستَخِفَّنَّكَ الَّذينَ لا يُوقِنونَ. ( الروم / 60 ).

* وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ. ( لقمان / 23 ).

ص: 23

* وَاِنْ يُكَذِّبوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبلِكَ وَإلى اللّه تُرجَعُ الاُمورُ. ( فاطر / 4 ).

* سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسجِدِ الْحرامِ إلى الْمَسْجِدِ الاَْقْصا الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ. ( الأسراء / 1 ).

* فَلا تَذهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسرات إنَّ اللّهَ عَليمٌ بِما يَصْنَعُونَ. ( فاطر / 8 ).

* وَإنْ يُكَذبوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّناتِ وَبالزُّبرِ وَبِالكِتابِ الْمُنيرِ. ( فاطر / 25 ).

* فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إنّا نَعلَمُ ما يُسرّونَ وَما يُعلِنُونَ. ( يس / 76 ).

* وَلَقَدْ سَبقَتْ كلِمَتُنا لِعبادِنا الْمُرسَلينَ إنَّهُمْ لَهُم الْمنصُورونَ. ( الصافات / 171 - 172 ).

* وَإنْ جُنْدنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حين وابْصرْهُمْ فَسوْفَ يُبْصِرُونَ. ( الصافات / 173 -175 ).

* وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حين وَاَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. ( الصافات / 178 - 179 ).

* إصْبِرْ عَلى ما يَقولونَ. ( ص / 17 ).

* ألَيْسَ اللّه بِكاف عَبدَه وَيخوَّفونَكَ بِالَّذينَ مِنْ دونِهِ. ( الزمر / 36 ).

* فَاصبِرْ إنَّ وَعْدَاللّه حَقٌ. ( المؤمن / 55 ).

* وَلا تَطرُد الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدوَةِ والعَشيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ما عَليْكَ مِنْ حِسابِهمْ مِنْ شَيء وَما مِنْ حِسابِكَ عَليْهِمْ مِنْ شَيء فَتطرُدِهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالِمينَ. ( الانعام / 52 ).

* وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدوة والعشيِّ يُريدونَ وَجْههُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُريدُ زينَة الحَيوة الْدُّنيا وَلا تُطِعْ مَنْ اغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرنا وَاتَّبعَ هَويهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. ( الكهف / 28 ).

* إنَّما المُؤمنونَ الَّذينَ آمنوا بِاللّهِ وَرَسُوله وإذا كانوا مَعَهُ عَلى أمر جامِع لَمْ يَذهَبُوا حتّى يَسْتأذنوهُ إنَّ الَّذينَ يَستأذوننكَ أُولئكَ الَّذينَ يُؤمِنُونَ باللّه وَرَسُولِهِ فإذا اسْتأذنوك لِبَعْضِ شَأنِهِم فَأذَن لِمَنْ شِئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللّهَ إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ لا تَجْعلُوا دُعاءَ الرَّسول بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعلَمُ اللّهُ الذينَ يَتَسلَلَّونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَليَحْذِر الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْره انْ تُصبيَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أليمٌ. ( النور / 62 - 63 ).

* يا ايُّها الَّذينَ آمنوا لا تَدْخُلوا بُيوتَ النَّبيَّ إلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ إلى طعام غَيْرَ ناظرينَ إناهُ ولكنْ إذ دُعيتُمْ فَادْخُلوا فَإذا طعِمْتُمْ فَانْتشِروا وَلا مُسْتأنِسينَ لِحَديث إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤذي النَّبيَّ فَيستَحِي مِنْكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ وَإذا سألُتموهُنَّ مَتاعاً فَسئلوهُنَّ مِنْ وَراء

ص: 24

حِجاب ذلِكُمْ أَطهَرُ لِقلُوبِكُمْ وَقلُوبِهِنَّ وما كان لَكُمْ أَنْ تُؤذوا رَسولَ اللّهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبداً إنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظيماً. ( الاحزاب / 53 ).

* يا ايها الَّذينَ آمنوا لا تُقدِّموا بَيْنَ يَدي اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ يا ايُّها الَّذينَ آمنوا لا تَرْفعوا أصْواتَكُمْ فَوقَ صَوت النَّبيِّ ولا تَجْهروا لهُ بِالْقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعض أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشعُرونَ إنَّ الذَّين يَغضُّونَ أصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلوبَهْمْ لِلتَّقوى لَهُمْ مَغْفِرةٌ وَأجرٌ عظيمٌ إنَّ الَّذينَ يُنادونكَ مِنْ وَراءِ الحُجراتِ أكثرُهُمْ لا يعقِلُونَ وَلَو أنَّهُمْ صَبَروا حتَّى تَخرُجَ إليْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفورٌ رَحيمٌ. ( الحجرات / 1 - 5 ).

* وَاعْلَموا أَنَّ فيكُمْ رَسولَ اللّهِ لَو يُطيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْر لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إليْكُمْ الإيمانَ وَزَيَّنَهُ في قُلوبِكُمْ وَكَرَّه إليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسوقَ وَالْعِصيانَ أُولئكَ هُمُ الرّاشِدُونَ. ( الحجرات / 7 ).

* وَإنَّك لَعلى خُلُق عَظيم. ( القلم / 4 ).

* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلمُؤْمِنينَ. ( الحجر / 88 ).

* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَن اتَّبَعكَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ. ( الشعراء / 215 ).

* لَقدْ جاءَكُمْ رَسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَليْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤمنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ. ( التوبة / 129 ).

* فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ. ( آل عمران / 159 ).

* لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذكَرَ اللّهَ كَثيراً. ( الاحزاب / 21 ).

* قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْلَكُمْ ذنوبَكُمْ وَاللّهُ غَفورٌ رَحيمٌ. ( آل عمران / 31 ).

* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدوا في أنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمَّا قَضيْتَ وَيُسَلِّموا تَسليماً. ( النساء / 65 ).

* إنَّ اللّهَ وَملائكتهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبيِّ يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليماً. ( الاحزاب / 56 ).

* إنَّا أعْطيناكَ الْكَوثَر فَصلِّ لِرَبِّكَ وانْحَر إنَّ شانِئكَ هُوَ الأَبْتَرْ. ( الكوثر / 1 - 2 ).

ص: 25

* إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِببَ عَنْكُمْ الْرِّجْسَ أَهلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً. ( الاحزاب / 33 ). (1)

ص: 26


1- ولقد بحث سماحة الاستاذ العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني صاحب هذه المحاضرات حول جميع هذه الآيات ونظائرها في دراسة عميقة وشاملة في الجزء السابع من موسوعته « مفاهيم القرآن ».

1

شبه الجزيرة العربية أو مَهْد الحضارة الإسلامية

اشارة

الجزيرةُ العَربية هي في الحقيقة شبهُ جزيرة كبيرة وتقع في الجنوب الغربي من اسيا ، وتبلغ مساحتُها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، أي ضِعف مساحة إيران ، وستة أضعاف فرنسا ، وعشرة أضعاف إيطاليا ، وثمانين ضِعف سويسرة.

ويَحدُّ شبه الجزيرة - هذا الّذي هو اشبه ما يكون بمستطيل غير متوازي الاضلاع - من الشمال فلسطين وصحراءُ الشام ، ومن المشرق الحيرةُ ودجلة والفرات والخليج الفارسي ، ومن الجنوب المحيط الهندي وخليج عمان ، ومن المغرب البحر الأحمر.

وعلى هذا يحاصر هذه الجزيرة من المغرب والجنوب البحر ، ومن الشمال والشرق الصحراء ، والخليج.

وقد جرت العادة بتقسيم هذه المنطقة من القديم إلى ثلاثة اقسام :

1 - القسم الشمالي والغربي ويسمى بالحجاز.

2 - القسم المركزي والشرقي ويسمى بصحراء العرب.

3 - القسم الجنوبي ويسمى باليمن.

وتُشكّل داخلَ شبه الجزيرة هذا صحاري كبيرة ، ومناطق شاسعة رملية حارة ، وغير قابلة للسكنى تقريباً ، ومن جملة هذه الصحاري صحراء « بادية

ص: 27

سماوة » الّتي تسمى اليوم بصحراء « النفوذ » وصحراء اُخرى واسعة الاطراف تمتد إلى الخليج الفارسيّ يُطلق عليها اليوم إسم « الربع الخالي » وقد كان يسمى قسمٌ من هذه الصحاري سابقاً بالأحقاف ، ويسمى القسم الآخر بالدهناء.

وعلى أثر هذه الصحاري تشكل ثُلث مساحة شبه الجزيرة هذا أراضي خالية من الماء والعشب وغير قابلة للسكنى ، اللّهم إلاّ بعض ما يحصل من المياه بسبب تساقط الامطار ، في قلب الصحاري فيتجمع حولها بعض القبائل العربية بعض الوقت ، ويرعون فيها ابلهم وانعامهم ردحاً قليلا من الزمن.

وأمّا حالة المناخ في شبه الجزيرة العربية ، فالهواء في الصحاري والأَراضي المركزية ( الوسطى ) حارٌ وجافٌ جداً ، وفي السواحل مرطوبٌ ، وفي بعض النقاط معتدلٌ ، وبسبب رداءة الطقس هذه لا يتجاوز عدد سكانه خمسة عشر مليون نسمة.

وتوجد في هذه الجزيرة سلسلة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال ، ويقارب ارتفاع أعلى قممها 2470 متراً.

وقد كانت معادن الذهب والفضة والاحجار الكريمة تشكل مصادر الثروة في شبه الجزيرة هذا منذ القديم ، وكان سكانها يعتنون - من بين الانعام والحيوانات - بتربية الابل والفرس اكثر من غيرهما ، ومن بين الطيور بالحمام والنعامة اكثر من الطيور الاُخرى.

بيد أن اكبر مصدر للثروة في الجزيرة العربية اليوم يأتي عن طريق استخراج النفط.

وتعتبر مدينة « الظهران » الّذي يسميه الاوربيون بالدهران المركز النفطي الرئيسي في هذه الجزيرة ، ويقع هذا البلد في ناحية الاحساء الّتي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على حدود الخليج الفارسي.

ولكي يتعرف القارئ الكريم على الأَوضاع في شبه الجزيرة العربية هذا بنحو اكثر تفصيلا فاننا نعمد إلى شرح الاقسام الثلاثة المذكورة :

1 - « الحجاز » وهي المنطقة الّتي تشكل القسم الشمالي والغربي من الجزيرة

ص: 28

العربية وتمتد أراضيها على ساحل البحر الاحمر ابتداء من فلسطين وحتّى حدود اليمن.

والحجاز بعد هذا منطقة جبلية ، وذات صحار قاحلة ، واراض حجرية ، وصخرية ، يكثر فيها الحصى.

ولقد كانت هذه المنطقة - في التاريخ - اكثر شهرة من غيرها ، ومن المعلوم أنَّ هذه الشهرة جاءت بسبب جملة من العوامل المعنوية والدينية ، فهي الآن تضمّ بين جوانحها بيت اللّه الحرام « الكعبة المعظمة » ، قبلة ملايين المسلمين ، ومهوى افئدتهم.

وقد كانت البقعةُ الّتي تقوم عليها بنية « الكعبة المعظمة » تحظى منذ سنوات مديدة قبل بزوغ الإسلام باحترام العرب وغيرهم ، ولهذا حَرَّموا القتال حول الكعبة تعظيماً لها ، حتّى إذا جاء الإسلام أقَرَّ للكعبة ولما حولها ، مثل ذلك الاحترام ، والتعظيم أيضاً.

ومن أهمّ مُدُن الحجاز : « مكة » و « المدينة » و « الطائف » ، وكان للحجاز منذ القديم ميناءان هما : ميناء « جدة » الّذي يستخدمه أهل مكة ، وميناء « ينبع » الّذي يستخدمه أهلُ المدينة ، في سَدِّ الكثير من إحتياجاتهم ويقع هذان الميناءان على ساحل « البحر الاحمر ».

مَكةُ المعظمة :

وهيَ من أَشهر مُدُن العالم وأكثر المُدُن الحجازية سُكاناً ، وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 300 متراً.

وإذ تقع مدينة « مكة » بين سلسلتين من الجبال لذلك فانها لاتُرى من بعيد ، ويقطنها اليوم حوالي (150) ألفاً من السكان.

تاريخ مكة :

يبدأ تاريخ « مكة المكرمة » من زمن النبي إبراهيم الخليل عليه السلام ، فقد

ص: 29

أسكن هذا النبيُّ ولده « اسماعيل » مع اُمه « هاجر » في ارض مكة ، فنشأ اسماعيل هناك ، وتزوج من القبائل الّتي سكنت على مقربة من تلك المنطقة.

ثم إن إبراهيم عليه السلام بنى وبأمر من اللّه تعالى البيت الحرام « الكعبة ».

وتقول بعض الروايات الصحيحة إن الكعبة بنيت على يد النبيّ نوح عليه السلام وأن ابراهيم عليه السلام جدّد بناءها.

وهكذا نشأت وبعد هذا تاسست مدينة مكة.

وتتكون نواحي « مكة » من أراض سبخة شديدة الملوحة بحيث لا تكون قابلة للزراعة اصلا ، حتّى أن بعض المستشرقين يذهب إلى أنه لا يوجد أية منطقة في العالم في رداءة أوضاعها الجغرافية والمحيطية والطبيعية مثل هذه المنطقة.

المَدينةُ المنوَّرةُ :

وهي مدينة تقع في شمال مكة وتبعد عنها ب : 90 فرسخاً تقريباً ، وتحيط بها بساتين ومزارع ونخيل وافرة ، وأرضها أكثر صلاحية لغرس الاشجار والزرع.

وكانت المدينة المنورة تسمى قبل الإسلام ب « يثرب » ، وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم سُمّيت بمدينة الرسول ، ثم اُطلقت عليها لفظة « المدينة » مجردة تخفيفاً.

ويحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا أول من سكن هذه الديار ، ثم خلف العمالقة طائفة اليهود ، والأوس والخزرج الذين سُمِّي المسلمون منهم بالأَنصار في ما بعد.

هذا وقد سلمت الحجاز - على عكس سائر المناطق - من طمع الطامعين وغزو الغزاة والفاتحين ، ولم نشاهد فيها أي شيء من آثار حضارة الامبراطوريتين العظيمتين انذاك قبل الإسلام : الروم والفرس ، وذلك لأنها إذ كانت تتألَّف من أراض قاحلة مجدبة غير قابلة للسكنى والعيش لم تحظ باهتمام أحد من اُولئك الفاتحين حتّى يفكر في تسيير العساكر ، وتجييش الجيوش لفتحها ليعود بعد تحمّل آلاف المشاكل الّتي تستلزمها عملية الاستيلاء على أراضي تلك المنطقة

ص: 30

خالي الوفاض صفر اليدين.

وللوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها « ديودرس ».

عندما دخل ديمتريوس القائد اليوناني الكبير « بطرا » ( وهي مدينة قديمة من مدن الحجاز ) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكانُ تلك المدينة قائلين :

لماذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة ، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هدايانا ، وارجع إلى حيث كنت ، سنكون من أوفى الاصدقاء لك ، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة ، ورأيت عجزك عن اكراهنا على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا ، وإذا قدرت على اسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحداً ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.

هناك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم وان يرضى بالمآب (1).

2 - المنطقة الوسطى والشرقية ، التي تسمى ب « صحراء العرب » ومنطقة « نجد » الّتي هي جزء من هذه المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة.

ولقد أصبحت الرياضُ الّتي اتخذها السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.

3 - المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية ، والّتي تسمى ب « اليمن » وتمتد طولا من الشمال إلى الجنوب حوالي (750) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى (400) كيلومتراً.

وتقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل مربع تقريباً ، ولكنها كانت - قبل ذلك - أوسع من هذا القدر ، وقد كان قسم منها ( وهوعدن ) خلال النصف الاول من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني ، ومن هنا ينتهي شمالا إلى نجد ، وجنوباً إلى عدن ، وغرباً إلى البحر الأحمر وشرقاً إلى صحراء الربع

ص: 31


1- حضارة العرب : تأليف غوستاف لوبون ص 91 - 02 ترجمة عادل رتميتر.

الخالي (1).

ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة « صنعاء » التاريخية العريقة ، ومن موانئها المشهورة ميناء « الحديدة » الّتي تقع على الحبر الأحمر.

ومنطقة اليمن من اكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة ، ولها تاريخ مشرقٌ وعريق في المدنية والحضارة ، فقد كانت اليمن مقراً لملوك تبَّع ، الذين حكموا اليمن سنيناً مديدة وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهماً ، وكانت في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز ، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، وكانت تصدر إلى خارج البلاد.

ولا تزال اثار الحضارة اليمنية القديمة باقية إلى الآن.

ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء باقامة أبنية وعمارات عالية وجميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة ، والاجهزة المعقدة.

كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع ، إلاّ أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ مارسمه حكماء اليمن ورجالهم من انظمة وقوانين للحكم وادارة البلاد آنذاك.

ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة والفلاحة ، وقد نظموا لإحياء الأراضي وزراعتها ، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا بنوده بدقة ، ولهذا كانت بلادهم تعدّ - آنذاك - من البلدان الراقية المتقدمة من هذه الناحية.

فها هو « غوستاف لوبون » المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا : إنَّ بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم (2).

ويكتب الادريسيّ المؤرخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول « صنعاء » قائلا : كانت صنعاء مقر ملوك اليمن ، وعاصمة جزيرة العرب ، وانه كان لملوكها قصر متين شهير وكانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة

ص: 32


1- لقد انقسمت اليمن مؤخراً إلى يمن شمالية واُخرى جنوبية لكل واحد منها نظام حكم خاصّ وحكومة خاصّة.
2- حضارة العرب : ص 94.

المنحوتة (1).

هذه الآثار العجيبة الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل « مأرب » و « صنعاء » و « بلقيس ».

ففي مدينة مأرب ( وهي مدينة سبأ المعروفة ) كانت تقوم قصور ضخمة وصروح عالية ذوات أبواب وسقوف مزينة بالذهب ، وكانت تحتوي على أوان وصحون من الذهب والفضة ، وأسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن والفلز (2).

ومن آثار « مأرب » التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال اطلاله باقية ، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي وصفه القرآن الكريم بالعَرِم.

فقد جاء في سورة سبأ الآية 15 - 19 قوله تعالى :

« لَقَدْ كانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيةٌ جَنّتانِ عَن يَمينِ وَشمال كُلُوا مِنْ رِزق ربكُمْ واشْكُروا لَهُ بلدةٌ طَيِبَةٌ وربٌّ غَفُورٌ. فأعرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيهِمْ سَيْلَ العَرم وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْن ذَواتي أكل خَمْط وأَثْل وشيء مِنْ سِدْر قَليل. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نجازي الاّ الكفور. وَجَعَلْنا بَينَهُمْ وَبَيْنَ القُرى الَّتي باركْنا فيها قُرى ظاهرةً وَقَدَّرنا فيها السَيْرَ سِيْروُا فيها لَيالَي وأيّاماً آمِنين. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَين أَسفارنا وَظَلمُوا أنْفُسَهُمْ فَجَعلْناهُمْ أَحاديث ومَزّقناهُمْ كُلَ ممزَّق إنّ في ذلكَ لآيات لِكلِ صَبّار شَكُور » (3).

ص: 33


1- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب ، ص 55.
2- حضارة العرب : ص 94.
3- للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً ، راجع الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.

ص: 34

2

العَرَب قبلَ الإسلام

اشارة

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية :

1 - التوراة على ما فيها من تحريفات.

2 - كتابات اليونانيين والروميين في القرون الوسطى.

3 - الكتابات التاريخية الّتي كتبها علماء الإسلام ومؤلفوه.

4 - الآثار القديمة الّتي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.

إلاّ انه مع وجود كل هذه المصادر والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.

ولكن حيث أنَّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب ، والهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة ، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين اسلاميين اساسيين هما :

1 - القرآن الكريم.

2 - ما ورد عن الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة.

ص: 35

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال والاوضاع والاخلاق في جميع الاصعدة والابعاد ، وسنشير إلى ابرز هذه النصوص ونقف عندها بعض الشيء ، ولكننا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول :

إن من المسلَّم أن شبه الجزيرة العربية كان منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام ، وفي ثنايا الاحداث ، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة.

وهذه القبائل الاُمّ هي :

1 - العرب البائدة : وإنما سُميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها وتمردها ، وهلكت شيئاً فشيئاً ، ولم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد!

ولعلهم كانوا هم المعنيون بقوم « عاد » و « ثمود » الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً.

2 - القحطانيّون : وهم أبناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في « اليمن » وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون بالعرب الاُصلاء ، وهم اليمينون اليوم ، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.

وقد كان للقحطانين حكومات كثيرة ، كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير ارض اليمن واحيائها ، وقد تركوا من ورائهم حضارات ومدنيّات لا يستهان بها.

وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية توضحُ إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم ارضَ اليمن.

3 - العدنانيون : وهم أبناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليه السلام ،

ص: 36

وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الابحاث القادمة. وخلاصة ذلك : أن إبراهيم الخليل عليه السلام اُمرَان يسكن وَلده الرضيع اسماعيل مع زوجته « هاجر » ام اسماعيل في ارض مكة ، فخرج بهما ابراهيم عليه السلام من « فلسطين » وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي عن الماء والعشب « مكة » ثم ان يد العناية الالهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين « زمزم » الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة.

ثم تزوج إسماعيل من قبيلة « جُرهُمْ » الّتي خيّمت بالقرب من مكة ، واصاب من هذا الزواج عدداً كبيراً من الابناء ، والاحفاد ، وأحفاد الاحفاد كان من جملتهم « عدنان » الّذي ينتهي نسبه إلى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء والجدود.

ثم تشعَّبت ذريةُ إسماعيل إلى بطون وأفخاذ ، وعشائر وقبائل عديدة ، كان من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر ، ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كما ستعرف ذلك بالتفصيل ، عما قريب.

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة :

والمراد منها هو الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع ، وقد سادت بعض هذه الاخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامة.

ويمكن تلخيصُ ما كانَ العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامة في ما يلي :

لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصة ولد « عدنان » أسخياء بالطبع ، يكرمون الضيف ، وقلّما يخونون في الامانة ، لا يغتفرون نقض العهود ، ولا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق ، يضحون في سبيل المعتقد ، ويتحلون بالصراحة الكاملة ، وربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع ، وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال ، والخطب المفصلة.

ص: 37

هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم وإلى جانب انهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة والجرأة ، والمهارة في الفروسية والرمي.

يرون الفرار والادبار في الحرب عاراً لازماً ، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم.

ولكن في مقابل ذلك كله كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم ، وتنسي كل فضيلة.

ولو لا تلك الكوة المباركة الّتي فتحت عليهم من عالم الغيب ، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين.

يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي ، ولم تسطع اشعتها الباعثة على الحياة ، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين اي اثر ، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اُخرى!

لقد حَوَّل فقدان القيادة الرشيدة ، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب ، من جانب ، وانتشار الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أن صفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً ، وبعضها الآخر مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة ودوافع تافهة جدا.

لقد أدى عدم سيادة النظام والقانون على الحياة العربية ، وعدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع ، توقف البغاة والمتمردين عند حدودهم ، إلى أن يعيش العرب - آنذاك - في صورة القبائل الرُحّل ، ويرحلوا في كل سنة إلى منطقة معينة من الصحراء التماساً للعشب والماء لانفسهم ولانعامهم ، فاذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده ، وأنزلوا رحالهم بجواره ، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماساً لحياة اكثر بركة ، وعطاء ، وأوفر خصباً وأمناً.

هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم الاستقرار كان ناتجاً من أمرين :

ص: 38

الأوّل : سوء الاوضاع الجغرافية ورداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية ، وخاصة من حيث الماء والمناخ والمراعي.

والآخر : الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة ، واضطراب الأحوال الاجتماعية ، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها ، وعدم الاستقرار في منطقة معينة.

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قَبل الإسلام؟

يستنتج مؤلف كتاب « حضارة العرب » من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.

فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية ، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع ارقى شعوب الأَرض ، شواهد قوية على تمدنهم وحضارتهم الغابرة ، لأن قوماً أنشأوا المدن العظيمة - قبل الرومان بقرون كثيرة - وكانت علاقاتهم بارقى واكبر شعوب الأرض وثيقة ، لا يمكن عدهم همجاً ، وشعباً بلا حضارة.

ثم إنه يستدل - في موضع آخر من كتابه - على حضارة العرب الغابرة بادابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ يقول :

« ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة لقطعنا - مع ذلك - بوجودها قبل ظهور « محمَّد » بزمن طويل ، ويكفي لتمثّلها أن نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية.

والحق أنَّ الآداب واللغة من الاُمور الّتي لا تأتي عفواً ، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل ، وينشأ عن إتصال اُمة بأرقى الامم اقتباسُها لما عند هذه الاُمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك ».

وقد خَصَّصَ المؤلفُ المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام معتمداً في ذلك على ثلاث اُمور :

1 - وجود لغة راقية.

ص: 39

2 - وجود علاقات مع الامم الراقية.

3 - وجود قصور وأبنية ضخمة ، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان المعروفان « هيردوتس » و « ارتميدور » اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون ، وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي (1).

لا كلام في أنه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات ، ولكن الأدلة الّتي استند اليها المؤلفُ المذكورُ لا يمكن ان تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبداً.

صحيح أن تكامل اللغة يسير جنباً إلى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة ، ولكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة وغير مرتبطة باللغات الاُخرى اي العبرانية والسريانية والآشورية والكلدانية ، لأن جميع هذه اللغات - حسب ما يؤيده ويؤكده المتخصصون في علم اللغات - كانت ذات يوم - متحدة الأصل ، وقد تشعبت من لغة واحدة ، وفي هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية ، وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة ، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها.

كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات تجارية مع الاُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية إلاّ أنه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات ، أم إن اكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما : « الحيرة وغسان » وبين حكومتي « الفرس » و « الروم » لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متصفة بالعمالة ، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الاوربية ومع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات ولا أية مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية.

ص: 40


1- حضارة العرب : 78 - 100.

طبعاً لا يمكن إنكار حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي » عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة ، ونهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض (1).

وخلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها » (2).

وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها » (3).

ص: 41


1- مروج الذهب : ج 2 ، ص 161 و 162.
2- حضارة العرب : ص 93.
3- آل عمران : 103.

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا - كما وعَدْنا بذلك - فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :

اشارة

إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : « وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ » (1).

ويقول في آية اُخرى : « أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ » (2).

ومن المعلوم أن المقصود في هاتين الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها.

على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : « وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (3).

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ، والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه ، حبل الإيمان والقرآن.

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت حياة العرب جميعاً.

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط.

وامّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي

ص: 42


1- القصص : 46.
2- السجده : 3.
3- آل عمران : 103.

تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ، وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.

لقد اتصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي :

1 - الشِرْكُ في العِبادة :

صحيح أن العرب في الجاهلية كانت - كما يكشف القرآن ذلك لنا - موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية والتدبير والذات (1) إلاّ أنهم كانوا - في الأكثر - مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه وتعالى عَما يَصِفُونَ » (2).

وقوله تعالى : « أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الاُخْرى » (3).

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

2 - إنكارُ المعاد :

كان المشركون والجاهليون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك

ص: 43


1- نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : « وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : 24 ).
2- الأنعام : 100.
3- النجم : 19 و 20.

اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ، وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد » (1).

3 - هَيْمَنةُ الخرافات :

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : « ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ » (2).

أمّا ( البحيرة ) بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها اُنثى - وقيل ذكر - بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ، ولا يستعملها أحد في شيء.

وأمّا ( السائبة ) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً - وقيل عشرة - فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف.

وأمّا ( الوصيلة ) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين عناقين.

وأمّا ( الحامي ) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث ، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع من ماء ومرعى (3).

والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام

ص: 44


1- سبأ : 7 و 8.
2- المائدة : 103.
3- راجع مجمع البيان : ج 3 ، ص 252 و 253 في تفسير الآية.

والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات ، غير ان هذا العمل - كان في حقيقته - نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع ، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.

والأسوأ من كل ذلك أنهم - كما يُستفاد من ذيل الآية - كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : « ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ » (1).

4 - الفساد الاخلاقي :

كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر.

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.

يقول القرآنُ في هذا الصعيد : « يَسأَلونَكَ عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ مِنَ نفْعِهما » (2).

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة

ص: 45


1- الأعراف : 157 وراجع المحبر : ص 330 - 332.
2- البقرة : 219.

التي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم ، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة ، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم ، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم.

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر ، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً ، حيث عدّ منها الزنا ، واللوط ، والقذف ، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك (1).

5 - وَأدُ البنات وإقبارُهن :

ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً.

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع ، إذ قال تعالى : « وَإذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأيّ ذَنب قُتِلَتْ » (2). وقال تعالى : « وَلا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَإياكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً » (3).

وقد اتى جدُ « الفرزدق » « صعصعة بن ناجية بن عقال » رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية ، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله.

وقد افتخر « الفرزدق » بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال :

ومنّا الّذي منَع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يُوأد (4)

ص: 46


1- راجع للوقوف على ذلك سورة النساء : 15 و 16. وسورة النور : 2 و 3 وغيرها. وراجع المحبر : ص 340.
2- التكوير : 8 و 9.
3- الإسراء : 31.
4- بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 45 و 46.
6 - تصوراتهم الخرافية حول الملائكة :

وممّا اشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة ، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث وأنهن بنات اللّه ، إذ يقول تعالى : « فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَإنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (1).

7 - كيفية الانتفاع من الانعام :

إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم ، والميتة والخنزير ، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية ، وبالتعذيب والأذى ، وربما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة ، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم ، وتحرّم تناولها ، إذ يقول سبحانه : « حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ الْخِنْزيرِ وَما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنخَنقةُ والموقوذةُ والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ » (2).

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل :

1 - الميتة.

2 - الدم.

3 - لحم الخنزير.

4 - ما ذكر اسم غير اللّه عليه.

5 - الّتي تموت خنقاً ، وهي المنخنقة.

ص: 47


1- الصافّات : 149 - 154.
2- المائدة : 3.

6 - الّتي تضرب حتّى تموت ، وهي الموقوذة.

7 - الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية.

8 - الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة.

9 - ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته.

10 - وما ذُبِح أمام الاصنام.

8 - الاستقسام بالازلام :

فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام ، والأزلام جمع ( زلم ) بوزن ( شَرَف ) وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة.

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه ، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً ، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اُخرى ، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم ، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم (1) ، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله : « وأن تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ » لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار.

9 - النسيء :

كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم ( وهي اربعة المحرم ورجب وذوالقعدة وذوالحجة ) فكانوا يتحرجون فيها من القتال ، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيل عليهما السلام.

الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً ، ولقاء مبالغَ يأخذُونها ، أو جرياً مع أهوائهم ، إلى تأخير الاشهر الحُرمَ ، وهو الأمر الّذي عبّر

ص: 48


1- راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب : ج 3 ، ص 62 و 63 ، والمحبر : ص 332 و 335.

عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال : « إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً وَيحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرينَ » (1).

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم ، الّذي كان يتم بصورة مختلفة منها : أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة ، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا واموال ، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم ، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم ( وهي اربعة ). وهذا هو معنى قوله تعالى : « ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ » وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ السَنة التالية ، وهذا هو معنى قوله تعالى : « يُحلُّونَهُ عاماً ، ويُحرِّمُونِه عاماً ».

10 - الربا :

وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة ، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام : « الربا » الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع.

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة ، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء ، إذ قال تعالى : « يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِه وانْ تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تظْلَمُونَ » (2).

والعجيب أنهم كانُوا يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم « إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا » (3) فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا ، فإنه أخذٌ وعطاء أيضاً ، مع أن « الرّبا » من ابشع صور الاستغلال ، وقد ردَّ

ص: 49


1- التوبة : 37.
2- البقرة : 278 و 279.
3- البقرة : 275.

سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى : « وأَحلَّ اللّه البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » (1) ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل ، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً ، ولهذا تنمو المؤسسات الربوية ، ويعظم رصيدُها ، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً ، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته ، ويقيم اوده ، لا اكثر ، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل.

صورٌ من الوضع الجاهلي

ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن الكريمُ ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات.

واليك في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها :

وها نحن نقدم قصة « أسعد بن زرارة » الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز ، فقد قدم « أسعد بن زرارة » و « ذكوان بن عبد قيس » - وهما من الأوس وكان بين الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم « يوم بُعاث » وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج - مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس ، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال : انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد : وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا وأفسدَ

ص: 50


1- البقرة : 275.

شُبّاننا ، وفرّق جماعَتَنا ، فقال له أسعد : مَنّ هو منكم؟ قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان ، وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع ، أن هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب ، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود ، قال : فأينَ هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب ، فقال له « أسعد » : فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضعْ في اُذنيكَ القطنَ ، فدخل « أسعدُ » المسجد وقد حشا اُذُنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهلَ مني؟ أيكونُ مثل هذا الحديث بمكة فلا اتعرّفه حتّى ارجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول اللّه : أنعَمْ صباحاً ، فرفع رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رأسه إليه وقال : قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، قال له أسعد : ( إنّ عهدَك بهذا لقريب ، إلى ما تدعُو يا محمَّد؟ قال : إلى شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه ، واني رسولُ اللّه ، وأدْعُوكُمْ إلى : « ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ وَلا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَلا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللّهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَلا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوْفُوا الكيلَ وَالْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذاقربى وَبِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ » (1).

ص: 51


1- الأنعام : 151 و 152.

فلما سمع « أسعد » هذا قال له : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنك رسولُ اللّه ، يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي ... (1).

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء والامراض ليلفت نظر « أسعد » إلى أهداف رسالته الكبرى.

العقيدة والدين في الجزيرة العربية :

عند ما رفع « إبراهيم الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير » تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام » المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً.

أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون - مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة - ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة بعد « إبراهيم الخليل »

ص: 52


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 8 و 9 ، اعلام الورى : ص 35 - 40.

عليه السلام على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ، وأنها بالتالي آلهة وأرباب.

وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.

أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً.

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ، وإذا ارتحل تركه.

وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما « الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان.

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي

ص: 53

( الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.

وخلاصة القول ، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة - في الحقيقة - محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم.

وكان من جملة تلك الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش.

وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة ، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، واما « مناة » فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و « المدينة ».

ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم « اُحد » : « اللات » و « العزّى ».

ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة » وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال : لا ولكني اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك ) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة (1).

ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها

ص: 54


1- الأصنام للكلبي : ص 23.

مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان ، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُصُب المؤلَّهة ، والتماثيل المعبودة ، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء والعدّ ، إذ قال :

أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب *** أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً *** كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها *** ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً *** لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي *** لِيَغْفِرَ ذَنبِي الربُّ الغفُورُ (1)

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ، وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة ، الضالة.

* * *

ص: 55


1- بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 249 وجاء البصير.

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت :

وعن مصير الإنسان وحالته ما بعد الموت هذه المشكلة الفلسفية العويصة كانت رؤية العرب ونظرتهم تتلخص في ما يلي :

عند ما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم ب « الهامّة والصدى » ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً مقرحاً وموحشاً ، وعند ما يوارى الميت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى الابد!

وربما وقفَ على جدار منزل الميت أحياناً لِتَسقُّطِ أخبار عائلته والاطلاع على أحوالهم!!

قال شاعرهم في ذلك :

سُلِّطَ المُوتُ والمنونُ عليهم *** فَلَهم في صدى المقابر هامُ

 وإذا كان المرء قدمات بموتَة غير طبيعية كما لو قُتِلَ - مثلا - فإنَ ذلك الحيوان ينادي باستمرار : « اسقوني ... اسقوني » اي اسقوني بسفك دم القاتل واراقته ؛ ولا يسكن عن هذا النواح والنداء الخاص الابعد الانتقام والثأر من قاتله.

قال احدهم في ذلك :

فياربّ إنْ أهلَكْ ولم تُروَهامتي *** بِلَيلي اَمُتْ لا قَبرَ أَعطَشَ مِن قَبري (1)

من هنا بالضبط تتجلى الحقيقة للقارئ ويعلم جيداً كيف أن تاريخ العرب ما قبل الإسلام وتاريخهم ما بعد الإسلام ما هو الاّ تاريخان على طرفي نقيض :

فذلك تاريخ جاهلية ، ووثنية وإجرام ، وهذا تاريخ علم ووَحدانية وانسانية وايمان ، وشتان ما بين وأد البنات ، وبين رعاية الايتام ، وبين السلب والنهب والاغارة وبين المواساة والايثار ، وبين عبادة الاوثان والاصنام الصماء العمياء

ص: 56


1- بلوغ الارب : ج 2 ، ص 311 و 312.

والتقرب إلى اللّه الواحد القادر.

الآداب مرآة آداب الشعوب ونفسياتها :

المخلَّفاتُ الفكرية والثقافية ، وما يتركه أيُ شعب من الشعوب من قصص وحكايات افضل وسيلة للتعرف على خلفياته النفسية والأخلاقية ، ذلك لأنّ الآداب بما فيها الشعرُ والقصةُ ، والخطبةُ والحكايةُ ، والمثلُ والكنايةُ مرآة صادقةٌ تعكس المستوى الفكري لأيّة جماعة ، وتعتبرُ خير مقياس لتمدّنها ، وحضاراتها ، وأفكارها ونفسياتها ، تماماً كما تحكي اللوحاتُ الفنيةُ عن حياة عائلة ، أو منظر طبيعي جميل ، أو اجتماعات صاخبة ، أو مشاهدَ قتالية.

إنَ القصائد والأَمثال العَربية الّتي كانت رائجة آنذاك تستطيع - قبل كل شيء - أن تكشف عن الوجه الحقيقي لتاريخهم ونمط حياتهم وسلوكهم ، ولهذا السبب لا يجوز لأي مؤرخ واقعي يسعى إلى الحصول على صورة كاملة عن تاريخ شعب من الشعوب أن يتجاهل التركة الفكرية والأدبية والثقافية لذلك الشعب سواء أكان شعراً أم نثراً ، أمثالا أم حكماً ، قصصاً أم أساطير.

ومن حسن الحظ أنّ مؤرخي الإسلام اثبتوا وسجلوا باتقان ما اُثِرَ من العرب ممّا يرتبط بآدابهم في العصر الجاهلي بقدر ما اُتيحَ لهم ذلك.

وقد كان ابو تمام « حبيب بن اويس » ( المتوفى عام 231 هجرية ) والّذي يُعتبر من كبار أُدباء الشيعة ، وله قصائد رائعة في مدح آل الرسول ، ممن اعتنى عناية بالغة بهذه الناحية ، حيث جَمع في كتاب واحد طائفة كبيرة جداً من الشعر الجاهلي مفصلة في عشرة أبواب هي :

1 - الحماسة.

2 - المراثي.

3 - الادب.

4 - النسيب.

5 - الهجاء.

ص: 57

6 - الاضافات.

7 - الصفات.

8 - السير.

9 - المُلَح.

10 - مذمة النساء.

وقد تناولَ هذا الديوان التاريخيُ القيم عددٌ كبيرٌ من أُدباء المسلمين وعلمائهم بشرح ابياته ، وتفسير غوامضها ، وبيان اغراضها ، ومقاصدها.

كما ترجم أصلُ الديوان إلى لغات اجنبية عديدة جاء ذكر طائفة منها في كتاب « معجم المطبوعات » (1).

مكانة المرأة عند العرب الجاهلية :

إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان ، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ - في ظل ذلك العهد - في أسوأ الحالات وأشد الظروف واتعسها.

هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ، هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.

إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله : « وإذا الموؤدة سُئلت » (2) أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.

إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث - في الحقيقة - عن عادة وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر - في الآخرة - بدون حساب شديد ، وسؤال خاص.

ص: 58


1- معجم المطبوعات : ص 297 ، وقد اشتهر هذا الديوان ببابه الأول : « الحماسة » فسمي ديوان الحماسة.
2- التكوير : 8.

حقا انه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة.

إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية!

إنها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني.

وبنو تميم هي أول قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها اعواماً متمادية (1).

واليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال :

قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها

ص: 59


1- بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 42 و 43.

ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ، حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت : هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع؟ أخبرني بحقك!! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ، وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : « إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم » (1).

وقد ذكر ابن الاثير في كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد اثنتي عشرة بنتاً له (2).

ورُوي عن ابن عباس أنه قال : كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته (3). المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب :

كانت المرأة عندهم تباع وَتُشترى كالمتاع ، وكانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعيّة والفردية ، حتّى حق الارث.

وقد كان المثقفون من العرب يعُدُّون النساء من الحَيوانات ، ولهذا كانوا يعتبرونهن جزءً من أثاث البيت ويعاملونهن معاملة الرياش والفراش حتى سار

ص: 60


1- حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص 24 و 25.
2- راجعُ اسد الغابة : ج 4 ، ص 220 ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتاً.
3- بلوغُ الارب : ج 3 ، ص 43.

فيهم المثلُ المعروفُ : « وانما امّهات الناس اوعية ».

كما أنهم غالباً ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر تارة ، ودفعاً للعار والشنآن تارة اُخرى.

وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إما بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق ، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.

وقد تعرض القرآنُ الكريم - الّذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم تنله يدُ التحريف - تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال : « واذا بُشِّرَ أحدُهم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسَوّداً وهو كظيم يتوارى مِن القوم مِنْ سُوءِ ما بُشِّر بِه أيمسِكُهُ عَلى هُون اَمْ يَدسُّهُ في التُرابَ ألا ساء ما يحكمونَ » (1).

هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية ، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون ، ولم يخضع لأيّ واحد من النظم المعقولة ، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان ، فلم يكن لعدد الزوجات - مثلا - حد معلوم ، أو قاعدة ثابتة.

كما انه كلما أرادوا التخلص من مهر الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة ، حتّى تتخلى هي بنفسها عن حقها ، وكان اقترافها لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقها في المهر بالمرة.

ولطالما استغلَّ بعض الاشخاص هذا القانون الجائر للتخلص مِن مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!!

ومن قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها ، أو وفاته وربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحداً بعد واحد ، فقد كانَ الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه ، فان كان يحبُّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها ، وإن لم يكن يريد التزوج بها تزوَّج بها بعضُ اخوته بمهر

ص: 61


1- النحل : 58 و 59.

جديد (1).

وقد ابطل الإسلامُ هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى : « ولا تنكحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساء إلاّ ما قد سَلَف إنَّهُ كانَ فاحِشَة ومقتاً وساء سَبيلا » (2).

وقد ذكرت كتبُ التاريخ والسيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم.

كما ذكرت تلك الكتب انواعاً اُخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام (3).

ثم إن المطلَّقة لم يكن لها الحق - في زمن الجاهلية - في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذنَ لها الزوجُ الأول الّذي كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن.

وربما مَنَع اولياؤُها من أن تتزوج بزوجها الاول الّذي طلَّقها ، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيَتْ به ورغبت فيه ، أو أنْ تتزوج بمن أرادَت واحبَّت - بعد انقضاء العِدّة - أصلا ، حميّة جاهلية.

وكان الرجُل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها ، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ المنزل ، زاعماً بانه أحقُ بها من غيره ، فيعظلها ( يمنعها من الزواج ) أو ترّدُ إليه صداقها ، وفي رواية ؛ إن كانت جميلة تزوجها ، وان كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها ، وقد نهى اللّه تعالى عن ذلك ، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبلغنَ أَجَلَهُنَّ فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنكِحْنَ أزواجَهُنَّ إذا تَراضَوا بَيْنَهُمْ بِالْمَعرُوفِ ذلِكَ يُوعَظ بِه مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمنُ باللّه واليَوْمَ الآخِر ذلِكُمْ اَزكى لَكُمْ وَأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (4).

ص: 62


1- المحبر : ص 326 و 327.
2- النساء : 22 ، وكانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن ، وكان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية « نكاح المقت » ويُسمى الولد منه : مقتّي. ( راجع بلوغ الارب : ج 2. ص 53 ومجمع البيان للطبرسي : ج 3 ، ص 26 ).
3- المحبر : 337 - 340.
4- البقرة : 232.

وقال سبحانه : « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تَرثُوا النِّساء كَرْهاً وَلا تَعضلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْض ما آتيتُموهُنَّ » (1).

وقال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه » (2).

وخلاصة القول ؛ إن المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال ، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ انه لما خطب احدهم إلى رجل ابنَتَه ، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال : إنّي وإن سِيْقَ إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ ( اي عَبيدَ ومماليك ) وذَوْد ( وهو من الابل مِنَ الثلاث إلى العشر ) عَشْرُ ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ وقال شاعرهم ، في ذلك.

لِكُلِّ أبي بِنت يُراعي شُؤْونَها *** ثلاثةُ أصهار إذا حمد الصهرُ

فَبَعَلٌ يراعيها وخدريكنها *** وَقبرٌ يُواريها وأفضَلُها القبر (3)

كما ان العرب كانت مصفقة ومتفقة على توريث البنين دون البنات (4).

مقارنة بسيطة :

ولو لاحظتَ أيها القارئ الحقوق الّتي قررها الإسلام في مجال ( المرأة ) لاذعنتَ - حقاً - بأن هذه الاحكام والمقررات وهذه الخطوات المؤثرة الّتي خطاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في سبيل اصلاح حقوق المرأة ، وتحسين اوضاعها ، هي بذاتها شاهدُ حق ، ودليل صدق على حقانيّته ، وصدق ارتباطه بعالم الوحي.

فاية رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأي اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى واكثر من ان يوصي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مضافاً إلى ما جاء في آيات واحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن في

ص: 63


1- النساء : 19.
2- البقرة : 231.
3- بلوغ الارب : ج 2 ، ص 9.
4- المحبر : ص 236.

خطبته الشهيرة في ( حجَة الوداع ) بالمرأة ، ويؤكد على ذلك اشد تأكيد إذ يقول صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ايها النَّاسُ إنَّ لِنساءكُمْ عَلَيكُمْ حقاً ، ولكم عليهنَّ حقاً ... فاتقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ خيراً ، فانهنَّ عندكم عبوانٌ ... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون ، وألْبِسُوهُنَّ ممّا تَلبِسُونَ » (1).

العربُ والرُّوح القتالية :

من الناحية النفسية يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص ، الموصوف بالطمَع الشديد ، القويّ التعلق بالماديات.

لقد كانوا ينظرون الى كل شيء من زاوية منافعه ومردوداته المادية ، كما أنهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة وميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حباً شديداً ، ولذلك كانوا يكرهون كل شيء يقيّد حريتهم.

يقول ابن خلدون عنهم : « إنهم ( اي العرب الجاهلية ) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم اهلُ انتهاب وعيث ، ينتهبون ما قدروا عليه ... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم ، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له ».

ويضيف قائلا : « فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وان رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في أخذ اموال الناس حدُّ ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو ماعون انتهبوه » (2).

لقد كانت الاغارة وكان النهب والقتال من العادات المستحكمة عند القوم ، ومن الطبائع الثانوية في نفوسهم ، وقد بلغ ولعهم وشغفهم بكل ذلك ونزوعهم

ص: 64


1- وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف ، راجع تحف العقول : ص 33 و 34.
2- مقدّمة ابن خلدون : ص 149.

الشديد إليه أن أحدهم - كما يقال - سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم : وهل فيها قتال؟

ولما سمع الجواب بالنفي قال : اذن لا خير فيها!!

اجل لقد سجل التاريخ للعرب ما يقرب من (1700) وقعة وحرباً ، امتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو اكثر ، يعني أن أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب ، وتستمر في قتال الخصم ، وربَّ حرب دامية طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة (1).

لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ الا الدم ، وقضية « الشنفري » الّتي هي اشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى « العصبية الجاهلية » الّتي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يُهانُ على يد رجل من « بني سلامان » فيعزم على الانتقام منه ، وذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة ، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين ، ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته - بعد مقتله - فعلتها ، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين - في قتل رجل من قبيلة - « بني سلامان » وبذلك يكتمل العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة ، وذلك عندما يمر رجل من « بني سلامان » على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة « شنفرة » على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة ، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة (2).

ص: 65


1- العرب قبل الإسلام : ص 319 و 320 ، هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء ، من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام ، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء ( وهو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس ) وفرسين آخرين ( لحذيفة الغدر ) انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن أحدهما الآخر ، وأن تتهيأ على اثر ذلك مقدماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين وحلفائهما استمرت من عام 568 م إلى عام 608 م وموت كثيرين. (راجع تاريخ العرب و آدابهم ص 47 والكامل لابن الأثير: ج1 ص204).
2- تاريخ العرب : ج 1 ، ص 111 ، وراجع أيضاً بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 145 و 146.

ولقد بلغ اُنس العرب الجاهلية بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!!

ويبدو ذلك جلياً لمن يقرأ قصائدهم الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم ، ويخيّم عليها شبح الموت ، تلك القُصائد الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! ، وما ازهقوه من ارواح وما سبوه من نساء!! ، وأيتموه من أطفال!!

ونجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصابَ قبيلته مِن نكسة وذل وهزيمة في ميدان القتال ، إذ يقول :

فَلَيْتَ لي بِهمُو قَوماً إذا ركَبُوا *** شَنُّوا الإغارَة رُكباناً وفُرسانا

 ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله : « وَكُنْتم عَلى شَفا حُفْرة مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ مِنها » (1).

الاخلاق العامة في المجتمع الجاهليّ العربي :

ومهما يكن من امر فان عوامل مختلفة كالجهل وضيق ذات اليد ، وجشوبة العيش ، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية ، وحالة البداوة الموجبة للتوحش ، والكسل والبطالة وغير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم ، حتّى أن اُموراً يندى لها الجبين قد اخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!!

لقد كانت الغارات وعملياتُ النهب ، والقمار ، والربا ، والاسر ، والسبي من الأعمال والممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية ، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم ، ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم ، وحتى أن

ص: 66


1- آل عمران : 103.

شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها وكانت الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن ، وقد نُصِبَت عليها رايات.

فها هو شاعرُهم يقول :

إذا متُّ فادفِنيّ إلى جَنبِ كَرَمةٍ *** تُرَوّي عِظامي بَعدَ مَوتى عُرُوقُها

ولا تَدفِنَنيَّ في الفَلاةِ فإنَّنِي *** أخافُ إذا مامِتُّ أن لا أذوقُها (1)

لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة « التجارة » تعادل في عرفهم بيع الخمور ، والاتجاربها.

ولقد كانت الأخلاق تفسَر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب ، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة ، ولكنهم كانوا يقصدون من « الشجاعة » القدرة على الإغارة وسفك الدماء ، وكثرة عدد القتلى في الحروب!!

كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات حتّى أن هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة ، وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلا ، وهكذا فان اكثر القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية فيها تتلخص وتتجسَّد في الاغارة والانتقام.

انهم كانوا يعشقون - في حياتهم - المرأة والخمرة والحرب ليس غير.

النزوع إلى الخرافة والاساطير في المجتمع الجاهلي :

ولقد بَيَّنَ القرآنُ الكريمُ اهدافُ البعثة المحمَّدية المقدسة بعبارات موجزة ، وممّا يلفت النظر - اكثر من أيّ شيء - ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الاهداف والغايات العليا إذ قال : « وَيَضَعُ عنهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ » (2).

ص: 67


1- تفسير مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 262 ، طبعة مصر : 1305.
2- الأعراف : 157.

فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الاَغلال والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزخُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر الإسلام؟

لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس الأَغلال والسَلاسل الحديدية ، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً ، فماذا كانت إذَنْ يا ترى؟

أجَل إنّ المقصودَ مِنْ هذه الاغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن الحركة ، وتعيقه عن النمو والتقدم ، ولا شك أن مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي ، اثقل بكثير من الاغلالَ والقيود الحديدية واضرّ على الإنسان منها بدَرجات ومراتب ، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضي زمان ، ويتحرر الإنسان منها ، بعد حين ، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّاة من الأوهام والخرافات ، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام.

أما السلاسل والاغلال الفكرية ( ونعنى بها الاوهام والاباطيل والخرافات ) التي قد تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فانها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته ، واعاقته عن المسير والانطلاق ، دون ان يستطيع التحرر منها ، والتخلص من آثارها ، وتبعاتها ، اللّهم إذا استعان على ذلك بالتفكير السليم ، والهداية الصحيحة.

فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلص مِن تلك الاغلال والقيود الثقيلة ، وأما بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

إن من أكبر مفاخر نبي الإسلام أنه كافَحَ الخرافات ، وأعلن حرباً شعواء على الأَساطير ، ودعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام والتخيلات ، وقال : لقد جئت لاخذ بساعِد العقل البشري ، وأشدَ عضدَه ، واُحارب الخرافه مهما كان مصدرها. وكيفما كان لونها وأيّا كانت غايتها ، حتّى لو خَدَمَت أهدافي ، وساعَدَتْ على تحقيق مقاصدي المقدسة.

إنّ ساسة العالم الذين لاتهمهم إلاّ إرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على

ص: 68

الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة ، والاستفادة من أية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنهم لا يتأخرون عن التذرع بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم ، أو البقاء فيها ما امكنهم ذلك. ولو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين ومنطقيين فانهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والاساطير الّتي لا تنسجم مع اي مقياس عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي ، أو احترام راي اكثرية الشعب ، أوما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

ولكنَّ رسولَ الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تلحِق الضرر به ، وبمجتَمعه ، بل كان يكافح ويحارب بجميع قواه كل اُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة ، تخدم غرضه ، وتساعد على تحقيق التقدم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات ، ويكونوا ضحايا الاساطير والأوهام ، واليك واحداً من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

لما ماتَ إبراهيم بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابنه الوحيد ، حزن عليه النبي حزناً شديداً فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار ، واتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً ، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع ( العربي ) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا : انكسفت الشمسُ لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المنبرَ وقال : « أيُّها الناس انَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره ، ومطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه ، فاذا انكسفا ، أو أحدُهما صلّوا ».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف وهي ما تسمى بصلاة الايات (1).

ص: 69


1- بحار الأنوار : ج 91 ، ص 155.

ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة وان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس ، وتخدم بالتالي غرضه ، وتساعد على انتشار دعوته ، وتقدمها ، إلا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رفض ان يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق.

على أن محاربَة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم للخرافات والاساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية ، وتأليه المخلوقات وعبادتها ، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته ، حتّى يوم كان صبياً يدرج ، فانه كان يحارب الاوهام والخرافات ، ويعارضها في ذلك السن أيضاً.

تقول حليمةُ السعدية مرضعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : لما تمَّ له ( اي لمحمَّد ) ثلاث سنين قال لي يوماً : « يا أُمّاهُ ما لِيَ لا أرَى أخَوَيَّ بالنّهار »؟

قلت له : يا بنيّ إنهما يرعيان غنيمات ، قال : « فَما لي لا أخْرُج مَعَهما »؟ قلت له : تحبُّ ذلك؟ قال : نَعَمْ.

فلما أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية ( وهي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه ) ، فنزَعَها ، وقال لي : « مَهْلا يا اُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ » (1).

الخرافات في عقائد العرب الجاهلية :

كانت عقائدُ جميع الامم والشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير.

فالاساطير اليونانية والساسانية كانت تخيّم على افكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب والمجتمعات.

على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة ، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم.

ص: 70


1- بحار الانوار : ج 15 ، ص 392.

إن تنامي الخرافة « يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كل مجتمع ، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفاً من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول الناس ونفوسهم.

لقد سجل التاريخ عن سُكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الاوهام والخرافات ، وقد جمع السيّد محمود الآلوسي اكثرها في كتابه « بلوغ الارب في معرفة احوال العرب » ، مُرفقاً كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها (1).

ومن يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم ، وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب والاُمم الاخرى.

ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية ، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم بكل طاقاته في محو وازالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والاساطير والخرافات.

فعندما وجَّه « معاذ بن جبل » إلى اليمن اوصاه بقوله :

« وامِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلاّ ما سنَّهُ الإسلامُ وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ » (2).

لقد وقف رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزح تحت الافكار والمعتقدات الخرافية ردحاً طويلا من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والاوهام الجاهلية إذ قال : « كُلُّ مأثرة فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ » (3).

ص: 71


1- بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 286 - 369.
2- تحف العقول : ص 25.
3- السيرة النبوية : ج 3 ، ص 412.

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي :

اشارة

وللوقوف على مَدى أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه الخرافات ، ومن أراد التوسع راجع المصدر المذكور.

1 - الاستسقاء باشعال النيران :

كانت العرب إذا أجدبت ، وأمسكت السماء عنهم ، وأرادوا أن يستمطروا عَمَدوا إلى السلع والعشر ( وهما أشجار سريعة الاشتعال ) فحزموهما ، وعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيها النيران وأصعَدوها في جبل وَعر ، واتبعوها يدعون اللّه تعالى ، ويستسقونه ، وانما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الاخرى ، وكانت هذه الثيران والابقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بان ذلك هو الرعد!!!

وقد قال شاعرهم في ذلك :

يا ( كحلُ ) قَد أثقَلتَ أذنابَ البَقَر *** بسَلع يُعقَدُ فيها وعُشر

 فَهَل تَجُودينَ بِبَرق أو مَطَر؟

2 - ضرب الثور إذا عافت البقر :

كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من شرب الماء ، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء ، بعدَه ويقولون : إنْ الجنَّ تصدُّ البقرَ عن الماء ، وأن الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ ، ولا يدع البقر تشربُ الماء ، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور.

وقد قال في هذا شاعرهم :

كَذاك الثورُ يضرَبْ بالهَراوى *** إذا ما عافَت الْبَقَر الظِماءُ

 وقال آخر :

فإني إذاً كالثَور يَضرب جَنبُهُ *** إذا لَم يَعْفَ شُرباً وعافت صواحبه (1)

ص: 72


1- عافت أي كرهت شرب الماء.

وقال ثالث :

فلا تجعلوها كالبقير وفحلُها *** يُكسِّر ضرباً وهْو للورد طائْعُ

وما ذَنبُه إن لم ترد بَقَراته *** وَقَدْ فاجأتْها عند ذاك الشرائعُ

3 - كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ :

إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في مشافرها واطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه وفَخذَه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة ، ولا يعرف سبب ذلك.

وقد احتمل البعض أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها ، أو أنه نوع من المعالجة العلمية ، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كل تلك الابل ، فلابد من القول بأن هذا الفعل كان ضرباً من الاعمال الخرافية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

وقد قال شاعرهم عن ذلك :

وَكَلّفتني ذنبَ امرئ وتركتُه *** كدِى العُرّيكوى غيرُه وهو راتع

وقال آخر :

كمن يكوي الصحيح يروم بُرءاً *** بِه مِن كلِ جَرباء الإهاب

وقال ثالث :

فالزمْتَنِي ذنباً وغيريَ جرَّه *** حنانيل لا تكو الصَحيح بأجربا

4 - حبس ناقة عند القبر اذامات كريمٌ :

إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم ، فعكَسُوا عنقها ، وأداروا رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت ، وربما اُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً ، وكانوا يزعمون أن مَن مات ولم يُبْلَ عليه ( اي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا )

ص: 73

حشر ماشياً ، ومن كانت له بلية ( اي ناقة عقلت هكذا ) حُشِر راكباً على بليّته.

وقد قال أحدهم في هذا الصدد :

إذا مِتُّ فادفنيَّ بحرّاء ما بها *** سوى الأصرخين أو يفوِّز راكبُ

فإن أنتَ لم تُعْقرْ عَليَّ مطيَّتي *** فلا قامَ في مال لك الدهر حالبُ

وقال آخر وهو يوصي ولده بان يفعلوا له ذلك :

أَبُنيَّ لا تنسَ البليّة إنها *** لأبيك يومَ نُشُوره مركوبُ

5 - عَقرُ الإبل عَلى القُبُور :

كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم بعير بالسَيف عند قبره ، وقيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للاضياف.

وقد ابطلت الشريعة المقدسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث « لا عَقْر في الإسلام ».

وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا :

قُلْ للقوافِل والغُزاة إذا غَزَوا *** والباكرين وللمجدّ الرائح

إنَ الشَجاعة والسَماحة ضُمِّنا *** قبراً بِمروَ عَلى الطريق الواضح

فإذا مررتَ بِقبره فاعقِرْبهِ *** كُومَ الجلاد وكل طِرف سابع

وأنضحْ جَوانبَ قبره بدمائها *** فَلَقدْ يكونُ اَخا دم وذبائح

6 - نهيق الرجل أذا اراد دخول القرية ( التعشير ) :

ومن خرافاتهم أن الرجلَ منهم كان إذا ارادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنَهقَ نهيقَ الحمار ، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له ، ورقية من الوباء والجن ويسمون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم :

ولا يَنْفَعُ التعشير أن حُمَّ واقع *** ولا زعزعٌ يُغني ولا كَعبُ ارنب          

ص: 74

وقال الآخر :

لعمريَ إن عشّرتُ من خيفة الرَدى *** نِهاق حَمير أنني لجزوعُ  

7 - تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي :

فقد كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه ، كأنه يومئ بهما إلى انسان مهتدي.

قال أعرابي في ذلك :

قلبتُ ثيابي والظنونُ تجولُ بي *** ويرمي برجلي نحو كلَ سَبيل

فلأياً بلائي ما عرفت حليلتي *** وأبصرتُ قصداً لم يُصَب بدليل  

8 - الرتم :

وذلك أن الرجل منهم كان إذا سافر عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ وجده بحاله علم ان زوجتَه لم تخنهُ وان لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولا قال : قد خانتني. وذلك العقد يسمى « الرتم ».

قال شاعرهم في ذلك :

خانته لما رأتْ شَيْباً بمفرقه *** وغَرّه حِلفُها والعَقْدُ للرتم

وقال الآخر :

لا تحسَبنّ رتائما عقدّنَها *** تنبيك عنها باليقين الصادق

وقال ثالث :

يعلل عمروٌ بالرتائم قلبه *** وفي الحيّ ظبيُّ قد أحلّت محارقه

فما نَفَعَتْ تِلكَ الوصايا ولا جَنَتْ *** عَليهِ سوى ما لا يحبُّ رتائمه  

9 - وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها :

فقد كانت العرب تقول : ان المرأة المقلاة وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ ، إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها.

ص: 75

قال احدهم :

تظلّ مقاليت النساء يَطأنه *** يَقُلْنَ ألا يلقى على المرء مئزر

10 - طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ :

ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أن الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمسَ إذا طلعت وقذف بها وقال : يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها ولتجر في ظلمها آياتك ، أو تقول أياؤك ، وهما جميعاً شعاع الشمس.

قال احدهم وهو يصف ثغر معشوقته :

سقته أياة الشمس إلاّ لثاته *** أسفَّ ولم تكرم عليه باثمدِ

أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها.

هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال ( أوقل الخرافة المذكورة ) إذ قال :

شادنٌ يحلو إذا ما ابتسَمَتْ *** عن أقاح كاقاح الرمل غر

بدلته الشمسُ من منبته *** بَرَداً أبيضَ مصقولَ الاثر

11 - تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون :

ومن تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا خافُوا على الرجل الجنونَ ، وتعرّض الارواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الاقذار كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا : وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامتٌ عظامّ موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وانشدوا في ذلك :

فلو أن عِندي جارتَين وراقياً *** وعَلَّقَ أنجاساً عَلّي المعلقُ

وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم ينفعه ذلك ومات :

نجّستُهُ لا ينفعُ التنجيسُ *** والموتُ لا تفوتُه النفوسُ

12 - دم الرئيس يشفي :

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلْب الكَلِب.

ص: 76

قال الشاعر :

بناةُ مكارم وأساة جُرح *** دِماؤُهُمْ من الكَلبِ الشفاءُ

وقال آخر :

أحلامُكُمْ لسِقامِ الجهل شافيةٌ *** كَما دِماؤكُمُ تشفي من الكَلَب

13 - شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل :

ومن أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا احب إمرأة واحبّته فشق برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام ، فان لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما ، قال في ذلك احدهم :

وكم شَقَقْنا مِن رداء محبِّرٍ *** وَمِنْ بُرقُع عَنْ طَفلة غير عانس

إذا شُق بُردٌ شُق بالبرد بُرقعٌ *** دواليك حتّى كلُّنا غير لابسِ

نروم بهذا الفعل بُقياً على الهوى *** والف الهوى يُغوى بهذي الوساوس  

14 - معالجةُ المرضى بالاُمور العجيبة :

ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ : الحلأ الحلأ ، الطعام الطعام ، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز ، واقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله ، فيبرأ مِنَ المرض فان أكل صبيّ من الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو لقمة أو لحمة بثرت شفته.

فقد رويت عن إمرأة أنها انشدت :

ألا حلأ في شفة مشقوقَه *** فقد قضى منخلُنا حقوقَه

ومن أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لانه قَتَلَ حية ، أو يربوعاً ، أو قنفذاً ، عملوا جِمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك ، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك

ص: 77

الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وان رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة قالوا : قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ.

قال بعضهم :

قالُوا وقد طالَ عَنائي والسَقمْ *** إحمِلْ إلى الجِن جمالات وضَمّ

فَقَد فَعَلت والسقام لم يرم *** فبالذي يملَك برئي اعتصمْ

وقال آخر :

فياليتَ أن الجن جازُوا حمالَتي *** وزُحزحَ عني ما عناني من السقم

اُعلّلُ قلبي بالَّذي يزعُمونه *** فَيالَيتَني عُوفيت في ذلك الزعم

ومن مذاهبهم في هذا المجال أن الرجلَ منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء ( وهو مرض جلدي ) عالجها بالريق.

قال احدهم :

يا عَجَباً لهذه الفليقة *** هَل تُذهِبَّنَ القُوَباءَ الريقة

15 - خرافاتٌ في مجال الغائب :

كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب ولم يعرفوا له خبراً جاؤوا إلى بئر عادية ( أي مظلمة بعيدة القعر ) أو جاؤوا إلى حصن قديم ونادوا فيه : يا فلان أو يا أبا فلان ( ثلاث مرات ) ، ويزعمون انه إن كان مَيتاً لم يسمَعوا صوتاً ، وإن كان حياً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً ، أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم ، قال بعضهم في ذلك :

دَعوتُ ابا المِغوار في الحَفْر دعوة *** فما آضَ صوتي بالذي كنت داعيا (1)

أظنُ أبا المغوار في قصر مظلم *** تجرُّ عليه الذارياتُ السَوافيا

وقال آخر :

وكمْ ناديتُه والليلُ ساج *** بِعاديّ البِئار فما أجابا

ص: 78


1- آضَ أي عاد ورجع.

ومن ذلك أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال : ( أرى من اُحبُّه ) فأن كان غائباً توقع قدومَه ، وإنْ كان بعيداً توقَّعَ قربه ، وقالَ أحدهم :

إذا اختلَجَتْ عَيني أقولُ لعَلَّها *** فَتاة بني عمرو بها العينُ تَلْمعُ

وقال آخر :

إذا اختلَجَت عَيني تَيقَّنتُ إنّني *** أراكَ وَإن كانَ المزارُ بَعيدا

وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم « أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ وأوقدَ ناراً إثرهُ » قال بعضهم :

صحوتُ وأوْقدتُ لِلجَهلِ ناراً *** وَرد عليك الصبا ما استعارا

16 - عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ :

كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.

فتارة تستعيذُ بالجن ، وقد إستعاذَ رجلٌ منهُمْ وَمَعَهُ ولدٌ فاكلهُ الأَسدُ فقال :

قَدْ استعَذْنا بعظيم الوادي *** مِن شَرِّ ما فيهِ مِنْ الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي

وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانَهُ في القرآن : « وَأَنَّهُ كانَ رجالٌ مِنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهقاً » (1).

ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن. ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها.

ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول ، فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات ( وهي من جنس الشياطين ) تتراءى للناس ، وتغول تغولا اي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق ، وتهلكهم ، ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!!

ص: 79


1- الجن : 6.

وقد قال أحدُهم في ذلك :

وساحرةٌ عينيّ لو أنَّ عينَها *** رَأَت ما اُلاقيهِ مِنَ الهَول جَنّتِ

أبيتُ وسعلاةٌ وغولٌ بِقَفْرة *** إذا الليلُ وأرى الجن فيه أرنت

17 - تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء :

ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء كثيرة وحالات عديدة :

فمن ذلك ؛ تشاؤمهم بالعطاس.

وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا : فلانٌ أشام من غراب البَيْن ، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم :

ليتَ الغرابُ غداة ينعَبُ دائباً *** كانَ الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات والأوهام والخرافات والاساطير ، والاعتقادات العجيبة ، والتصورات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصصةِ لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى ابان قيام الحضارة الإسلامية.

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات :

ولقد كافح الإسلامُ جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة ، واساليب متنوعة.

أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ بالحيوانات فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق والعلم لأن المطر والغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران ، وضرب الثيران لا يؤثر في البقر ، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة ، وتعتبر هذه الاعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات وايذائها ، باي شكل كان.

فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال : « لِلدّابةِ عَلى صاحبها ستُّ خصال :

1 - يَبدأ بعلفها إذا نَزَل.

ص: 80

2 - ويُعرضُ عليها الماء إذا مَرَّ به.

3 - ولا يضرب وجهها فإنها تسبِّحُ بحمدِ ربّها.

4 - ولا يقفْ على ظهرها إلا في سَبيل اللّه عزّوجلّ.

5 - ولا يحمّلها فوق طاقتها.

6 - ولا يكلّفها من المشي إلا ما تطيقُ (1).

كما رُوي أنه نهى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أن توسَم البهائمُ في وجهها ، وأن تضرَب في وجوهها فانها تسبّح بحمد ربها.

ومن هنا ندركُ ان التعاليم في مجال الرفق بالحيوان ، وحمايته ، على النقيض من العادات الجاهلية السائدة في البيئة العربية آنذاك.

واما بالنسبة إلى التمائم والأَشياء الّتي كانت تعلّقها العربُ على أعناق وصدور رجالها ، وأولادها ، من الأحجار والخَرَز ، وَعظام الموتى ، ومعالجة المرضى والمصابين وغيرهم بها أحياناً فقد حاربَها الإسلامُ ، بعد أن ابطلها كما ابطل الافاعيل الّتي سبق أن ذكرناها قبل هذا.

فلما جاءت جماعات من الأعراب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسألوه عن الرّقى والقلائد الّتي كانوا يتداوون بها أو يسترقونها بدلا عن التداوي بالعقاقير والأدوية قائلين يا رسول اللّه : انتداوى؟

قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « تداووا فإنَّ اللّه لَمْ يَضَعْ داء إلا وَضَعَ لَهُ دَواء » (2).

بل نجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأمر سعد بن أبي وقاص عندما اُصيب بمرض في فؤاده أن يعالج نفسَه عِند طبيب إذ قال له لما عادَه وعرف بحاله : « إنَك رجلٌ مفودٌ ، إئتِ الحارثَ بن كلْدة أخا ثقيف فإنَهُ رَجَلٌ يتطبَّب » (3).

ص: 81


1- من لا يحضره الفقيه : ج 2 ، ص 286 ، وراجع للوقوف على أحاديث حقوق الحيوان كتاب الشؤون الاقتصادية : ص 130 - 159 أيضاً.
2- التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 178.
3- التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 179.

هذا مضافاً إلى أنه وردت أحاديث كثيرة تصرّح ببطلان التمائم السحريّة الّتي لا تنفع ولا تضرّ أبداً ، وها نحنُ نشير في ما يلي إلى نموذجين من هذه الأحاديث :

1 - يقول أحدُهُم : دخلتُ على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن لي قد علقت عليه من العُذرة ( وهي قلادة سحرية جاهلية ) فقال : علام تدغَرْن أولادَكنَّ بهذا العِلاق ، عليكنَّ بهذا العُود الهِنْديّ » وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يقصد عصارة هذا العود (1).

2 - رُوي عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام أنه قال : « إنَّ كثيراً مِنَ التمائم شِرْكٌ » (2).

هذا مضافاً إلى أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأوصياءه الكرام - بارشادهمُ الناس إلى ما ينبغي أن يتداووا به من العقاقير والأدوية وما أعطوْه من تعاليم قيمة كثيرة في هذا المجال ممّا جمعه المحدثون الكبار تحت عنوان : « طبّ النبيّ » و « طب الرضا » و ... وقد وجهوا ضربة قوية اُخرى إلى تلك الأوهام والتخيّلات ، والخرافات والاساطير الّتي كان يعاني منها المجتمعُ العربي الجاهلي قبل الإسلام (3).

وأما الغول ، والطيرة ، والتشاؤم ، والهامّة والنَوء فقد حاربها النبي بصراحة إذ قال : صلى اللّه عليه وآله وسلم « لا هامَّة ولا نَوء ولا طِيرَة ، ولا غول » (4).

وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « العِيافَةُ والطِيَرةُ والطَرْق مِن الجبْت » (5).

ص: 82


1- التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 184.
2- سفينة البحار : ج 1 ، مادة رقي.
3- وقد فتح المحدّثون من الفريقين أبواباً خاصّة لأحاديث الطبّ النبويّ في كتب الحديث أيضاً.
4- 4 - التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 196 و 197 الفصل الرابع باب نفي مزاعم الجاهلية ، قال مؤلف التاج : الهامّة طائر أو البوم إذ سقط في مكان تشاءم أهلُه ، أو دابّة تخرجُ من راس القتيل أو من دمه فلا تزالُ تصيح حتّى يؤخدَ بثاره ، والنَوء نجمٌ يأتي بالمطر وآخر يأتي بالريح ( حسب عقيدة الجاهلية )!!
5- التاج الجامع للاُصول : ج 3 ص 201. قال مؤلّف التاج العيافة زجر الطّيْر والتفاؤل بأسمائها وأصواتها كالتفاؤل بالعُقاب على العِقاب ، وبالغُراب على الغُربة ، وبالهُدْهُدْ على الهُدى ، وكذا بافعالها ، وكيفية طيرانها فكانت العرب تزجر الطيرَ وتثيره فما اخذ منها ذات اليمين تبركوا به وتيمَّنوا وما تياسر منها تشاء موابه ( كما في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ص 212 تحت عنوان كيفية الزجر عند العرب ). و « الطرق » : الضرب بالحصى ( للإستدلال على اُمور غيبيّة باعتقاد الجاهليين ). والجبت هو الباطل.

وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال : « إنَّ الرقى والتمائم والتولَة شركٌ » (1).

وعن أحدهم قال : قلتُ يا رسولَ اللّه اموراً كنّا نصنعها في الجاهلية ، كنّا نأتي الكهّان ، قال : فلا تأتوا الكهّانَ ، قلت : كنّا نتطيّر قال : ذاك شيء يجدُهُ أحدُكُمْ في نفسِه فلا يَصُدَّنكم ».

إن وجودَ النهي الشديد والمكرّر في الاحاديث الكثيرة عن الطيرة والتشاؤم ، والزجر والعيافة والتمائم والتولة والهامّة والنوء والغول ، والكهانة ، وايذاء الحيوانات وكيهنّ ، وتعذيبهن ، وماشابه ذلك يدل بوضوح وقوة على مدى رسوخ هذه العادات الباطلة في الحياة العربيّة الجاهلية ، يكشف عن مبلغ اعتقادهم بها ، ونزوعهم اليها وهو بالتالي يكشف عن مغزى قوله تعالى : « ويضَعُ عنَهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلال الَّتي كانَت عَلَيهِمْ » (2) فأيّة سلاسل وأَغلال أثقل وأسوء عاقبة وأشدّ وطئة ، من هذه الأغلال ... أغلال الخرافة والوهم ، وسلاسل التخيلات والاساطير؟!! أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام :

إن اُولى خطوة خطاها البَشَر باتّجاه النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تاسيس وإقامة الحياة القبلية ، فالقبيلة تتكون من إجتماع عدة عوائل واُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت زعامة شيخ القبيلة ، وبهذا يتحقق

ص: 83


1- التاج الجامع للاُصول : ج 3 ، ص 203. قال مؤلِّف الجامع : « التولة » : نوع من السحر يحبّب الرجلَ إلى زوجته ، وهو من عمل المشركين ( أي في الجاهلية ).
2- سورة الاعراف : 157.

أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية.

وقد كانت الحياةُ العربية - آنذاك - من هذا القبيل ، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة ، وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها ، ولقد كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية ، والوشيجة النسبية ، وكانت هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها ، وتقاليدها وأعرافها ، اختلافاً كبيراً ، وإذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزناً ولا قيمة ، ولا تعترف لهم باي حق أو حرمة.

ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين وقتلهم ، ونهب أموالهم ، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة ، اللّهم إلاّ أن يكون بين القبيلة ، والقبيلة الاُخرى حلف أو معاهدة.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اُخرى ترى من حقها أن تردَّ الصاع صاعين ، تقتل كل أفراد القبيلة المغيرة ، لأن الدّم - في نظرهم - لا يغسله الا الدّم!!!

ولقد تبدلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف ، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلفة والنظام العشائري الضيّق هذا ، إلى حكومة عالميّة ، واستطاع رسولُ الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة اُمّة واحدة.

ولا شك أن تأليف اُمة واحدة من قبائل وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع ، والتخاصم والتقاتل ، والتهاجم والإغارة في ما بينها ، واستمرأت سفك الدماء ، وإزهاق الارواح ، وذلك في مدة قصيرة ، عملٌ عظيم جداً ، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها ، لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا اُريدَ لَهُ أن يتمَّ عبر التحوُّلات والتطورات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الامد ، ووسائل لا تحصى كثرة.

ص: 84

يقول « توماس كارليل » في هذا الصدد : لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور ، وأحيى به منها امة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ فيها حركة ، حتّى صار الخمولُ شُهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة ، والشرارة حريقاً ، وشمل نورُه الأَنحاء وعمَّ ضوؤه الأرجاء ما هُو إلا قرنٌ بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب ( المسلمين ) قدمٌ في الهند واخرى في الاندلس (1).

وإلى هذه الحقيقة يشير ايضاً مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير « رينان » قائلا : « لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينيّ قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الّذي صار به العربُ اُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الاُولى مِنَ الميلاد ، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ » (2).

أجل إنّ هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة ، ولم تمتلك أية تعاليم وقوانين ، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام ، لقد كانت محرومة من جميع المقومات الإجتماعية الّتي توجبُ التقدم والرقي ، ولهذا لم يكن من المتوقع ابداً ان تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة ، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الإنسانية الواسع ، واُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُرعة الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه.

إنَّ مَثَل الشعوب والاُمم البشرية مثل المباني والعمارات تماماً.

فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج إلى موادّ انشائية قوية معدَّة باتقان ومحضّرة باحكام حتّى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ ، والمؤسس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه الأعاصير ، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كل اُمة رشيدة من الاُمم إلى اُسس وقواعد محكمة ( وهي الاُصول والآداب الكاملة ، والأخلاق الإنسانية العالية ) لتستطيع من البقاء والتقدم.

ص: 85


1- الخطط الاستعمارية لمكافحة الإسلام : ص 38 ، والإسلام والعلم الحديث : ص 33.
2- حضارة العرب : ص 87.

ولهذا السبب لابد من التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل :

كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم ، وذلك التحول العميق للعرب الجاهلية ، ومن اين نشأ؟؟

كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة ، متعادية ، متناحرة ، متباغضة ، في ما بينها ، بعيدة عن النظم الإجتماعية ، بمثل هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة ، وتشكل دولة قوية كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه ، وتطيعها ، وتحترم مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك.

حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة ، والذين عاشوا الانظمة الملكية سنيناً عديدة ، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً ، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة ، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.

لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة ، ويعيشون تحت ظلّ حضارة « الروم » أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟

لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا - وإلى الامس القريب - يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدم؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى ، ويتغذون منها ، ولكن الّذي يثير الدهشة ، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة ، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية ، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق ، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل ، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير.

* * *

ص: 86

دُوَل الحيرة وغسّان :

على العموم كانت المناطقُ ذاتُ المناخ الجيّد من الجزيرة العربية حتّى آخر قرن قبل الإسلام تحت سيطرة ثلاث دول كبرى هي : « ايران » ، « الروم » ، « والحبشة ».

فالشرق والشمال الشرقي من هذه المنطقة كانت تحت حماية « ايران ».

والشمال الغربي كان تابعاً للروم.

والمناطق المركزية والجنوب كانت تحت نفوذ « الحبشة ».

وعلى أثر مجاورة هذه المناطق للدول المتحضّرة المذكورة ، وما كان بينها من نزاع وتنافس دائمين ظهرَت في المناطق الحدودية للجزيرة العربية دول شبه متحضرة ، وشبه مستقلة كان كلُ واحدة منها تابعة في حضاراتها لدولة متمدنة عظمى تجاورها.

وقد كانت دول « غسان » ، و « الحيرة » « وكنده » من هذه الدول شبه المستقلة وشبه المتمدنة ، وكانت كلُ واحدة منها تابعة لاحدى الدول العظمى آنذاك : « ايران » ، « الروم » ، « الحبشة ».

الحيرة : يتبيَّن من الآثار والأخبار أنه هاجرت - في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد - بعضُ الطوائف العربية ، وذلك في نهايات الحكم الأشكناني ، إلى الأراضي المجاورة للفرات ، وسيطروا على قسم من أراضي العراق ، وقد أوجدت هذه الجماعةُ المهاجرةُ القرى والقلاع هناك ، شيئاً فشيئاً ، وأحدثت المدنَ الّتي مِن أهمّها : « الحيرة » الّتي كانت تقعُ على حافة صحراء بالقرب مِن مدينة الكوفة الحالية.

وقد كانت هذه المدينة - وكما يظهر من إسمها - في بداية أمرها قلعة ( لأن الحيرة تعني في اللغة السريانية : الدير وما يشبهه ) يسكنها العرب ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى مدينة.

وقد ساعد مناخها الجميل ، والمياهُ الوافرة الّتي تأتي اليها من الفرات ، وجودة

ص: 87

الأحوال الطبيعية الاُخرى إلى أن تجتذب اليها أصحاب الصحراء ، وسكان البوادي ، والقفار ، كما واستطاعت هذه المدينة وبفضل مجاورتها للحضارة الفارسية إن تكتسب من ثقافتها ومدنيتها ما أفاض عليها لوناً من الحضارة والمدنية ، وقد بُنيت بالقرب من « الحيرة » قصورٌ مثل « الخورنق » الّذي اضاف إلى هذه المدينة جمالا وبهاء خاصّين ، وقد تعرَّف العربُ الساكنون في هذه المنطقة على الخط والكتابة ، ويمكن ان تكون الكتابة والقراءة قد سرتا منها إلى بقية مناطق الحجاز ومُدُنها (1).

ولقد كان ملوك « الحيرة » وأمرأوها من اللخميين العرب يؤيّدون من قِبَل الدولة الإيرانية بقوة ، وسبب هذا التأييد ، والحماية الايرانية لاُمراء الحيرة وملوكها كان يكمن في أن ملوك إيران - آنذاك - كانوا يُريدون أن تكونَ الحيرة سَدّاً ، وحاجزاً بينهم وبين عرب البادية ، يدفعون بهم خطرَ الغزاة من أهل الصحارى على الحدود الإيرانية.

ولقد سجَّلَ التاريخُ أسماء هؤلاء الاُمراء ؛ وقد نظم « حمزة الاصفهاني » فهرستاً بأسمائهم ، وجدولا بأعمارهم ومُدد حكوماتهم ، ومن كان يعاصرهم من ملوك بني ساسان الإيرانيين (2).

ومهما يكن الأمر فإن دولة اللخميين العرب كانت من أكبر الحكومات العربية شبه المتحضرة في منطقة الحيرة ، وكان آخر ملوك هذه السلسلة هو « النعمان بن المنذر » صاحب القصة التاريخية الّتي تتضمن خلعه من الحكم ، وقتله بواسطة الملك الايراني : « خسرو برويز » (3).

غَسّان : في أوائل القرن الخامس أو اوائل القرن السادس الميلادي هبط جماعة من المهاجرين اليمنيين في الشمال الغربي - أقصى نقاط الجزيرة العربية - وفي جوار الإمبراطوريّة الروميّة ، وأسسوا دولة الغساسنة ، وقد كانت هذه الدولة

ص: 88


1- فتوح البلدان للبلاذري : ص 457.
2- سِنيِّ ملوك الأرض : ص 73 - 76.
3- الأخبار الطوال : ص 109.

تحت حماية الروم ، وكان مُلوكُها يُنصبون من جانب إمبراطوريات « قسطنطينية » مباشرة ، تماماً كما كان مُلُوك « الحيرة » يُنصبون من جانب ملوك ايران.

ولقد كانت دولة الغساسنة متحضرة نوعاما ، وحيث أن مراكز حكمها كانت قريبة من ناحية إلى « دمشق » ومجاورة ل : « بُصرى » مركز القسم الرومي من الجزيرة العربية من ناحية اُخرى ، لذلك تأثرت بحضارة الروم تأثراً كبيراً وبالغاً.

ولقد كان الغساسنة متحالفين مع الروميين بسبب ما كان بينهم وبين ملوك الحيرة اللخميين العرب والايرانيين من الاختلاف والنزاع ، ولقد حكم في دولة الغساسنة تسعة أو عشرة من الاُمراء والملوك تباعاً.

الدين في أرض الحجاز :

لقد كان الدينُ الرائج في الحجاز هو الوثنية ، وعبادة الاصنام.

نعم كانت هناك أقليّات دينية يهودية تقطن في يثرب ( المدينة فيما بعد ) وخيبر ، كما انه كان هناك من يتبع المسيحية وهم سكّان نجران ، البلد الحدودي لليمن والحجاز.

وكان الدين الرائج في المناطق الشمالية من الحجاز ( إي الشام حالياً ) هو المسيحية بسبب مجاورة هذه المناطق للروم وخوضعها للسيادة الرومية.

ولو أننا استثنينا من الحجاز هذه المناطق الحساسة الثلاث لما وجدنا في بقية مناطق الحجاز إلاّ الوثنية في أشكال مختلفة ، واعتقادات متنوعة ، اللّهم إلاّ بضع افراد كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد ممن يُسمّون بالاحناف كانوا على دين التوحيد ، وكان عددهم بالنسبة إلى الاكثرية الساحقة من العرب الوثنيين قليلا جدّاً (1).

فمنذ زمن النبي « إبراهيم » الخليل وابنه « اسماعيل » عليهما السلام دخل

ص: 89


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 122 و 123.

التوحيد ، ودخلت بعض التعاليم الأخلاقية والدينية إلى أرض الحجاز ، وكان الحج وأداء مناسكه إحتراماً للكعبة الشريفة هو أحدُ هذه التعاليم والسنن الّتي دخلت مع « الخليل » إلى هذه المنطقة ، ثم إن رجلا من قبيلة « خزاعة » يسمى « عمرو بن لحي » الّذي كانت زعامة مكة قد عهدت إليه ، أدخل عبادة الاوثان في مكة في ما بعد ، وذلك عندما سافر هذا الخزاعي إلى بلاد الشام فوجد قوماً من العمالقة يعكفون على تماثيل جميلة النقش والمنظر يعبدونها ، ويؤلّهونها ، فقال لهم : ما هذه الأصنام الّتي اراكُم تعبدون؟؟ قالوا له : هذه اصنامٌ نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فاسير به إلى ارض العرب فيعبدوه؟؟ فأعطوه صنماً ، وهكذا استحب عملهم ، وجلب معه إلى مكة صنماً جميلُ النقش والنحت يدعى « هُبَل » فنصبه ودعا الناس إلى عبادته ، وتعظيمه.

وهكذا دخلت الوثنية إلى « مكة » المكرمة ، واصبحت عبادة الاوثان والاصنام عبادة رائجة في تلك الديار (1).

واشهر اصنام العرب هي :

1 - هبل وكانت أعظم اصنام العرب الّتي في جوف الكعبة.

2 - اساف.

3 - نائلة وكانت هي واساف على موضع زمزم ينحرون عندهما.

4 - اللات وكانت لثقيف بالطائف.

5 - العُزّى وكانت بنخلة الشامية ، وكانت لقريش وبني كنانة.

6 - منات وكانت للاوس والخزرج ومن ذهب مذهبهم من أهل يثرب.

7 - عميانس وكان بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم.

8 - سعد.

ص: 90


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 78 - 81 ، والعمالقة هم طائفة من العرب عاشوا وسادوا ثمّ بادوا قبل الإسلام.

9 - ذوالخلصة وكانت لدوس وخثعم وبجيلة.

10 - مناف (1).

ولقد كانت هذه هي أشهر أصنام العرب علاوة على الأَصنام الاُخرى غير المعروفة الّتي كانت تختصُّ بطائفة دونَ اُخرى ، أو بعائلة دون عائلة. العلم والثقافة في الحجاز :

كان أهلُ الحجاز يوصَفون بالاُميّين ، والاُميّ هو من لم يتعلم القراءة والكتابة فهو كمن ولدتهُ اُمُه ، أو هو باق في عَدم العلم بالقراءة والكتابة على الحالة الّتي وُلد فيها من اُمه.

ولأجل أن نعرف مدى ما كان عليه العلمُ والثقافة عند العرب من القيمة يكفي أن نعلم بأن عدد الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين قريش إلى ما قبل ظهور الإسلام لم يكن يتجاوز ( 17 ) شخصاً في مكة و ( 11 ) نفراً فقط من بين الأوس والخزرج في المدينة (2).

إذا لاحظنا هذا التخلف والانحطاط في مجال العلم والثقافة في البيئة العربية الجاهلية يتضح لنا مدى تأثير الإسلام ، وادركنا عظمة التعاليم الإسلامية في جميع الحقول الاعتقادية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية ، ولابدّ في تقييم الحضارات أن نطالع وندرس الحلقة السابقة ، ثم نقيم الحلقة التالية في ضوء ذلك ، وفي هذه الصورة نقف على عظمة تلك الحضارة الحقيقية (3).

ص: 91


1- راجع الأصنام للكلبي ، والمحبر : ص 315 - 319.
2- فتوح البلدان : ص 457 - 459.
3- للوقوف على معلومات أوسع واكثر حول عقائد مختلف طوائف المجتمع العربي الجاهلي ، وثقافتها وتقاليدها راجع الكتابين التاليين : ألف : « بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب » تأليف السيد محمود الآلوسي المتوفى عام 1270 هجري قمري. باء : « المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام » تأليف الاُستاذ جواد علي ، وهذا الكتاب اُخرجَ في ( 10 ) مجلدات ، وقد بُحثَ فيها كل ما يرتبط بحياة العرب في العهد الجاهلي.

الإمام عليّ يصف العهد الجاهليّ :

وقد وصف الإمامُ عليّ أميرُ المؤمنين عليه السلام تلك الحالة في خطبه ، وحيث أنه عاصر ذروة ذلك الوضع المأساوي ووصفه وصفاً دقيقاً لذلك ينبغي أنْ نقف عند كلامه قليلا ليتبين لنا جيداً ما كان عليه العربُ إبّان عهد الرسالة الإسلامية المباركة :

قال عليه السلام في الخطبة ( الثانية ) من نهج البلاغة :

« ... وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدَهُ وَرَسوله أرْسَلَهُ بالدينِ المَشْهُور والعِلَم الماثور والكِتاب المَسْطُور والنُّور الساطِع ، والضِياء اللامع ، والأمر الصادع إزاحة للشُبهات واحتجاجاً بالبَّيِنات وَتَحْذيراً بالآيات ، وتَخْويفاً بالمُثلات (1) والناسُ في فتن انْجَذَم (2) فيها حَبْلُ الدِّينِ ، وتزَعْزَعتْ سَواري (3) اليَقْينِ واْختَلَفَ النَجْرُ (4) ، وتَشتَّتَ الأمرُ وَضاقَ الَمخْرَجُ ، وعَمِيَ المَصْدَرُ فالهُدى خامِلٌ ، والعَمى شامِلٌ ، عُصِيَ الرَّحْمانُ ونصِرَ الشَيْطانُ وَخُذِلَ الإيْمانُ فَانْهارَت دَعائِمهُ ، وتَنكَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَست (5) سُبُلُه وعَفَت شُركه (6) أطاعُوا الشَيْطانَ فَسلكُوا مسالِكه ، وورَدُوا مناهِلَه (7) بِهِمْ سارتْ أعلامُه ، وقامَ لِواؤُهْ في فِتَن داستْهُمْ بأَخْفافِها (8) ووَطئَتْهُمْ بِأَظْلافِها (9) وقامَتْ عَلى سَنابِكِها (10) فَهُمْ فيها تئهون حائرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْر دار وَشَرِّ جِيْران نُومُهُمْ سُهُودٌ وَكُحْلُهمْ دُمُوعٌ بأَرْض عالِمُهْا مُلْجَمٌ وجاهِلُها مُكرَمٌ.

وقال في الخطبة ( التاسعة والثمانين ) أيضاً :

« أرْسَلَهُ صلى اللّه عليه وآله وسلم عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ وَطُول هَجْعة من الاُمَم واعْتزام (11) مِنَ الفِتَن وانْتِشار مِن الاُمور وَتلظٍّ (12) مِنَ الحرُوب والدُّنْيا

ص: 92


1- المثلات : العقوبات.
2- انجذم : انقطع.
3- السواري : الدعائم.
4- النجر : الأصل.
5- درست : انطمست.
6- الشُرك : الطُرق.
7- المنهل : مورد النهر.
8- الخف : هو للبعير كالقدم للإنسان.
9- الظلف : للبقر والشاة كالخفّ للبعير والقدم للإنسان.
10- السنابك : طرف الحافر.
11- اعتزم الفرس : إذا مرّ جامحاً.
12- تلظٍّ : تَلَهُّب.

كاسِفَةُ النُّور ظاهِرَةُ الغُرُور عَلى حينِ اْصفِرار مِنَ وَرَقها وأَياس مِنْ ثَمَرها واغْورار (1) مِنْ مائها قَد دَرَسَت مَنارُ الْهُدى وَظَهَرَتْ أَعلامُ الرَّدى فَهِيَ مُتَجَهِّمَة (2) لأهْلِها عابِسةٌ فيْ وَجْه طالِبها ثَمَرُها الفِتْنَةِ وَطَعامُها الجيْفَةُ (3) وشعارُها الخوفُ وَدثارُها السَيْفُ ».

وَقالَ في الخطبة ( السادسة والعشرين ) : « إنَّ اللّه بَعَث مُحمَّداً صلى اللّه عليه وآله وسلم نَذيراً لِلعالَمِين وأمِيْناً عَلى التَّنْزيْل وَانتُم مَعشَر العَرَب عَلى شَرِّ دين وَفي شَرِّ دار مُنِيخُونَ (4) بَيْنَ حِجارَة خَشِن (5) وحَيّات صُمٍّ (6) تَشربُونَ الكَدِرَ وَتَأَكُلُونَ الجَشِبَ (7) وَتَسْفِكُونَ دِماءكُمْ وتقطعُونَ أَرْحامَكُمْ الاْصنامُ فيكُم مَنْصوبَة وَالآثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَة (8) ».

وقال عليه السلام في الخطبة ( الثالثة والثلاثين ) : « إنَّ اللّه بعثَ مُحمَّداً صلى اللّه عليه وآله وسلم ولَيسَ اَحدٌ مِنَ العَرب يقراُ كِتاباً ولا يدّعي نُبوة فساق الناس حتّى بوَّأَهُمْ محلَّتهُمْ (9) وَبلَّغهُمْ مَنجاتَهُمْ فَاستقامَتْ قَناتُهُمْ (10) واطمأَنَّت صفاتُهُمْ ».

وقال في الخطبة ( الخامسة والتسعين ) أيضاً :

« ... بَعَثَهُ صلى اللّه عليه وآله وسلم والنّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَة وَحاطِبُونَ في فِتْنَة قَد اسْتَهْوَتْهُمْ الأَهْواء وَاسْتَزَلَّتْهُمْ الْكِبْرياء وَاسْتَخَفَّتْهُمْ (11) الجاهِليَّةُ الجَهْلاء حُيارى في زلْزال مِنَ الأَمْر وَبَلاء مِنَ الْجَهْلِ فَبالَغَ صلى اللّه عليه وآله وسلم في النَّصِيْحَةِ وَمَضى عَلى الطَّريْقَةِ وَدَعا إلى الْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ ».

وقال عليه السلام : في الخطبة ( السادسة والتسعين ) أيضاً :

« ... مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَمَنْبَتُهُ أشْرَفُ مَنْبَت في مَعادِنِ الْكَرامَة وَمَماهِدِ (12) السَّلامَةِ قَدْ صُرفَتْ نَحْوَهُ أَفْئدةُ الأَبرار وَثُنِّيَتْ إلَيْهِ أزمَّةِ الأَبْصار دَفَنَ

ص: 93


1- اغورار الماء : ذهابه.
2- تجهّمه : استقبله بوجه كريه.
3- إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار.
4- منيخون : مقيمون.
5- الخُشّن : جمع خشناء من الخشونة.
6- الُصمّ : الّتي لا تسمع لعدم انزجارها بالاصوات.
7- الجشِب : الطعام الغليظ.
8- معصوبة : مشدودة.
9- بَوّأهم محلَّهُمْ : أنزلَهم منزلتهم.
10- القناة : العود كناية عن القوة.
11- استخفتّهم : طيّشَتْهُمْ.
12- الممهَد : ما يُبسَط فيه الفراش.

اللّه بِهِ الضَّغائِنَ وَأطْفأَ بِهِ الثَّوائرَ (1) أَلَّف بِه إخْواناً وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً اَعزَّ بِهِ الذّلة وَأَذَلِّ بِهِ الْعِزَّة كَلامُهُ بَيانٌ وَصَمْتُهُ لِسان ».

وقال عليه السلام في الخطبة (151) أيضاً :

« ... أضاءتْ بِه صلى اللّه عليه وآله وسلم البلاد بَعْدَ الضَّلالَةِ المُظْلِمَةِ والْجهالَةِ الغالِبَةِ والْجَفْوَة الْجافِيَةِ وَالنّاسُ يسْتَحِلُّونَ الْحَريمَ وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيْمَ يَحْيونَ عَلى فَتْرَة (2) وَيَمُوتُونَ عَلى كَفْرّة ».

وقال في الخطبة (198) :

« .. ثُمَّ إنَّ اللّه سُبْحانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى اللّه عليه وآله وسلم بِالْحَقِّ حِيْن دَنا مِنَ الدُّنْيا الإنْقِطاعُ وَأقْبَلَ مِنَ الاخِرَة الإطّلاع (3) وَاَظْلَمَتْ بَهْجَتُها بَعْدَ إشْراق وَقامَتْ بأهْلِها عَلى ساق وَخَشُنَ مِنها مِهادٌ (4) وَأَزفَ (5) منها قيادٌ في انْقِطاع مِنْ مدّتها وَاقْتِراب مِنْ أَشْراطِها (6) وَتَصَرُّم (7) مِنْ أَهْلِها وانْفِصام (8) مِنْ حَلْقَتِها وَانْتِشار (9) مِنْ سببها وَعَفاء (10) مِنْ أعْلامِها وَتَكَشُّف مِنْ عَوْراتِها وَقِصَر مِنْ طُولِها ».

وقال عليه السلام في الخطبة (213) : « اَرْسَلَهُ بِالضِّياء وَقَدَّمَهُ في الاْصْطِفاء فَرتَقِّ (11) به المَفاتِقَ (12) وَساوَرَ (13) بِه المُغالِبَ وَذَلَّلَ بِه الصُّعُوبَة وَسَهِّل بِهِ الحُزُونَةَ (14) حَتّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ يمين وَشِمال ».

وقال في الخطبة (191) : « وَاشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه ابْتَعَيْه وَالنّاسُ يَضربُون في غَمْرة (15) وَيَمُوجُونَ في حَيْرَة قَدْ قادَتْهُمْ أزمَّةُ الحَيْنِ (16) وَاستَغْلَقَتْ عَلى أَفْئدَتِهِمْ أقْفالُ الرَّيْنِ »(17).

ص: 94


1- الثائرة : العدواة.
2- على فترة : على خلوّ من الشرائع.
3- الاطّلاع : الإتيان.
4- خشونة المهاد : كناية عن شدّة آلام الدنيا.
5- ازف : قرب.
6- الشَرط : العلامة.
7- التصرّم : التقطّع.
8- الانفصام : الانقطاع.
9- انتشار الأسباب : تبدّدها حتّى لا تُضبّط.
10- عفاء الأعلام : اندراسها.
11- رتق : سدّ به الفتقَ.
12- المفاتق : مواضع الفتق.
13- ساور : ثاوبَ.
14- الحزونة : غلظ في الارض.
15- الغَمرة : الماء الكثير.
16- الحين : الهلاك.
17- الرين : التغطية.

فاطمة الزهراء تصف الوضع الجاهلي :

وقد وصفت السيّدة فاطمة الزهراء بنتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام أبي بكر والمسلمين (1) :

« فَبَلَّغَ ( اي رسولُ اللّه ) بالرِّسالة صادِعاً بالنَّذارة (2) مائلا عَلى مَدْرَجَةِ المُشْركيْن ضارباً ثَبَجَهُمْ (3) آخِذاً بأَكْظامِهمْ داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ يَكْسِرُ الاَْصْنامَ وينْكُثُ الهامَ (4) حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُر حَتى تَفَرّى الليلُ عَنْ صُبْحِهِ وَاَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (5) وَنَطَقَ زَعيمُ الدين وَخَرستْ شَقاشقُ (6) الشَّياطين وأطاحَ وَشِيظُ (7) النَّفاقِ وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْر والشِّقاقِ وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الاخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (8) الشّارب وَنُهْزَة (9) الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان (10) وَمَوطىءَ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (11). وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (12) وَالوَرق أذِلَّةً خاسِئينَ تَخافُونَ اَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذكُمُ اللّه تَعالى بِمُحَمَّد بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (13) الرجال وَذُؤبانِ الْعَرَب وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (14) كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرب أطْفأَها اللّه ، أوْ نجَمَ (15) قَرْنُ الشَّيْطانِ أوْ فَغرَتْ (16) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن ، قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها (17) فَلا يَنْكَفِئُ (18) حَتّى يَطَأ صِماخَها بَأخْمصِهِ ».

ص: 95


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد وبلاغات النساء وغيرهما.
2- النذار : الأنذار.
3- الثبج : الكاهل.
4- الهامة : الرأس.
5- المحض : الخالص.
6- الشقشقة : شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير أذا هاج.
7- الوشيظ : الأتباع والخدم.
8- المذقة : شربة من اللبن الممزوج بالماء.
9- النهزة : الفرصة.
10- قبسة العجلان : الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل.
11- الطرق : الماء الّذي خوضته الابل وبوّلت فيه.
12- القد : قطعة جلد غير مدبوغ.
13- البهمة : الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى.
14- المارد : العاتي.
15- نجم : طلع.
16- فَغرت : فتحت.
17- اللّهاة : اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.
18- ينكفئ : يرجع.

جعفر بن ابي طالب يصف العهد الجاهلي :

ويشهد بذلك أيضاً ما قاله جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عندما اراد مَبعوثاً قريش استعادتَهما إلى مكة :

أيّها الملك ، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة ، نعبدُ الاصنام ، ونأكلُ الميتة ، ونأتي الفواحِشَ ، ونقطعُ الأرْحام ، ونسيء الجوارِ ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف ، فكنّا على ذلك ، حتّى بعث اللّه إلينا رسولا منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه ، فدعانا إلى اللّه لنوحِّده ونعبده ، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحُسْنِ الجوار ، والكفِّ عن المحارم والدّماء ، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور ، وأكل مالِ اليَتيمِ ، وقذفِ المحصَناتِ ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَحدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئاً ، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام قالت : فعدّد عليه امور الإسلام حتّى قال : وصدّقناهُ ، واَمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه فعبدنا اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا ، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى ، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث (1).

ص: 96


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 335 و 336. والحديث عن اُمّ سلمة.

3

إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ

اشارة

للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية المباركة الّتي تحققت على يدي النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ارساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها ، تكتسبُ دراسة بيئتين إجتماعيّتين اهمية قصوى ، وتانِك البيئتان هما :

1 - بيئةُ نزول القرآن الكريم ، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ ، وترعرع ونمى.

2 - البيئة العالمية ( خارج الجزيرة العربية ) ، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس وافكارهم في اكثر مناطق العالم - يومَذاكَ - مدنية وحضارة ، ومطالعة آدابهم وأخلاقهم وتقاليدهم ، وأعرافهم ، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات ، وأرقى الحضارات ، والأوضاع آنذاك.

ولقد كانت بيئتا : الامبراطورية الرومانية ، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في ذلك اليوم - كما يدلنا التاريخ على ذلك. ولابدَّ أستكمالا لهذا البحث من دراسة الأَوضاع في هاتين الإمبراطوريتين ، في مناطقها ، ومن نواحيها المختلفة ، لنقف من هذا الطريق على قيمة الحضارة الّتي اتى بها الإسلام ، ونعرف ذلك بوجه أفضل.

* * *

ص: 97

أوضاع الروم إبّان عهد الرسالة :

ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءً من أوضاع منافستها « ايران » فالحروب الداخلية من جانب والمعارك الخارجية المستمرة مع « ايران » وصراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على منطقة « ارمينية » وغيرها كل ذلك كان يهيء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة يضع حداً لمآسيهم ومحنهم.

ولقد كان للاختلافات والمنازعات الطائفية والمذهبية النصيب الاكبر والأَوفر في توسيع رقعة هذه الاختلافات ، والمنازعات.

فالحربُ لم تتوقَفْ أبداً بين الوثنيين والمسيحيين ولم تنطفئ شرارتها يوماً ابداً.

فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع الضغط والأضطهاد بحقِّ خصومهم ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقلية ناقمة من جهة ، كما ويمكن اعتبار ذلك عاملا مساعداً من جهة اُخرى على تهيئة الشعب الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية ، وتقبلها.

لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة ومواقفهم المتزمتة.

هذا مضافاً إلى أن اختلاف القساوسة والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة ، وتعدّد المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الامبراطورية الرومانية وجرّها إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً بعد يوم.

هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في السيطرة على المناطق الغنية من اُوربة ، وربما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة وباهضة في الصرعات والمصادمات الّتي كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومية إلى معسكرين : المعسكر ( أو القسم الشرقي ) والمعسكر ( أو القسم الغربي ).

ويعتقد المؤرخون أن أوضاع الروم السياسية ، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس كانت مضطربة ، ومتدهورة جداً ، حتّى أنهم لا يرون في غلبة

ص: 98

الروم وتفوّقها على إيران شاهداً على قدرتها العسكرية ، وتفوّقها النظامي ، بل يرون أن هزيمة إيران كانت بسبب الفوضى الّتي كان سائدة انذاك في جهاز الحكم الايراني.

إن هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى ، والهرج والمرج ، ومن البديهيّ أنَّ مثل هذه الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد إلى دين صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة ، ويعيد تنظيم حياتهم.

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي :

المتعارف أن يعمد جماعةُ مِنَ البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا والمسائل الخاوية والنقاش حولها بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة ، فيستهلكون بذلك أوقات الناس ، ويهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم.

وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق ، ولسنا بصدد التوسّع فيه فعلا.

وقد كانت « الروم » تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة اكثر من اي مكان آخر.

فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين ، ولكن طائفة اُخرى من النصارى وهم « اليعقوبية » كانوا يقولون بانه : ذو طبيعة ومشيئة واحدة.

وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها ، والجدل الواهي حولها ضربة شديدة إلى وحدة الروم ومن ثم استقلالها ، واحدثت في صفوفها انشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها ، ولذلك كانت تضطهد معارضيها ، وتلاحقهم وهذا الاضطهادُ والضغطُ الروحيّ سبَّب في لجوء البعض إلى الدولة الايرانية ، كما كان هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة عند

ص: 99

مواجهة الجيش الإسلامي ، وألقوا السلاح ، واستقبلوا جنود الإسلام بالاحضان.

كانت الرومُ تمرُّ آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاُوربية الوسطى الّتي ينقل عنها « فلاماريون » الفلكيّ الشهير القضايا التالية الّتي تدل على المستوى الفكريّ والثقافيّ لاُورُبة في القرون الوسطى :

لقد كان كتابُ « المجموعة اللاهوتية » المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون الوسطى ، وقد بقي هذا الكتاب يُدرَّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي ومعترف به.

وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها ان تستقر على راس إبرَة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للاب الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا التافهة!!

إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة ، كانت تعاني كذلك من النزاعات والاختلافات الداخلية - الّتي كانت - على الاغلب - تتصف بالصبغة المذهبية والطائفية - وكانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية ، وتزيدها قربا إليها يوماً بعد يوم.

ولما رأى اليهود ( وهي الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائماً ) تصاعد الاضطهاد والضغط الّذي يمارسه الامبراطور المسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك النظام ، فاحتلت مدينة انطاكية ذات مرة ، ومثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا اُذنه ، وجدعوا أنفه ، فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة ، وقتلت اليهود في انطاكية في مذبحة عامة.

وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفضيعة وهذه المذابح ، والمذابح الانتقامية المضادة بين اليهود والنصارى عدة مرات ، وربما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج البلاد ، فمثلا اشترى اليهود من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رؤوسهم انتقاماً وتشفياً.

من هذا يستطيع القارئ الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيء والمتردّي الّذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام ، ويذعن - مع

ص: 100

المذعنين - بأن التعاليم الإسلامية الرفيعة التي انقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبداً وليدة الفكر البشريّ وان نسيم الوحدة ، الناعشة ، ونغمة السلام الّتي يهدف إليه الإسلام ويسعى إلى تحقيقه واقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلا الغيب ، إذ كيف يمكن القول بان الإسلام الّذي يعترف حتّى للحيوانات بحق العيش والحياة نابع من تلك البيئة المغرقة في القسوة والوحشية ، وناشئ من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام والتشفي.

لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى وشخصيته ، وقال في نعته ووصفه : « ما المَسِيحُ بنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ واُمَّه صِدِّيقةٌ كانا يأكُلان الطّعام » (1).

إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول « الروح » و « المسيح » ودمه ، وشخصيته ، وحقيقته ، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة ، واحياء السجايا والملكات الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات ، الفارغة ، والمذابح الفضيعة.

أوضاع إيران إبان عَهد الرسالة :

إن ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة اوضاع إيران يومذاك.

لقد صادف ظهورُ الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ( 611 ميلادية ) عهد السلطان الإيراني خسرو برويز ( 590 - 628 م ) ، وفي عهد « خسرو برويز » هذا هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة ( الجمعة 16 جولاي 622 ) ، وصارت هذه الواقعة مبدء للتاريخ الإسلامي.

في هذه الأَيام كانت الدولتان العظيمتان ( الروم الشرقية وايران

ص: 101


1- المائدة : 75.

الساسانية ) تسيطران على معظم مناطق العالم المتحضر ، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمر وصراع دائم على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام.

فقد بدأت حروب ايران والروم الطويله من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان ( 531 - 589 م ) واستمرَّت إلى عهد الملك « خسرو برويز » واستغرقت اربعاً وعشرين عاماً من الزمان (1).

وقد سبَب تحمل « ايران » و « الروم » للخسائر الكبرى ، في الارواح والثروات خلال هذه المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين ، وتعطيل وشلّ قواهما بحيث لم يبق منهما إلاّ شبحُ دولتين لا اكثر.

ولكي نقف على الوضع العام في ايران آنذاك من جهاته المختلفة ، وابعاده المتنوعة وبصورة أفضل ، يجب ان نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدة القيادة الايرانية بعد حكم « انوشيروان » وحتّى بداية دخول المسلمين.

البَذخ والتَرف في البلاط الساساني :

كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم عموماً بالبذخ والترف ، والتشريفات الطويلة العريضة ، وكان البلاطُ الساساني الفخم جداً يخلب ببريقه ، بريق العيون ، ويسحر الافئدة والعقول.

وكان للايرانيين في عهد الساسانيين لواء يُعرف ب « درفش كاوياني » اي العلم الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي إيراني اُسطوري ، وقد كانوا يحملونه معهم في الحروب ، أو ينصبونه فوق قصورهم اثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى ، وقد كان هذا اللواء موشحاً ومزيناً بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية - حسب قول بعض الكتاب : « 000 / 200 / 1 » درهماً ( أو ما يعادل

ص: 102


1- تاريخ علوم وادبيات در ايران ص 3 و 4 وايران در زمان ساسانيان ص 267 ( باللغة الفارسية ).

000 / 30 پوند ).

وقد بلغت مجموعة المجوهرات والاشياء الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرة للعقول الّتي كانت تكتضُّ بها قصور الساسانيين من حيث الاهمية والقيمة حداً سحرت العيون وخلبَت الالباب.

ولو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور ، وما كانت تحتوي عليه من غرائب الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة في احدى صالات بعض تلك القصور ، وهي السجّادة الّتي كانت تدعى بالفارسية ب « بهارستان كسرى » وهو بساط كانوا يُعدوّنه للشتاء إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادُوا الشرب وتعاطي الخمر فرشوه ، وشربوا عليه فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين أرضُه بذهب ووشيُه بفصُوص ، وثمره بجوهر وورقه بحرير » (1)!!

وقيل أيضاً أن هذا البساط كان مئة وخمسين ذراعاً في سبعين ذراع وكان منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية جداً!!

وقد كان « خسرو برويز » أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف ، والبذخ ، واتخاذ الزينة ، وقد بلَغَت عددُ نسائه وجواريه عدة الآف.

يقول حمزة الاصفهاني في كتاب « سنيّ ملوك الارض » واصفاً حالة الترَف والبذخ الّتي كان يعيشُها كسرى برويز : ثلاثة آلاف امرأة ، واثنا عشر.

وجاء في تاريخ الطبري : أن « كسرى (2) برويز » كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك ، وكان أرغب الناسِ في الجواهر والأواني (3).

ص: 103


1- تاريخ الطبري ج 2 ، ص 130. وجاء في تاريخ الطبري : كانت هذه السجّادة ستين ذراعاً في ستين ذراعاً ، بساطاً واحداً مقدار جريب فيه طرق كالصور ، وفصوصٌ كالأنهار وخلال ذلك كالدَّير وفي حافاته كالأَرض المرزوعة والأَرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ، ونواره بالذَهب والفضّة!!
2- سنيّ ملوك الارض والأنبياء : ص 420.
3- تاريخ الطبري : ج 1 ، ص 616.

الوضع الاجتماعي في ايران :

لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً ، فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي كان سائداً في ايران منذ زمن بعيد اشدَّه واقوى درجاته ، واسوء حالاته في العهد الاختلاف الساساني.

فطبقة النبلاء والكهنة كانت تتميز على بقية الطبقات تميزاً كاملا ، فهم يختصون بجميع المناصب الاجتماعية الحساسة والعليا ، بينما حُرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية ، ولم يكن لهم من واجب ودور في النظام إلا دفع الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب.

يكتب أحدُ الكتّاب الإيرانيين وهو الاستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلا :

ان ما كان يثير روح النفاق بين الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً الّذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب ، وكان لها جذورٌ في العهود والحضارات السابقة ، ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!!

ففي الدرجة الاُولى كان للعائلات السبع من النبلاء ، ثم للطبقات الخمس إمتيازاتٌ خاصة حُرمَتْ منها عامة أبناء الشعب.

فالملكية كانت محصورة - تقريباً في تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه مائة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كل واحد من تلك العائلات الممتازة والمتميّزة في شؤونها مائة ألف شخص ، فيكون مجموعُها سبع مائة ألف (1).

وإذا افترضنا أنَّ حراسَ الحدود وأمراءهم والمُلاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضاً سبع مائة ألف أيضاً فيكون حق التملك والمالكية حينئذ خاصاً بمليون ونصف من مجموع مائة

ص: 104


1- تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 6 - 24 ( باللغة الفارسية ).

واربعين مليوناً ، فقد كانت تلك الزمرة القليلة هي الّتي تملك ، وأما الآخرون وهم الاكثرية الساحقة فقد كانوا محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساساً وأصلا.

لقد كان الكسبة والفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق ، والإمتيازات ولكنّهم كانوا يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل فيها النُبلاء والأشراف والطبقات العليا ، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الاوضاع ، ودوامها ، ولهذا كثيراً ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم ، ومزارعهم ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والاتاوات القاصمة للظهور ، المبددة للثروات (1).

يقول مؤلف كتاب « ايران في عهد الملوك الساسانيين » (2).

إن حروب إيران - الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان ( 531 - 589 م ).

وخلاصة القول أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتُها عن 5 / 1 % ( واحد ونصف بالمائة ) من مجموع الشعب كل شيء بينما كان اكثر من ( 89 % ) من الشعب الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد.

حَقٌّ التعلّم خاصُ بالطبقات الممتازة!! :

في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون بحق التعليم ، بينما كان عامة جماهير الشعب ، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من تحصيل العلوم واكتسابها.

وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة في عصور ايران التاريخية جداً بحيث ذكرها الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من ان

ص: 105


1- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 70 و 71.
2- إيران في عهد الساسانيين : ص 424.

الهدف من تلك الملاحم والدواوين كان هو الحماسة ، والتفاخر بالبُطولات وتجييش العواطف ، بعد مدح الملوك والامراء.

فها هو « الفردوسي » (1) الشاعر الملحمي الفارسي المعروف ، بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته ( وهي الملحمة الشعرية الّتي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت ) قصة في هذا الصدد تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه.

وقد وقعت هذه القصة في زمن « أنو شيروان » ، أي في الوقت الّذي كانت الامبراطورية الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي.

وهذه القصة تشهد بأن اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حق التعلم ، وممنوعة عن اكتساب الثقافة.

يقول الفردوسي : لقد أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني - في حربه مع الروم - بدفع ما يحتاجون إليه من ذهب وفضة.

ومع أن السلطة في عهد « انوشيروان » كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان يتعين عليها أن تجهز ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا بالمجاعة وقلة العتاد ، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات ، وإلى ظهور الفوضى في الجنود ، ممّا أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني « أنوشيروان ».

والتخوف من مضاعفات هذه الحالة ، وآثاره السيئة في قتاله للروم ، ولذلك بادر إلى استدعاء وزيره المحنك « بزرجمهر » للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج ، ثم امره بالتوجه إلى منطقة « مازندران » وجمع الاموال اللازمة من سكانها.

ولكن « بزرجمهر » حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل ، وأضاف بأن هذا من شأنه أن يضاعف من الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن « انوشيروان » اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على

ص: 106


1- راجع للتعرف السريع على شخصية هذا الشاعر : الموسوعة العربية الميسرة : ص 1286.

التو فيرسل الوزير مندوبين له إلى المدن الإيرانية ليكلم التجار واصحاب الثروة في الامر.

فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الاّ انه اشترط ذلك بان يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جداً ان يتعلم.

فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالانجاز ، والسماح لولده بالتعلم وتحصيل العلم ، ثم عرض الامر على الملك انوشيروان وهو يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة.

ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب ، ونهر الوزير قائلا : دع هذا ، ما أسوأ ما تطلبه ، ان هذا لا يمكن ان يكون ، لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقّي المتبع ، فينفرط بذلك عقد الدولة ، ويكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه ، وشره اكثر من خيره.

ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول ناظما ذلك في ابيات (1) :

وإذا اصبح ابن الحذّاء عالماً كاتباً عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند الحكم والسلطنة واحتاج إلى كاتب ، فانه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء - الكاتب - ( وهو من عامة الشعب ومن ابناء الطبقة الدنيا وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن نستعين بابناء الاشراف والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا )!!!

وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الاحذية على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذ عيوناً بصيرة ، وآذاناً سميعة فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه ،

ص: 107


1- وإليك هذه الأبيات باللغة الفارسية : چو بازارگان بچه گردد دبير *** هنرمند وبا دانش وياد گير چو فرزند ما برنشند به تخت *** دبيرى ببايدش پيروز بخت هنر بايد از مرد موزه فروش *** سپارد بدو چشم بينا وگوش بدست خردمند مرد نژاد *** نماند جز از حسرت وسرد باد

ويسمع ما يجب أن لا يسمعه ، وحينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسف (1).

وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذاء خائباً وهو يتوسل بما يتوسل به المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه في الليل وفي هذا قال الفردوسي : عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء لذلك بغمّ شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً عدالته (2).

والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه وهي المشكلة الثقافية ، بل تسبب في أن يصاب الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية وغيرها.

فقد وأد ودفن في القبور احياء ما يقرب من ثمانين الف انسان ( اومائة الف كما قيل ) في حادثة واحدة ، وهي فتنة مزدك ، حتّى أنه ظنَّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا يعلم أنها لم تُستأصل لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبَّب دون السبب وتكافح المجرم لا الجرم.

لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي ، والاختلاف الطبقيّ ، واحتكار الثروة ، والمنصب على أيدي طبقة خاصّة وحرمان الاكثرية الساحقة من الشعب وغير ذلك من المفاسد وكان عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الاُمور ليأتي على المشكلة من أساسها ، ولكنه بدل ذلك كان يريد - بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط - أن يظهر الناس انفسهم بمظهر الراضي وعن السلطة ، الموافق على تصرفاتها ، وأحوالها وأوضاعها السيئة!!!

ومن هنا نعرف بطلان الحديث المرويّ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 108


1- راجع شاهنامه ( باللغة الفارسية ) وتاريخ اجتماعي ايران : ص 618.
2- فرستاده برگشت وشد بادرم *** دل كفشگر زان درم پر زغم شب آمد ، غمى شد ز گفتار شاه *** خروش جرس خواست از بارگاه

الّذي قال فيه : « وُلدتُ في زمن الملك العادل » ويقصد به انوشيروان (1). صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسرو برويز :

ومن جرائم الملك خسرو برويز ومظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير « بزرجمهر » الّذي خدم البلاط الشاهنشاهي الايرانيّ ثلاثة عشر عاماً وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد وحسن صيته بين الناس.

فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير المذكور ، والنكاية به ، وقدكتب إلى الوزير المسجون رسالة يقول فيها : إنَّ حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنه عرضك للقتل!!

فاجابه « بزرجمهر » بقوله : « فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفني الحظُ ، وحيث عاكسني الآن ، فانّني اصبر وأنتفعُ بصبري ، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فانني سعيدٌ لأنَّني لم أرتكب كذلك شرّاً كثيراً وإذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في الوقت نفسه قد استرحت كذلك من غم الحيف بالناس ، فلا ابالي بما أنا فيه ».

ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك « برويز » استشاط غضباً ، وأمر بقطع شفتي الوزير ، وجَدْع أنفه ، وعندما عرف الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال : أجل أن شفتي تستحقان اكثر من هذا.

فسأله خسرو برويز : ولماذا؟ فقال : لأنهما وصفتاك عند العامة والخاصة بما لا تستحق من الأوصاف ، واعطتاك ما ليس فيك من الخصال ، فامالتا اليك القلوب ، ورغَّبتا فيك النفوس ، والافئدة ، وآشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقها ، يا اسوأ الملوك وأظلم الحكام ، تقتلني الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي ، وصدقي ، واخلاصي ، وسلامتي ، فمن بعد هذا يأمل في عدلك ، ومن بعد هذا يثق بقولك؟!

ص: 109


1- راجع في هذا المجال : تذكرة الموضوعات لابن الجوزي ، اللئالي المصوغة في الاحاديث الموضوعة للسيوطي ، وكذا مجمع الزوائد للهيثمي.

فازداد « خسرو برويز » لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب ، وأمر من فوره بقتل الوزير ، فضرب عنقه في التوّ (1).

وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زوراً بالعادل مع اقرب مقربيه ، واكثر معاونيه إخلاصاً ، ووفاء له فكيف كانت تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد الشعب؟؟

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين :

لقد اتخذ الحكام الساسانيُّون في عهودهم وحكوماتهم سياسة خشنة قاسية ، وقد أخضعوا الناس بسلطانهم بالسيف والعنف.

كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة وأتاوات باهضة قاصمة للظهور ، ولهذا السبب كان عامة الشعب الايراني غير راضين على حكمهم وسيرتهم ، ولكنهم خوفاً على نفوسهم ، ما كانوا يتمكنون من الاعلان من استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين بالامور شأن ولا قيمة في البلاط الشاهنشاهي.

لقد بلغ الاستبدادي لدى الحكام الساسانيين حداً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه ، ولم يجرأ احد على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون.

لقد بلغت القوة بخسرو برويز حداً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله :

قيل لخسرو برويز ( كسرى ) دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال ، فأمر الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه مجيئه ببدنه كله ، فاننا يكفينا شيء منه ، فليؤتى براسه فحسب (2).

ص: 110


1- يذكر الفردوسي الشاعر الملحمي هذه القصة في شاهنامته المعروفة عند ذكر وقائع انوشيروان اثناء حربه مع الروم ( ج 6 ، ص 257 - 260 ).
2- ايران در عهد ساسانيان : ص 318.

الفوضى في الحكومة الساسانية :

وممّا يجب ان لا نغفل عن ذكره هو ما تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من الفوضى الادراية ، وتفاقم الهرج والمرج في جهازها الحكومي.

فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس الحاد بين الامراء ، والاعيان وقاده الجيش في ذلك العهد وذهب كلُ فريق يختار أميراً من أبناء العائلة المالكة ، ويقوم بتصفية الطائفة الاُخرى الّتي اختارت أميراً آخر.

وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت ذروة الضَعف والانقسام.

وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من (14) ملكاً على مسند الحكم والسلطان خلال مدّة اربعة اعوام من مقتل الملك « خسرو برويز » وجلوس شيرويه مجلسه وحتّى آخر ملك من ملوك بني ساسان.

وهذا يعني أن حكومة إيران انتقلت خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد إلى يد اُخرى ( 14 مرة )!! ومن الواضح ما يلحق باية دولة ومملكة تتعرض ل (14) انقلاب يُقتل فيه ملك ، ويحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة.

فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال كل من كان يطمع في العرش ، ولا يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه ضرورياً ، فكان الأب يقتل ابنه ، والابنُ يقتل أباه ، وربما يقتل الاخ إخوته ، والزوجة زوجها وهكذا ...

فقد قتل « شيرويه » أباه (1) للحصول على مقعد الحكم والسلطان ، كما أباد اربعين شخصاً من أبناء الملك « خسرو برويز » اي إخوته!! (2).

وكان « شهر براز » يقتل كل من لا يثق به ، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء سلالته من الامراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان

ص: 111


1- الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 296.
2- تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 15 - 19.

والملوكية قبله ، رجلا كان ذلك أم إمراة ، صغيراً كان ام كبيراً ، لكيلا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان أو يدّعيه!!

وصفوة القول : أن الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حداً بحيث كانوا يجلسون فيه الأطفال والصبيان والنساء على اريكة الحكم ، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم بعد ايام أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!!

وعلى هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط والانحلال وسائرة نحو التمزق والفناء.

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين :

لقد كان أهم عامل للفوضى الّتي كانت تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني هو الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي كانت سائدة آنذاك.

فحيث أن « اردشير بن بابك » مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد ( وهو رجل دين زردشتي ) وقيّماً على بيت نار وقد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين آبائه في ايران.

وفي عهد الساسانيين كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين الزرادشتي ، ولما كانت السلالة الساسانية قد توصلت إلى الحكم بواسطة الموابدة - كما أسلفنا - لذلك كان الموابدة والقيمون على بيوت النار ( ونعني بهم رجال الدين الزرادشتي ) يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في أواخر العهد الساساني أقوى طبقة ، وأشد الاجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك.

ولقد كان الحكام الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين الزردشتي المجوسي ، ولذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم ، ولو أن أحداً منهم خالف الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة ، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ ، ولهذا اجتهد الملوك الساسانيون في كسب رضا الموابدة ، والعناية بهم اكثر من غيرهم من الطبقات ، وقد تسبَّبت عناية اُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في تزايد

ص: 112

عددهم ، يوماً بعد يوم.

وقد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم ، وتقوية مواقعهم في السلطان ولذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت النار ، ( وهي معابد المجوس ) جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة كسدنة.

فقد كتب المؤرخون يقولون : ان « خسرو برويز » شيد بيتاً للنار عظيماً ووكل به ( 12 الف ) هيربد ( وهو منصب خاص ورتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية ) لينشدوا فيه الاناشيد الدينية ، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!! (1).

وعلى هذا الاساس كان الدين المجوسي دين البلاط ، وكان رجاله في خدمة الملوك.

هذا وقد اجتهد الموابدة - بكل ما في وسعهم - في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من ابناء الشعب الإيراني في حالة من الركود والجمود وحالة عدم الاحساس بالآلام والرضا بالأمر الواقع.

ولقد تسببت الصلاحياتُ الواسعة والحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد الناس عن الدين المجوسي والنفور منه ، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما يتدين به الأشراف من عقيدة ودين.

يقول مؤلف كتاب « تاريخ اجتماعي ايران » وقد سعى الشعب الإيراني - في المآل - إلى ان يتخلص من ضغوط الاشراف والموابدة واضطهادهم ، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال الدين الرسمي « المزدية الزردشتية » الّذي كان دين البلاط كما عرفنا ، وكان يدعى : بهدين ( اي الدين الافضل ) مذهبان آخران (2).

اجل وبسبب ضغوط الاشراف وتشددات الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب مختلفة الواحد تلو الآخر ، وقد حاول « مزدك » ومِنْ قبله « ماني » ان يوجدا بأنفسهِما تحولا في الاوضاع الدينية وفي العقائد والمؤسسات ،

ص: 113


1- تاريخ تمدن ساساني : ج 1 ، ص 1 ( بالفارسية ).
2- تاريخ اجتماعي ايران : ج 2 ، ص 20.

ألاّ أنهما منيا بالفشل في هذا السبيل (1).

فحوالي سنة ( 497 ميلادية ) قام « مزدك » ، وألغى المالكية الانحصارية ( الخاصة ) ، ونسخ عادة تعدد الزوجات ، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية ، وقد لقيت أفكاره هذه تأييداً قوياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة « مزدك » ثورة كبرى ، وانقلاباً هائلا في المجتمع الإيراني.

ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم المشروعة ، الممنوحة لهم من قبل اللّه خالقهم وبارئهم.

ولقد قوبل مذهب « مزدك » باعتراض شديد من قِبَل الموابدة ، وامراء الجيش ، وجرّ إلى فتنة كبيرة ، وإلى تردي الاوضاع في ايران آنذاك.

كما ان المذهب الزردشتي قد فقد - في أواخر العهد الساساني - حقيقته بصورة كاملة ، ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها إلى درجة أنهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة محماة اكتسبت لون النار ولهيبها بمجاورتها لها.

وبكلمة واحدة ؛ لقد كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات والأساطير ، وقد أعطت حقائق هذا الدين - في هذا العهد - مكانها لحفنة من الشعائر الجوفاء ، والطقوس الفارغة ، الّتي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة العريضة تثبيتاً لمواقعهم ، ودعماً لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ.

لقد بلغت سيطرة الخرافات والاساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة ، ورسوخها في هذا الدين حداً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضاً ، وقد كان بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية الجوفاء فتخلى عنها.

ص: 114


1- المذهب المانوي هو المذهب الزردشتي الخليط بالمسيحية ، فقد اخترع ماني من مسلك قومي وآخر اجنبي مذهباً جديداً ثالثاً.

هذا من جانب

ومن جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني منذ أيام الملك « أنوشيروان » فما بعد طريق التفكير ، والتأمل ، والتحقيق ، وممّا قد قوّى هذا الامر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية والمعتقدات المسيحية وغيرها من العقائد والاديان وما تحقق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية والهندية ، وغيرها إلى الوسط الإيراني ، وتسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني ، ولذلك اصبح يعاني من هذه الخرافات والاساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر من أي وقت مضى.

وعلى أية حال فان الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت ، وتطرق الخرافات والاساطير الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتت والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته.

ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر إنتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك والتردد لدى الطبقة المفكرة والمثقفة ، وسرت منهم إلى بقية الاصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن يفقد جماهير الشعب ثقتها وايمانها القطعي ، واعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات.

وهكذا استشرى الهرج والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كل مناطق إيران والمجتمع الإيراني ، كما رسم « برزويه » الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجاً كاملا عن الاختلاف الاعتقادي والتشرذم الفكري ، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية في العهد الساساني ، في مقدمة « كليلة ودمنة ».

الحروبُ الإيرانية الروميّة :

لقد انقذ « بزرجمهر » - الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة « انوشيروان » وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية - ايران من الاخطار الّتي احدقت بها في اكثر الاحايين ، ولكن علاقته بالسلطان

ص: 115

( انوشيروان ) كانت تتأثر احياناً بسعاية الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه قراراً بحبسه وسجنه.

وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون أنفسُهم صدرَ « انوشيروان » ضد امبراطور الروم ، وألّبوه عليه ، وشجّعوه على توسيع رقعة نفوذه ، وتوسيع حدود بلاده واضعاف سيطرة منافسه الخطير ، متجاهلا وثيقة « الصلح الخالد » الّتي عقدها مع الروم واتفق فيها الجانبان على عدم التعرض بعضهم لبعض.

وأدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم ، واشتعلت على اثرها نيران الحرب ، واستطاع جنود ايران ان يفتحوا سورية ( وقد كانت مستعمرة رومية ) في مدة قصيرة تقريباً ، وحرق انطاكية ونهب آسيا الصغرى.

وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك الدّماء ، والكرّ والفر بين الروم وايران وبعد أن فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة ، وبعد الخسائر العظيمة الّتي تحمّلهما الطرفان إضطرّا إلى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية ، وحدّدوا حدود بلادهما ، ومناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل ( عشرين الف ) دينار إلى دولة ايران.

ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا يحتاج إلى البيان أن حروباً طويلة الامد تدور رحاها بعيداً عن مركز الدولة من شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة والتبعات الثقيلة على اقتصاد الشعب المحارب ، وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية ، لا تزول آثارها إلاّ بعد زمان طويل خاصة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور.

ومهما يكن فان هذه الحروب ، وهذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط الحكومة الإيرانية الحتمي.

فان آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد إلاّ وقد نشبت حرب اُخرى دامت سبعة اعوام فان « تي باريوس » امبراطور الروم بعد ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال الدولة الإيرانية بدافع الانتقام.

وفي الأثناء - وقبل ان يتضح موقف الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من

ص: 116

الهزيمة أو الانتصار - مات « انوشيروان » وخلفه في إدراة البلاد ابنه « خسرو برويز ».

وقد حمل هذا الأخير على الروم ايضاً ، وذلك عام (614) بحجج معينة ، وفتح في أول حملة من حملاته : بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب اورشليم ، وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيّد المسيح عليه السلام وهدم المدن ، ودمرها.

وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين الف من النصارى لصالح الإيرانيين.

في مثل هذه المرحلة الّتي كان فيها العالمُ المتحضر آنذاك يحترق - في نيران الحروب والظلم ، بُعِث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالرسالة الإسلامية ، وبلغ نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية ، وقام يدعو الناس إلى الصلح والسلم ، وإلى النظم والامن.

ولقد أدّى انهزامُ الروميين المتدينين ، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار ، عبدة النار ، إلى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث ، ويحدّثوا ( ويمنّوا ) أنفسهم بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب ، وانطلقوا يرددون هذه الاُمنية أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم ، وزعزعة إيمانهم ، الامر الّذي أقلق المسلمين.

ولم يتخذ النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم موقفاً تجاه هذه الظاهرة انتظاراً لما سينزل به عليه الوحيُ إلى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الاُولى من سورة الروم الّتي تقول : « الم ، غُلِبَتِ الرُّوْم في أدْنى الأَرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْع سنين للّه الأمرُ منْ قبْل وَمن بَعْد وَيَوْمئذ يَفْرَحُ الْمُؤمِنُونَ بَنَصْر اللّه يَنصُرُ مِنْ يَشاء وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ. وَعَدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ وَلكِنَّ اكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون » (1).

وقد تحقّقت نبوءة القرآن هذه حول الروم في عام ( 627 ميلادية ) حيث

ص: 117


1- الروم : 1 - 6.

استولى « هرقل » على « نينوى » في حملة واحدة.

وعلى أيّة حال كانت الدولتان المتنافستان تطويان الدقائق والساعات الأخيرة من حياتهما فيما تستعدّان من ناحية اخرى لتجميع القوى ، والتهيؤلشن حملات جديدة ، وخوض حروب ومعارك اُخرى ولكن حيث أن الارادة الالهية كانت قد تعلقت بأن يسطع على تلك المنطقتين نورُ التوحيد وتنتعش نفوسُ الروميين والفرس الذابلة الميتة بنسائم الإسلام الناعشة ، واشعته الهادية ، لذلك لم يلبث أن قُتِل « خسرو برويز » على يدي ابنه « شيرويه » الّذي لم يُدْم سلطانه بعد اغتياله لأبيه اكثر من ثمانية أشهر ، ثم سادت ايران بعد « شيرويه » فوضى شاملة خلال اربعة اشهر ، حيث تناوب على مسند الحكم حُكامٌ وامراء عديدون أربعة منهم من النساء ، إلى أن أنهى الجيشُ الاسلاميّ بحملاته الناجحة هذه الاوضاع ، ووضع نهاية لهذا الصراع السياسي الحادّ الّذي استمرّ خمسين عاماً والّذي ساعد بدوره على تقدم الفتوحات الإسلامية.

ص: 118

4

أسلاف رسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

1 - بطل التوحيد : إبراهيم الخليل عليه السلام

اشارة

إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وأسلافه ، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وحيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيبٌ هامٌّ في تاريخ العرب والإسلام ، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة ، خاصَّة أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملا - كحلقات سلسلة واحدة - بالحوادث السابقة ، أو المقارنة لبزوغ الإسلام.

فعلى سبيل المثال تُعْتَبر كفالة « عبد المطلب » لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحمايته له ، وجهود « ابي طالب » ودفاعه الطويل عن النبيّ ، وعظمة الهاشميين وسموّ مقامهم واخلاقهم ، وجذور معاداة الأمويين لهم ، الاسس والقواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي ، ولهذا كان لابدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الابحاث.

إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ « إبراهيم الخليل » عليه السلام نقاطاً مشرقة وبارزة جداً.

فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا

ص: 119

لا ينسى.

وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عَبَدة النجوم والكواكب في عصره والّذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا ، افضل واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.

مولد إبراهيم :

لقد وُلدَ بطَلُ التوحيد في بيئة مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية ، وعبادة البشر ... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأَصنام نحتها بيديه ، كما يخضع لكواكب ونجوم.

لقد وُلد حامل لواء التوحيد « إبراهيم الخليل » عليه السلام في « بابل » الّذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع ، ويذكرون حولها قصصاً واموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمية حضارتها ، فيقول « هيردوتس » المؤرخ المعروف - مثلا - : لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة ( 120 فرسخاً ) ومحيطه ( 480 فرسخاً ) (1).

إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلاّ أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار ، إذا ما ضُمَّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.

غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة ، وقصورها الرائعة ، إلاّ تلاّ من التراب في منطقة بين « دجلة » و « الفرات » ، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة ، اللّهم الا عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً ، بحثاً عن آثار تلك المدينة ، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها.

لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه « إبراهيم الخليل » عليه السلام عينيه

ص: 120


1- قاموس الكتاب المقدّس ، مادّة بابل.

في دولة « نمرود بن كنعان ».

وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم يدّعي الاُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته.

وقد يبدو هذا الامر عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت نفسه ، إلاّ أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شان « فرعون مصر » ، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليه السلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ ، وحجته الصاعقة ، فاعترض أنصار فرعون وملأوه على هذا الأمر ، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : « أتذَرُ مُوسى وَقَومهُ لِيُفْسِدُوا في الأَرْض وَيَذركَ وآلهَتَكَ » (1).

ومن الواضح جدّاً أن « فرعون » كان يدعي الالوهية فهو الّذي كان يقول : « أَنا رَبُّكُمُ الاَْعْلى » (2) وهو القائل : « مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ اله غَيْريْ » (3) ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.

بَيْدَ أَنَّ هذه الازدواجية ليست بأَمر غريب عند الوثنيين ، ولا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم ، ومع ذلك يَدَّعي أنه الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً ، يعبد الهاً أعلى منه ، لأن المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق ويتملك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى.

إن أكبر وسيلة توسَّل بها « نمرودُ » في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس.

هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر « نمرود » بعضُ من ينتسب إلى « الخليل »

ص: 121


1- الأعراف : 127.
2- النازعات : 24.
3- القصص : 38.

عليه السلام بوشيجة القربى مثل « آزر » الّذي كان يصنع التماثيل ، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً ، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته ، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له ، كان يواجه مخالفة أقاربه ايضاً.

لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك ، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة ، الأمر الّذي أيقظ أفكاره النائمة ، فتساءل من فوره ، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له : لا ، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء ( وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه السلام عدو نمرود ، وهادم ملكه ، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها المنجمون والكهنة من انصار نمرود ) ومع ذلك كان جلاوزة « نمرود » يقتلون كل وليد ذكر ، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.

ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ « الخليل » في نفس الليلة الّتي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال ، وازواجهم.

لقد حملت اُم إبراهيم به كما حملت اُم موسى به ، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه ، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار ، قدر المستطاع.

وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ « نمروداً » وأراح باله بمرور الزمن ، إذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه ، وهادم سلطانه ، وتخلص منه.

لقد قضى « إبراهيم » عليه السلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق ، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً ، ودخل « ابراهيم » في المجتمع ، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وانكروه (1).

ص: 122


1- تفسير البرهان : ج 1 ، ص 535.

لقد خرج « إبراهيم » من الغار ، مؤمناً باللّه بفطرته ، وقوّى توحيده الفطري ، بمشاهَدة الأَرض والسماء ، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه السلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها ، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة ، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها يعبدون اصناماً منحوتة ، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالة إذ رأى رجلا يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه السلام يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة ، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ « إبراهيم » عليه السلام في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

إبراهيم ومكافحته للوثنية :

كانت ظلمات الوثنية قد خيَّمت على منطقة بابل ( موضع ولادة الخليل ) برمتها.

فالآلهة المدَّعاة ، والمعبودات ( السماوية والارضية ) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب ، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة ، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب إلى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.

وحيث أَن طريقة الأَنبياء في هداية البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين ، والاحتجاج بالمنطق ، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم ، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إن علينا أن نفرق بين الحكومات الّتي يريد الأنبياء تأسيسها ، وحكومة

ص: 123

الفراعنة والنماردة.

ان هدف الطائفة الثانية هو : الرئاسة والزعامة ، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم ، وان تلاشت وتهاوت من بعدهم.

ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات ، في الخلوة والجلوة ، في وقت الضعف ، وفي وقت القوة ، في حياتهم وبعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان ، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام العنف والقهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان.

لقد بدأ النبيُ « إبراهيم » عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم « آزر » وهو الوثنية وعبادة الاصنام ، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملا في هذه الجبهة بعد إلاّ وواجه عليه السلام جبهة اُخرى ، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لان هذه الجماعة - على خلاف أقرباء إبراهيم - قد نبذت عبادة الأوثان والأَصنام (1) ، والمعبودات الارضية الحقيرة ، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم والاجرام السماوية.

ولقد بيَّن « الخليل » عليه السلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية ، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة ، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال إلى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء ، ورواد الفلسفة والكلام.

والأَهم من ذلك - في هذا المجال - أن القرآن الكريم نقل أدلة « إبراهيم الخليل » عليه السلام باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا ، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

ص: 124


1- ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السلام مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.
حوار الخليل مع عبدة الكواكب :

ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء - وهو ينوي هداية الناس - وبقي ينظر إلى النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية ، وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق ، من عبدة النجوم وابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة ، وبراهين متقنة قوية.

فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ « الزُهرة » من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعُباد هذا الكوكب - وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لهم ، ومقدمة للدخول معهم في حوار - : « هذا ربي ».

وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن الانظار قال : « لا احب الآفلين ».

وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة ، واظهر خواءها وفسادها.

ثمّ إنه عليه السلام نظر إلى كوكب القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه ، فقال - متظاهراً بموافقة عبدة القمر - : « هذا ربي » ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً ، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولمت أشعة القمر من عالم الطبيعة ، وعندها إتخذ إبراهيم عليه السلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها إذ قال : « لَئنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِن الْقَوْم الضالِين » (1) لأَن القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف ، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبَد ، ويتوَجه إليه بالتقديس والتضرع.

ولما وَلّى الليل وأدبر ، واكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب

ص: 125


1- الأنعام : 77.

الظلام ، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول ، والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم ، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام ، فتبرأ « الخليل » عليه السلام من عبادتها بصراحة.

وعندئذ أعرض عليه السلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : « إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ الْسَّماواتِ وَالاَْرضَ حَنِيفْاً وَما أنا مِنَ الْمُشْركين » (1).

لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليه السلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية ، ومنها الإنسان قد انيطت إلى الاجرام السماوية وفوضت اليها!!

وهذا الكلام يفيد أن الخليل عليه السلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية :

1 - اثبات الصانع ( الخالق ).

2 - توحيد الذات وأنه واحد غير متعدد.

3 - التوحيد في الخالقية ، وأنه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه السلام على التوحيد في « الربوبية » و « التدبير » وادارة الكون ، وانه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلاّ اللّه سبحانه وتعالى ، ومن هنا فانه عليه السلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ السَماواتِ والأَرْضَ ... ) وهو يعني ان خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبرها وربُها ، وانه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون ، - لا كله ولا بعضه - إلى الاجرام السماوية ، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه والمدبر شيء آخر.

ولقد وقع المفسرون ، والباحثون في معارف القرآن في خطأ ، والتباس عند التعرض لمنطق « إبراهيم » عليه السلام وشرح حواره هذا ، حيث تصوروا أن الخليل عليه السلام قصد نفي « اُلوهية » هذه الأجرام يعني الالوهية الّتي تعتقد بها

ص: 126


1- الأنعام : 79.

جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.

بينما تصوّر فريق آخر ان « إبراهيم » كان يقصد نفي « الخالقية » عن هذه الأجرام السماوية ، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين ، بل كان هدف الخليل عليه السلام - بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود ، وتوحيده ، ووحدانية الخالق - البحث في قسم آخر من التوحيد ، الا وهو التوحيد « الربوبي » ، وبالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً ، وعبارة « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... » أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة « الربّ » و « الربوبية » في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة والشمس (1).

هذا واستكمالا للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ « ابراهيم » عليه السلام.

لقد استدل « ابراهيم » في جميع المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية وبخاصة الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال : لماذا يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟

إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة ، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.

ان تفسير منطق « الخليل » عليه السلام واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعد منها يناسب طائفة من الناس.

ص: 127


1- لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا « معالم التوحيد في القرآن الكريم » وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية ، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية ، وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد ، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

واليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :

الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال ولابدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبَ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها ، غير منفصل عنها ، ولا غريب عليها.

ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته ، ان يكون رباً للموجودات الأَرضية ومدبراً لها؟!

من هنا يكون اُفول النجم ، وغروبه ، الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأَرضية ربّاً آخر ، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب.

باء : انَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها ، وانها في قبضة القوانين الحاكمة عليها ، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات ، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون ، أو شيء من الظواهر الطبيعية ، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام ، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

وبعبارة أخرى : إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني ، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.

جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة ، وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال إلى النقص والفناء ، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها

ص: 128

من مرحلة إلى مرحلة ، هو - في الحقيقة - الربُّ الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال :

لقد اسلفنا في ما سبق أن « ابراهيم » - بعد خروجه من الغار - واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :

1 - الوثنيون.

2 - عَبَدة الاجرام السماوية.

ولقد سمعنا حوار « ابراهيم » عليه السلام وجداله مع الفريق الثاني ، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الاصنام؟

إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك إذ قال : « وأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الاَْقْرِبِيْن » (1). وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته.

ولقد سلك « الخليل » عليه السلام نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.

ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو - مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها - كان منجماً ماهراً ، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط « نمرود » في كل ما يخبر به من أخبار النجوم ، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات.

لقد ادرك « ابراهيم » انه بجلبه لآزار ( عمّه ) يستطيع أن يسيطر على اوساط الوثنيين ، ويجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم ، ولهذا بادر إلى منع

ص: 129


1- الشعراء : 214.

عمّه آزر - وبافضل الاساليب - عن عبادة الاوثان ، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل « آزر » بنصائح « ابراهيم » عليه السلام ، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره مع « آزر ».

ان الامعان في الآيات الّتي تنقل حوار « ابراهيم » عليه السلام مع « آزر » توضح لنا أدب الانبياء ، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد ، ولنقف عند حوار ابراهيم ودعوته ، ليتضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك : « إذْ قالَ لأَبيْهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسْمَعُ وَلا يُبْصر وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إنِّي قَدْ جائنِي مِنَ الْعِلْم ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوياً. يا اَبتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ انَ الشّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمن عَصِيّاً. يا أَبتِ إنّي اَخافُ أنْ يَمسَّك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطانِ وَليّاً ».

فاجابه « آزر » قائلا : « أراغبٌ أنْتَ عَنْ الهتي يا إبْراهيمُ لئنْ لَمْ تنْته لأَرْجُمَنَّكَ وَاْهجُرْنيْ مَلِيّاً ».

ولكن « ابراهيم » بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ « آزر » العنيف ذلك وأجابه قائلا : « سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيْ » (1).

وأيّ جواب افضلُ مِنْ هَذا البيان وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة واحبّ إلى القلب ، واكثر رحمة ولطفاً.

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟

ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة « التوبة » والآية (14) من سورة الممتحنة هو : أنّ « آزر » كان والد إبراهيم عليه السلام.

وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين كان « آزر » وثنياً ، فكيف يصحّ ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم « محمَّد »

ص: 130


1- مريم : 42 - 47.

صلى اللّه عليه وآله وسلم وجميع الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى.

ولقد ذكر الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم « أوائل المقالات » (1) ان هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة ايضاً.

وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد اُبوّة « آزر » لإبراهيم ، وما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة؟؟

يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة « الأب » وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في « الوالد » ، إلاّ أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربما استعملت - في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم - في : ( العمّ ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه :

« إذْ قالَ لِبَنْيهِ ما تَعْبُدونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإله آبائكَ إبْراهيم واسْماعيل وإسحاقَ إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون » (2).

فإنّ ممّا لا ريب فيه أن « اسماعيل » كان عماً ليعقوب لا والداً له ، فيعقوب هو ابن اسحاق ، واسحاق هو أخو اسماعيل.

ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب « اسماعيل » الّذي كان ( عمَّهم ) أباً.

ومع وجود هذين الاستعمالين ( استعمال الاب في الوالد تارة ، وفي العم تارة اُخرى ) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية « آزر » هو العمّ أمراً وارداً ، وبخاصة إذا ضَمَمْنا إلى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمه اللّه على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية.

ولعل السبب في تسمية النبي « ابراهيم » عمَّه بالأب هو أنه كان الكافل

ص: 131


1- أوائل المقالات : ص 12 ، باب القول في آباء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
2- البقرة : 133.

لابراهيم ردحاً من الزمن ، ومن هنا كان « ابراهيم » ينظر إليه بنظر الأب ، وينزله منزلة الوالد.

القرآن ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم :

ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين « آزر » و « ابراهيم » عليه السلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح آيتين :

1 - لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم وتضحياته الكبرى ، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا ، وعلموا بأن عاقبة الشرك ، وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم.

إلاّ أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية ، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم ، واسفهم.

وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم ، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر لابائهم واُمهاتهم كما فعل « إبراهيم » في شأن « آزر » فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك ، إذ قال سبحانه :

« ما كانَ لِلنَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْركينَ وَلَوْ كانُوا اُوْلي قَرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبيَِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحابُ الْجَحْيمَ وما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيْمَ لأَبيْه إلا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ للّه تَبَرَّاَ مِنْهُ إنَّ إبْراهيْمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ » (1).

إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ « إبراهيم » وحواره مع « آزر » ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات ،

ص: 132


1- التوبة : 113 و 114.

والتبرّي منه في عهد فتوَّة « إبراهيم » ، وشبابه ، اي عندما كان « إبراهيم » لا يزال في مسقط رأسه « بابل » ولم يتوجه بعد إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.

إننا نستنتج من هذه الآية أن « إبراهيم » قطع علاقته مع « آزر » - في أيام شبابه - بعد ما أصرّ « آزر » على كفره ، ووثنيته ، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته.

2 - لقد دعا « إبراهيم » عليه السلام في اُخريات حياته - أي في عهد شيخوخته - وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى ( تعمير الكعبة ) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة ، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة منهم والداه ، وطلب من اللّه إجابة دعائه ، إذ قال في حين الدعاء :

« رَبَّنا اغْفِرْ ليْ وَلوالديّ وَلِلمؤمِنينْ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب » (1).

إنَ هذه الآية تفيد بصراحة - أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة ، وتشييدها ، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة ، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو « آزر » وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن « ابراهيم » كان لم يزل على صلة ب « آزر » حتّى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على طلب المشركين أوضحت بأن « إبراهيم » كان قد قطع علاقاته ب « آزر » في أيّام شبابه ، وتبرّأ منه ، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.

إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه « ابراهيم » في أيام شبابه ، وقطع علاقاته معه ، واتخذوه عدواً هو غير الشخص الّذي بقي يذكره ، ويستغفر له إلى اُخريات حياته (2).

إبراهيم محطِّم الأَصنام :

لقد حلَّ موسم العيد ، وخرج أهلُ بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام ، ولقضاء فترة العيد ، وإجراء مراسيمه ، وقد أخلوا المدينة.

ص: 133


1- إبراهيم : 41.
2- مجمع البيان : ج 3 ، ص 321 ، والميزان : ج7 ، ص 170.

ولقد كانت سوابق « إبراهيم » ، وتحامله على الأصنام ، واستهزاؤه بها قد أوحدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل ، ولهذا طلبوا منه - وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم - الخروج معهم إلى الصحراء ، والمشاركة في تلك المراسيم ، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الّذي رد على طلبهم بحجة المرض إذ قال : « إنّي سَقِيم » وهكذا لم يشترك في عيدهم ، وخروجهم وبقي في المدينة.

حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحد والمشرك ، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به ، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف إلى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمراع الجميلة.

وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك ، عيداً لم يسبق له مثيل ، عيداً طال انتظارُه ، وافرح حضوره وحلوله ، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار ، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية ، وحدث هذا فعلا.

فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة ، إغتنم « إبراهيم » تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية ، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة الّتي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها ، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر « الخليل » عليه السلام ، فأخذ بيده منها كسرة خبز ، وقدمها مستهزء إلى تلك الاصنام قائلا : لماذا لا تأكلون من هذه الاطعمة؟

ومن المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل.

لقد كان يخيم على جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعلول الّذي اخذ « إبراهيم » يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك ، وايديها.

لقد حطم « الخليل » عليه السلام جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة ، والمعدن المتحطم ، وإذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل

ص: 134

قد تحولت إلى تلة في وسط المعبد.

غير ان « ابراهيم » ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء ، ووضع المعول على عاتقه ، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير ، إلاّ أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امراً آخراً سنبينهُ في ما بعد.

لقد كان « إبراهيم » عليه السلام يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء ، ومن عيدهم سيزورون المعبد ، وسوف يبحثون عن علة هذه الحادثة ، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذه الظاهرة واقعاً آخر ، إذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الّذي لا يقدر اساساً على فعل شيء على الاطلاق.

وفي هذه الحالة سوف يستطيع « إبراهيم » عليه السلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً ، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن اخذت الشمس تدنو إلى المغيب ويقتربُ موعد غروبها ، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول ، أخذَ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً.

وعند ما آن موعد العبادة ، وتوجّهوا إلى حيث اصنامهم ، واجهوا منظراً فضيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة وحقارتها ، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً ، كباراً وصغاراً.

ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب وقال : من الّذي ارتكب هذه الجريمة ، ومن فعل هذا بالهتنا؟!

ص: 135

ولقد كانت آراء « إبراهيم » ومواقفه السلبية السابقة ضد الاصنام وتحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن « إبراهيم » وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم واصنامهم.

ولأجل ذلك تشكلت فوراً محكمة يرأسها « نمرود » نفسه وأخذوا يحاكمون « ابراهيم » واُمه!!

ولم يكن لاُمه من ذنب إلا أنها أخفت ابنها ، ولم تُعلِم السلطات بوجوده ليقضوا عليه ، شأنه شأن غيره من المواليد الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظاً على نفسها وكيانها.

ولقد أجابت اُم إبراهيم على هذا السؤال بقولها : أيها الملك فعلت هذا نظراً مني لرعيّتك ، فقد رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت : إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا.

ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه السلام فسأله قائلا : « مَنْ فَعَلَ هذا بآلهَتنا يا إبْراهيْم » فقال إبراهيم : « فَعَلهُ كَبيْرُهمْ هذا فاْسأَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُون ».

وقد كان « إبراهيم » عليه السلام يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر ، وهو ان « إبراهيم » عليه السلام كان على يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا : إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه الأصنام لا تقدر على النطق ، وفي هذه الصورة يستطيع « إبراهيم » أن يُلفت نظر السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة اساسية.

وقد حدث فعلا ما كان يتوقعه « إبراهيم » عليه السلام لما قالوا له وقد نكسوا على رؤوسهم : « لقد عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقُونَ » فقال إبراهيم رداً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام والأوثان وتفاهة شأنها : « اَفتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ وَلا يَضُرُّكُمْ اُفّ لكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُون ».

إلاّ أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم

ص: 136

يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي افحمهم بمنطقه الرصين الاّ أن يحكموا باعدامه حرقاً ، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا بإبراهيم عليه السلام فيها إلاّ أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليه السلام ، وحفظته من اذى تلك النار ، وحولت ذلك الجحيم الّذي اوجده البشر ، إلى جُنينة خضراء نضرة إذ قال : « يا نارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبْراهِيْم » (1).

العِبَر القيمة في هذه القصّة :

مع ان اليهود يعتبرون أنفسَهم في مقدمة الموحِّدين ، لم ترد هذه القصة في ثوراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم ، بل تفرّد القرانُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها.

من هنا فإننا نذكرُ بعض النقاط المفيدة ، والدروس المهمة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من ذكرها وذكر امثالها من قصص الأنبياء والرسل.

ص: 137


1- وقد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات 51 إلى 70 من سورة الانبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا : « وَلَقَد آتَيْنا إبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِميْن. إذْ قالَ لأَبيهِ وَقومِه ما هذه الْتَّماثِيلُ الّتي أنْتُمْ لَها عاكِفونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءنا لَها عابديْن قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ وَآباؤكُمْ في ضَلال مُبين. قالوا اجتنا بالْحق أمْ اَنتَ من اللاعبينَ قالَ بَل ربكم ربُ السماواتِ والأَرض الَّذي فطرهُنَّ وأَنا على ذلِكُمْ مِنَ الشاهدينَ وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصنامكم بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبرين. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إلاّ كَبيْراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إليْهِ يَرْجِعُونَ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِالهَتِنا إنَّهُ لِمَنَ الظّالِمينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْراهيْمَ. قالُوا : فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبْراهيمَ. قال بَلْ فَعَلَهُ كَبْيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرجَعُوا إلى أنفُسِهِمْ فقالُوا إنَّكُمْ أنتمُ الظّالِمونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدء عَلِمْتَ ما هؤُلاء يَنْطِقُونَ. قالَ : اَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّهِ ما لا يَنْفَعكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. اُفّ لَكُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّه أفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا حَرَّقُوهُ وَانْصُرُوا الِهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ. قلْنا يا نارُ كُونيْ بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبراهيْمَ. وَأَرادُوا به كَيْداً فَجَعَلْناهُمْ الأَخْسرينَ ». وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة إبراهيم عليه السلام وتحطيمه للأصنام راجع كتاب الكامل لابن الأثير : ج 2. ص 53 - 62 ، وبحار الأنوار : ج 12 ، ص 14 - 55.

1 - إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة « إبراهيم الخليل » عليه السلام وبطولته الفائقة.

فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام ، ومحق وهدم كل مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن امراً خافياً على النمروديين لانه عليه السلام كان قد أظهر شجبه لها ، واعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة فيها ، واستهزائه بها ، فقد كان عليه السلام يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها وتقديسها ، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد : « وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُولُّوا مُدْبِريْن » (1).

ولقد كان موقف الخليل عليه السلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد :

« ومنها ( اي وممّا تحلّى به النبيّ ابراهيم ) الشجاعة وقد كشفت ( قضيةُ ) الاصنام عنه ، ومقاومة الرجل الواحد اُلوفاً من أعداء اللّه عزّ وجلّ تمام الشجاعة » (2).

2 - ان ضربات « إبراهيم » القاضية وان كانت في ظاهرها حرباً مسلحة ، وعنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة - كما يُستفاد من ردود « إبراهيم » على أسئلة الذين حاكموه ، واستجوبوه - كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فان « إبراهيم » لم يجد وسيلة لا يقاظ عقول قومه الغافية ، وتنبيه فطرهم الغافلة ، إلا تحطيم جميع الاصنام ، وترك كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها وحيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته ، ويقول انَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر - وباعترافكم - على فعل أيّ شيء

ص: 138


1- الأنبياء : 57.
2- بحار الأنوار : ج 12 ، ص 67.

مهما كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه اذن؟!

ولقد استفاد « إبراهيم » من هذه العملية فعلا ، وتوصل إلى النتيجة الّتي كان يتوخاها ، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد ان سمعوا كلمات « إبراهيم » عليه السلام ، واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق وبطل ما كانوا يعبدون إذ قال تعالى : « فَرجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ الظّالِمُون » (1) وهذا بنفسه يفيد بأن سلاح الانبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو : سلاح المنطق والاستدلال ليس إلا ، غاية الأمر أن هذا كان يؤدي في كل دورة بما يناسبها من الوسائل ، وإلاّ فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ « ابراهيم الخليل » بنفسه وحياته ، وبالقياس إلى الاخطار الّتي كانت تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلابد ان يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس ، ويستحق المرء امتداح العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

3 - لقد كان إبراهيم يعلم بأن هذا العمل سيؤدي بحياته ، وسيكون فيه حتفه ، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ واضطرابٌ شديدان ، فيتوارى عن اُعين الناس ، أو يترك المزاح ، والسخرية بالأَصنام على الأقل ، ولكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش ، مطمئن النفس ، ثابتَ القدم ، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي كانت فيه الأصنامُ تقدم بقطعة من الخبز إلى الاصنام ودعاها ساخراً بها ، إلى الاكل ، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس منها تلاّ من الخشب المهشم ، واعتبر هذا الامرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ والخوف ، وكأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الاعدام المحتّم.

فهو عندما يأخذ مكانه امام هيئة القضاة يقول معرضاً بالاصنام : فعله كبير الأصنام فاسئلوه ولا شك أن هذا التعريض والسخرية بالاصنام إنما هو موقف من

ص: 139


1- الأنبياء : 64.

لا يوجس خيفة ، ولا يشعر بوجَل من عمله ، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة ، واستعد لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

بل الأعجبُ من هذا كله دراسة وضع « إبراهيم » نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللّهب بعد هنيئة ، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع اهل « بابل » لها الحطب الكثير تقرباً إلى آلهتهم ، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدساً ... تلك النار الّتي كان لهيبا من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه جبرئيل واعلن عن استعداده لانقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له : هل لك إليّ من حاجة؟

فقال « إبراهيم » : أما إليك فلا ، وأما إلى ربِّ العالمين فنعم (1).

ان هذا الجواب يجسِّدُ ايمان « إبراهيم » العظيم ، وروحه الكبرى.

لقد كان « نمرود » الّذي جلس يراقب تلك النار من عدة فراسخ ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام ، وكان يحب ان يرى كيف تلتهم ألسنة النار « إبراهيم ». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد اشتغل المنجنيقُ ، وبهزّة واحِدة اُلقي بإبراهيم عليه السلام في وسط النار غير أَن مشيئة اللّه ، وارادته النافذة تدخلت فوراً لتخلص خليل اللّه ونبيه العظيم ، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة خضراء وجنينة زاهرة ادهشت الجميع حتّى أَنَّ « إبراهيم » التفت إلى « آزر » وقال - من دون ارادته - : « يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه » (2).

إن انقلاب تلك النّار الهائلة إلى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للإسباب والمعطل لها متى شاء ، المعطي لها آثارها ، والسالب عنها ذلك ، متى اراد.

ص: 140


1- عيون أخبار الرضا : ص 136 ، وأمالي الصدوق : ص 274 ، وبحار الأنوار : ج 12 ، ص 35.
2- تفسير البرهان : ج 3 ، ص 64.

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّ عليه السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت - بفضل اللّه ولطفه - ولداً سمي باسحاق (1).

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين ... واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

ص: 141


1- بحار الأنوار : ج 12 ، ص 118 و 119.

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : « ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر » (1).

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : « رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون » (2).

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

ص: 142


1- البقرة : 126.
2- إبراهيم : 37.
عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم » عليه السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة - الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً - سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

ص: 143

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

ص: 144

وذهب إبراهيم عليه السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيل عليه السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة (1).

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيم عليه السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليه السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

« رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام » (2) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

« رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً » (3).

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

ص: 145


1- بحار الأنوار : ج 12 ، ص 112 نقلا عن قصص الأنبياء.
2- إبراهيم : 35.
3- البقرة : 126.

عليه السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في التاريخ.

2 - قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان (1).

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا » (2) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

ص: 146


1- التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 2 - 21.
2- بحار الأنوار : ج 15 ، ص 105 عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج 1 ، ص 15.

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافه صلى اللّه عليه وآله وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة (1).

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

3 - عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

ص: 147


1- لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج 2 ، ص 15 - 21.

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام (1).

4 - هاشم :

اشارة

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك (2) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

ص: 148


1- 1 - لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن : 1- سدانة الكعبة. 2- سقاية الحجيج. 3- رفادتهم وضيافتهم. 4- زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذاصبغة دينية.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 13.

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس ) (1).

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء علي عليه السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول اللّه وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم - مثلا - توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن (2).

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً » (3).

ص: 149


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 5.
3- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

ص: 150

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

1 - أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

2 - جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ... لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين (1).

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج ...

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

ص: 151


1- الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 10 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب (1).

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

ص: 152


1- الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 6 ، وتاريخ الطبري : ج 2 ، ص 8 و 9 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 6.

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

5 - عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر - في المآل - ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو - حقاً - نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

ص: 153

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة ... واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته » (1) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة (2).

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

ص: 154


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 4.
2- لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : 96.

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل - بسبب سلبيته - ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

ص: 155

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح (1) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك » (2).

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

ص: 156


1- ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 1 ، ص 206 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 142 - 147.

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر : رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة (1).

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

ص: 157


1- هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع (1).

ص: 158


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 153 ، وبحار الانوار : ج 16 ، ص 74 ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيل عليه السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليه السلام.

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول - بفعل اعجاب الناس عامة به - إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم - بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة - اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة - كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ - بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام 570 وأتفقت فيه

ص: 159

ولادة النبي الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل - هنا - الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود (1) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

ص: 160


1- وفاء الوفا : ج 1 ، ص 157 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 21 و 22.

« ذونواس » من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له « دوس » فقدم على « قيصر » فاستنصره على « ذي نواس » وجنوده واخبره بما فَعل بهم ، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا ، ولكن ساكتبُ إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم ، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره ، فارسل معه ملكُ الحبشة سبعين الفاً ، وأمّر عليهم رجلا يقال له « أرياط » وفي جنوده « ابرهة الأشرم » فساروا في البحر حتّى نزلوا بساحل اليمن ، وجمع « ذونواس » جنوده فاجتمعوا وكتب إلى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم إلى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم ، فلم يجيبوه ، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة ، وسيطر الاحباش على أرض اليمن ، وجُعِلَ « أبرهة » اميراً عليها من قِبَل « النجاشي » بعد مقتل « ارياط » على يد « أبرهة » في صراع السلطة (1).

وهذه القصة هي الّتي تعرف في القرآن الكريم بقصة « اصحاب الاُخدود » وقد جاء ذكرها في سورة البروج إذ يقول اللّه تعالى : « قُتِلَ أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذْهُم عَليها قُعُودُ. وهُم عَلى ما يَفعَلُون بالْمؤمنين شُهُودٌ. وما نَقمُوا مِنْهُم إلا أَنْ يُؤمنُوا باللّه العزيز الْحَميد. الَّذي لَهُ مُلك السماواتِ وَالارضِ واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهِيد » (2).

وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة (3).

ثم ان « ابرهة » الّذي اسكره الانتصار والغلبة على منافسه ، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً إلى ملك الحبشة ، وارضاء له ثم كتب كتاباً إلى « النجاشي » ملك الحبشة يقول فيه : « إني قد بَنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمُنْته حتّى اصرف اليها حج العرب ».

ص: 161


1- الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 260 - 263 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 31 - 37.
2- البروج : 4 - 9.
3- راجع مجمع البيان : ج 5 ، ص 464 - 466.

وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم ، إلى درجة أن امرأة مِن قبيلة « بني افقم » تسللت ذات ليلة إلى تلك الكنيسة واحدثت فيها ، فاثار هذا العمل الّذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة « أبرهة » واحتقارهم لها ، غضب « أبرهة » ، هذا من جانب ومن جانب آخر كان « ابرهة » كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب ، وحنقهم عليه ، واحتقارهم لكنيسته ، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها ، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً ، وقدّم أمامهُ الفِيَلة المقاتلة ، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام!!

فلما عرف زعماء العرب بغايته ، وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط ، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة « ابرهة » وانتصاراته بل خرج بعضهم إلى حربه فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.

فقد خرج « ذونفر » وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، ودعا قومَه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب « أبرهة » ولكن سرعان ما تغلّب « ابرهة » عليه بجيشه الكبير ، ثم خرج له بعد ذلك « نفيل بن حبيب » وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه « ابرهة » واُخِذَ له اسيراً ، فطلب « نفيل » العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه ، فدلّه نفيل حتّى الطائف ، واوكل الدلالة على بقية الطريق إلى شخص آخر يدعى « ابورغال » فدلّه أبورغال على الطريق حتّى أرض « المغمَّس » وهي منطقة قريبة من « مكة » فنزل « أبرهة » وجيشه بالمغمَّس ، فارسل أبرهة رجلا من الحبشة - على عادته - إلى ضواحي « مكة » فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق إليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب ، ثم امر رجلا آخر يدعى « حُناطة » ليدخل « مكة » ويبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله ، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة ، وقال له : سل عن سيد اهل هذا البلد وشريفها ، ثم قل له : ان الملك يقول لك : « إني لم آت لحربكم ، انما جئتُ لهدم هذا البيت ، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في

ص: 162

دمائكم » ، فإن هو لم يرد حربي فاتني به.

فدخل « حُناطة » مكة ولما سأل عن سيد قريش وشريفها ، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر « ابرهة » وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.

فدلّوه على بيت « عبد المطلب » ، ولما دخل على « عبد المطلب » أبلغه مقالة « أبرهة9 فقال له عبد المطلب : « واللّه ما نُريدُ حربَه ، وما لَنا بذلك من طاقة ، هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فان يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه »؟

فسرّ « حناطة » رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب ومقالته الّتي كانت تحكي عن قوة ايمانه ، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه إلى « أبرهة » ، قائلا : فانطلق معي إليه فانه قد امرني اَن آتيه بك.

عَبدُ المطّلب يَذهب إلى مُعسكر أَبرهة :

فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر ابرهة ، فاعجب « أبرهة » بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً ، وبهر به حتّى أنه نزل له من تخته اجلالا ، واخذ بيده ، واجلسه إلى جنبه ، فسأله عن طريق مترجمه متأدباً : ما الّذي اتى به وماذا يريد؟ فأجابه عبد المطلب قائلا : حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي.

فقال « أبرهة » لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير اصبتُها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه؟!

فقال له عبدالمطلبُ : إني أناربُ الإبل ، وان للبيت رباً سيمنعه ، فقال « ابرهة » مغتراً بنفسه : ما كان ليمتنع مني.

ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.

* * *

ص: 163

إنتظار قريش :

ولقد انتظرت قريش عودة « عبد المطلب » من معسكر « ابرهة » بفارغ الصبر لتعرفَ نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة ، وعندما عاد « عبد المطلب » اخبرهم الخبر ، وامرهم بالخروج معه من مكة ، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا إلى الشعاب ، والجبال ، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش إلى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال « عبد المطلب » مناجياً اللّه سبحانه : « اللَّهُم أنتَ أنيسُ المستَوْحشين ولا وحشة معك فالبيت ، بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُ الدار أولى بالدار » ثم قال :

لاهمّ إن (1) العبد يمنع رَح- *** -له فامنع حِلالك (2)

لا يغلِبنَّ صليبُهم *** ومحالهم عَدواً مِحالَك (3)

وقال ايضاً :

يا ربِّ لا أرجُولهم سواكا *** يا ربِّ فامنَع مِنهُمو حِماكا

إن عدوَّ البَيتِ مَن عادكا *** إمَنعهُمُ أن يخربُوا فِناكا

ثم انه ترك حلقة الباب ، ولجأ إلى الجبل لينظروا ما سيجري.

وفي الصباح وعندما كان « أبرهة » وجنده يستعدون للتوجه إلى « مكة » ، وإذا باسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار ، حجر في منقاره ، وحجرين في رجليه ، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند ، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود « ابرهة » بتلك الاحجار بامر اللّه ، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلاّ تحطم رأسَه ، وتمزق لحم بدنه ، وهوى صريعاً ،

ص: 164


1- لاهم أصلها : اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.
2- الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.
3- المحال : القوّة والشدّة.

وهلك من توه ، فاصابت واحدةٌ من تلك الاحجار راس « ابرهة » نفسه فارتعدت فرائصه وايقن بغضب اللّه وسخطه عليه ، فنظر إلى جنوده وهم اشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأَرض كورَق الشجر في فصل الخريف ، فصاح بِمَن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأوا للعودة إلى اليمن ، من حيث أتوا ، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين ، غير أن هذه البقية قد هَلكَتْ شيئاً فشيئاً في اثناء الطريق حتّى أن ابرهة نفسه بعد أن لم يصل إلى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحمُ بدنه ، وسقطت اعضاؤه وجوارحُهُ ومات بصورة عجيبة.

وقد دَوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك ، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل إذ يقول تعالى : « ألَم تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيْل. وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أبابيلِ. ترميهِمْ بِحِجارَة مِنْ سَجِّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُول ».

وما ذكرناهُ هنا - في هذه الصفحات - ليس هو في الحقيقة إلاّ خلاصة ما وَردَ في كتب التاريخ الإسلامي ، وصرح به القرآنُ الكريم (1).

واستكمالا لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ « محمَّد عبده » والعلامة المعروف الدكتور « هيكل » وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.

كلمة حول المعجزة :

لقد أوجدَ التقدم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية ، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات ، ضجة عجيبة في الغرب ، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجردَ تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية ، ولم يكن لها أية صلة بالمعتقدات الدينية

ص: 165


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 43 - 62 ، والكامل في التاريخ ج 1 ، ص 260 - 262 ، وبحار الأنوار : ج 5 ، ص 130 - 146.

فإنّ هذا التحول والتطور وتلك الكشوف أوجدت شكاً عجيباً لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق!

والسرّ في ذلك هو أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة ، الّتي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدة طويلة من الزمان ، قد اصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة وبواسطة الاختبارات العلميّة ، والتحقيقات المختبرية ، فلم يُعد - بعد هذا - مجالٌ للقول بفرضية الافلاك التسعة الّتي طَلع بها « بطلميوس » ، ولا بفرضية مركزية الارض ، ولا غيرها من عشرات الفرضيات ، فقالوا في أنفسهم : ومن أين تَرى لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل؟!

وقد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة إلى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونمى بشكل قويّ في فترة قصيرة ، وعمَّ الاوساط العلمية كأيّ مرض!!

هذا مضافاً إلى أنّ محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها ، واطرادها ، لأن الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس ، وتعارض مقرَّرات الكنيسة!!

وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُغُوط ، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ من دون حدوث ردة فعل ، وقد كان من المتوقَع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين ، بسبب سوء تصرف الكنيسة ، وسوء معاملتهم لهم خاصة ، وللناس عامة.

وقد حدث هذا فعلا فكلّما تقدم العلمُ خطوةً ، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية ، واكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية ، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادية ، وكذا علل الامراض ، قلّ اعتناؤهم بالقضايا الميتافيزيقية ، وما يدور حول المبدأ والمعاد والافعال الخارقة للعادة

ص: 166

كمعاجز الانبياء ، وازداد عدد المنكرين لها والشاكين فيها ، والمترددين في قبولها يوماً بعد يوم!!

لقد تسبَّب الغرورُ العلميُّ الّذي أُصيب به العلماء في الغرب في ان ينظر بعض اولئك العلماء إلى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير ، وأن يمتنعوا حتّى عن التحدث في المعاجز الّتي يخبر بها التوراة والانجيل ، ويعتبروا عصا موسى عليه السلام الّتي كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير ، وراحوا يتسائلون - في عجب واستنكار - : وهل يمكن أن تتحول قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعي ، أو ثعبان ، أو هل يمكن ان تعود الحياة إلى ميّت بكلمات من الدعاء؟

لقد تصور العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية ، انهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم ، ووقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية ، ومن هنا تصوَّرُوا أنه لا توجد ايةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان ، أو بين جملة من الدعاء والتفاتة من بشر وعودة الروح إلى الموتى ، ولهذا أخذوا ينظرون إلى هذه الامور بعين الشك والترديد ، وربما بعين الانكار والرفض المطلق!!

وقد سرى هذا النوعُ من التفكير إلى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من غيرهم ، مع بعض التعديل في ذلك الموقف ، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة ، ولهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا النوع ، والسِرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل واكثر من غيرهم هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم ، ومن هذه المنطقة سَرتْ بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الاُخرى.

لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصاً قَصَدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز ، والاحاديث القطعية ومكانتها من جهة ، وكسب نظر العلماء الماديين الطبيعيين إلى انفسهم من جهة اُخرى ، أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية الطبيعية وتطبيقه عليها.

ص: 167

لقد وجَدَ هؤلاء من جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق الّتي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة ، لأن العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان ، ومن جهة اُخرى كان القبول بالنظريات الّتي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم.

ولهذا السبب ، وفي خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين : العلم والعقيدة ، اختار هؤلاء الكتاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع ، والتنازع ، فيحافظون على ظواهر القرآن والاحاديث من جانب ، ويتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر ، ويتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز وجميع خوارق العادة الّتي جرت على ايدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو وكأنها اُمورٌ طبيعية ، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم والاحاديث القطعية المسلّمة ، ولم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث ويتعارض مع معطياته.

ونحن هنا نذكر من باب النموذج والمثال : التفسير الّذي ذكره العلامة المصري المعروف « محمَّد عبده » لقصة اصحاب الفيل وماجرى لهم :

فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل :

« فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الامراض ، وان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الّذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات ، فاذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح الّتي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه ، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعُدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير - الّذي يسمونه الآن بالميكروب - لا يخرج عنها » (1).

ص: 168


1- راجع تفسير في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251.

وقال أحد الكتاب مؤيداً هذا الاتجاه بقوله : « إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير ، ويشمل الذباب والبعوض ايضاً ».

ولابدَّ - قبل دراسة هذه الأقوال - أن نستعرض مرة اُخرى الآيات النازلة في اصحاب « الفيل ».

يقول اللّه تعالى : « ألمْ تَر كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيدهُمْ في تَضْلِيْل. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيْل. تَرْميْهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجّيل. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأكُولٍ ».

إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش ابرهة اُصيب بالغضب والسخط الالهي ، وان هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار الّتي حملتها تلك الطيور ، والقتْ بها على رؤوس الجند وأبدانهم.

إن الإمعان في مفاد هذه الآيات يعطي أن مَوتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية ( الصغيرة الحقيرة في ظاهرها ، القوية الهدامة بفعلها وأثرها ).

وعلى هذا فإنَّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب إليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعي.

نقاطٌ تقتضي التأمل في التفسير المذكور :

1 - إِنَّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أَن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً ، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لابد من تفسيرها بالعوامل والاسباب الغيبية ، لأنه مع فرض أن هلاك الجند وتلاشي أجسادهم تمَ بواسطة ميكروب : « الحصبة » و « الجدري » ، ولكن من الّذي ارشد تلك الطيور إلى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة والجدري ، فتوجهت بصورة مجتمعة إلى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحَبّ والطعام ، ثم كيف بعد حمل تلك الأَحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقتْ فوق معسكر « أبرهة » ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه؟؟

هل يمكن اعتبار كل ذلك أمراً عادياً ، وحدثاً طبيعياً؟

ص: 169

ترى لو أننا فسَّرنا طرفاً من هذه الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية ، وبارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أية حاجة إلى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف ، ونركض وراء التوجيهات الباردة ، لنجعلها امراً مقبولا.

2 - إنَّ الكائنات الدقيقة ، أوما يسمى الآن ب « الميكروب » لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان ، وليس بصديقة لهذا أو ذاك ، ومع ذلك كيف توجهت إلى جنود « ابرهة » وقتلتهم دون غيرهم ، وكيف نسيت المكيّين بالمرة؟!

انَّ التاريخ المدوَّنْ يثبت لنا أن جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند « ابرهة » ولم يلحق فيها : أيّ أذى - إطلاقاً - بقريش ، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية ، في حين أن الحصبة والجُدَريِّ من الأمراض المعدية ، الّتي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح وغيرها من منطقة إلى اُخرى ، ورُبَما تُهلِك اهل قطر باجمعهم.

فهَل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثاً طبيعياً عادياً؟!

3 - ان اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب ، يضفي على هذا الادعاء مزيداً من الإبهام ، ويجعله اقرب الى البطلان.

فتارة يقولون : انَّه ميكروب الوباء وتارةً اُخرى يقولون : انَّه داء الحصبة والجدري ، في حين اننا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف ، ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف ، اللّهمَ إلاّ ما احتمله « عكرمة » من بين المفسرين ، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء والاّ لما ذهب « ابن الاثير ». من بين المؤرخين وارباب السير إلى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف ، والقيل ، ثم عاد فردّ هذا القول فوراً (1).

والأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلف كتاب « حياة محمَّد » الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير ، عند ذكر قصة الفيل.

ص: 170


1- الكامل : ج 1 ، ص 263.

فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل ، ومع أنه اتى بقول اللّه تعالى « وأرسل عليهم طيراً أبابيل » قال عن هلاك جنود أبرهة : « ولَعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر ، وأصابت العدوى أبرهة نفسه » (1) فاذا كان الّذي جاء بهذا الميكروب هو الريح ، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على رؤوس جيش أبرهة ، والقت بالأَحجار الصغيرة على رؤوسهم ودون غيرهم ، وأي أثر كان لهذه الاحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم؟

فالحق هو : أن لا يُتبعَ هذا النمط من التفكير ، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأَنبياء - الكبرى بمثل هذه التأويلات والتفسيرات ، بل إن طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن طريق العلوم الطبيعية الّتي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية ، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد - ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية ، وليست لديهم أية معرفة بهذا النوع من القضايا - إلى التنازع عن أُسُسنا الدينية المسلّمة ، في حين لا توجد أية حاجة مُلزمة إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار!

نقطتان هامّتان :

وهنا لابد من أن نذكّر بنقطتين هنا :

الاُولى : يجب ان لا يظن أحدٌ - خطأ - أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسنُ الناس ، وتنسبه إلى الانبياء العظام ، أو إلى عباد اللّه الكرام ، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل وربما اتَّسَمْ بطابع الخرافة في بعض الاحيان والموارد.

بل مقصودنا هو : أن نثبت - وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفرة - ان الأنبياء كانوا يقومون - لا ثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة - بأعمال خارقة للعادة ، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف ، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن

ص: 171


1- حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل : ص 102 و 103.

إدراك عللها ، وأسبابها.

فهدُفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.

الثانية : إننا لا نقول مطلقاً : أَنَّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلية العامّ ، بل اننا في الوقت الّذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأَن لجميع حوادث هذا العالم عللا خاصة واسباباً معينة ، وانه من المستحيل أن يوجَد شيء بعد عدمه من دون علة ، بَيْد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع ( أي المعاجز ) عللا غير طبيعية ، وان هذه العلل ميسَّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال الإلهيين خاصة ، وليس في مقدور أحد - لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل - أن يتنكّر لها ، وينكرها ، بل ان جميع الاعمال الخارقة الّتي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة ، ولو أنها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة ، ولم يصدُق في حقها عنوان الاعجاز.

ولكي نقف على حقيقة هذا الامر ، ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور ( مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادي والمألوف المحض ) ينبغي أن نتبسط قليلا في شرح مسألة الاعجاز ونبحث في مدى علاقتها بقانون العلية العام.

بحثٌ علميُّ حول المعجزة في خمس نقاط :

اشارة

إن الحديثَ العلميَّ عن المجعزة لابدَّ أن يتركَّز على عدة نقاط أساسيَة هي :

1 - ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟

2 - هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

3 - هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟

4 - كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة؟

5 - كيف وبماذا نميز المعجزة عن الخوارق الاُخرى؟

إنَّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة ، وبيان مدى بطلان الاتجاه المذكور نعني : تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.

ص: 172

على أننا - نظراً لضيق المجال - سنختصر الجواب على هذه الأسئلة ، وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.

1 - ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها؟

لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة ، مقرونٌ بالدَعوى ، والتحدّي ، مع عدم المعارضة ، ومطابقة الدعوى (1).

ويعني الشرطُ الأولُ ( اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة ) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتماً ، فلا يمكن صدورها من دون علة ، وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة ، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة ، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية ، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث ، والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر الاُخرى وعِللها ، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود ، واخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف ، وتحويل العصا إلى أفعي من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل ، بل بمسح من يد ، أو بعبارة من لسان ، أو بضرب من عصا!!

من هنا نكتشفُ أَن كل ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه

ص: 173


1- راجع للوقوف على هذا التعريف : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلّي شرحاً والمحقق نصير الدين الطوسي متناً : ص 218 ، وأيضاً شرح تجريد الاعتقاد للعلامة القوشجي : ص 465.

الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة ، والمألوف ليدل على مزية في الانبياء.

فان مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس ، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصوا ذلك العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميعُ الناس ، فلا يكون حينئذ معجزة.

ولا يعني هذا - وكما اسلفنا - أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة ، اصلا ، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة وغير عادية ، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.

ويُقصَد من الشرط الثاني ( أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى ) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ، ويأتي بالمعجزة دليلا على صحة دعواه هذه ، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ « الكرامة » كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك؟

قالت : هو من عند اللّه (1).

ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله ، وعجز الناس عن هذه المعارضة ، وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية ، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.

واما الشرط الرابع فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازياً ، ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما يدعي أنه قادر على الأتيان به.

فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء ، يفيض بالماء باشارة اعجازية ، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقاً ، وأما إذا قال : سأجعل هذا

ص: 174


1- راجع سورة آل عمران : 37.

الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء ، بالإعجاز ، ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال ، لم يكن ذلك إعجازاً ، بل كان تكذيباً لمدعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

2 - هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟
اشارة

وبهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون العليّة ( اي : ارتباط كل معلول حادث بعلة ) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة ، ولذلك فاننا نلاحظ : كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت - بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية - مثلا - عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة ، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان ، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أليس هذا هدمٌ ، أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟

فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية.

ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل :

1 - العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.

2 - العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.

وهذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة.

وتوضيحُ هذا أن اصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل - مثلا - أمرٌ ممكنٌ ، ولا يُعدّ من المحالات ، لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً.

ص: 175

نعم أَنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق ، والعلة - سواء في المعاجز أو غيرها - يمكن أن تكون إحدى الامور التالية :

أ - العلة الطبيعية العادية وهي ما الفناها وأعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب - العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل ، وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف ومعلوم ، والآخر مجهول غير معلوم ، والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة الالهية ، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل - عن طريق الوحي - ويوجدوا الظاهرة.

ج - تأثير النفوس والارواح :

فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية ، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون ، وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما يسمى باليوجا أحياناً ، وقد كتبت حوله كتب ودراسات (1).

وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول :

« لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها ، فكلّما ازدادت النفسُ - تجرداً وتشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما دونها.

وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة ، وتعلّق جبلّي لها إليه ، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير ، لأجل مزيد قوة شوقية ، واهتزاز علوي للنفس

ص: 176


1- راجع كتاب الطاقة الإنسانية لأحمد حسين.

ومحبة الهية لها ، فيؤثر نفسُه في إصلاحها ، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها » (1). د - العللُ المجردة عن المادة :

فيمكن ان تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة ، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية ، أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.

والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في الكون ، وهي الّتي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم : « فالمُدَبَّراتِ أَمْراً » (2) وهي بالتالي جنوداللّه في السماوات والأَرض « وللّه جُنودُ السَماواتِ » (3).

فلابد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الاربعة ، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الاعجاز ، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية ، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر - فوراً - إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة.

ويجب ارجاع معاجز الأَنبياء إلى إحدى الطرق الاخيرة ، والقول بأن الانبياء استخدموا - في ايقاع الخوارق والمعاجز - إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف ، والعلم ، وأما نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.

كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئة.

إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ، ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.

ص: 177


1- راجع المبدأ والمعاد : ص 355 و 356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي ، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص 327 قال السبزواري ناظماً : يطيعه العنصرُ طاعة الجَسَد *** للنفس فالكلُ كجسمهُ يُعَدّ
2- النازعات : 5.
3- الفتح : 4.
3 - هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها ايَّة علل مادية معروفة أو غير معروفة ، في حين لا يصحّ هذا السلب الكلي ، إذ ما اكثر الخوارق الّتي تنشأ عن اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية كثيرة دخلت في هذا الامر الخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص ، والمكان الخاص ، ومثل جسم المرتاض ، وماكنة الحراثة.

فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور هذا العمل الخارق.

وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليه السلام إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد.

ولهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية ، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.

وهذه هي اكثر النظريات اعتدالا في هذا المجال.

وفي مقابل ذلك التفريط (1) أفرط آخرون إذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.

وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين ، لأن العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة وغير المعروفة ، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية - في الأغلب - من القسم الاول ، بينما يستخدم الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وادركوها دون غيرهم.

ص: 178


1- أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير العلل الماديّة على نحو الاطلاق.

والسبب في وصفنا هذه النظرية بالافراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لا ثباته ، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي ، أو انه لارضاء الماديين ، والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها ، وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين ، ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية ( نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية ) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للماديين ، وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية ومادية على الإطلاق ، غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة ، شأنها شان كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.

ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان ، لعدم الدليل لا على طبقها ولا على خلافها.

4 - كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً ، واستثماراً للناس ، مستغلِّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب ، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر.

فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة إدعاء النبوة.

وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق ادّعاء النبوّة ، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة ، لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.

وإلى هذا أشار الامامُ جعفر الصادق عليه السلام بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه ورسله :

ص: 179

« لِيَكُونَ دَليلا عَلى صِدق من أتى به ، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه وَرسلَه ، وحجَجَه ، ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب » (1).

5 - بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة والمرتاضين يقومون بأَفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ اليها البشر.

فكيف يمكن اذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟

إن التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة ، كاعمال السحرة والمرتاضين ( اصحاب اليوجا ) ونظائرهم.

وهذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية :

1 - إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم ، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.

بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً ، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

2 - إن أَفعال السَحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها ، وربما بما هو اقوى منها ، على عكس الإعجاز ، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها ابداً.

3 - المرتاضون والسَحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلا لافْتضَحُوا وكبتوا.

بينما يتحدى الانبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم

ص: 180


1- علل الشرائع : ج 1 ، ص 122.

والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا ، واستطاعوا.

فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور : « قُل لَئنْ اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً » (1).

وذلك لأنَ أفعال السَحرة الخارقة مما كانت فانها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ، ولا تتجاوزها بينما يعتمد الانبياء والرسل العنصر الغيبي ، والإرادة الآلهية.

4 - إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموها وتمرنوا عليها ، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على اُمور خاصة ، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم ، طبعاً حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز (2).

فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية ، والمقترحة ، ومعاجز المسيح عليه السلام المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.

5 - إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد ، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ، ونيل مكاسب مادية رخيصة.

هذا مضافاً إلى أن الأَنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين

ص: 181


1- الاسراء : 88.
2- مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالا عقلياً كرؤية اللّه ، ومثل أن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلا على ارتباطه بالمقام الربوبي ، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب ، لأنّ هذه الاُمور لا تكون دليلا على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِنَ الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء. وأن لا يكون المقترحون من ذوي اللجاج والعناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل والاستهزاء والتنزّه. وأن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان يُنزِّل عليهم ناراً من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضاً للغرض.

في نفسيّتهم العالية ، وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق ، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.

هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدل على نبوة الانبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.

وبعد أن تبيَّن كل هذا اتضح أنَّ الخوارق الالهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الاُمور المادية المعروفة ، بل ربما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة ، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل : « قصة الفيل » الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش « أبرهة » العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من اشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث (1).

ولهذا عَدلَ « سيد قطب » عن رأية الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور ، إذ قال :

ان الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَ تصوّر سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوُرية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود ، ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَولَه ، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله ، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن ... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود (2).

ص: 182


1- أي الاستاذ الشيخ محمَّد عبده والاستاذ محمَّد حسين هيكل.
2- 2 - وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام مانصه « وما اُبرئ نفسي اُنني فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الاُولى من هذا الضلال قد انسقتُ إلى شيء من هذا وارجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق اللّه ».

فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه ، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلا عن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريق العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم ، ومدّعو التفكير العلمي ، ممن يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول (1).

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة :

ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى ، وان الطير تكون هي : الذباب والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.

ثم ينقلُ كلام الاستاذ « عبده » الّذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ بتأويل ان صحت روايته ، وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذَ من استعز بالفيل - وهو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً - ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر.

ص: 183


1- في ظلال القرآن : ج 29 ، ص 151 - 153.

ثم يقول : ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الاستاذُ الامامُ - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أدلَّ على قدرة ، ولا اولى بتفسير الحادث ، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه ، وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي الّتي جرت ، فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم ، أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت (1) أمراً ، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدٌ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ، ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال ، ليضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.

فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه ، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.

وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً ، وأنملة انملة ، ولا يشق الصدر عن القلب!!

ثم ان « سيد قطب » يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي ، والمدرسة العقلية الّتي كان الاستاذ « عبده » على رأسها ، وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة ، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة ، وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية

ص: 184


1- أيّ الكعبة المشرّفة.

والغيبية (1).

هذا ويجدر بنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.

قال صاحب المجمع : وكان هذا من اعظم المعجزات القاهرات ، والآيات الباهرات في ذلك الزمان ، اظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته ، وفيه ارهاص لنبوة نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه ولد في ذلك العام ، وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية ، إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيَّاة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم ، وتدّمرَ عليهم ، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب ، وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه ، واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأَصحاب الفيل ، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ ، وجحدوه ، وأنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة ، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.

وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله ( اُميّة ) بن ابي الصلت :

إن آيات ربِّنا بَيِّنات *** ما يُماريْ فيهِنّ إلا الكَفُورُ

حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى *** ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ

ص: 185


1- في ظلال القرآن : ج 30 ، ص 251 - 255.

وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :

أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس *** أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس

مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ *** حبَستَه في هيئة المكركس (1)

وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :

وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با *** لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ (2)

ماذا بَعْدَ هزيمة الأحباش؟

لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه وهلاكهم ، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة ، وأعداء قريش ، أن يتعاظم شأن المكيّين ، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب ، فلا يجرأ أحدٌ - بعد ذلك - في أن يحدِّث نفسه بغزو مكة ، والإغارة على قريش ، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة المعظمة صرح التوحيد الشامخ ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم : إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش ، وقلّما كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط ، اي من دون أن يكون لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك ، ويشهد بذلك أن قريشاً تعرضت مراراً لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما اُصيب به جندُ « ابرهة » الّذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه ، من الردع والكبت.

إنَّ هذا الفتح والظفر الّذي نالته قريش من دون تعب ونصب ، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها ، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة ، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم ، وعنجهيتهم ، واعتزازهم بعنصرهم ، فأخذوا يفكرون في تحديد شؤون الآخرين ، والتقليل من وزنهم ، اعتقاداً منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم إلى أن يتصوَّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأَصنام ( الثلاثمائة والستين ) فهم وحدهم الذين تحبُّهم

ص: 186


1- المنكَّس.
2- تفسير مجمع البيان للطبرسي : ج 10 ، ص 543 في تفسير سورة الفيل.

تلك الاصنامُ ، وتحميهم وتدافع عنهم!!

ولأجل هذا تمادوا في لَهوهم ، ولعبهم ، وتوسعوا في ممارسة اللذة والترف حتّى أنهم أظهروا وَلعاً شديداً بالخمر ، فكانوا يحتسونها في كل مناسبة ، وربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة ، واقاموا مجالس سَمرهم وأنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية ، والحجرية ، الّتي كان لكل قبيلة من العرب بِينها صَنمٌ أو اكثر ، ويقضون فيها اسعدَ لحظات حياتهم - حَسب تصورّهم ، وَهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول « مناذرة » الحيرة و « غساسنة » الشام وقبائل اليمن ، وهم يتصورون أن هذه الحياة الحلولة اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام والاوثان ، فهي الّتي جعلت عامة العرب تخضع لقريش ، وجعلت قريشاً افضل من جميع العرب!!

أوهام قريش تتفاقم!!

إنَّ أخطرَ ما يمرُّ به إنسانٌ في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل ، ردحاً من الزمن ويحس لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية ، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه ويستأثر بكل شيء في الوجود ولا يرى لغيره من ابناء نوعه وجنسه من البشر اي حق في الحياة ، ولا ايّ شأن وقيمة تذكر ، وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء ، والاحساس بالتفوق ، والغطرسة.

وهذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش « ابرهة » وهلاكه ، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.

فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم - وبهدف إثبات تفوقها وعظمتها للآخرين - ، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لانهم كانوا يقولون : ان جميع العرب محتاجون إلى معبدنا ، وقد رأى العرب عامة كيف اعتنى بنا آلهةُ الكعبة ، خاصة ، وكيف حمتنا من الاعداء!!

ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كل من يدخل مكة من أهل الحل للعمرة أو الحج ، وتتعامل معهم بخشونة بالغة ، وديكتاتورية شديدة ففرضت على

ص: 187

كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من خارج الحرم ، ولا يأكل منه ، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ، ويأكل منه ، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية ، أو يطوف عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها ، ومَن كان يَرفُض الخضوع لهذا الأمر ، مِن رؤساء القبائل وزعمائها ، كان عليه أن ينزع ثيابه - بعد انتهائه من الطواف - ويلقيها جانباً ، ولا يحق لأحد ان يمسها أبداً لا صاحبها ولا غيره (1).

اما النساء فكان يجب عليهن إذا أردنَ الطواف أن يُطفنَ عراة على كل حال ، وان يضعن خرقة على رؤوسهن وَيُردِّدنَ البيت التالي في اثناء الطواف :

اليوم يبدو بعضُه أو كُلّه *** وبعدَ هذا اليوم لا اُحِلُّه

ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو مسيحي - بعد هزيمة « ابرهة » الّذي كان هو أيضاً مسيحياً - أن يدخل مكة إلاّ أن يكون أجيراً لمكيٍّ ، وحتّى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من أمر دينه ومن أمر كتابه.

لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش حداً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج الّتي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم!!

لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة (2) كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة ، والافاضة منها مع أن آباءهم ( من ولد إسماعيل ) كانوا يُقّرون أنها من المشاعر والحج ، وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ - برمتها - بوجود الكعبة بين ظهرانيها ، وبوظائف الحج ومناسكه هذه ، إذ كان يجب على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك ، إذ لو لَم يكن في هذه النقطة من الأَرض أىُ مطاف أو مشعر لما رغب احد حتّى في العبور بها فضلا عن المكث فيها عدة ايام وليال.

ص: 188


1- وكانت تسمّى عندهم « اللّقى ».
2- الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 266.

لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد الاخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.

فالبيئة المكيّة لابد أن تغرق في الفساد والانحراف حتّى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية.

إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي والترف والانحراف كان يهيء الارضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي ، أكثر فاكثر.

ولهذا لم يكن غريباً أن يغضب « أبو سفيان » فرعون مكة وطاغيتها على « ورقة بن نوفل » حكيم العرب الّذي تنصر في اُخريات حياته واطلع على ما في الانجيل ، كلما تحدَّث عن اللّه والانبياء ويقول له : « لا حاجة إلى مثل هذا الاله وهذا النبي ، تكفينا عناية اصنامنا »!!

عَبدُ اللّه والدُ النبيّ :

يوم فدى « عبدُالمطلب » ولده « عبد اللّه » بمائة من الابل نحرها ، وأطعم الناس في سبيل اللّه ، لم يكن يمض من عمر « عبد اللّه » اكثر من اربعة عشر ربيعاً ، وقد تسبَّبَتْ هذه الواقعةُ في أن يكتسب « عبدُ اللّه » شهرة خاصة بين عشيرته مضافاً إلى شهرته الكبرى بين قريش ، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه : « عبد المطلب » بنحو خاص ، لأن ما يُكلِّفُ الإنسان غالياً ، ويتحملُ في سبيله عناء اكثر لابدَّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر ، ويحبّه محبة تفوقُ المتعارف.

ومن هنا كان « عبدُ اللّه » يتمتعُ باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه.

ثم إن « عبدَ اللّه » يوم كان يتوجه برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيسَ متناقضة ومتضادة ، فهو من جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحباً شديداً ، ولهذا لم يكن يَجدُ بداً من طاعته ، والانصياع لمطلبه ، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق ، واضطراب شديدين على حياته الّتي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر ، وتكادُ تقضي عليها كما يقضي الخريفُ على

ص: 189

أوراق الشجر.

كما أن « عبد المطلب » نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان : قوةُ الايمان والعقيدة من جانب ، وقوةُ العاطفة والمحبة الأبوية من جانب آخر ، وقد أوجدَت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها ، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة الّتي ذكرناها ونجا « عبد اللّه » من الموت المحقق فكر « عبد المطلب » فوراً في ان يغسل عن قلب « عبد اللّه » تلك المرارة القاسية بزواج « عبد اللّه » بآمنة ، وبذلك يقوّي من عرى حياته الّتي بلغت درجة الانصرام ، بأقوى السُبُل ، وأمتن الوسائل.

ومن هنا توجّه « عبد المطلب » إلى بيت « وهَب بن عبدمَناف » - فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده عبد اللّه - وعقد لولده على « آمنة بنت وَهَب » الّتي كانت تُعرَفُ بالعِفة ، والطُهر ، والنجابة ، والكمال.

كما أنه عقد لنفسه - في ذات المجلس - على « دلالة » ابنة عم آمنة ، ورُزقَ منها « حمزة » عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والمشابه له في السن (1).

غير أن الاستاذ المؤرخ « عبدالوهاب النجار » المدرس بقسم التخصص في الازهر الّذي صحح « التاريخ الكامل » لابن الاثير ، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة شكك في صحة هذه الرواية ، واستغربها ، وقال : لا أظنُ أنه يصحّ شيء في هذه الرواية ، إذ المعقولُ أن يتريث « عبد المطلب » بعد ذلك المجهود المضني حتّى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه (2).

ولكنَّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور لو نَظرَ إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسَهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية.

ثم أن « عبد المطَّلب » عَيَّن موعداً للزفاف ، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت « آمنة » طبقا لما كان متعارفاً عليه في قريش ، ولبث

ص: 190


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 والمذكور في هذا المصدر « هالة ».
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4 ، قسم الهامش.

« عبد اللّه » مع « آمنة » ردحاً من الزمن حتّى سافر إلى الشام للتجارة ، وعند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف.

دَورُ الأَيادي المشْبُوهَة في تاريخ الإسلام :

لا شك أَنَّ التاريخ سَجَّلَ في صفحاته كلَ ما يتعلق بالشعوب والاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة ، كقصص للعبرة والعظة.

ولكن الحب والبغضَ تارة والتساهل والبدعة تارة اُخرى وحب اظهار المقدرة وابراز القوة الأدبية تارة ثالثة وغير ذلك من العوامل والاسباب عملت عملها فتدخلت - في جميع الأدوار والعصور - في صياغة التاريخ ، وخلَطت الغث بالسمين والحقيقة بالخرافة ، وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ الّذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة ، ولذلك يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل ، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية ، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد كان للعوامل المذكورة تاثير ايضاً في تدوين التاريخ الإسلامي ، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال ، بل وربما عمد بعض الاصدقاء - بهدف تعظيم شأن النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى نسبة بعض الاُمور الّتي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والإفتعال إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو منها بُراء.

فقد جاء في التاريخ أن نور النبوَّة كان يسطع في جبين « عبد اللّه » والد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم دائماً (1) ، كما نقرأ أن « عبد المطلب » كان يأخذ بيد ولده « عبد اللّه » في سنين الجدب والقحط ، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلا إلى اللّه بالنور الّذي كان بيّنا في جبين « عبد اللّه » (2) فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنة في مؤلفاتهم ، ونحن لا نملك اي دليل على عدم صحته.

ولكن هذه القصة وقعت أساساً لبعض الاساطير التى لا يمكن ان نقبل بها مطلقاً

ص: 191


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 39.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.

واليك فيما يأتي ما الحِقَ بهذه القضية التاريخية الثابتة.

قِصَّة فاطمة الخَثعَمِيَّة :

اشارة

و « فاطمةُ » هذه هي أختُ « ورَقَة بن نوفل » الّذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم ، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم وسوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب.

وكانت « فاطمة » اخت « ورقة » قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد « اسماعيل » ، ولهذا ظلّت تنتظر ، وتبحث.

وذات يوم وعندما كان « عبد المطلب » متوجها إلى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد « عبد اللّه » ، شاهدت « فاطمة الخثعمية » - الّتي كانت تقف على مقربة من منزلها - النور الساطع من جبين « عبد اللّه » ، والّذي كانت تنتظره مدة طويلة وتبحث عنه بشوق ، فقالت : اين تذهب يا عبد اللّه؟ لكَ مِثلُ الإبل الّتي نحِرَت عنك ، وقعْ عليَّ الآن.

فقال : أنا مع أبي ولا استطيع خلافه وفراقه!! (1).

ثم تزوج « عبد اللّه » بآمنة في نفس ذلك اليوم ، وقضى معها ليلة واحدة.

ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة « الخثعمية » الّتي عرضت نفسها عليه ، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها ، ولكن « الخثعمية » قالت له : ليس لي بك اليوم حاجة ، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك أمس!! (2).

وقيل : إنه لمّا عرضت تلك المرأة « الخثعمية » على « عبد اللّه » ما عرضت أجابها « عبد اللّه » بالبداهة ببيتين من الشعر هما :

أمّا الحَرامُ فالمماتُ دُونَهُ *** وَالحِلُّ لاحلٌ فاستبينهُ

فكيفَ بالأَمر الّذي تبغِينَهُ *** يحمي الكريمُ عرضَه ودينَهُ

ص: 192


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 5.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 156 النصّ والهامش.

ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة ، واقامته عندها حتّى دعته نفسُه إلى ان يأتي الخثعمية ، وعرض نفسه عليها قائلا : هل لك فيما كنت اردت؟ فقالت : لقد رأيت في وجهك نوراً فاردت ان يكون لي فابى اللّه الاّ أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي؟

قال : زوَّجني أبي « آمنة بنت وهب »!! (1).

علائم الإختلاق في هذه القصة!

لقد غَفل مختلِقُ هذه القصة عن اُمور كثيرة عند صياغته لها ، ولم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها.

فلو كان يكتفي بالقول - مثلا - بان « فاطمة » صادفت « عبد اللّه » ذات يوم في زقاق من الأزقة ، أو سوق من الاسواق ، وشاهدت نورَ النبيّ ساطعاً من طلعته ففكرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان من الممكن التصديق بهذه القصة ، بيدَ أن نصَ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية :

1 - ان هذه القصة تفيد أنَّ المرأة « الخثعمية » عند ما عرضت نفسها على « عبد اللّه » ، كانت يد « عبد اللّه » في يد والده « عبد المطلب » ، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسَها عليه وتبين مطلوبها له ويدور بينهما ما يدور ، ولا يحسُ عليهما عبد المطلب؟!

ثم الم تستحِ من عظيم قريش « عبد المطلب » الّذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتّى مقتلُ ولده وذبحه.

ولو قلنا أن مطلبها كان حلالاً مشروعاً فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما « عبد اللّه » طلبها.

2 - والأصعب من ذلك قصة عبد اللّه نفسه. فان ولداً مثل « عبد اللّه » يحترم والده إلى درجة الاستعداد لأن يُذْبَحَ وفاءً لنذر والده ، كيف يمكن أن يتفوّه في

ص: 193


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 ، والكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.

حضرة والده بما نُقِلَ عنه؟!

ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف والذبح ، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة ، أو يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه؟!! ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف ، لا تقدّر الاحوال ، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها ، أو أنَّ مختلق هذه القصة غَفل عن نقاط الضعف البارزة هذه؟!!

ثم إن ممّا يفضح هذه القصة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها ، فان عبد اللّه - كما لا حظنا جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الّذي يأتي على دين الرجل وشرفه ، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء ، والرغبات الرخيصة الفاسدة ، والحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال ، وتدفعه غريزته الجنسية إلى ان يبادر إلى بيت المرأة الخثعمية.

إنَّ ماجابَه به « عبد اللّه » دعوة تلك المرأة ، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة ، والإباء ، لخيرُ دليل على طهارة « عبد اللّه » وعفته ، وتقواه ، وترفعه عن الآثام والادران ، وابتعاده عن الانجاس والادناس.

وقد علّق الاستاذ العلامة « النجار » على هذه الاسطورة بقوله : « ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في الساعة الّتي تزوج فيها ، ودخل فيها على امرأته ».

ولكن الاستاذ « النجار » أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين « عبد اللّه » حيث قال معقباً على كلامه السابق : « ولكنها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كله » (1).

فان ذلك ممّا رواه جميع المؤرخين بلا استثناء ، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه!

ص: 194


1- هامش الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 4.
طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات :

وينبغي هنا - وبالمناسبة - ان نشير إلى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم ألا وهي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الامّهات وفسادهن فلا يكون في اجداده وجدّاته سفاح ، وزنا.

وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ، بعد ان دلّ عليه العقل إذ لو لم يكن النبيّ منزها عن دناءة الاباء وعهر الامّهات لتنفر عنه الطباع ولم يرغب احد في متابعته ، والانقياد لاوامره ونواهيه.

ولقد صرح رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك في احاديث رواها السنة والشيعة.

فقد جاء عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال :

« نقلت من الاصلاب الطاهرة إلى الارحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً » (1).

وجاء ايضاً انه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال :

« لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة » (2).

وقال الإمام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام :

« وأشهد اَنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلقَ فرقتين جعله في خيرهما لم يسهِم فيه عاهرٌ ، ولا ضربَ فيه فاجرٌ » (3).

وقال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى : « وتقلّبَكَ في السَّاجِدينَ » : (4)

« في أصلاب النبيّين ، نَبي بعد نبي ، حتّى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم » (5).

وقد صرح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر ، واشترطوه في النبيّ.

ص: 195


1- كنز الفوائد : ج 1 ، ص 164.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 43.
3- نهج البلاغة : الخطبة 215 ، طبعة عبده.
4- الشعراء : 219.
5- تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

قال المحقق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد : ويجب في النبيّ العصمة ... وعدم السهو ، وكل ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر الاُمّهات ... (1).

وقد وافقه على هذا العلامة القوشجي الاشعري في شرح التجريد (2).

وقال العلامة المتكلم المقداد السيوري في اللوامع الالهية : ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه دنيّ ولا عاهر (3).

وفاةُ عَبْد اللّه في « يَثْرب » :

لقد بَدَأ « عبدُ اللّه » بالزواج فصلا جديداً في حياته ، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة والكمال هي زوجته الطاهرة « آمنة » وبعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية - وبصحبة قافلة - إلى الشام بهدف التجارة.

دقت أجراسُ الرحيل ، وتحركت القافلة التجارية وفيها عبد اللّه ، وبدأت رحلتها من « مكة » صوب الشام ، وهي مشدودة بمئات القلوب والافئدة.

وكانت « آمنة » تمر في هذه الايام بفترة الحمل ، فقد حملت من زوجها « عبد اللّه ».

وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها ، وخرج جمع كبير من أهل مكة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.ها هو والد « عبد اللّه » ينتظر - في المنتظرين - ابنه « عبد اللّه » ، كما ان عيون عروسة ولده « آمنة » هي الاُخرى تدور هنا وهناك تتصفح الوجوه وتبحث عن زوجها الحبيب « عبد اللّه » في شوق لا يوصف.

ص: 196


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.
2- راجع : شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد : ص 359.
3- اللوامع الالهية : ص 311.

ولكن ومع الأسف لا يجدان أثراً من « عبد اللّه » بين رجال القافلة!!

وبعد التحقيق يتبين أن « عبد اللّه » قد تمرّض أثناء عودته في يثرب ، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلا ، فاذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في « مكة ».

وكان من الطبيعي أن يغتم هذان المنتظران « عبد المطلب وآمنة » لهذا النبأ ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن ، والقلق وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والاسف.

فأمرَ « عبدُ المطّلب » اكبر ولده : « الحارث » إلى أن يتوجَّه إلى « يثرب » ، ويصطحب معه « عبد اللّه » إلى مكة.

ولكنه عند ما دخل يثرب عرف بأن أخاه : « عبد اللّه » قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد ، فعاد الحارث إلى مكة ، فاخبر والده « عبد المطلب » ، وكذا زوجته العزيزة « آمنة » بذلك ، ولم يخلف « عبد اللّه » من المال سوى خمسة من الابل ، وقطيع من الغنم ، وجارية تدعى « اُم أيمن » صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم (1).

ص: 197


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 7 و 8 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 50.

ص: 198

5

مَولدُ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم

اشارة

كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية ، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة ، والحروبُ الداميةُ ، والنهبُ والسلبُ ، ووأدُ البنات ، وقتلُ الاولاد ، كلَ فضيلة أخلاقية. في البيئة العربية وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء ، ليس بينهم وبين الموت الاّ غشاء رقيق ومسافة قصيرة!!

في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس السعادة والحياة فاضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس ، وذلك عندما اشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم وبهذا تهيأَت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل ، والتخلف ، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فانه لم يمض زمن طويل الاّ وملأ نور هذا الوليد المبارك ارجاء العالم واسس حضارة انسانية عظمى في كل المعمورة.

فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء :

ان جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمل ، وقمينة بالمطالعة ، فربما تبلغ العظمة في شخصية احدهم من السعة ، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياته

ص: 199

بدء من الطفولة ، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.

إن جميع الأدوار ، والفترات في حياة العظماء ، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية ، وروّاد الحضارات الإنسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب.

إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات ، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار ، زاخرة بالعجائب.

فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنهما كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة ، والمعجزة.

ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء والرسل اسهل من ذلك بكثير ، وكثير.

إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليه السلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار ، فهو يقول ما خلاصته : ان مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بامرْ من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.

ولكن ارادة اللّه شاءت ان يُولد الكليم ، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز اعداؤه عن القضاء عليه أو الحاق الاذى به فحسب ، بل تربى في بيت فرعون أعدى اعدائه.

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : « وَلَقد مَننّا عَلَيْكَ مَرّة اُخرى إذْ أَوْحَيْنا إلى اُمِّكَ ما يُوحَى أَن أقذفيهِ في التابُوت فاقذفيه في اليمَّ فَليُلْقِهِ اليمُّ بِالْساحِلَ ياخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدوُ لَهُ وَأَلقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيْني ».

ثمّ يقول : « إذْ تَمشِيْ اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجعْناكَ إلى اُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عَينُها وَلا تَحْزنْ » (1).

ص: 200


1- طه : 37 - 40.

ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة المسيح ، ويصور طفولته ونشأته بشكل أعجب إذ يقول : « وَاذْكُر في الكتاب مرَيَم إذ اْنتَبذَتْ مِنْ أهلهَا مَكاناً شَرْقيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَاباً فأَرسَلْنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَها بَشَراً سَويّاً. قالَت إنّي أعُوذُ بالرَّحْمن مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيّاً قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهبَ لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالَت أَنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنجعلَهُ آية لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكانَ أمْراً مَقْضِيّاً. فَحَملَتْهُ فانتَبِذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيّاً. فاَجاءها الَمخاضُ إلى جِذْع النَخلة قالَت يالَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنادَاهَا مِنْ تَحْتِها ألا تحزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحتَكِ سَريّاً. وَهُزِّي إلَيْكِ بِجذْع النَخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطباً جَنيّاً. فَكُلي واْشرَبي وَقَرّي عَيْناً فَإمّا ترينَّ مِنَ البَشَر أحداً فقُولي إنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ اُكلِّمَ الْيَوْمَ إنسِيّاً. فَأتتْ بهِ قَوْمَها تَحمِلُه قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئاً فَريّاً. يا اُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ سَوء وَما كانَتْ اُمُّكِ بَغِيّاً. فأشارَتْ إليْهِ قالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ في المَهْدِ صَبيّاً. قالَ إنّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعلَني نَبيّاً. وَجَعلَني مُباركاً أينَ ما كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكاة مادُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بوالِدتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَليّ يَومَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَث حَياً » (1).

فإذا كان أتباع القرآن والتوراة والانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولي العزم لموسى وعيسى عليهما السلام ، ويقرون بصدقها ، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام ، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك ، ونعتبرها اُموراً سطحية لا تدل على شيء.

فنحن نقرأ في الكتب التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة

ص: 201


1- مريم : 16 - 33.

يوم ولادة النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل : ارتجاس أيوان كسرى ، وسقوط اربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد ، وانجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخروج نور معه صلى اللّه عليه وآله وسلم اضاء مساحة واسعة من الجزيرة ، والرؤيا المخيفة الّتي رآها انوشيروان ومؤبدوه ، وولادة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مختوناً مقطوع السُرّة ، وهو يقول : « أللّه اكبر ، والحمدُ للّه كثيراً ، سُبحان اللّه بكرة وأصيلا ».

وقد وردت جميع هذه الامور في المصادر التاريخية الأُولى ، والجوامع الحديثية المعتبرة (1).

ومع ملاحظة ما ورد في حق موسى وعيسى ونقلنا بعضه هنا ، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث.

نعم ينبغي أن نسأل هنا : ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟

وفي الاجابة على هذا السؤال يجب ان نقول :

إن هذه الحوادث الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين :

الأول : أن تدفع بالجبابرة ، والوثنيين وعَبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم : لماذا انطفأت نيرانُهم الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السَدنة والكهنة؟

لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان ، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟

لماذا تهاوت الاصنامُ المنصوبة في الكعبة وحولها ، وانكبَّت على وجودهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم يصبها شيء ابداً؟

لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد ... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية

ص: 202


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 5 ، بحار الأنوار : ج 15 ، ص 248 - 331 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 67 - 78 وغيرها.

واندحارها؟

الثاني : ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم ، وانه ليس وليداً عادياً ، فهو كغيره من الانبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة ، والوقائع الغريبة ، كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الانبياء - كما عرفت - وتخبر بها تواريخ الشعوب والملل المسيحية واليهودية.

واساساً لا يلزم ان تكون تلك الحوادث سبباً للعبرة ووسيلة للاتعاظ يوم وقوعها ، بل يكفي ان تقع حادثة في احدى السنين ، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة ، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من هذه المقولة ، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اُولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية ، والظلم ، والانحراف الاخلاقي حتّى قمة رؤوسهم ، وعشعشت الجهالة والغفلة في اعماقهم حتّى النخاع.

إن الذين عاشوا في عصر الرسالة ، أو من اتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض - بكل قواه - ضدّ الوثنية ، والظلم ، ثم يطالعون سوابقه ، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته ، فانهم ولا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلا على صحة دعواه ، وصدق مقاله فيصدِّقونه ، وينضوون تحت لوائه.

إن وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الانبياء مثل « إبراهيم » و « موسى » و « المسيح » و « محمَّد » صلّى اللّه عليه وعليهم اجمعين لا يقل اهمية عن وقوعها في عصر رسالتهم ونبوتهم ، فهي جميعاً تنبع من اللُطف الالهي ، وتتحقق لهداية البشرية ، وجذبها إلى دعوة سفرائه ورسله. في أيّ يوم وُلدَ رَسُولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟

لقد اتّفق عامّة كُتّاب السيرة على أن ولادة النبيِّ الكريم كانت في عام الفيل سنة 570 ميلادية.

لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رحل إلى ربه عام (632) ميلادية عن (62)

ص: 203

أو (63) عاماً ، وعلى هذا الأساس تكون ولادته المباركة قد وقعت في سنة (570) ميلادية تقريباً.

كما أنّ اكثر المحدثين والمؤرخين يتفقون على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولدَ في شهر ربيع الأول.

انما وقع الخلاف في يوم ميلاده ، والمشهور بين محدثي الشيعة أنه كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول بعد طلوع الفجر.

والمشهور بين أهل السنة أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وُلدَ في يوم الاثنين الثاني عشر من ذلك الشهر(1).

أيُّ هذين القولين هو الصحيح؟

ان من المؤسف جداً أن يعاني التقويم الدقيق لميلاد رسول الإسلام العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم ووفاته بل مواليد ووفيات اكثر قادتنا وائمتنا لمثل هذا الارتباك ، وان لا تكون اوقاتها وتواريخها محددةً معلومة على وجه التحقيق واليقين!.

ولقد تسبب هذا الارتباك في أن لا تستند اكثر احتفالاتنا ومآتمنا إلى تاريخ قطعي ، في حين نجد أن علماء الإسلام كانوا يهتمون - عادة بتسجيل الوقائع الّتي حدثت على مدار القرون الإسلامية في نظم خاص وعناية كبيرة ، ولكننا لا ندري ما الّذي منع من تسجيل مواليد هذه الشخصيات العظيمة ووفياتهم على نحو دقيق ، وصورة قطعية؟!

على أن مثل هذه المشكلة يمكن حلها بدرجة كبيرة بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام ، فان اي مؤرخ لو أراد ان يكتب عن حياة شخصيّة من الشخصيات واراد أن يُلمّ بكل تفاصيلها ودقائقها لم يسمح لنفسه بان يفعل ذلك من دون ان يراجع ابناء أو اقرباء تلك الشخصية الّتي يزمع ترجمتها والكتابة عنها.

ص: 204


1- وقد ذكر المقريزي في « الامتناع » ص 3 جميع الاقوال المذكورة في يوم ميلاد النبي وشهره وعامه ، فراجع.

ولقد مضى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخلّف من بعده ذرية وقربى وهم الذين يطلق عليهم اهل البيت.

واهل بيته يقولون : لو كان صحيحاً وحقا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أبونا وجدنا ، وقد نشأنا في بيته وترعرعنا في حجره فاننا نقول انه قد ولد يوم كذا وتوفي يوم كذا فهل يبقى بعد ذلك مجال لأن نتجاهل قولهم ورأيهم ، ونختار ما يقوله الآخرون من الأبعدين ، وقديماً قالوا : أهل البيت ادرى بما في البيت؟ (1).

فَتْرَةُ الحَمْل :

المعروفُ أن النورَ النبويَ الشريف استتقر في رحم آمنة - الطاهر في ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة (2) ، ولكن هذا الامر لا ينسجم مع الرأي المشهور بين عامة المؤرخين من كون ولادة النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم في شهر ربيع الأول ، إذ في هذه الصورة يجب ان نعتبر مدة حمل « آمنة » به صلى اللّه عليه وآله وسلم إما ثلاثة أشهر واما سنة وثلاثة اشهر ، وكلا الامرين خارجان عن الموازين العادية في الحمل ، كما أنه لم يعدّهُ احدٌ من خصائص النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم (3).

ولقد عالَج المحققُ الكبير الشهيد الثاني ( 911 - 966 ه- ) هذا الإشكال بالنحو التالي إذ قال :

إنَ ذلك مبنيّ عَلى النسيُّ الّذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ، وقد نهى اللّه تعالى عنه ، وقال : « إنَّما النسيُّ زيادَةٌ في الكُفْر ».

وتوضيح هذا هو أن أبناء « إسماعيل » كانوا تبعاً لاسلافهم يؤدون مناسك الحج في شهر ذي الحجة ، ولكنهم رأوا - في ما بعد - أن يحجّوا في كل شهر عامين

ص: 205


1- ومن هنا لابد من الاعتراف بان ما ينقله ويكتبه الامامية من تفاصيل تتعلق بحياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هي اقرب من غيرها إلى الحقيقة لأنها مأخوذة عن اقربائه وابنائه عليهم السلام.
2- الكافي : ج 1 ، ص 439 أبواب التاريخ باب مولد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ووفاته.
3- قد ذكر الطريحي فقط في مجمع البحرين في مادة شرق قولا بهذا لم يُسم قائله.

يعنى ان يحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وفي صفر عامين وهكذا.

وهذا يعني أن الحج يعود كل اربعة وعشرين سنة في موضعه الطبيعي ( اي شهر ذي الحجة ).

وقد جرى العربُ المشركونَ على هذه الطريقة حتّى صادفت أيامُ الحج شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية فحج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في تلك السنة حجة الوداع ، فنهى في خطبة له عن هذه الفعلة ( الّتي تسمى بالنسيء بمعنى تأخير الحج عن موضعه وموعده ) فقال : « ألا وَإنَّ الزَّمان قد استَدارَ كَهيئتهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنة إثنا عشَرَ شَهراً ، مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلاثٌ مَتوالِياتٌ : ذوالقعدة وذوالحجة ، ومحرَّم ، ورجَب الّذي بَين جمادي وشعبان » (1).

وقد أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك أن الأشهر الحرم رجَعت إلى مواضعها ، وعاد الحُج إلى ذي الحجة وبَطل النسيء.

ونزل في هذه المناسبة قولُ اللّه تعالى : « إنَّما النسيء زيادَةٌ في الكُفْر يُضَلُّ بِهِ الذَّينَ كَفَرُوا يُحلُّونَهُ عاماً ويحرِّمُونهُ عاماً » (2).

من هنا تنتقل أيامُ التشريق كلَ سنتين من مواضعها ، على ما عرفت ، وحينئذ لا منافاة بين القول بأن نور النبيّ انتقل إلى رحم اُمه « آمنة بنت وهب » في ايام التشريق ، وبين ما اجمع عليه عامة المؤرخين من أنه وُلدَ في شهر ربيع الأول. وانما تكون المنافاة بين هذين الامرين إذا كان المراد من ايام التشريق هو اليومُ الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر من شهر ذي الحجة خاصة ، ولكن قلنا ان ايام التشريق كانت تنتقل من شهر إلى آخر باستمرار ، فيلزم أن يكون عام حمل اُمّه به ، وعام ولادته أيام الحج الواقعة في شهر جمادي الاولى ، وحيث أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وُلدَ في شهر ربيع الأَول فتكون مدَة حمل « آمنة » به عشرة أشهر تقريباً.

ص: 206


1- مجمع البيان : ج 5 ، ص 29.
2- التوبة : 37.

مُؤاخَذاتٌ وإشكالاتٌ عَلى هذا البَيان :

إن النتيجة الّتي توصّل اليها المرحومُ « الشهيد الثاني » ليست صحيحة ، كما أن المعنى الّذي ذكره للنسيء لم يقل به من بين المفسرين إلا مجاهد ، واما الآخرون فقد فسَّروهُ بنحو آخر فلا يكون التفسيرُ الّذي مَرَّ قوياً ، وذلك :

اوّلاً : لأن « مكة » كانت مركزاً لجميع الاجتماعات كما كانت معبداً للعرب جميعاً ، ولا يخفى أنَّ تغيير الحج في كل سنتين مرةً واحدةً من شأنه أن يسبب الالتباسَ لدى الناس ويوقعهم في الخطأ والاشتباه ، وبالتالي يتعرّض ذلك الاجتماع العظيم ، وتلك العبادة الجماعية إلى خطر الزوال.

ولهذا يُستَبعد ان ترضى قريش والمكيّون بان يخضع ما هو وسيلة لعزتهم وافتخارهم للتغيير والتبدل الّذي من عواقبه ان يتعرض وقته وموعده للنسيان ، فيذهب ذلك الإجتماع ، ويزول من الاساس.

ثانياً : إذا أخضَعنا ما قاله « الشهيد الثاني » لمحاسبة دقيقة فان كلامه يستلزم ان تكون ايام التشريق والحج في السنة التاسعة من الهجرة واقعة في شهر ذي القعدة لا جمادي الاولى في حين أن اميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام كُلِّفَ في هذه السنة بالذات بأن يقرأَ سورة البراءة على المشركين في ايام الحج ، والمفسرون والمحدثون متفقون على أنه عليه السلام تلاها عليهم في العاشر من شهر ذي الحجة ثم امهلهم اربعة اشهر ابتداء من شهر ذي الحجة لا ذي القعدة (1).

ثالثاً : ان النسيء يعني أنَّ العرب حيث لم يكن لديهم مصدر صحيح للرزق بل كانوا يعيشون في الاغلب ، على النهب والغارة لهذا كان من الصعب عليهم ترك الحرب ، في الاشهر الحرم الثلاث ( وهي ذوالقعدة وذوالحجة ، والمحرم ) لهذا ربما طلبوا من سدَنة الكعبة بأن يسمحوا لهم بالقتال في شهر المحرم ، ثم يتركون

ص: 207


1- ولقد قام العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج 15 ، ص 253 بهذه المحاسبة ، وان لم يشر إلى الإشكال الّذي أوردناه فليراجع.

الحرب في شهر صفر ، وهذا هو معنى النسيء فلم يكن نسيء وتأخير للشهر الحرام في غير شهر محرَّم ، وفي الآية نفسها اشارةٌ إلى هذا المطلب : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحرِّمُونَهُ عاماً ».

والّذي نراه في حل هذه المشكلة هو : أن العرب كانوا يحجُّون في وقتين : أحدهما شهر ذي الحجة ، والثاني شهر رجب ، وقد كانوا يؤدُّون كلَ مناسك الحج في هذين الوقتين على السواء ، فيمكن أن يكون المقصودُ من حَمْل « آمنة » برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ايام التشريق هو شهر رجب فإذا اعتبرنا يوم ولادته هو السابع عشر من شهر ربيع الاول كانت مدة حمل « آمنة » به ثمانية أشهر واياماً.

الاحتفال بذكرى المولد النبوي :

وينبغي ان يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ويقيموا المهرجانات الكبرى في هذه المناسبة الشريفة الّتي كانت مبدأ الخير والبركة ، ومنشأ السعادة والكرامة للبشرية جمعاء ، وأية مناسبة احرى بالاحتفال والاحتفاء من هذ المناسبة؟

على ان اقامة مثل هذه الاحتفالات هو نوع من تكريم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو امر مطلوب ومحبوب في الشريعة المقدسة.

فقد قال اللّه تعالى : « فالَّذين آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصروُه واتّبعُوا النُورَ الَّذي اُنزِل مَعَهُ اُولئكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ » (1).

وعزّر بمعنى كرَّم وبجّل كما في اللغة (2) وهو لا يختص بزمان دون زمان ، فعلى المسلمين في كل وقت وزمان ان يعظّموا شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويكرّمونه ، سواء في حياته أو بعد مماته ، لما له من فضل عظيم على الناس ، ولما

ص: 208


1- الأعراف : 157.
2- راجع مفردات الراغب : مادّة عزر.

له من منزلة عند اللّه تعالى.

كيف لا والاحتفال بميلاده لا يعني سوى ذكر أخلاقه العظيمة ، وسجاياه النبيلة ، والاشادة بشرفه وفضله وهي اُمور مدحه القرآن الكريم بها إذ قال سبحانه : « وإنّك لَعلى خُلُق عظيم » (1) وقال تعالى أيضاً : « ورَفعنا لك ذكرك » (2) وغير ذلك من الآيات المادحة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

فان الاحتفال بميلاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي يتحقق بذكر صفاته وأخلاقه والاشادة به خير مصداق لرفع ذكره ، الّذي فَعلهُ اللّه بنحومّا.

ولو كان رفع ذكر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أمراً غير جائز ولا صحيح ، بل فعلا قبيحاً لما فعله اللّه ، فيكفي في حسنه وصحته بل ومشروعيته ومطلوبيته ان اللّه تعالى فعله بالنسبة لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وهل يكون الاحتفال بمولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، واظهار السرور والشكر للّه تعالى بمقدم نبيه المبارك عبادة للنبيّ كما يزعم البعض إذ يقول :

« الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (3).

والحال ان العبادة في مفهومها الاصطلاحي الموجب للشرك والكفر ليس إلاّ الخضوع لمن يُعتَقَدْ بالوهيته وتعظيمه بهذه النية (4) واين هذا من ذكر فضائل النبي في يوم مولده والابتهاج بمقدمه والشكر للّه على ولادته.

ثم ان تعظيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينطلق من كونه عبداً مطيعاً للّه تعالى ، ادى رسالته بصدق واخلاص ، وجسّد بسلوكه وسيرته كل مكارم الاخلاق اصدق تجسيد فالاحتفال بمولده الكريم احتفال بالقيم السامية ، وشكر للّه على منّه ، واظهار للحب الكامن في النفوس ليس إلاّ.

والزعم بانه محرّم لكونه بدعة ، أو لأنه لا يخلو عن اشتماله على منكرات

ص: 209


1- القلم : 4.
2- الانشراح : 4.
3- فتح المجيد : ص 154 ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.
4- راجع مفاهيم القرآن في معالم التوحيد : ص 404 - 440.

ومحرمات كالرقص والغناء فهو مرفوض ، مردود لان الكلام انما هو حول اصل الاحتفال مجرداً عن المحرمات والمنكرات.

ان الاحتفاء والاحتفال بمولد خاتم النبيين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انما هو تكريم لمن كرّمه اللّه تعالى ، وامر بتكريمه ، وحث على احترامه وحبه ، ومودته ، وانه بالتالي اداء شكر للّه تعالى على تلك الموهبة العظيمة ، وتلك العطيّة المباركة حيث مَنّ سبحانه على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة بأن شرف الارض بمولد عظيم نعمت الارض ببركة شخصيته وخلقه ، واشرقت بنور رسالته ودعوته ، فاية نعمة ترى اولى بالشكر من هذه ، واي شكر اجمل وافضل من الأحتفاء بمولد هذا النبيّ العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وذكر فضائله ، ومناقبه ، للتعرف عليها ، والاقتداء بها ، وتشديد الحب له بسببها ، والابتهال إلى اللّه في يوم ميلاده ، وطلب التوفيق الالهي لمتابعته ، والسير على نهجه ، والدفاع عن رسالته ، والذبّ دون دينه ، بعد الشكر للّه تعالى على موهبته هذه؟؟

هذا ولقد درج المسلمون في العصور الإسلامية الاولى على الاحتفال بذكرى المولد النبوّي وأنشأوا القصائد الرائعة في مدحه ، وذكر خصاله ومكارم اخلاقه ، واظهروا السرور بمولده والشكر للّه تعالى بلطفه ، وتفضله به صلى اللّه عليه وآله وسلم على البشرية.

قال الإمام الدياربكري في تاريخ الخميس في هذا الصدد :

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ويعملون الولائم ، ويتصدقون في لياليه بانواع الصدقات ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقرائة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم (1).

اجل ينبغي على المسلمين ان يحتفلوا بمقدم نبيهم الكريم ولا يعبأوا بما قاله البعض حيث قال : « الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الاولياء هي نوع من

ص: 210


1- تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 223 نقلا عن المواهب اللدنية : ج 1 ، ص 27 للقسطلاني.

العبادة لهم وتعظيمهم » (1).

فهذا القول مغالطة صريحة ، ان لم يكن نابعاً عن الغفلة والجهل بعد ان تبين حقيقة الاحتفال واقامة الذكريات احتفاء بالمولد النبويّ (2).

مَراسمُ تسمية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

حلَّ اليومُ السابعُ من الميلاد المبارك ، فعقَّ عبد المطلب عن النبيّ بكبش شكراً للّه تعالى ودعا جماعة ليشتركوا في الاحتفال الّذي حضرهُ عامة قريش لتسمية النبيّ ، وسمّاه « محمَّداً » ، وعندما سألوه عما حَمله على أن يسمي هذا الوليد المبارك « محمَّداً » وهو اسم لم يعرفه العرب الا نادراً أجاب قائلا : أردتُ أن يحمَد في السماء والأَرض (3).

وإلى ذلك يشير حسان بن ثابت بقوله :

فَشقَّ لَهُ مِنْ إسُمهِ لِيُجلَّهُ *** فَذُفاء والعَرْشَ مَحْمُودٌ وَهذا محمَّدُ (4)

ومن المسلّم أن هذا الإختيار لم يكن ليتم من دون دخالة للإلهام الالهي ، لأَن اسم « محمَّد » وإن كان موجوداً عند العرب إلاّ أنه قَلّ من كان قد تسمى بهذا الإسم ، فحسب ما استقصاه بعضُ المؤرخين لم يتسَم به إلى ذلك اليوم من العرب الاستة عشر شخصاً كما يقول شاعرهم :

إنَ الذينَ سَمُوا باسم محمدٍ *** مِنْ قَبلِ خير الخَلقِ ضِعف ثمان (5)

ولا يخفى أن نُدرة المصاديق لأي لفظ من الالفاظ أو اسم من الأسماء من شأنِها أن تقلّل فرص الاشتباه فيه ، وحيث أن الكتب السماوية كانت قد أخبرتْ عن إسم النبي الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم وصفاته ، وعلائمه الرُوحية والجسمية ، لذلك يجب أن تكون علائمُه صلى اللّه عليه وآله وسلم واضحةً جداً جداً

ص: 211


1- هوامش الفتح المجيد.
2- راجع للتوسّع : معالم التوحيد في القرآن الكريم.
3- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.
4- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 120 ، والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 78 و 79.
5- السيرةُ الحلبية : ج 1 ، ص 82 ثمّ يذكر صاحب السيرة اولئك الأشخاص في بيتين آخرين.

حتّى لا يتطرق إليها التباسٌ أو اشتباهٌ ، وقد كان من علائمه صلى اللّه عليه وآله وسلم اسمُه الشريف ، فيجب أن تكون مصاديقُها قليلة جداً حتّى يزيل ذلك أي عروض للشك والترديد في تشخيص النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم خاصة إذا ضمَّتْ إليه بقية أوصافِه وعلائِمهِ ، وخصوصياته.

خَطأ الْمُستَشْرقينْ :

لقد ذكر القرآنُ الكريمُ اسمين أو عدة أسماء للنبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ففي سورة آل عمران ومحمَّد والأحزاب والفتح في الآيات 144 و 2 و 40 و 29 (1) سماه « محمَّداً » (2).

وفي سورة الصف الآية 6 (3) دعاه « أحمد ».

والعلةُ في تسميته بهذين الإسمين أن امّهُ « آمنة » سمّته « أحمداً » قبل أن يسميه جده ، كما هو مذكور في التاريخ.

وعلى هذا فانَ ما ذكرهُ بعضُ المستشرقين - في معرض الإعتراض - بأن الإنجيل - حسب تصريح القرآن الكريم في سورة الصف الآية 6 - بشَّر بنبي اسمُه « أحمد » لا « محمَّد » كلامٌ لا اساسَ له ولا مبرر ، لأن القرآن الكريم الّذي سمى نبيّنا ب « أحمد » سماه في عدة مواضع ب « محمَّد » فإذا كان المصدر في تعيين اسم النبي هو : القرآن الكريم ، فان القرآن سَمّاه بكلا الاسمين ، في موضع باسم

ص: 212


1- يعتقد البعضُ أنّ هذا ليس اسماً للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بل هو من الحروف المقطعة في القرآن.
2- قال تعالى : « وَما مُحمَّدٌ إلا رَسولٌ قَد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ». وقال تعالى : « والَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحمَّد ». وقال سبحانه : « ما كانَ مُحمَّد أبا أحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللّه وَخاتَمَ النَّبيّين ». وقال عزّ وجلّ : « مُحمَّدٌ رَسُولُ اللّه والَّذينَ مَعهُ أشدّاء عَلى الكُفّار رُحماء بَيْنَهُمْ ».
3- إذ قال سبحانه : « وَمُبَشِّراً بِرَسُول مِنْ بَعْدِيْ اسمُهُ أَحمَد ».

« محمَّد » ، وفي موضع آخر باسم « احمد ».

« أحمد » كانَ مِنْ أسماء النبيّ المشهورة :

كلُّ من كان له ادنى إلمام بتاريخ النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم عَلِمَ أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يُدعى بإسمين في الناس منذ صغره أحدهما : « محمَّد » الّذي سَمّاه به جَدُه « عبد المطلب » ، والآخر « أحمد » الّذي سمته به اُمه « آمنة ».

وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الإسلامي ، وقد روى المؤرخون هذا الأمر ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأه في السيرة الحلبية (1).

ولقد أنشأ عمُّه « أبو طالب » ، الّذي اُنيطَت إليه كفالته بعد وفاة عبد المطلب ، فبقي يقوم بهذه المهمة طوال اثنين وأربعين عاماً بكل حرص ورغبة ، ولم يمتنع في هذا السبيل عن بذل كل ما استطاع من غال ورخيص انشأ في ابن أخيه أبياتاً سمّاه في بعضها « محمَّد » وفي بعضها الآخر « أحمد » ، وهذا يكشف عن انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان معروفاً آنذاك بكلا الاسمين.

واليك فيما يأتي بعض هذه الأبيات الّتي سَمى فيها « أبو طالب » النبيَ باسم احمد :

1 - إنْ يكُنْ ما أتى بهِ أحمدُ اليومَ *** سَناءً وكانَ في الحشر ديناً

2 - وقولُه لأحمد أنتَ اْمرءٌ *** خَلُوفُ الحديث ضَعيف النُسبْ

3 - وإن كانَ أحمدُ قد جاءهم *** بحقٍ ولم يَأتِهمْ بالكَذِبْ

4 - أرادُوا قَتْل أحمد ظالموه *** وَليس بقتلهم فيهم زعيم

5 - ألا إنَّ خيرَ الناس نفْساً ووالداً *** إذا عُدَّ ساداتُ البرية أحمدُ

6 - فَلسْنا وبيتُ اللّه نسلم أحمداً *** لِعزّاء من عض الزمان ولا كرب (2)

وقد سمى « أبو طالب » النبيَ صلى اللّه عليه وآله وسلم في ابيات اخرى بأحمد

ص: 213


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 82 و 83.
2- ديوان أبي طالب عليه السلام.

أيضاً قد ذكرها كبار المحققين من المؤرخين والمحدثين ونسبوها إلى أبي طالب ولكنها غير موجودة في ديوانه (1).

كما وأنه قد سَمّاه غيرُ ابي طالب في أبياته بأحمد ممّا يدل على أنه كان مشتهراً بهذا الاسم في ذلك الزمان ، وتلك الابيات كثيرة تفوق حدّ الحصر والاحصاء لكنّنا ننقل نماذج منها هنا :

قال حسان بن ثابت في رثائه للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :

مفجعةٌ قد شفّها فقدُ أحمد *** فظلَّت لآلاء الرسول تُعّددُ

أطالت وقوفاً تذرف العينَ جُهدها *** على طَلل القبر الّذي فيه أحمدُ(2)

وقال في رثائه أيضاً :

صَلّى الالهُ وَمنْ يُحيق بعرشهِ *** والطَّيِبُونَ عَلى المبارك احمدِ (3)

وقال في رثاء جعفر بن أبي طالب الطيّار :

فمن كان أو يكون كأحمد *** نظام الحق أو نكال لملحد (4)

وقال حَسّان وهو يذكر معجزة من معاجز النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :

ففي كَفِّ أحمدَ قد سَبَّحتْ *** عُيونٌ مِنَ الماءِ يومَ الظمأ (5)

وقال كَعبُ بن مالك :

فهذا نَبِيُّ اللّه أحمدُ سَبّحت *** صِغارُ الحصى في كَفِّه بالتَرنّم (6)

وقال « ورقة بن نوفل » يومَ أخبرتهُ خديجةُ بنزول الوحي على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :

ص: 214


1- مثل قوله : لَعمري لقد كلِفتُ وَجْداً بأحمد *** وَأحبَبْتُهُ حُب الحبيب المواصلِ زعمتْ قريشٌ أَن أحمد ساحرٌ *** كَذِبَتْ وَربّ الراقصاتِ إلى الحَرم  راجع ديوان أبي طالب ، وسيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 272 ، وشرح النهج لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 79 وغيرها.
2- ابن هشام في سيرته : ج 2 ، ص 667 و 666 ، وابن سعد في طبقاته : ج 2 ، ص 323.
3- ابن هشام في سيرته : ج 2 ، ص 667 و 666 ، وابن سعد في طبقاته : ج 2 ، ص 323.
4- شاعر عهد الرسالة : تحقيق محمَّد عزت نصر اللّه.
5- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 413 و 415.
6- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 413 و 415.

فإنْ يَكُ حَقاً يا خَديجةُ فاعلمي *** حَديثك إيانا فاحمدُ مُرسَلُ (1)

وقالت عاتكةُ بنتُ عَبدالمطلب ترثي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

يا عينُ جُودي ما بقيتِ بعبرة *** سَحّاً على خير البرية أحمدِ (2)

وقال العباسُ في مناسبة تزويج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بخديجة :

أحمدُ سَيّدُ الوَرى *** خيرُ ماشٍ وَراكِب (3)

فتْرَةُ الرِّضاع في حياة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :

لم يرتضع وليدُ قريش المبارك « محمَّد » من اُمّه سوى ثلاثة أيام ، ثم حَظِيَت بفخر إرضاعه - بعد ذلك - امرأتانُ هما :

1 - « ثويبة » مولاة « أبي لهب » ، وقد أرضعته أربعة أشهر فقط ، وكان النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم وزوجتُه الوفية : « خديجة بنت خويلد » يقدّران هذا العمل لها حتّى آخر لحظات حياتها (4).

و « ثويبة » هذه كانت قد أرضَعْتْ قبلَ ذلك « حمزة » عمَ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم و « ابا سلمة بن عبد اللّه المخزومي » أيضاً فكانوا إخوة من الرضاعة (5).

وقد بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد مَبعثه ، من يشتريها من « أبي لهب » ليعتقها فابى (6).

وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يكرمها كلما دخلت عليه ، وكان يبعث إليها بالصّلة إلى أن بلغه خبرُ وفاتها عند منصرفه من وقعة « خيبر » فسأل عن إبنها فقيل : مات قبلها ، فسْأل عن قرابتها ، فقيل : لم يبق منهم أحد (7).

2 - « حليمة السعدية » بنت ابي ذؤيب الّتي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكان أولادها عبارة عن : « عبد اللّه » ، « أنيسة » ، « شيماء » ، وقد

ص: 215


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 195.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ، ص 326.
3- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 72.
4- تاريخ الخميس في احوال انفس نفيس : ج 1 ، ص 222.
5- السيرة النبوية : ج 3 ، ص 96.
6- الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 271.
7- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 222 - 225 نقلا عن سيرة مغلطاي وغيره.

قامت آخر أولادها وهي « الشيماء » بحضانة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضاً :

وقد كان من عادة العرب يومذاك هو أن يدفعوا أولادهم الرضعاء إلى المراضع اللائي كُنَّ يَعِشنَ في البوادي لينشأوا في تلك البيئات المعروفة بطيب هوائها ، وقلة رطوبتها ، وعذوبة مائها ببنية قوية ، هذا مضافاً إلى صيانتهم عن خطر الوباء الّذي كان يهدد الأطفال في « مكة » ، ولأن ذلك كان له مدخلٌ عظيم ، وتاثيرٌ بليغ في فصاحة المولود لسلامة لغة أهل القبائل الساكنة في البوادي آنذاك.

وكانت مراضعُ بني سعد من المشهورات بهذا الأمر بين العرب ، فقد كانت نساء هذه القبيلة الّتي كانت تسكن حوالي « مكة » ونواحي الحرم يأتين « مكة » في كل عام في موسم خاص يلتمسنَ الرضَعاء ويذهبن بهم إلى بلادهنَّ حتى تتم الرضاعة.

وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد « مكة » يلتمسنَ الرضعاء في سنة جدب وقحط ، ولهذا كنَّ بحاجة شديدة إلى مساعدة أشراف « مكة » واعيانها.

ويقول بعض المؤرخين : أنه لم تقبل أيّةُ واحدة من تلك المراضع أن تأخذ « محمَّداً » بسببُ يتمه ، وقد كان اغلبهن يُردْنَ أن تأخذن من يكون له أبٌ حيٌّ حتى يُغدق عَلَيْهنَّ بالمساعدات والصّلات ، وحتّى « حليمة » هي الاُخرى أبتْ أخذَهُ ، ولكنَّها ايضاً لم تحصل على طفل لِهزال جسمها ، فاضطرت إلى أن تأخذ حفيد « عبد المطلب » وقالت لزوجها : واللّه لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنَّه ، فقال لها زوجُها : لا عليك ان تفعلي ، عسى اللّه ان يجعل لنا فيه بركة.

ولقد اصاب الزوجان في ظنّهما هذا ، فمنذ أن أبدت « حليمة » استعدادها لخدمة ذلك اليتيم شملت الالطاف الالهية كل مجالات حياتها (1).

إن القسم الأول من هذه القصة ليس سوى اسطورة ، لأن مكانة البيت

ص: 216


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 162 و 163.

الهاشمي الرفيعة ، وشخصية رجل عُرفَ بِكمال الجود والاحسان ، وبعون المحتاجين والمحرومين كانت سبباً في أن لا تعرض المرضعات عن اخذ « محمَّد » فحسب ، بل يتنازعن على اخذه ولهذا لا يكون هذا القسمُ مِنَ التاريخ سوى اسطورة تكذبها الحقائق.

واما علة عدم اعطاءه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى غير « حليمة » من المرضعات فهي : أن وليد قريش لم يقبل أيّ ثدي من أثداء تِلكم المرضعات ، ولم يزل كذلك حتّى قبلَ ثدي « حليمة السعدية » ، فسرّ بذلك « عبدُالمطلب » وأهله سروراً عظيماً ، بعد أن حزنهم امتناعُه عنهنَّ قبل ذلك (1).

قالت « حليمة » : استقبلني عبدُالمطلب فقال : من انت ، فقلت : أنا امرأة من بني سعد ، قال : ما أسمُك؟ قلتُ : حليمة ، فتبسَّم « عبد المطلب » وقال : بَخ بَخ سَعدٌ وحلْمٌ ، خصلتان فيهما خيرُ الدهر ، وعز الأبد (2).

نَظرةُ الإسلام في تأثير الرضاع :

وهنا ينبغي بالمناسبة أن نشير إلى نظرة الإسلام في تأثير الرضاع في شخصيّة الإنسان.

فقد سبق الإسلامُ العلمَ الحديثَ في الكشف عن آثار اللبن في تكوين الإنسان الخُلقي والنفْسيّ والعضوي سَلباً وإيجاباً.

ولهذا حثَّ الإسلام على استرضاع الام ، كما حث على اختيار المرضعات الصالحات ونهى عن استرضاع اليهودية والمجوسية والنصرانية والمجنونة منعاً من انتقال طباعِهنَ إلى الطفل عن طريق اللبن.

واستكمالا لهذا البحث نورد جملة من الأحاديث الّتي تصرح بهذه الحقيقة العلمية الهامة :

1 - قال اميرالمؤمنين علي عليه السلام :

ص: 217


1- بحار الأنوار : ج 15 ، ص 342 و 343.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.

« تَخَيّرُوا للرضاع كما تَخيَّرون لِلنِّكاح فانَ الرِّضاعَ يُغيّرُ الطِباعَ » (1).

2 - وعنه عليه السلام ايضاً :

« اُنظرُوا مَنْ يُرضعُ أولادكُمْ فَإنَ الوَلَد يَشُبُّ عَليهِ » (2).

3 - عن الإمام ابي جعفر الباقر عليه السلام انه قال :

« لا تَسْتَرضعُوا الحَمقاء فانَ اللبن يُعدي ، وإن الغُلامَ يَنزع إلى اللَبن ... » (3).

4 - وعنه عليه السلام ايضاً :

« استرضعْ لولَدك بِلَبنِ الحِسان وإيّاكَ وَالقِباحُ فإنَّ اللَبنَ قد يُعدي » (4).

5 - وعن علي عليه السلام انه قال :

« ما مِنْ لَبَن يَرضَعُ به الصَبيُّ أعظمُ بَركَةً عَليْه مِنْ لَبنِ اُمَّهِ » (5).

ص: 218


1- قرب الأسناد : ص 45.
2- فروع الكافي ج 2 ، ص 93.
3- وسائل الشيعة : ج 15 ، ص 188.
4- التهذيب : ج 2 ، ص 280.
5- روضة المتّقين : ج 8 ، ص 554.

6

فَتْرةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم

اشارة

إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة الّتي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلى اللّه عليه وآله وسلم وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

وينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين :

1 - الماديُّون ، وجماعة من المستشرقين : فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة ، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية ، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية ، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أية أهمية ، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية ، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال ، وممّا نسجته اَوهامُ التابعين لذلك الدين ، أو الطريقة.

وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم - حسب الظاهر - في عداد الموحِّدين ، والمؤمنين باللّه ، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب ، إلاّ أنهم - لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي ، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم - اتبعوا - لدى تحليلهم لهذه الحوادث - المنهج الماديّ ، فنحن

ص: 219

نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بانَ النبوة ما هي إلاّ نبوغٌ بشريٌّ ، وأن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيَّرة!!

ولا شك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الّذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات الذهن الانساني ، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في : مباحث « النبوَّة العامة » انَّ النبوة عطية الهية ، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات والارتباطات المعنوية ، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم ، ليست ابداً وليدة نبوغهم الإنساني ، ولا نسيجة فكرهم البشري ، وليس لها مصدر إلاّ الإلهام من الغيب ، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي إلى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية الّتي كشفت عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي ، وربما انكرها من الاساس.

2 - المؤمنون باللّه : الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر ، وأن ذلك العالم ( اي عالم التجرد وما وراء الطبيعة ) هو المنظِم لهذه الطبيعة ، وهو المدبِر لهذا الكون المادي.

وبعبارة اُخرى إن عالم المادة ليس عالماً مسيِّباً ، مستقلا عن غيره ، وان جميع الانظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبَّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا ، وبخاصة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ ، الّذي اعطى للمادة وجودها ، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها ، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنَ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية ، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات ، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده ، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير ، والتبدل.

فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه - إذا أراد - أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة ، وليس في مقدوره ذلك فقط ، بل فعلَ ذلك في جملة من الموارد

ص: 220

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

1 - لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ - بعده - الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

ص: 221

فادهش الجميع ذلك (1).

2 - وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا (2).

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ... ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً » (3).

ص: 222


1- بحار الأنوار : ج 15 ، ص 345 و 346.
2- المناقب لابن شهراشوب : ج 1 ، ص 24.
3- مريم : 24 و 25.

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم » عليها السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟ (1).

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت به صلى اللّه عليه وآله وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب (2).

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

ص: 223


1- « ... وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : 37 ).
2- بحار الأنوار : ج 15 ، ص 401.

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره (1).

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : « وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ » (2).

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر (3).

ص: 224


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.
2- الصف : 6.
3- « الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : 157 ).

7

العَوْدة إلى اَحضان العائلة

اشارة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه - وهو يسمع مواعظ اُستاذه - رأى تلميذه يرسم

ص: 225

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلى اللّه عليه وآله وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلى اللّه عليه وآله وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

ص: 226

لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) ... وارضعت في بني سعد » (1).

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه » (2).

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن (3) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

ص: 227


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 89.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 167.
3- كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه » عليه السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب « الابواء » (1).

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به (2).

ان القرآن الكريم يُذكّر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بفترة يتمه ويقول : « ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها - وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته - حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

ص: 228


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 105.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 168.

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!! (1).

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص (2) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

ص: 229


1- كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 2 ، ص 10 و 11 من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.
2- في حوادث السنة العاشرة.

صلى اللّه عليه وآله وسلم.

لقد تكَفَّل أبو طالب - ولأَسباب خاصة - رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب - مضافاً إلى العلل المشار إليها - كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً (1) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب (2) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

ص: 230


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 179 ، وامهما هي فاطمة المخزومية.
2- لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج 1 ، ص 15 طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة (1).

لقد كانت سفرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفاره صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

ص: 231


1- ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات : إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً *** عِندي يفوقُ منازل الأولاد لما تعَلّق بالزمام رحمتُه *** والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ *** مثل الجمان مُفرّق الأفراد راعيتُ فيه قرابة موصولة *** وحفَظت فيه وصية الأجداد وأمرتُه بالسير بين عمومة *** بيض الوجوه مصالت أنجاد حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا *** لاقوا على شرك من المرصاد حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً *** عنه وردّ معاشر الحُسّاد ( تاريخ ابن عساكر : ج 1 ، ص 269 - 272 وديوان ابي طالب : ص 33 - 35 ).

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه (1).

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام (2).

وربما قيل أنه تابع - بحذر شديد - سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم - في بصرى - بين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

ص: 232


1- روى تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 32 و 33 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 180 - 183 هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182 و 183.

ما أظهره رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد 28 عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلى اللّه عليه وآله وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

1 - لقد كان « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل - والحال هذه - أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها - في سن الاربعين - على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

2 - إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

ص: 233

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحب صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

3 - إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

4 - إذا كان محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات مرةْ عند

ص: 234

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : « ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ » (1).

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

5 - إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداً صلى اللّه عليه وآله وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام (2).

6 - إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

7 - يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً » صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن على علم مسبق

ص: 235


1- النحل : 103.
2- تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (44) هكذا : « وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (49) بعد نقل قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (44) من سورة « آل عمران » : « ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

اشارة

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

ص: 236

1 - داود عليه السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة (1) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!! (2).

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية 15 و 16 من سورة النمل ) : « وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ ... وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

2 - النبيّ سليمان عليه السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمان عليه السلام :

1 - « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا » (3).

أي ان سليمان النبيّ الكريم - والعياذ باللّه - هو ابن زنا!!

ص: 237


1- أي في مقدمة الجيش المحارب.
2- العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر 3 إلى 27.
3- إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول 6.

2 - وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة ... مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!! (1).

إن سليمان - حسب هذه التعابير التوراتية - يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام « ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً » (2).

ويقول : « وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين » (3).

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

3 - يعقوب عليه السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوب عليه السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

ص: 238


1- التوراة : الملوك الأول الاصحاح : 11 ، العبارات 1 : 11.

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!! (1).

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : « وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن » (الأنعام: 84).

ويقول تعالى أيضاً : « وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار » (ص: 45 - 47).

4 - إبْراهيم عليه السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيم عليه السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

ص: 239


1- سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : 1 إلى 46 ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون - في ما بعد - ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب » (1).

إن ابراهيم الخليل عليه السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

1 - حنيف مُوحِّدٌ للّه : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : 67 ).

2 - إمامُ الناس : « إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : 134 ).

3 - مُسْلِمٌ : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : 67 ).

4 - حَليمٌ : « إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : 84 ).

5 - امة كامِلَة بمفرده : « إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : 120 ).

6 - أواهٌ يَخشى اللّه : « إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : 84 ).

7 - مصطفى : « لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : 48 ).

8 - ذو قلب سَليم : « إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : 48 ).

5 - المسيح عليه السلام :

إن عيسى - حسب رواية الإنجيل - يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!! (2)

ص: 240


1- سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر 1 - 20.
2- إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : 31 - 35.

إنه يقول هذا الكلام عن اُمّه الّتي وصفها القرآن الكريم بأن اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين (1).

إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا به في قلوبهم ذرة من خردل ، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود (2) - كما يقول الانجيل - على اُمه الصدّيقة.

كما إن الانجيل يقول : إن المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس (3) بل يقول إنه عليه السلام : شرب الخمر (4) ، والحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.

هذا هو « عيسى » النبي الطاهر وحواريوه حسب رواية الانجيل!! (5).

أما القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله : « الانجيل » وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول « المسيح » عليه السلام.

قال اللّه تعالى : « وَآتينا عِيْسى بْن مَريَم البيّنات وأيَّدْناهُ برُوْح القُدُس » (البقرة : 78).

وقال تعالى أيضاً : « إنّما المسيحُ عيْسى بنُ مريم رَسُول اللّه وكلمته » (النساء : 171).

ويكفي في عظمة المسيح عليه السلام وعلو شأنه أنه عليه السلام كلَّم الناس في المهد صبياً وقال : « إنّي عَبْدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبِيّاً. وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ ما كُنْتُ وَأوْصانِي بِالصَّلاة والزّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً. وبرّاً بِوالِدَتي وَلَمْ يَجْعَلني

ص: 241


1- آل عمران : 42.
2- انجيل متّى : الاصحاح السابع والشعرون 1 - 6 انظر كيف وافق يهوذا الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح ، وأيضاً راجع نفس السفر : الاصحاح السادس والعشرين : وراجع انجيل متّى : الاصحاح العاشر أيضاً.
3- إنجيل يوحنا : الاصحاح الثاني : 1 - 11.
4- إنجيل لوقا : الاصحاح الأول 15 وغيره.
5- على أنّ خرافات التوراة والانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا ، وللتوسع راجع : أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام ، والهدى إلى دين المصطفى للعلامة البلاغي.

جَبّاراً شَقِيّاً. والسَّلامُ عَليَّ يَوْم وُلدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَومَ اُبْعَثُ حيّاً. ذلِكَ عِيْسى بْن مَرْيَم قَوْل الْحَقِّ الَّذيْ فيه يَمْترُون » (مريم : 30 - 34).

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام ، والرسل العظام ، وتلك هي مواقف « التوراة » و « الانجيل » المشينة ، المسيئة إلى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته ، فكيف يُعقل ان يكون القرآن الكريم مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين؟!

ثم لو أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلا.

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يأتي لهم بقرآن غير الّذي جاء به : « قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلوْتُهُ ولا أدْريكُمْ به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفلا تعْقِلُونَ » (1).

فالآية تؤكد على أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آياً من آياته ، فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة (2).

ص: 242


1- يونس : 16.
2- للتوسّع راجع مفاهيم القرآن : ج 3 ص 321 - 323.

8

فَترة الشَباب في حياة النبيّ الأكرم

اشارة

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان ، لايرهبون أحداً ، ولا يخافون شيئاً ، يمتلكون قوة روحية كبرى ، ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية ، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون ، وضعاف النفوس قيادة المجتمع ، والخروج به من المآزق والمشاكل ، وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو ذاك؟!

إن لعظمة القائد الروحية ، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره ، فعند ما اختار الإمام اميرُ المؤمنين عليه السلام أحدَ اصحابه المخلصين لولاية « مصر » كتب إلى أهل « مصر » المظلومين الذين ذاقوا الأَمرّين على ايدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد ، الروحية وقدرته النفسية الفائقة ، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد :

« أما بعدُ فقَد بَعثتُ اليكم عَبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف ، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع ، أشدّ على الفُجار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابقَ الحق ، فإنه سَيْفٌ مِن

ص: 243

سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظَبَّة ، ولا نابِي الضريبة » (1).

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة :

لقد كانت آثار الشجاعة ، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة ، وقبيلة هوازن من جهة اخرى ، وتدعى « حرب الفجار » ، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل.

فها هو « ابن هشام » ينقل عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : « كُنْتُ اُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ » (2).

إن مشاركته صلى اللّه عليه وآله وسلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلى اللّه عليه وآله وسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في حق النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ إتّقيْنا برَسُول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ » (3).

وسوفَ نشير - وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار والمشركين - إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار :

إنَّ الحديث بتفصيل هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة

ص: 244


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم 38.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 186 ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل يرمي » راجع مادّة نبل.
3- نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم 9.

خارج عن إطار هذه الدراسة ، بيد أننا - مع ذلك - نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال والاغارة ، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم ، واضطراب اُمورهم ، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام ( هي شهر رجب ، ذوالقعدة ، ذوالحجة ، محرم ) ليتسنى لهم - في هذه المدة - أن يقيموا أسواقهم ، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء (1).

ولهذا كانت أسواق « عكاظ » و « مجنَّة » و « ذو المجاز » تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة ، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب ، يتبايعون ، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى ، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية ، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة ، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل.

ولكنَ هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب ، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم ، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب « الفجار » ، وفي ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال :

الفِجارُ الأوَّل :

ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي « كنانة » و « هوازن » وجاء في سبب نشوب

ص: 245


1- يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة : « إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية ، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل » عليه السلام.

هذه الحرب أن رجلا يدعى « بدر بن معشر » كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق « عكاظ » يحضر فيه ، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول : أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلٌ من قبيلة اُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها ، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان ، ولكنهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ (1).

الفِجار الثّاني :

وكان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى أمرأة من « بني عامر » وهي جميلة ، عليها برقع ، فقالوا لها : إسْفري لننظر إلى وجهِك ، فلم تفعلْ ، فقام غلامٌ منهم ، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها ، فضحكوا ، فصاحت المرأة قومها ، فأتاها الناسُ ، واشتجروا حتّى كاد ان يكون قتالٌ ، ثم اصطلحوا ، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالِث :

وسببه أن رجلا من « كنانة » كان عليه دَيْنٌ لرجل من « بني عامر » ، وكان الكناني يماطل ، فوقع شجارٌ بين الرجل ، واستعدى كل واحد منهما قبيلته ، فاجتمع الناسُ ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابع :

وهي الحرب الّتي - قيل أنه - شارك فيها النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ولقد ادّعى البعض انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يومذاك في الخامسة عشرة ، أو الرابعة عشرة من عمره.

ص: 246


1- ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت ، وستعرف هذا في الابحاث القادمة.

وقال بعضٌ : انه كان في العشرين من عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة (1).

وقيل في سببه : أن « النعمان بن المنذر » ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق « عكاظ » في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب ، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة « الطائف » الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه ، فأجارها « عروة الرجال الهَوازني » في تلك السنة ، ولكن « البراض بن قيس الكناني » انزعج لمبادرة « عروة » إلى ذلك ، فشكاه عند « النعمان بن المنذر » ولم يجد اعتراضه وشكواه ، فحسد على « عروة » حسداً شديداً ، فتَربَّص به حتّى غدر به في اثناء الطريق ، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانه ، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن ، وأسرعوا في الخروج من « عكاظ » وتوجهوا نحو الحرم ( والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة ، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة ) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشاً وحليفتها فوراً ، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال ، ولما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت « قريش » وحليفتُها فرصة الليل ، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن ، وقد شارك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.

وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات ، حتّى ان وُضعَت نهاية

ص: 247


1- التاريخ الكامل : ج 1 ، ص 358 و 359 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 184 الهامش ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 259.

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن (1).

وقد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية ، وحيث أن حرب « الفجار » استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع ، خاصة انه لما سئل صلى اللّه عليه وآله وسلم عن مشهده يومئذ فقال : « ما سَرّني أنّي أَشْهدهُ ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا ( اي قريش ) عَلَيْهم ( اي على هوازن ) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ ( اي الّذي قتل عروة ) فأَبُوا » (2).

ويحتمل أن تكون مشاركته صلى اللّه عليه وآله وسلم في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة اربعة اعوام ، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعض أيام تلك الحرب.

حِلْفُ الْفُصُول :

لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف « الفُضُول » ، وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين ، وكان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل ، واسماؤهم - كما نقلها المؤرخ المعروف « عماد الدين ابن كثير » - هي عبارة عن : « فضل بن فضالة » ، و « فضل بن الحارث » ، و « فضل بن وداعة » (3) ، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف ( وهو الدفاع عن حقوق المظلومين ) مع حلف « الفضول » لذلك سمّي هذا الاتفاق

ص: 248


1- سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 184 - 187 ، الأغاني : ج 22 ، ص 56 - 75.
2- الأغاني : ج 22 ، ص 73.
3- البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290.

وهذا الحلف بحلف « الفُضول » أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من « زبيد في مكة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه « العاص بن وائل » ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً ، وطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة ، فنادى بأعلى صوته :

يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه *** بِبطن مكة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه *** يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر

إن الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه *** ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش ، وهيّجت غيرتهم ، فقام « الزُبير بن عبد المطّلب » وعزم على نصرته ، وأيّده في ذلك آخرون ، فاجتمعوا في دار « عبد اللّه بن جَدْعان » وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى « العاص بن وائل » فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعراً فقال :

إنَ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا *** ألاّ يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ

أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا *** فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ

وقال أيضاً :

حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ *** وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار

نسمّيه « الفُضُولَ » إذا عَقَدْنا *** يَعُزُّبه الغَريبُ لِذي الجوار

ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا *** اُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار (1)

وقد شارك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم ، وقد نُقِلت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل حديثين منها في

ص: 249


1- البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290.

هذا المقام.

قال صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ ».

كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف : « ما اُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ».

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه ، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة « الوليد بن عتبة » الأموي (1) على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السلام ، ويبدو أنَ « الوليد » تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط ، ولم يسكت على ظلم أبداً :

« أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي ، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول » (2).

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم « عبد اللّه بن الزبير » ، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلا : وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.

وبلغت كلمة الحسين السبط عليه السلام هذه إلى رجال آخرين ك « المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري » و « عبد الرحمان بن عثمان » فقالا مثل ما قال « ابن الزبير » ، فلما بلغ ذلك « الوليد بن عتبة » أنصف الحسين عليه السلام من حقه حتّى رضي (3).

ص: 250


1- من قبل عمّه معاوية.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132.
3- البداية والنهاية : ج 2 ، ص 293.

9

من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة

اشارة

يحمل القادة الالهيون العظماء وأصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى ، ومهام عظمى تلازم - في الأغلب - التعرض للمتاعب والمصاعب ، والعذاب ، وتحمل الأذى ، بل وربما التعرض للقتل والاغتيال ، وكلما كبرت الاهداف ، عظمت المشاكل ، والمتاعب.

وعلى هذا الاساس ، فان نجاح القادة الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتهامات والمضايقات ، وفي وجه الأذى والعذاب ، لأن الصبر والتحمل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط الاساسيّ للوصول إلى المقصود ، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة.

من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو ، وليس له ان ينسحب ، أو يضعف لقلّة الاتباع والمؤيدين وبالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فتخور عزيمته ، أو ترخو إرادته ، مهما عظمت حلق البلاء واشتدت ، ومهما تزايدت ، أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأَنبياء وقصصهم اُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها ، ويصعب تصوُّرها.

فعن نوح النبيّ عليه السلام نقرأ أنه دعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلة من المؤمنين والمؤيدين الذين لم

ص: 251

يتجاوز عددهم الواحد والثمانين ، وهذا يعني أنه لم يوفق في كل اثنى عشر عاماً الا لهداية شخص واحد.

إنَّ إرادة الصبر ، وقوَّة التحمّل ، والتصبر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً ، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ ، ولابد أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالامور الثقيلة ، والقضايا الصعبة.

لقد قضى رسولُ صلى اللّه عليه وآله وسلم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار ، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم ، وليستسهل كل صعب في هذا المجال.

إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الأمور الّتي تواجه القادة ، ورجال الاصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيَّأ لأَحد إلاّ بعد مزاولة الاُمور الصعبة ، وممارسة الأعمال الشاقة ، وربما يكون قيام النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم برعي الغنم من هذا الباب ، ولهذا جاء في الحديث.

« ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم ليُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ » (1).

لقد قضى النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم شطراً من عمره الشريف في هذا المجال ، وينقل كثيرٌ من ارباب السير والمؤرخين هذه العبارة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« ما مِنْ نَبيّ إلاّ وَقَدْ رَعى الغَنم » قِيْلَ : وَأَنتَ يا رَسُول اللّه؟

فقال : « أنا رَعيْتُها لأَهْل مَكَّة بِالقَراريْطِ » (2).

إنَ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن تواجه - في المستقبل - أشخاصاً عنودين كأبي جهل وابي لهب ، وأن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتّى أنهم سجدوا لكل حَجر ومَدر ، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة الحق ومشيئته ، لابدَّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر ، وتتجهز بأداة التحمل ، وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وهذا لا يكون إلاّ بتعويد النفس على هذه

ص: 252


1- سفينة البحار : مادّة نبأ.
2- السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 166.

الصفات ، وحملها على مشاق الاعمال :

سبب آخر لرعي الغنم :

ويمكن أن نذكر هنا سَبباً آخر أيضاً وهو ان رجلا حرّ النفس والعقل كرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكة ، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة بحق الضعفاء ، والمحرومين ، وكذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق في حرم اللّه ، وعند بيته المعظم.

إن اعراض سُكّان مكة عن عبادة اللّه الواحد الحق ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي - بلا ريب - أسوأ واقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم ، والعاقل العالم ، واثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها ، ليستريح ( أو يتخلص ) بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية ، والأحوال المشينة.

على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أن للرجل المتقي أن يسكت على الفساد والظلم ، ويقرّ عليهما.

ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين ويعتزل عنهم ويتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة ، والاحوال الشاذة ، بل ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لما كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار ، لانه لم تكن ظروف « البعثة » والهداية قد توفرت وتهيأت بعد لذلك اتخذ صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل هذا الموقف.

* * *

ص: 253

سببٌ ثالث :

ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ، وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.

ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها ، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ، والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.

إقتْراحُ أبي طالب :

لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

ومن هنا اقترح على ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه.

فقد قال أبو طالب للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك.

ولكن إباء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام

ص: 254

بنفسه على هذه الأمر من دون سابق عهد ، ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمّه : فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك ، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ « خديجة » بنت خويلد ، ما دار بين النبيّ وعمه « أبي طالب » ، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني إلى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا اعطيك ضعفَ ما اُعطي رجلا من قومك وابعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عمّه بذلك فقال له ابو طالب : « إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّهُ إليك » (1).

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟

وهنا لابدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي :

هل عمل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أجيراً في أموال خديجة ، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة ، وذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة؟

انّ مكانة البيت الهاشميّ ، وإباء النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ومناعة طبعه ، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمَّ بالصُورة الثانية ( أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة ) ، وتؤيّد هذا المطلب امور هي :

أولا : انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة ، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته ( أعمام النبيّ ) في هذه المسألة من قبل وقال : « امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها ان تعطي محمَّداً ما لا يتجربه » (2).

ص: 255


1- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132 و 133 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 24.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 22.

ثانياً : ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط (1).

ثالثاً : ان الجنابذي صرّح في كتابه « معالم العترة » بأن « خديجة » كانت تضاربُ الرجال في مالها ، بشيء تجعله لهم منه ( اي من ذلك المال أومن ربحه ) (2).

* * *

تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام ، وفيها أموال « خديجة » أيضاً ، في هذه الاثناء جعلت « خديجة » بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها ( أي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ) وامرت غلاميها ( ميسرة وناصح ) اللذين قررت ان يرافقاه صلى اللّه عليه وآله وسلم بان يمتثلا أوامراه ، ويطيعاه ، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة ، ولا يخالفاه في شيء (3).

وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً ، إلا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ربح اكثر من الجميع ، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق « تهامة ».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى « مكة » بعد ذلك المكسب الكبير ، والحصول على الربح الوفير.

ولقد تسنيّ لفتى قريش « محمَّد » أن يمرّ - للمرة الثانية في هذه السفرة - على ديار عاد وثمود.

وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى العوالم الاُخرى اكثر فاكثر ، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الاُولى ، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه « ابي طالب » هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها ، وما كان يحظى

ص: 256


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 21.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 9 نقلا عن معالم العترة.
3- قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي وأنّه أمير قريش وسيّدها ، فلا يدٌ على يده ، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. ( بحار الأنوار : ج 3. ص 29 ).

فيها من عمه من الحدب والعناية.

وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى « مكة » ، وصارت عند مشارفها ، التفت « ميسرة » غلامُ خديجة ، إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : « يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة ، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا » فأخذ النبي باقتراح ميسرة ، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة ، وتوجه نحو بيت « خديجة » بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها ، فلما رأت النبي مقبلا عليها ، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته ، وأدخلته في غرفتها ، فخبّرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما ربحوا ، ببيان جميل ، وكلام بليغ ، فسرت « خديجة » بذلك سروراً عظيماً ، ثم قدم « ميسرة » في الأثر ، ودخل عليها ، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في تلك السفرة من الكرامة والخير ، والخُلق العظيم ، والخصال الكريمة ، ومن الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وسمو خصاله (1) ، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ما حلفتُ بهما قط ، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما (2).

وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة : « ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ » سأل عن اسمه ، فأخبره ميسرة باسمه فقال : « هو نبيّ وهو آخر الأنبياء ، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل ، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة » (3).

ص: 257


1- الخرايج : ص 186 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 5.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 وفي بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 : انه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.
3- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 130 ، الكامل لابن الأثير : ج 2 ، ص 24 و 25.

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الاُولى :

حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه ، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه « أبي طالب » المالية ، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته ، من جانب ، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة ، من جانب آخر.

ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة ، معروفة في قريش ( أعني خديجة ) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.

ولقد اعجبت « خديجة » بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه ، ومقدرته التجارية حتّى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه ، تقديراً له ، واعجاباً به ، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه « أبي طالب » وقدّم كل ما أخذه من « خديجة » إلى عمه « أبي طالب » ليوسّع به على أهله.

ففرح « أبو طالب » بما عاين من ابن اخيه ، وبقية أبيه « عبد المطلب » ، وأخيه « عبد اللّه » وأغرورقت عيناه بالدموع ، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً ، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر ، وراحلتين يُصلح بهما شأنه ، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن اُسرة ، ولكن كيف وقع الاختيار على « خديجة » الّتي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج الّتي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل « عقبة بن أبي معيط » ، و « أبو جهل » و « أبو سفيان » للزواج بها؟؟! ، وماذا كانت العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين ، من حيث مستوى الحياة ، والثراء؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية ، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة ، والاُلفة والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ

ص: 258

« خديجة » سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لينفقها في نشر الإسلام ، وإعلاء كلمة الحق ، وإرساء قواعد التوحيد ، وبث الدين الجديد ، واصبحت تلك الدار المفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة ، والستر المطرّرزة ، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية ، والإيرانية ، ملجأ للمسلمين ، وملتقى لانصار الرسالة؟!!

لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة « خديجة » نفسها ، فان من المسلَّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء ، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان « خديجة » بتقوى عزيز قريش وفتاها الامين « محمَّد » وطهره ، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه ، ولهذا قال النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم في حقها :

« أفضل نساء الجنة أربع : خديجة ... » (1).

إنها أول إمرأة آمنَتْ برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السلام : في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة :

« لَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَخَديجَة وأَنا ثالِثُهما » (2).

ويكتب « إبن الأثير » قائلا : إنّ عفيف الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه ، ثم خرج غلامٌ فقام يصلي معه ، فمضى يسأل العباسَ عمَّ النبيّ عن هؤلاء ، وعن هذا الدين ، فقال العباس :

ص: 259


1- خصال الصدوق : ج 1 ، ص 96 وغيره.
2- الكامل : ج 2 ، ص 37 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي : ج 13 ، ص 197 - 201.

هذا محمَّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله ، وهذه امرأته خديجة آمنت به ، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به ، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة (1).

وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

خديجة في أحاديث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم :

لقد اكتسَبَت « خديجةٌ » بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية ، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته ، وعملها المخلص على انجاح مهمته ، ومشاركتها الفعّالة ، في دفع عجلة الدعوة إلى الامام ، ومشاطرتها للنبي في اكثر ما تحمله من محن واذى بصبر واستقامة وحب ورغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام ، حتّى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات ، وذلك ولا شك ينطوي على اكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من الاشادة بخديجة عليها السلام الفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد ، والظروف ، والحالات.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة وهي نصف المجتمع ( إن لم تكن اكثره أحياناً ) من دعم جدّي للرسالة ، مادياً كان أو معنوياً.

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ، ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده.

1 - عن أبي زرعة عن ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه [وآله] :

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ، ص 225 و 226.

أتاني جبرئيل عليه السلام فقال يا رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب ، فاذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ » (1).

2 - عن عائشة قالت : ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين ، لما كنتُ اسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربُه عزّ وجلّ ان يبشرها ببيت من قصب في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها ( اي خليلاتها وصديقاتها ) (2).

3 - وعن عائشة أيضاً قالت ما غِرت على نساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا على خديجة ، واني لم أدركها ، ( قالت ) : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى اصدقاء خديجة قالت : « أي عائشة » فاغضبتُه يوماً فقلت : خديجة!! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اني قد رزقت حبّها » (3).

4 - ومن هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن والاحتفاء بهنّ :

فقد وقف صلى اللّه عليه وآله وسلم على عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال :

« ان حسن العهد من الايمان ، انها كانت تأتينا ايام خديجة » (4).

5 - وروي عن انس قال كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا اُتي بهدية قال : « إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة » (5).

ص: 261


1- صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 184 و 185 بطرق متعددة صحيحة على شرط الشيخين.
2- صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و 39.
3- صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، ومثلها في صحيح البخاري : ج 5 ، ص 38 و 39.
4- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 18 ، ص 108.
5- سفينة البحار : ج 1 ، ص 380 ( خدج ).

6 - روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فادركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعره من الغضب ، ثم قال : « لا واللّه ما أبْدلَني اللّه خيراً منها ، آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ، وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة ابداً (1).

7 - عن يعلى بن المغيرة عن ابن ابي رواد قال : دخل رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه ، فقال لها :

« يا خديجة أتكرهين ما أرى منك ، وقد يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً ، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في الجنة مريم بنتَ عمران ، وكلثمَ اُخت موسى وآسية امرأة فرعون ... » (2).

8 - عن عكرمة عن ابن عباس قال خطَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أربع خطط في الأَرض وقال : أتدرون ما هذا؟ قلنا : اللّه ورسولُه أعلم ، فقال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » (3).

9 - عن أنس جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وعنده خديجة فقال : إن اللّه يقرئ خديجة السلام فقالت : إن اللّه هو السلام ، وعليك السلام ، ورحمة اللّه وبركاته (4).

10 - عن أبي الحسن الأول ( الكاظم ) عليه السلام قال قال رسول اللّه صلّى

ص: 262


1- اسد الغابة : ج 5 ، ص 438 ، ورواها مسلم أيضاً : ج 7 ، ص 134 ، وكذا البخاري : ج 5 ، ص 39 وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى ... إلى آخر الرواية.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، وأُسد الغابة : ج 5 ، ص 439.
3- الخصال للصدوق : ج 1 ، ص 96 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2.
4- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 1816.

اللّه عليه وآله : « إنّ اللّه اختار من النساء اربعاً : مريم واسية وخديجة وفاطمة » (1).

11 - عن ابي اليقظان عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فسمعتُه يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول :

« خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء العالمين إلى الايمان باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم » (2).

12 - عن عروة قال قالت عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ألا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول :

« سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وخديجة بنت خويلد واسية » (3).

13 - عن أبي عبد اللّه ( الصادق ) عليه السلام قال : دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم منزله ، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلا أن لاُمِكِ علينا فضلا ، وأىُ فضل كانَ لها علينا؟!

ما هي إلاّ كبعضنا ، فسمع صلى اللّه عليه وآله وسلم مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت محمَّد؟! قالت : ذكرتْ اُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ ، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. ثم قال :

« مَهْ يا حميراء ، فان اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدُود الولود ، وأَن خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً ، وهو عَبْدُ اللّه وهو المطهّر وَوَلدَتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقية ، واُم كلثوم ، وزينب ، وأنت ممن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي

ص: 263


1- الخصال : ج 1 ، ص 96 ، كما في البحار : ج 16 ، ص 2.
2- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 - 186 ووردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.
3- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 184 - 186 ووردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم : ج 7 ، ص 133.

شيئاً » (1).

أجل هذه هي « خديجة بنت خويلد » شرفٌ وعقلٌ ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ووفاء وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي « خديجة » أول من آمنت باللّه ورسوله ، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربه ، من النساء ، وآزره ، فكان صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّ عليه ، وتكذيب له الاّ فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفف عنه (2) ، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها به صلى اللّه عليه وآله وسلم ، في غاية الاخلاص والودّ والتفاني.

ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يحبُّها حباً شديداً ويجلّها ويقدرها حق قدرها (3) ، ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً لشخصها ومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها احدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به الناسُ ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ.

ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي توفي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه ( زوجته هذه : خديجة بنت خويلد ، وعمه المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهما السلام ) بعام الحداد ، أوعام الحزن (4) وان يلزم بيته ويقلّ الخروج (5) ،

ص: 264


1- الخصال : ج 2 ، ص 37 و 38 ، كما في بحار الأنوار : ج 16 ، ص 3.
2- اعلام النساء لعمر رضا كحالة : ج 1 ، ص 328.
3- اعلام النساء : ج 1 ، ص 330.
4- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 35 ، وقد روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال بهذه المناسبة : « اجمتعت على هذه الاُمة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشدّ جزعاً » المصدر نفسه ، وراجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 نقلا عن سيرة مغلطاي.
5- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347 ، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 302 وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.

وأن ينزل صلى اللّه عليه وآله وسلم عند دفنها في حفرتها ، ويدخلها القبر بيده ، في الحجون (1).

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها السلام بعلي عليه السلام اجتمعت نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكان يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على ( عليّ ) عليه السلام فاحدقْن به وقلت : فَديناك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ « خديجة » في الأحياء لتقرّتْ بذلك عينُها.

قالت امُ سلمة : فلما ذكرنا « خديجة » بكى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال : « خديجة واين مثل خديجة ، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس ووازرتني على دين اللّه وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أمرَني أنْ ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ( الزمرّد ) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب » (2).

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً ، واكثرهنّ مالا ، واحسنهن جمالا وأقواهنُّ عقلا وفهماً وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَة عفافها وصيانتها (3) ويقال لها : سيدة قريش (4) ، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كل قومها وسراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها (5) ، وقد خطبها - كما يحدثنا التاريخ - عظماء قريش وبذلوا لها الأموال ، وممن خطبها « عقبة بن ابي معيط » و « الصلت بن ابي يهاب » و « ابو جهل » و « ابوسفيان » فرفضتهم جميعاً ، وأختارت رسول اللّه - وهي في سن الأربعين وهو صلى اللّه عليه وآله وسلم في الخامسة والعشرين - وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة ، وهو صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ الشيء اليسير اليسير ، رغبة في الاقتران به ولما عرفت فيه من كرم الاخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة والصفات العالية ، وهي ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتعشقه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في

ص: 265


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 346.
2- بحار الأنوار : ج 43 ، ص 131 نقلا عن كشف اليقين.
3- السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.
4- السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.
5- السيرة الحلبيّة : ج 1 ، ص 137.

أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم تلك الزوجة المطيعة الخاضعة ، الوفية المخلصة ، وتسارع إلى قبول دعوته ، واعتناق دينه بوعي وبصيرة وارادة منها واختيار ، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب ، وتجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ ، وتشاطر زوجها آلامه ، ومتاعبه ، وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر وثبات (1) ، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجع.

هذا مضافاً إلى أنها كانت تعامل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة والنبوة ، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربما يثرن سخطه وغضبه ، ويؤذينه في نفسه وأهله.

واليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات ، والمؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضاً ، قال اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام :

« كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل » (2).

وقال محمَّد بن اسحاق : كانت خديجة أولَ من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه ، ووازرته على أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بها إذا رجع إليها تثبِّتُه ، وتخفّف عنه ، وتهوّن

ص: 266


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ، ص 59 قال : خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم محاصَرة في الشِعب.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 2 ومثله في روايات متعددة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ، ص 119 و 120.

عليه امر الناس حتّى ماتت رحمها اللّه (1).

وعنه أيضاً : أن « خديجة بنت خويلد » و « ابا طالب » ماتا في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هلاك خديجة وابي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول اللّه يسكن اليها (2).

وقال أبو امامة ابن النقاش : ان سبق خديجة وتأثيرها في اول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم يشركها فيهُ احدٌ لا عائشة ولا غيرها من اُمهات المؤمنين (3).

وقد جاء في المنتقى : ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا ، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه ، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل ، فسمع عليّ وخديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو جائع عطشان مرهق ، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم ، وتبكي وتنحب ، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض وهو يمسحها ويردّها ، وبقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها ، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه ، وقامت في وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة ، فاذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة ، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط ، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها ، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش ترمى الحُرّةُ

ص: 267


1- بحار الانوار : ج 16 ، ص 10 - 12.
2- نفس المصدر.
3- تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس : ج 1 ، ص 266.

في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه ، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وغدا إلى المسجد يُصلّي (1).

ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحبّها له أنها بعد أن تمَ عقدُ زواجها برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قالت له صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا جاريتك » (2).

وجاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو بغار حراء وقال له : اقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ؛ فقالت : هو السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام ، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره ، قال ابن هشام والقصب هنا الؤلؤ المجوف ، وابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما دعاها إلى الايمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل ازالت عنه كل تعب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها الّتي بشرها بها ربُها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي اللّه عنها واقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ، وتميزت أيضاً بأنها لم تسؤه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم تغاضبه قط ، وقد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته (3).

افتخار اهل البيت بخديجة عليها السلام :

وما يدل على سمو مقامها وعلو منزلتها أن اهل البيت عليهم السلام طالما

ص: 268


1- بحار الانوار : ج 18 ، ص 243.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 4 نقلا عن الخرائج والجرايح : ص 186 و 187.
3- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 169 الهامش.

افتخروا بأن خديجة منهم ، وانهم من خديجة وقد كانوا يعتزون بها ، ويشيدون بمكانتها :

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر فذكر علياً عليه السلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين عليه السلام ليردَّ عليه فأخذه الحسن بيده وأجلسه ثم قام فقال :

« أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ واُمي فاطمة واُمُّك هند وجدي رسُول اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة وجدتي خديجة وجدتُك قتيلة فلعن اللّه أخْمَلَنا ذكراً والأَمُنا حَسَباً وشَرَّنا قديماً وحديثاً. فقال طوائفُ من أهل المسجد : آمين (1).

وقيل : ان « الحسين » عليه السلام ساير « أنس بن مالك » فاتى قبرَ خديجة فبكى ثم قال : إذْهَبْ عَنّي قال « أنس » ؛ فاستخفيتُ عنه فلما طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول :

يا رَبِّ يَا رَبِّ أنْتَ مَولاهُ *** فَاْرحَمْ عُبيْداً إلَيْكَ مَلْجاهُ

يا ذا المَعالِي عَلَيْكَ مُعْتَمدي *** طُوبْى لِمَنْ كُنْت اَنتَ مَوْلاهُ

طُوْبى لِمَنْ كانَ خادِماً أرقاً *** يَشْكُوْ إلى ذِيْ الجَلالِ بَلْواهُ

إلى آخر الابيات (2).

هكذا كان اهل البيت النبوي - اقتداءً برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يحترمون خديجة ويكرمونها لما كان لها من شخصية عظيمة ولما اسدته إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على مرّ الدهور.

ان بيان ونقل الاحاديث والروايات ، وكذا الاقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيتها ومكانتها ومدى إسهامها في انجاح ونصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة ، ونطاقها ، لذلك نكتفي بهذه الالماعة

ص: 269


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج 16 ، ص 46 و 47.
2- بحار الأنوار : ج 44 ، ص 193 نقلا عن عيون المحاسن.

العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها إلى مجال آخر.

ولنَعُدْ إلى تبيّن الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم).

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي ، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور ( وبالاحرى يظن ) أن « خديجة » كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنها كانت بحاجة ماسة إلى رجل أمين قبل اي شيء ، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الامين صلى اللّه عليه وآله وسلم فتزوجت منه ، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق في السن كبير.

ولكن التاريخ يثبت أن ثمة أساباباً وعللا معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

واليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الامر :

1 - عند ما سالت « خديجة » ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش « محمَّد » فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من « محمَّد » في تلك السفرة ، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت « خديجة » في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من اعجابها بمعنوية محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه ، فقالت من دون إرادتها : « حسبُك يا ميسرة ؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إذهبْ فانت حرٌ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان » ثم خلعَت عليه خلعة سنية (1).

ثم إنها ذكرت ما سمعته من « ميسرة » لورقة بن نوفل وكان من حكماء

ص: 270


1- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 52.

العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة » (1).

2 - مرَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ، فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر : ومن يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف « محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت محمَّداً انه نبي؟

قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة » ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة (2).

3 - لقد كان ورقة بن نوفل ( وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث » عليه السلام وصحف « إبراهيم » عليه السلام وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود » عليه السلام ) يقول دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر

ص: 271


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 191 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 136.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 20 و 21 نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها ) ، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء » (1).

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة » بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد » وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى أن ابن هشام (2) نقل في سيرته : ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ، وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به.

ويعتقدُ اكثرُ المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة « خديجة » إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم على النحو التالي :

قالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة الاّ تجيب؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : فمن هي؟

فقالت : خديجة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : وكيف لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى

ص: 272


1- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 21.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 189 و 190.

اللّه عليه وآله بوكيلها « عمرو بن اسد » (1) لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب (2).

فشاور النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش ، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه محمَّداً بقوله :

« ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ، ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ».

وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة (3) وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ » (4).

ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (5).

ص: 273


1- المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.
3- المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب « ابن عمّها » ( تاريخ الخميس : ج 3. ص 282 ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 203.
4- بحار الانوار : ج 16 ، ص 16 ، مناقب آل أبي طالب : ج 1 ، ص 30 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.
5- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139.

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : المعروف المشهور أن خديجة عليها السلام تزوجت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وذكَرَ أنها تزوجت قبل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ » ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (1).

ص: 274


1- ربما يُشكَّك في أن تكون خديجة عليها السلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها. راجع الاستغاثة : ج 1. ص 70.

10

من الزواج إلى البعثة

اشارة

تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل ، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

ولو مَلك الإنسانُ - في مثل هذه الفترة - شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.

ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي خطر متوقَع (1). حقاً إن كبح جماح

ص: 275


1- وإلى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادق عليه السلام بقوله : إنّ الفراغ والشباب والجدة *** مَفسدة للمرء اي مفسدة

النفس ، وزمَّها وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء.

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ، وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف ، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللّهو واللعب. واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ، وتلك البيئة الفاسدة.

أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.

ان التاريخ ليشهد بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.

بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفوراً من اللّهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل فيها في آثار القدرة الآلهية ،

ص: 276

وفي عظمة الصنع الالهي ، الرائع البديع.

أحاسيسه ومشاعره الإنسانية في فترة الشَّباب :

ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام.

وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول قومه ، وانحطاط مداركهم.

ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل.

ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يكرمها ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها ، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها.

فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم « خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة.

وروي أيضاً انه استأذنت « حليمة » عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي » وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (1).

ص: 277


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 103.

أولادُ خديجة :

لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً.

ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه » اللَّذان كانا يُدعَيان ب : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم ، ثم فاطمة.

فأما الذكور من أولاده صلى اللّه عليه وآله وسلم فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام (1).

ورغم أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.

ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده « إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن اعرابياً اعترض عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله :

« انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم (2) ».

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!

لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن

ص: 278


1- مناقب ابن شهرآشوب : ج 1 ، ص 140 ، قرب الأسناد : 6 و 7 ، الخصال : ج 2 ، ص 37 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 15 - 152. وقد ذكر البعض للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج 1. ص 35 ، بحار الأنوار : ج 22 ، ص 166.
2- بحار الأنوار : ج 22 ، ص 151.

خديجة عند موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي : القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها » (1).

إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على منوالهم!!

في حين ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ، فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ».

مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها « محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ ، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها - مع هذا الاعتقاد - بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام؟؟!

دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة :

عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تبنيه له ... ذلك هو زيد بن حارثة.

وكان « زيدٌ » ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء « خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما بعد؟

ص: 279


1- حياة محمَّد : ص 128.

يقول هيكل في كتابه « حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه » (1).

ولكن اكثر المؤرخين يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجه صلى اللّه عليه وآله وسلم منها.

ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخيّره بين المقام معه صلى اللّه عليه وآله وسلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني » (2).

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين :

لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.

وكان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويقولون :

ص: 280


1- حياة محمَّد : ص 128.
2- الاصابة : ج 1 ، ص 545 و 456 ، اُسد الغابة : ج 2 ، ص 225 و 226.

ليخرجنَّ نبيُّ فَليكسرن أصنامكم (1).

وكتب ابن هشام يقول : كان اليهود يقولون للعرب : إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عاد وارم.

وكتب يقول أيضاً : وكانت الاحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل مبعثه.

هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لما بُعثَ ، ودعاهم اللّه ، بينما احجمت اليهودُ عن الايمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوته الّتي طالما بشرت بها.

وقد نزل فيهم قولُه تعالى : « وَلَمّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصدِّقٌ لِما مَعهمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفرُوا فَلمّا جَاءهُمْ ما عَرفُوا كَفرُوا به فَلعْنَةُ اللّه عَلى الكافِرين » (2) (3).

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ :

ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن باقتراب سقوط دولة الوثنيين ، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام ، وانقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، فتنحّى أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية ، وأخذوا يتحدَّثون سرّاً ، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام ، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض : واللّه ما قومكم على شيء ، لقد اخطأوا دين أبيهم

ص: 281


1- بحار الأنوار : ج 15 ، ص 231.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 221.
3- البقرة : 89.

إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ ، ولا يضرُ ولا ينفعُ ، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً ...

وكان هؤلاء الأربعة هم :

1 - « ورقة بن نوفل » الَّذي اختار النصرانية بعد أن طالعَ كُتُبَها ، واتصل بأهلها.

2 - « عبيداللّه بن جَحش » الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.

3 - « عثمان بن الحويرث » الّذي قدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر.

4 - « زيد بن عمرو بن نفيل » الّذي اعتزل الأوثان ، وقال : اعبدُ رب إبراهيم (1).

إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة ، واستمراراً لها!!

كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى ، واستندت إليه من معارف وأحكام لا تُحصى ، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟

إن الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كليّاً في الحجاز بعد ايام بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف ( وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السلام ) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية ، إلاّ أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس ، أو قيادة حركة ، أو تربية أفراد على نهجهم ، أو أن توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم.

فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد

ص: 282


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 225.

بالمعاد واليوم الآخر ، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية ، وحتّى ما نقل عنهم من ابيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم ، وانْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً (1).

فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة ، والمعارف العقلية العالية ، والقوانين والتشريعات المفصلة ، والانظمة الأَخلاقية والسياسية والإقتصادية الإسلامية ، الشاملة الكاملة ، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من « الأحناف » الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه ، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟! نموذج آخر عن ضَعف قريش :

لم يكن يمض على عُمر فتى قريش اكثر من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش ، فأزال بحكمته ذلك التخاصم ، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش « محمَّد » يحظى به لدى قريش ، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته.

واليك تفصيل هذه الحادثة :

إنحدر سيلٌ رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظم « الكعبة المقدسة » فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتّى الكعبة المعظمة ، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً بفعل ذلك السيل.

فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية المعظمة ، ولكنها تهيّبت ذلك ، وترددت في هدم الكعبة ، فأقدم « الوليد بن المغيرة » وهدمَ ركنين منها على شيء من الخوف ، فانتظر أهلُ مكة أن يحل به أمرٌ ، ولكنهم لما رأوا « الوليد » لم يصبه

ص: 283


1- ولقد نقل ابن هشام في كتابه : السيرة النبوية : ج 1 ، ص 222 - 232 طائفة من الأبيات والقصائد التوحيدية هذه ؛ والّتي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيدُ بن عمرو بن نفيل : أرَبّاً واحِداً أمْ أَلفُ ربٍّ *** أدِينُ إذا تُقُسِمت الاُمورُ؟ عزلتُ اللات والعزّى جميعاً *** كذلِكَ يفعل الجَلْد الصبُور ( البصير )

غضب من الآلهة ، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب قبيحاً ، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم ، فاقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من الكعبة ، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من « مصر » في تجارة لروميّ عند ميناء « جدة » بفعل الرياح والعواصف ، فعلمت بذلك قريش ، وأرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة ، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن « مكة ».

ولما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل ، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش ، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه.

وتحالفت قبيلة « بني عبد الدار » مع « بني عَديّ » على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم ، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تاكيداً لذلك الميثاق.

من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها ، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية ، وربما طويلة ، فقد اجتمعت طوائف مختلف من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة ، فعمد - في الأخير - شيخ من شيوخ قريش يدعى « أبو اُميّة بن مغيرة المخزومي » من زعماء قريش وقال : يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول مَن يدخل من باب هذا المسجد (1) يقضي بينكم فيه » فقبلوا برايه اجمع ، فكان أول داخل عليه فتى قريش « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمَّد.

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : هلم اليّ ثوباً ، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال :

« لتأخذْ كلُ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوهُ جميعاً »

ففعلوا حتّى إذا بغوا به موضعه من الركن وضعه صلى اللّه عليه وآله وسلم هو بيده مكانه ، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش ، واختلافها ، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُ بحكمه.

ص: 284


1- وفي رواية : أول من يدخل باب الصفا.

وإلى قضية التحكيم هذه يشير « هبيرة بن أبي وهب » في أبيات صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى ، إذ قال :

تشاجَرَتِ الأحياء في فَصْل خطةٍ *** جرت بينهم بالنَحس مِن بعد أسعد

تلاقَوابها بالبُغض بعد مَودَّة *** وأوقد ناراً بينهم شرّموقد

فلما راينا الأمر قد جدَّ جدُّه *** ولم يبقَ شيء غيرُ سلّ المهند

رضينا وقلنا العدل أولُ طالع *** يجيء من البطحاء من غير موعد

ففا جأَنا هذا الامينُ محمَّدٌ *** فقلنا رضينا بالأمين محمَّد

بخير قريش كلِها أمس شيمة *** وفي اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه *** أعمَّ وارضى في العواقب والبَدِ

وتلك يدٌ منهُ علينا عظيمةٌ *** يروبُ لها هذا الزمان ويعتدي (1)

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً :

أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين ، وقل فيها الماء ، وأصابت الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب عليه السلام كثير العيال ، فعزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن يساعد عمه أبا طالب ، ويخفف عنه عبء العيال ، فانطلق إلى عمه العباس وقال له : « إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنتَ رَجلا ».

فكفل العباسُ جعفراً ، وكفل رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليا عليه السلام.

يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد :

ص: 285


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 192 - 199 وفروع الكافي : ج 4 ، ص 217 و 218 ، والجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة : « يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلاّ طيّبا ، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد للناس » ( البداية والنهاية : ج 2 ، ص 301 ) ولا شك أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرة.

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخذ « علياً » من أبيه وهو صغير في سنة اصابت قريشاً وقحط نالهم ، وأخذ حمزة جعفراً وأخذ العباس طالباً ليكفوا اباهم مؤونتهم ويخففوا عنهم ثقلهم ، وأخذ هو ( أي ابو طالب ) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم : علياً » (1).

إن هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها تعني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أبا طالب في تلك الازمة ، لكن الهدف الأعلى والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ : يتربّى علي عليه السلام في حجر النبي ، ويغتذي من مكارم اخلاقه ويتبعه في كريم افعاله.

ولقد اشار الإمام عليُّ عليه السلام نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله :

« وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقَرابَةِ القريبَة وَالمَنزِلَةِ الخَصيْصَة وضعني في حجره وَأنا ولَد يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَيَكنفُني في فِراشِه ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ اتّباعَ الفَصِيْل أَثر امِّه يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً وَيأمُرُني بالإقتداء بِه » (2).

ايمان النبي وآبائه وكفلائه قبل الإسلام :

تدلُ الدلائل التاريخيّة ، القوية ، فضلا عن الأدلة العقلية والمنطقية على أن النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ من اُمّة ، والى أن رحل إلى ربه ، بل وكان كفلاؤه مثل عبد المطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً .

ايمان جده عبد المطّلب :

وأما عبد المطلب كفيل النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنه عند ما قصد « أبرهة » هدم

ص: 286


1- مقاتل الطالبيين : ص 26 ، الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 37 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 245 - 247 باب ( ذكر أن عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه اول ذكر أسلم ).
2- نهج البلاغة : الخطبة 192.

الكعبة في جيش الفيل ، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يَدْعوا اللّه ويقول مناجياً اللّه سبحانه.

« اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين ، ولا وحشة مَعكَ فالبيتُ بَيْتُكَ ، والحرم حرمك والدارُ دارُك ، ونحنُ جيرانُكَ ، انَك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء ، وربّ الدّار اُولى بالدّار ».

ثم أنشأَ يقول :

يا ربّ لا أرجُو لَهُمْ سِواكا *** ياربِّ فاْمنَعْ مِنْهُمُو حِماكا

إنَ عَدُوَّ الْبيْت مَنْ عاداكا *** إمنَعْهُمُو إن يُخربوا فناكا (1)

وهذا يكشف بوضوح عن ايمان عبد المطلب باللّه تعالى ، وتوكله عليه سبحانه ، وانه كان الرجل الموحد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه ، ولا يعرف الاّ باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون بالاصنام المنصوبة حول الكعبة.

وممّا يدل على ايمانه ايضاً توسله لكشف غمته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال ، واشرفت الانفس واجتمعت قريش لعبد المطلب ، وعَلَوا جبل ابي قبيس ومعهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم محمَّد وهو غلام فتقدم عبد المطلب وقال : لاهم ( اي اللّهم ) هؤلاء عبيدك واماؤك وبنو امائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فاشرفت على الانفس فأذهِب عنا الجدب ، وائتنا بالحياء والخصب ، فما برحوا حتّى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول رقيقة :

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا *** وقد عدمنا الحيا وا جلوّذ المطر

إلى أن تقول :

مبارك الاُم يستسقى الغمام به *** ما في الانام له عدل ولا خطر

ص: 287


1- راجع القصة ومصادرها في ص 161 من هذا الكتاب ، ولعبدالمطلب مواقف اُخرى مشابهة ، وعديدة ، راجع بصددها مفاهيم القرآن : ج 5 ، ص 136 - 140.

وإلى هذه الواقعة يشير ابو طالب في قصيدة أولها :

ابونا شفيع الناس حين سقوا به *** من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن - سنين المحل - قام شفيعنا *** بمكة يدعو والمياه تغور (1)

وقد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه « الملل والنحل » قال : وممّا يدل على معرفته ( أي عبد المطلب ) بِحال الرسالة وشرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم ، وامسك السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه ، ان يُحضر المصطفى محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فاحضره ابو طالب ، وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ، ورماه إلى السماء ، وقال : يا رب بحق هذا الغلام ، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول : بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن السحاب وجه السماء وأمطر ، حتّى خافوا على المسجد ، وقال ايضاً : وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الاخلاق ، وينهاهم عن دنيات الاُمور.

وكان يقول في وصاياه : « انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة » ، إلى ان هلك رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسيء باساءته (2).

ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه وتوليه عن الاصنام والاوثان ، والتجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص ، وايمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له الاّ هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه ، وتوحيده له.

وقد اعترف المؤرخون لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي : « ورفض عبد المطلب عبادة الاوثان والاصنام ، ووحدَ اللّه عزّ وجلّ ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً نزل القرآن باكثرها ، وجاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 288


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 - 133.
2- الملل والنحل : ج 2 ، ص 248 و 249.

بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الابل في الدية ، وان لا تنكح ذاتُ محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا ، والحدّ عليه ، والقرعة ، وان لا يطوف احد بالبيت عرياناً ، واضافة الضيف وان لا ينفقوا إذا حجوا الاّ من طيب اموالهم ، وتعظيم الاشهر الحُرُم ، ونفي ذوات الرايات (1).

هذا وعن اُم أيمن « رضي اللّه عنها » قالت : كنتُ أحضن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ( اي اقوم بتربيته وحفظه ) ، فغفلت عنه يوماً فلم ادر الاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول « يا بركة ».

قلت : لبيك.

قال : أتدرين اين وجدتُ إبني؟

قلت : لا ادري.

قال : وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الاُمة ، وأنا لا آمن عليه منهم (2).

وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً الاّ يقول عليّ بابني ( اي احضروه ) ويجلسه بجنبه ، وربما اقعده على فخذه ، ويؤثره بأطيب طعامه.

ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي طالب برسول اللّه وقال له : قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الّذي تطؤون ، به رقاب الناس وقال له أيضاً :

اُوصيك يا عبد منافٍ بعدي *** بمفرد بعد ابيه فرد

فارقهُ وهو ضجيع المهد *** فكنت كالاُم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد *** فانت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ (3)

هذا هو عبد المطلب ، وتعوذه ببيت اللّه الحرام ، ومواقفه بين قومه ، وكلماته في

ص: 289


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 9 في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.
2- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 64.
3- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 10.

المبدأ والمعاد وعطفه وحنانه على رسول الإسلام ، واهتمامه برسالة خاتم النبيين ، وهي بمجموعها من اقوى الشواهد على توحيده ، وايمانه باللّه ، واعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله وعمه أبي طالب :

وهكذا كان حال كفيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الثاني ابو طالب عليه السلام ، فان له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية ، وبعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ الاباطح ، وتوحيده.

ومن تلك المواقف استسقاؤه برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في صباه :

فقد اصاب مكة قحطٌ شديدٌ في سنة من السنين فطلبت قريش من « أبي طالب » أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ - وهو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ ، فأخذه « أبو طالب » فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ الغلام باصبعه ( أي أشاربها إلى السماء ) وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق ، واغدودق وانفجر له الوادي ، واخصب البادي والنادي.

ففي ذلك يقول ابو طالب - في مدح رسول اللّه - :

وابيضُ يُستَسقى الغمامُ بوجهه *** ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ لِلأرامِلِ

يَلُوذُ بِهِ الهُلاكُ مِن آلِ هاشِم *** فَهُمْ عِنْدهُ في نَعمة وَفَواضِل

وميزانُ عَدْل لا يَخيسُ شعيرة *** ووَزّانُ صِدْق وزنُه غير هائل (1)

وكل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الخالص ، وايمانهما باللّه تعالى ، ولو لم يكن لهما إلاّ هذين الموقفين لكفياهما دليلا وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحدِين.

ص: 290


1- شرح البخاري للقسطلاني : ج 2 ، ص 227 ، المواهب اللدنية : ج 1 ، ص 48 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 125 ، وللتوسع راجع الغدير : ج 7 ، ص 345 و 346 ، وقد ذكرنا مواقف ابي طالب الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.

كما ان ذلك يدل ايضاً على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نشأ وترعرع ونما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه ، وعبادته وحده ورفض الاصنام والاوثان.

إيمان والدَي النبي الاكرم :

لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلمات وابيات تدل على ايمانه ومن ذلك ما نقله اهل السير عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :

أما الحرامُ فالمماتُ دونَه *** والحِلّ لاحِلّ فاستبينُه

يحمي الكريمُ عرضَه ودينَه *** فكيفَ بالأمر الّذي تبغينه (1)

وقد روي عن النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال : « لم أزلْ اُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أحرام الطاهرات » ولعل فيه ايعازاً إلى طهارة آبائه وامهاته من كل دنس وشرك (2)

واما الوالدة فيكفي في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها ( رضي اللّه عنها ) خَرجت مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابن خمس أوست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار ومعها ام ايمن « بركة » الحبشية ، فاقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر اموراً حدثت في مقامه ويقول : « ان اُمي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر اليَّ رجلٌ من اليهود فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري ، وسمعته يقول : هذا نبي هذه الاُمة ، ثم راح إلى اخوانه فاخبرهم فخافت اُمّي عليَّ فخرجنا من المدينة ، فلما كانت بالابواء توفيت ودُفنت فيها.

وروى ابو نعيم في دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة اُمّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في علتها الّتي ماتت بها ، ومحمَّد عليه السلام غلام يفع

ص: 291


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 46.
2- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 58.

( اي يافع ) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :

إن صحَّ ما أبصرتُ في المنام *** فانت مبعوثٌ إلى الانام

فاللّه انهاكَ عن الاصنام *** ان لا تواليها مع الاقوام

ثمّ قالت : كل حي ميت وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وانا ميتة وذكري باق وولدتُ طهراً.

وقال الزرقاني في شرح المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها : وهذا القول منها صريح في انها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين ابراهيم عليه السلام ، وبشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا ، فان التوحيد هو الاعتراف باللّه وانه لا شريك له ، والبراءة من عبادة الاصنام (1).

ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه « اوائل المقالات » في هذا الصدد :

اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحدون له ، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاخبار قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين » (2).

ثمَّ إنّ هنا سؤالين هما :

1 - هل كان صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة مُوحِّداً؟

2 - بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة؟

واليك الحديث في هاتين الجهتين :

ايمان النبي باللّه وتوحيده قبل البعثة :

إنَ الدلائل التاريخية - بالاضافة إلى البراهين العقلية والكلامية - تدل على انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام ، مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، لم يعبد وثناً قط ، ولم يسجد لصنم أبداً ، وان ذلك من المسلمات.

ص: 292


1- الاتحاف للشبراوي : ص 144 ؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 57.
2- اوائل المقالات : ص 12 و 13.

وهذا الامر وان كان أمراً مسلماً وواضحاً كوضوح الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية :

اما بغضه للأَصنام وتجنبه للاوثان وما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال :

1 - جاء في حديث طويل : انَ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لما تم له ثلاث سنين قال يوماً لوالدته ( لمرضعته ) حليمة السعدية : ما لي لا أرى أخَويَّ بالنهار ، قالت له : يا بُنيّ انّهما يرعَيان غُنَيْمات.

قال : فما لي لا أخرج معهما ، قالت له : أتحبُ ذلك؟ قال : نعم ، فلما اصبَحَ محمَّد دهّنته ( تقول حليمة ) وكحّلته وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ ، فنزعه ثم قال لاُمّه :

« مَهْلا يا امّاهُ فَاِنَّ مَعِيَّ مَنْ يَحفظني » (1).

2 - روي ان « بحيرا » الراهب قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام : يا غلام اسألك بحق اللات والعزى الا أخبَرْتَني عما اسألك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« لا تسأَلْنِي باللات والعُزّى فواللّه ما ابغَضتُ شَيئاً بغضَهُما » قال الراهب : باللّه الا أخْبَرْتني عما أسالك عنه ، قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : سَلْني عمّا بدالك (2).

3 - روي أنه قد وقع بين النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها « ميسرة » بعد أن باع صلى اللّه عليه وآله وسلم سلعته ، فقال له الرجل : إحلِفْ باللات والعزى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

ص: 293


1- المنتقى ، الباب الثاني من القسم الثاني - للكازروني كما في البحار : ج 15 ، ص 392.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 154 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 182.

« ما حلفتُ بهما قطُّ ، وإنّي لأمُرُّ فاُعرِضُ عنهما ».

وفي رواية اُخرى :

« إليكَ عَني ثكلتْكَ امُّكُ فما تكلمت العربُ بكلمة اثقلَ عليَّ من هذه الكلمة ».

فقال الرجل : القولُ قولك. ثم قال لميسرة : هذا واللّه نبيُّ (1).

واما عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرخون على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يخلو بحراء كل عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى.

وقد قال الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في هذا المجال :

« وَلَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ سَنة بحراء ، فاراه وَلا يراهُ غيري » (2).

حتّى أن جبرئيل وافاهُ بالرسالة في ذلك المكان ، وفي تلك الحال.

وقد صَرَّح بهذا أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا :

« وَكانَ يخلو بحراء فيتحنّثُ فيه ، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد » (3).

كما ان الإمام اميرالمؤمنين عليه السلام وصف هذا المقطع من حياة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله :

« ولقد قرَن اللّه به صلى اللّه عليه وآله وسلم لدُنْ أنْ كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته يسلكُ به طريق المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ، ليله ونهاره » (4).

وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حجّ قبل البعثة حجات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش.

قال الإمامُ الصادقُ عليه السلام : في حديث ابن أبي يعفور :

« حج رَسُولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها » (5).

وفي رواية : عشرين حجة (6).

ص: 294


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 156 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 18.
2- نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 192.
3- صحيح البخاري : ج 1 ، ص 2 ، صحيح مسلم باب الايمان ، مسند أحمد : ج 6 ، الحديث 233.
4- نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 192.
5- وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.
6- وسائل الشيعة : ج 8 ، ص 88 أبواب وجوب الحج.

والسبب في هذا الاستتار هو أن قريش كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج ، والعمرة ، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة وربما غيرت أشهر الحج احياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادية ، وهو ما سمي بالنسيء وقد مرّ بيانه (1).

ان هذه الوقائع وغيرها - وهي ليست بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وتوحيده ، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك البيت الطاهر ، وقرن اللّه به ملكاً يتولاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد.

ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم هو افضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنص القرآن الكريم.

وقد صرح القرآن بان بعض الانبياء بلغوا درجة النبوة في الصغر ، أو الصبا ، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فَمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا : « يا يَحيى خُذ الكِتابَ بقوَّة وآتيْناهُ الحُكمَ صَبِي » (2).

ثم يقول عن « عيسى بن مريم » عندما كان في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير اب ، وطلبوا من « مريم البتول » ان توضح لهم الامر ، وتبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فاشارت إلى المسيح عليه السلام أن كلِّموه وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى ايام معدودات ؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة وقال : « إنّي عَبْدُ اللّه آتانيَ الكِتابَ وَجَعَلنِي نَبيّاً. وَجَعلنِي مُباركاً أين ما كُنْتُ وَأوصَاني بالصَلاة والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَي » (3).

لقد بيَّن وليد « مريم » للناس اُصول دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة ، وأعلن لهم عن توحيده وايمانه باللّه سبحانه.

ص: 295


1- راجع الصفحة 83 و 84 من هذا الكتاب.
2- مريم : 12.
3- مريم : 30 و 31.

فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم أن يكون « يحيى » و « المسيح » عليهما السلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما ، وإيمانهما منذ طفولتهما ، وصباهما ، ويكون أفضل الأنبياء والمرسلين ، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان ، وتوحيد ، مع أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مشتغلا بالتعبّد في جبل « حراء » عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟

واليك بعض ما قاله المؤرخون ، والعلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث : قال ابن هشام : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها ، وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى « حراء » كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي اكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبرئيل عليه السلام بامر اللّه تعالى (1).

وقال العلامة المجلسي : قد ورد أخبار كثيرة انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يطوف ، وانه كان يعبد اللّه في حراء وانه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الاكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة (2).

فايمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وتوحيده قبل البعثة ، اذن ، أمرٌ مسلمٌ لا شبهة فيه ، ولا غبار عليه.

ولكن بعض الكُتاب من المسيحيين ومن تبعهم ، من المستشرقين وغيرهم ، أبوا إلاّ أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة ،

ص: 296


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236.
2- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 280.

وإنه كان على غير إيمان ، أو توحيد ، واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية ، وأبرزها الآيات التالية :

1 - « ألم يَجدكَ يتيماً فآوى. وَوَجَدك ضالاّ فَهَدى » (1).

2 - « وثيابَكَ فَطهِّر. وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ » (2).

3 - « وكذلِكَ أوْحَينا إلَيْكَ رُوْحاً مِنْ أمْرنا ما كُنْتَ تَدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ وَلكِنْ جَعلَناهُ نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وإنَّكَ لَتهْدي إلى صِراط مستقيم » (3).

4 - « قُلْ لَوشاء اللّه مَا تَلَوتُه عَليْكُمْ وَلا أدريكُمْ بِهِ فَقدْ لَبِثْتُ فِيْكُمْ عُمراً مِنْ قَبلِه أفَلا تَعْقِلُون » (4).

5 - « وَما كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ إلاّ رَحْمة مِنْ رَبِّك » (5).

لقد استدل المستشرقون ومن لفّ لفهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة ، وسلب الايمان عنه ، ولكنها لا تدل على ما يريدون ، ولاجل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

الايةُ الاُولى : الهداية بعد الضلالة :

ذكرالمفسرون لقوله تعالى : « وَوَجدَكَ ضالا فهدى » الّذي يشعر بهداية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد الضلالة احتمالات عديدة ، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لاثبات ضلال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة ولكن الحق ان يقال : أنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة في موارد :

1 - الضالّ : من الضلالة ضدّ الهداية والرشاد.

2 - الضالّ : من ضلّ البعير إذا لم يعرف مكانه.

ص: 297


1- الضحى : 6 و 7.
2- المدّثر : 4 و 5.
3- الشورى : 52.
4- يونس : 16.
5- القصص : 86.

3 - الضالّ : من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى ذكره.

وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لأثبات ضلال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة.

أما المعنى الأول فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه : « غَيْر المَغضوب عَليهم وَلا الضالّين » (1).

لكن الضلالة على نوعين :

النوع الأول ما تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها ، مثل الكفر والشرك والنفاق ، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه : « إنّما النَسِيء زيادةٌ في الكُفْر » (2).

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً ، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد ، وعندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غيرُ واجد للهداية من عند نفسه ، وذلك كالطفل الّذي اشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر ، ويميز بين الصلاح والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه.

والمراد من الضالّ في قوله تعالى « وَوَجدكَ ضالا فَهَدى » لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف إلى النوع الثاني ، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء ، وهو اشارة إلى قانون الهي عام في حياة البشر انبياء واناساً ماديين ، وهو ان هداية كل إنسان بل كل ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه : « قالَ رَبُّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خلْقَهُ ثمّ هَدى » (3).

وعلى هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم الّتي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فآواه بعد ما صار يتيماً ، وافاض عليه الهداية بعد ما كان

ص: 298


1- الفاتحة : 7.
2- التوبة : 37.
3- طه : 50 ، وراجع الآيات : 2 و 3 من سورة الأعلى و 43 من سورة الأعراف و 78 من سورة الشعراء وغيرها.

فاقداً لها بحسب ذاته ، وبحكم طبيعته ، ويعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته ، واوليات عمره وايام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الّذي تحقق باليتم ، وتمّ بجده عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين ، ويؤيد ذلك قولُ امام المتقين علي بن ابي طالب عليه السلام : « ولقد قَرنَ اللّه به صلى اللّه عليه وآله وسلم من لَدنْ أن كانَ فطيماً أعظمَ مَلك من ملائكته يسلكُ به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ليله ونهاره » (1).

وصفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو أن لازم كون النبي ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكل كمال وجمال ، مفاضاً عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى وهذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي واين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق والعصيان؟!

ثم ان من المحتمل ان تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه » وفي الحديث « الحكمة ضالّة المؤمن » اي مفقودته ، لا ضدّ الهداية والرشاد ، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عن ما جرى للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة ، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه ، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ (2) ولو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية الالهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره ، المسنيّ اسمُه لا يعرفه إلا القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه.

ولو كان هذا هو المقصود ، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره ، وعرّفه

ص: 299


1- نهج البلاغة : من الخطبة 178 والمسماة بالقاصعة : ص 182.
2- لاحظ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 131 وغيره ، وفي هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول : ياربّ ردّ راكبي محمَّداً *** أردده ربّي واصطنع عندي يدا

للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسياً اسمُه.

ويؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا : « المْ نشرَح لَك صَدرَك. وَوَضْعْنا عَنْكَ وزرَك. الّذي أنقَضَ ظهرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكرَك » (1).

فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه ، وبينهم وعلى هذا فالمقصود من « الهداية » هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال ، فكأنه قال : فوجدك ضالا ، اي خاملا ذكرك ، باهتا اسمُك ، فهدى الناس اليك ، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليه السلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيه محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ألم يجدك يتيماً فآوى » يقول « ألم يَجدْكَ » وحيداً فآوى إليك الناسَ « وَوَجَدكَ ضالاّ » يعني عند قومك « فَهَدى » أي هَداهُمْ إلى معرفَتِك » (2). قال الاستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال :

لقد بُغِّضتْ إليه ( أي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ) الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة ، كما بادره حسنُ الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : « وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى » لا يُفهَم منه أنه كان على وثنية قبلَ الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم ، قبل الخلق العظيم حاشَ للّه ، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين (3).

الآية الثانية : الامر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى « والرُجْزَ فاهجُرْ » على وجود ارضية لعبادة الصنم

ص: 300


1- الإنشراح : 1 - 4.
2- بحار الأنوار : ج 16 ، ص 142.
3- رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده : ص 135 و 136.

والوثن في شخصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وذلك بتفسير الرجز بالصنم ، والوثن ، ويتضح بطلان هذا الادعاء والاستنباط إذا أمعنا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

ان الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة : العذاب ، القذارة ، الصنم.

وقد استعمل الرجز ( بكسر الراء ) في تسع موارد في القرآن الكريم ، وقد اُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد : وهي : البقرة - 59 ، والاعراف - 134 ( وجاءت اللفظة فيها مرتين ) و 135 و 162 والانفال - 11 وسبأ - 5 والجاثية - 11 والعنكبوت - 34.

وجاء الرجز - بضمّ الراء - مرّة واحدة وهي الآية الّتي نحن بصددها هنا (1).

وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه الذين يزعمون بان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان على غير التوحيد قبل البعثة.

واليك بيان هذا الموضوع مفصلاً :

1 - ان الرُجز لو كان بمعنى « العذاب » دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ ، فيكون الخطابُ حينئذ مسوقاً من باب التعليم ، ومن باب « اياك أعني واسمعي يا جاره » ، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ونهيه عما يستلزم العذاب ، وارادة تعليم الاُمة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي « فلا تكوننّ ظهيراً للكافرين » (2). وقوله تعالى : « لئن أشركْتَ ليَحْبَطنَّ عَملُك » (3) فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

2 - إن الرُجز لو كان بمعنى ( القذارة ) وهي تنقسم إلى مادية ومعنوية فيحتمل ان يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من

ص: 301


1- المدَّثر : 5.
2- القصص : 86.
3- الزمر : 65.

أنّ اباجهل جاء بشيء قذر ، وأمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ ، ففعل ، فأمراللّه نبيه بتطهير ثوبه من الدنس.

ويحتمل ان تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني الفظة الرُجز فتكون الآية تعليماً للناس على النمط السابق ، فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم بها.

3 - الرُجز بمعنى الصنم ، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم ، لكن لا بمعنى أنه وضعَ لذاك المعنى ، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم والخمر والازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى : « إنَّما الخمْرُ والمَيْسرُ وَالأنْصابُ وَالأَزْلامُ رجسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ » (1).

ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأن النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم الاصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الاُمة به لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير ، لأنه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان

قوله سبحانه : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إليْكَ رُوْحاً مِنْ أَمْرنا ما كُنْتَ تَدريْ ما الْكِتابُ وَلاَ الإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وانَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراط مُستَقيم » (2).

زعم جماعة دلالة هذه الآية - والعياذ باللّه - على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان فاقداً للايمان قبل الايحاء إليه.

لكنَ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان ، والتوحيد ، تفنّد تلك المقالة ، فالتاريخ

ص: 302


1- المائدة : 90.
2- الشورى : 52.

يشهد على انه صلى اللّه عليه وآله وسلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربه مؤمناً موحداً وذلك امرٌ لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد اجمع على ذلك أهلُ السير والتاريخ ، وحتّى أن الاحبار والرهبان كانوا معترفين بانه نبيُّ هذه الاُمة ، وخاتم النبيين ، وكان يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة » و « يثرب » و « بصرى » و « الشام » (1) وغيرها ، فكيف والحال هذه يمكن ان يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه ، وتوحيده ، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة.

فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية كما لابدّ - في تفسيرها - من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق.

بعث النبيُ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لهداية قومه أوّلا ، وهداية جميع الناس ثانياً ، بالآيات والبيّنات ، ونخصُّ بالذكر منها : القرآن الكريم ( معجزته الكبرى الخالدة ) الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر ارباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم ، وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ اثارة الشكوك والتهم حوله ، وحول ما جاء به ، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط.

فتارة قالوا : بانه يعلّمه بشر ، واُخرى بأنه إفكٌ افتراه ، واعانه عليه قوم آخرون وثالثة : بأنه أساطير الاولين ، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة واصيلا ، قال سبحانه رداً على هذه التهم الّتي أشرنا إليها : « قُلْ نزّلَهُ رُوحُ القدُس مِنْ ربّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِميْنَ * وَلَقْدَ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إليه أعجَميّ وَهذا لسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ » (2).

وقال سبحانه « وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افتراهُ وَأعانَهُ عَلَيْهِ

ص: 303


1- راجع السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحار الأنوار.
2- النحل : 102 و 103.

قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وزُورا. وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتبَهَا فَهِي تُملى عَليْهِ بُكرَةً وَأصيلا. قُلْ أنزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّماواتِ وَالاَْرضِ إنه كانَ غَفُوراً رَحيماً » (1).

والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر ، وانه وحي سماويٌ لا افكٌ إفتراه ، ولهذا بدأ كلامه بلفظة : « وَكَذلِكَ أوْحَينا إليكَ » أي كما أنه سبحانه أوحى إلى سائر الانبياء باحدى الطرق الثلاثة الّتي بينها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من امره ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ولاجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم اموراً تسلط الضوء على الآية :

الأول : ان المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لانه قوام الحياة الاُخروية ، كما ان الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك امورٌ :

أ - ان محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددُها (53) آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب - الآية الّتي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق الّتي يكلم بها سبحانه انبياءه ويقول : « وَما كانَ لِبَشر أن يكلِّمَهُ اللّه إلاّ وَحْياً أو مِن وَرَاء حِجَاب أو يُرسِلَ رَسُولا فَيُوحيَ بإذْنه ما يَشاء إنَّه عليُّ حكيم » (2).

ج - انه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة : « وكذلك » أي كما أوحينا إلى من تقدم من الانبياء كذلك أوحينا اليك باحدى تلك الطرق « روحاً من أمرنا » ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين هو الوحي المتجلي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد ان المراد من الروح في الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه.

نعم وردت في بعض الروايات ان المراد منه هو روح القدس ، ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لان الروح بحكم كونه مفعولا ل « أوحينا » يجب ان

ص: 304


1- الفرقان : 4 - 6.
2- الشورى : 51.

يكون شيئاً قابلا للوحي حتّى يكون موحى ، وروح القدس ليس موحى بل هو الموحي ( بالكسر ) فكيف يمكن أن يكون مفعولا ل « أوحينا » ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّت اسنادها.

الثاني : إن هيئة « ما كنتَ » أو « ما كانَ » تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه : « وَما كانَ لنَفْس أنْ تَموتَ إلاّ بإذْنِ اللّه » (1) وقال عزَّ اسمه : « ما كانَ المؤمنُونَ لِيَنِفرُوا كافّةً » (2).

وعلى ضوء هذا الاصل يكون مفاد قوله « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ » أنه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن تدري الكتابُ ولا الإيمان ، فان وقفتَ عليهما فانّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : أن ظاهر الآية هو أن النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب ، والدراية بالكتاب ، وانما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالا والايمان بوجوده وتوحيده سبحانه ، أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب ، والاذعان بها كذلك؟

لا شك انه لا سبيل إلى الأول لأنّ علمه - اجمالا - بانه ينزل إليه الكتاب ، أو ايمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقف على الوحي ، فان الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالا ، وقد سمع منهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في فترات مختلفة : أنه النبيّ الموعود في الكتب السماوية ، وانه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصحّ أن يقال أن علمه صلى اللّه عليه وآله وسلم بنزول كتاب عليه إجمالا كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ، أو انه كان متقدماً عليه وعلى بعثته ، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه ، وتوحيده ، إذ لم يكن الإيمان باللّه امراً

ص: 305


1- آل عمران : 145.
2- التوبة : 122.

مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الاحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي اليهم.

فيتعين الاحتمال الثاني وهو أن العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الاصول والتعاليم ثم الايمان والاذعان بتلك التفاصيل كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها ، ولا ايمان.

وبعبارة اُخرى : إنّ العلم والإيمان بالامور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والاحكام والقصص ومجادلات الانبياء مع المشركين والكفار ، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير ، لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي حتّى قصص الامم السالفة وحكاياتهم لتطرق الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

* * *

تفسير الآية بآية اُخرى :

إن الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلا ، والإيمان ثانياً.

أما الأول : فيقول سبحانه : « تِلْكَ مِنْ انباء الغَيب نُوحيها إليْكَ مَا كُنتَ تَعْلمُها أنْتَ وَلا قومُكَ مِنْ قَبلِ هذا فاصْبِرْ إنَّ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين » (1) فالآية صريحة في أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : « ما كُنتَ تَعْلُمها اَنتَ ولا قومُكَ » وفي تلك الآية بقوله : « ما كُنْتَ تدري مَا الْكِتاب » والفرق هو ان « الكتاب » أعم من « أنباء الغيب » والأول يشتمل على الانباء وغيرها ، وأما « الانباء » فانها مختصة بالقصص ، والكل مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

ص: 306


1- هود : 49.

واما الثاني فقوله سبحانه : « آمَنَ الرَّسُولُ بما اُنزل إلَيْهِ مِنْ رَبِّه وَالْمُؤمنُونَ كلٌ آمَنَ باللّه وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبه وَرُسُلِهِ لا نفرِّق بَينَ أحد مَن رسلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإليْكَ الْمصيرُ » (1) فقوله : « آمَنَ الرسولُ بِما اُنزِلَ إليهِ » صريحٌ في أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي ، هو الايمان « بما اُنزل إليه » أعني تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده وعندئذ يرتفع الابهام في الآية الّتي تمسكت بها المخطئة ومن ينسبون عدم الإيمان باللّه وتوحيده إلى النبي قبل البعثة ، ويتبيّن أن متعلق الإيمان المنفيّ في قوله : « ولا الإيمان » هو « ما اُنزل » لا الايمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل إن هُنا شيئاً واحداً هو : « الايمان بما اُنزل من المعارف والاحكام والانباء » فقد نفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى فترة ما قبل البعثة ، واثبت له في الآية الاُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

قال الطبرسي : « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ » ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الايمان (2).

وقال الفخر الرازي : المراد من الايمان هو الاقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وانه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل انه كان عارفاً باللّه ... ثم قال : صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا تمكن معرفته الا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة (3).

وقال العلامة الطباطبائي في الميزان : ان الآية مسوقة لبيان ان ما عنده صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي يدعو إليه انما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه ، وإنما اُوتي ما اُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فان ذلك هو الّذي اُوتي العلمُ به بعد النبوة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان عدم تلبسه

ص: 307


1- البقرة : 285.
2- مجمع البيان : ج 3 ، ص 88 و 89.
3- مفاتيح الغيب : ج 7 ، ص 410.

بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمّي العمل ايماناً في قوله تعالى : « وَمَا كانَ اللّه لِيُضيعَ إيمانَكُمْ » (1) والمراد الصلوات الّتي اتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح علمُ الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به ما انت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه ، موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فان الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملا ، لا نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان باللّه ، والخضوع للحق (2).

الآية الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه

قال تعالى : « وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أن يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ إلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرين » (3).

استدلّوا بأن ظاهر الآية نفيُ علمه بالقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبيُ راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله : « الاّ رحمة مِنْ ربّك » حتّى يتضح المقصود ، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها :

1 - إن « إلاّ » استدراكية ، وليست استثنائية فهي بمعنى « لكنَّ » لاستدراك مابقي من المقصود ، وحاصل معنى الآية : « ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أن ربّك رحمك ، وانعم به عليك واراد بك الخير » نظير قوله سبحانه : « وما كنْتَ بِجانِب الطُّور إذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمةً مِنْ رَبِّك » (4) اي ولكن رحمة من ربك خصّصك به وهذا هو المنقول

ص: 308


1- البقرة : 143.
2- الميزان : ج 18 ص 80.
3- القصص : 86.
4- القصص : 46.

عن الفراء (1).

وعلى هذا لم يكن للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اي رجاء لالقاء الكتاب إليه ، وانما فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه.

ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2 - ان يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما القى اليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك » (2) اي لم يكن لالقائه عليك وجهٌ إلاّ رحمة ربك ، وعلى هذا الوجه ايضاً لا يُعلَم انه كان للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجاء لالقاء الكتاب عليه وان كان الاستثناء متصلا.

وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه ، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وانما يصار إليه إذا لم يصحّ ارجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث.

3 - أن يكون « إلاّ » استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله : « وما كنت ترجو » ويكون معناه : ما كنت ترجو القاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما كنت ترجو إلاّ على هذا (3).

فيكون هنا رجاء منفياً ، ورجاء مثبتاً ، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً.

واما رجاؤه به عن طريق الرحمة الالهية فكان موجوداً فنفيُ أحد الرجائين لا يستلزم نفي الآخر ، بل المنفيّ هو الأول ، والثابت هو الثاني وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

وقد سبق منّا أن جملة « ما كنت » وما اشبهه تستَعمل في نفي الامكان ،

ص: 309


1- مجمع البيان : ج 4 ، ص 296 ، مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 408.
2- الكشاف : ج 2 ، ص 487 و 488.
3- مفاتيح الغيب : ج 6 ، ص 498.

والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن راجياً لأن يلقى اليك الكتاب ، وتكون طرفاً للوحي ، والخطاب الاّ من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته ، فيختارك طرفا لوحيه ، ومخاطباً لكلامه ، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ ، ويلقى إليه الكتاب ، وبما انه صار مشمولا لرحمته وعنايته ، وصار انساناً مثالياً ، قابلا لتحمل المسؤولية ، وتربية الاُمة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاثبات غير واردين على موضع واحد.

وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية والشرعية مجتنباً عن المحرمات عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالا وراجياً لنزوله إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل ، وسوقها إلى الكمال.

الآية الخامسة : لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه : « قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلَوتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا ادْريكُمْ بِه فَقدْ لِبثتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبلِه أفلاَ تَعْقِلُون » (1) ، والآية تؤكد أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آية من آياته وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ، ولم يكن قبله عالماً به واين هذا من قول المخطئة من نفي الايمان منه قبلها.

وان اردت الاسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة ، فترى فيها اقتراحين للمشركين وقد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة وعن الآخر في نفس هذه الآية واليك نصّها : « قالَ الَّذينَ لا يَرجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرْآن غير هَذا أوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يكُونُ لِي أنْ اُبَدلَهُ مِنْ تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحى اليَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصيْتُ ربِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ » (2).

ص: 310


1- يونس : 16.
2- يونس : 15.

اقترح المشركون على النبي أحد الأمرين :

1 - الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ على فصاحته وبلاغته.

2 - تبديل بعض آياته مما فيه سبٌّ لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للاوثان والاصنام.

فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بان التبديل عصيان للّه ، وانه يخافُ من مخالفة ربه ، ولا محيص له إلاّ إتباعُ الوحي من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه.

واجاب عن الأول في الآية المبحوث عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلقت مشيئته بتلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا ادراكُمْ به ، والدليل على ذلك أني كنت لابثاً فيكم عُمُراً من قبل فما تكلمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم به ، ايام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة ، المديدة.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية : إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي ، فانما أنا رسول ولو شاء اللّه ان ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآنُ تلوتُه عليكم ، ولا أدراكم به فاني مكثت عُمُراً من قبل نزوله ، ولو كان ذلك اليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه (1).

فكيف يمكنُ والحال هذه أن يكون مجانبا للإيمان باللّه وتوحيده ، لاهياً عن عبادته وتقديسه.

هذا وفي هذا المجال حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر ، ومن أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن ص 135 - 191.

وأما الكلام في الجهة الثانية وهي : أنه بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّدُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل البعثة ، فقد وقع ذلك محطاً للبحث بين العلماء ، وحيث انه لا ينطوي على فائدة كبرى ، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة

ص: 311


1- الميزان : ج 10 ، ص 26 ، ولاحظ المنار : ج 11 ، ص 320.

مؤمناً ، موحّداً ، يعبُد اللّه ، فإنّه يكفي أن نعرف أنه كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى ... وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه بالتالي كان مؤيداً مسدّداً ، وأنه كان أفضل الخلق واكمَلَهم خَلقاً ، وخلقاً ، وعقلا ، وانه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء اكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً وأن هاديه وقائده منذ صباه إلى ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة (1).

ص: 312


1- وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن : ص 135 - 191.

11

بدء الوَحْي

اشارة

انَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بالرسالة ، والّتي وقعت على أثره حوادث خاصة.

ويوم بُعثِ النبيُ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لهداية الناس ، ودوّى في سمعه الشريف نداء « إنك لرسول اللّه » الصادر عن ملاك الوحي اُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جداً ، على نمط الوظيفة الهامة الّتي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش ، أكثر فأكثر ، وتجلت خطته اكثر فأكثر.

ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين :

1 - وجوبُ بعث الانبياء.

2 - دورُ الانبياء في اصلاح المجتمع.

لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله ، وجهّزه - لسلوك هذا الطريق - بالوسائل المتنوعة ، والأجهزة المختلفة اللازمة.

ولنأخذ مثلا : نبتة صغيرة ، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل

ص: 313

لتحقيق التكامل فيها.

ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية ، وتلبية احتياجات النبتة ، وتوصل العروق والقنوات المختلفة ، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق.

إننا لو درسنا جهاز ( وردة ) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في ( الوردة ) ممّا اُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ ، وضمان رشده ونموّه ، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل ، وأفضل صورة.

ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء ، لرأينا أنها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.

وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول : انّ الهداية التكوينية ، الّتي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة ، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات ، وحيوان وانسان.

ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله : « رَبّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه ثُمَّ هَدى » (1).

فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ ، وانَّ اللّه تعالى بعد أن قَدَّر كلَ موجود وكائن ، بيّن له طريق تكامله ، ورُقيّه ، وهيأ لكل كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه ، وهذه هي ( الهداية التكوينية العامة ) السائدة على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء.

ص: 314


1- طه : 50.

ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية ، التكوينية لكائن مثل الإنسان ، اشرف الموجودات ، وافضل ما في هذه الخليقة؟!

بكل تأكيد : لا.

لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة المادية ، تشكل اساس حياته الواقعية ، ولو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات ، والحيوانات ، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله ، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة ، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.

ان الإنسان الأول ، ونعني به انسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته اي إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية.

ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك ، وبدأ الحياة الاجتماعية ، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي ، وغيّرت الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية ، وبالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!

إن هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر ، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع ، والتخفيف من المفاسد الناشئة - بصورة مباشرة - عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان ، وليضيئوا - بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة - طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد.

إذ لا نقاش في أنَّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً ، ينطوي على مفاسد لا تُنكر ، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين ، وهداة مرشدين يعملون - قدر الامكان - على الحدّ من الانحرافات والمفاسد ، ويضعون عجلة المجتمع - بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة الحكيمة - على الطريق الصحيح ، ويضمنون دورانها

ص: 315

وحركتها في المسار المستقيم.

وقد يُستفاد هذا الامر - بوضوح - من قوله تعالى : « كانَ النّاس امَّة واحِدَةً فَبَعَث اللّه النَّبيِّين مُبشِّرينَ وَمُنذِرين وأنزلَ مَعهُمُ الْكِتابَ بِالحقِّ لِيَحكُم بَين النّاس في مَا اختَلَفُوا فيه » (1).

دَور الانبياء في اصلاح المجتمع :

ان الّذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين ، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء اُموراً خاصة ، ويكتسبون معارف معينة ، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء ووظيفتهم الاسياسية هي ( تربية ) المجتمعات البشرية لا تعليمها ، وان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد ، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح ، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي ، وعصارتها ، في غير ابهام ، ولا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها قادة الإسلام العظماء.

فقد قال اميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عن هدف الانبياء :

« أخذَ عَلى الوَحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ... لِيَستأدُوهم ميثاق فِطرتِه ، وَيُذكرُوهم مَنْسيَّ نِعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتَبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العُقول » (2).

ص: 316


1- البقرة : 213.
2- نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم 1.

مثالٌ واضح في المقام :

إذا قلنا : ان وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات ، أو قلنا : أن مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها ، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال ، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك ان النبتة ، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو ، والرشد ، فاذا توفَر لها الجوُ المناسب للنمو ، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها ، واستطاعت بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق ، والضوء اللازم ، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل ، والنمو.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين :

1 - توفير الظروف اللازمة لتوقية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة ، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية ، والتحقق.

2 - الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات ، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها ، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي ( الإنماء ) بل هي ( المراقبة ) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع في كيانه طاقات متنوعة ، وغرائز كثيرة ، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد ، وحبّ معرفة اللّه ، وحبّ الحق والخير ، والعدل والانصاف ، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الامور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية ،

ص: 317

فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع ، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية ، وحب الجاه والمنصب ، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية : ( الانبياء والرسل ) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي ، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي ، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز ، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال اميرالمؤمنين في ما مرّ من كلامه : إن اللّه أخذ - في مبدأ الخلق - ميثاقاً يدعى « ميثاق الفطرة ».

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني ، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير ، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر ( العين ) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق ، ولا يقع في البئر ، فكذلك ايداع حسّ التدين ، وغريزة الانجذاب إلى اللّه ، وحبّ العدل ، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، عادلا ، منصفاً محباً للخير والحق.

وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة ، وبالتالي فانَّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هو تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قدترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان ، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان ، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا : إن اساس الشرائع الالهية يتالف من الامور الفطرية ، الّتي فطر الإنسان عليها.

ص: 318

وكأن صرح الكيان الإنساني ( جَبَلٌ ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة ، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعَت فيه فضائل وعلوم ، ومعارف وخصال ، واخلاق متنوعة.

فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة ، ويعملون على اعادة نفوسنا - بتعاليم الدين وبرامجه - إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا ، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا ، ويلفتونها إلى الصفات ، وإلى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الانبياء ، وذلك هو عملهم الاساسي ، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني ، أفراداً وجماعات.

أمين قريش في غار حراء :

يقع جبل « حِراء » في شمال « مكة » ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.

ويتالف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية سوداء ، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.

ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور ، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل ، وبيمنا تضيء الشمس قسماً منه ، تغرق نواح اُخرى منه في ظلمة دائمة.

ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه ، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه ... ذكريات يتشوق الناس - وحتّى هذه الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار ، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار ، متحملين في هذا السبيل كل عناء ، للوصول إلى رحابه ، لكي يستفسرونه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : « الوحي » العظيمة وليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا جرت

ص: 319

حوادثه في ذلك المكان التاريخي ، العجيب.

ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم بلسان الحال ويقول : هاهنا المكان الّذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الامين.

وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة ، في عبادة اللّه ، والتأمل في الكون ، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.

أجل ، لقد اختار محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة ، للعبادة والتحنث ، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه ، وربما لجا إليه في غير هذا الشهر أحياناً اخرى ، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها ، تعرفُ أنه قد ذهب إلى « غار حراء » وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف ، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير ، أو مشتغلا بالعبادة والتحنث.

لقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل أن يبلغ مقام النبوة ، ويُبْعَث بالرسالة يفكر - اكثر شيء في أمرين :

1 - كان يفكر في ملكوت السماوات والارض ، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات الّتي يشاهدها نور الخالق العظيم ، وقدرته ، وعظمته وعلمه ، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس.

2 - كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله.

إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض ، لم يكن في نظره وتقديره بالامر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل ، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش ، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه.

لقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة ، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة ، ولطالما

ص: 320

شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه ، وملامح وجه الشريف ، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالافصاح بالحقائق ، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد ، ومنعهم عن تلك الانحرافات.

بدء الوحي :

لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة ، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ، ونصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك المَلَك « جبرئيل » ، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.

ولا ريب أن ملاقاة المَلك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّوء خاصّ ، وما لم يكن محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم يمتلك روحاً عظيمة ، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة ، وملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان « أمين قريش » يمتلك تلك الروح الكبرى ، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة ، والتأمّل العميق الدائم ، إلى جانب العناية الالهية.

ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه راى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضح وضوح النهار (1).

ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده بعد كل فترة ، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه ، ويتعبَّد فيها بعيداً عن الناس.

ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتّى أتاه - في يوم معين - ملك عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له : « إقرأ » ، وحيث أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان اُمياً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله : « ما أنا بقارئ ».

ص: 321


1- صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ص 22 ، بحار الأنوار : ج 18 ، ص 194.

فاحتضنه ذلك المَلك ، وعصره عَصرة شديدة ، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.

فعصره المَلك ثانية عصرة شديدة وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح ، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي تشكل - في الحقيقة - ديباجة كتاب السعادة البشرية ، واساس رقيها.

لقد قرأ صلى اللّه عليه وآله وسلم قوله تعالى : « إقرَأ باْسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلقَ. خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق * إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكرمُ. الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَم. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » (1).

وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء مُهِمتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى ، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات الخمس ، انحدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من جبل حراء ، وتوجه نحو منزل خديجة (2).

ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اجمالا ، وبيّنت وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة ، والعلم والمعرفة ، واستخدام القلم.

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين :

لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد الّذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم الطبيعية والتالي أدى إلى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.

فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي ، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل ، ومن نسج الخيال!!

ص: 322


1- العلق : 1 - 5.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 236 و 237.

إن هذا الفريق - لتسرعه في اصدار الحكم في الاُمور المتعلقة - بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة ، وحصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة - انكروا عالم الوحي ، بحجة أنّ الحس والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم ، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات ، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح ، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة ، وكانت النتيجة أن أدوات المعرفة المعروفة ( الحسّ والتجربة ) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً!

إنَّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ ضيق ومحدود ، مضافاً إلى انه يتسم بالغرور والغطرسة ، فهو من باب « استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان » في خطوة متعجلة فجّة!!

فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل اليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!!

ان الّذي لا شك فيه هو : ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتّى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة ، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات ، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين والالهيين في اقرب وقت ، وأين يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.

لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلة والبراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى ، واثبتوا بأَنَّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر ، وان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع ، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع هذا النظام ، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ ، من ذراته إلى مجراته ، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة ، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع ، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

ص: 323

وهذا هو بنفسه برهان « نظام الوجود » أو ( برهان النظم ) الّذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله عشرات الكتب والدراسات.

وحيث ان ( برهان النظم ) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم ، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها ، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره ، وبيانه ، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى الّتي لا تتسم بمثل هذه الشمولية ، في الكتب ، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة.

إنّ للعلماء الالهيين بيانات وأدلة في مجال ( الروح المجردة ) ، وعوالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا ) نشير إلى بعضها هنا :

الروح المجردة :

إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة الّتي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.

فهناك فريقٌ - ممّن اعتاد أن يُخضِعَ كل شيء لمبضع التشريح - ينكر وجود ( الروح ) ، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي ، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

ووجود « الروح » والنفس غير المادية ( اي المجردة المستقلة عن المادة ) من القضايا الّتي عُولجت ودُورست من قِبَل المؤمنين باللّه ، والمعتقدين بالعام الروحاني ، بصورة دقيقة ، وعميقة.

فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود هذا الكائن ( غير الماديّ ) وهي أدلة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها والنقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين - في هذا المجال - من قواعد واُسس ، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اُخرى مشابهة مثل ( الملائكة ) و ( الوحي ) و ( الإلهام ) يقوم هو الآخر على الأساس الّذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا

ص: 324

عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة ، المتقنة (1).

ظاهرة الوحي عِند الماديّين :

يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات ، والأديان السماوية ، وتقوم هذه الظاهرة ( ظاهرة الوحي ) على أن الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة ، أو بواسطة ملَك من الملائكة.

ويلخصُ العلماء المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي : « الوَحيُ تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَ ما أرادَ اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّة غير مُعْتادَة للبَشر ».

ولكن الماديين - كما قلنا - لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة ، وادراك هذه الظاهرة على حالها ، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي - الّتي هي كما اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.

واليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية :

أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي :

1 - قالوا : الوحي هي القدرة الفكرية ، والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي على اثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب ، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود (2).

فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع - على غرار ما يفعل المرتاضون - وإقبالهم

ص: 325


1- ولقد جاء تفصيل هذه البراهين والأدلّة في الكتب الفلسفية مثل : « الإشارات » و « الأسفار ». ولقد اشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب ( اللّه خالق الكون ) فراجع.
2- وهم الّذي يمارسون علمية اليوجا.

على الرياضة الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات ، والكائنات الخفية على غيرهم.

والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة ، بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته ، وإنباءاته.

هذا اولاً

وثانياً : ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري ، بل غاية همّهم هو : عرض الافعال العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين ، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم.

وثالثاً : ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به ، كما لم يُعرَف إلى الآن أن أحداً منهم طلَع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية ، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما اُمروا به وهم على إيمان كامل ، ويقين ثابت منه ، هذا إلى جانب أنهم يحملون إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف ، كاملة الأبعاد ، رفيعة الأهداف ، عميقة الغايات ، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات إلى الآن.

ورابعاً : انّ أعمال المرتاضيين وما تحصَلُ لهم من قوى وينفتح عليهم من آفاق ، محدودة ، بينمنا لا تقف طاقاتُ الانبياء وآفاق علومهم ، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن ابداً تفسير وتعليل ظاهرة ( الوحي ) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من اُموره تتخطى حدود العالم المادي المحدود ، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من امور.

2 - قالوا : انَّ ( الوحي ) نوعٌ من النبوغ ، أو أنه ناشئ من النبوغ ، وأن الانبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر.

وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين : بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغَ

ص: 326

صالحين ، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع إلى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها ، والسير على هديها ، لتحقيق الخير والعدالة ، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية إلى سعادتها ، فكل ما طرحوه من أفكار ، وكل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين أوالقانون ليست - في الحقيقة - سوى نتيجة ما تمتعوا به مِن نبوغ ، وفكر خارق ، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.

وقالوا : وان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها :

الحبُّ ، التعرضُ للظلم الطويل ، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز ، الوحدة ، السكوت ، التربية الاُولى ، والعيش في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.

فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع بالشخص إلى الأنطوائية ، والتفكير والتأمل ، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل والصعوبات ، ومخلص من الظروف الصعبة ، والأحوال الشاقة.

ويُجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك ، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً ، غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة ( الوحي ) الّتي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية ، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تاثيراً في تقوية عملية « التفكير » لدى الإنسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة التوابغ لديه ، إلاّ أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر نبيّاً خضعت جميع النبواغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.

نبياً لم يزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية ، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوتها ، وعمقها وأصالتها ولمعانها

ص: 327

كل المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدم ، في المعارف والعلوم.

هذا مضافاً إلى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر واصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة ، الّتي تفسر النبوة بالنبوغ.

لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنْ أتَّبعُ إلاّ مَا يُوحى إليّ » (1).

أو يقول سبحانه : « إنْ هُوَ إلاّ وَحْي يُوحى » (2).

3 - يقولون : إنّ الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له ، إليه.

وربما قالوا : إنَّ معلومات « محمَّد » وافكارَه وآمالَه وَلَدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على مخيلته السامية ، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلا له وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

وتوضيح هذه النظرية هو : ان لكل إنسان شخصيتين :

1 - الشخصية الظاهرة العادية وهي الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.

2 - الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل عندما تتعطل الحواس ، ويتعطل الشعورُ الظاهري :

وهذه الشخصية هي الّتي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني الّتي لا تخضع لارادته كالكبد والقلب ، والمعدة وغيرها ، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ثم قالوا : وهذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس ، فان المنوَّم

ص: 328


1- الأنعام : 50.
2- النجم : 4.

مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح ، والفكر الثاقب والنظر البعيد ، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى : ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية ، وإن ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً ، وما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.

فقالوا : وان هذه الشخصية هي الّتي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه ، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم ، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمته (1).

ولكن هذه النظرية هي الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي اصاب هذا النمط من العلماء الَّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي ، وهو لا شك ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ اساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة ( الوحي الالهيّ ) والنبوة بهذا الامر؟

هذا أولاً

وثانياً : انَّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء ، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين القلقين ، والسكارى ، والمصابين بالهزيمة والنكسة ، لأن نافذة ( اللاوعي ) عند غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها ، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية ، كما

ص: 329


1- دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ج 10 ، مادّة وحي.

هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك ( الوعيُ ) مكانه للاوعي ، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكرين مفكراً أو عالماً واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة أونظرية معينة من دون سابق تفكير أو استدلال قائم على الشعور.

وخلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً ، وهي لا تحدث إلاّ في ظروف خاصة مثل : المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية الّتي تقلل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية الباطنية.

ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط ( أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية ) لم تحصل للانبياء قط.

فالنبي الأكرم محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم كان طوال ( 23 سنة ) وهي أعوام الرسالة ، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية ، فالنشاطات السياسية ، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل توجهه واهتمامه وتملأ ، عقله وروحه ونفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد ، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الاُمور.

وثالثاً : انَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين ، منهزمين ، منتكسين ، مرضى ، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهم السلام عن هموم الحياة ، وقضاياها ، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.

ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه ، بانهم كانوا - طيلة حياتهم الرسالية - رجالا مجاهدين ، لا يهمهم إلاّ اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية ، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً وكانوا

ص: 330

يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار ، بلا سأم ولا ملل ، ولا تعب ولا نصب.

فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟

إن تفسير ( الوحي الالهي ) الّذي يُلقى إلى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها ، وأعظم المناهج واكملها ، بتجلّي الشخصية الباطنية ، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة ، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة ، ومن هنا حاولوا إلْباس كل شيء حتّى الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب ، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتّى لظاهرة ( الوحي ) الّتي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافاً إلى أن تفسير ( الوحي الالهيّ ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية ، وخاصة في شأن رسول الإسلام « محمَّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم يواجه اشكالات ومؤاخذات اخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير!!

وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم هي : أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.

فان نظرية « الشخصية الباطنية ، والوحي النفسي الذاتي » هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة ( الجنون والصَرع ) التي كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون : ان ما يقوله « محمَّد » وما يتكلم به ليس إلا افكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله ، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه ولا اختيار!!

لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام :

« بَلْ قالُوا اضغاثُ أَحلام » (1).

ص: 331


1- الأنبياء : 5.

ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله :

« وَالْنَّجْم إذا هَوى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنطِقُ عَنِ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمهُ شَدِيدُ الْقُوى » (1).

ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة ( أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد ) ، ويردُّ الأمر إلى الوحي الالهي ، والتوجيه الربانيّ العُلويّ.

إن نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي الشخصية الباطنية الّتي طلع بها الماديون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلاّ غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال ، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم تلك التهمة الّتي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله : « وَقالُوا يَا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَليْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمجنُونٌ » (2).

وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات (3) وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة ، وتبلورت في نظرية : « الوحي النفسيّ ، وتجلّي الشخصية الباطنية ». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ يقول تعالى : « إنّه لقولُ رَسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمَّ امين. وَما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون. ولقدْ رآهُ بالاُفقِ المُبين. وَمَا هُو بِقول شَيْطان رَجيم. فَايْنَ

ص: 332


1- النجم : 1 - 5.
2- الحجر : 6 ، وايضاً راجع الآيات التالية : سبأ : 8 ، الصافّات : 36 ، الدخان : 14 ، الطور : 29 ، القلم : 2 ، التكوير : 22.
3- إذ يقول القرآن في هذا الصدد : « كَذلِكَ ما أتى الَّذينَ مِنْ قَبلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنونٌ. أتواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ( الذاريات : 52 و 53 ).

تَذْهَبُونَ إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين. لِمَنْ شاء مِنْكُمْ أن يستقيم » (1).

بهذا البيان تبيَّنَ بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى الّتي تحاول إعطاء ( الوحي ) طابعاً مادياً مألوفاً ، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة ، ونحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال ، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين :

لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من « الجهل » ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً ، إلى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية ، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس ، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً ، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.

وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور لا يُهتدى اليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة!

ومن هنا قسّم العلماء ادراك البشر إلى ثلاثة أنواع : « إدراك العامّة » « إدراك المفكرين وأرباب الاستدلال » « إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى ».

وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس ، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة ، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.

ص: 333


1- التكوير : 20 - 28.

ان النوابغ في مجال الأخلاق ، وان عقول العلماء الخلاقة ، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون عليه ، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي الا شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم ، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة ، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمل.

قنواتُ المعرفة الثَلاث :

من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم ؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالباً ، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم ، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي :

1 - الطريق التجريبي والحِسي ، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات ، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.

وقد استطاع البشر اليوم ، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيد من سيطرتها على البعيد والقريب.

2 - الطريقُ التعقُّلي الإستدلالي : فان المفكرين يتوصِّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل وتشغيل جهاز العقل ، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة ، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.

إنَّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة ، والمسائل الفلسفية ، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل ، وحركته ، وناتج من عملية التفكير ، والإستدلال المذكورة.

3 - طريق الإلهام : وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق ، وهو فوق نطاق

ص: 334

الحس والتعقل.

إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق ، ليس محالا من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي.

وأما من جهة الاُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره ، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.

ان طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن - في منهج المادّيين ، وأصحاب النزعة المادية - ينحصر في قناتين لا اكثر ، وهما اللّذان سبق ذكرُهما ، في حين أنّ هناك - حسبَ نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين - قناة ثالثة أيضاً.

بل إنَّ هذا الطريق الثالث - كما أسلفنا في مسألة الوحي - أكثر واقعية ، وأقوى أسُساً ، وأوسع آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة ، والنبوة من جانب اللّه سبحانه ، وإن نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق ، وفي ضوء هذه القناة.

وكلّما حصل إرتباط بين اللّه ، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية ، وإعمال الفكر ، واستخدام جهاز العقل.

وهذا النوع من الإلقاء يسمى حيناً بالالهام ، وبالاشراق حيناً آخر.

ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان ( الوحي ) ، وسمِّيَ الآتي بها ( ملَك الوحي ) والآخذ لها ( نبيّاً ).

هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهَم إليه ، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند الآخرين (1).

ص: 335


1- 1 - وانما قلنا « قد » أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الالهامات ليست معلومة وواضحة ، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى اُصول معلومة. وبعبارة اُخرى : يجب الفصل والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والالقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية والشرعية.

من هنا اعتبر العلماء « الوحيَ » الطريقَ المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة ... الوحي الّذي ينزل على الانبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة ، من المعجزة وغيرها.

أنواع الوحي واصنافه :

إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة ، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وائمته ، باختصار :

1 - تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الالهام ، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم ( العلوم البديهية ) الّتي لا يتطرق اليها أي ريب وشك.

2 - وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معين ( كالجبل والشجرة ) كسماع موسى عليه السلام كلام اللّه من الشجرة.

3 - وربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

4 - وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.

وقد نزل القرآن الكريم على النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذا الطريق ، وقد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى : « نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلى قلبك لِتكُونَ مِنَ المُنذَرين. بِلسان عَربيٍّ مُبِيْن » (1).

أساطيرُ مختَلفة :

لقد كتب المؤرخون والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية ، وضبطوا كل

ص: 336


1- الشعراء : 193 - 195 ، وقد اُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه الطرق الأربع جميعها.

ما جلَ اودقَّ في هذا المجال ، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم ، وكتاباتهم.

غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة ، واهتم اتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في حياته الشريفة.

إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء - مهما صغر - من حياة النبيّ الاعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال ، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم وشخصيته العظيمة ، الطاهرة.

ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.

من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ ( الحذر والإحتياط ) في تحليله لحوادثها ، وقضاياها ، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

واليك بقية ما جرى في واقعة نزول ( الوحي ) في حراء :

بقية حادثة نزول الوحي :

استنارت نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وروحه الكبرى بنور « الوحي » المبارك ، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملَك الوحي في ذلك اللقاء العظيم ، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً ، وكلمة كلمة.

وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوه تلكم الآيات بقوله :

يا محمَّد ... أنت رسولُ اللّه ... وأنا جبرئيل.

وقيل : انه صلى اللّه عليه وآله وسلم سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لهذين الحدَثين ، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي اُلقيت على كاهله.

ص: 337

وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء ، وهو لا ينافي بالمرة يقينه صلى اللّه عليه وآله وسلم وإيمانهُ بصدق ما اُنزلَ عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة ، ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب ، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فانَّها عندما تواجه لأول مرّة ملَكاً لم تره من قبل ، وذلك في مثل المكان الّذي التقى النبيُ ( فوق الجبل ) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب ، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ما بعد.

ثم إنّ الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجه النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيت « خديجة » عليها السلام ، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له ، فحدَّثها بكل ما سمع وراى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها ، فعظّمت « خديجةُ » عليها السلام أمره ، ودعت له ، وقالت : إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.

ثم إن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة « خديجة » : دثّريْني ... دَثّريني.

فدثّرته ، فَنام بعض الشيء.

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوقل :

لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن « ورقة » وقلنا أنّه كان ممن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وكان ابن عم خديجة.

فعند ما سمعت « خديجة » زوجة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ما سمعته منه انطلقت إلى « ورقة » لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم ، وشرحت له كلَ شيء مما جرى له مع جبرئيل.

فقال « ورقة » في جواب ابنة عمه : إنّ ابن عمّك لصادق ... وإن هذا لبدء النبوة ، وانه ليأتيه الناموس الاكبر ( أي الرسالة والنبوة ) (1).

ص: 338


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195.

إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إليها ، والّتي دُوِّنت في جميع الكتب.

بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة اُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسُله العظام ، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية ، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.

وانا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر المصريّ الدكتور « هيكل » كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الاساطير إلى التاريخ النبويّ ، وقال : بأنّ هناك من دسَّ في السيرة النبوية ، عن عداوة أو جهل ، بعض الاكاذيب.

ولكنه مع ذلك ينقل هنا اُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً ، في حين اعطى فريقٌ من علماء الشيعة - كالمرحوم الطبرسي - ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

وإليك في ما يلي بعض هذه الاساطير والقضايا المختلفة ، على أنها لم تكن جديرة بالاشارة ابداً لولا أن بعض المحبّين الجهَلاء ، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم ، وكرروها في دراساتهم.

1 - قالوا : إنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عند ما دخل منزل خديجة ، كان يفكّر في نفسه : لعلّ بصرَه خدعته ، أو انه كاهن ، أوفيه جنون!!

ولكن لمّا قالت له خديجة : « انّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبد اللّه ، إنك تصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتصلُ « الرحم » اطمأنَّ ، وزالَ عنه الشكُ والتردّد ، والقى على « خديجة » نظرَ شكر ومودة ، ثم طلب أن يُزمَّل ، فزمِّلَ فنام!! (1).

ص: 339


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 195 ، حياة محمَّد : ص 134.

2 - يقول الطبري وغيره من مؤرخي السيرة : ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لما سمع نداء يقول : « يا محمَّد أنت رسول اللّه » أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنه همَّ بان يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل ، فتبدى له ( ملَك الوحي ) ومنعه عن ذلك!!!

3 - ثم إنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم ، فرأى « ورقة بن نوفل » وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل ، فقال له ورقة :

« والّذي نفسي بيده ، إنَّك لنبيَّ هذه الاُمة ، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه ، ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنِه » فأحس « محمَّد » بأن ورقة يصدّقه ، فاطمأن (1).

بُطلانُ هذه المزاعم :

إن الّذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الاساس ، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصد وهَدف ، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

وذلك :

أولاً : لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.

إنَ القرآن الكريم قصَّ علينا قضاياهم ، وسيرهم ، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.

وإننا لا نجد أيَ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم.

إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول ( الوحي ) على « موسى » بشكل كامل ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه السلام ولا يذكر أي شيء من الخوف ، والارتعاش ، والوحشة والفزع ، بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال « موسى » كانت متوفرة

ص: 340


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238.

أكثر ، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبيُ مرسَلٌ.

ولكن موسى - كما يصرّح القرآن الكريم ، بهذه الحقيقة - حافظ على هدوئه ، وسكونه ، وعندما خاطبَهُ اللّه تعالى بقوله : « أن ألقِ عصاك » القاها من فوره ، وكان خوفه من ناحية العصى الّتي تبدّلت إلى ثعبان مخيف ، لا من جهة الايحاء إليه.

فهل يمكن ، أو يجوز لنا أن نقول : كان « موسى » لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً ، ولكن أفضل الانبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام المَلك ، وفزع إلى درجة فكَّر في طرح نفسه من أعلى الجبل؟! هل هذا كلام معقول؟!

لا ريب أن روح محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما لم تكن مهيَّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الالهيّ ( النبوة ) لا يمكن أن يمنَ عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة ، ويختاره لمقام الرسالة ، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل ، وارسال الانبياء هو هداية الناس وارشادهم.

ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار خوفاً (1) وفزعاً كيف يمكن ان ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم؟!

ثانياً : كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الالهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه ، فطلبَ من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولا (2) بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم؟!

ثالثاً : لقد كان « ورقة » مسيحيّاً حتماً ، ولكنه عند ما أراد أن يزيل عن « محمَّد » الشك والإضطراب ذكر نبوَّة « موسى » عليه السلام وقال : قد جاءك الناموس الّذي جاء موسى (3).

ص: 341


1- كما نقل هيكل في كتابه : « حياة محمَّد ».
2- طه : 29.
3- 3 - السيرة النبوية : ج 1 ، ص 238 وقد نقل المرحوم المجلسي هذه العبارة عن المنتقى ولكنه بلفظة « عيسى » أيضاً ولكن لا وجود لذلك في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام اللذين هما الأساس لهذه الامور.

ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمة يداً اسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي الّتي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلة عما كان يدين به « ورقة » بطلُ القصة؟!

كل هذا بغصّ النظر عن أن مثل هذه الاُمور تتنافى والعظمة الّتي نعهدها من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولا تنسجم معها أبداً ، ويبدو أن كاتب « حياة محمَّد » أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة : « كما يقولون ».

وقد حارب ائمةُ الشيعة هذه الاساطير بكل قوة ، وأبطلوها برمتها.

فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق عليه السلام مثلا : كيف لم يَخفْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قِبَل اللّه ان يكون ممّا ينزغ به الشيطان :

قال الإمام عليه السلام : « إنّ اللّه إذا اتخذَ عبداً ورسولا ، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّ وجلّ مثل الّذي يراه بعينه » (1).

ويقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره ، في هذا الصدد :

« إن اللّه لا يوحي الى رسوله إلاّ بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى ، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ ، ولا يَفْرُق » (2).

ص: 342


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 262 وفي الكافي : ج 1 ، ص 271 نظيره.
2- مجمع البيان : ج 10 ، ص 384.

12

متى نزل الوحي أولا؟

اشارة

لقد تَعرّضَ يوم مبعث رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم غير مقطوع به ، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة.

فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب ، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.

بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن رسول الإسلام قد اُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف « محمّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم من جانب اللّه تعالى بهداية الناس ، وبُعثَ بالرسالة.

ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته الصادقين ، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيهم ، في حديث الثقلين : « إنهما لن يفترقا » فانهم اتبعوا - في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف - القول المأثور - بنقل صحيح - عن عترة النبي المطهرين في

ص: 343

هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيمَ هذا البيت وسيّده ( أي النبيّ ) قد بُعِثَ في السابع والعشرين من شهر رجب ، وهم في ذلك حجة.

ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته (1).

نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان ، وحيث أن يومَ بعثة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كانَ هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه ، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الّذي نزل فيه القرآن الكريم : اي شهر رمضان المبارك.

واليك فيما يأتي الآيات الّتي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان :

1 - « شَهْرُ رَمضان الَّذي اُنْزِلَ فِيه الْقُرانُ » (2).

2 - « حم. وَالكِتابِ الْمُبين. إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة » (3) وتلك الليلة هي ليلة القَدْر الّتي قال عنها سبحانه : « إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدر. لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر » (4).

ما أجاب به علماء الشيعة :

اشارة

ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا :

الجوابُ الأوَّل :

إنَ الآيات المذكورة إنّما تدل على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي « ليلة القدر » ، ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه

ص: 344


1- راجع بحار الأنوار : ج 18 ، ص 189.
2- البقرة : 185.
3- الدخان : 1 - 3.
4- القدر : 1 و 3.

الآيات ، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لا تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه؟

فيحتمل أن يكون القرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً.

والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور (1).

وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن ( من سورة العلق ) قد نزلت على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

ويؤيّد هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان : « إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مباركةِ » فانَّ هذه الآية - بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب - تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلة مباركة ( في شهر رمضان ) ، ولابدَّ انَ يكون هذا النزول غير ذلك النزول الّذي تحقق في يوم المبعث الشريف ، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا اكثر.

وخلاصة الكلام هي ان الآيات الّتي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة ( ليلة القدر ) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الّذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسِه ، لأنَّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر ، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من « اللوح المحفوظ » إلى « البيت المعمور ».

وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون ، وبخاصة

ص: 345


1- للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير.

الاستاذ الأزهري محمّد عبدالعظيم الزرقاني الّذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه (1).

الجواب الثاني :

وهو أمتن الاجوبة والردود على هذا القول.

فقد بذل الاستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم ؛ واليك خلاصته :

يقول العلامة الطباطبائي : إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان ، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي ، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (2).

وحيث أنّ النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقرائته حتّى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى : « وَلا تعْجَل بِالْقُرانِ مِنْ قَبلُ أَن يُقْضى إلَيْكَ وَحْيُهُ » (3).

وخلاصة هذا الجواب هي : أنَّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الّذي نزل على الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم مرة واحدة في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في يوم المبعث ، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

الجواب الثالث : التفكيك بين نزول القرآن والبعثة

إن للوحي - كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي اجمالا - مراتب

ص: 346


1- مناهل العرفان في علوم القرآن : ج 1 ، ص 37.
2- الميزان : ج 2 ، ص 14 - 16.
3- طه : 114.

ومراحل ، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة الّتي رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

والمرتبة الاُخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهي من دون وساطة ملك.

وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه ، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الاُخرى.

وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب ( الوحي ) جميعها دفعة واحدة بل لابدّ أن يتحملها تدريجاً ، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قد سمع يوم المبعث ( اليوم السابع والعشرون من شهر رجب ) النداء السماويّ الّذي يخبره بأنه رسول اللّه ، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم ايّة آية قط ، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً.

وعلى هذا الاساس ما المانع من ان يُبعَث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في شهر رجب ، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

ان هذه الاجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية ( لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه ) إلاّ أن هناك - مع ذلك - روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للنداء الغيبيّ ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول :

في ذلك اليوم سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ملكاً يقول له : يا محمَّد إنّك لرسول اللّه ، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء ، فقط ، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.

وللمزيد من التوضيح ، والتوسع يُراجع « البحار » في هذا المجال (1).

ص: 347


1- 1 - بحار الأنوار : ج 18 ، ص 184 و 190 و 193 و 253 ، الكافي : ج 2 ، ص 460 ، تفسير العيّاشي : ج 1 ، ص 80 وهذا الجواب لا ينسجم مع ما رواه البخاري من أنّ بعثة النبي رافقت نزول آيات من سورة العلق عليه.

على أنَ هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة الّتي تقول بأن مبعثَ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان في شهر رجب ، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية الّتي استغرقت ثلاثة أعوام. الانبياء والبشارة برسول اللّه :

وينبغي - استكمالا لهذا الفصل من التاريخ النبوي - ان نلفت نظر القارئ الكريم إلى ان الرسالة المحمَّدية المباركة ، ممّا بشر به جميع الانبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الانبياء والمرسلين محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ولقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لمَا آتيتُكُمْ مِنْ كِتاب وَحِكمَة ثُمَّ جاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ قالَ ءأَقْرَرتُمْ وَأَخذتُم عَلى ذلِكُمْ إصريْ قالُوا أقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ » (1).

وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عام وكلّي وهو : وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق ، إلاّ أن المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.

فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الانبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه واتباعه ونصرته.

روى الفخر الرازي عن اميرالمؤمنين علي عليه السلام :

« إن اللّه تعالى ما بَعث آدم عليه السلام وَمؤمن بعده من الانبياء عليهم الصلاة والسَّلام إلاّ أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه » (2).

وممّا يؤيد هذا ان القرآن دعا اهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في

ص: 348


1- آل عمران : 81.
2- مفاتيح الغيب : ج 2 ، ص 507.

كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان ، واليك فيما ياتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر :

1 - قال اللّه تعالى : « وَإذْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ لَتُبيَّنُنَّهُ للنّاس وَلا تَكتُمونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراء ظُهورهمْ وَاشْتَروا بِه ثَمناً قَلِيلا فَبِئسَ مَا يَشْتَرُونَ » (1).

2 - قال تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِه ثَمناً قَليلا اُوْلئكَ مَا يَأكُلُونَ في بُطُونِهِم إلاّ النّار ، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يَومَ الْقِيامَةِ ولا يُزكّيهمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ » (2).

3 - وقال تعالى : « الَّذينَ آتَيْناهمْ الْكِتابَ يَعرفُونَهُ كَما يَعرفُونَ أَبناءهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ ليكتمون الحقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » (3).

4 - وقال سبحانه : « الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ الاُمِيَّ الَّذي يَجدُونَه مكتُوباً عِندَهُمْ في التَوراةِ وَالإنجيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوف وَيَنْهاهُمْ عِنَ الْمُنكر وَيُحِلُّ لَهُمْ الطيِّباتِ وَيُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ وَيضَعُ عَنْهُمْ إصْرهُمْ وَالأَغْلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِم فالَّذينَ آمَنُوا بِه وَعَزَّرُوهُ وَنَصرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي اُنزِلَ معهُ اُوْلئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (4).

ان القرآن الكريم يصرح بجلاء ان السيد المسيح عليه السلام اخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى :

« وَإذْ قالَ عيسَى بنْ مَريَمَ يَا بني إسرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُمْ مُصدِّقاً لِمَا بينَ يديَّ مِنْ التَوراة ومبشِّراً بِرَسُول يَأتي مِن بَعدي اْسمُه أَحمَدُ فلمّا جَاءهُمْ

ص: 349


1- آل عمران : 187.
2- البقرة : 174.
3- البقرة : 146.
4- الاعراف : 157.

بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سحرٌ مُبينٌ » (1).

كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم عندما بُعثَ وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على اعدائهم إذ قال سبحانه : « وَلمَّا جاءهُمْ كِتابٌ مِنْ عِندِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبلُ يَسْتفتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفَرُوا فَلمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه فلعنَةُ اللّه عَلى الْكافِرينَ » (2).

بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأَنَّ إبراهيم عليه السلام يومَ أحلّ زوجتَه وولده اسماعيل بارض مكة دعا قائلا : « رَبَّنا وَابعَثْ فيهمْ رَسولا مِنْهُمْ يَتلو عَلَيْهمْ آياتِكَ وَيعلِّمُهُمْ الْكِتابَ وَالْحِكْمةَ وَيُزكّيهمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ » (3).

وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ يصفه القرآن الكريم بقوله : « لَقَدْ مَنّ اللّه عَلى الْمُؤمنينَ إذْ بَعثَ فيهمْ رَسولا مِنْ أنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِه وَيُزكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَإنْ كانوا مِنْ قَبلُ لَفي ضَلال مُبيْن » (4).

محمَّد خاتم الانبياء :

واستكمالا لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ونبوته وهي مسألة الخاتمية.

فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا نبيّ بعده ، ولا رسالة بعد رسالته.

ص: 350


1- الصف : 6.
2- البقرة : 89.
3- البقرة : 129.
4- آل عمران : 164.

وها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال :

1 - قال تعالى : « مَا كانَ مُحمَّد اَبا أَحد مِنْ رجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ الْنَبيّين وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيء عَليماً » (1).

2 - قال سبحانه : « تَباركَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرقانَ عَلى عَبدِه ليكونَ للعالَمينَ نَذيراً » (2).

3 - وقال سبحانه : « وَاُوحي إليّ هذا الْقُرآنُ لاُنذِركُمْ بِه وَمَنْ بَلغَ » (3).

4 - وقال تعالى : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً لِلنّاسِ بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أكثرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ » (4).

والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم عامة وعالمية وأبدية لأَنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافة ، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.

هذا وقد صرّح النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.

فعن ابي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« اُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون » (5).

ص: 351


1- الأحزاب : 40.
2- الفرقان : 1.
3- الانعام : 19.
4- سبأ : 28.
5- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 128.

ص: 352

13

ما سَبَقني أحدٌ

أوَّلُ من آمنَ بالنبيَّ منَ الرجال والنِّساء :

لقد انتشرَ الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية ، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب « السابقين ».

وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة ، ونتعرف على من سَبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال ، ومن النساء.

مِنَ النساء : « خديجة »

إن من المسلَّم به تاريخياً أن « خديجة » كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم يخالف في هذا اُحدٌ ، (1) ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلا عن إحدى زوجات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، مكتفين به رعايةً للاختصار.

تقول عائشة : ما غرتُ على نساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ على « خديجة » وإنّي لم اُدركها ، وقد كان رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج

ص: 353


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 240.

من البيت حتّى يذكر « خديجة » فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال :

« لا واللّه ما ابدَلني اللّه خيراً منها ، آمنَت بي إذ كَفَر الناسُ ، وَصَدَّقَتني إذ كَذَّبني النّاسُ ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها اولاداً إذ حرمني اولاد الناس » (1).

وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كلَ نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي ، ونزول القرآن ، لأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عندما انحدر من غار « حراء » واخبر زوجته « خديجة » بما جرى له واجه - رأساً - ايمان زوجته به وقبولها لكلامه ، وتصديقها برسالته ، تصريحاً وتلويحاً.

هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب ، وهذه الأخبار وامانة فتى قريش وصدقه الّذي اشتهر به هي الّتي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ ( محمَّد ).

أقدمُ الرجال اسلاماً : « عليّ »

اشارة

إن المشهور المقارب للمتَفق عليه بين المؤرخين ، سنة وشيعة ، هو أن « عليا » كان اول من آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الرجال.

ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالا اخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً :

فمثلا يقال : إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبني ، أو أبو بكر كان أول من أسلم ، ولكن دلائلَ عديدة ( نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار ) تشهد على خلاف هذين القولين.

ص: 354


1- صحيح مسلم : ج 7 ، ص 134 ، صحيح البخاري : ج 5 ، ص 39 ، اسد الغابة لابن الأثير الجزري : ج 5 ، ص 428 ، بحار الأنوار : ج 16 ، ص 8.

واليك بعض هذه الدلائل :

1 - عليّ تربّى في حجر النبيّ

لقد تلقى عليٌ عليه السلام تربيته في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته ، وكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.

قال عامّة المؤرخين وكُتّاب السيرة بالاتفاق : إنَّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ ( قبل بعثة النبي ) وكان أبو طالب ذاعيال كثير ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم للعباس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلْنخفّف من عياله ، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ انت رجلا فنكفهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى اتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه ( إلى أن قال : ) فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن به وصدقه (1).

في هذا الصورة يجب أن نقول بأنّ علياً عليه السلام انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة ، لأَنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من ابيه « أبي طالب » هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة ( أبي طالب ) ، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ ( دون الثامنة ) مضافاً إلى أنَّ فصله عن والدَيه أمرٌ في غاية الصعوبة ، لن يكونَ لأَخذهِ وتكفّلِهِ أيُ أثر هامّ في وضع أبيه ( أبي طالب ) المعيشىّ.

وعلى هذا يجب أن نفترض له عليه السلام عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الإقتصادي والمعيشي.

ص: 355


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 246 ، البداية والنهاية : ج 2 ، ص 25.

فكيف يمكن القول - والحال هذه - أن اباعد عن البيت النبويّ مثل « زيد بن حارثة » وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي ، بينما جهل ابن عم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم واقرب الناس إليه والّذي كان معه في اكثر الأوقات بما أتى به صلى اللّه عليه وآله وسلم وما نزل عليه.

إنّ غرضَ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات ، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أنْ يهديَ أحداً إلى الصراط المستقيم ، فكيف يمكن أن يقال - والحال هذه - أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حرم ابن عمّه الّذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ ، من هذه النعمة الكبرى.

إنَ من الأفضل أن نسمَعَ هذا الأمر من لسان « علي » نفسه ، فقد بيّن عليه السلام في الخطبة القاصعة منزلَته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقربه إليه هكذا :

« وَلَقدْ عَلِمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضَعني في حجره وأنا وليدٌ ، يضمُّني إلى صدره ، ويكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويُشمُّني عرفَه ( عرقه ) ... ولقد كنتُ أتّبعه اتباعَ الفصيل إثر اُمِّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمُرُني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري ، ولم يجمَعْ بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه ، وخديجة وأنا ثالثهما أرى نورَ الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريحَ النبوة » (1).

وجاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحاق قال : كان اول ذكر آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه « علي بن ابي طالب » عليه السلام وهو يومئذ ابن عشر سنين ، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن ابي طالب عليه السلام انه كان في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 356


1- نهج البلاغة : ج 2 ، ص 182 ، وفي هذه الخطبة نفسها يقول : اللّهمّ إني أوّل من أناب وَسَمِعَ وَاَجابَ لم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة.

قبل الإسلام (1).

2 - عليُّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ :

ينقل ابن الاثير في « اُسد الغابة » ، وابن حجر في « الإصابة » عند ترجمة « عفيف الكندي » وكثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه ، بأنه قال :

كنت إمرء تاجراً فقدمتُ « منى » أيام الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجراً فأتيته أبتاع منه وابيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ، إنّ هذا الدين ما ندري به؟ فقال : هذا محمَّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستُفتَح عليه ، وهذه امرأته « خديجة بنت خويلد » آمنت به وهذا الغلام ابن عمه « علي بن ابي طالب » آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم (2).

وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتّى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها ، وفي امكان القارئ الكريم ان يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.

3 - أنا الصِدّيق الأكبر :

تلاحَظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً ، في خطب الإمام عليّ عليه السلام وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة :

« أنا عَبْدُ اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِدّيقُ الأكبر ، لا يقولُها بعدي الا كاذب مفتر ، ولقدْ صَلّيتُ مَعَ رسُول اللّه قبل الناسِ بسَبْع سِنين ، وأنا أوّل مَن

ص: 357


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57.
2- الاصابة : ج 2 ، ص 480 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 57. الكامل : ج 2. ص 37 و 38. اعلام الورى : ص 2. اسد الغابة : ج 3 ، ص 414.

صلّى معه » (1).

4 - أوَّلكم إسلاماً : عليٌ

ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبتعابير متنوعة قال فيها :

« أوَّلُكُمْ وارداً عَليَّ الحوضَ ، أوَّلُكُمْ إسْلاماً عليُّ بنُ أبي طالب » (2).

وعند ما يدرس المنصف المحايد هذه الاحاديث ، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام ، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمَّدية ، ولا يختار القولين الآخرين اللَّذين لا يذهبُ إليهما إلاّ الأقليّة.

فإنَّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيدون القولَ الأَولَ ( أي أن عليّاً أولُ القوم إسلاماً وأقدمهم أيماناً ) وحتّى الطبريّ نفسه الّذي شكَّكَ في هذا القول ، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده ، روى في ج 2 ، ص 60 بأن « ابن سعد » سال اباه قائلا : أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ، فقال : لا ولقد أسلم قبله اكثر من خمسين.

ومن غريب الأمر ان مؤرخاً كبيراً كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ، ص 334 من كتابه « البداية والنهاية » حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين وأنَّه أوَّل من اَسلم وصلّى ثمَّ أردفه بقوله : وهذا لا يصحّ من اي وجه كان روي عنه ، وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم من هذه الاُمَّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصحّ منها شيء ... إلخ.

وقد تصدى العلامة المحقق الاميني رحمه اللّه للردّ على هذا المقال بالتفصيل ونظراً لأهميّة ما كتبه العلامة الاميني وما احتوى عليه من نصوص تاريخية نسرده هنا مع ما فيه من تكرار بسيط لبعض ما ذكرناه.

ص: 358


1- خصائص النسائي : ص 3 وسنن ابن ماجه : ج 1 ، ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج 1 ، ص 112 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 56 وغيرها.
2- يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير : ج 3 ، ص 220.

يقول العلامة الاميني :

نُسائل هذا الرَّجل لِمَ لا يصحّ شيء منها من أيّ وجه كان؟! والطرق صحيحةٌ ، والرِّجال نقاتٌ ، والحفّاظ حكموا بصحَّته ، وأرباب السير أطبقوا عليه ، وكان من المتسالم عليه بين الصَّحابة الأَوَّلين والتابعين لهم بإحسان.

ونحن لو نقتصر على كلمتنا هذه يحسبها القارئ دعوى مجرّدة لدة دعوى ابن كثير ( أعاذنا اللّه عن مثلها ) وتخفى عليه جليَّة الحال فيهمنا ذكرُ نزر ممّا يدلُّ على المدَّعى وإن لم يسعنا ايراد كثير منه روماً للاختصار.

النصوص النبوية :

1 - قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : أوَّلكم وارداً - وروداً - على الحوض أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب.

أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 136 وصحَّحه م - والخطيب البغدادي في تاريخه ج 2 ص 81 ويوجد في الاستيعاب 2 ص 457. شرح ابن أبي الحديد 3 ، ص 258.

وفي لفظ : أوَّل هذه الاُمّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه. السيرة الحلبيَّة 1 ص 285. سيرة زيني دحلان 1 ص 188 هامش الحلبيَّة.

وفي لفظ : أوَّل الناس وروداً على الحوض أوّلهم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب مناقب الفقيه إبن المغازلي. مناقب الخوارزمي.

2 - قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لفاطمة : زوّجتك خير اُمَّتي أعلمهم علماً ، وأفضلهم حلماً وأوَّلهم سلماً. راجع ما مرَّ ص 95.

3 - قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لفاطمة : إنَّه لأوَّل أصحابي : إسلاماً. أو : أقدم اُمَّتي سلماً. حديث صحيحٌ راجع ص 95.

4 - أخذ صلى اللّه عليه وآله وسلم بيد عليّ ، فقال : إنَّ هذا أوَّل من آمن بي ، وهذا أوَّل من يُصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدِّيق الأكبر. راجع الجزء الثاني

ص: 359

ص 313 ، 314.

5 - عن أبي ايوب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى علي سبع سنين لأنا كنّا نصلّي وليس معنا أحدٌ يُصلّي غيرنا.

مناقب الفقيه ابن المغازلي باسنادين م - أسد الغابة 4 : 18 ومناقب الخوارزمي وفيه : ولِمَ ذلك يا رسول اللّه؟ قال : لم يكن معي من الرجال غيره.

كتاب الفردوس للديلمي. شرح إبن أبي الحديد عن رسالة الاسكافي 3 ص 258. فرائد السمطين الباب 47.

6 - إبن عبّاس قال قال النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنَّ اوَّل من صلّى معي عليُّ. فرائد السمطين الباب 47 بأربع طرق.

7 - معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : يا عليُّ! اخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ولا يُجاحدك فيه أحدٌ من قريش ، أنت أوَّلهم ايماناً باللّه ، وأوفاهم بعهد اللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).

8 - أبوسعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلّي - وضرب بين كتفيه - : يا عليُّ لك سبع خصال لا يُحاحّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة ؛ أنت أوَّل المؤمنين باللّه ايماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأقومهم بأمر اللّه. الحديث. ( حلية الأولياء 1 ص 66 ).

9 - من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند الشعبي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انَّه قال لعليّ عليه السلام : هذا أوّل من آمن بي وصدَّقني وصلّى معي. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 256.

10 - إنَّ ابابكر وعمر خطبا فاطمة فردَّهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : لم أُؤمر بذلك. فخطبها عليُّ فزوَّجه إيّاها وقال لها : زوَّجتكِ أقدم الاُمَّة إسلاماً. روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم : أسماء بنت عميس واُمّ أيمن وإبن عبّاس وجابر بن عبد اللّه. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 257.

ص: 360

كلمات اميرالمؤمنين عليه السلام :

1 - قال عليه السلام : أنا عبد اللّه ، وأخو رسول اللّه ، وأنا الصِّديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كاذبٌ مفتري ، ولقد صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين ، وأنا أوَّل من صلّى معه.

إسناده من طريق إبن أبي شيبة والنسائي وإبن ماجة والحاكم والطبري (1) صحيحٌ رجاله ثقات ، راجع الجزء الثاني من كتابنا 314.

2 - قال عليه السلام : أنا أوَّل رجل أسلم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

أخرجه أبو داود بإسناده الصحيح كما في شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص 258.

3 - قال عليه السلام : أنا أوّل من أسلم مع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 4 ، ص 233.

4 - قال عليه السلام أنا أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

أخرجه أحمد ، والحافظ الهيثمي في « مجمع الزوائد » وقال : رجاله رجال الصحيح غير حبَّة العرني وقد وثق. وأخرجه أبو عمرو في الإستيعاب 2 ، ص 458.

وابن قتيبة في « المعارف » ص 74 من طريق أبي داود عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبّة عنه عليه السلام. والإسناد صحيحٌ رجاله ثقاتٌ.

5 - قال عليه السلام أسلمت قبل أن يسلم النّاس بسبع سنين. الرِّياض النضرة 2 ص 158.

6 - قال عليه السلام : عبدت اللّه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سَبع سنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة. مستدرك الحاكم 3 ص 112.

7 - قال عليه السلام : عن حكيم مولى زاذان قال : سمعت عليّاً يقول : صلّيت قبل النّاس سبع سنين ، وكنّا نسجد ولا نركع ، وأوَّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص 258.

ص: 361


1- في تاريخه 2 ، ص 213.

8 - قال عليه السلام : عبدت اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة خمس سنين. الإستيعاب 2 ، ص 448. الرِّياض النضرة 2 ، ص 158. السيرة الحلبيَّة 1 ، ص 288.

9 - قال عليه السلام : آمنت قبل الناس سبع سنين. خصائص النسائي ص 3.

10 - قال عليه السلام : ما أعرف أحداً من هذه الاُمَّة عَبَدَ اللّه بعد نبينا غيري ، عبدتُ اللّه قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الاُمَّة تسع سنين. خصائص النسائي ص 3.

11 - من خطبة له عليه السلام يوم صفِّين : وابن عمِّ نبيِّكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى طاعة ربِّكم ، ويعمل بسنَّة نبيِّكم صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا سواء من صلّى قبل كلِّ ذكَر لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه. كتاب نصر ص 355. شرح إبن أبي الحديد 1 ، ص 503.

12 - قال عليه السلام : اللّهمَّ لا أعرف عبداً من هذا الاُمَّة عبدَك قبلي غير نبيّك [ قاله ثلاث مرّات ] ثمَّ قال : لقد صلّيت قبل أن يُصلّي الناس. وفي لفظ : قبل أن يُصلّي أحدٌ. أخرجه أحمد ، أبويعلى ، البزّاز ، الطبراني ، الهيثمي في المجمع 9 ، ص 102. وقال : إسناده حسنٌ. شيخ الإسلام الجويني في الفرائد الباب 48.

13 - من كتاب له عليه السلام كتبه إلى معاوية : انَّ أولى النّاس بأمر هذه الاُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من رسول اللّه ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، وأوَّلها إسلاماً ، وأفضلها جهاداً. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 168 ط مصر.

14 - في حديث عنه عليه السلام : لا واللّه إن كنت أوَّل من صدَّق به فلا أكون أوَّل من كذب عليه. المحاسن والمساوئ 1 ، ص 36. تاريخ القرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 ، ص 218.

15 - قال عليه السلام : بُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء.

ص: 362

مجمع الزوائد 9 ، ص 102. تاريخ القرماني 1 ، ص 215. الصواعق 72. تاريخ الخلفاء للسيوطي 112. إسعاف الراغبين 148.

16 - من كتاب كتبه عليه السلام إلى معاوية : انَّ محمَّداً صلى اللّه عليه وآله وسلم لمّا دعا إلى الإيمان باللّه والتوحيد كنّا أهل البيت أوَّل من آمن به؟ وصدَّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرَّمة ( أي كاملة ) وما يعبد اللّه في ربع ساكن من العرب غيرنا. كتاب صفِّين لابن مزاحم ص 100.

17 - قال عليه السلام : يوم صفِّين مخاطباً أصحاب معاوية : ويحكم أنا أوَّل من دعا إلى كتاب اللّه ، وأوَّل مَن أجاب إليه. كتاب نصر 561.

18 - قالت معاذة بنت عبد اللّه العدويَّة : سمعت عليَّ بن أبي طالب على منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن يُؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم أبوبكر. راجع الجزء الثاني ص 314.

19 - قال عليه السلام : في خطبة خطبها في معسكر صفِّين : أتعلمون أنّ اللّه فضَّل في كتابه السابق على المسبوق ، وأنه لم يسبقني اللّه ورسوله أحدٌ من الاُمَّة؟! قالوا : نعم. راجع الجزء الأوَّل ص 195.

20 - قال عليه السلام : صلّيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاث سنين قبل أن يُصلّي معه أحدٌ من النّاس. أخرجه أحمد باسنادين.

21 - قال عليه السلام : يوم الشورى في حديث أسلفناه : أمنكم أحدٌ وحَّداللّه قبلي؟ قالوا : لا. أمنكم أحدٌ صلّى القبلتين غيري؟ قالوا : لا. راجع ج 1 ص 195 - 163 ، وهذه الفقرة من الحديث عدَّها إبن أبي الحديد ممّا استفاضت به الرِّوايات.

22 - مرَّ في الجزء الثاني ص 25 في أبيات له عليه السلام كتبها إلى معاوية :

سبقتكمُ إلى الإسلام طرّا *** غلاماً ما بلغت أوان حلمي

23 - ذكر إبن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص 11 له عليه السلام :

أنا أخو المصطفى لا شكَّ في نسبي *** به رُبيت وسبطاه هما ولدي

صدَّقته وجميع النّاس في بُهم *** من الضَّلالة والإشراك والنكد

ص: 363

قال : قال جابر : سمعت عليّاً يُنشد بهذا ورسول اللّه يسمع : فتبسَّم رسول اللّه وقال : صدقت يا علي؟

كلمة الإمام السبط الحسن عليه السلام :

24 - من خطبة للامام الحسن عليه السلام في مجلس معاوية قوله : أنشدكم اللّه أيّها الرَّهط؟ أتعلمون أنَّ الّذي شتمتموه منذ اليوم صلّى القبلتين كلتيهما؟

وأنت يا معاوية بهما كافرٌ ، تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية ؛ وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه بايع البيعتين كلتيهما : بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية بإحداهما كافرٌ ، وباُخرى ناكثٌ. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنَّه أوَّل الناس ايماناً؟! وإنَّك يا معاوية وأباك من المؤلفَّة قلوبهم. شرح إبن أبي الحديد 2 ص 101.

25 - وفي خطبة له عليه السلام مرَّت في ج 1 ، ص 198 : فلمّا بعث اللّه محمَّد للنبوَّة ، واختاره للرِّسالة ، وأنزل عليه كتابه ثمَّ أمره بالدعاء إلى اللّه ، فكان أبي أوَّل من استجاب للّه ولرسوله ، وأوَّل من آمن وصدَّق اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيِّه المرسل : « أفمن كان على بيِّنة من ربِّه ويتلوه شاهدٌ منه » فجدّي الَّذي على بيِّنة من ربِّه ، وأبي الّذي يتلوه وهو شاهدٌ منه.

رأي الصحابة والتابعين في أوّل من أسلم

1 - أنس بن مالك قال : نُبَّئ ( بُعث ) النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الإثنين وأسلم عليّ يوم الثَّلاثاء. وفي لفظ له : بُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء.

أخرجه الترمذي في جامعه 2 ، ص 214. الطبراني. الحاكم في المستدرك 3 ص 112. إبن عبدالبرّ في الإستيعاب 3 ص 32. إبن الأثير في جامع الاُصول كما في تلخيصه تيسير الوصول 3 ص 271. الجويني في فرائد السمطين الباب

ص: 364

47. وأوعز إليه العراقي في التقريب 1 ، ص 85. ويوجد في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258. تذكرة السبط 63. السراج المنير شرح الجامع الصغير 2 ص 424. شرح المواهب 1 ص 241.

2 - بُريدة الأسلمي قال : اُوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 112 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي.

3 - زيد بن أرقم قال : أوَّل من أسلم مع رسول اللّه عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الطبري بإسنادين صحيحين رجالهما ثقات. مسند أحمد 4 ، ص 368.

مستدرك الحاكم 4 ، ص 336 وصحَّحه هو وأقرَّه الذهبي. الكامل لابن الأثير 2 ، ص 22.

4 - زيد بن ارقم قال : أوَّل من صلّى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليُّ.

أخرجه أحمد والطبراني كما في مجمع الهيثمي 9 ص 103 وقال : رجال أحمد رجال الصحيحين. أبو عمرو في الإستيعاب 2 ، ص 459.

5 - زيد بن أرقم قال : أوَّل من آمن باللّه بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليُّ بن أبي طالب. الإستيعاب 2 ، ص 459.

6 - عبد اللّه بن عبّاس قال : أوَّل من صلّى عليّ.

جامع الترمذي 2 ، ص 215. تاريخ الطبري 2 ، ص 241 بإسناد صحيح. الكامل لإبن الأثير 2 ص 22. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 256.

7 - عبد اللّه بن عبّاس قال : لعليٍّ أربع خصال ليست لأحد : هو أوَّل عربيّ وأعجميٍّ صلّى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. مستدرك الحاكم 3 ، ص 111 ، الإستيعاب 2 ص 457.

8 - عبد اللّه بن عبّاس قال مجاهد : إنَّه قال : أوَّل من ركع مع النبيِّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عليُّ بن أبي طالب فنزلت فيه هذه الآية : وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة واركعوا مع الراكعين. تذكرة السبط 8.

ص: 365

9 - عبد اللّه بن عبّاس قال في خطبة له : إنَّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طعام أهل الشام أعواناً على عليٍّ بن أبي طالب إبن عمّ رسول اللّه وصهره وأوَّل ذكر صلّى معه.

كتاب صفِّين لابن مزاحم 360. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 504. جمهرة الخطب 1 ص 175.

10 - عبد اللّه بن عبّاس قال : فرض اللّه تعالى الإستغفار لعلي في القرآن على كلّ مسلم بقوله تعالى : « ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ». فكلُّ من أسلم بعد عليٍّ فهو يستغفر لعليٍّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ، ص 256.

11 - عبد اللّه بن عبّاس قال : أوّل من أسلم عليُّ بن أبي طالب.

الإستيعاب 2 ص 458. مجمع الزوائد 9 ص 102.

12 - عبد اللّه بن عبّاس قال : كان عليّ أوَّل من آمن من الناس بعد خديجة رضي اللّه عنهما.

الإستيعاب 2 ص 457 وقال : قال أبو عمرو رضي اللّه عنه : هذا إسنادٌ لامطعن فيه لأحد لصحَّته وثقة نقلته. وصحَّحه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242.

13 - كان إبن عبّاس بمكَّة يُحدِّث على شفير زمزم ونحن عنده فلما قضى حديثه قام إليه رجلٌ فقال : يابن عبّاس؟ إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص إنَّهم يتبرَّؤن من عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ويلعنونه. فقال : بل لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهينا. ألِبُعد قرابته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟ وإنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين ايماناً باللّه ورسوله؟ وأوَّل من صلّى وركع وعمل بأعمال البرّ؟ قال الشامي : انَّهم واللّه ما يُنكرون قرابته وسابقته غير انَّهم يزعمون أنّه قتل الناس. الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 ، ص 30.

14 - عفيف قال : جئت في الجاهليَّة إلى مكّة وأنا أريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فأتيت العبّاس بن عبد المطلب وكان رجلا تاجراً فأنا عنده جالسٌ

ص: 366

حيث أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس في السَّماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السَّماء ثمَّ قام مستقبل الكعبة ثمَّ لم البث إلاّ يسيراً حتّى جاء غلامٌ فقام على يمينه ، ثمَّ لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى جاءت إمرأةٌ فقامت خلفهما ، فركع الشابُّ فركع الغلام والمرأة ، فرفع الشابُّ فرفع الغلام والمرأة ، فسجد الشابُّ فسجد الغلام والمرأة فقلت : ، يا عبّاس؟ أمرٌ عظيمٌ. قال العبّاس : أمرٌ عظيمٌ ، أتدري مَن هذا الشابُّ؟ قلت : لا. قال : هذا محمَّد بن عبد اللّه إبن أخي. أتدري مَن هذا الغلام؟ هذا عليّ إبن أخي. أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته ، انَّ إبن أخي هذا أخبرني انَّ ربَّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الّذي هو عليه ، ولا واللّه ما على الأَرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

خصايص النسائي 3. تاريخ الطبري 2 ص 21. الرِّياض النضرة 2 ص 158. الإستيعاب 2 ص 459. عيون الأثر 1 ص 93. الكامل لإبن الاثير 2 ص 22. السيرة الحلبيَّة 1 ص 288.

15 - سلمان الفارسي قال : أوَّل هذه الاُمَّة وروداً على نبيِّها الحوض أوَّلها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

الإستيعاب 2 ص 457. مجمع الزوائد 9 ص 102 وقال : رجاله ثقاتٌ. وعدَّ الإسكافي في رسالته على العثمانيَّة. وأبو عمرو في الإستيعاب. والعراقيُّ في شرح التقريب 1 ص 85. والقسطلاني في المواهب 1 ص 45 ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم.

16 - أبو رافع قال : صلّى النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أوَّل يوم الاثنين وصلّت خديجة آخره وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء من الغد.

أخرجه الطبراني كما في شرح المواهب 1 ص 240. عيون الأثر 1 ص 92.

وتجده وسابقه في الرِّياض النضرة 2 ص 158. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 258.

17 - أبو رافع قال : مكث عليّ يصلّي مستخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحدٌ. أخرجه الطبراني. الهيثمي في المجمع 9 ص 103. الجويني في

ص: 367

الفرائد ب 47.

18 - أبوذر الغفاري ، عدَّ ممَّن روى انَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. التقريب وشرحه 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

19 - خباب بن الأرت قال : رأيت عليّاً يُصلّي قبل الناس مع النبيّ وهو يومئذ بالغٌ مستحكم البلوغ. رسالة الإسكافي. وعُدَّ ممَّن روى انَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم في الاستيعاب 2 ص 456. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

20 - المقداد بن عمرو الكندي ، ممَّن روى انَّ عليّاً أوّل من أسلم كما في الإستيعاب 2 ص 456. والتقريب وشرحه 1 ص 85. والمواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

21 - جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، قال : بُعث النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثَّلاثاء. الطبري 2 ص 211. الكامل لابن الأثير 2 ص 22. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258 ، وعدّه أبو عمرو والعراقيُّ والقسطلاني ممَّن روى أنَّ عليّاً أوَّل من أسلم.

22 - أبو سعيدالخدري روى إنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من أسلم.

الإستيعاب 2 ص 456. شرح التقريب 1 ص 85. المواهب اللدنيَّة 1 ص 45.

23 - حذيفة بن اليمان قال : كنّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليُّ من أبناء أربع عشر سنة قائمٌ يصلّي مع النبيِّ ليلا ونهاراً ، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما يذبُّ عنه إلاّ عليّ. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260.

24 - عمر بن الخطاب قال عبد اللّه بن عبّاس : سمعت عمرو عنده جماعةٌ فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر : أمّا علي فسمعت رسول اللّه : يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أن تكون لي واحدة منهنَّ ، كانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبوبكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم على منكب عليٍّ رضي اللّه عنه فقال له : يا عليُّ؟ أنت أوَّل

ص: 368

المؤمنين ايماناً ، وأوَّل المسلمين إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

رسالة الإسكافي. مناقب الخوارزمي. شرح إبن أبى الحديد 3 ص 258.

25 - عبد اللّه بن مسعود قال : أوَّل حديث علمته من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّي قدمت مكّة مع عمومة لي ( وذكر مثل حديث عفيف المذكور ص 226 ) رسالة الإسكافي.

26 - أبو أيّوب الأنصاري ، أخرج الطبراني عنه انَّه قال : أوَّل الناس إسلاماً عليُّ بن أبي طالب. شرح التقريب 1 ص 85. شرح الزرقاني 1 ص 242.

27 - أبو مرازم يعلى بن مرَّة ، عدَّه الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممَّن قال : إنَّ عليّاً اوَّل الناس إسلاماً.

28 - هاشم بن عُتبة المرقال قال : أنت يا أمير المؤمنين! أقرب الناس من رسول اللّه رحماً ، وأفضل الناس سابقة وقدماً. كتاب نصر 125. جمهرة الخطب 1 ص 151.

29 - في كلام لهاشم بن عُتبة يوم صفِّين : انَّ صاحبنا هو أوَّل من صلّى مع رسول اللّه ، وأفقهه في دين اللّه ، وأولاه برسول اللّه.

كتاب نصر 403. تاريخ الطبري 6 ص 24. الكامل لابن الأثير 3 ص 135. وقال هاشم يوم صفِّين :

مع ابن عمّ أحمد المعلّى *** فيه الرَّسول بالهدى استهلا

أوّل من صدَّقه وصلّى *** فجاهد الكفّار حتّى أبلى (1)

30 - مالك بن الحارث الأشتر قال في خطبة له : معنا إبن عم نبيِّنا وسيفٌ من سيوف اللّه عليُّ بن ابي طالب ، صلّى مع رسول اللّه لم يسبقه إلى الصلاة ذكَر ، حتّى كان شيخاً لم يكن له صبوةٌ ولا نبوةٌ ولا هفوةٌ ، فقيهٌ في دين اللّه ، عالمٌ بحدود اللّه.

كتاب نصر 268. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 484. جمهرة الخطب 1

ص: 369


1- كتاب صفين لابن مزاحم : 371 ط مصر.

ص 183.

31 - عدّي بن حاتم قال في خطبة له مخاطباً معاوية : ندعوك إلى أفضل الاُمَّة سابقة ، وأحسنها في الإسلام آثاراً.

كتاب نصر 221. تاريخ الطبري 6 ص 2. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 344. وفي لفظ إبن الأثير في الكامل 3 ص 124 : انَّ ابن عمَّك سيد المسلمين أفضلها سابقةً.

32 - عديّ بن حاتم قال في خطبة اُخرى له : إن كان له « لعليٍّ » عليكم فضلٌ فليس لكم مثله فسلّموا وإلاّ فنازعوا عليه ، واللّه لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنَّة؟ انّه لأعلم الناس بهما. ولئن كان إلى الإسلام؟ إنَّه لأخو نبي اللّه والرأس في الإسلام. الإمامة والسياسة 1 ص 103.

33 - محمَّد بن الحنفيَّة قال سالم بن ابي الجعد قلت له : أبو بكر كان أوَّلهم إسلاماً؟! قال : لا. الاستيعاب 2 ص 458. إذا ثبت أنَّ أبابكر لم يكن أوَّل الناس إسلاماً فعليّ عليه السلام هو المتعيَّن سبق إسلامه.

34 - طارق بن شهاب الأحمسي في كلام له : ثمَّ قلت : ادع عليّاً وهو أوَّل المؤمنين ايماناً باللّه وابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ووصيّه ، هذا أعظم ، الحديث. شرح إبن أبي الحديد 1 ص 76.

35 - عبد اللّه بن هاشم المرقال قال في خطبة له : يا أيّها الناس! انَّ هاشماً جاهد في طاعة إبن عمّ رسول اللّه ، وأوَّل من آمن به ؛ وأفقههم في دين اللّه. كتاب نصر 405.

36 - عبد اللّه بن حجل قال : يا أمير المؤمنين! أنت أوَّلنا ايماناً ، وآخرنا بنبيِّ اللّه عهداً. الإمامة والسياسة 1 ص 103 ، كتاب نصر.

37 - أبو عمرة بشير بن محصن قال في جمع من أصحاب علي ومعاوية : إنَّ صاحبي أحق البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول الّه. كتاب نصر 210.

38 - عبد اللّه بن خباب بن الأرت قال إبن قتيبة : إنّ الخارجة الّتي خرجت

ص: 370

على عليٍّ بينما هم يسيرون فإذا هم برجل يسوق إمرأته على حمار له فعبروا إليه الفرات فقالوا له : من أنت؟ قال : أنا رجلٌ مؤمنٌ ، قالوا : فما تقول في عليَّ بن أبي طالب؟ قال : أقول : إنَّه أمير المؤمنين وأوَّل المسلمين ايماناً باللّه ورسوله. قالوا : فما اسمك؟ قال : وأنا عبد اللّه بن خباب بن الأرت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. الإمامة والسياسة 1 ص 122.

39 - عبد اللّه بن بُريدة قال : أوَّل الرجال إسلاماً عليُّ بن أبي طالب ثمّ الرهط الثلاث : أبوذر وبُريدة وابن عمّ لأبي ذرّ. أخرجه محمَّد بن إسحق المدني في الجزء الأَوَّل من المغازي.

40 - محمَّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية كتاباً منه : فكان أوّل من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق ، وأسلم وسلم أخوه وابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب - إلى أن قال - : أوَّل الناس إسلاماً ، واصدق الناس نيَّة - إلى قوله - يا لك الويل! تعدل نفسك بعليٍّ وهو وارث رسول اللّه ووصيّه وابو ولده ، وأوّل الناس له اتِّباعا ، وآخرهم ، به عهداً ، يُخبره بسرِّه ، ويشركه في أمره. نصر في كتاب صفِّين 133.

41 - عمرو بن الحمق قال لعلي : أحببتك لخصال خمس : انَّك إبن عمِّ رسول اللّه ، وأوَّل من آمن به. وفي لفظ : وأسبق النّاس إلى الإسلام ، أبوالذريَّة الّتي بقيت فينا من رسول اللّه ، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد.

كتاب صفِّين 115. جمهرة الخطب 1 ص 149.

42 - سعيد بن قيس الهمداني يرتجز في صفِّين بقوله (1) :

هذا عليُّ وابن عمِّ المصطفى *** أوَّل من أجابه ممّن دعا

هذا الإمام لا يُبالي من غوى

43 - عبد اللّه بن أبي سفيان قال مجيباً الوليد (2)

وإنَّ وليّ الأمر بعد محمَّدٍ *** عليّ وفي كلِّ المواطن صاحبه

ص: 371


1- شرح النهج لابن ابي الحديد : ج 13 ص 232 وفيه « أول من أجابه فيما روى ».
2- رسالة الاسكافي ، وذكرهما الحافظ الكنجي في الكفاية ص 48 للفضل بن العبّاس.

وصيُّ رسول اللّه حقّاً وصنوه *** وأوَّل من صلّى ومن لان جانبه

44 - خزيمة بن ثابت الأنصاري عدَّه العراقي في شرح التقريب 1 ص 85 ، والزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242 ممّن قال بأنَّ عليّاً أوَّل الناس إسلاماً.

وقالا : أنشد المرزبان له في عليٍّ :

أليس أوَّل من صلّى لقبلتكم *** وأعلم النّاس بالقران والسنن؟؟

وذكر له الإسكافي في رسالته كما في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 259 :

وصيُّ رسول اللّه من دون أهله *** وفارسه مذكان في سالف الزمنْ

وأوَّل من صلّى من الناس كلّهم *** سوى خيرة النسوان واللّه ذوالمننْ

وذكرهما له الحاكم في المستدرك 3 ص 114 ، وذكر قبلهما :

إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا *** أبو حسن ممّا نخاف من الفتنْ

وجدناه أولى النّاس بالنّاس أنَّه *** أطبّ قريش بالكتاب وبالسننْ (1)

45 - كعب بن زهير ، ذكر الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 242. من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين عليه السلام :

إنَّ عليّاً لميمون نقيبته *** بالصّالحات من الأفعال مشهورُ

صهر النبيِّ وخير النّاس كلّهُم *** فكلّ من رامه بالفخر مفخورُ

صلّى الصلاة مع الاُمِّي أوَّلهم *** قبل العباد وربُّ الناس مكفورُ (2)

46 - ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ذكر جمعٌ من الأعلام له أبيات وذكرها آخرون لغيره وهي :

ما كنت أحسب انّ الأمر منصرف *** عن هاشم ثمَّ منها عن أبي حسن

أليس أوَّل من صلّى لقبلتهم؟! *** وأعلم النّاس بالآيات والسنن؟!

وآخر النّاس عهداً بالنبيِّ؟ *** ومَن جبريل عون له في الغسل والكفن؟

ص: 372


1- ولهذه الابيات بقية توجد في الفصول المختارة 2 ص 67.
2- في النسخة تصحيف ذكرناها صحيحة.

مَن فيه ما فِيهمُ ما تمترون به؟! *** وليس في القوم ما فيه من الحسنِ

ماذا الّذي ردَّ كم عنه؟! فنعلمه *** ها إنَّ بيعتكم من أوَّل الفتنِ

 وذكر الإسكافي في رسالته البيتين الأوَّلين منها ونسبهما إلى أبي سفيان بن حرب بن اُميَّة بن عبد شمس حين بويع أبوبكر. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 259.

47 - الفضل بن أبي لهب قال ردّاً على قصيدة الوليد بن عقبة :

ألا انَّ خير النّاس بعد محمَّدٍ *** مهيمنه التاليه في العرف والنكرِ

وخيرته في خيبر ورسوله *** بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

وأوَّل من صلّى صنو نبيِّه *** وأوَّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليُّ الخير من ذا يفوقه؟! *** أبو حسن حلف القرابة والصهر

48 - مالك بن عبادة الغافي حليف حمزة بن عبد المطلب قال :

رأيت عليّاً لا يلبّث قرنه *** إذا ما دعاه حاسراً أو مسربلا

فهذا وفي الإسلام أوَّل مسلم *** وأوَّل من صلّى وصام وهلّلا

 49 - أبو الأسود الدؤلي يهدِّد طلحة والزبير بقوله :

وإنَّ عليّاً لكم مصحرُ *** يماثله الأسد الأسودُ

أما انَّه أوَّل العابدين *** بمكّة واللّه لا يُعبدُ (1)

50 - جندب بن زهير كان يرتجز يوم صفين بقوله :

هذا عليُّ والهدى حقّاً معه *** يا ربّ فاحفظه ولا تضيِّعه

فإنَّه يخشاك ربّي فارفعه *** نحن نصرناه على مَن نازعه

صهر النبيِّ المصطفى قد طاوعه *** أوَّل من بايعه وتابعه (2)

51 - زفر بن يزيد (3) بن حُذيفة الأسدي قال :

فحوطوا عليّاً فنصروه فإنَّه *** وصيُّ وفي الإسلام أوَّل أوَّل

ص: 373


1- رسالة الاسكافي كما شرح ابن ابي الحديد : 2 ص 259.
2- كتاب نصر بن مزاحم : 453.
3- في بعض المصادر : زفير بن زيد.

وإن تخذلوه والحوادث جمَّة *** فليس لكم عن أرضكم متحوّل (1)

52 - النجاشي بن الحارث بن كعب قال :

فقل للمضلّل من وائل *** ومن جعل الغثَّ يوماً سمينا

جعلت ابن هند وأشياعه *** نظير عليٍّ أما تستحونا؟!

إلى أوَّل النّاس بعد الرسول *** أجاب النبيّ من العالمينا

وصهر الرَّسول ومن مثله *** إذا كان يوم يشيب القرونا؟! (2)

53 - جرير بن عبد اللّه البجلي قال :

فصلّى الإله على أحمد *** رسول المليك تمام النعمْ

وصلّى على الطهر من بعده *** خليفتنا القائم المدَّعمْ

عليّاً عنيت وصيَّ النبيَّ *** يجالد عنه غواة الاُممْ

له الفضل والسبق والمكرما *** ت وبيت النبوَّة لا المهتضمْ

54 - عبد اللّه بن حكيم التميمي قال :

دعانا الزبير إلى بيعة *** وطلحة من بعد أن أثقلا

فقلنا : صفقنا بايماننا *** فإن شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليّاً على بيعة *** وإسلامه فيكمُ أوَّلا

 55 - عبدالرحمن بن حنبل [ جعل ] الجمحي حليف بني الجمح قال :

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة *** على الدين معروف العفاف موفَّقا

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً *** صدوقاً وللجبّار قدماً مصدِّقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا *** فليس كمن فيه يرى العيب منطقا

عليُّ وصيُّ المصطفى ووزيره *** وأوَّل من صلّى لذي العرش واتَّقى (3)

56 - أبو عمرو عامر الشعبي الكوفي قال : أوَّل من أسلم من الرِّجال عليُّ بن أبي طالب وهو إبن تسع سنين. رسالة الإسكافي كما في شرح ابن أبي

ص: 374


1- رسالة الاسكافي كما في شرح ابن ابي الحديد : 3 ص 259.
2- كتاب صفين لنصر بن مزاحم : 66.
3- كفاية الطالب الحافظ الكنجي : 48.

الحديد 3 ص 260.

57 - أبو سعيد الحسن البصري قال : عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد عن عبد الرَّزاق عن معمر عن قتادة عنه. ورواه الإسكافي في رسالته عن عبد الرَّزاق كما في شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260.

وقال الحجّاج للحسن وعنده جماعةٌ من التابعين وذكر عليّ بن أبي طالب : ما تقول أنت يا حسن؟ فقال : ما أقول؟ هو : أوَّل من صلّى إلى القبلة ، وأجاب دعوة رسول اللّه. وانَّ لعليٍّ منزلة من ربِّه وقرابة من رسوله ، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردَّها أحدقٌ. فغضب الحجّاج غضباً شديداً وقام عن سريره فدخل بعض البيوت.

وقال رجل للحسن : ما لنا لا نراك تثني على عليٍّ وتقرّظه؟ قال كيف؟! وسيف الحجّاج يقطر دماً ، انَّه أوَّل من أسلم ، وحسبكم بذلك. رسالة الإسكافي كما في شرح إبن ابي الحديد 3 ص 258.

58 - الإمام محمَّد بن عليَّ الباقر قال : أوَّل من آمن باللّه عليُّ بن أبي طالب وهو إبن إحدى عشرة سنة. شرح إبن ابي الحديد 3 ص 260.

59 - قتادة بن دعامة الأكمة البصري قال : عليُّ أوَّل من أسلم بعد خديجة. أخرجه أحمد كما سمعت ، والقسطلاني عدّة ممّن قال به في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242.

60 - محمَّد بن مسلم المعروف بابن شهاب (1) عدَّه القسطلاني في المواهب 1 ص 45 ، وأقرّه الزرقاني في شرحه 1 ص 242 من القائلين بأنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم.

61 - أبوعبد اللّه محمَّد بن المكندر المدني قال : عليُ اوَّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

62 - أبو حازم سلمة بن دينار المدني قال : عليُّ أوّل من أسلم. تاريخ الطبري 1 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

ص: 375


1- نسبة إلى جد جده.

63 - أبو عثمان ربيعة بن ابي عبد الرَّحمن المدني قال : عليُّ أوَّل من أسلم. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

64 - أبو النضر محمَّد بن السائب الكلبي قال : عليّ أوَّل من أسلم ، أسلم وهو إبن تسع سنين. تاريخ الطبري 2 ص 213. الكامل لابن الأثير 2 ص 22.

65 - محمَّد بن اسحاق قال : كان أوّل ذكرآمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصلّى معه وصدَقه بما جاءه من عند اللّه عليُّ بن ابي طالب وهو يومئذ إبن عشر سنين (1) وكان ممّا أنعم اللّه به على عليَّ بن أبي طالب انَّه كان في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل الإسلام.

وقال : وذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب مكَّة وخرج معه عليُّ بن ابي طالب ، مستخفياً من عمِّه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصَّلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ماشاء اللّه أن يمكثا ، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلِّيان فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : يابن أخي ما هذا الدين؟ الحديث.

تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة إبن هشام 1 ص 264 ، 265. سيرة إبن سيِّد الناس 1 ص 93. الكامل لابن الأثير 4 ص 22. شرح إبن أبي الحديد 3 ص 260. السيرة الحلبيَّة 1 ص 287.

66 - جُنيد بن عبد الرَّحمن قال : أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصلَّيت الجمعة ثمَّ خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخٌ يقال له : ابو شيبة القاصّ يقصُّ على الناس ، فرغَّب فرغبنا ، وخوَّف فبكينا ، فلمّا انقضى حديثه قال : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فلعنوا أبا تراب عليه السلام فالتفت إليّ من على يميني فقلت له : فمن أبو تراب؟ فقال : عليُّ بن أبي طالب إبن عمَّ رسول اللّه ، وزوج إبنته ، وأوَّل النّاس إسلاماً ، وأبوالحسن والحسين. فقلت : ما أصاب هذا القاص؟! فقمت إليه وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم وجهه

ص: 376


1- في الكامل لابن الاثير : 2 ص 32. احدى عشرة سنة. نقلا عن ابن اسحاق.

وأبطح براسه الحائط ، فصاح فاجتمع أعوان المسجد فوضعوا ردائي في رقبتي وساقوني حتّى دخلوني على هشام بن عبدالملك وابو شيبة يقدمني فصاح يا أمير المؤمنين؟ قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمرٌ عظيمٌ. قال : من فعل لك؟ فقال : هذا. فالتفت إليّ هشام وعنده أشراف النّاس فقال : يا أبا يحيى؟ متى قدمت؟ فقلت : أمس وأنا على المصير إلى أمير المؤمنين فادركتني صلاة الجمعة فصلَّيت وخرجت إلى باب الدرج فإذا هذا الشيخ قائمٌ يقصُّ فجلست إليه فقرأ فسمعنا ، فرغَّب مَن رغبَّ ، وخوّف مَن خوّف ؛ ودعا فأمّنا ، وقال في آخر كلامه : اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب ، فسالت مَن أبو تراب؟

فقيل : عليُّ بن ابي طالب ، أوَّل الناس إسلاماً ، وإبن عم رسول اللّه ، وأبوالحسن والحسين ، وزوج بنت رسول اللّه. فواللّه يا أمير المؤمنين؟ لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه بمثل هذا اللعن لأحللت به الّذي أحللت ، فكيف لا أغضب لصهر رسول اللّه وزوج إبنته؟! فقال هشام : بئس ما صنع. تاريخ ابن عساكر 3 ص 407.

هذه جملةٌ من النصوص النبويَّة ، والكلم المأثورة عن أمير المؤمنين والصحابة والتابعين في أنَّ عليّاً أوَّل مَن أسلم : وهي تربو على مائة كلمة ، أضف اليها ما مرَّ ج 2 ص 276 من أنَّ أمير المؤمنين سبّاق هذه الاُمَّة. واشفع الجميع بما أسلفناه ج 2 ص 306 من أنَّه صلوات اللّه عليه صدِّيق هذه الاُمة ، وهو الصِّديق الاكبر.

فهل تجد عندئذ مساغاً لمكابرة إبن كثير تجاه هذه الحقيقة الراهنة وقوله : وقد ورد في أنَّه أوَّل من أسلم. إلخ؟!؟! فإذا لا يصحُّ مثل هذه فما الَّذي يصحّ؟ وإن كان لا يصحّ شيء منها فما قيمة تلك الكتب المشحونة بها؟! كلا ، إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون.

وأنت ترى الرجل يزيف هذه الكلم والنصوص الكثيرة الصحيحة بحكم الحفّاظ الأثبات بكلمة واحدة قارصة ، ويعتمد في إثبات أيِّ أمر يروقه في تاريخه على المراسيل والمقاطيع والآحاد ، ونقل المجاهيل وأفناء الناس (1).

ص: 377


1- الغدير : ج 3 ص 219 - 239.

مناظرة بين المأمون واسحاق :

ولقد دار بين المأمون العباسي وإسحاق وهو من العلماء المشهورين حوار طريف في هذا المجال ينقله ابن عبد ربّه في كتابه « العقد الفريد » نذكر هنا خلاصته :

قال المأمون : يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بَعث اللّه رسوله؟

إبن إسحاق : الإخلاص بالشهادة.

المأمون : أليس السبق إلى الإسلام؟

ابن إسحاق : نعم.

المأمون : إقرأ ذلك في كتاب اللّه يقول : « والسابقون السابقون اُولئك المقرَّبون » إنَّما عُني من سبق إلى الأسلام ، فهل علمت أحداً سبق عليّاً إلى الإسلام؟

إبن إسحاق : إنّ علياً أسلَم وهو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكمُ وأبوبكر أسلمَ وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

وهنا أمسك المأمونُ بزمام الكلام وقال :

أخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاماً من اللّه؟

قال إسحاق : بل دعاه رسول اللّه إلى الإسلام.

قال المأمون : يا إسحاق هل يخلو رسول اللّه حين دعاه إلى الإسلام من ان يكون دعاه بأمر من اللّه أو تكلَّف ذلك من نفسه؟

ثمّ قال : يا اسحاق لا تنسب رسولَ اللّه إلى تكلّف فإن اللّه يقول : « وما أنا مِنَ المتكلّفين ».

فإذا دعاه بأمر اللّه وليس من صفة الجبّار - جلَّ ذكرُه - أن يُكلِّفَ رسلَه دعاء مَنْ لا يجوز عليه حكم ، أفتراه في قياس قولك يا إسحاق؟ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكمُ قد تكلَّف رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من دعاء

ص: 378

الصبيان ما لا يطيقون (1).

وعلى هذا الاساس يجب اعتبار ايمان علي عليه السلام ايماناً صحيحاً ثابتاً لم يقلّ عن إيمان الآخرين أهميةً وقيمة بل هو افضل مصداق لقوله تعالى : « والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون » ، هو الإمام علي بن أبي طالب.

قضيّةُ « إنقطاع الوَحْي » :

لقد أضاءت روحُ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ونفسُه الشريفة واستنارت بنور الوحي ، ودفَعَه ذلك إلى التأمّل والتفكير في الوظيفة الكبرى والثقيلة الّتي جعلها اللّه على كاهله ، وخاصة عندما خاطبه اللّه تعالى بقوله : « يا أيُّها المُدّثِّرُ. قُمْ فَأْنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ » (2).

وهنا طرح المؤرخون وبخاصّة الطبريّ الَّذي لا يخلو تاريخه من الاساطير الاسرائيليّة قضيّة باسم « انقطاع الوحي » فقالوا : إنّ رسول اللّه بعد أن رأى ذلك الملَك وسمع منه الآيات الاُولى من القرآن الكريم بقي ينتظر نزولَ خطاب آخر من جانب اللّه تعالى ، ولكن دون جدوى ، فهو لم يرَ ذلك المَلك الجميل بعد ذلك ، ولا أنه سمع النداء الغيبيّ مرة اُخرى على غرار ما رأى وسمع في بدء نزول الوحي.

ولو كان لأنقطاع الوحي في بداية عهد الرسالة ( الّذي ادّعاه هؤلاء ) حقيقة فما هو سوى النزول التدريجي للقرآن ليس إلاّ.

وقد تعلَّقت المشيئة الالهية اساساً بأن ينزلَ الوحيُ على رسول اللّه تدريجاً ، لا دفعةً واحدةً وذلك لمصالح معينة ، وحيث أن الأَمر في بدء الوحي كان على أوّله وفي بدايته ، لذلك لم ينزل الوحي الالهي بعد المرة الاُولى فوراً ، ولكن حُمِلَ هذا على « انقطاع الوحي » ولم يكن لا انقطاع الوحي ولا أية مسألة اُخرى من

ص: 379


1- العقد الفريد : ج 5 ص 352 طبعة بيروت دار الكتب العلمية وج 5 ص 94 طبعة لجنة التأليف القاهرة.
2- المدثر 1 - 3.

هذا القبيل.

وحيث أن هذه المسألة قد تذرَّع بها الكُتّابُ المغرضون لذلك ينبغي أن نعطيها بعض الاهتمام ليتضح أن ما اُدّعي من انقطاع الوحي ، قضيةٌ فارغةٌ عن الحقيقة ولذلك لا صحّة لتطبيقِ الآيات القرآنية عليها.

ولتوضيح هذا الأمر ننقل هنا نصّ ما كتبه الطبريّ ونقله في تاريخه ، ثم نعمد بعد ذلك إلى نقده.

يكتب الطبري في هذا الصدد قائلا لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وجزع جزعاً شديداً قالت له خديجة : ما أرى ربَك إلا قد قلاك ، فانزل اللّه عزّ وجلّ قوله : « والضُّحى. واللّيْلِ إذا سَجى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وللآخرة خيرٌ لكَ مِنَ الاُوْلى. ولَسوْفَ يُعطِيْكَ ربُّكَ فَترضى. ألم يَجدْكَ يتيماً فآوى. وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى. وَوَجدَكَ عائلا فَأغْنى. فأمَّا اليَتيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السائلَ فَلا تَنهَرْ. وَأمّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحدّثْ » (1).

ولقد أوجدَ نزولُ هذه الآيات سروراً عظيماً لدى خديجة عليها السلام ، وعلمت بأن ما قالته حول رسول اللّه لا أساس له من الصحة (2).

اُسطورة وليس تاريخاً!

إنَّ ذاكرةَ التاريخ تحفظ وتتذكر جيّداً تاريخ حياة السيدة خديجة.

إن خديجة الّتي كانت أخلاق محمَّد الفاضلة وخصاله المجيدة ، وافعاله الحميدة ماثلة امام عينيها والّتي كانت تؤمن بعدل ربّها كيف يجوز ان تسيء الظن باللّه تعالى وبنبيه الكريم ، العظيم الشأن؟

إنَّ مقامَ النبوَّة ومنصبَ الرسالة ، والسفارة الالهية لا يُعطى إلاّ لمن يملك طائفةً من الصفات النبيلة والخصال الرفيعة ، وما لم يتصف شخصُ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الصفات العليا ، وما لم تتوفر فيه مثل هذه الشرائط الخاصّة

ص: 380


1- الضحى : 1 - 11.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 48.

والمواصفات المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.

ولقد قال العلماء : إنّ المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.

إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟

وذهب بعضُ المفسّرين إلى أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ، فإن أمر المبعث والرسالة - كما سنقول ذلك فيما بعد - بقي خافياً على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ، إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

إختلافُ المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » :

لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي ) هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا :

ص: 381

1 - ان اليهود سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام : ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي (1).

بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الاُمور الثلاثة (2).

2 - قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ » (3).

3 - إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم »؟ (4) فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.

4 - اهدى عثمان إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش فنزلت

ص: 382


1- روح المعاني : ج 30 ، ص 157 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 310 و 311.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 301.
3- تفسير القرطبي : ج 10 ، ص 83 و 71 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 349.
4- نفس المصدر.

السورةُ (1).

5 - إن جرواً لأحد نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه (2).

6 - إنّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ (3).

ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير (4).

ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ما أرى ربَّك إلاّ قد قلاك!!

فنزلَ الوحيُ يقولُ : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » (5).

وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً.

وإننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته :

1 - لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ،

ص: 383


1- تفسير روح المعاني : ج 30 ، ص 157.
2- غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج 30 ، ص 108.
3- تفسير ابو الفتوح الرازي : ج 12 ، ص 108.
4- مجمع البيان : ج 10 ، تفسير سورة الضحى.
5- تفسير الطبري : ج 30 ، ص 148.

ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس منه إلا كَرَم الصفات ونبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين له صلى اللّه عليه وآله وسلم من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة؟؟!

2 - إنّ آية : « ما وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً.

3 - إن ناقل هذه الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب »؟!

4 - إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب - في هذه الصورة - ان تكون سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي :

1 - العلق.

2 - القلم.

3 - المزمِّل.

4 - المدّثر.

5 - تبّت ( المَسَد ).

ص: 384

6 - التكوير.

7 - الاعلى.

8 - الانشراح.

9 - والعصر.

10 - والفجر.

11 - والضحى (1).

نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى - في تاريخه (2) - السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة ( انقطاع الوحي ).

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي :

لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي :

4 - أيّام.

12 - يوماً.

15 - يوماً.

19 - يوماً.

25 - يوماً.

40 - يوماً.

ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول تعالى : « وَقُرآناً فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث » (3).

ص: 385


1- تاريخ القرآن للزنجاني : ص 58.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 33.
3- الاسراء : 106.

ويكشفُ القرآن النقاب - في موضع آخر - عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : « وَقال الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا » (1).

ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ، ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام (2).

وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري ، والمتلاحق للوحي.

ص: 386


1- الفرقان : 32.
2- راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص 122 - 124.

14

الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين

اشارة

إستمرّ النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه.

وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه دعوته صلى اللّه عليه وآله وسلم منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم :

1 - السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ).

2 - علي بن أبي طالب عليه السلام.

3 - زيد بن حارثة.

4 - الزبير بن العوام.

5 - عبد الرحمان بن عوف.

6 - سعد بن أبي وقاص.

ص: 387

7 - طلحة بن عبيداللّه.

8 - أبوعبيدة الجراح.

9 - أبو سلمة.

10 - الأرقم بن أبي الارقم.

11 - عثمان بن مظعون.

12 - قدامة بن مظعون.

13 - عبد اللّه بن مظعون.

14 - عبيدة بن الحارث.

15 - سعيد بن زيد.

16 - خباب بن الأرتّ.

17 - أبو بكر بن أبي قحافة.

18 - عثمان بن عفان.

وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ، وآمنوا بنبوته في هذه الفترة (1).

ولقد كان أقطاب قريش واسيادها منهمكين - طيلة هذه الاعوام الثلاثة - في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها.

ولقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.

واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اتخاذ بَيْت « الأرقم بن أبي الأرقم » محلاً

ص: 388


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 245 و 262.

للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين (1).

ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ذلك البيت (2).

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن :

يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى - عادة - من بدايات صغيرة ونقاط محددة ، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده.

ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير ، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر.

أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من

ص: 389


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 61.
2- هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب « دار الخيزران » اُسد الغابة : ج 4 ، ص 44 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 192 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 283.

منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة.

هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو : أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق مقاصدهم.

ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.

وقد كان زعماء قريش - كما اسلَفنا - منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها : « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل

ص: 390

لا شيء يُذكر.

بهذا التصوّر ، وبهذه العقليّة واجَهت زعامة « مكة » دعوة النبي في البداية ، ولهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام ، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك ، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.

ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم ، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرفاتهم اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم ايضاً بدأت يقظة قريش ، وعرفوا أمر محمَّد يختلف عن أمر « ورقة » و « اُميّة » اختلافاً بيناً وانه لبين الدعوتين فرقا كبيراً ، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية ، لدعوة النبيّ.

وقد بدأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة الّتي يراد لها ان تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكل مناحي حياتهم ، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين :

1 - قوةُ البيان ، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصة ، أو ما تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس باسلوب جذاب ، يأسر القلوب ، ويسحر العقول.

2 - القوةُ الدفاعيةُ الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء والخصوم ، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الاُولى.

ولقد كان البيان لدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أعلى مرتبة من

ص: 391

الكمال فكان قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنه كان يفتقر في الأيام الاُولى من دعوته إلى عنصر ( القوة الثانية ) ، أي ( القوة الدفاعية ) ، الرادعة الحامية ، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاُولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصاً ، وذلك في الظروف السرّية الشديدة ، ولا ريب ان تلك القلة القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وحماية رسالته.

من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامة الناس ، ليتمكَّن من هذا الطريق ، أن يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية ، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه ، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته ، ولم يقبلوا دعوته.

هذا مضافاً إلى انه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه واقربائه وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين ، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة ، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا : « وَأَنْذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبين » (1).

كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله : « فَاصْدَعْ بِما تُؤْمرُ وَأعْرضْ عَن المُشْركين. إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئينَ » (2).

ص: 392


1- الشعراء : 214.
2- الحجر : 94 و 95.

كيفيّة دَعوة الأقربيْن :

كانت طريقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً ، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر.

فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى : « وانذر عشيرتك الاقربين » وكذا الأغلبية القريبة للاجماع مِنَ المؤرخين أن اللّه أمر نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ طعاماً ولبناً ، ثم دعا صلى اللّه عليه وآله وسلم خمساً وأربعين رجلا من سراة بني هاشم ووجوههم ، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلاّ أنه - وللأسف - ما أن أنتهوا من الطعام حتّى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم موضوع رسالته عليهم ، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.

ولما كان من غد أمر النبيُّ علياً عليه السلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية ، وكرّر دعوة تلك الجماعة ، إلى ضيافة اُخرى ، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال :

« إنَّ الرائد لا يَكذبُ أهْلهُ وَاللّه الَّذي لا إله إلا هُو إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ خاصّة وإلى النّاس عامّة واللّه لَتمُوتُنَّ كما تَنامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَما تَسْتَيقظُون وَلَتُحاسبُنَّ بِما تَعْمَلُونَ وإنها الجَنَّة أبداً وَالنّارُ أبداً ».

ثم قال :

« يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب انّي وَاللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا جِئتُكُمْ به ، انّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وَقَدْ أَمرَني اللّه عَزَّوجلَّ أن ادْعوكُمْ إليه فأيّكُمْ يُؤمن بي ويؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي وَ

ص: 393

وَصِيّي وَخَليفَتي فِيكُم »؟

ولما بلغَ النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى هذه النقطة - وبينما أمسك القومُ وسكتُوا عَن آخرهم إذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في ما يؤولُ إليهِ هذا الامرُ العظيمُ ، وما يكتنفهُ من أخطار - قام « عليّ » عليه السلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يكسر بكلماته الشجاعة - جدار الصمت والذهول - :

أنا يا رَسوُل اللّه أكونُ وَزيركَ عَلى ما بَعَثَكَ اللّه ».

فقال له رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : إجلسْ ، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه ، ويقوم « عليّ » ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس حتّى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشريته الاقربين وقال :

« إنَّ هذا أخي وَوَصيّي وَخَليفَتي فيكُمْ ( أو عَليْكُمْ ) فاسْمَعُوا لهُ ، وَأطِيْعُوا ».

فقامَ القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب « قد أمرك أن تسمع لا بنكَ وتطيعَ وجعله عليك أميراً » (1).

إنَ ما كتبناه هو - في الحقيقة - خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ ، الا « ابن تيمية » الّذي اتخذ موقفاً خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين.

خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!!

إن تحريفَ الحقائق وقلبَها ، أو إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديق

ص: 394


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 62 و 63 ، تاريخ الكامل : ج 2 ص 40 و 41 ، مسند أحمد : ج 1 ، ص 111 ، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ص 210 و 211.

الخيانة والجناية.

ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح ، وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق ، من الاعتبار ، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.

إلاّ أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انْقضاء الزّمن ، وتكامُل العِلْم ، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على حقيقتها.

وإليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات :

1 - لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري ( المتوفى عام 310 ه- ) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو الّذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنه حرّف في تفسيره (1) وكَتمَ ، فهُو عند تفسير قوله تعالى : « وأنذِرْ عَشِيْرتَكَ الأَقرَبين » يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه ، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث يقول : « على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي » ، فهو يكتب في تفسيره هكذا : « على أنْ يكونَ كذا وكذا ».

ولا ريب انَّ في تغيير عبارة « أخي ووصيّي وخليفتي عَليكم ( أوفيكم ) إلى : « كذا وكذا » غرضَاً مريضاً ، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في الكلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد أن قام عليُّ عليه السلام للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم : « إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي » حيث أبدلها بعبارة : « إنَّ هذا أخي وكذا وكذا »!!!

إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها ، فيثبتها

ص: 395


1- تفسير الطبري : ج 19 ، ص 74.

ويرويها كما هي ، بكل شجاعة ، وصَلابَة.

ولا ريب ان الّذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي ، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل ، وحيث أن تينك الكلمتين : « خَليفتي ووَصيّي » تصرّحان بخلافة « عليّ » للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.

2 - ولقد فعل ابن كثير ( المتوفى عام 732 ه- ) نظير هذا في تاريخه (1) وكذا في تفسيره ( ج 3 ص 351 ) وسلك نفس الطريق الّذي سلكه - من قبل - سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً ، لأنه قد اعتمد - في رواياته التاريخية ، في تاريخه وتفسيره معاً - تاريخ الطبري ، لا تفسيره ولا شك أنّه قد مرَّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ - في هذه الحادثة - وعَمَد - بصورة غير متوقعة - إلى نقل رواية التفسير!!!

3 - والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه - في عصرنا الحاضر - وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور « هيكل » في كتابه « حياة محمَّد » ، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

والعجب ان « هيكل » هاجم - في مقدمته - جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية ، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو :

أولاً : نقل الواقعة المذكورة ( دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة ) في الطبعة الاُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً

ص: 396


1- البداية والنهاية : ج 2 ، ص 40.

الحضور في ذلك اليوم : « مَنْ يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي وخليِفَتِي » بينما حذف بالمرة الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لِعَلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن موازرته للنبيّ وهي قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنَّ هذا أخيْ وَوَصيّي وَخَلِيْفتي »!!!

ثانياً : انَّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة ، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. وقيمة كتابه ، كدراسة تاريخية!!

النبوة والإمامة توأمان :

إن الاعلان عن وصاية عليّ عليه السلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد - بقوة ووضوح - انَّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن ، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوَّته ، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده ، وهذا يشهد - بجلاء - بأن النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة ، وأن هذين المنصبين إن هما الاّ كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء.

كما أن هذه الحادثة تكشف - من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية الّتي كان يتحلّى بها الإمام اميرُ المؤمنين « عليُّ بن أبي طالب » عليه السلام ، حيث قام - في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم خوفاً وتهيّباً - وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!!

صحيح ان « عليّاً » عليه السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلاّ أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!

ولقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق الكلام في هذا المجال إذ قال :

ص: 397

فهل يُكلِّف عملُ الطعام ، ودعاء القوم صغيرٌ غير مميّز ، وغِر غير عاقل ، وهل يؤتمَن على سرّ النبوة طفلٌ ... وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيب ، وهل يضع رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة ، والخلافة ، الا وهو أهل لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، وما بال هذا الطفل لم يأنس باقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُرمع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه ، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته ، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه ، مصمماً في أمره ، محققاً لقوله بفعله ، قد صدّق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من بين جميع من حضرته فهو أمينه واليفه في دنياه واخرته (1).

ص: 398


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ، ص 215 و 295.

15

الدعوة العامّة

اشارة

كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرته الاقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي - من خلال الاتصالات السرية - مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد.

فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا ونادى بصوت عال : يا صباحاه ( وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت بخطر ، أو بلغها نبأ مُرعب فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر ) (1) فلفت نداء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة وقالوا : له ما لَكَ؟

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : أرأيتكم إن أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟

ص: 399


1- قال الجزري في النهاية : ج 2 ، ص 271 : صعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على الصفا وقال : يا صباحاه ؛ هذه كلمة يقولها المستغيث ، وأصلها إذا صاحوا للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح ، فكأن القائل : يا صباحاه يقول : قد غشينا العدو.

قالوا : بلى.

قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ثم قال : إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى اهله فجعل يهتف : واصباحاه (1).

ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء ، قبل هذا ولكنها تملَّكها الخوفُ هذه المرة ، وهي تسمعُ ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : تبّاً لك ، ألهذا دعوتنا؟ ، وتفرّق على أثرها الناس.

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف :

إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين :

الأول : الايمان بالهدف.

والثاني : الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوة الخفية الّتي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية الّتي يتوخاها ، وتسهِّل عليه الصعاب ، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده ، لأن شخصاً كهذا يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته ، ومجده يتوقَّفان على ذلك.

وبعبارة اُخرى : إذا آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف ، متجاوزاً كل الصعاب ، ومتحدياً كل المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلا سيستسهل شُربه.

والغوّاص الّذي يعتقد إعتقاداً جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل ، ليخرج منها بعد

ص: 400


1- السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 194.

دقائق ظافراً بأغلى الجواهر.

بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله ، أو يعتقد بعدم فائدته ، فانَّه لن يُقدمَ عليه قط واذاما أقدم فان عمله سيكون حينئذ مقروناً بالجهد والعناء.

فقوة الإيمان اذن هي الّتي تذلّل كل مُشكل ، وتسهِّل كلَّ صعب.

غير أنه لا ريب في أنَّ الوصولَ إلى الهَدف لا يخلو من مشكلات وموانع ، فلابدّ من السعي لرفع تلك الموانع ، وإزالة تلكم المشكلات.

وقد قيل قديماً : أنَّ مع كل وردة أشواك ، فكيف يمكن قطف وردة دون أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟

هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة ( وهي ان رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريق تحقيقه ) في جملة قصيرة إذ قال : « إنَّ الَّذيْن قالُوا ربُّنا اللّه ثُمَّ استقامُوا تتَنَزَّلُ عَليْهِمْ الْمَلائكة أنْ لا تَخافُوا وَلا تَحزَنُوا وأبْشروا بِالجَنَّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » (1).

ثَباتُ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وَصَبرُهُ :

لقد أدّت إتصالاتُ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الخاصّة. قَبل الدعوة العامة ، وجهودُه الكبرى بعد الجهر بالدعوة ، إلى ظهور وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف الكفر ، والوثنية.

فالَّذين دخَلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة تعرَّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة ، وشكّل القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة ، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر والشرك والوثنية ، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.

على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلا لقريش ، ولكنّ الّذي أرعب قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنَّ أفراد هذه

ص: 401


1- فُصّلت : 30.

الجماعة ، وعناصر هذه النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة ، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة ، بل إنتمى من كل قبيلة إلى الإسلام ، عددٌ من الأفراد ، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم أمراً سهلا وبسيطاً.

من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها - بعد تداول الأمر في ما بينهم - أن يبدأوا بالقضاء على أساس هذه الجماعة ، ومحرِّك هذا الحزب ، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد والايذاء تارة اُخرى.

وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية من سنوات البعثة من الفترة المكية ، إلى ان قررت بالتالي قتله ، ولكنه استطاع ان يبطل مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.

ولقد كان « أبو طالب » آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق ، وكان رجلا طاهر القلب عالي الهمّة ، شجاعاً ، كريماً ، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين ، وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام ، وكان يتمتع في المجتمع العربي - علاوة على رئاسة مكة وبعض مناصب الكعبة - بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة ، وحيث أنّه كان كفيلا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد وفاة جدّه « عبد المطلب » ، لذلك حضر سادة قريش بصورة جماعية (1) عنده وقالوا له :

« يا أبا طالب إن ابن أخيك قدسبّ آلهتنا ، وعابَ دينَنا ، وسفَّه أحلامنا وضلّل آباءنا ، فامّا أن تكفّه عنّا ، وإما أن تخلّي بيننا وبينه ».

ولكن « أبا طالب » قال لهم قولا رفيقاً وردَّهم ردّاً جميلا حكيماً ، فانصرفوا عنه.

بيد أنَّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار ، وكانت جاذبيّة الدّين المحمَّدي ، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك ، فيترك اثره في الناس ،

ص: 402


1- ادرج ابن هشام في سيرته : ج 1 ، ص 264 و 265 اسماءهم بالتفصيل.

وخاصة في الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة ، وكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرض دينه عليهم ، فكانت أحاديثه الجذّابة ، وكلماتُه البليغة ، ودينُه المحبَّب تؤثر في قلوب كثير منهم ، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.

وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن « محمَّداً » قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، واصبح له انصارٌ واتباعٌ في كثير منها ، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور عند « أبي طالب » حاميه الوحيد ، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع :

يا أبا طالب ، إن لك سنّاً ، وشَرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا ، وإنا واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا ، حتّى تكفه عنّا ، أو ننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفريقين.

فأدرك حامي الرَّسول الوحيد - بذكائه وفطنته - أنّ عليه أن يصبرَ أمام جماعة ترى وجودها ، ومصالحها في خطر ، من هنا عَمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم ، ووعدَ بأن يبلغ ابن اخيه « محمَّد » كلامهم. وقد كان هذا محاولة من « أبي طالب » لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة وإطفاء نائرتهم ، وتهدئة خواطرهم ، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة - بعد ذلك - بطريقة أصحّ وأفضل.

ولهذا أقبل - بعد خروج تلك الجماعة من عنده - على إبن اخيه ، وذكرَ له ما قال له القومُ ، وهو يريد - بذلك ضمناً - إختبار إيمان « محمَّد » بهدفه ، فكان الردُّ العظيمُ ، والجوابُ الخالد الّذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر « محمَّد » رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش :

« يا عَمّ ، واللّه لو وضعُوا الشَمْس في يميني ، والقمرَ في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهرهُ اللّه ، أو اهلكَ فيه ، ما تركُته ».

ثم اغرورَقتْ عيناه الشريفتان بدموع الشوق والحب للهدف ، وقام وذهب

ص: 403

من عند عمه.

وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثرٌ عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث نادى ابن اخيه ، وأظهر له استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه ، والحدب عليه رغم كل المخاطر ، والمتاعب الّتي كانت تكمن له إذ قال :

« إذهَبْ يا ابْن أَخي فَقُلْ ما أحبَبْتَ فَو اللّه لا اُسلمك لِشَيء أبداً ».

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة :

لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد قريشاً ، ودفعها إلى التفكير في حيلة ، فاجتمع أشرافها وسادتها للتشاور مرّة اُخرى وقالوا :

لعل كفالة أبي طالب لمحمَّد هي الّتي تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف إلى جانبه في دعوته ، فكيف لو مشوا إليه بأجمل فتيان مكة ، وطلبوا منه أن يأخذه بدل « محمَّد » ويسلّمه اليهم ليروا فيه رأيهم ، ولهذا مشوا إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له :

يا أَبا طالب هذا عمارةُ بن الوليد أنهَدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه ، واتخذه ولداً فهو لكَ ، وأسلِمْ إليْنا ابن أخيكَ هذا ، الّذي فرّق جماعة قومكَ ، وَسفَّه أحلامَهُمْ فنقتله ، فانما هو رجل برجل!!

فأجابهم أبو طالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة :

« هذا واللّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني إبنكم أغذُوهُ لكم ، واعطيكم ابني تقتلونه ، هذا واللّه ما لا يكون أبداً ».

فقال « المطعم بن عدي بن نوقل » : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفَك قومُك ، فما أراك تريد أن تقبَل منهم شيئاً.

فأجابه أبو طالب قائلا : واللّه ما أنصفوني ولكنّك قد أجمَعتَ خُذْلاني ، ومظاهرة القوم عليّ فاصنَعْ ما بدا لك (1).

ص: 404


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 67 و 68 ، السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 266 و 267.

قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!

ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء « أبي طالب » بخذلان ابن اخيه « محمَّد » ، فهو وإن كان لا يتظاهر بالإسلام ، إلاّ أنهم يكنُّ لابن أخيه ، وُدّاً عميقاً ، ومحبة كبرى من هنا قرّروا بأنْ يتركوا مفاضوة ، إلاّ أنهم فكّروا في خطة اخرى وهي أن يُحاولوا إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب ، والهدايا ، والأموال والفتيات الجميلات ، ولهذا مشوا إلى بيت « أبي طالب » ودخلوا عليه ومحمَّد جالسٌ إلى جنبه فتكلّم متكلِّمهُمْ وقال : يا محمَّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك ، فانا واللّه لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومك ما ادخلت على قومه لقد شتمت الآباء ، وعيبت الدين ، وسببت الآلهة ، وسفهت الاحلام ، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الاّ أتيته فيما بيننا وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثر مالا ، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا ، وان كان هذا الّذي ياتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.

فقال ابو طالب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟

فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : يا عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم الجزية.

ففزعوا لكلمته ، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة : نعم وأبيك عشراً.

قالوا : فما هي ، فقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟

قال : « لا اله الاّ اللّه ».

فكان هذا الرد مفاجئة قوية لذلك الفريق الّذي يأمل في صرف النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن هدفه ، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : « أجعَلَ الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب » (1).

ص: 405


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 303 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 65 و 66.

نماذجٌ من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين :

يومَ صدَعَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما اُمر ، وجَهر بدعوته للناس وأيس سادة قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعد ما سمعوه يقول : « واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه ما تركُته » بدأ في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته ، واكثرها متاعبَ ومصاعبَ ، لأن قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه ، وتسيطر على أعصابها ، ولكنها عند ما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرَّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها معه لتقفَ دون إنتشار دينه مهما كلَّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل الممكنة.

من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسَّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية ، والإيذاء والتهديد ، بهدف صرفه عن المضيّ في دعوته (1).

ولا يخفى أن المصلح الّذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير من الصبر والتحمل ، أمام جميع المشكلات والمتاعب ، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها شيئاً فشيئاً ، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.

ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وثباته ، واستقامته على طريق الدعوة.

ولقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتمتع - مضافاً إلى العامل الروحي والمعنويّ الباطني الّذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان والصبر والإستقامة والثبات - بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم ، وعلى رأسهم أبو طالب له صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه عند ما عرف « ابو طالب » بعزم قريش القاطع على إيذاء إبن أخيه ( محمَّد ) دعا بني هاشم عامة ، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والقيام دونه ، فلبَّوا نداء سيّدهم ، وأجابوه

ص: 406


1- راجع لمعرفة ابرز من كان يؤذي النبيّ والمسلمين المحبر : ص157 و 161.

إلى ما دعاهم من حماية رسول اللّه وحراسته بعضٌ بدافع الايمان وآخر بدافع الرَحم ، الاّ « أبو لهب » ورجلان آخران انضموا إلى اعداء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم يقدر - مع ذلك - على صيانته صلى اللّه عليه وآله وسلم من بعض الحوادث المرّة ، لأنّ قريشاً ألحقت به الأذى ، وأنزلت به مكروهاً ، كلما وجدته وَحيداً بعيداً عن أعين حُماته.

وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى :

1 - مَرَّ « أبو جهل » برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ، فلم يكلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ، فلم يلبث « حمزة بن عبد المطلب » رضي اللّه عنه أن أقبلَ متوشحاً قوسَه راجعاً من قَنص له ، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلاّ وقف وسلَّم وتحدَّث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ، وأشدّ شكيمة.

فلما مرّ بالمولاة ، وقد رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيته قالت له : يا أبا عمارة ( وتلك هي كنيته ) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمَّد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ( وتعنى أبا جهل ) : وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبَّه ، وبلَغَ منهُ ما يُكرَه ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

فغضب « حمزة » لذلك ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.

فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم ، فاقبل نحوه ، حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّهُ شجة منكرة ، ثم قال : « أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول. فردَّ ذلك عليَّ أن استطعتَ ».

فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى « حمزة » لينصروا « أباجهل » فقال أبو جهل :

ص: 407

دعوا أبا عمارة فاني قد سبَبْتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً (1). وبهذا منع « أبو جهل » الّذي كان ممن يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.

إنَّ التاريخ الثابت والمسلَّم يشهد بأنّ وجودَ رجال ذوي بأس وقوة بين صفوف المسلمين مثل « حمزة » الّذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام ، قد كان له أثرٌ كبيرٌ في حفظ الإسلام ، والحفاظ على حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ودعم جماعة المسلمين ، وتقوية جناحهم ، فهذا ابن الاثير (2) يقول عن حمزة : لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد عزّ وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين ، سنذكرها في المستقبل.

هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي (3) على أن رُدود فعل إسلام « أبي بكر » و « عمر » واثرهما لم تكن بأقلّ من تاثير إسلام « حمزة » ، وانَّ الدين قويَ جانبه باسلام هذين الرجلين ، وكسَبَ المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك ، والحقيقة انه لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام ، إلاّ أنه لا يمكن - القولُ بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام « حمزة » ، فإن « حمزة » ما انْ سمع بأن قريشاً أساءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الاّ وتوجه ، من دون أن يُعرّج على أحد ، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام ، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه ومنع المسيء منه ، ومن غضبه وانتقامه ، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن « أبي بكر » امراً يكشف عن أن « أبابكر » يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية نفسه ، ولا على الدفاع عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم. واليك نصُّ الواقعة :

مرَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذاتَ يوم على جماعة من قريش وهم جلوسٌ عندَ الحجر ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : أنتَ الّذي تقول :

ص: 408


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 291 و 292 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 72.
2- الكامل لابن الاثير : ج 2 ، ص 56.
3- البداية والنهاية : ج 2 ، ص 26 و 32.

كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : نعم أنا الّذي اقولُ ذلك ، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه ( وهم يقصدون قتله ) فقام « أبو بكر » دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا يقول رَبّي اللّه؟ فانصرفوا عنه ( ولم يقتلوه لأمر رأوه ) ، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى منزله ، ورجع « أبو بكر » يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه (1).

إن هذه الرواية التاريخية إذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه.

إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدَنية وروحية ، ولا أية مكانة اجتماعية تُرهَب ، وحيث أنَّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان ينطوي - في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد - لذلك تركوا رسولَ اللّه ، وَوَجَّهُوا ضربتهم إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.

ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف « حمزة » الشجاع وموقف الخليفة الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنَّ عزة الإسلام وقوة المسلمين ، وتعزيز موقفهم ، وخوف الكفار كان يعود إلى الإسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟

هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام « عمر ». وسترى بأنَّ إسلامه - كاسلام صديقه - لم يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية ، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.

فيوم أسلم « عمر » كادَ أن يُقتل لولا « العاص بن وائل السهمي » لأنه هو الّذي خاطب الذين قصدوا قتل « عمر » قائلا : رَجُلٌ اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترونَ بني عَدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبَهم هكذا ، خلوُّا عن الرجل » (2).

ص: 409


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 289 و 290 ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : ج 2 ، ص 72 قصة صدع رأس أبي بكر بالتفصيل فراجع.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 349.

إن هذه العبارة الّتي قالها « العاص » لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا على قتله تفيد - بوضوح - أن الخوف من قبيلة « عمر » هو الّذي كان وراء تركهم إياه وعدم قتله ، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان يتساوى فيها الكبير والصغير ، والشريف والوضيع.

أجل إنّ بني هاشم هم كانوا - في الواقع - الحصن الحقيقي للمسلمين ، وقد كان القسط الأكبر من هذا الأمر يتحمله « أبو طالب » وذووه ، وإلاّ فانَّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم ، فكيف بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال بأن المسلمين اعتزوا بهم؟

أبوجهل يكمُن لرسول اللّه :

لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن انضمام واحد من أفراد قريش إلى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يغلي في نفوسهم ، فهذا فرعون مكة « أبو جهل ... لقريش في مجلس من مجالسهم : يا معشر قريش إن محمَّداً قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آهلتنا ، واني اُعاهِدُ اللّه لأَجلسنَّ له غداً بحجر ما اُطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.

فلما كان من غد أخذ « أبو جهل » حجراً كما وصَف ثم جلس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينتظره ، وغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على عادته ووقف للصلاة بين الركن اليمانيّ والحجر الأسود ، وغدت تلك الجماعة من قريش فجلست في انديتها تنتظر ما ابو جهل فاعلٌ ، فلما سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أحتمل « أبو جهل » الحجر ، ثم اقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه ، مَرعوباً وقذف الحجَر من يده ، فقامت إليه رجالٌ من قريش وقالوا له : مالك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف والرعب : قمت إليه

ص: 410

لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما دنوتُ منه عرضَ لي دونهُ ما لا رأيتُ مثلَه حياتي ، فتركتُه!! (1).

إنه ليس من شك في أنَّ قوة غيبيّة أدركتْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأمر اللّه تعالى في تلك اللحظة ، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه إذ قال : « إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئيْن » (2).

وهناك نماذج كثيرةٌ من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سجَّلها التاريخ في صفحاته ، وقد عقد « ابن الأثير » (3) فصلا خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الألدّاء ، في مكّة ، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلاّ أمثلة على ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى ، والمضايقة.

فقد رُوي أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يطوف ذات يوم فشتمه « عقبة بن أبي معيط » وألقى عمامَته في عنقه ، وجرّه من المسجد ، فأخذوه من يده ، خوفاً مِن بني هاشم (4).

أبو لهب يؤذي رسول اللّه :

ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأذى لا مثيل له من جانب عمه « أبي لهب » وزوجته « اُم جميل » وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يجاورهم ، فلم يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد

ص: 411


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 298 و 299.
2- الحجر : 95.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 كما وعقد المجلسي رحمه اللّه في البحار : ج 18 باباً خاصاً بعنوان : « باب المبعث واظهار الدعوة وما لقي صلى اللّه عليه وآله وسلم من القوم » راجع من صفحة 148 إلى صفحة 243.
4- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 293 نظيره.

والتراب على رأسه الشريف وثيابه. وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته باب بيته لتؤذيه عند الخروج.

ولا شك ان معارضَة انسباء النبي واقربائه لدعوته المباركة ، وايذاؤهم اياه كان اكثر ايلاماً لنفسه الشريفة ، واشد وقعاً عليها ، حتّى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن ويسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة إذ يقول : « تَبّتْ يَدا أبي لَهَب وَتَبَّ. مَا أغنى عَنهُ مَا لُهُ وَما كَسَبِ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبِ. وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ. في جِيْدها حَبْلٌ مِنْ مَسَد » (1).

صبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم واستقامته :

ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يواجه كل ذلك الأذى وماشابهه من التحججات الّتي سنشير اليها بصبر عظيم ، وثبات تتعجب منه الجبال الشماء ، وذلك اولا إيماناً منه برسالته.

إيذاء المسلمين وتعذيبُهم!

اشارة

يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها : ثبات رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه ، وثباتُ اَتباعه وأنصاره.

ولقد تعرّفنا - في ما سبق - على أمثلة ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره ، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.

على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين آمنوا في مكّة ( مركز الحكومة الوثنية آنذاك ) هو الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودَهم وثباتهم في حوادث ما بعد الهجرة في محله.

وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط المكي

ص: 412


1- المسد : 1 - 5.

حيث لم يكن ملجأ لهم يلجؤن إليه وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن تحملوا شيئاً كثيراً من الإيذاء والتِعذيب على أيدي المشركين والوثنين القساة.

1 - بلال الحبشي :

كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم إلى مكة.

وأما بلال الّذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد كان غلاماً ل « اُميّة بن خلف » الّذي كان من أشدّ أعداء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وحيث أنّ عشيرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم تولَّتِ الدِفاع عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عمد إلى تعذيب غلامه بلال الّذي أسلم ، أمام الناس ، بأشد أنواع الأذى والتعذيب إنتقاماً ، وتشفياً.

فقد كان يطرح بلالا عارياً على الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة ، ويضع صخرة على صدره ثم يقول له : لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمَّد ، وتعبد الّلات والعزّى ، فيقول وَهو في ذلك البلاء والمحنة الشديدة : أَحَدٌ أَحَدٌ (1).

ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده ، إعجابَ الآخرين ، حتّى أن « ورقة بن نوفل » مرّ عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول : أحَدْ أَحَدْ ، اقبل على « اُميّة » ومن يصنع به ذلك من « بني جمح » فيقول : احلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حناناً ( أي لأجعلنَّ قبره متبركاً ومزاراً ) (2).

وربما زاد « اُميّة » من تعذيبه لبلال فربط حبلا بعنقه وترك الصبيان يديرون به في الازقة والسكك (3).

ص: 413


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 317 و 318.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 318.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 3 ، ص 233.

وقد اُسِر « اُميّة » وابنه في معركة « بدر » وكانا أولَ من اُسِرا من المشركين ، ولم يوافق بعضُ المسلمين على قتلهما ولكن بلالا قال : « رأسُ الكفر اُميّة بن خلف لا نجوتُ إنْ نجا ». وأدّى اُصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.

2 - آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة!

كان « عَمار » ووالداه من السابقين إلى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يلتقي باصحابه ويدعو إلى الإسلام في بيت « الارقم بن أبي الارقم » ، وعند ما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم يألوا جهداً في ذلك أبداً.

فقد كان المشركون يخرجون « عماراً » واباه « ياسر » واُمَّه « سميّة » في وقت الظهيرة إلى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة ، وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها الجمرات.

وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات عديدة حتّى أودى بحياة « ياسر » فقضى نحبَه على تلك الحال.

وقد خاشنت زوجتُه « سُميّة » أبا جَهل وكلمته في زوجها بغليظ القول ، فطعنها اللعين برمح في قلبها فقضت - هي الاُخرى - نحبَها ، وكانا أولَ شهيدين في الإسلام (1).

وقد آلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد أنواع العذاب فقال لهُما ولولدهما « عمّار » وهو يصبّرهم ، والدموع تنحدر على خدّيه :

« صَبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم الجنة » (2).

ص: 414


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 241 والسيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 300 ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 238 و 239.

وبعد أن قضى والدا « عمّار » نحبَهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب « عَمّار » وإيذائه والتنكيل به ، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالا ، وهم يقصدون قتله ، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاضطر إلى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام ، إبقاء على نفسه ، وتقيّة منهم فتركوه ، وانصرفوا عن قتله ، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك الإسلام وتألّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يبكي ، فقال له النبيّ : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان قال : ان عادوا فعد ، فنزلت الآية التالية في ايمان عمّار : « إنّما يَفتَري الكَذِب الذينَ لا يُؤمنُونَ بِآياتِ اللّه وَاُوْلئكَ هُم الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللّه منْ بَعْدِ إيمانِه إلاّ مَنْ اُكرهَ وَقَلبهُ مُطْمئنٌ بِالإيمان » (1) (2).

هذا وروي أنّ أباجهل حينما قصد تعذيب « آل ياسر » وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوط ونار ثم سحبوا عماراً وأبويه على الأرض ، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى بالنار المشتعلة ابدانهم ، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.

وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتّى استشهد « ياسر » وزوجته « سُميّة » على أثر ذلك التعذيب المرير ، ولكن دون أن يفتئا حتّى النفس الأخير عن مدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والاشادة بدينه.

ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا - رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول - على تخليص « عمار » الجريح المنهك عذاباً من براثن « أبي جهل » ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.

3 - عَبدُاللّه بن مسعود :

تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش ، في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا : واللّه ما سَمِعَتْ قريشٌ

ص: 415


1- النحل : 105 و 106.
2- الدّر المنثور : ج 4 ، ص 132 عند تفسير الآيتين المذكورتين.

هذا القرآن يجهر لها قط فمَنْ رَجُلٌ يُسمِعُهُموه؟

فأبدى « ابن مسعود » استعدادَه للقيام بهذه العملية الجريئة ، وتلاوة القرآن على مسامع قريش في المسجد الحرام بصوت عال.

فقالُوا : إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

قال : دَعوني فانَ اللّه سيمنعني.

ثم غدا « ابن مسعود » حتّى أتى المقامَ في وقت الضحى وقريش في انديتها حتّى قام عند المقام ثم قرأ : « بِسم اللّه الرّحمن الرّحيم » رافعاً بها صوته ، « الرّحمان علّم القرآن » وهكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.

فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش ، ولكي يمنعوا من تأثير هذا النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعاً وجعَلوا يضربونه في وجهه ، وجعل هو يقرأ حتّى بلَغَ منها ماشاء اللّه أن يبلغ ثم عادَ إلى اصحابه وقد اُدْمِيَ وجهُه وجسمه ، وهو مسرورٌ لإسْماع قريش كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة (1).

إنَّ الَّذين صَمَدوا في أشد الأيام وأصعبها في مطلع عهد البعثة منَ المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن ذكرنا اسماءهم إلاّ أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.

4 - أبوذر : أوّل المجاهرين بالإسلام

كان « أبوذر » رابع أو خامس من أسلم (2) ، وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره ، فإذَنْ هو من السابقين إلى الإسلام.

وقد صرح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى الإيمان برسول اللّه في بدء

ص: 416


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 314.
2- اُسد الغابة : ج 1 ، ص 301 ، الإصابة : ج 4 ، ص 64 ، الإستيعاب : ج 4 ، ص 62.

بعثته وبالتالي فإنَ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة عظيمة ، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى : « السابِقُونَ السابِقُونَ. اُوْلئكَ الْمُقَرَّبُونَ » (1).

وقال تعالى فيهم أيضاً.

« والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الُمهاجِريْنَ وَالأَنْصار وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بإحْسان رَضيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّلَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتهَا الأَنْهار خالِديْنَ فِيْها أبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ » (2).

وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة وفضلهِم ، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على مَن أسلم بعدَ إعتزاز الإسلام ، واشتداد أمره ، وقيام دَوْلته يعني أنّهم ليسوا سواء.

« لا يَسْتوي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اُوْلئكَ أَعْظمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذيْنَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتلُوا ... » (3).

أجل هذه هي مكانة السابقين في الاسلام وكان « ابوذر » منهم.

هذا مضافاً إلى أنَّه يُعَدُّ أول من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.

فيومَ اسلم « أبوذر » كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرّاً ، ولم تهيّأ بعدُ ظروفُ الجَهْر بالدعوة إلى هذا الدّين ، فانَّ أتباع الإسلام والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عددّ الأصابع هم : النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وخمسة ممن آمنُوا به ، وقبلوا دعوته ، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف لم يكن بدّ حسب الظاهر - من أن يُخفي « أبوذر » إسلامَه ، ويعودَ إلى قبيلته من دون أن يعرف به أحدٌ في مكة.

ولكنَّ روحَ « أبي ذر » الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك ، وكأنه قد خُلِقَ لينهض في كل زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان ، ويرفع عقيدته في وجه

ص: 417


1- الواقعة : 10 - 11.
2- التوبة : 100.
3- الحديد : 10.

الباطل وأهله ، ويكافح الانحراف والاعوجاج أيّاً كان مصدرُه ، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمامَ أصنام مصنوعة من الحجر ، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع ، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالق الكبير المتعال؟؟

إنّه ليس في وسع « أبي ذر » أن يتحمَّل هذا المشهد البغيض المقرف!!

من هنا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد أن مكث في مكة قليلا وقرأ شيئاً من القرآن : يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟

قال : ترجعُ إلى قومك حتّى يبلُغك أمري.

فقال له : والّذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد.

قال : اني اخاف عليك أن تقتل.

قال : لابد منه وإن قُتِلتُ.

ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا اله إلاّ اللّه ، وأنَّ محمَّداً عبدهُ ورسوله (1).

إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها ، وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة ولا نصير ، ولا قوم ولا قريب.

وقد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فما أن دوى صوت ابي ذر في المسجد حتّى قام إليه رجال قريش ، وهجموا عليه من كل جانب وضربوه بشدة حتّى صرع فأتاه العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت - بطريقة لطيفة - وقال : قتلتم الرجل يا معشر قريش! انتم تجار وطريقكم على غفار ، فتريدون ان يقطع الطريق ، فامسكوا عنه.

ونجحت محاولة « العباس » الانقاذية ، وكفّت قريش عن ابي ذر.

ص: 418


1- حلية الأولياء : ج 1 ، ص 158 و 159 ، الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 225 ، الاستيعاب : ج 4 ، ص 63 ، الاصابة : ج 4 ، ص 64 ، الدّرجات الرفيعة : ص 228.

ولكن أباذر الشاب الشجاع ، والطافح بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه حتّى صرع ، فأكب عليه العباس ، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.

ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبوذر من مخالف المشركين في اغلب الظن ، ولكن أباذر لم يكن بذلك الرجل الّذي يتراجع عن هدفه بسرعة ، ولهذا بدأ جهاده من جديد.

ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت ، وتدعو ساف ونائلة ( وهما صنمان لقريش ) وتسألهما ان يقضيا لها حاجاتها ، فانزعج أبوذر من جهل تلك المرأة ، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين لا يضران ولا ينفعان بل ولا يشعران قال : أنكحي أحدهما الاُخر. فغضبت المرأة لقول أبي ذر في الصنمين ، وتعلقت به وقالت : انت صابئ ، فجاء فتية من قريش فضربوه وجاء ناس من بني بكر فانقذوه منهم (1).

قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام :

لقد أدرك رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم قابليات تلميذه وناصره الجديد ، وصلابته الخارقة في مكافحة الباطل ، ولكن حيث ان الوقت لم يكن يحنْ بعد للدخول في مواجهة ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بان يلحق بقومه ، ويدعوهم إلى الإسلام ، قائلا له : « إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني ».

فعاد ابوذر إلى قومه ، وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ويكلمهم عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويدعوهم إلى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد ، والتخلق بالاخلاق الرغيبة.

فاسلم أبواه ، أولا ، ثم اسلم نصف رجال قبيلته « غفار » ثم اختار البقية الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة ، ثم تبعتها قبيلة « أسلم » حيث وفدوا على

ص: 419


1- الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 223.

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم واعتنقوا الإسلام.

ثم التحق ابوذر بعد معركة بدر واُحد برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المدينة وأقام فيها (1).

وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخذ طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

فقد كان ابو جهل إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركتَ دين أبيك وهو خير منك ، لنُسَفِّهَنَّ حلمَك ، ولنفيلنَّ رأيك ، ولنضعنَّ شرفك.

وإن كان تاجراً قال له : لنكسدنّ تجارتك ، ولنهلكنّ مالك.

وإن كان ضعيفاً ضربَهُ ، وأغرى به (2).

وروي أيضاً أن « خبّاب بن الارت » صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قيناً بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من « العاص بن وائل » سيوفاً صنعها له حتّى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال يا خَبّاب : أليس يزعم « محمَّد » صاحبكم هذا الّذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أوثياب أوخدم ، قال خبّاب : بلى ، قال : فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتّى أرجعَ إلى تلك الدار ، فأقضيك هنالك حقَك فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند اللّه مني!! (3).

أعداء النبي الألدّاء :

إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخصومه الالدّاء ، ومواقفهم دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي الّتي وقعت

ص: 420


1- الطبقات الكبرى : ج 4 ، ص 221 و 222 و 226 ، الدرجات الرفيعة : ص 225 و 226 وص 229 و 230.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 320.
3- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 357.

بعد الهجرة النبوية.

ونحن نكتفي هنا بادراج اسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم.

1 - « أبو لهب » : عم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد كان جاراً له صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الَّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وايذاء المسلمين.

2 - « الاسود بن عبد يغوث » وكان أحد المستهزئين وكان إذا وَجَد مسلما فقيراً لا يحميه أحدٌ قال مستهزءاً : هؤلاء ملوك الأَرض الذين يرثون ملك كسرى!! (1).

ولم يمهله أجلُه ليرى باُم عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر ، ووطأوا عرشهما.

3 - « الوليد بن المغيرة » شيخ قريش وحكيمها الّذي كان يملك ثروة هائلة ، وسوف نتحدث عنه وعن موقفه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الفصل القادم.

4 - « اُميّة » و « اُبيّ » ابنا خلف ، وقد مشى « اُبي » هذا بعظم رميم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي وقال : أتزعم أن ربك يُحيي هذا بعد ما ترى ( أو بعد ما رمّ )؟ فنزل قولُ اللّه تعالى : « قُلْ يُحْيِيْها الَّذي أنشأَها أوَّلَ مرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلق عَليم » (2).

وقد قتل إبنا خلف هذان في بَدْر.

5 - « أبو الحكم بن هشام » الّذي سماه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام بأبي جهل ، وقد قُتل هو الآخر في بدر أيضاً.

6 - « العاص بن وائل » وهو والد « عمرو بن العاص » ، وهو الّذي وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالأبتر.

ص: 421


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 318.
2- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 202 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361 و 362.

7 - « عقبة بن أبي معيط » الّذي كان من ألدّ اعداء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأشدّ خصومه بغضاً له صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم! (1).

هؤلاءهم بعض أعداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المبالغين في معاداته ، وهناك غيرُهم كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم كاملة في مؤلفاتهم ، وقد أعرضنا عن إدراجهم بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام :

لقد كان إسلام كل واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم نابعاً من سبب معيَّن.

فربَّما أدَّت حادثةٌ صغيرةٌ إلى أن يعتنق فردٌ أو فريقٌ الإسلام ، وينضمُّوا إلى صفوف المسلمين.

وقد اتّسمَ السَبَبُ الّذي آل إلى إسلام عمر - من بين جميع تلكم الاسباب والعلل - بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.

على أن التسلسل التاريخي ، والتنظيم الوقائعي لاحداث الإسلام وان كان يقتضي منا ان نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الحبشة ، إلاّ أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي وكيفية اسلامهم ومواقفهم ناسب أن نشير هنا إلى كيفية إسلام الخليفة الثاني.

يقول ابن هشام : كان اسلام عمر - في ما بلغني - أن اُخته بنت الخطاب وكانت عند « سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل » وكانت قد أسلمت وأسلمَ بعلُها « سعيدُ بن زيد » ، وهما مستخفيان باسلامهما من عمَر ( وهؤلاء هم كلُ من أسلم من آل الخطاب ) وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرأن.

ص: 422


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 47 و 51 ، وراجع أيضاً اُسد الغابة ، والاصابة والاستيعاب وغيرها.

وكان « عمر » الّذي كانت بينه وبين المسلمين علاقات جداً سيئة (1) قد أزعجه ما أصابَ المجتمع المكي من تشتُّت وفرقة ، وما لحق بقريش من المتاعب أثر ظهور الإسلام ، من هنا عزم على أن يقضي على علة هذا الأمر باغتيال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والفتك به.

فخرج يوماً متوشحاً سيفَه يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ورهطاً من أصحابه وقد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عمّه « حمزة » بن عبد المطلب و « ابوبكر » و « علي بن ابي طالب » في رجال من المسلمين يحفظونه ويحرسونه.

يقول « نعيم بن عبد اللّه » وقد كان صديقاً حميماً لعمر : لقيت عمراً وهو متوشح سيفاً ويريد مكاناً فقلتُ له : أينَ تريد يا عمر؟

فقال : اُريد محمَّداً هذا الصابئ الّذي فرّق في أمر قريش ، وسفّه أحلامها وعابَ دينها ، وسبَّ آلِهتها ، فأقتُله.

فقال له نعيم : واللّه لقد غرّتك نفسُك من نفسِك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلتَ محمَّداً أفلا ترجع إلى اهل بيتك فتقيم أمرَهم؟

قال : وأيُ أهل بيتي؟

قال : ختنُك وابنُ عمك « سعيد بن زيد » واختك « فاطمة بنت الخطاب » فقد واللّه أسلما ، وتابعا محمَّداً على دينه فعليك بهما.

فأغضب هذا النبأُ عمر بشدة فانصرف عن الهدف الّذي كان يرمي إليه وعاد من توّه إلى بيت اُخته ، فدخل على اُخته وختنه وعندهما « خبّاب بن الأرت » معه صحيفة فيها سورة « طه » يقرئُهما إياها ، فلما سمعوا حسّ « عمر » تغيّب « خبّاب » في مخدع لهم ، أوفي بعض البيت ، واخفت « فاطمة بنت

ص: 423


1- راجع السيرة النبوية : ج 1 ، ص 342 - 346.

الخطاب » الصحيفة ، وكان « عمر » قد سمع حين دنا إلى البيت قراءة « خبّاب » عليهما ، فلما دخل قال : « ما هذه الهينمة (1) الّتي سمعت؟

قالا له : ما سمعتَ شيئاً.

قال : بلى واللّه ، لقد اُخبرِتُ أنكما تابعتما محمَّداً على دينه.

وبطش بختنه « سعيد بن زيد » فقامت إليه اختُه « فاطمة بنت الخطاب » لتكفَّه عن زوجها فضربها فشجَّها.

فلما فعل ذلك قالت له اخته وختنُه : نعم قد اسلمنا وآمنّا باللّه ورسوله ، فاصنعْ ما بدا لك.

فلما رأى « عمر » ما باُخته من الدَّم نَدمَ على ما صنع ، فارعوى ورجع ، وقال لاُخته : اعطيني هذه الصحيفة الّتي سمعتكم تقرأون آنفاً أنظرُ ما هذا الّذي جاء به محمَّد؟

فلما قال ذلك قالت له اُخته : إنّا نخشاك عليها. قال : لا تخافي وحلف لها بآلهته ليَرُدّنها إذا قرأها ، اليها.

فلما قال ذلك طمعتِ في اسلامه ، فقالت : يا اُخيّ ، إنك نجسٌ على شِركك وانّه لا يمسُّها إلاّ الطاهر ، فقامَ « عمر » فاغتسل ، فأعطته الصحيفة وفيها آياتٌ من سورة « طه » هي : طه. ما أنْزَلْنا عَليْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى. إلاّ تَذكَرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزيلا مِمَّن خَلقَ الأرْضَ وَالسَماواتِ العُلى * الرَّحمن عَلى العرش اْستوى. لَهُ ما في السَماواتِ وَما في الأرْض وَما بَيْنهما وَما تَحْتَ الثرى. وإنْ تَجهَر بالقَول فانَّه يَعلَمُ السِرَّ واخفى (2).

ولقد تركت هذه الآياتُ المحكمة الفصيحة البليغة تأثيراً شديداً في نفس عمر فقال : ما احسن هذا الكلام؟

وقرر الرجلُ ، الّذي كان قبل ثوان عدوَّ الإسلام الأول ، أن يغيّر موقفه ،

ص: 424


1- الهينمة صوت كلام لا يُفهم.
2- طه : 1 - 8.

فتوجه من توّه إلى البيت الّذي ذكر له أنَّ فيه رسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وجماعة من أصحابه وهو متوشح سيفَه ، فضربَ عليهم الباب ، فلمّا سَمِعُوا صوته قام رجلٌ مِن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيفَ فرجَع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو فزع وأخبرَ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بما رأى ، فقال حمزة : فائذن له ، فان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه.

فقال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : إئذن له ، فأذِنَ له الرجل ، ونهض إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى لقيه في الحجرة ، فأخذ حجزته ( وهو موضع شد الإزار ) أو بمجمع ردائه ثم جَبذَهُ جبذَةً شديدةَ ، وقال : ما جاء بك يابن الخطاب فواللّه ما أرى تنتهي حتّى ينزل اللّه بك قارعة؟!

فقال عمر : يا رسول اللّه جئتك لاؤمن باللّه وبرسوله وبما جاء من عند اللّه.

وهكذا اسلم « عمر » عند رسول اللّه وأصحابه وانضوى إلى صفوف المسلمين.

ثم ان ابن هشام روى رواية اُخرى في كيفية اسلام عمر من أراد الوقوف عليها راجعها في السيرة النبوية (1).

ص: 425


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 343 - 346.

ص: 426

16

رأي قريش في القرآن

اشارة

ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني أمرٌ خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروكٌ إلى الكتب الإعتقادية والكلامية.

ولكن الأبحاثَ التاريخيَّة تهدينا إلى أن القرآن الكريم كان من أكبر وأقوى اسلحة الرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته ، وعباراته ، اساتذة الفصاحة والبلاغة واُمراء البيان والكلام ، وعمالقة الكتابة والخطابة ، واعترفوا برمَّتهم ، وقضّهم وقضيضهم بأَنَّ القرآن الّذي جاء به محمَّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة والبلاغة ، وأنَّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ الانساني نظيراً.

فلقد كانت جاذبيّة « القرآن الكريم » وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه ، وربما انهارت قواه ، فبقي مدة طويلة ، لا يقوى على حِراك ، ولا يملك فعل شيء.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال :

حُكمُ الوَليد في القرآن :

كان « الوليدُ بن المغيرة » ممن يرجُع إليه العربُ لحل الكثير من مشاكلها ،

ص: 427

وكان ذاسنٍّ ، وثروة كبيرة فيهم.

وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريقٌ منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلا لهذا الأمر الّذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية ، وطلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم وقالوا : هل هو سِحر امْ كهانة امْ حديث قد حاكَهُ بنفسه.

فاستنظرهم « الوليد » ليعطي رأيه فيه بعد أن يسمع شيئاً من القرآن ، فأتى إلى الحجر حيث كان يجلس النبيُّ ، ويتلو القرآن ، فقال : يا محمَّد أنشدْني شعرك.

فقال النبيُّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث انبياءه ورسله.

فقال : اُتلُ عليّ منه ، فقرأ عليه رسول اللّه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ».

فلما سمع : الرحمان ، استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمان؟

قال. لا ، ولكني أدعو إلى اللّه وهو الرحمان الرحيم ثم افتتح سورة « حم السجدة » فلما بلغ إلى قوله تعالى : « فان أعرَضوا فَقلْ أنذَرتُكُمْ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ».

وسمعه الوليد ، فاقشعر جلده ، وقامت كل شعرة في راسه ولحيته ، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش : يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمَّد ، أما تراه لم يرجع الينا وقد قبل قوله ، ومضى إلى منزله.

فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه ابو جهل فقال : يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا.

قال : وما ذاك يا ابن أخي؟

قال : صبوت إلى دين محمَّد.

قال : ما صبوتُ واني على دين قومي وآبائي ، ولكني سمعت كلاماً صعباً

ص: 428

تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل : أشِعر هو؟

قال : ما هو بشعر.

قال : فخطبٌ هي؟

قال : لا وان الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ، لا يشبه بعضُه بعضاً ، له طلاوة.

قال : فكأنه هي؟

قال : لا.

قال : فما هو؟

قال : دعني افكر فيه.

فلما كان من الغد ، قالوا : يا ابا عبد شمس ما تقول؟ قال : قولوا : هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه فيه : « ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً * وَجَعلْت لَهُ مَالا مَمْدُوداً * وَبَنينَ شُهُوداً » إلى قوله : « عَليْها تِسْعَة عَشر » (1) (2).

* * *

نموذَجٌ آخرٌ :

كان « عتبة بن ربيعة » من كبراء قريش واشرافها ، ويوم أسلم « حمزة » وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت قريش كلّها ، وخشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة وهو جالس في نادي قريش يوماً ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى « محمَّد » فاكلّمه وأعرض عليه اُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟

ص: 429


1- المدثر : 11 - 30.
2- بحار الأنوار : ج 17 ، ص 211 و 212 ، إعلام الورى بأعلام الورى : ص 41 و 42.

فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلّمه.

فقام إليه « عتبة » حتّى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقال : يابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامَهم ، وعبت به آلهتهم ، ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني اُعرض عليك اُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضَها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قل يا أبا الوليد اسمع.

قال : يا ابن أخي إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثرنا مالا ، وان كنت تريد به شرفاً سَوَّدناك علينا حتّى لانقطع أمراً دونك ، وإن كنتَ تريدُ به مُلكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الّذي يأتيك رئيّاً ( وهو ما يتراءى للناس من الجنّ ) تراه لا تستطيع ردَّهُ عن نفسك طلبنا لك الطبَّ ، وبذَلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يداوي منه ، حتّى إذا فرغ « عتبة » ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يستمع منه قال : أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال : نعم قال : فاسمع منّي ؛ قال : إفعل ، قال : « بِسم اللّه الرحمن الرَّحيم. حم * تَنْزيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرآناً عَربيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ. بَشيراً وَنَذيراً فَأَعْرضَ اكثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا في أكنّة مِمّا تَدْعُونا إليْهِ » (1).

ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلمّا سمعها منه « عتبة » أنصتَّ لها وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يسمع منه وبقي على هذه مدة من الزمن صامتاً وكأنه قد سُلِبَ قدرة النطق ، ثم انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال :

« قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ فأنتَ وذاك ».

ص: 430


1- فصلت : 1 - 5.

فقام « عتبة » إلى أصحابه وقد تغيَّرت ملامحُه فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهبَ به!! فلما جَلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال : ورائي اني قد سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قط ، واللّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فواللّه ليكوننَّ لقوله هذا الّذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فان تصِبهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم ، وان يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم ، وعزُه عزّكم ، وكنتم أسعد الناس به.

فانزعجت قريشٌ من مقالة « عتبة » هذا وسخرت به وقالت : سحرَكَ واللّه يا ابا الوليد بلسانه!!

قال : هذا رأيي ، فاصنَعوا ما بدا لكم (1).

هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ ، في القرآن الكريم.

على أن هناك أمثلة ونماذج اُخرى كثيرة في هذا المجال.

تحججاتُ قريش العجيبة :

اجتمع « عتبة بن ربيعة » ، و « شيبة بن ربيعة » و « أبو سفيان بن حرب » و « النضر بن الحارث » ، و « أبو البختري » ، و « الوليد بن المغيرة » ، و « ابو جهل » و « العاص بن وائل » وغيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى « محمَّد » فكّلِمُوه ، وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه ؛ فجاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وانهم قد غَيَّروا مواقفهم ، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتّى جلس إليهم.

ص: 431


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 293 و 294.

فقالوا له : يا محمَّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمكَ ، وانّا واللّه ما نعلم رجلا من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما أدخلتَ على قومك لقد شتمتَ الآباء ، وعبتَ الدّين ، وشتمت الآلهة ... ومضوا يعددون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه اُموراً ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم :

« وَقالُوا لن نُؤمن لَك حَتى

1 - تفجُرَ لَنا مِنَ الأَرض يَنْبُوعاً.

2 - أوْ تكون لك جَنَّةٌ مِن نَخيْل وعنَب فَتُفجّر الأَنْهارَ خِلالَها تفجيراً.

3 - أوْ تُسقطَ السَماء كما زعَمْتَ عَلْينا كِسَفاً.

4 - أوْ تأتي باللّه وَالملائكة قبيلا.

5 - أو يكُونَ لكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف.

6 - أوْ ترقى في السَماء ولن نؤمنَ لِرُقيِّكَ حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نَقْرؤُهُ »!!

* * *

وحيث أنَّ مضمون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال : « قُلْ سُبْحانَ اللّه رَبّي هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشراً رَسُولا » قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمَّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش ومقترحاتهم.

الجواب : إنَّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف وزمان ، فإن للاعجاز شروطاً خاصة لم تتوفر في هذه الاقتراحات ، وهذه الشروط هي :

أولاً : أن لا تكون المعجزة من الاُمور المستحيلة الّتي لا يمكن تحقّقها ، فإنّ مثلَ هذه الاُمور خارجة عن إطار القدرة ، ولا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقاً.

وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من النبيّ أمراً محالا ، فقوبل طلبهم بعدم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلا على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.

ص: 432

وهذا الشرط لم يكن متوفراً في بعض مقترحات المشركين المذكورة ( المقترح الرابع ) فانهم طَلبوا من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلوه وجهاً لوجه ، ويروه جهرة ومن قريب ، ورؤية اللّه تعالى امر محال ، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان والمكان ، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزهٌ عن المادّة ولوازم المادية.

بل حتّى مقترحُهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم ( لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم وتقتلهم ) فان ذلك هو أيضاً من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية العالم ، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدل عليه قولُهم : « كما زعمتَ ».

إنَّ إنهدامَ المنظومة الشمسيّة وتبعثرَ النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال ، ولكنّه - حسب المشيئة الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري ، ويصل إلى مرحلة الكمال - يعدّ محالا ، ولا يمكن أن يفعل حكيمٌ خلاف ما يقتضيه هدفه وغايته.

ثانياً : حيث أنّ الغاية المنشودة من اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ ، وصحة انتسابه إلى اللّه ، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بعالم ما فوق الطبيعة ، لذلك فان أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ النبيُ طلبَهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلا على ارتباطه بعالم الغيب ، فحينئذ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه.

وقد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع ، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض ، أو أن تكون له جَنّة من نخيل وعنب ، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف وذهب ، فإنّ مثل هذه الاُمور لا تدل على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتكلون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع ذلك بأنبياء ، بل ربما يملكون اكثر من ذلك ، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان فضلاً عن النبوة.

ص: 433

فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة ، ولا تكون دليلا على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة ، وجلّت عنه منزلة الأنبياء.

وقد يقال : إنّ هذه الاشياء (1) لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية ، ولكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شك من المعاجز الالهية ، ودلت على صدق النبي وصحة دعواه.

ولكنّ الظاهر أن هذه فكرةٌ باطلة لان المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُّ صاحب مال وثروة ، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة والمال ، وكانوا يعتقدون أنّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول ، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين : « وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذا القُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريتين عَظِيم » (2)؟!!

أي لماذا لم ينزل هذا القرآن على رَجُل ثَريّ من مكة أو الطائف.

وممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن يملك النبيُ مثل هذه الاُمور بأي طريق كان ، ولو بالطريق العاديّ أنهم كانوا يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا : « أوْ يكونَ لكَ بيتٌ مِنْ زُخْرُف » (3).

وبعبارة اُخرى : كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فاننا لن نؤمن لك!!

ولو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذ لقولهم : ما لم يكن « لَكَ » بيتٌ من زخرف ، فاننا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا : إذا لم تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فاننا لن نؤمن لك.

ص: 434


1- أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع والجنة والبيت من ذهب.
2- الزخرف : 31.
3- الاسراء : 93.

أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم : « تُفجّرَ لَنا منَ الأَرض يُنبوُعاً » فان مقصودَهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعاً لينتفعوا به ، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

ثالثاً : انَ المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله ، والإيمان بمنصبه ، والإعتقاد بمقامه ، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الاتيان له بالإعجاز سبباً لإيمانه بالنبيّ ، فحينئذ كان الاتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً ، وغير مقبوح عقلا.

أما إذا كان المقترحون ، يقترحون عناداً ولجاجاً ، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة والمرتاضين فانَ منزلة الأنبياء أجلّ - حينئذ - من أن يلبيَّ مثلَ هذه المقترحات ، ويستجيب لمثل هذه المطالب ، وقد كانت بعض إقتراحات المشركين من هذا النمط.

فان مطالبتهم بأن يصعَدَ النبيُّ إلى السماء ، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول إلى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده إلى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده ( وهو أن ينزّل معه كتاباً )!!

ثم أنه يُستفاد من آيات اُخرى ، غير هاتين الآيتين ايضاً ، أنهم كانوا سيعاندون ، ويصرون على كفرهم حتّى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى : « وَلَوْ نَزلنا عَلَيْكَ كِتاباً في قِرطاس فَلَمَسُوهُ بِأيْديْهِمْ لَقالَ الَّذينَ كَفرُوا إنْ هَذا إلاّ سِحْرٌ مُبِيْنٌ » (1).

فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى إقتراح المشركين الّذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء أي قولهم : « أوْ تَرْقى في السَّماء وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقيِّك حَتّى تُنزِّلَ عَليْنا كِتاباً نقرأوه » (2) فقال اللّه سبحانه : حَتّى لَو

ص: 435


1- الانعام : 7.
2- الأسراء : 93.

فعلنا لهم ذلك لكفروا ، واحجموا عن الإيمان.

رابعاً : إنَّ طلبَ المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيانُ بها الإيمانَ بالرسالة والانضمام إلى صفوف المؤمنين ، فاذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة ، وانتفاء فائدتها.

فاذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم ، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبداً مع هدف الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

وبالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة وهي : أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزة لرسول الإسلام - لم يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله : « سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولاً » (1) أمرين :

1 - تنزيه اللّه ، فهو بقوله : « سبحانَ ربّي » نزّه اللّه تعالى عن كل عجز ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كل شيء ممكن.

2 - محدوديّة قدرة النبيّ ، إذ بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « هَلْ كُنْتُ إلا بَشراً رَسُولا » أفاد بأنه امرئ مأمور لا أكثر وأنه مطيعٌ لأمر اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه ، والأمرُ إلى اللّه كله ، وليس للنبيّ أن يُلبّي أيَ طلب واقتراح بارادته.

وبعبارة اُخرى : ان الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على كلمتي : « البشر والرسول » والهدف هو انه : إذا أنتم قد طلبتم هذه الاُمور منّي من جهة إنني بشر ، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح ، لأن هذه الاُمور تحتاج إلى قدرة الهية.

وإن طلبتموها منّي من جهة اني نبيُّ رسولٌ فان النبي والرسولَ ما هو إلاّ إمرئ مأمورٌ يفعلُ ما ياذنُ به اللّه ، وليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.

ص: 436


1- الأسراء : 93.

وبهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلُّ على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وكان ممّا تَحججت به قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انّهم قالوا :

لَوْ كانَ مُحمَّداً نبيّاً لشغَلته النبوةُ عن النساء ولأمكنه جمع الآيات ( اي لأتته الآيات دفعة واحدة ) ولأمكنه منعُ الموت عن اقاربه ولما مات أبو طالب وخديجة فنزل قولُه تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيّة وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يأَتي بآية إلا باِذن اللّه لِكل أجل كِتاب. يمحو اللّه ما يشاء وَيُثبت وَعِنْدَهُ اُمُّ الْكِتاب. وَإنْ مّا نرينَّك بعضَ الَّذي نَعدُهُمْ أو نَتوفينَّكَ فَإنَّما عَليْكَ البَلاغُ وَعَليْنا الْحِسابُ ».

وبذلك ردّ عليهم (1) (2).

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم :

اشارة

هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام ، لأن المرء قد يسائل نفسه ، لماذا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمينَ ولم تعهد منه انحرافاً أو خطأ قط وكانت تسمع كلامه الفصيح البليغ الّذي يأسر القلوب ، وربما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة ، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إن لهذا التمرد والمعارضة إلى علة أو علل عديدة هي :

1 - حَسَدُهُمْ للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

لقد عارض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخالفه فريقٌ ممن عارضه بسبب

ص: 437


1- الرعد : 38 - 40.
2- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 17 عن المناقب.

حسدهم له ، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب ، وصاحب هذه المنزلة.

فقد قال المفسِّرونَ عند قوله تعالى : « وَقالُوا لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ القَريَتَيْنِ عَظيم » (1) أن « الوليد بن المغيرة » قال : أيُنزَّل على محمَّد واُترك وأنا كبير قريش وسيّدها ويترك « ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي » سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين فأنزل اللّه تعالى فيه الآية (2).

وروى انه قال : واللّه لو كانت النبوّة حقاً لكنتُ أولى بها منكَ لأنَّنِي اكبرُ منكَ سناً وأكثر منكَ مالا (3).

وكان « اُميّة بن أبي الصلت » من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان يتمنى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويحظى بهذا المنصب العظيم ، ولم يتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى آخر حياته ، وكان يؤلّب الناس عليه.

وقد سأل « الاخنسُ بن شريق » - وهو من أعداء رسول اللّه - أبا جهل يوماً يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من « محمَّد »؟

فقال : ماذا سمعتُ ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ ، أطعَمُوا فأطعَمنا ، وحَملوا فحمَلنا ، وأعطوا فأعطينا حتّى إذا تجاذبنا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبيُّ يأتيه الوحيُ من السماء ، فمتى تدركُ مثل هذه ، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدّقه (4).

هذه النماذج تُظهِرُ الحسد الّذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وتصديقه ، فَعثَوا على اللّه وتركوا أمره عياناً ، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر ، وهناك نماذج وأمثلة اُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجنها هنا.

ص: 438


1- الزخرف : 31.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 361.
3- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 235.
4- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315 و 316.
2 - معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم :

وكان لهذا العامل الأثر الاكبر في عتو قريش ومعارضتها لدعوة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنهم كانوا أصحاب لهو ولعب ، وفسق ومجون ، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو ، دون ان يقيّدهم شيء من الحدود والقيود ، وجَدوا دعوة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تخالف عاداتهم القديمة ، وكان ترك مثل تلك العادة الّتي تتفق معه أهوائهم ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد.

3 - الخَوفُ مِن عُقُوبات اليوم الآخر :

إن سماع آيات العذاب الّتي تنذر الفَسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم ، وأقلق نفوسهم بشدة.

فعند ما كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه ، وقضاياه في الاجتماعات والاماكن العامة ، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهِم ، فيهدم مجالس لهوهم ، واُنسهم.

إنّ العربي الّذي كان يسلِّحُ نفسه بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيَ خطر محتمل ، ويعمد إلى ممارسة القرعة ويتعاطى الانصاب والازلام ليحصل على لقمة عيشه ، ويتفأل بالاحجار ، ويتطيّر ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقَعت أو تقعُ ، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه « محمَّد » من عذاب وعقاب!!

من هنا كانوا يحاربون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويخالفونه حتّى لا يسمعوا وعده ووعيد.

واليك بعض الآيات الّتي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش : « فَإذَا جَاءت الصّاخَّةُ. يَومَ يفرُّ المرْءُ مِن أخيه. وَاُمِّه وأبيهِ. وَصاحبِتِه وَبَنيِه لِكُلِّ أمرئ مِنْهُمْ يَوْمَئذ شَأَنٌ يُغْنِيه » (1).

ص: 439


1- عبس : 33 - 37.

وبينما كانوا يمدّون موائد اللّهو والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية : « كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُوداً غَيرَها لِيذُوقْوا العَذابَ » (1).

فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً ، وينتابهم الاضطراب الشديد حتّى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملكهم خوف شديدٌ لم يعرفوا له مثيلا.

4 - الخَوفُ مِن القَبائل العَربية المشركَة :

قال « الحارث بن نوفل بن عبد مناف » لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : انا لنعلم أنَّ قولك حقٌ ولكن يمنُعنا أن نتبع الهُدى ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطفنا العربُ من أرضنا ( إن تركنا الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سَدنة لأوثانها ) ولا طاقة لنابها. فنزل قوله تعالى يرد عليهم : « وَقالُوا إنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرضنا أوَ لَمْ نُمكِّنْ لَهُمْ حَرماً آمِناً يُجبى إليه ثمراتُ كُلِّ شيء رزْقاً مِنْ لَدُنَّا » (2) (3).

وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الاسباب لعتوهم وَإعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

طائفةٌ مِن اعتراضات المشركين :

وربما اعترض المشركون على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قائلين : إن هذه الارض ليست بأرض الانبياء ، وإنما ارضُ الأنبياء الشامُ فآت الشامَ (4).

وكان اكثر المشركين يقولون - وذلك بوحي من اليهود - لماذا لا ينزل القرآن على « محمَّد » دفعة واحدة كالتوراة والانجيل فحكى القرآن الكريم إعتراضهم

ص: 440


1- النساء : 56.
2- القصص : 57.
3- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 236.
4- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 198.

هذا بنصه إذ قال :

« وَقالَ الَّذيْنَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلةً واحِدَةً ».

ثم قال تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤادَكَ » (1).

إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض ، ويوضح مسألة « النزول التدريجي » للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذى حذوهم ، بمنطقه المحكم ، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا إلى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً :

القُران والنُزُولُ التدريجيّ :

إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة ، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات الّتي تتحدثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه الواحد ، والإيمان باليوم الآخر مكيّة ، بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة ، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الاوثان الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه ، واليوم الآخر ، فهنا تكونُ الآيات الّتي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه ، وإلى جماعة اليهود والنصارى ، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وواصلها في هذه البيئة ، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمن الحديث حول الاحكام والفروع والقوانين ، ويدور

ص: 441


1- الفرقان : 32.

الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمن الحثَّ - كذلك - على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية ، وإيضاح مفادها ، فان وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس ، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الالهية.

ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الامر أيضاً في بعض المواضع إذ قال : « وَقُرْاناً فَرَقْناهُ لِتَقْتَرأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْث » (1).

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جملة واحدة ، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون : « لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة » (2).

ويمكن تقرير وشرح هذا الاعتراض على نحوين :

1 - إذا كان الإسلام ديناً إلهياً ، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلا من جانب اللّه على رسوله ، فلابدّ أن يكون ديناً كاملا ، ومثل هذا الدين الكامل

ص: 442


1- الاسراء : 106.
2- الفرقان : 32.

يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات ، إذا لا مبرّر ولا داعيَ لأن ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات ، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن ، على نحو التدريج في 23 عاماً ، ولمناسبات مختلفة.

وحيث أن القرآن نزَلَ منجّماً ، وبصورة متفرقة متناثرة ، وعقيب طائفة من الأسئلة ، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الاُصول والفروع ، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصحّ أن يوصَف بالدين الالهيّ.

2 - إن آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتبوة مدوّنة ، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار ، كأن ينزل القرآن على « محمَّد » في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط ، ولم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها ، لذا يمكن القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح ، والّذي يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جملة واحدة ، بل نزلت هذه الآيات عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم في فواصل زمنية متفاوتة ، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن :

ولقد كشف القرآنُ القناعَ - في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا - عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

واليك توضيح هذا القسم الّذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة :

ص: 443

1 - إن الرسولَ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم يتحمَّل مسؤوليات كبرى ، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكلَ ومتاعَب باهضة وصعبة ، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل ، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة ، وقويّة ، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى ، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط ، وعاملا قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه ، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى إذ قال : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ » (1).

2 - ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة ناظرة إلى جهة اُخرى وهي : انَ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزلَ القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل ايضاً وذلك لان النبي الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم معلّم الاُمة ، وطبيبُها الروحيُ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم ، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة ، والفكرية ، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية ، ومثل هذا يتطلب التدرّج لينفَع الدواء - حينئذ - وتنجعَ المعالجةُ.

إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية ، وأن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية ، ويعطي لما يلقيه من معلومات ، صبغة تحقيقية ، ويتجنَبَ بشدة إتصافَ أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات

ص: 444


1- الفرقان : 32.

المطلوبة من تعليم الطبّ ، بشكل كامل.

أما إذا قَرنَ الاستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن ، ويساعد الطلبة على فهم افضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة ( والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها ) كان القرآن - حينئذ - فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة الّتي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

ان بيان الآيات الّتي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة إلى اخذها وتعلّمها ، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب ، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والاُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها فانه لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخٌ اكبر في نفوسهم ، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها ومعانيها ، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم ، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية الّتي اشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً ، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤالٌ آخر وهو : إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة ، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور ، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها ، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها ، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟

ص: 445

ولقد أجاب القرآن الكريم ايضاً على هذا السؤال إذ قال : صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلاّ أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه ، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض ، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطا خاصاً يمكن الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلا من الإهتمام إذ قال تعالى : « وَرتّلناه تَرتيلا » (1).

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرارٌ اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً :

3 - لقد واجَه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين ، واليهود والمسيحيين الذين كان لكل فئة منهم ديناً خاصاً ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد ، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات ( وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم ) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها ، وزيفها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة ، وأوقات مختلفة ، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً ، وفي الأوقات المختلفة ، ويتصدى لبيان بطلان تلك العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين ، اعتراضاتهم.

وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن

ص: 446


1- الفرقان : 32.

يجيب عليها ، وحيث أن هذه الاسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة ، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الالهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة ، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً إلى أن حياة النبي نفسَها كان حياة ثورة ، ووقائع ، وكان النبيُ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها ، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.

وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادثاً واُموراً يرجعون فيها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث أن هذه الحوادث ، وما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات متلفة ، وبمرور الزمن ، لذلك لم يكن بد ايضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط ، وإلى نقاط اُخرى غيرها في قوله تعالى : « ولا يَأْتُونَكَ بمَثَل إلا جِئناكَ بِالحَقِّ وَأَحسَنَ تَفْسيراً » (1).

4 - إن للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كل ذلك سراً آخر ، وعلة اُخرى غفلوا عنها ، ألا وهي : هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب ، وأن القرآن ليس الاّ كتاباً سماوياً ، ووحياً الهياً لا غير ، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ ، لأن القرآن نزل خلال ( 23 عاماً ) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة ، المقرونة بالنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، ولا شكَّ أن هذه الحالات المختلفة ، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة ، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان ، وروحه وعقله ، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد ، وبنبرة واحدة ، في حالتين

ص: 447


1- الفرقان : 33.

نفسيّتين متضادتين ، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرة من اللسان أو القلم ، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب ، والاخفاق ، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يمر بحالات مختلفة من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء ، والعسر والرخاء والجهد والنشاط ، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحد من القوة والفصاحة والبلاغة ، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره ، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أىُ شيء من التفاوت والاختلاف ، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها.

ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول : « وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر اللّه لَوَجَدُوا فيه إخْتِلافاً كثيراً » (1) اشارة إلى هذا السرّ.

إنَّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها ، ومقاصدها ، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.

ص: 448


1- النساء : 82.

17

إلى الحبشة

الهجرة الاولى

تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة دليلا بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ، ولربهم وذلك لأن فريقاً من الرجال والنساء يقررون - وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد - مغادرة ( مكة ) ، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية ، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها ، ولا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل ، وبعيداً عن الارهاب ، ويفكرون ، ويفكرون ، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذه المسألة ، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الّذي يقوم دينه على مبدأ : « إنَّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون » (1).

لقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً ، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم ، وكان الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه

ص: 449


1- العنكبوت : 56.

من كل اذى ، ولكن الذين آمنوا به من الإماء والعبيد ، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الّذين كانوا يشكلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة من قريش الّتي لم تأل جهداً ، ولم تدخر وسعاً ، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولا يستطيع صلى اللّه عليه وآله وسلم منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون - للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل - إلى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم ، وايذائه والتنكيل به ، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم :

« لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة فانَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ وهي أرضُ صِدْق حَتى يَجعَلَ اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ » (1).

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم ، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن.

ولقد كان لكلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أثر قوىٌ في نفوسهم تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان ، بحيث لم يمض زمان إلاّ وقد شدّت رحالها وغادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب ( المشركين ) مشاة وركباناً ، متجهةً نحو جدّة ، للسفر عبر مينائها إلى ارض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من

ص: 450


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 ، تاريخ الطبري ج 2 ، ص 70 ، وبحار الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

النسوة المسلمات (1).

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها ، وانما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة إلى المناطق العربية الّتي كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر ، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء ( الوثنيّة ).

وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود ، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي ، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع ، هذا مضافاً إلى أن ذينك الفريقين ( اليهود والنصارى ) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً ، فكيفَ يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أما « اليمن » فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع « اليمن » ، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية إلى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى « خسرو برويز » كتب إلى عامله على اليمن فوراً « احمل إليّ هذا الّذي يذكر أنه نبيٌّ ، وبدأ اسمَه قبل اسمي ، ودعاني إلى غير ديني » (2)!!.

وكذلك كانت « الحيرة » تحت الاستعمار والنفوذ الايرانيّ كاليمن.

وأمّا « الشام » فقد كانت بعيدة عن « مكة المكرمة » ، هذا مضافاً إلى ان « اليمن » و « الشام » كانتا سوقين لقريش ، وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة ، فاذا كان المسلمون يلجأون إليها اُخرجوا منهما

ص: 451


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 70.
2- بحار الأنوار : ج 20 ، ص 382.

بطلبٍ من قريش ، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب ، ولكنه رفض طلبهم.

وقد كانت الرحلة البحرية - في تلك الآونة - وبخاصة برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً ، من هنا كانت هذه الهجرة ، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلا قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم به ، وصدقه.

ولقد كان ميناء « جدة » آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن ، ومن حسن التوفيق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة الاقلاع ، والتوجه نحو الحبشة ، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم ، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه (1).

ولما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم إلى مكة فوراً ، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ « جدة » قبل أن يدركهم الطلب (2).

ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلاّ لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن ، واغمضوا الطرف عن المال ، والتجارة ، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية ، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها وطغاتها!!

اجل ان رؤساء « دارالندوة » بمكة واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه

ص: 452


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 412 نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 321 - 323.

الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن ، والمؤشرات ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد.

هذا والجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة :

ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اُخرى ، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة « جعفر بن أبي طالب ». ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة ، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم ، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم ، والاّ كان العددُ اكثر من هذا الرقم.

ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون ارضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم : منطقة عامرة ، وبيئة آمنة حرّة ، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول « اُم سلمة » الّتي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ما بعد ، عن تلك الارض : لما نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار النجاشي ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه.

كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة ، انهم أمنوا بأرض الحبشة ، وحمدوا جوار النجاشي ، وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ونحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها « عبد اللّه بن الحارث » في هذا الصدد :

ص: 453

يا راكباً بَلِّغن عَنّي مُغلْغَلة (1) *** مَن كانَ يرجُو بلاغَ اللّه والدّينِ *** كلَّ امرئ مِن عِباد اللّه مضطَهدٍ

ببَطنِ مكّة مقهور ومفتونِ *** أنّا وجَدنا بِلادَ اللّه واسعةً

تُنجِي مِنَ الذُلِّ والمخزاة والهون *** فَلا تُقيموا عَلى ذُلِّ الحَياة وَخز

ي في المَماتِ وَعَيب غير مأمون (2)

ويقول ابن الاثير : وكان مسيرهم ( إلى الحبشة ) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة ، وكان سبب قدومهم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انه بلغهم ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ (3).

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام (4).

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين :

عندما بلغ قريشاً وزعماء « مكة » ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية ، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم ، وتوجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين ، وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم ، ويُميلّوا قلبَه نحو الإسلام ، ويكسبوا تاييده للمسلمين ، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية ، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ « دار الندوة » مرة اُخرى للتشاور في الأمر ، فأستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده هدايا

ص: 454


1- المُغلغلَة : الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 351 - 353.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 52 و 53.
4- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 - 362.

مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهمونهم عنده بالسفاهة والجهل ، وابتداع دين جديد منكر ، والإرتداد عن دين الآباء والاجداد!!

ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى افضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : « عمروُ بن العاص » ، و « عبد اللّه بن ابي ربيعة » وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه ، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفَدا قريش حتّى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

وهناك في الحبشة دَفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه ووزرائه هديته ، وقالا لكل بطريق منهم :

إنه قد ضوى (1) إلى بلد الملك منّا غُلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يَدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا إلى المِلِك لنكلّمه في أمرهم أشرافُ قومهم ليردَّهم اليهم فاذا كلَّمنا الملكُ فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ، ولا يكلّمهم ، فان قومَهم أبصر بهم ، واعلم بما عابوا عليهم.

فابدى اُولئك البطارقة والقادة والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

ولما كان من غد دخلا على النجاشي وقدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له :

أيها الملك إنه قد ضَوى إلى بلدك منا غِلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ولم

ص: 455


1- ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.

يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم اليهم ، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلاّ وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومُهم أبصرُ بهم ، وأعلمُ بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

فغضبَ النجاشيّ وكان رجلا حكيما عادلا وقال : لاها اللّه ، إذن لا اُسلمهم إليهما ، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني ، ونَزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتّى أدعوَهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما ، ورددتُهم إلى قومهم ، وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما واحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني.

ثم ارسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المهاجرين إلى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم ، فحضروا عنده ، وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : « جعفر بن أبي طالب » وقد قلِقَ بعضُ المسلمين لما قد سيقوله « جعفر » عند الملك ، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه ، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا ، وما امرنا به نبيُنا صلى اللّه عليه وآله وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فالتفت النجاشيُ إلى « جعفر » وسأله قائلا :

ما هذا الدين الّذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا ( به ) في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فقال جعفر بن ابي طالب :

« أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهلَ جاهلية نعبُدُ الأَصنامَ ، ونأكلُ الميتةَ ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الارحام ، ونسيءُ الجوار ، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه الينا رسولا منا ، نعرف نسبَه وصدقه ، وأمانته وعَفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه ، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من

ص: 456

الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبدَ اللّه وحدَه ، لا نشركُ به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا قومُنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى ، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ ايها الملك ».

فأثّرت كلمات جعفر البليغة ، وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع ، وقال : لجعفر هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ : فاقرأهُ عليَّ ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم ، واستمرَّ في قراءته ، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى « مريم » عليها السلام وطهارة جيبها ، وإلى مكانة المسيح عليه السلام ، وعظمة شأنه ، وجليل مقامه ، فبكى النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت اسقافتُه (1) حتّى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهما السلام.

وبعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي :

« إن هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة » وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحدٌ.

ثم التفت إلى موفَدي قريش وقال لهما بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون ، فخرجا من عنده.

ص: 457


1- الاساقفة ؛ جمع اسقف : علماء النصارى.

وعند المساء تكلَم « عمرو بن العاص » - وكان إمرء خدّاعاً ما كرا - مع رفيقه « عبد اللّه بن ربيعة » في الامر ، وقال له : واللّه لآتيَنّ غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ( وهو يعني أنه سيأتي بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة ) ولاُخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. ( أي على خلاف ما يعتقد النصارى في المسيح ).

فنهاه « عبد اللّه » عن ذلك وقال : لا تفعل ، فانّ لهم أرحاماً ، وان كانوا خالفونا ، ولم ينفع نهي عبد اللّه له.

ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشي مرة اُخرى فقال له « عمرو » متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي دين الملك واهله ، ومنتقداً رأي المسلمين.

أيها الملك ، إنهم يقولون في « عيسى بن مريم » قولا عظيماً. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشيُ اليهم ليسألهم عنه ، وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأمور على ظواهرها ، ومن غير تحقيق ودراسة ، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السلام فاتفقوا أن يكون « جعفر » متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال : أقول واللّه ما قال اللّه ، وماجاءنا به نبيُنا.

فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاءنا به نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم : هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به وقال : هذا واللّه هو الحق ، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ.

ولكنَّ حاشيته لم تَرضَ بهذا الكلام ولم تقبل بما قاله الملكُ ، ولكنّه لم يعبأ بهم ، وأيّد مقالة المسلمين ، ومنحهم الحرية الكاملة ، والأمان الكامل قائلاً لهم :

ص: 458

اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم غُرمَ ، من سبّكم غرمَ ، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلا منكم.

وردّ على موفَدي قريش هداياهما قائلا لهما : « ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فاُطيعهم فيه ».

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة (1).

* * *

وينبغي ان نسجّل هنا موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين ، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل « ابو طالب » أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :

ألا لَيتَ شِعري كيفَ في النأي جعفرٌ *** وعمروٌ واعداء العدو : الأقاربُ؟

وهل نالتَ افعال (2) النجاشيّ جعفراً *** وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تَعلّم ، ابيتَ اللعنَ ، انك ماجِدٌ *** كريمٌ فلا يشقى لَديك المجانبُ

تعلّم بانَ اللّه زادك بسطةً *** وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنك فَيضٌ ذو سجال غزيرة *** يَنالُ الاُعادي نفعهُا والاقارب (3)

العَودةُ من الحبشة :

قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة الاُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من « مكة » بلغهم أنما كانوا تحدّثوا به من إسلام اهل مكة كان باطلاً ،

ص: 459


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 338 ، إمتاع الاسماع : ص 21 ، بحار الأنوار : ج 18 ، ص 414 و 415.
2- إحسان.
3- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 333 و 334.

فلم يدخل منهم إلى « مكة » إلاّ قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا.

وكان ممن دخل « مكة » بجوار ، « عثمان بن مظعون » الّذي دخلها بجوار « الوليد بن المغيرة » (1) ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من البلاء ، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّلَ هذا الفَرق وقال : واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي فمشى إلى « الوليد بن المغيرة » وردَّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في آلامهم ومتاعبهم وقال : يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك ، قد رَددْتُ إليك جوارَك.

قال : لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟

قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا اُريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له : إذن فاردُد عليّ جوارى علانية كما أجرتُك علانيةً.

فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ ، فقال « الوليدُ » مخاطباً من حضر مِن قريش : هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال : صدق ، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار ولكنّي قد احببتُ أن لا استجيرَ بغير اللّه ، فقد رردتُ عليه جواره (2).

ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ المسجدَ « لبيد » وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و « عثمان بن مظعون » جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً :

ألا كلُ شيء ما خلا اللّه باطلُ

فقال عثمان بن مظعون : صدقتَ فقال : لبيد :

ص: 460


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 369.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370.

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا (1).

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

ص: 461


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 370 و 371.

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عما أرادوا دعاهم صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً (1).

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي - كسحابة داكنة - حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

1 - عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

ص: 462


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 390 و 393 وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 إلى 55 من سورة القصص.

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

2 - وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

2 - وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : انتظر في ذلك وحياً. (1)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات 9 - 28 والآيات 73 - 93.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

ص: 463


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 - 302.

ص: 464

18

الأسلحةُ الصَديئة والاساليب الفاشلة

اشارة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

ص: 465

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

1 - الاتّهاماتُ الباطلة :

اشارة

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

ص: 466

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟! (1) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

ص: 467


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62.

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

ص: 468

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق (1).

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ... ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُ صلى اللّه عليه وآله وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ - واللّه - الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر (2).

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : « ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : ) فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة » (3).

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

ص: 469


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 270.
2- مجمع البيان : ج 10 ، ص 386 و 387.
3- المدثر : من 11 - 51.

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى (1) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوته صلى اللّه عليه وآله وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : « أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ » (2).

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

ص: 470


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 62 عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.
2- سبأ : 8.

« كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » (1).

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيح عليه السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟! (2).

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمين صلى اللّه عليه وآله وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء - مهما صغر - ضد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ » (3).

« وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ » (4).

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن (5) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

ص: 471


1- الذاريات : 52 و 53.
2- انجيل يوحنا : الفصل 10 ، الفقرة : 20 ، والفصل 7 ، الفقرة 48 و 52.
3- النحل : 103.
4- الدخان : 13 و 14.
5- الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ (1).

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : « وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ » (2) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ » (3).

وقال تعالى : « وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً » (4).

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : « قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ » (5).

وقال تعالى : « وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ » (6).

وقال سبحانه : « وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون » (7).

وقال عزّ وجلّ : « فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون » (8).

وقال تعالى : « قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(9).

وقال تعالى : « أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه » (10).

وقال سبحانه : « وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً » (11).

وقال سبحانه : « أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ » (12).

وقال تعالى : « أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون » (13).

وقال تعالى : « وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن » (14).

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

« بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ » (15).

ص: 472


1- راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 269 باب علم الكهانة والعرافة.
2- الحاقة : 42.
3- ص : 4.
4- الفرقان : 8.
5- الشعراء : 153.
6- الحجر : 6.
7- التكوير : 22.
8- الطور : 29.
9- النحل : 101.
10- هود : 13.
11- الفرقان : 4.
12- سبأ : 8.
13- الطور : 30.
14- يس : 69.
15- الانبياء : 5.

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

2 - فكرةُ معارضة القرآن :

اشارة

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

ص: 473

إذا قام صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟ (1).

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : « وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً » (2).

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ - لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : « لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم » (3).

ب - لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

ص: 474


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 300 و 358.
2- الفُرقان : 5 و 6.
3- الزخرف : 31.

رَسُولا » (1).

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : « وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ » (2).

ج - انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : « وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ اللّه وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ » (3).

د - تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : « وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ » (4).

ه- - القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : « وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد » (5).

و - لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : « فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى » (6).

ز - لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى :

« وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ » (7).

ص: 475


1- الاسراء : 94.
2- الفرقان : 7.
3- المائدة : 104.
4- ص : 4 و 5.
5- السجدة : 10.
6- القصص : 48.
7- الانعام : 8.
مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

1 - ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : « بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

2 - تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : « وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ » (1).

فردّ اللّه عليهم بقوله : « قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم » (2).

3 - مطاليب مادية عجيبة!!

ص: 476


1- يونس : 15.
2- يونس : 15.

وقد عمدوا - بسبب عنادهم وعتوهم - إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : « وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء » (1).

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

1 - « فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ » (2).

2 - « وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن » (3).

3 - « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ » (4).

4 - « وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ » (5).

5 - « فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت » (6).

6 - « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا » (7).

* * *

ص: 477


1- الاسراء : 90 - 93.
2- الاحقاف : 35.
3- يونس : 109.
4- النحل : 127.
5- الكهف : 28.
6- القلم : 48.
7- المزمل : 10.
معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :
اشارة

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه. فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

1 - شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : « إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ » (1).

2 - المعراج

ان العروج برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : « سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ » (2).

ص: 478


1- القمر : 1 و 2.
2- الاسراء : 1.
3 - مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : « فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ » (1).

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4 - الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : « وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ » (2).

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

ص: 479


1- آل عمران : 61.
2- آل عمران : 49 ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل. فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى : « الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم :4. 4 ). واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى : « تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ». وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه : « سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : 45 ).

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب - كما في نهج البلاغة - حول سؤال المشركين من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق ) (1).

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

ص: 480


1- نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم 192.

وقد كلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم في ذلك وقد طمع في اسلامه ، فَبينا هو في ذلك إذ مرَّ به « ابن اُم مكتوم » ، فكلم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى أضجره ، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر « الوليد ». وما طمع فيه من اسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فنزل قوله تعالى : « عَبس وَتَولّى. أنْ جَاءهُ الأَعْمى. وَما يدريْكَ لَعلَّهُ يَزَّكى. أوْ يَذَّكرُ فَتنْفَعُهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزكّى. وَأَمَّا مَنْ جاءكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّى. كَلا إنّها تَذْكِرَةٌ » (1) (2).

وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه الرواية التاريخية ، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي امتَدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم ، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين ، وقالوا : ليس في الآيات ما يدل على أن الّذي عبَس وتولّى هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وقد روي عن الامام الصادق عليه السلام أنَ المراد رجلٌ من بني اُميَة ، فإنّه عبس وتولّى عند ما حضر « ابنُ ام مكتوم » الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخاً له (3).

* * *

3 - تحريم استماع القرآن

اشارة

كانت البرامجُ الواسعة الّتي دبرها الوثنيّون في « مكة » لمكافحة الإسلام والحيلولة دون انتشاره بين القبائل والجماعات ، تُنفَّذ الواحدة تلو الآخرى ، ولكن دون جدوى ، ودون ان يكسب اصحابُها من ورائها أي نجاح ، واية نتائج على

ص: 481


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 363 - 364.
2- عبس : 1 - 11.
3- مجمع البيان : ج 10 ، ص 437 ، وقد شرح العلامة الطباطبائي في المجلد 20 من تفسير الميزان عند تفسير سورة عبس شأن نزول هذه الآيات بصورة رائعة ، وشكل بديع ، واثبت بان فاعل عبس ليس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولا ينافي ذلك توجّه الخطاب في « وما يدريك » إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

المستوى المطلوب ، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كل مرة ، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل ، وسوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك ، فقد وجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه ، وكانوا يرون باُم أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد ، يوماً بعد يوم.

ولهذا قرَّر سادة قريش وزعماء « مكة » المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن. ولكي تتحقق خطتهم هذه وتلبس ثوب الوجود بَثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ اليها للحج أوالتجارة من الاتصال بمحمَّد ، ومنعه بكل صورة ممكنة ، عن الاستماع إلى القرآن ، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفرُوا لا تَسْمعُوا لِهذا الْقُرآن والْغوا فِيْه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » (1).

لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقد القى رعباً عجيباً في نفوس الاعداء واقضّ مضاجعهم.

وكان اشراف قريش وأسيادها يرون باُم أعينهم كيف أنَّ اعدى أعداء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ( وهو أبو جهل ) عندما مشى إليه ليستهزئ به ، ويسخر منه ، ما ان سمع آيات من القرآن ، إلاّ وفقد السيطرة على نفسه ، ولان قلبه ، وأصبح من أصحابه ومؤيديه الأقوياء ، ولهذا لم يكن أمام اُولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتا ، ويحرموا التحدث إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم تحريماً قاطعاً (2).

ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهبَ خشيةَ أذاهُم فلم يستمع (3).

ص: 482


1- فصّلت : 26.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.
3- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 313 و 314.
واضعوا القرار ينقضون قرارهم!!

ولكن من الطريف العجيب أن نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن ، وكانوا يعدون كل من يتجاهل قرار ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) مخالفاً يتعرض للملاحقة والعقاب ، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن ، يستمعون إليه في الخفاء!

واليك بعض ما جرى في هذا الصعيد :

خرج « أبو سفيان » و « أبو جهل » و « الاخنس » ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يصلي من الليل في بيته ، فاخذ كلُ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلَعَ الفجرَ تفرَّقوا فجمعهم الطريقُ فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، حتّى إذا كانت الليلة الثالثة اخذ كلُ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتّى نتعاهد ألاّ نعود ، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا (1).

* * *

4 - منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه

اشارة

بعد خطة ( تحريم الاستماع إلى القرآن ) بدأوا بتنفيذ خطة اُخرى وهي منع كل قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ ، وعلى ما اتى به من كتاب ودين ، من الاتصال بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ص: 483


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 315.

فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا إلى منعه من الاتصال برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والايمان برسالته ، بشتى الحيل والاساليب.

واليك نموذجين حيّين من هذا الامر.

1 - « الاعشى » :

وكان من شعراء العهد الجاهلي البارزين ، وكانت قصائده تتناقلها مجالس السَمر القرشية ، وتتغنى بها محافل انسهم.

وقد بلغ « الاعشى » في كبره نبأ ما جاء به رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من التوحيد ومن تعاليم الإسلام العظيمة ، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكة ، حيث لم تصل اليها أشعة الرسالة الإسلامية على وجه التفصيل بعد ، ولكن ما قد سمع به من تعاليم الإسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم خرج إلى مكة ليهديها إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو في نفس الوقت يريد الإسلام.

ورغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتُها 24 بيتاً ، ولكنها تُعدّ من أفضل وافصح ما قيل من الشعر في الإسلام ، وفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في ديوان « الأعشى » وقد قال فيها وهو يذكر بعض تعاليم الإسلام :

نَبيّاً يرى ما لا يَرون وذكرُه *** أغار لعَمري في البلاد وأنجدا

فاياك والميتات لا تقربنّها *** ولا تاخذن سَهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصب المنصوب لا تُنسكُنَّه *** ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبُدا

ولا تقربنَّ حُرَّة كان سرُّها *** عليك حراماً فانكحن اوتأبّداً

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه *** لعاقبة ، ولا الاسير المقيِّدا

وسبِّح على حين العشيات والضحى *** ولا تحمَد الشيطان واللّه فاحمدا

ص: 484

فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه جواسيس قريش ورجالها فسألوه عن أمره وقصده فاخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليسلم ، وحيث أنهم كانوا يعرفون بأن « الاعشى » رجل يحب النساء والخمر حبّاً كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الإسلام فقالوا له : يا أبا بصير ( وهي كنية الاعشى ) إنه يحرم الزنا.

فقال الاعشى : واللّه ذلك لأمرٌ ما لي فيه من ارب.

فقالوا له : يا أبا بصير فانَّه يحرِّم الخمرَ.

فقال الأعشى - وقد صُدِمَ بهذا الخبر - أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرفٌ فاتروّى منها عامي هذا ، ثم آتيه فاُسلم!! فانصرفَ فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم (1).

2 - الطُفيل بُن عَمرو الدوسيّ :

وهو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان ، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته.

يروى انه قدم « مكة » ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بها ، وكانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فيسلم.

ومن البديهي أن اسلام رجل مثله كان ممّا يشق على قريش جدّاً ولهذا مشى إليه رجالٌ منهم وقالوا له - محذرين ايّاه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

يا طُفيل ، إنك قدمت بلادَنا ، وهذا الرجلُ الّذي بين أظهرنا قد اعضلَ بنا ، وقد فرّق جماعتنا ، وشتَّت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين ابيه ، وبين الرجل وبين اخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنَّه ، ولا تسمعنَّ منه شيئاً.

ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتَها في نفس الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة

ص: 485


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 386 - 388.

وإصرار ، حتّى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئاً ، ولا يكلّمه ، وحشّى اُذنه - حين غدى إلى المسجد للطواف - قطناً ، خوفاً من أن يبلغه شيء من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو لا يريد ان يسمعه!!!

يقول الطفيل : فغدوت إلى المسجد فاذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة ، فقمتُ منه قريباً فسمعتُ كلاماً حسناً من غير اختيار مني فقلت في نفسي : واثكلَ اُمي ، واللّه اني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليّ الحسَنُ من القبيح ، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول ، فان كان الّذي يأتي به حسناً قبلتُه ، وان كان قبيحاً تركتُه؟

فمكثتُ حتّى انصرف رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيته فاتّبعته حتّى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمَّد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا ، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرُك حتّى سردت اُذني بكسرف لئلا اسمع قولك ثم اَبى اللّه إلاّ أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولا حسناً ، فاعرض عليّ أمرك ، فعرض عليَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق. ثم قلت : يا اللّه نبيّ إني امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام.

ثم يكتب ابن هشام قائلا : إن الطفيل لم يزل بارض « دوس » يدعوهم إلى الإسلام حتّى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة ومضى « بدر » و « اُحد » و « الخندق » فقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بمن أسلم معه من قومه وهم سبعون أوثمانون بيتاً ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخيبر فلحقوا جميعاً برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخيبر ، وبقي مع النبيّ حتّى قُبِضَ صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم سار مع المسلمين - في زمن الخلفاء إلى « اليمامة » وشارك في معركتها وقُتِلَ فيها (1).

ص: 486


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 382 - 385.

19

اسطورة الغرانيق

اشارة

قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرف على اسطورة « الغرانيق » الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها كما يودّ التعرف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة ، وأمثالها من الأكاذيب ، والمفتريات.

كان اليهودُ وبخاصّة أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.

وقد عَمَد فريقٌ منهم - مثل « كعب الاحبار » وغيره - ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الانبياء (1).

ولقد أدرج بعضُ المؤلفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيصها والتحقيق فيها ، ثقة بكل من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان ، وانضم إلى صفوف المسلمين!!

ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والاخبار ، والمنقولات والنصوص وبخاصة بعد أن توفّرت لديهم ، بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد والضوابط الكفيلة بتمييز

ص: 487


1- وهي الّتي يُطلَق عليها الاسرائيليات وقد اُلّفَت في هذا المجال بعض الكتب.

الحسن عن القبيح ، والصحيح عن السقيم ، وفرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة ، والروايات الاسطورية.

من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً بسلامته ، ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق ، وتمحيص وتقييم.

ما هي اُسطورة الغرانيق؟!

يقولون : إن « الأسود بن المطلب » و « الوليد بن المغيرة » و « اُمية بن خلف » و « العاص بن وائل » وهم من زعماء قريش واسيادها قالو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

يا محمَّد هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وانت في الأمر!!

وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف ، وتضييقاً لشقّة الخلاف فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي امر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم : « لا أعْبدُ ما تَعْبدُونَ. وَلا أنتُم عابِدُونَ ما أعْبُد ».

ومع ذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاربهم وكان يقول في نفسه : ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.

وذات يوم وبينما كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة « النجم » فلما بلغ قوله تعالى : « أَفرَأَيْتُمْ الّلات وَالعُزّى. وَمَناةَ الثّالِثَةَ الاُخْرى » (1).

أجرى الشيطان على لسانِه الجُمْلتين التاليتين :

« تِلْكَ الْغَرانِيقُ الْعُلى مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى ».

فقرأهما من دون إختيار ، وقرأ ما بعدها من الآيات ، ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الاصنام ، إلاّ

ص: 488


1- النجم : 19 و 20.

« الوليد » الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!!

وفرح المشركون ، وارتفعت نداءاتهم يقولون : لقد ذكر « محمَّد » آلهتنا بخير.

وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والمشركين ، المهاجرين إلى الحبشة ، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ، ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف « مكة » إلاّ وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية ، وأن ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة اُخرى بمخالفة الاصنام ومجاهدة الكفار والمشركين ، وأخبره بأن الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه ، وانه لم يقله وأنه ليس من « الوحي » في شيء أبداً.

وعندئذ نزلت الآيات ( 52 - 54 ) من سورة « الحج » الّتي يقول اللّه تعالى فيها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ إلاّ إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلْقي الشيْطانَ ثم يُحكِمُ اللّه آياتِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكيْمٌ ».

« لِيَجْعَلَ ما يُلْقي الشَيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسيَةِ قُلُوبِهم ، وإن الظّالِمينَ لَفِيْ شِقاق بَعِيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوتُوا العلْم أَنَّه الحقّ مِنْ رَبّك فيُؤمنُوا به فتُخبتُ لَهُ قُلُوبُهم وإنّ اللّه لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إلى صِراط مُسْتقيمْ ».

هذه هي خلاصة اُسطورة « الغرانيق » الّتي أوردها « الطبري » في تاريخه (1) ويذكرها ويردّدها المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!!

محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة

لنفترض أن « محمّداً » لم يكن نبياً مرسلا ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته ، وفطنته وعقله.

فهل لعاقل فَطِن ، محنَّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

ان الذكيّ اللبيب الّذي يجد انصاره يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم

ص: 489


1- تاريخ الطبري ج 2 ، ص 85 و 76.

وتقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرقُ صفوفُ أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب ان يسيء الجميعُ ظنَهم به ، ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟!

هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن رجلا ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه ، في سبيل دينه الحنيف ، وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة اُخرى من دعاة الشرك ، ومروّجي الوثنية؟؟!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول اللّه ونبيّه العظيم.

رأي العقل في هذه القصة :

1 - إن العقل يحكم بان المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وارشادها ، وتزكيتها وتعليمها مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة ( العصمة ) الّتي اُوتوها ، إذ لو تعرض مثل هؤلاء إلى الخطأ والزلل في اُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم.

يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه القصص ، وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته.

إنّ من المسلَّم أن عصمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

2 - ان هذه الاسطورة تقوم أساساً على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه ، وقد شقَّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه ، فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب ، يكون طريقاً - حسب تصوره - إلى إصلاح وضعهم!!

ولكن العقل يقضي بأن على الانبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك ، فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً ، مهما اشتدّت الظروف ، وتأزّمت

ص: 490

الأحوال.

بينما لو صحّت هذه الرواية - الاسطورة - لكانت دليلا على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه زمام الثبات والاستقامة وانه بالتالي تعب وملّ ، وضني وكلّ ، وهو أمرٌ لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليمُ في حق الأنبياء ، كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن مستقبله أبداً.

إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة ، إذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم ، بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل إذ قال : « لا يَاتِيه الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَديْه ولا مِنْ خَلفِه » (1).

كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّء إذ قال سبحانه : « إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَاِنّا لَهُ لَحافِظُونَ » (2).

ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلا ، ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!!

إنه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري مختلِقُ هذه الاسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى : « وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحى » (3).

فكيف يترك اللّه نبيّه - وقد وعده بهذا الوعد - من دون حفيظ ، ويسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه وعقله ولسانه؟؟

إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من يكون مؤمناً بنبوة محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ورسالته.

ص: 491


1- فصّلت : 42.
2- الحجر : 9.
3- النجم : 3 و 4.

واما المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته ، ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل ، فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.

تكذيب القِصَّة من طريق آخر

إنّ النصّ التاريخيّ يقول : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرأ هذه السورة ، وكبار قريش واكثرهم من عمالقة الكلام ، وأبطال الفصاحة والبلاغة العربية حضور في المسجد ومنهم « الوليد بن المغيرة » ، متكلم العرب ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة ، وقد سمعوا جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.

فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟

كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم ، وقد تضمنت الآيات السابقة عليهما ، واللاحقة لهما على شتم آلهتم وتفنيدها ، والازدراء بها بصورة صارخة وصريحة؟!

كيف تصور مختلق هذه الاكذوبة الفاضحة ، تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة والبلاغة بلا منازع ، والذين كانوا أعرف من غيرهم باشارات تلك اللغة ، وكناياتها ( فضلا عن تصريحاتها ).

كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم ، وغفلوا عما سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟

إنه لا يمكن قط أن نخدع العادّيين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم فكيف بمن عُرف باللب ، والحصافة ، والحكمة والذكاء؟

وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام ونترك أصفاراً ( وفراغاً ) في مكان

ص: 492

الجملتين اللتين اُدّعي اضافتهما ، ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات ( الّتي وردت في ذمّ الاصنام والقدح فيها ) : وإليك هذه الآيات : « أفَرَأَيْتُمُ الّلاتَ والعُزّى وَمَناةَ الثالِثةَ الاُخرى ... (1) أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُنْثى تِلْكَ إذاً قِسْمَةً ضِيْزى. إنْ هِيَ إلاّ أسماء سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وَآباؤُكم ما أنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطان » (2).

ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة اعوام ، وهدر إستقلاله وكيانه ، وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه ، وشتم آلهته ، لعبارات متناقضة وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر.

دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الاسطورة

اشارة

يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد عبده : لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة أبداً لا في اللغة ولا في الشعر العربي (3).

و « غرنوق » و « غَرنيق » اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل ، ولا يَنطبق أىُ واحد من هذه المعاني على الآلهة.

وقد اعتبر احدُ المستشرقين يدعى « السيروليم مويير » قصة « الغرانيق » هذه من مسلَّمات التاريخ واستدل لها بقوله : لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكة.

إن المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذويهم.

فاذن لابدَّ أَنَّ « محمَّداً » قد تذرَّع بشيء لمصالحة قريش ، والتقرّب اليها ،

ص: 493


1- مكان الجملتين المزعومتين : تلك الغرانيق ... إلى آخرها.
2- النجم : 19 - 23.
3- نقله عنه القاسمي في تفسيره : ج 12 ، ص 55 - 56.

وهذا الشيء هو قصة الغرانيق »!! (1).

ولكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم :

أولاً : لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً.

إن النفعيين وذوي الأهواء والأغراض يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مارب خاصّة لهم ، فما الّذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى « مكة ». وقد صدق بعض اُولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن ، بينما لم ينخدع الآخرون بها وبقوا في الحبشة ولم يعودوا إلى مكة؟؟

ثانياً : لنفترض أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يريد أن يصالح قريشاً ، فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في افتعال هاتين الجملتين.

ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم ، واجتذاب قلوبهم نحوه؟

وعلى كلّ حال فان عودة المهاجرين لا يكونُ دليلا على صحّة هذه الاُسطورة كما أن المصالحة ، والتقارب غير متوقفين على النُطق بهاتين الجملتين.

والأعجب من هذا أن البعضَ تصوَّر الآيات ( 52 - 54 من سورة الحج ) قد نزلت في قصة الغرانيق.

وحيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ ، فاننا نعمدُهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات ، ونبين للقارئ بأنها تنظر إلى امر آخر ، ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً.

وها هو نصُّ الآيات المشار إليها : « وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ * إلا إذا تَمنّى ألْقى الشَيْطانُ في اُمْنِيَّتِه فَيَنْسَخُ اللّه ما يُلقي الشَيطانُ ثمَ يُحْكِمُ اللّه آياتِه ، واللّه عَليمٌ حَكيمٌ

ص: 494


1- راجع حياة محمَّد : ص 165 و 166.

ليَجْعَلَ ما يُلْقي الشَّيطانُ فِتْنَةً لِلَّذيْن فِي قُلُوبِهمْ مَرَضُ وَالْقاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإن الْظالِميْنَ لَفِي شِقاق بَعيْد وَلِيَعْلَمَ الَّذينَ اُوْتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمنُوا بهِ فَتخبتَّ لَه قُلوبُهُم وَأَنَّ اللّه لَهاد الَّذين آمنوا إلى صِراط مُسْتَقِيم ».

والآن يجب أن نبين مفاد الآيات ولنبدأ بالآية الاُولى :

انّ الآية الاُولى تذكِّرُ بثلاثة اُمور هي :

1 - انَّ الأنبياء والرسل يتمنون.

2 - انَّ الشيطانَ يتدخّل في تمنياتهم.

3 - انّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.

وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد الآية والمراد منها.

واليك توضيح تلكم النقاط الثلاث :

1 - ما هو المقصود من تمني الانبياء والرُسل

لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون هداية اُممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، وكانوا يدبّرون اُموراً ويخطّطون خططاً لتحقيق أهدافهم هذه ، كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب والمصاعب ، ويثبتون في جميع المشكلات والمحن.

ولم يكن رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم مستثنى عن هذه القاعدة ، فقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطط لتحقيق أهدافه كثيراً ، ويهيّئ مقدمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله : « وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُول وَلا نبيّ إلاّ إذا تَمَنّى ».

فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية.

2 - ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟

إن تدخُّل الشيطان يمكن أن يتم على نحوين :

1 - أن يوجد الشك والترديد في عزم الانبياء ، ويوحي إليهم بأنَّ هناك

ص: 495

عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم ، ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف.

2 - بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر وهيَّاوا له مقدّماته ، وَظهرت منهم أمارات تدلُ على أنهم مقدِمون على تنفيذه فعلا أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الانس العراقيل والموانع في طريقهم ، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.

أما الاحتمالُ الأول فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاُخرى ولا مع الآية اللاحقة.

أمّا مِن جهة الآيات الاُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا سلطان للشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ( ولو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم ، وأهدافهم ) إذ يقول : « إن عِبادي لَيْسَ لك عَلَيْهِمْ سُلطانٌ » (1). ويقول أيضاً : « إنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذيْنَ امَنُوا وَعَلى رَبّهم يَتَوكَّلُونَ » (2).

إن هذه الآيات ، والآيات الاُخرى الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ، وتأثيره في قلوبهم ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليل على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم ، وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في نظرهم.

أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فانَ الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي :

إننا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس : الفريق الأول : الَّذين في قلوبهم مرض ، والفريق الثاني : الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر.

يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل ومعارضتهم للانبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه يزيد من ثباتهم وصمودهم.

ص: 496


1- الحجر : 42 ، الاسراء : 65.
2- النحل : 99.

وان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات الانبياء ، مثل هذين الاثرين المختلفين ( أي يحمل فريقا على المخالفة وفريقا آخر على الثبات والصمود ) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني ، يعني ان التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم ، وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم ، وخلق الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون ارادتهم وعزمهم.

إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في تمنيات الانبياء والرسل.

والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخل.

3 - ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟

إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس وتأليبهم ضد الانبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدم في أهدافهم ، فان محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه - حينئذ - يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتضح الحقُ للمؤمنين ، ويكون إختباراً لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية اُخرى.

« إنّا لَنَنْصُر رُسُلَنا وَالَّذيْنَ آمَنُوا فِي الحَياة الدّنْيا » (1).

وخلاصة القول : أن القرآن يخبر - في هذه الآيات - عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي :

إن تَمنّي التقدم في الأهداف وتمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الانبياء دائماً.

ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ ، وذلك بايجاد الموانع والعقبات في طريق الأنبياء والرسل.

ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الالهي الغيبيّ بمحو وفسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الانبياء المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم.

وهذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة الّتي جرت في جميع الاُمم السالفة.

ص: 497


1- غافر : 51.

إن تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى عليهما السلام ، وتاريخ حياة الرّسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم خير شاهد على هذا المطلب.

وينبغي إستكمالا لهذا البحث أن نقول : ولأجل ما ورد على هذه القصة الاُسطوية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحققين من أهل السنة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي ادرجها الطبري في تاريخه وأرسله ارسال المسلّمات :

وأهل الاُصول يدفعون هذا الحديث بالحجة.

ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالا :

منها : ان الشيطان قال ذلك وأذاعه والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به.

( وذكر وجوهاً اُخرى ثم قال : ) والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته (1).

ص: 498


1- راجع هوامش السيرة النبويَّة : ج 1 ، ص 364.

20

الحصار الاقتصادي والاجتماعي

اشارة

إن أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقليات في أي مجتمع ، والقضاء عليها هو ما يسمى بالمكافحة السلبية الّتي تقوم أساساً على اتحاد الأكثرية واتفاقها على مقاطعة الأقليّة المتمرّدة.

إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة مختلفة ، لأنه يتطلب مثلا ان يحمل جماعة من المقاتلين السلاح ، وتتوجه نحو الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس والأموال ، وازالة العشرات من الموانع والسواتر ، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة المحنّكون إلاّ بعد توفّر كل مستلزمات المواجهة واتخاذ جميع التدابير اللازمة ، والاستعداد الكامل ، وبالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعو الضرورة اليها ، وتنحصرُ الحيلة في القتال.

ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على مثل هذه الاُمور ، بل تحتاج إلى أمر واحد وهو اتفاق الاكثرية.

يعني أن يتفق من يعنيهم الأمرُ ولهم عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن يقطعوا كلَ صلاتهم وعلاقاتهم بالأقليّة المعارضة ، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم ويوقفوا الاتصال العائليّ بهم ، ولا يشركونهم في اعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا معهم في اُمورهم الشخصيّة أيضاً.

ص: 499

في مثل هذه الحالة تضيق الأَرض على الأقلية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها كسجن ضيق وصغير ، ويصيرون عُرضة للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.

إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما تستسلم - في هذه الحالة - وتؤوب من منتصف الطريق ، وتطيع إرادة الأكثرية.

ولكن أقلية كهذه لابد أن تكون ممَّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا يكون لانفصالها عن الاكثرية طابعٌ اُصوليٌ مبدأيّ ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية مثلا على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك.

فان مثل هذه الاقلية إذا أحسّت بخطر جدّي ، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع عن مخالفتها وتعود إلى طاعة الاكثرية مؤثرة اللّذة العابرة المؤقَّتة على اللذة الإحتمالية ، لأنها لم تنطلق من دوافع ايمانية اصيلة ، ولم يكن المحرك لها محركاً روحياً معنوياً.

ولكن الجماعة الّتي يقوم خلافُها للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس ، لن تنصاع أبداً لمثل هذه الضغوط ، ولن تنثني أمام هذه الرياح والعواصف ، ولا يزيدها ضغطُ الحصار الاّ صلابة وقوة ، وإصراراً وعناداً ، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر والإستقامة.

إن صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأن أقوى العوامل لثبات كل أقليّة وصمودها في وجه الأكثرية هو : قوةُ الايمان ، وعاملُ الإعتقاد ، الّذي ربما يؤدّي رسالة الثبات والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.

ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة من التاريخ الغابر والحاضر.

قريشٌ تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً

لقد شقَّ على قريش انتشار الإسلام المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة ولهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه المشكلة.

ص: 500

فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة ، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام ، وحرية العمل والتحرك الّتي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة ، كل ذلك زاد من حيرة ، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة ، الّتي زادها حيرة ، وانزعاجاً ، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين ، وعدم حصولها على أية نتائج تذكر!!

من هنا فكرت في خطة جديدة ، وهي ان تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية للمسلمين ، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه ، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية ، وأنصاره.

ولهذا اجتمع زعماء قريش في « دار الندوة » ووقّعوا ميثاقاً كتبه « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف الكعبة ، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت.

ونصَ هذا العقد على الاُمور التالية :

1 - أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا يبيعوهم شيئاً.

2 - ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.

3 - أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.

4 - ان يكونوا يداً واحدة على « محمَّد » وانصاره.

وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُ الشخصيات البارزة في قريش إلاّ « مطعم بن عدي » وأعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة وإصرار.

فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب عليه السلام بذلك جمع بني هاشم وبني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والحفاظ على حياته وسلامته ، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية ، والسقائف البسيطة جداً ، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك.

وعمد إلى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي

ص: 501

هجوم مباغت تقومُ به قريش (1).

وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة ، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر ، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الاّ انها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تناصف اثنان تمرة واحدة ، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الاّ في الاشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كل انحاء الجزيرة العربية.

فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه ، والدعوة إلى ما أتى به.

وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم ، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

وكان « أبو لهب » أكثر الناس اصراراً على هذا العمل ، فقد كان ينادي في الأسواق : يا معشر التجار ، غالوا على أصحاب محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتّى يرجع الرجل المسلم إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما

ص: 502


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 350 ، وتاريخ الطبري : ج 2 ، ص 78 ، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها : ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّدا *** نبياً كموسى خُطَّ في أول الكُتب

اشتروا من الطعام واللباس!! (1).

وكان « الوليد بن المغيرة » ينادي : أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى الأسواق فيشترونها فيغلونها عليهم.

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب

لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن « سعد بن أبي وقاص » يقول : لقد جعت حتّى أني وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته ، وما أدري ما هو إلى الآن (2).

هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء إلاّ سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » ( ابن اخ خديجة ) و « أبو العاص بن الربيع » و « هشام بن عمرو » كانوا يسرّبون إلى « بني هاشم » في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام ، فكان الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم.

وربما صادفهم بعض جواسيس قريش ، فهمُّوا بقتله ، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » خرج يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد ( زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكانت معه في الشعب طيلة أعوام الحصار ) إذ لقيه « أبو جهل » فقال له : تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت ولا طعامَك حتّى أفضحَك عند قريش بمكة.

ص: 503


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 337 الهوامش.

فقال له أبو البختريّ - وكانَ من أعداء الإسلام هو أيضاً - : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟

فأبى « ابو جهل » أن يدعَه إلا أن يأخذه إلى قريش ، فقام إليه « ابوالبختري » بساق بعير فضربه ووطأه وطئاً شديداً » (1).

وخلاصة القول ؛ أن قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن تبعه حتّى أن من كان يدخل « مكة » من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان « أبو جهل » ، و « العاص بن وائل » و « النضر بن الحارث بن كلدة » ، و « عقبة بن أبي معيط » يخرجون إلى الطرقات الّتي تدخل « مكة » فمن رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذرون إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله.

كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم ، وأبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء.

ولكن لم يستطع كلُ ذلك أن يفتَّ في عضد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويقلل من إصراره وثباته على الطريق ، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.

وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر ، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة ، وذلك الميثاق المشؤوم ، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال.

فمشى « هشام بن عمرو » إلى « زهير بن أبي اُمية » ( وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته ) وقال له وهو يحثه على نقض الصحيفة : يا زهير أقد رضيت أن تأكلّ الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟

ص: 504


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 354 ، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل ، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى ، بل كان بدافع الربح الاكثر لما ثبت - حسب قوله - من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول الّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم ( أي أبي جهل ) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً؟

فقال زهير : ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحدٌ واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى أنقضَها. قال : قد وجدتَ رجلا.

قال فمن هو؟ قال : أنا.

قال له زهير : أبغنا رجلا ثالثاً. فذهب إلى « المطعم بن عدي » فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف ، وأنت شاهدٌ على ذلك ، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟

قال : ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا رجلٌ واحدٌ.

قال : قد وجدتَ ثانياً.

قال : من هو؟ قال : أنا.

قال : أبغِنا ثالثاً.

قال : قد فعلتُ.

قال : مَن هوَ؟

قال : زهير بن أبي اُمية.

قال : ابغِنا رابعاً.

فذهب إلى « البَختري بن هشام » فقال له نحواً مما قال للمطعم بن عدي ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟

قال : نعم.

قال : من هُوَ؟

قال : « زهير بن أبي اُمية » و « المطعم بن عديّ » وأنا معك.

فقال : ابغنا خامساً.

فذهب إلى « زمعة بن الأسود بن المطلب » فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟

ص: 505

قال : نعم ... ثم سمّى له القوم الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة.

فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة.

فلمّا أصبحوا غَدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل « زهير بن أبي اُميّة » على الناس وقال :

يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبسُ الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد : كذبتَ واللّه لا تُشقّ.

فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلا : أنت واللّه أكذبُ ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت.

وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً موقف زميله : صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، وممّا كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

فأحسّ أبو جهل بأنَّ ذلك كان أمراً مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال :

هذا أمرٌ قُضِيَ بليل ، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.

وكان أبو طالب - حسب بعض الروايات التاريخية - جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد ( الإرضة ) (1) قد أكلتها ، إلاّ « باسمك اللَّهمَ » الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها.

فلما رأى « أبو طالب » ذلك رجع إلى الشعب وأخبر رسول اللّه ( صلى اللّه عليه

ص: 506


1- وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة : ارض.

وآله ) بما جرى ، وعاد المحاصَرون في الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع « أبي طالب ».

ويروي طائفةٌ من المؤرخين أنّ « خديجة » و « أبا طالب » أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

وفجأة نزل ملك الوحي « جبرئيل » على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الشعب ، وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست ( أو اكلت ) جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة « باسمك اللّهمّ » فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط « الإرضة » على صحيفة قريش فلم تَدع فيها إسماً هوللّه إلاّ أثبتتهُ فيها ، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال أبو طالب : إذن لا يدخلُ عليك أحَدٌ (1).

ثم قامَ ولبسَ ثيابَه ، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما دَنا أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه ، وتباشروا وظنّوا أن الحصَر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه ، فقالوا له : قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم ( أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك ).

فقال أبو طالب : واللّه ما جئت لهذا ، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه ، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرَّحم.

وإن كان باطلا دفعتُه إليكم فان شئتم قتلتمُوهُ ، وإن شئتم استحييتموه.

فقالوا : رضينا ، وتعاقدوا على ذلك.

ص: 507


1- وإنّما اتخذ مثلَ هذا الاجراء حتّى لا يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة ، وعليها أربعون خاتماً.

فلما أتَوابها نَظر كلُ رجل منهم إلى خاتمه ، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلاّ « باسمك اللّهمَّ » ، كما اخبرهم بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى الى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلاّ بعد أن نقضها هشام.

وقد قال « أبو طالب » في مدح هذا ( أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها ) قصيدة مطوَّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بَحريُّنا (1) صنعُ ربّنا *** على نأيهم واللّه بالناس أرودُ (2)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقَت *** وان كلُّ ما لم يَرضه اللّه مُفسدُ (3)

هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية.

على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً ، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب اُخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالأبتر.

فقد كان « العاصُ بن وائل السهمي » إذا ذكر رسول اللّه قال : دعوهُ ، فانَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له ، لومات لا نقطع ذكره واسترحتم منه.

ص: 508


1- يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
2- أي أرفقُ.
3- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 377 - 380 وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها ، فراجع.

فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر الّتي يقول فيها : « بسم اللّه الرحمن الرَّحيم إنّا أعْطَيْناكَ الكوثَر فَصَلِّ لِربِّك وَانْحَرْ * إنَّ شانئكَ هُوَ الأَبْتر ».

وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنه سيهبُه ذريّة كثيرة (1).

ولقد كتبَ العلاّمة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة (2) : المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأبه.

ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال : ان محمَّداً ابتر فان مات مات ذكره ، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول : ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة ، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً.

ص: 509


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 393 وجميع التفاسير.
2- مفاتيح الغيب : الجزء الثلاثون ، سورة الكوثر.

ص: 510

21

وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى

اشارة

في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن « القطيف » يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً مقداماً له يكن له من ذنب إلاّ أنه الّف كتاباً باسم « أبو طالب مؤمن قريش » يتناول إسلام « أبي طالب » وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة (1).

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز - وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ - بأن يتراجع عن كلامه ، وحيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين ، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.

وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة وخُفِضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد ، الّذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اُخرى إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!.

وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير ، المجهول إذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن

ص: 511


1- والكتاب يقع في 340 صفحة طبع بحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً وقدّم عليه الأديبُ اللبناني المعروف « بولس سلامة » صاحب ملحمة الغدير وملاحم اُخرى.

عقوبته ، بل والافراج عنه نهائياً.

وإما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زوراً وقهراً على أرض الحجاز (1) (2).

لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من « شِعب أبي طالب » بعد ثلاث سنوات من النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.

وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين إلى ما كان عليه قبل الحصار ، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً ، وإذا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم.

ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيء بالنظر إلى تلك الظروف الحساسة ، وذلك لأن نمو أية عقيدة وفكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين : أحدهما : حرية التعبير ، والآخر : القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا ترحم.

ولقد كان المسلمون - آنذاك - يتمتعون بحرية البيان والتعبير ، ولكنهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ الجوهري والمصيري الثاني يعني : حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة

ص: 512


1- 1 - لقد سمّيت أراضي « الحجاز » و « نجد » و « تهامة » باسم عائلة واحدة هي آل سعود ، واخيراً حملت هذه المنطقة الّتي كانت تُعرف وحتّى إلى ما يقرب من قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية ، ياله من استئثار وجرأة على المقدسات!!
2- واخيراً نجا هذا الشاب المؤمن والمجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة ومفكّريهم المتضافرة والواسعة النطاق واُخلي سبيله وقد زار - للاعراب عن شكره - مدينة قم المقدّسة وقد التقينا به أيضاً كما زار اماكن أُخرى لنفس الغرض.

وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه ، ووقايته.

* * *

أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه ، والمحافظة على حياته بصدق واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الخمسين من عمره.

لقد فَقَد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلا :

اُوصِيكَ يا عَبدَ مناف بعدي *** بموحد بَعدَ أبيهِ فَردِ

 فأجابه أبو طالب قائلا : يا أبَه لا توصِيَّنِ بمحمّد فانه إبني وابن أخي (1).

ولعلّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تذكر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرة وقال في نفسه :

1 - إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب ، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده « علي بن أبي طالب » حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه ، وكمنوا له ، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده « علي » ويقيني به حتّى إذا قال له « عليٌ » ليلة :

« يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ».

فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور :

ص: 513


1- عمدة الطالب : ص 6 وفيه : بواحد ، المناقب : ج 1 ، ص 21.

إصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصبِرُ أحجى *** كُلُّ حَىٍّ مَصِيرُه لِشُعُوبِ

قَد بَلَوناك وَالبَلاءُ شَديدٌ *** لِفِداءِ النَجِيبِ وَابنِ النَجيبِ

فأجابه « عليّ » بكلام اكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً :

أَتَامُرُني بالصَّبرِ في نَصر أحمَدٍ؟ *** وَوَاللّهِ ما قُلتُ الّذي قُلتُ جازعاً

وَلكِنَّني أَحبَبتُ أن تَرَ نُصرَتي *** وَتعلَمَ أَنّي لَم أَزَل لَكَ طائِعاً (1)

2 - إن هذا الجثمان الّذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه ، وعرَّض نفسَه وأهلَه للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي ، وأمر بأن يحرسونني ليلَ نهار ، تاركاً زعامته وسيادته ، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إلى قريش رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني مادام حيّاً إذ قال :

فَلا تَحسبُونا خاذِلين مُحمَّداً *** لذي غُربة مِنّا وَلا مُتَقرّب

سَتَمنعُه مِنّا يَدٌ هاشِميّةٌ *** وَمَركَبُها في الناسِ أخشن مركب (2)

بعد أن تحقق موت « ابي طالب » ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته ، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ ، والقريبُ والبعيد ، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به ، وقرّحها الحزنُ عليه.

وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل « ابي طالب » الّذي كان زعيم قريش ، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة ، والبساطة؟

كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا.

نماذج من مشاعر أبي طالب

ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها

ص: 514


1- مناقب ابن شهر آشوب : ج 1 ، ص 64 ، الحجّة : ص 70 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 1 - 19.
2- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 4.

الأشخاصُ وعواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال ، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفىءُ شعلةُ الحبّ ، ويتضاءل لهيبُ العاطفةُ في كيانهم حتّى تزول بالمرَّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم ثبات هذه الدوافع.

ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.

وقد كانت مودة « أبي طالب » لمحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين.

فقد كان « أبو طالب » يؤمن بمحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ ، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني ، ومن جانب آخر كان « محمّد » ابن أخيه ، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.

لقد كانت لصفات « محمّد » وخصاله المعنوية والأخلاقية ، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه « أبي طالب » إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به اي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث ، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.

فقد نقل كثيرٌ من المؤرخين الحادثة التالية :

قحط الناسُ في « مكة » وحواليها سنةً من السنين ، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب ، فمشت قريش بعيون باكية إلى « أبي طالب » تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم ، وان يذهب إلى المصلى ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج « أبو طالب » وقد أخذ بيد غلام كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال : يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً ، دائماً هاطلا.

ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى « أبو طالب » برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن ما ان فرغ « أبو طالب » من دعائه

ص: 515

إلاّ وأقبلت السحاب في الحال ، وغطّت سماء « مكة » وما حولها من المناطق القريبة اليها ، وارعدت السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية ، وروّت القريب والبعيد ، وَسُرّ به الجميع ورضوا (1).

وقد اشار « أبو طالب » في لاميّته المعروفة إلى هذه الحادثة.

وقد أنشأ « أبو طالب » تلك القصيدة في أحلك الظروف واشدّها ، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ليسلِّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إليها.

وقد ذكَّر فيها « أبو طالب » قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل الإسلام وكيف أنها اُمطِرَت ببركته ، بعد قحط طويل ، وجدب مهلِك ، كاد يبيد الحرث والضرع ، وذلك عندما يقول :

وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم *** فهم عندَهُ في نعمة وفواضل

وقد نقل « ابن هشام » في سيرته (2) أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة ، فيما أورد « ابن كثير » الشامي في تاريخه (3) إثنين وتسعين بيتاً فقط.

وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة ، وفي غاية القوة والجمال ، وتفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع الّتي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها ، ويُعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر والنظم.

وقد أورد « ابو هفان العبدي » الجامع لديوان « أبي طالب » مائة وواحد وعشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان ، ويمكن أن تكون كلُ تلك القصيدة وتمامها.

ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بصورة صريحة.

ص: 516


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 2 و 3 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 111 - 116 ، الملل والنحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء والملل : ج 3 ، ص 225.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 272 - 280.
3- البداية والنهاية : ج 3 ، ص 52 - 57.

كَذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً *** ولما نطاعِن دونه ونناضل (1)

ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ دونَه *** ونَذهَل عن أبنائنا والحلائِل

لَعمري لقد كلّفتُ وجداً بأَحمدٍ *** وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها *** وزَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل (2)

فَمنَ مثلُه في الناس أيُ مؤمَّل *** إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش *** يُوالي إلاها ليس عنه بِغافِلِ

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِل

فأصبَحَ فينا احمدٌ في اُرومة *** تقصّر عنه سَورة المنظاول (3)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته *** ودافعتُ عنه بالذُّرا والكلاكل (4)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره *** وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل (5)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض اكثر من إثني عشر ربيعاً من عُمُر « محمّد » بعد ، عندما أراد « أبو طالب » التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل ، أخذ « محمّد » فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه وكافله « أبو طالب » بينما اغرورقت عيناه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالدموع وقال :

« يا عمّ إلى مَن تكلني ، لا أب لي ولا اُم »؟.

هذا المشهد المؤثر وبخاصة عند ما رأى « أبو طالب » عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع ، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون ، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه « محمّداً » معه في هذا الرحلة ، ومع أنه لم يحسب لهذا الامر - من قبل -

ص: 517


1- اي نُغلَبَ عليه.
2- المشاكل : العظيمات من الامور.
3- السورة : الشدة والبطش.
4- الذرا : جمع ذروة وهي اعلى ظهر البعير.
5- راجع السيرة النبوية : ج 1 ، ص 272 - 280.

أي حساب فان « أبا طالب » قبل بان يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا ، فحمله معه على ناقته ، وبقي يفكر في أمره ، ويدبّر شأنه ، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة ، وشهد منه اثناء الطريق كرامات وخوارق ، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب ، ومطلع هذه القصيدة هو :

إنَّ ابن آمنة النبيّ محمّداً *** عندي يفوقُ منازلَ الأولاد (1)

* * *

الدِفاعُ عن حوزة العقيدة والايمان

ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات والمقاومة ، والصمود والاستقامة ، مثل قوة الايمان ، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة ، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الالام والمتاعب ، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة ، حتّى ولو كلفه ذلك التعرض للموت.

إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ الإيمان منتصرٌ لا محاله.

إن الجنديّ الّذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر.

إن على الجندي - قبل أن يسلِّحَ نفسَه بسلاح العصر - أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف ، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة ، وحبِّها ، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها ، وكيانها.

إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من روحنا ، وفي الحقيقة انَّ فكر الإنسان وليد عقله ، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه ، بل إن حبّ الإنسان لعقيدته اكثر من حبّه

ص: 518


1- ديوان أبي طالب : ص 33 - 35 ، تاريخ ابن عساكر : ج 1 ، ص 269 - 272 ، الروض الآنف : ج 1 ، ص 120.

لأولاده الجسمانيّين ، ولهذا فهو يدافع عن عقائده حتّى الموت ، ويغضي - في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها - عن كل شيء بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.

إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ محدود ، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي ، ولكنّه مستعد لأن يمضي - في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة - إلى حدّ الموت ، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة ، ويَرى الحياة الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين ، وهو يردد :

« إنما الحياة عقيدة وجهاد ».(1)

ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا ( ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة ) فماذا كان دافعه إلى هذا الامر ، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟ واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافة العدم ، والغض عن النفس والنفيس ، والمقام ، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل « محمّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم.

إن من المتيقَّن أن دافعه إلى ذلك لم يكن المحرك الماديّ ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه ، وحمايته ، والحدب عليه ، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة ، لأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن له يومئذ مالٌ ، ولا ثروة.

وكما أن مقصود « أبي طالب » لم يكن أيضاً تحصيل مقام ، وأحراز مكانة اجتماعية لأنه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب واهمها ، فقد كانت له رئاسه « مكة » والبطحاء ، بل هو فقد منصبه وشخصيته الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن « محمّد » ، وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه اليهم ، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه ، وخروجهم عن طاعته ، ودفعهم إلى التمادي

ص: 519


1- المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب « الأنا » فيها في التوحيد والايمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه : قِف عند رأيك واجتهد *** إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهاد

في معاداة « بني هاشم » و « أبي طالب » والثورة عليهم!!

تصَوّرٌ باطلٌ

ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب « أبي طالب » على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي : علاقة القربى ، ووشيجة الرَحِم ، أو بتعبير آخر : إِن التعصب القبليّ ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.

ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير ، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحي بنفسه في احد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة ، بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه ، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً إرباً دون ابن أخيه.

إن العصبيات القبائلية والعائلية وان كانت تدفع بالانسان حتّى إلى حافة الموت ، ولكن لا معنى لان تختص ، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحد ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة ، في حين نجد « أبا طالب » قد قام بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد ، وفرد معين ( أي النبيّ ) ، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء « عبد المطلب » و « هاشم » وأحفادهما ومن ينتمي إليهم بوشيجة القربى ورابطة الرحم.

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب ، أو التعصب القومي ، والعائلي ، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعتبر « محمّداً » مظهراً كاملا للفضيلة والإنسانية ويعتبر دينه أفضل برنامج

ص: 520

للسعادة ، وحيث أنه كان يحبُّ الحقيقة ، ويعشق الكمالَ والحقّ ، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق والحقيقة ، وينصرهما بكل وجوده ، وبكل قواه.

وهذا المعنى هو المستفاد من قصائد « أبي طالب » وأشعاره ، فهو يصرح بأن « محمّداً » رسولٌ كموسى وعيسى إذ يقول :

لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أَنَّ مُحمَّداً *** نبيّاً كَمُوسى وَالمَسيحِ بنِ مَريَمِ

أَتانا بِهَدي مِثلَ ما أتيا بهِ *** فَكُلٌّ بِأمرِ اللّهِ يَهدي وَيَعصِمِ (1)

ويقول في قصيدة اُخرى :

ألَم تَعلَمُوا أَنَّا وَجَدنا محمّداً *** نَبِيّاً كَمُوسى خطّ في أوّل الكُتب (2)

هذا وتعتبر ابياته الّتي سبق أن أشرنا اليها والمئات من أمثالها مما جاء ذكره في ديوان أبي طالب ، وفي ثنايا التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أن محرك « أبي طالب » الواقعي ودافعه الحقيقي إلى الدفاع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان هو اعتقاده الخالص ، واسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الايمن والعقيدة.

ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة ، ونترك لك أيها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك : هل تنبع مثل هذه التضحية ، ومثل هذا التفاني ، والفداء إلاّ من الايمان والاعتقاد؟؟

* * *

لمحات من تضحيات أبي طالب

إجتمع أسياد قريش واشرافها في بيت أبي طالب والنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم حاضر ، وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله

ص: 521


1- مجمع البيان : ج 7 ، ص 37 ، الحجّة : ص 56 - 57 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ، ص 623 و 624.
2- مجمع البيان : ج 7 ، ص 36 ، وقد نقل ابن هشام في السيرة النبوية : ج 1 ، ص 352 و 353 خمسة عشر بيتاً من هذه القصيدة.

ودينه وما خلق من مشكلات في مكة ، وحاول القرشيون اثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون جدوى فلما يئسوا من الحصول على النتيجة الّتي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت « أبي طالب » قال « عقبة ابن أبي معيط » غاضباً مهدداً : لا نعود إليه أبداً ، وما خير من أن نغتال محمّداً!!

فغضب « أبو طالب » من هذه الكلمة ، ولكنه ماذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه ، وفي بيته. واتفق أن خرج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من البيت في ذلك اليوم ولم يعد ، وجاء « أبو طالب » وعمومته إلى منزله فلم يجدوه ، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ، ثم قال - وهو يظن ان قريشاً كادت برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كل فتى منكم ، فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فانه لم يغب عن شر ان كان محمّداً قد قتِل ، فقال الفتيان : نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال : يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال : نعم كنت معه آنفاً.

فقال أبو طالب : لا ادخل بيتي أبداً حتّى أراه.

فخرج زيد سريعاً حتّى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر ، فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى أبي طالب فقال : يا ابن أخي : اين كنت؟ اكنتَ في خير؟ قال : نعم ، قال : ادخل بيتك ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاخذ بيده فوقف على اندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال : يا معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟

قالوا : لا ، فاخبرهم الخبر ، وقال للفتيان اكشفوا عما في ايديكم ، فكشفوا ، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال : واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وانتم ، فانكسر القوم وكان اشدَّهم انكساراً أبو جهل (1).

ص: 522


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 168 ، الطرائف : ص 85.

لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات وغيرها من تاريخ « أبي طالب » ، ودرستَ حياته لرأيت كيف ان « أبا طالب » ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيامها ولياليها يحدب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويدافع عنه ، ويحاميه ، وبخاصة في السنوات العشر الاخيرة من حياته الّتي صادفت بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودعوته ، فقد أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والحرص على حياته ، وحماية هدفه اكثر مما يُتصور.

ولقد كان العامل الوحيد الّذي دفعه إلى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل هو : عمق الايمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته.

ولو أننا ضممنا إلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز « عليّ » لأدركنا مغزى البيتين الذين انشدهما « ابن ابي الحديد » المعتزلي الشافعي إذ قال :

ولو لا أبو طالب وابنُه *** لما مَثُلَ الدِّينُ شخصاً وقاما

فذاك بمكّة آوى وَحامى *** وَهذا بِيَثربَ جَسَّ الحماما (1)

قضيّةٌ ذات بواعث سياسيّة :

ليس من ريب في أنه لو ثبت عُشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على اسلام « أبي طالب » وإيمانه بالرسالة المحمّدية ، لغيره ممّن هو بعيدٌ عن قضايا السياسة ، وخارج عن دائرة الحقد والبغض لا تفق الجميع سنةً وشيعةً على إسلامه وايمانه ، ولكن كيف ذهب فريقٌ إلى تكفير « أبي طالب » مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتّى أنّ فريقاً من الكتاب ذهب إلى أن بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه.

ص: 523


1- شرح نهج البلاغة : ج 14 ص 84 يقول ابن أبي الحديد : صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في اسلام أبي طالب ، وبعثه اليّ ، وسألني ان اكتب عليه بخطي نظماً أو نثراً اشهد فيه بصحة ذلك ، وبوثاقة الأدلة عليه ( إلى ان قال ) فكتبت على ظاهر المجلد هذه الابيات.

بينما توقّف في هذا الأمر ، وذهب أفراد معدودون من علماء السنة إلى الحكم باسلامه وايمانه ، ومنهم « زيني دحلان » مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.

ولكن الانصاف هو ان يقال : أن الهدف من طرح هذه المسألة والتوقف في ايمان « أبي طالب » أو تكفيره لم يكن إلاّ الطعن في أبنائه ، وبخاصة أمير المؤمنين الامام عليّ عليه السلام.

ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة - لتبرير تكفير أبي طالب - هذه المسألة إلى غير ابي طالب ووسع دائرة التكفير هذه حتّى شملت آباء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضاً حيث ذهب إلى أن أبوي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ماتا كافرين أيضاً.

ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مخالفٌ لاجماع الامامية والزيدية ، وكذا جماعة من علماء السنة ، ومحقّقيهم ، إنما الكلام هو حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الوحيد والمدافع عنه بلا منازع.

الأدِلّة على إيمان أبي طالب

إن التعرّف على عقيدة أحد ، ومعرفة نمط تفكيره ، يمكن عن ثلاث طرق هي :

1 - دراسة ما ترك من آثار علميّة وأدبية.

2 - اُسلوب عمله ، وتصرفاته في المجتمع.

3 - رأي أقربائه ، وأصدقائه غير المغرضين فيه.

ونحن نستطيع أن نتعرَّف على إيمان « أبي طالب » وعقيدته من خلال هذه الطرق.

فان أشعار « أبي طالب » تدل بجلاء لالُبس فيه على ايمانه وإخلاصه ، وكذا تكونُ خدماته القيمة في السنوات العشر الاخيرة من عمره شاهداً قوياً على إيمانه العميق.

ص: 524

كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متفق على أنَّ « أبا طالب » كان مسلماً مؤمناً ولم يقل أحدٌ من أقربائه ، في حقه بغير هذا أبداً.

وإليك إثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل :

آثار أبي طالب العلميّة والأدبية

نحن نختار هنا من بين قصائد « أبي طالب » المطوَّلة ، بعض الأبيات الّتي تثبت ايمانه برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، واعتقاده بالاسلام ، في غير ابهام.

1 - لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أنَّ مُحمَّداً *** نَبيّ كَمُوسى وَالمَسيحِ بنِ مَريَمِ

أتانا بَهَدي مِثلَ ما أَتيابه *** فَكُلُّ بِأمرِ اللّه يَهدِي وَيَعصِمِ (1)

2 - تمنيتمو أن تَقتُلُوهُ وإنّما *** أمانيُّكُم هذي كَأحلامِ نائِم

نَبيٌّ أتاهُ الوحىُ من عِندِ رَبّهِ *** وَمَن قالَ لا يَقرَع بِها سنَّ نادِم (2)

3 - ألَم تَعلَمُوا أنّا وَجَدنا محمّداً *** رَسُولاً كَمُوسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُب

وَ أنَّ عَلَيهِ في العِبادِ محبةً *** وَلا حيفَ في من خصَّهُ اللّه بالحُبّ (3)

4 - وَاللّهِ لَن يَصِلّوا إلَيكَ بِجَمعِهم *** حَتّى اُوسَّدَ في التّراب دَفينا

فَاصدَع بِأمرِك ما عَلَيْكَ غَضاضةٌ *** وَابشِر بِذاكَ وَقرَّ مِنكَ عُيُونا

وَدَعوتَني وعلمتُ أنّكَ ناصِحٌ *** وَلَقَد دَعَوت وَكُنت ثمَّ أمِينا

وَلَقَد عَلِمتُ بأن دِينَ مُحمّد *** مِن خَير أديان البَريّة دينا (4)

5 - أوتُؤمنوا بكتاب منزل عَجَب *** عَلى نَبيّ كمُوسى أوكذِي النون (5)

6 - لَقَد عَلِمُوا أنَّ ابنَنا لا مُكذَّبٌ *** لَدَينا وَلا يَعني بِقولِ الأباطِل

فايّده رَبُّ العِبادِ بِنَصرِهِ *** وَاظهَرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطل (6)

ص: 525


1- مجمع البيان : ج 7 ، ص 37 ، الحجة : ص 57 ، مستدرك الحاكم : ج 2 ، ص 623.
2- ديوان أبي طالب : ص 32 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 353.
3- ديوان أبي طالب : ص 32 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 353.
4- تاريخ ابن كثير : ج 3 ، ص 42.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 74 ، ديوان أبي طالب : ص 173.
6- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 272 - 280.

إِن كلّ واحدة من هذه المقطوعات الشعريّة الّتي تشكل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة لأبي طالب ، تشهد بايمانه بدين ابن اخيه « محمّد » صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وخلاصة القول : أنَّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كاف في اثبات ايمان صاحبها وقائلها ، ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات السياسية ، وبعيد عن دوائر التعصبات والأغراض لحكم الجميعُ - بالاتفاق - باسلام قائله وايمانه الخالص العميق.

ولكن لما كان « أبو طالب » هو قائلها ، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل « أبي طالب » من هنا أبى فريقٌ من الناس أن يُثبتوا مِثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر فانّ أبا طالب والد « علي » الّذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على الدوام ، وتستغل كل الوسائل للحط من شأنه ، كان إسلام أبيه وإيمانه بالرسالة المحمدية يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أن كفر آباء الخلفاء وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحط من شأنهم ، وقيمتهم.

وعلى كل حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال ، والمواقف الصادقة ، بل لم يكتفوا بذلك ، فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره ، وشركه!!!

الطريق الثاني لا ثبات إيمان أبي طالب

إنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل على إيمان « أبي طالب » هو مواقفه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكيفية دفاعه وذبه عنه وحمايته له ، وحدبه عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.

ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها ان تكون المرآة الصادقة

ص: 526

التي تعكس فكر « أبي طالب » وعقيدته وما كان يحمله بين جوانحه من إيمان بالرسالة والرسول ، واخلاص للّه تعالى.

لقد كان « أبو طالب » هو ذلكم الشخصية الّتي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه لتركه في مكة ، واصطحبه معه إلى الشام في الرحلة التجارية الّتي سبق ذكرها ، رغم الموانع الكثيرة ، وفقدان الوسائل اللازمة ، ورغم ما تَرتب على اصطحابه معه من متاعب.

إن ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنه أخذه إلى المصلّى واستسقى به ، مقسماً به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه ، ويرسل رحمته عليهم ، فيستجيب اللّه دعاءه ، وينزل عليهم غيثاً وافراً ممرعاً ، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.

إنه ذلك الرجل الّذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لحظة واحدة ، فهو الّذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الصعب ، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على زعامة قريش ، ورئاسة مكة إلى ان أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحته ، وانحرف بذلك مزاجه ، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب ، والمشاق والمحن بعد نقض الصحيفة ، وانتهاء الحصار ، والعودة إلى المنازل بأيام معدودة!!

لقد كان إيمان « أبي طالب » برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قوياً وراسخاً إلى درجة أنه رضى بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى « محمّد » ولا يمسُّه من أعدائه أي سوء ، فكان يُضجِع ولده علياً في موضعه ، حتّى إذا أرادوا إغتياله لا يصيبه شيء وهذا يعني أنه كان يقيه بنفسه وبأولاده.

وفوق هذا كلّه استعدَّ في يوم من الايام لأن يقتل كل زعماء قريش وأسيادها انتقاماً لمحمّد ، وكان من الطبيعي أن يقتل في هذا العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً (1).

ص: 527


1- راجع الصفحة 522 من هذا الكتاب.

وصية أبي طالب عند وفاته

وعند وفاته قال لأولاده :

« اُوصيكم بمحمّد خيراً فانّه الأمينُ في قُريش وهو الجامعُ لكلّ ما اُوصيكم به ، وقد جاءَ بأمر قبله الجَنان ، وانكره اللِسان مخافة الشنئان ، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ إلى صعاليك العرب ، وأهل البرّ في الاطراف ، والمستضعفين من الناس ، قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت ، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ، ودُورُها خراباً ، وضُعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ... ».

ثم ختم وصيته هذه بقوله :

يا معشر قريش كونوا له ولاةً ، ولحزبه حماةً ، واللّه لا يسلك أحدٌ منكم سبيله الارشد ، ولا يأخذ أحد بهديه الاّ سعد (1).

نحن لا نشك في أن « أبا طالب » كان صادقاً في اُمنيّته هذه لأن خدماته الكبرى وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله ، كما كان صادقاً في الوعد الّذي قطعه على نفسه لابن أخيه ( محمّد ) في مبدأ البعثة عندما جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم إلى الإسلام فقال له ابو طالب :

« اُخرج يا ابن أخي فانّكَ الرفيعُ كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً.

واللّهِ لا يَسلِقُك لسانٌ الاسلَقتهُ ألسن حِداد ، واجتذَبته سيوفُ حداد.

واللّهِ لَتَذلَنَّ لَكَ العربُ ذلَّ البُهم لحاضِنها » (2).

* * *

ص: 528


1- السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 351 و 352.
2- الطرائف تأليف السيد ابن طاووس : ص 85 ، نقلا عن كتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول تأليف ابراهيم بن علي الدينوري.

آخر الطُرق لا ثبات ايمان أبي طالب

ويحسن بنا أخيراً ان نسأل عن أبي طالب وعن ايمانه واخلاصه ، اقاربَه غير المغرضين لأن « أهل البيت ادرى بما في البيت ».

1 - لما مات أبو طالب جاء عليٌ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فآذنه بموته ، فتوجع توجعاً عظيماً ، وحزن حزناً شديداً ، ثم قال له امض فتولّ غسله فاذا رفعته على سريره فاعلمني ، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال : قال : « وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً ».

ثم تبعه إلى حضرته ، فوقف عليه فقال :

« أما واللّه لاستغفرنَّ لك ، ولا شفعنَّ فيك شفاعةً يعجبُ لها الثقلان » (1).

2 - روي ان علي بن الحسين عليهما السلام سئل عن ايمان أبي طالب. فقال :

« واعجباً! ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت اسد من السابقات إلى الإسلام ، ولم تَزَل تحتَ أبي طالب حتّى مات » (2).

3 - روي عن علي بن محمّد الباقر عليهما السلام أنه قال :

« لو وُضِعَ إيمان أبي طالِب في كفّة ميزان ، وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الاُخرى لرجح إيمانه ».

ثم قال :

« ألم تَعلَموا أنَّ أميرَالمؤمنين عليّاً عليه السلام كانَ يأمر أن يُحجَّ عن عَبدِاللّه وَأبيه » (3).

4 - قال الامام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام :

ص: 529


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 76.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ، ص 69.
3- المصدر السابق : ص 68.

« إنَّ مَثَل أبي طالِب مَثَلُ أصحاب الكَهف أسَرُّوا الإيمان ، وأَظهَروا الشركَ فآتاهُمُ اللّهُ اَجرَهم مرّتين ، وأن أبا طالِب أسرّ الإيمان ، وأظهر الشرك ، فآتاه اللّه أجرَه مَرّتين » (1).

رأي علماء الشيعة في أبي طالب

ولقد اتّفقَ علماءُ الاماميّة والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم على : أن « أبا طالب » كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يخرج من الدنيا إلاّ بقلب يفيض إيماناً بالاسلام ، وإخلاصاً للّه تعالى ، وحبّاً للمسلمين ، وقد اُلِّفَت في هذا المجال كتب ورسائل ، ودراسات عديدة ، يمكن الوقوف عليها لمن اراد ، ولمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ، ص 402 - 404 من موسوعة الغدير للعلامة الأميني طبعة النجف ، أو ج 7 ، ص 330 - 409 طبعة لبنان.

نظرة إلى حديث « الضحضاح »

اشارة

واستكمالا لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد روى بعض الكتّاب مثل البخاري (2) ، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري ، عبدالملك بن عمير ، عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال عن أبي طالب رحمه اللّه :

« وجدتُه في غمرات من النّارِ فأخرجتُه إلى ضحضاح ».

« لعلّهُ تنفعُه شفاعَتي يومَ القيامة فيجعَلُ في ضَحضاح منَ النّار يبلغُ كعبَيه ، يغلي منهُ دماغُهُ » (3).

إنّ هذه الرواية وان كانت تكذبها عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية ،

ص: 530


1- اصول الكافي : ج 1 ، ص 448.
2- صحيح البخاري : ج 1 ، ص 33 و 34 من أبواب المناقب.
3- صحيح مسلم : كتاب الايمان.

والدلائل القاطعة الساطعة ، وتثبت بطلانها وتفاهتها ، ولكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح نعمد إلى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث.

1 - ضعف أسناد هذه الرواية
اشارة

إنّ رواة هذه الرواية - كما أسلفنا - هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبدالملك بن عمير وعبدالعزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً - في ضوء أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند أهل السنة - عنهم :

الف : سفيان بن سعيد الثوري

قال أبوعبد اللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - وهو من علماء الرجال عند اهل السنة - في سفيان الثوري : كان يدلّس عن الضعفاء (1).

إن هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري ، وعلى روايته عن الضعفاء أو المجهولين ، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.

باء : عبدالملك بن عمير

قال عنه الذهبيّ المذكور : طال عُمره وساء حفظُه قال أبو حاتم : ليس بحافظ ، تغيّر حفظه ، وقال أحمد : ضعيف يغلط ، وقال ابن معين : مخلط وقال ابن خراش : كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن احمد بن حنبل : انه ضعيف جداً (2)

فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان عبدالملك كان يتصف بصفات عديدة هي أنه :

1 - سيء الحفظ.

2 - ضَعيف.

3 - كثير الغلط.

ص: 531


1- ميزان الاعتدال : ج 2 ، ص 169.
2- المصدر السابق ، ج 2 ، ص 660.

4 - مخلط.

ومن الواضح ان كل واحدة من الصفات والحالات المذكورة كافية لأن تبطلَ الاحاديث الّتي يرويها عبدالملك بن عمير ، والحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.

جيم : عبدالعزيز بن محمد الدراوردي

ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند اهل السنة بالنسيان ، وقلة الحفظ فلا يمكن الاستناد إلى مروياته.

فقد قال أحمد بن حنبل عنه : إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل (1).

وقال أبو حاتم عنه : لا يُحتَجُّ به (2).

وقال أبو زرعة أيضاً : سئ الحفظ (3). ومن مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف ، إلى درجة لا يمكن الاعتماد على مروياتهم.

2 - نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة
اشارة

لقد نُسِب إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم إلى ضحضاح وبهذا خفَّفَ عنه العذاب ، أو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم تمنى أن يشفع له ، فيخفِّفَ اللّهُ عنه العذابَ ، على حين نفى القرآنُ الكريم والسنة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما ونفيا شفاعة احد في حقهم.

وعلى هذا الاساس فلو كان ابو طالب كافراً ، لم يجز للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يخفف عنه العذاب أو يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء.

وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.

واليك فيما يأتي ادلة ما قلناه من الكتاب والسنة :

ص: 532


1- المصدر السابق ، ص 634.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
الف : القرآن الكريم

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : « وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّم لا يُقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عنْهُمْ مِن عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُور » (1).

ب : السنة النبوية

ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً الشفاعة للكفار ، ونذكر من باب النموذج بعض تلك الأحاديث :

1 - روى أبوذر الغفاري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال :

« اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي من لا يشرك باللّه شيئاً » (2).

2 - روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال :

« وشفاعتي لمن شهد أن لا اله الا اللّه مخلصاً ، وأنَّ محمّداً رسول اللّه يصدِّق لسانُه قلبَه ، وقلبُه لسانَه » (3).

إن الآيات والروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول بأن أبا طالب مات كافراً.

ونتيجة البحث أنه تبين مما ذكر ان حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند والطريق ، ولا من جهة المتن والنص ، ولا يمكن الاستدلال به.

وبهذا ينهار أقوى حصن يتمسكُ به البعض للخدشة في ايمان أبي طالب الثابت المسلّم.

ص: 533


1- فاطر : 36.
2- الترغيب والترهيب : ج 4 ، ص 433.
3- المصدر السابق : ص 437.

ص: 534

22

المعراج

المعراج في نظر القرآن والسنة والتاريخ

كان الليل يخيم على الافق ، ويسودُ الظلام على كل مكان.

فقد حان الأوانُ لان ترقدَ جميع الاحياء في مساكنها ، وتستريح في جحورها وأعشاشها ، وتغمض الأجفان لبعض الساعات عن مظاهر الطبيعة ، لتستعيد نشاطها من أجل العمل في يوم جديد حافل بالنشاط والحركة والسعي.

فذلك قانون الطبيعة في كلِّ ليل ونهار.

ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بمستثنى عن هذا الناموس الطبيعي.

فهو صلى اللّه عليه وآله وسلم مضى ليستريح بعد أن صلّى صلاة العتمة أيضاً.

ولكنه فجأةً سمع صوتاً مألوفاً مأنوساً له ، وكان ذلك هو صوت أمين الوحي « جبرئيل » وهو يخبره بأن أمامه الليلة سفراً بعيداً ورحلة طويلة ، وانه سيرافقه في هذا الرحلة إلى مختلف نقاط الكون ، وسيسافر على متن دابة فضائية تدعى « البراق ».

لقد بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رحلته الفضائية العظيمة من بيت اخت علي بن أبي طالب (1) « اُم هاني » ، وتوجه على متن تلك الدابة إلى « بيت

ص: 535


1- مجمع البيان : ج 6 ، ص 395 و 396 ، السيرة النبويّة : ج 1 ، ص 396 - 402.

المقدس » في الأردن وفلسطين والّذي يسمى « المسجد الأقصى » أيضاً ، وهبط في تلك النقطة بعد مدة قصيرة جداً ، وزار مواضع عديدة من ذلك المسجد ، وتفقّد « بيت لحم » مسقط رأس « السيد المسيح » ومنازل الأنبياء وآثارهم ومحاريبهم ، وصلّى عند كل محراب من بعض تلك المحاريب ركعتين.

ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من رحلته ، حيث عرج من ذلك إلى السماوات العلى ، وشاهد النجوم والكواكب ، واطّلع على نظام العالم العلوي ، وتحدث مع ارواح الأنبياء ، والملائكة السماويين ، واطّلع على مراكز الرحمة والعذاب ( الجنة والنار ) (1) ورأى درجات أهل الجنة ، وأشباح أهل النار عن كثب ، وبالتالي تعرف على أسرار الوجود ، ورموز الطبيعة ، ووقف على سعة الكون ، وآثار القدرة الالهيّة المطلقة ، ثم واصل رحلته حتّى بلغ إلى سدرة المنتهى (2) ، فوجَدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم وعندها انتهى برنامج رحلته صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فامر بأن يعود من حيث أتى فعاد ، بعد صلى اللّه عليه وآله وسلم ومرّ في عودته على بيت المقدس ثانية ، ثم توجّه منه إلى « مكة » ، ومرّ خلال الطريق على قافلة تجارية لقريش وقد ضلّ بعير لهم في البيداء وكانوا يبحثون عنه ، ثم وجد في رحلهم قعباً مملوء من الماء فشرب منه وصبَّ بقيته على الأرض أو غطاه كما كان بناء على رواية. وترجّل عن مركبته الفضائية العجيبة في بيت « اُم هاني » قبيل طلوع الفجر ، وأخبرها بالخبر قبل اي أحد ، ثم كشف عن هذا الحادث في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة.

فاستبعد السامعون قصة المعراج والحركة السريعة هذه ، واعتبروه أمراً محالا وانكروه ، وفشا هذا الخبر في جميع الأوساط وغضب بسببه أشراف قريش وساداتهم اكثر من غيرهم.

وكعادتها بادرت قريش إلى تكذيب هذه القصّة وقالوا : هذا واللّه الامر البيّن

ص: 536


1- مجمع البيان : سورة الاسراء ، ج 6 ، ص 395.
2- لتوضيح معنى سدرة المنتهى راجع كتب التفسير.

( العجيب المنكر ) واللّه إن العير لتطّرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهراً مقبلة ، أفيذهب ذلك « محمّدٌ » في ليلة واحدة؟

وقالوا : إن صدقَتَ فصف لنا بيتَ المقدس ، فإن فينا من شاهدهُ.

فلم يصف لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيت المقدس فحسب بل اخبرهم بكل ما مرّ به وفعله ورآه في طريق عودته من بيت المقدس إلى « مكّة » وقال : وآية ذلك أنّي مررت على بعير بني فلان بوادي كذا وكذا ، وقد ضلّ لهم بعير وقد همّوا في طلبه ، وشربت من ماء في آنية لهم مغطاة بغطاء وثم غطّيت عليها كما كان ، ثم مررتُ على بعير فلان وقد نفّرت لهم ناقة وانكسرت يدها.

فقالت قريش : أخبرنا عن عير قريش.

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنَّها الآن في التنعيم ( وهو مبدأ الحرم ) يتقدمها جمل أورق ( أبيض مائل إلى السواد ) عليه غرارتان وستدخل الآن مكة.

فغضب قريش من هذه الأخبار القاطعة وقالت : سنعلمنَّ الآن صِدقه أو كِذبه.

ثم لم تمض لحظاتٌ إلاّ وطلعت العير عليهم ، وحدَّثهم أبو سفيان بكل ما أخبرهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من ضياع بعير لهم في الطريق وهمّهم في طلبه ، وأنهم وضعوا ماء مملوء فغطوه ولما رجعوا وجدوه مغطى كما غطوه ولكن لم يجدوا فيه ماءً.

هذه هي خلاصة ما جاء في كتب التفسير ، والتاريخ ، والحديث حول المعراج.

وإذا أراد القارئ الكريم أن يقف على تفاصيل أكثر في هذا المجال فما عليه إلاّ أن يراجع بحار الأنوار باب « المعراج » (1).

هل للمعراج جذور قرآنية؟

لقد جاءَ ذكر « المعراج » النبوي وسيره العجيب صلى اللّه عليه وآله وسلم في

ص: 537


1- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 283 - 410.

العالم العلوي ، والفضاء غير المتناهي في سورتين من القرآن الكريم بشكل واضح وصريح كما واشير اليها في سور اُخرى أيضاً.

ونحن نكتفي هنا باستعراض الآيات الّتي ذكرت هذه القضيّة بصورة واضحة ، ونقف عند بعض النقاط الجديدة بالدراسة فيها :

يقول اللّه تعالى في سورة الأسراء : « سُبحانَ الّذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرام إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَه مِن آياتِنا ، إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير » (1).

ويستفاد من ظاهر هذه الآية اُمور :

1 - لكي نعلم بأنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يطو تلك المسافات ، ولم يقم برحلته إلى تلك العوالم بقوّة بشرية ، بل تسنى له كلُ ذلك بقوة غيبيّة ، فبها استطاع أن يطوي تلك المسافات البعيدة في زمن قصير جداً بدأ اللّه تعالى حديثه عن الاسراء بقوله : « سُبْحانَ الّذي » وهو اشارة إلى تنزيه اللّه عن كلِّ نقص وعيب.

ولم يكتف بذلك بل وصف نفسَه بوضوح بأنه هو تعالى سبب هذه الرحلة والمسيّرُ فيها إذ قال : « أسرى » أي إنَّ اللّه تعالى هو الّذي سرى برسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأخذه إلى تلك الرحلة.

وهذه العناية لأجل أن لا يتصور الناس بأنّ هذه الرحلة تحققت بالوسائل العادية ، وحسب القوانين الطبيعية ليتسنّى لهم إنكارها ، إِنما تحققت بقدرة اللّه وعنايته الربوبية الخاصة.

2 - إن هذه الرحلة تحققت برمّتها خلال الليل ، ويستفاد هذا المطلب - علاوة على كلمة ليلا - من كلمة « أسرى » أيضاً لأنّ العرب كانت تستعمل اللفظة المذكورة في السير ليلا.

3 - مع أنّ هذه الرحلة بدأت من بيت « اُم هاني » ابنة أبي طالب ، فإن الآية صرّحت بأنها تَمَّت من المسجد الحرام ، ولعل هذا لأنّ العرب كانت تعتبر

ص: 538


1- الاسراء : 1.

كل مكة حرماً إلهياً ، ومن هنا كان كل مكان من مكة يتمتع عندهم بحكم الحرم والمسجد الحرام ، فيكون المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، ومكّة والحرم كلها مسجد ، فصحَّ أن يقول : « من المسجد الحرام ».

وتَذهب بعض الروايات إلى أنَّ المعراج كان من نَفس المسجد الحرام.

ثم إنَّ هذه الآية وان كانت تصرّح بأنَّ المعراج بدأ من « المسجد الحرام » وانتهى ب : « المجسد الأقصى » إلاّ أن ذلك لا ينافي أن يكون للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم رحلة اُخرى إلى العالم العُلوي لأنّ هذه الاّية تبيّن فقط قسماً من هذه الرحلة ، وأما القسم الآخر من برنامج هذه الرحلة فتتعرض لذكره آيات في مطلع سورة « النجم ».

4 - إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عرج بجسمه وروحه معاً ، لا بالروح فقط.

ويدلُّ على ذلك قوله تعالى « بعبده » الّذي يُستَعمل في « الجسم والروح معاً » ولو كان المعراج بالروح فقط لزم أن يقول : « بروحه ».

5 - إنَّ الغرض من هذا السير العظيم وهذه الرحلة العجيبة هو إيقاف النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم على مراتب الوجود ، وإطلاعه على الكون العظيم ، وهذا ما سنشرحه فيما بعد.

وأما السورة الاُخرى الّتي تعرض لبيان حادثة المعراج بوضوح وصراحة هي سورة « النجم ».

والآيات الّتي سندرجها هنا من هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عندما قال لقريش : « رأيت جبرئيلَ أوّل ما اُوحي التي على صورته الي خُلِقَ عليها » جادلته قريش في ذلك ، فنزلتِ الآيات التالية تجيب على اعتراضهم : « أفَتُمارُوْنَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إذْ يَغْشى السِدْرَة ما يَغْشى. ما زاغَ البَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آيات رَبّه الكُبرى » (1).

ص: 539


1- النجم : 12 - 18.

أحاديث المعراج :

روى المفسرون والمحدّثون أخباراً وروايات كثيرة حول معراج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وما شاهده في هذه الرحلة العظيمة ، ليست برمتها صحيحة مُسَلَّمة مقطوعاً بها.

ولقد قسّم المفسر الشيعيُ الكبير المرحومُ « العلامة الطبرسيّ » هذه الاخبار إلى أصناف أربعة إذ قال :

وتنقسم جملتها إلى أربعة اوجه :

أحدها : ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به ، واحاطة العلم بصحته مثل أصل المعراج.

وثانيها : ما ورد في ذلك مما تجوِّزه العقول ولا تأباه الاصول مثل طوافه في السماء ورؤيته أرواح الأنبياء وتحدّثه معهم ورؤيته للجنة والنار ، فنحن نجوّزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته ، دون منامه.

وثالثها : ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول ، إلاّ أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى أن نؤوّله على ما يطابق الحق والدليل. مثل أنّه راى أهل الجنة وأهل النار وتحدّث معهما الّذي يجب أن يؤوّل فيُحمل على انه : رأى أشباحهم وصورَهُم وَصفاتهم.

ورابعها : ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله ، وهي ما اُلصِق واُلحق بهذه الحادثة من الأساطير والخرافات ، مثل ما روي من أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلّم اللّه سبحانه جهرةً ورآه وقعد معه على سريره أو سمع صرير قلمه ، ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه والتجسيم واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك كلّه ، فالأولى أن لا نقبله (1).

* * *

ص: 540


1- مجمع البيان : ج 6 ، ص 395.

متى وَقَعت هذه الحادثة؟

مع ان أهميّة هذه الحادثة العجيبة كانت تستوجب أن تكون مضبوطة التفاصيل من جميع الجهات ، إلاّ أنها تعرضت للاختلاف - مع ذلك - من بعض الجهات ومنها تحديد تاريخ وقوعها.

فقد ادّعى كاتبا السيرة المعروفان : « إبن اسحاق » و « ابن هشام » أنها وقعت في السنة العاشرة من البعثة الشريفة.

وذهب المؤرخ الكبير « البيهقي » إلى أنها وقعت في السنة الثانية عشرة من البعثة.

وذهب آخرُون إلى أنها وقعت في أوائل البعثة ، بينما قال فريق رابع : أنها وقعت في أواسطها.

وربما يقال في الجمع بين هذه الأقوال : أنه كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم معارج متعددة.

ولكنّنا نعتقد أنّ المعراج الّذي فُرِضَت فيه الصلاة وَقع بعد وفاة أبي طالب عليه السلام في السنة العاشرة قطعاً.

لأنّ من مسلَّمات الحديث والتاريخ أن اللّه تعالى أمر نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ليلة المعراج أن تصلّي اُمّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلَّ يوم وليلة خمس صلوات.

كما أنه يُستفاد من ثنايا التاريخ أيضاً أن الصلاة لم تُفرَض مادام أبو طالب عليه السلام على قيد الحياة بل فُرِضت بعد وفاته ، لأنّه حضر عنده - ساعة وفاته - سراة قُريش وأسيادها ، وطلبوا منه أن يبت لهم في أمر ابن أخيه « محمّد » ويمنعه من فعله ، فيعطونه - في قبال ذلك - ما يريد فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في ذلك المجلس : نعم كلمة واحدة تعطونيها : « تقولون لا إله إلاّ اللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه » (1).

ص: 541


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 417.

لقد طلب منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الأمر ولم يطلب منهم شيئاً آخر كالصلاة وغيرها من الفُروع أبداً ، وهذا هو بنفسه يدلّ على أنه لم تجب الصلاة حتّى ذلك اليوم ، وإلاّ كان الإيمان المجرّد عن العمل ، والصلاة مفروضة ، لا فائدة فيه.

وأما أنه لم يذكر شيئاً عن نبُوّته ورسالته فلأنّ الإعتراف بوحدانية اللّه بأمره وطلبه صلى اللّه عليه وآله وسلم إعتراف ضِمنيّ برسالته ونبوّته ، وفي الحقيقة انَّ التلفُّظ بهذه العبارات بأمره يتضمّن شهادتين واقرارين : الإقرار باللّهِ الواحد ، والإقرار بنبوّة رسول الإسلام.

هذا مضافاً إلى أن كُتّاب السيرة ذكروا كيفية إسلام جماعة مثل « الطفيل بن عمرو الدوسي » الّذي أسلم قبل الهجرة (1) بأعوام اكتفى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بالشهادتين ، ولم يجر اي حديث عن الصلاة ابداً.

ان هذه الامثلة تكشف عن أن هذه الحادثة ( المعراج ) الّتي فُرضت فيها الصلاة وقعت قبل الهجرة بسنوات.

والذين تصوّروا أن المعراج وقع قبل السنة العاشرة مخطئون خطأ كبيراً لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ السنة الثامنة وحتّى السنة العاشرة ، ولم يكن وضع المسلمين ليسمح بفرض تكليف زائد ( مثل الصلاة ).

وأما سنوات ما قبل الحصار فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين والّتي كانت هي بنفسها مانعاً من فرض الصلاة على المسلمين ، كان المسلمون قلةً معدودين ، ولم يكن نورُ الايمان ، واُصول الإسلام قد ترسخت في قلوب ذلك العدد القليل بشكل قوي بعد ، ولذلك يكون من المستبعد أن يكلفوا بأمر زائد مثل الصلاة في مثل ذلك الظرف.

وأمّا ما ورد في بعض الأخبار والروايات من ان الامام علياً عليه السلام

ص: 542


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 383.

صلى مع رسول اللّه قبل البعثة بثلاث سنوات ، واستمر على ذلك بعدها أيضاً فليس المراد منها الصلوات المحدودة المؤقتة بوقت ، المشروطة بشروط خاصة ، بل كانت تلك الصلوات عبارة من عبادة خاصة غير محدودة (1) ، أو كان المراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة.

هل كان المعراج جسمانياً؟

لقد وقع النقاش والكلام في كيفية معراج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنه كان روحانياً أو جسمانياً وروحانياً معاً ، وقيل في ذلك كلام كثير.

ومع أن القرآن الكريم والأحاديث تشهد بجلاء لا غموض فيه بأن معراجه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان جسمانياً (2) ، فقد اُوردت في المقام بعض الإشكالات والاعتراضات الّتي منعت البعض عن قبول هذه الحقيقة ، وبالتالي دفعتهم إلى ارتكاب التأويل ، والزعم بأن معراج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان روحانياً ، أي بالروح لا بالجسم.

لقد قال هؤلاء : ان روح النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم هي الّتي طافت في تلك العوالم ثم عادت إلى جسد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مرة اُخرى!!

وذهب جماعة إلى أبعد من ذلك إذ ادّعوا بان جميع هذه المشاهدات والقضايا تمّت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في عالم الرؤيا ، فكل ما رآه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو فعله من الطواف واللقاء والصلاة كانت رؤيا ورؤيا الأنبياء صادقة!!

على أن أقوال الفريق الأخير من البعد عن الواقع بحيث لا يمكن ذكره في عداد الأقوال والنظريات أبداً ، لأنَّ قريش بعد أن سمعت من رسول اللّه صلّى

ص: 543


1- للمزيد من التحقيق في تاريخ وجوب الوضوء والصلاة والاذان يراجع الكافي : ج 3 ، ص 482 - 489.
2- لقد نقل الفقيه الجليل العلامة الشيعيّ المرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج فراجع : ج 6 ، ص 395.

اللّه عليه وآله ادعاءه بانه سار كل تلك المسافة الطويلة البعيدة ، وطاف على كل تلك الاماكن المتباعدة العديدة في ليلة واحدة انزعجت بشدة وهبّت لتكذيبه حقيقة ، إلى درجة أن خبر المعراج أصبح حديث الساعة في نوادي قريش واوساطها آنذاك.

ولو كان كل ذلك تحقق للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام والرؤيا لما كان لتكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها معنى ، إذ لا موجب للنزاع لو كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : إنّي فعلت تلك الامور ، ورأيت تلك المشاهد في الرؤيا والمنام ، إذ هو على كل حال رؤيا ، وكل شيء - حتّى الاُمور المحالة أو المستبعدة جداً - ممكن في عالم الرؤيا.

ومن هنا لا قيمة للقول الأخير أصلا فلا تستحق المتابعة أصلا.

ولكن مع الأسف استحسن بعض العلماء المصريين ( مثل فريد وجدي ) هذا الرأي وسعى في تقويته وتبريره ، ونحن نحبذ ان نتركه ، وان لا نناقش فيه (1).

ما هو المراد من المعراج الروحاني؟

لقد عمد فريق ممن عجز عن دفع وحلّ بعض الاعتراضات والاشكالات الواردة على المعراج الجسماني ، إلى تأويل الآيات والأحاديث ، واعتبر المعراج النبوي معراجاً روحانياً ، لا غير.

والمقصود من المعراج الروحانيّ هو التدبّر في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ، ومشاهدة جلاله وجماله والاستغراق في ذكر الحق ، والتفكر فيه ، وبالتالي التخلص من القيود والاغلال المادية ، والعلائق الدنيوية ، والعبور من المراتب الامكانية في المراحل الباطنية والقلبية الّتي يحصل بعد طيّها نوعٌ من القرب الخاص الّذي لا يمكن وصفه.

فاذا كان المراد من ( المعراج الروحانيّ ) هو التفكر في عظمة الحق وسعة

ص: 544


1- دائرة معارف القرن العشرين : ج 6 ، ص 329 مادة عرج.

الخلق و .. و .. فلا شك أن هذا ليس من مختصات رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم بل كان أكثر الأنبياء ، وكثير من الاولياء من ذوي البصائر القويّة الطاهرة يمتلكون هذه المرتبة ، على حين أن القرآن الكريم يعتبر ( المعراج ) من خصائص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويذكره على انه نوع من الامتياز الخاص به صلى اللّه عليه وآله وسلم.

هذا مضافا إلى ان مثل هذه الحالة ( اعني التفكر في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إلى الحق ) كانت تتكرر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في كل ليلة (1) ، والحال ان ( المعراج ) الّذي هو محط الكلام قد وقع في ليلة معيَّنة.

إن ما دفع بهذا الفريق إلى اتخاذ مثل هذا الموقف من ( المعراج ) ، وآل بهم اختيار هذا الرأي هو فرضية الفلكي اليوناني المعروف « بطلميوس » الّتي كانت سائدة في الأوساط العلمية في الشرق والغرب طيلة ألفي سنة بالكامل ، والّتي اُلّف حولها مئآت الكتب ، وكانت تعدُّ حتّى حين من المسلّمات في مجال العلوم الطبيعية وهي على نحو الاجمال كالتالي:

إن الاجسام في هذا العالم على نوعين : أجسام عنصرية ، واجسام فلكية.

والجسم العنصري هي العناصر الأربعة المعروفة : « الماء ، والتراب ، والهواء ، والنار ».

وأوّل كرة تبدو لنا هي كرة التراب وهي مركزُ العالم ، ثم تليها كرة الماء ثم كرة الهواء ، وتأتي بعد كل هذه الثلاثة كرة النار ، وكلٌ من هذه الكرات محيطة بالاُخرى ، وهنا ( اي وعند كرة النار ) تنتهي الكرات ، وتبدأ الاجسام الفلكية.

والمقصود من الأجسام الفلكيّة هيَ الافلاكُ التسعة الّتي تقع الواحدة فوق الاخرى وتحيط الواحدة بالاُخرى على هيئة قشور البصل ، وهي متصلة بعضها ببعض من دون فاصلة بينها وهي غير قابلة للاختراق والالتئام ( اي الشق

ص: 545


1- راجع وسائل الشيعة : ج 7 ، كتاب صوم الوصال ، ص 388 قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إني لست كأحدكم ، أني اظل عند ربّي فيطعمني ويسقيني ».

والالتحام ) والفصل والوصل ولا يستطيع أيّ شيء من اختراقها والتحرك فيها بصورة مستقيمة لأن ذلك يستلزم انفصام اجزاء الفلك.

من هنا يكون المعراج الجسماني مستلزماً لأن ينطلق النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من مركز العالم ويصعد بصورة مستقيمة إلى الأعلى عابراً الكرات العنصرية الأربع ، ومخترقا الأفلاك التسعة الواحد تلو الآخر ، بينما يستحيل خرق هذه الأفلاك ثم التحامها حسب نظرية بطلميوس وفرضيّته الفلكية.

وعلى هذا لا مناص من أن نعتقد بأن المعراج النبويّ كان معراجاً روحانياً ، اي ان روحه صلى اللّه عليه وآله وسلم هي الّتي عرجت حتّى لا يمنع أيُّ جسم من عبورها وسيرها وصعودها إلى النقطة المطلوبة والغاية المرسومة.

الجواب :

ان هذا الكلام كان مقبولا وذا قيمة عند ما كانت هيئة بطلميوس وفرضيته الفلكية لم تكن بعد قد فقدت قيمتها في الاوساط العلمية وكان هناك من يعتقد بها من صميم فؤاده.

ففي مثل تلك البيئة كان من الممكن التلاعب بالحقائق القرآنية ، وتأويل صريح القرآن ونصوص الروايات.

أما الآن فقد فقدت أمثال هذه الفرضيات قيمتها ، وظهر للجميع بطلانها ، ولم يعد أحد يتحدث عنها ، إلاّ من باب ما يسمى بتاريخ العلوم.

فاليوم وبالنظر إلى كل هذه الأجهزة الفلكية والآلات الفضائية الدقيقة ، والتلسكوبات العملاقة ، وهبوط المركبات الفضائية المتعددة على سطح القمر والمريخ ، وعملية القيادة الفضائية على سطح القمر لم يعد مجال لهذه الفرضيات الخيالية.

فاليوم لا يعتبر العلماء المحقّقون فكرة العناصر الأربعة والفلك المتّصل كقشرة البصل إلاّ جزءً من الاساطير.

فان العلماء لم يستطيعوا بالآلات العلمية وأجهزة الرصد الدقيقة والعيون

ص: 546

المسلحة من رؤية ، تلك العوالم الّتي حاكها وصنعها بطلميوس بقوة خياله ، من هنا فان أية نظرية تقوم على هذا الاساس غير الصحيح تكون عارية عن أية قيمة ، واعتبار.

نَغمةٌ شاذةٌ :

ولقد طلع مؤسس الفرقة الشيخية (1) « الشيخ احمد الاحسائي » في « الرسالة القطيفية » بنغمة شاذة في هذا الصعيد حيث أراد بابداء طرحة جديدة أن يرضي كلا الطرفين ( القائلين بروحانية المعراج النبوي والقائلين بجسمانيته ) حيث قال : ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عرج ببدنه البرزخي ( الهور قليائي ) (2) ثم استدل لذلك بقوله :

ان الصاعد كلّما صعد ألقى في كل رتبة من المراتب المذكورة ما فيها ، فمثلا إذا تجاوز كرة الهواء القى ما فيه من الهواء ، وإذا تجاوز كرة النار ألقى ما فيها وإذا رجع أخذ ما له من كرة النار ، وإذا وصل إلى كرة الهواء أخذ ما له من الهواء.

ومن هنا فانَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عندما عرج إلى السماء القى في كل كرة واحداً من تلك العناصر الأربعة في كرته ، وعرج ببدن فاقد لهذه العناصر.

ومثل هذا البدن لا يمكن ان يكون بدناً عنصرياً ، فليس هو الا البدن البرزخي ( الّذي أسماه الهور قليائي ) لا غير (3).

ص: 547


1- لا شك أن هذه الفرقة وامثالها من الفرقة المبتدعة هي من صنائع الاستعمار أو هي مما يؤيده لتنفيذ أغراضه ، ومن حسن الحظ أن انتشار الوعي بين أبناء الامة الإسلامة حدَّ من نشاط هذه الفرق حتى انها أصحبت على أبواب الاندثار والانقراض نهائياً.
2- وهو البدن البرزخي الّذي يشبه البدن الّذي يفعل به الإنسان الافعال المختلفة في عالم النوم والرؤيا ويقوم بكل نوع من انواع النشاط.
3- تقع الرسالة القطيفية ضمن مجموعة تحتوي على 92 رسالة باسم جوامع الكلم الّتي طبعت عام 1273. ومع هذا التصريح يدّعي البعض - للتسترّ على خطأ الشيخ وزلته هذه - بأن الشيخ يعتقد بأن المعراج كان جسمانياً عنصرياً ، وأنه موافق لرأي المشهور في هذا المجال.

وبهذا - حسب تصوّره - أرضى من نفسه كلا الطرفين المذكورين ، لأنه من جانب اعتقد بالمعاد الجسماني ، وفي نفس الوقت تخلّص من اشكال « خرق الافلاك والتحامها » لأن نفوذ الجسم البرزخي لا يستوجب أي خَرق وانفصال في جدار الفلك.

ولكن هذه النظرية - كما هو واضح لكلّ عالِم متحرٍّ للحقيقة ، بعيد عن العصبية - واضحة البطلان كسابقتها ( نظرية المعراج الروحاني ) ، فمضافاً إلى انها مخالفة للقرآن وظاهر الاحاديث ، لأنّه - كما أسلفنا - لو عرضنا آية المعراج ( من سورة الاسراء ) على أيّ عارف باللغة ، مهما كانت وطلبنا منه رأيه في هذا الصدد لقال : ان مراد القائل هو البدن الدنيوي العنصري الّذي عَبّر عنه القرآن بلفظ العبد ، في قوله تعالى : « سبحان الّذي أسرى بعبده » ، وليس الهور قليائي الّذي لم يكن يعرفه المجتمع العربيّ ، ولا يعرف أمثاله في ذلك اليوم أساساً ، في حين أنهم كانوا هم المخاطَبون في آية المعراج في سورة الاسراء لا غيرهم.

هذا مضافاً إلى أنَّ ما دفع بالشَيخ إلى ارتكاب هذا التأويل البارد هو الاسطورة اليونانية المذكورة حول الفلك ، حيث تصوّرها كحقيقة ثابتة من حقائق اللوح المحفوظ ، وقد كذبها وفندها كلُ فلكييّ العالم اليَومَ ، وأعلنوا عن سخافتها.

فلا يجوز لنا أن نقلِّد تلك الفرضية تقليداً أعمى.

وإذا ما رأينا بعضَ القدماء من المشايخ قال بمثل هذا محسناً الظن بتلك الفرضية الفلكية القديمة وأمثالها امكن إعذارهم ، لعدم قيام ادلة علمية قوية على خلافها آنذاك.

اما اليوم فلا ينبغي لنا ان نتجاهل الحقائق القرآنية لفرضية ثبت بطلانها في الأوساط العلمية.

المعراج وقوانين العلم الحديث :

قد يتصور فريقٌ من الناس أن القوانين الطبيعية والعلمية الحاضرة لا تتلاءم

ص: 548

مع معراج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وذلك لأنه :

1 - يقول العلم الحديث : إِنَّ الابتعاد عن الأرض يتطلب التخلّص من جاذبية الأرض ، وبعبارة اُخرى ابطال مفعولها.

فان ( الكرة ) الّتي نقذفها إلى الأعلى تعود مرة ثانية إلى الأرض بفعل الجاذبية ومهما كرّرنا قذف الكرة إلى الأعلى فانها تعود وترجع إلى الأرض أيضاً.

فاذا أردنا أن نبطل مفعول جاذبية الأرض ابطالا كاملا بحيث لا تعود الكرة المقذوفة إلى الأعلى إلى الأرض ثانيةً بل تواصل مسيرها إلى الأعلى فإننا نحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى جعل سرعة الكرة باتجاه معاكس للأرض تعادل 000 / 25 ميلا في الساعة.

وعلى هذا فان معنى المعراج هو ان يكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قد خرج من محيط جاذبية الأرض ، واصبح في حالة انعدام الوزن.

ولكن ينطرح هنا سؤال وهو : كيف استطاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يطوي بدون وسائل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وهل البدن الطبيعي يتحمل مثل هذه السرعة مع عدم توفر الغطاء الواقي والوسائل اللازمة ، الّتي تصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الفائقة.

2 - إنّ الهواء القابل للاستنشاق غير موجود فوق عدد من الكيلومترات بعيداً عن سطح الأرض ، بمعنى اننا كلما ذهبنا صعداً إلى الطبقات العليا وابتعدنا عن الأرض أصبح الهواء أرقّ ، حتّى يغدو غير قابل للاستنشاق ، وربما نصل إذا واصلنا الصعود إلى الأعلى إلى منطقة ينعدم فيها الهواء اللازم للتنفس بالمرة ، فكيف استطاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعد طي تلك المسافة الطويلة والبعيدة في أعالي الجو أن يعيش بدون وجود الاوكسيجين؟!

3 - إِنَّ الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية والشهب الكثيرة المتطايرة إذا اصطدمت بأي جسم أرضي أبادَتهُ ، وأفنته ، ولكنها عندما تصطدم بالغلاف الغازيّ المحيط بالأرض تتلاشى وتصبح كالبودر ولا تصل إلى الأرض ، فيكون

ص: 549

الغلاف الغازي في الحقيقة بمثابة درع يقي سُكّان الأرض من خطر تلك القذائف المهلكة.

ومع هذه الحالة كيف تهيّأ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يصون نفسَه من تلك الاشعة الفضائية ، والاحجار السماوية؟!

4 - إذا قلَّ ضغطُ الهواء على جسم الإنسان فزاد أو نقص اختلت حياته الطبيعية ، فهو يمكنه أن يعيش تحت ضغط معين من الهواء ، لا يوجَد في الطبقات العُليا من الجوّ ، فكيف استطاع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والحال هذه أن يحافظ على حياته في أعالي الفضاء؟!

5 - إنَّ سرعة الحركة الّتي ساربها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لا ريب كانت تفوق سرعة الحركة الّتي يسير بها النور ومع العلم بأنّ سرعة النور هي 000 / 300 كيلومتراً في الثانية ، مع العلم أيضاً أنه ثبت في العلم الحديث أنه لا يستطيع أيُّ جسم أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة النور ، فكيف استطاع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يسير بسرعة تفوق سرعة النور ، ومع ذلك يرجع إلى الأرض سالم الجسم كامله؟؟!

جوابنا :

وجوابنا هو : أننا إذا أردنا أن نناقش هذه المسألة على ضوء القوانين العلميّة الطبيعية لتجاوز عدد الاعتراضات والاشكالات ما ذكرناه آنفاً.

ولكننا نقول في جواب هذا الفريق متساءلين : ما هو مقصودكم من توضيح هذه النواميس الطبيعية.

هل تريدون القول بأن السير في العوالم العليا أمرٌ غير ممكن ، وممتنع ذاتاً وبالتالي أنه أمر محال.

فاننا نقول - حينئذ - في الجواب على ذلك بان الجهود والتحقيقات العلمية الّتي بذلها علماء الفضاء في الشرق والغرب قد جعلت هذا الأمر - ولحسن الحظ - أمراً ممكناً ، وعادياً ، لأن مع اطلاق أوّل قمر اصطناعي عام ( 1957 م ) إلى السماء

ص: 550

والّذي اسماه علماء الفضاء ب « اسپوتنيك » اتضح أنه يمكن إبطال مفعول جاذبية الأرض بواسطة الصاروخ ، كما أن إرسال السفن الفضائيّة الحاملة لروّاد الفضاء من البشر بواسطة الصاروخ أوضح أنَّ ما كان يَعِدّه البشر مانعاً من الصعود إلى الأعلى في الفضاء قد أصبح قابلا لرفعه وإزالته ، والتخلّص منه بيد العلم والتكنولوجيا.

إن البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء مثل مشكلة الشهب والنيازك المتطايرة في الجوّ ومشكلة الاشعة الفضائية ، ومشكلة إنعدام الغاز اللازم للتنفس و .. و .. وهاهو علم ارتياد الفضاء في حال توسع مستمرّ وان العلماء أصبحوا الآن يثقون بأنهم سرعان ما يتمكنون من مدّ بساط الحياة والعيش في إحدى الكرات السماوية والسفر إلى إحدى الكواكب كالقمر والمريخ بِسهولة كبرى! (1)

إنَّ هذه الأحداث العلمية وهذا التقدّم التكنولوجي في مجال ارتياد الفضاء شاهدٌ قويٌّ على أنّ هذا العمل أمر ممكن مائة بالمائة ، وليس من الاُمور المستحيلة.

وإذا كان مقصود المعترضين على المعراج هو انه لا يمكن القيام بمثل هذه الرحلة من دون أجهزة علميّة وتكنولوجية ، ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يملك في تلك الليلة مثل هذه الأجهزة فكيف طوى تلك المسافات وطاف

ص: 551


1- بعد اطلاق الاقمار والسفن الاصطناعية لأوّل مرة يوم الأربعاء ابريل عام 1961 بدأ الضابط الروسي جاجارين ( 27 سنة ) رحلته الفضائية في سفينة فضائية ، وكان أوّل إنسان أقدم على هذه الرحلة الفضائية ، وابتعدت سفينته 302 كيلومتراً عن سطح الأرض ، ودارت دورة واحدة حول الكرة الارضية في ساعة ونصف. وبعد ذلك أقدمت أمريكا والاتحاد السوفيتي على ارسال السفن الفضائية إلى الفضاء في محاولة لغزوالقمر حتّى حطّت « أپولو » الحاملة ل 11 رائداً فضائياً على سطح القمر لأوّل مرّة ، وكان هذا أوّل مرة يحط فيها انسان قدمه على ارض القمر. وقدتكررت تجربة هذا البرنامج الفضائي فيما بعد مرات ومرات وكانت ناجحة على الاغلب. وكل هذه الجهود والنتائج تكشف عن أن هبوط الإنسان على سطح الكرات والكواكب أمرٌ ممكن ، وما يستطيع البشر فعله عن طريق العلم يقدر اللّه خالق البشر على فعله بارادته النافذة.

على جميع تلك العوالم من دون أدنى وسيلةِ نقل من هذا القبيل؟!

فاننا نقول في معرض الاجابة على اعتراضهم هذا بأن جواب هذا الاعتراض يتضح من الابحاث الّتي سبقت منا حول معاجز الأنبياء وخصوصاً بحثنا المفصَّل حول حادثة عام الفيل وهلاك جيش أبرهة العظيم بالأحجار الصغيرة ، لأنه من المسلَّم أنَّ ما يستطيع البشر فعله عن طريق الأدوات والآلات العلمية الصناعية يستطيع الأنبياء فعلَه بعناية اللّه تعالى ، وإقداره وبدون الأسباب الظاهرية والخارجية.

لقد عرج رسول الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى السماء بعناية وباقدار اللّه الّذي خلق الوجود كله ، واقام هذا النظام البديع برمته ، فهو الّذي أعطى للأرض جاذبيتها ، وأعطى للشمس أشعتها وأوجد مختلف طبقات الهواء ، وأنواع الغازات في الجوّ ، ومتى أراد أخذَها وانتزاعها منها ، أو كبح جماحها ، وردّ عاديتها.

فاذا تحقق معراج النبيّ الاكرم محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم في ظلّ العناية الآلهيّة فانّ من المسلَّم ان جميع النواميس تخضع أمام قدرته القاهرة ، وارادته الغالِبة ، وهي طوع إرادته ، والسماوات والأرض مطويّات بيمينه والجميع في قبضته ورهن اشارته دائماً وأبداً ، وفي كل حين وأوان.

وعلى هذا فماذا يمنع من أن يعمل اللّه الّذي منح للأرض جاذبيتها ، وللأجرام السماوية أشعتها ، على إخراج عبده المصطفى بقدرته المطلقة ومن دون الاسباب الظاهرية ، من مركز الجاذبية الأرضيّة ، ويصونه من أخطار الاشعة الكونية ، وأن يعمد خالق كل هذا القدر الهائل من الاوكسيجين إلى إيجاد الهواء اللازم لنبيّه في الطبقات الّتي ينعدم فيها الهواء ، وهذا هو معنى قولهم : « إنَّ اللّه مسبِّبُ الأسباب ومعطِّلُ الأسباب ».

ان أمر المعجزة يختلف ويفترق أساساً عن أمر العلل الطبيعية والقدرة البشرية.

ونحن يجب أن لا نقيس قدرة اللّه المطلقة بقدرتنا المحدودة ، فاذا كنّا لا نقدر

ص: 552

على شيء من دون الأسباب لم يصحَ أن نقول : ان القادر المطلق لا يقدر على مثله من دون الاسباب الطبيعية أيضاً.

إنَّ إحياء الموتى ، وقلب العصا إلى ثعبان ، وإبقاء يونس حيّاً في بطن الحوت ، في قعر البحار ، مما صدّقته جميع الكتب السماوية ونقلته إلينا لا تقلّ إشكالا ولا تختلف جواباً عن قصة المعراج النبوي

وخلاصة القول : ان جميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرةٌ لِلّه تعالى خاضعة لارادته ، مطيعةٌ لأمره وارادته يمكن تعلّقُها بكلّ شيء إلاّ بالأمر المحال ، وأما غيرذلك أي ما يكون ممكناً بالذات مهما كان ، فانّهُ قابلٌ لأن يتحقق في ظل ارادة اللّه ومشيئته سواء يقدر البشر عليه أم لا يقدر.

على أن حديثنا هذا موجَّهٌ إلى مَن آمن باللّه ، وعرف ربّه بصفاته الخاصة به تعالى ، وبالتالي آمن باللّه الأزليّ على أنّه القادر على كلّ شيء.

الهدفُ من المعراج :

لقد بيّنت الاحاديث - بعد الآيات - الغرض من المعراج واليك طائفة من هذه الاحاديث.

1 - يقول ثابت بن دينار سألت الامامَ زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصَف بمكان فقال : « تعالى اللّهُ عَن ذلِكَ ».

قلت : فلم اسرى بنبيه محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى السماء؟

قال : « لِيُريَهُ مَلكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صنعِهِ وبدائع خلقه ».

2 - وقال يونس بن عبد الرحمان قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام لأيّ عِلة عرج اللّهُ بنبيّه إلى السماء ومنها إلى « سدرة المنتهى » ، ومنها إلى « حجب النور » وخاطبه وناجاهُ هناك واللّه لا يوصف بمكان؟ (1).

فقال عليه السلام : « إنَّ اللّه لا يُوصَفُ بمكان ولا يَجري عليهِ زمانٌ ، وَلكنَّهُ

ص: 553


1- علل الشرائع : ص 55 ، البحار : ج 18 ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج 1. ص 400.

عزوجل أرادَ ان يُشَرِّف به مَلائِكته ، وسكانَ سَماواتِه ، ويكرِّمَهُم بمشاهدته ، وَيُريَه من عجائب عظمته ما يخبر بهِ بَعدَ هُبُوطِه ، وليسَ ذلِكَ على ما يَقُولُه المشبّهون سبحانَ اللّهِ تعالى عَمّا يَصِفُون » (1).

أجل يجب أن يكون لرسول الإسلام وخاتم الأنبياء مثل هذا المقام العظيم ومثل هذه المنزلة السامقة ، ليقول للبشرية العائشة في القرن العشرين ، والّتي أصبحت تفكر في الهُبوط على « المريخ » و « الزهرة » وغيرها من الانجم البعيدة : بانني قد فعلت هذا من دون أية وسيلة ، وانَّ ربّي قد مَنَّ عليّ وعرّفني على نظام السماوات والأرض ، وأطلَعَني بقدرته وبعنايته على أسرار الوجود ، ورموز الكون.

ص: 554


1- علل الشرائع : ص 55. البحار : ج 1. ص 347 و 348. تفسير البرهان : ج 1. ص 400.

23

سفرة إلى الطائف

اشارة

انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله ، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب وسيدهم ، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الإسلامية والذابّ بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية ، والشخصية الاولى في قريش اعني « أبا طالب » عليه السلام.

ولم تنمح آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد إلاّ وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة ، السيدة خديجة الكبرى الّتي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية (1).

لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وحافظ على حياته وسلامته ومكانته ، وبينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الإسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تلك السنة بعام الحداد ، أو

ص: 555


1- جاء في تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 انه قيل بأن « خديجة » توفيت بعد « أبي طالب » بشهر وخمسة أيام ، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل ج 2 ، ص 63 إلى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب ، لا بعده.

الحزن (1).

ومنذ أن توفّى اللّه الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم واجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل.

فقد واجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له ، والحقد عليه ، وصارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة ، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل امكانات الدعوة إلى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد : ان « خديجة بنت خويلد » و « أبا طالب » هلكا ( اي توفيا ) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام ... وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً ، وحرزاً في أمره ، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.

ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك التراب دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول لها :

« لا تبكي يا بُنيَّة فإنَّ اللّهَ مانع أباك ».

ويقول بين ذلك :

« ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبو طالب » (2).

ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ينتقل

ص: 556


1- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 301 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 347.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 415 و 416 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 5 عن إعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.

من المحيط المكي إلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.

وحيث انَّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً ، لذلك رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يسافر لوحده إلى الطائف ، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.

ولما انتهى صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نَفَر من قبيلة « ثقيف » هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم ، وجلس صلى اللّه عليه وآله وسلم إليهم ، ودعاهم إلى اللّه ، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقالوا له : لئن كنتَ رسولا من اللّه كما تقول لأنتَ أعظمُ خطراً من أردَّ عليك الكلام ، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك!!

فعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من رَدّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناقِ الإسلام ، فقام صلى اللّه عليه وآله وسلم من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته ، ومن ثم إيذائه ، فوعدوه بالكتمان ، ولكنهم - وللاسف - لم يحترموا وعدهم هذا الّذي أعطوه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وفجأة وجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتّى اجتمع الناس ، وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة إبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، وقد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف ، وقد كانا من اثرياء قريش ، يومئذ.

فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم توجه إلى ربه وناجاه قائلا :

« أللّهُمَّ إلَيكَ أشكُو ضَعفَ قُوَّتي ، وَقِلَّةَ حِيلَتي ، وَهَواني عَلى النّاسِ ، يا أرحَمَ الرّاحِمين ، أنتَ رَبُّ المُستَضعَفِين ، وَأنتَ رَبّي ، إلى مَن تكِلُني ، إلى

ص: 557

بعيِد يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عَدُوّ ملكتَهُ اَمري؟

إن لَم يَكُن بِكَ عَليَّ غَضَبُ فَلا اُبالِي ، وَلكِ ، عافِيتَكَ هِيَ أوسَعُ لِي.

أعُوذُ بِنُورِ وَجهك الّذي اشرقت لَهُ الظُّلماتُ ، وَصَلُحَ عَليهِ أمرُ الدُّنيا وَالآخِرَة مِن أن يَنزِلَ بِي غَضَبُكَ ، أو يَحِلَّ عليَّ سَخطُك.

لَكَ العُتبى حتّى تَرضى ، وَلا حولَ وَلا قُوّةَ إلاّ بِكَ » (1).

هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتّى يلجأ إلى حائط عدوٍّ من اعدائه ، ويجلس في ظل شجرة ، مكروباً موجَعاً ينتظر مصيره.

فلما رآه إبنا ربيعة « عتبة وشيبة » وكانا من الوثنيين ومن أعداء الإسلام وشاهدوا مالقي من الأذى والعذاب ، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من أهل نينوى يقال له « عداس » فقالا له : خذ قطفاً من العنب فضَعهُ في هذا الطبق ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم أقبل بالعنب حتّى وضعه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه يده قال : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ».

فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال : واللّه إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك؟

قال : أنا نصراني ، من أهل نينوى.

قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس : وما يدريك ما ( من ) يونس بن متى؟

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم (2) : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ ، أنا رسول اللّه ،

ص: 558


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 420.
2- وفي رواية البحار : ج 19 ، ص 6 جملة اعتراضية هنا : - وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه -.

واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

فأكبَّ عداس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق ، وجعل يقبّل رأسَه ويديه ، وقدميه ، وهما تسيلان من الدماء وآمن به ، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى صاحبيه في البستان.

فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب ، وسألاه قائلين : ويلك يا عداس ما لك قبَّلت رأس هذا الرجل ، ويديه وقديمه وماذا قال لك؟!

فاجابهما الغلام قائلا : يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خيرٌ من هذا ، هذا رجلٌ صالح لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبيُّ.

فشقَّ كلامُ عداس على إبني ربيعة ، وقالا له بنبرة الناصحّ له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك فان دينَك خير من دينه!! (1)

النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يعود إلى مكة :

انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلجوئه إلى حائط ابني ربيعة ، وكان عليه الآن ، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إلى مكة ، ولكنَّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل ، لأنه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الاكبر والا وحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.

فقرر صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يبقى في منطقة « نخلة » ( وهي واد بين الطائف ومكة ) بعض الوقت.

لقد كان يريد أن يرسل أحداً إلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتّى يدخل مكة بجوار ، ولكنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك « نخلة » إلى حراء ، وهناك التقى رجلا خزاعياً وطلب منه أن

ص: 559


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 419 - 421 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 6 و 7 و 22 مع اختلاف يسير.

يأتي « المطعم بن عدي » بمكة ، وكان من الشخصيات المكية البارزة ويسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها.

فدخل الخزاعيّ مكة ، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقبل المطعم - رغم كونه وثنياً مشركاً - ان يجير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال للخزاعي : ائته فقل له : إني قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مكة ليلا ونزل في بيت مطعم مباشرة ، وبات ليلته هناك ، ولما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا ، فاصحبنا إلى البيت ، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في المسجد الحرام ، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ليكيد به ، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً ، وانصرف عن ايذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فجلس المطعم وولده واختانه واخوه ، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله. (1).

ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتّى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه

ص: 560


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 381. بحار الأنوار : ج 1. ص 7 و 8. ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك ، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوها. ولكن يمكن الاجابة على هذا بأن الاجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر ، ولم يكن فيها ما يوجب شيناً على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم تستلزم منة عليه. ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح عليا ، كتمكين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الدخول بسلام إلى مكة ، وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية ، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إلاّ يوماً أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ترتيب اوضاعة في مواجهة الاخطار الّتي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.

وآله من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلى اللّه عليه وآله وسلم إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن عدي ثمة وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم :

« لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت له هؤلاء » (1).

نقطة هامة :

إنَّ سفر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبره صلى اللّه عليه وآله وسلم كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم.

ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحماه يوماً أو بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلا.

فاذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا

ص: 561


1- المغازي للواقدي : ج 1 ، ص 110 ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم اجارة حين رجع من الطائف ، طبقات ابن سعد : ج 1 ، ص 210 و 212 ، البداية والنهاية : ج 3 ، ص 137.

عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم.

كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب :

كانت العرب تجتمع - في مواسم الحج - في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ، والتفاخر ، والعشق.

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة - كغيرها - لا بلاغ رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كان صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا :

« قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة » (1).

ص: 562


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 216.

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج :

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ مرسل (1).

وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب » فاذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ».

فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه (2) ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال :

ص: 563


1- قال ابن هشام : كان صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.
2- أي نحميه.

يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط (1) ، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم؟! (2)

ان هذه القضية التاريخية تفيد - في ما تفيد - بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا.

ص: 564


1- أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 424 و 425.

24

بيعة العقبة

اشارة

كان ( وادي القرى ) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن ( من القحطانيين ).

وكان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع » الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.

وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات.

وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ، وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة.

ص: 565

على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب - لدى عودتهم - انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم والخطير.

ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

1 - كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.

وقد قدم مرة « سويد بن الصامت » فتصدى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : وما الّذي معك.

قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى ونور.

ثم تلا عليه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان قتله قبل يوم بعاث (1) (2).

ص: 566


1- بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 425 - 427.

2 - قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له؟

فقالوا له : وما ذاك؟

قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له.

فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما سمع (1).

وقعة بُعاث :

كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج ، ففي هذه

ص: 567


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428.

الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.

ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ » وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ، والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ، حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ، ولبُّوا دعوته.

تفصيل الحادث :

خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود؟ وهل لكم حلف معهم.

قالوا : نعم.

قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟

قالوا : بلى.

فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرض عليهم السلام وتلا عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم في بلادهم ،

ص: 568

فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره.

فلما كلَّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه.

فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك (1).

بيعة العقبة الاُولى :

لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلما كان العام المقبل ( أي السنة الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعقبة ، وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.

وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة - بعد الاعتراف - بالاسلام والايمان باللّه ورسوله هو :

بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف.

ص: 569


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 86 ، والسيرة النبوية : ج 1 ، ص 427 و 428 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.

فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر.

وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو (1).

وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ويؤمّهم ، ويصلي بهم (2).

بيعة العقبة الثانية :

لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.

وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه

ص: 570


1- والّتي جاء ذكرها في الآية 12 من سورة الممتحنة.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 434 ، بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25.

صلى اللّه عليه وآله وسلم فواعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعقبة للبيعة إذ قال : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ».

فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجة وهي الّتي واعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها باللقاء ، ونام الناس حضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » قبل الجميع ، وخرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم ، ومضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم ، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ولما استقرّ المجلس بالجميع ، كان أوّل متكلم هو : العباس بن عبد المطلب فقال واصفاً منزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسَها - إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم ، وقد مَنَعاهُ من قومنا ، فهو في عزّ من قومه ، ومَنعة في بلده ، وإنّه قد ابى إلاّ الإنحياز اليكم ، واللُحوق بكم ، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوهُ فانه في عزّ ومَنعة من قومه وبلده.

فقال الحضور : قد سمعنا ما قلتَ فتكلّم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.

فتكلمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال : اُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم.

فقام البراء بن معرور وأخذ بيد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعمنَّك مما نمنع منه اُزُرنا (1) فبايعنا يا رسول الّه فنحن واللّه

ص: 571


1- الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه ، ولهذا فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار ورضاهم.

ابناء الحروب واهل الحلقة ( اي السلاح ) ورثناها كابراً عن كابر.

فدب في الحضور حماس وسرور عظيم وتعالت الاصوات والنداءات من الخزرجين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم ، وسرورهم لهذا الأمر ، فقال العباس وهو آخذ بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وفي هذه الاثناء نهض « البراء بن معرور » و « ابو الهيثم بن التيهان » و « أسعد بن زرارة » من مواضعهم وبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم بايعه بقية القوم جميعاً.

وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يا رسول اللّه إن بيننا وبين الرجال ( اي اليهود ) حبالا ( وعلاقات ) وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟

فتبسَّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : « بل الدَم الدَم ، والهَدم الهَدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم » يعني أنه سيبقى على العهد ، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف : دمي دمُك ، وهَدمي هَدمُك ، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.

ثم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : اخرجُوا إِليَّ منكم إثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم (1).

فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لاولئك النقباء : انتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيلٌ على قومي ( يعني المسلمين ) فاُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ».

فقالوا : نعم وبايعوه على ذلك.

وكان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعةً من الخرزج وثلاثةً من الأوس وقد ضُبِطَت أسماؤهم وخصوصياتهم في التاريخ.

ص: 572


1- المحبر : ص 268 - 274.

وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب ، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رجالهم (1).

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة :

والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو : ما الّذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ويأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من القرابة القريبة؟!

وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة؟!

إن علة هذا التقدم يمكن اختصارها وحصرها في أمرين :

أوّلا : أن اليثربيّين جاوروا اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر ، ويأتي بدين جديد.

حتّى أن اليهود كانوا يقولون : للوثنيين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره ، ويمحي الوثنية ويقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في نفوس أهل يثرب ، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه ، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة إلى الايمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأوّل مرّة ، بادروا إلى

ص: 573


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 25 و 26 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 441 - 450 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 221 - 223. وفي رواية اُخرى في البحار : ج 2. ص 47 ، كما اخذ موسى من بني اسرائيل اثني عشر نقيباً وقد كان هذا العمل النبوي حكيماً جداً لان عامة الناس لا يمكن التعويل والاتكال على التزاماتهم بل لابد من الاعتماد - ضمناً - على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوده القوم وسراتهم.

الايمان به من غير إبطال ولا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض : واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

ومن هنا فان مما يأخذه القرآن على اليهود هو : أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ ، وتبشرون الناس بانه سيظهر ، وانهم قرأوا أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضوا الإيمان به لمّا جاء صلى اللّه عليه وآله وسلم.

يقول تعالى : « وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذيْنَ كَفَرُوا ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلى الكافِرين » (1).

ثانياً : إنّ العامل الأخير الّذي يمكن اعتبارهُ دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين وسرعة إقبالهم على الإسلام وتقبّلهم لدعوة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم هو التعب والارهاق الّذي كان اهل يثرب قد اُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي انهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رَمقهم ، وجعلتهم يملون الحياة ، ويفقدون كلّ أمَل في تحسّن الأحوال والاوضاع.

وإن مطالعة وقعة « بُعاث » وهي - حرب وقعت بين الأوس والخزرج - وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجهَ الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار.

ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على يد الخزرجيين ، فهربوا إلى « نجد » ، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك ، فَغضب « الحضير » سيد الأوس ، لذلك غضباً شديداً ، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه ، وترجّل عن فرسه وصاح بقومه قائلا : واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى اُقتل!! فأوقد صمود « الحضير » وثباته نار الحمية والغيرة واشعل روح الشهامة والبسالة في قومه ، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الامر ، فقاتلوا أعداءهم مستميتين ، والمستميت منتصر لا محالة ، فانتصر

ص: 574


1- البقرة : 89.

الأوسويون المغلوبون ، هذه المرة ، وهزموا الخزرج هزيمة نكراء واحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!! (1).

ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك ، وكانت القبيلتان تتحملان في كل مرة خسائر كبرى ، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما ، وكانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه ، من الحالة السيئة ، وتفتشان عن نافذة أمل ، ومخرج من تلك المشاكل.

ولهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم المنشودة عندما التقوا - ولاول مرّة - رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمعوا منه ما سمعوا ، فتمنّوا أن يضعوا به حداً لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له : عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك.

كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت اليثربيين إلى تقبّل الإسلام بشوق ورغبة وحماس.

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة :

كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت تتصور بانها قد حدّت من تقدم الإسلام في مكة وانه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه السقوط والاندحار ، وأنه لن ينقضي زمانٌ إلاّ وتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته ، وتنمحي آثاره.

وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات ، وأسقطت كل تصورات قريش الساذجة ، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيين عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن يدافعوا عنه كما

ص: 575


1- الكامل في التاريخ : ج 1 ، ص 417 و 418.

يدافعون عن أبنائهم وأهليهم.

فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، لانهم اخذوا يقولون مع أنفسهم : لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، وانه يُخشى أن يجمع المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم ، وبث عقيدتهم ، وحينئذ ، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطراً جدياً ، يهدّدُها في الصميم.

ولهذا بادرت قريش إلى الاتصال بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم : يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، إنه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم ، منكم.

فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش أنه ما كان من هذا شيء ، وما علموه ، وقد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمُّ خمسمائة شخص ، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء.

فأتت قريشٌ إلى « عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول » فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة ، فأنكر ذلك وقال : إنّ هذا الأمر جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا ( اي يعملوه من دون مشورتي ) وما علمته كان ، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث.

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس وبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يفشوّ أمرهم ، وانكشاف سرهم ، ولهذا قال بعضهم لبعض : مادمنا لم نُعرَف بعدُ فلنخرج من مكة فوراً قبل ان يظفر المشركون بنا ، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكة والتوجّه إلى المدينة ، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة ، وعرفوا بانه قد كان ، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين ، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك إلاّ بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة ، والمكيين ، ولم تظفر قريش إلاّ بسعد بن عبادة.

ص: 576

غير أن ابن هشام يرى بأنهم ظفروا بنفرين هما : « سعد بن عبادة » و « المنذر بن عمر » ، وكان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

وأما « المنذر » فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

وأما « سعد » فقد أخذوه ، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله ، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجمّته (1) وكان ذا شعر كثير.

يقول سعد :

فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض ، طويل القامة ، فقلت في نفسي : إن يكُ عندَ أحد من القوم خير فعند هذا.

قال : فلما دنى منّي رفع يده فلكمني لكمةً شديدةً.

فقلتُ في نفسي : لا واللّه ، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال : فواللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ كان معهم : فقال : ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوارٌ ولا عهدٌ؟

قلت : بلى كنتُ اُجير لجير بن مُطعِم بن عدي تجارةً ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

فذهب ذلك الرجلُ إلى مُطعِم وأخبره بما فيه سعد بن عبادة من الحال ، وأنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال مُطعِم : صدق واللّه إنه كان ليجير لنا تجارة ، ويمنعهم أن يُظلموا ببلدة ثم أسرع إلى سعد وخلّصه من أيديهم.

وكان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة ، فعزموا على أن يعودوا إلى مكة ويخلّصوه من أيدي المشركين ، وبينما هم كذلك إذ بدى لهم « سعد » من بعيد ، وأخبرهم بما جرى عليه (2).

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي :

يصرُ المستشرقون على أن انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات ثمّ بواسطة

ص: 577


1- مجتمع شعر الرأس.
2- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 449 و 450.

السيف وفي ظلّ استخدام القوّة.

اما بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت قبل الهجرة ، ونلفت اليها نظر القارئ الكريم ، فان دراستها والتعمق فيها يثبت بجلاء ان انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من جاذبيته الّتي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه المحببة إليه.

واليك الحادثة بنصها :

قرر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية الاسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة ، ذات يوم أن يدعو هو واسعد أشراف المدينة وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل فدخلا حائطاً (1) من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع اليهما رجال ممن اسلم ، وكان سعد بن معاذ واسيد بن حضيرو هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضاً.

فقال سعد لا سيد : جرّد حربتك وقل لهذين ( يعني مصعبا واسعد ) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان ضعفاءنا ، ولو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي ، لكفيتُك ذلك.

ففعل اُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء بكما الينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم ، والمتكلم البليغ الّذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : أو تجلس فتسمع ، فان رضيت أمراً قبلته ، وان كرهته كفَّ عنك ما تكره؟

قال : أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالاسلام ، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في إشراق وجهه ، وانفراج اساريره ، وشوقه فقال : ما احسن هذا الكلام واجمله؟! كيف تصنعون إذا اردتم أن تدخلُوا

ص: 578


1- بستاناً.

في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له : تغتسل فتطهر وتغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.

فقام اسيد بن حضير الّذي حضر لقتل مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما : ان ورائي رجلا إن اَتبعَكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وساُرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظرإليه سعد وقومه وهم جالسون في ناديهم قال : أحلفُ باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟

قال : كلّمت الرجلين ، فواللّهِ ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتُهما ، فقالا : نفعل ما احببتَ ، فغضب سعدٌ لذلك غضباً شديداً ، وأخذ الحربة من اسيد ، ثم خرج إلى مصعب واسعد ليقتلهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدداً اياهما ، ولكن مصعباً وزميله قابلا به بمثل ما قابلايه سابقه اسيد ، وجرى له ما جرى له ، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها ، وخضع لمنطقه القوي ، وبيانه الساحِر ، وندم على ما قصد فعله ، وقال لمصعب نفس ما قاله اسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهر وصلى ثم رجع إلى قومه وقال لهم : يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وافضلنا راياً وايمننا نقيبةً.

قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله فالحمد للّه الّذي اكرمنا بذلك.

فلم يُمسِ في دار بني عبد الاشهل رجلٌ ولا إمرأة إلاّ مسلماً أو مسلمة ، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد ، لا بمنطق القوة انما بقوة المنطق (1).

ص: 579


1- إعلام الورى : ص 59 ، بحار الانوار : ج 19 ، ص 10 و 11 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 436 و 437.

ان في التاريخ الاسلامي نماذجَ كثيرة من هذا القبيل تدل على بطلان وتفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره ، فان العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال والتطميع ، ولا السلاح والتهديد ، كما ادعى المستشرقون ، وان الذين اسلموا في هذه الحوادث والوقائع لاهم رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء ، انما كان السبب الوحيد هو : منطق الداعية الاسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذاب ، فهُو الّذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب ، خلال دقائق معدودة ، لا في نفس شخص واحد فحسب ، بل ربما في نفوس قبيلة بكاملها.

اجل انه المنطقُ القوي والكلام المبرهن والحجة البالغة لاسواها.

مخاوف قريش المتزايدة :

لقد ايقظت حماية اليثربين للمسلمين قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة اُخرى ، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها وإظطهادها ومضايقتها لهم من جديد ، وتهيأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدمه في الجزيرة العربية ، وبلغ ذلك الاذى مبلغاً عظيماً.

فشكى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط واذى ، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان فاستمهلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال :

« لقد اُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن اراد الخروج فليخرج إليها » (1).

وبعد الاذن بالهجرة من قِبَل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أخذ المسلمون يخرجون من مكة ، ويتوجهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

ص: 580


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 226.

ولم يكن قدمضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا وفطن زعماء قريش لسرها ، وخطرها عليهم فاخذوا يمنعون من اي تنقل وسفر يقوم به المسلمون ، وقرروا ان يعيدوا إلى مكة كلَ من وجدوه في اثناء الطريق ، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة وله زوجة قرشية ويمنعوها عنه ، ولكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل ، بل وكان يقتصر إذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعداهما.

ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ.

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم واخوانهم في يثرب حتّى انه لم يبق في مكة من المسلمين إلاّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وعدد قليل من المسجونين ، أو المرضى من المسلمين.

وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش ، وضاعف من قلقها ، ولهذا اجتمع كلُ رؤساء القبائل المكية في « دارالندوة » اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك المجلس خطط متنوعة ، واقترحت اُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنها فشلت برمتها بتدبير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحكمته ، وسياسته الدقيقة.

وأخيرا هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من « مكة » إلى « المدينة » في شهر ربيع الأول سنة 14 من البعثة.

اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين وسيطرتهم واصبحوا حيرى لا يدرون ماذا يفعلون ، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتساع رقعته ، قد باءت بالفشل.

لقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق

ص: 581

بالانصار وقال لهم : « إنَّ اللّه قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها » (1) (2).

ص: 582


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 26.
2- لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة ، وقد حاولنا ذكر كل ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها ، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ كل تلك الحوادث اُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبة في الفصل 24 من دون ادراج تواريخ لها في الاغلب ولكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

حوادث السنة الاُولى من الهجرة

اشارة

25

قصّة الهجرة

اشارة

كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في « دارالندوة » لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها ، ومن خلال تضافر الجهود على حلها ، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات الثانية عشرة ، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً ، فقد حصل المسلمون على مركز هام ، وقاعدة صلبة في يثرب ، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والدفاع عنه ، وكلُ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير ، الّذي بات يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الاوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلاّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي وأبوبكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين ، أو المرضى ، أو العجزة ، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة إلى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في « دار الندوة » حضرها رؤساء قريش

ص: 583

وزعماؤها وبدأ متكلمهم (1) يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمت بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم اضاف قائلا :

يا معشر قريش إنه لم يكن أحدٌ من العرب أعَزَّ مِنّا ، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ، ويكرموننا ، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا « محمّد بن عبد اللّه » فكنّا نسمّيه ( الأمين ) لصلاحه ، وسكونه ، وصدق لهجته ، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه ، وأن أخبار السماء تاتيه ، فسفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرق جماعتنا ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ، وقد رأيت فيه رأياً ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فان طلبت بنو هاشم بدمه (2) اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجلٌ مجهول حضر ذلك المجلس ووصف نفسه بانه نجدي : ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الّذي يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فانه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.

فقال أبو البختري : نلقيه في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى : وهذا رأيٌ أخبث من الآخر ، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء موسمٌ من مواسم العرب استغاثوا بهم ، واجتمعوا عليكم فاخرجوه.

فقال ثالث : نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافا ، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إرباً إرباً.

فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلا : أرايتم إن خلص به

ص: 584


1- وروي انه كان المتكلم : أبوجهل.
2- وفي رواية : بديته.

البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه ، فصبأ (1) القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ ، فليسيرنَّ حينئذ اليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت اياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس ، وفجأة قال أبو جهل ( وعلى رواية : قال ذلك الشيخ النجدي ) : ليس هناك من رأي إلاّ أن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قوياً ثم تسلّحوه حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إرباً إرباً فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي ، واتفقوا عليه ، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كل مكان (2).

الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية :

لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورن أن رسالة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد ، والخطط والمؤامرات ، ولم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ - كغيره من الأنبياء - يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي ، وان اليد الّتي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح ، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة ، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسرون : بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي « جبرئيل » ، على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ

ص: 585


1- صبأ فلان : اي خرج من دين إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام وتسمي المسلمين : الصباة .. وهو جمع الصابىء.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 480 - 482.

قرأ عليه قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ » (1).

وعندئذ اُمِرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة ، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع التحركات ، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكة والمدينة.

فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل إلى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيرة في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلف « السيرة الحلبية » أن يُوفّق إلى درجة مّا ، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص ، ولكنه لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف فى بعض الموارد في هذا الصعيد.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ ، وخروجه من منزله ، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وخلاصه إلى عامل الاعجاز ، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة ، والمعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية ، والتحسبات ، والتدابير الحكيمة ، وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بان ينجّي نبيّه

ص: 586


1- الانفال : 30. ليثبتوك أي ليسجنوك.

الكريم ، عن طريق الأسباب العادية المألوفة ، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية ، والوسائل والأسباب العادية ( كمبيت شخص في فراش النبيّ ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره ) ، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه ، وتخلصّ من أيدي اعدائه ، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه :

لقد اخبر ملك الوحي « جبرئيل » رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة ، وتقرر - بغية إفشال عملية الملاحقة - ان يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله ، ولم يخرج بعد ، وبالتالي يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت ، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة ، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اغتنام الفرصة والخروج من مكة ، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته ، ويبغون قتله.

والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفدى النبيّ بنفسه ، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتما : إن الّذي سبق جميع المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه ، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل ، ويقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بحياته في هذه اللحظة الخطيرة ، وهذا المضحّي بحياته ونفسه ، هو « عليّ » ليس سواه احد ، انه تقدير صحيح ، وحدس مصيب.

فليس غير « علي » يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

ص: 587

ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام :

« يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي ، وإنّه اُوحيَ إليّ عن ربّي أن اهجرَ دار قومي ، فنُم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟

فقال علي عليه السلام أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال : نعم ، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من سلامته ، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم :

إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك ، واقع فيه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلاّ باللّه.

ثم رقدَ عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر ، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش - وهم اربعون رجلا - بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد جرّدوا سيوفَهم ، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مضجعه ، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وهنا أراد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلى اللّه عليه وآله وسلم من كل جانب ، ويراقبون كلّ شيء ، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من ايدي تلك الزمرة المنحطة ، فقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سورة ( يس ) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى : « فهم لا يبصرون » (1) وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله ، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر ان يختبيء

ص: 588


1- يس : 9.

فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.

وأما كيف استطاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته ، ويتجاوز رصدَ قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن ابراهيم في تفسيره : قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين كَفَرُوا » ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة (1) بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به.

إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته ، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً ، ولم يكن في الأمر اي اعجاز.

لقد كان يريد صلى اللّه عليه وآله وسلم باضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل ، وذلك بمغادرة

ص: 589


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 228 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.

بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون إدّعاء هذا الموضوع ( وهو خروج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من البيت في الليل ) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غادر منزله قبل فرض الحصار عليه ، وقبل غروب الشمس (1).

إقتحام الاعداء لبيت الوحي :

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إقتحامه ، والهجوم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال : لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإنَّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم ، ولا نأمن أن تقع يدٌ خاطئة ، فنحرسه الليلة ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً ، وانفجر الصبحُ ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ ، مع اقتراب ساعة الصفر ، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً ، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم ، إذا بهم يواجهون علياً

ص: 590


1- السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 29.

عليه السلام يثب في وجوهم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الأخضر ، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة : ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب : أين محمّد؟

فقال عليه السلام : اَجَعَلتموني عليه رقيبا؟!

فغضِبَ القوم غضَباً شديداً ، وكاد الغيظ يخنقهم ، فقد ندموا على إنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة ، فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة ، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وحيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة ، أو أنه لا يزال في طريق المدينة ، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.

النبيُّ في غار ثور :

ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة (1).

وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا ، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة ، فقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أبابكر في الطريق ، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

ص: 591


1- حيث ان الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة ، فاختبأ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في منطقة مقابلة أي في اسفل مكة ، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

وروى فريق آخرٌ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر ، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور (1).

وقال فريق ثالث : أن أبابكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد خرج من قبل فأرشدهُ « عليّ » إلى مخبأ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه ، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون عنها بكثير من الاسهاب والاطناب ، وبمزيد من الاكبار والاعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ :

لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها ، فقد بادرت إلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً ، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان ، وفي طريق مكة - المدينة خاصة.

ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن يأخذ نبي اللّه ، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة ، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة ، على حين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قد اختبأ - كما قلنا - في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال هذه قدم محمّد ، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال : ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان ، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض ، فان بباب هذا الغار - كما ترون عليه - نسجُ

ص: 592


1- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 100.

العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار (1) ، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى ، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة.

التفاني في سبيل الحق :

ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفان في سبيل الحق ، والحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية ، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحق ، واحيائه ، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق والحقيقة الصادقين.

انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم ، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة ، والعيش الموقت ، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق ، والعشق الصادق للحقيقة ، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ حبّ « عليّ » لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع ، ويضمن ازدهار الحياة ، لا غير.

ص: 593


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 229 تاريخ الخميس ، ج 1 ، ص 327 - 328 وغيرها ، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا ، ولا ينبغي - نظراً لما ذكرناه في قصة الفيل وهلاك ابرهة وجنده بواسطة الابابيل ، تأويل مثل هذا الكرامات.

إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم ، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه ، فان الآية التالية نزلت - حسب رواية اكثر المفسرين - في هذا المورد : « وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد » (1).

ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام علي عليه السلام وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ اليها (2).

إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنين عليه السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب ، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الّذي ادرك عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم انضمّ بعد وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي ، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية باصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن

ص: 594


1- البقرة : 207.
2- مسند احمد : ج 1 ، ص 87 ، وكنز العمال : ج 6 ، ص 407 ، وقد نقل كتاب الغدير : ج 2 ، ص 47 - 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام على نحو التفصيل ، فراجع.

علي عليه السلام ، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ ( أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي ) ، ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ اربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية (1).

وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً ان ( عبد الرحمان بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها وانصارها للحوادث ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم ، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة اُخرى ، واعترف اغلبُ المفسرين الأجلّة (2) والمحدّثين الافاضل - في العصور والادوار المختلفة ، بأن الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بنفسه (3).

ص: 595


1- لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 4 ، ص 73.
2- شرح نهج البلاغة : ج 13 ، ص 262 ، ولقد أعطى ابن ابي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.
3- سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية ، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه ، بل أضاف إلى ذلك - حسب رواية ابن ابي الحديد - أمراً آخر أيضاً إذ قال : ونزل في شأن « عليّ » قول اللّه : « وَمِنَ الناس من يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو ألَدُّ الخِصام » ( البقرة : 204 ). ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم وعندما سأله معاوية : هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟ أجاب قائلا : لو قتلتُ اليهم مثلَهم ما خشيت!! هذا ومخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل. وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام » ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.
كلام من ابن تيمية :

احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة ، تعود إليه اكثر معتقدات الوهابيين ، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم وأميرالمؤمنين ، وعامة أهل بيت النبوة ، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه « منهاج السنة ».

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثر من علماء عصره إلى تكفيره ، والتبرّي منه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ (1).

ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج والجاهلين ، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال ، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة « المبيت ».

يقول : ان مبيت « عليّ » في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تعدّ

ص: 596


1- راجع السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 263 وسبعة الجاحظ في العثمانية.

فضيلة لأن عليّاً عرف من طريقين بانه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة :

الأوّل : إخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الصادق المصدِّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة : « نَمْ في فِراشي فإنه لا يَخْلُصُ إليكَ شيء تكرَهُهُ »!!.

الثاني : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات الّتي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إلى أصحابها.

فعلم - من ذلك - أنهُ لن يُقتل والا لكلّفَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الآخرين بها.

فعرف « عليٌ » من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

الجواب :

وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا : إن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه السلام لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً ، وإما أن كان إيماناً قوياً جدّاً ، وكانت جميع اقوال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وإخباراته لديه - في ضوء ايمانه - كالنهار في وضوحه.

وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس ( ولا شك أن عليّاً ليس منهم حتماً ) يقينٌ من كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر ، فانهم سيساورهم القلق ، ولا يفارقهم الاضطراب ، وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر ، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم إحتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره ، وسيتمثل أمامهم شبح الموت المرعب في كل لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لابد أن يقال : بأنَّ عليّاً عليه السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلاّ وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين ، لا أنه بات وهو يتيقن

ص: 597

النجاة والسلامة.

وأما بناءً على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى واعظم ، لأن ايمانَ الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عند ما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروهٌ ، أن ينام في فراش النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بقلب واثِق بالسلامة ، ونفس مطمئنّة إلى النجاة ، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل إحتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله : ان عليّاً كانَ واثقاً من سلامته ، لأن الصادق المصدَّق أخبره بذلك هو : إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام فقد اثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة ، وأعلى منقبة ، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي واليك الجواب التفصيلي :

الجواب التفصيلي :

فنقول عن الدليل الأول : إن عبارة « لا يخلص اليك شيء تكرهه » لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد (1).

نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630 (2) ، والطبري المتوفى عام 310 (3) هذه العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته (4) الّتي نقل فيها تلك العبارة

ص: 598


1- مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 227 و 228 المولود عام 168 والمتوفى عام 230 ، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع ، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.
2- التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 72.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 99.
4- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 483.

بالصورة المتقدمة الذكر ، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين ( الطبري وابن الأثير ) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.

هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا ودقة ، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط ، الاّ أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة ، فانه رحمه اللّه يصرّح بان عليّاً عليه السلام انطلق هو و « هندبن أبي هالة » ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لعليّ :

« إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ » (1).

وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير ، ولكن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قالها لعليّ عليه السلام مطمئِناً إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش ، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول :

فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا ( أي المبيت في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في تلك الليلة الرهيبة ) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول :

وَقَيتُ بنفسي خيرَ مَن وَطأ الحصا *** ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ *** فَوقّاهُ ربّي ذُوالجلالِ مِن المَكرِ

وَبِتُ اُراعي منهم ما يسوءني *** وَقَد وطّنَت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رَسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً *** هناكَ وَفي حفظِ الاله وفي سَترِ (2)

ص: 599


1- الأمالي : ج 2 ، ص 84.
2- المصدر السابق وغيره ، هذا مضافاً إلى أنَّ الامام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الإسلام.

ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنُ كثيرةٌ على خطأه ، ويُحتمل ، احتمالا قوياً ، بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق ، وحيث أنه ( ونعني ابن هشام ) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة ، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة ، في نظره ، وروى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!!

ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه.

وكلاهما كره الموت ، فاوحى اللّه إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي « عليّ » آخيت بينه وبين « محمّد » نبيي فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه (1).

واما الدليل الثاني الّذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم له بأداء الامانات والودائع إلى أهلها ، الّتي كانت تَكشف عن ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعلم بأنه لن يصلَ إليه مكروهٌ ، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إلى أصحابها.

ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلٍّ لهذه المشلكة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح وكامل.

واليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب وقضية المبيت :

وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبدالكريم الخطيب حول

ص: 600


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 39 نقلا عن احياء العلوم للغزالي.

مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث قال : لقد دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً الهجرة ، وطلب إليه أن يبيت في المكان الّذي اعتاد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يبيت فيه ، وان يتغطى بالبرد الحضرميّ الّذي كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يتغطى به حتى إذا نظر ناظر من قريش إلى الدار رأى كأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نائم في مكانه مغطى بالبرد الّذي يتغطى به ، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة إذا نظر إليه في مجرى الاحداث الّتي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة واشارات دالة على ان هذا التدبير الّذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بل هو عن حكمة لها آثارها - إلى ان قال - انه إذا غاب شخص الرسول كان علىٌ هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم مقامه ، حين نظرنا إلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا : هذا خَلَفُ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والقائم مقامه (1).

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ :

انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفق تخطيط صحيح ، بنجاح ، فقد لجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في منتصف اللّيل إلى غار ثور ، واختبأ فيه ، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

ولقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم طوال هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إظطراب ، حتّى انه طمأن رفيقَ سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله : « لا تَحْزَنْ اِنَّ اللّه مَعَن » (2).

وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى ومشمولا بعنايته ولطفه ،

ص: 601


1- راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة ، ص 103 - 105 ملخّصاً.
2- التوبة : 40.

وكان يتردّد عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذه الاثناء علىٌ عليه السلام وهند ابن ابي هالة ( ابن خديجة ) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه ، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر ( بناء على رواية كثير من المؤرّخين ).

يقول ابن الاثير : كان عبد اللّه بن ابي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا ، وكان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار ، وكان إذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم (1).

يقول الشيخ الطوسي في أماليه : عند ما دخل علي عليه السلام وهند على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الغار ( بعد ليلة الهجرة ) أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه ، فقال أبو بكر : قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : إني لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ بالثمن. ثم أمر صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام فدفع إليه ثمن البعيرين (2).

وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً بالابطح غدوة وعشياً : ألا من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدِ إليه أمانته (3).

ثم أوصاه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالفواطم ( والفواطم هن : فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الحبيبة لديه ، والأثيرة عنده ، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليه السلام وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم ) ، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة.

وهنا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية في دليله

ص: 602


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 73 مع تصرف.
2- أمالي الشيخ : ج 2 ، ص 82.
3- الكامل : ج 2 ، ص 73. السيرة الحلبية : ج 3. ص 53.

الأول : « انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بامر تكرهه حتّى تقدم عليَّ ».

فالملاحظ للقارئ هو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما قال هذه العبارة عندما أمره باداء أمانته ، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

أي انه أمر علياً بذلك ، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته : « وصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته واداء امانته ظاهراً على اعين الناس » (1).

وثم ينقل عن مؤلف كتاب « الدر » ما يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من الغار.

وخلاصة القول : انه مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح ، ونعمد إلى الهاء العامة بالتوافه ، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه بأن جميع وصايا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة ( ليلة المبيت ) فقابلٌ للتفسير والتوجيه ، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع ، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها اهمية عندهم.

الخروج من الغار :

هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ ثلاث رواحل ودليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة ، ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار.

ص: 603


1- السيرة الحلبية : ج 2 ، ص 35.

ولما سمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إلى « يثرب » سالكين إلى ذلك الخط الساحلي ، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام (1) وفي الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير (2).

صفحةُ التاريخ الاُولى :

اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان ، ولملمت الشمس اشعتّها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه الاخر منها.

وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ ، ثلاثة أيام ، بلياليها ، إلى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين ، وقد يئسوا من الئفر بالجائزة ( وهي مائة من الإبل ) الّتي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه ، واُعيد فتح طريق مكة - المدينة الّتي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - (3).

وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام ، إلى مسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت : لابد ان نتخد من ظلام هذا الليل ستراً ، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين ، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.

ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط ، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه.

ص: 604


1- السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 491.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 75.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 104.
لماذا أصبح العامُ الهجريُ مبدأ للتاريخ :

إن الإسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة ، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمنه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع.

ومع أن السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلاّ أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ ، والتوقيت.

وكانت العرب قد جعلت عام الفيل (1) مبدأ لتاريخها ، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إليه فترة من الزمن ، ومع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه ، إلاّ أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والإسلام.

ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام البعثة مبدء لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص ، إِذن فلم يكن في اي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتخاذه مبدء للتوقيت والتاريخ ، إذ لابد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة الأهمية.

ولكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً ، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر ، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة ، وبيئة حرة لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد ، من هنا جعلوا ذلك العام ( أي العام الّذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم ) مبدءً لتاريخهم ، واخذوا يقيسون إليه - وحتّى الآن - كل ما يحدث ويقع من خير وشر ، لتحديد تاريخ وقوعه.

من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام.

ص: 605


1- وهو العالم الّذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدمة الفيلة. راجع المحبّر : ص5- 8.
الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة : ولقد جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم التاريخ الهجريّ بنفسه.

وانّ أيَّ إعراض وتجاهل لهذا التاريخ ، واختيار تاريخ آخر مكانه إعراضٌ عن سنة رسول الإسلام الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.

إن وجود تاريخ معين ثابت ( مؤلّف من السنة والشهر واليوم ) في الحياة الإجتماعية البشرية ، من الاُمور الضرورية الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية ، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للامور والحوادث.

وتلك حقيقة لا حاجة إلى اقامة البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية.

فهل يكون تنظيم المعاهدات ، والمواثيق السياسية والعسكرية ، والاتفاقيات ، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتما ، ودون ريب.

فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عن علة اختلاف أشكال القمر ، وانه لماذا يكون هلالا تارة ثم بدراً اُخرى. ثم يعود إلى سيرته الاُولى هلالا ، نزل الوحيُ الالهي ، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى : « قل هيَ مواقيت للنّاس » (1).

أي ان اختلاف اشكال القمر وهيئاته انما هو لاجل ان يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهرهم ، في مبدئه أو منتصفه ، أو منتهاه ،

ص: 606


1- البقرة : 189 ومطلعها : « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت ... ».

ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية ، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم ، ويعمَدُ المَدِينون إلى دفع ما عليهم في وقته ، ويقومَ المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالازمنة والاوقات كالصوم والحج وماشابه ذلك.

من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل اُمة إلى تاريخ معين ثابت محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت ، ومداراً لتحديداتها الزمنية.

إنما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه والجري عليه من التواريخ ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.

وبعبارة اُخرى : إن الكلام إنما هو في ما ينبغي جعله مبدءً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان ، والتوقيت.

فما الّذي يصلح أوينبغي إتخاذه مبدءً للتاريخ للامة الإسلامية؟

الجواب :

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة جداً ، وتلك الاجابة هي :

إذا كانت لاُمة من الامم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها ، وثقافة خاصة بها ، وديناً ومسلكاً مستقلا وشخصيات علمية وسياسية بارزة ، واحداث ووقائع عظيمة مثيرة ، تبعث على الفخر والاعتزاز ، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشعوب الجديدة الظهور الّتي لا ترتكز إلى اُصول ثابتة معلومة.

فان على مثل هذه الاُمة أن تتخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدءً لتاريخها الّذي تقيس ، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها الّتي سبقت تلكم الحادثة العظمى ، أو الّتي وقعت اوتقع بعدها.

ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها وكيانها قوةً اكبر ، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والاُمم الاخرى ، والميعان والفناء فيها.

وإذ لم يكن في تاريخ الاُمة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، كما لم يكن هناك حادثة أعظم ، وانفع من حادثة

ص: 607

الهجرة النبوية المباركة ، لأن هجرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فتحت - في الحقيقة - صفحةً جديدةً في حياة البشرية ، فقد خرج رسول الإسلام واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت ، إلى بيئة مناسبة حرة مكنّتهم من إحداث انطلاقة كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثلا.

فقد استقبل اهلُ المدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالا حاراً ، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفر لديهم من الامكانات والقوى ، فلم يمض زمن إلاّ وتمتع الإسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية ، واتخذ صورة وشكلَ حكومة قوية لها وزُنها ، وشأنُها ، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية ، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلها تقريباً ، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.

فاذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط مكة ، وحُرمَ العالم الانساني من هذا الفيض العظيم.

من هنا ، ولأجل هذا اتخذ المسلمون هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مبدءً لتاريخهم ، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام ، أي أن هذه الامة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر ، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر؟

من الّذي جعل الهجرة مبدءً للتاريخ؟

على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مبدءً للتاريخ باقتراح وتأييد من الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام وامر بأن تؤرخ الدواوين ، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ ، فان الامعان في مراسلات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ومكاتباته الّتي هي مدرجة في الأغلب في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنة ، وكذا غير ذلك من الادلة الّتي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم هو نفسه أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ ،

ص: 608

وكان يؤرّخ رسائله ، وكتبه إلى امراء العرب ، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ ( أي التاريخ الهجري ).

وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ ، ثم نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل الاُخرى على هذا الأمر ، ونحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اُخرى غير ما سنذكره هنا - أيضاً - لم نقف عليها.

نماذج من رسائل النبيّ المؤرخة :

1 - طلب سلمان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يكتب له ولأخيه ( ماه بنداذ ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها ، فاستدعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً وأملى عليه اُموراً ، وكتبها علي عليه السلام ثم جاء في آخر تلك الوصية :

« وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع من الهجرة » (1).

2 - أدرج المؤرخُ الشهير « البلاذري » في كتابه « فتوح البلدان » نصَّ معاهدة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع يهود « المقنا » وذكر أن مصرياً رأى نصَ هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق وكان قد استنسخَها ، فقرأها لي.

ثم نقل البلاذري نص تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها :

« وليس عليكم امير الا من انفسكم أو من اهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع » (2) ومع أن « أبا طالب » يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام « أبي طالب » لكونه مضافاً إليه فقد كتب : « علي بن أبو طالب » ولكن مع ذلك ذكر المحققون ان قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد ( أي في حالة النصب والرفع والجرّ ) ب « أبو » وتكتبها كذلك أيضاً ، وقد صرح الاصمعيّ بهذا من بين الادباء.

ويقول البروفيسور « محمّد حميد اللّه » مؤلف كتاب « الوثائق السياسية » : اني

ص: 609


1- اخبار اصفهان : تأليف ابي نعيم ، ج 1 ، ص 52 و 53.
2- فتوح البلدان : ص 72.

لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة الّتي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة « أنا علي بن أبو طالب » (1).

3 - جاء في معاهدة الصلح الّتي نظمها « خالد بن الوليد » لاهل دمشق ، ونص فيها على احترام دمائهم ، واموالهم وكنائسهم : « وكتب سنة ثلاث عشرة » (2).

وكلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.

فما يدعيه البعض من ان التاريخ الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد وتأييد من الامام علي عليه السلام غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من الهجرة ، والحال ان هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت واُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.

4 - ان كتاب الصلح الّذي كتبه الامام علي عليه السلام بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لنصارى نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة.

فقد جاء في هذه الرسالة :

« وأمر علياً ان يكتب فيه انه كتب لخمس من الهجرة » (3).

ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الاوّل وهو الّذي أمر علياً عليه السلام بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله.

5 - جاء في مقدمة الصحيفة السجادية : قال جبرئيل وهو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر ، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمس ، ثم لابد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها » (4).

ص: 610


1- مكاتيب الرسول : ص 289 ، نقلا عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض ، وكذا الوثائق السياسية.
2- الاموال : طبعة مصر ، ص 297.
3- التراتيب الادارية : ج 1 ، ص 181 نقلا عن السيوطي.
4- مقدمة الصحيفة السجادية ، سفينة البحار : ج 2 ، ص 641.

6 - يروي المحدثون الاسلاميُّون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لام سلمة :

« يُقتَل الحسين بن علي على راس ستين من مهاجري » (1).

7 - قال أنس بن مالك : « حدثنا أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : لا تأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف » (2).

8 - أرخ أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في ايام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا : وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة ، مثلا كانوا يقولون : حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً (3).

على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم شهر رمضان (4).

وقال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد الّذي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم :

خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلونَ من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً (5).

وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء : خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً (6).

إنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث والوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر ، حتّى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة

ص: 611


1- مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 190.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 367.
3- نفس المصدر : ج 1 ، ص 368.
4- المغازي : ج 2 ، ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.
5- المغازي : ج 2 ، ص 531.
6- المغازي : ج 2 ، ص 534.

أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم باحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري ( كما مرّ في الرسالة رقم 4 ) حيث أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بان يُؤرَّخ الكتاب الّذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.

9 - نقل المحدثون الاسلاميون عن الزهري قوله : ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل ( اي شهر قدومه المدينة ) (1).

10 - روى « الحاكم » عن « ابن عباس » ان التاريخ الهجري بدأ من السنة الّتي قدم فيها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم المدينة (2).

إن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول. وانه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنالك أن هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم حل العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالاشهر.

سؤال :

ويمكن ان يسأل سائل : إذا كان حقاً أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم هو مؤسس التاريخ الهجري وواضعه الاوّل فماذا نفعل بالخبر الّذي رواه كثيرٌ من المحدثين والمؤرخين.

فانهم يقولون : رفع رجل إلى عمر صكاً مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر : اي شعبان؟ أمِن هذه السنة أم الّتي قبلها أم الّتي بعدها؟

ثم جمع الناس ( أي أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ) فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم ... فيقال : أن بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الّذي بعده فكرهوا ذلك.

ص: 612


1- فتح الباري : ج 7 ، ص 208 ، تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 288 طبعة دار المعارف.
2- مستدرك الحاكم : ج 3 ، ص 13 و 14 وقد صححه على شرط مسلم.

ومنهم من قال : ارخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضاً.

وقال آخرون : أرّخوا من مولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وقال آخرون : أرخوا من مبعثه. واشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرخ من هجرته إلى المدينة لظهوره على كل أحد ، فانه أظهر من المولد والمبعث ، فاستحسن عمر ذلك والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرَخ من هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم (1).

الجواب :

إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة الّتي وصفت الرسول العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسسه الأول.

هذا مضافاً إلى أنه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الّذي وضعه النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تعرّض للترك ، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد في زمن الخليفة الثاني ، بسبب اتساع نطاق العلاقات واُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.

التذكير بنقطتين :

1 - لا نجد في الاقتراحات الّتي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الّذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدءً للتاريخ.

والعلة هي : أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين

ص: 613


1- البداية والنهاية : ج 7 ، ص 73 و 74 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 12 ، ص 74. الكامل لابن الاثير : ج 1. ص 10.

المسيحيين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية ، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك.

2 - ان البلاد والاقطار الإسلامية بحاجة اليومَ إلى الوحدة والاتفاق اكثر من اي زمن مضى.

ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعي للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري.

ومن هنا يتوجب على الاقطار الإسلامية ان تقيم كل روابطها ، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري ، شمسياً كان أو قمرياً.

وان هذا الأمر بحاجة إلى مؤتمر إسلامي كبير يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الإسلامية من أجل توحيد التاريخ ، ودراسة السبل الكفيلة بالوصول إلى هذا الأمر ، والتخلّص من التبعية الغربية في التاريخ.

ان من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الإسلامية والعربية التاريخَ الهجري وتعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ ، حتّى أن شيخ الجامع الازهر الّذي يشكل قمة القيادة الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي ، ولا يذكر إلى جانبه التاريخ الهجري على الأقل!! (1)

مؤامرة الطاغوت :

وكانت ايران من الاقطار الإسلامية الّتي حافظت بشدة على التاريخ الهجري ، واعتمدته في اعمالها ، ولكن في المؤامرة الّتي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 ه- ، استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي واُعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلَق بدل التاريخ الهجري الاصيل!!

ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنه يستطيع بحذف التاريخ الهجري ، واستبداله

ص: 614


1- 1 - وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب!!

بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة ، وسلطانه المنخور ، ونظامه الظالم المتهرئ ، مدة أطول ، ولكن العناية الالهية ، وهمة الشعب الإيراني المسلم العالية ، وقيادة الاستاذ الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدس سره الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء ، وآل الأمر إلى اسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة واقامة حكومة الجمهورية الإسلامية على انقاض الحكم الملكي المباد ، واحلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. والحمد للّه (1).

برنامج الرحلة في حادث الهجرة :

لقد كان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ان يقطع - للوصول إلى المدينة - ما يقرب من اربعمائة كيلومتراً ، ولا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إلى خطة صحيحة ، لضمان السلامة ، خاصة وانهم كانوا يخافون من أن يقوم الأعراب الذين كانوا ربما يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم ، ولهذا كانوا يسيرون ليلا ويستريحون نهاراً.

ويبدو أن شخصاً شاهد النبيّ ومن معه في أثناء الطريق فرجع إلى مكة وأخبر قريشاً بذلك فخرج « سراقة بن مالك بن جعشم » يطلبهم طمعاً في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد صرفَ قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل ذلك ليتفرد بها. (2)

يقول ابن الاثير : تبعهم سراقة فلحقهم فقال أبو بكر : يا رسول اللّه ادركنا الطلبُ ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لا تحزن إنَّ اللّهَ معنا ».

ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اللّهم اكفني شرَّ سُراقة بما شئتَ » فجمح به فرسُه وطرحه أرضاً.

ص: 615


1- يستخدم فى ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي وهو ينفع لمعرفة الفصول وما شاكل ذلك.
2- التاريخ الكامل : ج 2 ، ص 105.

فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس : يا محمّد هذه إِبلي بين يديك فيها غلامي.

وان احتجت إلى ظهر ( اي مركوب ) أو لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : لا حاجة لي في مالك (1).

وروى المجلسي ان سراقة قال : فسلني حاجة.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : رُدَّ عنّا مَنْ يطلبُنا من قريش.

فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم : انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد ، وأنا اكفيكم هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن والطائف.

وهكذا ما كان يمرّ باحد إلاّ وصرفه عن البحث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذا الطريق بمثل هذا الكلام.

ثم إن كُتّاب السيرة من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كرامات كثيرة في طريق مكة - المدينة ونحن ندرج واحدة منها :

مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أثناء الطريق على خيمة اُم معبد وكانت إمرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها وطلبوا منها تمراً ولحماً أو لبناً يشترون.

فقالت : ما يحضرني شيء وكانت أغنامها قد اُصيبت بالهزال بسبب الجدب ، فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لها : ما هذه الشاة يا اُم معبد؟ قالت : شاةٌ خلّفها الجهدُ من الغنم فقال : هل بها من لبن؟.

قالت : هي أجهدُ من ذلك ، قال : أتأذنين ان أحلبها؟.

ص: 616


1- يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل : ج 2 : ص 105، والمجلسي في البحار : ج 19 ، ص 75 - 88 القصة كما نقلناها هنا ، ولكن مؤلف حياة محمّد يقول : ان سراقة تطيّر لما كبا به فرسُه واُلقي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالَّته.

قالت : نعم ان رأيت بها حلباً فاحلبها.

فدعا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فمسح بيده ضرعَها ، وسمّى اللّه عزوجل ، ودعا لها في شاتها قائلا اللّهم بارك لها في شاتها فدرَّت لبناً كثيراً بفضل دعائه صلى اللّه عليه وآله وسلم فطلبَ إناءوحلبها ، فسقاها أولا حتّى رُوِّيَت ثم سَقى أصحابَهُ حتّى رَوُوْا وشرب هو آخرَهم ، وقال :

« ساقي القوم آخرهم شرباً ».

ثم حلب الشاة مرةً ثانيةً فغادره عندها ، وثم ارتحلوا عنها إلى المدينة (1).

وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة والتاريخ ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه ، لأن الدعاء أحدُ الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة ، وشأنها شأن غيرها من الكرامات الّتي ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة (2).

النزول في قرية قباء :

تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة وكانت مساكن « بني عمرو بن عرف » ومركزهم.

ولقد وصل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن معه إلى قباء في الثاني عِشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين ، ونزل على « كلثوم بن الهرم » وهو شيخ من بني عمرو وكان ثمة جمع كبير من المهاجرين والانصار ينتظرون قدومه ، ويستخبرون وروده.

ولقد لبث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في قباء إلى آخر أيام الاسبوع ، وقد خط في هذا الفترة مسجداً لقبيلة « بني عمرو بن عوف » ، ونصب قبلته (3).

ص: 617


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 75.
2- بحار الأنوار : ج 18 ، ص 43 وج 19 ، ص 99 - 103 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ، ص 230 و 231 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 333 ، اُسد الغابة : ج 1 ، ص 377.
3- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 338.

وكان البعض ممن رافق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة ، ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان ينتظر ابن عمه علياً.

ويقول : فما أنا بداخلها حتّى يقدم ابن اُمّي وأخي ، وابنتي ( يعني عليّاً وفاطمة عليهما السلام ) (1).

وأقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بايامها ، حتّى أدّى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الودائع الّتي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكة ونادى قائلا :

« مَن كانَ لَه قِبَلَ محمّد أمانةٌ أو وديعةٌ فليأتِ فلنؤدّ إليه أمانتهُ ».

فكان يأتيه من له أمانةٌ أو وديعة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويذكر علامتها ويأخذها فلما فرغ عليه السلام من اداء الامانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وامه فاطمة بنت اسد ، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك الساعة ، وتوجه بهم نحو المدينة ليلا سالكا بها طريقاً في « ذي طوى ».

كتب الشيخ الطوسي في اماليه في هذا الصدد يقول : إن جواسيس قريش غرفت بسفر علي مع تلك الجماعة ، فخرجوا لملاحقتهم ، لغرض اعادتهم إلى مكة ، فادركوهم في منطقة « ضجنان ».

ووقع بين رجال قريش وبين علي عليه السلام تلاح وتناوش ، وأخذٌ وردٌّ ، ودنا الرجال من النسوة ، والمطايا ليثوروها فحال عليّ عليه السلام بينهم ، وبينها ، ولم يجد عليه السلام طريقاً إلاّ أن يدافع عن حرم الإسلام والمسلمين ، فشدّ عليهم بسيفه شدَّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول مرتجزاً :

خَلُّوا سبيل الجاهد المجاهِد *** آليتُ لا أعبُدُ غَيرَ الواحِدِ

ص: 618


1- الفصول المهمة لابن صباغ المالكي : ص 35 دون ان يذكر اسماً ، وامالي الشيخ الطوسي : ج 2 ، ص 83.

فلما وجدوا ما به من الجدّ والغضب خافوه وتفرّقوا عنه وقالوا : بنبرة الخائف المتضرع - : إحبس عنّا نفسَكَ يا ابن أبي طالب ، فقال عليه السلام :

« فإنّي مُنْطَلِقٌ إلى ابن عمّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيثرب فمن سرّهُ ان اُفري لحمه واُهريق دمه فليتبعني ، وليدنُ مني ».

فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا ، وواصل الركبُ رحلته باتجاه المدينة.

يقول ابن الاثير : قدم « علي » المدينة وقد تفطّرت قدماه ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : ادعوا لي عليّاً ، قيل : لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم (1).

ولقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، والتحق به عليُّ عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه (2) ، ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه إذ كتب يقول : واقام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتّى أدى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الودائع الّتي كانت عنده إلى الناس (3).

المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ :

ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً عظيماً جداً ، ومشهوداً.

فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين آمنوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم منذ ثلاث سنوات ، وظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه ، ويذكرون اسمه المقدس ، ويصلّون عليه في صلواتهم كل يوم ، إذا سمعوا أن

ص: 619


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 106.
2- إمتاع الأسماع : ص 48 وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاُولى من الهجرة ، وقد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام ، وخرج منه ليلة الخميس اول ربيع الاول وتوجه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه راجع تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 337 - 338.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 382.

قائدهم ذلك الّذي طال انتظارهم اياه ، واشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا اياماً ، وسيقدم اليهم ويدخل مدينتهم بعد ايام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم ، وأي ابتهاج ترى سيعم كل صغير وكبير؟

إنه حقاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه ، ويكل اللسان عن وصفه.

ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من ادران الوثنية إلى كل صنم في المدينة كان يقدّس ويعبد فاحرقوه وكسّروه ، وقد كان كل شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه ، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه ويطيّبونه ، ويجعلون عليه منديلا ويذَبحون له (1).

ولا بأس في أن نذكر نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية :

لماقدم من بايع من الأنصار في العقبة الثانية إلى المدينة اظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين الشرك وعبادة الأوثان منهم « عمرو بن الجموح » وكان من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم وكان ابنه « معاذ » بن عمرو قد شهد بيعة العقبة.

وكان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له : مناة ، كما كانت الاشراف يصنعون ، تتخذه إلهاً تعظّمه وتطهّره ، فلما أسلم فتيان بني سلمةَ : معاذ بن جبل ، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر بني سلمة ومزابلها ، وفيها فَضلاتِ الناس وعذرها منكَّساً على رأسه!!

فاذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم : أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لاُخزينّه!

ص: 620


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 107.

فاذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولا.

فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من الأذى والوسخ فيغسله ويطهّره ويطيّبه ، وثم يعدون عليه إذا امسى فيفعلون به مثل ذلك.

فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث ألقَوه يوماً فغسله وطهّره وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال : إِنّي واللّه ما أعلم مَن يصنعُ بك ما ترى ، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ ، ودافع عن نفسك فهذا السيف معك.

فلما أمسى ونام عمرو عَدَوا على ذلك الصنم فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقَوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الّذي كان به.

فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ، ميّت ، فلما رآه وابصر شأنه وكلّمه من اسلم من رجال قومه فاسلم ، وهجر الوثنية والأوثان وحسُنَ إسلامه.

فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك ، وما أبصر من شأنه ويشكر اللّه تعالى الّذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة :

واللّهِ لو كنتَ إلها لم تكنْ *** أنتَ وكَلبٌ وسطَ بئر في قَرَنْ

اُفٍّ لملقاكَ إلهاً مستدَنْ *** الآن فتشناك عن سوءِ الغبن

فالحمد للّه العلي ذي المِنَنْ *** الواهب الرزاقِ دَيّان الدَينْ

هُوَ الّذي أَنَقَذني من قبلِ أن *** أكونَ في ظُلْمَةِ قَبْرٍ مرتهَنْ

بأحمد المهدِيْ النبيّ المرتهَنْ (1)

النبيُّ يدخُلُ المدينة :

بعد أن التحقق علي عليه السلام ومن معه برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في قباء توجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة ولما انحدر من ثنية الوداع ( و

ص: 621


1- اسد الغابة : ج 4 ، ص 99.

هي منطقة قريبة من المدينة ) وحط قدمه على تراب يثرب استقبله الناس رجالا ونساء ، كباراً وصغاراً ، استقبالا عظيماً ورحّبوا به اعظم ترحيب ، وردّد المرحبّون انا شيد الترحيب التالية :

طَلَعَ البدرُ عَلَينا *** مِنْ ثَنيات الوَداع

وَجَبَ الشُكْرُ عَلَينا *** ما دَعا للّهِ داع

أيّها المبعوثُ فينا *** جِئتَ بِالأمر المُطاع

 وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت عليه بأن ينزل في قباء وقالوا : أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ والجَلَد ، والحلقة ( أي السلاح ) والمنعة ، ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقبل.

وبلغ الأوسَ والخزرجَ خروجُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من أحياء الانصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وأصرّوا عليه بأن ينزل عليهم هذا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : خَلُّوا سبيلها فانها مأمورة.

واخيراً لما انتهت ناقته - وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أرخى زمامَها - إلى باب المسجد الّذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنما كان أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب « ابي أيوب » خالد بن زيد (1) الانصاري الّذي كان على مقربة من تلك الأرض.

فاغتنمت ام أبي ايوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فحلّته وأدخلته منزلَها ، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم.

فلما اكثروا عليه ، وتنازعوا في أخذه قال صلى اللّه عليه وآله وسلم أين الرحل؟؟

فقالوا : يخوف أم أيوب قد ادخلته في بيتها.

فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « المرء مع رحله » وأخذ اسعدُ بن زرارة بزمام

ص: 622


1- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108 ولكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ إلى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.

الناقة فحوّلها إلى منزله (1).

أصل النفاق ومنشؤه :

كانت الأوس والخزرج قد اتفقتا على أن تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول ( رئيس المنافقين وكبيرهم ) عليهم ، وذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في العقبة وتؤمن به وتعتنق الإسلام ولكن هذا القرار اُلغي بعد اتصال الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من هنا حنق عبد اللّه بن أبي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم واضمر له العداوة منذ ذلك الحين ، ولم يؤمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى آخر حياته ، بل كان ينافق باسلامه.

ولما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المدينة وشاهد عبد اللّه بن اُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي قام بهما الأوس والخزرج ، شق عليه ذلك جداً ، ولم يستطع اخفاء حنقه وغضبه ، وحده وعداوته للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم!

فعندما انتهى صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى عبد اللّه بن اُبي - وقد أرخى صلى اللّه عليه وآله وسلم زمام ناقته لتبرك حيث تريد ، أخذ عبدُ اللّه كمّه ووضعه على أنفه ، وقد ثارت الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بنبرة اَلحانِق الغاضب : يا هذا إذهب إلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك ، فانزل عليهم ، ولاتُغشنا في ديارنا!!

فقام سعدُ بن عبادة - وقد خشي أن يسوء رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الموقف الوقِح الشِرير فقال : يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملِّكهُ علينا ، وهو يرى الآن أنّك قد سَلَبتهُ أمراً قد كان أشرفَ عليه (2).

ص: 623


1- تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 341.
2- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 108.

هذا ويتفق عامة المؤرخين وكتّاب السيرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل يثرب يومَ الجمعة ، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، وكانت هذه أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة ، وقد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة الّتي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل ، أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم.

وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته (1) كما أدرجها المجلسي في بحاره (2) أيضاً.

غير أن عبارات ومضامين الخطبة الّتي نقلها ابن هشام واثبتها في سيرته تختلف عما رواها واثبتها المجلسي ، وللاطلاع على ذلك يراجَع المصدران المذكوران.

ص: 624


1- السيرة النبوية : ج 1 ، ص 500 و 501.
2- بحار الأنوار : ج 19 ، ص 126.

الفهارس

اشارة

1 - فهرس الآيات القرآنية

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

3 - فهرس الأشعار

4 - فهرس الأعلام

5 - فهرس القبائل والاُمم

6 - فهرس الكنى والألقاب

7 - فهرس الوقائع والايام

8 - فهرس الأماكن والبلدان

9 - فهرس المذاهب والأديان ونظم الحكم

10 - فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة

11 - فهرس المواضيع

ص: 625

ص: 626

( 1 ) فهرس الآيات القرآنية

البقرة - 2

الآية رقمها الصفحة

وآتينا عيسى بن مريم البيّنات 78 241

ولما جائهم كتاب من عند اللّه 89 281 و 350

رب الجعل هذا بلداً آمنا 126 142 و 145

ربنا وابعث فيهم رسولاً 129 350

إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي 133 131

إني جاعلك للناس إماما 134 240

وما كان اللّه ليضيع ايمانكم 143 308

الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه 146 349

ان الذين يكتمون ما انزل اللّه 174 349

شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن 185 344

قل هي مواقيت للناس 189 606

ومن الناس من يعجبك قوله 204 595

كان الناس امّة واحدة 213 316

يسألونك عن الخمر 219 45

واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فامسكوهن 231 63

واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فلا تعضلوهن 233 62

قالوا انما البيع مثل الربا 275 49

واحل اللّه البيع 275 50

يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا 278 و 279 49

ص: 627

آل عمران - 3

وكفلناهم زكريا كلما دخل عليه المحراب 37 223

يا مريم ان اللّه اصطفاك وطهرك 42 241

وانبئكم بما تآكلون وما تدخرون في بيوتكم 49 479

فمن حاجك من بعد ما جاءك من البينات 61 479

ولكن كان حنيفاً مسلماً 67 240

واذ أخذ اللّه ميثاق النبيين 81 348

وما كان لنفس ان تموت الا باذن اللّه 145 355

واعتصموا بحبل اللّه جميعاً 153 42

وكنتم على شفا حفرة من النار 153 66

لقد من اللّه على المؤمنين اذ بعث فيهم 164 350

واذ اخذ اللّه ميهثاق الذين اوتوا الكتاب 187 349

النساء - 4

يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم 19 63

ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم 22 69

كلما نضجت جلدوهم بدلنا هم جلوداً غيرها 56 441

ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً 82 449

انما المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه وكلمته 171 241

المائدة - 5

حرمت عليكم الميتة 3 47

وقالوا ءاذا ضللنا في الأرض 45 475

ما المسيح بن مريم إلّا رسول 75 101

انما الخمر والميسر والانصاب 90 302

ما جعل اللّه من بحير ولا... 103 44

واذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل اللّه 104 475

الأنعام - 6

ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس 7 436

وقالوا لولا انزل عليه ملك 8 475

ص: 628

واُحي إليّ هذا القرآن 19 351

إن اتبع الّا ما يوحى اليّ 50 328

لئن لم يهدني ربي 77 121

اني وجهت وجهي للذي فطرني 79 125

ووهبنا له اسحاق ويعقوب ... 84 239

وجعلوا له شركاء الجن وخلقهم 100 43

الأعراف - 7

وقال الملأ من قوم فرعون اتذر موسى وقومه 127 121

ويضع عنهم إصره والاغلال 157 45 و 67 و 63

الذين يتبعون النبي الاُمي 157 224

فالذين امنوا به وعزروه 157 258

الأنفال - 8

واذ يمكر بك الذين كفروا 30 586

التوبة - 9

ان عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً 36 245

انما النسيء زيادة في الكفر 37 49 و 256

لا تحزن ان اللّه معنا 40 601

ان ابراهيم لأواه حليم 84 240

والسابقون الاولون من المهاجرين 100 419

وما كان المؤمنون لينفروا كافة 122 355

وما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين 113 - 114 132

يونس - 10

واذ تتلى عليهم آياتنا بينات ... 15 310 و 476

قل لو شاء اللّه ما تلوته 16 242 و 300 و 297

هود - 11

ام يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور 13 472

تلك من انباء الغيب نوحيها اليك 49 356

ص: 629

الرعد - 13

ولقد ارسلنا رسلاً من قبلك 38 - 40 438

إبراهيم - 14

رب اجعل هذا بلداً آمنا 35 145

ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد 37 142

الحجر - 15

وقالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون 6 472 و 332

انا نحن نزلنا عليك الذكر واناله لحافظون 9 491

ان عبادي ليس لك عليهم سلطان 42 496

فاصدع بما تؤمر 94 392

انا كفيناك المستهزئين 95 413

النحل - 16

واذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسوداً 58 و 59 6

انه ليس له سلكان على الذين آمنوا 99 496

ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر 103 235 و 471

انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون ... 105 و 106 417

ان ابراهيم كان اُمة قانتا لله 120 240

واصبرو ما صبرك إلّا باللّه 127 477

الإسراء - 17

سبحان الذي اسرى بعبده ليلا 1 478 و 538 و 548

قل لئن اجتمعت الانس والجن 88 181

وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأَرض 90 و 63 433 و 435 و 436 و 477

وقرآنا فرقنناه لتقرأه على مكث 385 443

الكهف - 18

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم 28 477

مريم - 19

يا يحيى خذ الكتاب بقوة 12 295

ص: 630

ولم يجعلني جباراً شقيا ... 14 و 15 242

واذكر في الكتاب مريم اذ ... 16 - 33 201 و 222 و 295

اذ قال لابيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع 42 - 47 130

طه - 20

طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى ... 1 - 8 426

اذ تمشي اختك فتقول هل ادلكم على ... 37 - 40 200

ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ... 50 314

ولا تجعل بالقرآن قبل ان يقضى اليك ... 114 346

الأنبياء - 21

بل قالوا أضغاث أحلام 5 331

ولقد آتينا إبراهيم رشده ... 51 - 70 37

وتاللّه لاكيدن اصنامكم 57 138

فرجعوا الى انفسهم فقالوا 64 139

ولسليمان الريح عاصفة 81 238

الفرقان - 25

تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ... 1 351

وقال الذين كفروا ان هذا إلا افك ... 4 - 6 303 - 304 و 472

وقالوا اساطير الاولين اكتتبها ... 5 - 6 474

وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام 7 475

لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة 32 443

كذلك انثبت به فؤادك 32 442 و 445

ورتلناه ترتيلا 32 441

الشعراء - 26

قالوا انما انت من المسحرين 153 472

نزل با الروح الامين على قلبك 193 - 195 336

وانذر عشيرتك الاقربين 214 128 و 392

وتقلبك في الساجدين 219 195

ص: 631

النمل - 27

ولقد آتينا داوود وسليمان علماً 15 238

القصص - 28

وقال فرعون يا ايها الملأ ما علمت لكم من إله غيري 38 121

وما كنت بجانب الطور 46 308

ولكن رحمة من ربك 46 42

وما كنت ترجو ان يلقى اليك الكتاب 86 297 و 308

فلا تكونن ظهيراً للكافرين 86 301

الأحزاب - 33

ما كان محمَّد أبا أحد من رجالكم 40 351

سبأ - 34

وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل 7 و 8 44

لقد كان لسبأ في مسكنهم آية 15 33

وما أرسلناك إلّا كافة للناس 28 351

فاطر - 35

والذين كفروا لهم نار جهنم 36 533

يس - 36

فجعلنا من بين ايديهم ... فهم لا يبصرون 9 588

ص - 38

وعجبوا ان جاءهم منذر ... 5 و 6 475

واذكر عبدنا ابراهيم ... 45 - 46 239

وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار 48 240

فصّلت - 41

حم تنزيل من الرحمان الرحيم ... 1 - 5 431

ان الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا 30 453

الفتح - 48

ولله جنود السماوات والأرض 4 177

ص: 632

الطور - 52

فذكر فما انت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون 29 472

النجم - 53

والنجم اذا هوى ... 1 - 5 332

وما ينطق عن الهوى ... ان هو الا وحي 3 و 4 49

ان هو الا وحي يوحى 4 328

أفرأيتم اللات والعزى ... ومناة الثالثة الاُخرى 19 و 20 43 و 493

افتمارونه على ما يرى 12 ، 18 539

الصف - 61

واذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل 6 379

وعجبوا أن جاءهم منذر 48 475

القلم - 68

وانك لعلى خلق عظيم 4 259

واصبرو ما صبرك إلا باللّه ولا تحزن 48 477

الحاقة - 69

ولا بقول كاهن ... 42 472

المزمّل - 73

فاصبر لحكم ربك 10 477

المدثر - 74

يا ايها المدثر قم فانذر 1 و 3 379

وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر 4 - 5 297

والرجز فاهجر 5 301

ذرني ومن خلقت وحيداً ... 11 - 30 430

ذرني ومن خلقت وحيداً ... 11 - 51 469

* * *

ص: 633

النازعات - 79

فالمدبرات أمراً 5 177

انا ربكم الاعلى 24 121

عبس - 80

عبسى وتولى ان جاءه الأعمى ... 1 - 11 481

التكوير - 81

واذ الموؤدة سئلت 8 58

انه لقول رسول كريم ... 20 - 28 332

البروج - 85

قتل أصحاب الاُخدود 4 - 9 161

الضحى - 93

والضحى والليل اذا سجى ... 1 -11 380

الم يجدك يتيماً فآوى ... 6 - 7 297

ووجدك ضالاً فهدى ... 8 298

الانشراح - 94

الم نشحر لك صدرك 1 - 4 300

ورفعنا لك ذكرك 4 209

العلق - 96

اقرأ باسم ربك الذي خلق ... 1 - 5 322

القدر - 97

انا انزلناه في ليلة القدر 1 - 3 344

الفيل - 105

الم تركيف فعل ربك باصحاب الفيل ... 1 - 5 165

الكوثر - 108

انا اعطيناك الكوثر 1 - 4 509

ص: 634

الكافرون - 109

قل يا ايها الكافرون 476

المسد - 111

تبت يدا أبي لهب وتب ... 1 - 5 414

ص: 635

( 2 ) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث القائل الصفحة

آمنت قبل الناس بسبع سنين (علي) 362

اتعلمون أنّ اللّه فضّل في كتابه السابق ... (علي) 363

اجتمعت على هذه الاُمة مصيبتان ... (النبي) 364

أخذ اللّه على الوحي ميثاقهم ... (علي) 316

أرأيتكم إن اخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم (النبي) 401

أرسله على حين فترة من الرسل (علي) 92

أرسله بالضياء وقدمه في الاصطفاء (علي) 94

اُرسلت إلى الناس كافّة (النبي) 351

استرضع لولدك بلبن الحسان (الباقر) 218

أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين (علي) 316

اضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة (علي) 94

اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي من لا يشرك (النبي) 533

أفضل نساء اُمتي أربع ... (النبي) 259

العيافة والطيرة والطرق من الجبت ... (النبي) 82

اللّهم أنيس المستوحشين (النبي) 287

اللّهم لا أعرف عبداً من هذه الاُمة عبدك ... (علي) 362

اللّه اكفني شرّ سراقة بما شئت (النبي) 615

اللّهم بارك لها في شاتها (النبي) 617

إلى شهادة ان لا اله الّا اللّه (النبي) 51

ص: 636

الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء ( النبي ) 563

أما واللّه لاستغفرنّ لك ولاشغعن فيك شفاعة ( النبي ) 529

أمنكم أحدٌ أسلم مع رسول اللّه ( علي ) 361

أنا أوّل رجل أسلم مع رسول اللّه ( علي ) 361

أنا اول من اسلم مع النبي ( علي ) 361

أنا اول من صلّى مع رسول اللّه ( علي ) 361

أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم الى ... ( النبي ) 567

انا الصديق الاكبر آمنت قبل ان يؤمن ابو بكر ( علي ) 361

انتم على قومكم بما فيكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ( النبي ) 572

أنشدكم اللّه أيها الرهط اتعلمون أنّ ... ( علي ) 364

أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه ( علي ) 357

أنا عبد اللّه واخو رسول اللّه وانا الصديق الاكبر ( علي ) 361

انا يا رسول اللّه اكون وزيرك على ما بعثك اللّه ( علي ) 395

اُنظروا من يرضع أولادكم ( علي ) 218

انّ أولى الناس بامر هذه قديماً وحديثا ( علي ) 362

ان كثيراً من التمائم شرك ( النبي ) 82

إنّ اللّه بعث محمَّداً نذيراً للعالمين ( النبي ) ( علي ) 348

انّ اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده ( النبي ) 348

انّ الرائد لا يكذب أهله ( النبي ) 394

إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف (الصادق) 530

إنّ محمَّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما دعى إلى الايمان والتوحيد ( علي ) 363

إنّ اللّه لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان (الكاظم) 553

إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ( النبي ) 398

أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي اللّه ( علي ) 588

أوّلكم وارداً عليّ الحوض اولكم اسلاماً ( النبي ) 358

ص: 637

أي بني أني وان لم اكن عمّرت عمر من... ( علي ) 11

أيّها الذاكر عليا انا الحسن بن علي ( الحسن ) 269

أيّها الناس ان الشمس والقمر آيتان ( النبي ) 69

ثم إن اللّه سبحانه بعث محمَّداً ( علي ) 94

حجّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر حجات (الصادق) 294

زوّجتك خير اُمتي اعلمهم علماً ( النبي ) 359

صبراً آل ياسر فان موعدكم الجنة ( النبي ) 416

صليت مع رسول اللّه ثلاث سنين قبل أن ... ( علي ) 363

عبدت اللّه مع رسول اللّه ( علي ) 361

عبدت اللّه قبل ان يعبده احد من هذا الاُمة ( علي ) 362

فاني منطلق إلى ابن عمي رسول اللّه ( علي ) 619

فبلغ بالرسالة صادعاً بالنذارة (الزهراء) 95

فلما بعث اللّه محمَّداً للنبوة واختاره للرسالة ( علي ) 364

في أصلاب النبيين نبي بعد نبي (الصادق) 195

قولوا لا اله إلاّ اللّه تفلحوا ... ( النبي ) 562

كنا اذا احمرّ البأس اتقينا برسول ( علي ) 244

لا تبكي يا بنيّة فان اللّه مانع اباك ( النبي ) 556

لا تسترضعوا الحمقاء ( الباقر ) 218

لا واللّه ان كنت أول من صدّق به ( علي ) 362

لا واللّه ما ابدلني اللّه خيراً منها ( النبي ) 262

للدابة على صاحبها ست خصال ( النبي ) 80

لقد صلّت الملائكة عليَّ ، وعلى عليّ ( النبي ) 360

لم اُؤمر بذلك ( قالها النبي في جواب من خطب فاطمة ) ( النبي ) 360

لم يكن معي من الرجال غيره ( علي ) 360

لو كان مطعم بن عدي حياً لوهبت ... ( النبي ) 561

لو وضع ايمان ابي طالب في كفة ميزان ... ( الباقر ) 529

ص: 638

ما أعرف أحداً من هذه الامة عبد اللّه بعد نبينا غيزي ( علي ) 362

ما من لبن يرضع به الصبي اعظم بركة من لبن اَمه ( علي ) 218

ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ( النبي ) 252

مستقره خير مستقر ( علي ) 93

من يؤازرني يكون أخي ووصيي وخليفتي ( النبي ) 398

مهلاً يا أماه فان معي من يحفظني ( النبي ) 293

موعدكم العقبه في الليلة الوسطى ( النبي ) 571

نم في فراشي فانه لا يخلص اليك شيء ( النبي ) 571

واشهد أن محمَّداً عبده ورسوله ( علي ) 92

واشهد أن محمَّداً عبده ورسوله ابتعثه والناس ... ( علي ) 94

واشهد أن محمَّداً عبده ورسوله وسيد عباده ( علي ) 195

وشفاعتي لمن شهد ان لا اله الاّ اللّه مخلصاً ( النبي ) 533

وكيف ينزل عليّ وانتم لا تقصّون أظافركم ( النبي ) 382

ولقد قرن اللّه به من لدن كان فطيماً ملكاً ( علي ) 294

ولقد علمتم موضعي من رسول اللّه ( علي ) 286

يا اُماه لا ارى اخويّ في النهار ( النبي ) 70

يا حميراء ان اللّه تبارك وتعالى بارك في ... ( النبي ) 263

يا علي أخصمك بالنبوة ولا نبوة بعدي ( النبي ) 360

يا علي ان قريشاً اجتمعت على المكر بي... ( النبي ) 588

يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيه احد ( النبي ) 360

يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر ... ( النبي ) 405

ص: 639

( 3 ) فهرس الأشعار

أحلامكم لسهام الجهل شافية 77

أبني لا تنس البليّة إنها 74

ابونا شفيع الناس حين سقوا به 288

اذا اختلجت عيني اقول لعلها 79

اذا اختلجت عيني تيقنت انني 79

اذا متّ فادفني بحرّاء ما بها 74

اذا متّ فادفني الى جنب كرمة 67

أربا واحداً ام الف رب 283،55

اصبرن يا بنيّ فاللصبر احجى 514

ألا ان خير الناس بعد محمَّد 373

ألا حلأ في شقه مشقوقة 77

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر 460

ألا هل اتى بحريتنا صنع ربنا 508

ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّداً 521

أليس أول من صلى لقبلتكم 372

اما الحرام فالممات دونه 291

انا اخو المصطفى لا شك في نسبي 292،363

انت الجليل ربنا لم تدنس 185

إن صح ما أبصرت في المنام 185

ص: 640

أنّ آيات ربنا بينات 185

إن ابن آمنة النبي محمَّد 518،72

انّ عليا لميمون نقيبته 372

إنّ الفراغ والشباب والجدة 275

إنّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا 249

ان الذين سموا باسم محمَّد 211

اُوصيك يا عبد مناف بعدي 289

ان يكن ما اتى به احمد اليوم 213

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا 287

بناة مكارم واُساة جرح 77

تشاجرت الاحياء في فصل خطة 285

تظل مقاليت النساء يطأْنه 76

حلفت انعقدن حلفاً عليهم 249

خانبه لما رأت شيباً بمفرقه 75

خلوا سبيل الجاهد المجاهد 618

دعانا الزبير الى بيعة 374

دعوت ابا المغوار في الحضر دعوة 78

رأيت عليّاً لا يلبّث قرنه 372

سبقتكم الى الاسلام طراً 363

سقته اباة الشمس إلا لثاثة 76

سُلِط الموت والمنون عليه 56

شادن يحلو اذا ما ابتمست 76

صحوت واوقدت للجهل ناراً 79

صلى الآله ومن يحيق بعرشه 214

طلع البدر علينا 622

فالزمتني دنباً وغيري جرّه 73

ص: 641

فاني اذاً كالثور يضرب جنبه 72

فان يك حقا يا خديجة فاعلمي 215

فحوطوا عليا فانصوره فانه 373

فشق له من اسمه ليجلّه 211

فصلّى الاله على أحمد 374

ففي كف احمد قد سبّحت 214

فقل للمضلل من وائل 374

فلا تحسبونا خاذلين محمداً 514

فلا تجعلوها كالبقير وفحلها 73

فليت لي بهمو قوماً اذا ركبوا 66

فلو ان عندي جارتين وراقياً 76

فهذا نبي اللّه أحمد سبّحت 214

فيا رب ان اهلك ولم ترو هامتي 56

فياليت ان الجن جازوا حمالتي 78

قالوا وقد طال عنائي والسقم 78

قد استعذنا بعظيم الوادي 79

قلبت ثيابي والظنون تجول بي 75

قل للقوافل والغزاة إذا غزوا 74

قف عند رأيك واجتهد 519

كذاك الثور يضرب بالهراوى 72

كذبتم وبيت اللّه بنزى محمَّداً 517

كمن يكوي الصحيح يروم برء 73

لاتحسبن رثائماً عقّدتها 75

لعمري ان عشرت من خيفة الردى 75

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد 214

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة 374

ص: 642

لكل ابي بنت يراعى شؤونها 63

ليت الغراب غداة ينعب دائباً 80

ليعلم خيار الناس ان محمَّداً 521

ما كنت احسب ان الأمر منصرف 372

مع ابن عم احمد المعلى 269

مفجعة قد شفها فقد أحمد 214

من فيه ما فيهم ما تمترون به 373

نبياً يرى مالا يرون وذكره 484

نجسته لا ينفع التنجيس 76

هذا علي وابن عم المصطفى 371

هذا علي والهدى حقاً معه 373

وابيض يستسقى الغمام بوجهه 516،290

وإن علياً لكم مصحر 373

وساحرة عينيّ لو أنّ عينها 80

وان ولى الأمر من بعد محمَّد 371

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى 599

واللّه لو كنت الها لم تكن ولا ينفع التعشير ان حمّ واقع 74

ولو لا أبو طالب وابنه 533

وكلّفتني ذنب امرئ وتركته 73

وكم شققنا من رداء محبّر 77

وكم ناديته والليل ساج 78

وصي رسول اللّه من دون أهله 372

يا آل فهر لمظلوم بضاعته 249

يا راكبا بلغن عني مغلغلة 455

يا رب يا رب انت مولاه 269

ص: 643

يا رب لا أرجو لهم سواكا 287

يا رب ردّ راكبي محمَّدا 299

يا عجبا لهذه الفليقة 78

يا كحل قد اثقلت اذناب البقر 72

ص: 644

( 4 ) فهرس الأعلام

( أ )

آپولو 551.

آزر 122 ، 124 ، 130 ، 131 ، 132 ، 133 ، 140.

إبراهيم ( الخليل ) 29 ، 37 ، 48 ، 51 ، 54 ، 59 ، 89 ، 119 ، 120 ، 122 ، 123 ، 124 ، 125 ، 126 ، 127 ، 129 ، 130 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 135 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 143 ، 144 ، 145 ، 162 ، 203 ، 239 ، 240 ، 271 ، 278 ، 282 ، 292 ، 350 ، 498.

ابراهيم ( بن رسول اللّه ) 96.

ابراهيم بن علي الدينوري 528.

أبرهة 159 ، 161 ، 162 ، 163 ، 164 ، 165 ، 169 ، 170 ، 182 ، 186 ، 187 ، 188 ، 286 ، 552 ، 593 ، 605.

ابن أبي شيبة 361 ، 377.

ابن أبي الحديد 214 ، 267 ، 269 ، 360 ، 361 ، 363 ، 364 ، 365 ، 368 ، 523.

ابن اسحاق ( صاحب السيرة ) 356 ، 371 ، 378.

ابن الاثير 170 ، 259 ، 357 ، 364 ، 413 ، 455 ، 598 ، 599 ، 602 ، 604 ، 612 ، 615 ، 619.

ابن اُم مكتوم 481.

ابن تيمية 395 ، 396 ، 397 ، 398 ، 600 ، 602.

ص: 645

ابن حجر 357.

ابن حذيفة الاسدي 373.

ان حنظلة 522.

ابن خلدون 16 ، 64.

ابن ربيعة 557 ، 558.

ابن الزبير 250.

ابن سعد ( صاحب الطبقات ) 358 ، 561.

ابن شهراشوب

ابن الصباغ المالكي 618.

ابن طاوس 258.

ابن طلحة ( الشافعي ) 363.

ابن عباس 60 ، 0164 ، 265 ، 266 ، 360 ، 363 ، 365 ، 368 ، 612.

ابن عبد البر 378.

ابن كثير الشامي 410 ، 516.

ابن ماجة ( صاحب السنن ) 361.

ابن مزاحم ( مؤلف وقعة صفين ) 362 ، 363 ، 366.

ابن المغازلي 360.

ابن مغيرة المخزومي 284.

ابن هشام ( المؤرخ ) 214 ، 244 ، 250 ، 268 ، 272 ، 281 ، 283 ، 296 ، 341 ، 377 ، 416 ، 423 ، 424 ، 427 ، 455 ، 468 ، 508 ، 521 ، 241 ، 263 ، 577 ، 598 ، 599 ، 600 ، 604 ، 624.

ابن الوليد 431.

اُبي بن خلف

أحمد الاحسائي 547.

أحمد ( اسم النبي ) 212 ، 213 ، 214.

أحمد بن حنبل 531 ، 532.

ص: 646

أحمد بن معين بن خراش 531.

أحمد بن عبد الحليم الحراني 596.

الاخنس بن شريق 439 ، 483.

أردشير بابك 112.

أرقم بن أبي الارقم 388 ، 416.

اُريقط 603.

اساف ( صنم ) 90.

اسبوتنيك 551.

اسحاق المدني 371.

أسعد بن زرارة 50 ، 51 ، 52 ، 569 ، 571 ، 578 ، 623.

إسفنديار 473.

إسماعيل ( النبيّ ) 30 ، 36 ، 37 ، 48 ، 52 ، 89 ، 119 ، 131 ، 141 ، 142 ، 143 ، 144 ، 145 ، 146 ، 149 ، 155 ، 158 ، 188 ، 192 ، 205 ، 350.

الاسكندر 613.

الأسود بن المطلب 488.

الأسود بن يغوث 423.

اسيد بن خضير 597.

إلياس ( جد النبيّ ) 146.

اُمية بن أبي الصلت 439.

اُمية بن خلف 390 ، 415 ، 488.

اُمية بن عبد شمس 150.

أنس بن رافع 567.

أنس بن مالك 261 ، 269 ، 364 ، 611.

انوشيروان 102 ، 105 ، 106 ، 107 ، 108 ، 115 ، 116 ، 117 ، 202.

اياس بن معاذ 567.

ص: 647

( ب )

بحيرى ( الراهب ) 231 ، 232 ، 233 ، 234 ، 275.

بدر من معشر 246.

البراء بن معرور 571.

البراق 535.

البراض بن قيس الكناني 247.

بركة 291.

بريد الاسلمي 365.

بلال الحبشي 415.

( ت )

تبان اسعد 160.

توماس كارليل 85.

تيباريومس ( الامبراطور ) 116.

( ج )

جابر بن عبد اللّه الانصاري 260 ، 362 ، 364.

جاجارين ( رائد فضائي ) 551.

جبر ( الغلام المسيحي ).

جبرئيل 261 ، 267 ، 286 ، 294 ، 321 ، 322 ، 327 ، 382 ، 383 ، 386 ، 364 ، 507 ، 535 ، 539 ، 585 ، 587 ، 600 ، 601.

جعفر بن أبي طالب 96 ، 214 ، 258 ، 285 ، 286 ، 300 ، 454 ، 457 ، 458 ، 460 ، 469 ، 493.

جعفر بن محمَّد ( الامام ) 179 ، 195 ، 263 ، 275 ، 294 ، 529.

جلال الدين الطوسي 292.

جندب بن زهير 373.

جنيد بن عبد الرحمان 376.

جواد علي ( مؤلف ) 91.

ص: 648

جونس ( دكتر مارسدن ) 611.

( ح )

الحارث بن عبد المطلب 155.

الحارث بن كلدة 18 ، 156 ، 504.

الحارث بن نوفل 441.

حبيب بن اُويس 57.

الحجاج 375.

حجر بن معاذ الغفراني 622.

حذيفة الغدر 65.

حذيفة بن اليمان 263.

حرب بن اُميّة 151 ، 154 ، 211 ، 214 ، 361 ، 373.

الحسن بن علي ( الإمام ) عليه السلام 250 ، 269 ، 357 ، 364 ، 376.

الحسين بن علي ( الإمام ) عليه السلام 250 ، 269 ، 377 ، 611.

حضير 574.

حكيم بن حزام 279 ، 280 ، 503 ، 504.

حكيم مولى زاذان 361.

حمزة ( عم النبيّ ) 190 ، 215 ، 273 ، 286 ، 409 ، 410 ، 411 ، 425.

حناطة 162.

حمزة الاصفهاني 88 ، 103.

حيدة بن معاوية العامري 299.

( خ )

خالد بن الوليد 610.

خالد ( حكيم العرب ) 480.

خالد بن زيد 622.

خباب بن الارت 422 ، 425 ، 426.

خزيمة ( جد النبيّ ) 146.

ص: 649

خزيمة بن ثابت 372.

خسرو پرويز 88 ، 101 ، 102 ، 103 ، 110 ، 111 ، 113 ، 117 ، 118 ، 452.

الخطاب 424.

خلف 423.

الخميني ( الإمام ) 615.

خويلد 262 ، 263 ، 264 ، 266 ، 267 ، 273 ، 367 ، 383.

( د )

داود ( النبيّ ) 237.

داود بن أبي هند 360.

ديمتريوس 31.

ديودورس 31.

( ذ )

ذونفر 162.

ذونواس 161.

ذوالخلصة ( صنم ) 91.

( ر )

ربيع بن الحرث 372 ، 557.

ربيعة 147 ، 376 ، 558 ، 559 ، 618.

رستم 471 ، 474.

رينان ( مسيو ) 85.

( ز )

الزبير بين عبد المطلب 249.

زرارة بن اعين 342.

زفر بن يزيد 373.

زكريا ( النبيّ ) 174 ، 223 ، 295.

زمعة بن الاسود 500.

ص: 650

زياد بن ابيه 595.

زيد بن ارقم 356 ، 365.

زيد بن حارثة 354 ، 356 ، 378 ، 522.

زيد بن عمرو بن نفيل 224 ، 282.

زيني دحلان ( المؤرخ ) 289 ، 524.

الزهره ( كوكب ) 125.

زهير بن أبي امية 504 ، 505 ، 506.

( س )

سالم بن أبي جعد.

سالمين ( محمَّد علي ) 60.

سراقة بن مالك بن جعشم 615.

سعد ( صنم ) 90.

سعد بن أبي وقاص 81 ، 387 ، 388 ، 503.

سعد بن معاذ 578.

سعيد بن زيد 388 ، 424 ، 425 ، 426.

سعيد بن قيس الهمداني 371.

صفيان بن سعيد الثوري 530 ، 531.

سلامة ( بولس ) 511.

سلمان الفارسي 367 ، 609.

سلمة بن كهيل 361.

سليمان 237 ، 238.

سمرة بن جندب 594 ، 595 ، 596.

سويد بن صامت 566.

سهل وسهيل 622.

سهيل ( كوكب ) 52.

ص: 651

سيد قطب 182 ، 184.

( ش )

شنفرة 65.

شهر بزاز ( أخ سلمان ) 111.

شيبة بن ربيعة 152 ، 376 ، 557 ، 558.

شيث ( النبيّ ) 371.

شيرويه 111 ، 118.

(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الصدى ( طائر خرافي ) 56.

صدر الدين الشيرازي ( الفيلسوف ) بن ناجية 46.

الصلت بن أبي يهاب 265.

( ط )

طارق بن شهاب الاحمس 370.

طالب 51.

الطاهر ( بن النبيّ ) 278.

الطفيل بن عمرو الدوسي 542.

الطيب ( بن النبيّ ) 278.

(ع)

العاص بن وائل السهمي 249 ، 376 ، 411 ، 412 ، 422 ، 423 ، 432 ، 488 ، 504 ، 507.

عامر بن فهيرة 602.

عبادة بن الصامت 569.

عباس بن عبد المطلب ( عم النبيّ ) 262 ، 285 ، 286 ، 355 ، 357 ، 360 ، 420 ، 421 ، 471.

عبد الحليم ( الشيخ محمود ) 614.

عبد الدار 147 ، 148.

ص: 652

عبد الرحمان بن حنبل الجمحي 374.

عبد الرحمان بن عثمان 250.

عبد الرحمان بن عوف 378.

عبد الرحمان بن محمَّد الحضرمي المالكي ( القاضي ) = ابن خلدون.

عبد الرحمان بن ملجم 595.

عبد الرزاق 357.

عبد شمس 148 ، 149 ، 150 ، 468.

عبد اللّه ( بن النبيّ ) 278.

عبد اللّه ( والد النبيّ ) 146 ، 147 ، 157 ، 158 ، 189 ، 190 ، 191 ، 192 ، 193 ، 197 ، 196 ، 197 ، 215 ، 227 ، 228 ، 258 ، 260 ، 277 ، 279 ، 291 ، 292 ، 357 ، 388 ، 574.

عبد اللّه بن أبي بكر 602.

عبد اللّه بن أبي بن سلول 623.

عبد اللّه بن أبي خزرج 568.

عبد اللّه بن أبي سفيان 371.

عبد اللّه بي أبي شيبة 361.

عبد اللّه بن أبي رافع 470.

عبد اللّه بن انيس 611.

عبد اللّه البجلي 374.

عبد اللّه بن برير 371.

عبد اللّه بن الحارث 554.

عبد اللّه بن حجر 370.

عبد اللّه ( بن حليمة ) 215.

عبد اللّه بن حجش 282.

عبد اللّه بن جدعان 249 ، 459.

عبد اللّه بن خبابة 370 ، 371.

ص: 653

عبد اللّه بن ربيعة 456 ، 459.

عبد اللّه بن الزبير 250.

عبد اللّه بن عمرو بن محرم 186.

عبد اللّه بن مسعود 369 ، 417 ، 418.

عبد اللّه بن مظعون 388.

عبد الكريم الخطيب 600.

عبد الملك بن عمير 530 ، 531.

عبد المطلب ( جد النبيّ ) 51 ، 119 ، 146 ، 152 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 ، 162 ، 163 ، 164 ، 189 ، 190 ، 191 ، 192 ، 193 ، 197 ، 211 ، 213 ، 215 ، 216 ، 217 ، 223 ، 227 ، 228 ، 229 ، 230 ، 249 ، 257 ، 258 ، 286 ، 287 ، 289 ، 292 ، 299 ، 353 ، 382 ، 404 ، 409 ، 420 ، 425 ، 504 ، 513 ، 555 ، 563 ، 571.

عبد مناف 146 ، 147 ، 148 ، 149 ، 152 ، 190 ، 289 ، 441 ، 513.

عبد العزيز بن محمَّد الدراودي 530 ، 531.

عبيدة بن الحارث 388.

عبد الوهاب النجار 190 ، 194.

عتبة بن ربيعة 50 ، 430 ، 432 ، 557 ، 558.

عتيق بن عائذ 247.

عثمان بن حويرث 282.

عثمان بن عفان 252 ، 382 ، 388.

عثمان بن مظعون 388 ، 462.

عداس 558 ، 559.

عدنان 146.

عدي بن حاتم 370.

عروة الرجال 247.

العزّى ( صنم ) 54 ، 55 ، 90 ، 279 ، 293 ، 415 ، 488 ، 493.

ص: 654

عطارد 52.

عفيف الكندي 259 ، 357.

عقبة بن أبي معيط 258 ، 265 ، 413 ، 423 ، 462 ، 504 ، 522.

عكرمة 170 ، 262.

علي بن أبي طالب 91 ، 149 ، 195 ، 205 ، 217 ، 218 ، 243 ، 244 ، 255 ، 260 ، 266 ، 267 ، 268 ، 285 ، 286 ، 294 ، 316 ، 354 ، 356 ، 358 ، 359 ، 360 ، 361 ، 364 ، 366 ، 367 ، 369 ، 370 ، 371 ، 372 ، 374 ، 375 ، 376 ، 377 ، 378 ، 379 ، 381 ، 387 ، 394 ، 395 ، 397 ، 398 ، 425 ، 480 ، 506 ، 513 ، 514 ، 523 ، 524 ، 526 ، 529 ، 535 ، 542 ، 583 ، 578 ، 588 ، 590 ، 593 ، 594 ، 595 ، 596 ، 597 ، 598 ، 599 ، 600 ، 601 ، 602 ، 603 ، 609 ، 610 ، 613 ، 618 ، 619.

علي بن الحسين السجّاد ( الإمام ) 55.

علي بن موسى الرضا ( الإمام ) 300.

علي بن إبراهيم ( المفسر ) 588.

عماد الدين ابن كثير 248.

عمار بن ياسر

عمارة بن الوليد بن المغيرة 406.

عمر بن الخطاب 360 ، 368 ، 410 ، 412 ، 424 ، 426.

عمر رضا كحالة 427.

عمرو بن اسد 273.

عمرو بن الجموح 620 ، 621.

عمرو بن الحمق 371.

عمرو بن عاص 423 ، 456 ، 459.

عمرو بن لحي 53 ، 90.

عمرو الخزرجي 151.

عمرو العلا 148.

ص: 655

عميانس ( صنم ) 90 ، 161.

عياض ( القاضي ) 610.

عيسى بن مريم 201 ، 202 ، 203 ، 204 ، 240 ، 241 ، 295 ، 342 ، 358 ، 459 ، 498 ، 521 ، 571 ، 605.

( غ )

غالب 146.

الغرانيق 478 ، 489 ، 493 ، 494.

غسان 40 ، 87 ، 88 ، 89 ، 150.

غوستاف لوبون 41.

( ف )

فضل بن أبي لهب 373.

فضل بن الحارث 248.

فضر بن وداعة 248.

فضل بن جندب 162.

فلاماريون 100.

فريد وجدي ( محمد ) 544.

فهر ( جد النبيّ ) 146.

( ق )

القاسم ( بن رسول اللّه ) 263 ، 278.

القاصعة ( الخطبة ) 356.

قدامة بن مظعون 388.

القراريط 252.

قصي بن كلاب ( جد النبيّ ) 146 ، 147 ، 148 ، 155.

القمر 546 ، 551.

قيس بن زهير 65.

ص: 656

قيس بن عاصم 59.

قيصر 161 ، 357 ، 423.

قتاد بن دعامة 375.

( ك )

كعب ( جد النبيّ ) 146.

كعب بن زهير 372.

كعب الاحبار 477.

كعب بن مالك 214.

كلاب بن مرة ( جد النبيّ ) 146.

كنانة ( جد النبيّ ) 146.

كلثوم بن هرم 617.

( ل )

اللات ( صنم ) 54 ، 55 ، 90 ، 279 ، 293 ، 415 ، 488 ، 493.

لؤي 146.

لبيد ( الشاعر ) 461 ، 162.

لقمان 566.

اللوح المحفوظ 345.

( م )

مارسدن جونسن 611.

مالك ( جد النبيّ ) 146.

مالك بن الحارث الاشتر 369.

مالك بن عبادة 373.

المأمون 378.

ماني 113.

ماه بنداذ ( اخو سلمان ) 609.

مجاهد ( المفسّر ) 207.

ص: 657

محمَّد بن أبي بكر 371.

محمَّد بن أحمد الذهبي 531.

محمَّد بن اسحاق ( المؤرخ ) 266 ، 556.

محمَّد بن جرير الطبري 396.

محمَّد حسنين هيكل 182 ، 278 ، 280 ، 339 ، 341 ، 397.

محمَّد حميد اللّه ( مؤلف ) 609.

محمَّد بن حنفية 370.

محمَّد بن سلمة 611.

محمَّد بن مسلم 375.

محمَّد عبدة 168 ، 182 ، 183 ، 300.

محمَّد عزت نصر اللّه 214.

محمَّد المكندر المدني 371.

محمود الآلوسي 71.

محمود بن عبد الحليم 614.

مخرمة بن نوفل الزهري 250.

مدركة ( جدّ النبيّ ) 146.

مرّة ( جدّ النبيّ ) 146.

المريخ ( كوكب ) 546 ، 551.

مزدك 113 ، 114.

المسورة بن مخرمة

المسيح 54 ، 117 ، 167 ، 181 ، 195 ، 201 ، 222 ، 240 ، 259 ، 271 ، 296 ، 458 ، 459 ، 521 ، 525 ، 536 ، 612.

المشتري ( كوكب ) 52.

مصعب بن عمير 570 ، 578 ، 579.

مضاض بن عمرو الجرهمي 155.

مضر بن مزار ( جدّ النبيّ ) 146.

ص: 658

المطعم بن عدي 406 ، 501 ، 505 ، 560 ، 561 ، 577.

المطلب 148 ، 150 ، 152 ، 153.

معاذ بن جبل 71 ، 260 ، 360.

معاذ بن عمرو 620.

معاوية 269 ، 363 ، 364 ، 370 ، 371 ، 566 ، 594.

معد ( جد النبيّ ) 146.

المغيرة ( جد النبيّ ) 147.

المقداد بن عمرو 368.

المعداد السيوري 196.

الملاعلي القاري 610.

مناة ( صنم ) 54 ، 90 ، 488 ، 493.

مناف ( صنم ) 54 ، 91.

منذر بن عمر 577.

منصور بن عكرمة 501.

ميسرة ( غلام خديجة ) 256 ، 257 ، 270.

ميكائيل 600.

موسى بن جعفر ( الإمام ) 262 ، 553.

موسى ( النبيّ ) 121 ، 122 ، 158 ، 167 ، 181 ، 200 ، 201 ، 202 ، 203 ، 239 ، 262 ، 340 ، 341 ، 369 ، 475 ، 497 ، 521 ، 525 ، 573 ، 605.

( ن )

نائلة ( صنم ) 90.

ناصح ( غلام خديجة ) 256.

نزار ( جدّ النبيّ ) 146.

نصير الدين الطوسي 196.

النضر ( جدّ النبيّ ) 146.

ص: 659

النضر بن الحارث 432 ، 463 ، 473 ، 474.

النعمان بن المنذر 59 ، 88.

نعيم بن عبد اللّه 425.

نفيل بن حبيب الخثعمي 162.

النمرود بن كنعان 121 ، 122 ، 136 ، 138 ، 140.

نوح النبيّ 145 ، 251 ، 498.

نوفل بن عبد مناف 148 ، 149 ، 150.

( ه )

هارون ( النبيّ ) 341 ، 369.

هاشم بن عبد مناف ( جدّ النبيّ ) 146 ، 148 ، 149 ، 150 ، 151 ، 152 ، 290 ، 369 ، 372.

هاشم بن عتبة 369.

هامّة 82.

هبل ( صنم ) 54 ، 90.

هبيرة بن وهب المخزومي 285.

هرودتس 40 ، 41 ، 120.

هرقل 118.

هشام بن عمرو 504.

هند بن أبي هالة 599 ، 602.

( و )

ورقة بن نوفل 189 ، 192 ، 214 ، 270 ، 271 ، 273 ، 282 ، 238 ، 340 ، 341 ، 342 ، 390 ، 391 ، 415.

الوليد بن عتبة 250 ، 373 ، 481 ، 489.

الوليد بن المغيرة 283 ، 423 ، 439 ، 461 ، 462 ، 468 ، 469 ، 480 ، 488 ، 491 ، 492 ، 503.

وهب بن عبد مناف 190.

ص: 660

ويليام مويير ( السير ) 493.

( ي )

ياسر 416 ، 417.

يحيى بن زكريا ( النبيّ ) 259 ، 295 ، 296 ، 377.

يزدجرد 622 ، 624.

يعرب بن قحطان 36.

يعقوب ( النبيّ ) 238 ، 256.

يوسف 239.

يونس بن عبد الرحمان 553.

يونس بن متى ( النبيّ ) 558 ، 559.

النساء:

آسية بنت مزاحم 262 ، 263.

آمنة بنت وهب 190 ، 191 ، 192 ، 193 ، 196 ، 197 ، 206 ، 207 ، 212 ، 213 ، 227 ، 231 ، 291 ، 454 ، 518.

أسماء بنت عميس 260.

أنيسة بنت حليمة ( السعدية ) 215.

بلقيس 33.

ثويبة 215.

حليمة السعدية 70 ، 215 ، 216 ، 217 ، 221 ، 222 ، 223 ، 227 ، 277 ، 293.

خديجة بنت خويلد 191 ، 215 ، 254 ، 255 ، 256 ، 257 ، 258 ، 259 ، 260 ، 261 ، 262 ، 263 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 270 ، 271 ، 272 ، 273 ، 274 ، 276 ، 277 ، 278 ، 279 ، 280 ، 293 ، 322 ، 338 ، 339 ، 350 ، 353 ، 354 ، 356 ، 357 ، 366 ، 367 ، 375 ، 380 ، 381 ، 383 ، 384 ، 387 ، 503 ، 507 ، 555 ، 556 ، 599 ، 601.

ص: 661

خولة 382.

دلالة 190.

رقية ( بنت رسول اللّه ) 263 ، 278.

زينب ( بنت رسول اللّه ) 263 ، 278.

سارة ( زوجه الخليل ع ) 108 ، 141 ، 145 ، 239 ، 240.

سلمى ( زوجة هاشم ) 151 ، 152 ، 263.

سميّة ( زوجة ياسر ) 416 ، 417.

الشيماء ( بنت حليمة السعدية ) 215 ، 216.

عايشة بنت أبي بكر 261 ، 262 ، 263 ، 265 ، 267 ، 353.

عاتكة ( بنت عبد المطلب ) 215.

فاطمة بنت الخطاب 424 ، 425 ، 426.

فاطمة الخثعمية 191 ، 192 ، 193 ، 194.

فاطمة الزهراء (عليها السلام) ( بنت رسول اللّه - ص - ) 95 ، 265 ، 269 ، 278 ، 359 ، 360 ، 509 ، 602 ، 618.

فاطمة ( اٌم قصي بن كلاب ) 147.

فاطمة بنت أسد ( اٌم عليّ بن أبي طالب ) 529 ، 602.

فاطمة بنت الزبير 602 ، 618.

الفواطم 602.

مريم بنت عمران ( اُم السيد المسيح - ع - ) 54 ، 101 ، 201 ، 222 ، 223 ، 262 ، 263 ، 295 ، 458 ، 459 ، 521 ، 525 ، 571.

هاجر ( روجة الخليل - ع ) 37 ، 141 ، 142.

هندة 143 ، 144.

مارية القبطية 278.

معاذة بنت عبد اللّه العدوية 363.

نفيسة بنت عليّة 272.

ص: 662

( 5 ) فهرس القبائل والاٌمم

آل الرسول 57.

آل سعود 512.

آل ياسر 516.

اسلم ( قبيلة ) 283.

أصحاب الاخدود 161.

أصحاب الكهف 282.

الانصار 619.

الاوس والخزرج 30 ، 50 ، 90 ، 91565 ، 566 ، 567 ، 568 ، 571 ، 574 ، 575 ، 576 ، 620 ، 622 ، 623.

بنو اسرائيل 295 ، 498 ، 573.

بنو إسماعيل 573.

بنو افقم 162.

بنو امية 54 ، 149 ، 481.

بنو بكر 421.

بنو تميم 52 ، 59.

بنو جمح 374 ، 415.

بنو سالم بن عوف 624.

بنو سعد 216 ، 217 ، 222 ، 223 ، 224 ، 227.

ص: 663

بنو سلامان 65 ، 88.

بنو سلمة 620 ، 621.

بنو عامر 246 ، 563 ، 564.

بنو عبد الاشهل 567 ، 568 ، 569.

بنو عبد الدار 284.

بنو عبد مناف 505 ، 513.

بنو عبس 65.

بنو عدي 284 ، 291 ، 411.

بنو عمرو بن عوف 617 ، 622.

بنو قريظة 565.

بنو قينقاع 51 ، 565.

بنو كنانة 90 ، 146 ، 245 ،. بنو مخزوم 409.

بنو المطلب 501 ، 522 ، 563 ، 585.

بنو مليح 52.

بنو النضير 565.

بنو هاشم 37 ، 51 ، 153 ، 217 ، 230 ، 255 ، 273 ، 290 ، 354 ، 355 ، 394 ، 408 ، 412 ، 413 ، 440 ، 450 ، 501 ، 502 ، 503 ، 504 ، 506 ، 508 ، 520 ، 522 ، 537 ، 584 ، 858 ، 590 ، 601 ، 602.

تبابعة 32.

ثقيف ( قبيلة ) 557.

ثمود ( قوم ) 36 ، 233.

جرهم ( قبيلة ) 37 ، 154 ، 155.

حمير ( قبيلة ) 52.

خزاعة 90 ، 154 ، 155 ، 560 ، 584.

دوس ( قبيلة ) 161.

ص: 664

الروم 40 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 98 ، 99 ، 100 ، 101 ، 102 ، 105 ، 106 ، 116 ، 117 ، 118 ، 160.

الساسانيون 88 ، 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 110 ، 111 ، 112 ، 115.

سعد بن بكر ( قبيلة ) 215.

عاد ( قوم ) 36 ، 233.

العدنانيون 113 ، 114 ، 115.

العرب البائدة 36 ، 37 ، 38.

العمالقة 30.

الغساسنة 40 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 150 ، 187.

القحطانيون 36 ، 565.

قريش 37 ، 43 ، 45 ، 91 ، 96 ، 147 ، 149 ، 150 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 ، 162 ، 163 ، 164 ، 170 ، 186 ، 189 ، 190 ؛ 207 ، 211 ، 214 ، 215 ، 227 ، 230 ، 231 ، 234 ، 235 ، 240 ، 244 ، 246 ، 247 ، 249 ، 253 ، 256 ، 257 ، 258 ، 259 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 270 ، 271 ، 272 ، 273 ، 274 ، 276 ، 277 ، 280 ، 281 ، 283 ، 284 ، 285 ، 286 ، 287 ، 290 ، 295 ، 302 ، 319 ، 321 ، 354 ، 355 ، 460 ، 368 ، 381388 ، 390 ، 391 ، 402 ، 403 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 408 ، 409 ، 410 ، 411 ، 412 ، 413 ، 417 ، 418 ، 419 ، 420 ، 421 ، 423 ، 425 ، 429 ، 430 ، 432 ، 436 ، 440 ، 450 ، 451 ، 452 ، 453 ، 455 ، 456 ، 457 ، 458460 ، 461 ، 462 ، 463 ، 464 ، 465 ، 466 ، 467 ، 469 ، 470 ، 471 ، 473 ، 747 ، 480 ، 483 ، 484 ، 485 ، 488 ، 490 ، 492 ، 493 ، 500 ، 501 ، 502 ، 503 ، 55504 ، 505 ، 506 ، 507 ، 508 ، 511 ، 513 ، 514 ، 516 ، 521 ، 522 ، 527 ، 528 ، 536 ، 539 ، 541 ، 542 ، 543 ، 544 ، 555 ، 556 ، 557 ، 557 ، 559 ، 560 ، 561 ، 563 ، 567 ، 575 ، 577 ، 580 ، 571 ، 583 ، 584 ، 585 ،

ص: 665

587 ، 588 ، 589 ، 591 ، 592 ، 601 ، 604 ، 615 ، 616.

كنانة ( قبيلة ) 245 ، 246.

مذحج ( قبيلة ) 243.

المناذرة 617.

اللخميّون 88 ، 89.

ص: 666

( 6 ) الكنى والألقاب

« الكنى »

الرجال

أبو أحيحة 54.

أبو الاسود الدؤلي 373.

أبو امامة ( ابن النقاش ) 267.

أبو اُمية ( ابن مغيرة المخزومي ) 284.

أبو أيوب ( الانصاري ) 360 ، 369 ، 622.

أبو البختري 432 ، 504 ، 584.

أبو بصير = اعشى بن قيس 485 ، 505.

أبو بكر ( ابن أبي قحافة ) 354 ، 360 ، 363 ، 368 ، 370 ، 371 ، 373 ، 378 ، 388 ، 410 ، 411 ، 418 ، 425 ، 483 ، 590 ، 592 ، 602.

ابو تراب ( علي بن أبي طالب ) 376 ، 377.

أبو تمام ( الشاعر ) 57.

أبو جعفر الاسكافي 397.

أبو جهل 258 ، 265 ، 267 ، 302 ، 358 ، 409 ، 410 ، 412 ، 415 ، 417 ، 422 ، 423 ، 429 ، 430 ، 432 ، 439 ، 462 ، 463 ، 483 ، 504 ، 505 ، 522 ، 584 ، 585.

أبو حاتم 531 ، 532.

أبو حازم 375.

أبو الحسن البكري 270.

ص: 667

أبو حكيم 409.

أبو حنظلة 522.

أبو دواد 361.

أبوذر الغفاري 368 ، 371 ، 418 ، 419 ، 420 ، 421 ، 533.

أبو ذؤيب 215.

أبو رافع الطبراني الهيثمي 362 ، 365 ، 367 ، 369.

أبو رغال ( ثقيف ) 162.

أبو زرعة 260 ، 532.

أبو سعيد الخدري 360 ، 368 ، 378.

أبو سفيان 54 ، 189 ، 258 ، 265 ، 371 ، 373 ، 390 ، 432 ، 483 ، 537 ، 560.

أبو سلمة 388.

أبو طالب ( عم رسول اللّه ) 119 ، 149 ، 213 ، 214 ، 229 ، 230 ، 231 ، 232 ، 234 ، 254 ، 255 ، 258 ، 264 ، 266 ، 267 ، 273 ، 286 ، 288 ، 20 ، 293 ، 299 ، 355 ، 356 ، 371 ، 377 ، 379 ، 387 ، 394 ، 395 ، 398 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 408 ، 412 ، 459 ، 460 ، 501 ، 506 ، 507 ، 508 ، 511 ، 512 ، 513 ، 514 ، 515 ، 516 ، 517 ، 518 ، 519 ، 520 ، 521 ، 522 ، 523 ، 524 ، 526 ، 527 ، 528 ، 529 ، 530 ، 532 ، 533 ، 541 ، 542 ، 555 ، 556 ، 561 ، 562 ، 619.

أبوالعاص بن الربيع 503.

أبو عبد شمس 420 ، 429 ، 461.

أبو عبيدة ( الجراح ) 368 ، 388.

أبو عثمان 376.

أبو عمرة ( بشير بن محصن ) 370.

أبو عمرو ( مؤلف ) 365 ، 366 ، 367 ، 368.

ص: 668

أبو عمرو ( عامر الشعبي الكوفي ) 374.

أبو عمرو ( ابن قتيبه ) 361.

أبو فرج الاصفهاني 285.

أبو مرازم 369.

أبو لهب 54 ، 215 ، 372 ، 394 ، 409 ، 412 ، 422 ، 502 ، 563 ، 590 ، 591.

أبو مسعود ( عمرو بن عمير الثقفي ) 439.

أبو مكرز 592.

أبو نضر ( محمَّد بن السائب الكلبي ) 376.

أبو نعيم ( مؤلف ) 291.

أبو هالة التميمي 274.

أبو هريرة 260 ، 533.

أبو هفان العبدي 516.

أبو الهيثم بن التيهان 571 ، 572.

أبو الوليد = عتبة بن ربيعة 431.

أبو اليقظان = عمران بن عبد اللّه 263.

النساء

اُم أيمن 171 ، 191 ، 197 ، 227 ، 260 ، 289 ، 291 ، 360.

اُم أيّوب ( الانصارية ) 622.

اُم جميل بنت حرب 412 ، 414.

اُم سلمة 454 ، 611.

اُم كلثوم ( بنت رسول اللّه ) 261 ، 278.

اُم معبد 616

اُم هاني ( اُخت علي بن أبي طالب ) 535 ، 536 ، 538.

ص: 669

« الألقاب »

الاصمعي 609.

الاميني ( العلامة ) 358 ، 359 ، 530 ، 584.

البلاذري 609.

البلاغي 241.

البيهقي 541.

الترمذي 364.

الجاحظ 596.

الجنابذي 256.

الحاكم النيسابوري 612.

الحلبي 603.

الخوارزمي 360 ، 369.

الدياربكري 210.

ذوالقرنين 382 ، 464.

الزرقاني 292 ، 246 ، 366.

السيوطي ( جلال الدين ) 369 ، 372.

الشبراوي ( صاحب الاتحاف ) 292.

الشهرستاني 288.

الشهيد الثاني 205 ، 207.

الطباطبائي 307 ، 311 ، 346.

الطبرسي 307 ، 339 ، 481 ، 540 ، 541.

الطبري 340 ، 356 ، 358 ، 361 ، 362 ، 379 ، 380 ، 383 ، 396 ، 397 ، 398 ، 488 ، 598 ، 599.

الطريحي ( المؤلف ) 205.

الطوسي ( الشيخ ) 599 ، 601 ، 603 ، 618.

ص: 670

فخر الإسلام 241.

الفخر الرازي 307 ، 348 ، 509.

الفرزدق 46 ، 49.

الفردوسي ( الشاعر ) 106 ، 107 ، 108.

فرعون 121 ، 189 ، 200 ، 239 ، 240 ، 262.

القسطلاني 367 ، 375.

القوشجي 196.

كسرى 103 ، 110 ، 202 ، 357.

لكلبي 52.

المجلسي ( العلامة ) 269 ، 341 ، 413 ، 616 ، 624.

المسعودي ( المؤرخ ) 41.

المقريزي 204 ، 598.

النفيسي ( سعيد ) 104.

اليعقوبي 288 ، 385.

النجاشي 96 ، 161 ، 374 ، 375 ، 454 ، 455 ، 456 ، 457 ، 458 ، 459 ، 460 ، 493.

ص: 671

( 7 ) فهرس الوقائع والأيام

اُحد ( معركة ) 486.

الأحزاب ( معركة ) 416 ، 480 ، 486 ، 571.

بعاث ( يوم ) 67 ، 574.

بيعة العقبة 575.

بيعة النساء 570.

حادثة الغيل 159 ، 182 ، 183 ، 185 ، 203 ، 552 ، 605.

حجة الوداع 64.

حلق الفضول 248 ، 249.

الخندق ( معركة ) 480 ، 486.

داحس والغبراء ( حرب ) 65.

صفين ( وقعة ) 366 ، 369 ، 372.

الفجار ( حروب ) 244 ، 245 ، 246 ، 248 ، 273.

القرطاء ( عزوة ) 611.

ليلة المبيت 595 ، 596.

المباهلة 537 ، 541 ، 542.

المعراج 544 ، 545.

ص: 672

( 8 ) فهرس الأماكن والبلدان

آسيا 27 ، 116.

الابواء 228.

الاتحاد السوفيتي 159 ، 551.

الاحساء 28.

الاحقاف 28.

الاردن 536.

أرمينية 98.

الازهر 346 ، 614.

افريقية 28.

امريكا 85.

الاندلس 100.

الانطاكية 27 ، 87 ، 89 ، 98.

اُوربة 40 ، 100 ، 237.

اورشليم 7 ، 111.

ايران 27 ، 87 ، 89 ، 98.

ايطاليا 27.

بابل 120 ، 122 ، 123 ، 134 ، 140 ، 141.

بادية سماوة 27.

البحر الاحمر 27 ، 29 ، 31 ، 32.

ص: 673

بحيرة ساوة 202.

البصرة 303 ، 367.

بصرى 231 ، 232 ، 234 ، 235.

بيت اللّه الحرام 289.

بيت المقدس 536 ، 537 ، 611.

بيروت 511.

تهامة ( سوق ) 256.

ثنية الوداع 262.

جبل أبو قبيس 287.

جدّة 29 ، 284 ، 453.

الجزيرة العربية 27 ، 32 ، 36 ، 39 ، 40 ، 52 ، 54 ، 55 ، 66 ، 70 ، 85 ، 87 ، 88 ، 89 ، 97 ، 98 ، 199 ، 202 ، 280 ، 282 ، 306 ، 415 ، 520 ، 576 ، 580.

الجنة والنار 536.

الحبشة 87 ، 96 ، 150 ، 161 ، 224 ، 282 ، 291 ، 415 ، 424 ، 450 ، 451 ، 453 ، 454 ، 457 ، 460 ، 463 ، 465 ، 469 ، 493 ، 494 ، 501 ، 508.

الحجاز 27 ، 28 ، 29 ، 31 ، 40 ، 41 ، 50 ، 52 ، 86 ، 89 ، 90 ، 91 ، 132 ، 141 ، 142 ، 152 ، 155 ، 199 ، 224 ، 282 ، 283 ، 511 ، 512 ، 595.

حجر اسماعيل 144.

الحجر الاسود 284 ، 412.

الحديدة ( ميناء ) 32.

حراء ( جبل / غار ) 284 ، 319 ، 320 ، 321 ، 322 ، 354 ، 382 ، 383.

الحيرة 27 ، 52 ، 87 ، 88 ، 89 ، 150 ، 452.

الخليج 27 ، 28.

ص: 674

خليج عمان 27.

الخورنق 88.

خيبر 215.

دار الندوة 147 ، 148 ، 453 ، 455 ، 468 ، 501 ، 581 ، 583.

دار الخيزران 389.

دجلة 27.

دمشق 89 ، 376 ، 610.

الدهناء 28 ، 231.

ديار ثمود 231.

ذو المجاز ( سوق ) 245.

ذي طوى 618.

الربع الخالي 28.

زمزم 37 ، 90 ، 144 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 363 ، 366.

سبأ 33.

سدرة المنتهى 536.

سويسرا 27.

الشام 27 ، 86 ، 89 ، 90 ، 117 ، 141 ، 142 ، 147 ، 150 ، 151 ، 155 ، 169 ، 187 ، 191 ، 196 ، 23 ، 231 ، 232 ، 233 ، 234 ، 256 ، 258 ، 270 ، 279 ، 293 ، 303 ، 366 ، 441 ، 452 ، 517 ، 527 ، 537 ، 565 ، 594.

شعب أبي طالب 512.

صحراء الشام 27.

صحراء العرب 27 ، 31.

صحراء النفوذ 258.

صنعاء 32 ، 33.

ضجنان 618.

ص: 675

الظهران 28.

الطائف 29 ، 54 ، 90 ، 247.

العدن 31.

العراق 87 ، 149 ، 261 ، 365 ، 368 ، 373 ، 557 ، 559 ، 595.

العربية السعودية 41 ، 512.

العرم

عسفان

العقبة 569 ، 570 ، 571 ، 575 ، 576.

عكاظ ( سوق ) 245 ، 246 ، 247.

غار ثور 591 ، 592 ، 601 ، 603 ، 619.

غزة 149.

الفرات 27 ، 87 ، 120 ، 371.

فرنسا 27.

فلسطين 27 ، 29 ، 37 ، 117 ، 141 ، 536.

القاهرة 379.

قبا 617.

القسطنطينية 89.

القطيف 511.

قم 512.

الكعبة المعظمة 29 ، 30 ، 5 ، 133 ، 145 ، 155 ، 157 ، 159 ، 162 ، 164 ، 186 ، 187 ، 188 ، 202 ، 207 ، 249 ، 265 ، 283 ، 284 ، 287 ، 288 ، 290 ، 296 ، 357 ، 367 ، 404 ، 432 ، 441 ، 488 ، 501 ، 611.

الكوفة 88.

مازندران 106.

مأرب 33 ، 41.

ص: 676

مجنة ( سوق ) 245.

المحيط الهندي 27.

مدين 231.

المدينة المنورة 29 ، 30 ، 36 ، 51 ، 54 ، 87 ، 88 ، 89 ، 91 ، 97 ، 101 ، 120 ، 122 ، 123 ، 135 ، 160 ، 219 ، 291 ، 382 ، 442 ، 512 ، 561 ، 565 ، 578 ، 581 ، 582 ، 583 ، 586 ، 591 ، 592 ، 604 ، 609 ، 61 ، 615 ، 616 ، 617 ، 622 ، 623 ، 624.

مراكش 596.

مروة ( جبل ) 143 ، 235.

المسجد الاقصى 536 ، 538 ، 539.

المسجد الحرام 284 ، 418 ، 838 ، 539 ، 560.

مصر 121 ، 141 ، 243.

المغمس 162.

مكة المكرمة 29 ، 30 ، 37 ، 50 ، 51 ، 52 ، 53 ، 54 ، 90 ، 91 ، 96 ، 101 ، 141 ، 143 ، 144 ، 145 ، 147 ، 149 ، 151 ، 152 ، 154 ، 155 ، 162 ، 163 ، 164 ، 185 ، 187 ، 188 ، 189 ، 196 ، 197 ، 207 ، 216 ، 222 ، 223 ، 227 ، 230 ، 231 ، 234 ، 247 ، 249 ، 253 ، 256 ، 257 ، 258 ، 259 ، 276 ، 277 ، 279 ، 284 ، 285 ، 288 ، 289 ، 290 ، 303 ، 305 ، 366 ، 369 ، 376 ، 388 ، 389 ، 390 ، 391 ، 404 ، 405 ، 406 ، 413 ، 414 ، 419 ، 420 ، 421 ، 451 ، 452 ، 453 ، 455 ، 460 ، 461 ، 463 ، 464 ، 466 ، 468 ، 474 ، 481 ، 482 ، 483 ، 485 ، 489 ، 493 ، 49 ، 474 ، 481 ، 482 ، 483 ، 485 ، 489 ، 493 ، 494 ، 501 ، 502 ، 503 ، 504 ، 515 ، 519 ، 522 ، 536 ، 537 ، 539 ، 559 ، 560 ، 561 ، 562 ، 565 ، 566 ، 567 ، 569 ، 570 ، 573 ، 575 ، 576 ، 577 ، 580 ، 581 ، 583 ، 586 ، 587 ، 591 ، 592 ، 593 ، 597 ، 604 ، 608 ، 615 ، 616 ، 617 ، 618.

ص: 677

نجد 31 ، 41.

نجران 89 ، 160 ، 610.

نينوى 118 ، 558.

الهند 85 ، 115 ، 265.

وادي القرى 231 ، 565.

يثرب 3 ، 152 ، 158 ، 160 ، 197 ، 277 ، 303 ، 565 ، 566 ، 569 ، 570 ، 573 ، 583 ، 602 ، 604 ، 608 ، 622 ، 624.

اليمن 27 ، 31 ، 32 ، 33 ، 36 ، 41 ، 86 ، 89 ، 142 ، 149 ، 150 ، 160 ، 161 ، 162 ، 165 ، 187 ، 233 ، 293 ، 452 ، 565 ، 595.

اليمامة 486.

اليونان 31.

ص: 678

( 9 ) المذاهب والأديان ونظم الحكم

الآشورية 40.

الأحناف 283.

الاستشراق والمستشرقون 219 ، 232 ، 235.

الاشكناني 87.

الرياضة والمرتاضون 182 ، 184.

الزردشتية 112 ، 114 ، 115.

الشاهنشاهية 86 ، 614 ، 615.

العثمانية 367.

الكهانة 158.

اللاهوتية 100.

المانوية 112.

المجوسية والمجوس 112 ، 113 ، 117.

المزدكية 113 ، 114.

المدرسية ( الفلسفة ) اسكولاستيك 100.

النصرانية والنصارى 442 ، 445 ، 452 ، 459 ، 463 ، 479.

اليعقوبية 99.

الوهابية والوهابيون 596.

اليهود واليهودية 159 ، 291 ، 382 ، 442 ، 445 ، 452 ، 463 ، 464 ، 471 ، 475 ، 487 ، 565 ، 568 ، 569 ، 573 ، 574.

ص: 679

( 10 ) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمناً

1 - بحث علمي حول المعجزة 165

2 - طهارة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من دنس الآباء وعهر الامّهات 165

3 - الاحتفال بذكرى المولد النبويّ ليس شركاً 208

4 - خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) 212

5 - « أحمد » كان من أسماء النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المشهورة 213

6 - نظرة الاسلام في تأثير الرضاع 217

7 - بحث قرآني وتاريخيّ حول كرامات فترة الطفولة عند النبي 219

8 - مقايسة عابرة بين القرآن والعهدين 236

9 - خديجة في أحاديث الرسول واهل بيته (عليهم السلام) 258

10 - بحث حول دين النبي قبل البعثة 292

11 - دور الانبياء الاساس في اصلاح المجتمع 316

12 - بحث حول الوحي في نظر الماديين والالهيين 322

13 - مناقشة الاساطير المدسوسة في قصة بدء نزول الوحي 340

14 - خاتمية رسول الاسلام 353

15 - النبوة والامامة توأمان 442

16 - أسرار النزول التدريجيّ للقرآن 444

17 - دراسة لآيات من سورةالحج حول إلقاء الشيطان 494

18 - دراسة علمية لحديث الضحضاح 530

19 - المعراج والقوانين العلميّة الحديثة 548

20 - لماذا اتخذ العام الهجري مبدأ للتاريخ الاسلامي 605

ص: 680

فهرس المواضيع

1 - شبه الجزيرة العربيّة

أو مهد الحضارة الإسلامية

27 -33

مكة المعظمة... 29

تاريخ مكّة... 29

المدينةُ المنوّرة... 30

2 - العرب قبل الإسلام

35 - 96

أخلاق العرب وتقاليدهم... 37

هل كان للعرب حضارة؟... 39

ملامح المجتمع الجاهلي العربي من منظور القرآن... 42

1 - الشرك في العبادة... 43

2 - إنكار المعاد... 43

3 - هيمنة الخرافات... 44

4 - الفساد الاخلاقي... 45

5 - وأد البنات وإقبارهنّ... 46

6 - تصوّراتهم الخرافيّة حول الملائكة... 47

7 - كيفيّة الانتفاع من الانعام... 47

8 - الإستقسام بالأزلام... 48

9 - النسيء... 48

ص: 681

10 - الربا... 49

صور من الوضع الجاهلي... 50

العقيدة والدين في الجزيرة العربية... 52

عقيدة العرب حول حالة الإنسان بعد الموت... 56

الآداب مرآة أخلاق الشعوب ونفسياتها... 57

مكانة المرأة عند العرب الجاهليين... 58

المرأة ومكانتها الاجتماعية عند العرب... 60

العرب والرّوح القتالية... 64

الأخلاق العامّة في المجتمع العربي الجاهليّ... 66

النزوع إلى الخرافة والاساطير في المجتمع الجاهلي... 67

الخرافات عند العرب الجاهليين... 70

نماذج من الخرافات في المجتمع العربي الجاهليّ... 72

1 - الاستسقاء باشعال النيران... 72

2 - ضرب الثّور إذا عافت البقر الماء... 72

3 - كيّ صحيح الابل ليبرأ السقيم... 73

4 - حبس ناقة عند القبر إذا مات... 73

5 - عقر الإبل على القبور... 74

6 - نهيق الرجل إذا أراد دخول القرية... 74

7 - تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي... 75

8 - الرتم... 75

9 - وطي المرأة القتيل الشريف لبقاء ولدها... 75

10 - طرح السنّ نحو الشمس إذا سقطت... 76

11 - تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون... 76

12 - دم الرئيس يشفي... 76

13 - شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل... 77

ص: 682

14 - معالجة المرضى بالاُمور العجيبة... 77

15 - خرافات في مجال الغائب... 78

16 - عقائدهم العجيبة في الجن وتأثيره... 79

17 - تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء... 80

مكافحة الإسلام لهذه الخرافات... 80

أوضاع العرب الإجتماعية قبيل ظهور الإسلام... 83

الدين في أرض الحجاز... 89

العلم والثقافة في الحجاز... 91

الإمام عليّ (عليه السلام) يصف العهد الجاهلي... 92

فاطمة الزهراء (عليها السلام) تصف الوضع العربي الجاهلي... 95

جعفر بن أبي طالب يصف الوضع العربي الجاهلي... 96

3 - إمبراطوريتا الروم وإيران

إبّان عهد الرّسالة

97 - 118

أوضاع الروم إبّان عهد الرّسالة... 98

ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الروميّ... 99

أوضاع إيران إبّان عهد الرّسالة... 101

البذخ والترف في البلاط الساساني... 102

الوضع الإجتماعي في إيران... 104

حق التعلّم خاصّ بالطبقات الممتازة... 105

صفحة سوداء من جرائم خسرو برويز... 109

حكم التاريخ في الملوك الساسانيين... 110

الفوضى في الحكومة الساسانية... 111

الفوضى الدينية في ايران الساسانيين... 112

الحروب الإيرانية الروميّة... 115

ص: 683

4 - أسلاف رسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

119 - 198

1 - بطلُ التوحيد : إبراهيم الخليل (عليه السلام) ... 119

النبي ابراهيم ومكافحته للوثنية... 123

حوار الخليل مع عبّاد الكواكب... 125

طريقة الانبياء في الحوار والجدال... 129

هل كان آزر والد إبراهيم... 130

القرآن ينفي اُبوّة آزر لإبراهيم... 132

إبراهيم محطّم الاصنام... 133

العبر القيّمة في هذه القصّة... 137

هجرة الخليل عليه السلام... 141

عين زمزم كيف ظهرت؟... 143

2 - قصيّ بن كلاب (الجد الثاني لرسول اللّه)... 146

3 - عبد مناف (الجد الثالث)... 147

4 - هاشم (الجد الثاني)... 148

اُميّة يحسد هاشماً!... 150

هاشم يتزوّج... 151

5 - عبد المطلب (الجد الأول)... 153

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر... 157

حادثة عام الفيل... 159

ما هي عوامل هذه الحادثة؟... 160

عبد المطلب يذهب إلى معسكر أَبرهة... 163

كلمة حول المعجزة... 165

نقاط تقتضي التأمّل في تفسير حادث الفيل بالجدري... 169

بحث علمي حول المعجزة في نقاط خمس :... 172

ص: 684

1 - ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟... 173

2 - هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة... 175

أنواع العلل والاسباب :... 176

أ ) العلة الطبيعية العادية... 176

ب ) العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة... 176

ج ) تأثير النفوس والأرواح... 176

د ) العلل المجرّدة عن المادة... 177

3 - هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟... 178

4 - كيف تدل المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟... 179

5 - بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟... 180

أوهام قريش تتفاقم... 187

عبد اللّه والد النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 189

دور الأَيادي المشبوهة في تاريخ الإسلام... 191

قصة فاطمة الخثعمية... 192

علائم الاختلاق في هذه القصة... 193

طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات... 195

وفاة عبد اللّه (والد النبيّ) في يثرب... 196

5 - مَولدُ رَسُول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

199 - 224

فترة الطفولة في حياة العظماء... 199

في أيّ يوم ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 203

أيّ هذين القولين هو الصحيح؟... 204

فترة الحمل... 205

نظرية في يوم المولد النبويّ ومؤاخذات عليه... 207

الاحتفال بذكرى المولد النبويّ ليس شركاً... 208

ص: 685

مراسم تسمية النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 211

خطأ المستشرقين في اسم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 212

أحمد كان من اسماء النبيّ المشهورة... 213

فترة الرضاع في حياة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 215

نظرة الإسلام في تأثير الرضاع... 217

6 - فترة الطفولة في حياة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الماديون وبعض المستشرقين وكرامات عهد الطفولة... 219

خمسة اعوام في ربوع الصحراء... 223

7 - العودة إلى احضان العائلة

225 - 242

سفرة إلى يثرب... 227

وفاة عبدالمطلب... 229

كفالة أبي طالب للنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 229

سفرة إلى الشام مع أبي طالب... 230

اكذوبة المستشرقين في قصة بحيري... 232

مقارنة بين القرآن والتوراة والانجيل... 236

1 - النبيّ داود (عليه السلام) ... 237

2 - النبيّ سليمان (عليه السلام) ... 237

3 - النبيُّ يعقوب (عليه السلام) ... 238

4 - النبيُّ إبراهيم (عليه السلام) ... 239

5 - النبيُّ المسيح (عليه السلام) ... 240

8 - فترة الشَّباب في حياة النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

243 - 250

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقدرته الروحية... 244

ص: 686

حروب الفجار... 244

الفجار الأول... 245

الفجار الثاني... 246

الفجار الثالث... 246

الفجار الرابع... 246

حِلفُ الفصول... 248

9 - من فترة الشباب إلى مزاولة التجارة

251 - 274

النبيّ للغنم أسباب ذلك... 253

إقتراح أبي طالب بالتجارة لخديجة... 254

هل عمل النبي اجيراً لخديجة؟... 255

خديجة زوجة الرسول الاُولى... 258

خديجة في أحاديث الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 260

العلل الظاهرية والحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 270

كيف تمّت خطبة خديجة؟... 272

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 274

10 - من الزواج إلى البعثة

275 - 312

فترة الشباب في حياة رسول الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 276

أحاسيسه ومشاعره الانسانيّة في فترة الشَّباب... 277

أولاد خديجة... 278

حدس لا أساس له من الواقع في شأن خديجة... 278

دعيّ رسول اللّه : زيد بن حارثة... 279

بداية الخلاف بين الوثنيين... 280

أعمدة الوثنية تهتزّ... 281

ص: 687

نموذج آخر من ضعف قريش... 283

أمين قريش يكفل عليّاً... 285

إيمان النبيّ وآبائه وكفلائه قبل الإسلام... 286

إيمان جدّه عبد المطلب... 286

إيمان كفيله وعمه أبي طالب... 290

إيمان والدي النبيّ الأكرم... 291

إيمان النبيّ باللّه وتوحيده قبل البعثة... 292

مناقشة الآيات التي استدل بها النافون لايمان النبيّ... 292

الآية الاُولى : الهداية بعد الضلال... 297

الآية الثانية : الاُمر بهجر الرجز... 300

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان... 302

تفسير هذه الآية باُخرى... 306

الآية الرابعة : عدم رجائه القاء الكتاب إليه... 308

الآية الخامسة : قوله تعالى : «لو لم يشأ ما تلوته»... 310

11 - بدء الوحي

313 - 342

دورُ الأنبياء الأساسي في إصلاح المجتمع... 317

مثل واضح في المقام... 317

أمين قريش في غار حراء... 319

بدء الوحي... 321

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين... 322

الروح المجرّدة... 324

ظاهرة الوحي عند الماديّين... 325

أبرز التحليلات المادية لظاهرة الدين... 325

ص: 688

أمين قريش في غار حراء... 319

بدء الوحي... 321

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين... 322

الروح المجرّدة... 324

ظاهرة الوحي عند الماديّين... 325

أبرز التحليلات المادية لظاهرة الدين... 325

ظاهرة الوحي في منظار العقل والدين... 333

قنوات المعرفة الثلاثة : التجربة ، العقل ، الالهام... 334

انواع الوحي من المنظور القرآني... 336

اساطير مختلفة حول حال النبيّ عند نزول الوحي... 336

بقيّة قصّة نزول الوحي الأوّل... 337

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوقل... 338

بطلان هذه المزاعم والاساطير... 340

12 - متى نزل الوحي أوّلاً؟

343 - 352

الرأي المشهور بين علماء السنة واستدلالهم... 343

ردود الشيعة على هذا الرأي... 344

الجواب الأول (التفريق بين النزول الدفعي والتدريجي)... 344

الجواب الثاني (نزول حقيقة القرآن في رمضان على قلب النبيّ ص)... 346

الجواب الثالث (التفكيك بين مبدأ نزول القرآن والبعثة)... 346

الانبياء والتبشير برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 348

محمَّد خاتم الانبياء

* * *

ص: 689

13 - ما سبقني أَحد

353 - 386

من هو أول من آمن بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الرّجال والنّساء؟... 353

من النساء : خديجة... 353

أقدم الرجال إسلاماً : عليُّ بن أبي طالب... 354

الدلائل التاريخية والنصوص الدالة على اسبقية الإمام علي... 354

عليّ تربّى في حجر النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 355

علي وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ... 357

«أنا الصدّيق الأكبر»... 357

«أوّلكم إسلاماً عليٌ»... 358

النصوص النبويّة الاُخرى... 359

كلمات أميرالمؤمنين (عليه السلام) ... 361

كلمات الإمام السبط الحسن (عليه السلام) ... 364

رأي الصّحابة والتابعين في أوّل من أسلم... 364

مناظرة بين المأمون وإسحاق في إسلام عليّ... 378

قضيّة انقطاع الوحي... 379

اسطورة وليس تاريخاً... 380

اختلاف المؤرخين في مسألة إنقطاع الوحي... 381

14 - الدعوة السرّية ، دعوة الأَقربين

387 - 400

دعوة الاقربين... 389

كيفيّة دعوة الاقربين... 393

خيانة تاريخية وجناية أدبيّة... 394

ص: 690

النبوة والإمامة توأمان... 397

15 - الدعوة العامّة

401 - 428

الثّبات والاستقامة على طريق الهدف... 400

ثبات النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصبره... 401

قريش تمشي إلى أبي طالب للمرة الثالثة... 404

قريش تحاول تطميع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 405

نماذج من إيذاء قريش وتعذيبها للمسلمين... 406

أبوجهل يكمن لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 410

أبولهب يؤذي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 411

صبر النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإستقامته... 412

بعض من اُوذوا باشدّ الأذى :... 412

1 - بلال الحبشيّ... 413

2 - آل ياسر رمز الصُّمود والمقاومة... 414

3 - عبداللّه بن مسعود... 415

4 - أبوذر أوّل المجاهرين بالإسلام... 416

قبيلة غفار تعتنق الإسلام... 419

أعداء النبيّ الألدّاء... 420

عمر بن الخطاب يعتنق الإسلام... 422

16 - رأي قريش في القرآن

428 - 449

حكم الوليد بن المغيرة في شأن القرآن... 427

نموذج آخر من حكم البلغاء في شأن القرآن... 429

ص: 691

تحجّجات قريش العجيبة... 431

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم :... 437

1 - حسدهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 437

2 - معارضة الدعوة الاسلامية لشهواتهم... 439

3 - الخوف من العقاب الاُخرويّ... 439

4 - الخوف من ردّ فعل القبائل العربية المشركة... 440

طائفة من اعتراضات المشركين... 440

القرآن الكريم والنزول التدريجي... 441

الأسرار المنطقية للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم... 443

أسرار اُخرى لنزول القرآن تدريجاً... 446

17 - الهجرة إلى الحبشة

450 - 465

الهجرة الاُولى إلى الحبشة... 449

الهجرة الثانية الى الحبشة... 453

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين... 454

العودة من الحبشة... 459

وفد مسيحيُّ يدخل مكّة لتقصّي الحقائق... 461

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق في أمر النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 462

18 - الاسلحة الصديئة

والاساليب الفاشلة

466 - 486

1 - الإتهامات الباطلة... 466

الإصرار في نسبة الجنون إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 469

ص: 692

2 - القرآن يردّ على جميع الاتهامات... 471

فكرة معارضة القرآن... 473

تحجّجات صبيانية وجاهلية... 474

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة... 476

صمود النبيّ وصبره... 477

معاجز النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تقتصر على القرآن... 478

بعض معاجز النبيّ غير القرآن... 478

1 - شقّ القمر... 478

2 - المعراج... 478

3 - مباهلة أهل الباطل... 479

4 - الإخبار بالمغيبات... 479

حرص النبيّ على هداية قريش... 480

3 - قرار تحريم الاستماع للقرآن... 481

واضعوا القرار ينقضون قرارهم... 483

منع الأشخاص من الإيمان برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 483

1 - الأعشى... 484

2 - الطفيل بن عمرو الدوسي... 485

19 - اُسطورة الغرانيق

487 - 498

ما هي اُسطورة الغرانيق؟... 488

محاسبة بسيطة لهذه الاُسطورة تفنّدها... 489

رأي العقل في هذه القصّة الاسطورة... 490

تفنيد القصة من طريق آخر... 492

دليلٌ لغويٌّ على تفنيد هذه الاُسطورة... 493

دراسة آيات من سورة الحج حول القاء الشيطان... 494

ص: 693

ما هو المقصود من تمنيّ الأنبياء والرُسل؟... 495

ما هو المقصود من تدخل الشيطان والقائه؟... 495

ما هو المقصود من محو آثار التدخل والإلقاء... 497

20 - الحصار الاقتصادي والإجتماعي

499 - 510

قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اجتماعياً وإقتصادياً... 500

قريش والصحيفة القاطعة

وضع بني هاشم المأساويّ في شعب أبي طالب... 503

21 - وفاة أبي طالب وخديجة الكبرى

511 - 533

نماذج من مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 514

التغيير في برنامج السفر... 517

الدفاع عن حوزة العقيدة والإيمان... 518

تصوّر باطل عن مشاعر أبي طالب تجاه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 520

الدافع الحقيقي لأبي طالب... 520

لمحات من تضحيات أبي طالب... 521

قضيّة ذات بواعث سياسيّة... 523

طرق ثلاث لإثبات إيمان أبي طالب... 524

1 - آثار أبي طالب العلميّة والادبية... 525

2 - مواقفه من النبي والرسالة الاسلامية... 526

وصية أبي طالب عند وفاته... 528

3 - شهادات اقرباء أبي طالب (من أهل البيت)... 529

رأي علماء الشيعة في أبي طالب... 530

نظرة إلى رواية الضحضاح... 530

ضعف أسناد هذه الرواية... 531

ص: 694

الف : سفيان بن سعيد الثوريّ... 531

باء : عبدالملك بن عمير... 531

جيم : عبدالعزيز بن محمَّد الدراوردي... 532

نصّ حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة... 532

1 - القرآن الكريم : لا مغفرة للكافر... 533

2 - السنة النبوية : لا شفاعة للمشرك... 533

22 - المعراج في القرآن والسُنة والتاريخ

535 - 554

هل للمعراج جذور قرآنية؟... 537

أحاديث المعراج... 540

متى وقعت هذه الحادثة؟... 541

هل كان المعراج جسمانياً؟... 543

ما هو المراد من المعراج الروحاني... 544

نغمة شاذة... 547

المعراج وقوانين العلم الحديث... 548

الهدف من المعراج... 553

23 - سفرة إلى الطائف

555 - 564

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعود إلى مكة... 559

نقطة هامة... 561

الدعوة في أسواق العرب... 562

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج... 563

24 - بيعة العقبة

565 - 582

وقعة بُعاث... 567

تفصيل الحادثة... 568

ص: 695

بيعة العقبة الاولى... 569

بيعة العقبة الثانية... 570

أوضاع المسلمين بعد بيعة العقبة... 573

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة... 575

تأثير الإسلام ونفوذه المعنويّ... 577

مخاوف قريش المتزايدة... 580

25 - قصّة الهجرة النبويّة

حوادث السنة الاولى من الهجرة الشريفة

583 - 624

الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية... 585

ملاك الوحي يخبر رسول اللّه بمؤامرة قريش... 587

إقتحام الاعداء لبيت الوحي والرسالة... 590

النبيّ في غار ثور... 591

قريش تفتش عن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 592

التفاني في سبيل الحق... 593

كلام من ابن تيمية في مبيت عليّ (عليه السلام) ... 596

الجواب التفصيلي على هذا الكلام... 598

الخطيب وقضيّة المبيت... 600

بقية قصة الهجرة النبوية... 601

الخروج من الغار... 603

صفحة التاريخ الاسلامي الاُولى... 604

لماذا أصبح عام الهجرة مبدأ للتاريخ الاسلامي... 605

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة... 606

من الذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ الاسلامي... 608

نماذج من رسائل النبيّ المؤرّخة بالعام الهجريّ... 609

ص: 696

التذكير بنقطتين... 613

مؤامرة الطاغوت... 614

برنامج الرحلة في حادث الهجرة... 615

النزول في قرية قباء... 617

المدينة تهب لاستقبال النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 619

النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدخل المدينة... 621

أصل النفاق ومنشأه... 623

ص: 697

ص: 697

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1412 ه.ق

الصفحات: 780

نسخة غير مصححة

المكتبة الإسلامية

محاضرات الاستاذ للحقّق الشيخ جعفر السبحاني

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية في شتی أبعادها الاجتماعية والرسالية والسياسية والعسكرية

بقلم جعفر الهادي

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 ش.

سيّد المرسلين صلی اللّه عليه وآله / تأليف جعفر السبحاني. -- مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة 1412 ق. = 1370 ش.

ج1 -- (مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة. 390).

عربی.

شابك الدورة 6-396-470-964-978

ISBN 978-964-470-396-6

فهرست نويسی بر اساس اطلاعات فيپا.

ج1 (چاپ چهارم: 1429 ق = 1387 ش).

كتابنامه.

2ج (چاپ اوّل: 1413ق = 1371ش).

1. محمّد (صلی اللّه عليه وآله)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.الف. جامعۀ مدرسین حوزۀ علميۀ قم ، دفتر انتشارات اسلامی ب. عنوان.

9س 2س / 9 / 22 BP

297/193

كتابخانۀ ملّی ایران 1146-71م

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

(ج1)

تأليف: الاُستاذ المحقق آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني

تعريب: الاُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع: السيرة النبوية

طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 700

الطبعة: الرابعة

المطبوع: 1000 نسخة

التاريخ: 1429 ه.ق.

شابك ج1: 2-716-470-964-978

ISBN 978-964-470-716-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

اشارة

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مميّزات النهضة الالهية وخصائصها

اشارة

خصيصة « الخلود » والعمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ :

تشبه نهضة « الأنبياء » الالهية التي قام بها رسل اللّه وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام ، والخرافات ، ولانقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثر شيء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة ، ولكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا واتساعا ، واشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه ونوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء وثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكة فقط ، ولكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان ، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض وغربها ، ودوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم ( ابتداء من فرنسة وانتهاء بجدار الصين وما وراءه ) (1).

ص: 3


1- لقد كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 وقد جئت إليها في مهمة استطلاعية وتبليغية اسلامية ، وقد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في - بكين - العاصمة ، والتقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي وبمن كان معي أشد ترحيب ، واتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية ، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر ، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري ، ونشرا الاسلام في بكين وما حولها ، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما ، وخصوصياتهما بالاحرف العربية. وهناك تذكرت حديث رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله «اطلبوا العلم ولو بالصين». قلت في نفسي: لعل رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم. وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره وبثه بهذه المهمة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فماذا فعلنا نحن؟ وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، ولا ينعموا بخيراته؟! أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي، ومن الانظمة والايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا والنبي صلى اللّه عليه وآله كان يحرص على هداية فرد واحد، والقرآن يقول: «من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً» ؟؟ هل خصصت نهضة الانبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية، وما حولها ؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعاً؟ سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاةً ورعايا، حكومات وشعوباً لعلهم يتفكرون ؟ (جعفر الهادي).

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية (1) يتمتعون - من حيث الاخلاق والفضائل الانسانية - بخصيصة الخلود واللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع وآفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر ، وكأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة ، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر ، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين ، وسفراء اللّه الى البشرية.

وتتجلى هذه الحقيقة أكثر - فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات -.

وخلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا وامعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة ، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير ، قديما وحديثا ، حول رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله ولكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به ، وكلما اتسعت النظرات وازدادت عمقا

====

2.

ص: 4


1- المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا والأخرى وليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق ، وجديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصرا ( أو بالاحرى مقتصرا ) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله اتخذت الاحاديث والسنن الاسلاميّة ، وتفاصيل الحياة النبويّة ، وقصص غزواته وحروبه رونقا جديدا ، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية ، والتعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلما ازدادت حالات الوفاة ، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية ، اتسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى اخذ ومعرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني (1) ، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية ، التي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته (2) ، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو : « عمر بن عبد العزيز » فأمر - في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

ص: 5


1- تقييد العلم : ص 48 - 53.
2- لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليا علیه السلام ، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين وضبط الأحاديث ، وحفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي ، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ».

وقاضيها - بكتابة احاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله خوفا من اندراس العلم وزواله (1).

أئمة السيرة :

ومن حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلاّ من تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة ، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ، وأوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة ، وأرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو : « عروة بن الزبير بن العوّام » الصحابي المعروف الذي توفي عام 92 أو 96 من الهجرة (2)

ثم عمد بعد جماعة في المدينة وآخرون في البصرة الى جمع وتدوين تفاصيل السيرة ، وحروب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وغزواته ، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلفات هي المنبع والاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة ، أو تاريخ الاسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي ، وكان من بين من قام بجهد مشرف ومشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام 151 فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين ، ومن

ص: 6


1- ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ج 1 ص 195 و 196.
2- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ص 233. اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي والسير في الاسلام. فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير. وقال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق. والحق انه لا الاول ولا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير والمغازي.

ثنايا رواياتهم ومنقولاتهم وألفها واخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط ودوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب « المغازي » و « فتوح الشام » المتوفى عام 207 ه (1).

وقد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام 218 ه وعرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام ( أو السيرة الهشامية ) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي وسيرة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله الموثقة.

ولو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام ، وهما :

1 - محمد بن سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام 230 ه مؤلف « الطبقات الكبرى » الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرام صلی اللّه علیه و آله وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا ، كما اعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2 - محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 ه مؤلف كتاب « تاريخ الامم والملوك ».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب والمؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح ، بل تحتاج مؤلفاتهم - كغيرها من المؤلفات ، والكتب - إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله

ص: 7


1- عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادق علیه السلام ، وتوجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج 12 ص 281 فيها.

وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب ، والدراسات ، المختلفة في أحجامها ومستوياتها ، والمتنوعة في طرائقها وأساليبها ، التي ألّفت حول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهذا إنما يدل على خصيصة العمق واللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّ صلی اللّه علیه و آله الخالدة العظيمة.

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم ، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة ، ولم يأل جهدا - لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل - في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة ، وان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف ، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة ، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة ، ومن اللّه التوفيق.

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

21 شعبان 1392 ه-

ص: 8

حوادث السنة الأولى من الهجرة

اشارة

حوادث السنة الأولى من الهجرة (1)

26

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم :

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة ، المبتهجة ، بمقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيين له حملته صلی اللّه علیه و آله ، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة ، وللقيام بالاعمال التربوية والتثقيفية ، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أن عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا اللّه ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام ( حزب اللّه ) كل اسبوع في يوم معين فيه ، ويتشاوروا في

ص: 9


1- لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكة وحطّ في الباقي من شهرها الثالث ( أي ربيع الاول ) على أرض يثرب ، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط ، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام ( وليس من اثنى عشر ربيع الاول ).

شئون الاسلام والمسلمين ومصالحهم ، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد ، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم والمعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كل التعاليم والمواد الدينية والعلمية ، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة (1).

وربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية والمعايير الاسلامية بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما فعل « كعب بن زهير » إذ ألقى قصيدته المعروفة « بانت سعاد » عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المسجد ، وأعطاه النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله صلة جيّدة ، وخلع عليه بخلعة عظيمة (2).

أو كما كان يفعل « حسان بن ثابت » الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 10


1- راجع صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد ، بقيت المدارس تبنى وتشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 503 قال أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد : بانت سعاد.

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به ، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام واكتساب المعارف والعلوم (1).

كما انه كانت تمارس الامور القضائية والفصل بين الخصومات ، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد ، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة ( بكل معنى الكلمة ) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار والمشركين في المسجد.

ولعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف وتعلم العلوم هو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية ، واتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشئون المعيشة المادية ، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى ، ولا يدعوهم إلى الايمان إلاّ ويهتم أيضا بشئونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب ويغفل جانبا ، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية والمعنوية معا.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام ( بين العلم والإيمان ) محطّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية والمؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا وصار لها محل خاص تدرس فيه ، فانهم ظلوا يبنون

ص: 11


1- تاريخ الخميس : ج 2 ص 136.

الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا ، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ :

لقد ابتاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة ، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية وبناه ، وعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه في تشييدها أيضا. فكان صلی اللّه علیه و آله ينقل معهم اللبن ، والحجارة ، وبينما هو صلی اللّه علیه و آله ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله « اسيد بن حضير » فقال : يا رسول اللّه اعطني أحمله عنك.

قال صلی اللّه علیه و آله : لا ، اذهب فاحمل غيره (1).

وبهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع ، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل وليس رجل قول ، رجل فعل وليس رجل كلام ، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل *** فذاك منّا العمل المضلّل (2)

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يردّد وهو يبني ويعمل : لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان « عثمان بن عفان » ممن يهتمّ بنظافة ثيابه ، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب ، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب ، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ علیه السلام ، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار :

ص: 12


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 112.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 496.

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (1)

وقد أغضب مفاد هذه الابيات عثمان بن عفان ، فقال لعمار مهدّدا : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، واللّه إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها ، وفي يده عصا!!

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكلام عثمان غضب وقال :

« ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي .. » (2).

وكان « عمار » فتى الاسلام القوي ، يحمل قدرا كبيرا من اللبن والاحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والاحجار.

ويروى أن اصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله محبة منه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).

وذات مرة رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم وقال : يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفرته (4) وكان رجلا جعدا وهو يقول قولته التاريخية :

« ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، انما تقتلك الفئة الباغية » (5).

ص: 13


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 496 ، وتاريخ الخميس : ج 1 ص 345 والسيرة الحلبية : ج 2 ص 76 ومع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب الدنية : المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون ، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضا.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 345.
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 71 ، البداية والنهاية : ج 2 ص 217.
4- اي شعر راسه.
5- المصدران السابقان

وقد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله وصدق دعواه ، وصحة إخباراته ، فقد وقع ما أخبره كما أخبر ، فقد قتل « عمّار » وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي علیه السلام ، فقتله أنصار معاوية ، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق ، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين ، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية « عليّ » علیه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل « عمّار » على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق وأن معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ومن هؤلاء « خزيمة بن ثابت » الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ علیه السلام لقتال معاوية ، ولكنّه كان متردّدا في مقاتلته ، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل « عمّار » على أيدي أهل الشام ، وحمل عليهم (1).

ومنهم « ذو الكلاع » الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته ، مع معاوية لمحاربة الامام عليّ علیه السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا ، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلاّ بعد أن اطمأنّ الى تأييده له ، ومشاركته في قتال علي علیه السلام .

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود « عمّار » في معسكر الامام « علي ».

ص: 14


1- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 385 ووقعة صفين لابن مزاحم.

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر ، ويشوشوه عليه فقالوا : ما لعمار ولصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد اللّه أما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إن عمارا تقتله الفئة الباغية »؟

فقال عمرو : أجل ، ولكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع : فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية وعمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر « علي » أو عرف بمقتله بين يديه علیه السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا وتمزقا فضيعا في جيش الشام ، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة (1).

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره ، واسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع ( أي يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ) حتى دخل على معاوية ، فقال معاوية : ما شأنك؟ قال : قتل عمّار فقال معاوية : قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية : أو نحن قتلناه انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا ( وسيوفنا ) (2).

ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام ، ليس مقبولا عند اللّه تعالى قط ، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص ، وهو مما لا قيمة له أبدا ، فان هذا

ص: 15


1- وقعة صفين : 377 و 387.
2- مسند الامام احمد بن حنبل : ج 4 ص 198.

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجة « الاجتهاد » ، وتحت غطائه.

وإليك نموذجا من هذا الأمر :

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري ( ابن كثير الشامي مؤلف البداية والنهاية ).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال : لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، لأنهم وان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ( ثم يقول ) وأما قوله : يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار فان عمّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به ، وان يكون الناس أوزاعا على كل قطر امام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه!! (1)

ونحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلاّ التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة ، ولكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد - رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة - الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

يقول أحمد بن حنبل : دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

ص: 16


1- البداية والنهاية : ج 2 ص 218.

كل واحد منهما أنا قتلته ، فقال عبد اللّه بن عمرو : ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : تقتله الفئة الباغية قال معاوية : فما بالك معنا؟ قال : ان أبي شكاني إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : اطع أباك ما دام حيا ، ولا تعصه ، فأنا معكم ولست اقاتل (1).

إن اعتذار « عبد اللّه بن عمرو بن العاص » يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول : إن معاوية قاتل « عليا » في صفين اجتهادا وايمانا ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع ، فهذا هو القرآن الكريم يقول :

« وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » (2).

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح ، ورد عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وامثالهما باطلا مرفوضا ، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم ، ومحاربتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كما لا بدّ - حينئذ - أن نقول : إن يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين ، والصالحين من المسلمين ، بل ومأجورين في عملهم هذا.

* *

انتهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمون من بناء المسجد ، وظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

وقد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.

وكلّف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة ، وقراءة القرآن.

ص: 17


1- مسند احمد بن حنبل : ج 2 ص 164 و 165.
2- العنكبوت : 8.
التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان :

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقد كان صلی اللّه علیه و آله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلاّ جذب القلوب والدعوة إلى دينه ، ولكنه اليوم عليه أن يعمل - كصاحب دولة محنّك - على حفظ كيانه وكيان جماعته ، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم ، ولكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى :

1 - خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

2 - خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

3 - الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إن المهاجرين والانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين ، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة ، وآداب السلوك ، واسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية ، والسياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة ، غاية في الحنكة والابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج

ص: 18

تلك المشكلة بحذق كبير ، وتدبير رائع جدا.

فقد امر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وقال لهم :

« تآخوا في اللّه أخوين أخوين ».

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية ، مثل « السيرة النبوية » لابن هشام (1) اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الاسلوب كرّس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى اسسها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة ، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان :

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين ، نذكرهما نحن هنا أيضا : لقد آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول : يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة ، قال له علي علیه السلام ، وهو يبكي :

« يا رسول اللّه آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد »؟

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أخذ بيده :

« أنت أخي في الدنيا والآخرة » (2).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال :

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي :

« والذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من

ص: 19


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 504 - 507.
2- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 14.

موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي » (1).

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية (2) ، وحيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة ، ولا يقلّ تفاهة وبطلانا من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه ، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف ، والمتتبع العدل.

منقبة أخرى لعليّ علیه السلام :

فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بناء المسجد ، وقد بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وكلّ شرع منه بابا إلى المسجد ، وخطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه ، وشرع بابه الى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال :

« يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلاّ لك ولعليّ علیه السلام ».

يقول ابن الجوزي : فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض ، وظنوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي ، فخطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الناس وقال فيما قال :

« واللّه ما أنا أمرت بذلك ، ولكنّ اللّه أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ » (3).

وخلاصة القول أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قضى عن طريق المؤاخاة

ص: 20


1- ينابيع المودة : ص 56 ، ونظيره في السيرة النبوية.
2- البداية والنهاية : ج 2 ص 226.
3- تذكرة الخواص : ص 46 ، بتصرف بسيط.

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ له صلی اللّه علیه و آله أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان اللّه ، ويرفضان الأوثان ، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون - إذا اشتد ساعد المسلمين ، وقويت شوكتهم - أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم ، هذا من جانب ، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يكرّس هذا التفاهم ، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش ، ودفاع مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا (1).

ص: 21


1- المقصود منهم يهود الأوس والخزرج ، وأما يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة فقد عقد النبيّ صلی اللّه علیه و آله معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

وقد احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كتّاب السيرة والمؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم (1).

ونظرا لأهميّتها الخاصّة ، ولأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا ، قويّ الدلالة ، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله بمبادئ الحرية والنظم والعدالة ، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة ، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية :
اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم.

« البند الاوّل »

1 - إنّهم أمّة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها ) يتعاقلون بينهم ( أي يدفعون دية الدم ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

2 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث ، وبنو جشم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت ، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم

ص: 22


1- مثل السيرة النبوية : ج 1 ص 501.

( والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول ، ودفع الفدية معا لفك الأسير ).

3 - وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالدين وكثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ( أي دفع دية او فداء أسير ).

4 - وإنّ المؤمنين المتقين ( يد واحدة ) على من بغى منهم ، او ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم.

5 - وأن لا يحالف مؤمن مولى ( أي عبد ) مؤمن دونه ( أي دون إذنه ).

6 - وأن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ( أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن ) ولا ينصر كافرا على مؤمن.

7 - وانّ ذمة اللّه واحدة ( تشمل جميع المسلمين بلا استثناء ) يجير عليهم أدناهم ( فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته واحترم أمانه ).

8 - وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

9 - وإنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر والاسوة غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

10 - وإنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على سواء وعدل بينهم ( فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلاّ بموافقة المسلمين ).

11 - وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا ( أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد ) ، وانّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه ( أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض ).

12 - وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

13 - وأن لا يجير مشرك ( من مشركي المدينة ) مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ( أي لا يمنعه من مؤمن ).

ص: 23

14 - وإنّه من اعتبط مؤمنا ( أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله ) قتلا عن بيّنة فانّه قود به ( أي يقتل بقتله قصاصا ) إلاّ أن يرضى وليّ المقتول.

وانّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه.

15 - وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن باللّه واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ( صاحب بدعة ) ولا يؤويه وأنه من نصره ، وآواه فعليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

16 - وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد صلی اللّه علیه و آله .

« البند الثاني »

17 - وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ( ودفاعا عن المدينة ).

18 - وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين ( وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار ) لليهود دينهم وللمسلمين دينه ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم واثم ، فانه لا يوتغ ( لا يهلك ) الاّ نفسه وأهل بيته ( والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالبا وعادة ).

والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم ومعتد.

19 - وإنّ ليهود بني النجار ، وبني الحارث وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس وبني ثعلبة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، من الحقوق والامتيازات.

وإن جفنة بطن من ثعلبة ( أي تلك القبيلة فرع من هذه ) ، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

20 - وإنّ البرّ دون الإثم ( أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم ).

21 - وإنّ موالي ثعلبة ( أي المتحالفين معهم ) كأنفسهم.

ص: 24

22 - وإنّ بطانة يهود ( أي خاصتهم ) كأنفسهم.

23 - وأنه لا يخرج منهم أحد ( من هذه المعاهدة ) إلاّ باذن محمّد صلی اللّه علیه و آله .

24 - وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( اي لا يضيع دم حتى الجرح ) ، وان من فتك ( بأحد ) فبنفسه فتك ، وأهل بيته إلاّ من ظلم ( أي إلاّ إذا كان المفتوك به ظالما ).

25 - وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وانّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ( أي أن على كل جماعة من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب ).

26 - وإنّ بينهم النصح والنصيحة ( أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس ) والبر دون الاثم.

27 - وإنّه لم يأثم امروء بحليفه ( أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه وأن النصر للمظلوم ( لو فعل أحد ذلك ).

28 - وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ( أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة ).

29 - وإنّ الجار ( وهو من يدخل في أمان أحد ) كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، ( فلا يجوز إلحاق ضرر به ).

30 - وإنّه لا تجار حرمة إلاّ باذن أهلها.

31 - وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّ اللّه على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ( أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة ).

32 - وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

« البند الثالث »

33 - وإن بينهم ( أي بين اليهود والمسلمين ) النصر على من دهم يثرب

ص: 25

( فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين ).

34 - واذا دعوا ( أي دعي المسلمون اليهود ) الى صلح يصالحونه ، ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وإنّهم اذا دعوا ( أي اذا دعى اليهود المسلمين ) الى مثل ذلك ( الصلح ) فانه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء ، وهكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلاّ إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

35 - وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

« البند الرابع »

36 - وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. ( فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة وجناية ).

37 - وإنّه من خرج ( من المدينة ) آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية :

« وإنّ اللّه جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1).

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام ، وحرصه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد ، ومبدا الرفاه الاجتماعي العام ، وضرورة التعاون في الامور العامة ، بل وتوضّح هذه المعاهدة - فوق كلّ ذلك - حدود صلاحيّات واختيارات القائد ، ومسئوليّة كلّ الموقّعين عليها ، وعلى أمثالها.

على أنه وإن لم يشترك يهود « بني قريظة » و « بني النضير » و « بني قينقاع »

ص: 26


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 503 و 504 ، الاموال : ص 125 - 202.

في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها ، بل شارك فيها يهود الأوس والخزرج فقط ، إلاّ أنّ تلك الطوائف اليهودية ( الثلاث ) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي :

أن لا يعينوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ( أي الخيل وغيرها من المراكب ) في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار ، ثم وقع عليها « حي بن أخطب » عن قبيلة بني النضير ، و « كعب بن أسد » عن بني قريظة ، و « المخيريق » عن قبيلة بني قينقاع (1).

وبهذا ساد الأمن يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشكلة الاولى ، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة ، ويقف سدّا أمام تبليغ الاسلام ، فلن يوفّق لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه ، وتعاليمه المباركة. ممارسات اليهود الإجهاضية :

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم ، وتزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا وضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية ، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتقويته وتأييده جرّه إلى صفوفهم ، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

ص: 27


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 110 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود والنصارى ، من هنا بدءوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم ، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة وايمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.

ويستطيع القارئ العزيز - من خلال قراءة - آيات هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام ، ويحجمون عن الاعتراف به ، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام :

« قلوبنا غلف ».

أي لا نفهم ما تقول!! (1).

اسلام عبد اللّه بن سلام :

هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلاّ تعنّتا وعنادا ، ولكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض وإقبالهم على الاسلام ، مثل « عبد اللّه ابن سلام ».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم ، برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة (2).

ولم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلاّ والتحق به عالم آخر من علماء

ص: 28


1- للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 530 - 572 ، بحار الأنوار : ج 9 ص 303 فما بعد.
2- للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 530 - 572 ، بحار الأنوار : ج 9 ص 303 فما بعد.

اليهود هو « المخيريق ».

وكان عبد اللّه بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم ، من هنا طلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكتم عن الناس إسلامه ، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه ، وبمعرفته وصلاحه قائلا : « يا رسول اللّه إن يهود قوم بهت ، وأني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ».

فأدخله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه :

« أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟ ».

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، فخرج عليهم « عبد اللّه بن سلام » من مخبأه وقال لهم : يا معشر يهود اتّقوا اللّه واقبلوا ما جاءكم به ، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنه لرسول اللّه تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فاني أشهد أنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأؤمن به واصدّقه وأعرفه.

فغضب اليهود من مقالته ، وقالوا له : كذبت ووقعوا فيه ، وعابوه ، وبهتوه (1).

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية :

لم تضعف مجادلات اليهود واسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحسب ، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية ، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى وهي التذرّع باسلوب « فرّق تسد » ، لالقاء

ص: 29


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 516.

الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.

ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث (1) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :

ص: 30


1- قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

« يا معشر المسلمين ، اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف بين قلوبكم؟؟ ».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام والمسلمين ، وكيد خبيث منهم ، فندموا على ما حدث ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين ، وأطفأ اللّه عنهم كيد أعدائهم (1).

إلاّ أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ ، ولم تنته بهذا ، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم ، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج ، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم ، واشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين ، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين ، وكانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين ، ويعملون لصالحهم!!

وقد جرت هذه النشاطات السرّية والعلنية المضادّة المعادية للاسلام والمسلمين ، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش ، جرت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما ، بنقض العهد ، ومعاداة الاسلام والمسلمين ، والتآمر ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، وبنصرة أعدائه ، ودعم خصومه ، الأمر الذي أجبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم ، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على

ص: 31


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 555 - 557.

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها ، وقد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس والخزرج ، ولم يبق دار من دور الانصار إلاّ أسلم أهلها ، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم ، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر (1).

ص: 32


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 500.

حوادث السنة الثانية من الهجرة

اشارة

27

مناورات عسكرية واستعراضات حربية

اشارة

الهدف من هذا الفصل هو شرح وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية ، والمناورات العسكرية ، التي قام وأمر بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية ، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية ، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع ، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث :

1 - لم يكن يمض على إقامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو « حمزة بن عبد المطلب » وقد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية ، فالتقوا قافلة قريش في « العيص » فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة ، فاصطفّوا

ص: 33

للقتال ، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها « مجديّ بن عمرو » الذي كان حليفا للفريقين ، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة ، وتوجّه أبو جهل في غيره وأصحابه إلى مكة (1).

تهديد خطوط قريش التجارية
غزوة بدر :

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، والمسرّة والمحزنة ، ودخل النبيّ وأصحابه العام الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة ، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما : تغيير القبلة والأخرى وقعة بدر الكبرى.

ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها ، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة : بعث « الدوريات العسكرية » الى خطوط قريش التجارية (2) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

ص: 34


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 222 فما بعد ، بحار الأنوار : ج 19 ص 186 - 190 ، امتاع الاسماع : ص 51 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 77 و 78 والمغازي للواقدي : ج 1 ص 9 - 19.
2- لقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية. وقد كان ينبغي - طبقاً للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الأولى للهجرة، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية. هذا مضافاً الى أن ابن هشام - تبعاً لابن أسحاق يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة ة الأولى .

العسكرية.

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة : « الغزوة » و « السرّيّة » (1).

والمقصود من « الغزوة » تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشارك فيها بنفسه ، ويتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من « السريّة » إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة التي يريدها.

وقد احصيت غزوات النبيّ صلی اللّه علیه و آله فكانت (27) أو (26) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة « خيبر » وغزوة « وادي القرى » اللتين حدثتا تباعا ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدّهما غزوة واحدة (2).

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا فأحصى المؤرخون (35) ، (36) ، (48) ، وحتى (66) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها ، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ ، وكلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلاّ سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة « بدر ».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

ص: 35


1- راجع المحبّر : ص 110 - 116.
2- مروج الذهب : ج 2 ص 287 و 288.

2 - في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول اللّه سريّة حمزة ، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل « ثنية المرة » (1).

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان ، ولكن لم يكن بينهم قتال إلاّ أن « سعد بن أبي وقاص » رمي يومئذ بسهم ، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم (2).

3 - بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة « سعد بن أبي وقاص » على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة ، فخرجوا حتى بلغوا منطقة « الخرّار » ولكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة (3).

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يلاحق قريشا بنفسه :

4 - في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المدينة « سعد بن عبادة » وأناط إليه ادارة امورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار ، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، وعقد معاهدة موادعة مع « بني ضمرة » حتى بلغ الابواء ، ولكنه لم يلق أحدا من قريش ، فرجع صلی اللّه علیه و آله هو ومن معه إلى المدينة (4).

5 - وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعمل صلی اللّه علیه و آله مرة اخرى على المدينة : « السائب بن عثمان » أو « سعد بن معاذ » وخرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط ( وهو جبل من جبال

ص: 36


1- المحبر : ص 116.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 591.
3- المحبر : ص 116.
4- تاريخ الخميس : ج 1 ص 363 نقلا عن ابن اسحاق.

بقرب ينبع على بعد 90 كيلومترا من المدينة تقريبا ) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها « أميّة بن خلف » وعلى رأس مائة رجل من قريش ، فرجع الى المدينة.

6 - وفي منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة ، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ « ذات العشيرة » وقد استعمل على مكة هذه المرّة « أبا سلمة بن عبد الأسد » ، وبقي صلی اللّه علیه و آله في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش ، ولكنه لم يظفر بها ، ثم وادع فيها بني مدلج وعقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص (1).

وقال ابن الأثير : في هذه الغزوة ( والمكان ) نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما ، وحرّك عليّا فقال : قم يا أبا تراب ألا اخبرك باشقى الناس : أحيمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذه [ يعني قرنه ] فيخضّب هذه منها [ يعني لحيته ] (2).

7 - بعد أن رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الاّ ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم « كرز بن جابر الفهري » على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلی اللّه علیه و آله ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا

ص: 37


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 598 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 363.
2- الكامل : ج 2 ص 112 والمستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 140 و 141.

وشعبان (1).

8 - وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عبد اللّه بن جحش » على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية ، وقد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها ، وأمره أن لا ينظر فيه قائلا له :

« قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر ( إي افتح ) كتابي ثم امض ( اي نفّذ ) لما فيه ».

ثم عيّن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد اللّه ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم فتح عبد اللّه كتاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقرأ ما فيه ، فاذا فيه :

« إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف على اسم اللّه وبركته فترصّد بها قريشا ، وتعلّم ( أي حصّل ) لنا من أخبارهم ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك (2) وامض لأمري فيمن تبعك ».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه : قد أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أراد الرجعة فمن الآن.

ص: 38


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 601 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 9 ، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.
2- يقال إنه كان الجنود - الى حين الحرب العالمية الثانية - إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلاّ عند حالات النفير العام ، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

فقال أصحابه اجمعون : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة اللّه حيث شئت ، فسار هو ومن معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها « عمرو بن الحضرمي » وهي عائدة من الطائف الى مكة ، فنزل المسلمون بالقرب منهم ، ولكي لا يكتشفهم العدوّ ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم : أنهم إذا تركوا القوم ( أي قريشا ) في تلك الليلة ( وكانت آخر ليلة من شهر رجب ) لدخلوا الحرم ، ولم يمكن قتالهم فيه ، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، من هنا باغتوا تلك القافلة ، ورمى « واقد بن عبد اللّه » قائدها « عمرو بن الحضرمي » بسهم فقتله ، وفرّ رجاله إلاّ نفرين هما : « عثمان بن عبد اللّه » و « الحكم بن كيسان » حيث أسرهما المسلمون ، وعاد عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إلى المدينة.

ولما قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام ( رجب ) انزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة وقال :

« ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ».

وقد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واشاعت بأنّ « محمّدا » وأصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنة ، وعاب المسلمون على « عبد اللّه بن جحش وأصحابه » فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاموال والأسيرين

ص: 39

وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا وبقي ينتظر الوحي.

وفجأة نزل جبرئيل بهذه الآية :

« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ » (1).

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام ، واخراجكم منه وأنتم اهله أكبر عند اللّه من قتل من قتل منهم « والفتنة أكبر من القتل » أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

ولما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأموال ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين ، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريش الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا ».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش ، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلاّ إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش :

« إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم ».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين ، ومع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أسيري قريش.

ومن حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم ورجع الآخر إلى مكة (2).

ص: 40


1- البقرة : 217.
2- المغازي : ج 1 ص 13 - 18 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 603 - 605.
ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدف الاساسي من بعث وتوجيه السرايا ، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية ، واشتداد ساعدهم ، وخاصة عند ما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يشترك بنفسه في العمليات ، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية ، ويعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يريد بذلك إفهام حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده ، وأنه يستطيع - متى شاء - أن يشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية ، للتهديد الجدّي.

ولقد كانت التجارة أمرا حيويّا وحساسا جدا بالنسبة إلى أهل مكة ، وكانت البضائع التي تنقل منها إلى الطائف والشام تشكّل اساس الاقتصاد المكّي ، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قبل العدوّ وحلفائه مثل « بني ضمرة » و « بني مدلج » فان ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم.

لقد كان الهدف من بعث تلك الدّوريات العسكرية هو : أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين ، فاذا استمرّوا في معاداتهم للاسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الاسلام ، والدعوة إليه ، واستمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكة واضطهادهم ، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

والخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريش النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة ، والتهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي ، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم ، وتفتح الطريق لزيارة بيت اللّه الحرام ، ونشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ ، والمحكم أن ينفذ في القلوب ، ويتجلّى نور الاسلام ويشعّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية ، وربوعها ، وبخاصة منطقة

ص: 41

الحجاز مركز الجزيرة ، وقلبها النابض.

فان المتكلم مهما كان قويّ المنطق ، سديد البرهان وأنّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصا مجدا فانّه لا يستطيع أن يحرز اي نجاح في تنوير العقول ، وتهذيب النفوس وبث الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل ، ولم تتهيأ له البيئة المطمئنّة وأجواء الحرّية والديمقراطية.

ولقد كان الاضطهاد والكبت وسلب الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدّم الاسلام وسرعة انتشاره ونفوذه ، وكان الطريق الى كسر هذا السدّ ، وإزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها وتعريض خطوطها التجارية ، للخطر ، وكانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية ، والعمليات الاعتراضية.

نظرية المستشرقين :

ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير ، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلام يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون : لقد كان هدف النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مصادرة أموال قريش ، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنّ الغارة ، وقطع الطريق ، واستلاب الأموال ، من شيم الاعراب أهل البوادي ، البعيدين عن روح الحضارة ، وقيم المدنية وأخلاقها ، بينما كان مسلمو يثرب عامة ، أهل زرع ، وفلاحة ، ولم يعهد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل ، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.

وأما حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسباب وعلل محليّة ، وقد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها ، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقويه نفسها وموقعها.

ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول

ص: 42

صلی اللّه علیه و آله ينوون ملافاة ما خسروه ، رغم أنّ ثرواتهم وممتلكاتهم كانت قد صودرت من قبل المكيين ، ويدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة « بدر » لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث والارساليات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات ، عن العدوّ وتحركاته وخططه ، والمجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالبا الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلا لا يمكنها قطع الطريق ، واستلاب الاموال ، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عددا وأقوى عدّة من تلك السرايا ، بأضعاف المرات غالبا.

فاذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلما ذا خصّت قريش بذلك ، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟ ولما ذا لم يمس المسلمون شيئا من أموال غير قريش.

واذا كان الهدف هو الغارة ، وقطع الطريق واستلاب الأموال ، فلما ذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يبعث المهاجرين فقط ، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالبا؟

وربما قال هؤلاء المستشرقون : ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش ، لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى ، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر - بعد أن حصلوا على القوة - الى تجريد سيوفهم ، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم ، وليسفكوا منهم دما!!

ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوهن والسخافة عن سابقه ، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة ، تكذّبه وتفنّده ، وتوضّح - بجلاء - أن الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبدا القتال والحرب ، والانتقام وسفك الدماء.

وإليك ما يدلّ على بطلان هذه النظرية :

ص: 43

أوّلا : اذا كان هدف النبيّ صلی اللّه علیه و آله من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الاموال واخذ المغانم ، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات ، ويبعث كتائب - عسكرية مسلّحة ، ومجهزة تجهيزا قويا ، إلى سيف البحر ، وشواطئه على حين نجد أنه صلی اللّه علیه و آله بعث مع « حمزة بن أبي طالب » ثلاثين شخصا ، ومع « عبيدة بن الحارث » ستين شخصا ، ومع « سعد بن أبي وقاص » أفرادا معدودين لا يتجاوزون العشرة ، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جدا من الفرسان ، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.

فقد واجه « حمزة » ثلاثمائة ، وعبيدة مائتين رجلا من قريش ، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات التي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

هذا مضافا إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكلّفين بمقاتلة العدوّ فلما ذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث والعمليات ولما ذا انصرف بعضهم لوساطة قام بها « مجدي بن عمرو » بين الطرفين؟!

ثانيا : ان كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كتبه لعبد اللّه بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال ، والحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب : « انزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلم ( اي حصّل ) لنا من أخبارهم ».

إن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنّ مهمة عبد اللّه وجماعته لم تكن القتال قط ، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقلاته وتحركاته ، أي مهمة استطلاعية حسب.

واما سبب الصدام في « نخلة » ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس المجموعة ، وليس بقرار وأمر من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 44

ومن هنا انزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمجرد سماعه بنبإ هذا الصدام الدموي ولا مهم على فعلتهم وقال :

« ما أمرتكم بقتال ».

ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال : ما أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقتال في الشهر الحرام ، ولا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش (1).

والعلة في أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يختار لهذه الدوريات والبعوث رجالا من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع ، أي أن معاهدتهم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إذا قصده عدوّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يريد أن يفرض عليهم مثل هذه المهمات ، ويبقى هو في المدينة ، ولكنه عند ما خرج - فيما بعد - بنفسه أخذ معه جماعة من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة والوحدة بين المهاجرين والأنصار ، ولهذا كان رجاله في غزوة « بواط » أو « ذات العشيرة » يتكونون من الأنصار والمهاجرين.

وعلى هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنّ بالتأمل والامعان في ما قلناه يتضح أيضا بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه ، إذ أن الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصه بل كانوا خليطا من المهاجرين والأنصار ، والحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية ، بل كل ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو : العمل الدفاعي ،

ص: 45


1- المغازي : ج 1 ص 16.

فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة.

وتشهد بما نقول حادثة وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد ، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحرب ، في تلك الواقعة.

هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه ( غزوة ) وان لم يقع فيها قتال وغزو ، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوان واحد ، وإلاّ فلم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحرب والقتال ، أو السيطرة على الأموال وسلبها.

ص: 46

28

تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة

اشارة

لم يكن قد مضى على هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة عدة أشهر إلاّ وبدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلی اللّه علیه و آله تظهر شيئا فشيئا!!

وفي الشهر السابغ عشر من الهجرة بالضبط (1) أمر اللّه تعالى نبيّه صلی اللّه علیه و آله بالأمر المؤكّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة ويتخذها من الآن فصاعدا قبلة له وللمسلمين كافة ، فيتوجهون الى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصة ، وإليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاثة عشر عاما كاملة في مكة نحو بيت المقدس.

وبعد الهجرة الى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة ، أي بأن يصلي الى بيت المقدس ، كما كان يفعل في مكة.

وقد كان هذا الاجراء نوعا من المحاولة لاقامة التعاون والتقارب بين الدينين

ص: 47


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 241 و 242 ، إعلام الورى باعلام الهدى : ص 71 و 72. ويقول ابن هشام في السيرة النبوية : ان القبلة صرفت عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ( السيرة النبوية : ج 1 ص 606 ) ويرى ابن الاثير أن ذلك حدث في منتصف شهر شعبان ( الكامل : ج 2 ص 80 ).

القديم والجديد ، ولكن تنامي قوة المسلمين واشتداد ساعدهم أحدث رعبا كبيرا ، وأوجد قلقا واسعا في أوساط اليهود القاطنين في المدينة لأن تقدّم الاسلام والمسلمين المطرد كان يدلّ على أن الدين الاسلامي سيعمّ في أقرب وقت كل أنحاء شبه الجزيرة العربية ، وستتقلّص ( بل تزول ) في المقابل قوة اليهود وسلطانهم ، ومكانتهم ، من هنا نصب أحبار اليهود العداوة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وعمدوا إلى ممارسة سلسلة من الأعمال الإجهاضية والإيذائية.

لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين بمختلف أنحاء الطرق وبشتى الوسائل والسبل ، والمعاذير والحجج ومن جملتها التذرع بقضيّة صلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين الى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إياه : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون : تخالفنا يا محمّد في ديننا وتتبع قبلتنا (1).

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واغتم لذلك غما شديدا فكان يخرج من بيته في منتصف الليل ويتطلع في آفاق السماء ينتظر من اللّه أمرا ووحيا في هذا المجال كما تفيد الآية الآتية :

« قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها » (2).

ويستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال أنه كان لتغيير القبلة مضافا إلى الردّ على دعوى اليهود سبب آخر أيضا.

وهو أن هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية التي اراد اللّه تعال بها ان يمتحن المسلمين ، ويميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الايمان ، المنتحلين له كذبا ونفاقا ، وأن يعرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله به من حوله معرفة جيدة لأن إتباع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الأمر الثاني الذي نزل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أثناء الصلاة ( وهو التوجه إلى المسجد الحرام ) كان علامة قوية

ص: 48


1- مجمع البيان : ج 1 ص 255 أو : ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.
2- البقرة : 144.

من علامات الايمان والتسليم ، والاخلاص والوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامة قوية من علامات النفاق والتردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك اذ يقول :

« وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ » (1).

ومن المسلّم أنه يمكن الوقوف على حكم اخرى لهذا الأمر ( أي صرف القبلة من الشام الى الكعبة ) إذا تتبعنا تاريخ الاسلام بشكل أوسع ، وطالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

ويمكن الاشارة الى بعض هذه الحكم مضافا الى ما ذكرناه :

أولا : أن الكعبة التي رفعت قواعدها على يدي بطل التوحيد وناشر لوائه النبيّ العظيم « ابراهيم الخليل » علیه السلام كانت موضع احترام وتقديس من المجتمع العربي ، فقد كان العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم على ما هم عليه من الشرك والفساد ، فكان اتخاذه قبلة من شأنه كسب رضا العرب ، واستمالة قلوبهم ، وترغيبهم في الاسلام تمهيدا لاعتناق دين التوحيد ونبذ الاوثان والاصنام.

وأيّ هدف ، وأية غاية ترى أسمى وأجلّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلفون عن ركب الحضارة والمدنية ، وينتشر الاسلام بسببهم في كل أنحاء العالم.

ثانيا : أن الابتعاد عن اليهود الذين لم يكن يؤمل في إذعانهم للاسلام ، وايمانهم برسالة ( محمّد ) ذلك اليوم كان يبدو أمرا ضروريا ، لأنهم كانوا يقومون بأعمال ايذائية ضد الاسلام والمسلمين ويطلعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 49


1- البقرة : 143. ويمكن بيان هذه العلة بصورة أخرى وهي إنما أمر بالصلاة الى بيت المقدس لأن مكة وبيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأراد اللّه أن يمتحن بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. ( راجع مجمع البيان : ج 1 ص 222 و 223 ).

وآله بين الفينة والأخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها ، يظهرون بها - حسب تصورهم - أنهم يعرفون أمورا كثيرة وأنهم علماء ، وبذلك يضيّعون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوقت ، ويشغلونه عن مهامه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحدا من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم ، تماما مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الذي تم لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الاسلام ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله المسلمون بأن يصوموا هذا اليوم أيضا ، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء وفرض مكانه صوم شهر رمضان (1).

وعلى كل حال فان الاسلام الذي يتفوق على جميع الأديان ، يجب أن تتجلى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمر تكامله وتفوقه باديا للعيان ، واضحا للجميع.

وفي هذه الحالة تصوّر بعض المسلمين أن ما أتوا به من صلاة وعبادة وهم متجهين إلى بيت المقدس كان باطلا إذ قالوا : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ، أو حال من مضى من أمواتنا وهم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟!

فنزل الوحي الإلهي يقول :

« وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » (2).

ومع ملاحظة هذه الاعتبارات وبينما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد انتهى من الركعة الثانية من صلاة الظهر ، نزل عليه جبرئيل ، وأمره بأن يتوجه بالمصلّين معه حدب المسجد الحرام.

وجاء في بعض الاخبار أنّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأداره نحو المسجد الحرام ، فتبعه الرجال والنساء الذين كانوا يأتمون به في

ص: 50


1- مجمع البيان : ج 1 ص 273.
2- البقرة : 143. والمراد من الايمان هنا هو العمل وهو من الموارد التي استعمل فيها لفظ الايمان واريد به العمل.

المسجد (1).

فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس ، وآخرها الى الكعبة.

ومنذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة - زاد اللّه من شرفها - قبلة مستقلة للمسلمين يتوجهون إليها في كثير من واجباتهم وشعائرهم الدينية (2).

هذا والغريب أن اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس الى الكعبة المعظمة يفتخرون على المسلمين بأنهم يصلّون على قبلة اليهود ، لما حوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة ، وامروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس أخذوا يعيبون على المسلمين التوجه إلى نقطة ما في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله :

« سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (3).

أي ان اللّه فوق الزمان والمكان ، والتوجه إلى نقطة خاصة في حالة العبادة انما هو لمصالح اجتماعية خاصة فالصلاة الى الكعبة توجّه الى اللّه كالصلاة الى بيت المقدس سواء بسواء.

كرامة علمية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

وما ينبغي الاشارة إليه هنا هو : أن العرض الجغرافي للمدينة - طبقا لمحاسبات علماء الفلك القدامى - هو 25 درجة ، وطولها 75 درجة و 20 دقيقة ، ولهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الباقي على حالته السابقة الى الآن في مسجده الشريف ، وقد سبّب هذا الاختلاف حيرة لدى بعض المتخصصين في هذا العلم ، وربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات وتبريرات لرفع هذا الاختلاف.

ص: 51


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 201 عن من لا يحضره الفقيه.
2- كالصلاة والذبح ودفن الموتى ، والدعاء وغير ذلك.
3- البقرة : 142.

ولكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة - طبقا للمقاييس المعروفة اليوم - أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة وطول 39 درجة و 59 دقيقة (1).

وتكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماما وتنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقه فقط.

وهذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفضل تطبيق ، ويعدّ هذا من كرامات النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله حيث توجه في حالة الصلاة (2) من بيت المقدس الى الكعبة بصورة دقيقة ومن دون أي انحراف ولا جزئي مغتفر وذلك من دون أية محاسبة فلكيّة ، وعلميّة.

وقد أخذ جبرئيل بيده وحوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا (3).

ص: 52


1- تحفة الأجلّة في معرفة القبلة : ص 71 طبعة 1359.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق : ج 1 ص 178.
3- وقد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة : في أبواب القبلة ج 3 ص 215 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فراجع.

29

معركة بدر

اشارة

معركة « بدر » من معارك الاسلام الكبرى ومن حروبه البارزة ، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدة أفراد من المجاهدين في « بدر » أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون : ووافقنا عليه البدريون.

أجل إن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يدعون بالبدريين ، ولم يكن هذا إلاّ لاهميّة تكلم الوقعة التاريخية.

وتتضح علة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة ، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إلى الشام بقيادة « أبي سفيان بن حرب ».

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لملاحقتها إلى « ذات العشيرة » وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي ، ولم يعثر على تلك القافلة ، وقد كان وقت عودة القافلة معلوما تقريبا ، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكة في أوائل الخريف.

ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المحالات هو

ص: 53

تحصيل اكبر قدر من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئا عن استعدادات العدوّ ، ونقطة تمركزه وتواجده ، ومعنويات أفراده ، فانه ربما ينهزم وينكسر في أول مواجهة.

ولقد كان من أساليب النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله الرائعة في جميع الحروب والمعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ ، ومبلغ تهيّؤه ومكان تواجده ، وتمركزه ، وهذه مسألة تحظى والى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية والمحلية ، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى ، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر ، كما هو معلوم للجميع ، وكما أشرنا الى ذلك فيما سبق.

وقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينا له على قافلة قريش اسمه « عدي » - حسب رواية المجلسي (1) - أو « طلحة بن عبيد اللّه » و « سعيد بن زيد » حسب ما قال صاحب « حياة محمّد » نقلا عن المصادر التاريخيّة (2) ، لإخباره عن مسير تلك القافلة ، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية البضائع المحمّلة.

فلما عاد العين أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

1 - بأن قافلة قريش قافلة كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة ، حتى أنه ما من قرشيّ أو قرشية بمكة له مثقال فصاعدا إلاّ بعث به في تلك القافلة.

2 - إنّ البضائع يحملها ألف بعير وأنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3 - وأنه يقودها « أبو سفيان بن حرب » في أربعين رجلا.

وحيث إن أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش من هنا كان الوقت مناسبا جدا لأن يأخذ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة ، ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة ، فاذا لجّوا وأصرّوا في مصادرة أموال المسلمين قسّم

ص: 54


1- بحار الأنوار : ج 18 ص 217.
2- المغازي : ج 1 ص 19.

المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم وتصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم :

« هذا عير قريش ( أي قافلتهم ) فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلّ اللّه ينفلكموها » (1).

من هنا استخلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة « عبد اللّه بن أمّ مكتوم » للصلاة بالناس ، والقيام بالشؤون الدينية ، و « أبا لبابة » للقيام بالشؤون السياسية.

ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى توقيفها وحبسها.

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران :

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران (2) :

لقد ترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة قريش ، قاصدا وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين ، الثامن من شهر رمضان ، وقد عقد رايتين سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير ، والاخرى ( وتسمى العقاب ) إلى علي بن أبي طالب علیه السلام .

ولقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله تتألّف من اثنين وثمانين من المهاجرين ، ومائة وسبعين من الخزرج ، وواحد وستين من الأوس ، وكان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

ص: 55


1- المغازي : ج 1 ص 20.
2- وادي ذفران الذي كان يمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر. وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من المدينة إلى ذفران ومنه إلى بدر الذي ارتحل اليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش. وبدر كان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام يتبايعون فيه ويتفاخرون على غرار سوق عكاظ، وكان يقع على طريق مكة والمدينة والشام. (راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 613 - 618).

ولقد بلغ حبّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغا عجيبا حتى أنّ فتيانا دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة ، وردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم (1).

إن كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يفيد بانه صلی اللّه علیه و آله قد وعدهم بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش ، وأخذ بضائعها ، وكان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه ، وهو أن قريشا كانت قد صادرت كل أموال المهاجرين المسلمين في مكة ، منقولها وغير منقولها ، ومنعت من دخولهم مكة ، وخروجهم منها.

ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه - أيّا كان - بأن يعامل عدوه بمثل هذه المعاملة التي عامله بها العدوّ.

وأساسا يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظلموا وقهروا ، الأمر الذي يذكره القرآن الكريم أيضا ، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوّهم ويعترضوا تجارتهم إذ يقول :

« أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ » (2).

ولقد كان أبو سفيان قد عرف - عند توجهه بالقافلة إلى الشام - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يترصد القافلة ، ولهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام ، فكان يسأل القوافل عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان إذا رأى أحدا منهم سأله : هل أحسست أحدا؟!

ص: 56


1- المغازي : ج 1 ص 21. ورويأنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبي صلى اللّه عليه وآله رغبةً في الجهاد في سبيل اللّه والشهادة فكان ممن ساهم «سعد بن خيثمة» وأبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه : انه لوكان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا. فقال خيثمة : آثرني، وقرمع نسائك ! فابى سعد. فقال خيثمة: إنه لابدَّ لأحدنا من أن يقيم فاسْتَهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر(المصدر).
2- الحج : 39.

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد خرج مع أصحابه من المدينة ، يلاحق قافلة قريش ، وقد نزل في وادي ذفران.

ولما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر ولم ير بدّا من أن يخبر قريشا بالخطر الذي يحدق بتجارتهم ، وأموالهم ، ويطلب مساعدتهم ، فاستأجر رجلا يدعى « ضمضم بن عمرو الغفاري » وأمره بأن يجدع بعيره ( يقطع أنفه ) ويحوّل رحله ، ويشقّ قميصه من قبله ودبره ويصيح الغوث! الغوث ، ويخبر قريشا أنّ محمّدا تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة ، ولمّا قدمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصوت : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (1) ، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه ، لا أرى ان تدركوها ، الغوث الغوث (2).

فأثار هذا المنظر المثير ، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة ، فتجهزوا سراعا ، وتهيّأوا للخروج ، وأعدّ كل صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو المدينة إلاّ أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج ، وارسل مكانه « العاصي بن هشام » لقاء أجر قدره أربعة آلاف درهم.

وأراد « أميّة بن خلف » هو الآخر أن يتخلّف لاسباب خاصّة ، فقد قيل له : أن محمّدا يقول : لأقتلنّ أميّة بن خلف (3).

فرأى أشراف قريش وسادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش ، فقرروا إثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وهو جالس في المسجد بين ظهرانيّ قومه ، بمجمرة يحملانه فيها نار وعود يتبخّر به حتى وضعاها بين يديه ثم قالا له :

« يا أميّة استجمر فإنّما أنت من النساء »!

ص: 57


1- اللطيمة : الابل التي تحمل الاقمشة والعطور ، والنداء يعني : ادركوا اللطيمة ادركوها.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 81 ، المغازي : ج 1 ص 31 ، بحار الانوار : ج 19 ص 216.
3- المغازي : ج 1 ص 35.

فغضب أميّة ، وهاجت به الحمية ، فتجهز من فوره ، وخرج مع الناس (1).

وخلاصة القول أنه اوعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، فكانوا بين رجلين إما خارج أو باعث مكانه رجلا ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلاّ أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وأخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف ويهيّجن الرجال للقتال.

المشكلة التي كانت تواجهها قريش :

ولما اعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم وبين قبيلة « بني بكر » عداء قديما ، فخافوا أن يوجهوا إليهم ضربة من الخلف ، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود إلى دم سفك بينهم في قصة ذكرها ابن هشام وغيره من كتّاب السيرة (2).

ولكن سراقة بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر - طمأنهم ، ووعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه ، ولما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعا.

وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية ، وهبطوا في وادي ذفران ، وبقوا هناك ينتظرون مرورها ، ولكنه فجأة بلغه خبر جديد غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي ، وفتح - في الحقيقة - فصلا جديدا في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية ، وأن جيشها قد وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، وأن طوائف متعددة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.

ص: 58


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 138 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 82 ، المغازي : ج 1 ص 35 و 36.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 610 و 611 ، المغازي : ج 1 ص 38 و 39.

فوجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والقائد الاعلى للمسلمين نفسه أمام خيارين :

إما أن يقاتل ، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلاّ لمصادرة أموال قريش ، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير ، لا من حيث العدد ، ولا من حيث العدّة.

وإما أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى ، وهذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة ، بفضل المناورات العسكرية ، والعروض النظامية السابقة.

وبخاصة إذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل هذا الانسحاب واجتاح مركز الإسلام « المدينة المنورة ».

فرأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن لا ينسحب ، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتى اللحظة الأخيرة والنفس الأخير.

والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصا.

وكانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيعة على الدفاع عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحمايته لا القتال والحرب.

اي انهم بايعوه صلی اللّه علیه و آله على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه وهو بينهم.

أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله على مثل ذلك فما ذا يفعل القائد الأعلى للمسلمين.

إنه لم ير مناصا من استشارة الناس الذين معه ، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقة حل لهذه المشكلة.

النبيّ يعقد شورى عسكرية :

وهنا وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك الجماعة وقال : أشيروا

ص: 59

عليّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر وقال : يا رسول اللّه إنّها قريش ، وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ولم نخرج على أهبة الحرب!!

وهذا يعني أنه رأى من الصالح ان ينسحبوا الى المدينة ، ولا يواجهوا قريشا.

فقال له رسول اللّه : اجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب ، وكرّر نفس مقالة أبي بكر ، فأمره النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجلوس أيضا.

ثم قام « المقداد بن عمرو » وقال : يا رسول اللّه امض لما أراك اللّه فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون.

ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وإنا معكما مقاتلون.

فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت الى برك الغماد ( وهو موضع بناحية اليمن ) لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا ( أي النار المتقدة ) وشوك الهراس ( وهو شجر كبير الشوك ) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيرا ودعا له به.

إخفاء الحقائق وكتمانها :

إذا كان اخفاء الحقائق ، والتعتيم عليها وسترها ، والتعصب الباطل أمرا مشينا من كلّ من ألّف وكتب ، فإنّه ولا شك أقبح من المؤرّخ ، المؤتمن على التاريخ وحقائقه.

فان على المؤرخ أن يكون مرآة صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب ، وغشاوة التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.

ولقد ذكر ابن هشام (1) والمقريزي (2) والطبري (3) ما وقع في الشورى

ص: 60


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 615.
2- إمتاع الاسماع : ص 74.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 140.

العسكرية التي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأدرج فيها ما قاله المقداد ، وقاله سعد بن معاذ في كتبهم على وجه التفصيل ، ولكنهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبو بكر وعمر وإنما قالوا : وقال فلان وأحسن ، وقال فلان واحسن!!

وهنا نسأل ذينك المؤرخين اذا كان ما قاله فلان وفلان حسنا أرضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما ذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام مقداد وسعد.

بلى ؛ إنهما لم يقولا إلاّ ما ذكرناه قبل قليل ، ليس غير. وإذا كان أولئك المؤلفون يكتمون الحقائق ، فقد أظهرها الآخرون وسجلوا نص ما قاله الرجلان (1) ، ولم يكن قولا حسنا ولا كلاما طيبا ، بل كان كلامهما مثبطا ، ينمّ عن خوف ، ووحشة ، فهما صوّرا قريشا قوة لا تقهر ، وجيشا لا يدحر ، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق ، واللحظة الخطيرة!!

وإنك أيها القارئ لتستطيع أن تعرف مدى انزعاج النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مقالتهما ، مما ذكره الطبري نفسه في الصفحة ذاتها ، فان الشيخين كما تلاحظ ، كانا أوّل من نطقا في تلك الشورى ، ثم تكلّم بعدهما المقداد ، وسعد بن معاذ.

فان الطبري يروي عن ابن مسعود أنه قال : لقد شهدت من المقداد مشهدا لئن أكون أنا صاحبه احبّ إليّ مما في الارض من شيء كان رجلا فارسا وكان

ص: 61


1- المغازي : ج 1 ص 48 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 160 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 217. قال الواقدي: ثم قال عمر: يارسول اللّه أنها واللّه قريش وعزّها، واللّه ماذلت منذ عزّت، واللّه ما آمنت منذ كفرت، واللّه لا تسلم عزّها أبداً، ولتقاتلنَّك فاتهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته ! ! ! كما جاء في صحيح مسلم : ج 5 ص 170 باب غزوة بدر ومسند أحمد : ج 3 ص 219 بطريقين انه حين بلغ النبي صلى اللّه عليه وآله اقبال ابي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر فاعرض عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه .

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذا غضب احمارّت وجنتاه ، فاتاه المقداد على تلك الحال (1) فقال : أبشر يا رسول اللّه فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : « اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون » (2).

ولقد كان ذلك المجلس مجلس استشارة وتبادل للرأي وكان لكل أحد الحقّ في أن يدلي برأيه ، ويطرح نظره على القائد الأعلى ، ولكنّ مجريات الاحداث أثبتت أن مقداد كان أقرب إلى الصواب ، وأكثر توفيقا في اصابة الحق من ذينك الرجلين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تخوف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه :

« كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ » (3).

وقال تعالى :

« يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » (4).

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار :

كانت الآراء التي طرحت آراء شخصيّة وفردية على العموم ، والحال أن الهدف الاساسيّ من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار ، فلمّا لم يدل الأنصار برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتخذ رأيا حاسما ، وتبت في أمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قوله : « أشيروا عليّ أيها

ص: 62


1- أي وهو غاضب من مقاله وتثبيط من تقدماه.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 140.
3- الانفال : 5.
4- الانفال : 6.

الناس » وهو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال : واللّه لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : أجل.

فقال سعد : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنا قد آمنّا بك ، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند اللّه ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر (1) فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.

إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه ، وصل من شئت ، واقطع من شئت وخذ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا مما تركت.

فسّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقول سعد ونشّطه ذلك ، وأزال سحابة اليأس من النفوس ، وأشعل ضياء الأمل في القلوب.

ولهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريّ البطل والقائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلاّ وأصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالرحيل قائلا : « سيروا على بركة اللّه وابشروا فانّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده.

واللّه لكأنّي الآن أنظر الى مصارع القوم ».

وتحرك الجيش الاسلاميّ بقيادة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله ونزل عند آبار « بدر » (2).

تحصيل المعلومات حول العدوّ :

مع أنّ المبادئ العسكريّة والتكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف

ص: 63


1- يقصد البحر الأحمر.
2- المغازي للواقدي : ج 1 ص 48 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 615.

عما كانت عليه في العصور الغابرة اختلافا كبيرا إلاّ أنّ مسألة تحصيل المعلومات حول العدوّ ومعرفة أسراره العسكرية ، ومدى استعداداته ومبلغ قواه التي يستخدمها ، ودرجة معنويات أفراده لا تزال على أهميتها وقيمتها ، لم تتغير من هذه ، بل ازدادت أهمية في العصر الحاضر - كما أسلفنا -.

فهي تشكل الآن أيضا مفتاحا في الحروب ، ومنطلقا للانتصارات العسكرية.

على أن هذه المسألة قد اتخذت اليوم صبغة التعليم والتمرين ، فقد أصبح لها اليوم كتب ومعاهد تتولى تعليم طرائق التجسس العسكري واساليبه ، كما ويعزي قادة المعسكر الغربي والشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس ومنظماته التي تستطيع اطلاع أصحابها على معلومات دقيقة ومفصّلة عن خطط العدو وقواه ، واماكن تمركزه وتواجده ، وخطوط إمداده ، وتموينه تمهيدا لإفشال تحركاته أو إجهاضها فورا.

من هنا استقر الجيش الاسلاميّ في منطقة تلائم مبادئ التستر بشكل كامل ، ومنع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره ، كما أن فرقا مختلفة ومتعددة كلّفت بتحصيل وجمع المعلومات عن قريش وقافلتها وجيشها.

فكانت المعلومات التي توفرت لدى القيادة الاسلامية هي كالتالي :

الف / انّ النبيّ نفسه ركب هو ورجل من قادة جيشه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فأخبرهم بأن محمّد وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، وانه إن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي كان به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وان قريشا خرجوا يوم كذا وكذا ، وانه ان كان الذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش.

وهكذا عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نقطة تواجد قريش ، واستقرار قواتهم.

باء / بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة « الزبير بن العوام » و « سعد

ص: 64

بن أبي وقاص » بقيادة عليّ علیه السلام الى ماء بدر يلتمسون له الخبر ، فأصابوا إبلا يستقي عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج والآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألهما النبيّ عن قريش فقالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كم القوم وما عدّتهم فقالا : لا ندري ، كثير. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كم ينحرون ( من الابل ) كل يوم؟ قالا : يوما تسعا ويوما عشرا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : القوم فيما بين التسعمائة والألف.

ثم سألهما : فمن فيهم من أشراف قريش؟

قالا : عتبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأميّة بن خلف و .. و ..

فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أصحابه وقال :

« هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها » (1).

جيم / كلّف شخصان بالدخول الى قرية بدر وتقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا ابلهما الى تلّ قريب من الماء ، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا ، وكان على الماء جاريتين تستسقيان وتقول إحداهما للاخرى : إنما تأتي القافلة غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك.

فقال لها « مجدي بن عمرو الجهني » ، وكان على مقربة منهما : صدقت ثم خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما سمعا فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبراه بما سمعا (2).

والآن وبعد أن أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عارفا بوقت ورود القافلة ، ومكان تواجد قريش ، معرفة دقيقة عمد إلى ترتيب المقدمات اللازمة.

ص: 65


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 617.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 617.
كيف هرب أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبو سفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين ، ولهذا فانه كان يعلم جيدا بأنهم سوف يتعرضون له عند قفوله من الشام أيضا.

ولهذا عند ما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الاسلامية أراحها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين ودخل هو قرية « بدر » يتجسس ، ويسأل عن أخبار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فالتقى « مجدي بن عمرو » على ماء بدر فسأله : هل أحسست أحدا؟ ( ويقصد هل رأيت أحدا من عيون محمّد ورجاله؟ ).

فأجابه مجدي قائلا : ما رايت أحدا انكره ، إلاّ أني قد رأيت راكبين قد أناخا الى هذا التلّ ثم استقيا في شنّ لهم ، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتّه ، فاذا فيه النوى فقال : هذه - واللّه - علائف يثرب. هذه عيون محمّد وأصحابه ، ما أرى القوم إلاّ قريبا.

فرجع إلى أصحابه سريعا وحرّك القافلة من فوره ، وابتعد عن بدر وأخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر كما أنه كلّف أحدا بإخبار قريش فورا ، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد وأصحابه ، وأن أموالهم نجت فليرجعوا وليتركوا محمّدا تكفيه العرب.

ص: 66

الصورة

خارطة معركة بدر

دليل الخارطة :

1 - القلعة 2 - مدينة بدر 3 - النخيل 4 - مسجد العريش 5 - بيوت بدر

ص: 67

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش :

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش ، وانتشر هذا النبأ بينهم بسرعة ، فاغتمّ من خرج مع المسلمين يريد الحصول على شيء من تلك الأموال ، فقال اللّه تعالى تثبيتا لهم وتسكينا لقلوبهم :

« وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ » (1).

إختلاف قريش في القتال :

عند ما وافى رسول أبي سفيان قريشا وهم بالجحفة ، وأبلغهم رسالة أبي سفيان وطلب منهم الرجوع إلى مكة حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

وقال بنو زهرة والأخنس بن شريق وكانوا حلفاء على الرجوع قائلين : قد خلصت أموال سيد بني زهرة : « مخرمة بن نوفل » وانما نفرنا لنمنعه وماله ، فلا حاجة بأن نخرج في غير منفعة.

ورجع طالب ( ابن أبي طالب ) إلى مكة وكان قد استكره على الخروج من مكة ، وذلك بعد مشاجرة بينه وبين رجل من قريش قال له :

« واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمّد » (2).

وأما أبو جهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة ، وعدم الرجوع إلى مكّة خلافا لطلب أبي سفيان ، قائلا :

واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ( الأباعر ) ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان والمغنيات ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا!!

ص: 68


1- الانفال : 7 و 8.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 619.

فحملت كلمات أبي جهل المغرية قريشا على مواصلة التقدم نحو المدينة ، ونزلت في مكان مرتفع (1) خلف كثيب.

وأمطرت السماء مطرا غزيرا فأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، ومنعهم من مزيد التقدم.

بينما لم يحدث المطر أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين ولم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبد الأرض حتى ثبتت أقدامهم (2).

و « بدر » منطقة واسعة يتكون جنوبها من مكان مرتفع ( العدوة القصوى ) وشمالها من مكان منخفض منحدر ( العدوة الدنيا ) وكانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار وعيون ماء ، فكان منزلا للقوافل ينزلون فيه ويستقون ، ويستريحون ردحا من الزمن.

وهنا تقدم « الحباب بن منذر » وكان فارسا مجربا وعسكريا محنكا باقتراح الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ قال : يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « بل هو الرأي والحرب والمكيدة ».

فقال : يا رسول اللّه فان هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتّى أدنى ماء من القوم ، فنزله فنغوّر ( أي ندفن العين ) ما وراء القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقد أشرت بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن معه فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب ( الآبار ) فغوّرت ، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

إن هذه الحادثة تكشف جيّدا على اهتمام رسول الإسلام بالمشاورة ،

ص: 69


1- وهو ما يسمى بالعدوة القصوى.
2- ويقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب وعلى أصحاب رسول اللّه رذاذا بقدر ما لبد الأرض.

واحترامه لآراء الآخرين واتساع صدره لاقتراحاتهم ، والأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج (1). « العريش » أو غرفة القيادة :

وقيل إن سعد بن معاذ تقدم هو الآخر بمقترح عسكري رائع وهو بناء واقامة برج لرسول اللّه يقود منه العمليات ويشرف على سيرها ويكون مأمنا له من كيد الاعداء فقال : يا رسول اللّه ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدوّنا فان أعزّنا اللّه وأظهرنا على عدوّنا ، كان ذلك ما أحببنا ، وان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعا له بخير ، ثم بني له صلی اللّه علیه و آله عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال والحرب ، وكان سعد وجماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!! (2).

نظرة الى مسألة « العريش » :

ان مسألة بناء العريش لرسول اللّه ، وحراسة سعد بن معاذ وجماعة من فتيان الأنصار له هو مما ذكره ورواه الطبري في تاريخه نقلا عن ابن اسحاق وتبعه الآخرون في ذلك ، ولكن هذه القصة لا يمكن القبول بها لاسباب هي :

أوّلا : أن هذا العمل يفتّ في عضد الجنود ، ويضعف من معنوياتهم القتالية لأن معناه أن القائد يفكر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكر في نجاة جنوده ، ومثل هذه القيادة لا يمكنها ان تستحوذ على قلوب جنودها ، وتجعلها مطيعة لأوامرها.

ص: 70


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 620 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 144.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 145 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 620.

ثانيا : أنّ هذه القصة تتنافى مع الاخبار القطعية التي بشر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلی اللّه علیه و آله قبل أن يواجه المسلمون قريشا قال لأصحابه الذين خرجوا معه من المدينة وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما الظفر بقافلة قريش التجارية قطعا ، أو الانتصار على الجيش المكي حتما ويقينا إذ قال اللّه تعالى :

« وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » (1).

وإنما اقدم على بناء العريش لرسول اللّه - بناء على رواية الطبري - في الوقت الذي كانت قافلة قريش قد أفلتت وهربت من أيدى المسلمين ، ولم يبق الاّ الجماعة المسلحة التي خرجت لحماية القافلة ، وكان المسلمون يعلمون - طبقا لذلك الوعد الإلهي القاطع - أنهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة : « ويقطع دابر الكافرين » فلم يكن المجال مجال تردد وشك.

وبهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة ولزوم بناء عريش لحماية النبيّ واعداد ابل سريعة السير عند العريش لينجو صلی اللّه علیه و آله عليها بنفسه حديثا باطلا لا مبرّر له ، ولا مسوّغ.

يقول ابن سعد نقلا عن عمر بن الخطاب قال : لما نزلت « سيهزم الجمع ويولّون الدبر » قلت : وأي جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يثب في الدرع وثبا وهو يقول : « سيهزم الجمع ويولّون الدبر » فعلمت ان اللّه تبارك وتعالى سيهزمهم (2).

ومع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه شيء حول الهزيمة أو يحدثوا أنفسهم بالفرار؟

ثالثا : أن النبيّ الذي يصف الامام عليّ علیه السلام موقفه وحالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبدا ولا تلائم هذا التكتيك الذي لا يتسم

ص: 71


1- الأنفال : 7.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 25.

بالشجاعة والثبات.

يقول عليّ علیه السلام :

« كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه » (1).

فهل يفكر مثل هذه الشخصيّة التي يصفها أول تلامذة مدرسته ، وأقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف ، في الفرار ، أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.

نحن نعتقد أن بناء العريش لم يكن إلاّ من باب إعداد غرفة للعمليّات ولمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال ، لأن القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرف بواقعية واتقان ، ولا يمكنها أن تقود الجنود والحشود من منطلق الواقع القتالي والعسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش ان صحّ أصل القصة هو الإعداد والتحسب للفرار وما شاكل ذلك.

تحرك قريش باتجاه بدر :

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ارتحلت قريش من وراء الكثيب وانحدرت إلى وادي بدر ، فلما رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك.

اللّهمّ فنصرك الّذي وعدتني به ، اللّهمّ أحنهم (2) الغداة ».

قريش تتشاور في القتال :

استقرت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعدادا للمواجهة ، وحيث

ص: 72


1- نهج البلاغة لعبده : الكلمات القصار الكلمة 214 ، ويقول السيد الرضي رضی اللّه عنه : معنى ذلك أنه اذا عظم الخوف من العدوّ ، واشتد عضاض الحرب فرع المسلمون الى قتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به ويؤمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.
2- أي اهلكهم.

أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن عدد أفراد المسلمين ومبلغ استعداداتهم ، لذلك كلفوا « عمير بن وهب الجمحيّ » - وكان فارسا ماهرا في الاحصاء والتخمين - بأن يحزر ( ويقدر بالحدس ) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم رجع الى قريش وقال : ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى انظر أللقوم كمين ، أو مدد.

فضرب في الوادي حتى أبعد ولكنه لم ير شيئا.

فرجع الى قريش ثانية وهو يحمل لهم خبرا مرعبا إذ قال : ما وجدت شيئا ( أي كمينا او مددا وراء المسلمين ) ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا (1) تحمل المنايا ، نواضح (2) يثرب تحمل الموت الناقع (3) ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم.

واللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم ، فاذا اصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم!!!

وروى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال : قال عمير : واللّه ما رأيت جلدا ولا عددا ولا حلقة ولا كراعا ، ولكني رأيت قوما لا يريدون أن يئوبوا الى أهليهم ، قوما مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم ، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف (4) (5).

وروى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال : قال عمير : ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمّظ الافاعي ما لهم ملجأ إلاّ سيوفهم ما أراهم يولون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم (6).

ص: 73


1- وهي جمع بلية وهي الناقة او الدابة.
2- الابل يستقى عليها الماء.
3- الموت الثابت البالغ في الافناء.
4- الحجف جمع الحجفة وهي الترس.
5- المغازي : ج 1 ص 62.
6- بحار الأنوار : ج 19 ص 224.
اختلاف قادة قريش في امر القتال :

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجة كبرى بين رجال قريش وسادتها وزعمائها ، وانتاب الجميع خوف بالغ ورعب شديد من المسلمين.

فمشى حكيم بن حزام الى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين ، فقال له : يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزل تذكر فيها بخير الى آخر الدهر ، ترجع بالناس وتحمل أمر ( دم ) حليف عمرو بن الحضرمي ، وما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة (1) إنكم لا تطلبون من محمّد شيئا غير هذا الدم والمال؟!

فاقتنع عتبة برأي حكيم ، فجلس من فوره على جمله ، ووقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل وبليغ يقول : يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه ( يعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) ، يا معاشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، إن محمّدا له آل ( أي قرابة ) وذمة وهو ابن عمكم فخلّوه والعرب ، إنكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا وأصحابه شيئا ، واللّه لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو خاله أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا وخلّوا بين محمّد وسائر العرب ، فان أصابوه فذاك الذي أردتم وان كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون (2).

وانطلق حكيم بن حزام الى أبي جهل وأخبره برأي عتبة ومقالته ، هذا وأبو جهل يهين درعه ، فانزعج أبو جهل من مقالة عتبة وموقفه انزعاجا شديدا وثارت ثائرته حسدا على عتبة ، وتعنتا عن الحق (3) ، وبعث من فوره رجلا إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الذي قتل في غزوة عبد اللّه بن جحش بنخلة

ص: 74


1- إشارة الى ما جرى في سرية عبد اللّه بن جحش.
2- المغازي : ج 1 ص 63 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 623 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 224.
3- قال صاحب المغازي : فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال : ان يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة ، وعتبة انطق الناس!!!

وقال له : هذا حليفك ( عتبة ) يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم وانشد خفرتك (1) ومقتل ( أو دم ) أخيك.

فقام عامر وكشف عن رأسه ، وأخذ يحثو التراب على رأسه ، وصاح مستغيثا وا عمراه وا عمراه ، تحريكا للناس وإثارة لمشاعرهم.

فهاج الناس لمنظر عامر وثارت مشاعرتهم لندبته ، وأجمعوا على الحرب ، وتناسوا اقتراح عتبة ، ونصيحته البليغة الحكيمة لهم.

ولكن عتبة هذا الذي كان يميل الى اعتزال الجيش وترك الحرب ، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره ولبس لامة حربه واستعد لقتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه (2).

وهكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة ، والمشاعر الثائرة الباطلة وتنطفئ شعلة الفكر ، ولا يعود يضيء لصاحبه درب المستقبل حتى أن الرجل الذي كان قبل قليل داعية السلام ، والتعايش الاخوي يتحول تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي ، العابر ، الاحمق إلى أول مبادر الى القتال وسفك الدماء وازهاق الارواح!!!

ما الذي حتّم القتال؟

لما أبصر الاسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيئ الخلق - الحوض الذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال : اعاهد اللّه لاشربن من حوضهم أو لا هدمنّه أو لأموتنّ دونه!!

ثم خرج من بين صفوف المشركين وشد حتى دنا من الحوض فاستقبله حمزة ، ولما التقيا ضربه بسيفه حمزة فاطار قدمه ، وهو دون الحوض فوقع على الأرض تشخب رجله دما ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه يريد ان يشرب منه أو ان

ص: 75


1- اي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم وعهدهم لك لأنه كان حليفا لهم.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 623 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 224.

يبر يمينه ، فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

فتسببت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امرا مسلّما وحتميا ، لانه ليس ثمة شيء يقدر على تحريك المشاعر ، واثارة العواطف ودفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ والحنق على المسلمين يكاد يقتلهم ، وكانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب ويفجّرون فتيلها قد حصلوا الآن على ما يريدون (1).

المبارزات الفردية أولا :

كان التقليد المتّبع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملات الجماعية.

فلما قتل الاسود المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش المعروفين من صفوف الجيش المكي ودعوا الى المبارزة.

وهؤلاء الصناديد الثلاثة هم :

1 - عتبة (2).

2 - شيبة.

وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3 - الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال ويدعون الى المبارزة ، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة وهم « عوف » و « معوذ » ابنا الحارث و « عبد اللّه بن رواحة ».

ص: 76


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 147 و 148.
2- وعتبة هذا هو الذي اقترح الانسحاب وعدم القتال كما عرفت. ويروى انه لما خرج قال له حكيم بن حزام : أبا الوليد مهلا ، مهلا تنهى عن شيء وتكون أوّله!! ( المغازي : ج 1 ص 67 ).

ولما عرف عتبة أنهم من رجال المدينة قال : ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ ».

فقاموا ، وخرجوا للمبارزة ، ولما دنوا منهم ، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّف أبطال الاسلام أنفسهم وذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة : نعم أكفاء كرام.

ويرى البعض أنه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة من كان على سنّه من الكفار فبارز عليّ علیه السلام الوليد ( خال معاوية بن أبي سفيان ) وبارز حمزة ( وهو أوسطهم ) عتبة ( جدّ معاوية لامّه ) وبارز عبيدة ( وهو أسنّ الثلاثة ) شيبة وهو أسنّ الكفار الثلاثة.

غير أن ابن هشام يقول : بارز « حمزة » شيبة ، وبارز « عبيدة » عتبة ، وبارز « عليّ » الوليد بن عتبة (1).

وهذا يعني أن حمزة ( الاوسط في السن ) قاتل الاسنّ من الكفار.

فأيّ القولين هو الأصح؟

إن ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال :

الأوّل : إن المؤرخين كتبوا : أن عليا وحمزة قتلا خصميهما في الحال ، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه (2).

الثاني : إن الامام أمير المؤمنين علیه السلام كتب في كتاب له الى معاوية :

« وعندي السيف الذي اعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام

ص: 77


1- راجع لمعرفة كلا الرأيين سنن البيهقي : ج 3 ص 276.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 148 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 625 قال : وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة.

واحد » (1).

فمن هذا الكتاب يتضح بجلاء أن الامام علیه السلام شارك - في قتل جدّ معاوية ( أي عتبة ) هذا من جانب.

كما أننا نعلم من جانب آخر أن كلا من حمزة وعليا قد قتل خصمه في اللحظة الاولى من المبارزة. فاذا كان خصم حمزة هو عتبة ( جدّ معاوية ) لم يكن - حينئذ - أي معنى لقول الامام علیه السلام : « أنا قتلت جدك ».

فلا مناص من أن نقول : إن الذي بارز حمزة هو شيبة ، وأن الذي بارز عبيدة هو عتبة ليصح حينئذ أن يقال أن عليا وحمزة ، ذهبا - بعد الفراغ من قتل خصميهما - الى عتبة وكرّا بأسيافهما عليه وقتلاه ، ثم احتملا صاحبهما « عبيدة » وأتيا به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

وبهذا تترجح النظرية الثانية ، والقاضية بعدم التكافؤ بين أسنان كلّ من المتبارزين.

الهجوم العامّ :

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجوم العام.

فتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وأن يكتفوا برمي القوم بالنبال إذا اقتربوا منهم ليمنعوا من تقدّم العدوّ.

ثم نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من برج القيادة ( العريش ) وعدل صفوف أصحابه وفي يده سهم يعدّل القوم. فمر بسوّاد بن غزية ، وهو متقدم من الصف ، فطعن في بطنه بالسهم الذي معه وقال له : استو يا سوّاد.

ص: 78


1- نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 64 واعضضته به جعلته يعضه.
2- ثم إن المقصود من أخ معاوية الذي أشار الامام علي في كلمته الى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 708 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 19.

فقال : يا رسول اللّه أوجعتني وقد بعثك اللّه بالحق والعدل فأقدني ( أي اقتصّ ) لي من نفسك. فكشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن بطنه وقال : استقد ( أي أنت اقتصّ ) فاعتنقه سوّاد وقبّل بطنه صلی اللّه علیه و آله فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما حملك على هذا؟

قال : يا رسول اللّه حضر ما ترى ( من القتال ) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك.

فدعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخير (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن عدّل الصفوف رجع الى غرفة العمليّات ( العريش ) فدخله وتوجّه إلى ربه بقلب مفعم بالإيمان يناشده ما وعده من النصر وقال في مناجاته لربه في تلك اللحظات :

« اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا » (2).

ولقد سجّلت المصادر التاريخية الاسلامية تفاصيل وجزئيات الهجوم العام ، الى درجة ما ، إلاّ أنّ من المسلّم المقطوع به أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان ينزل من العريش أحيانا ويحرّضهم على القتال والمقاومة. فقد قال في احدى هذه المرات :

« والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، إلاّ أدخله اللّه الجنّة ».

ولقد كانت كلمات القائد الاعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس ، فتثير الهمم ، وتوجد شوقا عجيبا الى الشهادة في المقاتلين المسلمين ، حتى أن أحدهم ويدعى « عمير بن الحمام » أخو بني سلمة قال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي يده تمرات ياكلهنّ يا رسول اللّه : بخ بخ ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء.

ص: 79


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 626
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 627 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 149.

ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل (1).

ثم إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال :

« شاهت الوجوه ».

ثم نفحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال : شدّوا (2).

ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتاب المشركين خوف ورعب شديدان ، وأخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن ايمان ، واخلاص ويعلمون بأنهم ينالون السعادة قتلوا أو قتلوا ، فلم يرهبوا شيئا ، وما كان يمنعهم شيء عن التقدم والإقبال.

رعاية الحقوق :

لقد كان لا بدّ من رعاية الحقوق بالنسبة الى طائفتين في معسكر المشركين :

الاولى : اولئك الذين احسنوا إلى المسلمين في مكة ، ودافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة التي سبق الحديث عنها.

الثانية : أولئك الذين اكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر ، وكانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الاسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

مصرع أميّة بن خلف :

ولقد اسّر « اميّة بن خلف » وابنه على يد عبد الرحمن بن عوف واذ كان بينه

ص: 80


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 627.
2- المصدر السابق : ص 628 ، البداية والنهاية : ج 2 ص 284.

وبين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو وولده ، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك ، وبينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم وكان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام ، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال : أحد ، أحد.

فلما رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبد الرحمن على حمايته والذب عنه وهو يريد نجاته وولده ، صاح مستصرخا المسلمين : يا أنصار اللّه رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة وولده من كل جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما (1).

وقد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش على المسلمين في مكة ، وكان لا يؤذي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلقيه رجل من المسلمين يدعى « المجذر » فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليرى فيه رأيه ، ولكنّه نازل المجذّر ، وأبى إلاّ القتال ، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلاّ أن يقاتلني فقاتلته فقتلته (2).

خسائر بدر في الأرواح والاموال :

لقد قتل في معركة « بدر » من المسلمين أربعة عشر رجلا ، وقتل من المشركين سبعون واسر سبعون من أبرزهم : النضر بن الحارث ، وعقبة ابن أبي معيط ، وأبو

ص: 81


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 632.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 629 و 630 وراجع الطبقات الكبرى : ج 2 ص 23.

غرة ، وسهيل بن عمرو والعباس ، وأبو العاص بن الربيع ( صهر النبيّ ) (1).

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة ، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

وبينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وجه « أبي حذيفة » ابن عتبة فاذا هو كئيب ، قد تغيّر لونه فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟!

فقال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ما شككت في ابي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام ، فلمّا رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخير (2).

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم ، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

ما أنتم باسمع منهم :

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيرا.

ولما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب (3) وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا ويقول :

ص: 82


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 706 و 708 ، المغازي : ج 1 ص 138 - 173.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 640 و 641.
3- القليب : البئر.

« يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا اميّة بن خلف ، ويا أبا جهل ( وهكذا عدّد من كان منهم في القليب ) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا ، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول اللّه أتنادي قوما موتى؟

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ».

وكتب ابن هشام يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال يوم هذه المقالة :

« يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، ( ثم قال : ) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟ » (1).

الشعر يخلّد هذه القصة :

يعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلّمة في التاريخ الاسلاميّ ، فقد ذكره جميع المحدّثين والمؤرخين من الشيعة والسنة ، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة وبذلك يقوي من عزيمة المسلمين ويشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات ويكرم المواقف ويخلد الامجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعا أبديا ولهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات ، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية التي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان « حسان » لحسن الحظ ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام وامجاده من خلال قصائده ، وابياته المدرجة فيه.

ص: 83


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 639 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 179 و 180 وغيرهما.

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول :

يناديهم رسول اللّه لمّا *** قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقّا *** وأمر اللّه يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا *** صدقت وكنت ذا رأي مصيب!

على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المقام حيث قال : « ما أنتم بأسمع منهم ».

وليس ثمة بيان أكثر إيضاحا وأشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لواحد واحد من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة ، ويبادر قبل التحقيق ويقول : إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

وقد نقلنا هنا نص هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة ، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه (1).

ص: 84


1- إن تكلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ والحديث ، وقد اشار الى هذا من بين المحدثين والمؤرخين : صحيح البخاري : ج 5 في معركة بدر ص 76 و 77 - 86 و 87 ، صحيح مسلم : ج 8 كتاب الجنة باب مقعد الميت ص 163 ، سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89 و 90 ، مسند الامام أحمد : ج 2 ص 131 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 639 ، المغازي : ج 1 غزوة بدر ص 112 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 346.
بعد معركة بدر :

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ، هذا وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم ، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها ، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر ، لأنهم كانوا يحرسون القائد ، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها ، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو ولا حقوه وطاردوه يقولون : واللّه لو لا نحن ما أصبتموه ، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم (1).

ولا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته وأفراده ، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادية وبغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم وحملها ، والمحافظة عليها إلى « عبد اللّه بن كعب المازني » وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن

ص: 85


1- المغازي : ج 1 ص 98 و 99.

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم ، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة ، وكان لكل منهم دور ومسئولية فيها ، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الغنائم بينهم - في أثناء الطريق - على قدم المساواة ، وفرز لذوي الشهداء أسهما منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تقسيم الغنائم ( وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي ) سخط « سعد بن أبي وقاص » فقال : يا رسول اللّه أيعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ثكلتك أمّك ، وهل تنصرون إلاّ بضعفائكم » (1).

وهو صلی اللّه علیه و آله يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلاّ لأجل الدفاع عن الضعفاء ، ورفع الحيف عنهم ، وانه صلی اللّه علیه و آله لم يبعث إلاّ لإزالة هذه الفوارق والامتيازات الظالمة ، وإلاّ لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس (2) لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيته صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنه صلی اللّه علیه و آله لم يخمّس غنائم « بدر » بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد ، أو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يتمتع باختيارات خاصة ، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه ، تكثيرا لأسهم المجاهدين ، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جدا وخاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ (3).

ص: 86


1- المغازي : ج 1 ص 99.
2- الانفال : 1.
3- وجاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك وذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج إلى بدر او لقيامهم بمهمات ، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.
قتل أسيرين في اثناء الطريق :

ولما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في « الصفراء » (1) وهي أحد المنازل على طريق بدر - المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الالداء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

وهنا ينطرح سؤال وهو : إن حكم الاسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين والمجاهدين ، يباعون ويشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي خاطب المسلمين في « بدر » في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيرا قائلا :

« استوصوا بالاسارى خيرا ».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

يقول أبو عزيز ، وكان صاحب لواء في جيش قريش : كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز ، وأكلوا التمر والخبز عندهم قليل والتمر زادهم ، وذلك لوصية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاّ نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ ، وكانوا يحملوننا ويمشون (2)!!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة ، لا أنه كان بدافع الانتقام ، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر ، ومن مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

ص: 87


1- المغازي : ج 1 ص 6.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 645 ، المغازي : ج 1 ص 119.

والمسلمين ، وضدّ الرسالة والرسول ، وكانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام ، فلعله لو كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وعملا على تخطيط الخطط ، وتأليب القبائل ، فلم يكن بد من تصفيتهم والقضاء عليهم.

بشائر النبيّ الى المدينة :

كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عبد اللّه بن رواحة » ، و « زيد بن حارثة » بأن يسبقاه الى المدينة ، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين ، ويخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأميّة ، ونبيه ومنبه و .. و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا والمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان ، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد أرعب المشركون واليهود والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش ، وراحوا يحاولون تكذيبه ، وتفنيده حتى إذا دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما ، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم :

كان « الحيسمان الخزاعي » أول من قدم مكة واخبر الناس باحداث « بدر » الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعلى فيما بعد : كنت غلاما للعباس ، وكان الاسلام قد دخلنا

ص: 88

أهل البيت ، فأسلم العباس وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللّه وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة.

وقد كنت رجلا ضعيفا وكنت أصنع السهام والنبال أنحتها في حجرة زمزم فو اللّه بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب (1) الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان فقال أبو لهب : هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيام عليه فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان : واللّه ما هو إلاّ أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، واللّه ما تبقي شيئا ولا يقوم لها شيء.

يقول أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت : تلك واللّه الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة (2).

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر :

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه ، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب ، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة ، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونصرته.

ص: 89


1- الطنب : الطرف.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 646 و 647.

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه : كان العباس قد أسلم ولكنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم اسلامه ، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الاسلامية ذلك ، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحركاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة « احد » أيضا (1). فقد كان أول من أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتحرك قريش وخططهم واستعداداتهم.

وقد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكة ، وسلبهم البهجة والفرح ، والنشاط والحركة ، وتحولت مكة برمتها الى مأتم كبير ، وناحت قريش على قتلاها (2).

المنع من النوح والبكاء في مكة :

غير أنّ أبا سفيان عمد - لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق والغضب - الى منع النوح والبكاء على القتلى وحث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمّد وأصحابه فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ، ولا تنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر ، واظهروا الجلد والعزاء فانكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم ، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه .. ولعلكم تدركون ثأركم.

ولكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل ، قال : والدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

وكان « الأسود بن المطلب » اصيب له ثلاثة من ولده : زمعة وعقيل والحارث بن زمعة ، فكان يحب أن يبكي على قتلاه ، ولكنه ما كان يستطيع

ص: 90


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 217.
2- المغازي : ج 1 ص 122. قال : لم تبق دار بمكة إلاّ فيها نوح.

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه - وقد ذهب بصره وعمي - : هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة ، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام ورجع إليه فقال : إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته ، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر (1) ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص *** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكّي ان بكيت على عقيل *** وبكيّ حارثا اسد الاسود (2)

القرار الأخير حول مصير الاسارى :

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن قرار تاريخي عظيم ورائع هو : أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال (3).

وان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله وان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة ودفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين ، واطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي اسيره.

وعند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ( أي أسنانه

ص: 91


1- البكر : الفتى من الابل.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 648.
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 193.

الامامية ) ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا امثل به فيمثل اللّه بي وان كنت نبيا » (1).

وتلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الجاهلية.

ولما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وآمنت بناته ، ( ومنهن زينب ) كذلك وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش ، وأسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ( ليلة زفافها ).

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجة علیهاالسلام وما اسدته الى الاسلام من خدمات وقدمته من تضحيات ، وبكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها

ص: 92


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 649 ، والمغازي : ج 1 ص 107 يقول صاحب المغازي في صفحة 105 من نفس الجزء : كان عمر ( رض ) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

ما لها فافعلوا.

فقالوا : نعم يا رسول اللّه ، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوه ، وردوا عليها الذي لها وبذلك احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال بل أنها واللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية ، ( ان صح التعبير ) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب ويترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب ، ويبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به ، وبعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا وقدم المدينة ، وردّ عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد (1)

رسول الاسلام ومكافحة الامية :

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة والقراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة والتثقيف ، والوعي والنوعية ، فان معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والنوعية.

ولا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها - كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية - أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة ( أي صبيانها ) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه .. وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

ص: 93


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 651 - 659 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 348 و 349.
كلام لابن أبي الحديد في المقام :

يقول العلاّمة ابن أبي الحديد : قرأت على ( استاذي ) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر ، فصدّقه وقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريم والاحسان أن يطيّبا قلب فاطمة علیهاالسلام ، ويستوهب لها من المسلمين ( أي يستوهب فدكا من المسلمين ويردّه عليها )؟

أتقصر منزلتها عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من منزلة زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالارث؟

فقلت له : فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين ، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال : وفداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين ، وقد أخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منهم.

فقلت : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صاحب الشريعة ، والحكم حكمه ، وليس أبو بكر كذلك.

فقال : ما قلت هلاّ أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة علیهاالسلام وإنما قلت : هلاّ استنزل المسلمين عنه ، واستوهبه منهم لها ، كما استوهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال : هذه بنت نبيكم صلی اللّه علیه و آله قد حضرت لطلب هذه النخلات افتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له : قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك. قال : إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم ، وان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه وان كان يوافق موازين الدين - حسب تصور القاضي - ولكنه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانها من أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 94

وآله (1).

هذا وقد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين ، فينعموا بالاسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل مما أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم ، إذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (2)

وبذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى ، وكشف عن نزعته الانسانية ، وأيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية ، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا ، وعادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال :

« وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (3).

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة ، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر :

ولقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين ، ولا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر اللّه وتأييده الغيبي إذ قال :

« إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ

ص: 95


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 3 ص 334 - 352 ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.
2- الانفال : 70 و 71.
3- الانفال : 70 و 71.

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » (1).

وقال تعالى :

« قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (2).

وقال تعالى أيضا :

« إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (3).

وقوله تعالى :

« إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ » (4).

وقال سبحانه أيضا :

« وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

ص: 96


1- الانفال : 42 و 44.
2- آل عمران : 13.
3- الانفال : 9.
4- الانفال : 11 - 12.

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ » (1).

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة والعدد ، وبأبرز الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين ، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم ، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الامدادات الغيبية هي :

1 - مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي والمسلمين في أسفل الوادي ، وكان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا ، ولكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2 - إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو ، ومع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية والقتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين ، ولكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين ، مسبقا ، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع ، فيتحقق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. والى هذا اشار سبحانه بقوله :

« وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ».

3 - تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين ، ولكي لا يهاب المسلمون الاعداء ويستعظموا عددهم ، وإليه يشير تعالى بقوله :

« إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ».

4 - تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله :

ص: 97


1- آل عمران : 123 - 127.

« يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ».

5 - الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6 - النعاس الذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدد نشاطهم ، وضاعف من قوتهم.

7 - نزول المطر عليهم والذي طهّرهم من الاقذار ومكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم من حدث ، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم ، وقد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية 11 من سورة الانفال.

8 - تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9 - القاء الرعب في قلوب الكفار والى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله : « فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب ».

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري وهو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه :

« وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ » (1).

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول :

« وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ » (2).

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة اللّه ورسوله إذ يقول :

« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » (3).

ص: 98


1- الانفال : 48.
2- الانفال : 47.
3- الانفال : 13.

وينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي - نوعا ما - لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحربية ، وإلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين وإلى جانب تنظيم صفوفهم ، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

ص: 99

30

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

اشارة

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه (1)

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان ، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة ، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة ، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية والحياء العام ، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل والمرأة - تأكيدا لحكم الفطرة وتمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية - أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد ، والحديث في الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة بمختلف الصور ، وتحت مختلف العناوين :

فقد جاء في الكتاب العزيز :

« وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » (2).

ص: 100


1- كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر ، راجع بحار الأنوار : ج 43 ص 79 و 111.
2- النور : 32.

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذا الصدد :

« تزوّجوا فانّي مكاثر بكم الامم غدا في القيامة » (1).

وقال أيضا :

« من أحب أن يلقى اللّه طاهرا مطهّرا فليلقه بزوجة » (2).

مشاكل الزواج في العصر الحاضر :

على أن مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر - وللاسف - في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال والنساء اليوم يقدمون على الزواج - غالبا - في ظروف صعبة ، وأوضاع رديئة ، وتنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف والاوضاع وبسبب ، ما يلابسها من مستلزمات قاسية وثقيلة بالطلاق والافتراق بعد سلسلة من الخلافات والمنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الانباء والأخبار عن الجرائم الزوجية وتعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

ولكن أكثر هذه المشاكل والمصائب تدور حول قضية واحدة ، وهي أن الفتيان والفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريق إلى المناصب الراقية الحساسة.

والبعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة والمال.

وقلّما يفكر المقدمون على الزواج ، وتأسيس العائلة في امور هامة وجوهرية كالعفة والطهر ، وإذا لوحظ هذا الجانب فإنما يلاحظ بصورة هامشية ، لا أساسية.

ويدل على ذلك أن الشباب يتنافس غالبا على التزوج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة والشهرة الاجتماعية والمالية ، والحال أنه يمكن أن تكون

ص: 101


1- وسائل الشيعة : ج 14 ص 3 و 6.
2- وسائل الشيعة : ج 14 ص 3 و 6.

تلك الفتيات غير متصفات بالاخلاق النبيلة ، ولا يكنّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد ، الجدير بالاهتمام ، الصالح للاقتران به.

فما أكثرهن الفتيات الفاضلات ، الطيبات هنا وهناك في زوايا المجتمع اللائي لا يهتم بهن الشباب ، لفقرهنّ ، وقلة ذات ايديهن. او لعدم شهرة عوائلهن.

على أن الأسوأ من ذلك كلّه ما اصبح يكلّفه الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الاعراس وحفلات القران والزواج ، الأمر الذي أصبح يرهق كاهل الزوجين ، ويتعب عائلتيهما ، مثل مشكلة المهور الباهضة ، وما شابه ذلك مما هو في تصاعد مستمر في بلادنا ، الأمر الذي دفع بالبعض الى ترك الزواج ، واشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة ، ومن ثم شيوع اللاابالية ، والاباحية في المجتمعات.

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا :

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية التي كانت ولا تزال موجودة في كل مجتمع بنسب خاصة.

ولم تكن الفترة التي عاصرها رسول الاسلام بمستثناة من هذا الأمر فقد كانت هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلاّ لمن كان من قبيلة ذات مال وشوكة ، ومكانة وقوة ، ويردّون كل خاطب لبناتهن يكون على غير هذه الصفة.

وقد كان الأشراف ، يصرّون - تبعا لتلك العادة - على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السيدة فاطمة لانهم كانوا يتصوّرون أن النبيّ لن يتشدد في هذا الأمر ، بل يكفيه أنهم ذو ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة.

وكانوا يتصوّرون أنهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة وأباها من الامكانيات المادية ، كيف لا والنبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يتشدد في زواج ابنتيه الاوليين :

ص: 102

زينب ورقية.

ولكنهم غفلوا عن أن هذه الفتاة ( أي فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها ) تختلف عن اختيها السابقين.

إنها - كما تدل عليه آية المباهلة - (1) ذات مقام رفيع ، وشأن كبير.

لقد أخطأ خطّاب فاطمة علیهاالسلام في هذا التصور ، وما كانوا يعلمون أن زوج فاطمة وقرينها لا يمكن أن يكون إلاّ كفؤها في التقوى والفضل ، والايمان والاخلاص ، فاذا كانت فاطمة - بحكم آية التطهير - معصومة من الذنب وجب أن يكون زوجها هو الآخر معصوما والا لم يكن كفؤها المناسب.

وليس المال وليست الثورة ملاك هذا التكافؤ.

لقد قال الاسلام : « إذا خطب إليكم كفؤ فزوّجوه ».

ويفسر هذا التكافؤ بالمماثلة والتكافؤ في الايمان والتقوى ، والطهارة والعفاف ، لا في المال والثروة (2).

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مأمورا من جانب اللّه تعالى أن يقول لكل من خطب إليه « فاطمة » من اولئك الرجال : « أمرها بيد اللّه » وهو بهذه الاجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة ما.

ولقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن زواج « فاطمة » ليس أمرا سهلا وبسيطا ، وأنه ليس لمن كان من الرجال وان بلغ من الثراء ، والمكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها ، فان زوج « فاطمة » ليس إلاّ من يشابهها من حيث الأخلاق والفضائل ، والصدق والايمان ، والطهر ، والاخلاص ، بل ويلي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السجايا الكريمة والصفات الرفيعة ،

ص: 103


1- آل عمران : 61.في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله علياً والحسن والحسين وفاطمة دون غيرها من النساء وسيأتي مفصل هذه القصة.
2- راجع الوسائل : ج 14 ص 50 - 52.

والخلق العظيم.

ولا تجتمع هذه الصفات والمواصفات إلاّ في « علي » علیه السلام لا سواه.

وللتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على ( عليّ ) علیه السلام أن يخطب الى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما (1).

وكان علي علیه السلام يريد ذلك في نفسه ، ويرغب إليه من كل قلبه إلاّ أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

فاتى علي علیه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما رآه رسول اللّه قال : ما جاء بك يا أبا الحسن ، حاجتك.

فمنع الخجل عليا من البوح بمطلبه وسكت ، وأطرق برأسه الى الارض ، حياء من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فأجاب علي علیه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين علي علیه السلام ، من الاخوة والصفاء ، ولما تحلّى به الجانبان من اخلاص وودّ. وما أروعها من ظاهرة. حقا انّ المبادئ والانظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة الى أحد مثل هذه الحرية ، المقرونة بالتقوى ، والايمان والاخلاص.

لقد وافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على طلب علي علیه السلام وقال :

« يا عليّ أنه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك ».

ثم دخل صلی اللّه علیه و آله على فاطمة ، فذكر لها الأمر ، وأن عليا علیه السلام خطبها إليه قائلا :

ص: 104


1- بحار الأنوار : ج 43 ص 93.

« إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته ، وفضله واسلامه ، واني قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه ، وأحبهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟ ».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها ، ولم ير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وجهها كراهة فقام وهو يقول :

« اللّه أكبر ، سكوتها إقرارها » (1).

ولكن عليّا علیه السلام لم يكن يملك آنذاك إلا سيفا ، ودرعا فقط.

فأمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يبيع درعه ، ويهيئ بثمنه عدة الزواج وجهاز العروس ، فباع علي علیه السلام درعه ، وأتى بثمنه الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسكب المال بين يديه (2).

فقبض صلی اللّه علیه و آله قبضة الدراهم ، ودعا بلالا فأعطاه فقال :

« ابتع لفاطمة طيبا ».

ثم أعطى صلی اللّه علیه و آله بقية تلك الدراهم إلى أبي بكر وعمّار بن ياسر وأمرهما أن يبتاعا لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت ، وما شاكل ذلك من احتياجات العروسين.

ففعلا ذلك واشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكان جهاز فاطمة كالتالي :

جهاز فاطمة :

1 - قميص بسبعة دراهم.

2 - خمار (3) بأربعة دراهم.

ص: 105


1- نفس المصدر السابق.
2- وفي رواية عن عليّ علیه السلام : فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.
3- الخمار : مقنعة.

3 - قطيفة سوداء لا تكفي لتغطية كلّ البدن.

4 - سرير مزمّل بشريط ( أي مصنوع من جريد النخل واليافه ).

5 - فراشان من خيش (1) مصر ، حشو أحد هماليف ، وحشو الآخر من صوف الغنم.

6 - اربع مرافق (2) اثنان من الصوف واثنان من الليف.

7 - ستر.

8 - حصير هجري.

9 - رحى لليد.

10 - مخضب (3) من نحاس.

11 - سقاء من أدم.

12 - قعب للبن.

13 - شنّ (4) للماء.

14 - مطهرة مزفّته (5).

15 - جرّة خضراء.

16 - كيزان خزف.

فلما عرض المتاع على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعل يقلّبه بيده ويقول :

« اللّهمّ بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف » (6).

إن في مهر فاطمة امورا تدعو إلى التأمل حقا ، أبرزها مقدار ذلك المهر.

فمهرها هو مهر السنّة وهو خمسمائة درهم (7).

إن هذه الزيجة - في الحقيقة - خير درس للآخرين ، للفتيان والفتيات الذين يئنون من ثقل المهر وبهاضته وربما يئنون من قيود الزواج وشروطه.

ص: 106


1- الخيش : نسيج خشن من الكتان.
2- المرفقة : الوسادة.
3- المخضب : اناء للمسك والطيب.
4- الشنّ : القربة.
5- مطلية بالزفت.
6- بحار الأنوار : ج 43 ص 94 ، كشف الغمة : ج 1 ص 359.
7- وسائل الشيعة : ج 5 ص 18.

ان البيئة الزوجية يجب أن تكون - أساسا - بيئة دفء وحنان ، بيئة اخلاص مودة. بيئة سلام ووفاق فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية ويوفر للزوجين عيشا هانئا محببا.

أما المهور الثقيلة ، والنفقات الباهضة والجهاز المكلف فلا تؤدي إلاّ إلى تعكير صفو الحياة الزوجية ، والتقليل من بريق الرابطة العائلية ، وبالتالي لا تضمن مستقبل الزواج ودوامه ، والمحافظة عليه من الهزات.

إن أولياء الفتيات - في عصرنا الحاضر يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم وتقوية مركزهن وضمان مستقبلهن إلى فرض سلسلة طويلة وثقيلة من الشروط والقيود ومنها المهر الباهض على العريس حنى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى والشهوة ، أو كلما سولت له نفسه ذلك ، على حين أن هذا الاجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية ، ودوامها بل العلاج الحقيقي والناجع هو اصلاح الوضع الاخلاقي للشباب ، ورفع مستواهم المعنوي.

يجب أن تكون بيئتنا الثقافية والاجتماعية من الطهر والنقاوة بحيث لا يوجد في رحابها امثال هذه النوازع الشريرة عند شبابنا ، والا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة الى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

مراسم الزواج تقام ببساطة :

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام على فاطمة علیهاالسلام في رحاب مسجده على مرأى ومسمع من المسلمين وفي جو يسوده الفرح والابتهاج والسرور قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام هيّئ منزلا حتى تحوّل فاطمة إليه ، فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقتة ، وحوّلت فاطمة إلى علي علیه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل ، في زفاف جميل مبارك وقد صنع علي طعاما من لحم وتمر وسمن واطعم المسلمون جميعا تقريبا ، وساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه : أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بنات عبد المطلب ونساء

ص: 107

المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام اللّه عليها وان يفرحن ، ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقولن ما لا يرضى اللّه.

قال جابر : فأركبها على ناقته - وفي رواية على بغلته الشهباء - وأخذ سلمان زمامها والنبيّ وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله قدامها يرجزن ، فانشأت أم سلمة تقول :

سرن بعون اللّه جاراتي *** واشكرنه في كل حالات

واذكرن ما أنعم رب العلى *** من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد *** انعشنا رب السماوات

وسرن مع خير نساء الورى *** تفدى بعمات وخالات

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما دخلوا الدار أنفذ إلى علي علیه السلام ثم دعا فاطمة سلام اللّه عليها فأخذ يدها وقد علاها الاستحياء وتصبب منها العرق خجلا ، بل وقد تعثرت من شدة خجلها فقال لها رسول اللّه : « أقالك اللّه العثرة » (1).

ووضعها في يده وقال :

« بارك اللّه في ابنة رسول اللّه يا علي نعم الزوجة فاطمة ، ويا فاطمة نعم الزوج علي ».

ثم أخذ بيده اناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة وبدنها ودعا لهما قائلا :

« اللّهم اجمع شملهما ، والّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة ، واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك.

اللّهم انّهما أحبّ خلقك إليّ ، فاحبهما واجعل عليهما منك حافظا ، وانّي اعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم » (2).

ص: 108


1- بحار الأنوار : ج 43 ص 96.
2- بحار الأنوار : ج 43 ص 114 - 118.

وبذلك أبدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نفسه في تلك الليلة صفاء واخلاصا لم يعرف له نظير حتى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حققته من تكامل ورشد.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدد لفاطمة فضائل علي كما ذكر لعلي فضائل فاطمة وانها « لو لم يخلق علي لما كان لها كفؤ » (1). ثم ذكر لهما وظائفهما وواجباتهما العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شئون وأوكل إلى علي ما هو من شئون الخارج.

ولا بدّ أن نذكر هنا قصة هامة أداء لحق فاطمة ، وبيانا لمقامها.

يقول أنس بن مالك : إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج الى الفجر فيقول :

« الصلاة يا أهل البيت ، انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (2).

هذا وقد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الاسلام وأكثرها بركة وخيرا ، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنبا الى جنب في وئام ووداد ، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل ، والاخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

وقد أنجبا أفضل الاولاد والبنات أبرزهم : الامام الحسن والامام الحسين علیهماالسلام سبطا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاثيران لديه ، والمقربان إليه ، وزينب بنت علي التي رافقت أخاها في وقعة كربلاء الدامية وكان لها مواقف عظيمة ومشرفة في الرعاية للحق والعدل ، ونصرة الاسلام ، وغيرهم من الاولاد ذكورا واناثا.

وقد بقي كلا الزوجين ( علي وفاطمة ) حتى آخر اللحظات عارفين بمكانة

ص: 109


1- مسند احمد بن حنبل : ج 2 ص 259.
2- الدر المنثور : ج 5 ص 199.

الآخر ، فكلاهما من أهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وكلاهما من القربى الذين أمر بمودتهم ولهذا لم يتزوّج علي علیه السلام على الزهراء امرأة اخرى الا بعد وفاتها ، كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالنسبة إلى خديجة ، وفاء لحقها ، واحتراما لمقامها.

لكن بعض الايادي دسّت - مع الأسف - في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين ، والحط من مكانتهما ، فنسبت إليهما التنازع ، والتشاجر ، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ علیه السلام الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأوردت في هذه المجال روايات مختلقة ، لا أساس لها من الصحة ، تفندها أخلاق علي وفاطمة وتقواهما وزهدهما ، وتكذّبها ما جاء في شأنهما وجلالة قدرهما من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية.

وقد استند أعداء الاسلام التقليديين إلى امثال هذه الروايات لمسخ صورة الاسلام الحنيف وتشويه سمعة رجاله العظماء ونسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الاستاذ اميل درمنغم في كتابه المليء بالاباطيل : « حياة محمّد » ترجمة الاستاذ محمّد عادل زعيتر بعد ان يلصق برسول السلام تهما عجيبة ويصفه بالبدويّ الحمس ، يقع في علي وفاطمة علیهماالسلام !!

فتارة يقول : إن فاطمة كانت عابسة دون رقية جمالا ، ودون زينب ذكاء ، وإنها لم تكن ترغب في عليّ لانها كانت تعدّ عليا دميما محدودا مع عظيم شجاعته!! وان عليا كان غير بهيّ الوجه .. وو .. مع أنه كان تقيا شجاعا صادقا وفيا مخلصا صالحا مع توان وتردد!!

وكان إذا عاد إلى منزله من العمل بشيء من القوت قال لزوجته فاطمة عابسا : كلي واطعمي الاولاد!! وأن عليا كان يحرد بعد كل منافرة ويذهب لينام في المسجد وكان حموه يربّته على كتفه ويعظه ويوفّق بينه وبين فاطمة إلى حين ، وممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة وهي تبكي من لكم عليّ لها!!

ص: 110

ثم يقول : إن محمّدا - مع امتداحه قدم علي في الاسلام ارضاء لابنته - كان قليل الالتفات إليه وكان صهر النبيّ الامويان : عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر مداراة للنبيّ من عليّ ، وكان علي يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته ومن عدّ النبيّ له غير قوّام بجليل الأعمال فالنبيّ وان كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه!! (1)

إلى غير ذلك من الترهات والسخافات التي الصقها تارة إلى رسول اللّه الاكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، واخرى إلى حبيبه وابن عمه ووصيه الامام علي بن أبي طالب علیه السلام .

إن أفضل اجابة على هذه الافتعالات هو ما كتبه العلامة الاميني حيث يقول :

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة ، والنسب المفتعلة إن هي إلاّ كلم الطائش ، تخالف التاريخ الصحيح ، وتضادّ ما أصفقت عليه الامّة الإسلاميّة ، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبيها صلی اللّه علیه و آله : فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها؟! (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : ابنتي فاطمة حوراء آدميّة؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة هي الزهرة؟! (4)

أو قول أمّ أنس بن مالك؟! : كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماما ، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة ، لها شعر أسود ، من أشدّ الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شبها ، واللّه كما قال الشاعر :

بيضاء تسحب من قيام شعرها *** وتغيب فيه وهو جثل أسحم (5)

ص: 111


1- هذه المقتطفات اخذت من كتاب حياة محمّد : ص 197 - 199.
2- تاريخ الخطيب البغدادي : ج 5 ص 86.
3- الصواعق : ص 96 ، اسعاف الراغبين : ص 172 نقلا عن النسائي.
4- نزهة المجالس : ج 2 ص 222.
5- جثل الشعر : كثر والتف واسود فهو جثل : سحم فهو اسحم : اسود.

فكأنّها فيه نهار مشرق *** وكأنّه ليل عليها مظلم (1)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أمّ المؤمنين خديجة رضي اللّه عنها : كانت فاطمة تحدّث في بطن امّها ، ولمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة رافعة اصبعها؟! (2).

أو يلائمها قول عائشة : ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا وحديثا برسول اللّه في قيامه وقعوده من فاطمة ، وكانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟! (3)

وفي لفظ البيهقي في السنن ج 7 ص 101 : ما رأيت أحدا أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحديث.

وهل توافق مخاريقه في الامام عليّ صلوات اللّه عليه ، وعدم بهاء وجهه ، وعدّ فاطمة له دميما وكونه عابسا مع ما جاء في جماله البهيّ : انّه كان حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر ، وكأنّ عنقه إبريق فضّة (4) ضحوك السنّ (5) فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟! (6).

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟! :

إذا استقبلت وجه أبي تراب *** رأيت البدر حار الناظرينا (7)

ص: 112


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 161.
2- سيرة الملا ، ذخائر العقبى : ص 45 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 227.
3- اخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخائر العقبى 40 م ، والحافظ الترمذي وحسنه ، والحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له ولابنه ج 1 ص 150 ، وابن عبد ربه في العقد الفريد : ج 2 ص 3 ، وابن طلحة في مطالب السئول : ص 7 ، اسعاف الراغبين : ص 171.
4- كتاب صفين : ص 262 ، الاستيعاب : ج 2 ص 469 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 155 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 204.
5- تهذيب الاسماء واللغات للامام النووي.
6- حلية الأولياء : ج 1 ص 84 ، تاريخ ابن عساكر : ج 7 ص 35 ، المحاسن والمساوى : ج 1 ص 32.
7- تذكرة السبط : ص 104.

نعم :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله *** فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدا وبغضا : إنّه لدميم

أو يخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من ( التواني والتردّد )؟! وعليّ ذلك المتقحم في الأحوال ، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب ؛ وهو الذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة وكارسة منذ صدع بالدين الحنيف ، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه ، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أليس عليّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى : « أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ». وقوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ». (1).

فمتى خلى عليّ عن مقارعة الرجال والذبّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصحّ أن يعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الامور؟! غير ان القول الباطل لا حدّ له ولا أمد.

وهل يتصوّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيّ يقول له : أشبهت خلقي وخلقي وأنت من شجرتي التي أنا منها (2).

وكيف يراه النبيّ صلی اللّه علیه و آله أفضل امّته أعظمهم حلما ، وأحسنهم خلقا ، ويقول : عليّ خير أمّتي أعلمهم علما وأفضلهم حلما؟! (3).

ويقول لفاطمة : إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما؟! (4).

ص: 113


1- راجع الجزء الثالث من « الغدير » : ص 47 ، 53 ط ثاني.
2- تاريخ بغداد للخطيب : ج 11 ص 171.
3- الطبري ، الخطيب ، الدولابي. كما في كنز العمال : ج 6 ص 153 و 392 و 398.
4- مسند احمد : ج 5 ص 26 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 194 ، ذخائر العقبى : ص 78 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 101 ، 114 وصححه ووثق رجاله.

ويقول لها : زوّجتك أقدمهم سلما ، وأحسنهم خلقا؟! (1).

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرأى منه ومسمع ، أفك الدجّالون ، كان عليّ علیه السلام كما أخبر به النبيّ الصادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل [ فضّ اللّه فاه ] عليّا بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليّ هو ذاك المقتص أثر الرسول وملأ مسامعه قوله صلی اللّه علیه و آله لفاطمة : إنّ اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله وهو آخذ بيدها : من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة منّي ، هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ ، فمن آذاها فقد آذاني (3).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها (4).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها فقد أغضبني (5).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها (6).

ص: 114


1- أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة : ج 2 ص 182.
2- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 154 وصححه ، ذخائر العقبى : ص 39 ، تذكرة السبط : ص 175 مقتل الخوارزمي : ج 1 ص 52 ، كفاية الطالب : ص 219 ، شرح المواهب للزرقاني : ج 3 ص 202 ، كنوز الدقائق للمناوي : ص 30 ، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل : ج 1 ص 185 ، كنز العمال : ج 7 ص 111 عن الحاكم وابن النجار ، تهذيب التهذيب : ج 12 ص 443 ، الاصابة : ج 4 ص 378 ، الصواعق : ص 105 ، الاسعاف : ص 171 عن الطبراني ، ينابيع المودة : ص 173.
3- الفصول المهمة : ص 150 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 228 ، نور الابصار : ص 45.
4- صحاح البخاري ومسلم والترمذي ، مسند أحمد : ج 4 ص 328 ، الخصائص للنسائي : ص 35 ، الاصابة : ج 4 ص 378.
5- صحيح البخاري ، خصائص النسائي : ص 35.
6- مسند أحمد : ج 4 ص 323 و 332 ، الصواعق : ص 112.

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّا بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرّه ويكون ذلك إرضاء لابنته ، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلی اللّه علیه و آله على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به ، فلما ذا كان يأخذ صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ في الملأ الصحابي تارة ويقول : إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة؟ ولما ذا كان يخاطب أصحابه اخرى بقوله : أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم اسلاما عليّ بن أبي طالب؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم باحسان فطفقوا يمدحونه علیه السلام بهذه الاثارة كما يروى عن سلمان الفارسي ، أنس بن مالك ، زيد بن أرقم ، عبد اللّه بن عبّاس ، عبد اللّه بن حجل ، هاشم بن عتبة ، مالك الاشتر ، عبد اللّه بن هاشم ، محمد بن أبي بكر ، عمرو بن الحمق ، أبو عمرة عديّ بن حاتم ، أبو رافع ، بريدة ، جندب بن زهير ، أمّ الخير بنت الحريش.

وهل القول بقلّة التفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنّه نفس النبيّ الطاهر؟! او جعل مودّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلی اللّه علیه و آله في حديث الطير المشويّ الصحيح المرويّ في الصحاح والمسانيد : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلی اللّه علیه و آله لعائشة : إنّ عليّا أحبّ الرجال إليّ ، وأكرمهم عليّ ، فاعرفي له حقّه وأكرمي مثواه؟! (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : أحبّ الناس إليّ من الرجال عليّ؟! (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ خير من أتركه بعدي؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : خير رجالكم عليّ بن أبي طالب ، وخير

ص: 115


1- أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض : ج 2 ص 161 ، وذخائر العقبى : ص 62.
2- وفي لفظ : أحب أهلي ، من حديث اسامة.
3- مواقف الايجي : ج 3 ص 276 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 113.

نساءكم فاطمة بنت محمّد؟! (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : في حديث الراية المتّفق عليه : لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه ورسوله ويحبّ اللّه ورسوله؟

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّي بمنزلة الرأس ( رأسي ) من بدني أو جسدي؟ (4)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّي بمنزلتي من ربّي؟ (5).

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى اللّه (6).

أو قوله صلی اللّه علیه و آله لعليّ : أنا منك وأنت مني. أو : أنت منّي وأنا منك؟ (7)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّى وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ (8)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على

ص: 116


1- تاريخ بغداد للخطيب : ج 4 ص 392.
2- تاريخ الخطيب عن جابر ، كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير : ج 2 ص 16 ، كنز العمال : ج 6 ص 159
3- تاريخ الخطيب البغدادي : ج 3 ص 192 عن ابن مسعود ، كنز العمال : ج 6 ص 159.
4- تاريخ الخطيب : ج 7 ص 12 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 162 ، الصواعق : ص 75 م - الجامع الصغير للسيوطي ، شرح العزيزي : ج 2 ص 417 ، فيض القدير : ج 4 ص 357 ، نور الأبصار : ص 80 ، مصباح الظلام : ج 2 ص 56.
5- الرياض النضرة : ج 2 ص 163 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 391.
6- تاريخ الخطيب : ج 1 ص 160.
7- مسند أحمد : ج 5 ص 204 ، خصائص النسائي : ص 36 و 51.
8- مسند أحمد : ج 5 ص 356 وأخرجه جمع من الحفاظ باسناد صحيح

صحته : لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : لحمك لحمي ودمك دمي والحقّ معك؟ (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : ما من نبيّ إلاّ وله نظير في امّته وعليّ نظيري؟ (3)

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أمّ سلمة قالت : كان رسول اللّه إذا أغضب لم يجترئ أحد أن يكلّمه غير عليّ؟ (4)

أو قول عائشة : واللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته؟ (5)

أو قول بريدة وأبيّ : أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من النساء فاطمة ومن الرجال عليّ؟! (6)

أو حديث جميع بن عمير قال : دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت : فاطمة. فقيل : من الرجال؟ قالت : زوجها ، إن كان ما علمت صوّاما قوّاما؟ (7)

وكيف كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقدّم الغير على عليّ في الالتفات إليه؟! وهو أوّل رجل اختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع

ص: 117


1- خصائص النسائي : ج 8.
2- المحاسن والمساوى : ج 1 ص 31 ، كفاية الطالب : ص 135 ، مناقب الخوارزمي : ص 76 و 83 و 87 ، فرائد السمطين : في الباب 2 و 27.
3- الرياض النضرة : ج 2 ص 164.
4- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 130 ، الصواعق : ص 73 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 116.
5- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 154 وصححه ، العقد الفريد : ج 2 ص 275 ، خصائص النسائي : ص 29 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 161.
6- خصائص النسائي : ص 29 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 155 صححه وهو والذهبي ، جامع الترمذي : ج 2 ص 227.
7- جامع الترمذي : ج 2 ص 227 ط هند ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 157 ، وجمع آخر.

عليهم كما أخبر به صلی اللّه علیه و آله لفاطمة بقوله : إنّ اللّه اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّا (1).

وبقوله صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك (2).

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل : وكان صهرا النبيّ الامويّان. إلخ : وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال : أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة : أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال : أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها وفقد منها علقا لا عوض منه لأنّه حين قال علیه السلام : أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل : أنا. لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ، ولم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّا له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّن في معنى الحديث ولعلّ النبيّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنّه فعل فعلا حلالا غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح (3).

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة ، واسر مع المشركين مرّتين ، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ستّ سنين ، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه ، ولم ترد

ص: 118


1- اخرجه الطبراني عن أبي ايوب الأنصاري كما في اكمال كنز العمال : ج 6 ص 153 ، واخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد : ج 9 ص 165 عن علي الهلالي.
2- المواقف للايجي : ص 8
3- الروض الانف : ج 2 ص 107.

قطّ بعد إسلامه كلمة تعرب عن صلته مع النبيّ ومداراته له فضلا عن مقايسته بعليّ أبي ذرّيّته وسيّد عترته.

وقد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعد العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب العزيز ، ويقذف عليّا بالتألّم من ذلك ، وكان صلی اللّه علیه و آله إذا أصبح أتى باب عليّ وفاطمة وهو يقول : يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا. وكان لم يزل يقول : فاطمة أحبّ الناس إليّ.

ويقول : أحبّ الناس إليّ من النساء فاطمة.

ويقول : أحبّ أهلي إليّ فاطمة.

وكان عمر يقول لفاطمة : واللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه منك (1).

وما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدّه لعليّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه ، فصار بذلك له نفسا وأخا ووزيرا ووصيّا وخليفة ووارثا ووليّا بعده ، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه ، وهو ذلك الملقّب بقائد الغرّ المحجّلين وحيا من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (2).

وممّا يعجّب بل ويؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب ، وينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمّ الامامين الهمامين الحسن والحسين علیهماالسلام ، فيسطر في كتابه « فاطمة الزهراء والفاطميّون » (3) شيئا من هذه العبارات والمقالات التافهة التي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق والفهم ، ان يدرجها في مؤلفه.

ص: 119


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 150 وصححه.
2- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 138 وصححه ، الرياض النضرة : ج 2 ص 177 ، شمس الاخبار : ص 39 ، أسد الغابة : ج 1 ص 69 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 121.
3- راجع ص 32 و 33.

ولا يجاب على ما كتبه العقاد ومن حذى حذوه إلا بما مرّ في كلام العلاّمة والمحقق الخبير الاميني رحمه اللّه . ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت علیهم السلام .

هذا وينبغي ان نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقاد في كتابه ومما يعتبر شهادة دامغة تفند ما بدر منه من قول غير لائق في شأن علي والزهراء ، فهو يقول : في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر وانثى.

فاذا تقدست في المسيحية مريم العذراء ففي الاسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول : من الواضح البين ان الزهراء اخذت مكانها الرفيع بين اعلام النساء في التاريخ لانها بنت نبي وزوجة امام وأم شهداء (1).

فاذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول ، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمتين الطاهرتين من قمم الاسلام الشامخة؟!

ص: 120


1- راجع : ص 51 و 52.

31

جرائم « بني قينقاع »

اشارة

كانت معركة « بدر » بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة ، فقد قتل طائفة من صناديد قريش ، واسرت اخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار ، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب ، شيء من الهدوء والمقرون بالاضطراب والقلق. هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية ، ويهود يثرب الاثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوما بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد ، وتعاظم شوكته ، واشتداد أمر حكومته الفتية ، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهددا بخطر جديّ ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة ، وأن يبلغ من القوة ذلك المبلغ ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى ويكسر شوكتها العريقة!!

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة ، ويمسكون بخيوط اقتصادها ، أشدّ خوفا من غيرهم ، واكثر قلقا على مستقبل أمرهم ، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيدا عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم!!

ص: 121

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات ، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة ( الإعلامية ) ضدّهم ، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة ، واطلاق الشعارات القبيحة ، وانشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين وتحقيرهم ، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدءوا عمليّا بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفا ، والتي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معهم في إبّان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة ، واستعمال السلاح ، لأن ما يمكن حله بسلاح المنطق لا يحبذ أن يعالج بمنطق السلاح ، وخاصة أن الرد الساخن والمسلح يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة ، والحال أن المحافظة على الوحدة السياسية ، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جدا وهو يواجه أعداء أشداء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الاسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام ، يومئذ.

ولهذا - وبغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع - وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم :

« يا معشر يهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فانكم قد عرفتم انّي رسول اللّه ( أو أني نبي مرسل ) تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللّه إليكم ».

وهنا نزل قول اللّه تعالى :

« قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ

ص: 122

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (1).

ولكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب ، بل ردوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين : يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فاصبت منهم فرصة ، إنا واللّه ولئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس ( أو أنّا واللّه أصحاب الحرب ، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا )!! (2)

فلم تترك كلمات يهود « بني قينقاع » الجوفاء ، وتشدقهم الفارغ بقوتهم وقدرتهم على القتال والمواجهة أدنى اثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد أتم عليهم الحجة ، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية ، وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق ، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم ، والتخلي عن مؤامراتهم وخططهم الايذائية ضد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين والاّ ازدادوا صلافة ، وكثرت اعتداءاتهم.

ولهذا أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة :

قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات والاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى ، فيصفي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر ، انطلاقا من علل واسباب اخرى ، وليست تلك الحادثة الجزئية.

ص: 123


1- آل عمران : 12 و 13.
2- المغازي : ج 1 ص 175 و 176.

فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى وهي إحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى ، وتلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال « الارشيدوق فرانسيز فريديناند » ولي عهد النمافي سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 وبعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاولى بهجوم الالمان على بلجيكا ، وافرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليونا من البشر (1).

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع ، وردهم الوقح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يخاطبهم بأدب ينصحهم ، وكانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثوروا ضدهم ، ويؤدبوهم.

وبيناهم على هذه الحال إذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

وإليك مفصل تلك الحادثة :

جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّا لها أو تشتري ، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت فعمد رجل من يهود بني قينقاع إليها وجلس من ورائها ، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها ، فلما قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع ، وشدّوا على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم القتيل المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون غضبا شديدا.

ولقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع ، فان قضية « الأعراض » قضية حياتية وحساسة في أي مجتمع ، فهي قضية شرف ، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع

ص: 124


1- الموسوعة العربية الميسرة : ص 700.

العربيّ خاصة بأهمية كبرى ، وخاصة عند البدو الرحل منهم ، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم ، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.

وكان من الطبيعي أيضا أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه ، ويريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمرا صحيحا منطقيا يتفق مع الموازين أم لا ينطبق.

ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد ، وإراقة دمه ، عمل بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشار هذا الخبر ( اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة ) في إثارة المسلمين ونفاذ صبرهم ، ودفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسما كاملا وبالتالي هدم قلعة الفساد على رءوس أصحابها القتلة.

فاحس « بنو قينقاع » بخطر الموقف ، وأدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم ، ويواصلوا البيع والشراء ، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع والجناية الكبرى التي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة ، وعادوا إلى قلاعهم المحصّنة ، وتحصّنوا فيها ، وكان ذلك منهم انسحابا خانعا بعد ذلك التشدّق الصلف!!

ولقد أخطئوا هذه المرة أيضا إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم ، من انتقام اللّه. ولو أنهم اعتذروا لخطئهم ، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين ، ويحصلون على عفو النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهم يعرفون خلقه العظيم ؛ وصفحة الكريم.

إلاّ أن تحصّنهم كان آية عنادهم ، واعلانهم الحرب ، ونصبهم العداء الصريح للاسلام والنبيّ والمسلمين.

ص: 125

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمحاصرتهم ، ومنع من دخول أيّ امداد إليهم ، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار ، حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب ، وفقدوا القدرة على المقاومة ، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهم!!

وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد ونبذ الميثاق تأديبا قاسيا ، يكون عقابا لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن « عبد اللّه بن أبي بن سلول » الذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالاسلام ، أصرّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يحسن معاملتهم ، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودة كانت بينه وبين يهود من السابق ، فانصرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد ، وعقوبتهم على كره منه (1) ولكن أمر بأن يجلوا من المدينة ، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم ، وأموالهم ، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم ، وكلّف « عبادة بن الصامت » باجلائهم من حصونهم فعجّل عبادة في ترحيلهم وإجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تدعى « أذرعات » وهي بلد في اطراف الشام.

ص: 126


1- هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلی اللّه علیه و آله معاقبة اليهود ورسم للمسلمين منهجا في التعامل مع اليهود والنصارى إذ قال : فانه منهم نخشى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ» (المائدة: 51 - 53).

وباجلاء « بني قينقاع » عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.

وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية إذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر (1).

تقارير جديدة تصل الى المدينة :
اشارة

من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة ، على العادة.

من هنا فان انباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة - وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين - الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافا الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى ، فيرصد لها من يأتي بها أولا بأول ، ولهذا كانت اكثر التحركات والمؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها ، أو التي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمن هذه المعلومات ، إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله خبرا مفاده أن إحدى القبائل تعد قوة ، وتستعدّ للهجوم على المدينة كان صلی اللّه علیه و آله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة ، وافشال مؤامرتها ، وابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء ، وكان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

وإليك مختصرا عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة :

ص: 127


1- المغازي : ج 1 ص 177 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 28 و 29.
1 - غزوة قرقرة الكدر :

1 - غزوة قرقرة الكدر (1) : كانت المنطقة التي تتمركز فيها قبيلة « بني سلم » تدعى « الكدر ».

وقد بلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن القبيلة المذكورة تهيّئ ، وتعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام وعاصمته ( المدينة ). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه إدارة المدينة في غيابه ، وكان الذي استخلفه هذه المرّة « ابن أمّ مكتوم » ، وخرج على رأس قوة عسكرية إلى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية إليهم تفرقوا ، وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى « غالب بن عبد اللّه » إلى نفس تلك المنطقة ، فوقع بينه وبينهم قتال محدود وعاد « غالب » الى المدينة ظافرا بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

2 - غزوة السويق :

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذورا غريبة.

فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر (2) من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة ، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلا ، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلا من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ ، وقتل أجيره ، وحرّق بيتا وحرثا لهم بارشاد من كبير اليهود « سلام بن مشكم » ورأى أن يمينه قد حلّت ، ثم ذهب هاربا ، وخاف

ص: 128


1- قرقرة الكدر : ناحية بين المعدن وبين المدينة ، ( الطبقات ).
2- المغازي : ج 1 ص 182 ، الطبقات : ج 2 ص 30.

ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلی اللّه علیه و آله فندب أصحابه فخرجوا في أثره ، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق ( وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل ) ، وهي عامة زادهم ، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

3 - غزوة ذي أمرّ :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها ، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على رأس أربعمائة وخمسين رجلا.

فلما سمع العدو بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم خافوا خوفا شديدا فهربوا إلى رءوس الجبال ، فرارا من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحدا منهم ، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفا وفرقا.

فنزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « ذا أمرّ » (1) وعسكر معسكره هناك ، فأصابهم مطر كثير ، فذهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ناحية ليقضي حاجة ، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه ، وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وادي « ذي أمرّ » بينه وبين أصحابه ، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف ، وألقاها على شجرة ، ثم اضطجع تحتها ، والأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها : قد أمكنك محمّد ، وقد انفرد من أصحابه ، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله.

فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على

ص: 129


1- واد بطريق فيد إلى المدينة. وفاء الوفاء : ج 2 ص 249.

رأس النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالسيف مشهورا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مستلق على قفاه.

فقال بنبرة خشنة مهددة : ما يمنعك منّي اليوم؟ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب ، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقام به على رأسه ، فقال : ومن يمنعك منّي اليوم.

فقال : لا أحد.

ثم قال : فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، واللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا.

فأعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفه ثم أدبر ، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : أما واللّه لانت خير منّي.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا أحق بذلك منك.

فأتى قومه ، وقصّ عليهم ما جرى له مع النبيّ ، وأنّه أسلم ، ودعا قومه الى الاسلام.

أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره ، ويجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفا وفرقا وتحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتا ومستمرا في اسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا وهذا يدل على أنه أسلم عن طواعية ورغبة. وان اسلامه كان لتنبّه فطرته ، ويقظة وجدانه ، فانّ فشله غير المتوقع ، ونجاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالم آخر ، وعرف بأن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ارتباطا بعالم آخر ، وأنه مؤيّد بالتالي بقوة عليا ، وراء هذا العالم المادي.

ولهذا السبب - وليس لسواه - أسلم ، وقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اسلامه ، وبعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك واعتذر إليه.

ص: 130

وقال : أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة. (1)

قريش تغيّر مسير تجارتها :

تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي وحلفائهم ، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها ، ودرست أوضاعها في ظل هذه المستجدات ، واتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رءوس أموالها وفنيت ، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.

وان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحا ما دامت الطريق غير آمنة ، وما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعا ، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة وادارتها ، واستخدما رجلا من بني بكر يدعى « فرات ابن حيان » ليدلّهما على الطريق.

قال المقريزي في امتاع الاسماع : سمع رجل من المدينة ( وهو سليط بن النعمان ) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره وما معهم من الاموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير ، وأفلت أعيان القوم ، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم ، وقسّم ما بقي على أهل السريّة ، وكان فيمن اسر فرات بن حيّان فأسلم (2).

ص: 131


1- المناقب : ج 1 ص 164 ، المغازي : ج 1 ص 194 - 196.
2- الإمتاع الاسماع : ج 1 ص 112.

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

اشارة

32

الدفاع عن الحرّية

غزوة احد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل احد :
اشارة

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة « بدر » فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة « احد » وهما من أعظم معارك الاسلام وغزواته.

على أن غزوة « احد » لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة ، بل وقعت أيضا غزوات اخرى (1) الى جنب طائفة من السرايا ، التي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط.

1 - سرية محمّد بن مسلمة :

لقد وصل نبأ انتصار المسلمين في معركة « بدر » عن طريق رجلين من المسلمين.

ولم يكن الجيش الاسلامي الظافر قد وصل الى المدينة بعد ، عند ما انزعج « كعب بن الاشرف » - الذي كانت أمه من يهود « بني النضير » وكان شاعرا قويا ، وخطيبا بارعا - من الفتح الذي أصابه النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمون في « بدر » فقال : واللّه لئن كان محمّد أصاب أشراف العرب وملوك الناس ( ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطن

ص: 132


1- مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.

الأرض خير من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قصائده حتى قبل معركة « بدر » ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرّض قريشا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد أنشد في هذا المجال أشعارا يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية (1).

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب (2) بنساء المسلمين حتى آذاهم!!

ولا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض ، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التخلص منه ، وكفاية المسلمين شره ، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة الى « محمد بن مسلمة ».

وقد خطّط « ابن مسلمة » للتخلص من « كعب » خطة رائعة ، وألّف لتنفيذها فريقا كان من بينهم « أبو نائلة » الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف ، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.

فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان ، ويتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب - بعد ان طلب منه أن يخرج كل من كان هناك من ذويه وأهله - : إني قد جئتك في حاجة إليك اريد ذكرها لك فاكتم عني ، وإني كرهت ان يسمع القوم كلامنا ، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل ( يعني رسول اللّه ) علينا من البلاء ، وحاربتنا العرب ، ورمتنا عن قوس واحدة ، وقطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس ، وضاع العيال ، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل.

فقال كعب : قد واللّه كنت احدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.

ص: 133


1- المغازي : ج 2 ص 121 - 122.
2- راجع السيرة النبويّة : ج 2 ص 52.

فقال أبو نائلة : إنّ معي رجالا من أصحابي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما ، أو تمرا وتحسن في ذلك إلينا ، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

فقال كعب : وما ذا ترهنونني يا أبا نائلة ، أبناءكم ونساءكم؟؟!

فقال أبو نائلة : لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ، ولكنا نرهنك من الحلقة ( أي السلاح ) ما ترضى به.

فرضي كعب بن الاشرف بذلك.

وإنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد ، فاتى أصحابه ، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب ، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده ، ثم أتوا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عشاء وأخبروه ، فمشى معهم حتى اتى البقيع ، ثم وجّههم ، ثم قال :

« امضوا على بركة اللّه وعونه اللّهم أعنهم ».

فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف ، فلمّا انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة ، وكان ابن الاشرف حديث عهد بعرس ، فوثب من فراشه ، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت : أين تذهب ، إنك رجل محارب ، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة؟؟

فقال ابن الاشرف : ميعاد ، إنما هو أخي أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم ، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.

ثم قالوا له : يا ابن الاشرف : هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز ( وهو موضع قرب المدينة ) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه ، وبينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال : ويحك ما أطيب عطرك هذا يا ابن الاشرف ، ثم مشى ساعة ، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة

ص: 134

ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال : اضربوا عدوّ اللّه ، فضربوه بسيوفهم ، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه ، وصاح صيحة ثم وقع على الارض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولما بلغوا « بقيع الغرقد » كبّروا ، وقد قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك الليلة يصلّي ، فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكبيرهم بالبقيع كبّر ، وعرف أنهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتناول أعراض المسلمين في أشعاره ... (1).

اغتيال مفسد آخر :

وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء والازعاج للنبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عملية فدائية جسورة على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه : الكامل في التاريخ بصورة مفصلة (2).

وقد كانت هاتان العمليتان وامور اخرى من أسباب اندلاع معركة « احد ».

وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفل نفقات الحرب :

كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بذرت في مكة من زمان وقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

ص: 135


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 51 - 56 ، المغازي : ج 1 ص 184 - 190.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 101.

كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة - المدينة - الشام ، واضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

ولقد أجج مقتل « كعب بن الاشرف » من أوار هذا الحقد ، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح « صفوان بن أميّة » و « عكرمة بن أبي جهل » على أبي سفيان ومن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة ، أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولا من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشا لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة والخسران اذ قال تعالى :

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ » (1).

وحيث إن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين وقد رأوا من كثب استقامتهم وثباتهم في معركة « بدر » لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف « عمرو بن العاص » وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويجمعوا أبطالها وصناديدها ، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، وغزوهم وبأن يخبروهم بأن قريشا قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات « عمرو » ورفاقه في هذا السبيل.

ص: 136


1- الانفال : 36 ، وراجع السيرة النبوية : ج 2 ص 60 ، مجمع البيان : ج 2 ص 541 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 217.

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعة أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالا وصناديد من بني كنانة وتهامة ، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل (1).

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة ، ولو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال ، ولكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب ، وكان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود ، ويمنعن المقاتلين من الفرار ، ويذكّرن بقتلى بدر ، ويشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف ، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر ولأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر ، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحمية على العرض سببا للمقاومة والصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعا في العتق الذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم ، وذلك مثل « وحشي » وكان غلاما حبشيا لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده : أخرج مع الناس فإن نلت محمدا أو عليّا أو حمزة فأنت عتيق (2).

وعلى أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشا كبيرا قويا يتألف من سبعمائة دارع ، وثلاثة آلاف فارس ، ومشاة كثيرين ، وقد خرجوا بعدة وسلاح كثير.

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ :

فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب (3) كتابا يضم

ص: 137


1- اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن ابراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى ، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفار في هذه المعركة ، وما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 96.
3- وكان العباس كما أسلفنا ممن أسلم وآمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة ولكنه ظلّ يكتم ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحركاتهم واخبار النبيّ صلی اللّه علیه و آله بنواياهم. راجع السيرة الحلبية: ج10 ص 198.

تقريرا مفصلا عن نوايا واستعدادات قريش ، وختمه واستأجر رجلا من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وانما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم ، فقرأه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واطلع على ما فيه ، ولكنه كتم محتواها عن أصحابه (1).

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق علیه السلام أنه قال : كان مما منّ اللّه عزّ وجلّ على رسوله صلی اللّه علیه و آله أنه كان لا يقرأ ولا يكتب ، فلما توجّه أبو سفيان الى « احد » كتب العباس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه ، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم (2).

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة :

تحرّك جيش قريش باتجاه المدينة ، وبعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء ، وهي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلی اللّه علیه و آله السيدة « آمنة بنت وهب » فقال فتية من قريش : تعالوا ننبش قبر أم محمّد ، فانّ النساء عورة ، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة امّك ، فان كان برّا بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة أمّة ، وان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة امّه بمال كثير إن كان بها برّا.

ص: 138


1- المغازي : ج 1 ص 203 ، ويرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أبي بن كعب فقرأها عليه ، وقد روى الواقدي هذا الوجه أيضا ( ج 1 ص 204 ) ومع أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 111.

واستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا :

لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر وخزاعة ( وهم أعداء قريش ) موتانا (1).

وبعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال ، السنة الثالثة من الهجرة ، « أنسا » و « مونسا » ابني « فضالة » للتجسس على قريش خارج المدينة ، واخباره صلی اللّه علیه و آله بتحركاتهم ، فأخبرا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وانهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر « الحباب بن المنذر » هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل احد ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد بعث الحباب سرا وقال له : لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلاّ أن ترى قلة.

وبخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

وحيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العدو ، أن يهاجموه ليلا ، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج ( الانصار ) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحرسونه ، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

منطقة « احد » :

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يسمى آنذاك ب- « وادي القرى » ، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة ، ولهذا نشأت على طول هذا الخط « قرى » بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سوّرت بأسوار من الحجارة ،

ص: 139


1- المغازي : ج 1 ص 206.

وكانت يثرب مركز هذه القرى وامها وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول ، ومن ثم « المدينة » تخفيفا واختصارا.

وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة ، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمرا عسيرا وفي غاية الصعوبة.

من هنا عمدت قريش - عند ما وصل جيشها الى مشارف المدينة - تحاشت هذه المنطقة ، ودخلت من شمال المدينة ، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل « احد » ، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها ، ولسهولة أرضها ، أفضل مكان للعمليات العسكرية ، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرء يرى فيها موانع طبيعية.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل « احد ».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة ، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على عقد شورى عسكرية ، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو ، والتكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون (1).

المشاورة في كيفية الدفاع :

كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد امر من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الامور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه التي يتخذها في المجالات المذكورة ، ليعطي بذلك درسا كبيرا للمسلمين ، ويوجد بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية ( الصحيحة ) وتحري الحق ، والموضوعية.

ص: 140


1- لم تكن هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه وقد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا : معالم الحكومة الاسلامية.

ولكن هل كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم ، ومقترحاتهم ، أم لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة ورواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم ودراساتهم ، وللقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو : أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بعده ، ولقد كانت هذه السيرة مؤثرة جدا بحيث استخدم الخلفاء والأمراء من بعده من اسلوب التشاور والشورى ، وكانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي علیه السلام ونظرياته السامية في الامور العسكرية ، والمشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

المشاورات العسكرية :

لما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعا كبيرا من صناديد أصحابه ، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوت عال : « أشيروا عليّ » (1).

وهو يطلب بذلك من اولئك الجنود والقادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو ، وطريقة الدفاع عن حوزة الاسلام وصرح التوحيد المهددة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك ، وأتباع الوثنية.

فقام « عبد اللّه بن ابي بن سلول » وكان من منافقي المدينة ، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة ، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها ، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه فترمي النساء العدوّ بالأحجار من السطوح ، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلا : يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها ، ونجعل النساء

ص: 141


1- راجع الخطبة 134 من نهج البلاغة.

والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة ، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك ( أي الطرقات ).

يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط ، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلاّ أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس ، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المهاجرين والأنصار ، إلاّ أن الفتيان من المسلمين وبخاصة من لم يشهد منهم بدرا وكانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة ، ورفضوه بقوة وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو ، ورغبوا في الشهادة ، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا : إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا ، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

وقال « حمزة » بطل الاسلام العظيم : لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة (1).

الاقتراع من أجل الشهادة!! :

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة - وهو شيخ يقظ البصيرة - وقال : ان قريشا مكثت حولا تجمع الجموع ، وتستجلب العرب في بواديها ، ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل ، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا ، وصياصينا ، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا ، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطرافنا ، ويضعوا العيون والارصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ،

ص: 142


1- المغازي ج 1 ص 211 وبحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر ، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضا فتكون حينئذ الضربة القاضية للاسلام والمسلمين.

ويجترئ علينا العرب حولنا ، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم ، فنذبهم عن جوارنا ، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم ، فتلك عادة اللّه عندنا ، أو تكون الاخرى : الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر ، وقد كنت عليها حريصا ، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت (1) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة ، وقد كنت حريصا على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا.

وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ورقّ عظمي ، وأحببت لقاء ربّي فادع اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة!!! (2).

إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين ، ورزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اسس الايمان باللّه واليوم الآخر قلما تنتج جنديا فدائيا مخلصا مثل خيثمة ، ومن شاكله.

إن روح الفداء والتفاني والايثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص ، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وإعزاز التوحيد باصرار وشوق لا توجد إلاّ في مدرسة الأنبياء والمرسلين ، ولا تحصل الاّ في ضوء تربيتهم.

واما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلاّ الحصول على وضع معيشي أفضل ، فانّه لا يهم الجنود فيها إلاّ الحفاظ على أرواحهم وحياتهم

ص: 143


1- اي اجريت القرعة بيني وبين ولدي.
2- المغازي : ج 1 ص 212 و 213.

فذلك هو أكبر هدف لديهم ، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأما في مدرسة الأنبياء فان المعارك والحروب لا يهدف منها إلاّ ابتغاء رضا اللّه سبحانه ، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل ، وعرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

حصيلة الشورى :

لقد أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برأى الاكثرية التي كانت ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ ، ورجح هو صلی اللّه علیه و آله البقاء في المدينة وقتال العدو داخلها ، إذ لم يكن من الصالح - بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة ، وسعد بن عباده ونظرائهم ، وأصروا عليه - أن يأخذ برأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافا الى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة ، واشتراك النسوة في الأمور الدفاعية ، والجلوس في البيت ، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز ، والوهن ، وهو أمر لا يليق بالمسلمين ، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة « بدر » ، وهزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها ، وسكوت جنود الاسلام على ذلك من شأن أن يقتل الروح القتالية ، والفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون « عبد اللّه بن أبيّ بن سلول » قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنه بهذا الاقتراح ( أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ ، ومواجهته بشجاعة ) كان يريد - في الحقيقة - أن يوجّه ضربة الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله !!

النبيّ يلبس لامة الحرب :

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع ، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 144

وآله بيته ولبس لامته ، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم واعتم وتقلّد السيف ، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين وهزهم بشدة وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا ، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر ، فندموا على ذلك ، وقالوا معتذرين : يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك ( أو : ما كان لنا أن نستكرهك والأمر الى اللّه ثم إليك ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل » (1).

النبيّ يخرج من المدينة :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصدا احد ، وذلك بعد أن قال لهم :

« انظروا إلى ما أمرتكم به فاتّبعوه امضوا على بركة اللّه فلكم النصر ما صبرتم » (2).

وقد أجاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان راميا جيدا ، ورد اسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر بن الخطّاب (3).

ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد اللّه بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين ، ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يسمح بذلك لأسباب خاصة.

ص: 145


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 23 ، المغازي : ج 1 ص 214 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 38.
2- المغازي : ج 1 ص 214.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 66.

وسار النبيّ وأصحابه حتى اذا كانوا بمنطقة بين المدينة واحد تسمى « الشوط » انعزل عنه « عبد اللّه بن أبي بن سلول » وعاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ برأي الفتية والشباب ، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهود ولا حزب النفاق.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى « مربع بن قيظي » وكان ضريرا ، فامتنع من ذلك ، واساء بالقول الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصر » (1).

جنديان فدائيان :

استعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه في منطقة تدعى بالشيخين (2) ، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف ، وتعكس إصرارا كبيرا على قتال الكفار ، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل احد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتا كبيرا.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

ولقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي

ص: 146


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 65 ، المغازي : ج 2 ص 218.
2- ولقد كان من عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله واسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام ، وعدّهم ، وتسريح بعض العناصر الضعيفة احيانا.

ما كان ليتوفر إلاّ في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس ، ليس إلاّ.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن ، وشاب لم يمض من عرسه إلاّ ليلة واحدة!!

1 - كان « عمرو بن الجموح » رجلا شيخا أعرج شديد العرج وقد اصيب في رجله في حادثة. وكان له بنون أربعة مثل الاسود ، يشهدون مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشاهد ، فلما كان يوم « احد » أراد ان يخرج مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة ، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة ، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسه وقالوا له : إنّ اللّه عزّ وجل قد عذرك ، ولم يقتنع بمقالتهم ، وأتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فو اللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له :

« أمّا أنت فقد عذرك اللّه ولا جهاد عليك » (1).

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لبنيه وقومه :

« لا عليكم أن لا تمنعوه ، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة ».

فخلّوا عنه ، وخرج وهو يقول : اللّهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني الى أهلي.

وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة « احد » العظيمة ، ومن قصصها الرائعة ، فقد كان يحمل - وهو على ما هو عليه من العرج - على الاعداء ويقول : « أنا واللّه مشتاق إلى الجنّة » وابنه يعدو في أثره حتّى قتلا جميعا (2).

ص: 147


1- لقول اللّه تعالى : « لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ » ( الفتح : 17 ).
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 90 و 91 ، المغازي : ج 1 ص 265.

2 - « حنظلة » وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك. وهو ابن « أبي عامر » عدوّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذي كان مصداقا لقول اللّه تعالى « يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ».

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة « احد » إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان ممن يكيدون للاسلام وممن حرّض قريشا ضدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل.

وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد « ضرار » التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة والبنوة وما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه ، ما دام أبوه على باطل وهو ( أي حنظلة ) على الحق فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى « احد » لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته ، فقد تزوج بابنة « عبد اللّه بن ابيّ بن سلول » وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة التي خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى « احد » في صبيحتها المنصرمة.

ولكنه عند ما سمع مؤذن الجهاد ، ودوّى نداؤه في اذنه بحيّر في ما يجب أن يفعله ، فلم يجد مناصا من أن يستأذن من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن - على رواية العلاّمة المجلسي - قوله تعالى :

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ » (1).

ص: 148


1- النور : 62.

فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها ، ولما اصبح خرج من فوره وتوجه إلى « احد » وهو جنب.

ولكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار ، واشهدت عليه أنه قد واقعها.

فقيل لها : لم فعلت ذلك؟

قالت : رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا اشهد عليه.

ولما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر ، فحمل عليه ، فضرب عرقوب فرسه ، فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض ، وصاح : يا معشر قريش أنا أبو سفيان ، وهذا حنظلة يريد قتلي ، وعدا أبو سفيان ، وجرى حنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله ، وسقط حنظلة الى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد اللّه بن حزام وجماعة من الأنصار ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بين السماء والارض بماء المزن في صحائف من ذهب » (2).

فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول : « ومنا حنظلة غسيل الملائكة ».

وكان أبو سفيان يقول : حنظلة بحنظلة ويقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر (3).

ص: 149


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 57.
2- اسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.
3- اسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.

إنه حقا عجيب أمر هذين العروسين ( الزوجين ) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما ، من اعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخصومه الالداء.

فعبد اللّه بن أبيّ بن سلول ( والد العروس ) كان رأس المنافقين في المدينة ، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معاديا أشد العداء لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد التحق بالمشركين في مكة ، كما حرّض « هرقل » لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة ، ثم اشترك في معركة احد ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقاتل المسلمين قتالا شديدا (1).

العسكران يصطفّان :

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية ، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى احد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل احد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف ، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا عمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة ، وأمّر عليهم « عبد اللّه بن جبير » وقال :

انضح الخيل عنّا بالنبل ، واحموا لنا ظهورنا ، لا يأتونا من خلفنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ، إن كانت لنا أو علينا ، فلا تفارقوا مكانكم ».

ولقد أثبتت حوادث « احد » التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكريا ، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ واخلاء ذلك الموقع الإستراتيجي ، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة ، ويحمل عليهم ، ويوجه عليهم ضربة قوية!!

ص: 150


1- أسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.

إنّ أمر النبيّ المؤكد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب ، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية ، وعدم التقيد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية التي قام بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد ، وتعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال : « وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال واللّه سميع عليم » (1).

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم :

لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود ، وما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية ، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضا لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح ، خطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين ، وذلك بعد ان نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب « الواقدي » المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي :

جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرماة خمسين رجلا على « عينين » عليهم « عبد اللّه بن جبير » ، وجعل « احدا » خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، ثم جعل صلی اللّه علیه و آله يمشى على رجليه يسوّي تلك الصفوف ، ويبوّئ أصحابه

ص: 151


1- مجمع البيان : ج 4 ص 495 ، الكشاف : ج 1 ، ص 346 - 347.

للقتال يقول تقدّم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره ، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

ثم قام صلی اللّه علیه و آله فخطب الناس فقال :

« يا أيّها الناس ، أوصيكم بما أوصاني اللّه في كتابه من العمل بطاعته ، والتناهي عن محارمه ، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر. لمن ذكر الذي عليه ، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجدّ والنشاط فانّ جهاد العدوّ شديد ، شديد كريه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم اللّه رشده ، فان اللّه مع من أطاعه ، وإنّ الشيطان مع من عصاه ، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللّه ، وعليكم بالذي أمركم به ، فانّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف ممّا لا يحبّ اللّه ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر.

وإنّه قد نفث في روعي الروح الأمين إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها ، ولا ينقص منه شيء وأن ابطأ عنها ... المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم » (1).

العدوّ ينظّم صفوفه :

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام : الرماة ، وجعلهم في الوسط ، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد ، والميسرة ، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعا من بني عبد الدار : إنا إنما اتينا يوم بدر من اللواء ، وإنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم ، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه ، أو خلوا بيننا وبينه فانا قوم مستميتون موتورون ، نطلب ثارا حديث العهد.

ص: 152


1- المغازي : ج 1 ص 221 - 223.

فشقّ هذا الكلام على « طلحة بن أبي طلحة » وكان شجاعا ، وهو أوّل من حمل راية لقريش ، فاندفع من فوره الى ساحة القتال ، وطلب المبارزة ، متحديا بذلك أبا سفيان.

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس :

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفا بيده وقال : - وهو يثير بذلك همم جنوده -.

« من يأخذ هذا السيف بحقّه »؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري ، فقال : وما حقّه يا رسول اللّه؟

قال : « أن تشرب به العدوّ حتى ينحني ».

قال : أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إياه ، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا ، يختال عند الحرب اذا كانت ، وكان اذا أعلم ، أعلم بعصابة له حمراء ، فاعتصب بها علم أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه ، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انها لمشية يبغضها اللّه إلاّ في هذا الموطن » (1).

حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية ، وهذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعا عن الحق والقيم ، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة ، وحب الكمال.

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده ، بل كان صلی اللّه علیه و آله يهدف بذلك إثارة الآخرين ، وإفهامهم بأن عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة ، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول « الزبير بن العوّام » وهو كذلك رجل شجاع : وجدت في نفسي حين

ص: 153


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 66 و 67.

سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة وقلت : أنا ابن صفيّة عمته ، ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه ، فاعطاه إياه وتركني! واللّه لانظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء ، فعصّب بها رأسه ، فقالت الانصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، وهكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها.

فخرج وهو يقول :

أنا الّذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لدى النخيل

ألاّ أقوم الدهر في الكيّول (1) *** أضرب بسيف اللّه والرّسول

فجعل لا يلقى أحدا إلاّ قتله ، وكان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلاّ ذفّف عليه ، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت اللّه أن يجمع بينهما ، فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة ، فاتقاه بدرقته ، فعضت بسيفه ، وضربه أبو دجانة ، فقتله ، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق « هند بنت عتبه » ثم عدل السيف عنها ، فقلت : اللّه ورسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال : رأيت انسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أضرب به امرأة (2).

القتال يبدأ :

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا ، وكان من الأوس ، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلا من الأوس بسبب معارضته للاسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم احد تركوا نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر.

ص: 154


1- الكيّول : آخر الصفوف في الحرب.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 68 و 69.

قالوا : فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق. فلما سمع ردّ الأوس تركهم ، واعتزل الحرب بعد قليل (1).

ثم إن هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة احد معروفة بين المؤرخين ، أبرزها ، وأجدرها بالاجلال تضحيات علي علیه السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد : تلت بدرا غزاة احد وكانت راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيد أمير المؤمنين علیه السلام فيها ومما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال : حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي ، قال : كانت راية قريش ولواؤها جميعا بيد قصى ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث اللّه رسوله صلی اللّه علیه و آله فصارت راية قريش وغيرها الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى علي بن أبي طالب علیه السلام في غزاة ودان وهي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى في يوم احد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدفعه إلى علي بن أبي طالب علیه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء (2).

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال : لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره ( هو ) أول عربي وعجمي صلّى مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو الذي كان لواؤه معه في كل زخف ... (3).

ص: 155


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 67.
2- الارشاد : ص 43 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 80.
3- ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج 1 ص 142.

كما عن قتادة : ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه يوم بدر وفي كل مشهد (1).

ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري ( وكان يدعى كبش الكتيبة ) فبرز ونادى : يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار ، ونجهزكم بأسيافنا الى الجنّة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه علي علیه السلام وهو يقول :

يا طلح إن كنتم كما تقول *** لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر ايّنا المقتول *** وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد المسئول

بصارم ليس به الفلول *** ينصره القاهر والرسول

ثم تصاولا بعض الوقت قتل بعده طلحة بضربة علي علیه السلام القاضية.

فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي علیه السلام على التناوب فقتلا جميعا على يديه علیه السلام .

هذا ويستفاد من كلام لعلي علیه السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

فقد قال الامام علیه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة :

« نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلّهم يأخذ اللواء ، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلاّ محمدا ، قد ازبد شدقاه ، واحمرّت عيناه ، فاتّقيتموه ، وحدتم عنه ، وخرجت إليه ، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين ، فقطعته بنصفين وبقيت عجزه وفخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه ».

قالوا : اللّهم لا (2).

ص: 156


1- ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج 9 ص 142.
2- الخصال : ص 560.

أجل ان قريشا كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار وقد قتلوا جميعا على يد الامام علي علیه السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضا (1).

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات التي كانت تتغنّى بها « هند بنت عتبة » زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثهم على القتال واراقة الدماء والمقاومة ، ويضربن معها الدفوف والطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية ، والخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي :

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق *** أو تدبروا نفارق

ولا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات ، ويكون دافعها الى الحرب والقتال هو الجنس واللذة ، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف اختلافا بيّنا وكبيرا عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية ، ورفع مستوى الفكر ، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للاوثان.

ولا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلاّ ووضعت قريش أسلحتها على الارض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اصيبت باصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و ... مخلّفة وراءها غنائم

ص: 157


1- وقد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار : ج 20 ص 81 - 82.

وأموالا كثيرة ، وأحرز المسلمون بذلك انتصارا عظيما على عدوهم القوي في تجهيزاته ، الكثير في افراده (1).

الهزيمة بعد الانتصار :

قد يتساءل سائل : لما ذا انتصر المسلمون اولا؟

لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون ، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار إلاّ الرغبة في مرضاة اللّه ، ونشر عقيدة التوحيد ، وإزالة الموانع عن طريقها ، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

وقد يتساءل : ولما ذا انهزموا أخيرا؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار ، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركها قريش في أرض المعركة ، وفروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين ، ونسوا على أثره أوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتعاليمه ، فغفلوا عن ظروف الحرب.

وإليك فيما يأتي تفصيل الحادث :

لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة احد أنه كان في « جبل احد » شعب ( ثغرة ) وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خمسين رجلا من الرماة بمراقبة ذلك الشعب ، وحماية ظهر الجيش الاسلامي ، وأمّر عليهم « عبد اللّه بن جبير » ، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا ، غلبوا أو غلبوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين ، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّى هاربة ، حتى إذا ظفر النبيّ وأصحابه ، وانكشف المشركون منهزمين ، لا يلوون على شيء ، وقد تركوا على أرض المعركة

ص: 158


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 68 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 194.

غنائم وأموالا كثيرة ، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بذل النفس في سبيل اللّه ومضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد اغمدوا السيوف ، ونزلوا عن الخيول ظنا بأن الأمر قد انتهى.

فلما رأى الرماة المسئولون عن مراقبة الشعب ذلك قالوا لأنفسهم : ولم نقيم هنا من غير شيء وقد هزم اللّه العدوّ فلنذهب ونغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم ( عبد اللّه بن جبير ) : ألم تعلموا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لكم : احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟

ولكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا : لم يرد رسول اللّه هذا ، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزمهم.

ولهذا نزل أربعون رجلا من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال وقد تركوا موضعهم الإستراتيجي في الجبل ، ولم يبق مع عبد اللّه بن جبير إلاّ عشرة رجال!!

وهنا استغل « خالد بن الوليد » الذي كان مقاتلا شجاعا ، قلّة الرماة في ثغرة الجبل ، وكان قد حاول مرارا أن يتسلل منها ولكنه كان يقابل في كل مرة نبال الرماة ، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم ، وغافلين عما جرى فوق الجبل ، ووقعوا في المسلمين ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ، ورميا بالنبال ، ورضخا بالحجارة ، وهم يصيحون تقوية لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين ، وعادت فلول قريش تساعد خالدا وجماعته ، وأحاطوا جميعا بالمسلمين من الأمام والخلف ، وجعل المسلمون يقاتلون حتى قتل منهم سبعون رجلا.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الإستراتيجي عسكريا والذي اهتم به القائد الاعلى صلی اللّه علیه و آله ، وأكد بشدة على المحافظة عليه ، ودفع أيّ

ص: 159

هجوم من قبل العدوّ عليه. وبذلك فتحوا الطريق - من حيث لا يشعرون - للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد ، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي ، ووجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

ولقد ساعد خالدا في هذا « عكرمة بن أبي جهل » الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين ، وساد على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج والمرج ، وعمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة ، ولم ير المسلمون مناصا من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين ، ولكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع ، بل تحمّلوا - كما أسلفنا - خسائر كبرى في الأرواح ، وقتل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين ، ونفخت فيهم روحا جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل ، ودخلت ساحة المعركة ثانية ، وساعدت جماعة منهم خالدا وعكرمة وحاصروا المسلمين من كل ناحية وقتل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!

شائعة مقتل النبيّ :

وفي هذا الأثناء حمل « الليثي » (1) وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة وهو يظن أنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتى قتل « مصعب » بضربه قاضية من الليثي ، وكان المسلمون يومئذ ملثّمون ، ثم صاح : قتلت محمّدا ، أو قال ألا قد قتل محمد ، ألا قد قتل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسروا بذلك سرورا عظيما ، وارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي : ألا قد

ص: 160


1- هو عبد اللّه بن قمئة الليثي.

قتل محمّد ، ألا قد قتل محمّد.

ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عضوا ، وبذلك ينال فخرا في أوساط المشركين!!

وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين ، ترك أثرا سيئا جدا في نفوس المسلمين ، وأضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال ، ولجئوا إلى الجبل فرارا بأنفسهم ، ولم يثبت الاّ عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض؟

لا يمكن أبدا أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلاّ من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة ، ولا يمنع كونهم صحابة ، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد ، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلا : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بايديهم (1) فقال : ما يجلسكم؟ ( اي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة ).

قالوا : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قتل.

أو قال : حسب رواية كثير من المؤرخين : - ان كان محمد قد قتل فان ربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقاتلوا على

ص: 161


1- اي استسلموا.

ما قاتل عليه رسول اللّه ، وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللّهم إنّي اعتذر إليك مما يقوله هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قتل.

ويروي ابن هشام عن أنس بن مالك ( ابن أخ انس بن النضر ) لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلاّ اخته عرفته ببنانه (1).

وكتب الواقدي في مغازيه يقول :

حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي جهم واسم أبي جهم عبيد قال : كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول : الحمد لله الذي هداني للاسلام ، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم احد وما معه أحد وأنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه موجّها إلى الشعب (2).

وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال : ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!! (3).

القرآن يكشف عن بعض الحقائق :

إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل والتعصب التي اسدلت على هذه المسألة ، وتفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الظفر ، والنصر لا أساس له من الصحة ، فان اللّه تعالى يقول في هذا الصدد :

« وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ » (4).

وفي امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا

ص: 162


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 83 راجع تفسير المنار : ج 4 ص 102.
2- المغازي : ج 1 ص 237.
3- بحار الأنوار : ج 20 ص 27
4- آل عمران : 154.

المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران (1).

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أوفياء لعقيدة التوحيد ، متفانين في سبيله ، بل كان منهم الضعيف في ايمانه والمنافق ، والمتردد ، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلة أيضا.

ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثير من المواقف والاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة احد ، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة ، ومكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة ، وهذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة :

« إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » (2).

إن هذه الآية تقصد اولئك الّذين رآهم أنس بن النضر ، ومن شابههم من الذين تركوا ساحة المعركة ، ولجئوا إلى الجبل ، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

والأوضح من الآية السابقة قول اللّه تعالى :

« إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » (3).

إن اللّه تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا - لفرارهم من المعركة - بنبإ مقتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على يد العدوّ ، وراحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد اللّه بن أبي اذ يقول :

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ » (4).

ص: 163


1- الآيات : 121 - 180.
2- آل عمران : 153.
3- آل عمران : 155 و 144.
4- آل عمران : 155 و 144.
التجارب المرة :

إن في أحداث معركة « احد » ووقائعها تجارب مرة واخرى حلوة فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة ، وضعف وهزيمة آخرين.

كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتقياء عدولا بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل ، يوم احد وعصوا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تلك اللحظات الخطيرة ، وجرّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى ، كانوا أيضا ممّن صحبوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد : « بايع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد ثمانية على الموت : ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار » فثبتوا وهرب الآخرون (1).

وكتب العلامة أبن أبي الحديد المعتزلي أيضا : حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه اللّه في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية ، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي ، فقرأ : حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال : سمعت اذناي ، وأبصرت عيناي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول يوم احد ، وقد انكشف الناس الى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه ، سمعته يقول :

« إليّ يا فلان ، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه ».

فما عرّج عليه واحد منهما ، ومضيا!! فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.

فقلت : وما في هذا؟ قال : هذه كناية عنهما. ( أي اللذين تسنّما مسند الخلافة

ص: 164


1- المغازي : ج 2 ص 240.

بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله )

فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال : ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار ، وما شابهه من العيب ، فيضطرّ القائل إلى الكناية إلاّ هما.

قلت له : هذا ممنوع.

فقال : دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحا (1).

كما أنّ العلاّمة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضا اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم احد (2).

وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن امرأة مجاهدة متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى « نسيبة المازنية » دافعت عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد.

فقد لمّح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك ، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة ، وإماطة اللثام عن الواقع ، فبقدر ما نستنكر ، ونقبّح فرار من فرّ ، نكبر صمود من صمد وثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة ، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل ، وما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ :

في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين ، وانفرط عقده ، وفي الوقت الذي تركزت فيه أن حملات المشركين من كل ناحية على رسول اللّه صلّى

ص: 165


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 15 ص 23 و 24.
2- المغازي : ج 1 ص 278 و 279.

اللّه عليه وآله تعاهد خمسة أنفار من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهاية لحياة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن (1).

وهؤلاء هم :

1 - عبد اللّه بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

2 - عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأربعة أحجار فكسر رباعيته صلی اللّه علیه و آله ، وجرح باطنها ، من الجهة اليمنى.

3 - ابن قميئة الليثي الذي رمى وجنتي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلی اللّه علیه و آله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا والسفلى.

4 - عبد اللّه بن حميد الذي قتل على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

5 - ابيّ بن خلف وكان من الذين قتلوا بيد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه.

فهو واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما وصل صلی اللّه علیه و آله إلى الشعب ، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به ، فجعل يصيح بأعلى صوته : يا محمّد لا نجوت ان نجوت ، وحمل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولما دنا تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحربة من « الحارث بن الصمّة » ، ثم انتفض انتفاضة شديدة وطعن « ابيّا » بالحربة في عنقه ، وهو على فرسه ، فجعل ابيّ يخور كما يخور الثور!

ومع أن ما أصاب ابيّا من جراحة كان يبدو بسيطا ، إلاّ أنه تملّكه رعب وخوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه ، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم ، وكان يقول : واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز (2) لماتوا أجمعون.

ص: 166


1- المغازي : ج 1 ص 243.
2- كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب ( معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي : ص 508 ).

أليس قال : ( أي النبيّ يوم كان بمكة ) أنا أقتلك إن شاء اللّه ، قتلني واللّه محمّد!!

وقد فعلت الطعنة ، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف ( وهو موضع على ستة أميال من مكة ) فيما كانت قريش قافلة من احد الى مكة (1).

حقا إن هذا ينمّ عن منتهى الدناءة والخسة في خلق قريش وموقفها ، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعترف به ، وتنكر أن يكون قد صدر منه كذب في قول ، أو خلف في وعد ، كانت تعاديه أشدّ العداء ، وتمدّ نحوه يد العدوان ، وتبغي مصرعه ، وتسعى إلى اراقة دمه!!

كما أنه من جهة اخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى ، من ناحية اخرى ، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدافع عن رسالته السماوية ، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى ، ويصمد لاعداء صمود الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومع أنه كان صلی اللّه علیه و آله يرى أن كل همّ المشركين وكل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه ، إلاّ أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه واضطرابه ، ولقد صرح المؤرخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي ونادى المشركون بشعارهم [ يا للعزى ، يا لهبل ] فارجعوا في المسلمين قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما نالوا. ولم يزل صلی اللّه علیه و آله شبرا واحدا بل وقف في وجه العدوّ ، وأصحابه تثوب إليه مرة طائفة وتتفرق عنه مرة ، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا (2).

نعم غاية ما سمع من صلی اللّه علیه و آله هو ما قاله عند ما كان يمسح الدم

ص: 167


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 84 ، المغازي : ج 1 ص 251.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 131 ، المغازي : ج 2 ص 240.

عن وجهه المبارك اذ قال :

« كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم وهو يدعوهم إلى اللّه؟! » (1).

إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.

بينما تكشف كلمة قالها علي علیه السلام عن شجاعته صلی اللّه علیه و آله الفائقة إذ قال :

« كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه » (2).

من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه ، وعن نفسه ، والى شجاعته في المعارك.

ولقد كانت ثمة علل وأسباب صانت هي الاخرى حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أن يلحقها خطر أو ضرر ، الا وهو تضحية وتفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد ، وهذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد قتالا شديدا ، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره (3).

على أن الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد (4) ، وحتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعا غير مقطوع به من منظار علم التاريخ ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين ، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.

ص: 168


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 102.
2- نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه رقم 9.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 107.
4- شرح نهج البلاغة : ج 15 ص 20 و 21.
الدفاع الموفق أو النصر المجدّد :

لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافا ، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا - وخلافا لتوقعات العدو الحاقد - أن يصونوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققا ، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الاسلام.

أما إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين ، وإلاّ فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتق عدد معدود جدا من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الاكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم ، وتعريضها للخطر الجدي.

وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية ، وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلة إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل اللّه ورسوله.

وإليك فيما يلي استعراضا إجماليا لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين :

1 - إن أول وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره ... ، هو الذي رافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سني صغره وبدايات حياته وحتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله .

إن بطل الاسلام الاكبر وان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام « عليّ بن أبي طالب » علیه السلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية والفداء في سبيل نشر الاسلام والدفاع عن حوزة التوحيد ، وارساء دعائمه.

وفي الاساس ان هذا الانتصار المجدّد - على غرار الانتصار الأول - إنما جاء نتيجة لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد

ص: 169

مقتل كل حملة اللواء على يد الامام علي علیه السلام ، وبالتالي نتيجة للرعب الذي القي في قلوبهم لما رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر ، الأمر الذي سلبهم القدرة على المقاومة.

إن الكتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الاسلامي بالتحليل والدراسة ، لم يعطوا عليا علیه السلام - وللأسف - حقه في هذه الموقعة ، أو على الأقلّ لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرخون ، وتطابقت في اثباته التواريخ ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ علیه السلام ومواقفه الشجاعة والعملاقة في عداد مواقف الآخرين ، وفي مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ ، وذلك البطل الشجاع الذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة ، والسمو.

1 - يقول ابن الاثير في تاريخه (1) : كان الذي قتل أصحاب اللواء علي - قاله ابو رافع - ، ( قال ) فلما قتلهم أبصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من المشركين فقال لعليّ : احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرّقهم ، وقتل منهم ، ثم أبصر جماعة اخرى فقال له : احمل عليهم ، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل منهم ، فقال جبرئيل : يا رسول اللّه هذه المواساة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما قال : فسمعوا صوتا :

« لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلا علي » (2).

وقد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر اذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول : لما فرّ معظم أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنانة ، ثم من بني عبد مناة بن

ص: 170


1- الكامل : ج 2 ص 107.
2- ومثله في تاريخ الطبري : ج 2 ص 197 ، ميزان الاعتدال : ج 3 ص 324 ، لسان الميزان : ج 4 ص 406.

كنانة فيها بنو سفيان بن عويف ، وهم خالد بن ثعلب وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان ، وانها لتقارب خمسين فارسا وهو ( أي علي علیه السلام ) راجل ، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه ، ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممن لا يعرف اسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل ، ثم كتب يقول : قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ورايت بعضها خاليا عنها ، وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة عن هذا الخبر ، فقال : خبر صحيح.

فقلت له : فما بال الصحاح ( أي مثل صحيح البخاري ومسلم وما شاكلهما ) لم تشتمل عليه؟

قال : أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة؟! (1).

2 - ولقد اشار الامام علي علیه السلام نفسه في كلام مفصل له مع رأس اليهود إلى هذا الموقف اذ قال :

« ذهب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعسكر بأصحابه في سد احد واقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممّن بقي من الهزيمة ، وبقيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومضى المهاجرون والانصار الى منازلهم من المدينة كلّ يقول قتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقتل أصحابه ، ثم ضرب اللّه عزّ وجلّ وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نيفا وسبعين جراحة ، منها هذه ، وهذه ».

ثم انه علیه السلام ألقى رداءه ، وأمرّ يده على جراحاته ، وقال :

« وكان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ وجلّ ثوابه إن شاء اللّه » (2).

ص: 171


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ص 250 و 251.
2- الخصال : ص 368.

وقد بلغ عليّ علیه السلام - حسب رواية علل الشرائع - من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد ، ان انكسر سيفه ، فجاء الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه علیه السلام سيفه ذا الفقار فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال جبرئيل في حقه وفي سيفه ما مرّ (1).

وقد اشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة التي نادى بها جبرئيل إذ قال : وحدثني بعض أهل العلم ان ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم احد : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (2).

كما عد ابن هشام في سيرته (3) القتلى من المشركين في احد (22) رجلا ، وقد ذكر أسماءهم واحدا واحدا وذكر قبائلهم ، وغير ذلك من خصوصياتهم ، وقد قتل منهم (12) رجلا بيد علي علیه السلام ، وقتل البقية بايدي المسلمين ، ونحن نعرض هنا عن ذكر اسماء اولئك المقتولين رعاية للاختصار.

هذا ونحن نعترف بأننا لم نستطع بيان كل ما قام به علي علیه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنة والشيعة وبخاصة في موسوعة بحار الأنوار.

إن ما نستفيده من مطالعة الروايات والأخبار الثابتة والمتعددة في هذا المجال هو انه لم يثبت أحد في معركة « احد » كما ثبت علي علیه السلام (4).

2 - أبو دجانة ، وهو البطل المسلم الثاني بعد الامام علي علیه السلام في الصمود ، والتضحية ، والبسالة والفداء دفاعا عن حياة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ودفاعه عنه أن

ص: 172


1- علل الشرائع : ص 7 ، بحار الانوار : ج 20 ص 71.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 100.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 127 و 128.
4- بحار الأنوار : ج 20 ص 84.

جعل من نفسه ترسا يقي النبيّ صلی اللّه علیه و آله من سيوف الكفار ورماحهم ، وسهامهم وأحجارهم ، وقد وقعت سهام كثيرة في ظهره ولكنه ظل مترسا بجسمه دون النبيّ ، وبذلك حافظ على حياته الشريفة (1).

وقد جاء أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال له يوم « احد » بعد ان فرّ وانهزم أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحاصره الكفار من كل جانب يا أبا دجانة أما ترى قومك ، قال : بلى ، قال : « الحق بقومك وأنت في حل من بيعتي ، أمّا عليّ فهو أنا وأنا هو ».

فبكى أبو دجانة بكاء مرا وقال :

لا واللّه ، لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك ، فالى من أنصرف يا رسول اللّه الى زوجة تموت ، أو ولد يموت ، او دار تخرب ، او مال يفنى ، أو أجل قد اقترب؟

فرّق له النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلم يزل يقاتل حتى اثخنته الجراحة وهو في وجه و « عليّ » في وجه ، فلما سقط احتمله علي علیه السلام فجاء به إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فوضعه عنده فقال : يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال : نعم (2).

وقد ذكر في كتب التاريخ أشخاص آخرون كعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وغيرهم ممن يبلغ - حسب بعض الكتب - 36 شخصا ادعي أنهم ثبتوا ولم يفروا ، إلاّ أنّ ما هو مسلم به تاريخيا هو ثبات علي علیه السلام وأبي دجانة ، وحمزة وامرأة تدعى أم عامر ، وأما ثبات غير هؤلاء الأربعة فامر مظنون بل ومشكوك في بعضهم.

3 - حمزة بن عبد المطلب ، عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان من شجعان العرب ومن المعروفين ببطولاته في الاسلام ، وهو الذي أصرّ على أن

ص: 173


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 82.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 107 و 108 عن روضة الكافي : ص 318 - 322.

يخرج المسلمون من المدينة ويقاتلوا قريشا خارجها.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أذى المشركين والوليين في اللحظات الخطيرة ، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكة.

وقد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدة ، وضربه ضربه شج بها رأسه في جمع من قادة قريش ولم يجرأ احد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلما مجاهدا وبطلا فدائيا متفانيا في سبيل الاسلام ، فهو الذي قتل « شيبة » وشيبة من كبار صناديد قريش وابطالها ، في بدر كما قتل آخرين ، ولم يهدف إلاّ نصرة الحق ، والفضيلة ، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والامم.

ولقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد ، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت « وحشيا » وهو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر بأن يحقق غرضها ، وأملها كيفما استطاع ، وقالت له : لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها : أمّا محمد فلا أقدر عليه ، وأما علي فوجدته رجلا حذرا كثير الالتفات فلا أطمع فيه ، وأما حمزة فاني أطمع فيه لأنه اذا غضب لم يبصر بين يديه.

يقول وحشي : ولما كان يوم احد كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنوا مني ، وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره ، فو اللّه إني لأنظر إليه يهدّ الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء ، فهززت حربتي - وكان ماهرا في رمي الحراب - حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه ، فوقعت في ثنته ( وهي أسفل البطن ) حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي ، فغلب ، وتركته واياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت الى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وانما قتلته لأعتق.

ص: 174

فلما قدمت الى مكة اعتقت ثم اقمت حتى إذا افتتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة هربت الى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليسلموا تعيّت عليّ المذاهب ، فقلت : ألحق بالشام أو اليمن ، أو ببعض البلاد ، فو اللّه إني لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجل : ويحك إنه واللّه ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه ، وتشهّد شهادته.

فلما قال لي ذلك ، خرجت حتى قدمت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ، فلم يرعه إلاّ بي قائما على رأسه أتشهّد بشهادة الحق ، فلمّا رآني قال : أو حشي؟!

قلت : نعم يا رسول اللّه.

قال : اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة ، فحدثته بما جرى له معه ، فلما فرغت من حديثي قال : ويحك! غيّب عني وجهك فلا أرينّك.

أجل هذه هي الروح النبويّة الكبرى ، وتلك هي سعة الصدر التي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلی اللّه علیه و آله قائد الاسلام الأعلى ، ومعلم البشرية الاكبر ، تراه عفى عن قاتل عمه ، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجة وحجة!!

يقول وحشي : فكنت أتنكّب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيث كان لئلاّ يراني ، حتى قبضه اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما خرج المسلمون الى قتال مسيلمة الكذاب خرجت معهم ، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة ، فلمّا التقى الناس رايت مسيلمة الكذاب قائما في يده السيف ، وما أعرفه ، فتهيأت له ، وتهيّأ له رجل من الأنصار من الناحية الاخرى ، كلانا يريده فهزرت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت فيه ، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف.

هذا هو ما ادّعاه وحشي ، بيد أنّ هشام قال في سيرته : بلغني أن وحشيا لم يزل يحدّ في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول : قد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة (1).

ص: 175


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 72 و 73.
4 - أمّ عمارة :

لا ريب أن الجهاد الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الاسلام ، ولهذا عند ما أوفدت نساء المدينة امرأة الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتتحدّث معه حول الحرمان من هذه العبادة الكبرى ، فجاءت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت : يا رسول اللّه نحن نقوم بكل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم ، ليجاهدوا ببال فارغ ، فلم حرمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا : « إنّ حسن التبعّل يعدل ذلك كله » ، وهو صلی اللّه علیه و آله يشير إلى أن لهذا المنع أسبابه الطبيعية والوظيفية في طبيعة المرأة وخلقتها ، وليس هو بالتالي يعني حرمانها من شيء فان قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها وتربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه (1).

بيد أن بعض النسوة المجرّبات ربما كن يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الاسلام كسقي العطاشى ، وغسل ثياب المقاتلين ، وتضميد الجرحى. وبذلك كنّ يقدّمن خدمة مؤثرة في نصرة المسلمين ودعمهم.

تقول أمّ عمارة ( نسيبة المازنية ) : خرجت أول النهار الى « احد » وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في الصحابة ، والدولة والريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحزت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعلت أباشر القتال وأذبّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالسيف ، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح.

( تقول راوية هذا الكلام ) فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور ، فقلت : يا أمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

قالت : أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول اللّه ، يصيح : دلّوني على

ص: 176


1- اسد الغابة : ج 5 ص 398.

محمد ، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه ، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذاك ضربات ، ولكنّ عدوّ اللّه كان عليه درعان. هذا والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ينظر إليّ ، فنظر الى جرح على عاتقي ، فصاح بأحد اولادي وقال : « امّك امّك اعصب جرحها ». فعاونني عليه.

ثم إنها رأت أن ابنها جرح فاقبلت إليه ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطت جرحه والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ينظر ، ثم قالت لولدها : انهض يا بني فضارب القوم.

فأعجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باستقامتها وثباتها وايمانها وقال :

« ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة »؟!

وفي الأثناء اقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا ضارب ابنك فاعترضت له ، وحملت عليه كالأسد المغضب وضربت ساقه فبرك.

فازداد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعجابا بشجاعتها وتبسّم حتى بدت نواجذه وقال : « استقدت يا أمّ عمارة الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك ».

وعند ما نادى منادي النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى حمراء الأسد ، بعد معركة احد ، وطلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقه جيش المشركين ، شدّت عليها ثيابها وقد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم ، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك ، فلما رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غزوة حمراء الاسد ما وصل الى بيته حتى أرسل إليها عبد اللّه بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها ، فسرّ النبيّ بذلك.

ولقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الايمان سرور النبيّ واعجابه فقال في حقها مشيدا بموقفها البطل ومعرضا بفرار من فرّ وهروب من هرب في معركة احد :

ص: 177

« لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان وفلان ».

وكانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم احد بعد أن أشاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصلابتها ومواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله داعيا لها ولأهل بيتها :

« بارك اللّه عليكم من أهل بيت رحمكم اللّه. اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنّة ».

وقال ابن أبي الحديد معلقا على عبارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمقام نسبية اليوم خير من مقام فلان وفلان » قلت : ليت الراوي لم يكنّ هذا الكناية ، وكان يذكر من هما بأسمائهما حتى لا يترمى الظنون إلى امور مشتبهة ، ومن أمانة الحديث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين (1).

ولكننا نعتقد أن الرجلين هما من الشخصيات التي تسنمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أحجم الراوي عن التصريح بأسمائهما إما احتراما أو تقية وخوفا.

بقية واقعة « احد » :

لقد آلت تضحيات ثلة قليلة ومعدودة من رجال الاسلام المتفانين وبسالتهم الى الابقاء على حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحفظها من الخطر القطعي الحتمي.

ومن حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوروا يومئذ أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قتل ، ومضوا يفتشون عن جسده بين القتلى ، ودفعت الحملات التي كان يقوم بها أقلية من المشركين على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد ردّت على

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ص 265 - 267 ، المغازي : ج 1 ص 269 و 270 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 134.

اعقابها بفضل ثبات علي علیه السلام وأبي دجانة وأنفار آخرين ( احتمالا ) وقد رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيب شائعة مقتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكي لا يصرّ العدو على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتت والتفرق ، والمحنة ، ومن هنا صعد هو وبعض أصحابه إلى الشعب في جبل احد.

وفي خلال ذلك سقط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين ، فأخذ علي علیه السلام بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخرجه منها ، وكان أوّل من عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المسلمين ، « كعب بن مالك » وقد رأى عينيه صلی اللّه علیه و آله تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أنصت.

وذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان من شأنه أن يدفع المشركين - كما قلنا - الى مواصلة حملاتهم على المسلمين ، بهدف استئصال شأفتهم ولهذا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله كعبا بالسكوت ، فسكت كعب.

وأخيرا وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى فم الشعب ، ولما عرف المسلمون بحياته صلی اللّه علیه و آله سروا بذلك وأخذوا يتجمّعون عنده ، وهم يظهرون الندامة من تركه بين الاعداء ، والفرار بأنفسهم الى الجبل ، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجاء علي علیه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجاء علي علیه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه وقال :

« اشتدّ غضب اللّه على من دمّى وجه نبيّه » (1).

العدوّ يحاول استغلال الفرصة :

في الوقت الذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من

ص: 179


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 83.

المعنويات اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته ، فأطلق شعارات متعددة ضد عقيدة التوحيد ، كان من شأنها أن تغري البسطاء ، والضعفاء في الايمان وتؤثر فيهم ، وتزلزل إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد وتسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام والنكسة ، والبلاء والمصيبة ، ففي حالة كهذه يبلغ الضعف النفسي لدى المصاب والمنكوب حدّا يفقد معه العقل سيطرته على الانسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحق والباطل وفي هذه الصورة تصبح مسألة بثّ الدعايات السيئة وزرعها في النفوس واستثمارها مسألة بسيطة ، اذ يكون الانسان في هذه الحالة أكثر تقبلا وأيسر قبولا.

من هنا عمد أبو سفيان وعكرمة فرفعا أصناما كبيرة على الايدي بعد الحاق الهزيمة بالمسلمين ، وأظهروا الفرح والسرور وأخذوا ينادون بأعلى أصواتهم - مستغلين هذه الفرصة - : « اعل هبل ، اعل هبل »!!

ويعنون بذلك الشعار أن الانتصار الذي أحرزه المشركون إنما هو بفضل الصنم : هبل ، وبالتالي بفضل الوثنية التي تدين بها أهل مكة. ولو كان ثمة إله سواه ، وكانت عقيدة التوحيد على حق لانتصر المسلمون ، ولما خلص إليهم من المحنة ما خلص

فادرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمق الخطر الذي يكمن في الاسلوب الذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحساسة ، وما سيتركه ذلك من أثر سيئ في النفوس ، وبخاصة الضعيفة منها. ولهذا تناسى كل أوجاعه ومصاعبه وأمر عليّا والمسلمين فورا بأن يجيبوا منادي الشرك بشعار مضاد قوي ، فقال : قولوا :

« اللّه أعلى واجلّ ، اللّه اعلى واجلّ ».

أي انّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد ، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد وتعليماته العسكرية الحكيمة.

وبيد أن أبا سفيان لم يكف عن اطلاق شعاراته ، والمضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال : نحن لنا العزّى ولا عزى لكم!!

ص: 180

فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان ، مشابه له في الوزن والسجع فقال : قولوا :

« اللّه مولانا ولا مولى لكم ».

أي اذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر والخشب ، فاننا نعتمد على اللّه الخالق ، القادر والعلي الاعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثا : يوم بيوم بدر. فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يجيبه المسلمون.

« لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة التي كان يرددها المئات ، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك أبي سفيان الذي بدأ هذه الحملة النفسية والحرب الباردة بغية تحطيم ايمان المسلمين ، ورأى كيف ارتد كيده إلى نحره ولهذا انزعج بشدة وقال : ألا إن موعدكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه ، وغادروا جميعا أرض المعركة راجعين إلى مكة (1).

وكان على المسلمين الآن - وفيهم مئات الجرحى والمصابين وسبعون قتيلا - أن يصلّوا الظهر والعصر فصلى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جلوسا ، وصلّوا معه جلوسا ، لما أصابهم من الضعف ، ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدفن الشهداء ، ومواراتهم الثرى عند جبل احد.

نهاية المعركة :

وضعت الحرب أوزارها ، وتباعد الجانبان ، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الارواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون. وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين.

ولكنهم فوجئوا بأمر فضيع ، فقد اغتنمت نسوة من قريش وفي طليعتهن هند

ص: 181


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 94.

زوجة ابي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين وارتكبن بحق الشهداء الابرار ، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلا ، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين ، تمثيلا مروعا فخمشن وجوههم ، وقطّعن الأنوف ، وجدعن الاذان ، وسملن العيون ، وقطعن أصابع الأيدي والأرجل ، والمذاكير ، وصنعن منها القلائد والاساور ، نكاية بالمسلمين ، واطفاء للحقد الدفين ، وبذلك الحقن بهنّ وبأوليائهنّ عارا لا ينسى.

فان جميع الامم والشعوب - متفقة على أن الميت الذي لا يستطيع دفاعا عن نفسه ، ولا يتوقع منه ضرر يجب احترامه ، ويحرم اهانته وان كان عدوا. ولكن هندا زوجة أبي سفيان ومن كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شر تمثيل ، وصنعن مما قطّعن منها الاساور والقلائد ، وبقرت « هند » بالذات صدر حمزة بطل الاسلام الفدائيّ ، وأخرجت كبده ، ولاكته بين أسنانها ولكنها لفظته ولم تستطع أكله.

وقد بلغ هذا العمل من القبح ، والسوء أن تبرّأ منه أبو سفيان وقال : « في قتلاكم مثلة لم آمر بها » (1).

وقد عرفت هند بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الاكباد ، ودعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الاكباد.

ولما أبصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حمزة بن عبد المطلب ، ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده ، ومثّل به فجدع أنفه واذناه ، حزن حزنا شديدا وغاضه تمثيلهم به فقال :

« ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا! ».

ثم إنّ المؤرّخين يتفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف ( وربما نسب هذا إلى النبيّ نفسه ) لئن أظفرهم اللّه بالمشركين يوما أن يمثّلوا بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب أو يمثلوا بدل الواحد ثلاثين.

ص: 182


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 244.

ولم يمض زمان حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى :

« وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ » (1).

ولقد كشف الاسلام مرة اخرى ومن خلال هذه الآية - التي تتضمن أصلا اسلاميا في مجال القضاء مسلما به - عن وجهه الانسانيّ العاطفيّ ، وأظهر للجميع بأن الدين الاسلامي ليس شريعة انتقام ، وثأر ، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات والحالات النفسية هياجا وغضبا عن قانون العدالة ، والحق ، وبهذا يكون الاسلام قد راعى مبادئ العدالة والانصاف على الدوام ، وصانها من الانهيار ، والسقوط.

ولقد أصرّت صفية أخت حمزة أنّ ترى جثمان أخيها ، إلاّ أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر ابنها الزبير أن يحبسها ويصرفها عن ذلك لكي لا ترى ما بأخيها فلا تحتمل الصدمة.

فقالت صفية : قد بلغني أن قد مثّل بأخي وذلك في اللّه ، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء اللّه.

فأخبر الزبير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمقالتها فقال صلی اللّه علیه و آله : خلّ سبيلها ، فأتته ، فنظرت إليه فصلّت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له ، ثم أمر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدفن (2).

حقا أن قوّة الإيمان أعظم القوى ، فهي تحبس الانسان وتحفظه في أصعب الحالات ، وتفيض على صاحبه حالة من السكينة والوقار.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلى على شهداء أحد الأبرار ، وأمر بدفنهم واحدا واحدا أو اثنين اثنين ، وأمر بأن يدفن « عمرو بن الجموح » و « عبد اللّه بن عمرو » في قبر واحد.

ص: 183


1- النحل : 126.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 97.

قائلا :

« ادفنوا هذين المتحابّين في قبر واحد » (1).

آخر ما نطق به سعد بن الربيع :

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأوفياء ، وكان رجلا مؤمنا مخلصا ، عظيم الوفاء والحبّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد اصيب في « احد » اثنتا عشرة اصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجل يدعى مالك بن الدخشم فقال له : أما علمت أن محمدا قد قتل؟ فقال سعد : اشهد أن محمّدا قد بلّغ رسالة ربه ، فقاتل أنت عن دينك فان اللّه حيّ لا يموت (2).

ثم إنه قد مرّ عليه رجل من الانصار وهو في هذه الحال وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فقال لسعد : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرني أن أنظر أفي الاحياء أنت أم في الأموات؟ فقال سعد : أنا في الأموات فابلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنّي السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خيرا ما جزى نبيا عن امته وأبلغ قومك عنّي السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لاعذر لكم عند اللّه إن خلص الى نبيكم صلی اللّه علیه و آله ومنكم عين تطرف.

ثم لم يبرح ذلك الانصاري حتى قضى سعد بن الربيع نحبه ، فجاء الأنصاري الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما قال. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« رحم اللّه سعدا نصرنا حيّا واوصى بنا ميتا » (3).

إنّ حبّ الانسان لنفسه ، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز

ص: 184


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 98 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 131.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 95 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 12.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 95 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 12.

القوية المتأصلة في كيان الانسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف وهي بالتالي من القوة والهيمنة على وجود الانسان بحيث يضحّى في سبيلها بكل شيء.

ولكن قوة الايمان وحبّ الانسان للعقيدة ، وتعشقه للمعنويات أقوى وأشدّ تأثيرا من ذلك ، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بين - حسب ما تفيده النصوص التاريخية - وبين الموت في ذلك الوقت سوى لحظات ، ومع ذلك نجده ينسى نفسه ، ويفكر في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين ، ودوام الشريعة ، وهذا هو الهدف المقدّس الذي قاتل من أجله سعد البطل ، ولهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحثهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والعمل معه على تحقيق أهدافه ، في ارساء دعائم التوحيد.

النبيّ يعود الى المدينة :

كانت الشمس تميل نحو المغرب وكانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون ، وكان السكون والصمت يخيم على كل مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم الى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم ، ويجدّدوا نشاطهم ، ويضمدوا جرحاهم.

ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة قال صلی اللّه علیه و آله : اصطفوا فنثني على اللّه ، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال :

اللّهم لك الحمد كله ، اللّهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن اضللت ولا مضلّ لمن هديت ، ولا مقرّب باعدت ولا مباعد لما قرّبت.

اللّهم انّي أسألك من بركتك ، ورحمتك وفضلك وعافيتك.

اللّهم انّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

ص: 185

اللّهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف والغنى يوم الفاقة عائذا بك.

اللّهم من شرّ ما أنطيتنا وشرّ ما منعت منّا.

اللّهم توفّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الايمان ، وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدّون عن سبيلك.

اللّهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق. آمين (1).

وقد كان هذا العمل خطوة مهمة جدا من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوس المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة مما كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة وتقوية عزائم المسلمين ، كما علّمهم أن يلجئوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه أصحابه من الانصار والمهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة المدينة.

وكانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت الى مناجات ومآتم ، يرتفع منها أصوات بكاء الامهات والازواج والبنات اللائي أصبن في رجالهنّ وأوليائهنّ ، وآبائهنّ.

ولما مرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منازل بني عبد الاشهل وسمع ندبة النساء ، وبكاءهنّ حزن وانحدرت دموعه على خديه وقال :

« لكنّ حمزة لا بواكي له » (2).

فلما عرف سعد بن معاذ واسيد بن حضير بذلك أمرا جماعة من نسائهم بأن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكاءهنّ على حمزة خرج عليهن وهنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال :

ص: 186


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 162 و 163.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 99.

« ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ ».

وقيل لما سمع صلی اللّه علیه و آله بكاءهنّ قال :

« رحم اللّه الأنصار ، فانّ المواساة منهم ما علمت لقديمة .. مروهنّ فلينصرفن » (1).

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة :

إن للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة ، وعجيبة في تاريخ الاسلام ، لأننا قلما نجد لها نظيرا في عالم المرأة اليوم.

ومن تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة والعجيبة في صدر الاسلام المرأة الدينارية ، التي اصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باحد.

فانّها لما نعوا لها مصرع رجالها قالت : فما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قالوا : خيرا يا أمّ فلان ، هو بحمد اللّه كما تحبّين.

قالت : أرونيه حتى أنظر إليه؟

فاشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( اي صغيرة ) (2).

ما أعظم تلك الاستقامة ، وما أعظم ذلك الايمان الذي يجعل من الانسان طودا راسخا ثابتا في وجه العواصف والاعاصير.

نموذج آخر من النسوة المجاهدات :

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية « عمرو بن الجموح » الذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

ص: 187


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 99 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 163 و 164.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 99.

الموجب لسقوط الجهاد كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة احد ، ومضى يقاتل في الصف الاول من المجاهدين ، وشارك ابنه « خلاّد بن عمرو بن الجموح » وأخو زوجته « عبد اللّه بن عمرو » (1) في هذا الجهاد المقدس ، واستشهدوا جميعا في تلك المعركة أيضا.

فخرجت « هند » زوجته وهي بنت عمرو بن حزام ، عمة جابر بن عبد اللّه الأنصاري الى « احد » وحملت أجسادهم على بعير وتوجهت بها نحو المدينة ، بمنتهى الجلادة ، ورباطة الجأشى.

وعند ما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قتل باحد خرجت النسوة ، يتأكّدن من هذا النبأ ، فالتقت هند ببعض نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وهي عائدة من احد - فسألنهنّ عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالت : خيرا ، أمّا رسول اللّه فصالح ، وكلّ مصيبة بعده جلل ، واتخذ اللّه من المؤمنين شهداء ، وقرأت قول اللّه تعالى : « وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ... » !!

فسألوا : من هؤلاء؟

قالت : أخي ، وابني خلاّد ، وزوجي عمرو بن الجموح!!

فقلن لها : فأين تذهبين بهم؟

قالت : إلى المدينة اقبرهم بها .. ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة : حل .. حل في نبرة صامدة.

ومرة اخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الاسلام نموذج حيّ آخر من مشاهد الثبات والصمود ، والاستقامة ، وتجاوز المصائب ، وتحمّل الآلام والشدائد في سبيل الهدف المقدّس ، وكلّ ذلك من فعل الايمان ، ونتائجه.

إن المذاهب المادية لا ولن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة والرجال المتفانين في سبيل العقيدة ، بمثل هذا التفاني العظيم.

ص: 188


1- وهو عبد اللّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري.

على أن هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادية ، وانما قاتلوا من أجل الهدف ، وهو إعلاء كلمة الدين واقامة صرح التوحيد ، ومحو الوثنية والشرك.

هذا وفي بقية هذه القصة ما هو أعجب من اولها ، وهو أمر ، لا يمكن أن يدرك بالمقاييس المادية ، والأسس التي ينطلق منها أصحاب الاتجاه المادي في تحليل القضايا التاريخية. وانما يهضمها - فقط - من يؤمن بعالم آخر وراء العالم الماديّ الصرف ، ويصدّق بتأثيره في هذا العالم ، وبالتالي لا يقبل بها إلاّ من يصدّق بقضية الإعجاز والمعجزة ، ويذعن لها ويعترف بصحتها من غير تلكّؤ وابطاء.

وإليك هذه البقية :

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة برك البعير في مكانه.

فقالت النسوة التي كنّ هناك : لعلّه برك لما عليه.

فقالت هند : ما ذاك به ، لربما حمل ما يحمل البعيران ، ولكنّي أراه لغير ذلك. فزجرته ثانية ، فقام ، فلما وجّهت به إلى المدينة برك ، فوجهته راجعة الى احد فاسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبرته بذلك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فانّ الجمل مأمور. هل قال ( يعني : عمرو بن الجموح ) شيئا؟

قالت : إنّ عمرا لمّا وجّه إلى احد استقبل القبلة ، وقال : اللّهم لا تردّني إلى أهلي خزيا ، وارزقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللّه لابرّه ، منهم عمرو بن الجموح ، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن » ، ثم مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قبرهم ، ثم قال : « يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعا ، عمرو بن الجموح ، وابنك خلاّد ، وأخوك عبد اللّه ».

قالت هند : يا رسول اللّه فادع لي عسى أن يجعلني معهم (1).

ص: 189


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 146 - 148.

ثمّ إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل بيته فلما أبصرت به بنته العزيزة « فاطمة » ورأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع ، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته ( الزهراء ) حتى تغسله.

وقال الاربلي المؤرخ الشيعي المعروف الذي كان يعيش في القرن السابع الهجري : كان علي يجيء بالماء في ترسه ، وفاطمة تغسل الدم وأخذ حصيرا فاحرقه وحشى به جرحه (1).

وفي الامتاع لما رأت فاطمة الدم لا يرقأ - وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنّ - أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم ويقال : داوته بصوفة محترقة (2).

لا بدّ من ملاحقة العدو :

لقد كانت الليلة التي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم احد ليلة جدّا خطيرة وحساسة.

فالمنافقون واليهود وأتباع عبد اللّه بن أبي قد سرّوا لما أصاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه سرورا كبيرا ، وأظهروا القول السيئ ، وقالوا : ما اصيب نبي هكذا قط.

وكان أنين الجرحى والمكلومين وبكاء الموتورين في رجالهم ونياحهم يسمع من أكثر بيوت المدينة.

والأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون واليهود بعملية خيانية ضد الاسلام والمسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضع العاصمة الاسلامية الثابت ، والوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بايجاد الاختلاف والتشتت على الاقل.

إن ضرر الاختلافات الداخليّة أشد بكثير من حملات العدوّ الخارجي ، وان

ص: 190


1- كشف الغمة : ج 1 ص 189.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 137 و 138.

انهيار الوحدة والانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يرهب العدو الداخلي ، ويفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها وتماسكها وانّ أيّة خطوة أو نشاط معاد يهدّد أساس الاسلام للخطر سيسحق بشدة في اللحظة الأولى.

ولهذا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ ( أي مشركي مكة ).

فكلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجلا بأن ينادي في كل مناطق المدينة :

« ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها ، فانّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع.

ألا لا يخرجن معنا الاّ من حضر يومنا بالامس ».

أو قال : « يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ».

وانما خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا ليرهب العدوّ وليبلغهم أنه خارج في طلبهم فيظنوا به قوّة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم (1).

على أن لهذا التقييد ، ولهذا النهي عن خروج غير الجرحى ، أو من لم يشترك في احد ، عللا أو حكما لا تخفى على العارفين بالسياسة ، والرموز العسكرية.

ويمكن الاشارة الى بعضها :

أولا : انّ هذا التحديد ، وبالتالي الاقتصار على من شارك في معركة احد هو نوع من التعريض بمن امتنع من المشاركة في تلك المعركة ، وفي الحقيقة هو نوع من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

ثانيا : إنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة احد ، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة ، وانصرافهم بسرعة الى المطامع المادية ، والغفلة عن ملاحقة العدوّ في حينه تسببوا في توجيه تلكم الضربة النكراء الى الاسلام ،

ص: 191


1- مجمع البيان للطبرسي : ج 2 ص 535 - 541.

ولذلك يجب عليهم انفسهم ملافاة تلك الخسارة ، وترميم ذلك العطب ، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك ، ولا يتجاهلوا أوامر القيادة ، ونحن نعلم أن الانضباطية والتقيد الكامل بالاوامر هو أهم عنصر في نجاح الامور العسكرية (1).

بلغ نداء مؤذن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسامع شاب من بني الاشهل كان قد شهد احدا مع رسول اللّه ، فخرج هو وأخوه وهما جريحان مع رسول اللّه لطلب العدوّ ، وقد قال أحدهما للآخر : أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه.

وقد خرجا دون أن تكون لهما دابة يركبانها وكلاهما مصابان بجروح ثقيلة ، فكان الأيسر منهما يحمل الآخر مسافة ، فاذا تعب مشيا مسافة ، ثم عاد الى حمله حتى انتهيا الى ما انتهى إليه المسلمون (2).

حمراء الأسد

حمراء الأسد (3) :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأصحابه الى حمراء الاسد ( وهي تبعد عن المدينة بثمانية أميال ) وقد استخلف على المدينة « ابن أمّ مكتوم ».

وهناك مرّ به « معبد بن أبي معبد الخزاعي » رئيس بني خزاعة ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم يومذاك ذات علاقات طيبة جدا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين وكانوا لا يخفون عن النبيّ شيئا.

فتقدم معبد رئيسهم وعزّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما أصابه ، وهو يومئذ مشرك قائلا : يا محمّد أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بمنطقة تدعى بالروحاء وقد

ص: 192


1- كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بان النبيّ خرج بكل من شارك في احد لا أنه اقتصر على الجرحى ، كما تصرح به بعض النصوص التاريخية.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 168 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 101.
3- لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى حمراء الاسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلة ، وذكرها البعض الآخر في ذيل معركة احد.

عزموا على الرجوع الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه للكرة عليهم ، واستئصالهم ، والقضاء عليهم بالمرة.

فلما رأى أبو سفيان معبدا ( وكان معبد قد استهدف من خروجه الى أبي سفيان وجماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ) قال : ما وراءك يا معبد ، وما ذا عندك من الاخبار؟

فقال معبد : - وهو يريد إرعاب قريش وصرفهم عن الرجوع الى المدينة - محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم ار مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق وشدة الغيظ عليكم شيء لم ار مثله قط!!

فقال أبو سفيان : - وقد أرعب بشدة من هذا النبأ - ويحك ما ذا تقول؟

قال معبد : واللّه ما أرى ان ترتحل حتى أرى نواصيّ الخيل.

قال أبو سفيان : فو اللّه لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد : فاني أنهاك عن ذلك.

وقد تركت كلمات معبد ، ووصفه لقوة المسلمين وعزمهم الشديد على توجيه ضربة الى الكفار أثرها في نفس أبي سفيان الذي تملّكه خوف شديد ، دعاه إلى الانصراف عن الرجوع الى المدينة ثانية ، والعزم على القفول الى مكة (1).

ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأصحابه حتى عسكروا ليلا بحمراء الاسد ، فامر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد ، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه ، وتصور العدو أن النبيّ جاءهم في جيش عظيم ، فتشاوروا حول الرجوع الى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك ، فانصرفوا (2).

ص: 193


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 102 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 169 و 170.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 49.
لا يخدع مؤمن مرّتين :

هذا هو معنى قول النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله :

« المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ولقد قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الاسد على نحو الصدفة ، وأراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه العفو وكان قد أسر ببدر قبل ذلك ، ثم منّ عليه النبيّ وأطلق سراحه مشترطا عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ والمشاركة في قتاله ، ولكنه عاد الى مكة ، وشارك في قتال النبيّ مرة اخرى في احد.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لما طلب العفو ثانية :

« واللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمّدا مرتين ، إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ثم أمر بضرب عنقه ، وضرب عنقه (1).

وأخيرا انتهت معركة احد وقد قدم المسلمون فيها سبعين ، أو اربعة وسبعين ، أو واحدا وثمانين شهيدا على روايات مختلفة ، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

وقد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الذي قرأت.

ص: 194


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 104 ، نلفت نظر القارئ الكريم الى أننا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة احد وفي إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسع ان يراجع المصادر التالية التي اعتمد عليها المؤلف : وهي : الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 36 - 49 ، المغازي : ج 1 ص 199 - 340 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ص 14 - 218 وج 5 ص 60 ، وبحار الأنوار : ج 20 ص 14 - 146 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 113 - 166 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 60 - 168.

وقد وقعت معركة احد يوم السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، هذا مضافا الى غزوة حمراء الاسد التي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الاسبوع نفسه ، فتكون قضايا ووقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس تلك السنة.

ميلاد الامام الحسن السبط :

هذا وقد ولد في هذه السنة ( اي السنة الثالثة من الهجرة ) سبط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاكبر الإمام الحسن بن علي علیه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة ، واجرى له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مراسيم ولادة خاصة ذكرها أصحاب الحديث وتجد تفصيلها في سيرة الائمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

ص: 195

حوادث السنة الرابعة من الهجرة

اشارة

33

فاجعة فريق المبلّغين

اشارة

فاجعة فريق المبلّغين (1)

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة « احد » بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أن المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر ومنعوا من رجعته الى المدينة وتحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلا أن التحريكات الداخليّة والخارجية ضدّ الاسلام بهدف القضاء على هذا الدين ، ورجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة « احد ».

وقد تجرّأ منافقو المدينة ، ويهودها والمشركون المتواجدون في شتى النقاط البعيدة خارج المدينة على أثر ذلك ، وبدءوا يحيكون المؤامرات ضدّ الاسلام والمسلمين ويجمعون الاسلحة والرجال لشن الحروب والغارات على المدينة.

وقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحريكات ، كما واستطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة التي كانت تنوي الهجوم على المدينة وذلك بارسال السرايا والمجموعات القوية من المجاهدين.

وفي هذا الاثناء بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نبأ مفاده أن قبيلة بني أسد تنوي الهجوم على المدينة وتسخيرها ، وقتل المسلمين ، ونهب أموالهم ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150)

ص: 196


1- وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

رجلا بقيادة « أبي سلمة » الى منطقة تجمع المتآمرين.

ثم إنه صلی اللّه علیه و آله أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي ، ويسلكوا طريقا آخر غير الطريق المتعارف ، ويقيموا نهارا ويسيروا ليلا ، ليعمّوا على القوم.

وقد فعل « أبو سلمة » وجماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكانوا يسيرون الليل ، ويكتمون النهار ، حتى وردوا المنطقة فاحاطوا ببني أسد في عماية الصبح ، وقضوا على المؤامرة في مهدها ، وعادوا غانمين موفورين إلى المدينة ، وقد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة (1).

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقوم بافشال بارسال السرايا والمجموعات العسكرية جميع مؤامرات المتآمرين ضد الاسلام ، كما أنه كان يقوم الى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية الى القبائل ، والجماعات وبذلك يجلب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الاسلامية.

وكان المبلّغون والدعاة الذين كانوا من قراء القرآن الكريم ، ومن الملمين بالاحكام الاسلامية والتعاليم النبوية يبدون استعدادا عجيبا للقيام بهذه المهمّة الصعبة ولو كلّفت حياتهم فكانوا ينقلون تعاليم الاسلام إلى الناس في المناطق النائية ، والاماكن البعيدة بأوضح بيان وأوضح اسلوب.

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب ، وارساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم - في الحقيقة - بوظيفتين هامتين من وظائف المنصب النبوي.

ص: 197


1- المغازي : ج 1 ص 340 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 170 ، ولا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر أن السنة الثالثة للهجرة تنتهي عند انتهاء الشهر الرابع والثلاثين ، وتكون حوادث الشهر الخامس والثلاثين متعلقة بالسنة الرابعة من الهجرة.

فهو ببعثه للسرايا والمجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد ، والتآمر التي كانت في مرحلة التحقق والتكوّن لكي يتسنى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن والحرية الدعوة إلى الاسلام ، والقيام بوظيفتها الاساسية ألا وهي ارساء دعائم الحكومة الاسلامية في القلوب ، وتنوير الافكار ، وايقاظ العقول.

ولكن بعض القبائل المتوحّشة ، والمنحطّة أخلاقيا وفكريّا كانت تتحايل على المجموعات التبليغية التي كانت تمثل القوى المعنوية للاسلام ، والتي لم يكن لها هدف سوى نشر التوحيد ، واقتلاع جذور الكفر والوثنية ، وكانوا يقتلونهم بصورة فضيعة ومفجعة.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصة مجموعة من الدعاة والمبلّغين الذين لقوا هذا المصير وكان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام (1) ، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد (2).

الغدر بالدعاة الى الإسلام وقتلهم :

لقد مشت جماعة من قبيلتي « عضل » و « القارة » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا - وهم يضمرون المكر - يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إن فينا إسلاما فاشيا فابعث معنا نفرا من أصحابنا يقرءوننا القرآن ، ويفقهوننا في الاسلام.

فرأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة التي كانت تمثل قبائل كبرى ، وكما رأى المسلمون أيضا أن من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة بقيادة « مرثد بن أبي مرثد

ص: 198


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 169 ، وقال في امتاع الاسماع : ج 1 ص 174 انهم سبعة اشخاص.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 55.

الغنويّ » مع تلك الجماعة إلى القبائل المذكورة.

فخرج هؤلاء المبلغون ووفد القبيلتين من المدينة متوجّهين الى حيث تتواجد « عضل » و « قارة » ، ولمّا كانوا بماء يسمى الرجيع تقطن عنده قبيلة تدعى « هذيل » كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة ، واستصرخوا هذيلا وكمينا من رجالهم ، وكانوا مائة رام وبأيديهم السيوف فاحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم وابادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّا - وهم محاطون بتلك الجماعات المسلحة - من اللجوء الى سيوفهم والدفاع عن أنفسهم.

ولكن العدوّ قال : ما نريد قتالكم ، وما نريد إلاّ ان نصيب منكم من أهل مكة ثمنا ، ولكم عهد اللّه وميثاقه لا نقتلكم!!

فنظر الدعاة بعضهم الى بعض ، وقرر أكثرهم المقاومة وعدم الرضوخ لهذا العرض الغادر ، والخطة الماكرة ، وقال أحدهم : إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك (1) ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الابطال ، حتى قتلوا إلاّ ثلاث هم : « زيد بن دثنّة » ، و « خبيب بن عديّ » ، و « عبد اللّه بن طارق البلويّ » فقد أغمد هؤلاء سيوفهم وسلّموا ، فأخذوا ووثّقوا بأوتار قسيّهم ، ولكن « عبد اللّه » ندم على فعله ، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه ، وراح يقاتلهم حتى قتلوه رميا بالحجارة ، وقد انحازوا عنه وهو يشدّ فيهم وينفرجون عنه ، ودفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين « خبيب » و « زيد » وقدموا بهما مكة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنّة فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » وقتله ثأرا لابيه ، ولقتله قصة عجيبة سطر فيها أروع آيات المقاومة والوفاء والاخلاص.

فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » كما أسلفنا ليقتله بأبيه ، وقد حبسه صفوان في الحديد ، وكان يتهجّد بالليل ويصوم بالنهار ، ولا يأكل شيئا مما اتى به من

ص: 199


1- أو قالوا : واللّه لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ( السيرة النبوية : ج 2 ص 170 ).

الذبائح ، وهو في الاسر والحبس.

ثم إنه اخرج إلى « التنعيم » (1) ليصلب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعا ، فقال : دعوني أصلّي ركعتين ، فصلّى ركعتين ، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له : يا زيد ارجع عن دينك المحدث ، واتّبع ديننا ، ونرسلك فيقول : واللّه لا افارق ديني أبدا.

فقال له أبو سفيان فرعون مكة وأشدّ المتآمرين على الاسلام ومدبر أغلب الحروب ضد رسول اللّه ، والمسلمين : أنشدك باللّه يا زيد أيسرّك أن محمّدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة ووفاء عظيمين : ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة واني في بيتي ، وجالس في أهلي!!!

وقد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكة أبي سفيان فقال : ما رأينا أصحاب رجل قطّ أشدّ حبّا من أصحاب محمّد بمحمّد!!

ولم تمض لحظات إلاّ وصار « زيد » على خشبة الاعدام وطارت روحه الى خالقها ، ومضى ذلك المسلم الوفيّ ، والمؤمن الشجاع شهيد الثبات في طريق العقيدة ، والدفاع عن حياض الدين (2).

واما « خبيب » فقد حبس مدة من الزمان حتى قرّر ندوة مكة قتله ، فخرجوا به الى التنعيم ليصلبوه وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة ، فقال لهم : إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما ثم اقبل على القوم وقال : أما واللّه لو لا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه الى المدينة ، وأوثقوه رباطا ، ثم قالوا له : ارجع عن الاسلام ، نخلّ سبيلك.

ص: 200


1- التنعيم ابتداء الحرم ومنها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 172 ، المغازي : ج 2 ص 362 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 174 و 175.

قال : لا واللّه ما أحبّ أنّي رجعت عن الاسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا.

فقالوا : أمّا واللات والعزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك!

فقال : إن قتلي في اللّه لقليل ، فلمّا أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء ( أي نحو المدينة ) ، قال : أما صرفكم وجهي عن القبلة ، فان اللّه يقول : « فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ » ثم قال : اللّهم إني لا أرى إلاّ وجه عدوّ ، اللّهم أنه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السلام عنّي فبلّغه أنت عنّي السلام.

ثم دعا على القوم وقال : اللّهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا.

ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما ، فأعطوا كل غلام رمحا ، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم ، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة فانقلب ، فصار وجهه الى الكعبة ، فقال : الحمد لله الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين!!

فأثارت روحانيته الكبرى ، وطمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين ، وهو « عقبه بن الحارث » وتملكه غضب شديد من إخلاصه للاسلام فأخذ حربته وطعن بها خبيبا طعنة قاضية ، قتلته ، وهو يوحّد اللّه ويشهد أن محمّدا رسول اللّه.

ويروي ابن هشام أن خبيبا أنشد قبل مقتله أبياتا عظيمة نذكر هنا بعضها :

إلى اللّه أشكو غربتي ثمّ كربتي *** وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبّرني على ما يراد بي *** فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وذلك في ذات الاله وأن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزّع

وقد خيّروني الكفر والموت دونه *** وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت أني لميّت *** ولكن حذاري جحم نار ملفّع

فو اللّه ما أرجو إذا متّ مسلما *** على أي جنب كان في اللّه مصرعي

فلست بمبد للعدوّ تخشعا *** ولا جزعا إنّي إلى اللّه مرجعي

ص: 201

وقد أحزنت هذه الحادثة الاليمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكذا جميع المسلمين.

وأنشد فيهم « حسان بن ثابت » أبياتا ذكرها ابن هشام في سيرته ، كما أنه هجا هذيلا في أبيات اخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء (1).

ولقد خشي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تتكرر مثل هذه الجريمة النكراء ، وبذلك يواجه رجال التبليغ والدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم ، ويتعرضوا لخسائر لا تجبر ، وعمليات غدر واغتيال اخرى.

وقد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن ، يحرسه جماعة من المشركين حتى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بانزاله من فوق الصليب ليلا ، ومن ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

جريمة بئر معونة :

وفي شهر صفر من السنة الرابعة وقبل أن يصل نبا مصرع الدعاة المذكورين واستشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قدم أبو براء العامري المدينة فدعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام فلم يسلم ولكنّه قال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله يا محمّد إني ارى أمرك حسنا ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل « نجد » فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فان هم اتبعوك فما أعز أمرك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي اخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء : لا تخف ، أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعو الناس الى أمرك.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعين رجلا من خيار المسلمين من أصحابه ممن حفظوا القرآن وعرفوا احكام الاسلام ، وأمّر عليهم « المنذر بن

ص: 202


1- المغازي : ج 1 ص 354 - 362 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 169.
2- سفينة البحار : ج 1 ص 372.

عمرو » ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم وهم يحملون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابا إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء « نجد » ، وكلّف أحد المسلمين بايصال ذلك الكتاب إلى عامر ، فلما أتاه الكتاب لم ينظر فيه حتى عدا على الرجل ( حامل الكتاب ) فقتله ، ثم استصرخ بني عامر على المبلّغين ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن ننقض عهد أبي براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى نزلوا حيث نزل جماعة الدعاة ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم بعد أن أبدوا مقاومة كبرى ، وبسالة عظيمة ، ولم يكن يتوقع منهم غير ذلك.

فانّ مبعوثي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكونوا مجرد رجال فكر وعلم فقط ، بل كانوا رجال حروب ، وأبطال معارك ، ولذا رفضوا الاستسلام للمعتدين ، واعتبروا ذلك عارا لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ ، فقاتلوهم حتى استشهدوا جميعا ، إلاّ كعب بن زيد ، فانه جرح فعاد بجراحه الى المدينة ، وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغدرة.

فحزن رسول اللّه والمسلمون جميعا لهاتين الحادثتين ، المفجعتين اشد الحزن بل ولم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم ، وبقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحا من الزمان (1)

هذا ولقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعا من نتائج النكسة التي أصابت المسلمين في « احد » والتي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين ودعاتهم غدرا ومكرا.

كيد المستشرقين وجفاؤهم :

إن المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرض له مشرك على أيدي

ص: 203


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 183 - 187 امتاع الاسماع : ج 1 ص 170 - 173.

المسلمين فينالون من الاسلام والمسلمين أشدّ نيل ، ويصرّون على أن يؤكّدوا على أن الاسلام لم ينتشر إلاّ بالسيف والقهر ، التزموا صمتا عجيبا تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين ، ولم ينبسوا في هذا المقام ببنت شفة أبدا ، وكأن شيئا من هذا لم يقع ، وكأن ما وقع لا يستأهل اهتماما وحديثا.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم والجديد يجيز أن يقتل الدعاة والمبشرون ورجال العلم والفكر ، والتعليم والتثقيف.

إذا كان الاسلام قد تقدّم بالسيف - كما يدّعي رجال الاستشراق - فلما ذا تخاطر جماعات التبليغ والدعوة هذه بأنفسها وتزهق أرواحها في سبيل نشر الاسلام ، والدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية ، وعبر مفيدة جدا ، فان قوة الايمان لدى تلك الجماعات ، وعمق تفانيها ، وتضحيتها ، وبسالتها تستحق إعجاب المسلمين ، واكبارهم. كما وتعتبر من أفضل الدروس وابلغها لهم.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين :

لقد أثارت حادثتا « الرجيع » و « بئر معونة » المفجعتان اللتان جرتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة والمبلّغين موجة من الحزن والأسى في المسلمين وتركت أثرا مؤلما في أوساطهم.

وهنا يتساءل القارئ : لما ذا أقدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين الى « نجد » مع أنه حصل على تجربة مرّة؟! ألم يقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين ».

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية لأن المجموعة الثانية قد بعثت في جوار من أبي براء ( عامر بن مالك بن جعفر ) والذي كان رئيسا لقبيلة بني عامر ، ولم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم ولم يشتركوا في تلك الجريمة وقد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيدا لجواره ، ريثما

ص: 204

يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

لقد كانت خطة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطة مدروسة وصحيحة لأن جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء ، ومع أن ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء التي كانت قبيلته أيضا ، ضدّ جماعة المبلّغين إلاّ أن قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه ، ولم يستجب لندائه أحد منهم بل قالوا : لن يخفر جوار أبي براء. ولما أيس منهم استصرخ قبيلة اخرى لا تمتّ إلى قبيلة أبي براء بصلة ، فاقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين ومقاتلتهم.

ثم إن جماعة المبلّغين المذكورة كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة وتوجهها الى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما : عمرو بن أميّة و « حارث بن الصمة » (1) ليرعيا إبل الجماعة ويحافظا عليها ، وبينما كان الرجلان يقومان بواجبهما اذ أغار عليهما « عامر بن الطفيل ». فقتل حارث بن الصمة ، واطلق سراح عمرو بن اميّة.

فعاد عامر الى المدينة ، في اثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما وأمهلهما حتى اذا ناما وثب عليهما فقتلهما ، وهو يرى بأنه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر ، وقد أخطأ في تصوره هذا لأن بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء ولم تنقض أمانة كما أسلفنا ، ولم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلما قدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره الخبر ، حزن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لذلك وقال لعمرو :

« بئس ما صنعت ، قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار ، لا دفعن ديتهما ».

ولكن الاجابة الاكثر وضوحا على هذا الاعتراض ( او السؤال ) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول : وجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر أهل بئر معونة ، وجاءه تلك الليلة أيضا مصاب خبيب بن عديّ ومرثد بن أبي مرثد (2).

ص: 205


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 168 وصاحب السيرة يرى انه المنذر بن محمد.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 52 و 53.

34

غزوة « بني النضير »

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة ويهودها بانتكاسة المسلمين في معركة « أحد » كما فرحوا أيضا بمصرع رجال التبليغ والدعوة ، فرحا بالغا وباتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل والفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنه لا توجد أية وحدة سياسيّة وانسجام اجتماعيّ في مركز الاسلام ، وعاصمة الحكومة الاسلامية ، وأن في مقدور الأعداء الخارجيين أن يجهزوا على حكومة الاسلام الفتية ، ويقضوا عليها بسهولة!!

ولكي يقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على نوايا ودخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أن الهدف الظاهري المعلن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد « عمرو بن أميّة » كما أسلفنا ، وذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين اليهود وكذا بني عامر وغيرهم والقاضية بالتعاون معا في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

فلما وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى حيث يسكن بنو النضير ، وكلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية ، رحبوا به ظاهرا ، ووعدوا بأن يلبّوا مطلبه ، ثم إنهم خاطبوه قائلين : يا أبا القاسم نعينك على ما احببت. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم ، ويقضي يومه فيها ، قائلين : قد آن لك أن تزورنا ، وأن تأتينا ، اجلس حتى نطعمك ، فلم يقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتلبية مطلبهم ، بل

ص: 206

جلس مستندا الى جدار بيت من بيوتهم واخذ يكلمهم (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احسّ بشرّ من ذلك الترحيب الحارّ الذي قابلته به رجال بني النضير ، والذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافا إلى أنه صلی اللّه علیه و آله شاهدهم وقد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون ويتهامسون الأمر الذي يدعو الى الشك ، ويورث سوء الظن!!

وقد كان سوء الظن هذا في محله ، فقد قرر سادة يهود - لمّا أتاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رهط قليل من أصحابه - أن يتخلصوا منه باغتياله والغدر به على حين غفلة منه صلی اللّه علیه و آله ، فانتدبوا أحدهم وهو « عمرو بن جحاش » لتنفيذ هذه الجريمة ، وذلك بأن يعلو على البيت الذي استند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جداره فيلقى عليه صخرة تقتله.

إلاّ أنّ هذه المؤامرة انكشفت - ولحسن الحظ - قبل تنفيذها ، إما من خلال حركات اولئك اليهود الخبثاء ، المشبوهة ، أو بخبر أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من السماء ، كما يروي ابن هشام والواقدي في مؤلفيهما.

فنهض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سريعا ، كأنه يريد حاجة ، وتوجه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه ، بقصده.

وبقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

وندمت يهود على ما صنعت ، واضطربت لذلك اضطرابا شديدا ، واصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد علم بمؤامرتهم وتواطئهم ، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ ، ولتواطئهم القبيح ، ومكرهم السيئ.

ومن ناحية اخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم ، ولكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف ، وان ينتقم

ص: 207


1- يقول صاحب المغازي : إن النبيّ جاء بني النضير في ناديهم ج 1 ص 364.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حينئذ منهم قطعا ويقينا.

وفيما هم في هذه الحالة من الاضطراب والتحيّر قرر أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : رأيته داخلا المدينة ، فأقبلوا حتى انتهوا إليه صلی اللّه علیه و آله وعرفوا بمؤامرة اليهود إذ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم لما قالوا : يا رسول اللّه قمت ولم نشعر :

« همّت اليهود بالغدر بي ، فأخبرني اللّه بذلك فقمت » (1).

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

والآن ما ذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة التي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الاسلامية من أمن وحرية ، ويحافظ جنود الاسلام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة التي كانت ترى كل آثار النبوة ودلائلها في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأعماله ، وأقواله تماما على نحو ما قرأت عنه في كتبها وأسفارها ، ولكنها بدل أن تردّ الجميل بالجميل وتقابل الاحسان بالاحسان ، وبدل أن تحسن ضيافته وقد نزل عليهم ضيقا تتآمر لقتله غيلة وغدرا دون ما خجل ولا حياء!!

ما هو ترى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد وفي هذه الحال؟

وما ذا يجب أن يفعل المرء حتى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث ، ويستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

إن الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفعله.

فقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ،

ص: 208


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 57 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 178.

ثم دعا محمد بن مسلمة وأمره بأن يذهب إلى بني النضير ، ويبلغ سادتهم ، من قبله رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي (1) الى بني النضير وقال لسادتهم : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسلني إليكم يقول :

« قد نقضتم العهد الّذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي.

اخرجوا من بلادي فقد أجّلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه ».

فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللّهجة والساخنة المضمون انكسارا عجيبا في يهود بني النضير ، وأخذوا يتلاومون ، وأخذ يحمّل كل واحد منهم الآخر مسئولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الاسلام ، ويؤمنوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. وعمتهم حالة يرثى لها من الحيرة ، والانقطاع ، فقالوا لمبعوث النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجل من الاوس.

ويقصدون أنه كان بيننا وبين الأوس حلف فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة : تغيّرت القلوب.

وقد كان هذا الاجراء متطابقا مع ما جاء في ميثاق التعايش الذي عقده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع يهود يثرب ابان دخوله المدينة ، وقد وقع عليه عن اليهود بني النضير حيي بن أخطب ، وقد نقلنا في ما سبق النصّ الكامل لهذا الميثاق وها نحن ندرج هنا قسما منه ليتضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق ( العهد ) :

« ألاّ يعينوا ( أي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ) على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار واللّه بذلك عليهم شهيد ، فان فعلوا فرسول اللّه في حل

ص: 209


1- المغازي : ج 1 ص 366.

من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم » (1).

المستشرقون ودموع التماسيح :

لقد أبدى المستشرقون حزنهم وأسفهم لما جرى في هذه القضية ، وذرفوا دموع تماسيح ، وأبدوا دقّة وشفقة أكثر مما تبديه والدة تجاه وليدها ، على اليهود الخونة الناقضين العهد ، الناكثين للايمان ، واعتبروا الإجراء الذي اتخذه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحقهم بعيدا عن روح الانصاف وسنن العدل!!

والحق أن هذه الاعتراضات والانتقادات لا تنبع من منطلق السعي لمعرفة الحقيقة ، لأننا عند مراجعتنا لنص الميثاق الذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصورون ويصورون فاننا نعرف أن الجزاء الذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إن هناك اليوم مئات الجرائم والمظالم التي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق والغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين الرحماء ، أدعياء الدفاع عن حقوق الانسان!!!

أما عند ما يقوم رسول الاسلام بتنفيذ عقوبة - هي في الحقيقة - اقل بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحق زمرة خائنة متآمرة ناقضة للعهد تتعالى أصوات حفنة من الكتاب المدفوعين بأغراض معينة ودوافع خاصة بالاعتراض ، والانتقاد.

دور حزب النفاق أيضا :

كان خطر المنافقين - وكما أسلفنا - أكبر من خطر اليهود لأن المنافق يطعن من الخلف وتحت غطاء من الصداقة ، ويتستر وراء قناع الصحبة والزمالة.

ص: 210


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 111.

وقد كان رأس هذا الحزب هو « عبد اللّه بن أبي » و « مالك بن أبي » و .. و ..

ولمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسلوا إليهم من يقول لهم : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فان معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب ، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة فانه لن يخذلونكم ، ويمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!

ولقد جرّات هذه الوعود بني النضير ، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأغلقوا أبواب حصونهم ، وأعدّوا عدة الحرب ، وعزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مهما كلّف الثمن ، ولا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم وممتلكاتهم دون عوض.

فنصحهم أحد كبرائهم وهو « سلام بن مشكم » وشكك في وعود عبد اللّه بن أبي ، واعتبرها وعودا جوفاء ، وقال : ليس رأي ابن أبيّ بشيء ، فهو واللّه جلاؤنا من أرضنا ، وذهاب أموالنا ، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

إلاّ أن « حيي بن أخطب » أبي إلاّ محاربة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحث الناس على المقاومة والصمود ، وأرسل الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع!!

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برسالة « عبد اللّه بن ابي » إلى بني النضير ، وو عوده لهم ، فاستخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة ، وسار صلی اللّه علیه و آله في أصحابه مكبّرا لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم واستقر في الطريق بين « بني النضير » وبين « بني قريظة » ليقطع بذلك سبيل الاتصال بين هذين الفريقين ، وحاصر بني النضير ست ليال - حسب رواية ابن هشام - (1) أو خمسة عشر يوما حسب روايات آخرين ، ولكن اليهود تحصنوا منه في الحصون ، وأظهروا المقاومة ، والإصرار على الامتناع ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 211


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 191 ، وهذا من التكتيكات العسكرية التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.

بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون ، وإلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة ما دامت بساتينهم أعدمت ، وافنيت.

فتعالت نداءات اليهود تقول : يا محمّد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله :

« ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ » (1).

هذا من جهة ومن جهة اخرى خذلهم عبد اللّه بن أبيّ ، فلم يأتوهم ، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى :

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ » (2).

وقد كشفت الآيات الحاضرة - إلى جانب ما ذكر - عن نفسية اليهود الجبانة ، والتي انهارت أيضا بسبب معنويات المسلمين القوية حتى أنهم رغم اجتماعهم وعددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلاّ من وراء أسوار الحصون ، وجدران القلاع القوية خائفين مذعورين ، ومرعوبين ، وهم الى جانب كل ذلك يعانون من اضطراب وقلق وتفرق كلمة في الواقع.

وأخيرا رضخ اليهود لمطلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسألوه أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الابل من أموالهم إلاّ السلاح

ص: 212


1- الحشر : 5.
2- الحشر : 11 - 14.

والدروع ، فرضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدر ممكن ، حتى أن الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره ، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر ، وسارت جماعة اخرى منهم الى الشام.

وقد خرجت تلك الزمرة الذليلة المسكينة وهم يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ، وقد البسوا نساءهم الثياب الراقية ، وحليّ الذهب ، مظهرين بذلك تجلّدا ليغطوا على هزيمتهم ، ويروا المسلمين أنهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط :

إن ما يغنمه جنود الاسلام دون قتال وهو ما يسمى بالفيء يعود أمره الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصة يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الاسلام لقوله تعالى :

« ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » (1).

وقد رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن من الصالح أن يقسم المزارع والممتلكات التي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار ، لحرمانهم من ممتلكاتهم وثروتهم في مكة بسبب الهجرة منها الى المدينة ، وكانوا في الحقيقة ضيوفا على الأنصار طوال هذه المدة ، وقد أيّد « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » هذا الرأي ، ومن هنا قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميع تلك المزارع والممتلكات على المهاجرين خاصّة ، ولم يصب أحد من الأنصار منها شيئا الا رجلان كانا محتاجين هما : « سهل بن حنيف » ، و « أبو دجانة » ، الانصاريين وحصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامة ، وأعطى « سعد بن معاذ » سيف

ص: 213


1- الحشر : 7.

رجل من زعماء بني النضير وكان سيفا معروفا.

يقول المقريزي :

فلما غنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الانصار كلّها - الاوس والخزرج - فحمد لله وأثنى عليه ، وذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وانزالهم اياهم في منازلهم ، وآثرتهم على أنفسهم ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« ان أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وان أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم »؟

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه ، على المهاجرين دون الانصار إلاّ رجلين كانا محتاجين .. الخ (1).

وقد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأول في السنة الرابعة من الهجرة ونزلت سورة الحشر في هذا الشأن ، والتي جاء في مطلعها قوله تعالى :

« هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ » (2).

هذا ويعتقد أكثر المؤرخين المسلمين أنه لم يسفك في هذه الحادثة ، أي دم ، ولكن المرحوم الشيخ المفيد يكتب في ارشاده : انه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتال محدود قتل فيه عشرة من اليهود وكان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون (3).

ص: 214


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 182 و 183.
2- الحشر : 2.
3- الارشاد : ص 47 و 48.

وقال المقريزي : وفقد علي رضی اللّه عنه في بعض الليالي فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : انه في بعض شأنكم ، فعن قليل جاء برأس « عزوك » وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين وكان شجاعا راميا فشدّ عليه علي رضی اللّه عنه ، فقتله وفرّ اليهود (1).

ص: 215


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 180.

35

تحريم الخمر ذات الرقاع ، بدر الصغرى

1 - تحريم الخمر :

كانت الخمور ، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجر إليها أكبر الأخطار ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء ، ذلكم هو العقل ، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان وبين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره ، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة ، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء ، وكانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية (1).

ص: 216


1- عام 1339 هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران ، وقد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي المسكرات. وقد كان يحب أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ : (آية اللّه السيد البروجردي) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور والمسكرات، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة «قم»، وبعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد، وقد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس وكنت أنا ووالدي حاضرين هناك كذلك. فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو: لماذا حرم الاسلام المسكرات؟ فقال الامام البروجردي: يكفي أن أشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة وهي أن الخمرة تحطم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء ويتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية ومتجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل ، واسلوب مدروس ، ولم تكن الظروف والاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسول الاسلام عن تحريم الخمر دفعة واحدة ومن دون آية مقدمات ، وممهّدات لذلك ، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماما كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض ، وتجذر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمط واحد ، بل بدأت من مرحلة مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعن في هذه الآيات تكشف لنا عن كيفيّة الاسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد ، والدعوة والهداية ، وينبغي للخطباء ، والكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة ، ويكافحها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلا على أضرار ذلك السلوك ، ومفاسده ، وتذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع - بذلك - الاستعداد الروحي بل والدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد ، والخلق الذميم ، ويكون الناس هم الضمانة لا نجاح هذه المهمة. وذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف (1).

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم :

ص: 217


1- مفاتيح الغيب : ج 2 ص 263.

اذا مت فادفني الى جنب كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها(1)

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور والاعناب - في مجتمع كان تعاطي الخمر جزء أساسيا من حياته - مخالفا للرزق الحسن ، وبذلك ايقظ العقول العافية ، إذ قال :

« وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » (2).

إنّ القرآن أعلن - في المرحلة الاولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر - أن اتخاذ المسكر من التمر والعنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية : أعطت هزة ذكيّة للعقول وهيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يشدد من نبرته ، ويعلن عن طريق آية اخرى أنّ النفع المادي القليل ، الذي تعود به الخمر ويأتي به القمار ، ليس بشيء بالقياس الى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة ، وقد تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى :

« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » (3).

ولا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع والضرر ، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كاف لايجاد النفور والاشمئزاز لدى العقلاء ، والداعين من الخمر وما شاكلها ، وشابهها.

إلاّ أن جماهير الناس وعامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهيا صريحا وقاطعا عنها.

فها هو عبد الرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمرا ، فأكلوا ، وشربوا الخمر ، ثم قاموا الى الصلاة ، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من

ص: 218


1- أي ما يسكر.
2- النحل : 67.
3- البقرة : 219.

الآية ، فقد تلا سورة « الكافرون » ، وبدل أن يقول : « لا أعبد ما تعبدون » قرأ : « أعبد ما تعبدون ». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر ، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمرا عظيما!!

وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة ، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر ، وقد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول اللّه تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (1).

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية ، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يطرد من حياة المسلم نهائيا.

ولكن البعض بقي يتعاطاها حتى أنّ رجلا من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر - رغم نزول الآية الحاضرة - فلما شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض ، وجرح بعضهم بعضا فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقدا عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال : اللّهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر.

ولا يخفى أن هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريما كاملا وقاطعا ، من هنا نزل قوله تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (2).

ص: 219


1- النساء : 43.
2- المائدة : 90.

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطع أن يقلع عن الخمر نهائيا من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.

وقد جاء في كتب السنة والشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية : انتهينا يا ربّ (1)!!

وقفة عند « البيان الشافي » :

قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر ، بل بقي ينتظر بيانا شافيا يكشف عن التحريم القطعي ، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات ، وقد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو : أنّ الخمر « رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون » ولكن المتغربين ، وهواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر ، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر ، فيقولون لا بدّ أن يعلن عن هذا التحريم بلفظة : حرام أو حرّمت ، والاّ لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها ، الأسيرة لشهواتها الحرام ، لا تريد في الحقيقة إلاّ أن تظل عاكفة على الخمر أبدا ، ومن هنا تطرح مثل المعاذير وتتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء.

على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكل ما في شأن الخمر إذ قال : « وإثمهما أكبر من نفعهما » (2).

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اخرى إذ قال :

« قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » (3).

وبعبارة اخرى : لقد بين اللّه تعالى في آية اخرى الموضوع ، وهو أن الخمر ( التي تسمّى إثما أيضا ) قد حرّمت.

ص: 220


1- مستدرك الوسائل : ج 4 ص 143 ، روح المعاني : ج 7 ص 15.
2- البقرة : 219.
3- الاعراف : 33.

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها « رجس » وأنها نظير « الميسر » ، وأنها « عمل شيطاني » ، مناقض للفلاح ، وسبب « للعداوة » و « البغضاء » ، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها ، ولا غموض ، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف ، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة وهي أن النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع ، بيئته ومجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة ، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار ، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة ، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق ، فقد اخفقت كل خططه ، أمام هذا السمّ القاتل ، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933 - 1935 أمر معروف للجميع ، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها (1).

رواية مختلقة :

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : « ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب علیه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا : « اعبد ما تعبدون » فانزل اللّه تعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي علیه السلام مثل هذه

ص: 221


1- راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص 80 وغيره.

النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر (1) وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله الذي كان يتجنب الخمر ، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها ، هذا وعلي علیه السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن عليا علیه السلام شرب الخمر ، وهناك في الجاهلية ( وقبل الاسلام ) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل ، ويؤول بالمرء الى ما لا يحمد.

ففي السيرة الحلبية كان عبد اللّه بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد (2).

وورد عن الامام محمد الباقر علیه السلام قال : أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب علیه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبره فقال : لو لا أن اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك :

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

وما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

ص: 222


1- الاحزاب : 33 ، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 130.

وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله على عاتقه وقال : « حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة » (1).

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام علي علیه السلام من الخمر ، ولو في العهد الجاهلي ، وقبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع والدس أبت إلاّ أن تختلق رواية في المقام ، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا ومتنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ :

1 - حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت : لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

2 - حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (2).

والروايتان - مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال - تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما ، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب ، وهو مطعون في وثاقته وديانته ، وفي حفظه وحديثه ، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال :

ص: 223


1- الدرجات الرفيعة : ص 70 نقلا عن الامالي لابن بابويه.
2- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري : ج 5 ص 61.

قال عنه الذهبي : عطاء بن السائب أحد علماء التابعين ، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

قال عنه أحمد : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين : لا يحتج به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم : محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

وقال ابن عليّة : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة ، فكنا نسأله ، فكان يتوهّم ، فنقول له : من؟ فيقول : اشياخنا ميسرة ، وزاذان ، وفلان.

وقال الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما ، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت ، فخلّط فيه ، فاتقيته واعتزلته.

واضاف الذهبي : « ومن مناكير عطاء ... » (1).

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال ، انه سيئ الحفظ ، ضعيف مخلّط له مناكير ، يتوهّم ، تغيّر بأخرة ، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن عليا علیه السلام كان مأموما في هذه القصة ( كما في الرواية الاولى ) وتارة يقول كان علیه السلام إماما للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره ، وأوهامه بلا ريب ، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره ، شرب الخمر ، والائتمام برجل دونه في الفضل ، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب علیه السلام عن

ص: 224


1- ميزان الاعتدال : ج 3 ص 70 - 73.

فترة صباه في كنف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها : قال علیه السلام :

« قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن اللّه به صلی اللّه علیه و آله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به » (1).

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي علیه السلام وغيره ، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال ، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم ، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل ، كما فعل سيد قطب في تفسيره « في ظلال القرآن » (2) ، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله ، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوة ذات الرقاع :

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة ، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع ، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود ، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

ص: 225


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 192.
2- عند تفسير قوله تعالى : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ».

الخرق ، والرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع (1).

وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات ، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال ، والانفجار ، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية ، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها ، فسار إليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو (2).

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية ، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة ، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب ، واللجوء الى رءوس الجبال ، وقد خافوا ألاّ يبرح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف ، التي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.

وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته وقواه ، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف ، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

ص: 226


1- السيرة النبوية ، الهوامش : ج 2 ص 204.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 188.
مواقف خالدة في هذه الغزوة :

يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام (1) وأمين الاسلام الطبرسي (2) قصصا عجيبة ، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أعدائه ، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر ، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحرّاس الصامدون :

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم ، واستراح في شعب في أثناء الطريق ، وبات ليلته هناك ، ثم كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان : « عباد » و « عمار » ، فقسم الرجلان الليل بينهما ، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش ، وكان الذي سهر أول الليل هو « عباد ».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين ، وكان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا ويعود الى محله.

وقام « عباد » يصلّي ، وأقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى « عباد » سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه : نعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم ، وحرسهم ففوّق له سهما ورماه به فأصاب عبادا ولكن عبّادا نزع السهم ووضعه ، وثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر ، فأصابه فانتزعه وثبت قائما فرماه بثالث فنزعه ، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد ، ثم قال لصاحبه : اجلس فقد اصبت ، فجلس عمّار ، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

ص: 227


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 205 - 209.
2- مجمع البيان : ج 3 ص 103.

به ، : فقال عمّار : أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال : كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف ، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها ، ولو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما انصرفت ولو أتى على نفسي (1).

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدر الثانية :

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم « احد » نادى : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

ولهذا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم وقد مر على وقعة « احد » عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول اللّه في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين ، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام « نعيم بن مسعود » الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة ، فجاءه أبو سفيان وقال له : إنّي وعدت محمّدا وأصحابه يوم « احد » أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول ، وقد جاء ذلك ، ولا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم : ما أقدمني إلاّ ما رأيت محمّدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، وقد تجلّب إليه حلفاء الأوس ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان ، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد ، ويخذّلهم.

وعاد « نعيم » إلى المدينة ، وراح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 228


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 208 ، المغازي : ج 1 ص 397.

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلاّ أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج صلی اللّه علیه و آله في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه ، وقد خرجوا ببضائع لهم ، وتجارات حتى انتهوا الى « بدر » وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس ، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما ورائعا إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم ، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه الى بدر ، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه ، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران ، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط ، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان وقال : قد واللّه نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترءوا علينا ، ورأوا انا قد أخلفناهم ، وانما خلفنا الضعف عنهم (1).

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه :

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة ( الرابعة من الهجرة ) ولد السبط الثاني لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الامام الحسين بن عليّ (2) ، كما توفيت « فاطمة بنت أسد » والدة الإمام علي علیه السلام (3).

وفي هذا العام بالذات أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود (4).

ص: 229


1- المغازي : ج 1 ص 384 - 390 ، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 467.
3- تاريخ الخميس : ج 1 ص 467.
4- إمتاع الاسماع : ص 187 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 464.

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

اشارة

حوادث السنة الخامسة من الهجرة (1)

36

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة « الاحزاب » ، وقصة بني قريظة ، وزواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث - كما عليه المؤرخون المسلمون - هو زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات ( 4 ، 6 ، 36 ، الى 40 ) من سورة « الاحزاب » ، ولا يبقى - حينئذ - مجال لأكاذيب المستشرقين ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر والينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث والتحريف ، والمسخ ، والتشويه ، ألا وهو القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون ومن لف لفهم ،

ص: 230


1- يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان منشغلا بغزوة « الاحزاب » ، و « بني قريظة » من 24 شهر شوال من السنة الخامسة الى 19 من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا ، واذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين ، ولهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

ونحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة ، وباعوه عبدا في سوق عكاظ ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، وقد أهدته خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحسنة ، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبا شديدا ، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه ، وعلم بوجوده عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله مشي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يعتقه ، ويعيده إليه ، ليعيده بدوره إلى أمه ويلحقه بأقربائه ، فابى زيد إلاّ البقاء عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفضّل ذلك على المضي مع أبيه ، والعودة إلى وطنه ، وعشيرته ، وقد خيّره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أن ذلك الانجذاب والحب كان متبادلا بين زيد ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكما أن زيدا كان يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويحب أخلاقه وخصاله ، كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحب زيدا كذلك لنباهته وأدبه حتى أنه أعتقه وتبنّاه ، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة ، ولكي يتأكد ذلك وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وقال لقريش :

« يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني » (1).

وقد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد ، وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤته ، فحزن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

ص: 231


1- اسد الغابة : ج 2 ص 235 وكذا الاستيعاب والإصابة مادة : زيد.
زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ :

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته ، ويقارب بينها قدر الامكان ، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية والتقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب ، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة والاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال ، فقام بتزويج عتيقه « زيد بن حارثة » من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة ، ويعرفوا أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله : « لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى » و « إنّ المؤمن كفؤ المؤمن ».

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب ، وخطبها لزيد ، فلم تبد زينب وأخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم ، ومن ناحية اخرى كان الرد على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمرا صعبا ولهذا تذرّعا بعبودية « زيد » السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب وأخيها لطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

ص: 232

مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً » (1).

فتلاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهم فورا فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها ورضا أخيها بهذا الزواج ، فتزوّجت ابنة شريف قوم « زينب » بعتيق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد وبذلك طبّق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة ، وآدابه الانسانية الرفيعة ، وحطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية ، وأكثرها تخلفا واجحافا.

زيد يطلق زوجته :

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا ، فقد آل إلى الطلاق ، والافتراق ويعزى البعض ذلك إلى نفسيّة « زينب » وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه ، وعلوّ حسبها ، وبذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة وتسبب انزعاجه.

ولكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه ، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة ، وعدم الالفة ، فقد اتخذ أزواجا متعددة وطلقهنّ ( إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته ) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته ، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحادّ ، له ، فان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال : « أمسك عليك زوجك واتّق اللّه » (2).

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

ص: 233


1- الاحزاب : 36.
2- الاحزاب : 37.

ومهما يكن فقد طلق زيد زينبا وافترقا ، ثم تزوج بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك.

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى :

ولكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

وبعبارة اخرى وأكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي ، وبين المتبنى.

وتوضيحا لهذا الأمر نقول :

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون ، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه ويدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه وتصير له حقوق البنوة وملحقاتها.

ولما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام وذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية ، فالوالد هو - في الحقيقة - المنشأ المادي لوجود ابنه ، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية ، وبذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية ، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء ، وتترتب أحكام خاصة في مجال الزواج والطلاق ، والتحليل والتحريم.

وبناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية ، لا يوجد أبدا باللفظ واللسان.

ولهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة :

« وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ

ص: 234

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً » (1).

فلا يكون الابن المتبنى والولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا ، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث ، والزواج والطلاق وما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه ويشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

ومن المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب ، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم الصحيح.

وعلى هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا ومقبولا ، إلاّ أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي وحقوقه يعد أمرا بعيدا وغريبا جدا عن المحاسبات العلمية ، والاسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي - كما اسلفنا - يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق ، وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنة الخاطئة باجراء عملي صارخ وذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه « زيد » ، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول ، ووضع القانون ، في التأثير ، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوج بمطلّقة دعيّه (2) لقبحه في نظر العرب لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير ، إذ قال :

ص: 235


1- الأحزاب : 4 و 5 ، راجع تفسير الميزان : ج 16 ص 290 و 291.
2- الدعيّ هو الابن المتبنى وجمعه أدعياء.

« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً » (1).

إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة ( سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى ) واعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام ، لأن النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله تزوّج بمطلّقة عتيقه وقد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين ، وأصحاب العقول الضيّقة ، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقولون : لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الرد على تلكم الافكار والاقوال الباطلة قوله :

« ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً » (2).

على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله :

« ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً » (3).

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات اللّه ولا يخاف لوم اللائمين ، وكيد المنافقين ، وإرجاف المرجفين.

ص: 236


1- الأحزاب : 37.
2- الأحزاب : 40.
3- الأحزاب : 38 و 39.

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبناه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب :

إن زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب مطلّقة زيد بن حارثة - كما لاحظت - قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة ، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال ، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية ، والسلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم والتحقيق ، فقد سعى - ولم يزل - لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس وهذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري ، والثقافي.

وفي الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار ، بل وجيشه المتقنع بقناع العلم والمعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع ، ويتسلسل إلى اوساط المفكرين والمثقفين وينفث سمومه القاتلة ، ويحذر العقول ، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر ، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر ، والعصبيّة والتخلف ويتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية ، ولكنّ كتابات المستشرقين وإخفاءهم المتعمّد والكثير للحقائق ، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا والخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم وتحرّي المعرفة ، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام ، ولرسول

ص: 237

اللّه والمسلمين (1).

ويشهد على هذه النزعة - بجلاء ووضوح - موقفهم من زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية ، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيين وديدنهم ، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير (2) ومن قبله الطبري (3) وبعض المفسّرين ، وهي أنه : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يريد زيدا وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال ، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون والمفسرون ، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال ، وصنع الأوهام ، وانها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة ، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا : إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الاسلام ، وراجت في كتب المؤلفين المسلمين (4).

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة وبهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

ص: 238


1- للتاكّد الأكثر من هذا الأمر ( راجع كتاب المستشرقون ).
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 121 ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج 22 ص 10.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 121 ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج 22 ص 10.
4- مفاتيح الغيب : ج 25 ص 212 ، روح المعاني : ج 22 ص 23 و 24.

ابن الأثير ، والطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله من هذه المساوئ.

وعلى أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ ، ونعتقد أن القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جدا ، واغنى من ان ندافع عنها.

وإليك أدلّتنا :

أولا - ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل وهو ( القرآن الكريم ) لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة وهي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه ، خاصة وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعل ذلك بأمر اللّه سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية ، والحب الشخصي ، ولم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون الى نقده وتفنيده ، ولأحدثوا ضجة بسبب ذلك ، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتلويث سمعته.

ثانيا - أن « زينب بنت جحش » هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الزواج بها قبل أن يتزوج بها « زيد » ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحبّ الزواج بها - وهو يعرفها طبعا - لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها ، فلما ذا لم يتزوج بها؟ ولما رفض طلبها؟.

أجل ، انه لم يتزوج بها ولم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

ص: 239

وبعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله من أمثال هذه الترّهات والنسب الرخيصة ونرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما ، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة « التاريخ الكامل » لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال :

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة ، واختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهل يعقل : انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وانما دسائس الزنادقة ، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون ، فافتكروا في رواية الخبر ، فاتخذوه أساسا ، وأعرضوا عن كتاب اللّه وعن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

والعجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر ، ولو عرضت كل رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه ، ثم تزوجها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا » ، فاذن كان الزواج لأجل التشريع ، وكان عمليّا ، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

ص: 240

قال الفخر الرازي : وفيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بل لبيان الشريعة بفعله ، انتهى.

ونحن نعتب عليه أيضا إذ جعله اشارة ولم يجعله صريحا وبما أن روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد فالحكاية التي أوردها المؤلف نقلها كثير من المفسرين غير مفكرين بما فيها من طعن في الدين لإفادتها أن الشريعة الاسلامية عبارة عن إتباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزهت عن ذلك كله ، ويرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره : وحاصل العتاب : لم قلت « امسك عليك زوجك » ، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة ، لأنّ اللّه أعلم أنه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : « زوّجناكها » فلو كان الضمير محبتها وارادة طلاقها ، ونحو ذلك لأظهره جلّ وعلا ، وللقصّاص في هذه القصّة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيّز القبول ، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيفة التي تشبه ما أورده المؤلف ( أي ابن الأثير ) محذرا الناس منها ومن أمثالها التي لا تروج إلاّ على الحمقى والمغفلين انتهى. راجع هامش الكامل في التاريخ ج 2 ص 121. طبعة القاهرة ادارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

توضيح عبارتين :

هذا واستكمالا للبحث ، واتماما للفائدة ندرج نص الآية التي نزلت في هذا المجال ، والتي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكية ، ونعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما : وإليك نص الآية أولا :

« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ ».

ص: 241

وفيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان الى التوضيح :

« وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه ».

فما ذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخفي في نفسه وقد أظهره اللّه وأبداه بعد كل تلك النصيحة التي نصح بها صلی اللّه علیه و آله زيدا؟

ربما يتصوّر أحد أنّ الأمر الذي كان يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو رغبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تطليق زيد زوجته زينب أي أنه وان كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينهى زيدا في الظاهر عن تطليق زينب ، إلا أنه كان في سرّه يرضى بذلك بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوجها هو.

ولا شك أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقا لأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا كان يبطن مثل هذا الأمر ، فلما ذا لم يبد اللّه سبحانه نيّته هذه بآيات اخرى ، في حين أنه سبحانه وعد في هذه الجملة بأن يظهر ما كان يخفيه رسول اللّه في نفسه إذ قال تعالى : « مَا اللّهُ مُبْدِيهِ »؟!

ولهذا قال المفسرون : إن المقصود مما كان يخفيه هو الوحي الالهي الّذي أنزله اللّه عليه ، وتوضيح ذلك هو : أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأن زيدا سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ ، وأنه صلی اللّه علیه و آله سيتزوج بها من بعده لإبطال سنّة جاهلية مقيتة ( وهي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ ).

ومن هنا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين نصيحته لزيد ونهيه عن تطليق زينب زوجته ملتفتا ومنتبها إلى هذا الوحي الالهيّ أيضا ، ولكنه أخفى هذا الوحي عن زيد وغيره ، ولكن اللّه تعالى أخبر النبيّ في نفس تلك الجملة بأنه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قلبه ، وأن الامر لن يبقى خافيا على أحد بإخفائه صلی اللّه علیه و آله له.

ويشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم اظهر الامر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال :

« فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

ص: 242

فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً » (1).

فمن هذا التعقيب يستفاد أن ما كان يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو الوحي الالهي ، بأنه عليه أن يتزوج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنة جاهلية خاطئة.

2 - واما الجملة الثانية التي هي بحاجة الى التوضيح فهي قوله تعالى : « وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ». غير أن هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقلّ إيهاما وغموضا من الجملة السابقة بدرجات ، لأن تجاهل سنّة عريقة متجذرة في بيئة منحرفة ( وهي الزواج بمطلّقة الدعيّ ) يقترن - بطبيعة الحال وحتما - بحرج نفسيّ يزول ويرتفع لدى الأنبياء بتوجههم إلى الأمر الالهي ..

واذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعاني من حرج نفسيّ شديد من هذه القضيّة فانما هو لأجل أنه صلی اللّه علیه و آله كان يتصوّر أن جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلا ، لم يمر على انقطاعهم عن عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون : إن النبي ارتكب عملا سيّئا ، والحال أن الامر ليس كما يعتقدون.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد : قوله : « لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم لمّا قضوا منهن وطرا » تعليل للتزويج وبيان مصلحة للحكم. وقوله : و « كان أمر اللّه مفعولا » مشير الى تحقق الوقوع وتأكيد للحكم.

ومن ذلك يظهر أن الذي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوجها لا هواها ، وحبه الشديد لها وهي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسرين ، واعتذروا بأنها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا : منع أن يكون بحيث يقوى عليه التربية الإلهية. وثانيا : أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس

ص: 243


1- الاحزاب : 37.

والتشبّب بهن (1).

ولما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكدها ويزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ ، وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفى بِاللّهِ وَكِيلاً » (2).

ففي هذه الآيات اشارة إلى :

1 - أن ما قام به النبي من التزوج بزينب كان بأمر اللّه ، وكان على سبيل سنّ قانون وتشريع سنة ولكن بصورة عملية ، وإن ذلك القانون علم اللّه ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها.

2 - أن زيدا ليس ابن محمّد صلی اللّه علیه و آله انما هو متبنّاه ودعيّه بل هو ابن والده حارثة واقعا وحقيقة وليس ذلك إلاّ تقرير وتأكيد للحقيقة التي سبقت الاشارة إليها في قوله تعالى : « وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ».

3 - أن ما قام به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من التزوج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الذي يشرّعه بأمر اللّه وإذنه تعالى لتسير عليه البشرية ، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض ، لا أنه أمر واقع بدافع شخصي.

ص: 244


1- تفسير الميزان : ج 16 ص 343.
2- الاحزاب : 38 - 48.

4 - إن اللّه هو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية وما يصلحها وهو الذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس ازواج أدعيائهم اذا ما قضوا منهن وطرا وانتهت حاجتهم منهن واطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكل شيء ، ومعرفته بالاصلح والاوفق من النظم والشرائع.

5 - إن ما سنّه اللّه للمسلمين وما اختاره تعالى للامة الاسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير والخروج من الظلمات إلى النور ، فعليهم ان يذكروه ويشكروه أبدا ودائما ، فانه سيكون لهم لو أطاعوه وسبّحوه وذكروه شأن في الملأ الاعلى فهو يصلي عليهم وملائكته ، ويذكرهم هناك بالخير ، وانما يفعل كل هذا من منطلق الرحمة والعناية بهم.

6 - أن وظيفة النبي صلی اللّه علیه و آله في المسلمين هي ( الشهادة ) عليهم ، فليحسنوا العمل ، وهي ( التبشير ) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، و ( الانذار ) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب ونكال ، و ( الدعوة الى اللّه ) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية ، وذلك باذن اللّه فما هو بمبتدع ، ولا بقائل من عنده شيئا.

7 - ان على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يبشّر المؤمنين المطيعين لاوامر اللّه بأن لهم فضلا كبيرا ، ولا يطيع الكافرين ، والمنافقين ، وألاّ يحفل أذاهم له وللمؤمنين ، وان يتوكل على اللّه وحده وهو بنصره كفيل ، وهو يوحي بأن المنافقين أرجفوا بالنبي صلی اللّه علیه و آله في هذه القضية ، ارجافا عظيما.

وكل هذه الامور توحي بأن تغيير تلك السنة الجاهلية ( عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى ) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كل هذا التعقيب ، وبالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه ، كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم ، وهذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة والخطيرة.

ص: 245

37

غزوة الاحزاب

اشارة

غزوة الاحزاب (1)

لقد قاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات ، كما وبعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو التي كانت محتملة من جانب العدو.

وإليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة :

1 - غزوة دومة الجندل :

1 - غزوة دومة الجندل (2) :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين والتجار ، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ألف من المسلمين ، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذ بعنصر الاستتار والسرية على عادته.

ولما دنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من دومة الجندل وعرف به تلك الجماعة تفرقوا من فورهم فلم يجد صلی اللّه علیه و آله بها أحدا ، فأقام بها أيّاما وبثّ السرايا والدوريّات وفرّقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه ، ولم يصادفوا من

ص: 246


1- ذكر ابن هشام في سيرته أن هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وحيث إن غزوة الأحزاب انتهت في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة ، وطالت محاصرة المدينة شهرا واحدا لذلك يجب أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريبا.
2- المغازي : ج 1 ص 402 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 213 ودومة الجندل منطقة بين دمشق والمدينة ( الطبقات الكبرى : ج 2 ص 44 ).

تلك الجماعة أحدا.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني ، من دون ان يقاتل (1).

* * *

2 - غزوة الخندق ( الأحزاب ) :

أجلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق ، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم ، واضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب الى « خيبر » وتسكن هناك ، أو تسير الى الشام.

وقد كان إجراء النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا متطابقا مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه وبين يهود يثرب.

وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام ، فقدموا مكة ، وحرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإليك مفصل هذه الغزوة :

عبّأ المشركون العرب ، واليهود قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.

فقد شكّلوا اتّحادا نظاميا قويا وحاصروا المدينة مدة شهر واحد ، وبما أن أحزابا مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب ، وربما سمّيت بمعركة « الخندق » لأن المسلمين احتفروا خندقا حول المدينة عظيما ، دفاعا عنها ، ومنعا للكفار عن اجتياحها.

ولقد كان زعماء بنى النضير وبنى وائل - كما أسلفنا - هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب ، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.

ص: 247


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 193 و 194.

فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين ، والتي اضطرّوا على أثرها الى مغادرة المدينة ، فسكن بعضهم خيبر ، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية ودقيقة لاستئصال شأفة الاسلام ، والقضاء عليه. وانها لخطّة عجيبة حقا ، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعددة وأحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلا!!

كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب العديدة ، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة ، وهيّئوا كل ما يحتاجون إليه من حاجات ومعدات!!

وكانت الخطة كالتالي : قدم جماعة من سادة بني النضير مثل « سلام بن أبي الحقيق » و « حيي بن أخطب » في نفر من بني النضير على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فلقد جئنا لخالقكم على عداوة محمّد وقتاله.

وقال حيي بن أخطب : إن محمّدا قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلا بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض ، واجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم ، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد ويكونون معنا عليهم ، فتأتونه انتم من فوق وهم من أسفل.

فأثّرت كلمات اليهود وما قاله « حيي بن اخطب » في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه ، واصحابه ، واستحسنوا خطتهم ، وابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقتاله. ولكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين : يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم ، أخبرونا عما اصبحنا نحن فيه ومحمّد ، افديننا خير أم دين محمّد؟

ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة ( التي كانت ولا تزال تعد نفسها حامل لواء التوحيد ، الوحيد في العالم ) اولئك المشركين الجهلة الذين

ص: 248

وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة ، وطلبوا منهم حل مشكلتهم؟! « أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظّمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فانتم أولى بالحق منه!!! (1).

ولقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة وصمة عار اخرى الى سجلّهم الاسود ، وزادوا تاريخهم المشؤوم سوادا ، وسوء.

ولقد كانت هذه الغلطة فضيعة ، وقبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها ، في ما بعد.

فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه : ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) حول هذا الموقف المشين جدا قائلا : « كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش ، والا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولوأدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين ، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام انما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة » (2).

وفي الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح مقاصدهم ، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون - بكل جدّ - أن عليهم - لتحقيق أهدافهم - التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة ، وهذا هو مقولة « الغاية تبرر الوسيلة » التي طرحها ميكافيلي ، وبالتالي فان « الاخلاق » في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم ليس إلاّ.

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول :

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَ

ص: 249


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 217.
2- حياة محمّد : ص 329.

يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » (1).

ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء ، أثرا عجيبا في نفوس المشركين وعبدة الاوثان ، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية وهو تأليف جيش من قبائل متعددة لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعدا للتوجه الى المدينة ، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب ( اليهود ) من مكة بقلوب مملوءة سرورا ، وغبطة ، وساروا الى نجد ، ليتصلوا بقبيلة غطفان - وكانت من اعدى اعداء الاسلام - فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان : بني فزار ، وبني مرّة ، وبني اشجع ، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر ، لمدة سنة ، بعد الانتصار على المسلمين ، ولكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حلفاءها من بني سليم وراسلت غطفان حلفاءها من بني اسد ، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب ، فاستجابت لهم تلك القبائل ، وتحركت جميع هذه الفئات والاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة ، نحو المدينة في يوم معين وهي تبغي اجتياح مركز الاسلام ، واستئصال شأفته!! (2).

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة :

منذ أن سكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة ، لتقصّي الأخبار ، ومراقبة الأوضاع ، وإخبار النبي صلی اللّه علیه و آله بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولا بأول.

فقدم أحدهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بخروج تلك القوة

ص: 250


1- النساء : 51 و 52.
2- المغازي : ج 2 ص 443.

الكبيرة ومسيرها إلى المدينة ، وبهدفها ، وتاريخ خروجها ، ووصولها إلى مشارف يثرب.

فرعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه فورا وأخبرهم خبر عدوّهم ، وشاورهم في الامر ، ليستفيدوا من تجارب « احد » ، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن ، والقيام بالدّفاع من داخل القلاع والحصون ، ولكن هذا العمل لم يكن كافيا لأن جيش العدوّ كان كثيفا وكبيرا جدا وكان من المحتمل بقوّة أن تقوم عناصره الكثيرة ، الكبيرة في عددها بهدم الحصون والقلاع ، والقضاء على المسلمين ، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلا.

فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفا بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة : يا رسول اللّه إنّا اذا كنّا بأرض فارس ، وتخوّفنا الخيل ، خندقنا حولنا ، فهل لك يا رسول اللّه أن تخندق؟ (1)

وفي رواية اخرى أنه قال : يا رسول اللّه نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا ، فلا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه ، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة (2) ، ( أي محدودة ).

فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعا ، وكان لهذا التكتيك أثر جوهري وبارز جدا في حفظ الاسلام وصيانة المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أن النبي صلی اللّه علیه و آله خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانيا ولكى يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من ناحية « احد » الى « راتج » وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدو منها ، وعلّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على

ص: 251


1- المغازي : ج 2 ص 445 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 234.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 218.

الأرض.

ولكي يتم هذا الامر بنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين والانصار يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وعليّ علیه السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعيي (1) وهو يقول :

« لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرة ».

وقد كشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام واسلوبه ، وفي ذلك تنشيط الامة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة واخلاق القائد ، وأفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ ، وعلى إمام الامة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبدا الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال ، ولهذا لما نظر الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحفر نشطوا واجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، ولما كان اليوم الثاني بكّروا في العمل ، وكان ذلك النشاط العظيم عاملا في أن يندفع يهود بني قريظة أيضا إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب (2).

وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية ، ومع ذلك كان أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدّونهم بالطعام وغيره (3).

وربما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها ، فأخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك فأخذ معولا فكسرها وأزالها.

ص: 252


1- وجاء في تاريخ الخميس : ج 1 ص 489 انه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 311.
3- السيرة الحلبية : ج 1 ص 312.

أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها - وقد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور ، وكان كل عشرة يحفرون (40) ذراعا - هو (12000) ذراعا اي ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر ، وأما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم ، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار وعمقه خمسة أمتار أيضا.

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان :

عند ما قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المهاجرين والانصار جماعات جماعات ، وأوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق ، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد كل أن يضمّه الى صفّه ، فقال المهاجرون : سلمان منا وقالت الأنصار : سلمان منا ونحن أحق به!!

فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك :

« سلمان منّا أهل البيت » (1).

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقى الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق ، وربما كانوا يذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

أما المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار ، واذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحيانا ، أو جدّ لهم عذر استأذنوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأذن لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور في الآيات 62 و 63 اذ يقول تعالى :

ص: 253


1- المغازي : ج 2 ص 446 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 122.

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

مقاتلوا العرب واليهود يحاصرون المدينة :

وتتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة « احد » وعلى مقربة من الخندق الذي كان قد تمّ انجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومن لف لفّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل « احد » ، ولكنهم لم يلقوا أحدا منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى وصلوا الى الخندق ، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر ، فوجئوا به وقالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير الفارسي الذي معه.

العدد الدقيق لقوات الطرفين :

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف ، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع وهي تخطف بلمعانها الابصار!

وكان عدد المشاركين في هذه الجيش من قريش وحدها - على رواية المقريزي في الامتاع - ( 4 آلاف ) مقاتل ، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

وقد التحق بهم بنو سليم - وهم من حلفاء قريش - في (700) رجل في مر الظهران وكان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل ومن قبائل اخرى. مثل اشجع وبني مرة كل واحد منهما (400) مقاتل ، والباقي وهم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل ، وعلى هذا الاساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة

ص: 254

آلاف ، وقد استقروا جميعا في مكان آخر.

وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف ، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع مرتفع ، مشرف على الخندق وخارجه ، إشرافا كاملا بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات العدوّ ونشاطاته منه.

وقد وكل النبيّ صلی اللّه علیه و آله جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور على الخندق ومراقبة تحركات العدوّ ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراسا قويا طبيعيا ، وغير طبيعي ، اذ أن سائر المدينة كان مشبكا بالبنيان ، والنخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفار « المدينة » ما يقرب من شهر واحد ، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين ، ولم يستطع أن يعبر منهم الخندق الاّ أفراد معدودون ، فمن كان يفكر في العبور رماه المسلمون بالحجارة ، فولّى هاربا!!

وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها (1).

خطر البرد ، وتناقص الغذاء والعلف :

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد أصيبت في تلك السنة بقلة الغيث ، ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة ، ولم يكن أحد منهم يتصور أن عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد ، بل كان المشركون - جميعا - يرون - بادئ الامر - أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع ، على جنود الاسلام ، ويجتاحون المدينة ، ويستأصلون المسلمين!!

ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية ( اليهود ) هذه المشكلة بعد أيام ،

ص: 255


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 225 - 228.

فقد عرفوا بأن مضىّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على مقاومة القرّ ، وقلة العلف وتناقص الطعام ، ومن هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة ، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة ، وبذلك يمهّدوا السبيل لجيش العرب لغزو المدنية ، واجتياحها من الخارج!!

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة :

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام وأمن ، وكانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبي صلی اللّه علیه و آله ، احتراما كاملا.

فرأى « حييّ بن أخطب » أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به. ليشعل بذلك حربا بين المسلمين ويهود بني قريظة ويشغل المسلمين بفتنة داخلية ، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

وانطلاقا من هذه الفكرة أتى « حييّ » الى حصن بني قريظة ودق عليهم الباب وعرّف نفسه ، فأمر رئيس بني قريظة « كعب بن الاسد » بان لا يفتحوا له الباب ولكنه أصر ، وقال : ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك ( أي خبزك ) الذي في التنور تخاف أن اشاركك فيها فافتح فانّك آمن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن ، ففتحوا له ، فدخل مثير الحرب المشؤوم « حييّ » وقال لكعب : يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر ، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها ، وهذه سليم وغيرهم ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا وقد تعاقدوا وتعاهدوا الاّ يرجعوا حتى يستأصلوا محمّدا ومن معه ، فانقض العهد بينك وبين محمّد ، ولا تردّ رأيي.

ص: 256

فأجابه كعب قائلا : لقد جئتني - واللّه - بذلّ الدهر ، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه شيء ، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي ، والصبيان والنساء ، اني لم أر من محمّد إلاّ صدقا ووفاء فارجع عنّي ، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.

ولكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعبا ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل الجامع الذي يستصعب عليه ، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهيّا لذلك ، فقال : أنا أخشى أن لا يقتل محمّد وتنصرف قريش إلى بلادها ، فما ذا نفعل حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنه ليصيبه ما أصابه ان لم يقتل محمّد صلی اللّه علیه و آله .

فقال كعب : دعني اشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم ، وخبرهم الخبر ، وحيى حاضر ، وقال لهم كعب : ما ترون؟ فقالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، وصاحب عهدنا وعقدنا فان نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال « الزبير بن باطا » وكان شيخا كبيرا مجرّبا قد ذهب بصره : قد قرأت في التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّا في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكة ، ومهاجره في هذه البحيرة ... يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر فان كان هذا ( أي محمّد ) هو فلا يهولنّه هؤلاء ولا جمعهم ، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره : ليس هذا ذاك ، ذلك النبي من بني إسرائيل ، وهذا من العرب من ولد اسماعيل ، ولا يكونوا بنو اسرائيل أتباعا لولد اسماعيل أبدا ، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعا وجعل فيهم النبوة والملك ، وليس مع محمّد آية ، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم!!

ولم يزل يقنّع بهم ، ويقلّبهم عن رأيهم ، ويلحّ عليهم حتى أجابوه ، ورضوا بأن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقال : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد ، فأخرجوه ، فأخذه ومزقه ،

ص: 257

وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال ، وبذلك جعلهم أمام الامر الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرّ منه!! (1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق جواسيسه الاذكياء نقض بني قريظة للعهد ، في مثل ذلك الظرف الحساس ، فغمه غما شديدا. فأمر من فوره « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » - وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين ، كما أنهما كانا رئيسي الأوس والخزرج - بأن يحصّلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث ، وأسبابه وملابساته ، وأنه اذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلا أن يخبّراه وحده فقط ولا يخبرا أحدا به ويقولا : عضل والقارة لكيلا لا يفتّ ذلك أعضاد المسلمين ولا يضعف من معنوياتهم ، وأما إذا لم تكن هناك خيانة ، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان ، واقتربا إلى حصن بني قريظة ، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن ، فشتم سعدا وشتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق فأجابه سعد - بالهام غيبي - : إنّما أنت ثعلب في جحر ، لتولّينّ قريش ، وليحاصرنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولينزلنك على الصغار والذلّ وليضربنّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالا له : عضل والقارة. فكبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا برفيع صوته : « اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح » (2).

وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 258


1- المغازي : ج 2 ص 456 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 222 و 223.
2- المغازي : ج 2 ص 459.

وعمق سياسته ، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين ، ولا يتملكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد ، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية ، والاحساس بروح النصر.

تجاوزات بني قريظة الاولية :

كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدءوا عملهم الخياني بالاغارة على المدينة ، وإرعاب النساء والاطفال الموجودين في البيوت والمنازل ، وقد نفذت مراحل من هذه الخطة تدريجا!!

فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم ونساؤهم بصورة مشبوهة!!

تقول « صفية بنت عبد المطلب » عمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله : كنت في فارع ، حصن حسان بن ثابت وكان حسان بن ثابت معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، وقطعت ما بينها وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمون في نحور عدوّهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت ، فقلت لحسان : إن هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن ، وإنّي واللّه ما آمنه أن يدل علينا من وراءه من يهود ، وقد شغل عنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، فلما قال لي ذلك احتجزت (1) ( أي شددت وسطي ) ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه ، إلاّ أنه رجل فقال حسان : ما لي بسلبه

ص: 259


1- وفي رواية : اعتجرت.

حاجة يا ابنة عبد المطلب!! (1).

ولما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد وانهم طلبوا من قريش الف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود ، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق ، فعظم بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق ، بعث النبي صلی اللّه علیه و آله مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تحفظا على الجواري من بني قريظة (2).

الإيمان في مواجهة الكفر :

لقد خاض المشركون حروبا عديدة ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل معركة الأحزاب ، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة ، ولم يكن من عموم الجزيرة العربية ، ومن عموم القبائل ، أي الاسلام لم يواجه في تلك الحروب والوقائع عدوانا شاملا من سكان الجزيرة.

وحيث إن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الاسلامية الفتيّة ، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض ، يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة ، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم ، من هنا عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين ، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحركوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. ولو لا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

ولهذا جلب أعداء الاسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب ، وأشهر

ص: 260


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 228.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 315.

بطل من أبطالهم ورأسوه عليهم ، وهو عمرو بن عبد ود العامري ليشدّوا به أزرهم ، ويحققوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

وعلى هذا الاساس كانت معركة الأحزاب مواجهة كاملة بين كل الكفر وكلّ الايمان ، وخاصة عند ما تبارز بطل الاسلام وبطل الكفر وتواجها في ساحة القتال.

ولقد كان الخندق الذي احتفره المسلمون سلفا من عوامل إخفاق المشركين ، وكان العدوّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار ولكن دون جدوى ، لانهم كانوا يواجهون في كل مرة سهام الحرس الذي وكلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحراسة الخندق ، ورصد محاولات العدو لاجتيازه وافشالها فورا ، وأيضا بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

كان الشتاء وبرده القارص في تلك السنة وتناقص الطعام ، والعلف يهدد جيش المشركين ، وأنعامهم ، وخيولهم فاستقرض حيي بن أخطب من بني قريظة عشرين بعيرا محملة شعيرا وتمرا وتبنا تقوية لقريش ، ولكن دورية من المسلمين صادفتها في أثناء الطريق فصادرتها وأتوا بها الى النبي صلی اللّه علیه و آله فتوسع بها أهل الخندق (1).

وذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبو سفيان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابا يقول فيه : إني احلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألاّ نعود إليك أبدا حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا ، وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء (2).

فكتب إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من محمّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب ... أمّا بعد فقديما غرّك باللّه الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت

ص: 261


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 323.
2- المغازي : ج 2 ص 492.

إلينا في جمعكم ، وانك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر اللّه يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة وليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح ، ولياتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات والعزّى واساف ، ونائلة ، وهبل حتى اذكّرك ذلك » (1).

ولقد وقعت إجابة الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله التي كانت تنبئ عن قوة إرادته وشدة عزيمته ، وتصميمه القاطع موقع السهم في قلب زعيم المشركين ، وحيث إن قريش كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانّها اصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها ونفسيتها ، ولكنها مع ذلك لم تكفّ عن مواصلة عدوانها.

وذات ليلة عزم « خالد بن الوليد » على أن يعبر بجماعته الخندق ولكنه اضطرّ الى التراجع عند ما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بامرة « اسيد بن حضير » وقد كلّفهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقيام على شفير الخندق ، ودفع المشركين ومنعهم من العبور!!

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين ورفع معنوياتهم ، ولهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية ، وكلماته المشجعة ، الحاثة على الجهاد والاستقامة والدفاع عن حياض العقيدة والايمان ، والذود عن صرح الحرية ، والعدل.

فقد وقف ذات يوم خطيبا في اجتماع كبير من المسلمين وقال - بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه -.

« أيّها النّاس إذا لقيتم العدوّ فاصبروا واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف » (2).

أبطال من العرب يعبرون الخندق :

لبس خمسة من شجعان المشركين هم : « عمرو بن عبد ود العامري » ، « عكرمة

ص: 262


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 239 و 240.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 323.

بن أبي جهل » ، « هبيرة بن وهب » ، « نوفل بن عبد اللّه » ، و « ضرار بن الخطاب » لامة الحرب ، ووقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب ، وقالوا : تهيّأوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم؟

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون ، ولكنهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة ومنع غيرهم من العبور.

وكان الموضع الذي وقف فيه اولئك الشجعان الخمسة الذي عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق وجبل سلع حيث تمركز جنود الاسلام (1).

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز ، في كبرياء وغرور كبيرين ، وهم يقطعون ذلك الموضع جيئة وذهابا بخيولهم!!

بيد أنّ أشجع اولئك الخمسة وأجرأهم وأعرفهم بفنون القتال وهو : « عمرو بن عبد ود العامري » تقدم ، وأخذ يرتجز داعيا المسلمين الى النزال والبراز قائلا :

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع *** موقف البطل المناجز

إنّي كذلك لم أزل *** متسرّعا نحو الهزاهز

إن السماحة والشجا *** عة في الفتى خير الغرائز

فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب ، والوجل الشديدين في معسكر المسلمين ، وسكت الجميع ، ولم ينبسوا ببنت شفة رهبة وخوفا منه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة »؟

وقد قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث مرات ، وفي كلّ مرة يقوم عليّ علیه السلام ويقول : انا له يا رسول اللّه ، والقوم ناكسوا رءوسهم (2) او كأنّ المسلمين يومئذ على رءوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، كما يقول الواقدي (3).

ص: 263


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 239 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 28.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 486.
3- المغازي : ج 2 ص 470.

ولا بدّ أن تحلّ هذه المشكلة بيد علي علیه السلام فارس ميادين الحرب المقدام ، وكان كذلك ، فلما أبدى عليّ علیه السلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفه وعممه بيده ، ووجّهه صوب عمرو وقد دعا له قائلا : اللّهم أعنه عليه. وقال أيضا :

« اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم احد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين » (1).

فبرز عليّ علیه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته ، مبادرا إليه دون ابطاء ، وهنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلمته الخالدة في تلك المواجهة :

« برز الإيمان كله إلى الشرك كلّه » (2) وارتجز علیه السلام قائلا :

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذونيّة وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن اقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

وقد كان عليّ علیه السلام مسربلا بالحديد لا يرى منه إلاّ عيناه من تحت المغفر ، فأراد عمرو أن يعرف من برز إليه فقال : من أنت؟

قال : أنا عليّ بن أبي طالب.

فقال عمرو : إنّي أكره أن اريق دمك ، واللّه إن أباك كان لي صديقا ونديما ، ما أمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميت.

فقال عليّ علیه السلام : لكنني ما أكره واللّه أن أهريق دمك ، وقد علم ابن

ص: 264


1- كنز الفوائد : ص 137.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 486 و 487 ، بحار الأنوار ، ج 20 ص 215.

عمي أنّك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النّار ، وإن قتلتك فانت في النّار وأنا في الجنة.

فضحك عمرو وقال مستهزئا : كلتاهما لك يا عليّ ، تلك إذا قسمة ضيزى. ( أي ناقصة جائرة ).

يقول ابن أبي الحديد : كان شيخنا أبو الخير يقول اذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع : واللّه ما أمر عمرو بن عبد ود عليا علیه السلام بالرجوع إبقاء عليه ، بل خوفا منه ، فقد عرف قتلاه ببدر واحد ، وعلم أنه إن ناهصه قتله ، فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء ، وإنه لكاذب فيه (1).

ثم إن عليا علیه السلام ذكّر عمرا بعهد قطعه على نفسه فقال له :

يا عمرو إنّك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد الى واحدة من ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو : أجل ، فهاتها يا عليّ.

قال : تشهد أن لا إله الاّ اللّه ، وانّ محمّدا رسول اللّه ، وتسلم لرب العالمين.

فقال عمرو : نحّ عني هذا.

قال عليّ علیه السلام : فالثانية أن ترجع إلى بلادك ، فان يك محمّد صادقا فأنتم أعلى به عينا وان يك غير ذلك كفتكم ذؤبان العرب أمره.

فقال عمرو في غرور عجيب : اذا تتحدّث نساء قريش بذلك ، وينشد الشعراء فيّ أشعارها اني جبنت ، ورجعت على عقبي في الحرب ، وخذلت قوما رأسوني عليه.

فقال له علي علیه السلام : فالثالثة أن تنزل إليّ فانك راكب وأنا راجل ، حتى انابذك.

ص: 265


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 19 ص 20.

فقال عمرو : هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها ، ثم وثب عن فرسه ، ولكي يرعب عليّا علیه السلام عرقب قوائم فرسه على عادة العرب في الجاهلية (1).

تصاول البطلين :

وهنا بدأ تصاول شديد بين البطلين ، وارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية ، وانما كان الناس يسمعون فقط صوت اصطكاك السيوف والدروع الحديدية وغيرها ، وبعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب « عمرو » « أمير المؤمنين عليا » علیه السلام بالسيف على رأسه ، فاتقاه علي علیه السلام بالدرقة فقطعها ، وشجّت الضربة رأسه ففاجأه عليّ علیه السلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما جميعا ، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فاذا عليّ علیه السلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. وارتفع صوت عليّ بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره ، ومقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الاكبر « عمرو بن عبد ود » رعبا عجيبا في نفوس بقيه الابطال والشجعان الذين عبروا معه الخندق ، فهربوا راجعين الى معسكرهم ، إلاّ « نوفل » الذي سقط فرسه في الخندق ، وهوى هو إلى الارض بشدة ، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال : قتلة أجمل من هذا ، ينزل إليّ بعضكم فأقاتله ، فنزل إليه عليّ علیه السلام فضربه حتى قتله في الخندق (2).

فهيمن الخوف والرعب على كل أرجاء المعسكر العربي المشرك ، وبهت أبو سفيان أكثر من غيره.

ثم إنه كان يتصور أن المسلمين سيمثّلون بجسد « نوفل » انتقاما لحمزة الذي

ص: 266


1- المغازي : ج 2 ص 470 و 471.
2- بحار الأنوار ، ج 20 ص 256 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 240.

مثل به في احد ، فبعث إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

« هو لكم ، لا ناكل ثمن الموتى » (1).

قيمة هذه الضربة :

لقد قتل عليّ علیه السلام - حسب الظاهر - رجلا شجاعا لا أكثر ، بيد أنه بضربته لعمرو وبقتله إياه أحيا - في الحقيقة - كل من أرعبته نداءات عمرو المهدّدة ، من المسلمين ، والقى رعبا كبيرا في نفوس جيش قوامه ( 000 / 10 ) رجل تعاهدوا وتعاقدوا على محو الاسلام واستئصال الحكومة الاسلامية الفتية. ولو أن الانتصار كان يحالف عمرا لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى التي قام بها عليّ علیه السلام .

وعند ما عاد عليّ علیه السلام ظافرا منتصرا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».

وقيل إنه قال :

« لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امة محمّد لرجح عملك على عملهم وذاك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذل بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عز بقتل عمرو » (2).

وبذلك كشف عن أهمية الضربة التي أوقعها علي علیه السلام بعمرو في تلك الواقعة.

لماذا التنكر لهذا الموقف؟

ويحق لنا هنا أن نستغرب تنكر بعض المؤرخين أو تجاهلهم لهذا الموقف

ص: 267


1- بحار الأنوار ، ج 20 ص 205.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 216 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 32.

العظيم الذي أدى إلى هزيمة المشركين ، والاحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء ، كل واحد بشكل من الاشكال وصورة من الصور :

فهذا ابن هشام رغم اسهابه في بعض الامور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل « عمرو » على يد بطل الاسلام الخالد عليّ علیه السلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلی اللّه علیه و آله عند مطالبة عمرو بالمنازل والمبارز ، ذكر أبياتا قالها عليّ عليه في المقام ثم يشكك في نسبتها إليه علیه السلام (1).

وهكذا ابن الاثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية ووصفه لكتابه بالكامل نجده يحاول التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة اخرى وهو أن عليّا خرج ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو وليس وحده.

ولكن المعلّقين على الطبعة المنيرية للكامل والتي أشرف عليها فضيلة الاستاذ عبد الوهاب النجار لم يرق لهم هذا الصنيع ، وأبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش : وروى السهيلي عن ابن اسحاق أن عمرا دعا المسلمين للمبارزة وعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأمر ثلاث مرات ولا يقوم إلاّ عليّ كرم اللّه وجهه ، وفي الثالثة قال له : انه عمرو قال : وان كان عمرا ، فنزل إليه ، وقتله وكبّر فكبّر المسلمون فرحا بقتله (2).

وهذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة ولكن بالضرب على وتر آخر حيث قال ان قول النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن عليّ علیه السلام لما قتل عمرا : « قتل عليّ لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين » من الاحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها بسند ضعيف ، وكيف يكون قاتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ... ثم قال : بل ان عمرو بن ود لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو ، والايحاء بأنه لم يكن شيئا ، فلا يكون

ص: 268


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 225.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 124.

لقتله أهمية.

ولكن صاحب السيرة الحلبية الذي ينقل كل هذه العبارات عن ابن تيمية يرد عليه قائلا : ويرد قوله : « ان عمرو بن ود هذا لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة » قول الأصل : وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة فلم يشهد يوم احد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ( أي جعل له علامة ) ليعرف مكانه ويرى.

ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمسّ رأسه دهنا حتى يقتل محمّدا صلی اللّه علیه و آله .

واستدلاله : وكيف يكون إلى آخره ، فيه نظر لان قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين (1).

وما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الاثير الجزء 2 الصفحة 124 ويوافق أيضا ما جاء في السيرة النبويّة الجزء 2 الصفحة 225.

مروءة عليّ علیه السلام وشهامته :

ولقد أحجم عليّ علیه السلام عن سلب « عمرو بن عبد ود » درعه ، وكان درعا غالية الثمن ليس للعرب ، درع خير منها ، وقد فعل ذلك مروءة ، وترفعا ، فاعترض عليه بعض ، حتى أن عمر بن الخطاب قال له : هلا استلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها؟ (2).

ولما عرفت اخت عمرو بمقتله سألت عمن قتله ، فاخبروها بأن عليا علیه السلام هو الذي قتله فقالت لم يعد موته إلاّ على يد كفؤ كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الابطال ، وبارز الاقران ، وكانت منيته على يد كفؤ

ص: 269


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 320.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 320.

كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم انشأت تقول :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به ***

من كان يدعى قديما بيضة البلد(1)

وقد ذكر عليّ علیه السلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال :

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا؟ *** عنّي وعنها خبّروا أصحابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّد *** صافي الحديد مجرّب قضاب

فصددت حين تركته متجدّلا *** كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو انّني *** كنت المقطّر بزّني أثوابي(2)

والآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب وشجاعها البارز.

جيش العرب يتفرق في موقفه :

لم يكن دافع جيش العرب ومن عاونهم ومالأهم من اليهود الى محاربة الاسلام واحدا ، فاليهود كانوا يخشون من اتساع رقعة الحكومة الاسلامية الفتيّة ، المتزائد ، واما دافع قريش فكان هو العداء القديم للاسلام والمسلمين. وأما قبائل « غطفان » و « فزارة » وغيرها من القبائل فلم يحرّكها إلاّ الطمع في محاصيل « خيبر » التي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الاساس لم يكن محرّك « الأحزاب » المشاركة في جيش الشرك أمرا واحدا ، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمرا ماديا ، ولو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية ، وخاصّة أن البرد ، وقلّة الطعام ، والعلف ، وطول مدّة المحاصرة قد أوجدت في

ص: 270


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 33.
2- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 32.

نفوسهم كللا ومللا ، من جهة ، وعرّضت أنعامهم لخطر الهلاك والفناء من ناحية اخرى.

من هنا كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة بأن يتصلوا بهذه القبائل ( الأخيرة ) ويذكروا لهم بأنّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشا وعادوا إلى ديارهم ، فأعدّوا عهدا وجاءوا به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليمضيه ، ولكنه شاور فيه سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة قبل أن يمضيه ، فقالا : يا رسول اللّه إن كان أمرا من السماء فامض له ، وان كان أمرا لم تؤمر فيه فان الرأي عندنا هو السيف ، فإنهم ما طمعوا بهذا منّا قطّ في الجاهلية أن يأخذوا تمرة ، الا بشرى أو قرى ، فحين أتانا اللّه تعالى بك ، وأكرمنا بك ، وهدانا بك نعطي الدنيّة؟ لا نعطيهم أبدا إلاّ السيف؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مبيّنا علة إقدامه على مثل هذا الصلح : « إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة ، فقلت ارضيهم ولا أقاتلهم ، الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه ، فان اللّه تعالى لن يخذل نبيّه ، ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده » (1).

فمحى سعد بن معاذ ما في الصحيفة باذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : ليجهدوا علينا (2).

وبهذا كشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن صفحة اخرى من سياسته الحكيمة ، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الاحزاب باعطاء بعض التنازلات المادية ( لا المعنوية ) وتحييدها خطوة سياسية وعسكرية صحيحة ، ورائعة ، وكان مشورته مع أصحابه من الانصار ( خاصة ) عملا حكيما أيضا لانه استشار بذلك هممهم ، وشدّ من عزائمهم ، فوعدوا

ص: 271


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 223 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 252.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 236 وجاء فيه انه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة خفية.

بالصمود والمقاومة في ذلك الظرف العصيب وعدم تقديم اية تنازلات ولهذا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن ما اراد أولا ، فكان مجموع هذه الخطوات عملا حكيما جدا ، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة ، ودراية عسكرية عميقة.

العوامل التي فرقت كلمة « الاحزاب » :

هناك عوامل عديدة تسببت في تفرق الجيش العربي الذي زحف إلى المدينة لاجتياحها ، وانقسام الاحزاب على أنفسهم ، وإليك أبرزها :

1 - إن أول عامل من تلك العوامل هو تكلم مبعوثي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع سادة غطفان وفزارة ، لأن هذه المعاهدة وإن لم توقع إلاّ أنها لم تنقض ، فتسبّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي ، أي اجتياح المدينة وبشكل من الاشكال وان لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظارا للتوقيع على تلك المعاهدة ، ولهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الاعذار تملّصا من ذلك الطلب.

2 - مصرع « عمرو بن عبد ود » فارس العرب الأكبر الذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلما قتل تملّك الجميع رعب غريب وانهارت آمالهم ، وبخاصة عند ما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ علیه السلام خوفا ، ورهبة.

3 - ما لعبه « نعيم بن مسعود » الذي أسلم حديثا ، من دور في إلقاء روح الشك والفرقة بين يهود بني قريظة وجيش « الاحزاب » ، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع ، تماما كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر ، بل كان ما فعله أفضل وأكبر تأثيرا وعطاء.

فقد أتى « نعيم » هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال يا رسول اللّه ؛ قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا باسلامي ، فمرني بما شئت.

ص: 272

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا ما استطعت ( أي ادخل بين القوم حتى يخذّل بعضهم بعضا ). فان الحرب خدعة ».

فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهليّة ، فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي ، وخاصّة ما بيني وبينكم.

قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتّهم.

فقال : إنّ قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره ، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمّد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فان رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين محمّد ، ولا طاقة لكم به. إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتى تناجزوه.

فقالوا : لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودّي لكم ، وفراقي لمحمّد ، وانه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه ، نصحا لكم فاكتموا عني. فقالوا : نفعل.

قال : اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من يبقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : أن نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، إنكم أصلي وعشيرتي ، وأحب الناس إليّ ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ، قال

ص: 273

فاكتموا عني ، قالوا : نفعل فما أمرك ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

وهكذا أدّى « نعيم » وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرا في جيش المسلمين ، واشاع بين المسلمين أنّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم الى النبي والمسلمين.

وقد كان يقصد من اشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب وقادتهم.

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة :

ولما كانت ليلة السبت قرّر أبو سفيان ان يحسم الموقف بشكل من الأشكال فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّدا ، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسل بنو قريظة إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمّدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا ، فاننا نخشى إن ضرستكم الحرب ، واشتدّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : واللّه إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق.

فارسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم : إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة - حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا فان رأوا فرصة انتهزوها ، وان كان

ص: 274

غير ذلك أسرعوا إلى بلادهم وخلّوا بيننا وبين محمّد. في بلدنا (1).

وهكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب وأوقع اللّه التخاذل بينهم ، وتفرّقوا ، وتمزق شملهم ، وكان ذلك من عوامل فشل الاحزاب ، وتقهقرهم ورجوعهم خائبين.

آخر العوامل لهزيمة الكفار :

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل آخر يمكن تسميته - في الحقيقة - بالامداد الغيبيّ ففرقت جماعة الاحزاب ، وشتّتّ جماعتهم وذلك العامل هو أن اللّه تعالى بعث عليهم فجأة الريح والعاصفة ، واشتدّ البرد ، وكان اشتداد الريح كبيرا بحيث أكفأ قدورهم ، واقتلع خيامهم ومضاربهم ، وأطفأ أضواءهم ، وأوجد حريقا في الصحراء.

وهنا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذيفة أن يعبر الخندق ، ويأتيه بخبر عن أحوال المشركين ومن مالأهم من الاحزاب.

يقول حذيفة : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل ما تفعل بهم لا تقرّ لهم قدرا ، ولا نارا ولا بناء ، فسمعت أبا سفيان يقول ، وقد قام في جماعة من قريش : يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئنّ لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا إني مرتحل.

ثم قام إلى جمله - وهو معقول - فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فو اللّه ما أطلق مقاله إلاّ وهو قائم من شدّة الدهش والخوف!!

ولم يسفر الصبح إلاّ وأسرعت قريش وغطفان عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يبق منهم أحد هناك.

ص: 275


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 - 231 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 242 و 243.

وهكذا انتهت معركة الاحزاب في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة (1).

القرآن الكريم ومعركة الاحزاب

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب ( الخندق ) ضمن سبع عشرة آية وها نحن ندرجها برمتها ونشير باختصار إلى ما تضمنته من حقائق :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ

ص: 276


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 244 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 239.

الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ». (1).

ويمكن تقسيم هذه الآيات الى ثلاثة أقسام :

القسم الاول وهي الآيات التي ترسم الوضع العام للمسلمين عند ما أتتهم عساكر الاحزاب.

القسم الثاني وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المنافقين وضعاف الايمان.

القسم الثالث وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

وإليك بيانا لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1 - تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين - في الآية الاولى - بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الذي قصد استئصالهم لو لا عناية اللّه ومدده العظيم ، وفي هذا إشعار قوي بأن اللّه هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه من عدوان الكافرين والمتآمرين.

2 - ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة التي كان يواجهها المسلمون ، فهم محاصرون من قبل الاعداء والمتواطئين معهم من كل جهة محاصرة

ص: 277


1- الأحزاب : 9 - 25.

ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الابصار هولا ، وبلغ القلوب الحناجر خوفا ، وظنّ البعض أن ما أعطاهم اللّه ورسوله من الوعد بالتأييد والنصرة لم يكن صحيحا.

3 - ثم تحدثت الآية الثالثة عن الابتلاء والاختبار الذي أفرزه هذا الوضع الخطير ، فقد ابتلى المسلمون في هذه الواقعة ، وتملكهم خوف شديد.

4 - ولكن المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض كانوا أشد هولا وخوفا حتى أن ذلك الكرب والهول أخرج خبيئة نفوسهم ، فشككوا في وعود اللّه الصادقة ، وقالوا : ما وعدنا اللّه إلاّ غرورا ، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

5 - ولم يكتف المنافقون باشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة ، وبالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. واحتجوا لذلك بالخوف على النساء والصبيان من كيد الاعداء قائلين : « بيوتنا عورة » وهم لا يريدون إلاّ الفرار جبنا وخوفا.

6 - ثم تكشف الآية السادسة والسابعة عن حقيقة ما في نفوس اولئك المنافقين ، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري والصبيان ، انما هو نقض العهد ، وخلف الوعد وفقدان الايمان القلبي فهم اذا دخل عليهم العدوّ المدينة وطلبوا منهم الرجوع عن الاسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. ولكن اللّه سيسألهم عن العهد الذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا امام العدو ، وكان عهد اللّه مسئولا ».

7 - ثم إن اللّه تعالى يوبخهم - في الآية في الآيات اللاحقة - على موقفهم المتخاذل هذا ، ويقول لهم : بأن الفرار والانسحاب لن ينجيهم من الموت ان كان مقدّرا عليهم ، وحتى لو عاشوا أياما فلن يعيشوها في خير وأمان.

كما ويقول لهم : بأن اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل وعرقلة لمسيرة الاسلام الصاعدة ، ولا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة ، من كف الايدى عن مساعدة المؤمنين ، أو سلقهم بألسنتهم وتحميلهم عوامل المحنة والشدة ،

ص: 278

حتى بعد الانتصار.

وهنا يبدو ويبرز دور المنافقين ، وتظهر حالاتهم العجيبة في الحرب والسلم.

فهم يخافون خوفا شديدا ، وهم يظنون باللّه ظن السوء وهم يشيعون الخوف وروح الهزيمة في الناس وهم ينسحبون ويدعون إلى الانسحاب من الصفوف وهم مستعدون في كل وقت للارتداد والرجوع عن الاسلام الى الكفر ، وهم بالتالي اشحة بخلاء ، في نفوسهم كزازة على المسلمين كزازة بالجهد وكزازة بالمال وكزازة بالعواطف والمشاعر على السواء.

8 - إنهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الايمان ولم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة والقوة حتى بعد ذهاب عوامل الخوف والهول.

فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويأبون أن يصدقوا أن الاحزاب قد ذهبت وولّت مهزومة. ويودون لو أن الاحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9 - ولكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين وفي مقدمتهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات والظروف.

فان هذه الجماعة المؤمنة الصادقة لما رأت الاحزاب قالت : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله ، هذا الهول لا بد أن يجيء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقق.

فصمدوا وصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، فجزاهم اللّه بصدقهم إذ ردّ الذين كفروا بغيظهم ، لم ينالوا خيرا وكفى اللّه المؤمنين القتال ، وكان اللّه قويا عزيزا خلافا لما ظنه المنافقون ، وتوهموه.

وقد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحانا عظيما ، واختبارا دقيقا للنفوس والقلوب وهو امتحان لا بد منه حتى يتميز الصادق عن المنافق ، والموفون بعهدهم والناقضون له.

كما أن هذه الواقعة وما جاء حولها من الآيات كشفت عن أن وعود اللّه

ص: 279

صادقة ومحققة اذا توفرت شرائطها ، ومقدماتها ، ومنها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة ، والاتكال على اللّه واستمداد العون منه.

وفي هذه الآيات إشارة إلى دور ما يسمى الآن بالطابور الخامس وإلى خطورة الشائعات السيئة في المجتمع ، وبخاصة في ظروف الحرب.

كما أن فيها اشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات والتعامل مع فعاليات هذا الفريق الخطر.

ولقد لا حظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية والمضرة.

فقد كان يعتمد اسلوب الدعاء ، والذكر ، والتشجيع ، والتكبير ، وارسال الدوريات العسكرية والعمل المباشر والمشاركة الفعلية في عمليات الدفاع والحراسة وما شاكل ذلك ممّا ذكرناه وممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

ص: 280

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

اشارة

38

سقوط آخر أوكار الفساد والمؤامرة

اشارة

أقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الاولى من هجرته الى المدينة ، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها ، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف ، والتنازع ، والصراع الداخليّ.

وقد تعهّد الأوسيّون والخزرجيّون ، عامة واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها ، وقد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق (1).

هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينه وبين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر وأذى برسول اللّه وأصحابه ، ولا تمدّ أعداءهم بالخيل والسلاح ، وأنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحق في أن يقتلهم ، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

إلاّ أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين والصور ، وتجاهلت بنوده ، ومواده!

فقد قتل « بنو قينقاع » مسلما ، وخطّطت « بنو النضير » لاغتيال رسول اللّه

ص: 281


1- راجع صفحة 21 من هذا الجزء.

صلی اللّه علیه و آله ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الاسلامية.

وتعاونت « بنو قريظة » مع جيش المشركين لضرب المسلمين ، وطعنهم من الخلف ، والآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة :

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود « الأحزاب » أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب والارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين ، ومع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلی اللّه علیه و آله بأن يعالج قضيّة « بني قريظة » بصورة نهائية ، فأذّن مؤذّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصلّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين صلاة الظهر ، ثم نادى منادي النبي صلی اللّه علیه و آله في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ ببني قريظة!

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدّم « عليّ بن أبي طالب » برايته (1) ، وخرج معه جنود الإسلام الشجعان ، فحاصروا حصون « بني قريظة » ، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين ، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون ، والتحصّن في داخلها ، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّ علیه السلام بالمسلمين فالتقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلی اللّه علیه و آله أذاهم وشتمهم وحاول أن يثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا : لا عليك أن تدنو

ص: 282


1- زاد المعاد : ج 2 ص 73 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 243.

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسبب ذلك قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حصونهم قال لهم :

« هل أخزاكم اللّه وأنزل عليكم نقمته »؟

وقد كانت ردة فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الشديدة غير متوقعة لليهود ، ومن هنا قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم (1).

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحيث رجع من غير اختيار ، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهود يتشاورون حول الموقف :

تشاور يهود بنو قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف ، وقد شارك فيه « حيي بن أخطب » مثير معركة الأحزاب ، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب - في معركة الاحزاب - أوزارها وولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف :

1 - أن يؤمنوا برسول اللّه ، ويصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل ، وأنه الّذي يجدونه في كتابهم ، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

2 - أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد وأصحابه يقاتلونهم ، فإذا هلكوا ، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه ، وإن انتصروا تزوجوا

ص: 283


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 234 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 245 و 246.

من جديد ، ووجدوا أبناء.

3 - ان الليلة هي ليلة السبت ، وانه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد منوهم فيها ، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت ، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، وقالوا : ان نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم ، وقالوا : لا نقاتل ليلة ليلة السبت ، محمّدا وأصحابه نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ (1).

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة ( ونعي اليهود ) ، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة ، لجوجة ، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما قال زعيمهم - لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد والعتوّ ، واللجاج.

واما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد - بجلاء - على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية ، لا تعرف للرحمة والحنان معنى ، لان قتل الاطفال والنساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء ، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. ولم يقل أي واحد منهم : وما ذا جنى الاطفال والنساء حتى نقتلهم ونذبحهم ، ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - تمكن منهم - لم يقتلهم ، فكيف نعمد نحن ( الآباء الرحماء ) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

ص: 284


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 236.

من غير جرم ولا جناية؟

وأما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بفنون القتال ، والدفاع وكانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه ، وخاصة في مواجهة أعداء خونة ، أخوان غدر ومكر ، أمثال اليهود الناقضين للعهود ، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة وتقييم معركة « الاحزاب » تثبت ندرة وجود الاذكياء والفطنين بين هذه الجماعة ، والاّ لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع ( الاسلام والشرك ).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل ، ويبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد ، وجيش المشركين ، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم ، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنهم خدعوا بتسويلات « حيي بن أخطب » ووسوساته وانحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة ، وهي أن يتخلوا - في النهاية - عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم ، والرضوخ لخطة « نعيم بن مسعود » ، وإخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم ، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر ، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش ، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار ، وعاد الى بلاده ، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - فور قطع العلاقات مع قريش - عن ندامتهم على

ص: 285

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلی اللّه علیه و آله ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر - في صورة انتصار المسلمين على الكفار - ولكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش ، ولم يلتحقوا بالمسلمين ، ولم يعتذروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

على أنه لم يكن في مقدور النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يترك بني قريظة - بعد هزيمة جيش العرب - على حالهم ، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد ، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم ومنظم آخر لاجتياح المدينة ، ويتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون - في الحقيقة - العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل ، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة ، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

خيانة أبي لبابة :

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبي صلی اللّه علیه و آله لهم ، أن يبعث إليهم « أبا لبابة » الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف ، وقد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة ، فأرسله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال : نعم - وأشار بيده إلى حلقه - يريد أنهم سوف يقتلهم ولن يحقن دماءهم ، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد ، إلاّ أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين ، ومصالح الاسلام العليا ، وأفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه ، ولهذا ندم على فعله ندما شديدا ، فخرج من حصن بني قريظة وهو

ص: 286

يرتجف ويقول : إنّي خنت اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وانطلق على وجهه ، ولم يأت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين وهم ينتظرون رجوعه إليهم - وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته ، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّه عليّ ما صنعت!!

ويقول المفسرون : فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (1).

فلما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر أبي لبابة ، وكان قد استبطأه قال : أما أنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.

وبقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة ، وكانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة ، وتحلّ رباطه ، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي - على رسول اللّه وهو في بيت أمّ سلمة ، والآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى :

« وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (2).

فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو مستبشر يضحك قال صلی اللّه علیه و آله لها :

« لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه ».

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال : لا واللّه حتى يكون رسول اللّه

ص: 287


1- الأنفال : 27.
2- التوبة : 102.

صلی اللّه علیه و آله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه (1).

ولا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة ، فقد سلبه بكاء رجالهم ونسائهم ، وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس ، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه ، ولكنّ قوة الايمان باللّه والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كل شيء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب ، ويعمد - لجبران تلك الخيانة - الى ما فعل من الانابة ، والاستغفار ، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج « شأس بن قيس » اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نيابة عن بني قريظة ، فطلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع بني النضير ، فأبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : « لا ، إلاّ أن تنزلوا على حكمي ».

فقال شأس : لك الاموال والسلاح وتحقن دماءنا ، فابى النبي صلی اللّه علیه و آله ورفض هذا الاقتراح أيضا.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو : لما ذا رفض رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح ، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة - بعد

ص: 288


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 237 و 238.

خروجها من قبضة المسلمين - على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير ، وتعرّض المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا ، وتسبب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على اقتراحات مندوب بني قريظة ، وعاد شأس إلى الحصن ، واخبر قومه بمقالة رسول اللّه عليه وآله ، ورفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي - وكان حليفا لهم - في حقهم.

ولهذا عمدوا الى فتح باب الحصن ، ودخل عليّ علیه السلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن وجرّدوا بني قريظة من السلاح ، وحبسوهم في منازل « بني النجار » ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام ، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة « عبد اللّه بن ابي » ، وانصرف النبي صلی اللّه علیه و آله عن إهراق دمهم فيما مضى ، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ، وذلك منافسة للخزرج ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاوم هذا الطلب ، وقال لهم :

« ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم »؟

قالوا : بلى.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فذاك إلى « سعد بن معاذ » فهو يحكم فيهم.

والطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما يروى ابن هشام (1) والشيخ

ص: 289


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 240.

المفيد (1) - : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى « رفيدة » من سهم أصابه في معركة الخندق ، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعود سعدا بين الحين والآخر ، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس ، وحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما طلع سعد على رسول اللّه والناس حوله صلی اللّه علیه و آله جلوس ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قوموا إلى سيّدكم ».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد ، وحيّاه كل واحد منهم ، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم : يهود بني قريظة ، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين : يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

ولكن سعدا حكم في ذلك المجلس - رغم كل ذلك الالحاح ، والضغط - بأن يقتل رجال اليهود ، وتقسّم أموالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم (2).

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه :

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله ، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال ، وانتهى الى تمزق المجتمع وسقوطه ،

ص: 290


1- الارشاد : ص 50 وأيضا راجع زاد المعاد : ج 2 ص 73 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 246.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 240 ، المغازي : ج 2 ص 510 ، زاد المعاد : ج 2 ص 73 و 74.

وانهيار كل شيء ، لارتباط كل شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع ، أو أضرت به أشدّ وأبلغ إضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن ، وأوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق وهم في الحبس ، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم والرأي في بني قريظة ، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية ( أي عامة المسلمين ) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة ، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، على الأقلّ ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلاّ أن منطق العقل ، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى ، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة ، وتصادر أموالهم ، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية :

1 - أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلی اللّه علیه و آله قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام ، والمسلمين ، وناصروا أعداء التوحيد ، واثاروا الفتن والقلاقل ، وألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم (1).

وقد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

ص: 291


1- ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

للعدالة ، ولم يرتكب ظلما.

2 - إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة ، فترة من الزمن ، وهاجمت منازل المسلمين ، ولو لا مراقبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة ، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع ، ولو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم ، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق وأطفالهم.

3 - من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة ، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود ، الجزائية في هذا المجال ، فإن التوراة تنص بما يلى : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، واما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (1).

ولعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلاّ ما يقتضيه العدل والانصاف.

4 - والذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن « سعد بن معاذ » رأى بام عينيه أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين ، واكتفى - من عقابهم - باخراجهم من المدينة ، واجلائهم

ص: 292


1- التوراة : سفر التثنية الفصل العشرون 10 - 14.

عنها ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام ، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة ، وأخذ يتباكى - دجلا وخداعا - على قتلى بدر ، ويذرف عليهم دموع التماسيح ، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام وأصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة ، وكانت واقعة « احد » التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الاسلام ، ورجاله.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة ، الذين عفا عنهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة ، ولكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني ، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وكوّنوا اتحادا نظاميا بينها ، وألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام ( المدينة ) ، فكانت وقعة ( الاحزاب ) التي لو لا حنكة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وخطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى ، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات ، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه ، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع ، وسيثير ويؤلب قوى العرب ضد الاسلام ، ويعرّض مركز الاسلام ، ومحوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

وعلى هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة وأيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

ومن المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ ، فان رئيس أي قوم ، أو جماعة أحوج ما يكون

ص: 293

إلى تأييد قومه وجماعته وكسب رضاهم ودعمهم ، ولا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم ، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم ، ولكن سعدا ( رئيس الأوس ) أدرك أن جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل ، والمنطق ، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الّذي يشهد بدقة نظر سعد ، وصواب رأيه ، وصحة تشخيصه وتقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل اللّه يخذل. أي لو لا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال : يا أيّها الناس لا بأس بأمر اللّه ، ملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل.

ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين ، فقتلت قصاصا.

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه « الزبير بن باطا » شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس ، فلم يقتل ، واخلي سبيل زوجته وأولاده ، واعيدت إليه أمواله ، وأسلم أربعة من بني قريظة ، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، واخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

وقد اعطي للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وسلّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أموال « الخمس » إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد ، والسلاح ، والخيل ، وغيرها من أدوات الحرب (1).

ص: 294


1- تاريخ الطبرى : ج 2 ص 250 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 241 ، زاد المعاد : ج 2 ص 74.

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة ، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26 - 27 من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه :

« وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ».

وقد استشهد « سعد بن معاذ » الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه (1)

ص: 295


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 250 - 254.

حوادث السنة السادسة من الهجرة

اشارة

39

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة

اشارة

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة (1)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلاّ وقد انتهت فتنة « الاحزاب » و « بني قريظة » ، وقضي عليهما بالكامل ، وأصبحت المدينة وضواحيها برمتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم ، وازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا وثباتا ، وساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة ، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا ، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه ، وتحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى وامكانيات.

ولقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة « الاحزاب » الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل « الاحزاب ».

فلقد قتل « حيي بن أخطب » الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب ، في غزوة بني قريظة ، ولكن رفيقه « سلاّم بن أبي الحقيق » كان لا يزال يعيش في خيبر ، ولا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب « الأحزاب » مرّة اخرى ضدّ الاسلام ، وخاصة أن العرب الوثنيين كانوا

ص: 296


1- يستفاد من السيرة النبوية : ج 3 ص 291 ط 1355 أن خطة اغتيال « سلاّم » كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة ، ولكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

مستعدين لشن حرب على الاسلام ، وكان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب ، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر ، الجريء والحاقد ، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر ، فدخلوا خيبر ليلا ولم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد ، ثم تسللوا إلى غرفته وكانت في الطابق الاعلى ، فطرقوا باب حجرته ، فخرجت إليهم امرأته وقالت : من أنتم؟ قالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة ، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم ، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم ، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته ، ثم خرجوا ، وانحدروا من الدرج واختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله ، فصاحت زوجته ، واستغاثت بالجيران ، فأوقد اليهود النيران ، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة ، ولكن من دون جدوى ، وعند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول ، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق ، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق ، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ، وتحدثهم ، وتقصّ عليهم ما جرى ، ثم أقبلت عليه

ص: 297


1- إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق « كعب بن الأشرف » اليهودى الخطر فأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

تنظر في وجهه ثم قالت : فاظ ( أي مات ) وإله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ اللّه : « سلام بن أبي الحقيق » على أيديهم ، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى (1).

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة :

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام ، وانتشاره المطرد بشدة ، الى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا : الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فان ظهر « محمّد » على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد وإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلاّ خير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم « عمرو بن العاص » بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة ، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولهم على « النجاشي » ورود « عمرو بن اميّة الضمري » مبعوث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب ، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال « عمرو بن العاص » : لو دخلت على « النجاشيّ » بالهدايا وسألته عمرو بن اميّة فاعطانيه ، فضربت عنقه.

فدخل « عمرو بن العاصي » على « النجاشيّ » ، وسجد له - على النحو الذي كان متبعا - فسأله النجاشيّ عن حاله ، ثم قال : هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص : نعم أيها الملك ، قد أهديت إليك ادما كثيرا ، ثم قال : أيها

ص: 298


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 274 و 275.

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك ( ويقصد مبعوث رسول اللّه ) وهو رسول عدوّ لنا ، فاعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه ، ثم قال : أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله. ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فانه واللّه لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، ثم قال : أفتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص : فقلت نعم ، فبسط يده فبايعته على الاسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي ، وقد حال رأيي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي (1).

الوقاية من تكرار التجارب المرة :

تركت حادثة « الرجيع » المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل « عضل » و « القارة » من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا ومن دون رحمة ، بل وسلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول اللّه والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين ، وأحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم وأدت إلى توقف حركة الارشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل - بعد الأحزاب وبني قريظة - كل العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل ، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الاسلامي.

ص: 299


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 276 و 277.

فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة « ابن أمّ مكتوم » في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يظهر لأحد ما يقصده ، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب « بني لحيان » على غفلة منهم ، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب وهي منازل بني لحيان ، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه ، وتمنعوا في رءوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا ، وجبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا ، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية ، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء اللّه القريب منهم والبعيد ولتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم ، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة وقد قال من قبل :

« لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة ».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ( وهو موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال ). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة (1).

هذا وكان جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة :

« ... أعوذ باللّه من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال » (2).

غزوة ذي قرد :

لم يقم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة بعد عودته من الغزوة

ص: 300


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 279 و 280.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 254 ، المغازي : ج 2 ص 535 ، إمتاع الاسماع : ج 1 ص 259 و 260.

السابقة إلاّ ليالي قلائل حتى أغار « عيينة من حصن الفزاري » بمساعدة بني غطفان ، على إبل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة ( وهي موضع قرب المدينة من ناحية الشام ) كانت مرعى أهل المدينة ، وكان فيها آنذاك رجل من بني غفار ، وامرأة مسلمة له ، فقتلوا الرجل ، وأخذوا معهم المرأة والإبل.

وكان أول من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه وقوسه ونبله ، يريد الصيد ، حتى إذا علا « ثنية الوداع » نظر إلى بعض خيول المغيرين ، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثا ومستنجدا : وا صباحاه ،

ثم خرج يشتد في آثار القوم ( المغيرين ) فجعل يردّهم بالنبل ، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أول من سمع صراخ ابن الاكوع واستغاثاته ، فصرخ صلی اللّه علیه و آله هو مستغيثا : الفزع ، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم « سعد بن زيد الاشهليّ » وقال له :

« اخرج في طلب القوم ، حتى الحقك في الناس ».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم ، وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ورائهم ، حتى أدركوا القوم في ذي قرد ، فوقع بين المسلمين ، وبين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان ، ومن المعتدين ثلاثة ، واستنقذت المرأة ، وبعض الابل المسروقة ، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان ، فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المنطقة يوما وليلة ، تخويفا للعدوّ ، ولم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم ، واستنقاذ بقية السرح ( الابل ).

ص: 301

ثم رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قافلا حتى قدم المدينة (1) وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة (2).

النذر غير المشروع

واقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قدمت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبرته بما جرى ثم قالت : يا رسول اللّه إني قد نذرت إن نجّاني اللّه على هذه الناقة ، أن أنحرها فآكل كبدها وسنامها.

فتبسم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال :

« بئس ما جزيتيها أن حملك اللّه عليها ونجاك ثم تنحرينها ، انه لا نذر في معصية ، ولا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه » (3).

وبذلك بيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حكما في مجال النذر ، وهو أن النذر لا يصح في مال الغير ، فلا نذر إلاّ في ملك.

والقصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولطفه بأصحابه واتباعه ، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف ، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

ص: 302


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 255 ، المغازي : ج 2 ص 537 و 549.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 260 و 261.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 381 - 289 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 133 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 263 قال صاحب الامتاع : وكانت الناقة هي القصواء ، والقصواء اسم ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

حوادث السنة السادسة من الهجرة

اشارة

40

تمرّد بني المصطلق

اشارة

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر ، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية ، ومن دون خوف ، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي كان يتواجد فيها القبائل المشركة ، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

واذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم ، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يقدم على شراء الاسلحة ، وبعث السرايا ، والمجموعات العسكرية ، ولكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية ، ومجموعات الارشاد والدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة ، والاذى ، بل والاغتيال من قبل العدو ، لذلك كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مضطرا بحكم العقل والفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله تتلخص في إحدى الامور التالية :

1 - الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة ، مثل معركة « بدر » و « احد » و

ص: 303

« الخندق ».

2 - تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين ، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية ، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم ، وتتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث ( بني قينقاع ، بني النضير ، بني قريظة ) وبني لحيان.

3 - افشال واحباط المؤامرات ، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال والاسلحة غزو المدينة ، واكتساح عاصمة الاسلام ، واستئصال المسلمين ، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المصطلق :

كان بنو المصطلق من قبائل « خزاعة » المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة ، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها ، فقرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو : « بريدة » إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم ، فذهب بريدة ، ودخل فيهم وتحادث - في هيئة متنكرة - مع رئيسهم وعرف بنيته ، ثم عاد إلى المدينة واخبر رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بما رآه وسمعه ، وأن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى « المريسيع » ، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين ، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

ص: 304

لا يطول القتال بين المسلمين وبين « بني المصطلق » فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال ، كما وقتل رجل مسلم خطأ ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق (1).

هذا وان النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حوادث هذه الغزوة ، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين والأنصار ، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهو سهم لو لا تدبير النبي صلی اللّه علیه و آله وحكمته ، الرشيدة التي أنهت كل شيء ، وابقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم « جهجاه بن مسعود » وهو من المهاجرين و « سنان بن وبر الجهني » وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني - مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين - : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، وكاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة ، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام ومركزه ، ويتعرض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار ، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك قال :

« دعوها فإنها منتنة » (2).

أي أن هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلاّ من دعوى

ص: 305


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 260 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 195 و 196.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 290 ( الهامش ).

الجاهلية ، وقد جعل اللّه المؤمنين إخوة وحزبا واحدا ، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ، وإلاّ كانت جاهلية ، لا قيمة لها في الإسلام (1).

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها ، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف :

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فكيف الفريقان ( القبيلتان ) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلاّ أن « عبد اللّه بن ابي » رئيس حزب المنافقين بالمدينة ، والذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة ، أظهر - في هذه الحادثة - حقده ، وضغينته على الإسلام ، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم ، لقد نافرونا ( أي المهاجرين ) وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ويقصد بالأذل المهاجرين )!!!

فتركت كلمات « ابن ابي » أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية ، أثرها في نفوسهم ، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة ، والاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين - أنصارا ومهاجرين - بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

ص: 306


1- راجع هوامش السيرة النبوية : ج 2 ص 290.

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة رد على « ابن ابي » بكلمات قوية شجاعة اذ قال : أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، واللّه لا احبّك بعد هذا أبدا.

ثم نهض ومشى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره الخبر ، فرده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث مرات حفظا للظاهر ، قائلا : لعلّك وهمت يا غلام ، لعلّك غضبت عليه ، لعلّه سفّه عليك.

ولكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مقالة المنافق الخبيث « عبد اللّه بن ابي » ، وتحريكه للناس ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقتل « ابن ابي » قائلا : مر به عبّاد بن بشر فليقتله (1).

ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أجاب عمر بقوله :

« فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه ، لا » (2).

ولقد مشى « عبد اللّه بن ابي » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين بلغه أنّ « زيد بن الارقم » قد بلّغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما سمع منه ، فحلف

ص: 307


1- تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة وبسالة ، بل كان في صف المتقاعدين دائما. ولكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتله ونذكر للمثال ما يلي : أ - هذا المورد الذي طلب فيه من رسول اللّه أن يُقتل ابن أبي. ب- طلبه من النبي بأن يُقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة. ج - طلبه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبي صلى اللّه عليه وآله إلى خيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قبيل فتح مكة، وغير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 202.

باللّه : ما قلت ما قال ، وقال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي : يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الامر لم ينته إلى هذا ، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا ، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلی اللّه علیه و آله يرتحل فيها عادة.

فجاءه « اسيد بن حضير » ، وقال : يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل »؟

فقال اسيد : فأنت واللّه يا رسول اللّه تخرجه إن شئت ، هو واللّه الذليل ، وأنت العزيز ، ارفق به يا رسول اللّه ، فو اللّه لقد جاء اللّه بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، وأنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالرحيل فارتحل الناس ، وسار بهم النبي صلی اللّه علیه و آله يومهم ذاك حتى أمسى ، وليلتهم تلك حتى أصبح ، من دون أن يسمح لهم بالنزول والاستراحة ، إلاّ للصلاة ، وسار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس وسلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة ، فنزل الناس ، ولم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب ، وقد نسوا كل شيء من تلك الذكريات المرّة ، وكان هذا هو ما يريده النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

ص: 308

« عبد اللّه بن ابي » المنافق المفتّن (1)

صراع بين الايمان والعاطفة :

كان عبد اللّه ابن « عبد اللّه بن ابي » من فتيان الإسلام الشجعان ، ومن فرسانه البواسل ، وكان - كما تقتضيه تعاليم الإسلام - يبر بأبيه المنافق أكثر من غيره ، ولكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وظن أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيقتل أباه جاء الى النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه انه قد بلغني أنك تريد قتل « عبد اللّه بن ابي » ، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه ، فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تامر به غيري ، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فاقتله ، فأقتل ( رجلا ) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

إن حديث هذا الفتى يعكس - في الحقيقة - أعظم تجليات الإيمان وآثاره في النفس ، والروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما هو بأمر اللّه تعالى ، ولكن ابن عبد اللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة والابوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه ، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين « ابن أبي » ، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان ، ومقتضى العاطفة.

ص: 309


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 261 و 262 ، مجمع البيان : ج 10 ص 292 - 295.

ولقد اختار عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع ، يضمن مصالح الإسلام من جهة ، ويحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

وهذا العمل وان كان شاقا مؤلما إلاّ أن قوة الايمان باللّه والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة والسكون.

ولكن النبي الرحيم صلی اللّه علیه و آله قال ردا على سؤال واقتراح عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي :

« بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا »!!!

وهذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومبلغ رحمته ، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق « عبد اللّه بن أبي » ، ولحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل ، وهوان ما وراءه هوان ، واحتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به ، ويقيم له وزنا.

لقد علّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا ، وأظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية ، والرشيدة.

فقد تحطم « عبد اللّه بن أبي » رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة ، ولم يعد له أي دور ، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه ، وعفو النبي صلی اللّه علیه و آله عنه ، واغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار ، وسقوط محله في القلوب :

« كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لارعدت له انف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ».

فقال عمر : قد واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة

ص: 310

من أمري (1).

الزواج المبارك :

كانت « جويرية » بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق ، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا »؟!

فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آمن هو ووالده به ، وأسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه ، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى رسول اللّه ودفعت إليه ابنته « جويرية » فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبيها ، فزوّجه اياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا : أصهار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى وكانوا مائة عائلة ، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها ، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

ص: 311


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 292 و 293 وفي السيرة الحلبية : ج 2 ص 291 : لأرغدت له أنوف ، وتعني هذه القولة النبوية الشريفة : ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد اللّه بن أبي لدافع عنه اناس حمية وعصبية ، ولكنه اليوم وبعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

المصطلق.

وهكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك ، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة ، وعادوا الى قبيلتهم (1).

الفاسق يفتضح :

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة ورغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلاّ حسن المعاملة والإحسان والعفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسل إليهم « وليد بن عقبة بن أبي معيط » لجباية زكاتهم ، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول اللّه مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله ، وأنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم ، فطلب المسلمون غزوهم ، وفي الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا : يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّا خرجنا إليه لنقتله وو اللّه ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق ، اذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » (2).

ص: 312


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 295 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 198 و 199.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 296 و 297.

41

قصة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبد اللّه بن ابي يواصل تجارته بالجواري ، والإماء ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن ، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة ، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا ، فشكين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت إحداهن : إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء : « وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » (1) (2).

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا ، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي (3) ، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين ، والمؤمنات ، وبغيا وحسدا.

ص: 313


1- النور : 33.
2- مجمع البيان : ج 4 ص 141 ، الدر المنثور : ج 5 ص 46.
3- اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا ، وستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض. إن ما يستفاد من الآيات والروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالاً أن إمرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها ، وأما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك مالا يمكن البت فيه، على وجه القطع واليقين.

حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة ، فان العدوّ المشرك والكافر يعمد دائما إلى إشفاء غيظه واطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والاوقات.

ولكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان ، ويتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه ، فان عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار ، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبد اللّه بن ابي.

ولقد ظهرت ذلّة « عبد اللّه بن ابي » رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق ، وقد منعه ابنه من دخول المدينة ، ولم يسمح له بدخولها إلاّ بوساطة من النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه ، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكف عنه ولده.

إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله ويذهب غيظه ، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات ، وترويجها واشاعتها ليستطيع من خلال ذلك ، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع ، وكذا بلبلة الرأي العام ، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين ، وابعاد الناس عنهم.

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب :

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة « الإفك » أن المنافقين اتهموا شخصا

ص: 314

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا ، تحقيقا لمآربهم الدنيئة ، واضرارا بالمجتمع الاسلاميّ ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قل نظيرها ، وأبطل خطتهم.

فمن هو - ترى - ذلك البريء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين ، فالاكثرون على أنها « عائشة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويرى الآخرون أنها « مارية » القبطية أم إبراهيم وزوجة رسول اللّه أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. وها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو : « عائشة » وتوضيح ما يصح وما لا يصح في هذا المجال :

دراسة القول الأوّل :

يرى المحدّثون والمفسرون من أهل السنة أن نزول آيات « الإفك » يرتبط بعائشة ، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله ثم نستعرض آيات الإفك ، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلی اللّه علیه و آله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى « عائشة » (1) نفسها ، فهي تقول : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل

ص: 315


1- راجع الدر المنثور : ج 5 ص 24 - 34.

الناس وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي ، فيه جزع ظفار ، ( أي خرز يمني ) فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدّوه على البعير ولم يشكّوا أني فيه ، ثم اخذوا رأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو اللّه إني لمضطجعة اذ مرّ بي صفوان السلمي ( وهو من فرسان الاسلام ) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنا متلففة في ثيابي. قال : ما خلّفك يرحمك اللّه. فما كلّمته ، ثم قرّب البعير فقال : اركبي ، واستأخر عنّي فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا يطلب الناس ، فو اللّه ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ؛ وارتعج العسكر ( أي شكوا فيّ ) وو اللّه ما اعلم بشيء من ذلك. حتى نزلت آيات « الإفك » تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات « الإفك » ، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وإليك الآيات التي نزلت في هذا المجال :

« إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

ص: 316

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ » (1).

أبرز النقاط في آيات « الإفك » :

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم ، وإليك هذه القرائن :

1 - يقال : إن المراد من قوله سبحانه : « وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ » هو « عبد اللّه بن ابي » رئيس المنافقين ، وكبيرهم.

2 - لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ : « عصبة » وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة ، التي يربطها هدف واحد وتحدوها غاية واحدة وتفيد أنهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلاّ المنافقون.

3 - ان « عبد اللّه بن ابي » بسبب منعه من الدخول إلى المدينة ، بقي عند مدخل المدينة ، فلمّا شاهد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشفاء لغيظه ، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة والبهتان ، وقال إن زوجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله باتت مع اجنبى في تلك الليلة وو اللّه ما نجا منهما من الإثم أحد.

ص: 317


1- النور : 11 - 16.

4 - إنه تعالى يقول في نفس الآية ( أي الحادية عشرة ) : « لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ».

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم ، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة ، مذكورة في محلها.

الزوائد في هذه القصة :
اشارة

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم ، ولا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا - نقلها عنه الآخرون في الاغلب - تعاني من إشكالين أساسيين هما :

1 - منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلی اللّه علیه و آله :

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها :

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ( أي مرضت ) ولا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلاّ أنّي قد أنكرت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعض لطفه بي ، وكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل عليّ وعندي امّي تمرضني قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني ، فقال : لا عليك ، فانتقلت إلى امّي ، فقلت لامّي : يغفر اللّه لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ، فقالت : أي بنيّة هوّني

ص: 318

عليك الشأن فو اللّه لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلاّ كثّرن ، وكثر الناس عليها. (1)

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شاور « اسامة بن زيد » في الامر ، فأثنى عليّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول اللّه أهلك ولا نعلم منهم إلاّ خيرا ، وهذا الكذب والباطل!!

وشاور عليّا فقال : يا رسول اللّه إن النساء لكثير ، وانّك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فانّها ستصدّقك ( إي جارية عائشة ) فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بريرة ليسألها ، فقالت : واللّه ما أعلم إلاّ خيرا ، وما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة ، وشاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية ، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم ، وحتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم ، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 14 من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى :

« لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ »؟!

ص: 319


1- صحيح البخاري : ج 6 تفسير سورة النور ص 102 و 103 وكذا الجزء 5 ص 118 السيرة النبوية : ج 2 ص 299

« وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »؟! (1).

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول : ان هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا ، والحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأن هذا الخطاب والتوبيخ موجّهين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله ورفض ما يتنافى معها.

2 - سعد بن معاذ توفي قبل حادثة « الإفك » :

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها : بعد أن سأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بريرة عن أمري ، فقالت فيّ خيرا وصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : « من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي ( أي من يؤدبه ) ويقولون لرجل ، واللّه ما علمت على ذلك الرجل إلاّ خيرا ، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلاّ معي ويقولون عليه غير الحق ».

فقام « سعد بن معاذ » وقال : أنا اعذرك منه يا رسول اللّه إن يك من الأوس آتك برأسه ، وإن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على « سعد بن عبادة » وغضب منه ، فقام وقال : كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على قتله (2).

ص: 320


1- أي لما ذا - عند ما سمعتم بهذا الافتراء - لم تظنوا بأنفسكم خيرا وقلتم : هذا إفك ، ولما ذا - عند ما سمعتم بهذا الكلام - لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.
2- كان « سعد بن معاذ » رئيس الاوس و « سعد بن عبادة » رئيس الخزرج ، وكانت بين هاتين القبيلتين منافسة قديمة ، وكان « عبد اللّه بن أبي » خزرجيا ، فاعتبر « سعد بن عبادة » كلام « سعد بن معاذ » تعريضا بالخزرج وحطا من شأنهم.

فقام اسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - وقال : كذبت واللّه لنقتلنّه وأنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين ، واللّه لو نعلم ما يهوى رسول اللّه من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكانه حتى آتيك برأسه ، ولكني لا أدري ما يهوى رسول اللّه.

ثم تغالظوا ، وقام آل الخزرج من جانب ، وآل الأوس من جانب آخر ، وكادوا أن يشتبكوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المنبر ، فأشار رسول اللّه إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا ، ونزل عن المنبر فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح ، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن « سعد بن معاذ » كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة « الاحزاب » ، وقد وقعت حادثة « الإفك » بعد واقعة بني قريظة ، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه ( ج 5 ص 113 ) في باب « معركة الاحزاب وبني قريظة » ، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟! (1)

لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة ، وقد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه (2) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

ص: 321


1- نفس المصدر السابق ، والجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته « سعد بن معاذ » ، ولكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 300 ، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج 2 ص 134 ، ولكن المغازي ذكر القصة كاملة ، واتى باسم سعد بن معاذ راجع : ج 2 ص 431.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 250.

من السنة السادسة (1).

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس ، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

وقد فسر قوله : « الّذي تولى كبره » أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد اللّه بن ابي ، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

الرواية الاخرى في سبب النزول :

وتقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في « مارية القبطيّة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ووالدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول : لما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حزن عليه حزنا شديدا ، فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا صلوات اللّه عليه وأمره بقتله ، فذهب علي صلوات اللّه عليه ومعه السيف ، وكان جريح القبطي في حائط ( أي بستان ) ، فضرب « علي » باب البستان ، فأقبل جريح له ليفتح الباب ، فلما رأى عليّا صلوات اللّه عليه ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان ، فوثب علي علیه السلام على الحائط ونزل إلى البستان ، وأتبعه ، وولّى جريح مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه ( أي يدركه ) صعد في نخلة وصعد « علي » في أثره ، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فانصرف عليّ علیه السلام إلى النبي صلی اللّه علیه و آله

ص: 322


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 297 ، ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه ، راجع شروح البخاري منها : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر : ج 8 ص 471 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

فقال له : يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال : لا بل تثبت.

قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء.

فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

وهذه الرواية التي نقلها « المحدث البحراني » في « تفسير البرهان » ج 2 ص 126 - 127 و « الحويزي » في تفسير « نور الثقلين » ج 3 ص 581 - 582 ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد ، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان ولذلك.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة ، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

ص: 323

42

رحلة سياسيّة دينيّة

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة والحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المنام أنه دخل البيت ( الكعبة ) وحلق رأسه ، وأخذ مفتاح البيت ، وعرّف مع المعرفين ، فقصّ صلی اللّه علیه و آله هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل به خيرا (1).

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة ، ودعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها وكفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة ، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي - مضافا إلى العطاء الروحاني والمعنوي - على مصالح اجتماعية وأهداف سياسية ، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، وتسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك ، وذلك :

أولا : لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله يخالف كل عقائد العرب ، وتقاليدهم الشعبية ، والدينية حتى فريضة الحج ، والعمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

ص: 324


1- مجمع البيان : ج 9 ص 126.

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويتوجسون خيفة من دينه ، وعقيدته ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استطاع في هذه المناسبة - باشتراكه ، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير ، وأن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت اللّه الحرام ، والفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية ، وتقاليدهم المذهبية ، بل يعتبرها فريضة مقدسة ، فهو مثل والد العرب الاكبر « إسماعيل بن إبراهيم الخليل » علیهماالسلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية ، وبهذا استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة « محمّد » ودعوته ، ودينه يعارض جميع شئونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية ، والشعبية ، ويخالفها مخالفة مطلقة ، ويقلّل من خوفهم ، واستيحاشهم.

ثانيا : إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا ، ويؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية ، أمام أعين الآلاف من المشركين ، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام ، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة ، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة ، وأخلاقهم الفاضلة ، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم ، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتى ذلك الحين ، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ثالثا : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم وقال صلی اللّه علیه و آله : وأمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلاّ السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

ولقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين ، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام ، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرّم القتال في هذه الاشهر ، ويدافع بنفسه عن

ص: 325

هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر ، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح ، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم ، وأهليهم ، أن يزوروا ذويهم وأقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض - حينئذ - لخطر السقوط في العالم العربي ، وسيلومهم العرب على ذلك ، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة ، وزيارة الكعبة المعظمة ، ولا تحمل معها أيّ سلاح إلاّ ما يحمله المسافر في سفره عادة ، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة ، وانما تقوم قريش بمجرّد سدانته ، وادارة شئونه.

وهنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح ، ويتضح عدوان قريش وينكشف للجميع بطلان مواقفها ، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام ، وعقد تحالفات عسكرية واتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّ هذه الجوانب وغيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة ، وأحرم الف واربعمائه (1) أو الف وستمائة (2) أو الف وثمانمائة (3) في « ذي الحليفة » وقلّد سبعين بدنة ( بعيرا ) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

ص: 326


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 309.
2- مجمع البيان : ج 2 ص 288.
3- روضة الكافي : ص 322.

ولقد أرسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولما كان رسول اللّه بعسفان ( وهي منطقة بين الجحفة ومكة ) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فعاهدوا اللّه أن لا تدخلها أبدا وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم ( وكانوا مائتين ) قد قدّموها الى كراع الغميم. ( وهي موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال ).

فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعزم قريش على منعه ومنع اصحابه من العمرة قال :

« يا ويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظنّ قريش ، فو اللّه لا أزال اجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه به ، أو تنفرد هذه السالفة (1) ( أي أقتل أو أموت ).

ثم طلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة « خالد بن الوليد ».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية ، فبركت هناك ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال صلی اللّه علیه و آله : « ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل بمكة » (2).

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

ص: 327


1- السالفة : صفحة العنق ، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الاّ بالموت.
2- بحار الانوار : ج 20 ص 329 وغيره. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

ولما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لحقت به ، حتى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبيّ صلی اللّه علیه و آله اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش ، فيسفك دماءهم ، ويعبر على أجسادهم ، وحينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال ، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبي صلی اللّه علیه و آله ويضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه ، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة ، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك - إلاّ ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح ، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا ، وحكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عند ما نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المنطقة قال :

« لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها » (1).

ولقد بلغ كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا مسامع الناس ، وكان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا ، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

مندوبو قريش عند النبي صلی اللّه علیه و آله :

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتعرفوا على مقصده وهدفه في هذا السفر.

وكان أول أولئك المبعوثين هو : « بديل بن ورقاء الخزاعي » الذي أتى

ص: 328


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 270 - 272.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش وسألوه : ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« إنّا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنّا جئنا معتمرين ».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يات لقتال وإنما جاء معتمرا زائرا لبيت اللّه ، ولكن قريشا لم يصدقوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

ثم بعثوا « مكرز بن حفص » فسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله ما سمعه سابقه ، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشا به ، ولكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة (1) وكبير رماة العرب ، لحسم الموقف ، فلما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مقبلا قال :

« إن هذا من قوم يتألّهون ( أي يعظمون أمر اللّه ) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ».

فلما رأى الحليس ، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعظاما لما رأى ، فقال لهم : يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا الّذي عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت اللّه من جاء معظما له وقد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟! ، والذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له ، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوة واستخدام العنف معه لصده ، وقد لاحظ بأم عينيه ان النبي صلی اللّه علیه و آله والمسلمين لا يريدون إلاّ العمرة والزيارة لا القتال

ص: 329


1- لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه : ج 2 ص 276.

والحرب ، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته ، فقالوا : مه ، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثمّ بعثوا أخيرا « عروة بن مسعود الثقفي » وكان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته وحكمته وخيره وكان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين ، ولكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول ، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به ، وبما سيخبر به ، وبأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجلس بين يديه ثم قال : يا محمّد جمعت أو شاب الناس ( أي أخلاطهم ) ثم جئت بهم إلى أهلك وقبيلتك ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم اللّه لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ، ( أو قال : أن يفرّوا عنك ويدعوك ).

وعند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر وكان جالسا خلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنحن ننكشف عنه ، وندعه؟

لقد كان « عروة » كأيّ دبلوماسيّ ماكر ، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكلامه ، وروغانه.

وأخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل « عروة » يتناول لحية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ازدراء به صلی اللّه علیه و آله ، والمغيرة بن شعبة - وكان واقفا على رأس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - يقرع يده إذا تناول لحية النبي صلی اللّه علیه و آله ويقول اكفف يدك عن وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة : يا محمّد من هذا؟ فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ( ويبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية ).

ص: 330

فغضب عروة وقال : « أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلاّ بالأمس » وكان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبديل ورفيقيه ، وأنه لم يات يريد حربا ، بل جاء يريد العمرة ، ولاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه ، قام صلی اللّه علیه و آله وتوضأ أمامه ، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلاّ وتسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه ، فرجع إلى قريش وقال لهم : يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنّي واللّه ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم (1).

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش :

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش ، وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش ، وإسماعهم الحقيقة ، وأن اتهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به ، ولهذا قرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر ، وأنه ليس إلاّ زيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى « خراش بن اميّة » فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له « الثعلب ». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

ص: 331


1- المغازي : ج 2 ص 598 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 287.

الزيارة والعمرة ، فدخل مكة ، وبلّغ سادة قريش رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن قريشا - خلافا لكل الأعراف الدولية والاجتماعية قديما وحديثا. والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي امتطاه سفير النبي صلی اللّه علیه و آله إلى مكة فعقروه عدوانا ، وكادوا أن يقتلوا سفير النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه ، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

إن هذا العمل الدنيء أثبت - بوضوح - أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغية أخذ شيء من أمواله ، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك ، ارعابا للمسلمين وتخويفا لهم. ولكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا ، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا وأتى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل.

وبهذا ثبت رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مرة اخرى أنه يحب السلام ويسعى إليه ، وانه جاء معتمرا لا معتديا ولا محاربا (1).

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش :

رغم كل هذه الامور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام والمسلمين وضد محاولات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السلميّة لم ييأس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تحقيق السلام

ص: 332


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 278.

فقد كان يريد - واقعا - أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات ، ومن طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش وسادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول اللّه ودعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلی اللّه علیه و آله رجلا لم تخض يده في دماء قريش ، ولهذا لم يصلح « علي بن أبي طالب » ولا « الزبير » ولا غير هم من فرسان الاسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقا منهم صرعى ، لمثل هذه السفارة ، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر - بعد التأمل. انتداب « عمر بن الخطاب » لهذه المهمة ، أي الذهاب الى مكة ، والتحدث الى سادة قريش ، ورؤسائها ، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم ولا قطرة دم ، ولكن « عمر » اعتذر عن تحمل هذه المسئولية ، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ ( وهم عشيرته ) من يمنعني ، ولكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني ، « عثمان بن عفان ». ( لكونه أمويا بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة ) (1).

فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عثمان بن عفان » فبعثه إلى « أبي سفيان » وأشراف قريش ، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه انما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.

فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه « أبان بن سعيد بن العاص » حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانطلق « عثمان » حتى أتى أبا سفيان وأشراف قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ،

ص: 333


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 315.

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها ، ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رأيهم.

بيعة الرضوان :

إلاّ أن إبطاء مبعوث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين ، خاصّة وأنه شاع أن عثمان قد قتل ، فثارت ثائرة المسلمين ، واستعدّوا للانتقام من قريش وعمد النبي صلی اللّه علیه و آله أيضا إلى مخاطبتهم قائلا :

« لا نبرح حتى نناجز القوم ».

وذلك تقوية لارادة المسلمين ، وتحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة ، وفي ما كان الخطر على الابواب ، وبينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحت شجرة ، وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحدا واحدا ، ويحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا ، وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة « الرضوان » التي جاء ذكرها في قوله تعالى :

« لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » (1).

فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة ، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت اللّه المعظّم ، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

ص: 334


1- الفتح : 18.

القتال والحرب (1).

وبينما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الحال اذ طلع عليهم « عثمان بن عفان » ، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فأخبر عثمان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الذي يمنع قريشا من السماح لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام وانهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه :

بعثت قريش - في المرة الخامسة - « سهيل بن عمرو » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل « سهيل بن عمرو » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما رآه النبي صلی اللّه علیه و آله قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى « سهيل » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع ، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبي صلی اللّه علیه و آله وأحاسيسه :

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا ومتى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف ، وإنا لنذكّرك الحرم ، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فما تريد »؟

ص: 335


1- ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو ، يقول الواقدي : فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية ( ج 2 ص 604 ). وراجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 291 أيضا.

قال : اريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل (1) فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب.

فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات « سهيل » مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدد « سهيل » في شروط هذا الصلح كثيرا ، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا ، ولكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة ، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة اخرى ، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيرا انتهت مفاوضات الجانبين - رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب - الى عقد وثيقة موادعة وهدنة نظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرخين وأرباب السير أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استدعى عليّا علیه السلام ، وامره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له : اكتب « بسم اللّه الرحمن الرحيم » فكتب « عليّ » ذلك فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن أكتب : باسمك اللّهم!!

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب : باسمك اللّهم وامح ما كتبت.

ففعل « علي » ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أكتب « هذا ما صالح عليه رسول اللّه سهيل بن عمرو ».

فقال سهيل ، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم واكتب : محمّد بن عبد اللّه ( أو قال : لو شهدت انك رسول اللّه لم اقاتلك.

ص: 336


1- أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

ولكن أكتب اسمك واسم ابيك ).

ولم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمطالب « سهيل » الى هذه الدرجة ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب « سهيل » ، وقال لعليّ علیه السلام : امحها يا عليّ.

فقال عليّ علیه السلام بأدب بالغ : يا رسول اللّه إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فضع يدي عليها ، فمحى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده كلمة : رسول اللّه نزولا عند رغبة « سهيل » مفاوض قريش (1).

ان التسامح الذي أبداه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله ، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقع فريسة بيد الاهواء والاغراض الشخصية والعواطف والاحاسيس العابرة ، وكان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو ، من هنا تسامح مع مفاوض قريش « سهيل » الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا ، حفاظا على أصل الصلح. وحرصا على السلام. التاريخ يعيد نفسه :

ولقد ابتلي علي علیه السلام تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

ص: 337


1- الارشاد : ص 60 ، اعلام الورى : 106 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 368 وقد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال : في احدى رواياته لهذه الحادثة : قال لعلى علیه السلام : امح « رسول اللّه » ، قال : لا واللّه لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وليس يحسن يكتب فكتب مكان « رسول اللّه » : محمّد. و هكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة، وقد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن 319-374.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فيوم امتنع علي علیه السلام عن محو كلمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن اسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد » (1)

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ علیه السلام ، حتى إذا كان يوم « صفين » وخدع أصحاب الامام عليّ علیه السلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّا علیه السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص ، وأجبروا الامام علیه السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح ، كلّف « عبيد اللّه بن رافع » كاتب الامام من جانب الامام عليّ علیه السلام بأن يكتب وثيقة الصلح ، فكتب :

« هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي » قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات : لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع ، ولم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه ، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب ، ولكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب « أمير المؤمنين » من اسمه ثم قال : « اللّه اكبر سنة بسنة ».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له يوم الحديبية (2).

ص: 338


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 138 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 353.
2- الكامل في التاريخ : ج 3 ص 162 ، راجع المصدر لتقف على القصة بكاملها ولتقف على ما دار بين الامام وابن العاص.
نصّ صلح الحديبية :

وأخيرا عقدت اتّفاقية صلح وهدنة بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقريش تضمنت المواد والشروط التالية :

1 - تعهّد المسلمون ، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

2 - من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

3 - من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده ( أي يتحالف معه ) دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4 - انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا ولا يدخل مكة ، وانما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام ، لا يدخل فيها بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب (1).

5 - أن لا يستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون اللّه بمكة علانية وبحرية ، وان يكون الاسلام ظاهرا بمكة وان لا يؤذي أحد ولا يعيّر (2).

6 - لا إسلال ( سرقة ) ولا إغلال ( خيانة ) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر ، فلا يخونه ولا يسرق منه (3).

7 - أن لا تعين قريش على محمّد وأصحابه أحدا بنفس ولا سلاح (4).

هذا هو نص وثيقة « صلح الحديبية » ، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

ص: 339


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 21.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 352.
3- مجمع البيان : ج 9 ص 117 أو : « من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله ».
4- بحار الأنوار : ج 20 ص 352.

التي أشرنا الى بعضها في الهامش ، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين ، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش ، والمسلمين وشهدوا عليها واعطيت نسخة الى « سهيل بن عمرو » ممثل قريش ، وتركت نسخة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

نشيد الحرية :

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ ، ومع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والاكبار ، إلاّ أن النقطة التي تستحق الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح ، وهي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله من هذا التمييز الصارخ ، وقالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان ينبغي أن لا يقولوه ، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام ، وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام ، وإشاعته ونشره ، فانه يظهر منها - وبجلاء - مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

ولقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين إلى قريش ، دون العكس قائلا :

« من جاءهم منّا فأبعده اللّه ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم اللّه الاسلام من قلبه جعل له مخرجا ».

وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه ، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ

ص: 340

لا اكراه في الدين وأما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم اللّه منه الصدق لنجاه حتما.

ولقد كانت نظرية النبي صلی اللّه علیه و آله ورأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم ، وقد تجلت صوابيته وحقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد ، لانه لم يمض زمن طويل إلاّ وقريش - وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة - طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف ، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم وبقاعه ، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها ، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة ، وقالوا : ان الاسلام انتشر بالقوة ، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام ، ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف ، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين وغير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام وحقيقة تعاليمه السامية ، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة ، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة - مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق ، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة - وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح :

كانت مقدمات الميثاق المذكور ، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين ، فلو أن رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله قبل بامحاء كلمة « رسول اللّه » من اسمه ، وبدأ الميثاق بعبارة « باسمك اللّهم » على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

ص: 341

الصلح ، واقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين ، ويعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش وتعنته ، ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان يرضخ لهذا الشرط ( استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط ومعارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش ، وحفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين ) لتعطّلت عملية السلام ، ولما تحقق الصلح ، ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كل الضغوط من جهة ، وتحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى ، ليصل الى المقصد الأعلى والهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة ، لكان « سهيل » يتسبب - بسبب تصلبه الارعن - في اشتعال نائرة الحرب.

والقصّة التالية تشهد بما نقول :

حينما انتهت مفاوضات السلام ، وبينما كان الامام علي علیه السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله وهو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك ، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل ( المفاوض ) مدة طويلة.

ولم يكن لابي جندل من ذنب إلاّ أنه اختار التوحيد عقيدة ، والاسلام دينا ، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبا شديدا فحبسه أبوه.

ص: 342

وكان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه ، فهرب من محبسه وانفلت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب ، والوديان.

فلما رأى « سهيل » ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه ، ولجأ إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قام إليه فضرب وجهه ، واخذ بتلابيبه ثم قال : يا محمّد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

ولا شك أن كلام « سهيل » كان باطلا ، ولا مبرر لطلبه ، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق ، ولم يوقع عليه الطرفان ، ولم ينته - بالتالي - من مراحله النهائية والأخيرة بعد ، فكيف يمكن الاستناد إليه ، ولهذا أجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا :

« إنا لم نرض ( نقض ) بالكتاب بعد » (1)

فقال سهيل : إذا واللّه لا اصالحك على شيء أبدا ، حتى ترده إليّ ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز وحويطب من تصلب سهيل وتشدده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا : نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع ، والجدال ، ولكن إصرار سهيل على موقفه ، أبطل تدبيرهما اذ قال : يا محمّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل ان ياتيك هذا (2).

فاضطرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام ، ولهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده ، لإعادته الى مكة ، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره :

ص: 343


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 334.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 21 لجّت : وجبت وتمت.

« يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فان اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد اللّه ، وإنا لا نغدر بهم ».

وانتهت جلسة المفاوضات ، وتمّ التوقيع على نسختي الميثاق ، وعاد سهيل ورفاقه إلى مكة ، ومعهم « أبو جندل » ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب ، ونحر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان معه من الهدي (1) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا (2).

تقييم عاجل لصلح الحديبية :

بعد أن فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عقد صلح الحديبية بينه وبين رءوس الشرك ، وبعد أن توقف في أرض الحديبية مدة 19 يوما عاد هو وأصحابه الى المدينة ، وعاد المشركون إلى مكة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته ، بين أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام ، وقليل منهم كان يعدّه مضرا بمصلحة الاسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية وتجرد ، ونستعرض طرفا من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية ، ونتائجها.

ان الذي نراه هو : ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة ، وانه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا ،

ص: 344


1- أي الابل التي ساقها معه.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 281 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 353 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 318. امتاع الاسماع : ج 1 ص 394 و 395.

لا شك فيه ، وإليك أدلة هذا الرأي :

1 - إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين ، والتحريكات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها في حوادث « احد » و « الاحزاب » على نحو الاختصار ، لم تترك للنبي صلی اللّه علیه و آله فرصة لنشر الاسلام بين القبائل ، وفي المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلی اللّه علیه و آله يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب ، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة ، فقد كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحديبية ألف وأربعمائة ولكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف ، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة ، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب ، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية ، وأعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل ، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الاسلام.

2 - إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الاسلام ، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم ، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

ولقد أثار نظم المسلمين ، واخلاصهم ، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين ، في أوقات الصلاة خاصة ، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة ، وخطب رسول اللّه

ص: 345

صلی اللّه علیه و آله الرائعة ، واللذيذة ، وآيات القرآن الكريم البليغة ، والسهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة وشتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة ، والاتصال بذويهم وأقاربهم ، والتحدث معهم في أمر الاسلام وتعاليمه المقدسة المحبّبة ، وقوانينه وآدابه الرائعة ، وما جاء به من حلال وحرام.

وقد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين ، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة ، وأن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام ، والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكة ، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكة ، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

3 - إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحديبية ، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأن أخلاق النبي الرفيعة ، وحلمه وصبره أمام تعنت قادة المشركين وتصلبهم وعتوهم ، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام ، أثبت لهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنه صلی اللّه علیه و آله قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة ، وناله منهم أذى كثير ، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف ، والحب والحنان على الناس.

ص: 346

لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنه صلی اللّه علیه و آله خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه ، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام ، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه ، ورغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومواقفه وخلقه ، وأفكاره واثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام ، وداعية خير للبشرية ، وأنه حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية ، لما عامل أعداءه الاّ بالحسنى واللطف ، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول :

« وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » (1).

ومع ذلك أبدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تسامحا كبيرا ، وأعلن عن عطفه ، وحنانه للمجتمع العربيّ ، وبذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه ، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال :

« وما كان قضية أعظم بركة منها » (2).

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات ، كما تنقل ردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليها ، ويمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

ص: 347


1- الفتح : 22.
2- الكافي : ج 8 ص 326.

لابن هشام ، وامتاع الاسماع وغيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » (1).

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة :

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية ، وهي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله وأثارت سخطهم ، وقبل بها رسول اللّه تحت إصرار من « سهيل » ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول : على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة ، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة ، إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد أثارت هذه المادة - المجحفة في الظاهر - سخط البعض واعتراضهم ، ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله قال لابي جندل في وقته :

« إنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ».

ثم إن مسلما آخر يدعى « أبو بصير » كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل الى المدينة ، وقد وصلها سعيا على قدميه ، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما : « أزهر » و « الأخنس » كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

ص: 348


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 263 نقلا عنن اعلام الورى ، وزاد المعاد في هدى خير العباد : ج 2 ص 126.

ويذكّر انه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه ، فدفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « أبا بصير » إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا :

« يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ( أي من العهد ) ولا تصلح لنا في ديننا الغدر وإن اللّه جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا » (1).

فقال أبو بصير : يا رسول اللّه تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثانية :

« انطلق يا أبا بصير ، فان اللّه سيجعل لك مخرجا ».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة ( وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة ) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه ، ووضع زاده الذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصدّيق : ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري : ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أصارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير ، فجرّد أبو بصير السيف وقتل به العامريّ في اللحظة ، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا ، وسبق أبا بصير الى المدينة ، وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى لسيّده العامريّ ، فبينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير ، فدخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد وقال : وفت ذمّتك ، وأدّى اللّه عنك ، وقد أسلمتني بيد العدوّ ، وقد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وغادر المدينة ، ونزل ناحية على ساحل البحر ، على طريق قافلة قريش

ص: 349


1- المغازي : ج 2 ص 625.

إلى الشام ، تسمى « العيص ».

وعرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر ، ففرّ منهم سبعون رجلا ، وانضمّوا إلى أبي بصير وكانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب والعنت ، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها ، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش ، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يطلبون منه إلغاء هذه المادة ( أي المادة الثانية ). بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها ، واعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على إلغاء تلك المادة ، وطلب من المسلمين في منطقة « العيص » القدوم الى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين ، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن ، وحبسه في القيد ، وان تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه ، لأنه سيفرّ ذات يوم وهو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش :

بعد أن تم الاتفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت « أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط » في تلك المدة ، فخرج أخواها « عمارة » و « الوليد » ابنا عقبة حتى قدما على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال لهما :

« إن اللّه نقض العهد في النساء » (1).

ص: 350


1- المغازي : ج 2 ص 631 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 323.

وقد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا » (1).

كانت هذه قصّة « الحديبية » ، وقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ظلّ الهدوء والأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه ، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم ، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

ص: 351


1- الممتحنة : 10.

حوادث السنة السابعة من الهجرة

اشارة

43

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله من ناحية الجنوب ( أي مكة ) ، وقد آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولبّى دعوته في ظل الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. ورجالها البارزين.

واغتنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل ، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة ، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه ، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد ، وفي اطار التعاليم الاخلاقية والانسانية كل البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد 19 عاما من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت ، ولكن الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام وكيان المسلمين.

ص: 352

إن الرسائل التي وجّهها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الامراء والسلاطين ، وإلى رؤساء القبائل ، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ ، والارشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص 185 (1) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم ، إلى الإسلام ، أو كتبه التي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلی اللّه علیه و آله التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة وقد جمعها ، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان ، لا على السيف والقهر وعلى الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمن جانب قريش وحلفائها ، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق ارسال الرسائل ، أو بعث المبلغين والدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

إن نصوص هذه الرسائل ، والاشارات الموجودة في خلالها ، ونصائحه التي كان يوجّهها صلی اللّه علیه و آله إلى الناس ، والتسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات وإبرام المعاهدات مع الاجانب ، تشكّل برمتها شواهد قاطعة ، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

ص: 353


1- لقد اجتهد علماء الاسلام في جمع واحصاء رسائل النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله وكتبه قدر المستطاع ، وإن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما : أ - الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمد حميد اللّه حيدرآبادي، الاستاذ بجامعة باريس. ب - مكاتيب الرسول تأليف العلامة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدي. والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية وتاريخيه وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

المشرق ، بكيل الاتهامات الباطلة له ، والزعم بأن تقدّم الاسلام وانتشاره كان بفعل القهر ، وبقوة السيف ، وتحت عامل الفرض والاجبار واننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

الرسالة المحمّدية كانت عالمية :

الرسالة المحمّدية كانت عالمية : (1)

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك والترديد ، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء ، وفي مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو « السير ويليم موير » الذي يقول : إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد ، وأن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب ، ولم يكن « محمّد » يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز ، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد - بجلاء - بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال : انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

ونحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام ، وأن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية ، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

ص: 354


1- هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما : أ- عالمية الرسالة المحمدية. ب - خاتمية الرسالة المحمدية. و في الأولى تعالج مسألة عالمية رسالة النبي محمد، وعدم عالميتها وانه صلى اللّه عليه وآله هل كان مبعوثاً لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، وللنّاس كافة، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلى اللّه عليه وآله هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول البعض ان دينه كان عالمياً إلا أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة أخرى. من هنا لابد من البحث - في النبوة الخاصة - حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.
آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية :

1 - « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً » (1).

2 - « وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ »(2) .

3 - « لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا »(3) .

4 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ »(4) .

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي : كيف تقول - مع هذه الدعوة العالمية - أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر وتبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول اللّه ومبعوثيه الى المناطق النائية ، والبلاد البعيدة ، وإلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله وخاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

والعجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا : ان محمّدا لم يكن

ص: 355


1- سبأ : 28.
2- القلم : 52.
3- يس : 70.
4- التوبة : 33.

يعرف غير الحجاز ، في حين أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين ، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا ( هو الاسكندر المقدوني ) كان يريد أن يسيطر على العالم ، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب والدهشة ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام - وبأمر اللّه - الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك وبوقاحة ، واعتبروه أمرا محالا.

رسل الاسلام الى المناطق النائية :

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال :

« أيها الناس ان اللّه قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم ».

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال :

« دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم واما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية ، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران ، والروم ، والحبشة ، ومصر واليمامة ، والبحرين ، والحيرة ، ( الاردن ) وسوف نقرأ معا

ص: 356

مفصل ما احتوته رسائله صلی اللّه علیه و آله (1).

وعند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يا رسول اللّه : إن الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما ، فاتخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ خاتما من فضة ، فصّه منه ، نقشه ثلاثة أسطر : محمّد رسول اللّه ، في الاعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف ، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية ، والحفاظ عليها من التزوير (2).

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية :

كانت الامبراطوريتان ( الرومية والفارسية ) تقتسمان آنذاك قيادة العالم ، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق ، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين ، واستمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني ، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي لأن « تئودوز الكبير » امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه ، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي وبرابرة شمال اوربا ، ولكن

ص: 357


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 606 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 264 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 241 - 242 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 382.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 240 و 241.

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك « القسطنطنية » وكانت تسيطر على الشام ومصر ، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (1453) على يد السلطان محمّد الثاني « محمّد الفاتح » ، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية ، واضمحلّت نهائيا.

وقد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوتين العظيمتين ، ولكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة ، وكان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري والقفار ، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى ، فقد كانت النخوة والظلم ، والحروب التي اتسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب - كان بعيدا عن روح الحضارة والمدنية - من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم ، بفضل ما أوتوا من ايمان ، وإنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها بنور الإسلام المشرق ، ولو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر ، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم ، ويقلب كل شيء رأسا على عقب.

رسول النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الروم :

كان قيصر الرّوم قد عاهد اللّه إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس من عاصمته : « القسطنطنية » مشيا على القدم للزيارة ، شكرا لله ، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران ، وسار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف « دحية الكلبي » بإيصال كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى قيصر ، وكان دحية قد سافر مرارا الى الشام ، وكان عارفا بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة ، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة ، ولهذا كان جديرا بتحمل هذه

ص: 358

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

وقد توجّه إلى « القسطنطنية » رأسا بعد أن كلّفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايصال كتابه إلى قيصر ، ولكنه ما أن وصل إلى بصرى ( من مدن الشام ) إلاّ وبلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس ولهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى (1) : « الحارث بن أبي شمر » واخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى : بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام ، وكتب معه كتابا ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، ( ولعل النبي صلی اللّه علیه و آله كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة ، وكون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير ).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذ بحمص ، وذلك بان استدعى عدي بن حاتم ووجهه مع سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليوصل كتابه إلى قيصر ، فذهب به إليه ، ولما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية : اذا رأيت الملك فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك.

فقال دحية : لا افعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير اللّه! ( أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها ، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى وأنه لا يحق السجود إلاّ لله وحده ، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟! ) (2).

ولقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي ، وموقفه الصلب ، فقال له رجل منهم : أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ، ولا تسجد له ، ضع صحيفتك تجاه

ص: 359


1- كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر - وبصورة عامة - جميع ملوك بني غسان ، من ولاة قيصر على تلك المناطق.
2- الطبقات الكبرى ، ج 1 ص 259.

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل ، وأخذ بنصيحته ، وفعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه اجرك مرّتين. فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين (1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألاّ نعبد إلاّ اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه ، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول اللّه ».

قيصر يحقّق حول النبي :

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو : « احمد الموعود » الذي بشرت به الانجيل والتوراة ، ولهذا قرّر أن يحقق حول شخصيته ، ويتعرف على خصوصيات حياته ، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد ، أو من يعرف شيئا عنه. حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش ، فأخذهم

ص: 360


1- بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف ، فيقول ابن الاثير : قيل هم الخدم والخول وقال بعض : هم الاكّارون ( أي الفلاحون ) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين ، وهم اطوع الناس للحاكم. و يؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ (الكامل: ج 2 ص 145) كلمة الا كارين بدل الاريسيين والأكار هو المزارع، واحتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

صاحب شرطة « قيصر » إلى بيت المقدس ، فادخلهم على « قيصر » في مجلسه وحوله عظماء الروم.

فقال قيصر : أيّكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟.

فقال أبو سفيان : أنا أقربهم نسبا.

فقال قيصر : أدنوه منّي ، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل ، فان كذّبني فكذّبوه.

ثم طرح قيصر على أبي سفيان الاسئلة التالية :

1 - كيف نسب محمّد فيكم؟

هو فينا ذو نسب.

2 - فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟

لا.

3 - فهل كان في آبائه من ملك؟

لا.

4 - فأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟

بل ضعفاؤهم.

5 - أيزيدون أم ينقصون؟

بل يزيدون.

6 - فهل يرتدّ منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

لا.

7 - فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

لا.

8 - فهل يغدر؟

لا.

9 - فهل قاتلتموه؟

ص: 361

نعم.

10 - فكيف كان قتالكم ايّاه؟

الحرب بيننا وبينه سجال ، ينال منّا ، وننال منه.

11 - فما ذا يأمركم؟

اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة ، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان ومن معه : إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ ، وقد كنت اعلم أنه خارج لم اكن أظنّه منكم ، فلو أنّي أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه!!

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه وقال لعمه : قد ابتدأ بنفسه وسمّاك صاحب الروم.

فقال قيصر : واللّه انك لضعيف الرأي. أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الاكبر ، وهو أحق أن يبدأ بنفسه ، ولقد صدق أنا صاحب الروم ، واللّه مالكي ، مالكه.

قال أبو سفيان : فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الاصوات عنده ، وكثر اللغط ، فأمر بنا فاخرجنا قال : قلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، أنه ليخافه ملك بني الأصفر.

وروى أيضا أن أبا سفيان قال : لما سألني قيصر عن رسول اللّه جعلت ازهّد له شأنه ، واصغّر له أمره واقول له : أيها الملك ، ما يهمّك من أمره ، إن شأنه دون ما يبلغك ، وجعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك ، ثم قال : أنبئني عما أسألك من شأنه (1).

ص: 362


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 384 - 386 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 290 و 291.
أثر رسالة النبي إلى قيصر :

لم يكتف قيصر بالمعلومات التي حصلها من أبي سفيان حول رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بل كتب إلى أحد علماء الروم وأساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الاسقف : هذا النبي الذي كنا ننتظره ، بشرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطة ليجسّ بها نبض قومه ، ويختبرهم ويعرف ما اذا كانوا يرضون باسلامه أولا ، فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد ، وان يثبت لكم ملككم وتتبعون ما قال عيسى بن مريم.

فقالت الروم : وما ذاك أيها الملك؟

قال : تتبعون هذا النبي العربي.

فثاروا في وجهه ، ورفعوا الصليب ، فلما رأى منهم ذلك يئس من اسلامهم وخافهم على نفسه وملكه ، فسكنهم ثم قال : إنما قلت لكم ما قلت اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ، فقد رأيت منكم الذي احبّ. فسكنوا ورضوا عنه.

ثم أمر باكرام دحية ، وكتب جوابا على رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله وأرسله مع دحية وارسل بهدية الى النبي صلی اللّه علیه و آله (1).

سفير النبيّ في البلاط الإيراني :

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكتابه إلى البلاط الإيراني

ص: 363


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 259 - 260 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 245 - 246 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 144 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 379.

كان الملك الذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو « خسروا برويز » ثاني ملك بعد انوشيروان ، الذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاما قبل الهجرة النبوية المباركة.

وقد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعا عديدة من الحوادث المرة والحلوة ، وكانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب ، وعدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

وقد امتدّ النفوذ الإيراني ذات يوم حتى شمل آسيا الصغرى ، وامتدّ الى مشارف القسطنطنية ، وأتى بصليب عيسى الذي كان أقدس شيء عند النصارى إلى طيسفون ( المدائن ) ، فطلب سلطان الروم الصلح وبعث سفيرا من قبله الى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى ، وانغماسهم في اللذة والمجون أكثر من المتعارف تسبب في أن تصبح ايران على حافة السقوط والانهيار في أواخر العهد الساساني ، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ الإيراني الواحدة تلو الاخرى ، واجتاح العدو الروميّ الاراضي الايرانية إلى الاعماق ، ووصل الأمر بخسروبرويز امبراطور ايران الى أن يهرب من وجه الروم الغزاة ، وقد أثار هذا الهروب الخانع وهذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك ، فقتل بيد ابنه « شيرويه ».

ويعزي محلّلوا التاريخ القديم تخلّف إيران وضياع قوتها إلى غرور قادتها وحكامها وميلهم الى البذخ والترف ، وبلهنية العيش ورغد الحياة ، والزينة واللذة. ولو كان ذلك الملك يتلقى رسالة السلام التي عرضها الاسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظل هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

ولو أن رسالة رسول الاسلام لم تترك أثرا حسنا في نفس « خسروا برويز » يومذاك فان ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها

ص: 364

الى البلاط الايراني ، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور ، المنحرفة ، وأنانيته الطاغية ، التي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله كما فعل « قيصر » ، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، إنما صاح به في تلك الاثناء ، وأخذ منه رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله ومزّقها بوقاحة بالغة ، واسلوب بالغ في الجفاف ، وسوء الادب.

وإليك تفصيل الحادث :

في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احد فرسانه الشجعان وهو « عبد اللّه بن حذافة السهمي » ، الى ايران وكتب معه كتاب إلى « خسروا پرويز » ملك ايران يومذاك يدعوه فيه الى الاسلام وامره أن يدفع الكتاب الى كسرى نفسه وإليك نص هذه الرسالة :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله ، واشهد أن لا إله الاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية اللّه ، فإني أنا رسول اللّه كافة لا نذر من كان حيّا ، ويحقّ القول على الكافرين أسلم تسلم ، فان أبيت فعليك اثم المجوس ».

فلما دخل سفير النبي صلی اللّه علیه و آله على « خسروا برويز » أمر بأن يؤخذ منه كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن عبد اللّه بن حذافة قال : لا حتى أدفعه إليك كما امرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم دنا وسلّم الكتاب فدعى كسرى بمترجمه ليقرأ الكتاب ، فلما قرأه ، فاذا فيه : من محمّد رسول اللّه الى كسرى عظيم فارس أغضبه حين بدأ رسول اللّه بنفسه ، وصاح ، وأخذ الكتاب ، فمزّقه قبل أن يعلم ما فيه وقال : يكتب إليّ بهذا.

ثم أمر باخراج حامل الكتاب من قصره ، فاخرج عبد اللّه بن حذافة السلمي ، ولما رأى ذلك قعد على راحلته وسار حتى وصل إلى النبي صلّى اللّه

ص: 365

عليه وآله ، فاخبره الخبر ، فغصب النبيّ صلی اللّه علیه و آله من موقف كسرى فدعا عليه قائلا : اللّهم مزّق ملكه (1).

نظرية اليعقوبي :

ويختلف ابن واضح الاخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه - مع عامة المؤرخين - : قرأ كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله ثم كتب كتابا إليه جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكا ، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فاخذ قبضة من المسك فشمّه ، وناوله أصحابه ، وقال : لا حاجة لنا في هذا الحرير ، ليس من لباسنا ، وقال : لتدخلنّ في أمري أو لآتينّك بنفسي ومن معي ، وأمر اللّه اسرع من ذلك. (2)

ولكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي ولا يوافقه عليه أحد من أرباب السير إلاّ احمد بن حنبل الذي يقول : أهدى كسرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقبل منه (3).

أوامر « خسرو » إلى واليه على اليمن :

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكة ، وكان ملوكها وحكامها ولاة منصوبين من قبل البلاط الايراني بأجمعهم ، وكان الذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم وملوكه رجل يدعى « باذان » فكتب طاغية ايران المغرور « خسرو » بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن ( باذان ) :

بلغني أن في أرضك رجلا يتنبّأ فاستتبه ، فان تاب والاّ فابعث به إليّ.

فبعث « باذان » رجلين من فرسانه يدعى أحدهما : « فيروز » والآخر « خرخسره » وكتب معهما كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمره فيه أن

ص: 366


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 1 ص 66.
3- مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 96.

ينصرف معهما إلى كسرى أو أن يجبراه على الرجوع الى دين آبائه وان أبى قتلوه وأرسلوا برأسه الى الملك حسب رواية ابن حجر في الاصابة.

إن رسالة كسرى إلى « باذان » يكشف عن جهل هذا الحاكم ، وعدم معرفته بما كان يجري في بلاده ومستعمراته ، فقد بلغ من جهله أنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الذي يدّعي النبوة (1) قد مضى على ادعائه النبوة أكثر من 19 عاما.

ثم إن الذي ادعى النبوة في منطقة نائية ، وانتشر دينه ، وأصبح من القوة والشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور ، ودعوته إلى دينه لا يمكن أخذه واحضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. وأن الأمر - بالتالي - لن يتم بمثل هذه السهولة ، والبساطة ، التي تصورها.

وعلى كل حال لما قدم مبعوثا « باذان » المدينة ودخلا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدّما رسالة « باذان » إليه صلی اللّه علیه و آله وقالا : لقد بعثنا « باذان » إليك لتنطلق معنا ، فان فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ، ويكف عنك به ، وإن أبيت فهو من قد علمت ، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حلقا لحاهما وأطلقا شواربهما ، فاستمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى كلامهما ، وقبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الاسلام ، وقد كره النظر إليهما لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما : من أمركما بهذا؟! قالا : أمرنا بهذا ربّنا ( يعنيان كسرى ) فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لكنّ ربّي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي » (2).

فأرعبتهما هيبة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجلال محضره ، بحيث أخذا

ص: 367


1- حسب تعبير كسرى.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 146.

يرتجفان عند ما عرض رسول اللّه الاسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ارجعا حتّى تأتياني غدا ».

وفي هذه الاثناء أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخبر من السماء أن اللّه عزّ وجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه ، فقتله في شهر كذا وكذا وكذا لكذا ، وكذا من الليل.

فلما حضر الرجلان ( مبعوثا باذان ) عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غد قال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا. بعد ما مضي من الليل كذا وكذا سلّط عليه شيرويه فقتله » (1)

وكانت الليلة التي ذكرها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك ونخبر الملك ( أي باذان ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« نعم أخبراه ذلك عنّي وقولا له : إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر ، وقولا له : إن أسلمت اعطيتك ما تحت يديك ، وملكتك على قومك ».

ثم أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخرخسرة منطقة ( أي حراما ) فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك ، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان باليمن واخبراه الخبر.

ص: 368


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 382.

فقال باذان : واللّه ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول ، ولننظر ما قد قال ، فلئن كان ما قد قال حقا فانه لا ريب نبي مرسل ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد فاني قد قتلت كسرى ولم اقتله الاّ غضبا لفارس ، لما كان استحل من قتل أشرافهم ، فاذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك ، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

وقد تسبّب كتاب « شيرويه » هذا في أن يعتنق « باذان » الاسلام هو وجميع رجال دولته وكانوا من الفرس ، وكتب إلى رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يخبره بإسلامه واسلام أعضاء حكومته (1).

سفير النبيّ في أرض مصر :

تعتبر « مصر » مهد الحضارات والمدنيات العريقة ، ومركز سلطان الفراعنة ، وموضع سيادة الاقباط.

ويوم أشرقت شمس الاسلام على أرض الحجاز كانت « مصر » قد فقدت استقلالها ، وقوتها ، وكان المقوقس قد فوض إليه حكم « مصر » من قبل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها الى قيصر.

وكان « حاطب بن أبي بلتعة » - وكان فارسا بارعا وله قصة في تاريخ الاسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة - احد الستة الذين كلّفوا بابلاغ كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الملوك والرؤساء يومذاك وقد أمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايصال كتابه إلى المقوقس حاكم « مصر ».

وإليك نص كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المقوقس :

ص: 369


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 391.

« بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط « ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الاّ اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون » (1).

فخرج « حاطب » بكتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قدم « مصر » ، وأراد الدخول على حاكمها ، « المقوقس » علم بأنه يسكن في أحد قصوره الشامخة على ضفاف النهر ، في الإسكندرية ، فركب زورقا ، نقله إلى قصر « المقوقس ».

فلما وصل « حاطب » إلى قصر « المقوقس » أكرمه وأخذ كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقرأه ، وفكّر في مضمونه بعض الوقت ، ثم قال لسفير النبي صلی اللّه علیه و آله : ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه ( أي من قومه ) وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب وكان حكيما فهيما : ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول اللّه؟ فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتى رفعه اللّه إليه؟

فأعجب المقوقس - الذي لم يكن يتوقع أن يجابه بهذا المنطق القوى المفحم - برد حاطب وقال له : أحسنت ، أنت حكيم جاء من عند حكيم (2).

فتجرأ حاطب لما رأى هذا الموقف الخاضع من ملك مصر وقال : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ( يعني فرعون ) فأخذه اللّه نكال الآخرة

ص: 370


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 249 ، الدر المنثور : ج 1 ص 40 ، أعيان الشيعة : ج 1 ص 244.
2- اسد الغابة : ج 1 ص 362.

والاونى ، فانتقم به ، ثمّ انتقم منه فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر غيرك بك ، ان هذا النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلاّ كبشارة عيسى بمحمّد صلی اللّه علیه و آله وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلاّ كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل ، وكل نبي أدرك قوما فهم امّته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فانت ممّن أدرك هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح علیه السلام ولكنا نأمرك به.

وهو يقصد بكلامه الأخير أن الاسلام هو الصورة الاكمل لدين المسيح.

انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلی اللّه علیه و آله والمقوقس حاكم مصر إلاّ أن المقوقس لم يعطه جوابا قاطعا في ذلك المجلس ، فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتى يتلقى جواب كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

ثم طلب المقوقس حاطبا ذات يوم وانفرد به في قصره ، وسأله عن ما جاء به رسول اللّه وإلى مَ يدعو؟ فقال له حاطب : إلى أن نعبد اللّه وحده ، ويأمر بالصلاة ، خمس صلوات في اليوم والليلة ويأمر بصيام رمضان ، وحج البيت ، والوفاء بالعهد ، وينهى عن أكل الميتة والدم .. و ... و ...

فقال له المقوقس : صفه لي.

قال حاطب : فوصفت فأوجزت.

فقال المقوقس : مصدّقا ما ذكره حاطب من أوصاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : هذه صفته ، وكنت أعلم أن نبيّا قد بقي ، وكنت اظن أن مخرجه بالشام وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج في أرض العرب ، في أرض جهد وبؤس ، والقبط لا تطاوعني في اتّباعه ، وسيظهر على البلاد ، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه ، حتى يظهروا على ما هاهنا.

ص: 371


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 250.

ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاطب عن قومه قائلا : وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا واحدا ، ولا أحب أن يعلم بمحادثتي ( أو بمحاورتي ) إياك (1).

ثم إنه اكرم حاطبا مدة اقامته بمصر إكراما بالغا ، وأحسن قراه ، وضيافته (2).

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ :

ثم إنّ حاكم « مصر » المقوقس دعا كاتبه العربيّ ، وأمره أن يكتب كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا نصه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمّد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه ، وقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبثياب ، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك (3).

إن الاحترام الذي أبداه « المقوقس » في رسالته المذكورة ، وتقديم اسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على اسمه وكذا هداياه التي بعثها إلى رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وتكريم سفير النبي صلی اللّه علیه و آله كلها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله في سرّه ولكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بايمانه وإسلامه ، ومن الانقياد العمليّ والعلني للاسلام.

خرج « حاطب » بصحبة جماعة من الحرس المحافظين وهو يحمل الهدايا التي بعثها المقوقس من عند المقوقس ولما وصل الى الشام أذن للمحافظين بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة ، ولما قدم المدينة على رسول اللّه صلّى

ص: 372


1- سيرة زيني دحلان : ج 3 ص 71.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.
3- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.

اللّه عليه وآله سلّم إليه كتاب المقوقس وهداياه قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« ضنّ بملكه ، ولا بقاء لملكه » (1).

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري :

توجه المغيرة بن شعبة الذي كان معروفا بحكمه وعقله ودهائه ، والذي اصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب ودهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري ، فسألهم كبير المصريين ( المقوقس ) :

كيف خلصتم إليّ ، وبيني وبينكم محمّد وأصحابه.

فقال : لصقنا بالبحر.

قال : فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا : ما تبعه منّا رجل واحد.

قال : فكيف صنع قومه؟

قالوا : تبعه أحداثهم ، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال : فالى ما ذا يدعو؟

قالوا : إلى أن نعبد اللّه وحده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا ، ويدعو إلى الصلاة ، والزكاة ، ويأمر بصلة الرحم ، ووفاء العهد ، وتحريم الزنا ، والربا ، والخمر.

فقاطعهم المقوقس قائلا : هذا نبي مرسل إلى الناس كافة ، ولو أصاب القبط ، والروم لا تبعوه ، وقد أمرهم بذلك عيسى ، وهذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله ، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ، ويظهر دينه إلى منتهى الخفّ والحافر.

ص: 373


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260 وغيره.

فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام وقالوا بكل صلافة ووقاحة : لو دخل الناس كلّهم معه ما دخلنا معه.

فهزّ المقوقس رأسه ساخرا بهم وقال : أنتم في اللعب (1). بيد ان هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية لان النبي صلی اللّه علیه و آله كاتب ملوك العالم وقادته في السنة السابعة من الهجرة ، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن ، وكان في الحديبية في صفوف المسلمين ، حتى أنه كان بينه وبين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مر ذكرها عند استعراض قصة الصلح.

وعلى فرض صحة هذه الرواية لا بد من القول بأن المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

وفي الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الواقدي نقل نص رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة اخرى.

ولكن أسلوب الرسالة وعباراتها تدل على أن هذه الصورة لا أساس لها من الصحة ، لانها تتضمن تهديدا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعظيم القبط بالحرب والغزو اذ جاء فيه : « وأمرني ( أي اللّه ) بالإعذار والانذار ، ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني » (2).

وممّا لا شك فيه أن هذا غير صحيح لأن امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكيين فكيف يغزو « مصر » وهي منطقة نائية جدا.

هذا مضافا إلى أن صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أول دعوة له إلى الاسلام لا يتلاءم ونفسية وخلق ذلك الرجل العظيم الذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

* * *

ص: 374


1- السيرة الدحلانية : ج 3 ص 70.
2- فتوح الشام : ج 2 ص 23.
سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أرض الذكريات « الحبشة » :

تقع « الحبشة » في آخر إفريقيا الشرقية وتبلغ مساحتها 1800 كيلومترا مربعا ، وعاصمتها اليوم : أديس أبابا.

ولقد تعرّف الشرقيون على هذه الأرض قبل ظهور الاسلام بقرن ، وذلك على أثر هجوم الجيش الايراني الذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي « انوشيروان » ، وبلغ هذا التعرّف والتردد ذروته في هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة ( الهجرة الأولى والهجرة الثانية ).

ويوم قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة ، ونائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف : « عمرو بن اميّة الضميري » بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة ، ويسلّمه إلى النجاشيّ ملكها العادل الطيب.

على أن الكتاب الذي ستقرأ نصّه قريبا ليس هو الكتاب الوحيد الذي بعثه رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي ، بل سبق أن كتب صلی اللّه علیه و آله إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين ، ويطلب منه فيه أن يلطف بهم ، ويرعاهم ، ولا يزال نصّ هذين الكتابين موجودا في المصادر التاريخية الاسلامية (1).

وربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين ( الرسالة التي بعثها النبي لابلاغ دعوته العالمية ، والرسالة التي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين ) فخلط بعض المؤرخين بين عبارتيهما.

ويوم قدم سفير النبي بكتاب الدعوة إلى الاسلام ، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة ، يعيشون في كنف

ص: 375


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 294.

النجاشي وحمايته ، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة ، وهم يحملون أجمل الذكريات والخواطر عن عدل حاكمها الطيب « النجاشي » ، ولطفه ، وحسن وفادته.

من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تعتبر أرض الذكريات الجميلة والخواطر الحلوة ، وكانوا يمدحون حاكمها ويصفونهم بالعدل والاستقامة. ولو اننا لا حظنا في كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله إليه نوعا من اللطف ، واللين في القول فان ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسية النجاشي وخلقه وحسن موقفه.

فانك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كتبه ورسائله الاخرى إلى الملوك والزعماء ، بالعقاب الالهي إن رفضوا القبول بدعوته ، وحمّلهم مسئولية شعوبهم في عبارات صريحة وقاطعة ، أيّ أثر في هذا الكتاب.

فقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي ما يلي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة. سلام عليك ، أحمد اللّه الذي لا إله إلاّ هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى ، حملته من روحه ، ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني ، فإني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّي أدعوك وجنودك وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى » (1).

لقد بدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة وأرسل إليه بتحياته الشخصية ، ولكنه لم يفعل هذا في كتاب غيره ، فلم يرسل بتحياته الشخصية الى « كسرى » و « قيصر » و « المقوقس » حكّام إيران والروم

ص: 376


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 248 ، إعلام الورى : ص 45 و 46.

ومصر ، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال : « السلام على من اتبع الهدى ».

ولكنه صلی اللّه علیه و آله سلّم في كتابه هذا ، على النجاشي نفسه ، وقال : « السلام عليك » ، وبهذا خصّه دون غيره من الزعماء والملوك باحترام وتكريم خاصّين.

ولقد أشار صلی اللّه علیه و آله في هذا الكتاب الى جملة من صفات اللّه البارزة التي تدلّ جميعها على تنزهه سبحانه ، وعظمته وجلاله.

ثم أشار إلى مسألة ألوهية المسيح ( التي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ ) وردّ على ذلك باستدلال قويّ خاصّ مستلهم من القرآن الكريم. حيث قايس ولادة المسيح علیه السلام بخلقة آدم ، وأثبت ان ولادة شخص من دون أب لو كان دليلا على ألوهيّته ، أو كونه ابنا لله ، لصحّ ذلك في حق آدم ، الذي خلق من غير أب ولا أمّ ، ولكن لا يرى أحد فيه مثل هذا الرأي.

ثم ختم صلی اللّه علیه و آله كتابه هذا باخراج دعوته في لباس النصح والموعظة ، تجنبا من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

محاورة سفير النبيّ وحاكم الحبشة :

لما مثل سفير النبي صلی اللّه علیه و آله أمام النجاشيّ قال للنجاشي :

يا أصحمة إنّ عليّ القول ، وعليك الاستماع ، إنّك كأنّك في الرقّة علينا منا ، وكأنّا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلاّ نلناه ، ولم نحفظك على شرّ قطّ إلاّ أمنّاه ، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم ، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يردّ ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الخير ، واصابة الفضل ، وإلاّ فأنت في هذا النبي الامّي كاليهود في عيسى بن مريم ، وقد فرّق رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف ، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي : أشهد باللّه أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وإنّ

ص: 377

بشارة موسى براكب الحمار ، كبشارة عيسى براكب الجمل ، وانه ليس الخبر كالعيان ، ولكنّ أعواني من الحبشة قليل ، فانظرني حتى أكثر الأعوان ، وأليّن القلوب ولو استطيع أن آتيه لأتيته (1).

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

ثم كتب كتابا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا نصه :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ؛ إلى محمّد رسول اللّه من النجاشي ، سلام عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، الذي لا إله إلاّ هو ، الذي هداني إلى الإسلام.

أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو ربّ السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا (2) إنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابك ، وأشهد أنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين ، وقد بعثت إليك يا نبيّ اللّه فان شئت أن آتيك لفعلت يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإنّي أشهد أنّ ما تقول حق والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته » (3)

ثم إن النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكتب إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك كتابين آخرين أيضا ، وكان في كلّ مرة يحترم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقبّله ويضعه على عينيه.

تقييم سريع لمراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله قادة العالم :

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أن دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لحكّام وشعوب العالم يومذاك كان أمرا خارج المألوف وعملا

ص: 378


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 248 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 259.
2- الثفروق : الاقماع التي تلزق بالبسر.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 294 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 392.

غير متعارف ، ولكنّ مضيّ الزمان أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ ومهامّه الاساسية.

أولا : ان إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم ، محمّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل ، فلا مجال لأن يشك أحد هذا اليوم وهو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرسالة المحمّدية ، فمضافا إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلا قاطعا وكبيرا على عالمية الرسالة الاسلامية.

ثانيا : لقد تأثّر جميع الزعماء والملوك والقادة الذين راسلهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما عدا « خسروا برويز » ملك إيران الذي كان طاغية مستبدا متكبرا ، برسائل النبي صلی اللّه علیه و آله ودعوته ، وأكرموا سفراءه.

كما أن قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الاوساط والمحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل والكتب بمحتوياتها ومضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية ، وهزّت الغافلين بشدّة ، وأثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضرة ، ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من بشّر به التوراة والانجيل ، كما تسبب في أن يجري العلماء والاساقفة والقساوسة غير المغرضين باتصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين ، ويقيموا ارتباطا مع هذه العقيدة بشكل وآخر.

ومن هنا ولأجل هذا تسابقت أفواج وفرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة التي كانت سائدة آنذاك في الايام الاخيرة لحياة رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله وبعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد ، والتعرف على ماهيته ومنطقه.

ولقد شرحنا في الفصول الماضية وبشكل مفصّل نوع ومدى التأثير الذي تركته رسائل النبي وسفراؤه في نفوس حكّام الرّوم ومصر والحبشة ، وها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات التي تركتها مراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله لحاكم

ص: 379

الحبشة العادل ، وملكها البار : اصحمة النجاشي.

فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، إلى ارسال ثلاثين رجلا من القساوسة والاساقفة الاحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام ، ونبوة محمّد صلی اللّه علیه و آله وليروا من كثب حياته الزاهدة البسيطة ، ولا يتصوروا أنه يعيش كما كان يعيش الملوك والجبابرة في ذلك العصر.

ولما قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح علیه السلام فبيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم بقراءة الآية التالية :

« إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ : إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ » (1).

وقد كان لهذه الآيات أثر عجيب في نفوس اولئك القساوسة والأساقفة حتى أنهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

وبعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة ، وأخبروا النجاشيّ بما سمعوه وشاهدوه ، فبكى هو أيضا لما سمع من اولئك الرجال (2).

وقد نقل ابن الاثير في « الكامل » و « اسد الغابة » قصة هذا الوفد بصورة اخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي باضافة قوله : « وبعثت

ص: 380


1- المائدة : 110.
2- اعلام الورى : ص 46.

إليك بابني أرمى بن الاصحم » فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة ( قاصدين المدينة ) في سفينة في البحر ، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

ولكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي (1).

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة ( بالشام ) :

الغساسنة فرع من قبيلة « الازد » القحطانيين الذين سكنوا « اليمن » مدة طويلة ، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب ، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن « اليمن » ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها ، وانتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم ، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم ، وانتهت حكومتهم ، بعد أن حكم منهم ، اثنان وثلاثون ملكا في مناطق « الجولان » ، و « اليرموك » ، و « دمشق » (2).

وقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « شجاع بن وهب » وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلی اللّه علیه و آله لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم - إلى أرض الغساسنة ، وقد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك « الحارث بن أبي شمر الغساني » ، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال « قيصر » الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما مر.

ولهذا لم يستطع « شجاع » من الوصول إلى الأمير الغساني إلاّ بعد انتظار دام

ص: 381


1- اسد الغابة : ج 1 ص 62 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 145.
2- راجع معجم البلدان ، ومروج الذهب وغيرهما.

ثلاثة أيام ، فاستغلّ « شجاع » هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة ، فأثّرت كلمات « شجاع » تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ وغلبه البكاء وقال : إنّي قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه ، وأنا أومن به واصدّقه ، وأخاف من « الحارث » أن يقتلني اذا عرف باسلامي وكان يكرم سفير النبي صلی اللّه علیه و آله ويحسن ضيافته طوال تلك المدة ، ويقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

ثم لما خرج « الحارث » ذات يوم وجلس على عرشه أذن لسفير النبي صلی اللّه علیه و آله بالدخول عليه ، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقرأه وكان نصّه كالتالي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن به وصدّق ، وإني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له يبقى ملكك ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانبا ، وقال : من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا وتخويفا له. ولاجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى « قيصر » يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !!

واتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى « قيصر » في الوقت الذي كان فيه « دحية الكلبي » سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر ، وكان « قيصر » يحاوره ، ويسأله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعن صفته ودينه ، فانزعج « قيصر » من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة « ايليا ».

ص: 382

فغيّر موقف « قيصر » الايجابي هذا موقف عميله : الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل « الناس على دين ملوكهم » فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنحه هدايا ثمينة ، ووجّهه نحو المدينة معززا مكرّما وقال له : « اقرأ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منّي السلام ».

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال : باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات « الحارث » في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية (1).

سادس السفراء في أرض اليمن :

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة ( وهي من نجد ) ، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى « هوذة بن علي » الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام ولما قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر ( أي يعمّ الشرق والغرب ) فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك ».

وحيث أن ملك اليمامة ( هوذة ) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سليطا وكان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد وفتنة قريش لهم ، وعرف بتقاليد النصارى ومنطقهم ، وكانت تعاليم الاسلام ، وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا وذكيا وقد استطاع بما اوتي

ص: 383


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 255 و 256 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 261

من قوة المنطق ، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عند ما قال له : يا هوذة أنه سوّدتك (1) أعظم حائلة ( أي بالية ) وارواح في النار ، وانما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به ، وإني آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شيء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة اللّه ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فان في عبادة اللّه الجنة ، وفي عبادة الشيطان النار ، فان قبلت نلت ما رجوت وآمنت ما خفت ، وان ابيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطّلع.

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك ، ولهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي ودعوته ، وكان من الملوك العقلاء.

وصادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم ، فتحدث معه « هوذة » في قضية النبي ، ودعوته ، وإليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف : جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف : لم لا تجيبه.

قال هوذة : ضننت بديني وأنا أملك قومي ، ولئن اتبعته لا أملك.

قال : بلى واللّه لئن اتبعته ليملّكنك ، وان الخير لك في اتباعه ، وأنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريم علیه السلام . وانه لمكتوب عندنا في الانجيل : محمّد رسول اللّه.

فتركت نصيحة الاسقف وكلماته أثرا عميقا وقويا في نفس ملك اليمامة « هوذة » فاستدعى سفير النبي صلی اللّه علیه و آله وكتب إلى النبي صلّى اللّه

ص: 384


1- يقصد أنّه سوده كسرى وهو في النار.

عليه وآله كتابا هذا نصه : « ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك ( أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده ).

ولم يكتف « هوذة » بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزعامة « مجاعة بن مرارة » ليبلّغ إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله رسالته ويقول له صلی اللّه علیه و آله : ان جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لا ولا كرامة ، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللّهم اكفنيه » (1).

رسائل اخرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

هذا وان الرسائل والكتب التي بعثها رسول اللّه لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية اكثر من ما أدرجناه هنا ، وقد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة صورة 29 رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار (2).

ص: 385


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 254 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 146 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 262 وسيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.
2- راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي ، وغيره من المؤلفات في هذا المجال.

44

قلعة خيبر أو بؤرة الخطر

اشارة

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه ، والمسلمين اكثر من قريش ، وعملت بمختلف الطرق والحيل من اجل القضاء على الاسلام والإيقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيئة ، فقتل فريق منهم ، واجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أرض المدينة فسكنوا « خيبر » و « وادي القرى » أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بعد اثنين وثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إن التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا وصالحا للزراعة جدا ، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة وجمع الثروات ، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال ، وإعداد السلاح والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان (1).

ص: 386


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 36 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 46.

إن أكبر ذنب اقترفه يهود « خيبر » هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية والقضاء عليها ، واستطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود « خيبر » أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى واتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق وأن عرفت في قصة « معركة الأحزاب » ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق ، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران ، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إن خيانة ، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا ، وأن يجرّد سكانها جميعا من السلاح ، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث - ببذل الأموال الطائلة - إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. وخاصة أن تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية ، ولهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ ولا يدع يهودي واحد دينه ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تحطيم قدرة الخيبريين وشوكتهم ، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله ، أنه راسل الملوك والسلاطين ، ودعاهم جميعا وبشكل قوي الى الاسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغل « كسرى » و « قيصر » يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام والنهضة الاسلامية في مهدها ، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين ، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

ص: 387

والفرس في تلك العصور ، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل ، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب ( أي قريش ) بعد صلح الحديبية ، وكان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم ، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وامدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل « غطفان » الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة « الأحزاب » نفذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال :

« لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استخلف على المدينة « نميلة بن عبد اللّه الليثي » ، ودفع راية بيضاء الى « عليّ بن أبي طالب » علیه السلام وأمر بالتوجه إلى خيبر ، ولكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء ، فأخذ يرتجز قائلا :

واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة ، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا ، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لاطفائها ، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع ، وقال : « يرحمك اللّه » وقد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

ص: 388

هذا وقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية ، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره ومقصده حتى يفاجئ العدو ويباغته ، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء ، هذا مضافا إلى ناحية اخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم ويسير إليهم ، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم الى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقصد منطقة الشمال ( شمال المدينة ) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب ، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

ولكنه عند ما وصل إلى منطقة « الرجيع » عرج بجيشه صوب « خيبر » وبهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر ، فمع ان حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء (1).

ولقد خرج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل ، بينهم مائتا فارس (2).

وعند ما أشرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة :

ص: 389


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 330.
2- الامالى للطوسي : ص 164 ، يذهب ابن هشام في سيرته : ج 2 ص 328 إلى ان خروج النبي صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر كان في المحرّم ، وبينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى : ج 2 ص 77 إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة ، وحيث ان ارسال الرسل الى الملوك والامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة ، وخاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي بوساطة « عمرو بن أميّة » لان ذهاب رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان ، وحيث ان توجه الرسل والسفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

اللّهمّ ربّ السماوات وما اظللن

وربّ الارضين وما اقللن

وربّ الشياطين وما اضللن

وربّ الرياح وما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ».

إن هذا الدعاء وما رافقها من حالة التضرع ، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين ، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد فتح القلاع والحصون اليهودية ، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم ، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم ، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا :

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن : « ناعم » و « القموص » و « الكتيبة » و « النطاة » ، و « شقّ » و « سطح » ، و « سلالم » ، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده ، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة ، ولرصد كل التحركات خارج الحصن ، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

ص: 390

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون - عن طريق المجانيق (1) وغيرها من آلات الرمي - إبعاد أي عدو ، وافشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن ، وذلك برميه بالاحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا ، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ، والذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا ، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل ، فكانت تعدّ هذه الحصون - في الحقيقة - متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح ، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية ، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط والطرق الحساسة ليلا.

وقد تم هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

ولما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتيلهم واذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال وقد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم ، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفا شديدا ، فأدبروا

ص: 391


1- وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

هرابا وهم يقولون : محمّد والجيش معه. وبادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها ، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعند ما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مساحي اليهود ومكاتيلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلا :

« اللّه أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون ، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر ، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كل قلعة وحصن بالأحجار ، ويخرج الابطال الصناديد من كل حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام ، وقد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال ولهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى :

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة ، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو « محمّد بن مسلمة » وقال له :

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك ، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر ( الهي ) امرت به فلا نتكلم فيه ، وان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول اللّه دنوت من الحصن ، وإن أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول اللّه الى موضع بريء من النخل والبناء حتى لا ينالنا نبلهم.

ص: 392

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة ( الشورى ) واحترام الآخرين : « بل هو الرأي ، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم ، بريئا من الوباء نأمن فيه بياتهم » ، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع ( وهو واد بقرب خيبر ) ثم رجع الى النبي صلی اللّه علیه و آله ليلا فقال : وجدت لك منزلا ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة ، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام (1).

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع والحصون حصنا تلو حصن ، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه ، ثم محاصرة حصن آخر.

ولقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي ، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا ، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها ، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة ، وتسفك فيها دماء أقلّ ، ويتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

وان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شيء كبير من الجهد - كما يذهب إليه جمع من المؤرخين - هو حصن « ناعم ». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين ، يدعى « محمود بن مسلمة » الانصارى ، وجرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام ، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره ، وقيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام - حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة (2) ونقل الجرحى الخمسون إلى

ص: 393


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 39.
2- اسد الغابة : ج 4 ص 334.

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد (1) ، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى « خيبر » لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر ، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا ، وتضحية عجيبة (2).

ولقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون - بعد فتح حصن « ناعم » إلى فتح حصن « القموص » الذي كان يرأسه أبناء « أبي الحقيق » ، ولقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام ، وأسرت منه « صفية بنت حيي بن أخطب » التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود ولكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم ، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الاّ أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة :

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين ، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم ، ورسول اللّه محاصر لبعض حصون خيبر فقال : يا رسول اللّه اعرض عليّ الاسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، وكان رسول اللّه لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام ويعرضه عليه - فلما أسلم قال : يا رسول اللّه اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول اللّه

ص: 394


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 40.
2- السيرة النبوية : ج 3 ص 342.

صلی اللّه علیه و آله أمام عيون المئات من جنوده الجياع :

« أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّ وجلّ سيؤدّي عنك أمانتك ».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها ، وقد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد (1).

أجل لم يكتسب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقب « الامين » من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات والظروف وهو القائل :

« ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر والفاجر » (2) ، وقد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار ولم يفكر ولا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الاكبر « محمّد » الصادق الأمين صلی اللّه علیه و آله .

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا ، واطلق البقية لتدخل الحصن بامان (3) ، ولو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ولما رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا :

« اللّهم انّك قد عرفت حالهم وان ليست بهم قوة ، وان ليس بيدي شيء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاما » (4).

ص: 395


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 344 و 345. امتاع الاسماع : ج 1 ص1. 313.
2- مجمع البيان : عند تفسير قول اللّه تعالى : « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ... ».
3- السيرة النبوية : ج 1 ص 335 - 336.
4- السيرة النبوية : ج 2 ص 322.

ولم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام ومعاركه كانت للإغارة وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها وان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والامانة ، وذلك كيد منهم للاسلام ، ومحاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا ، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا ، وأمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم ، فإن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك ، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي ، بل أمره بردّها إلى صاحبه وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر :

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح ، وسلالم ، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها ، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته - ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام ، ولكنهم كانوا يعودون في كل يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر واعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر ، ولكنه رجع ولم يكن فتح وكل من الامير والجنود يلقي باللوم على الآخر ، ويتهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في يوم آخر « عمر بن الخطاب » على

ص: 396

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقق فتحا ، بل عاد - حسب ما يروي الطبري - (1) فزعا مرعوبا وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة ، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفرسان الاسلام الابطال وقادة الجيش الاسلامي ، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه وقال :

« لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله يفتح على يديه ليس بفرّار » أو : « كرار غير فرار » حسب نقل الطبري والحلبي (2).

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم ، وان تصيب القرعة اسمه.

ولما بلغ عليا علیه السلام مقالة النبي صلی اللّه علیه و آله هذه وهو في خيمته قال :

« اللّهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت » (3).

غطّى ظلام الليل كل مكان ، وذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم ، وبينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل ، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر

ص: 397


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 300.
2- مجمع البيان : ج 9 ص 120 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 37 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 334 أمتاع الاسماع : ج 1 ص 314 ولقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له : وما أنس لا أنس اللّذين تقدّما *** وفرّهما والفرّ قد علما حوب وللراية العظمى وقد ذهبا بها *** ملابس ذلّ فوقها وجلابيب يشلّهما من آل موسى شمر دل *** طويل نجاد السيف أجيد يعبوب ( الغدير : ج 7 ص 201 اقتباسا من القصائد العلويات ).
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 35.

وتحركاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام ، وأضاءت السهل والجبل ، تجمّع قادة الجيش الاسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم ، وقد تطاول لها أبو بكر وعمر (1).

ولم يطل هذا الانتظار ، فقد كسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جدار الصمت هذا عند ما قال : « اين علي »؟!

فقيل يا رسول اللّه به رمد ، وهو راقد بناحية.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ائتوني بعليّ » (2)

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب عليا علیه السلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي ، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده الشريفة على عيني علي علیه السلام ودعا له بخير ، فعوفي من ساعته ، واستعادت عيناه علیه السلام سلامتها افضل ممّا كانت بحيث لم يرمد علیه السلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء إلى عليّ علیه السلام ودعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام ، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية وأن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية ، ويعيشوا بحرية وأمان

ص: 398


1- هذه هي عبارة الطبري : ج 2 ص 300 ، كنز العمال : ج 6.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 28 و 29 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 49.

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية (1).

واذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم ، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة :

« لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم » (2).

أجل إن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب ، وهذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر :

عند ما كلّف عليّ علیه السلام من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله بفتح قلعتي سلالم والوطيح ( وهما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي ) ، ارتدى درعا قويا وحمل معه سيفه الخاص ذا الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين ، والجند خلفه ، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الأرض تحت الحصن.

ولما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أول من خرج إليه أخو مرحب ويدعى « الحارث » فتقدم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع (3).

ولكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من علي علیه السلام .

ص: 399


1- صحيح مسلم : ج 5 ص 195 ، صحيح البخاري : ج 5 ص 18.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 37.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 314 قال : فانكشف المسلمون وثبت علي.

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح ، فقد لبس درعا يمانيا ، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة ، وتقدم الى عليّ علیه السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب *** والقرن عندي بالدما مخضّب(1)

فأجابه علي علیه السلام مرتجزا وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه :

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرة *** ضرغام آجام وليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرة *** كليث غابات كريه المنظرة

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح ، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين ، وفجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس « مرحب » بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين الى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع « مرحب » من أبطال اليهود وصناديدهم ففروا من فورهم ، ولجئوا إلى الحصن ، وبقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا ، ثم لاحق الفارين منهم حتى باب الحصن ، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناول علیه السلام بابا كان على الحصن وانتزعه من مكانه ، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده وهو يقاتل حتى فتح اللّه على يديه ثم القاه من يده حين فرغ ، وقد حاول ثمانية من أبطال الاسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك (2).

ص: 400


1- يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى : ج 2 ص 332.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 94 ، سيرة ابن هشام : ج 2 ص 349 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 47 - 50.

وهكذا فتحت القلعة التي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام ، في مدة قصيرة على يد بطل الاسلام الأول « علي بن أبي طالب » علیه السلام .

ويقول اليعقوبي في تاريخه : ان الباب الذي قلعه علي علیه السلام كان من الصخر وكان طوله أربعة اذرع وعرضه ذراعين (1).

ويقول الشيخ المفيد في ارشاده بسند خاص عن امير المؤمنين قصة قلعه ذلك الباب :

« لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي فقاتلتهم به ، فلما أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم ، ولما قال له رجل : لقد حملت منه ثقلا قال علیه السلام :

« ما كان إلاّ مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام » (2).

وقد نقل المؤرخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا وخصوصياته ومواصفاته ، وعن بطولات علي علیه السلام في فتح هذا الحصن ، وجميعها لا تتمشى ولا تتيسر مع القدرة البشرية المتعارفة ، ولا يمكن أن تصدر منها.

ويقول علي علیه السلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كل شك وإبهام قد يعترض المرء في هذا المجال :

« ما قلعتها بقوّة بشريّة ولكن قلعتها بقوة إلهية ونفس بلقاء ربّها مطمئنة رضية » (3).

تحريف الحقائق :

لو أننا أردنا أن نلتزم بحدود الحق والانصاف لوجب أن نقول انّ « ابن هشام » في سيرته و « الطبري » في تاريخه ذكرا قصة مبارزة علي علیه السلام في يوم

ص: 401


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 46.
2- الارشاد : ص 62 - 65.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 40.

خيبر بصورة مفصلة ، ونقلوا تفاصيلها بصورة دقيقة ، ولكنهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصة خيالية لا أساس لها وهي وان مرحبا قتل على يدي « محمّد بن مسلمة » وقالوا : ويرى البعض أن مرحبا اليهودي قتله محمّد بن مسلمة انتقاما لأخيه الذي قتل عند فتح حصن « ناعم » على أيدي اليهود ، فقد كلّفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتال مرحب فبرز إليه ، فقتله.

إن هذا الاحتمال من الوهن والبطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الاسلاميّ المسلم والمتواتر ، هذا مضافا إلى أن هذه الاسطورة التاريخية تعاني من اشكالات ، ومؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم :

1 - ان محمّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع ، والبطل الصنديد الذي تؤهله شجاعته لأن يكون فاتح خيبر وقاتل بطلها الاكبر ، فإن التاريخ لا يذكر عنه نموذجا بارزا من بطولته وشجاعته ، إنما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله فقط بأن يغتال « كعب بن الاشرف » الذي حرّك المشركين والهم ضد الاسلام والمسلمين بعد معركة بدر الكبرى ، وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئا خوفا ، فأنكر عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خوفه وسأله عن سبب ذلك فقال : يا رسول اللّه قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ به أم لا؟

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة ، ويتخلصوا من « كعب » الذي كان يريد إعادة القتال بين المسلمين والمشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدوّ اللّه كعبا وفق خطة خاصة ولكن « محمّد بن مسلمة » جرح أحد رفاقه من شدة الخوف والوحشة التي اصابته ، ولا شك أن صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد « خيبر » المعروفين وينازلهم.

2 - ان فاتح « خيبر » لم يقاتل مرحبا ويقتله وحده ، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق

ص: 402

الفارّين ، ونازل الذين بقوا ولم يفرّوا.

وإليك أسماء من بقوا في ساحة القتال وقاتلوا عليا علیه السلام بعد قتله مرحبا :

1 - داود بن قابوس.

2 - ربيع ابن أبي الحقيق.

3 - أبو البائت.

4 - مرة بن مروان.

5 - ياسر الخيبري.

6 - ضحيج الخيبري.

وكل هؤلاء كانوا من صناديد اليهود وابطالهم ، وكانوا يقاتلون خارج حصن خيبر ويمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إن هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب علیه السلام وهم يرتجزون في ساحة القتال ويطلبون المبارز والمناجز (1).

فمن يكون والحال هذه فاتح « خيبر » وقاتل مرحب؟

إذا كان « محمّد بن مسلمة » فانه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين ويتجاهل اولئك الأبطال خلف مرحب بل لا بد أن يقاتلهم ، في حين اتّفقت كل السير والتواريخ على أن هؤلاء قتلوا جميعا على يد علي بن أبي طالب علیه السلام .

3 - ان هذه الاسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه صلی اللّه علیه و آله قال في حق علي علیه السلام : « يفتح اللّه على يديه » مع العلم بأن المانع الاكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار ، فاذا كان قاتل مرحب هو

ص: 403


1- ناسخ التواريخ : ج 2 ص 282 - 286.

« محمّد بن مسلمة » لزم أن يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جملته هذه في حق « محمّد بن مسلمة » لا في حق « علي » علیه السلام الذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة : « يفتح اللّه على يديه ».

يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف : قيل : القاتل له ( اي لمرحب ) علي كرم اللّه وجهه وبه جزم مسلم رحمه اللّه في صحيحه. قال بعضهم : والاخبار متواترة به وقال ابن الاثير : الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا قاتله كرم اللّه وجهه (1).

ولقد وقع الطبري في تاريخه ، وابن هشام في سيرته في شيء من الاضطراب والفوضى وكتبا قصة هزيمة ورجوع الرجلين اللذين كلّفا قبل علي علیه السلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتفق مع مفهوم الجملة التي قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حق علي علیه السلام .

فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقه : « وليس بفرّار » (2) يعني أن الذي سوف يعطيه الراية لا يفر أبدا ، ومفهوم هذه الجملة هو أن عليا علیه السلام لا يفرّ ولا يجبن أمام العدوّ كما فر القائدان السابقان ، وهذا يعني أن القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ ، وأخليا الساحة ، في حين أن الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين ، وإنما يكتبان رجوعهما كما لو أنهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية والعسكرية على الوجه الكامل ، ولكنّهما لم يوفقا للفتح (3).

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي علیه السلام :

ونختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه علیه السلام في خيبر :

ص: 404


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 38 ، وراجع زاد المعاد : ج 2 ص 134 و 135.
2- المغازي : ج 2 ص 653.
3- السيرة النبوية : ج 3 ص 349.

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوما فقال : ما منعك ان تسبّ أبا التراب؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال :

1 - سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم يقول له خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم.

« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبوة بعدي » (1).

2 - وسمعته يقول يوم خيبر :

لاعطين الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. قال فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا. فاتي به أرمد فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح اللّه عليه (2).

3 - ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل ... » دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال :

« اللّهم هؤلاء أهل بيتي » (3) (4).

عوامل الانتصار :
اشارة

فتحت حصون « خيبر » ، واستسلم اليهود للمسلمين بشروط خاصة ، ولكن يجب أن نرى ما هي العوامل التي ادت إلى هذا الانتصار ، فهذا هو في الحقيقة

ص: 405


1- وهي اشارة إلى واقعة تبوك.
2- وهي اشارة إلى واقعة خيبر.
3- وهي اشارة إلى قصة مباهلة النبي نصارى نجران.
4- صحيح مسلم : ج 7 ص 120.

النقاط الهامة في هذا القسم.

إن انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعود إلى عوامل يمكن الاشارة إليها على نحو الاجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

1 - التخطيط العسكري والتكتيك الحربي الدقيق.

2 - تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو الداخلية.

3 - تفاني الامام علي بن أبي طالب ، وبطولته النادرة. وهنا نحن ندرس هذه الامور الثلاثة على وجه التفصيل :

1 - التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق :

لقد هبط الجيش الاسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود باصدقائهم القدامى ( قبائل غطفان ).

وقد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون ، ولو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فان « غطفان » لما سمعت بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، ولكنهم ما أن سمعوا الشائعة التي مفادها أن أصحاب محمّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنوا انهم سيهاجمون أموالهم وأهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم ، وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين « خيبر ».

يقول المؤرخون : إن هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجال غطفان فظنوا أن المسلمين داهموا أهليهم (1) ولكنه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان ، والذين امروا بأن يتظاهروا بالكفر ، ويبقوا في قبائلهم حتى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات

ص: 406


1- المغازي : ج 2 ص 651 - 653.

المناسبة.

فخططوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة وكانوا في ذلك ناجحين جدا الى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى « خيبر » ، والعودة إلى أهليهم وترك اليهود وشأنهم.

وقد سبق لهذا نظير في معركة « الاحزاب » يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثها بينهم رجل من المسلمين من بني غطفان يدعى « نعيم بن مسعود » ، وتفرّق على أثره جماعة الاحزاب ، وانفرط عقدهم.

2 - تحصيل المعلومات حول العدوّ :

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا مرارا يولي تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو ، أهمية كبيرة.

ولهذا بعث قبل محاصرة « خيبر » طليعة من المسلمين وأمّر عليهم « عبّاد بن بشر » ووجّههم إلى « خيبر » ، فالتقوا بيهودي قرب حصون « خيبر » ، وبعد التحقيق معه تبين أنه عين لليهود يتجسّس لهم الاخبار فأخذوه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسأله عن أوضاع اليهود في حصون « خيبر ».

فقال : أفتؤمنني يا أبا القاسم على أن اصدقك؟ فأمّنه عباد.

فقال اليهودي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب.

ثم قال : خرجت من حصن « النطاة » من عند قوم ليس لهم نظام تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة الى « الشق » وقد رعبوا منك حتى أنّ أفئدتهم لتخفق ، فاذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن شاء اللّه ، قال اليهودي إن شاء اللّه أوقفك على حصن اليهود الذي فيه منجنيق مفلكة ودبابتان وسلاح من دروع وبيض وسيوف ، فانصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من

ص: 407

يومك (1).

إن النبي صلی اللّه علیه و آله وإن لم يستخدم هذه الادوات التخريبية إلاّ أن المعلومات التي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة لأنّها أوضحت نقطة الحملة غدا ، وعرف النبي صلی اللّه علیه و آله أن التغلّب على حصن « النطاة » لا يحتاج الى قوة كبيرة ، وأنه لا بدّ من رعاية المزيد من الحيطة والحذر عند فتح حصن « الشق ».

نموذج آخر : عند فتح إحدى القلاع أتى يهودي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها وقال - ولعلّه لتخليص نفسه - : إنك لو اقمت شهرا ما بالوا ، لهم جدول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك ، فان قطعت مشربهم عليهم ضجهم.

وفي رواية أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يوافق على قطع الماء عن العدو (2).

وفي اخرى ؛ قطع عليهم مشاربهم موقتا فلم يطيقوا المقام على العطش (3).

3 - تفاني امير المؤمنين :

ولقد ذكرنا تغاني علي بن أبي طالب ، وبطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة ، وها نحن ننقل عبارة قالها هو علیه السلام عن هذه المسألة :

وردنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى احمرّت الحدق ، ودعيت إلى النزال ، وأهمّت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن انهض.

ص: 408


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 35.
2- ناسخ التواريخ : ج 2 ص 299. المصدر السابق ص 40.
3- الخصال : ص 369.

فأنهضني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى دارهم فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّدا عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلاّ اللّه وحده (1).

الرحمة في ساحة القتال :

عند ما افتتح حصن « القموص » سبيت « صفيّة بنت حيي بن أخطب » وامرأة اخرى ، فمر بهما « بلال » على القتلى فصاحت صفية صياحا شديدا جزعة ممّا رأت ، فكره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما صنع بلال وقال صلی اللّه علیه و آله :

« أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السنّ على القتلى؟ ».

فقال بلال : يا رسول اللّه ما ظننت أنك تكره ذلك ، وأحببت أن ترى مصارع أهلها (2).

ولم يكتف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا القدر من تطييب خاطر « صفيّة » بل احترمها ، وعيّن لها مكانا خاصا للاستراحة في المعسكر ، واختارها زوجة لنفسه ، وبهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيئ الذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعامله الانساني الرفيع مع « صفية » أثرا حسنا في نفسها ، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله الوفيّات المخلصات ، وقد حزنت عند وفاته ، وبكت له أكثر من بقية ازواجه (3).

ص: 409


1- الخصال : ص 369 باب السبعة.
2- المغازي : ج 2 ص 673 ، تاريخ الطبري : ج 3 ص 302.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 302.
مصرع كنانة بن الربيع :

منذ أن أجلي « بنو النضير » عن المدينة وسكنوا « خيبر » أحدثوا صندوقا لجمع الأموال لإدارة شئونهم العامة ، ولسد نفقات الحروب ، ولإعطاء دية كل من كان يقتل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن هذا الكنز وهذه الأموال قد أودعت عند « كنانة بن الربيع » زوج « صفية » ، فلما افتتح صلی اللّه علیه و آله خيبر طلب الربيع وسأله عن كنز اليهود ، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحبسه ، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود ، بمكان ذلك الكنز ، وقد كان بخربة ، إذ قال له يهودي إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أيام الحرب فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاخرج منها بعض ذلك الكنز ، فسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « كنانة » عما بقي فأبي أن يؤديه أو يخبر بموضعه ، فدفعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى محمّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصا لأخيه الذي قتل في وقع خيبر « محمود بن مسلمة » والذي قتله اليهود بالقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه ، وانما قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كنانة بضرب عنقه ، لتواطئه ضدّ الاسلام ، وكتمانه مثل هذا الأمر ، وتأديبا لغيره من اليهود حتى يتورعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الاسلام وضدّ أصحابه ، وضدّ الحكومة الاسلامية ، وكان « كنانة » آخر من قتل من يهود خيبر (1).

تقسيم غنائم الحرب :

بعد افتتاح حصون « خيبر » ، وتجريد العدو من كل أسلحته ، وجمع الغنائم أمر

ص: 410


1- السيرة النبوية : ج 3 ص 337 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 33.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن تجمع الغنائم كلها في مكان واحد ، ثم أمر صلی اللّه علیه و آله رجلا بأن ينادي في الناس :

« أدّوا الخيط والمخيط ، فانّ الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة » (1).

ولقد شدّد قادة الاسلام وائمته الحقيقيون على أهميّة الامانة تشديدا بالغا حتى أنهم اعتبروا ردّ الامانة - مهما صغرت ودقت - من علائم الايمان ، والخيانة وعدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عند ما عثر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رحل مسلم من المقاتلين شيئا من أموال الغنيمة لم يردّها إلى بيت المال لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عند ما استشهد ، وإليك تفصيل هذه الحادثة.

لما انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من خيبر ومع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غلام له ، يقوم له بشئونه ، وفيما كان ذلك يضع رحل النبي صلی اللّه علیه و آله إذ أتاه سهم لا يعلم راميه فأصابه فقتله ، فقال المسلمون : هنيئا له الجنة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« والّذي نفس محمّد بيده إنّ شملته (2) الآن لتحترق عليه في النار ، كان قد غلّها من فيء المسلمين يوم خيبر »!!

فسمع رجل من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله هذا الكلام فأتاه وقال : يا رسول اللّه ، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلی اللّه علیه و آله « يقدّ لك مثلهما في النار » (3).

وهذه القصة تفضح أيضا دسائس بعض المستشرقين ، لأنهم كانوا يصفون حروب الاسلام ومعاركه العادلة بأنها كانت من أجل الاغارة على أموال الناس

ص: 411


1- وسائل الشيعة : ج باب جهاد النفس الحديث 4 ، المغازي : ج 2 ص 681.
2- الشملة كساء غليظ يلتحف به.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 323 و 324.

ومصادرتها كما يفعل قطاع الطرق ، متجاهلين عمدا وكيدا الأهداف الإنسانية والالهية العليا لهذه المعارك والغزوات ، والحال أن مثل هذه الانضباطية والنظم والورع ممّا لا يمكن تصوره في قوم همهم الاغارة والنهب والسلب.

إن قائد شعب أو قوم هذا هو همهم وهذه هي همتهم لا يمكن أبدا أن يعتبر ردّ الامانة من واجبات الدين ومن علائم الايمان ، كما لا يمكنه أن يربي أتباعه وأصحابه بمثل هذا التربية الرفيعة ، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جدا مثل غلّ شراكي نعلين لا قيمة لهما تذكر.

قافلة من أرض الذكريات :

قبل أن يتوجّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين الى « خيبر » بعث « عمرو بن أميّة » إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ ، وليطلب منه أن يهيء المقدمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة الى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأولئك المهاجرين بعد أن جهزهم بجهاز حسن وامر لهم بكسوة ، فسارت بهم حتى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

ولما علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى « خيبر » توجّهوا من فورهم الى « خيبر » فقدموا مع « جعفر بن أبي طالب » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم « خيبر » بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود وقلاعهم.

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعفر مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبّل ما بين عينيه والتزمه وقال :

« ما أدري بأيّهما أنا اسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ ».

وفي رواية اخرى قال صلی اللّه علیه و آله :

« لا أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحا بقدومك يا جعفر أم بفتح اللّه على أخيك خيبر ». ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لجعفر :

ص: 412

« يا جعفر ألاّ امنحك؟ ألا اعطيك ألا أحبوك؟ ».

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة ، فتشوّف الناس لذلك. فقال له :

أني اعطيك شيئا إن أنت صنعته في كل يوم كان خيرا لك من الدنيا وما فيها ».

ثم علمه صلی اللّه علیه و آله الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار (1).

حجم الخسائر وعدد القتلى :

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصا ولكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير ، وقد سجل التاريخ أسماء 93 رجلا منهم (2).

العفو بعد الانتصار :

المؤمنون باللّه واصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه والظفر به باللطف والحب ، ويعفون عنه ويتناسون روح الانتقام ، أجل إنهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم وحنانهم وتلك هي حقيقة اثبتتها وقائع التاريخ الحية.

وكذلك فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما تغلب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة ، وشملهم بعفوه ، ولطفه رغم كل ما ارتكبوه في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ظلم وجناية وتأليب للعرب الوثنيين ضدّ الاسلام ، واشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الاسلامية وتستأصل المسلمين ، وتقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا ، وأن يترك أراضيهم

ص: 413


1- فروع الكافي : ج 1 ص 129 و 130 ، الخصال : ج 2 ص 82 و 83 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 325.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 32.

وبساتينهم بأيديهم ، على أن يكون له نصف محاصيلها سنويا.

بل إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - كما يروي ابن هشام - هو الذي اقترح هذا الأمر على اليهود ، وترك لهم حرية التصرف في مزارعهم وأراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر (1).

لقد كان في مقدور النبي صلی اللّه علیه و آله ، كأيّ فاتح آخر ، أن يريق دمهم جميعا ، أو أن يجليهم برمتهم من أراضيهم ، أو يجبرهم على اعتناق الاسلام ، ولكنّه - خلافا لتصور زمرة مغرضة من المستشرقين ، وطلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون ويزعمون بأن الاسلام دين القهر والقوة ، وان المسلمين أجبروا الامم والأقوام المغلوبة على ترك عقائدها ، واعتناق الاسلام لم يفعل مثل هذا العمل قط ، بل تركهم أحرارا في ممارسة شعائرهم ، والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من اصول دينهم وفروعه.

ولم يحارب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه يهود « خيبر » إلاّ لأنّ « خيبر » قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة ، والكيد بالاسلام والمسلمين ، فقد كانوا يمدّون المشركين بكل ما يريدون للقضاء على الحكومة الاسلامية الحديثة التأسيس ، ولهذا اضطر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مقاتلتهم ، وتجريدهم من أسلحتهم ، حتى يعيشوا تحت ظل الحكومة الاسلامية بمنتهى الحرية ، ويشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة ، ويقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة والتآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى ، اذ كانوا يسببون مشاكل كبيرة للمسلمين - في غير هذه الصورة - ويمنعون من تقدّم الاسلام وانتشاره.

وأما الجزية (2) فقد كان لقاء دفاع الحكومة الاسلامية عنهم ، وحمايتهم من الأعداء ، وتوفير الأمن لهم ، إذ كان حماية أموالهم وأنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم ان المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أن ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة

ص: 414


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 337.
2- الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

الإسلاميّة من الضرائب الاسلامية كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود. والنصارى إلى الحكومة الاسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجب على كلّ مسلم أن يدفع الى الحكومة الاسلامية الخمس والزكاة وربما توجب عليه ان يدفع شيئا من أصل ماله لسدّ نفقات واحتياجات الحكومة الاسلامية بينما كان اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الاسلامية في أمن وأمان ويتمتعون بجميع الامتيازات والحقوق الاجتماعية الفردية يدفعون إلى الحكومة الاسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون ، فالجزية شيء والأتاوة شيء آخر ، على خلاف ما يروّجه بعض الكتاب المغرضين.

ولقد كان عامل الجباية الذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتقدير حجم المحاصيل فيها ، ثم تنصيفها رجلا عادلا ورعا إلى درجة أن اليهود أنفسهم أعجبوا بعدله ، واعترفوا بانصافه ، وهو « عبد اللّه بن رواحة » الذي استشهد فيما بعد ، في موقعة « مؤتة ».

فقد كان « ابن رواحة » يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر ، وربما تصوّر اليهود أنه أخطأ في التخمين والخرص ، وخمّن أكثر ممّا هو الحق فقالوا له : تعديت علينا!

فكان عبد اللّه يقول : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا.

فتقول اليهود - معجبة بهذا الانصاف العظيم والعدل الكبير الذي كان يتحلى به مخرّص الحكومة الاسلامية - : بهذا قامت السماوات والارض (1).

ولقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم « خيبر » على قطعة من التوراة ، فطلبت اليهود من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعيدها إليهم ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسئول بيت المال باعادتها إليهم (2).

ص: 415


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 354.
2- المغازي : ج 2 ص 680 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 323.

وهذا يكشف عن احترام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للشرائع الاخرى.

سلوك اليهود المتعجرف :

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها وكيدها ، بل ظلّت تخطّط - في الخفاء - للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، والحاق الاذى بهم.

ولنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر :

1 - لما اطمأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدس سمّ إليه. فأهدت له « زينب بنت الحارث » زوجة « سلام بن مشكم اليهودي » شاة مشويّة وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقيل لها الذراع ، فاكثرت فيها من السمّ ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . تناول الذراع ، فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه « بشر بن البراء بن معرور » قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأما بشر فقد ابتلعها ، وأما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد لفظها وعرف بأنها مسمومة ، ومات بشر من أكلته التي أكل ثم دعا زينبا ، وقال لها : سمّمت الذراع؟ فاعترفت. فقال لها : ما حملك على ذلك ، قالت : قتلت أبي وعمّي وزوجي ، ونلت من قومي ما نلت فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وان كان نبيّا فسيخبر.

فعفا عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولم يلاحق من تواطئوا معها (1).

ص: 416


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 337 و 338 والمغازي : ج 2 ص 677 و 678. وامتاع الاسماع : ج 1 ص 323. هذا والمعروف أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال في : مرضه الذي مات فيه : إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فإن النبيّ ، وان كان لفظ المضغة إلاّ ان بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف ، وأثر في جسمه المبارك حتى أودي بحياته المقدسة بعد حين.

لا شك لو أن مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القادة والزعماء لصبغوا الارض بدماء من ظنوا أنه قصد قتلهم ، أو ملأوا السجون بهم وحبسوهم ، أعواما مديدة او اخضعوهم لاشد انواع التعذيب الجسدي والنفسي كما يحدّثنا بذلك التاريخ القديم والحديث.

إن هذه المؤامرة الدنيئة التي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسيئون الظن بصفية اليهودية التي أصبحت في عداد ازواج النبي صلی اللّه علیه و آله .

فقد باتوا يتصوّرون أنها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولهذا عند ما أعرس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات « أبو أيّوب الانصاري » يحرس قبّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التي دخل بها بصفية ليلة عرسه بها ، وبقي يطوف بالقبة حتى أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما رأى أبا أيوب قال : مالك يا أبا أيوب؟

قال : يا رسول اللّه خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك. فشكره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودعا له بخير (1).

2 - والنموذج الثاني من جفاء اليهود ، وكيدهم حتى بعد عفو النبي عنهم ، ولطفه بهم أنّ « عبد اللّه بن سهيل » الذي كلّف من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر وتقديرها وحمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتله جماعة مجهولة من اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر وقد كسروا

ص: 417


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 و 340 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 33.

عنقه وألقوه في بئر ، فقدم جماعة من زعماء اليهود المدينة ودخلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبروه بهذه العملية الغادرة المجهول فاعلها ، وتقدم الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا « عبد الرحمن » اخو عبد اللّه بن سهل وابنا عمّه وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا وكان صاحب الدّم فلما تكلّم قبل ابني عمّه قال رسول اللّه : الكبر الكبر ( أي قدّموا الاكبر للكلام إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسنّ وهو خلق يدعو إليه الاسلام ).

فذكروا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قتل صاحبهم وطلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أتسمّون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلّمه إليكم ».

وحمل هذا التعليم النبوي أولياء الدم على أن يجعلوا التقوى والورع نصب أعينهم ولم يستسلموا لثورة العاطفة فقالوا : يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أفيحلفون ( أي يحلف اليهود ) باللّه خمسين يمينا ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرءون من دمه؟ ».

قالوا يا رسول اللّه ما كنا لنقبل أيمان اليهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم.

فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى يهود خيبر كتابا فيه : انه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه ( أي أعطوا ديته ).

فكتبوا إليه يحلفون باللّه ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا.

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن المشكلة قد وصلت إلى طريق مسدودة وداه بنفسه من عنده مائة ناقة (1).

ص: 418


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 354 - 356.

وهكذا اثبت النبي صلی اللّه علیه و آله لليهود مرة اخرى بأنه ليس داعية حرب ولا طالب قتال وسفك دماء ، ولو كان كغيره من الزعماء والسياسيين لاتخذ من قصة مقتل عبد اللّه ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية ، المشاغبة المخلّة بالأمن (1)

إن النبي صلی اللّه علیه و آله كما يصرّح بذلك القرآن الكريم ويصفه : نبي الرحمة ، فهو لا يحتكم الى السيف ما لم يبلغ الامر مداه.

حيلة مجازة :

كان في خيبر تاجر يدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكة ، وكان ممّن حضر يوم خيبر. وشاهد لطف النبي ورحمته فأسلم طائعا راغبا.

ولما فرغ المسلمون من أمر « خيبر » أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إن لي بمكة مالا متفرقا في تجار مكة فاذن لي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن احتال لأخذها ، فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين وغيرهم في مكة.

فقدم مكة ، فرآه رجال قريش اجتمعوا حوله وأخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلا : لقد هزم محمّد بخيبر هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتل لم تسمعوا بمثله قط ، واسر محمّد اسرا ، وقالت اليهود : لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين

ص: 419


1- لم تنحصر تعديات اليهود وتجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا ودبّروا الحيل لالحاق الأذى والضرر بالمسلمين ، ومن جملة ذلك حادث عبد اللّه بن عمر الذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب فلما عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان » فقال لصحابة النبي صلی اللّه علیه و آله من كان له حق عند اليهود فليأخذه ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم وتآمرهم المستمر. ( المصدر ).

أظهرهم انتقاما لمن أصاب من رجالهم.

ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحا شديدا ، ثم قال الحجاج لهم.

أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأصيب من محمّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار الى ما هنا لك فجمعوا له ماله كاسرع ما يكون.

فلما سمع « العباس بن عبد المطلب » هذا الخبر جاء الى الحجاج وقال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به ، فأشار الحجاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر ، ثم التقى العباس خفية وأخبره بأنه ماكر أهل مكة ، وأنّ النبي ظفر بيهود خيبر ، وطلب من العباس أن يكتم ذلك حتى يغادر مكة ، وينجو بنفسه وماله.

فلما فرغ من جميع ماله كله غادر مكة بسرعة فائقة. فلما مضى على ذلك ثلاثة أيام واطمأنّ العباس من نجاة الحجاج لبس حلة جميلة ، وتعطر وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فتعجبت قريش لذلك ، وظنت أنه فعل ذلك تجلّدا ، فقالت للعباس : يا أبا الفضل هذا واللّه التجلّد لحرّ المصيبة ، قال : كلا ، واللّه الذي حلفتم به ، لقد افتتح « محمّد » خيبر ، وترك عروسا على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها ، وأصبحت له ولأصحابه.

فقالوا : من جاءك بالخبر.

فقال : الذي جاءكم بما جاءكم ( ويعني الحجاج الذي احتال عليهم ). ولقد دخل عليكم مسلما ، فأخذ ماله ، وانطلق ليلحق بمحمّد وأصحابه ، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة وانزعجت انزعاجا شديدا ، ولكن بعد فوات الأوان ، ولم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على اعدائهم (1).

ص: 420


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 34 ، زاد المعاد : ج 2 ص 140 ، والسيرة النبوية : ج 2 ص 345 و 346.

45

قصّة فدك

اشارة

كانت « فدك » منطقة خصبة ، كثيرة الخير ، قرب خيبر ، وهي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومترا ، وكانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة التي يعتمد عليها يهود الحجاز (1).

وقد ملأت القيادة الاسلامية - بعد أن هزم اليهود في خيبر ووادي القرى وتيماء الفراغ الذي حصل في شمال المدينة - بالقوة العسكرية الاسلامية.

ولأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة التي كانت بمثابة منبع خطر ، وبؤرة شغب ضدّ الاسلام ، بعثت القيادة الاسلامية سفيرا الى سادة فدك وزعمائها ، لمعرفة موقفهم فآثر « يوشع بن نون » الذي كان يرأس سكان تلك المنطقة ، الصلح والسلام على الحرب والقتال ، وتعهّد بأن يسلّم كل سنة نصف محاصيل فدك الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

وأن يعيش هو وقومه من الآن تحت راية الحكومة الاسلامية ، ولا يشاغب ولا يتآمر ضدّ المسلمين ، على أن تتعهد الحكومة الاسلامية - في مقابل هذا المبلغ - بتوفير الأمن في المنطقة.

ص: 421


1- راجع كتاب « مراصد الاطلاع » ج 3 ص 1020 ماده فدك.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 353 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 331 ، فتوح البلدان : ص 42.
حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال :

ومن الجدير بالذكر هنا أن الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال تعود ملكيتها الى عامة المسلمين ويكون إدارتها بيد القائد الأعلى للامة.

أما الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والامام من بعده خالصة ، فهو يتصرف فيها كما يشاء ويرى ، فله أن يهبها ، وله أن يؤجّرها ، ومن جملة ماله أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم ، ويديروا بها معيشتهم (1).

وعلى هذا الاساس وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدكا لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء ، وقد أريد من إيهاب هذه الارض لها - كما تشهد بذلك القرائن - أمران :

1 - انّ قيادة الامة كانت بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما صرّح النبي بذلك مرارا ، ل- : « علي بن أبي طالب » ، ومثل هذه المسئولية الثقيلة تحتاج ولا شك الى ميزانية كبيرة ، فكان لعليّ علیه السلام أن يصرف من أموال فدك وعائداتها اذا صارت تحت تصرفه اكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب ، ويستطيع القيام بمتطلباته.

وكأنّ جهاز الخلافة - بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أدرك هذه الحقيقة ، ولهذا عمد منذ الايام الاولى لوفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

2 - لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية النبي صلی اللّه علیه و آله التي كان يتمثل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاطمة الزهراء ،

ص: 422


1- وقد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر وعولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان « الفيء » « والأنفال ».

وابنيها الحسن والحسين علیهماالسلام بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وشرفه ، ومكانته السامية.

ولهذا الهدف وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدكا لابنته فاطمة الزهراء علیهاالسلام .

يقول المفسرون والمحدّثون الشيعة وبعض علماء السنة انه لما نزل قوله تعالى :

« وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ » (1).

دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنته فاطمة وفوّض إليها فدكا (2) ، وقد روى هذا الأمر ابو سعيد الخدري وهو من كبار صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ويعترف جميع المفسرين ، سنة وشيعة ، بان هذه الآية نزلت في حق أقرباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وابنته الزهراء اظهر وأقوى مصاديق « ذي القربى » ، حتى انه كان على بن الحسين السجاد في الشام بعد واقعة كربلاء ، وسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلا علیه السلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه ، وحيث إن مفاد الآية والمراد بها كان معلوما عند المسلمين كافة قال الشامي متعجبا : وانكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقه (3).

وخلاصة القول ان ثمة اتفاقا بين علماء السنة والشيعة في أن هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء وابنيها ، نعم هناك خلاف في ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهب ساعة نزول هذه الآية فدكا لابنته فاطمة ، أم لا ، ولقد اتفق علماء الشيعة على الشق الأول ، وذهبوا إلى ان النبي صلی اللّه علیه و آله وهب فدكا عند نزول الآية لفاطمة ووافقهم على ذلك جمع من علماء السنة.

وقد أراد المأمون العباسى ( لسبب ما ) اعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب

ص: 423


1- الاسراء : 26.
2- مجمع البيان : ج 3 ص 411 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 268 ، الدر المنثور : ج 4 ص 177.
3- الدّر المنثور : ج 4 ص 176.

الى المحدث المعروف « عبد اللّه بن موسى » وطلب منه أن يرشده في هذا الامر ، فكتب إليه عبد اللّه بن موسى الحديث المذكور الذي يوضح شأن نزول هذه الآية ، فاعاد المأمون فدكا الى أبناء الزهراء ، وذريتها (1) فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهب فدكا لابنته فاطمة الزهراء ، وهذا أمر مسلم ، ولا خلاف فيه بين ابناء الزهراء.

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أول ما أعطي له ، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدة ، ثم قال : من هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخ كبير ، وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء الى مجلس حوار ومناظرة بين المأمون وبين ذلك الشيخ ، وأخيرا وجد المأمون نفسه مغلوبا محجوجا فأمر رئيس ديوانه بان يكتب كتاب ردّ فدك إلى ابناء الزهراء ، فكتب ذلك الكتاب ، ووشحه المأمون بتوقيعه ، وفي هذه المناسبة قام دعبل الذي حضر ذلك المجلس وأنشأ شعرا هذا مطلعه :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** بردّ مأمون هاشم فدكا (2)

وليس الشيعة بحاجة - في اثبات ان فدكا كان ملكا طلقا وخالصا للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الدلائل المذكورة ، لأن الصدّيق الاكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قد صرّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف اذ قال :

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم اللّه » (3).

ص: 424


1- مجمع البيان : ج 3 ص 411 عند تفسير قوله تعالى : « « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » الاسراء : 27 فتوح البلدان ص 46
2- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 217.
3- نهج البلاغة : الكتاب 45.
قصة فدك بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

لقد حرمت ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العزيزة فاطمة من ملكها الخالص ( فدك ) بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأغراض سياسية خاصة ، وأخرجوا عمالها من تلك الارض ، فعمدت إلى إثبات حقّها واسترداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأولى كانت قرية فدك في يدها ، واليد دليل الملك ، ولكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلا على كون فدك ملكها ، خلافا لكلّ الموازين القضائية الاسلامية.

إذ لا يطلب من أيّ واحد له يد على شيء ( أي يكون ذلك الشيء تحت تصرفه ) أن يقيم دليلا على ملكيته لذلك الشيء ، ولكن الخلافة لم تعر ليد الزهراء على « فدك » أهمية ، بل طالبتها بان تأتي بشاهد على ملكيته.

ولهذا اضطرت فاطمة الزهراء علیهاالسلام إلى ان تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامة كعليّ علیه السلام وامرأة تدعى أمّ أيمن التي شهد لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنها من نساء الجنة (1).

وبعتيق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « رباح » حسب رواية البلاذري (2) ، ولكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماما لشهادة هؤلاء الشهود ، وحرم ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ملكها الذي وهبه اياها والدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كانت « الزهراء » و « علي » وابناهما الحسن والحسين علیهم السلام مطهرين من كل رجس كما صرح بذلك قوله تعالى :

« إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (3).

ص: 425


1- الاصابة : ج 4 ص 432.
2- فتوح البلدان : ص 44.
3- الاحزاب : 33 ، راجع كتاب : آية التطهير في احاديث الفريقين : ج 1 و 2.

ولو أن هذه الآية شملت نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعا ويقينا ، ولكن الخلافة تجاهلت - مع الأسف - حتى هذا الدليل ، واعتبر الخليفة ادعاءها ادعاء غير مشروع.

وفي المقابل يرى علماء الشيعة أن الخليفة الاول أذعن في نهاية الأمر لصحة رأى الزهراء وصحة ادّعائها وشرعيّته ، وكتب كتابا يصرّح بأن فدكا ملك خالص للزهراء وأعطاها ذلك الكتاب ، ولكن رفيق الخليفة وصاحبه لما صادف الزهراء في اثناء الطريق وعرف بأنها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب واتى به الى الخليفة الاول وقال معترضا على شهادة علي علیه السلام وأم أيمن لها : ان عليا يجرّ إلى نفسه وأم أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه وخرقه (1).

هذا ويروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة اخرى اذ يكتب قائلا : ان ابا بكر كتب لفاطمة بفدك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : ممّا ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ، ثم اخذ عمر الكتاب فشقه (2).

ما قاله أحد متكلمي الشيعة ، وهو ان أبي الحديد يقول : قلت لمتكلم من متكلمي الاماميّة يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل : وهل كانت فدك إلاّ نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي : ليس الأمر كذلك ، بل كانت جليلة جدا ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد ابو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألاّ يتقوّى عليّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس ، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همته ، ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (3).

ص: 426


1- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 374.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 391.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 236.

ويكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضا : سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجأت إليه غدا ، وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لانه يكون قد اسجل على نفسه على أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود. وهذا كلام صحيح ، وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأول ، وبعد ان قضى علي علیه السلام وتسلّم معاوية زمام الامر ، وزع فدكا بين ثلاثة هم : ( مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، وابنه يزيد ).

ولما ولي الأمر « مروان » سيطر على فدك بصورة كاملة ، ووهبها لابنه عبد العزيز ، واعطاها عبد العزيز لولده « عمر بن عبد العزيز » (2).

وحيث انه كان حاكما معتدل السيرة بين خلفاء بني أميّة لهذا فان أول بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة ، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من ايدي بني هاشم ، وكانت بأيديهم حتى يوم انقرضت فيه حكومة الامويين.

وقد اضطرب أمر فدك اضطرابا عجيبا ايام الخلافة العباسية ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها ابو جعفر من بني حسن ، ثم ردّها محمّد المهدي ابنه ، على ولد فاطمة علیهاالسلام ، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لاسباب سياسيه خاصة ، حتى وصل الدور إلى المأمون فردها على الفاطميين اصحابها الشرعيين ضمن تشريفات

ص: 427


1- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 284.
2- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 278.

خاصة وبصورة رسمية.

ثم اضطرب امر فدك من بعده أيضا فربما سلبت من أصحابها وربما ردّت إليهم. وهكذا تراوحت بين السلب والرد.

ولقد استغلّت فدك في عهد الامويين والعباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغلّ في أغراض اقتصادية.

فلقد كان الخلفاء في صدر الاسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية ، مضافا إلى انهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي ولكن في العصور المتأخرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فان عمر بن عبد العزيز لما أعاد فدكا إلى بني فاطمة احتج عليه بنو أميّة واعترضوا قائلين : هجّنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل وأقسم الغلّة (1).

فدك في محكمة التاريخ :

إن دراسة وتقييم ملفّ « فدك » تثبت بوضوح أن منع ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حقها المشروع كان عملا سياسيا بحتا ، أي إنه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقا ، وان المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

وقد أوضحت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ اذ قالت :

هذا كتاب اللّه حكما عدلا وناطقا فصلا يقول : ويرثني ويرث من آل يعقوب (2) وورث سليمان داود (3) وبيّن عزّ وجلّ في ما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث » (4).

ص: 428


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 16 ص 278.
2- مريم : 6.
3- النمل : 16.
4- الاحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 145.

إن البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنه ، والحديث الذي رواه الخليفة وحده يوجب اطالة الكلام ، وفي امكان من يحبّ التوسع ان يراجع كتب التفسير المفصلة.

السيطرة على وادي القرى :

ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادة للاسلام في هذه المنطقة ( خيبر ) فقط بل رأى ان يتوجه الى وادي القرى التي كان يشكل مركزا آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدة أيام ، حتى فتحها ، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة « خيبر ».

وبهذا طهرت أرض الحجاز من فتنة اليهود الاوغاد ، وقد جرّدوا من اسلحتهم ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم الدقيقة (1).

ص: 429


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 150.

46

عمرة القضاء

عمرة القضاء (1)

كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع مكة ، ثم يغادروها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة وكان عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلاّ سلاح الراكب : السيف في القرب ، ليس غير.

والآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة ، وآن الاوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية ، وان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رءوسهم ، ورجّحوا الحياة في الغربة ، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

يتوجه مثل هؤلاء مرة اخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام ولقاء الاحباب والأقرباء وتفقّد المنازل والبيوت التي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.

ص: 430


1- العمرة أعمال خاصة ومناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة وقد توجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مكة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسميت هذه العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلا عن العمرة التي منع النبيّ والمسلمون عنها في عام الحديبية.

ولهذا عند ما أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يستعد من حرم من العمرة في العام الماضي للعمرة ، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين ، واغرورقت دموع الفرح في عيونهم ، فخرج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

وكان بين الخارجين مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جمع كبير من شخصيات المهاجرين والأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

وساق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها (1) ، وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون ، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكة.

ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الاسلام ومعنويته الرائعة.

ولو قلنا : ان هذا السفر كان - في حقيقته - سفرا تبليغيا ، وان المشتركين فيه كانوا - في حقيقة الامر - طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافا ، فان آثار هذا السفر المعنوى ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم الد أعداء الاسلام أمثال « خالد بن الوليد » بطل معركة أحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الاسلام ، وأسلموا بعد قليل.

وحيث ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن آمنا من غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكة ، ويسفكوا دماء جماعة

ص: 431


1- البدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بدن وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلا فيعلم أنها هدي.

منهم وهم لا يحملون معهم إلاّ سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحا للمسلمين - حسب المعاهدة - أن يأخذوا معهم سلاحا غير ذلك.

من هنا عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحسبا لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلح الكامل ، وأمرّ عليهم « محمّد بن مسلمة » وحملهم على مائة فرس سريع ، وأمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى ، والاستقرار في منطقة « مرّا لظهران » قرب الحرم ، ينتظرون ورود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقضية الفرسان المسلّحين المائتين ، واستقرارهم في وادي « مرّ الظهران » ، وأخبروا سادة قريش بالأمر.

فبعثت قريش « مكرز بن حفص » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليكلموه في هذا الإجراء فاتى مكرز الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ه اعتراض قريش وانه تعهّد - قبل ذلك - أن لا يدخل مكة إلاّ بسلاح المسافر.

فأجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« لا ندخلها إلاّ كذلك ولكن يكون هؤلاء قريبين منا ».

وقد أفهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكرزا بهذه العبارة بأن قريش لو استغلّت عدم حمل النبي واصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم ، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.

فعاد « مكرز » واخبر قريشا بما سمع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فادركت قريش حنكة رسول الاسلام وبعد نظره ، وحسن تقديره للامور ،

ص: 432

ففتحت أبواب مكة في وجه المسلمين ، وخرج رءوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم الى رءوس الجبال ، وخلّوا مكة ، وقالوا : لا ننظر إلى محمّد ولا إلى اصحابه ، ولكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!! (1)

النبي يدخل مكة :

دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشحو السيوف محدقون به يلبّون وهم ألفان ، فدوّى صوتهم الموحّد بالتلبية في أرجاء مكة ، وكانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كل سكان مكة ، وسحرت قلوبهم وعطفها نحو المسلمين ، وفي نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين ، ونظامهم ، والتفافهم حول النبي قلوب المشركين ، ولم يقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلبيته حتى استلم الركن.

فلما انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى البيت وهو على راحلته وابن رواحة آخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى إليه ، استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه على راحلته انشد عبد اللّه بن رواحة يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله *** إني شهدت أنه رسوله

حقا وكل الخير في سبيله *** نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله (2)

وطاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبيت المعظم على راحلته ، وهنا أمر

ص: 433


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 337 و 338.
2- زاد المعاد : ج 2 ص 152.

صلی اللّه علیه و آله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص ؛ وان يتبعه المسلمون :

« لا إله إلاّ اللّه وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده واعز جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين ، المسجد ، الكعبة ، الصفا ، المروة ، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزا للوثنية ، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين ، وأتباعهم ، ممّا كان يوحي بغلبة « محمّد » صلی اللّه علیه و آله على كل أرجاء الجزيرة العربية حتما ويقينا.

ولما قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان الظهر ، فصعد بلال الذي طالما عذّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واذّن لصلاة الظهر.

ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عدّت فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمّد ، ذنبا لا يغتفر ، وجريمة لا ينجو صاحبها من العذاب ، يردد ويردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلا فصلا في خشوع وروحانية بالغة.

لقد أزعج أذان بلال المشركين واعداء التوحيد ، حتى قال « صفوان بن أميّة » : الحمد لله الذين أذهب أبي قبل أن يرى هذا ، وقال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم ، ولم يسمع هذا العبد الحبشيّ يقول ما يقول.

واما « سهيل بن عمرو » فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.

إنهم لم ينزعجوا من صوت « بلال » بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة ، وجعلتهم يعانون بسبب

ص: 434

ذلك من عذاب روحي شديد.

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأن قريشا تحدثت بينها أن محمّدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة ، وان الذين هاجروا معه الى المدينة مرضى ، وأنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ، فهرول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى ، وتبعه المسلمين وقد قال لهم قبل ذلك.

« رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة » (1).

وذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف المهجر. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على امرين :

أولا : جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانيا : ان النبي صلی اللّه علیه و آله كان حذرا جدا فكان يبطل كل خطط العدو أولا بأول.

يقول صاحب زاد المعاد : أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم ، وكان يكايدهم ( أي يبطل كيدهم ) بكل ما استطاع (2).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن ، ثم قصّر من شعره ، ثم خرج من إحرامه ، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلی اللّه علیه و آله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم ، ففعلوا.

انتهت أعمال العمرة ونسكها ، وذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة أعوام ، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق ، واستضافوا

ص: 435


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 309 وراجع نظيره في زاد المعاد : ج 2 ص 152.
2- زاد المعاد : ج 2 ص 152. ولنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة وسياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.

جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديرا لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة ، فأسكنوهم واكرموهم في منازلهم وخدموهم سنينا عديدة.

النبي يغادر مكة :

تركت أحوال المسلمين وأوضاع الاسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثرا بليغا وعجيبا في نفوس سكان مكة المشركين ، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى وكاد ذلك أن « يفعل » فعلته ، ويحدث انقلابا روحيا في تلك البيئة.

ولما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي وأصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة ويضعف تمسكهم بوثنيتهم ، ويوجد علاقات المحبة بينهم وبين المسلمين ، لهذا بعثوا أحدهم وهو حويطب الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - بعد انقضاء المدّة المقرّرة للاقامة في مكة في المعاهدة - ليطلب منه مغادرة مكة قائلا : انه قد انقضى اجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله من مقالة مبعوث قريش هذا ، ولكن النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به ، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو والمسلمون مكة فورا.

ولقد تأثرت « ميمونة » اخت أمّ الفضل زوجة العباس ، بما شهدت من مشاعر المسلمين وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق عمّها العباس أنها ترغب في الزواج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) وتزوجها ، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.

ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي والمعنوي الذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتى أن النبي

ص: 436


1- حياة محمد : ص 401.

صلی اللّه علیه و آله لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم ، ويصنع لهم طعاما يحضروه ، أبوا امهاله خوفا من تعاظم تأثيره في النفوس ، وقالوا له : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا (1).

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار ولم يبق بمكة إلى وقت الظهر ، وخلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته « ميمونة » حين يمسي ، فأقام أبو رافع حتى أمسى ، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين ، ولاموا « ميمونة » على فعلها ، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها ، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدافع الرغبة في خلقه وسموّ أخلاقه.

وهكذا تحققت رؤيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة بأنه دخل البيت ، وحلق راسه ، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدث عن تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمنا عن فتح قريب ، - هو فتح مكة - الذي تحقق في السنة الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه :

« لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً » (2).

ص: 437


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 372 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 62 - 65.
2- الفتح : 27.

احداث السنة الثامنة من الهجرة

اشارة

47

معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة ، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معا بيت اللّه المعظم ويعتمروا في أمان ، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين امثال « خالد بن الوليد » ، « وعمرو بن العاص » (1) و « عثمان بن طلحة » ، فلم يلبثوا أن جاءوا طائعين راغبين الى المدينة ، واعتنقوا الاسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلاّ جسم من دون روح ، وهيكل من دون حياة (2).

وذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.

ولكن هذا غير صحيح قطعا لأن « خالدا » كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش ، ونحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة ، وكان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء ، ولم

ص: 438


1- لقد ذكر الواقدي في مغازيه : ج 2 ص 743 و 745 علة اسلام عمرو بصورة اخرى.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 4 ص 252 - 261.

تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب ، ولهذا فكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أن يركز دعوته على سكان المناطق الحدودية للشام ، ويستميل الى الاسلام قلوب اولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

ولهذا الغرض وجّه « حارث بن عمير الازدي » مع كتاب إلى « الحارث بن أبي شمر الغساني » ملك « بصرى » الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك ، وكان يحكم من جانب قيصر.

فلما نزل مبعوث النبي « مؤتة » عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية ، فقبض عليه ، وحقق معه ، فاعترف له بانه يحمل كتابا من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق ( الحارث الغساني ) ، فأمر بان يوثق وقدمه وضرب عنقه صبرا مخالفا بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله ، ودعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل « الحارث ».

حادثة أفجع من السابقة :

واتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اخرى افجع من الأولى ، أكّدت عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل والدعوة ، وقتلوا دون رحمة ، وعذرا سفير النبي ، وجماعة الدعوة والتبليغ وإليك مفصل الحادثة الثانية :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلا إلى منطقة « ذات أطلاح » من ارض الشام ، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام ، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك

ص: 439

المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم ، ورشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال ، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر ، وافلت منهم رجل جريح من القتلى ، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فتسبّب العدوان على دعاة الاسلام وقتلهم في ان يصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرا بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى ، ووجّه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين ، ومزاحمي دعاة الاسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعى « الجرف » فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه الى ذلك المعسكر ، وخطب في المقاتلين خطابا ، هذا نصه :

« اغزوا بسم اللّه ادعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم والاّ فقاتلوا عدوّ اللّه وعدوّكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس ، فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلنّ امرأة ولا صغيرا مرضعا ولا كبيرا فانيا ، لا تغرقنّ نخلا ولا تقطعنّ شجرا ، ولا تهدموا بيتا » (1).

ثم قال : جعفر بن أبي طالب أمير الناس ، فان قتل فزيد بن حارثة ، فان اصيب زيد فعبد اللّه بن رواحة فإن اصيب عبد اللّه بن رواحة فليرتضى المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.

ثم امر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف ، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى « ثنية الوداع » وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيعون يقولون : دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين ، صالحين.

ص: 440


1- المغازي : ج 2 ص 757 و 758.

ولكن ابن رواحة أجابهم قائلا :

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة *** بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مرّوا على جدثي *** يا أرشد اللّه من غاز وقد رشدا (1).

وأنت أيها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم ان الناس رأوا عبد اللّه بن رواحة لما ودع من ودع بكى ، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال : أما واللّه ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقرأ آية من كتاب اللّه عزّ وجلّ يذكر فيها النار :

« وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » (2).

فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود (3).

خلاف حول من هو الامير الاول؟

لقد كتب بعض المؤرخين : أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالتبني ، ثم جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد اللّه بن رواحة ، ولكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيدا وعبد اللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان :

1 - ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة

ص: 441


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 60 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 128.
2- مريم : 71.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 374.

الاجتماعية جعفر بن أبي طالب ( جعفر الطيار ).

يقول ابن الاثير عنه : جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلقا وخلقا ، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعليا رضی اللّه عنه يصليان وعليّ عن يمينه ، فقال لجعفر : صل جناح ابن عمك وصلّ عن يساره (1).

وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا إليها حفاظا على دينهم وعقيدتهم من الفتنة وهو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرا عليه آيات من القرآن عن المسيح علیه السلام وأمه مريم ، واثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز ، وهو الذي وفق لأن يخطب ودّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش (2).

ان جعفرا هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة وعانقه وضمه وقبّل ما بين عينيه وبكى من فرط الشوق إليه وقال في حقه :

« بايهما اسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ».

إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّ علیه السلام ، بعد استشهاده شجاعته وبسالته ، فعند ما سمع عليّ علیه السلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية ، وتقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليا ، غضب عليّ علیه السلام من هذا الامر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال :

لو أنّ عندي يا ابن حرب جعفرا *** او حمزة القرم الهمام الازهرا

ص: 442


1- اسد الغابة : ج 1 ص 287.
2- اسد الغابة : ترجمة جعفر بن أبي طالب ، وغيره من المصادر في هذا المجال.

رأت قريش نجم ليل ظهرا (1).

فهل مع هذه المواصفات والجهات التي نقلنا قسما منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.

2 - ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى ( مؤتة ) كان « جعفر » وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين ، فهذا « حسان » شاعر عصر الرسالة انشد شعرا بعد أن بلغه استشهاد اولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه :

فلا يبعدن اللّه قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد اللّه حين تتابعوا *** جميعا وأسباب المنية تخطر (2)

فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الذي جاء ذكرهم ، يعنى أن جعفرا كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد ، ثم ابن رواحة.

وان اوضح الادلة على ذلك قصيدة « كعب بن مالك » في رثاء شهداء مؤتة ، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول ، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته :

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدّام أوّلهم فنعم الأول (3)

إن هذه القصائد الرثائية التي انشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة ، وسلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا

ص: 443


1- وقعة صفين : ص 49.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 384.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 386.

المطلب يخالف الحقيقة ، وأن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها ، وبيانها هنا ، وقد تبعهم في ذلك كتّاب السيرة وادرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.

والعجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات والقصائد قال : ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة ، وليس القائد الأعلى للجيش ، وهو كما ترى تناقض مكشوف (1).

جيشا الروم والاسلام يتواجهان :

كانت « الروم » قد اصيبت يومذاك - نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها ايران - بالفوضى ، والهرج والمرج الشديدين.

فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلاّ أنهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والتي كسبوا عن طريقها أمجادا عظيمة ، وكانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام ونشاطاتهم العسكرية.

ولهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجه جنود الاسلام الى ناحية الشام لتاديب عميله شرحبيل الغساني ، أرسل جيشا عظيما وقويا لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددهم ثلاثة آلاف.

وقد اعدّ « شرحبيل » حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية ووجهه الى حدود الشام لإيقاف تقدم الجيش الاسلامي ، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى « مآب » من مدن البلقاء ، واستقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم (2).

ص: 444


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 380.
2- المغازي : ج 2 ص 760 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 375.

ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عددا بكثير عن هذا القدر نابعا من الانباء التي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة ، وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم التي ذاع صيتها ، وإلاّ فان عشر هذا العدد ، ( أي عشرون ألف ) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير ، سواء من ناحية العتاد ، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية ، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة التي دارت بين الروم وبين ايران ، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار ، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.

هذا مضافا إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والاجهزة القتالية ووسائل النقل وما شابه ذلك.

وفوق هذا وذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها ، وتقوم بدور المهاجم ، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعا وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلبات الحرب.

وفي مثل هذه الحالة يجب ان تكون القوة المهاجمة قوية جدا ، بحيث يمكنها ملاقاة سلبيات الظروف غير المساعدة.

ومع هذا فإننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم ، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجادا اخرى ، وسطروا اسطرا اخرى في سجلّ بطولاتهم.

منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة ، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية

ص: 445

فقال البعض : نكتب الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فنخبره الخبر ، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالا. وكاد هذا الرأى ان يلقى قبولا من المشاورين الآخرين لو لا أن « عبد اللّه بن رواحة » الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من اللّه ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا ، شجعهم على الصمود وقال : « واللّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ، ولا بكثرة سلاح ، ولا بكثرة خيول ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به ، انطلقوا ، واللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلاّ فرسان ، ويوم احد فرس واحد ، وإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور عليهم ، فذلك ما وعدنا اللّه ووعدنا نبينا ، وليس لوعده خلف ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان ».

فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثت فيهم روح البسالة والمقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى « مشارف » ولكن جنود الاسلام تأخروا وانسحبوا قليلا لبعض العلل ، ونزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش ، جنود الاسلام إلى اقسام : مختلفة ، وأمّر على كل قسم اميرا ، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفا في حروب العرب ، فكان على جعفر ان ياخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين ، ويقاتل في نفس الوقت.

ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده « جعفر » خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول :

يا حبّذا الجنة واقترابها *** طيبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها (1)

ولقد قاتل قائد الجيش الاعلى ( جعفر ) قتالا عظيما ، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب الى الارض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي

ص: 446


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 378.

لا ينتفع به العدوّ واخذ يقاتل ، وهو آخذ باللواء بيمينه ، فقطعت يمينه فاخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى لا يسقط لواء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الأرض حتى قتل وقد وجد به ثمانون جراحة او تزيد!! (1).

فلما قتل « جعفر » أخذ الراية « زيد بن حارثة » معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.

فاخذ الراية « عبد اللّه بن رواحة » معاونه الثاني ، ثم تقدّم بها وهو على فرسه ، فجعل يقاتل ويرتجز ، فاحسّ بالجوع أثناء القتال ، وألحّ عليه ، فاتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدّ به صلبه ، فلم يأكل منه شيئا حتى سمع صوت هجوم العدوّ ، فالقى الطعام من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة :

وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين ، فقد قتل القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الذي ذكر.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد تحسّب لهذه الحالة ، وترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم ، فأخذ الراية « ثابت بن أقرم » وقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح على « خالد بن الوليد » الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.

ولقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة وحساسة جدا ، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل ، فقد

ص: 447


1- المغازي : ج 2 ص 761. وقد اثابه اللّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة وسمى في ما بعد بجعفر الطيار ، راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 378.

امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة ، والميمنة الى الميسرة ، وتتأخر المقدمة الى مكان القلب ، ويتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسلمون ذلك ، واستمرّت هذه التغييرات حتى طلوع الفجر.

كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلا ، ويذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعا وهم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين وقد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم ، بعد ان قتل خيرة قادتهم.

فلما كان الصبح ورأى العدو وجوها جديدة ، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا : قد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل في هذا الاثناء أحد الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمت رهيب ، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.

إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشا عظيما منظما ثلاثة أيام ، وبالتالي نجوا بأنفسهم ، وكان تدبير الامر الجديد تدبيرا حكيما خلّص المسلمين من موت محتم ، فعادوا سالمين إلى المدينة ، وكان هذا ممّا يشكرون عليه ، ويستحقون الثناء والثناء (1).

الجنود يعودون الى المدينة :

وقبل ان يقدم جنود الاسلام من « مؤتة » المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وانباء سيئة عن وضع الجيش ، من هنا ذهب المسلمون الى

ص: 448


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 381 و 388 و 389.

منطقة الجرف لاستقبالهم.

ومع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكا حكيما الاّ ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة وتنافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والاصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة والقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين ، وقالوا : يا فرّار ، فررتم في سبيل اللّه؟

وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جدا الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته ، ولا يظهر في الملأ ، فكان الناس - إذا خرجوا - يشيرون إليهم بالاصابع ويقولون : ألا تقدمت مع أصحابك؟ (1).

ولقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية ، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد التي أوجدها الايمان باللّه والايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل اللّه ، أفضل من الانسحاب والتأخر.

اسطورة بدل التاريخ الصحيح :

حيث إن الامام علي بن أبي طالب علیه السلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه ، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائدا آخر ، ويمنحونه لقب سيف اللّه ، ولم يكن ذلك إلاّ خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة « مؤتة » بسيف اللّه (2)

ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة

ص: 449


1- المغازي : ج 2 ص 765.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 382 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 79.

اخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.

ولكن الاوضاع بعد معركة « مؤتة » ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل هذا اللقب ، فهل من يرأس فريقا يسميه المسلمون الفرّار ، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يعطي في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل ؛ لو أنّ خالدا كان مظهرا لسيف اللّه في غزوات ومعارك اخرى امكن القبول بذلك ، أما في هذه العركة فلم يكن مظهرا لسيف اللّه ، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلاّ تكتيك نظاميّ حكيم ، ولما وصف هو ومن معه بالفراريون ، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلا : فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فأخذ اللواء ، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين (1).

إن مختلفي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضا : قال خالد : لقد اندق يومئذ ( أي يوم مؤتة ) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية (2).

ان مختلق هذه الكذبة غفل تماما عن أن خالدا وجنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة ولو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلما ذا سمّاهم أهل المدينة بالفرّار؟ او لما ذا حثوا التراب في وجوههم؟ ولما وقع الناس في خالد بعينه (3) ، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود ، ويقربوا بين أيديهم القرابين ابتهاجا بعودتهم الظافرة واعجابا بعملهم الجبار!!

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر :

لقد بكى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقتل ابن عمه « جعفر » بشدة

ص: 450


1- الطبقات : ج 2 ص 129 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 349.
2- اسد الغابة : ج 2 ص 94.
3- السيرة الحلبية : ج 3 ص 68 وغيره.

ولكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها ، فقال لاسماء : ايتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمهم ، ثم ذرفت عيناه ثم بكى ، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكت ثم خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اهله وقال :

« لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما ، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ».

وكان كلما تذكر جعفرا وزيد بن حارثة بكى (1).

ص: 451


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 54 ، المغازي : ج 2 ص 766 والسيرة الحلبية : ج 3 ص 68 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 351.

48

غزوة ذات السلاسل

منذ أن هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، وأصبحت « المدينة » مركز الإسلام وقاعدته ، وموضع تمركز المسلمين وعاصمتهم ، ظلّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراقب أوضاع أعداء الاسلام ، ويرصد تحركاتهم ، ومؤامراتهم ، وكان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصّلة عن المتآمرين من المشركين وغيرهم اهتماما كبيرا ، ويعمد دائما إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم - بمختلف الحجج - إلى نواحي مكة ، وبثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسس أخبارهم ، والتعرف على نواياهم ، وتدابيرهم.

ولقد استطاع النبي صلی اللّه علیه و آله بفضل الاطّلاع المبكّر والدقيق على المؤامرات التي كانت تحاك ضدّه أن يفشّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلی اللّه علیه و آله يباغت العدوّ ، ويحاصره قبل أن يتحرك من مكانه ، عن طريق المجموعات العسكرية التي كان يقودها بنفسه ، أو التي كان يؤمّر عليها أحد أركان جيشه ويوجّهها صوب مكان تجمع العدو ، فيفرّقون جمعهم ، ويشتتون شملهم ، ويقضون على المؤامرة في مهدها ، وبهذا كان الكيان الاسلامي في أمن من خطر الأعداء ، وكان هذا العمل وهذا التدبير يجنّب الطرفين المزيد من إراقة الدماء ، وإزهاق الأرواح.

إنّ الاطّلاع المبكّر على أسرار العدوّ العسكرية ، ومعرفة حجم طاقاته ، ومبلغ استعدادته ، واكتشاف خططه ، وتكتيكاته يعدّ من العوامل الجوهرية ، والمؤثرة في

ص: 452

الظفر والانتصار.

فللدّول الكبرى اليوم أجهزة طويلة وعريضة ، وتشكيلات واسعة ، ومعقّدة لإعداد وتخريج الجواسيس البارعين ، وإرسالهم إلى النقاط والمراكز المطلوب اكتشاف أسرارها ، والتعرف على أوضاعها وخصوصياتها ، وترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض (1).

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوّل من ابتكر في تاريخ الاسلام هذا العمل في صورته المنظّمة ، وتبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءوا من بعده ، وبخاصّة الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يستعين بجواسيس وعيون كثيرين في مجالات مختلفة ، عسكرية ، وإدارية.

فكان علیه السلام إذا نصب واليا على بلد ، جعل عليه عينا يراقب أعماله وتصرّفاته ، ويخبر الإمام بها أوّلا بأوّل ، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي ، ويوبّخه على تصرفاته وانحرافاته إن بلغه شيء من ذلك (2).

ولقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين ، بالتوجّه تحت إمرة « عبد اللّه بن جحش » إلى موضع معين ، والنزول فيه ، للتعرف على نشاطات قريش ، ومؤامراتهم.

وقد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في معركة « احد » وخروجه المبكّر من المدينة بقواه ، وجنوده ، والنزول في منطقة مناسبة عسكريا خارجها ، وحفره المبكّر أيضا للخندق المعروف في شمال المدينة ، والذي منع العدو ( جيش الأحزاب ) من اقتحام المدينة المنوّرة ، كل ذلك كان نابعا من معرفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسبقة والدقيقة بأسرار العدوّ ، ونواياه ،

ص: 453


1- راجع : كتاب : المخابرات والعالم وغيره.
2- راجع : نهج البلاغة قسم الرسائل والكتب ، رقم 33 و 45 وكتاب الغارات. هذا وقد بحثنا موضوع الاستخبارات والتجسس في النظام الاسلامي بصورة مسهبة في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية، فراجع.

وحجم قواته ، وبالأرض ، وذلك عن طريق عيونه وجواسيسه الاذكياء اللبقين ، اليقظين الذين كانوا يرصدون - بدقة وباستمرار - أوضاع العدوّ ، وتحركاته ، وينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد ، وصيانتها من خطر السقوط.

إنّ هذا التدبير الذكيّ ، والطريقة الحكيمة التي ابتكرها وأخذ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تعتبر أكبر درس للمسلمين اليوم ، ودائما.

ولهذا يتوجب على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكل ما يحاك - في بلاد الاسلام او في غيرها من بلاد العالم - من مؤامرات ضدّ المسلمين ، وما يدبّر من خطط لتقويض دعائم الاسلام ، ويبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها ، وقبل اشتعالها ، وأن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ليحصلوا على ذات النتيجة ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل لا يتيسّر من دون أجهزة مناسبة ، ومن دون تشكيلات خاصّة.

ولقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة « ذات السلاسل » الذي هو موضوع بحثنا الآن ، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة التي حصل عليها عن العدوّ.

ولو أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أغلق على نفسه هذا الباب لتحمّل خسائر لا تجبر ، ولتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الاسلامية لخطر الفشل والإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة :

لقد أبلغ العيون وعناصر المخابرات الاسلامية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن آلافا من الناس قد تحالفوا وتعاقدوا في ما بينهم في منطقة تدعى ب- : « وادي اليابس » على التوجّه إلى المدينة المنوّرة للقضاء على الاسلام بكل ما لديهم من قوة ، فإمّا أن يقتلوا في هذا السبيل ، أو يقتلوا « محمّدا » أو فارسه البطل الفاتح

ص: 454

« علي بن أبي طالب »!!

ويقول علي بن إبراهيم في تفسيره : « نزل جبرئيل على محمّد صلی اللّه علیه و آله وأخبره بقصتهم ، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا » (1).

غير أنّ شيخ الشيعة ومحققهم الكبير المرحوم « الشيخ المفيد » ( المتوفى عام 413 ه ) يقول : بأنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل (2) للتآمر عليه ، وعلى الاسلام ، ( واضاف ) بأنهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة (3).

فرأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلع المسلمين على هذا الأمر ، فأمر مؤذنه بان ينادي : الصلاة جامعة وهي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة واستماع أمر مهمّ وذي بال.

فعلا مؤذن النبي صلی اللّه علیه و آله مكانا مرتفعا ونادى : الصلاة جامعة ، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله ثم رقى النبيّ صلی اللّه علیه و آله المنبر وقال في ما قال :

« أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيّتكم فمن لهم؟ ».

فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر ، وأمّر عليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر ، فتوجه أبو بكر بتلك المجموعة إلى قبيلة « بني سليم » ، ولما سار بهم مسافة واجه أرضا خشنة وكانت قبيلة « بني سليم » تسكن في شعب واسع ، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون ان ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنو سليم وقاوموهم ، فلم ير قائد المجموعة بدّا من الانسحاب بمجموعته والرجوع بهم من حيث أتى!!

ص: 455


1- تفسير علي بن ابراهيم : ج 2 ص 334 سورة العاديات.
2- يحتمل أن يكون وادى الرمل هو وادى اليابس نفسه. وذلك للمناسبة بين الوصفين.
3- الارشاد : ص 86.

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره : قالوا ( أي بني سليم لابي بكر ) : ما أقدمك علينا؟

قال : أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أعرض عليكم الاسلام فان تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم ، وعليكم ما عليهم ، وإلاّ فالحرب بيننا وبينكم.

فهدّده زعماء تلك القبيلة - وهم يباهون بكثرة رجالهم ومقاتليهم - بقتله وقتل من معه ، فارعب لتهديدهم وعاد بجماعته إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رغم أن أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذا لأوامر النبي صلی اللّه علیه و آله !!

ولقد أزعجت عودة الجيش الاسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأمر عمر بن الخطاب أن يتولى قيادة تلك المجموعة ويتوجه بها إلى « وادي اليابس » ، ففعل عمر ذلك.

ولكن العدوّ كان قد ازداد - هذا المرة - يقظة وتحسبا فكمن عناصره عند فم الوادي ، واختبئوا وراء الاحجار والاشجار بحيث يرون المسلمين ، ولا يراهم من المسلمين أحد.

ولهذا خرجوا على المسلمين بغتة عند ما حلّ الجيش الاسلامي بذلك الوادي ، وقابلوهم ببسالة وشجاعة ، فأمر قائد المجموعة الاسلامية أفراده بالانسحاب ، وعاد بهم إلى المدينة مهزوما مذعورا كسابقه ، فلقي من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء ، والكراهية.

وهنا قال عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وساسته الماكرين ، وقد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام : ابعثني يا رسول اللّه إليهم ، فإن الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم!

فانفذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع جماعة ووصّاه فلما صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه ، وقتلوا من أصحابه جماعة!

ص: 456

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية :

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين وأحزنتهم بشدة فعمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تنظيم مجموعة جديدة واختار لقيادتها « عليّ بن أبي طالب » ، وأعطاه راية.

وطلب عليّ علیه السلام من زوجته « فاطمة » بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تأتي له بالعصابة التي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة ، فتعصّب بها ، فحزنت « فاطمة » لمنظر زوجها وهو يتوجه بمثل هذه الصورة إلى « وادى اليابس » للقيام بأمر خطير ، وبكت إشفاقا عليه ، فسلاّها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهدّأها ، ومسح الدموع عن عينيها (1).

ثم انّه صلی اللّه علیه و آله شيّع عليّا حتى بلغ معه مسجد الأحزاب ، وعليّ راكب على فرس أبلق ، وقد لبس بردين يمانيّين ، وحمل رمحا هنديا بيده.

ثم توجّه عليّ علیه السلام بأفراده نحو الهدف ، إلاّ أنه سلك طريقا غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ ، حتى أن الذين خرجوا معه تصوّروا أنه يقصد العراق ، وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في علي علیه السلام حينما وجّهه لهذه المهمة :

« أرسلته كرارا غير فرّار ».

إن تخصيص « عليّ » علیه السلام بهذه الجملة يكشف عن أن القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط ، بل كان انسحابهم مقرونا بالهزيمة القبيحة.

* * *

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة :

هذا ويمكن أن نلخّص عوامل انتصار الامام عليّ علیه السلام في هذه الموقعة

ص: 457


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 81 ، الارشاد : ص 87.

في ثلاثة امور اساسية هي :

1 - أنه علیه السلام أخفى مسيره ووجهته على العدوّ ، فلم يشعر العدوّ بوجهته ومقصده ، لأنّه غيّر مسيره حتى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان البادية.

2 - أنه علیه السلام اتّبع مبدءا هامّا من مبادئ العمل العسكري ، واستخدم تكتيكا مهمّا من التكتيكات الحربية وهو : مبدأ الكتمان والتستّر ، فقد كان علیه السلام يسير بأفراده ليلا ، ويكمن نهارا ، يستريح خلاله.

وهكذا حتى دنا من ارض العدوّ ، وقبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول والاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة ، ولكي لا يحسّ العدو بمجيئهم من جهة اخرى.

ولهذا السبب الأخير نفسه أمر علیه السلام جنوده بان يكمّوا أفواه خيولهم حتى لا يشعر العدوّ بوجودهم بصهيلها.

وعند الفجر صلّى « عليّ » علیه السلام بجنوده صلاة الصبح ، ثم صعد بهم الجبل حتى وصل إلى القمة ، ثم انحدر بهم - بسرعة فائقة - إلى الوادي حيث يسكن « بنو سليم » فاحاطوا بهم وهم نيام ، فلم يستيقظوا إلاّ وقد حاصرهم المسلمون ، فاسروا منهم فريقا ، وفرّ آخرون.

3 - شجاعة « عليّ » علیه السلام وبسالته النادرة فهو الذي قتل الشجعان الاربعة المعروفين في تلك الموقعة فارعب العدو إرعابا شديدا فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ علیه السلام ففرّ تاركا وراءه شيئا كثيرا من الغنائم (1).

ولقد عاد بطل الاسلام الظافر إلى المدينة بفتح لا سابق له ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جماعة من أصحابه لاستقباله ، واستقبال من معه من جنود الاسلام.

ص: 458


1- تفسير فرات الكوفى : ص 222 - 226 ، مجمع البيان : ج 10 ص 538.

وما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى ترجّل من فرسه فورا ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يربت على كتفه :

« اركب فانّ اللّه ورسوله عنك راضيان ».

وفي هذه اللحظة بالذات اغرورقت عينا « عليّ » علیه السلام بالدموع استبشارا فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شأن « عليّ » علیه السلام قولته المعروفة :

« يا عليّ لو لا أنّي اشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك » (1).

ولقد بلغت تضحية « عليّ » علیه السلام وبسالته ، وشجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات التي يقول سبحانه فيها :

« بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ».

إن القسم بخيول الغزاة المغيرين صبحا ، والمشعلين بحوافرها شرارات الفتح والانتصار.

إنّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريم رائع لبطولات جنود الاسلام في هذه العملية الظافرة ، واكبار بروحهم القتالية العالية.

اعتراض وجواب

هذا ولقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان

ص: 459


1- الارشاد : ص 84 - 86.

والأقسام في القرآن الكريم وقال ساخرا : وما ذا يعني القسم بالخيول الضابحة ، العادية ، والشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

ولقد غاب عن هذا الملحد أن القسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة إنما إشعار بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون - في نظر الاسلام - بمنزلة رفيعة ومكانة عالية ، بل خيولهم التي تحملهم في هذا الجهاد المقدّس ، وكذا الشرارات التي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة والأهمية أيضا.

وأية قيمة - ترى - أعلى من محاربة الظالمين الجائرين ، وانقاذ البشرية من براثن ظلمهم وجورهم ، ومن حيفهم وعسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء وما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات ، والوسائل مقدّسون جميعا ، لأنهم يحررون - بجهادهم - الانسان من قيود الطغاة ، الظالمين ، ويمهّدون لحاكمية اللّه في الأرض ، واى هدف أعلى واعظم قدسية من هذا الهدف؟

ولقد دعا القرآن الكريم المؤمنين - من خلال تقديس خيول المجاهدين وضبحهم وعدوهم وشرارات حوافرهم - إلى العناية بالجهاد دائما ، وإلى تجميع قواهم ، والاستعداد لكسر القيود التي ترزح على أيدي البشرية وأرجلها وعقولها ، والى تحطيم القلاع التي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها.

أجل ؛ إن فرق التحرير والجهاد الاسلامية لا تستحق وحدها التقديس والاكبار بل تستحق خيولها ومراكبها ، وشرارات حوافرها التقديس كذلك.

ولقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات والطائرات فهي مقدسة أيضا ، كما كانت خيول الغزاة والمجاهدين في عصر الرسالة ، كما وأن أزير محركاتها ، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاس الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة لأنها تحقق ذات الهدف ، ونفس الغاية المقدسة وهي : تحرير الانسان من براثن الظلم والطغيان.

ص: 460

هذا هو ملخص غزوة « ذات السلاسل » التي سجّلها وضبطها مفسّرو الشيعة ، ومؤرّخوهم ، ورووها بإسناد صحيحة.

غير أن مؤرّخي أهل السنة كالطبري (1) روى هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عما ذكرناه هنا ، اختلافا شاسعا.

ولا يبعد أن يكون « ذات السلاسل » اسما لغزوتين نقل كل واحد من الفريقين : « السنّة والشيعة » واحدة منها ، واعرض عن ذكر الاخرى لأسباب خاصة.

ص: 461


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 315 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 190 و 191 ، والمغازي : ج 2 ص 769 - 774.

49

فتح مكّة

اشارة

قصة « فتح مكّة » من قضايا التاريخ الاسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمل ، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر ، ولكونها تعكس - بصدق وجلاء - أهداف رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله المقدّسة ، كما تكشف عن أخلاقه العالية ، وسيرته الحسنة ، واسلوبه الانساني مع الصديق ، والعدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله من صدق ووفاء ، كما يتبيّن صدق أصحابه ، ووفاؤهم ، واحترامهم لكلّ ما تعهدوا ، والتزموا به للخصم في معاهدة « صلح الحديبية » ، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش ، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح ، وبالتالي نقضهم للعهد وبالتالي عدم احترامهم لأيّ شيء من الالتزامات!!

إنّ دراسة هذا الفصل تثبت لنا حنكة النبي ، وحسن تدبيره ، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر ، المتصلب في شركه ، وكفره ، والمتمادي في عناده وتعسّفه ، وكأنّ هذا الرجل الالهيّ قد أمضى شطرا من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا ، فهو يخطط افضل من أي قائد محنّك قدير ، للفتح ، ويكون تخطيطه من الدقة والمتانة ، والعمق والحكمة ، بحيث يصيب المسلمين فتحا عظيما بأقلّ قدر من المتاعب والمشاكل.

وبالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الاسلامي الوجه الانسانيّ الرحيم الذي كان يتسم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يحرص على دماء

ص: 462

أعداء الرسالة الالداء ، وأموالهم ، ويسعى إلى حفظها وصيانتها ، كما لو كانوا أصدقاء لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة ، وبعد مدى واسع ، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش ، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويصدر عفوا عامّا لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيرا في أسبابه ، وعلله ، وفي ظروفه وملابساته.

وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيل فتح مكّة :

لقد قرأنا في ما مضى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عقد في السنة السادسة معاهدة صلح مع قريش ، نصّت المادة الثالثة منها على : أنّ لكل من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاءوا من القبائل ، فتحالفت « خزاعة » مع المسلمين ، وتعهّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلما تعرّضوا لخطر ، وطلبوا ذلك.

وتحالفت قبيلة « بني كنانة » - وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين - مع قريش.

ولقد تم كل هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي ، والسلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.

ولقد تعهّد الطرفان - في هذه المعاهدة - بأن لا يقوم أي واحد منهما بعمليات عسكرية وتحركات عدائية ، لا ضدّ الآخر ، ولا ضدّ حليف الطرف الآخر ، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

ولقد انقضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة ، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه ، وأمن واستقرار إلى درجة أنّ المسلمين استطاعوا - بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة ، أن يزوروا - بكامل

ص: 463

حريتهم - بيت اللّه الحرام ، في مكة المكرمة ، ويؤدوا مناسك العمرة أمام عيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين وهي العمرة التي سميّت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

* * *

ولقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر جمادى الاولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه ، إلى تخوم الشام وحدودها ، لمعاقبة وتأديب المتمردين والجناة من ولاة الروم وعمّالهم فيها ، وبالضبط أولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام - الذين ابتعثهم صلی اللّه علیه و آله للدعوة والتبليغ - من دون ذنب أو جرم.

والجيش الاسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة ، ويخرج منها بسلام ، من دون أن تكلّفه تلك المواجهة خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش - على ما مر في قصة غزوة مؤتة - إلاّ أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنود الاسلام المجاهدون ، بل كانت العملية في هذه المعركة اشبه ما تكون بعملية الكرّ والفرّ.

وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها ، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم ( أو انعدمت ) روح الفروسية والاقدام ، وروح الشجاعة والبسالة.

من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية الحديبية ، فبادرت - أوّلا - إلى توزيع الاسلحة على قبيلة « بني بكر » من كنانة ، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا « خزاعة » المتحالفين مع المسلمين ، فيغيروا عليهم ليلا ، ويقتلوا فريقا ، ويأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريش بهذا ، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة ، وبذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية ، وأخلّوا عمليا بالأمن والسلام ، وأحلّوا الفوضى والقتال ، مكان الاستقرار والهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!

ص: 464

أجل ، لقد حملت « بنو بكر » ومن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على « خزاعة » ليلا ، وكان بعضهم نياما ، والبعض الآخر يتهجد ويعبد اللّه ليلا ، فقتلوا من خزاعة جماعة ، وأسروا آخرين ، وغادر - منهم - فريق منازلهم تحت جنح الظلام ، ولجئوا إلى مكة التي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها ، ودخل الذين لجئوا إلى الحرم دار « بديل بن ورقاء » (1) وشكوا إليه ما حلّ بهم على ايدي رجال قريش ، وحلفائهم من بني كنانة ليلا ، من قتل وأسر وتشريد!!

كما وعد المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فارسلوا رئيسهم : « عمرو بن سالم » فقدم المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوقف عليه وهو صلی اللّه علیه و آله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس ، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش ، وأنشد أبياتا يستغيث فيها برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذ قال :

يا ربّ إني ناشد محمّدا *** حلف أبينا وأبيه الا تلدا

فانصر هداك اللّه نصرا أعتدا *** وادع عباد اللّه يأتوا مددا

فيهم رسول اللّه قد تجردا *** إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إنّ قريشا اخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا *** وجعلوا لي في كداء رصدا

هم بيتونا بالوتير هجّدا *** وقتلونا ركّعا وسجّدا

وقد كان « ابن سالم » يعيد البيت الأخير ويكرّره إثارة لمشاعر المسلمين ، ويكرّر عبارة : قتلنا وقد أسلمنا.

ص: 465


1- كان بديل من شخصيات « خزاعة » من ذوي السن والشرف فيهم ، وكان يعيش في مكة ، وكان له من العمر آنذاك 97 عاما ( أمالي الطوسي : ص 239 ).

فانزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قريش لغدرها ونقضها للعهد ، ووعد « خزاعة » بالنصرة ، وقال :

« نصرت يا عمرو بن سالم ».

وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقوي حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة : « عمرو بن سالم » اذ قد تيقّن أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سينتقم لخزاعة ممن غدروا بها وبيتوها ، وفتكوا بأبنائها ، وبخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة ، واشعلت شرارة هذه الفتنة ، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء ، ولكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة ، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية ، والقضاء عليها إلى الأبد!!

ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « بديل بن ورقاء » في جماعة من « خزاعة » ، وأخبروه بما فعلته قريش وبنو بكر من قتل فتيان خزاعة ، ثم عادوا قافلين إلى مكة.

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ :

ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة ، وأدركت للتوّ ، بأنّ هذا الذي صنعته هو نقض للمدّة والعهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لن يدع هذه الجريمة النكراء تمرّدون ردّ قاطع وحاسم ، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها « أبي سفيان بن حرب بن أميّة » إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتسكين غضبه وتاكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة ، والتقى في « عسفان » بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائد من المدينة ، فسأله : هل كان في المدينة؟ وهل أخبر محمّدا بما أصاب

ص: 466

خزاعة؟

فقال بديل : لا ، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم.

قال هذا ، وواصل سيره باتجاه مكة.

ولكن أبا سفيان عمد - لمعرفة ما إذا كان بديل عائدا من المدينة أولا - إلى أبعاد لإبل « بديل » وجماعته ، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فايقن بأن القوم كانوا في المدينة وأنهم جاءوا محمّدا ، وأخبروه بما جرى.

قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته « أم حبيبة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طوته أم حبيبة عنه ، فقال : يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عنّي؟!

قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وفي امتاع الاسماع أن ابا سفيان لما دخل على ابنته أم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فطوته دونه وقالت : أنت امرؤ نجس مشرك!

فقال : يا بنيّة! لقد أصابك بعدي شرّ.

قالت : هداني اللّه للاسلام ، وأنت يا أبتي سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك دخولك في الاسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر!!

قال : يا عجباه! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي ، واتّبع دين محمّد!؟

أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشا ضد الاسلام طيلة عشرين عاما تقريبا ، وكانت تربطه بام حبيبة رابطة الابوة والبنوة الوثيقة ، ولكن حيث إن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام ، ونشأت في مدرسة

ص: 467

التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جدا حتى أنها رجحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية ، وميولها الشخصية.

لقد أنزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجئوها وملاذها الوحيد في المدينة ، فخرج من منزلها فورا ، حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكلّمه حول تجديد العهد ، واستمراره ، فلم يرد عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلی اللّه علیه و آله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأن يقنعوه بتجديد ميثاق الصلح ، ولكن دون جدوى.

وأخيرا دخل على « علي بن أبي طالب » وعنده فاطمة الزهراء علیهاالسلام والحسن والحسين وهما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال : يا علي ، أنك أمسّ القوم فيّ رحما ، وإني جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ علیه السلام : ويحك يا أبا سفيان ، واللّه لقد عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه.

فالتفت إلى فاطمة - وهو يحاول إثارتها عاطفيّا - فقال : يا ابنة محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

ولما كانت فاطمة علیهاالسلام تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت : ذلك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّهما صبيان وليس مثلهما يجير (1).

فقال أبو سفيان : يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت عليّ ، فانصحني.

فقال علي علیه السلام : ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين

ص: 468


1- امتاع الأسماع : ج 1 ص 359.

الناس ( أي تعطي الأمان للمسلمين ) ثم الحق بأرضك.

فقال أبو سفيان : أوترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال : لا واللّه ، ما أظنّه ، ولكني لا أجد لك غير هذا.

فقام أبو سفيان في المسجد ، وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته ، فقال : أيها الناس ؛ إني قد أجرت بين الناس.

ثم ركب بعيره ، وأنطلق راجعا إلى مكّة ، وأخبر سادة قريش بما صنع ، وذكر نصيحة « عليّ » إياه ، فقال : إنّ عليّا نصحني أن اجير الناس ، فناديت بالجوار.

فقالوا : فهل أجاز ذلك محمّد؟

قال : لا.

قالوا : ويلك واللّه ما زاد الرجل ( ويقصدون عليّا ) على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ، لأن النبي لم يجز أمانه ، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود.

ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلسا من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين ، ويثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن عزمه (1).

جاسوس يكتشف!

إنّ تاريخ رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يكشف عن انه صلی اللّه علیه و آله كان يسعى دائما الى أن يقنع العدوّ بالحق ، ويجعله يستسلم لمنطق الدين ، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وأبادته.

ففي الكثير من الغزوات والمعارك التي شارك فيها صلی اللّه علیه و آله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو ، وإفشالها ، وتشتيت شمله ، وتفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالاسلام

ص: 469


1- الغازي : ج 2 ص 780 - 794 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 389 - 397 ، بحار الأنوار : ج 21 ، ص 102.

والمسلمين ، فقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله يعرف جيدا أنه لو ازيلت الموانع ورفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطق الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ ، وكان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات ، ويقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام ، وانتشاره ، لو جرّدوا من أسلحتهم ، وانهيت حالة الحرب بينهم وبين الاسلام ، وتركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية ، وسمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال ، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها ، ولاستجابوا لنداء الضمير ، وصاروا من أنصار الاسلام ، ومؤيديه المخلصين الأوفياء.

ولهذا السبب كانت الجماعات والاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام ، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب ، تنجذب إلى الاسلام ، وترغب فيه ، وتعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.

وقد تجلّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكة بصورة أكمل وأقوى ، فقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدرك جيّدا لو أنّه فتحت مكة ، وجرّد العدوّ من السلاح ووفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للاسلام بشدة ، من أنصار هذا الدين ، ومن المجاهدين الصادقين ، الساعين في نشره.

ولهذا يجب التغلب على هذا العدوّ ، وكسر شوكته ، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته ، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء ، وازهاق الارواح ما أمكن.

ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة ( الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء ) استخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اسلوب مباغتة العدوّ.

فقبل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه ، ويجمع قواه ، ويستعدّ للمواجهة ، كان النبي صلی اللّه علیه و آله يحاصر العدوّ في أرضه ، ويجرّده من سلاحه ، ويجهض محاولته ، ومؤامرته.

ص: 470

على أنّ مبدأ « مباغتة العدو » إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طى الكتمان ، وتمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة ، بحيث لم يعرف بها العدوّ ، بل لا يعرف العدو أساسا هل ينوي النبي صلی اللّه علیه و آله الهجوم عليه ، أو لا ، وعلى فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحدا شيئا عن موعد تحرك الجيش الاسلامي ، ووجهته ، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ « مباغتة العدو ».

ولقد أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن التعبئة العامة لفتح مكة ، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدم الدعوة الاسلامية ، وانتشارها وتوسعها ، وقد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا بشيء عن حركة المسلمين ومقصدهم اذ قال :

« اللّهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها ».

أو قال :

« اللّهم خذ على قريش أبصارهم ، فلا يروني إلاّ بغتة ، ولا يسمعون بي إلاّ فجأة » (1).

فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة ، وداخلها.

ويذكر المؤرخون جدولا تفصيليا بالطوائف والقبائل التي شاركت في هذا الفتح العظيم ، وإليك ما ذكروه :

المهاجرون : سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل وثلاثة ألوية.

الأنصار : أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل ، وألوية كثيرة.

قبيلة مزينة : ألف مع مائة فرس ، ومائة درع ، ولواءان.

ص: 471


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 397 ، المغازي : ج 2 ص 796.

قبيلة جهينة : ثمانمائة مع خمسين فرسا ، وأربعة ألوية.

قبيلة بني كعب : خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

وكان بقية الجيش من قبائل غفار ، واشجع ، وبني سليم (1).

ويقول ابن هشام : كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة ، ويقول بعضهم : ألف ، ومن بني غفار أربع مائة ، ومن أسلم أربع مائة ، ومن مزينة ألف وثلاثة مائة نفر ، وسائرهم من قريش ، والأنصار وحلفاءهم وطوائف العرب من تميم ، وقيس وأسد (2).

ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضعت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قبل عناصر الحكومة الاسلامية ، كما روقب بشدة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس (3).

وبينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة ، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بأنّ أحد البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش ، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكة ، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى « سارة » - وكانت مغنية من مغنيات مكة - لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.

ولقد كانت « سارة » - كما أسلفنا - مغنية بمكة ، تغنّي لأهل مكة ، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضا ، وقد تعطّل عملها بعد معركة « بدر » ، ومقتل جماعة من رجال قريش ، ودخول الحزن في كل بيوت مكة ، فلم تعد تستطيع أن تغنّي وتطرب ، من ناحية ، ومن ناحية اخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا ، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب

ص: 472


1- المغازي : ج 2 ص 800 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 364.
2- السيرة النبوية : ج 4 ص 63.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 130. وامتاع الاسماع : ج 1 ص 361.

غيضهم على « محمّد » صلی اللّه علیه و آله وأصحابه الذين قتلوا رجالا من قريش في بدر.

من هنا تركت « سارة » مكة بعد عامين وقدمت المدينة ، وعند ما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمجيئها إلى المدينة سألها : هل أسلمت؟ فقالت : لا ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ولما أتيت إلى المدينة؟ فقالت : إنّي مولاتكم ، وقد أصابني جهد ، وأتيتكم أتعرّض لمعروفكم (1).

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكسيت وحملت وجهّزت.

ومع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه ورحمته ولكنها خانت النبي والمسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الاسلام والمسلمين بأخذ كتاب « حاطب بن بلتعة » واخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم ، مفشية بذلك سرّا للمسلمين ، تضيع - على أثره - جهود النبي صلی اللّه علیه و آله وتفشل خطته!!

ولما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الاشاوس هم علي والمقداد والزبير ، ليدركوا المرأة الخائنة ، على طريق مكة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشا ممّا أجمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليه.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى « روضة الخاخ » (2) فاستنزلوها ، وفتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا ، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي علیه السلام .

« إني أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا كذبنا ، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك » (3).

ص: 473


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 136 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 362 و 363.
2- وقال ابن هشام : فادركوها بالخليقة ( ج 2 ص 399 ).
3- السيرة النبوية : ج 4 ص 41 ، وذكر مؤلف الامتاع شخصين فقط هما الامام على والزبير ( ج 1 ص 362 ).

ولما رأت تلك المرأة هذا الجدّ من علي علیه السلام وكانت تعرف أن عليّا لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قالت : أعرض ، فأعرض عليّ ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فانزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لفعل « حاطب » وكان من المسلمين السابقين ، فدعاه من فوره وقال له عاتبا ومستفهما : يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه وبرسوله أنه لم يقصد شرا ، وقال : يا رسول اللّه ، أما واللّه إني لمؤمن باللّه ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه!!

ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب المهاجرين وعوائلهم ، ويؤذونهم ، ولا يتركون أذاهم إلاّ إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

وهذا الاعتذار وان كان غير وجيه ، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين ، غير أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصفح عنه ، وخلى سبيله لمصالح معينة منها : سابقة « حاطب » في الإسلام.

إلاّ أنّ « عمر بن الخطاب » طلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يضرب عنقه ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

« وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطّلع يوم بدر على أصحاب بدر فقال : أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » (1).

ولكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر والاثيم أنزل اللّه سبحانه قرآنا بهذا الشأن في عدة آيات اذ يقول :

ص: 474


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 363 وغيره.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (1).

النبي يتحرك باتجاه مكة :

أخذا بمبدإ « المباغتة » كتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله موعد الحركة ، ووجهتها ، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على وجه التحديد (2).

ص: 475


1- الممتحنة : 1 - 6 ، راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 399 ، مجمع البيان : ج 9 ص 269 و 270.
2- المغازي : ج 2 ص 802 ، الامتاع : ج 1 ص 362 قال : وأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريد ، فظانّ يظنّ أنه يريد الشام وظان يظنّ ثقيفا وظان يظن هوازن.

وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوامره بالخروج ، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد والتهيؤ للخروج.

ثم إنه استخلف على المدينة رجلا من بني غفار يدعى « أبا رهم » ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لما كان صلی اللّه علیه و آله بمكان يدعى « الكديد » طلب شيئا من الماء امام المسلمين ، وافطر به في تلك الساعة من النهار ، وامر الجند بان يفطروا اقتداء به هم أيضا.

فافطر اكثر المسلمين ، وأمسك البعض ولم يفطر ظنا بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل ، واكبر أجرا ، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين ، بان النبي صلی اللّه علیه و آله الذي أمر بالافطار في شهر رمضان في تلك الحال ، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضا

فاذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائد حق ودليل سعادة فانه - في كلتا الحالتين - يريد سعادة الناس ، وينشد خيرهم ، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره ، ولا يطاع في نهيه.

وهذا غضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم : « اولئك العصاة »!! (1).

وأمرهم بأن يفطروا قائلا : « إنكم مصبحوا عدوّكم ، والفطر أقوى لكم ».

إنّ مثل هذا التقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلاّ نوع من الانحراف عن الحق ، وهو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية ، المتمردة عن أمر النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولهذا نزل فيه قرآن يلومهم ، ويوبّخهم على عصيانهم إذ قال سبحانه :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (2).

ص: 476


1- وسائل الشيعة : ج 7 ص 124 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 90 ، المغازي : ج 2 ص 802.
2- الحجرات : 1.

هذا وقد كان « العباس بن عبد المطلب » من المسلمين الذين بقوا في مكة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتجسس له الأخبار ، ويطلعه على نوايا قريش ، وخططهم أوّلا بأوّل.

وقد تظاهر العباس - بعد فتح خيبر - بإسلامه ، ولكنه بقي محافظا على علاقاته بسادة قريش وزعمائها ، فقرّر أخيرا أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين ، فغادر مكة متوجها إلى المدينة ، وصادف خروجه مسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مكة ، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مفيدا للجانبين : ( قريش والمسلمين ) فلو لم يكن العباس ، ونشاطاته السياسية ، الذكيّة ، لما تيسّر فتح مكة من دون مقاومة قريش ، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي ، الذي سنأتي على ذكره قريبا.

العفو عند المقدرة :

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشرفة ، واخلاقه الحميدة ، وصدقه وأمانته ، طوال حياته من الامور الواضحة المعلومة عند أقربائه ، وأبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثما ، ولم يفكر في ذنب ، ولم ينو الاعتداء على أحد ، ولم يقل بلسانه سوءا ولا قبيحا ، ولا خان في امانة ، ولا افشى سرا ولا تخلف عن فضيلة.

ولهذا استجاب لدعوته - في الايام الاولى من دعوته العامة - الاكثرية الساحقة من قبيلته ( بني هاشم ) ، والتفّوا حوله ، وتحمّلوا الدفاع عنه ، ودعم

ص: 477

مواقفه.

ولقد اشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة ، واعتبرها دليلا على طهارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصدقه ونزاهته ، فهو يقول : مهما كان المرء متكتّما متسترا على أعماله وأفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه ، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه ، ولما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة (1).

نعم يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاستجابة لدعوته ، ويمكن الاشارة - في هذا المجال - بعد أبي لهب المعروف بل والمصرح بعداوته في القرآن - إلى « أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب » و « عبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة » اللذين خاصما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعارضا دعوته بشدة ، ولم يكتفيا بعدم الايمان برسالته ، بل منعا من انتشار الحق ، وآذيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشدّ الأذى وألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.

ولقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخاه من الرضاعة ، وكان يألف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، ولكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة ، وبنى على مخالفته ومعاداته (2).

وأما عبد اللّه بن أبي اميّة فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وابنة عبد المطلب.

ولقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة ويلتحقا بالمسلمين.

فقد خرجا قبيل الفتح من مكة ، فلقيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في أثناء الطريق - وعلى وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب ،

ص: 478


1- الأبطال : لكارليل الانجليزى.
2- المغازي : ج 2 ص 806 و 807.

والنبي قاصد مكة ، فاستأذنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليدخلا عليه ، وأصرّا على ذلك ، فابى النبي صلی اللّه علیه و آله أن يأذن لهما.

وقد وسّطا أمّ سلمة ، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى يرضى عنهما ، فكلّمته فيهما ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبى وقال :

« لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمّي فهتك عرضي وأما ابن عمّتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال » (1).

ولما كان « عليّ » علیه السلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخلاقه ، وبطريقة استعطافه ، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر ، فعلّمه علي بن أبي طالب علیه السلام أن يأتي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قبل وجهه فيقول :

« قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ » (2).

فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم :

« قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » (3).

لأنه صلی اللّه علیه و آله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.

ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي علیه السلام ودخل من الطريق الذي بيّنه له ، فعفا عنه رسول اللّه كما فعل يوسف باخوته ، فانشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عما سبق منه ، قال فيها :

ص: 479


1- فهو ممن اقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكة امورا غير معقولة ، وقد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات : 90 - 93 من سورة الاسراء راجع مجمع البيان : ج 6 ص 439 واسد الغابة : ج 5 ص 213 و 214.
2- يوسف : 91.
3- يوسف : 92.

لعمرك إني يوم أحمل راية *** لتغلب خيل اللات خيل محمّد

فكالمدلج الحيران أظلم ليله *** فهذا أواني حين اهدى فأهتدي (1)

ويكتب « ابن هشام » في سيرته قائلا : قال أبو سفيان ومعه ابنه ، لما أعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنه وأبى أن يأذن له : واللّه ليقبلنّي ، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الارض حتى أهلك عطشا وجوعا وأنت أحلم الناس مع رحمي بك » (2).

وقد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد كلّمته في أبي سفيان : بأبي أنت وامّي يا رسول اللّه ألم تقل : أنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهما ، وأذن لهما ، فدخلا ، وقبل اسلامهما (3).

تكتيك رائع لجيش الاسلام :

تقع « مرّ الظهران » على بعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة ، وقد قاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه العظيم ( وقوامه عشرة آلاف ) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.

ومع أنّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسّس الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش ، ولكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئا عن نوايا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهدفه.

ولما وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مشارف مكّة عمد - لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة وفتحها ، ويتسنّى لهم تحطيم صرح الوثنية من دون إراقة الدماء - إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران

ص: 480


1- الاصابة : ج 4 ص 90 ، واسد الغابة : ج 5 ص 213 و 214.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 402.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 114 و 115.

فوق الجبال والتلال ، وللمزيد من تخويف سكان مكة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يشعل كل واحد من الجنود النار وحده ، في شريط طويل على الأرض.

كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة ، بينما كانت النيران من جهة اخرى قد غطت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم ، ولفت أنظارهم.

وفي هذا الاثناء كان بعض سادة قريش ك : « أبي سفيان بن حرب » و « حكيم بن حزام » وغيرهما قد خرجا من مكة يتجسّسون الأخبار.

ففكّر « العباس بن عبد المطلب » الذي لازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من منطقة الجحفة ، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنود الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يقتل جمع كبير من قريش ، ولهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليّ لصالح الطرفين ، ويقنع قريشا بالتسليم ، وعدم المقاومة.

فركب بغلة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله البيضاء وتوجه صوب مكة ليخبر قريشا بمحاصرة مكة من قبل جنود الاسلام ، ويخبرهم بكثرة عددهم ، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبي صلی اللّه علیه و آله ويقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا ، فيقول بديل : هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان : خزاعة أذلّ وأقلّ من ان تكون هذه نيرانها وعسكرها.

فصاح العباس بأبي سفيان وقال : يا أبا حنظلة.

فقال أبو سفيان : يا لبيك ، أبو الفضل ما لك؟

فقال العباس : هذا رسول اللّه في عشرة آلاف من المسلمين.

فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية ، فقال وهو

ص: 481

يرتجف ، وتصطكّ اسنانه من الفزع : فما الحيلة فداك أبي وأمي؟

فقال العباس : اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاستأمنه لك.

فركب أبو سفيان خلف العباس ، ورجع صاحباه ( حكيم وبديل ) إلى مكة.

ولقد كان مسعى العباس - كما ترى - في مصلحة الاسلام كله ، فقد أرعب شيطان قريش ، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان ، وكان موفقا في هذه الخطوة جدا بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلاّ في التسليم ، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة ، بل ومنعه العباس من العودة إلى مكة ، في نفس الليلة ( ليلة فتح مكة ) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بغية تقييده ، ومنعه من العودة مكة ، إذ كان من المحتمل جدا أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معا خطة لمواجهة جيوش الاسلام ، فيقع - حينئذ - ما لا يحمد عقباه ، من سفك الدماء ، وذهاب الأنفس والارواح.

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي :

دخل العباس - وهو على بغلة بيضاء وقد اردف خلفه أبا سفيان - في معسكر المسلمين ، وهو يقصد خيمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال نيران المسلمين التي أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بإشعالها ، وكان كلّما مرّ بنار من نيرانهم قالوا : عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلا يمنعون من مروره ، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همّ بقتله في المكان ، ولكن عمّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجار أبا سفيان في الحال ، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به ، وهو في جواره.

وأخيرا وصل العباس برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فترجّلا ، فاستأذن العباس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للدخول مع أبي سفيان عليه فاذن لهما ، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس وعمر بين

ص: 482

يدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حول أبي سفيان وكان عمر يقول : أبو سفيان عدوّ اللّه فلا بد أن يقتل ، ولكن العباس كان يقول : يا رسول اللّه إنّي قد أجرته ، فقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دابر هذه المناقشة عند ما قال :

« اذهب يا عبّاس إلى رحلك ، فاذا أصبحت فاتني به ».

فذهب العباس بأبي سفيان إلى رحله ، فبات عنده ليلته كما أمر ، فلما أصبح غدى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خيمته قال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

« ويحك يا أبا سفيان ؛ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلاّ اللّه؟ ».

فقال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه آله غيره ، لقد أغني عنّي شيئا بعد.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه »؟

قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، أما واللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا!!

فغضب العباس من شك أبي سفيان ، ولجاجته وعناده فقال له : ويحك ، أسلم واشهد أن لا إله الاّ اللّه ، وأن محمّدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك.

فشهد أبو سفيان شهادة الحق ، فاسلم ودخل في عداد المسلمين.

أن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ويطلبه دينه الحنيف ، ولكنّ مصالح معيّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ ، وينزاح اكبر مانع من طريق الدعوة

ص: 483

الاسلامية ، لأنّ رجالا مثل « أبي سفيان » و « أبي جهل » و « عكرمة » و « صفوان بن أميّة » وغيرهم ، كانوا قد أوجدوا جوّا من الرعب والخوف في مكة استمرّ أعواما عديدة ، فلم يكن يجرأ أحد من المكيّين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام ، أو يظهر رغبته في اعتناقه ، والانضواء تحت لوائه.

فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيدا من حيث الواقع ، ولكنه كان مفيدا جدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وللذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكة ، وبالتالي لمن كانت له علاقات قربى معه.

ومع ذلك لم يسمح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمنا - وحتى مع إظهاره الاسلام - من جانبه قبل أن يتمّ فتح مكّة ، ولهذا أمر صلی اللّه علیه و آله عمّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليبصر عظمة القوات الاسلامية ، وكثافتها قائلا :

« يا عبّاس احبشه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ( أي انفه ) حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها ».

ثم إن العباس قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئا.

واستجاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الطلب ، ومع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والّب ضدّه طيلة عشرين عاما ، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة ، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام والمسلمين ، فمنحه - رغم ذلك ولمصالح خاصة - مقاما ، وقال كلمته التاريخية في حقه ... تلك الكلمة التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وسمو روحه ، وعمق حكمته اذ قال :

« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

ص: 484

ومن أغلق بابه فهو آمن.

ومن دخل المسجد فهو آمن.

ومن طرح السلاح فهو آمن » (1).

مكة تستسلم من دون إراقة دماء :

تقدّم جيش التوحيد العظيم نحو مكة ، حتى أصبح على مقربة منها.

وقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عازما على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء ، وإزهاق أرواح ، وأن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

وكان من العوامل التي ساعدت على تحقيق هذه الغاية - مضافا إلى عامل التكتم والتستّر ومبدأ المباغتة - أنّ العباس عمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله توجّه إلى مكة كداعية صلح ووسيط سلام بين قريش والنبي صلی اللّه علیه و آله فكان أن أتى بأبي سفيان الى معسكر الاسلام كما أسلفنا ، وبذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان ، ولم يكن في مقدور سادة قريش أن يتخذوا قرارا حاسما من دون أبي سفيان.

وعند ما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الاسلام الفريدة وأظهر الاسلام ، رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يستفيد منه لإرعاب المشركين اكثر قدر ممكن ، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بام عينيه حشود المجاهدين من المسلمين - كما أسلفنا - في وضح النهار مع كامل عدّتهم واسلحتهم ، ونظامهم وقوتهم ، فيخبر قريشا بذلك ، فيزيدهم خوفا ورهبة ، فينصرفوا عن فكرة مقاومة الجيش الاسلامي عند دخوله الى مكة.

وفعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله فحبس أبا سفيان

ص: 485


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 400 و 404 ، مجمع البيان : ج 10 ص 554 - 556 ، المغازي : ج 2 ص 816 - 818 ، شرح نهج البلاغة الحديدي : ج 17 ص 268.

حيث أمر النبي صلی اللّه علیه و آله .

فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان ، وكانت بعض قطعات الجيش الاسلامي على النحو التالي :

1 - كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد ، وفيها لواءان ، أحدهما مع « عباس بن مرداس » ، والآخر مع « المقداد ».

2 - فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل بقيادة « الزبير بن العوام » الذي كان يحمل معه لواء أسودا ، وكان اكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

3 - فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة « أبي ذر الغفاري » وكان لواؤه معه.

4 - فوج قوامه اربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة « يزيد بن الخصيب » ومعه لواؤه.

5 - فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة « بشر بن سفيان » ورأيته معه.

6 - كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني مزينة ، فيها ثلاثة ألوية ، لواء مع النعمان بن مقرن ، ولواء مع بلال بن الحارث ، ولواء مع عبد اللّه بن عمر.

7 - كتيبة قوامها ثمانمائة مقاتل من جهينة ، فيها أربعة ألوية ، لواء مع « معبد بن خالد » و « سويد بن صخرة » و « رافع بن مكيث » و « عبد اللّه بن بدر ».

8 - فوجان قوامهما مائتا مقاتل من بني كنانة ، وبني ليث وضمرة ، بقيادة « أبي واقد الليثي » ، وكان لواؤهما معه.

9 - فوج قوامه ثلاثمائة ، مقاتل من بني أشجع ، وفيها لواءان أحدهما بيد « معقل بن سنان » والآخر مع « نعيم بن مسعود » (1).

ص: 486


1- لقد سجّل المؤرخ الاسلامي الشهير « الواقدي » عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه « المغازي » :ج 3 ص 800 و 801 وص 819 بشكل دقيق ، وقد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 17 ص 270 و 271.

وعند ما كانت هذه القبائل والقطعات تمرّ ، سأل أبو سفيان العباس عن اسمها ، وخصوصياتها ، فكان العباس يوضح له كل ذلك.

والذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالا وعظمة أن قادة هذه الافواج والكتائب كانوا اذا مرّوا على العباس وأبي سفيان كبّروا ثلاثا بأعلى أصواتهم وبشكل منظّم ، وكبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد ومنظم أيضا كأكبر شعار اسلامي.

ولقد كان لهذه التكبيرات الهادرة التي كانت تدوّي في وديان مكة ، وتردّدها الجبال والوديان ، أكبر الاثر في نفوس الاصدقاء والاعداء ، فكانت تزيد بهيبتها وجلالها من محبة الاصدقاء للنظام الاسلامي العظيم ، بينما ترهب أعداء اللّه ، وتغرقهم في خوف ورعب شديدين.

هذا وكان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة التي فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولهذا كان يسأل العباس كلما مرّت قطعة من قطعات الجيش الاسلامي : أفيها محمّد؟ أو ما مضى بعد محمّد؟!

فيقول العباس : لم يمض بعد ، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمّد صلی اللّه علیه و آله رأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة.

وبينما هما كذلك إذ طلعت كتيبة عظيمة قوامها خمسة آلاف مقاتل ، فيها ألفا دارع فقط ، فيها الرايات والألوية الكثيرة ، فيها المهاجرون والانصار ، مع كل بطن وقبيلة من قبائل الأنصار راية ولواء ، وكانت تسمى كتيبة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخضراء لأن أفرادها كانوا في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وقد ركبوا الخيول العربية الاصيلة ، والحمر من الإبل ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وسطها راكب على ناقته القصوى ، وقد أحدق به كبار الشخصيات من

ص: 487

المهاجرين والانصار ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يحدّثهم.

فارعبت عظمة هذه الكتيبة أبا سفيان ، بشدة ، حتى أنه قال للعباس من دون اختيار : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة يا أبا الفضل! واللّه يا ابا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.

فقال له العباس - بنبرة موبّخة - : ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.

فليس هذه العظمة والجلال من أثر الملك المادّي الدنيوي إنما هو هو فعل الرسالة الالهية ، إنه جلال النبوة ، وانه بالتالي من فضل اللّه عزّ وجلّ الذي أدخل الاسلام في قلوب هذه الجماهير المؤمنة ، وهذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

أبو سفيان يرجع إلى مكة :

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة ، فقد أرعب أبو سفيان من قوة الاسلام العسكرية الكبرى ، ولهذا رأى النبي صلی اللّه علیه و آله أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكة قبل دخول جنود الاسلام فيها ، فيخبر أهلها بعظمة وقوة الجيش الاسلامي القادم إليهم ، ويحذّرهم من مغبة المقاومة والمواجهة ، ويدلهم على طريق الخلاص والنجاة ، وهو التسليم للأمر الواقع ، والقاء السلاح ، والاستسلام من دون قتال ومقاومة ، ومن دون قيد وشرط ، لأن بمجرد تخويف أهل مكة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليتحقق هدف النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ، وهو الفتح من دون دماء.

فدخل أبو سفيان مكة ، وقد بات الناس ليلتهم في رعب شديد ، وترقّب رهيب حتى أصبحوا ، ولم يكن بامكانه أن يقرّروا شيئا من دونه ، فلما رأوه قادما أحاطوا به ، فاخذ يشير الى ناحية المدينة ، وقد اصفرّ وجهه ، وانهارت قواه وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، أو قال : هذا محمّد في عشرة آلاف فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن.

ص: 488

على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة التي أعلنها للجوء الناس إليها حتى يأمنوا من القتل ، موضعا آخر ، حيث عقد لابي رويحة « عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي » لواء وأمره أن ينادي :

« من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن » (1).

وقد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكة بشدة حتى أنهم انصرفوا عن فكرة المقاومة ، لو كانت ، وأثمرت جهود العباس ومساعيه في الليلة الفائتة ، وأصبح فتح مكة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي وعند من ينظر الى واقع الامور ، أمرا مسلّما وقطعيا.

ففزع الناس ، وتفرّقوا ، ولجأ بعضهم إلى دورهم ، والبعض الآخر الى المسجد ، وأسدى أعدى أعداء الرسالة ونعني أبا سفيان ، ونتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم ، أكبر خدمة لجنود الاسلام ، حيث مهّد لهم - بما أوجده في نفوس المكيين وقلوبهم من هزيمة نفسية - طريق الفتح العظيم بسلام ، ومن دون مشاكل تذكر ، اللّهم إلا « هند » زوجة أبي سفيان التي كانت تحرّض الناس على المقاومة ، وراحت تشتم زوجها وتسبّه باقذع الشتائم والسباب ، وتتهمه بالجبن والذل.

بيد أنّ الأمر كان قد قدر ، ولم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة ، ولم تكن تلك الكلمات والأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

ونظير هذا الذي فعلته هند ، ما فعله وقام به بعض الزعماء المتطرفين مثل « صفوان بن أميّة » وعكرمة بن أبي جهل » و « سهيل بن عمرو » ممثّل قريش في صلح الحديبية ، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن يعملوا على منع قوات الاسلام من دخول مكة ، وانخدع بهم فريق من البسطاء والمغفلين ، فشهروا السلاح في وجه أول قطعة من قطعات الجيش الاسلامي ، وسدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة

ص: 489


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 379.

يائسة لتحقيق مآربهم.

القوات الاسلامية تدخل مكة :

وقبل ان تدخل قوات الاسلام مكة كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد دعا جميع قادة وامراء جيشه وقال لهم بانه يريد ان يفتح مكة من دون إراقة أيّة دماء ، ولهذا امرهم ان لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم ، إلاّ أنه أمر بقتل عشرة وان وجدوا تحت أستار الكعبة وهم : « عكرمة بن أبي جهل » و « هبار بن الاسود » و « عبد اللّه بن أبي سرح » و « مقيس بن حبابة الكندي » و « الحويرث بن نقيذ » و « عبد اللّه بن خطل » و « صفوان بن أميّة » و « وحشي بن حرب » قاتل حمزة.

و « عبد اللّه بن الزبعرى » و « حارث بن طلالة » واربع نسوة وكان كل واحد من هؤلاء قد قتل أحدا او ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة او حرب ضدّ الاسلام والمسلمين (1).

وقد بلغ الأمراء والقادة هذا الأمر إلى جنودهم كافة ، ومع أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف مسبّقا بمعنويات المكيين المنهارة ، وعدم قدرتهم على المقاومة ، إلا أنه - مع ذلك - لم يترك جانب الاحتياط والحذر الذي يفرضه العمل العسكري ، عند دخول مكة ، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

فقد وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بجيشه كله إلى « ذي طوى » ( وهو موضع مرتفع كانت ترى منه بيوت مكة ومنازلها ) وهو في كتيبة قوامها خمسة آلاف ، فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منازل مكة اغرورقت عيناه بدموع الشوق والحنين ، فانحنى تواضعا لله تعالى وشكرا ، حتى رأى ما رأى من فتح اللّه ، وكثرة المسلمين حتى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرجل أو يقرب منه.

ص: 490


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 410 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 90 - 94 وقد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبه هذه الجماعة المهدورة دماؤها وما آل إليه أمرهم بعد فتح مكة.

ومراعاة لجانب الحذر والاحتياط فرّق صلی اللّه علیه و آله جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكة من أسفلها ، وأمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها ، ولم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بان تدخل من جميع المداخل والطرق المؤدية إلى داخل مكة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الاسلامي وقطعاته وكتائبه وفرقه مكة من دون قتال ومن دون ان تلقى من أهلها مقاومة ، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم الاّ المدخل الذي دخل منه « خالد بن الوليد » بفرقته ، فقد عمد جماعة من المكيين بتحريض من « عكرمة » و « صفوان » و « سهيل » على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين ، ورموا بالنبل لمنعهم من دخول مكة ، ووقع قتال بين الجانبين ، ولكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شيء من القتال والمقاومة ، وفرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصا (1).

ومرة اخرى قام أبو سفيان ومن حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الاسلام في هذه الحادثة ، فانه كان لا يزال مرعوبا ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الاسلامية وقوتها وكان يعلم ان المقاومة لا تجدي نفعا ولا تجرّ على أهل مكة إلاّ الضرر ، ولهذا نادى بأعلى صوته - حقنا للدماء - : يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ... فلا يدفع محمّدا شيء ، فضعوا اسلحتكم ، وادخلوا في بيوتكم ، واغلقوا عليكم أبوابكم او ادخلوا المسجد ، تسلموا.

فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور ، ويغلقون عليهم ، ويطرحون السلاح في الطرقات حتى يأخذها المسلمون ، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

ولما ظهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على « ثنية أذاخر » نظر إلى لمعان

ص: 491


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 408 ، وحسب المغازي : ج 2 ص 825 - 826 قتل ثمان وعشرون رجلا.

السيوف وهي تصعد وتهبط فقال : « ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال »؟

فقيل : يا رسول اللّه ، خالد بن الوليد قوتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « قضى اللّه خيرا ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل مكة من ناحية أذاخر ، وهي أعلى نقطة في مكة في موكب عظيم جليل ، فضرب له قبة من أدم بالحجون ( عند قبر عمّه العظيم أبي طالب ) ليستريح فيها ، وقد أصرّوا عليه صلی اللّه علیه و آله بأن ينزل في بعض بيوت مكة فأبى صلی اللّه علیه و آله (1).

كسر الاصنام وغسل الكعبة :

لقد استسلمت مكة التي كانت مركزا رئيسيا للشرك والوثنية طوال أعوام عديدة ومديدة ، أمام قوات التوحيد الظافرة ، وسيطر جنود الاسلام على جميع نقاط تلك المدينة المقدسة.

ولقد استراح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الخيمة التي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم انه صلی اللّه علیه و آله بعد أن اطمأنّ واغتسل ركب راحلته « القصواء » وتوجّه الى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به ، بينما كان يحمل معه السلاح ، والمغفر على رأسه ، وتحيط به هالة من العظمة والجلال ، ويحدق به المهاجرون والانصار ، وقد صفّ له الناس من المسلمين والمشركين ، بعض يغمره الفرح والسرور ، وآخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

ولما انتهى صلی اللّه علیه و آله إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون تقدّم على راحلته ، ولم يترجّل منها لأسباب خاصة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده ، وكبّر فكبّر المسلمون لتكبيره ، ورجّعوا التكبير حتى ارتجّت مكة لتكبيرهم

ص: 492


1- الامتاع : ج 1 ص 380.

ودوّى صوتهم في الجبال والوهاد ، وسمعه المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد وقد بلغ من هياج المسلمين ، وهم يطوفون بالبيت من شدة سرورهم جدا كاد أن يمنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الطواف بالبيت بفكر هادئ فاشار إليهم صلی اللّه علیه و آله أن اسكتوا ، فسكت الجميع بأمره ، وساد الصمت كل أرجاء المسجد الحرام ، فطاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبيت على راحلته ، وقد أخذ بزمامها « محمّد بن مسلمة » وفيما احتبست الاصوات في الصدور ، واتجهت الأبصار إليه صلی اللّه علیه و آله فوقعت عيناه الشريفتان - في الشوط الأول من طوافه - على الاصنام الكبرى « هبل » و « اساف » و « نائلة » منصوبة فوق الكعبة ، فجعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول : « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه.

وأمر صلی اللّه علیه و آله بهبل اكبر أصنام المشركين فحطم وكسر في مرأى من المشركين ، ولقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية ، ويسيطر على أفكارهم أعواما عديدة.

ولما كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان وكان ينظر إلى ذلك المشهد : يا أبا سفيان لقد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم « احد » في غرور ، حين تزعم أنه قد أنعم.

فقال أبو سفيان : دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.

ولما انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد ، والناس حوله ، ثم أرسل بلالا إلى « عثمان بن طلحة » يأتيه بمفتاح الكعبة ، وكان عثمان يومذاك سادن الكعبة ، وقد كانت السدانة تتوارث جيلا بعد جيل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمرك أن

ص: 493

تأتي بمفتاح الكعبة ، فاستجاب عثمان ، إلاّ أنّ امّه منعته عن ذلك ، وكان المفتاح يومئذ عندها وقالت له : اعيذك باللّه أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه.

فقال لها عثمان : فو اللّه لتدفعنّه إليّ ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك ، فسلّمته إياه.

ففتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به باب الكعبة ودخل البيت ، ودخل من بعده صلی اللّه علیه و آله اسامة بن زيد وبلال وعثمان وسادتها ، ثم أمر النبيّ باغلاق باب الكعبة ، ووقف خالد بن الوليد على الباب يذبّ الناس عن الباب.

وكانت جدران الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء والملائكة وغيرهم ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمحوها جميعا ، وغسلها بماء زمزم.

عليّ علیه السلام على كتف النبيّ :

يقول المحدّثون والمؤرّخون : لقد كسرت بعض الأصنام الموضوعة في الكعبة على يد « عليّ بن أبي طالب » وذلك عند ما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام :

« اجلس ».

فجلس إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منكبي ثم قال : انهض بي إلى الصنم ... فحاول أن ينهض فلم يطق.

فلما رأى النبي ضعفه تحته ، قال :

« اجلس ».

فجلس عليّ علیه السلام ثم نزل النبي صلی اللّه علیه و آله عنه ، ثم جلس صلی اللّه علیه و آله ثم قال :

« يا عليّ اصعد على منكبي ».

ص: 494

فصعد عليّ علیه السلام على منكبه ، ثم نهض به فالقى صنم قريش الاكبر ، وكان من نحاس ، ثم ألقى بقيّة الاصنام إلى الارض وحطّمها.

وقد أنشد شاعر الحلة الشهير بابن العرندس ، وهو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكرها فيها هذه الفضيلة بقوله :

وصعود غارب أحمد فضل له

دون القرابة والصحابة أفضلا (1)

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بان يفتح باب الكعبة فوقف على الباب ، وأخذ بعضادتى الباب فاشرف على الناس بطلعته المنيرة ومحياه الجميل وقال :

« الحمد لله الّذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ».

ولقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده الى مسقط راسه اذ قال : « إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد قل ربّي اعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين » (2).

وقد أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له ، وبرهن مرة اخرى على صدقه ، وصحة دعواه.

وفي ما كان الصمت يخيّم على أرجاء المسجد الحرام ، وفي ما كانت الانفاس محتبسة في الصدور ، وتجول في رءوس الحاضرين وانفسهم أفكار مختلفة ، وخواطر شتى ، ويتذكر أهل مكة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واتباعه من الأذى والعذاب الشديد ، فتذهب بهم تصوراتهم مذاهب شتى!!

إن الذي سبق لهم أن اشعلوا حروبا كثيرة ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقتلوا خيرة شبابه وأصحابه ، بل وتمادوا في غيهم وعدوانهم حتى أنهم تآمروا

ص: 495


1- مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 84 باسناد صحيح ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 86. تاريخ الخميس : ج 2 ص 86 و 1. مستدرك الحاكم : ج 2 ص 367 ، وراجع بقية المصادر في موسوعة الغدير : ج 7 ص 10 - 13.
2- القصص : 85.

لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلا ، وتقطيعه بالسيوف إربا إربا ، ها هم الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته ، وهو صلی اللّه علیه و آله قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

إن من الطبيعي أن يتحدث أهل مكة في أنفسهم وهم يتذكّرون معاداتهم الشديدة والطويلة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجرائمهم الكبرى بحقه ، وبحق دعوته ويقول بعضهم : أنه سيقتلنا حتما ، أو يقتل فريقا منا ، ويحبس آخرين ، ويسبي ذريتنا ونساءنا ، جزاء ما فعلنا.

وبينما كانوا - في تلك اللحظات - فريسة هذه الافكار والتصورات الشيطانية ، كسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جدار الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المسجد الحرام وقال سائلا :

« ما ذا تقولون ... وما ذا تظنون؟! ».

فقال أهل مكة : وقد تملّكتهم حيرة شديدة ، وخوف عظيم وهم قد عرفوا رحمة النبي ورأفته ، ولطفه لطفه ، وخلقه العظيم : نقول خيرا ، ونظن خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت.

فقال رسول اللّه ونبي الرحمة صلی اللّه علیه و آله ، وقد سمع هذه العبارات العاطفية :

« فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف « قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين » (1).

وكان أهل مكة قد اطمأنّوا إلى عفو النبي وصفحه قبل ذلك نوعا ما عند ما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عند ما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكة من احدى مداخلها :

اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة

ص: 496


1- المغازي : ج 2 ص 835 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 107 و 132 والآية المذكورة هي 92 من يوسف.

فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الشعار وقال ردا عليه :

« اليوم يوم المرحمة » (1)

كما أنه أمر - لغرض تأديب من أطلق هذا الشعار - بأخذ اللواء منه ، وأعطاه إلى شخص آخر ، وقيل إنّه صلی اللّه علیه و آله عزله عن قيادة المجموعة ، وأمرّ ابنه مكانه ، وكان هذا الأمير هو سعد بن عبادة رئيس الخزرج.

وقد دفع هذا النوع من اللطف والموقف الايجابي الذي لاحظه أهل مكة المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة ، خاصّة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان ، أو ألقى السلاح ، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كل هذه الامور كانت قد فتحت على أهل مكة بصيصا من الأمل في العفو الشامل.

النبي يعلن عن العفو العام :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعلن عن العفو العام عن جميع أهل مكة بقوله :

« ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني اذهبوا فانتم الطلقاء » (2).

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة :

ثم حان وقت صلاة الظهر ، فعلا مؤذن الاسلام « بلال » الحبشي سطح الكعبة المعظمة ، ورفع في الحاضرين وبصوت عال نداء التوحيد والرسالة

ص: 497


1- المغازي : ج 2 ص 821 و 822.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 106 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 412.

( الأذان ) ، فكان كل واحد من المشركين يقول كلاما ، غضبا وحنقا على بلال.

فمنهم من قال : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا البوم!!

وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء!! (1).

إن هذا العجوز الخرف المعاند الذي لم يشرق في قلبه نور الإسلام حتى آخر لحظة من حياته ، خلط بين مسألة الاطلاع على الغيب ، وتلقّي الحقائق عن طريق الوحى ، وبين مسألة التجسس الذي يعتمده جبابرة العالم وطغاته.

إن مسألة اطلاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قضايا الغيب أمر يحصل بطرق غير عادية ولا متعارفة ، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الامور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية ، أو من يسمّون برجال المخابرات والأمن.

وعلى كل حال فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا « عثمان بن طلحة » وردّ إليه مفتاح الكعبة ، وقال له :

« هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء » (2).

وروي أنه صلی اللّه علیه و آله قال :

« خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلاّ ظالم » (3).

ولم يكن غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فإن النبي الذي بعثه اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الامانة - فيما يدعوهم إليه - وليبلّغهم قوله تعالى : « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها » من المسلّم أن يكون أول من يلتزم بهذا التعليم الالهي ، فيعيد مثل تلك الامانة الكبرى إلى صاحبها.

ص: 498


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 413.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 137.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 137.

إنه لم يكن بالذي يهضم حقوق الناس ويدوسها ، في ظل ما أوتي من قوة ، ويقول للناس بكل صراحة : « خذوها يا بني أبي طلحة ، تالدة خالدة لا ينزعها أحد منكم إلا ظالم ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألغى جميع مناصب الكعبة التي كانت في الجاهلية إلاّ ما كان نافعا للناس كالسدانة والحجابة ( وهي القيام بشئون أستار الكعبة ) وسقاية الحجيج (1).

النبي يتحدث إلى أقاربه :

ولكي يعرف أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله أن وشيجة القربى التي تربطهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا ترفع عن كاهلهم أيّة مسئولية من المسئوليات ، بل تزيد من مسئوليتهم ألقى فيهم خطابا خاصا بيّن فيه أن رابطة القربى مع النبي صلی اللّه علیه و آله لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الاسلامية ، ويتخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة وغطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

ولقد شجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه هذا الذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم وبني عبد المطلب ، كل تمييز ، وتفضيل غير صحيح ، ودعا إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة ، بين جميع الطبقات اذ قال :

« يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب إنّي رسول اللّه إليكم ، وإنّي شفيق عليكم ، لا تقولوا : إنّ محمّدا منّا ، فو اللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتقون فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة.

ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم ، وفيما بين اللّه عزّ وجلّ وبينكم وإن

ص: 499


1- بحار الأنوار : ج 21 ، ص 132.

لي عملي ولكم عملكم » (1).

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام :
اشارة

كان الاجتماع الذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكة اجتماعا عظيما جدا.

المسلمون والمشركون ، والصديق والعدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع ، وكانت تجلل هالة من عظمة الاسلام وعظمة نبيه الكريم صلی اللّه علیه و آله رحاب ذلك المكان المبارك ، وكان الصمت والهدوء ، وحالة من الانتظار والترقب ، تخيم على اجواء مكة.

لقد آن الأوان - الآن - لأن يكشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة ويوقف ذلك الحشد الهائل المتعطش على معالم رسالته العظمى ، ومبادى دينه الحنيف ، وبالتالي أن يكمل حديثه الذي بدأه قبل عشرين عاما ولكنّه لم يوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين ، ومعارضتهم ، وبسبب ما أوجدوه من عقبات وعراقيل في طريقه.

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن تلك المنطقة ، وتلك البيئة ، ولهذا كان عارفا - تمام المعرفة - بأمراض المجتمع العربي ، وأدوائه ، وعلاج تلك الأدواء ودوائها.

لقد كان يعرف صلی اللّه علیه و آله علل انحطاط المجتمع المكيّ واسباب تخلفه عن ركب الحضارة والمدنية ، وعن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد.

من هنا رأى أن يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض ، وأن يعالج امراض البيئة العربية بشكل كامل ، وكأي طبيب حاذق ، وحكيم ماهر.

ونحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيد المرسلين

ص: 500


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 111.

صلی اللّه علیه و آله على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع التي يعالج كل واحد منها مرضا اجتماعيا خاصا من أمراض المجتمع في ذلك العصر وحتى في عصرنا الحاضر.

1 - التفاخر بالنسب :

كان التفاخر بالنسب والقبيلة والعشيرة من الامراض المستحكمة المتجذرة في البيئة العربية الجاهلية ، وكان من اكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة ، ويتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلا :

ولقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة.

« أيّها الناس إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها.

ألا إنّكم من آدم ، وآدم من طين.

ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه ».

لقد عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه - لإفهام العالم البشري بأن ملاك الشخصية والتفوق انما هو ( التقوى ) والورع فقط - إلى تصنيف الناس الى صنفين لا ثالث لهما ، واعطى الفضيلة والمنزلة لأهل التقوى والورع خاصة.

وبهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية والملاكات والمقاييس المصطنعة إذ قال :

« إنما الناس رجلان :

مؤمن تقي كريم على اللّه.

وفاجر شقيّ هين على اللّه ».

2 - التفاضل بالقومية العربية :

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعلم جيدا أن هذه الجماعة من

ص: 501

البشر تعتبر ( العربية ) والانتساب الى العرق العربي من المفاخر الكبرى ، وكانت النخوة العربية قد ترسخت في قلوب تلك الجماعة وعروقها كداء دفين ومرض مزمن ، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث وتحطيم هذا الصرح الموهوم :

« إن العربية ليست بأب والد ، ولكنه لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه ».

وهل نجد كلاما أعمق مغزى ، وأوضح مرادا ، وأقوى وقعا في النفوس من هذا الكلام؟!

3 - لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض :

لقد قال داعية الحرية الحقيقية ، ورائد حقوق الانسان الواقعي بهدف تقوية ودعم مبدأ المساواة بين الافراد والجماعات البشرية :

« إنّ الناس من آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى ».

وقد ألغى رسول الانسانية الاعظم بهذا البيان الصريح كل انواع التمييز الظالمة ، وكل ألوان التشدد مع الآخرين ، وفعل وبيّن في ذلك العصر ما لم يفعله ولم يبينه ميثاق حقوق الانسان مع كل هذه الضجة الاعلامية التي نشهدها في عالمنا الحاضر.

4 - الحروب الطويلة والاحقاد القديمة :

لقد نشأت الاقوام العربية - نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة والطويلة - على الحقد والضغينة.

فقد كانت نيران الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم وساق ومن دون انقطاع.

ولقد واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة

ص: 502

العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجب عليه - بغية إقرار الأمن والهدوء والحفاظ عليهما في البيئة الاسلامية - أن يبادر الى وضع نهاية لهذه المعضلة ، وأن يعالج هذا الداء المزمن فلم يجد دواء لهذا الداء إلاّ أن يطلب من الناس كافة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سفكت في العهد الجاهلي ، وأن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة ، ومنتهية ، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء التي تعرض المجتمع الاسلامي الناشئ للخطر ، وحتى ينتزع من أذهانهم ونفوسهم فكرة الاغارة والقتل العشوائي الذي كان يتم بحجة القصاص في حين كان من الممكن ان يتم بشكل القصاص الحقيقي العادل ، فقال صلی اللّه علیه و آله للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية.

ألا إن كلّ مال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدميّ هاتين ».

5 - الاخوة الاسلامية :

ولقد ارتبط قسم من خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتحاد المسلمين ووحدة كلمتهم ، وحق المسلم على اخيه المسلم.

وقد كان مقصوده صلی اللّه علیه و آله من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين التي تعتبر من مميزات الدين الاسلامي الحنيف ، هو أن يرغّب غير المسلمين في الاسلام إذا هم سمعوا ورأوا مثل هذه الحقوق ، ومثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد :

« المسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة وهم يد واحدة على من سواهم ، نتكافؤ دماؤهم ، ليسعى بذمتهم أدناهم » (1).

ص: 503


1- لقد نقلنا هذه المختارات من : روضة الكافي : ص 246 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 836 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 105 ، شرح ابن أبي الحديد : ج 17 ، ص 281.
معاقبة المجرمين :

ليس من شك في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مظهرا كاملا للانسانية والرحمة ومثلا أعلى في العفو والصفح ، فهو رغم مشاعر بعض المتطرفين الملتهبة ، أصدر عفوه العام عن أهل مكة كافة.

بيد أنه كان هناك بين المكيين عدة أشخاص تجاوزوا الحد في معاداتهم للنبي ومعارضتهم للرسول ، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر ، فلم يكن من الصالح - مع كل ما تسبّبوه من فجائع وفضائع - أن يعيشوا بين المسلمين في أمان وراحة ، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم ، وتآمرهم ضدّ الاسلام مرة اخرى ويتسببوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يعرف مداها ، وتبعاتها.

وقد قتل بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات ، ولجأ اثنان منهم إلى بيت « أم هاني » بنت أبي طالب اخت الامام علي علیه السلام ، فلاحقهما « علي » وهو غارق في الحديد لا يعرف ، فدخل بيت أمّ هانئ يطلبهما (1) فواجهت أم هانئ فارسا لا يعرف فقالت : أنا امرأة مسلمة وقد أجرت هذين ، وجوار المسلمة محترم.

وفي اكثر المصادر أنها قالت : يا عبد اللّه أنا أم هاني ابنة عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري.

وهنا عمد الامام علي علیه السلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه ، فنزع المغفر عن رأسه ، واسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أم هاني على أخيها « علي » بعد فراق طال سنينا عديدة

ص: 504


1- يقول ابن هشام إن الرجلين هما : « الحارث بن هشام » و « زهير بن أبي أميّة بن المغيرة ( السيرة النبوية : ج 2 ص 411 ).

ومديدة إلا وانحدرت منهما دموع الشوق والفرحة ، واعتنقت أخاها ، ثم توجها معا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليعطي رأيه في أمانها ، وجوارها فامضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جوار تلك المرأة المسلمة ، وأمانها قائلا :

« قد أجرنا من أجرت وأمّنّا من أمّنت فلا يقتلهما » (1).

وقد كان عبد اللّه بن أبي سرح الذي أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام احد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم ، ولكنه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

قصّة عكرمة وصفوان :
اشارة

ولقد فرّ « عكرمة بن أبي جهل » أحد كبار مثيري الحروب ومشعلي الفتن ضد الاسلام والمسلمين ، إلى اليمن ، إلا أنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته ، في قصة مفصلة.

وأمّا « صفوان بن اميّة » فانه مضافا إلى جرائمه الفادحة ، كان قد قتل مسلما انتقاما لأبيه « أميّة بن خلف » الذي قتل على أيدي المسلمين في بدر ، وذلك عند ما صلبه أمام حشد كبير من أهل مكة في وضح النهار ، ولهذا أهدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دمه ، فعزم ان يخرج من الحجاز عن طريق البحر فرارا من القتل ، وبخاصة عند ما علم بأنه من جملة العشرة الذين أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتلهم وأهدر دمهم.

فطلب « عمير بن وهب » من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يعفو عنه ، فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شفاعته ، وأعطاه عمامته ليدخل بها مكة كعلامة أمان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويصطحب معه إلى مكة « صفوان بن أميّة » ، فذهب عمير إلى جدّة ، وأخبر صفوان بذلك ، وقدم به مكة

ص: 505


1- الارشاد : ص 72 إعلام الورى بأعلام الورى : ص 110 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 411 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 144 و 145.

على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما وقعت عينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على كبير المجرمين بل اكبرهم يومئذ قال له ردّا عليه لما سأله قائلا : أن عمير يزعم أنك قد أمنتني؟

« صدقت ، انزل أبا وهب ».

ثم دعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام فقال : اجعلنى بالخيار شهرين ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أنت بالخيار فيه أربعة أشهر » (1).

وبهذا أمهله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الاسلام ، ودعوة النبي.

إن دراسة اجمالية وسريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في الاسلام وفي تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها وإخفاءها ، وهو أن رءوس الشرك كانوا أحرارا في اختيار العقيدة الاسلامية واعتناقها.

فهم اختاروها واعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار ، ولا إرعاب أو تخويف ، بل كانت القيادة الاسلامية تسعى دائما إلى أن يتم اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبر والتفكير الصحيح ، لاعن طريق الارعاب والتخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكة واكثرها عبرة ، وبقي أن نتعرض لذكر حادثتين جديرتين بالاطلاع والتأمل استكمالا لهذه الدراسة.

وتانك الحادثتان هما :

1 - مبايعة النبي نساء مكة :

بعد بيعة « العقبة » كانت هذه هي المرة الاولى التي اخذ رسول اللّه صلّى

ص: 506


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 418 المغازي : ج 2 ص 854.

اللّه عليه وآله البيعة من النساء بشكل ظاهريّ ورسميّ ، ولقد بايعنه على الامور التالية :

1 - أن لا يشركن باللّه شيئا.

2 - ولا يسرقن.

3 - ولا يزنين.

4 - ولا يقتلن أولادهن.

5 - ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهنّ.

6 - ولا يعصين النبي في معروف.

ولقد تمت هذه البيعة بالكيفية التالية وهي : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئا من الطيب والعطر ثم ادخل يده فيه وتلا الآية (1) التي وردت فيه الامور المذكورة ثم نهض من مكانه وقال صلی اللّه علیه و آله للنساء :

« من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح فاني لا اصافح النساء » (2).

وكانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة - الخاصة في موادها وبنودها - من نساء مكة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن ، فلو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقدم على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عملهنّ القبيح حتى في السرّ.

وكانت « هند » زوجة أبي سفيان بن حرب ، وأمّ معاوية ذات السوابق السوداء والفاضحة من بين تلك النسوة.

وقد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها وخشونة ، في سلوكها ، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان ، ولطالما فرضت عليه آراءها ، حتى أنها يوم قرّر أبو سفيان الاستسلام للأمر الواقع ، ورغّب أهل مكة في السلام حرّضت الناس على القتال

ص: 507


1- الممتحنة : 12.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 113.

وسفك الدماء ومواجهة جنود الاسلام.

إن تحريضات هذه المرأة بالذات هي التي أشعلت نيران الحرب في « احد » ، تلك النيران التي كلّفت ، رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبعين شهيدا كان أبرزهم « حمزة » الذي بقرت تلك المرأة الفاسدة الفاجرة الحاقدة وبمنتهى القسوة والفضاضة بطنه ، وشقّت صدره ، واستخرجت كبده ، وقطعته بأسنانها نصفين.

لم يكن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة وأمثالها في مرأى ومسمع من الناس.

وقد تلا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن ، فلما بلغ إلى قوله : « ولا يسرقن » نهضت هند - وكانت آنذاك متنقبة متنكرة - وقالت : إنّ أبا سفيان رجل ممسك واللّه إني كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟

فنهض أبو سفيان وقال : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال.

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال هذا الحوار بين هند وأبي سفيان أن المتكلمة هي « هند » بنت عتبة فقال صلی اللّه علیه و آله لها سائلا : « وانك لهند بنت عتبة »؟!

قالت : نعم ، فاعف عما سلف عفا اللّه عنك!

ولما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قوله تعالى : « ولا يزنين » نهضت هند مرة اخرى وذكرت وهى تبرّئ نفسها من هذه الوصمة ، وذكرت جملة كشفت عن خبيئة نفسها من دون شعور.

فلقد قالت : يا رسول اللّه أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدّ - من منظار علم النفس - نوعا من كشف القناع عما في السريرة والافصاح عما في الضمير. وحيث إن هندا كانت تعرف أنها كانت فيما مضى تفعل مثل هذا ، وكانت واثقة من ان الناس عند سماع هذه

ص: 508

العبارة سيلتفتون بانظارهم إليها لذلك لهذا سارعت فورا - ويهدف صرف الأنظار عن نفسها - إلى القول : وهل تزني إلاّ الأمة دون الحرة.

ومن الصدف انه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجب من إنكارها ، فضحك حتى استغرق في الضحك ، وتسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها (1).

هدم بيوت الاصنام بمكة وما حولها :

كانت في مكة وضواحيها بيوت عديدة وكثيرة للاصنام التي كانت تقدّسها ، وتحترمها القبائل المختلفة القاطنة في تلك المناطق ، وحتى يقضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جذور الوثنية في أرض مكة قام بارسال فرق عسكرية متعددة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد ، والبيوت ، وإزالة الاصنام والاوثان.

كما أنّه صلی اللّه علیه و آله أعلن في مكة نفسها أن من كان في بيته صنم فليكسره ، وفي هذا السياق أرسل « عمرو بن العاص » لتحطيم صنم « سواع » وسعد بن زيد لهدم صنم « منات ».

وتوجه « خالد بن الوليد » على رأس فرقة عسكرية الى « تهامة » لدعوة قبيلة « جذيمة بن عامر » إلى الاسلام ، وهدم صنم « عزى » ، وقد نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين كلّفه بهذه المهمة عن القتال وإراقة الدماء وبعث معه « عبد الرحمن بن عوف » ليعينه على ذلك.

وكانت قبيلة بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد (2) ووالد عبد الرحمن لدى رجوعهما من اليمن في ايام الجاهلية وصادرت أموالهما ، ولهذا كان « خالد »

ص: 509


1- مجمع البيان : ج 5 ص 276.
2- هو الفاكه بن المغيرة بين عبد اللّه بن عمر بن مخزوم راجع للوقوف على اصل هذه الواقعة السيرة النبوية : ج 4 ص 74 وتاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 61.

يحقد عليهم.

فلما التقى « خالد » بني جذيمة في أرضهم ، وجدهم قد أخذوا السلاح ، وتهيّأوا لقتاله فأمّنهم وقال لهم : ضعوا السلاح فان الناس قد أسلموا.

فرأى زعماء القوم ان يضع الناس السلاح ، ويسلّموا لجنود الاسلام ، ولكن رجلا من القوم أدرك بفطنته سوء نية خالد ، فقال لزعماء القبيلة : واللّه لا أضع سلاحي أبدا ، فما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار الاّ ضرب الاعناق!

ولكن بني جذيمة رفضت قوله ، وأخذت برأي أسيادها فوضعت السلاح ، وامّن الناس ، فأمر خالد جنوده فورا بان يكتّفوا رجال القبيلة ، وباتوا في وثاق.

فلما كان في السحر أمر بأن يقتل فريق منهم ، وأطلق سراح آخرين.

وعند ما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نبأ هذه الجريمة النكراء غضب صلی اللّه علیه و آله على خالد غضبا شديدا ، ودعا عليا من فوره ، وأعطاه مبلغا كبيرا من المال وأمره بالتوجه الى بني جذيمة ، وان يدفع دية من قتل أو جرح خالد من رجالهم ، وثمن كل ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقة وعناية كاملتين.

فودى علي علیه السلام لهم كل ما أصاب خالد ، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب ( وهي الاناء الذي يلغ فيه الكلب ) حتى اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلاّ ودّاه بقيت معه بقية من المال ، فدعا رؤساء تلك القبيلة المنكوبة وقال لهم : هل بقي لكم من دم أو مال لم يود لكم؟

فقالوا : لا.

فقال علیه السلام : فاني اعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ممّا يعلم ولا تعلمون.

ففعل ثم رجع الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره الخبر فقال صلی اللّه علیه و آله :

ص: 510

« أصبت واحسنت ».

ثم قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ممّا تحت إبطيه وقال :

« اللّهم إنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد ».

قالها ثلاث مرات (1).

لقد تلافى علي علیه السلام جميع الخسائر المادية والروحية التي لحقت ببني جذيمة ، وقد أعطى شيئا من ذلك المال لمن ارتاع ، وفزع من صنع خالد وجنوده ، وطيّب خواطرهم وقال : وهذه لروعة القلوب.

وعند ما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصنيع عليّ علیه السلام وإجراءاته العادلة والانسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في حقه :

« واللّه ما يسرّني يا عليّ أنّ لي بما صنعت حمر النعم (2) ... أرضيتني رضي اللّه عنك ... يا عليّ أنت هادي أمّتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبّك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقيّ كل الشقيّ من خالفك ورغب عن طريقتك إلى يوم القيامة ... » (3).

جرائم اخرى لخالد :

لم تقتصر جرائم خالد التي ارتكبها طيلة حياته الاسلامية في ظاهرها على ما ذكر بل لقد ارتكب جريمة اخرى في أيام حكومة « أبي بكر » اكبر وافضع ممّا مرت ، وإليك خلاصة هذه الواقعة :

لقد ارتدّت بعض القبائل - بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو

ص: 511


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 420 ، الكامل لابن الاثير : ج 1 ص 173 و 174 امتاع الاسماع : ج 1 ص 400.
2- الخصال : ص 562.
3- مجالس ابن الشيخ : ص 318.

بالاحرى وفي الحقيقة رفضت الاعتراف بخلافة أبي بكر ، وامتنعت عن أداء الزكاة إليه ، فبعث أبو بكر فرقا عسكرية مختلفة لقمع تلك الجماعات المتمردة.

وبعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية الى قبيلة « مالك بن نويرة » لمقاتلتها بحجة الارتداد ، وكان « مالك » وجميع أفراد قبيلته على استعداد للقتال ، وكانوا يقولون : نحن مسلمون ، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمّنهم ، وطلب منهم إلقاء اسلحتهم ، فلما وضعوا أسلحتهم ، أمر بحبسهم ، ثم قتلهم وقتل زعيمهم المسلم الصالح « مالك بن نويرة » واعتدى على زوجته في نفس الليلة (1).

فهل يصح أن يوصف هذا الرجل - على هذه السوابق السوداء ، ومع هذا الملفّ المخزي - بسيف اللّه ، وأن يعدّ من امراء الاسلام المجاهدين الصالحين؟!! (2).

ص: 512


1- الكامل في التاريخ : ج 3 ص 149 ، أسد الغابة : ج 4 ص 295 تاريخ ابن عساكر : ج 5 ص 105 ، 112 تاريخ ابن كثير : ج 6 ص 321 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 233.
2- لقد ورد ذكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأولى من حكومة « أبي بكر » بصورة مفصلة وقد ذكرناها ملخصة.وللوقوف علی تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب النص والاجتهاد ص 61 - 75.

50

معركة حنين

اشارة

كانت طريقة رسول لله صلی اللّه علیه و آله عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شئونها السياسية والدينية ما دام هو فيها ، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفرادا صالحين للقيام بتلك الأمور ، وشغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد ، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإن الاسلام دين متكامل ، ونظام سياسي ، اجتماعي ، أخلاقي ، ومعنوي يستمد قوانينه من منبع الوحي الطاهر ، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم ، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين ومدرّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين ، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام واصوله الصحيحة ، وتنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا عند فتح مكة ، فانه صلی اللّه علیه و آله بعد أن قرر مغادرة مكة والمسير إلى قبيلتي « هوازن » و « ثقيف » عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ، وأحكام الاسلام ، و « عتاب بن أسيد » الذي كان رجلا مؤهّلا ، لادارة الامور ، والصلاة بالناس جماعة ، ثم غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوما متوجها إلى أرض هوازن (1).

ص: 513


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 137 ، والمغازي : ج 3 ص 889.
جيش قليل النظير :

كان الجيش الذي ساربه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هوازن يبلغ (12) ألفا من الجنود المسلحين : عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة ، وشاركوا في فتح مكة ، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح ، وقد أوكل النبي صلی اللّه علیه و آله قيادتهم إلى أبي سفيان (1).

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير ، ونادر المثيل في تلك العصور ، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سببا في هزيمته في مبدأ الأمر ، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة ، وغفلوا عن خطط العدو ونواياه فكان ذلك داعيا إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين : لو لقينا بني شيبان ما بالينا ، لن نغلب اليوم من قلة (2).

ولكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد وضخامة الجيش ، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى :

« لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ » (3).

تحصيل المعلومات العسكرية :

بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن وثقيف ، وجرت اتصالات مكثفة بينها ، وكان حلقة الاتصال ، والمدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عرف

ص: 514


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 139 ، المغازي : ج 3 ص 889.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 150 ، المغازي : ج 3 ص 889.
3- التوبة : 25.

بالفروسية والشجاعة يدعى « مالك بن عوف النصري ».

وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية ، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شابا متهورا في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا إليه عما قريب ، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والاطفال والاموال وراء ظهورهم وعند ما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال : اردت من جعل كل رجل أهله وماله وولده ونساءه خلفه حتى يقاتل عنهم (1).

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع ، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم.

وقد خالف شيخ مجرب حنّكته الحروب منهم يدعى « دريد بن الصمة » هذه الخطة عند ما سمع رغاء البعير ، وثغاء الشاء ، وخوار البقر ، وبكاء الصغير ، وجادل فيها مالكا ، واعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس : يا قوم إن هذا فاضحكم في عورتكم ، وممكّن منكم عدوّكم ، وهل يرد المنهزم شيء؟

ولكن مالكا لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماما وقال : - وهو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة - : أنك قد كبرت ، وكبر علمك ، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك.

ولقد اثبت المستقبل صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنّك فان إشراك النساء والاطفال والانعام في الحرب ، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي

ص: 515


1- المغازي : ج 3 ص 897.

ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة ، فيما بعد.

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث « عبد اللّه بن حدرد الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم وخططهم ، ثم يأتيه بخبرهم ، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأخبارهم.

وكان « مالك بن عوف » قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين ، ويأتوه بأخبارهم ، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائد العدوّ أن يجبر ضعف جنوده وقلتهم باستخدام الخدع العسكرية ، والتوسل باسلوب المباغتة ليفرق - بهجوم مفاجئ - صفوف المسلمين ، ويهدم نظامهم وانسجامهم ، ويصيبهم بالهرج والمرج ، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة ، فلا تتمكن من ضبط الامور ، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ولتحقيق هذا الهدف هبط « مالك بن عوف » بجيشه في واد ينحدر الى منطقة « حنين » ، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والاحجار ، وفي شغاف الجبال ، وكل ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز ، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجال هوازن وثقيف من مكامنهم ، وكمائنهم ، ورموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو ، بالحجارة والنبل ، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف!!

تجهيزات المسلمين :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عارفا بقوة العدوّ وعناده فدعى « صفوان بن أميّة » قبل مغادرة مكة ، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة ، ولبس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه درعين كما لبس المغفر والبيضة ، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتى دنوا جميعا من

ص: 516

الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي ، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة « بني سليم » بقيادة « خالد بن الوليد » في وادى « حنين » ، وبينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجال هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد ، وأخذوا يرشقونهم بالاحجار والنبال ، فالقت أصوات الاحجار والنبال فزعا شديدا في قلوب المسلمين الذين مطروا بالسهام والنبال والاحجار من جانب ، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضربا وقتلا.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين ، فقد أوحشتها ، وأصابت المسلمين بالفوضى ، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار ، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الحادث ، وسروا به سرورا عظيما حتى قال أبو سفيان شامتا : لا ينتهي هزيمتهم دون البحر ، وقال آخر : الا بطل السحر اليوم ، وقال ثالث : لا يجتبرها محمّد وأصحابه ، وعزم رابع على اغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدسة (1).

استقامة النبي ومن ثبت من أصحابه :

لقد ازعج فرار المسلمين الذي كان نابعا - في الدرجة الاولى من الفزع والفوضى التي أصابتهم ، رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأدرك صلی اللّه علیه و آله بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيّر وجه التاريخ ولتبدّل مسار البشرية ، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

ص: 517


1- المغازي : ج 3 ص 909 - 910 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 443 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 411 و 412.

من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته :

« يا أنصار اللّه وانصار رسوله أنا عبد اللّه ورسوله ».

قال هذا واندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله « مالك » وجنوده مسرحا لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم ، ومشى معه من لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالب علیه السلام والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأبي سفيان بن الحارث الذي لم يغفلوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منذ بدء القتال لحظة واحدة ، وامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم ، ولا يلوون على شيء :

« يا معشر الانصار ، يا معشر السمرة » (1).

ويقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان ، فكان هذا النداء تذكيرا بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان ينصروه حتى الموت.

فبلغت صرخات العباس مسامع المسلمين فثارت حميتهم ، وأخذوا يثوبون الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يقولون : لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءات العباس المتلاحقة التي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي نادمة على فرارها ندما شديدا ، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى ، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لغسل ما لحق بهم من عار الفرار ، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار والرسول القائد صلی اللّه علیه و آله يقول تشجيعا لهم ، وتقوية لمعنوياتهم :

ص: 518


1- ولقد ذكر المغازي في ج 3 ص 902 جانبا من بطولات علي علیه السلام وتضحياته في هذه الموقعة.

« أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب ».

وقد تسبّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين ، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة ، تاركين وراءهم اموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتوبهم الى ساحة المعركة ، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك - كما أسلفنا ، وفروا بعد أن قتل منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة ، وقلاع الطائف.

غنائم الحرب :

لقد بلغت خسائر المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما وأن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير ، وأربعين ألف رأس غنم ، وأربعة آلاف اوقية (1) من الفضة.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بأن يؤخذ الاسرى والغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة ( وهي ماء بين الطائف ومكة ) وكلّف أشخاصا معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصة ، كما أمر بأن تحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان ، ريثما يرى فيها رأيه ، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس ونخلة والطائف (2).

لقطتان من الخلق النبوي العظيم :

وينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية ، وعمق

ص: 519


1- الرطل 2564 غرام والاوقية 12 / 1 من الرطل فعلى هذا تكون الاوقية 213 غراما ، وأربعة آلاف أوقية تساوى 852 كيلو غراما.
2- كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص ، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.

الرحمة الاسلامية :

1 - بعد أن أعاد النبي المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن وهزموهم هزيمة قبيحة ، قالت أمّ سليم بنت ملحان للنبي صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك!! لا تعف عنهم اذا أمكنك اللّه منهم ، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!

فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أم سليم! قد كفى اللّه ، عافية اللّه أوسع (1).

وهكذا نجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2 - حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذرية ، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية.

فقال اسيد بن الحضير : يا رسول اللّه أليس إنما هم أولاد المشركين!

فقال : أو ليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها (2).

ص: 520


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 409.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 409.

51

غزوة الطائف

اشارة

« الطائف » من مصايف الحجاز ومن المناطق الخصبة ، الكثيرة الزرع فيها ، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (12) فرسخا منها ، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف ، وبساتينها المثمرة ، ونخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا وموطنا لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة « حنين » ضدّ الاسلام والمسلمين ، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّف صلی اللّه علیه و آله أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى « أوطاس » فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة ، واستطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو ويفرق جمعه (1).

وأما النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

ص: 521


1- المغازي : ج 3 ص 915 و 916.

الطائف (1) ، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة « حنين » ورأس المؤامرة ، فهدمه وسوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن « مالك » لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى ، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا ، مرتفع الجدران ، قوي البنيان ، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها ، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها ، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

وهنا اقترح « سلمان الفارسي » الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب ، وكان ذا خبرة بفنون القتال ، اقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يرمي الحصن بالمنجنيق (2) ، وكان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان ، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

ولكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون ،

ص: 522


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 163.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 417.

فزاد من رميه واستمر في ذلك ، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك (1).

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق ، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة (2).

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر ، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال ، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر ، لأن النبي صلی اللّه علیه و آله بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة « دوس » في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة ، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته ، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين ، وقد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق :

كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي ، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام ، مضافا إلى

ص: 523


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 158.
2- السيرة النبوية : ج 4 ص 126 ، وابن هشام يرى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

رمي الحصن بالمنجنيق ، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى ، لأن السهام والاحجار ، والنيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر ، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن ، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب وتغطى بجلود البقر ، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه ، ويقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن ، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة ، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها ، واضطرّ أفرادها الى الخروج منها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا ولم ينتج هذه التكتيك القتالي ، ولم يتحقق أي نجاح في هذا المجال ، فانصرف المسلمون عن استخدامه (1).

ضغوط اقتصادية ونفسية :

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية ، بل للقائد الحكيم أن يستخدم - لاضعاف قوة العدو وكسر صموده - الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربة النفسية والاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية ، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة ، ونخيل وأعناب ، وكانت معروفة

ص: 524


1- المغازي : ج 3 ص 928.

في الحجاز بخصبها ، وكثرة محاصيلها وخيراتها ، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها ، ويولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا ، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن ، والمعتصمين به ، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف ، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - وهو النبي الذي عرف برحمته ورافته - يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت « ثقيف » أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصدر أوامره بقطع الأعناب ، واتلاف المزارع وتحريقها ، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت « ثقيف » لذلك وضجّت ، واستغاثت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك ، فتركها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين « ثقيف ».

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيرى معركة حنين والطائف ، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنه صلی اللّه علیه و آله قبل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا ، فابدى وللمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال ، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهده من أخلاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفّ عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتما.

* * *

ص: 525

آخر محاولة لفتح حصن الطائف :

كانت قبيلة « ثقيف » جماعة ثريّة ، وذات مال كثير ، وعبيد وإماء كثيرين ، ولكي يحصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن ، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة ، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي : وينادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ.

ونفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما ، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف ورقيقهم ، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام ، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا ، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي ، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيش الاسلام يعود الى المدينة :

استخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ ، وقد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي وامكاناته - يومذاك - لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب ، والانتظار والتوقف ، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك :

أولا : لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (13) مسلما سبعة منهم من قريش ، وأربعة من الانصار ، ورجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي « حنين » إثر هجوم العدوّ الغادر ، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي ، والذين لم يذكر التاريخ مع

ص: 526

الأسف أسماءهم ، وخصوصياتهم ، ولهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

وثانيا : أن شهر شوال قد انتهى ، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة ، وأكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري - حفاظا على هذه السنّة - (1) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمخالفة السنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج ، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين ، بعد أن كانت - قبل ذلك - تدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام ، وبيان حقيقة التوحيد ، وكان على النبي صلی اللّه علیه و آله ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة ، في مجال الدعوة ، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

ص: 527


1- ويدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدة الحصار عشرين يوما ، وصرفت بقيّة الايام ( وهي خمسة ) في المسير إلى حنين ، وفي المعركة. وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوماً يستند إلی رواية نقلها ابن هشام، إلا أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوماً (الطبقات الكبری ج2 ص158).
حوادث ما بعد الحرب : انتهت حوادث معركة « حنين » و « الطائف » وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من دون تحقيق نتيجة قطعية الى « الجعرانه » لتقسيم غنائم معركة « حنين ».

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة « حنين » كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم قدم « الجعرّانة » كان هناك ستة آلاف أسير و (24) ألف من الإبل واكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم (1) وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في « الجعرّانة » ثلاثة عشر يوما ، وفي هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى ، وتركهم لذوبهم ، وخطّط لاخضاع ( او بالاحرى إسلام ) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب ، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم ، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام ، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة ، وأنهى نقاشا حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة :

1 - لقد دأب رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله على احترام حقوق الأفراد ، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت ، وعلى أن لا يبخس أحدا عمله ، فإذا أحسن

ص: 528


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 152.

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقه صلی اللّه علیه و آله .

فقد رضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن ، وقد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى « حليمة السعدية » ، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين ، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا ، وقد ندمت على فعلها ندما شديدا.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نشأ وترعرع فيهم ، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل ، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا « الجعرانة » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو « زهير بن صرد » والآخر عم للنبي صلی اللّه علیه و آله من الرضاعة ، فقالوا : يا رسول اللّه إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك وخالاتك ، وحواضنك ، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ورأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ، وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ اللّه عليك.

وقال زهير بن صرد : يا رسول اللّه إنّما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

ص: 529

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم :

« إن أحسن الحديث أصدقه ، وعندي من ترون من المسلمين ، فابناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم »؟

قالوا : يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فردّ علينا أبناءنا ونساءنا.

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم واسأل لكم الناس وإذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا : إنا لنستشفع برسول اللّه الى المسلمين ، وبالمسلمين الى رسول اللّه فاني سأقول : لكم ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس ».

فلما صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : إنا نستشفع برسول اللّه الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.

وبهذا وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون : أمّا ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

وقال الانصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

وهكذا وهب الانصار والمهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يتأخر عن ذلك إلاّ قليلون مثل « الاقرع بن حابس » و « عيينة بن حصن » فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما ، ويطلق سراح ما عندهم من السبايا ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء ، والأموال ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء ، فمن كانت عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل ،

ص: 530

ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردّ عليهم ، فله بكل انسان ست فرائض ( أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا ) من أول ما يفيء اللّه به علينا (1).

فكان لعمل النبي صلی اللّه علیه و آله هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع « عيينة » من ردّها إلى ذوبها.

وهكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته - قبل ستين عاما - في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية ، فاتت اكلها بعد مدة طويلة ، واطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى والسبايا من هوازن (2).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا اخته من الرضاعة « الشيماء » (3) وبسط لها رداءه ثم قال : اجلسي عليه ، ورحّب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن امّه وابيه من الرضاعة ، فاخبرته بموتهما في الزمان ، ثم قال صلی اللّه علیه و آله لها :

« إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة وإن أحببت أن امتّعك وترجعي الى قومك فعلت ».

فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي ، فمتّعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وردّها الى قومها ، بعد أن أسلمت طوعا ورغبة ، وأعطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاثة أعبد وجارية (4).

وقد قوّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام ، فاسلموا من قلوبهم ، وهكذا فقدت

ص: 531


1- المغازي : ج 3 ص 949 - 953.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 153 و 154 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 490 ، والحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول اللّه تعالى : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ( النحل : 97 ).
3- هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.
4- البداية والنهاية : ج 2 ص 363 و 364 ، الامتاع : ج 1 ص 413.

« الطائف » آخر حليف من حلفائها.

2 - اسلام مالك بن عوف :

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الفرصة ليعالج مشكلته مع « مالك بن عوف النصري » مثير حرب حنين ، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام ، وعزله عن حليفه : « ثقيف ».

ولهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل ».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمانه المشروط ، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام ، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه ، أن يخرج من الطائف ، ويلتحق بالمسلمين ، ولكنه كان يخشى أن تعرف « ثقيف » بنيته فتحبسه في الحصن ، ولهذا عمد الى خطة خاصة للفرار ، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف ، فركب فرسه وركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها ، فلحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فادركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه النبي صلی اللّه علیه و آله أهله وماله ، وأعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل ، واسلم فحسن إسلامه ، ثم استعمله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على من أسلم من قومه وقبائل « ثمالة » و « سلمة » و « فهم ».

وقد انشد « مالك بن عوف » أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكريمة ، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتدي *** متى تشأ يخبرك عما في غد

ص: 532

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها *** بالسمهريّ وضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله *** وسط الهباءة خادر في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام ، وبعد أن أدرك قبح موقف « ثقيف » (1).

3 - تقسيم الغنائم :

كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب ، ولكي يدلّل النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال :

« أيّها الناس واللّه مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاّ الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فادّوا الخياط والمخيط فإن الغلول ( أي الخيانة في بيت المال ) يكون على أهله عارا ، ونارا ، وشنارا يوم القيامة ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قسّم أموال بيت المال بين المسلمين ، واما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم ، ويتألف بهم قومهم ، فأعطى من هذا المال ل- : أبي سفيان بن حرب ، وابنه معاوية ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن جارية وصفوان بن أميّة ، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك ورموز الكفر ، لكلّ واحد منهم مائة بعير (2).

ص: 533


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 491 وعرّدت أي عوّجت.
2- راجع المحبّر : ص 473 ، المغازي : ج 3 ص 944 - 948 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 493 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 423.

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برحمته ، ولطفه ، وعنايته ، وكرمه ، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم : وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا (1).

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، شقّ على بعض المسلمين ، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها ، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذا النوع من البذل والعطاء ( وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم ).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائد صلی اللّه علیه و آله إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم ( وهو ذو الخويصرة التميمي ) قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكل وقاحة : يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ، لم أرك عدلت!!

فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كلامه هذا وقال :

« ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون »؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يأذن له بقتله ، فلم يأذن له النبي وقال صلی اللّه علیه و آله :

« دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين ( أي يتتبّعون أقصاه ) حتى

ص: 534


1- الطبقات الكبرى : ج 3 ص 153.

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة » (1).

وقد كان هذا الرجل - كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّ علیه السلام ، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة ، غير أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع « سعد بن عبادة » شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال النبي صلی اللّه علیه و آله لسعد : اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة ، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليه جلال النبوة ، وهيبة الرسالة ، فحمد اللّه واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال :

« يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلا فهداكم اللّه وعالة فاغناكم اللّه ، وأعداء فألّف اللّه بين قلوبكم »؟

قالوا : بلى اللّه ورسوله أمنّ وافضل!

قال :

ألا تجيبوني يا معشر الانصار »؟

قالوا : وما ذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسول اللّه المنّ والفضل؟

قال :

« أما واللّه لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ومخذولا فنصرناك

ص: 535


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 496 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 122 ، وفي المغازي : ج 3 ص 948 أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه : « دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... يخرجون على فرقة من المسلمين ». وراجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 425 وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك! (1) وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟

والذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ».

ثم ترحّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال :

« اللّهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ».

وقد كانت كلمات النبي صلی اللّه علیه و آله هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار ، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم وابتلّت بالدموع وقالوا : رضينا يا رسول اللّه حظّا وقسما!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتفرّقوا (2).

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبي صلی اللّه علیه و آله وعن حنكته السياسيّة البالغة ، وكيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول اللّه يعتمر :

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج من الجعرانة معتمرا ، بعد ان قسم الغنائم ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة ، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة ، أو أوائل شهر ذي الحجة.

ص: 536


1- إن هذا يفيد ان النبي صلی اللّه علیه و آله ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هو صلی اللّه علیه و آله صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 498 و 499 ، المغازي : ج 3 ص 957 و 958.

52

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

« بانت سعاد ... »

فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منتصف شهر ذي القعدة ، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، وكان موسم الحج على الأبواب ، وكانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب ، مسلمين ومشركين ، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالا ، وكان من الممكن - وبفضل قيادته الحكيمة - أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقوية وواسعة إلى الاسلام ، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر ، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله أن يكتفي بعمرة ، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنه صلی اللّه علیه و آله رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي ( نعني مكة ) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها ، وحتى تجري الامور على النسق الصحيح والمطلوب.

ص: 537

من هنا استخلف النبي صلی اللّه علیه و آله « عتّاب بن اسيد » على مكة ، وكان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر والجلد ، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة ، وقد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل ( أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر ، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة ، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ ) حطّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدّا خياليا ، ومفهوما باطلا في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عتابا » على أهل مكة قالوا : إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة ، ونحن مشايخ ذو والاسنان فاجابهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله في كتاب كتبه لعتاب :

« لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه ، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر وهو الاكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به ومن خالفه فلا يبعد اللّه غيره » (1).

وبهذا أثبت صلی اللّه علیه و آله عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة ، والكفاءة ، وأنّ صغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان « عتّابا » قام فخطب في الناس فقال : أيّها الناس أجاع اللّه كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله درهما كل يوم ، فليست بي حاجة إلى أحد (2).

ص: 538


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 122 و 123. امتاع الاسماع : ج 1 ص 432 و 433.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 500.

وأحسن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاختيار أيضا عند ما عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين ، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه ، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما بعثه للقضاء ، الى اليمن سأله صلی اللّه علیه و آله : بم تقضي إن عرض قضاء فقال : أقضى بما في كتاب اللّه.

قال : فان لم يكن في كتاب اللّه؟

قال : أقضي بما قضى به الرسول.

قال : فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال : أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب النبي صلی اللّه علیه و آله صدره ، وقال :

« الحمد اللّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه » (1).

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى :

كان « زهير بن أبي سلمى » من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي ، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم ، وكانت تفتخر بها العرب ، وتبدأ معلّقته تلك بقوله :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

وقد توفي « زهير » قبل عصر الرسالة ، وخلّف ولدين هما : « بجير » ، و « كعب » وكان الأول ممّن آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونصره ، وأحبّه ، بينما عادى الثاني ( كعب ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدّة ، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية ، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قصائده

ص: 539


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 347 و 348 ، ويكتب الجزري في اسد الغابة : ( ج 3 ص 358 ) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

وأشعاره ويؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان « بجير » قد شارك مع النبي صلی اللّه علیه و آله في فتح مكة ، وحصار الطائف ، وقد شاهد عن كثب كيف هدّد النبي صلی اللّه علیه و آله بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويؤلّبون الناس ضدّ الإسلام ، وأهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه ( كعب ) ونصحه في آخر كتابه قائلا : إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه ، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتهيأ لصلاة الصبح ، فصلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأوّل مرّة ثم جلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يعرفه ، فقال : يا رسول اللّه إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم.

قال : أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير (1).

ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتي كان قد أنشأها من قبل ، وانشدها بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء وطعن في سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 540


1- روي أنه وثب على كعب - في تلك الحال - رجل من الانصار فقال : يا رسول اللّه دعني وعدوّ اللّه أن أضرب عنقه ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا ( عما كان عليه ) السيرة النبوية : ج 2 ص 501.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 242.

وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد ، وقد شرحها علماء الإسلام كثيرا ، وعدد ابيات هذه اللامية ( أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة ) 58 بيتا ومطلعها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم إثرها لم يغد مكبول

لقد بدأ كعب قصيدته هذه - على عادة شعراء العهد الجاهلي ( الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال ) - بذكر سعاد زوجته وابنة عمه ، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها ، لهروبه من النبي صلی اللّه علیه و آله فيقول : فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ ، وأضناه ، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.

ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال :

نبّئت أنّ رسول اللّه أوعدني *** والعفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك ناف *** لة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم *** اذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل

إلى أن قال :

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهنّد من سيوف اللّه مسلول (1) (2)

ص: 541


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 501 - 514.
2- يقال : إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلی اللّه علیه و آله بردة كانت عليه ، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول اللّه ، فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول اللّه أحدا ، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم وهي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون والعباسيون ( راجع الكامل في التاريخ ج 2 ص 276 ). وجاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال « ان النبي لسيف يستضاء به » قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إن النبي لنور ».
حزن قارن فرحا :

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كبرى بناته : « زينب » ، وقد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص ، وآمنت بأبيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة من دون تأخير ، ولكنّ زوجها ظلّ على شركه ، وشارك في « بدر » ضدّ الإسلام والمسلمين ، وأسر في تلك المعركة فخلّى رسول اللّه سبيله ، شريطة أن يبعث بابنته « زينب » إلى المدينة.

وفعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته « زينب » وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة ، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك ، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة ، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق ، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واسقطت حملها من شدّة الفزع ، ولكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة ، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة وهي عليلة ، وقضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.

ولكنّ هذا الحزن قارنه فرح وسرور فقد رزق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه « ابراهيم » من زوجته « مارية القبطية » ( وهي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ).

والجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى ( المولّدة ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، أعطاها هدية ثمينة ، وعقّ له في اليوم السابع من ولادته ، وحلق شعره ، وتصدّق بوزن شعره ، فضة في سبيل اللّه (1).

ص: 542


1- تاريخ الخميس : ج 2 ص 131.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

اشارة

53

علي بن أبي طالب في أرض طيّ

إسلام عديّ بن حاتم :

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة والحلوة ، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية والشرك في أيدي المسلمين ، وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا ، وقد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد ، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين وقبول معتقداتهم ، واعتناق دينهم.

من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة ، وأحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعلن عن إسلامها ، وقبولها للرسالة المحمدية.

وقد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام ( المدينة المنورة ) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود (1).

ص: 543


1- لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد - في كتابه - خصوصيات واسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها وبين النبي صلی اللّه علیه و آله وما خصّهم به رسول الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا ، وقد ذكر اسماء ثلاثة وسبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل ( الطبقات الكبرى : ج 1 ص291 - 359 ).

وعند ما قدم وفد من قبيلة « طيّ » وفيهم سيدهم « زيد الخيل » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتحادث مع النبي صلی اللّه علیه و آله أعجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه :

« ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلاّ رأيته دون ما يقال فيه إلاّ زيد الخيل ، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه ».

ثم سمّاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد الخير (1).

إن دراسة قصة الوفود ، والإمعان والتدبر في ما دار بينهم وبين رسول الاسلام يفيد بوضوح وجلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.

على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين ، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلی اللّه علیه و آله فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات ، كان الهدف منها

ص: 544


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 577. هذا وينبغي الاشارة هنا وبالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن ولأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح ، وقد ثبت هذا نفسيا ، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة ، والفخر والزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيه علیهماالسلام : إنّ رسول اللّه كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان ( قرب الاسناد ص 45 ) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميلة ( صحيح مسلم : ج 6 ص 173 ) وغيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا ، وقد روي أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن » ( بحار الأنوار : ج 23 ص 122 ).

هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل اللّه ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.

إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين ، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت ، وإزالة الأشواك من طريقه.

ومن هنا نرى أنّ جميع الأنبياء والرسل ، وليس رسول اللّه فقط كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع ، من طريق الدعوة.

ويتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وما حققه الإسلام من فتح وانتصار ساحق اذ يقول :

« بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً » (1).

وبالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا ، ووقعت غزوة واحدة ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام والمسلمين ، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها وتعبدها ، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب علیه السلام التي وجّهت إلى أرض « طيّ » بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة « تبوك ».

ففي هذه الغزوة غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة متوجها إلى أرض تبوك ، ولكنه لم يلق فيها أحدا ، فعاد من غير قتال ، إلاّ أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.

ص: 545


1- النصر : 1 - 3.
هدم بيوت الاصنام :

لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبي صلی اللّه علیه و آله هي : نشر عقيدة التوحيد ، واجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك ، وقد كان صلی اللّه علیه و آله يسلك - لتحقيق هذه الغاية ، ولارشاد الضالّين والوثنيين - طريق المنطق والاستدلال ، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية ، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن ، والارشاد المستدلّ ، ولجّوا في كفرهم وشركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة ، ويداوي أولئك المرضى روحا وفكرا والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم ، بالمعالجة الجبرية.

فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا ، وامتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض ، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

لقد أدرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة « الكوليرا » تهدم فضائل الانسان ، وشرفه ، وتقضي على مكارم الاخلاق ، وتحطّ من مكانة الانسان الرفيعة ، وتجعله كائنا حقيرا أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.

وعلى هذا الاساس امر من جانب اللّه تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء ، ويزيل كل مظاهر الوثنية ، وكل أنواعها وأشكالها ، واذا ما قاومت جماعة هذا العمل ، وعارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية ، والقبضة الحديدية.

إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فرصة بعث

ص: 546

الفرق العسكرية لتحطيم وهدم كل بيوت الأصنام ، وأن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلاّ هدّموه.

علي في أرض طيّ :

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف من قبل ، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن ومن هنا بعث صلی اللّه علیه و آله بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالب علیه السلام على رأس مائة وخمسين فارس إلى أرض طيّ ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ ، ويهدم بيته.

وقد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام ، وأنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال ، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم ، عند الفجر والناس نيام ، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم ، وان يعود بهم وبالغنائم الى المدينة وقد فرّ « عديّ بن حاتم الطائي » الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين ، المجاهدين في سبيل اللّه ، وكان يرأس تلك القبيلة ، حين سمع بتوجه على علیه السلام نحوها.

ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصّ علينا قصة هروبه.

يقول عديّ : ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين سمع به ، منّي.

أمّا أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت اسير في قومي بالمرباع ( أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم ) فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربيّ ، وكان راعيا لابلي : لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنّي ؛ ففعل ؛ ثم أنه أتاني ذات غداة ، فقال : يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد ، فأصنعه الآن ، فاني قد رأيت رايات ، فسألت

ص: 547

عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمّد. قال : فقلت : فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها ، فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكت الجوشية (1) وقد تركت أختي في قومي.

ثم تغزو خيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قومي فتصيب ( اختي ) ابنة حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سبايا من طيّ ، وقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هربي الى الشام.

فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه ، فمرّ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقامت إليه اختي وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول اللّه هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ اللّه عليك.

قال : ومن وافدك؟

فقالت : عديّ بن حاتم.

قال : الفارّ من اللّه ورسوله؟

ثم مضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس ، حتى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئست منه ، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول اللّه هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ اللّه عليك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني ».

تقول اختي : فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل : علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت : وأنما اريد أن

ص: 548


1- الجوشية : جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.

آتي أخي بالشام. قالت : فجئت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.

قالت : فكساني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحملني ، واعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عديّ : فو اللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة ( وهي المرأة في هودجها ) تصوّب إليّ تؤمنا قال : فقلت ابنة حاتم ، قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول : القاطع الظالم ، احتملت أهلك وولدك ، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت : أي أخيّة ، لا تقولي إلاّ خيرا ، فو اللّه ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت ، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت : أرى واللّه أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت. فقلت : واللّه إنّ هذا الرأي.

قال عديّ : فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلّمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانطلق بي إلى بيته ، فو اللّه إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي : واللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ ، فقال : اجلس على هذه ، فقلت : بل أنت فاجلس عليها فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالأرض ( وهو عظيم الحجاز ) فقلت في نفسي : واللّه ما هذا بأمر ملك ثم قال : إيه يا عديّ بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا ( وهو دين بين دين النصارى

ص: 549

والصابئين )؟

قلت : بلى.

قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت : بلى.

قال : فان ذلك لم يحل لك في دينك.

قلت : أجل واللّه ، وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل ، ثم قال : لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فو اللّه ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فو اللّه ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك والسلطان في غيرهم وأيم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.

قال عديّ : فاسلمت.

وكان عديّ يقول : قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة واللّه لتكوننّ ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت ، وأيم اللّه لتكونن الثالثة ، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه (1).

ولقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ » (2) اللقاء الذي تمّ بين عدي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقول : قال عديّ انتهيت إلى رسول اللّه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ... » حتى فرغ منها ،

ص: 550


1- المغازي : ج 2 ص 988 و 989 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 578 - 581 ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية : ص 352 - 354 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 445.
2- التوبة : 31.

فقلت له : انّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه ، فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم (1).

ص: 551


1- مجمع البيان : ج 3 ص 24.

54

غزوة تبوك

اشارة

كانت القلعة القويّة ، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق « حجر » و « الشام » تسمّى تبوكا.

وكانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كان عاصمتها القسطنطنية.

وكان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريم علیه السلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم ، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم ، وكان ذلك يرعب الأعداء ، ويدفعهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفع سقوط حكومة « مكة » الوثنية ، واعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي ، وبطولات جنود الاسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم ، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة ، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة ، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد ، وكانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية ، وانتشار نفوذه السياسيّ.

ص: 552

كانت الروم - آنذاك - المنافسة الوحيدة ، والقوية لإيران ، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية ، وكانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها ، لما أصابته من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران ، وما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس وراجل ، وكان مجهّزا بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر ، وقد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام ، والتحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة « لخم » « عاملة » « غسان » « جذام » ، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة « البلقاء ».

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبي صلی اللّه علیه و آله عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز - الشام فلم ير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين ، بجيش عظيم ، ويحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه ، وبفضل تضحياته هو صلی اللّه علیه و آله وهو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره وهداه ، من ضربات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة ، وأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم ، والناس في زمان عسرة ، وشدة من الحرّ ، وجدب من البلاد ، وقد طابت الثمار ، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية ، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة ، والجهاد في سبيل اللّه مقدّم - عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين - على كل تلك الامور.

تعبئة المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف على نحو الاجمال مدى وحجم

ص: 553

استعدادات العدوّ ، وطاقاته ، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة - مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية وهي الايمان باللّه والقتال ابتغاء لمرضاته - الى قوة عسكرية كبيرة جدا ولهذا بعث رجالا إلى مكة ، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه ، ويحثّون أهل الغنى والثروة ، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

وأخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند « ثنية الوداع » وتهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة ، وكان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس ، وعشرين الف راجل.

وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.

المتخلّفون عن القتال :

كانت غزوة « تبوك » خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة ، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى ، فكشف تخلّف البعض - بالأعذار والحجج المختلفة - القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية :

1 - عند ما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للجدّ بن قيس ، - وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة - :

« أبا وهب هل لك العام تخرج معنا »؟

فقال : يا رسول اللّه أو تأذن لي ، ولا تفتنّي (1) فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد

ص: 554


1- أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول اللّه.

اشدّ عجبا بالنساء مني ، واني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر ( الروم ) لا أصبر عليهنّ.

فاعرض عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني ، وقد نزل فيه قول اللّه تعالى :

« وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ » (1).

2 - المنافقون : إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلو ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك ، وربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا : يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ ، والبلد البعيد ، إلى ما قبل له به ، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب ، فنزل فيهم قول اللّه تعالى :

« وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » (2).

وقد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة ، وكانوا يقولون في هذا الصدد : تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ، واللّه لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟! (3).

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماما كبيرا ، وكان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته ، وعلى

ص: 555


1- التوبة : 49.
2- التوبة : 81 و 82.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 450.

هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهودي ، ويخطّطون لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « طلحة بن عبيد اللّه » في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر ، وأمره بأن يحرّق عليهم بيت « سويلم ». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة ، وهم يخطّطون ، ويدبّرون مؤامرة ، واحرق البيت ، ففرّوا وسط ألسنة اللّهب ، وأعمدة الدخان ، وافلتوا ، وانكسرت رجل أحدهم حين الفرار.

وقد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم وهو « الضحّاك بن خليفة » :

كادت وبيت اللّه نار محمّد *** يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق

وظلت وقد طبّقت كبس سويلم *** أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلها *** أخاف ومن تشمل به النار يحرق (1)

3 - البكّاءون : لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هذه الغزوة ، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا أجد ما أحملكم عليه ».

فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ، ألاّ يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجال نافقوا ، وتركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة ، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا

ص: 556


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 517.

في التاريخ الاسلامي بالبكائين ، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى :

« وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ » (1).

4 - المتخلفون : ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن الخروج ، وتخلّفوا لا عن شكّ وارتياب ، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه ، وقد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم ، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلی اللّه علیه و آله بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف وهم ( المخلّفون ) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك ، فوبّخهم اللّه تعالى وعاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

5 - المجاهدون الصادقون : الذين لبّوا نداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ ، ورغبة عظيمة في الجهاد.

عدم مشاركة « عليّ » في غزوة تبوك :

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنه شارك في جميع المعارك ، ولازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع غزواته ، - وكان هو حامل لوائه في تلك المعارك والغزوات - ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين والمتربّصين ، والمتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة ( مركز الدولة الاسلامية ) فيثيرون فيها فتنة ، ويجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك ، وأن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلّى

ص: 557


1- التوبة : 92.

اللّه عليه وآله مكانا نائيا ، وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام ( المدينة )!!

ولقد كانت « تبوك » أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع غزواته ، فكان يحدس - بقوة - أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه ، ويجمعوا من يروا رأيهم ويذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز ، ويتحدوا لضرب الدولة الاسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا - رغم أنه استخلف « محمّد بن مسلمة » على المدينة - قال للامام « علي بن أبي طالب » :

« أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.

يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك ».

ولقد أزعج بقاء عليّ علیه السلام في المدينة ، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرصة ، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّ علیه السلام في المدينة ، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به ، ولهذا أرجفوا به ، وبثّوا شائعات خبيثة حوله ، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا : ما خلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا إلاّ استثقالا له ، وتخفّفا منه ، أو : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعاه إلى الخروج لتبوك ، ولكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد ، وبعد الطريق وإيثارا للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة ، وتكذيب هذا الكلام ، أخذ علي علیه السلام سلاحه ، وخرج حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو نازل بالجرف ( وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة ) فقال :

« يا نبي اللّه ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ».

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر

ص: 558

من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب علیه السلام وخلافته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلا فصل :

« كذبوا ، ولكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (1).

فرجع عليّ علیه السلام الى المدينة المنورة ، ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على سفره (2).

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك :

لقد دأب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام ، ويمنعون من تقدمه وانتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها ، أو إيجاد فتن فيها ، على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وامراء جيشه ، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا ، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته ، وبذلك يتسنى له صلی اللّه علیه و آله أن يباغت العدوّ ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه (3)

غير أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بيّن للناس - منذ أعلن التعبئة العامة - الوجهة التي يقصدها ، وكان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر وصعوبته ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدة اللازمة.

ص: 559


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 449 و 450.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 520 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 207 و 208 ، وللوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنين علیه السلام راجع كتب العقائد والكلام.
3- المغازي : ج 3 ص 990.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مضطرّا - لتقوية الجيش الاسلامي - إلى أن يستعين بقبائل « تميم » و « غطفان » و « طيّ » التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

وقد عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل ، وساداتها كما كتب إلى « عتّاب بن اسيد » أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل ، وفتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس (1).

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة ، لأنه كان لا بدّ أن يخبر صلی اللّه علیه و آله رؤساء القبائل في هذا الموضوع ، ويذكر لهم أهميّته ، ليحملوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعرض جيشه :

ولما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه في معسكر المدينة العظيم ، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام ، والذين فضّلوا المشقة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال ، والتجارة ، وكسب المال واكتناز الثروة ، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا ويقينا.

لقد كان هذا المشهد جميلا ورائعا جدا ، وكان له أثر قوي في نفس المتفرجين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطبة مهمة ، لتقوية معنويات المجاهدين ، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله قال :

« أيّها الناس! أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب اللّه وأوثق العرى كلمة

ص: 560


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 244.

التقوى وخير الملل ملة إبراهيم علیه السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر اللّه وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) ثم أصدر رسول اللّه أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 561


1- المغازي : ج 2 ص 1016 بحار الأنوار : ج 21 ص 210 - 212.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 520 وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد اللّه بن خيثمة.

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق - في بداية الامر - لمرافقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد اللّه بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريم صلی اللّه علیه و آله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتم صلی اللّه علیه و آله بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق باللّه ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

ص: 562

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا (1).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبي علیه السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدر صلی اللّه علیه و آله إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

ص: 563


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 521 و 522 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 134 و 135.

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه » (1).

هذا وقد استعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان اللّه تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول اللّه بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى :

« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » (2).

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدر صلی اللّه علیه و آله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

ص: 564


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 134 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 522.
2- الجن : 26 و 27.

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كان صلی اللّه علیه و آله كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني واللّه ما أعلم إلاّ ما علّمني اللّه ، وقد دلّني اللّه عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها (1).

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ماشيا ، ونزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

ص: 565


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 523 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 456.

« رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده » (1).

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية (2).

لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني واللّه ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة (3).

* * *

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

ص: 566


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 525.
2- المغازي : ج 3 ص 1000 و 1001.
3- اسد الغابة : ج 1 ص 302 ، الطبقات الكبرى : ج 4 ص 223 ، حلية الاولياء : ج 1 ص 302.

كبرى مثل « عبد اللّه بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد اللّه » من بعيد مشهدا عجيبا ... مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد اللّه » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك وقال : رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللّهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا (1).

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده *** ومات وحيدا في بلاد بعيدة

ص: 567


1- ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج 4 ص 34 - 232 ، والدرجات الرفيعة : ص 53.
جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية (1).

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

ص: 568


1- يكتب الواقدي في المغازي : ج 3 ص 1014 و 1015 أقام رسول اللّه بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

ولقد اضاف كبار المشيرين - حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد - قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر (1).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة (2).

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرى صلی اللّه علیه و آله اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 569


1- المغازي : ج 3 ص 1019.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 142.

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من اللّه ومحمّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة اللّه وذمة محمّد رسول اللّه ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل » (2) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

ص: 570


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 526 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 141 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 160.
2- يقول الواقدي في المغازي : ج 3 ص 1025 تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأى صلی اللّه علیه و آله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى اللّه

ص: 571

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى له صلی اللّه علیه و آله هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما (1).

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

ص: 572


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 166 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 246.

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مدة بضع عشرة يوما في تبوك (1) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبي صلی اللّه علیه و آله في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خلفه ، فرأى في ضوء

ص: 573


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 527 وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج 2 ص 168 ).

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقلت : يا رسول اللّه ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن اللّه أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ اللّه لهم بالمرصاد » (1).

وقد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب » (2).

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

ص: 574


1- المغازي : ج 3 ص 1042 - 1045 ، مجمع البيان : ج 3 ص 46 بحار الأنوار : ج 21 ص 247 ، الدرجات الرفيعة : ص 298 و 299 وامتاع الاسماع : ج 1 ص 477.
2- راجع مجمع البيان : ج 3 ص 46.

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول اللّه : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر » (1).

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار - في الحقيقة - إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

ص: 575


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 163 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 219.

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلی اللّه علیه و آله - بعد العودة - أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

ص: 576

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

« حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (1).

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

ص: 577


1- التوبة : 118 ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى اللّه ، والانابة إليه ، وقبل اللّه تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّ صلی اللّه علیه و آله من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم (1).

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

ص: 578


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 165 ، بحار الأنوار : ج 10 ص 119 وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج 3 ص 1049 - 1056 ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم - تحت غطاء أداء الفرائض - التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلی اللّه علیه و آله في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبي صلی اللّه علیه و آله أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك (1).

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبي صلی اللّه علیه و آله من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

ص: 579


1- المغازي : ج 3 ص 1046.

« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » (1).

فأمر النبي صلی اللّه علیه و آله فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد (2).

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ لم يشارك صلی اللّه علیه و آله بعدها في أي قتال.

ص: 580


1- التوبة : 107 و 108.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 530 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 253.

55

وفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها ، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنود الاسلام المجاهدون الى المدينة بابدان متعبة من وعثاء السفر ، وبعد الطريق ، ولم يلق جنود الاسلام كيدا ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي اية مواجهة كما ولم يواجهوا عدوا طوال ذلك الطريق ، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملا لغوا وعبثا ، وذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة ، ولم يمض وقت كبير إلاّ واتضحت نتائجها ، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء وعنادا للاسلام ، وخضعت لسلطان المسلمين ، بايفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة ، وإظهار الطاعة والاسلام عن طريقها ، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها ، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم - عادة - بالنتائج المرئية الحاضرة ، فمثلا إذا واجه جنود الاسلام خلال الرحلة عدوّا ، وقاتلوه وقضوا عليه ، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة : لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة!!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط ، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحا باهرا.

ص: 581

ومن حسن الاتفاق أن غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلی اللّه علیه و آله وهو اجتذاب الاقوام العربية الى الاسلام - خدمة كبرى - ، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين ( الذين غلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت وحكموا حتى اليمن وما حولها في آخر حروبهم ، واستعادوا منهم صليبهم واعادوه إلى بيت المقدس ) ارعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى ، وانصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفع هذا النبأ اشدّ القبائل عنادا ، والتي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام والخضوع له ، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة ، وتفكّر في التعاون والتعايش مع المسلمين ، ولكي تسلم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم ( إيران والروم ) انضوت تحت لواء الاسلام ، واعلنت عن انتمائها إليه. وإليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف :

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية ، ولقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا (1).

هذا وكان « عروة بن مسعود الثقفي » وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك ، فقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل أن يدخل المدينة ، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف ، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مخاطر هذا العمل لأنه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف أنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان

ص: 582


1- المغازي : ج 2 ص 922 - 938.

منهم.

وقال له : انهم قاتلوك.

فقال عروة : يا رسول اللّه أنا أحبّ إليهم من أبكارهم ، ( أو من أبصارهم ) ، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.

ولقد كان قوم عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعد ما أدركه عروة من عظمة الاسلام ، وكان فيهم نخوة وكبر يمنعانهم من الخضوع للحق.

ولهذا قررّت أن ترشق بالنبال والسهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام ... وهكذا رشقوا بالنبال « عروة » في الوقت الذي كان يدعوهم إلى الاسلام ، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : كرامة اكرمني اللّه بها ، وشهادة ساقها اللّه إليّ (1).

وفد ثقيف :

ندم رجال ثقيف - بعد مقتل عروة - على فعلهم هذا بشدة وعرفوا بأن الحياة لم تعد ممكنة وميسّرة لهم في قلب الحجاز الذي رفعت على جميع مناطقه ألوية التوحيد وخاصّة بعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحت رحمة المسلمين ، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوبا من قبلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمن شروط معيّنة ، واتفقوا على إيفاد « عبدياليل » إلى المدينة وابلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة وقال : لست فاعلا ذلك حتى ترسلوا معي رجالا ، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم ، وكان يخشى أن يصنعوا به ما صنعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعا بالقدوم

ص: 583


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 537 و 538.

على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتفاوض معه.

توجه هذا الوفد السداسيّ إلى المدينة ، ونزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولا لأصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين ، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها ، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره المغيرة عن ركب ثقيف ، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبي صلی اللّه علیه و آله قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخبره بقدومهم عليه وأنهم جاءوا ليعتنقوا الاسلام بشروط ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باكرامهم ، وضرب لهم قبة في ناحية مسجده ، وكلّف خالد بن سعيد بالقيام بشئون ضيافتهم.

ثم حضر وفد ثقيف عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومع أن المغيرة كان قد علّمهم كيف يحيّون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّرا منهم وغرورا ثم أخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برأي ثقيف وأضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة ، سوف يعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدة أيّام ، وكان « خالد بن سعيد » هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه المفاوضات.

شروط وفد ثقيف :

قبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كثيرا من شروط ثقيف حتى انه ضمن لاهل الطائف - ضمن ذلك العهد - أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيين من

ص: 584

أراض ، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة ، ووقحة الى درجة أن النبي صلی اللّه علیه و آله غضب بسببها ، ولا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط :

قال وفد ثقيف : ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله ، وأن يعبدوا « اللات » وهو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما رأوا غضب النبي واباءه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا ، فابى عليهم أن يدعها ولا يوما.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلی اللّه علیه و آله الذي كان نشر التوحيد ، وهدم بيوت الاصنام ، وتحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلبا مخجلا جدا ، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاما لا يضر بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية ، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عند ما عرف وفد ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادروا إلى التعلل والاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم ، حيث إنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام ، فاذا أبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهم ذلك فليبعث معهم شخصا من غير قبيلتهم ليهدمها ، فوافق النبي صلی اللّه علیه و آله على هذا الشرط ، لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يريد محو وازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلاة.

فلقد كانوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمكنه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب ، حسب زعمهم ، حيث كانوا يكلّفون جماعة بهذه الاحكام ، بينما يعفون جماعة اخرى منها ، وذلك غفلة منهم عن

ص: 585

أنّه صلی اللّه علیه و آله يتبع الوحي الالهيّ ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترسّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعد ، وأنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ ، وإلاّ فلا داعي ولا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض ، فيقبلوا شيئا ويرفضوا شيئا آخر.

إن الاسلام ، والايمان باللّه إن هو إلاّ نوع من التسليم الباطني الروحيّ ، والخضوع القلبي الذي يقبل المرء في ظلّه جميع التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة ، وفي مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقا إلى روح إنسان ومخيّلته.

ولأجل هذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جوابهم :

« لا خير في دين لا صلاة فيه » (1).

إن المسلم الذي لا يسجد ولا يركع لله تعالى في اليوم والليلة ولامرة واحدة ، ولا يذكر ربّه لا يكون مسلما بالمعنى الصحيح.

هذا وعند ما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتّفق عليها ، وقّع عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وحينئذ أذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم ، واختار منهم أحدثهم سنا وهو « عثمان بن أبي العاص » الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام ، وتعلّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمّره عليهم ، وجعله نائبا دينيا ، وسياسيا عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه - فيما أوصاه - بأن يصلّي بالناس جماعة مراعيا أضعفهم قائلا له :

« يا عثمان تجاوز (2) في الصلاة وأقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير

ص: 586


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 317.
2- تجاوز : أي خفف الصلاة وأسرع بها.

والصغير والضعيف وذا الحاجة ».

ثم كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « أبا سفيان بن حرب » ، و « المغيرة بن شعبة » بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهدم الاصنام فيها ، أجل إن أبا سفيان الذي كان وحتى يوم أمس من حفظة الأصنام وهو الذي أراق في سبيلها أنهرا من الدّماء ، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها ، ويحوّلها الى تلّ من الحطب ، ويبيع ما يتعلق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضى بأموالها ديون « عروة » و « الأسود » حسب اوامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

ص: 587


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 537 - 543 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 216 - 218 ، ولقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب « اسد الغابة » : ج 1 ص 216 وج 3 ص 406 أيضا.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

اشارة

56

إعلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعدة آيات من سورة التوبة ( سورة البراءة ) ، وكلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يبعث بها رجلا إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رفع الأمان في هذه الآيات عن المشركين ، والغيت جميع العهود ( إلاّ العهود والمواثيق التي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها ) ، وابلغ إلى رءوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد - وذلك خلال أربعة أشهر ، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نزعت منهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

عند ما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة وهذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفا لمبدإ الحريّة الاعتقادية ، ولكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز ، ودرسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء ، والتي ذكرت في هذه السورة ، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء ، ولصدّقوا واعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم ، أبدا وإليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد ( البراءة ).

1 - كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر

ص: 588

الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير ويطوف بثوب آخر ، واذا لم يكن له ثوب آخر ، فان عليه أن يستعير ثوبا ويطوف به حتى لا يضطرّ إلى الطواف عريانا ، وإن لم يمكنه ان يستعير ثوبا طاف بالبيت المعظم عاريا ، بادي السوأة.

وقد دخلت امرأة ذات جمال كبير ، ذات يوم المسجد الحرام ، وحيث أنّها لم تك تملك ثوبا آخر ، لذلك اضطرّت تبعا لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظّم ، ومن الواضح أنّ مثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت ينطوى على نتائج سيّئة بالغة السوء.

2 - لقد نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله ، وفي هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يصرّون على الشرك والوثنية لم يكن ذلك إلاّ عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد جان لأن يستخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف ، وأن يستعين بمنطق القوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة ، وأن يعتبرها نوعا من العدوان على الحقوق الالهية والإنسانية ، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئات العادات السيئة في المجتمع.

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفا لمبدإ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي وقاعدة المدنية الراهنة ، قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم ما دام لا يضرّ بسلامة الفرد والمجتمع ، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتما بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أورپا اليوم مثلا جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقا من افكار منحرفة فاسدة وقاموا - على أساس أن إخفاء بعض

ص: 589

الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريزة ويسبب فساد الاخلاق - بتشكيل نوادي العري السرية ، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة ، ويقول : إن الاعتقاد أمر محترم ، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظا على سعادة تلك الجماعة نفسها ، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات والحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر ، فهم يحاربونها بلا هوادة ، وهذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة ، وقد بذل رسول الاسلام جهودا كبرى وكافية في سبيل هدايتهم ، وبعد أن انقضى اكثر من عشرين عاما من دعوته كان الوقت قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

3 - ومن جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات والشعائر الاسلامية ولم تكن الصراعات والمواجهات التي وقعت بين الاسلام ورءوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسول الكريم المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيدا عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبي الكريم بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم ، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة ، ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك اذا خلّت منطقة الحرم الإلهي ونواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية ، والحجرية ، ويطهّرها من كل معالم الشرك والوثنية ، ويصبح الحرم الإلهي خالصا للموحدين والعباد الواقعيين.

4 - إن جهاد النبي لم يك له أيّ ارتباط بحرية العقيدة ، فالعقيدة ليست شيئا يمكن أن يفرض على أحد ، ويوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان ونفسه

ص: 590

هو مركز الاعتقاد ومقرّه ، وظرفه ومكانه ، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير ، وإن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات والأوليّات التي توجب حصول العقيدة ، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر ، ولا تقبل الفرض ، بل كان نضال النبي ينحصر في النضال ضدّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الاوثان.

من هنا هدم كل بيوت الاصنام ، وحطّم الأوثان بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع - لا محالة - مثل هذا التطور والتحول والانقلاب.

ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلا من المسلمين (1) الى مكة ، ويتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام باداء هذه المهمة ، وتوجه نحو مكة ، إلاّ أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برسالة من اللّه سبحانه وهي :

« إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولهذا استدعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا وأخبره بالخبر ثم قال له : اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده ، وامض بها الى مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم ، أي اقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية :

ص: 591


1- وقد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلاثمائة ( المغازي : ج 3 ص 1077 ).

1 - أن لا يدخل المسجد مشرك.

2 - أن لا يطوف بالبيت عريان.

3 - أن لا يحجّ بعد العام مشرك.

4 - أنّ من كان له عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد فهو له إلى مدته ، أي إنّه محترم ميثاقه وماله ونفسه إلى يوم انقضاء العهد ، ومن لم يكن له عهد ومدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك بدءا من هذا اليوم ( العاشر من شهر ذي الحجة ).

إي إن على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية ، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين ، وينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك ويحطموها ، وإما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين (1).

فخرج علي علیه السلام على ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العضباء مع جماعة منهم « جابر بن عبد اللّه » الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلی اللّه علیه و آله فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي علیه السلام .

ويروي محدّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر : أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع علي علیه السلام الى مكة ... : بل أرجع إليه ، وعاد إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، فلما دخل عليه قال : يا رسول اللّه إنك أهلتني لأمر طالت الاعناق إليّ فيه ، فلمّا توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل فيّ قرآن؟!

فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : لا ولكنّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ وجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعليّ منّي ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ » (2).

ص: 592


1- فروع الكافي : ج 1 ص 326.
2- الارشاد : ص 37.

إلاّ أن بعض روايات أهل السنّة تفيد أنّ أبا بكر أنيط إليه امارة الحجيج في ذلك العام ، بينما كلّف علي علیه السلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى (1).

دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام مكة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة ( البراءة ) وأذان رسول اللّه المتضمن للنقاط الاربعة ، رافعا صوته به ، بحيث يسمعه جميع من حضر ، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة ، وأخبر المشركين الذين لا عهد ولا مدة لهم مع النبي صلی اللّه علیه و آله بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ابتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان ، فاذا انقضت هذه المدة قتلوا اذا وجدوا على الشرك ، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية وإلاّ سلبت عنهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثر هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلاّ وأقبل المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجا افواجا ، وهكذا استأصلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث :

لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة ، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يعدّ من ابرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار والشك ، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ والانحراف مع ذلك عند تحليل ودراسة هذه الحادثة.

ص: 593


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 546 وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير : ج 6 ص 338 - 350.

فهذا « الآلوسي البغدادي » يكتب في تفسيره عند دراسة وتحليل هذه الحادثة : النكتة في نصب الامير كرم اللّه تعالى وجهه مبلّغا نقض العهد في ذلك المحفل ان الصّديق رضي اللّه تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء ولما كان علي كرم اللّه وجهه والذي هو أسد اللّه ومظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر (1).

إن هذا التفسير النابع من منبع التعصّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر : « إنّ هذه الآي لا يؤدّيها إلاّ أنا أو رجل منّي » أي لا يصلح لأدائها غير هذين الرجلين وليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يكلف حتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بابلاغ هذه الآيات ، على حين أن الوحي قال : هذه الآيات لا يؤديها إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولقد برّر جماعة اخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا : لقد كان التقليد المتّبع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفس الموقّع على العهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه ، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حاله ، وحيث إن علي بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كلّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع ، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هو أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل عمّه العباس ، فلما ذا لم يكلّف بابلاغ آيات البراءة ، ونبذ العهد الى المشركين.

ص: 594


1- روح المعاني : ج 10 ص 45 تفسير سورة التوبة.

ثم لما ذا لم يتبع النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العادة من أول الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول : إن علة هذا العزل ، والنصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام ، والطموح الى السلطة ، ولا وشيجة القربى مع علي علیه السلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عمليا عن أهليّة أمير المؤمنين علي علیه السلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلّقة بالحكومة الاسلامية ، وليعلم الناس أنه عديل النبي صلی اللّه علیه و آله في الجوانب الروحية ، وفي مجال الأهليّة ، والصلاحية.

وانه اذا ما غابت شمس الرسالة بعد حين وجب أن تسلّم مقاليد الحكم ، وازمّة التصرّف في المسائل والامور المتعلّقة بشئون الخلافة الى عليّ علیه السلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه ، وانه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الإشكال والتشتت ، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر ، لأنهم قد رأوا بام عينهم كيف نصب « علي » من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين ، الذي هو من صلاحيات واختيارات ، الحاكم الاسلامي وشئونه.

ص: 595

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

اشارة

57

في رثاء الولد العزيز

اشارة

« يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئا إنّا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولو لا أنّه وعد صادق وموعود جامع فانّ الآخر منّا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه » (1).

هذه العبارات قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رثاء ولده العزيز « إبراهيم » في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم ، وبينما كان الوالد العظيم واضعا شفتيه على خدّ ابنه ، ويودّعه بروح ملؤها المشاعر والعواطف ، من جانب ، وراضية بالتقدير الإلهي.

إنّ حبّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجلّيات الروح الانسانية ، كما انه خير دليل على سلامة الروح ولطافتها.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول دائما : « اكرموا أولادكم » (2) وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم أخلاقه ومحاسن سجاياه (3).

ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله مصيبة

ص: 596


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 311 بحار الأنوار : ج 22 ص 157.
2- بحار الأنوار : ج 104 ص 95 عن مكارم الاخلاق.
3- المحجة البيضاء : ج 3 ص 366.

افتقاد ثلاثة من أولاده هم : « القاسم والطاهر ، والطيب » (1) وثلاث من بناته وهن : « زينب » و « رقيّة » و « أمّ كلثوم » ولقد حزن لفقدهم حزنا شديدا وكانت « فاطمة » هي البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

لقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الامراء والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام ، وإلى عقيدة التوحيد ، وهذا الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر ، ولم يقبل دعوته إلاّ أنه اجاب على كتاب النبي باجابة حسنة مضافا إلى أنه أرسل إليه صلی اللّه علیه و آله هدايا منها جارية تدعى « مارية ».

ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها وولدت له ابنا سماه « إبراهيم » أحبّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبّا شديدا.

ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة ، واشعلت في نفس النبي صلی اللّه علیه و آله بصيصا من الأمل ، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهرا ، وانطفأ.

لقد خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بيته ذات يوم لعمل ، وعند ما عرف بتدهور خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد « إبراهيم » عاد من فوره الى منزله ، واخذ ابنه من حضن أمه ، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.

إن حزن النبي صلی اللّه علیه و آله وبكاءه في موت ابنه « إبراهيم » دليل حيّ على عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب ، وإن إظهار تلك العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح

ص: 597


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 166 ، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا : أولاده الذكور من خديجة اثنان فقط راجع ج 22 ص 151 من بحار الأنوار.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلّ تجنب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التكلم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير الالهيّ الذي لا مفرّ لأحد منه.

اعتراض غير وجيه :

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده « إبراهيم » ، فاعترض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أو لم تكن نهيت عن البكاء ، وأنت تبكي؟

إن هذا المعترض لم يكن جاهلا بمبادئ الاسلام وقواعده الرفيعة فحسب ، بل كان غافلا حتى عن العواطف والمشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضا.

إن جميع الغرائز الانسانية خلقت في الكيان البشري لأهداف خاصة ويجب ان يتجلى كل واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم ، فالشخص الذي لا يحزن لفقد أحبّائه وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم ، ولا تدمع عيناه لذلك ، وبالتالي إذا لم يظهر من نفسه أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر ، ولا يستحق اسم الانسانية.

ولكن ثمة نقطة مهمة وجديرة بالانتباه ، وهي أنّ هذا الاعتراض وان كان اعتراضا غير موجّه ، إلاّ أنه يكشف عن وجود حرية كاملة ، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنّ شخصا عاديّا من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة ومن دون خوف أو وجل ، وسمع الجواب.

ومن هنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا ، إنّما هذا رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم » (1).

ص: 598


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 151.

او قال :

« لا ، ولكن نهيت عن خمش وجوه وشقّ جيوب ورنة شيطان » (1).

ولقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2) بتجهيز « إبراهيم » وغسله وكفنه وتحنيطه ، ثم إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شيّعه مع جماعة من أصحابه ، ومضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إن النبي صلی اللّه علیه و آله رأى في قبر « إبراهيم » خللا فسوّاه بيده ثم قال :

« إذا عمل أحدكم عملا فليتقن » (3).

مكافحة الخرافات :

عند ما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انكسفت الشمس فتصوّر البعض ممن جهل سنن الطبيعة وقوانين العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم.

ولا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل وان كان قضية خيالية ووهما سخيفا إلاّ أنه كان من شأنه أن ينفع النبي ، ويعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.

ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان قائدا عاديا وماديّا لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله على عكس هذه التوقّع رقى المنبر ، وأطلع الناس على حقيقة الأمر وقال :

ص: 599


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 310 و 311.
2- بحار الأنوار : ج 22 ص 156 ، وروي في السيرة الحلبية ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّف الفضل بن العباس ( ابن عم النبي ) بتجهيز إبراهيم.
3- بحار الأنوار : ج 22 ص 157.

« أيّها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته » (1).

إن النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم ، واستخدامهم لمآربهم ، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس ونزعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة ، ولم يستفد من جهل الناس وغفلتهم لصالح نفسه.

ولو أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه الفكرة الباطلة وهذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسه قائدا خالدا للبشرية ورسولا مختارا من جانب خالق الطبيعة ، والمؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ ، في العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة ، واتضحت فيه قوانين العالم الماديّ ونواميسه ، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من تفاعلات الطبيعة.

إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضع لحدود زمانية أو مكانية ، فلو أنه كان نبي الاقوام والاجيال الغابرة ، فهو كذلك نبيّ عصر الفضاء ، وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.

إن احاديث هذا النبي العظيم ، وكلماته من القوة ، والمتانة ومن الصحة ، والاتصاف بالواقعية بحيث لم يتطرق إليها أي إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي قلبت كثيرا من معارف البشر القديمة رأسا على عقب.

ص: 600


1- المحاسن : ص 313 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 310 و 311.

58

وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع « نجران » بقراها السبعين التابعة لها ، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية ، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية (1) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران (2) « أبو حارثة » يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول اللّه إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم واسحاق (3) ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة اللّه من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، فان أبيتم فالجزية ، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ».

واضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب (4) والتي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهار.

ص: 601


1- ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان : ج 5 ص 266 - 277 علل اعتناقهم للمسيحية.
2- الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 285.
4- المراد من تلك الآية هو قوله تعالى : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » ( آل عمران : 64. الاقبال : ص 494 ).

قدم سفير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نجران وسلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران ، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية ، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية ، وكان أحد أعضاء هذه المجموعة « شرحبيل » الذي عرف بعقله ونبله ، وتدبيره وحكمته ، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه : قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة ، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودراسة دلائل نبوته ، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران وأعقلهم ، وكان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم :

1 - « أبو حارثة بن علقمة » اسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2 - « عبد المسيح » رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه ، وتدبيره.

3 - « الأيهم » وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران (1)

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة ودخلوا المسجد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يلبسون أزياءهم الكنسيّة ويرتدون الديباج والحرير ، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في اعناقهم ، فأزعج منظرهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك ، فسألوا « عثمان بن عفان » و « عبد الرحمن بن عوف » وكانت بينهم صداقة قديمة ، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

ص: 602


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 211 و 212.

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلی اللّه علیه و آله فسلّموا عليه فرد علیهم السلام ، واحترمهم ، وقبل بعض هداياهم التي أهدوها إليه صلی اللّه علیه و آله ، ثم إن الوفد - قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي صلی اللّه علیه و آله قالوا : إن وقت صلاتهم قدحان واستأدنوه في أدائها ، فاراد الناس منعهم ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذن لهم وقال للمسلمين : دعوهم فاستقبلوا المشرق ، فصلّوا صلاتهم (1).

وبذلك اعطى النبي صلی اللّه علیه و آله درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين. مفاوضات وفد نجران مع النبي :

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة ، والمحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ واكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين والمؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني (2). وكتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل (3) ، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب ، ولهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

ص: 603


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 212.
2- هو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه والمتوفى عام 387 ه.
3- من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص 496 - 513.

سيرته (1).

عرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على وفد نجران وتلا عليهم القرآن ، فامتنعوا وقالوا : قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كذبتم ، يمنعكم من الإسلام ثلاث : عبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير ، وزعمكم أنّ لله ولدا.

فقالوا : المسيح هو اللّه لأنه أحيا الموتى ، وأخبر عن الغيوب ، وأبرأ من الأدواء كلها ، وخلق من الطين طيرا.

فقال النبي صلی اللّه علیه و آله هو عبد اللّه وكلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم : المسيح ابن اللّه لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى :

إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب » (2).

فقال وفد نجران : إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تباينا ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك ، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين (3).

فانزل اللّه عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » (4).

فدعاهم إلى المباهلة ، فقبلوا ، واتفق الطرفان على ان يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

ص: 604


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 239.
2- آل عمران : 59.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 320 ، ولكن آية المباهلة ، وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة « تعالوا ندع ابناءنا ... ».
4- آل عمران : 61.
خروج النبي للمباهلة :

تعتبر قصة مباهلة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة ، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرخين في رواية تفاصيلها ، وتحليلها ، إلاّ أنّ ثلة كبيرة ، من العلماء كالزمخشري في الكشاف (1) والإمام الفخر الرازي في تفسيره (2) وابن الاثير في الكامل (3) أعطوا حق الكلام في هذا المجال وها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال :

حان وقت المباهلة ... وكان النبي صلی اللّه علیه و آله ووفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة ، في الصحراء ... فاختار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم ، وهؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالب علیه السلام وفاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا ، ولا أقوى وأعمق إيمانا.

طوى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسافة بين منزله ، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة ، فقد غدا محتضنا الحسين (4) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض - قبل أن يغدو

ص: 605


1- ج 1 ص 382 و 383.
2- مفاتيح الغيب : ج 2 ص 471 و 472.
3- ج 2 ص 112.
4- جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ ( بحار الأنوار : ج 21 ص 338 ).

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المباهلة : انظروا محمّدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شيء. وهم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية ، وقوة ظاهرية ، تحف به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه ، وإذا أتى بولده وأبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية وتوجه إلى اللّه بهم وتضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته ، وأفلاذ كبده ، وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه.

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة ، كيف خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بابنته الوحيدة ، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة ، فادركوا أن النبي صلی اللّه علیه و آله واثق من نفسه ودعوته وثوقا عميقا ، اذ ان المتردد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه واعزته ويعرضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال اسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة (1).

* * *

ص: 606


1- يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » : أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار ، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعاراتهم من راياتهم واحسن شاراتهم وهيئتهم ... ولبث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على والحسن والحسين أمامه ، وفاطمة علیهاالسلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته ، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.
إنصراف وفد نجران عن المباهلة :

لما رأى وفد نجران هذا الأمر ( وهو خروج النبي باحبّته واعزته ) وسمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبي صلی اللّه علیه و آله ، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة ، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم ، فقبل النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك ، وتقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا ، ثم قال النبي صلی اللّه علیه و آله :

« أما والّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران ، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل اللّه تعالى نجران وأهله ».

عن عائشة : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج ( أي يوم المباهلة ) وعليه مرط (1) مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله ، ثم فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : « إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (2).

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء علیهم السلام ، وفيه برهان على صحة نبوة النبي صلی اللّه علیه و آله ، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

صورة العهد النبويّ لأهل نجران :

سأل وفد نجران النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبي صلی اللّه علیه و آله في كتاب ، وأن

ص: 607


1- كساء.
2- الاحزاب : 33.

يضمن النبي صلی اللّه علیه و آله أمن نجران في ذلك الكتاب ، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول اللّه لنجران وحاشيتها ، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك لهم : ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب ، وعليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا ، وثلاثون فرسا ، وثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك ، وعلى أهل نجران مثواة رسلي ( واستضافتهم ) شهرا فدونه ، ولهم بذلك جوار اللّه وذمة محمّد النبي رسول اللّه على أنفسهم وملتهم وارضهم واموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لا يعشّروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة » (1).

اكبر فضيلة :

تعتبر واقعة المباهلة وما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة ومقام من باهل بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين ابناء لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويصدق عليها عنوان « نسائنا ». وقد عبّر عن عليّ علیه السلام بانفسنا فكان علي علیه السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

ص: 608


1- فتوح البلدان : ص 76 ، امتاع الاسماع : ص 502 واعلام الورى : ص 78 و 79.

الناحية المعنوية ارتفاعا وتسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي (1).

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي علیه السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة ، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه ويجادله فيها ، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث ، وللوقوف على هذا الامر يراجع كتاب « نور الثقلين » (2).

ص: 609


1- وقد استند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هذه الآية في قوله : « علي مني كنفسي ».
2- نور الثقلين : ج 1 ص 291 و 292 ، وراجع أيضا الكافي ج 2 كتاب الدعاء باب المباهلة ، وقد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا ، ويعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

59

تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

اشارة

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير ، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصّلة لمناسبة واخرى ، وتتلخص هذه القصة فيما يلي :

لقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - يوم راسل ملوك العالم وامراءه يدعوهم الى الاسلام - كتب كتابا الى اسقف نجران « ابو حارثة » دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شاور جماعة من اصحابه ، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة ، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن كثب.

وفعلا قدم الوفد المذكور المدينة ، والتقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه ، بأن يخرج الجميع ( الطرفان ) إلى الصحراء ، ويدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حالة معنوية ، وروحانية عظيمة ، حيث أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته وأعزته ، وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية ( وهي مبلغ ضئيل ).

ص: 610

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها وإخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر ، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

عام المباهلة حسب المشهور :

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد : لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة ، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا ، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلی اللّه علیه و آله .

وقد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش (1).

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة :

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة ، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر ، وروى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة (2).

واما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة ، وذكر بأن أصح تلك الأقوال والروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة ، وقد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد والعشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع والعشرون (3).

ص: 611


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 65 ، الدر المنثور : ج 2 ص 38.
2- مصباح المتهجد : ص 704.
3- الإقبال : ص 743.

ثم انه رحمه اللّه روى في آخر كتابه (1) قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر ، ونوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين :

1 - كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني (2).

2 - كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس (3).

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الواحد العشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد ، وإليك ادلتنا على ذلك فيما يلي :

رأينا حول عام المباهلة :

1 - لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى اسقف نجران عبارة : « وإن أبيتم فالجزية » ، وقد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

ص: 612


1- الاقبال : ص 743.
2- لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة ، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي : محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه بن بهلول بن الهمام بن المطلب وعلى هذا الاساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. وينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد اللّه - حسب ما يرى النجاشي - فترتين من الحياة ، كان في إحداهما موثوقا به ، وفي الاخرى غير موثوق به وهذا يقول : اجتنب الرواية عنه الاّ عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته وصلاحه ( راجع فهرست النجاشي ص2. 282 ).
3- جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الامامية وقد توفي عام 460 ه وقد نقل احاديث المباهلة ( راجع الذّريعة ج 15 ص 344 ).

في سورة التوبة والظاهر أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة ، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل ، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتابا ، بعثوا بجوابه إليه صلی اللّه علیه و آله بعد عام ونصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

2 - اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث عليّا علیه السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الاحكام الدينية ، وقد مكث علي علیه السلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه ، وعند ما علم بتوجه النبي صلی اللّه علیه و آله الى مكة للحج ، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن ، فلقي النبيّ بمكة ، وقدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح (1).

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة ، وذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل سنة ألفي حلة ( مخيّطة وغير مخيّطة ) ، الف حلة منها في شهر رجب ، والف حلة اخرى في شهر صفر (2).

فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح ، وتنفيذها بواسطة الامام

ص: 613


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 602 و 603 ، الارشاد : ص 89.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 348 ، والارشاد : ص 92.

علي علیه السلام قد تمّا معا في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح ، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة ، ولكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام عليا علیه السلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية ( وهي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة في شهر ذي الحجّة ) وجب أن نختار احد القولين التاليين :

الف : إذا سلّمنا بان يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء : إذا ترددنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه ، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

* * *

زمن المباهلة يوما وشهرا :

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما ، إلاّ في صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الاحداث والوقائع التاريخية ، فنقول : إن الشهر واليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما - حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا - شهر ذي الحجة

ص: 614

واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون ، وعلى قول : الحادي والعشرون ، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر ( وهو يوم الغدير ) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة (1) بميلين (2) ، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي - بشهادة التاريخ - أمر بعد نصب علي علیه السلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة ، وان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة ، ويهنئونه بالخلافة والإمرة وقد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة ، وقد هنّأت « امهات المؤمنين » عليا علیه السلام في نهاية

ص: 615


1- « الجحفة » على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة وسبعة منازل من المدينة وتبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا وتقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة راجع كتاب التحرير للنووى والتهذيب له أيضا ، هذا ويقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص 109 : ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة وهي ميقات أهل مصر والشام ، وتبعد عن البحر بستة أميال ، وعن غدير خم بميلين. وهي الآن تبعد عن مكة - حسب المقاييس الحديثة - بمائتين وعشرين كيلومترا ويقول المسعودي في كتابه « التنبيه والاشراف » ص221- 222 أيضا : أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة ، وولد علي رضی اللّه عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم.
2- الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع وقيل : ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع ، وعلى أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ ، وثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا ( راجع القاموس مادة : ميل ).

مراسيم التهنئة (1).

من هنا لا يمكن القول بان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر ، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وبناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أرض الغدير مدة أطول.

وحتى لو فرضنا - افتراضا - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر ، فهل يمكن ان نقول - في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدم المدينة في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين ، واخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟ ، كلا حتما ، لأن المسافة بين مكة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل - آنذاك - من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلاّ حديث سفر النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام (2).

ص: 616


1- جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير : الجزء 1 ص 245 - 257.
2- غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع ، ووصل إلى محلة « قبا » حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر ، وتدلّ القرائن على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له ( السيرة النبوية : ج 2 ص 399 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 135 ).

كما أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما (1).

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبي صلی اللّه علیه و آله قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين ، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل ، ومن الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

ولنفترض أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غادر أرض « غدير خم » في اليوم التاسع عشر ، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة والمدينة ، وبالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

واذا اعتبرنا الثاني ( أي احد عشر يوما ) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة ( أي بين الجحفة والمدينة ) في سبعة ايام ونصف اليوم ، فيكون - حسب القاعدة - قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول - في ضوء هذه المحاسبة - بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين او السابع والعشرين.

إن بطلان هذا القول ، وخلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات ، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبي صلی اللّه علیه و آله ، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثيابا راقية من الديباج والحرير ، وفي أيديهم خواتيم من ذهب ، وعلى صدورهم صلبان من ذهب ، وتوجه

ص: 617


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 19.

فور قدومهم - وعلى هذه الهيئة - إلى مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيء وتفرق أعضاء الوفد ، وهم في حيرة من موقف النبي صلی اللّه علیه و آله فالتقى الوفد عليا علیه السلام وسألوه عن سبب استياء النبي واعراضه عنهم ، فأخبرهم الامام علي علیه السلام بأن عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم ، ويدخلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبي صلی اللّه علیه و آله ثانية ولكن بثياب عادية خالية عن الزينة والحليّ ، فاستقبلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببشاشة خاصة ، ورحّب بهم ترحيبا كبيرا ، ثم سألوا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يؤدوا صلاتهم في المسجد ، فاذن لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ثم دخلوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله في مناظرات ومناقشات مفصّلة ، وبعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين والمؤرخين ومنهم ابن هشام في سيرته (1) اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة ، وحدّد يوم المباهلة.

ولما كان ذلك خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب ، وسبطيه الحسن والحسين ، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وما هم عليهم من البساطة والجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فهل هذه الوقائع التي استغرقت - كما يقول بعض المؤرخين - اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

ص: 618


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 575 ، مجمع البيان : ج 1 ص 410.

إن المحاسبات تقضي وتفيد بأن مراسيم المباهلة ، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين ، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن « نجران » مدينة حدودية بين الحجاز واليمن ، ولا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة لاداء مناسك الحج ، ولهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة ، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا (1).

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى ، وذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة ، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة ( التاسعة ) من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله بمهمة إبلاغ آيات البراءة - على

ص: 619


1- جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير : في ج 6 ص1. 321 هذا الرأى من اثنين وسبعين شخصا من علماء السنة ، وكأن قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه الستة ( التاسعة ) ، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة ، ولا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع وهي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت اربعة مجالس ( بتلخيص ).

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى ، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج وادارة امر الحجيج إلى المسلمين ، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

ونحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة ، ولا شك أن شخصية بارزة ومسئولة كالامام علي علیه السلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر ويتوجه الى المدينة وهو الذي كانت له أقرباء وانسباء كثيرون في مكة ، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فان عليّا علیه السلام مهما اسرع وجدّ في السير قافلا الى المدينة ، وقطع المسافة بين مكة والمدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين ، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم ، ويشهد المباهلة مع المتباهلين.

إن الشواهد والادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة ( يوما وشهرا وعاما ) لا تحظى بالاعتبار الكافي ، ولا بدّ - لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث - من مزيد التحقيق ، ومزيد الدراسة ، والتقصّى.

وهنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو : كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها.

والجواب هو : أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه ولكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

ص: 620

علماء الرجال ، نظراء :

1 - محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق (1).

2 - الحسن بن على العدويّ وقد ضعّفه العلامة (2).

3 - محمّد بن صدقة العنبرى وقد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ (3).

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل وقد ذكرنا في الهامش ( ص 2073 ) أن ابا المفضل له فترتان في حياته ، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر ، ولا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة ، واخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور ( ص 743 ) على حديث مرفوع ( وهو ما فيه نقص في رجال سنده ) ، وذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

ص: 621


1- وان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.
2- تنقيح المقال : ج 1 ص 294.
3- رجال الشيخ الطوسي : ص 39.

60

1 - تقييم البراءة من المشركين ، 2 - وفود القبائل في المدينة

اشارة

تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي علیه السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية ان اللّه ورسوله بريئان من المشركين والوثنيين ، وأن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا ويكفّوا عن عبادة الاصنام ويهجروها ، وإما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق والسريع ، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصر على المضي في عاداتها الشنيعة ، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الاصنام والأوثان.

لقد ارتكبت هذه القبائل ، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية ، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام ، وقد دار بين كل واحد من هذه الوفود وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (1) مواصفات وخصوصيات اثنين

ص: 622


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 291 - 330.

وسبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والاّ لكانوا يلجئون إليه ، ويتظاهرون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولم تنته المدة المضروبة ( اربعة أشهر ) بعد إلاّ ودخلت كل مناطق الحجاز وكل أقوامها تحت راية التوحيد ، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام والاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي :

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية - يومئذ - بالشر والطغيان ، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم : « عامر » و « أربد » و « جبار » على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر ، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطة تقضى : بأن يتحدث « عامر » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويفاوضه ، وفيما هو يفعل ذلك يبادر « أربد » الى ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسيفه.

ولم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطتهم ، ولهذا أعلنوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام ، ووفائهم لشخص النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولكن « عامرا » احجم عن أي نوع من انواع

ص: 623

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس وكان يصرّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة وهو ينظر الى أربد وينتظر منه ما كان أمره به واتفقا عليه ، ولكنه لا يزداد نظرا إلى « اربد » إلاّ ويزداد « اربد » حيرة ودهشة هذا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعامر كلما قال : خالّني : لا واللّه حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

فلما أيس « عامر » من « اربد » ، وكأنّ « اربدا » كلما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هاب النبي ، ومنعته عظمته ومهابته ، فانصرف عن نيته ، قال عامر وهو يترك مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه لأملأنّها عليك خيلا ورجالا وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير ، ولم يرد على كلامه وتهديده وانما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق « عامر » فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة ، وحالة سيئة.

وأما « اربد » فارسل اللّه عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فاحرقتهما ، وقد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبي صلی اللّه علیه و آله في أن يزداد تعلق بني عامر برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويتضاعف حبهم له صلی اللّه علیه و آله .

أمير المؤمنين في ربوع اليمن :

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام ، وأمن النبي صلی اللّه علیه و آله

ص: 624

جانب القبائل العربية ، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعل صلی اللّه علیه و آله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو « معاذ بن جبل » الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الاسلام وتعاليمه المقدسة ، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصلة منها قوله صلی اللّه علیه و آله .

« يسّر ولا تعسّر وبشّر ولا تنفّر وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة : فقل شهادة أن لا إله الاّ اللّه وحده لا شريك له ».

ويبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز والسنة النبوية وتعاليمها واحكامها ، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا ، ولهذا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز « علي بن أبي طالب » علیه السلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة ، واحاديثه المبرهنة ، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة ، وقوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان قد بعث « خالد بن الوليد » (1) الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار ولكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال (2).

فاستدعا النبي صلی اللّه علیه و آله عليا علیه السلام وأخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام ، وليخمّس ركازهم ، ويعلّمهم

ص: 625


1- صحيح البخاري : ج 5 ص 163.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 264.

الاحكام ، ويبين لهم الحلال والحرام ، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم ، فقال علي علیه السلام بتواضع بالغ :

« يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء » أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده في صدر عليّ علیه السلام وقال :

« اللّهم اهد قلبه وثبّت لسانه ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه وأيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي ».

ثم أوصاه صلی اللّه علیه و آله بوصايا أربع هامة إذ قال :

يا علي أوصيك :

1 - بالدّعاء فإن معه الإجابة.

2 - وبالشكر فانّ معه المزيد.

3 - وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

4 - وأنهاك عن المكر ، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فانه من بغي عليه لينصرنه اللّه ».

ولقد بقي علي علیه السلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة ، وقد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي « البراء بن عازب » وكان من الذين صحبوا عليا علیه السلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى علي علیه السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن ، وبلغ القوم الخبر ، فخرجوا إليه صفّ عليّ علیه السلام الجنود الذين كانوا

ص: 626

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد ، ثم صلّى بهم صلاة الفجر ، ثم دعا قبيلة همدان كلّها ، وكانت اكبر القبائل اليمنية ، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فحمد اللّه ، واثنى عليه ، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد ، وحلاوة البيان ، وعظمة المنطق النبوي ، فكتب امير المؤمنين علیه السلام بذلك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرّ ساجدا شكرا لله تعالى ثم رفع رأسه وجلس وقال :

« السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان ».

ثم تتابع - على أثر اسلام همدان - أهل اليمن على الاسلام (1).

ص: 627


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 305 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 360 - 363.

61

حجة الوداع

اشارة

تعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون ، جلالا وابهة ، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد ، والوحدة ودليلا كاملا على الترفع على المناصب والدرجات وتكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر ، وسبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين ، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم ، واذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم ( الذي يمكنه بحقّ أن يجيب ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية ، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا ) استفادة كاملة لائقة ، فانّ ذلك ليس - وبدون ريب او شك - ناشئا من قصور في القانون الاسلامي ، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا ، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل علیه السلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة ودعا الموحّدين إلى زيارتها ، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب ، ومطاف الشعوب والاقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم ، ومن مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ويؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السّلام.

ص: 628

ولكن تقادم العهد ، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء ، وأنانية قريش ، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه - من حيث الزمان والمكان - لعملية تحريف وتغيير ، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة العاشرة من الهجرة ، ومن قبل اللّه سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا ، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس ، ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا ، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة ، ويعيّن حدود « عرفات » و « منى » ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي ، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة ( أي شهر ذي القعدة ) بأن ينادى في المدنية وبين القبائل بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقصد مكة للحج هذا العام ، فاحدث هذا الاعلان شوقا وابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين ، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلی اللّه علیه و آله وتوجّهه الى مكة (1).

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة متوجها الى مكة وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري ، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى « ذي الحليفة » ( وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا ) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة ، ودخل الحرم ، ولبّى عند الاحرام قائلا :

ص: 629


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 389.

« لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لبّيك لا شريك لك لبّيك ».

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم ، كما أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا ، أو علا مرتفعا من الأرض ، أو هبط واديا.

ولما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة ، دخل صلی اللّه علیه و آله مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأسا ، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلي على إبراهيم علیه السلام .

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه (1) أولا ، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم وعند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة (2) ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال :

« من لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ( أي فليقصّر أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام ) ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه ».

وقد كره البعض هذا واعتذروا بانه يعزّ عليهم ( أولا يلذّ لهم ) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على إحرامه أشعث أغبر.

ص: 630


1- المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة واقامتها ورفعها ، واستلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل علیه السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم. ولقد اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الفترة المدنية مرتين، إحداهما في السنة السابعة والأخرى في السنة الثامنة بعد فتح مكة، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مع الحج (الطبقات الكبرى : ج 2 ص 174).
2- الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.

وربّما قالوا : لا يصحّ هذا ، كيف تقطر رءوسنا من الغسل (1) ونحن زوّار بيت اللّه؟

فالتفت النبي صلی اللّه علیه و آله الى عمر وكان ممن بقى على احرامه وقال له : ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر : لم أسق.

فقال النبي : فلم لا تحلّ وقد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر : واللّه يا رسول اللّه لا أحللت وأنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا وقال :

« لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ».

وهو صلی اللّه علیه و آله يعني : أنني لو كنت أعلم بالمستقبل ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي ، ولفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي ، ولكن ما ذا عساي أن أفعل الآن وقد سقت الهدي ، ولا يمكنني الإحلال من الإحرام ، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي « حتى يبلغ الهدي محلّه » أي أنحر هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه ، وأما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه ، واحسبوها عمرة ، ثم أحرموا للحج مرة اخرى (2).

الامام علي يعود من اليمن :

لما علم علي علیه السلام بتوجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى مكة

ص: 631


1- هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 319 ، وهذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الاكيدة وهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثمة شواهد وموارد اخرى كثيرة على الموضوع ، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه « النص والاجتهاد ».

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو وجنوده وقد ساق معه (34) هديا للمشاركة في الحج ، واصطحب حللا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من اهل نجران وهي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولقد تعجل عليّ علیه السلام إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة ، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكة فسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به ، وبما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن ، وقد أخبر بها النبي صلی اللّه علیه و آله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انطلق فطف بالبيت ، وحلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي : يا رسول اللّه إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبي صلی اللّه علیه و آله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج فقال علي علیه السلام : يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت : اللّهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمّد صلی اللّه علیه و آله .

قال النبي وقد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية : فهل معك هدي؟

قال علي : نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحكم ، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى فرغا عن الحج ونحر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الهدي عن نفسه ، كما نحر علي هديه أيضا (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر عليا علیه السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم ، ويصطحبهم الى مكة ، فلما رجع علي علیه السلام إليهم

ص: 632


1- الارشاد : ص 92 ، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية ولا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل وجزئياته.

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له : ويلك ما هذا؟

قال : كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي علیه السلام : ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود ، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائما ويريدون أن تسير الامور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وان خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة ، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكة اشتكوا عليا علیه السلام فقام رسول اللّه خطيبا في الناس وقال :

« أيّها الناس ، لا تشكوا عليا ، فو اللّه إنه لأخشن في ذات اللّه ( أو في سبيل اللّه ) من أن يشكى » (1).

مراسم الحج تبدأ :

انتهت أعمال العمرة ، وكان النبي صلی اللّه علیه و آله يكره أن ينزل ويمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة والحج ولهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ، فخرج زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتى الغروب منه.

ص: 633


1- السيرة النبوية : ح 4 ص 603 وفي البحار : ج 21 ص 385 : أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله مناديا أن ينادي في الناس : « ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات اللّه غير مداهن في دينه ».

وقد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ( الذي يدّعى يوم التروية أيضا ) من طريق منى ، وتوقّف في « منى » إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره ، وتوجه نحو عرفات ، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى « نمره ».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما وهو على ناقته.

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع :

... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما وحشدا بشريا هائلا ، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم ، كان نداء التوحيد وشعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيين ولكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين ، وملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات ( أي أرض عرفات ) نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصلّى الظهر والعصر وهو يؤم مائة الف ، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ وهو راكب على راحلته ، وكان أحد اصحابه - وكان رفيع الصوت قويه - يكرر كلماته صلی اللّه علیه و آله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك الخطاب هكذا :

« أيّها الناس اسمعوا قولي واعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم واموالكم (1) عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم ».

وتأكيدا لحرمة أموال المسلمين ودمائهم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة بن أميّة :

ص: 634


1- في الخصال : ج 2 ص 487 أيضا : وأعراضكم.

« قل يا أيّها الناس إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : هلاّ تدرون أيّ شهر هذا »؟

فاجابوا : الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال واراقة الدماء. فقال النبي صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل : يا أيّها الناس إن رسول اللّه يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟ »

فاجابوا جميعا : البلد الحرام ، الذي يحرم فيه القتال والعدوان. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : هل تدرون أي يوم هذا؟ ».

فأجابوا بأجمعهم : يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس : إن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث ( وكان من أقرباء النبي ) ».

وهكذا ألغى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة وبدأ بأقربائه.

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كانت

ص: 635

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم ( أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال ) ، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسيء (1) زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه ويحرّموا ما أحلّ اللّه وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ( ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم ورجب ).

أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا :

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ( أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه ).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان اللّه قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع ، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا ، وإنكم انما أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمات اللّه فاعقلوا أيها الناس قولي فاني قد بلّغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب اللّه وسنة نبيّه (2)

أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم وإنّ

ص: 636


1- شرحنا النسيء في ص 83 من هذا الكتاب فراجع.
2- لقد اوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنة ، ولكنه أوصى في خطبة الغدير وفي اخريات حياته بالكتاب والعترة ، وحيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما ، لانه يصح ان يجعل النبي صلی اللّه علیه و آله السنة عدلا للكتاب في واقعة ، ويوصى بالعترة والخلفاء من أهل بيته في موضع آخر ويؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا. و قد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلى اللّه عليه وآله تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط، ولهذا جعل لفظ «عترة» في الهامش نسخة بدل في حين لانحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدأ لانه لا تعارض بين النقلين أساساً ليعالج بهذه الطريقة .

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم (1).

« ألا كل شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع »(2) .

وهنا قطع النبي صلی اللّه علیه و آله خطابه ، ورفع سبّابته نحو السماء ( كعلامة على الشهادة ) وهو ينكتها الى الناس وقال :

« اللّهم اشهد

اللّهم اشهد

اللّهم اشهد » (3)

* * *

ولقد مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع ، وعند ما اختفى قرص الشمس عن الافق ، واظلمّ الفضاء بعض الشيء ركب ناقته ، وافاض إلى المزدلفة وامضى فيها شطرا من الليل ولم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر ، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى « منى » وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

ص: 637


1- الخصال : ص 487.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 405.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 523 والطبقات الكبرى : ج 2 ص 184.

وهكذا علّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس مناسك الحج بصورة عملية ، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ والحديث « حجة الوداع » تارة ، و « حجة البلاغ » اخرى ، و « حجة الإسلام » ثالثة ، وإنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير (1).

هذا ونلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، ويرى آخرون أن النبي صلی اللّه علیه و آله خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمل والتملي ، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار (2).

ص: 638


1- راجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 510 هذا ولعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلی اللّه علیه و آله وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».
2- راجع بحار الأنوار : ج 1 ص 378 - 413 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 510 - 534.

62

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الامة ، وأصلحهم ، وأعلمهم ، والفرق الواضح بين الامام والنبيّ هو : أن النبي مؤسس قواعد الشريعة ، وهو الذي يوحى إليه ، وينزل عليه الكتاب من السماء ، والامام وان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلاّ أنه مضافا إلى شئون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق - بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة - لبيانه أو اظهاره ، وترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الاساس فان الخليفة - من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة والحافظ للحقوق الاجتماعية ، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها ، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين ، والمكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ وليس الهدف منها إلاّ حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للامة الإسلامية ، ولخليفة لا ينصب إلاّ باختيار الناس وانتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الامور السياسية والاقتصادية وما شابهها ، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

ص: 639

الأحكام على نحو الاجمال.

وأما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد ، والرأى.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه ، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي ، التي تشترط في الإمام أيضا :

1 - يجب أن يكون النبي معصوما ، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبدا ، ولا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه ، وعند الاجابة على أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية ، ويشترط في الامام ذلك أيضا ، والدليل في الموردين واحد.

2 - يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة ، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مطلقا ، وهكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

3 - إن النبوة منصب تعيينى وليس منصبا انتخابيا ، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلاّ اذا عيّنه اللّه وابتعثه ، ونصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه ، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم ، وهو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة ، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين وجزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي ، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

ص: 640

ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبي ، في الخليفة فلا تجب العصمة ، ولا العدالة ، ولا يجب العلم والاحاطة بالشريعة ولا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه ، والارتباط بعالم الغيب ، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخص قادرا في ظلّ ذكائه ، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان الاسلاميّ ، وقادرا على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية ، كما ويتمكن من توسيع رقعة الأرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.

وعلينا الآن ان نعالج هذه المسألة ( أي هل الخلافة والامامة منصب تنصيصي أو انتخابي وهل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه ، أو يوكل الامر الى الامة لتختار من تريد ). وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنّ الأحوال والظروف الاجتماعية كانت توجب أن يقوم النبي صلی اللّه علیه و آله بتعيين خليفته في حياته ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده ، ولا يوكل الأمر إلى الأمة.

وإليك توضيح هذا القسم وبيانه :

إقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة :
اشارة

لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الامة الاسلامية من شئون النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ما دام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الامة واكملهم.

إن في هذه المسألة وهي هل أن منصب القيادة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين :

فالشيعة يرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي ولا بد أن يتعيّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

ص: 641

بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري ، أي أن على الامة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.

إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.

إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيّن من جانب اللّه تعالى ولا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الالهي ، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدّدا على الدوام من جانب الخطر الثلاثي ( الروم - إيران - المنافقون ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أن مصالح الامة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده ، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة الاسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مقدراتها.

وإليك بيان وتوضيح هذه المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي ويتهدده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام حتى إن التفكير في امر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت اولى مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم : « جعفر الطيار » ، و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن رواحة ».

ص: 642

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورة إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة وتجدّد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأعدّ قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين وأمّر عليهم « اسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أما الضلع الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران « خسرو ابرويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بان يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو يقتله ان امتنع!!

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أن موضوع استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحا طويلا من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اولئك الملوك وتجبّرهم ، وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة الطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول اللّه ، في طريق العودة من تبوك إلى

ص: 643

المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : ان الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورحيله وبذلك يستريح الجميع (1).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكيدة مشئومة لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل ، وذلك عند ما أتى عليا علیه السلام وعرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الامة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.

ولكن الامام عليا علیه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفا عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« واللّه ما أردت بهذه إلاّ الفتنة وانك واللّه طالما بغيت للإسلام شرا ... لا حاجة لنا في نصيحتك »!! (2).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والانفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والاحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحّ أن يترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله امته الحديثة العهد بالاسلام ، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائدا دينيا سياسيا.

إن المحاسبات الاجتماعية تقول : انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام

ص: 644


1- الطور : 30.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 222 ، العقد الفريد : ج 2 ص 249.

بتعيين قائد للامة ، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وان يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوى وسياج دفاعى متين حول تلك الامة.

إن تحصين الامة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة لم يكن ليتحقق إلاّ بتعيين قائد للامة ، وعدم ترك الامور للقدر.

إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللّه » ، ولعلّ لهذا الجهة ، ولجهات اخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الاسلامية وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضا.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

1 - النبوة والامامة توأمان :

بغضّ النظر من الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأى الأول بصورة قطيعة هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأى الذي ذهب إليه علماء الشيعة ، وتصدقه ، فقد نص النبي صلی اللّه علیه و آله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا وتكرارا ، واخرج موضوع الامامة من مجال الانتخاب الشعبى ، والرأى العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرات من الاشخاص ، وذلك يوم أمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الاقربين من العذاب الالهي الاليم ، وأن يدعوهم

ص: 645

إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيبا فقال :

« أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ».

فاحجم القوم ، وقام عليّ علیه السلام ، واعلن مؤازرته وتأييده له ، فاخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برقبته والتفت الى الحاضرين وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (1).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين ب- : « حديث يوم الدار ، و « حديث بدء الدعوة ».

على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، إنما صرح في مناسبات شتى ، في السفر والحضر ، بخلافه علي علیه السلام من بعده ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 - قصة الغدير :

لما انتهت مراسيم الحج ، وتعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرحيل عن مكة ، والعودة الى المدينة ، فأصدر أمرا بذلك.

ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ » (2) التي تبعد عن

ص: 646


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 216 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 62 و 63 وقد مر مفصله في هذه الدراسة فراجع.
2- رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.

« الجحفة » (1) بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنطقة تدعى « غدير خم » وخاطبه بالآية التالية : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » (2).

إن لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلی اللّه علیه و آله مسئولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصب عليا علیه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالتوقّف ، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان الجو حارا الى درجة كبيرة جدا ، وكان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبي صلی اللّه علیه و آله مظلة وكانت عبارة عن عباءة القيت على أغصان شجرة ، ( سمرة ) وصلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد احاطوا به صعد صلی اللّه علیه و آله على منبر اعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعا صوته وهو يقول :

« الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد ان لا إله إلاّ هو وأن محمّدا عبده ورسوله.

أمّا بعد ، أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلاّ مثل نصف الذي قبله ، وإني أوشك أن ادعى فأجيب وأني مسئول وانتم مسئولون فما ذا انتم قائلون؟

ص: 647


1- من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.
2- المائدة : 67.

قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللّه خيرا قال صلی اللّه علیه و آله :

« ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور »؟

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال صلی اللّه علیه و آله :

« اللّهمّ اشهد ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدأ ».

فنادى مناد : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، وما الثقلان؟

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه وطرف بأيديكم فتمسكوا به والآخر عترتي وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ » علیه السلام ورفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه الناس اجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟ ».

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« إن اللّه مولاى وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (1) ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه وادر الحق معه حيث دار » (2).

ص: 648


1- لقد كرر النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.
2- راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الاميني.
واقعة الغدير خالدة الى الأبد :

لقد تعلّقت المشيئة الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والافئدة ، ويكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر وزمان ويتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والعقائد ، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر ، ويعتبرونها من فضائل الإمام « علي » الذي لا يتطرق إليها أي شك أو ريب.

ولم يقتصر هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة ، وبالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشئوا أروع القصائد ، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل ، وخلّفوا لمن بعدهم وبلغات مختلفة آثارا أدبية ولائية خالدة.

ولهذا قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة وفي التاريخ الاسلامي والامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة ، والشعراء والأدباء ، والكتّاب والخطباء ، وارباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلها اعتنوا بها.

إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى ودوام هذا الحديث هو : نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها (1) ، فما دام القرآن الكريم باقيا مستمرا يتلى آناء الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان والنفوس ولا تمحو خاطرتها من العقول والقلوب.

ص: 649


1- المائدة : 67 و 3.

وحيث أن المجتمع الاسلاميّ في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيدا كبيرا من الأعياد الدينية ، وكانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية ( حادثة الغدير ) قد اتخذت طابع الابديّة والخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان والخواطر.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تخطى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلّكان يقول حول « المستعلي بن المستنصر » : فبويع في يوم غدير خمّ وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 (1).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي : وتوفي ليلة الخميس لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة وهو غدير خم (2).

وقد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه « الآثار الباقية » ممّا استعمله أهل الاسلام من الأعياد (3).

وليس ابن خلّكان وابو ريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الاعياد ، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (4).

إن عهد هذا العيد الاسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأن النبي صلی اللّه علیه و آله أمر المهاجرين والانصار بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك

ص: 650


1- وفيات الأعيان : ج 1 ص 60.
2- وفيات الأعيان : ج 1 ص 60.
3- ترجمة الآثار الباقية : ص 395 الغدير : ج 1 ص 267.
4- ثمار القلوب : ص 511.

اليوم بالدخول على « عليّ » علیه السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن ارقم : كان أول من صافق النبي صلی اللّه علیه و آله وعليا : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس (1).

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير :

ويكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة صحابيّ ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة ومصنفاتهم.

صحيح أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ علیه السلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس ولكن كثيرا منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز ولهذا لم يروعنهم هذا الحديث ، كما ان كثيرا من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكن التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم ، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصل إلينا.

ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ وهو عصر التابعين تسعة وثمانون تابعيا.

وقد بلغ عدد من روى حديث « الغدير » في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنة وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصا ، وصحّحه جمع كبير منهم واعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان وتسعون عالما.

وفي القرن الرابع رواه أربعة واربعون.

ص: 651


1- راجع مصدره في الغدير : ج 1 ص 270.

وفي القرن الخامس رواه أربعة وعشرون.

وفي القرن السادس رواه عشرون.

وفي القرن السابع رواه واحد وعشرون.

وفي القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

وفي القرن التاسع رواه ستة عشر.

وفي القرن العاشر رواه أربعة عشر.

وفي القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الثاني عشر رواه ثلاثة عشر.

وفي القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الرابع عشر رواه عشرون عالما.

ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتبا مستقلة.

وقد ألّف المؤرخ الاسلامي الكبير « الطبري » كتابا في هذا المجال أسماه « الولاية في طرق حديث الغدير » روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سندا.

ولقد روى « ابن عقدة » في رسالة « الولاية » هذا الحديث بمائة وخمسين حديثا.

وروى أبو بكر محمّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين سندا.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء :

أحمد بن حنبل الشيباني ب- 40 سندا

ابن حجر العسقلاني ب- 25 سندا

الجزري الشافعي ب- 80 سندا

أبو سعيد السجستاني ب- 120 سندا

ص: 652

الأمير محمّد اليمني ب- 40

النسائي ب- 250 سندا

أبو العلاء الهمداني ب- 100 سندا

أبو العرفان الحبان ب- 30 سندا

وبلغ عدد من ألّف رسالة خاصة أو كتابا مستقلا حول هذه الواقعة وخصوصياتها وتفاصيلها 26 شخصا ولعلّ هناك غيرهم ممن ألّف كتابا أو رسالة مستقلّة حول هذه الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخ أسماءهم ، أو ضاعت مؤلفاتهم مع التطورات التي طرأت على الامة الإسلامية وضيّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الاغارة والنهب أو الهدم والإحراق ( ولقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير الجزء الاول ).

ولقد كتب علماء الشيعة كتبا قيمة حول هذه الواقعة أجمعها واشملها كتاب « الغدير » بقلم العلامة الجليل والكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رحمه اللّه ، والذي يقع في أحد عشر مجلدا في ما يقرب من ستة آلاف صفحة ، وقد استفدنا كثيرا من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

ثم ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليا لإمرة المسلمين في تلك الواقعة :

« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (1).

فكبّر النبي صلی اللّه علیه و آله بصوت عال ثم أضاف قائلا :

« الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدى ».

ثم نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ذلك المنبر المصنوع من حدائج

ص: 653


1- المائدة : 1 و 3.

الابل وأمر امير المؤمنين عليّا علیه السلام أن يجلس في خيمة وأمر أطباق الناس وكلّ من حضر المشهد من امته ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار كما أمر امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين علیه السلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب الامامة والخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ففعل الناس ذلك وانكبّوا على « علي » علیه السلام بايديهم وكان أول من صافق وهنأ عليّا أبو بكر وعمر واصفين إياه بالولاية.

وهنا قام « حسان بن ثابت الأنصاري » شاعر الاسلام واستأذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أن ينشد شعرا بهذه المناسبة ، فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا : قل على بركة اللّه.

فقام حسان وقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالنبيّ مناديا

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه *** بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما انزل اللّه ربهم *** إليك ولا تخشى هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه *** بكف عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّا معاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم *** امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية علي علیه السلام على جميع صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله كافة ، حتى أن أمير المؤمنين عليا علیه السلام احتج به مرارا فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني ، وفي أيام خلافة عثمان وفي أيام

ص: 654

خلافته علیه السلام أيضا ، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجوا به على منكري حق عليّ وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائما وأبدا.

ص: 655

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

اشارة

63

1 - المتنبئون كذبا ، 2 - التفكير في أمر الروم

اشارة

1 - المتنبئون كذبا (1) [ أدعياء النبوة ]

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في « غدير خم » انفصلت جموع الحجيج المشاركة في مراسم « حجة الوداع » من الوافدين من الشام ومصر ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من « حضرموت » و « اليمن » انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنّ العشرة آلاف الذين خرجوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عادوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، ووصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمون فرحين جدا لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية ، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كل مناطق الحجاز ، وبالتالى لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام ، وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهت بعد يوم قدم نفران من « اليمامة » المدينة ، وسلّما كتابا من « مسيلمة » الذي عرف فيما بعد ب- « مسيلمة

ص: 656


1- كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلی اللّه علیه و آله في نهايات السنة الهجرية العاشرة وكذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة ، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث والستين تقليلا لفصول هذا الكتاب.

الكذّاب » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ففتح أحد كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله الرسالة وقرأها عليه فكان مضمونها ان شخصا باليمامة يدعى « مسيلمة » يدّعي النبوة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة ، ويريد من خلال كتابه أن يبلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ويعرّفه بنبوته.

وقد اثبتت كتب السير والتواريخ الاسلامية نصّ الكتاب المذكور.

ويوحي اسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان والتعبير ولكن محاولته باءت بالفشل فلم يستطع تقليده ، واتى بعبارات خاوية خالية من روح ، يفوقها الكلام العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب « مسيلمة » في كتابه هذا : (1).

أما بعد ، فاني قد اشركت في الأمر معك ، وان لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الارض ، ولكنّ قريشا قوما يعتدون.

ولما وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على مضمون الرسالة ، التفت إلى من حملها إليه وقال : « أما واللّه لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الاحمق وتركتما دينكما ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أملى على كاتبه كتابا إلى مسيلمة قصير المحتوى ، مفحم المفاد. وإليك نصّ رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فانّ الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » (2).

ص: 657


1- ومن شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم اللّه ، بل ولم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 600 و 601 وتكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.
لمحة عابرة عن هوية مسيلمة :

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفدوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في من اسلم ، ولكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء ، وربما من المتعصبين من قومه. ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في « اليمامة » دليلا على شخصيته الواقعية ، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصبا وحمية مع أنهم علموا بكذبه ، وزيف دعوته إذ كانوا يقولون : « كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر » وقد قال هذه العبارة أحد اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة : من يأتيك؟ قال : رحمان ، قال : أفي نور أو في ظلمة؟ فقال : في ظلمة ، فقال أشهد أنّك كذاب وأن محمّدا صادق ولكن كذّاب ربيعة احبّ إلينا من صادق مضر (1).

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة ، وتبعه على ذلك فريق من قومه ، ولكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن ، وما اثر عنه - في النصوص التاريخية - من عبارات وجمل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية واحاديثه الأخرى في غاية البلاغة والإتقان ، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

ولهذا يمكن القول بأن ما نقل عنه - على غرار ما نقل عن معاصره « الاسود بن كعب العنسي » الذي ادعى النبوة معه في اليمن - إنما هي امور نسبت إليه ، والصقت به الصاقا لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدّ لا يجرأ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته ، ويعلم كل عربيّ بحكم فطرته الالهية أنّ هذا الاسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسمّوها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية ، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته.

ص: 658


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 508 ويقصد بالاول مسيلمة وبالثاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولهذا حوصرت منطقة « مسيلمة » من قبل جنود الاسلام ، وضيّق عليه الحصار شيئا فشيئا ، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب ، قال له بعض اتباعه السذج : أين ما كنت تعدنا ( من النصر الالهي ) فقال مسيلمة : أما الدين فلا ، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكن الدفاع عن الاحساب والكرامة لم يجد مسيلمة ولا اتباعه شيئا ، فقد قتل هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين ، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة (1).

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن انه كان رجلا فصيحا وناطقا بليغا ، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نسبت إليه - في التاريخ والسيرة - في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الروم :

مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطرا على وحدة أهلها الدينية ، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك - كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرين على مواجهة المتنبئين ، ولهذا قضي على « الاسود العنسي » وهو رجل آخر ادّعى النبوة كذبا في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متيقنا وواثقا من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد ، والتي رأت كيف أن رسول

ص: 659


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 514 - 516.

الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز ، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية ، غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

لقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطرا جديّا لا يمكن التغاضي عنه واحتقاره ، ولهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشا كبيرا قوامه ثلاثة آلاف بقيادة « جعفر بن أبي طالب » و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن رواحة » إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم ، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة ، وقفل الجيش الاسلامي راجعا إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عند ما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز وهو آنذاك في المدينة خرج صلی اللّه علیه و آله بشخصه على رأس جيشه قوامه ثلاثون ألفا إلى تبوك ، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جديا في نظر النبي صلی اللّه علیه و آله .

ومن هنا فانه صلی اللّه علیه و آله لما عاد من « حجة الوداع » الى المدينة هيّأ جيشا من المهاجرين والانصار اشرك فيه اشخاصا معروفين بارزين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن الوقاص و. و. وأمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة (1).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده (2) لواء لأسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. وقال له :

ص: 660


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 642 ، النص والاجتهاد : ص 12.
2- يذهب كتّاب السنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر ، وحيث أن وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الاول لهذا فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلا تدريجا في مدة 16 يوما ، ولكن حيث أن الشيعة يرون تبعا لما رواه عترة النبي أن وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقد اللواء قد تمّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.

« سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا وشنّ الغارة على أهل ابنى » (1).

فاعطى « اسامة » اللواء الى « بريدة » وعسكر بالجرف (2) ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا ، وليتحرك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر ، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار والمهاجرين ، ولقد أراد صلی اللّه علیه و آله من فعله هذا أمرين :

أولا : أن يجبر - من خلال ذلك - ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده « زيد بن حارثة » الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم ، وليرفع من شخصيته.

ثانيا : أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف وتوزيع المناصب والمسئوليات ويجعل ذلك على اساس الكفاءة والشخصية القيادية ان المناصب والمسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات والموهّلات ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة ويحلموا أن المناصب والمهامّ - في النظام الاسلامي - ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة والمؤهلات القيادية ، لا العمر والسنّ.

ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية ، والمسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى واوامره تعاليمه ويقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال ، سواء أكانت له فيها نفع أم لا ، وسواء أكانت تضرّ به أم لا ، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

ص: 661


1- « ابنى » من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين « عسقلان » و « الرملة ».
2- منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

ولقد بيّن الامام علي علیه السلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبرة اذ قال : « الاسلام هو التسليم » (1).

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض ، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير والحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية ، والتسليم الواقعيّ والانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى « اسامة بن زيد » الذي لم يكن يتجاوز يومذاك - العشرين عاما (2) شاهد صدق على ما نقول ، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض ، لأنهم اعترضوا على الاجراء ، وطعنوا في اسامة ، واطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى ( النبي ) ، واوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة (3).

ولكنهم غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذا الإجراء ، وكانوا يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة ، ويقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه ، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

ص: 662


1- نهج البلاغة : قصار الحكم 125.
2- ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره وذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.

من معسكر « الجرف » وتوجهه إلى النقطة المطلوبة ، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء لاسامة تمرّض صلی اللّه علیه و آله بشدة وأصابه صداع شديد تركه طريح الفراش واستمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات اللّه عليه.

وقد علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة وأن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها ، وأن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضب صلی اللّه علیه و آله لذلك غضبا شديدا ، وخرج وهو يلتحف قطيفة ، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب ، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف ، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة وبعد أن حمد اللّه واثنى عليه قال :

« أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم اللّه كان للإمارة خليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وانّهما لمخيلان لكل خير ، واستوصوا به خيرا فانه من خياركم ».

ثم نزل صلی اللّه علیه و آله ودخل بيته واشتدت به الحمى ، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه :

« أنفذوا بعث اسامة » (1).

ولقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بعث جيش اسامة انه كان يقول وهو في فراش المرض :

« جهزوا جيش اسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه » (2).

وقد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار

ص: 663


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.
2- الملل والنحل : ج 1 المقدمة الرابعة ص 23.

عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتوديع والخروج عن المدينة تلقائيا والالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبي صلی اللّه علیه و آله فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين ، فحضر اسامة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبي صلی اللّه علیه و آله .

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حاثا اياه على المبادرة والمسارعة في الخروج :

« اغد على بركة اللّه » (1).

فعاد اسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرك فورا ، ولكن الجيش لم يكن قد غادر « الجرف » بعد ، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحتضر ، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة ، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير والحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلی اللّه علیه و آله وعادوا إلى المدينة فورا ، وعاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين - جميعا - أوامر النبي صلی اللّه علیه و آله بالخروج.

ولم يتحقق أحد آمال النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم واعيان الجيش.

الاعذار غير المقبولة :

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول اللّه

ص: 664


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.

صلی اللّه علیه و آله وسموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

ولقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق ووجوه مختلفة إلاّ أنهم عجزوا - رغم ذلك - أن يخرجوا عذرا مقبولا ودليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

وللاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع « المراجعات » (1). و « النص والاجتهاد » (2).

الاستغفار لأهل البقيع :

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى والوجع ليستغفر لأهل البقيع (3).

ولكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبي صلی اللّه علیه و آله يوم أحس بالوجع اخذ بيد « عليّ » علیه السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه :

« إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع ».

وعند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك وقال :

« السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها ».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّ علیه السلام وقال : يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي والجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا

ص: 665


1- المراجعة 90 و 91.
2- ص 15 - 16.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 204.

أراه إلاّ لحضور أجلي » (1).

انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت ويحصرون كل الوجود في أطار المادة وآثارها ، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر ، ويقولون : كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ وكيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟

ولكن الذين كسروا جدار المادية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط والاتصال بالارواح (2) ، ويعتبرونه امرا ممكنا وواقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة ، يمكنه - على وجه القطع واليقين - أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه واذنه وإخباره إياه.

ص: 666


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 466 و 472 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 204.
2- طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح ، وأسلوبه المشروع.

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

اشارة

64

الكتاب الذي لم يكتب

اشارة

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة وحساسية ودقة.

لقد مرّ الاسلام والمسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة ، وحرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبي صلی اللّه علیه و آله وتخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلی اللّه علیه و آله وإزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه عارفا بنواياهم على نحو الاجمال ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة ومغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم ، لكي يعطل بذلك خطتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج ومعاذير معينة ، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فعادوا إلى المدينة - بعد توقّف دام 16 يوما - على أثر تدهور صحة النبي واحتضاره ، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تفريغ المدينة منهم ، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

ص: 667

يوم غدير خم ( نعنى الامام عليا ) من تسلم زمام الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيين.

إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم وتثبيت منصب الامام علي وخلافته لرسول اللّه بلا فصل ، فحاولوا منع النبي صلی اللّه علیه و آله وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل ، والسبل.

فعمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة ، المشين ، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع ، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد :

« أيّها الناس سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي واللّه ما تمسّكون عليّ بشيء ، اني لم احلّ إلاّ ما أحلّ اللّه ، ولم احرّم إلاّ ما حرّم اللّه » (1).

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبي صلی اللّه علیه و آله على مستقبل الاسلام بعد وفاته ، فما هو المقصود - ترى - من النار التي سعرت؟

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين ، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعالى لهيبها ، ولا يزال ذلك اللّهيب مشتعلا ، وتلك النار مستعرة؟! ايتوني بقلم وقرطاس :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

ص: 668


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 654 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 215 و 216.

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم ، ولهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق - أن يدعم مكانة عليّ ويعزر امارته وخلافته وخلافة أهل بيته ، وذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شيء من التفكير وقد التفت إليهم :

« ايتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ».

فبادر عمر وقال : ان رسول اللّه قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب اللّه (1).

فناقش الحاضرون رأى الخليفة ، فخالفه قوم وقالوا : هاتوا بالدواة والصحيفة ليكتب النبي ما يريد ، وناصر آخرون عمر وحالوا دون الاتيان بما طلبه النبي ، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة ، وقال :

« قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع »

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه » (2).

إن هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة والسنة ومؤرخيهم وتعتبر روايتها - حسب قواعد فنّ الدراية والحديث - من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام « عمر » بالمعنى لا باللفظ ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

ص: 669


1- الملل والنحل : ج 1 المقدمة الرابعة ص 22. طبعا لم يكن الهدف من « اكتب » أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.
2- صحيح البخاري كتاب العلم : ج 1 ص 22 وج 2 ص 14 ، صحيح مسلم : ج 2 ص 14 مسند أحمد : ج 1 ص 325 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 244 ، الملل والنحل : ج 1 ص 22.

المجلس المقدس.

ولا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة ، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لا يسيء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب « السقيفة » في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا : وقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللّه (1).

ولكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول : فقالوا : هجر رسول اللّه (2).

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبي صلی اللّه علیه و آله بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لا ينطق إلاّ بالوحي.

إن اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلی اللّه علیه و آله وفي محضره كان عملا سيئا ، ومشينا إلى درجة أن احدى أزواجه صلی اللّه علیه و آله اعترضت على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب : ألا تسمعون النبي صلی اللّه علیه و آله يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحاجته.

فقال عمر : اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ. واذا صحّ أخذتنّ بعنقه (3).

ص: 670


1- شرح نهج البلاغة الحديدي : ج 2 ص 20.
2- صحيح مسلم : ج 1 ص 14 ، مسند أحمد : ج 1 ص 355.
3- كنز العمال : ج 3 ص 138 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 244. وفي الطبقات : ان النبي قال ( في الرد على عمر ) هنّ خير منكم

ان بعض المتعصبين وان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا (1) في الظاهر إلاّ انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه « حسبنا كتاب اللّه » ، واعتبروه كلاما غير صحيح ، وصرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية ، ولا يمكن أن يغني كتاب اللّه الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله واقواله.

ولكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور « هيكل » مؤلف كتاب « حياة محمّد » (2) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول : ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيه أن قال اللّه في كتابه الكريم : « ما فرّطنا في الكتاب من شيء » (3).

فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير ، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع ، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني ، وصفحات الوجود ، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع ، وتشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة والوجود وإليك نص الآية :

« وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » (4).

وحيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب والطيور ، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها والذي لم يفرّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني ، وصفحة الخلق.

ص: 671


1- رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.
2- حياة محمّد : ص 501.
3- الانعام : 38.
4- الانعام : 38.

ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب - وبحكم تصريحه - يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول :

« وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم » (1).

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول « لتقرأ » بل تقول بصراحة : « لتبيّن ».

وعلى هذا الاساس اذا كان كتاب اللّه كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجا شديدا (2).

ولو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة وعالمها الكبير ابن عباس يقول : يوم الخميس وما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ وقال : قال رسول اللّه ايتونى بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ... فقالوا ... (3).

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس ، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول اللّه كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية ( أو الكتاب ) الذي كان النبي يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب واملائه فهل يمكن ان نحدس - في ضوء القرائن القطعية - ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية واجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته ولكنها أوضح من الاولى

ص: 672


1- النحل : 44.
2- ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة ، فاطلبه في محله.
3- مسند احمد : ج 1 ص 355. صحيح البخاري : كتاب الجزية ج 4 ص 65 و 66.

دلالة ومفادا ، وبعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه ، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكدة ومكررة لا تتشابه ولا تتحد في دلالتها ، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة وقد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا ان النبي صلی اللّه علیه و آله طلب من اصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل : ما ذا كان يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الاّ تعزيز الوصيّة ودعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام وامرته والتأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبي صلی اللّه علیه و آله في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة والشيعة ، لأن النبي صلی اللّه علیه و آله قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته : انه يبتغي كتابة شيء لا يضلون بعده ابدا. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب والعترة اذ قال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (1).

ص: 673


1- صحيح الترمذي : ج 5 ص 328 ح 3874 جامع الاصول : ج 1 ص 187 راجع المراجعات : المراجعة 8.

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدس - بصورة قطعية - بان ما كان يهدفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين ، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين وهو تعزيز ودعم ولاية الامام علي علیه السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين والعراقيين والمصريين والحجازيين وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه ، وحصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعينه للخلافة خلافا لجميع القواعد والاصول ، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين والامارة والقيادة التي اثبتها لعلي واهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة وحالوا دون الاتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة ، وخالفوا كتابة شيء ، وإلاّ فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم ... وارتكبوا ما ارتكبوا.

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد ، فلما ذا لم يتصرف هكذا ، ولم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة : فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر ،

ص: 674

ولعمد أنصارهم إلى اشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص ، وصنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الحالة وتستمرّ ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي - ملافاة لما لحق به من الأذى - أبعد الذي قلتم؟ فقال :

« أبعد الذي قلتم؟ لا ولكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا » (1).

ملافاة الأمر وتداركه :

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلاّ انه بلّغ مقصوده من طريق آخر ، فهو - بشهادة التاريخ - بينما كان يعاني المرض ، والوجع الشديدين ، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على « علي بن أبي طالب » و « ميمونة » مولاته فجلس على المسجد ثم قال :

« يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين ».

وسكت ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن ، قال :

« ما ذكرتهما إلاّ وأنا اريد أن أخبركم بهما ولكن ربوت فلم استطع ، سبب طرفه بيد اللّه ، وطرف بايديكم ، تعلمون فيه كذى ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتى ».

ثم قال :

« وأيم اللّه إني لأقول لكم هذا ورجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم ».

ثم قال :

ص: 675


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 469 نقلا عن الارشاد واعلام الورى.

« واللّه لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه اللّه نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلاّ احتجب اللّه عنه يوم القيامة » (1).

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى ، ولا تنافي بين الصورتين ، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لاصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه :

« أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا ، فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ».

ثم أخذ بيد على علیه السلام فقال :

« هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع علي ، خليفتان نصيران ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما » (2).

فمع أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكر حديث الثقلين (3) قبل مرضه في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة ، ولفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين ، ولكنه لفت الأنظار مرة اخرى وهو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

ص: 676


1- بحار الأنوار : ج 22 نقلا عن مجالس المفيد.
2- الصواعق المحرقة : الباب 9 من الفصل الثاني ص 57 وكشف الغمة : ص 43.
3- حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة باكثر من 60 طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136 : وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته « العبقات » بذكر اسناده حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.
تقسيم الدنانير :

دأب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا ، فاحضرتها عنده فاخذها صلی اللّه علیه و آله بيده وقال :

« ما ظنّ محمّد باللّه لو لقي اللّه وهذه عنده؟ انفقيها ».

ثم أمر عليا علیه السلام فتصدّق بها (1).

غضب النبي من الدواء الذي سقي :

لما كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات « ميمونة » زوجة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات والاعشاب المختلفة ، فلما اشتكى واغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء : « ذات الجنب » ، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار ، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء ، بصبّ شيء منه في فم النبي صلی اللّه علیه و آله ولما أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال :

« ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب » (2).

وداع النبي مع أهله :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس ، ويذكّرهم امورا.

وذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

ص: 677


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 238 و 239.
2- الطبقات : ج 2 ص 235.

« علي » علیه السلام بيمنى يديه وعلى الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال :

« أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به ».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللّه ان لي عندك عدة ، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقال صلی اللّه علیه و آله انحلها يا فضل ثم نزل وعاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة - ثلاثة ايام قبل وفاته - صعد المنبر فخطب وقال فيما قال :

« أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة والاشهاد ».

فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال : انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقال صلی اللّه علیه و آله لبلال : قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبي صلی اللّه علیه و آله هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كان صلی اللّه علیه و آله يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا (1) ولما أتى بالقضيب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال صلی اللّه علیه و آله : اين الشيخ؟ قال سوادة : ها انا ذا يا رسول اللّه بابي أنت وأمي فقال صلی اللّه علیه و آله :

ص: 678


1- هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا ولهذا لم يكن له الحق إلاّ في اخذ الدية دون القصاص ، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

« فاقتصّ منّي حتى ترضى ».

فقال سوادة : فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمهم وبكائهم تقدم سوادة إلى النبي وقال : أتأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له ، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه ، وقبّل بطن النبي وصدره الشريف. فدعا له رسول اللّه وقال :

اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد (1).

ص: 679


1- مناقب آل أبي طالب : ج 1 ص 235.

65

اللحظات الأخيرة

اشارة

كان القلق والاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحته ، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه ، وتفاقم وجعه ، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته ، وتجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاّ سويعات قلائل ، وانه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة ، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك ، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلاّ أهل بيته خاصة.

ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام جالسة عند فراش ابيها ، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ ، فراحت تردد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزن ، ويملأ عيونها دموع الاسى والحزن ويكاد يخنقها الغصة :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للارامل

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت :

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي :

ص: 680

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ » (1).

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء :

لقد كشفت التجربة عن ان عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل اثر تراكم النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم ، لأنّ الاهداف الكبرى ، والاهتمامات العالمية تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالا لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي ، بيد أنّه يستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما يشغل بالهم من الاهداف الكبرى ، والاهتمامات العالية ، والشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحا كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر ، ولا يشغلهم شغل عن آخر ، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم ، ولا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم الاجتماعية والعائلية.

إن محبة النبي صلی اللّه علیه و آله لابنته الوحيدة فاطمة كانت من ابرز التجليات العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ، ولهذا لم يعهد أن يسافر رسول اللّه من دون أن يودع ابنته ، كما لم يعهد أن يرجع المدينة من دون ان يزور ابنته قبل أي أحد ، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراما لائقا بها ويقول لاتباعه :

« فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » (2).

كما أن رؤية فاطمة كانت تذكرة باشد نساء العالمين طهرا ووفاء ، وعطفا ولطفا ، ( خديجة ) التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة ،

ص: 681


1- آل عمران : 144.
2- صحيح البخاري : ج 5 ص 21.

وبذلت ثروتها كلها في سبيل تلك الاهداف باخلاص ورغبة.

كانت فاطمة الزهراء علیهاالسلام تلازم فراش والدها النبي صلی اللّه علیه و آله طوال ايام مرضه ، ولا تفارقه لحظة واحدة ، وفجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها ، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريبا من فمه الشريف ثم راح النبي صلی اللّه علیه و آله يحادثها بصوت ضئيل ولم يعرف من كان هناك ما ذا قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لابنته الطاهرة في تلك النجوى.

وانما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة ، ولكنهم شاهدوا ان النبي اشار إليها مرة اخرى وحدثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت اسارير وجهها ، وتبسمت مستبشرة.

فاثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجب والدهشة ، فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن ، وهذه الفرحة ، وطلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين الحالتين المتضادتين قالت :

« ما كنت لافشي سرّه ».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كشفت الزهراء علیهاالسلام عن الحقيقة بناء على اصرار عائشة وقالت : اخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انه قد حضر اجله وانه يقبض في وجعه هذا ، فبكيت ، ثم اخبرني أني أول اهله لحوقا به فضحكت (1).

مسواك النبي قبيل وفاته :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستاك كل ليلة قبل النوم كما كان يستاك بعد ان يستيقظ من نومه وكان مسواك النبي من شجرة الأراك التي تنفع

ص: 682


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 247 ، الكامل ، ج 2 ص 219.

جدا في تقوية اللثة ، وإزالة الاوساخ وبقايا الطعام عن الاسنان.

وذات يوم دخل اخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليعوده وبيده سواك اخضر فنظر النبي إليه - وهو في يده - نظرا عرف أنه يريده فقال عبد الرحمن : يا رسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك. فقال نعم ، فقدّمه إلى النبي فورا فاخذه صلی اللّه علیه و آله واستاك به أحسن استياك ، ونظف اسنانه به بدقة وعناية بالغة (1).

وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله قبيل رحيله :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلال فترة مرضه ووجعه يولي إعطاء التعاليم والتذكير بما فيه هداية الناس اهتماما بالغا ، فقد كان يوصي بالصلاة ورعاية الرقيق في الايام الاخيرة من حياته الشريفة ويقول :

« الصّلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ، ألبسوا ظهورهم وأشبعوا بطونهم وألينوا لهم القول » (2).

وقد سأل كعب الاحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه وفي ايام خلافة الأخير ما كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال عمر : سل عليّا. فسأل عليا علیه السلام :

فقال امير المؤمنين علیه السلام :

« أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة.

فقال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه امروا وعليه يبعثون (3).

وقد فتح النبي صلی اللّه علیه و آله عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة وقال :

ص: 683


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 234 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 654.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 254.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 262.

« أدعوا لي أخي ».

فعرف الجميع بأنه يريد عليا علیه السلام فدعوا له عليا فقال :

« ادن منّي ».

فدنا منه عليّ علیه السلام فاستند إليه فلم يزل مستندا إليه يكلّمه (1).

فلم يلبث أن بدت عليه صلی اللّه علیه و آله علامات الاحتضار.

سأل رجل ابن عباس : هل توفّي رسول اللّه في حجر أحد قال : توفي وهو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل : قلت : فان عائشة قالت : توفي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين سحرى ونحرى.

فكذبها ابن عباس وقال : أتعقل؟ واللّه لتوفّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنه لمستند إلى صدر عليّ وهو الذي غسّله ، وأخي الفضل بن عباس (2).

وقد صرح أمير المؤمنين علي علیه السلام في إحدى خطبه حيث قال :

« ولقد قبض رسول اللّه وإنّ رأسه لعلى صدري ... ولقد وليت غسله والملائكة أعواني » (3).

وينقل بعض المحدثين أن آخر جملة قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة : « لا ، إلى الرفيق الأعلى » ، وكأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه ويبقى أو يلبي دعوة ربّه ، ويلتحق بالرفيق الأعلى ، فعبر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه ، ليعيش مع الذين أشار إليهم قوله سبحانه :

« فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ

ص: 684


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 263.
2- المصدر : ج 2 ص 263.
3- نهج البلاغة : الخطبة 197.

وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » (1).

قال النبي صلی اللّه علیه و آله هذا ولفظ أنفاسه الشريفة (2).

يوم الوفاة :

في منتصف يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر (3) طارت روح النبي الاكرم المقدّسة إلى بارئها ، والى جنان الخلد ، فسجّى ببرد يماني ، ووضع في حجرته بعض الوقت ، وارتفعت صرخات العيال ، وعلا بكاء الاقارب فعرف من كان في خارج المنزل أن النبي صلی اللّه علیه و آله قد قضى ، فلم يلبث أن انتشر نبأ وفاته في كل أنحاء المدينة التي تحولت بسرعة إلى مناحة كبرى ، ومأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت ولأسباب خاصّة أنّ النبي لم يمت انما عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، وانه لا يموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! وأصرّ على هذا الموقف وهدّد كل من يخالف ذلك ، وكاد أن يوافق عليه فريق من الناس لو لا أن أحد الصحابة تلا عليه قول اللّه سبحانه :

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ».

حتى فرغ من الآية ، فسحب عمر موقفه ، مستغربا من وجود مثل هذه الآية قائلا : هذا في كتاب اللّه؟ (4)

ثم قام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام بتغسيل جسد النبي الطاهر وكفنه لأن النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد قال : « يغسلنى أقرب

ص: 685


1- النساء : 69.
2- إعلام الورى : ص 83.
3- وهو ما اتفق عليه محدثو الشيعة ومؤرخوهم ، ونقل في السيرة النبوية ج 2 ص 658 بصورة : قيل.
4- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 267.

الناس إلىّ » ولم يكن ذلك سوى عليّ علیه السلام .

ولما فرغ « علي » من تغسيل النبي صلی اللّه علیه و آله كشف الازار عن وجهه صلی اللّه علیه و آله وقال والدموع تنهمر من عينيه الشريفتين :

« بأبي أنت وأمّي طبت حيّا وطبت ميتا ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة والانباء. ولو لا أنّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا وقلاّ لك ، ولكنّه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وامّي اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك؟ » (1).

ثم ان الامام أمير المؤمنين « علي بن أبي طالب » علیه السلام كان أوّل من صلّى على جثمان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة ، ثم تقرر دفنه صلی اللّه علیه و آله في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح وزيد بن سهل بحفر قبر له صلی اللّه علیه و آله وإعداده ثم دفن صلی اللّه علیه و آله في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي علیه السلام يساعده في ذلك الفضل والعباس.

وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية ، واعظم رسول الهي فتح امام الانسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية.

ولكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثر في استمرار رسالته ، ومواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة وموضوع القيادة في المجتمع الاسلامي وقد بدت بعض بوادر الاختلاف في الاوساط الاسلامية حتى قبل رحيله.

غير أن هذا القسم وإن كان قسما مهما وخطيرا من تاريخ الاسلام ، فهو

ص: 686


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 235.

خارج عن اطار بحثنا هذا ( وهو دراسة وتحليل الشخصية المحمدية وحياة النبي الرسالية والسياسية والعسكرية ).

من هنا فاننا نختم حديثنا هذا بالشكر لله تعالى على هذه النعمة الكبرى ، والحمد لله رب العالمين (1).

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه-

ص: 687


1- ثم تدوين هذه المحاضرات وتوثيقها وتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم والحمد لله رب العالمين. جعفر الهادي

ص: 688

الفهارس

اشارة

1 - فهرس الآيات القرآنية

2 - فهرس الاحاديث الشريفة

3 - فهرس الأشعار

4 - فهرس الأعلام

5 - فهرس القبائل والامم

6 - فهرس الكنى والألقاب

7 - فهرس الوقائع والايام

8 - فهرس الاماكن والبلدان

9 - فهرس المذاهب والأديان ونظم الحكم

10 - فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

11 - فهرس المصادر

12 - فهرس المواضيع

ص: 689

ص: 690

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة - 2

الآية رقمها الصفحة

( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) 115 201

( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ) 142 51

( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ) 143 49

( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) 143 50

( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) 144 48

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ) 207 113

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ) 217 40

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) 219 218

( وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) 219 220

آل عمران - 3

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) .. 12 122

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ) .. 13 96

( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .. ) 59 604

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ .. ) 61 604

( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ .. ) 61 405

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ) 64 601

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ) 121 151

ص: 691

( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ .. ) 123- 127 90

( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) 144 163 ، 681 ، 685

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) 152 163

( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) 154 162

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) 155 163

النساء - 4

( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) 43 219، 221، 223 ، 225

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) 51 249

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ) 58 498

( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) 69 684

المائدة - 5

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. ) 1 - 3 653

( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ) 24 62

( مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) 32 127

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ) 51 - 53 126

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) 67 647

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... ) 90 219

( إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ ) 110 380

الأنعام - 6

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ .. ) 38 677

الأعراف - 7

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها ) 33 230

( فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) 44 783

ص: 692

الأنفال - 8

( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ ) 5 62

( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ ... ) 6 62

( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ ) 9 96

( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) 12 98

( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ... ) 11 - 12 96

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ) 13 98

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ ) 27 287

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا ) 36 136

( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ) 42 - 43 95

( وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ) 42 97

( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ) 44 97

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ) 47 98

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) 48 98

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) 70 95

( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ ) 71 95

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) 87 68

التوبة - 9

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) 19 113

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ) 107- 108 580

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) 25 514

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) 31 550

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ) 33 355

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) 49 555

ص: 693

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ) 65 574

( وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ ) 81 - 82 555

( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) 92 557

( تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) 92 556

( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا .. ) 102 287

( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) 118 577

يوسف - 12

( قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا ) 91 479

( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) 92 479 و 496

النحل - 16

( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) 44 672

( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ) 67 218

( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) 98 531

( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) 126 183

الإسراء - 17

( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ... ) 26 423

مريم - 19

( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) 6 428

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها ) 71 428

الحج - 22

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) 39 56

النور - 24

( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) 11 316 و 318

( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ ) 12 - 14 219

( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ) 32 100

ص: 694

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ) 33 313

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) 62 148 و 254

النمل - 27

( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) 16 428

القصص - 28

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ ) 85 495

العنكبوت - 29

( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ) 8 17

الروم - 30

( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) 31 148

الأحزاب - 33

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ ... ) 9 - 25 276

( بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ... ) 13 287

( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... ) 26 - 27 295

( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) 33 425 و 607

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ ... ) 36 - 37 232

( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ ) 37 243

( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً ) 37 243

( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ ... ) 38 - 39 236 و 244

( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) 40 236

سبأ - 34

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) 28 355

يس - 36

( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ ) 70 355

ص: 695

الفتح - 48

( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) 1 348

( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ) 17 147

( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ) 18 334

( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ) 22 347

( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) 27 437

الحجرات - 49

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) 1 476

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) 6 312

الحشر - 59

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) 2 214

( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً ) 5 212

( ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) 7 213

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ) 11 - 14 212

الممتحنة - 60

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ) 6 - 9 475

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ) 10 351

( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ ) 12 507

القلم - 68

( وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) 52 355

العاديات - 100

( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ) 1 - 2 459

النصر - 110

( إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ... ) 1 - 3 545

ص: 696

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث القائل الصفحة

أبا وهب هل لك العام تخرج معنا ( النبي ) 554

أ تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه ( النبي ) 418

أحب الناس الي من الرجال عليّ ( النبي ) 120

أخبروا مالكا انه إن اتاني مسلما ( النبي ) 532

اخرجوا من بلادي فقد أجلتكم عشرا ( النبي ) 209

أخرجها من العسكر ثم صح وارمها ( النبي ) 395

ادعوا لي أخي ( النبي ) 684

ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد ( النبي ) 184

إذا خطب إليكم كفو فزوجوه ( النبي ) 103

اذهب يا عباس الى رحلك ( النبي ) 483

اذهبت منك الرحمة ( النبي ) 409

ارجعا حتى تأتياني غدا ( النبي ) 368

ارجعن يرحمكن اللّه ( النبي ) 187

أرسلته كرارا غير فرار ( النبي ) 457

اركب فان اللّه ورسوله عنك راضيان ( النبي ) 459

استفدت يا أمّ عمارة ( النبي ) 177

استوصوا بالاسارى خيرا ( النبي ) 87

ص: 697

أسندته الى صدري فوضع رأسه على منكبي ( علي ) 683

السلام على أهل همدان ( علي ) 627

السلام عليكم يا أهل القبور ( علي ) 665

اشتدّ غضب اللّه في دم وجه نبيه ( علي ) 179

اكرموا اولادكم ( النبي ) 596

الصلاة الصلاة وما ملكت ايمانكم ( النبي ) 683

الصلاة يا أهل البيت ( النبي ) 109

اطلبوا العلم ولو بالصين ( النبي ) 132

اغزوا باسم اللّه وادعوهم الى الاسلام ( النبي ) 440

اغد على بركة اللّه ( النبي ) 664

الحمد لله الذي صدق وعده ( النبي ) 495

الحمد لله الذي وفق رسول اللّه ( النبي ) 539

الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ( النبي ) 647

ألاّ إن كل مال ومأثرة ودم في الجاهلية ( النبي ) 503

ألاّ ترضون يا معشر الاوس ( النبي ) 289

اللّه أعلى وأجل ( النبي ) 180

اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين ( النبي ) 258

اللّه أكبر خربت خيبر ( النبي ) 392

اللّه مولانا ولا مولى لكم ( النبي ) 181

ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ( النبي ) 648

ألم أنهكم ان يخرج منكم أحد ( النبي ) 564

اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك ( النبي ) 115

اللّهم اجمع شملهما والّف بين قلوبهما ( النبي ) 108

اللّهم ارحم الانصار وابناء الانصار ( النبي ) 536

اللّهم إن تهلك هذه العصابة ( النبي ) 79

ص: 698

اللّهم انزل عليهم رجسك ( النبي ) 186

اللّهم إنك اخذت مني عبيده ( النبي ) 264

اللّهم إنك قد عرفت حالهم ( النبي ) 365

اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ( النبي ) 508

اللّهم أني اسألك الأمن يوم الخوف ( النبي ) 186

اللّهم أني اسألك كله ( النبي ) 185

اللّهم اهد قلبه وثبت لسانه ( النبي ) 626

اللّهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف ( النبي ) 106

اللّهم خذ على قريش أبصارهم ( النبي ) 471

اللّهم خذ العيون والاخبار عن قريش ( النبي ) 471

اللّهم رب السماوات وما اظللن ( النبي ) 390

اللّهم هؤلاء اهل بيتي ( النبي ) 405

اللّهم هذه قريش قد أقبلت ( النبي ) 72

اللّهم وال من والاه ( النبي ) 648

إليّ يا فلان إليّ يا فلان أنا رسول اللّه ( النبي ) 146

اليوم يوم المرحمة ( النبي ) 497

أما أنت فقد عذرك اللّه ( النبي ) 147

أما أيها الناس فانه قد حان خفوق مني ( النبي ) 678

أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني ( النبي ) 663

أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب ( النبي ) 607

أما ما لي وبني عبد المطلب فهو لكم ( النبي ) 530

أما واللّه لو شتم لقلتم فصدقتم ( النبي ) 535

أمك امك اعصب جرحها ( النبي ) 177

أحب أهلي إليّ فاطمة ( النبي ) 119

ان أحببت فاقيمي عندنا محببة ( النبي ) 531

ص: 699

أنا أحق بذلك منك ( النبي ) 130

أنا النبي لا أكذب ... ( النبي ) 519

إنا لم نجئ لقتال أحد ولكننا جئنا معتمرين ( النبي ) 329

أنا لم نرض ( النبي ) 343

أنت بالخيار فيه اربعة عشر ( النبي ) 506

أنت خليفتي في أهل بيتي ( النبي ) 558

انطلق فطف بالبيت ( النبي ) 632

انظروا الى ما امرتكم به ( النبي ) 145

ان بالمدينة لا قواما ( النبي ) 575

إن حسن التبعل يعدل ذلك كله ( النبي ) 176

إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا ( النبي ) 368

إن رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبي ( النبي ) 565

إن رسول اللّه كان يغير الأسماء القبيحة ... ( الصادق ) 544

إنكم ستلقون ربكم فيسألكم ( النبي ) 635

إن اللّه اختار من أهل الارض رجلين ( النبي ) 118

إن اللّه امرني ان اعرض عنهم ( النبي ) 574

إنما أنت فينا رجل فخذل عنا ( النبي ) 273

إنه لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ( النبي ) 591

إنها مشية يبغضها اللّه إلاّ ... ( النبي ) 153

إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ( النبي ) 646

إني امرت ان استغفر لأهل البقيع ( النبي ) 665

إني تارك فيكم الثقلين. ( النبي ) 648 ، 673

إني رأيت العرب رمتكم ( النبي ) 271

أو ما بلغك ما قال صاحبكم ( النبي ) 308

أوحى اللّه تعالى الى رسول اللّه إن أشكر لجعفر ( الباقر ) 222

ص: 700

اولئك العصاة ( النبي ) 476

ايتوني بقلم وقرطاس ( النبي ) 668

ايتوني بدواة وصحيفة ( النبي ) 669

أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم ( النبي ) 29

أيّ عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر ( النبي ) 526

أيكم يبرز الى عمرو وأضمن له الجنة ( النبي ) 263

أين علي؟ ايتوني بعلي ( النبي ) 398

أيها الناس اسمعوا قولي ( النبي ) 634

أيها الناس أما بعد فانّ أصدق الحديث ( النبي ) 560

أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان ( النبي ) 600

أيها الناس إن كل ربا موضوع ( النبي ) 636

أيها الناس سعرت النار واقبلت الفتن ( النبي ) 668

أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة ( النبي ) 501

أيها الناس إن اللّه قد بعثني رحمة ( النبي ) 356

أيها الناس ان هذا عدو اللّه وعدوكم ( النبي ) 455

أيها الناس لا تشكوا عليا ( النبي ) 633

أيها الناس واللّه ما لي في فيئكم ( النبي ) 533

أيها الناس يوشك أن اقبض ( النبي ) 676

بئس ما جزيتها ( النبي ) 302

بارك اللّه في ابنة رسول اللّه ... ( النبي ) 108

بارك اللّه عليكم من أهل بيت ( النبي ) 178

برز الايمان كله الى الشرك كله ( النبي ) 264

بسم إله ابراهيم واسحاق ويعقوب ( النبي ) 601

بل نترفق به ونحسن صحبته ( النبي ) 310

بل هو الرأي أنظر لنا منزلا بعيدا ( النبي ) 393

ص: 701

تآخوا في اللّه ( النبي ) 19

تزوجوا فاني مكاثر بكم الامم ( النبي ) 101

جهزوا جيش اسامة ( النبي ) 662

خذها يا ابن ابي طلحة تالدة ( النبي ) 499

خير رجالكم علي بن ابي طالب ( النبي ) 115

خير نسائكم فاطمة بنت محمد ( النبي ) 115

رأيت الملائكة تغسل حنظلة ( النبي ) 149

دعه عنك فانه جاء تائبا ( النبي ) 540

دعوها فانها منتنة ( النبي ) 305

رحم اللّه ابا ذر يمشي وحده ( النبي ) 566

رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ( النبي ) 435

رحم اللّه سعدا نصرنا حيا ... ( النبي ) 184

سلمان منا أهل البيت ( النبي ) 253

ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ( النبي ) 267

علي أحبهم الي وأحبهم الى اللّه ( النبي ) 116

علي خير البشر فمن ابى فقد كفر ( النبي ) 116

علي خير من اتركه بعدي ( النبي ) 115

علي مني بمنزلة الرأس من بدني ( النبي ) 116

علي مني بمنزلتي من ربي ( النبي ) 116

علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن ( النبي ) 116

غيب عني وجهك فلا ارينك ( النبي ) 175

فاطمة بضعة مني فمن اغضبها فقد اغضبني ( النبي ) 682

فاين البعيران اللذين غيبتهما بالعقيق ( النبي ) 311

فان اللّه سيجعل لك مخرجا ( النبي ) 349

فاقتص مني حتى ترضى ( النبي ) 679

ص: 702

فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان محمدا يقتل ( النبي ) 307

فلذلك الجمل لا يمضي ( النبي ) 189

فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسبق ( النبي ) 631

فو الذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن ( النبي ) 571

قد اجرنا من أجرت وآمنا من أمنت ( النبي ) 505

قد استعملتك على هؤلاء النفر ( النبي ) 308

قد علمتم موضعي من رسول اللّه ( علي ) 225

قد فعلت فلا تعجلي بخروج ( النبي ) 548

قوموا الى سيدكم ( النبي ) 290

قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع ( النبي ) 668

كنا اذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّه ( علي ) 72 و 168

كذبتم ، يمنعكم من الاسلام ثلاث ( النبي ) 604

كذبوا ، ولكنني خلّفتك لما تركت ( النبي ) 559

كيف ترى يا عمر ، اما واللّه لو قتلته ( النبي ) 310

لا امثل به فيمثل اللّه بي وان كنت نبيا ( النبي ) 92

لا اجد ما احملكم عليه 556

لا إنما رحمه 596

لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا 399

لا تخرجوا معي الا راغبين في الجهاد ( النبي ) 388

لا تدعوني قريش اليوم الى خطة .. ( النبي ) 328

لا تغفلوا آل جعفر ( النبي ) 451

لا تقتلوه فهذا الاعمى أعمى القلب .. ( النبي ) 146

لا تكلمن أحدا من هؤلاء ( النبي ) 577

لا حاجة لي بهما ، اما ابن عمي ( النبي ) 479

لا خير في دين لا صلاة فيه ( النبي ) 586

ص: 703

لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ( النبي ) 181

لاعطين الراية غدا ( النبي ) 397

لا عليكم ان لا تمنعوه لعل اللّه يرزقه الشهادة ( النبي ) 147

لا عيش إلاّ عيش الآخرة ( النبي ) 252

لكن حمزة لا بواكي له ( النبي ) 186

لكن ربي أمرني باعفاء لحيتي وقص شاربي ( النبي ) 367

لكنني ما اكره واللّه ان اهريق دمك ( علي ) 264

لا نبرح حتى نتاجر القوم 334

لا ندخلها إلاّ كذلك 432

لا ولكن نهيت عن خمش وجوه ( النبي ) 599

لا يحتج محتج منك في مخالفته ( النبي ) 538

لا يذهب بها إلاّ رجل مني وانا منه ( النبي ) 117

لحمك لحمى ودمك دمى والحق معك ( النبي ) 117

لقد تيب على ابي لبابة ( النبي ) 287

لو امرت به ما استشرتكم فيه ( النبي ) 569

لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت ( النبي ) 631

ما انتم باسمع لما اقول منهم ( النبي ) 83

ما أجد لك شيئا أمثل من ان تقوم ( النبي ) 468

ما ذا تقولون وما ذا تظنّون ( النبي ) 496

ما ذكر لي رجل بفضل من العرب ( النبي ) 544

ما ظن محمد باللّه لو لقي اللّه وهذه عنه ( النبي ) 677

ما لي أراك يا عمر محرما ( النبي ) 630

ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب ( النبي ) 677

ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ( النبي ) 13

ما من نبي إلاّ وله نظير في امته ( النبي ) 117

ص: 704

ما وقفت موقفا قط اغيظ إليّ ( النبي ) 182

ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن ( النبي ) 145

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ( النبي ) 194

من أحب ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا ( النبي ) 101

من ارادت ان تبايع فلتدخل يدها ( النبي ) 507

من جاءهم منا فابعده اللّه ( النبي ) 340

من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ( النبي ) 484

من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن ( النبي ) 489

من شاء منكم ان يأخذ بطن الوادي ( النبي ) 573

من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر ( النبي ) 116

من ياخذ هذا السيف بحقه ( النبي ) 153

من محمد رسول اللّه الى كسرى ( النبي ) 365

من محمد بن عبد اللّه الى المقوقس ( النبي ) 370

من محمد بن عبد اللّه الى ملك الحبشة ( النبي ) 376

من محمد رسول اللّه الى الحارث بن ابي شمر ( النبي ) 382

من محمد رسول اللّه الى هوذة بن علي ( النبي ) 382

من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب ( النبي ) 657

نشدتكم باللّه هل فيكم احد قتل ( علي ) 156

نصرت يا عمرو بن سالم ( النبي ) 466

هاك مفتاحك يا عثمان ( النبي ) 498

هذا ما صالح عليه رسول اللّه ( النبي ) 336

هذا ما كتب النبي محمد رسول اللّه لنجران ( النبي ) 608

هل أخزاكم اللّه وانزل عليكم نقمته ( النبي ) 283

همت اليهود ... ( النبي ) 208

هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ( النبي ) 267

ص: 705

وانك لهند بنت عتبة ( النبي ) 508

وأيم اللّه اني لأقول لكم هذا ( النبي ) 675

وردنا مع رسول اللّه خيبر ( علي ) 408

وعندي السيف الذي اعضضته ( علي ) 77

وكان مني في ذلك ما على اللّه عز وجلّ ثوابه ( علي ) 171

واللّه لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه اللّه ( النبي ) 676

واللّه وما اردت بهذه إلاّ الفتنة ( علي ) 644

واللّه ما أنا أمرت بذلك ولكن اللّه أمر بسدّ ابوابكم ( النبي ) 20

واللّه ما يسرني يا علي أن لي ( النبي ) 511

والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم ( النبي ) 79

والذي نفس محمد بيده ان شملته ( النبي ) 411

وما يدريك يا عمر لعل اللّه اطلع على اهل بدر ( النبي ) 474

ومن اغلق بابه فهو آمن ( النبي ) 485

ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة ( النبي ) 177

ويح ابن سمية ... انما تقتلك الفئة الباغية ( النبي ) 13

ويحك اذا لم يكن العدل عندي ( النبي ) 534

ويحك اسلم واشهد ان لا إله إلاّ اللّه ( النبي ) 482

ويحك يا ابا سفيان ألم يأن لك ( النبي ) 482

يا أهل القليب بئس عشيرة النبي ( النبي ) 83

يا أنصار اللّه وانصار رسوله ( النبي ) 518

يا أيها الناس أوصيكم بما اوصاني اللّه ( النبي ) 152

يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ( النبي ) 675

يا علي اصعد على منكبي ( النبي ) 494

يا علي أنك أبيت أن تمحو اسمي ( النبي ) 338

يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه الى الاسلام ( النبي ) 626

ص: 706

يا علي لو لا أني أشفق أن تقول طوائف ( النبي ) 459

يا عمرو انك كنت تقول في الجاهلية ( علي ) 265

يا من حضر أشهد هذا ان زيدا ابني ( النبي ) 231

يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم ( النبي ) 535

يا معشر المسلمين اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية ( النبي ) 31

يا معشر يهود احذروا من اللّه ( النبي ) 122

يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ( النبي ) 327

يسر ولا تعسر وبشر ولا تنفر ( النبي ) 625

يفتح اللّه على يديه ( النبي ) 403

ص: 707

(3) فهرس الأشعار

أتبكي أن يضلّ لها بعير 91

إذ يهتدون بجعفر ولو أنّه 443

إذا استقبلت وجه أبي تراب 112

إذا متّ فادفنّي الى جنب كرمة 218

أصبح وجه الزمان قد ضحكا 424

أعلي تقتحم الفوارس هكذا 270

اليوم يوم الملحمة 496

الى اللّه أشكو غربتي ثم كربتي 201

امن أم أوفى دمنة تكلم 539

أنا الذي سمّتني أمي حيدرة 400

أنا الذي عاهدني خليلي 154

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول 541

بيضاء تسحب من قيام شعرها 105

حسدوا الفتا اذا لم ينالوا فضله 107

خلّوا بني الكفار عن سبيله 433

سرن بعون اللّه جاراتي 108

فلا يبعدن اللّه قتلي تتابعوا 443

قد علمت خيبر أني مرحب 400

ص: 708

كادت وبيت اللّه نار محمد 556

لئن قعدنا والنبي يعمل 12

لا تعجلن فقد أتاك مجيب 264

لا يستوي من يعمر المساجد 13

لعمرك أني يوم أحمل راية 480

لكني أسأل الرحمن مغفرة 441

لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا 442

لو كان قاتل عمر وغير قاتله 270

ما أن رأيت ولا سمعت بمثله 532

نحن بنات طارق 157

وابيض يستسقى الغمام بوجهه 680

وصعود غارب أحمد فضل له 495

وعاش أبو ذرّ كما قلت وحده 567

وما أنس لا انس اللذين تقدما 397

ولقد بححت من النداء 263

واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا 377

يا حبّذا الجنة واقترابها 446

يا رب اني ناشد محمدا 465

يا طلح إن كنتم كما نقول 156

يناديهم رسول اللّه لما 84

يناديهم يوم الغدير نبيهم 654

ص: 709

(4) فهرس الأعلام

- أ -

اربد ( العامري ) 623

أزهر 348.

آذرم 569 ، 570.

آرشه تونك ( الدكتور ) 216.

ابان بن سعيد بن العاص 333.

ابراهيم بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) 542 ، 596 ، 597 ، 598 ، 599.

ابراهيم الخليل ( النبي ) 49 ، 315 ، 322 ، 325 ، 561 ، 599 ، 602 ، 628 ، 630.

ابن أبي أحمد 164.

ابن أبي الحديد 94 ، 164 ، 165 ، 170 ، 178 ، 194 ، 265 ، 397 ، 423 ، 426 ، 487.

ابن أبي الحقيق 297.

ابن ابي سبرة 162 ، 164.

ابن الأثير 37 ، 47 ، 135 ، 170 ، 238 ، 239 ، 241 ، 268 ، 269 ، 321 ، 360 ، 393 ، 404 ، 442 ، 511 ، 605.

ابن اسحاق 7 ، 13 ، 34 ، 36 ، 70 ، 268.

ابن أمّ مكتوم 128 ، 192 ، 211 ، 300.

ابن بابويه 107.

ابن تيمية ( الحراني ) 268 ، 269.

ص: 710

ابن جرير 240.

ابن حجر العسقلاني 322 ، 367 ، 652 ، 676.

ابن حذيفة 76.

ابن الجوزي 20.

ابن خلكان 65.

ابن رواحة 415 ، 433 ، 434 ، 440 ، 441 ، 443 ، 446 ، 447 ، 660.

ابن سعد ( صاحب الطبقات ) 71 ، 189 ، 205 ، 389 ، 438 ، 498.

ابن سلامة 450 ، 527 ، 534 ، 573 ، 622.

ابن سهيل 342 ، 343 ، 344.

ابن شماس 214.

ابن طلحة 112.

ابن عباس 155 ، 669 ، 671 ، 672 ، 684 ، 686.

ابن عبد ربه 112.

ابن العرندس 495.

ابن عقدة 652.

ابن العوام 493.

ابن كثير الشامي 16 ، 17 ، 20 ، 512.

ابن قميئة الليثي 166 ، 176.

ابن مزاحم 14.

ابن مسعود 61 ، 116.

ابن مسلمة ( محمد ) 43 ، 133 ، 164 ، 209 ، 392 ، 402 ، 404 ، 410 ، 432 ، 493 ، 558.

ابن هشام 7 ، 13 ، 19 ، 34 ، 45 ، 47 ، 58 ، 60 ، 83 ، 130 ، 161 ، 162 ، 172 ، 198 ، 201 ، 202 ، 207 ، 211 ، 227 ، 246 ، 268 ، 289 ، 293 ، 298 ، 299 ، 300 ، 306 ، 321 ، 322 ، 348 ، 389 ، 396 ،

ص: 711

400 ، 401 ، 404 ، 414 ، 444 ، 472 ، 473 ، 480 ، 504 ، 519 ، 523 ، 523 ، 527 ، 618.

ابن واضح الاخباري 366.

أبيّ بن خلف 165.

أحمد بن حنبل 15 ، 16 ، 17 ، 84 ، 109 ، 113 ، 366 ، 495 ، 662 ، 669 ، 670 ، 672.

أحمد بن ابي خيثمة 224.

الاخنس بن شريق 348.

اربد 623 ، 624.

أرمى بن الاصحم 381.

اساف ( صنم ) 493.

اسامة بن زيد 115 ، 145 ، 319 ، 494 ، 643 ، 660 ، 661 ، 662 ، 663 ، 664 ، 665 ، 667.

اسرافيل ( الدكتور ) 249.

اسكندر المقدوني 356.

اسماعيل ( النبي ) 602.

الاسود الثقفي 587.

الاسود بن عبد الاسد المخزومي 75 ، 76.

الاسود بن كعب 656 ، 658 ، 659.

الاسود بن المطلب 90 ، 91.

اسيد بن حضير 12 ، 186 ، 262 ، 308 ، 321 ، 520.

الاقرع بن حابس 530.

أكيدر بن عبد اللّه 570 ، 571.

أميّة بن خلف 37 ، 57 ، 58 ، 81 ، 83 ، 89.

أميّة بن المغيرة 478.

ص: 712

أنس بن مالك 109 ، 115 ، 118 ، 161 ، 162.

انس بن النضر 161 ، 162 ، 163.

أنو شيروان 264 ، 375.

- ( ب ) -

باذان 366 ، 367 ، 368 ، 369

بجير بن زهير 539 ، 540.

بديل بن ورقاء 328 ، 465 ، 466 ، 467 ، 481 ، 482.

بريدة 115 ، 116 ، 304 ، 661.

البراء بن عازب 626.

بشير بن البراء بن معرور 416.

بشير بن سفيان 486.

بلال بن الحارث 486.

بلال الحبشي 81 ، 104 ، 409 ، 434 ، 493 ، 497 ، 678.

( ت )

تئودوز الكبير 357.

( ث )

ثابت بن أرقم 447.

ثابت بن قيس 214 ، 294.

ثمالة الثقفي 532.

( ج )

جابر بن عبد اللّه الانصاري 188 ، 300 ، 592.

جبار ( العامري ) 623 ، 624.

جبرائيل ( الملك ) 20 ، 52 ، 170 ، 171 ، 172 ، 183 ، 455 ، 472 ، 592 ، 597 647 ، 665.

جدّ بن قيس 554.

ص: 713

جديمة بن عامر 905.

جعفر بن أبي طالب 108 ، 222 ، 298 ، 412 ، 413 ، 441 ، 442 ، 443 ، 446 ، 447 ، 450 ، 451 ، 642 ، 660.

جعفر الصادق ( الامام ) 126 ، 138 ، 347 ، 544.

جميع بن عمير 117.

جندب بن زهير 115.

جهجاه بن مسعود 305.

( ح )

الحارث بن ابي شمر الغساني 359 ، 381 ، 382 ، 383 ، 529.

الحارث بن أبي ضرار 304.

الحارث بن الحارث 533.

الحارث بن زمعة 90 ، 91.

الحارث بن عمير الازدي 439.

الحارث بن الصمّة 165 ، 205.

الحارث بن طلال 490.

الحارث بن هلال 504 ، 523.

الحارث ( اخو مرحب ) 399.

حاطب بن بلتعة 307 ، 369 ، 370 ، 371 ، 473 ، 474.

الحافظ بن حنان 112.

الحباب بن منذر 69 ، 139.

الحجاج بن علاط السلمي 419 ، 420.

الحجاج بن يوسف الثقفي 17.

حجر بن عدي 567.

حرب بن أميّة 466.

حذيفة بن اليمان 573.

ص: 714

الحسن بن اسماعيل 603 ، 613.

الحسن بن علي ( الامام ) 103 ، 109 ، 119 ، 423 ، 425 ، 468 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618.

الحسن بن علي العلوي 621.

الحسن بن موسى 155.

حسان بن ثابت 10 ، 83 ، 84 ، 202 ، 259 ، 443 ، 571 ، 654.

الحسمان الخزاعي 88.

الحسين بن علي ( الامام ) 103 ، 109 ، 119 ، 229 ، 423 ، 425 ، 468 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618.

الحكيم بن حزام 74 ، 76 ، 231 ، 481 ، 482 ، 533.

الحكيم بن كيسان 39.

الحلس بن علقمة 329 ، 330.

حمزة بن عبد المطلب 24 ، 33 ، 36 ، 44 ، 75 ، 77 ، 78 ، 108 ، 142 ، 144 ، 149 ، 157 ، 182 ، 186 ، 264 ، 442 ، 490 ، 508.

حنظلة بن ابي سفيان 78 ، 148 ، 149.

حنظلة ( غسيل الملائكة ) 578.

حويرث بن نقيذ 490.

حيي بن اخطب 27 ، 209 ، 211 ، 248 ، 256 ، 257 ، 261 ، 283 ، 294 ، 296 ، 394.

( خ )

خالد بن اسيد 434.

خالد بن ثعلب 171.

خالد بن رياح 164.

خالد بن سعيد 584.

خالد بن الوليد 152 ، 159 ، 160 ، 162 ، 212 ، 227 ، 262 ، 346 ، 431 ،

ص: 715

439 ، 447 ، 448 ، 450 ، 486 ، 491 ، 494 ، 509 ، 510 ، 517 ، 571 ، 626 ، 660.

حبيب بن عديّ 199 ، 200 ، 201 ، 205.

خراش بن أميّة 331.

خزيمة بن ثابت 14.

خرخسره 366 ، 368.

خسرو پرويز 364 ، 365 ، 379 ، 643.

خلاء بن عمرو بن الجموح 188.

خيثمة 56 ، 142.

( د )

داود بن قابوس 403.

دحية الكلبي 256 ، 359 ، 360 ، 362 ، 382.

دعبل 424.

دعثور 129.

دريد بن الصمة 515.

( ذ )

ذو الخويصرة التميمي 534.

ذو الفقار 172 ، 399.

ذو الكلاع الحميري 14 ، 15.

( ر )

رافع بن مكيث 486.

ربيع بن ابي الحقيق 402.

ربيعة بن الحارث ( ابن ) 635.

ربيعة بن عبد شمس 76.

رفيده 290.

ص: 716

( ز )

زاذان 224.

الزبير بن باطا 257 ، 294 ، 333.

الزبير بن العوام 64 ، 157 ، 164 ، 183 ، 473 ، 486 ، 493 ، 651.

زهير بن أبي سلمى 539.

زهير بن أبي أميّة 60.

زهير بن صرد 529.

زيد بن أرقم 115 ، 306 ، 307 ، 651.

زيد بن حارثة 37 ، 90 ، 131 ، 229 ، 231 ، 232 ، 233 ، 235 ، 237 ، 239 ، 240 ، 242 ، 244 ، 294 ، 387 ، 388 ، 389 ، 407 ، 441 ، 444 ،

447 ، 451 ، 642 ، 660 ، 661.

زيد بن الخيل 544.

زيد بن دثنة 199 ، 200.

زيد بن سهيل 200.

( س )

السائب 36.

سراقة بن جعشم 58.

سعد بن أبي وقاص 36 ، 44 ، 64 ، 86 ، 405 ، 660.

سعد بن معاذ 36 ، 61 ، 63 ، 70 ، 186 ، 213 ، 258 ، 271 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 293 ، 294 ، 295 ، 320 ، 321 ، 322.

سعد بن عبادة 36 ، 144 ، 213 ، 214 ، 258 ، 271 ، 320 ، 321 ، 497 ، 535.

سعيد بن خيثمة 56 ، 143 ، 561.

سعيد بن زيد 54.

سعيد بن الربيع 184 ، 185.

ص: 717

سعيد بن زيد الأشهلي 301 ، 509.

سفيان الثوري 223 ، 224.

سلمان الفارسي 108 ، 115 ، 251 ، 253 ، 522 ، 523.

سلام بن ابي الحقيق 248 ، 296 ، 298.

سلام بن مشكم 128 ، 211 ، 416.

سلمة بن عمرو بن الاكوع 301.

سليمان بن سحيم 45.

سليط بن عمرو 383.

سليط بن النعمان 131.

سمرة 647.

سنان 305.

سواد بن غزيه 78 ، 79.

سوادة بن قيس 678 ، 679.

سواع ( صنم ) 509.

سويد بن صخرة 486.

سهيل بن حنيف 173 ، 313.

سهيل بن عمرو 83 ، 91 ، 335 ، 336 ، 340 ، 348 ، 434 ، 491.

سيد قطب 225.

( ش )

شاس بن قيس 30 ، 288.

شجاع بن وهب 381.

شرحبيل 602.

شيبة بن ربيعة 76 ، 77 ، 78 ، 83 ، 90 ، 174.

شيرويه 364 ، 368 ، 369.

* * *

ص: 718

(ص)

صفوان بن أميّة 38 ، 131 ، 136 ، 192 ، 199 ، 229 ، 317 ، 434 ، 484 ، 489 ، 490 ، 491 ، 505 ، 516 ، 533.

( ض )

الضحاك بن خليفة 556.

ضرار بن الخطاب 263.

ضمضم بن عمرو الغفاري 57.

( ط )

طالب 68.

الطاهر 597.

طلحة بن أبي طلحة 53 ، 156 ، 164.

طلحة بن عبد اللّه 54 ، 161 ، 173 ، 556.

طفيل بن عمرو الدوسي 523.

الطيب 597.

(ع)

العاص بن هشام 57 ، 87.

عاصم بن ثابت 173.

عامر بن الحضرمي 74 ، 75.

عامر بن الطفيل 203 ، 205.

عامر بن مالك بن جعفر 204.

عباد بن بشير 227 ، 407 ، 572.

عبادة بن الصامت 17 ، 126.

عباس بن عبد المطلب 48 ، 80 ، 82 ، 88 ، 89 ، 90 ، 137 ، 138 ، 307 ، 436 ، 477 ، 481 ، 482 ، 483 ، 484 ، 518 ، 686.

ص: 719

عباس بن مرداس 486 ، 488.

عبد الجبار بن احمد 94.

عبد الحسين شرف الدين ( السيد ) 632.

عبد الرحمن بن عوف 80 ، 81 ، 218 ، 223 ، 418 ، 509 ، 589 ، 602 ، 683.

عبد اللّه بن أبي سلول 126 ، 141 ، 142 ، 144 ، 145 ، 146 ، 148 ، 150 ، 162 ، 163 ، 211 ، 212 ، 289 ، 306 ، 309 ، 310 ، 311 ، 313 ، 317 ، 321 ، 322 ، 370 ، 478 ، 490 ، 562.

عبد اللّه بن ابي رافع 135 ، 338.

عبد اللّه بن أمّ كلثوم 55.

عبد اللّه بن بدر 486.

عبد اللّه بن جحش 38 ، 39 ، 44 ، 74 ، 453.

عبد اللّه بن جدعان 222.

عبد اللّه بن حارثة 642.

عبد اللّه حبيب 223.

عبد اللّه بن حجل 115.

عبد اللّه بن حدرد الاسلمي 516.

عبد اللّه بن حذافة السهمي 365.

عبد اللّه بن حزام 149.

عبد اللّه بن حسن 427.

عبد اللّه بن حميد 165.

عبد اللّه بن حنظلة 149 ، 481.

عبد اللّه بن الخزرج 309.

عبد اللّه بن خيبر 150 ، 151 ، 158 ، 159.

عبد اللّه بن رواحة 76 ، 90 ، 415 ، 433 ، 434 ، 440 ، 446 ، 447.

عبد اللّه بن الزبعرى 490.

ص: 720

عبد اللّه بن سلام 28 ، 29.

عبد اللّه بن سهيل 417 ، 418 ، 419.

عبد اللّه بن شهاب 165.

عبد اللّه بن طارق 199.

عبد اللّه بن العباس 115.

عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي 489.

عبد اللّه بن عمر بن الخطاب 145 ، 419 ، 486.

عبد اللّه بن عمرو 183 ، 188.

عبد اللّه بن عمرو بن حزام 17 ، 189.

عبد اللّه بن عمرو بن العاص 17.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 509.

عبد اللّه بن قمئة الليثي 22.

عبد اللّه بن كعب المازني 85 ، 177.

عبد اللّه بن مسعود 567.

عبد اللّه بن موسى 424.

عبد اللّه بن هاشم 115.

عبد العزيز 427.

عبد المطلب 107 ، 182 ، 206 ، 232 ، 264 ، 308 ، 314 ، 478 ، 580 ، 612.

عبد ياليل 583.

عبيد اللّه بن أبي رافع 6.

عبيدة بن الحارث 34 ، 36 ، 77.

عبيد اللّه بن بهلول 612.

عتاب بن اسيد 513 ، 538 ، 560.

عتبة بن ابي الوقاص 165.

عتبة بن ربيعة 74 ، 75 ، 76 ، 78 ، 82 ، 83 ، 508.

ص: 721

عثمان بن حنيف 424.

عثمان بن أبي العاص 586.

عثمان بن طلحة 438 ، 492 ، 498.

عثمان بن عبد اللّه 39.

عثمان بن عفان 12 ، 13 ، 88 ، 165 ، 333 ، 334 ، 335 ، 505 ، 602.

عثمان بن مظعون 651.

عدي بن حاتم 115 ، 359 ، 547 ، 549 ، 550.

عروة بن الزبير بن العوام 6 ، 135.

عروة بن مسعود الثقفي 330 ، 331 ، 374 ، 582 ، 583 ، 587.

عطاء بن السائب 223 ، 224.

عقبة بن أبي معيط 57 ، 81.

عقبة بن الحارث 201.

عقيل 90 ، 108.

عكرمة بن أبي جهل 136 ، 152 ، 160 ، 180 ، 262 ، 484 ، 489 ، 490 ، 491 ، 505.

العلاء بن جارية 533.

علي بن ابراهيم 137.

علي بن أبي طالب علیه السلام 12 ، 14 ، 15 ، 17 ، 19 ، 37 ، 55 ، 65 ، 71 ، 73 ، 88 ، 103 ، 104 ، 105 ، 107 ، 109 ، 110 ، 111 ، 112 ، 113 ، 115 ، 117 ، 120 ، 133 ، 134 ، 141 ، 155 ، 156 ، 157 ، 164 ، 168 ، 169 ، 170 ، 171 ، 172 ، 179 ، 190 ، 215 ، 221 ، 222 ، 223 ، 224 ، 225 ، 229 ، 263 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 270 ، 272 ، 282 ، 289 ، 319 ، 322 ، 333 ، 336 ، 337 ، 338 ، 342 ، 388 ، 397 ، 399 ، 400 ، 401 403 ، 404 ، 405 ، 406 ، 422 ، 426 ، 427 ، 428 ، 441

ص: 722

442 ، 453 ، 455 ، 458 ، 459 ، 468 ، 469 ، 473 ، 474 ، 479 ، 494 ، 504 ، 510 ، 511 ، 518 ، 535 ، 545 ، 557 ، 558 ، 592 ، 593 ، 594 ، 595 ، 599 ، 602 ، 605 ، 607 ، 608 ، 609 ، 614 ، 615 ، 618 ، 619 ، 620 ، 622 ، 626 ، 627 ، 632 ، 633 ، 635 ، 644 ، 647 ، 651 ، 654 ، 662 ، 665 ، 668 ، 673 ، 674 ، 675 ، 678 ، 683 ، 684 ، 685 ، 686.

على الاحمدي ( الشيخ ) 353 ، 385.

علي بن تقي 426.

علي بن الحسين ( الامام ) 423.

علي بن الفارقي 427.

علي بن الهلالي 118.

عمار بن ياسر 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 20 ، 37 ، 105 ، 227 ، 228 ، 573.

عمارة 350.

عمر بن الخطاب 60 ، 61 ، 71 ، 91 ، 92 ، 94 ، 119 ، 134 ، 135 ، 161 ، 162 ، 175 ، 219 ، 220 ، 269 ، 307 ، 310 ، 333 ، 398 ، 419 ، 426 ، 456 ، 474 ، 482 ، 483 ، 631 ، 660 ، 669 ، 670 ، 683 ، 685.

عمر بن عبد العزيز 134 ، 427 ، 428.

عمرو بن اميّة 205 ، 206 ، 298 ، 375 ، 384 ، 412.

عمرو بن الجموح 147 ، 149 ، 179 ، 183 ، 188 ، 189.

عمرو بن جحاش 207.

عمرو بن حزم 15.

عمرو بن الحضرمي 39 ، 44 ، 74.

عمرو بن الحمق 115.

عمرو بن سالم 465.

ص: 723

عمرو بن العاص 14 ، 15 ، 136 ، 298 ، 299 ، 338 ، 346 ، 431 ، 438 ، 443 ، 456 ، 509.

عمرو بن عبد ود العامري 261 ، 262 ، 263 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 268 ، 272.

عمرو بن عثمان 427.

عمير الفارس 74.

عمير الحمام 79.

عمير بن وهب 73 ، 161 ، 505.

عيسى بن مريم ( النبي ) 263 ، 264 ، 370 ، 371 ، 376 ، 377 ، 378 ، 384 ، 551.

العيص 350.

عيينة بن حصن الفزاري 301 ، 530.

- غ -

غالب بن عبد اللّه 128.

غافل بن البكير 544.

- ف -

الفاكة بن المغيرة 509.

فرانسيز فريديناند ( الارشيدوق ) 124.

الفخر الرازي 238 ، 241 ، 605 ، 609.

فرعون 200 ، 299 ، 369 ، 370.

فيروز 366.

الفضل بن العباس 240 ، 518 ، 599 ، 684 ، 686.

فهم 532.

- ق -

القصواء ( الناقة ) 492.

ص: 724

القاسم بن رسول اللّه 597.

قيصر 231 ، 260 ، 261 ، 265 ، 269 ، 362 ، 363 ، 376 ، 381 ، 382 ، 387 ، 444.

- ك -

كارليل ( توماس ) الانجليزي 478.

كرز بن جابر 37.

كسرى 331 ، 365 ، 366 ، 367 ، 368 ، 369 ، 387.

كعب بن الاسد 27 ، 256 ، 258 ، 291 ، 467.

كعب بن الاشرف 132 ، 134 ، 135 ، 136 ، 293 ، 297 ، 402.

كعب بن زهير 10 ، 539 ، 540.

كعب بن زيد 203.

كعب بن مالك 178 ، 442 ، 576.

كنان بن الربيع 410.

- م -

المأمون 424 ، 427.

مالك بن ابي 211.

مالك الاشتر 115 ، 567.

مالك بن الدخشم 184.

مالك بن عوف 359 ، 364 ، 375 ، 515 ، 523 ، 528 ، 532.

مالك بن قيس 561.

مالك بن نويرة 512.

محمد بن اسحاق 6 ، 171.

محمد بن ابي بكر 115.

محمد بن احمد المخزومي 621.

محمد بن بشارة 222.

ص: 725

محمد بن جرير 130.

محمد بن عبد اللّه 603 ، 612.

محمد بن عمر البغدادي 652.

محمد بن سعيد 71 ، 543.

محمد بن مسلمة 133.

محمد بن المطلب الشيباني 603 ، 612.

محمد بن صدقة العنبري 612.

محمد بن علي الباقر ( الامام ) 222.

محمد بن معد العلوي 164 ، 177.

محمد الثاني ( السلطان ) 358.

محمد حسين هيكل 671.

محمد حميد اللّه ( البروفيسور ) 353.

محمد عادل ( الاستاذ ) 110.

محمد عثمان كريم 111 ، 118.

محمد الفاتح 358.

محمد اليمني ( الامير ) 653.

محمد المهدي ( العباسي ) 427.

محمود شلتوت ( الشيخ ) 637.

محمود بن سلمة 393 ، 410.

مجاعة بن مرارة 385.

مجدة بن عمرو 34 ، 44 ، 66.

مخرمة بن نوفل 68.

المخيريق 27 ، 29.

مربع بن قيض 146.

مرحب 400 ، 401.

ص: 726

مرارة بن الربيع 576 ، 577.

مرتد بن ابي مرتد 114 ، 205.

مرة بن مروان 402.

مروان بن الحكم 427.

المستعلى بن المستنصر 650.

مسلمة بن اسلم 260.

مسيلمة الكذاب 656 ، 657 ، 659.

مصعب بن عمير 55 ، 155 ، 160.

مطعم بن جبير 137.

مقداد بن عمرو 60 ، 61 ، 62 ، 473 ، 486.

معاذ بن جبل 513 ، 539 ، 625.

معاوية بن ابي سفيان 14 ، 15 ، 16 ، 17 ، 20 ، 51 ، 77 ، 78 ، 338 ، 424 ، 507 ،

532 ، 541.

مقيس بن صبابة الكندي 490.

معبد بن أبي معبد الخزاعي 192 ، 193.

معبد بن خالد 486.

معقل بن سنان 486.

المغيرة بن شعبة 330 ، 331 ، 334 ، 373 ، 374 ، 584 ، 587.

المقوقس 371 ، 372 ، 373 ، 374 ، 376 ، 542.

مكرز بن حفص 329 ، 432.

مناة ( صنم ) 509.

منذر بن عمرو 202.

منذر بن محمد 205.

ميسرة 224.

موسى ( النبي ) 20 ، 60 ، 62 ، 299 ، 371 ، 378.

ص: 727

موسى الهادي بن المهدي 427.

- ن -

نائلة ( صنم ) 493.

ناپليون بونابرت 356.

النضر بن الحارث 81 ، 87.

النعمان بن المقرن 486.

النعمان بن المنذر 529.

نعيم بن مسعود 228 ، 272 ، 273 ، 274 ، 285 ، 407 ، 486.

نميلة بن عبد اللّه الليثي 388.

نوفل بن عبد اللّه 263 ، 266.

- ه- -

هارون 427.

هاشم بن عتبة 115.

هبار بن الاسود 490.

هبل ( صنم ) 167 ، 180 ، 493.

هرقل 151.

هبيرة بن وهب 263.

هلال بن أميّة 576 ، 577.

هوذة بن علي 383 ، 384 ، 385.

- و -

واقد بن عبد اللّه 39.

وحشي بن حرب 137 ، 174 ، 175 ، 490.

الوليد بن عقبة بن ابي معيط 312.

الوليد بن عتبة 76 ، 77.

ويليم مويير ( السير ) 354.

ص: 728

ياسر 15.

يحيى بن عمارة 155.

يحيى بن معين 224.

يزيد بن الخصيب 486.

يزيد 17 ، 427.

يوحنا بن رؤبة 569.

يوشع بن نون 421.

النساء :.

آمنة بنت وهب 138.

أسماء بنت عميس 451 ، 677.

جميلة ( بنت عمر ) 544.

جويرية بنت الحارث بن ابي ضرار 311.

حليمة السعدية 529 ، 531.

خديجة بنت خويلد 3 ، 92 ، 93 ، 110 ، 231 ، 356 ، 597 ، 681.

رقية بنت رسول اللّه 103 ، 110 ، 118 ، 597.

زينب بنت جحش 230 ، 232 ، 233 ، 235 ، 237 ، 238 ، 239 ، 240 ، 242.

زينب بنت رسول اللّه 92 ، 94 ، 104 ، 109 ، 110 ، 118 ، 542 ، 597 ..

سلمى 542.

شيماء بنت الحارث 531.

صفية بنت حيي بن أخطب ( زوجة النبي ) 394 ، 409 ، 410 ، 417.

صفية بنت عبد المطلب ( عمة النبي ) 183 ، 259.

عائشة بنت ابي بكر 112 ، 115 ، 117 ، 122 ، 315 ، 317 ، 318 ، 319 ، 320 ، 322 ، 607 ، 682 ، 683 ، 684.

عاتكة 488.

عاصية 544.

ص: 729

فاطمة بنت أسد 229.

فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه 94 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107 ، 108 ، 109 ، 110 ، 112 ، 113 ، 114 ، 115 ، 117 ، 118 ، 119 ، 120 ، 190 ، 422 ، 423 ، 424 ، 427 ، 457 ، 468 ، 497 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618 ، 678 ، 680 ، 682.

مارية القبطية ( زوجة النبي ) 315 ، 322 ، 542 ، 597.

مريم بنت عمران 120 ، 376 ، 442.

ميمونة ( زوجة النبي ) 436 ، 437 ، 675 ، 677.

نسيبة المازنية 165 ، 176.

هند بنت عتبة 63 ، 154 ، 174 ، 181 ، 182 ، 185 ، 188 ، 489 ، 507 ، 508.

ص: 730

(5) فهرس القبائل والامم

أذرح ( قبيلة ) 569.

أسد ( قبيلة ) 196 ، 472.

الاوس ( قبيلة ) 9 ، 18 ، 21 ، 22 ، 24 ، 26 ، 27 ، 30 ، 31 ، 32 ، 42 ، 55 ، 139 ، 146 ، 149 ، 154 ، 155 ، 209 ، 214 ، 228 ، 258 ، 281 ، 286 ، 289 ، 290.

أيلة ( قبيلة ) 292 ، 320 ، 321 ، 569 ، 578.

ثمالة ( قبيلة ) 532.

بنو اسرائيل 60 ، 62 ، 257 ، 294.

بنو أسد 197 ، 250.

بنو اشجع 250 ، 486.

بنو الأصفر 362 ، 555.

بنو أميّة 427 ، 428 ، 434.

بنو بكر 59 ، 131 ، 139 ، 465 ، 466.

بنو ثعلبة 24 ، 226.

بنو جذيمة 510 ، 511 ، 512.

بنو جشم 22 ، 24.

بنو الحارث 22 ، 24.

بنو الحجاج 65.

ص: 731

بنو حسن 427.

بنو خزاعة 193 ، 331 ، 341 ، 463 ، 464 ، 465 ، 481.

بنو الزهراء 427.

بنو زهرة 68.

بنو ساعدة 22 ، 24 ، 563 ، 674.

بنو سعد 529 ، 532.

بنو سلمة 73.

بنو الشطيبة 24.

بنو سليم 128 ، 250 ، 254 ، 303 ، 455 ، 456 ، 458 ، 472 ، 485 ، 517.

بنو شيبان 514.

بنو ضمرة 36 ، 41.

بنو عامر 203 ، 204 ، 205 ، 270 ، 349 ، 623.

بنو العاص 59.

بنو عبد الاشهل 186 ، 192.

بنو عبد الدار 153 ، 155 ، 156 ، 157.

بنو عبد المطلب 499 ، 646.

بنو عبد مناة 170.

بنو عدى 333.

بنو عمرو بن عوف 22.

بنو عوف 22 ، 24 ، 80.

بنو غسان 359 ، 553.

بنو غطفان 129 ، 211 ، 226 ، 250 ، 270 ، 272 ، 273 ، 274 ، 278 ، 301 ، 388 ، 389 ، 407 ، 560.

بنو غفار 138 ، 301 ، 394 ، 472 ، 476 ، 486.

بنو فزارة 250 ، 254 ، 256 ، 270 ، 272 ، 389.

ص: 732

بنو قريظة 21 ، 26 ، 27 ، 209 ، 211 ، 212 ، 230 ، 248 ، 252 ، 256 ، 258 ، 260 ، 261 ، 272 ، 273 ، 274 ، 275 ، 282 ، 283 ، 285 ، 286 ، 288 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 293 ، 294 ، 295 ، 296 ، 304 ، 321.

بنو قينقاع 21 ، 26 ، 27 ، 121 ، 122 ، 124 ، 125 ، 127 ، 209 ، 248 ، 281 ، 289 ، 292 ، 304 ، 386.

بنو كنانة 58 ، 137 ، 170 ، 263 ، 341 ، 463 ، 464 ، 465 ، 486.

بنو كعب 472.

بنو لحيان 299 ، 300 ، 304.

بنو ليث 486.

بنو مالك 321.

بنو مدلج 37 ، 41.

بنو المصطلق 304 ، 305 ، 311 ، 312 ، 314.

بنو مرة 250 ، 254.

بنو النبيت 22.

بنو النجار 22 ، 24 ، 389.

بنو النضير 21 ، 26 ، 27 ، 128 ، 132 ، 206 ، 207 ، 209 ، 210 ، 211 ، 214 ، 215 ، 247 ، 248 ، 281 ، 288 ، 289 ، 293 ، 304 ، 386 ، 410.

بنو مزينة 486.

الخزرج ( قبيلة ) 9 ، 18 ، 21 ، 27 ، 30 ، 31 ، 32 ، 42 ، 55 ، 139 ، 214 ، 245 ، 258 ، 279 ، 281 ، 289 ، 292 ، 302 ، 321 ، 387 ، 389 ، 497 ، 578.

بنو وائل 247.

جرباء ( قبيلة ) 569 ، 570.

تميم ( قبيلة ) 472 ، 560.

ثقيف ( قبيلة ) 11 ، 373 ، 374 ، 514 ، 515 ، 516 ، 519 ، 521 ، 524 ، 525 ،

ص: 733

526 ، 527 ، 532 ، 533 ، 582 ، 584 ، 585 ، 587.

جهينة ( قبيلة ) 472.

جذام ( قبيلة ) 553.

خزاعة ( قبيلة ) 139 ، 304 ، 327 ، 329 ، 464 ، 466 ، 467.

دوس ( قبيلة ) 523.

ربيعة ( كذاب ) 658.

سلمة ( قبيلة ) 532.

سويلم ( قبيلة ) 556.

طي ( قبيلة ) 544 ، 545 ، 547 ، 560.

لخم ( قبيلة ) 553.

فهم ( قبيلة ) 532.

قريش ( قبيلة ) 18 ، 22 ، 23 ، 24 ، 25 ، 27 ، 31 ، 36 ، 37 ، 38 ، 39 ، 40 ، 41 ، 42 ، 43 ، 44 ، 45 ، 46 ، 53 ، 54 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 61 ، 64 ، 66 ، 69 ، 71 ، 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 78 ، 80 ، 81 ، 87 ، 89 ، 90 ، 91 ، 92 ، 97 ، 121 ، 131 ، 133 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 146 ، 148 ، 149 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 ، 160 ، 165 ، 166 ، 169 ، 174 ، 181 ، 193 ، 194 ، 228 ، 231 ، 247 ، 248 ، 249 ، 250 ، 254 ، 256 ، 257 ، 258 ، 260 ، 262 ، 265 ، 270 ، 271 ، 272 ، 273 ، 274 ، 275 ، 285 ، 286 ، 304 ، 326 ، 327 ، 328 ، 330 ، 331 ، 332 ، 333 ، 334 ، 335 ، 336 ، 337 ، 339 ، 340 ، 341 ، 342 ، 345 ، 346 ، 347 ، 348 ، 349 ، 350 ، 352 ، 253 ، 356 ، 360 ، 371 ، 374 ، 383 ، 386 ، 387 ، 388 ، 408 ، 419 ، 420 ، 431 ، 432 ، 435 ، 436 ، 437 ، 439 ، 442 ، 443 ، 448 ، 453 ، 462 ، 463 ، 464 ، 465 ، 466 ، 469 ، 471 ، 472 ، 473 ، 474 ، 477 ، 480 ، 481 ، 482 ،

ص: 734

485 ، 488 ، 489 ، 491 ، 495 ، 501 ، 514 ، 526 ، 542 ، 616 ، 629 ، 657.

قيس ( قبيلة ) 472.

بنو هاشم 68 ، 80 ، 155 ، 232 ، 426 ، 427 ، 477 ، 478 ، 499 ، 646.

هوازن ( قبيلة ) 513 ، 514 ، 515 ، 516 ، 517 ، 519 ، 520 ، 529 ، 531 ، 532.

ولد اسماعيل 257 ، 325.

ص: 735

(6) الكنى والألقاب

« الكنى »

الرجال :

أبو الاسود الدؤلي 112.

أبو أيوب الأنصاري 118 ، 417.

أبو البائت 403.

أبو البحتري 88 ، 155.

أبو البراء العامري 202 ، 203 ، 204 ، 205.

أبو بكر بن أبي قحافة 60 ، 61 ، 94 ، 104 ، 330 ، 396 ، 398 ، 426 ، 427 ، 455 ، 456 ، 511 ، 512 ، 524 ، 563 ، 584 ، 591 ، 592 ، 594 ، 651 ، 652 ، 654 ، 660.

أبو بكر الجوهري 670.

أبو بكر بن حزم 55 ، 134.

أبو بصير 348 ، 349 ، 350.

أبو تراب 405.

أبو جعفر البصري 94.

أبو جعفر المنصور 427.

أبو جندل 342 ، 343 ، 344 ، 348.

أبو جهل 33 ، 34 ، 68 ، 69 ، 83 ، 88 ، 136 ، 173 ، 174 ، 263 ، 484 ، 544.

ص: 736

ابو جهم العبيدي 162.

ابو حاتم 224.

ابو حارثة 601 ، 602 ، 610 ، 680.

ابو الحسن 94 ، 104 ، 408.

ابو الخير الحاكمي 114.

ابو العقيق 394.

ابو حمراء بن سفيان 171.

ابو الخير 265.

أبو دجانة الانصاري 153 ، 154 ، 157 ، 165 ، 173 ، 179 ، 213.

ابو ذر الغفاري 486 ، 565 ، 567.

ابو رافع 89 ، 90 ، 115 ، 135 ، 170 ، 437.

ابو ريحة 489.

ابو سعيد بن خيثمة 148.

ابو سعيد السجستاني 652.

ابو سفيان بن الحارث 478 ، 518.

ابو سفيان 15 ، 36 ، 37 ، 53 ، 57 ، 61 ، 66 ، 68 ، 89 ، 90 ، 91 ، 128 ، 129 ، 131 ، 136 ، 138 ، 139 ، 149 ، 152 ، 153 ، 157 ، 162 ، 163 ، 164 ، 174 ، 180 ، 181 ، 192 ، 193 ، 200 ، 228 ، 229 ، 266 ، 273 ، 274 ، 275 ، 307 ، 333 ، 338 ، 360 ، 361 ، 362 ، 466 ، 467 ، 469 ، 472 ، 478 ، 479 ، 480 ، 481 ، 482 ، 483 ، 484 ، 485 ، 486 ، 487 ، 488 ، 489 ، 491 ، 492 ، 497 ، 498 ، 508 ، 514 ، 517 ، 518 ، 533 ، 544 ، 587 ، 644.

ابو سلمة 37 ، 197.

ابو الشعثاء بن سفيان 171.

ابو طالب 90 ، 333 ، 356 ، 442 ، 485 ، 492 ، 504.

ص: 737

ابو طلحة 118.

ابو العاص 82 ، 93 ، 94 ، 109 ، 118 ، 542.

ابو عامر 148 ، 154 ، 250 ، 578 ، 579.

ابو العباس السفاح 428.

ابو عبيدة الجراح 165 ، 169 ، 686.

ابو العرفان الحبان 653.

ابو عزيز 87.

ابو عزه الجمحي 82 ، 194.

ابو عمرة 115.

ابو العلاء الهمداني 652.

ابو الفضل 481 ، 488 ، 612.

ابو لبابة 55 ، 286 ، 287 ، 288.

ابو لهب 57 ، 89 ، 478.

ابو المفضل 621.

ابو موسى الاشعري 521.

ابو نائلة 133 ، 134 ، 135.

ابو واقد الليثي 486.

ابو الوليد 74 ، 76.

النساء :

ابنة حاتم الطائي 549.

أم أنس ( بن مالك ) 111.

أم أيمن 425 ، 426.

أم حبيبة 467.

أمّ سلمة 108 ، 117 ، 287 ، 278 ، 479 ، 480.

ص: 738

أمّ سليم بن ملحان 520.

أم عامر 173.

أمّ الفضل 89 ، 436.

أمّ كلثوم بنت رسول اللّه 597.

أمّ كلثوم بنت عقبة 350.

أم هاني 504.

« الألقاب »

الآلوسي 238 ، 241 ، 594.

ابن طاوس ( السيد ) 603 ، 606 ، 611 ، 621.

الافندي صاحب كشف الظنون 6.

الاميني 111 ، 120 ، 648 ، 653.

البحراني ( المحدث ) 323.

البخاري 318 ، 320 ، 321 ، 322.

البختري 80 ، 81.

البروجردي ( السيد ) 216.

الترمذي ( الحافظ ) 112.

التلعكبري 621.

الثعالبي 650.

الجزري الشافعي 652.

الحلبي 397 ، 426 ، 603.

الحموي ( الياقوت ) 601.

الحميدي 224.

الخجندي ( الحافظ ) 109.

الدولابي 107.

ص: 739

الدينارية ( المرأة ) 187.

الرضي ( السيد ) 72.

الزمخشري 605 ، 607.

السيوطي 6.

شرف الدين 671.

الطباطبائي ( العلاّمة ) 216 ، 243 ، 609.

الطبري 52 ، 60 ، 61 ، 71 ، 239 ، 337 ، 404 ، 652.

الطوسي ( الشيخ ) 7 ، 137 ، 611 ، 620 ، 621.

كعب الاحبار 683.

القندوزي 19.

العامري 349.

العاملي ( الحرّ ) 52 ، 138.

العراقي ( الحافظ ) 112.

العقاد ( عباس محمود ) 118.

المامقاني 621.

المجلسي ( العلاّمة ) 54 ، 73 ، 148 ، 157.

المسعودي 615.

المطهري ( الاستاذ ) 7.

المفيد ( الشيخ ) 155 ، 214 ، 290 ، 401 ، 455.

المقريزي 60 ، 131 ، 167 ، 214 ، 215 ، 254.

النجاشي 231 ، 298 ، 299 ، 375 ، 376 ، 377 ، 378 ، 380 ، 412 ، 442 ،

612.

النسائي 653.

الهيثمي 118.

ص: 740

الواقدي ( صاحب السيرة المتوفى 151 ) 7 ، 61 ، 63 ، 137 ، 138 ، 151 ، 162 ، 164 ، 165 ، 207 ، 263 ، 278 ، 286 ، 291 ، 374 ، 438 ، 561.

الواقدي ( صاحب الطبقات المتوفى 230 ) 7.

ص: 741

(7) فهرس الوقائع والايام

الاحزاب ( معركة ) 230 ، 231 ، 245 ، 261 ، 270 ، 271 ، 275 ، 276 ، 279 ، 282 ، 283 ، 285 ، 293 ، 296 ، 299 ، 522.

بيعة العقبة 45 ، 59 ، 506 ، 507.

بنو المصطلق ( غزوة ) 315 ، 321.

تبوك ( غزوة ) 404 ، 445 ، 554 ، 555 ، 558 ، 561 ، 565 ، 566 ، 569 ، 570 ، 572 ، 573 ، 575 ، 576 ، 579 ، 580 ، 581 ، 582 ، 613.

حجة الوداع ( البلاغ ) 619 ، 638 ، 656.

حمراء الاسد 192 ، 193 ، 194 ، 195.

الخندق ( معركة ) 251 ، 252 ، 253 ، 254 ، 255 ، 260 ، 261 ، 262 ، 263 ، 266 ، 268 ، 269 ، 270 ، 274 ، 275 ، 276 ، 290 ، 293 ، 295 ، 304 ، 387 ، 522.

خيبر 35 ، 121 ، 175 ، 213 ، 247 ، 270 ، 283 ، 296 ، 297 ، 386 ، 387 ، 388 ، 389 ، 391 ، 394 ، 396 ، 400 ، 402 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 408 ، 410 ، 411 ، 412 ، 413 ، 414.

ذات الرقاع ( غزوة ) 226.

ذات السلاسل ( سرية ) 416 ، 454.

صفين ( معركة ) 14 ، 15 ، 443.

قرقرة الكدر ( غزوة ) 128.

مؤتة ( معركة ) 439 ، 443 ، 449 ، 450 ، 468.

ص: 742

(8) فهرس الأماكن والبلدان

آسيا الصغرى 357 ، 364.

احد 90 ، 132 ، 135 ، 138 ، 139 ، 140 ، 145 ، 146 ، 147 ، 148 ، 149 ، 150 ، 151 ، 155 ، 158 ، 162 ، 163 ، 164 ، 165 ، 168 ، 171 ، 172 ، 173 ، 176 ، 177 ، 179 ، 181 ، 183 ، 184 ، 187 ، 188 ، 189 ، 190 ، 191 ، 194 ، 196 ، 203 ، 206 ، 228 ، 251 ، 254 ، 261 ، 265 ، 267 ، 293 ، 303 ، 345 ، 453 ، 493 ، 508 ، 578.

آديس آبابا 375.

الاردن 265.

الاسكندرية 360.

أبنى 661.

أوربا 357.

أوطاس 521.

إيران 132 ، 216 ، 266 ، 267 ، 281 ، 353 ، 356 ، 357 ، 358 ، 363 ، 364 ، 365 ، 444 ، 445 ، 642.

بئر معونة 203 ، 204 ، 563.

باريس 352.

البحر الأحمر 64 ، 67 ، 569 ، 615.

البحرين 356 ، 623.

ص: 743

بدر 32 ، 38 ، 43 ، 45 ، 53 ، 55 ، 56 ، 57 ، 63 ، 65 ، 66 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 80 ، 82 ، 84 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 92 ، 97 ، 121 ، 128 ، 143 ، 144 ، 149 ، 201 ، 228 ، 229 ، 269 ، 293 ، 303 ، 402 ، 472 ، 505 ، 542 ...

بصرى 359.

البصرة 414.

بغداد 113 ، 116 ، 164 ، 427.

البقيع 134 ، 135.

بكين ( عاصمة الصين ) 3.

بلجيكا 118.

البلقاء 553.

بيت اللّه الحرام 41 ، 49 ، 329 ، 339 ، 430 ، 438 ، 464 ، 492 ، 589 ، 631 ، 633.

بيت المقدس 42 ، 47 ، 48 ، 49 ، 50 ، 51 ، 347 ، 354 ، 361 ، 381 ، 582.

تبوك 552 ، 643 ، 660.

تهامة 509.

ثنية أذاخر 491.

ثنية المرة 17.

ثنية الوداع 301 ، 440 ، 554.

الجزيرة العربية 4 ، 18 ، 21 ، 41 ، 48 ، 49 ، 121 ، 217 ، 226 ، 250 ، 324 ، 341 ، 342 ، 345 ، 347 ، 353 ، 354 ، 360 ، 371 ، 372 ، 374 ، 387 ، 388 ، 434 ، 463 ، 478 ، 493 ، 503 ، 523 ، 527 ، 543 ، 544 ، 552 ، 559 ، 568 ، 578 ، 582 ، 589 ، 591 ، 593 ، 597 ، 622 ، 628 ، 642 ، 656.

الجحفة 327 ، 617 ، 647 ، 656.

ص: 744

الجرف 440 ، 558 ، 663 ، 664.

الجعرانة 528 ، 529 ، 532 ، 536 ، 537.

الجندل 570 ، 571 ، 572 ، 573.

الجولان 381.

الحبشة 137 ، 144 ، 156 ، 174 ، 298 ، 356 ، 375 ، 376 ، 378 ، 380 ، 381 ، 383 ، 388 ، 412 ، 442 ، 677.

الحجاز 42 ، 298 ، 300 ، 356 ، 358 ، 369 ، 438 ، 442 ، 505 ، 521 ، 525 ، 545 ، 547 ، 549 ، 552 ، 553 ، 558 ، 568 ، 569 ، 571 ، 572 ، 575 ، 601 ، 602 ، 619 ، 623 ، 624 ، 625 ، 629 ، 634 ، 651 ، 656 ، 659 ، 660 ، 674.

حجر 552.

الحجر الاسود 620.

الحديبية 118 ، 327 ، 344 ، 345 ، 346 ، 348 ، 350 ، 351 ، 352 ، 374 ، 388 ، 430 ، 462 ، 464 ، 483 ، 489.

حضرموت 656.

حراء ( غار ) 3.

حنين 516 ، 517 ، 520 ، 521 ، 522 ، 523 ، 525 ، 526 ، 528 ، 529 ، 532.

الحيرة 356.

خيبر 35 ، 393 ، 401.

دار الندوة 345.

دمشق 155 ، 156 ، 381.

ذو الحليفة 326 ، 629.

ذو طوى 490.

ص: 745

الربذة 566.

الرملة 661.

رابغ 646.

الرجيع 389 ، 393.

روضة الخاخ 473.

زمزم ( بئر ) 83 ، 494.

سطح ( قلعة ) 390.

سقيفة بني ساعدة 674.

سورية 569 ، 572 ، 573 ، 575 ، 661.

الشام 14 ، 15 ، 16 ، 37 ، 41 ، 47 ، 50 ، 53 ، 55 ، 56 ، 67 ، 68 ، 120 ، 125 ، 136 ، 139 ، 162 ، 165 ، 175 ، 213 ، 247 ، 300 ، 301 ، 338 ، 339 ، 350 ، 356 ، 358 ، 359 ، 360 ، 386 ، 423 ، 433 ، 439 ، 440 ، 444 ، 445 ، 464 ، 475 ، 548 ، 549 ، 552 ، 553 ، 566 ، 569 ، 570 ، 573 ، 578 ، 615 ، 643 ، 656 ، 660 ، 661.

الشق ( حصن ) 390 ، 407 ، 408.

الصفا ( جبل ) 434 ، 435 ، 630.

الصفراء 87.

صفين 14 ، 338.

الصين 126.

الطائف 38 ، 41 ، 44 ، 175 ، 519 ، 520 ، 522 ، 523 ، 524 ، 527 ، 528 ، 532 ، 540 ، 578 ، 583 ، 584 ، 587 ، 678.

طهران 7.

طيسفون 364.

الظهران 432 ، 480.

العراق 15 ، 125 ، 136 ، 357 ، 616 ، 674.

ص: 746

عرفات 629 ، 636.

عسفان 300.

عسقلان 616.

العقبة 573.

عكاظ ( سوق ) 231.

فدك 94 ، 246 ، 421 ، 424 ، 425 ، 426 ، 427 ، 428.

فرنسا 126.

فلسطين 642 ، 659.

القادسية 550.

القاهرة 241.

قبا 579 ، 616.

قسطنطنية 358 ، 359 ، 364 ، 553.

قم 131 ، 216.

القموص ( حصن ) 390 ، 394 ، 409.

الكديد 426.

كربلاء 423.

الكعبة المعظمة 47 ، 50 ، 51 ، 53 ، 201 ، 324 ، 434 ، 493 ، 494 ، 495 ، 497 ، 498 ، 499 ، 539 ، 589 ، 630.

الكوفة 426.

لبنان 7.

لندن 7.

المدائن 364.

المدينة 5 ، 6 ، 9 ، 10 ، 11 ، 12 ، 18 ، 21 ، 23 ، 24 ، 25 ، 26 ، 31 ، 32 ، 34 ، 36 ، 37 ، 39 ، 40 ، 42 ، 47 ، 48 ، 49 ، 51 ، 52 ، 54 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 77 ، 87 ، 88 ، 89 ، 91 ،

ص: 747

93 ، 121 ، 122 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 135 ، 136 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 144 ، 145 ، 146 ، 148 ، 150 ، 151 ، 154 ، 155 ، 156 ، 171 ، 174 ، 175 ، 176 ، 185 ، 186 ، 188 ، 189 ، 191 ، 192 ، 193 ، 196 ، 197 ، 199 ، 200 ، 201 ، 202 ، 203 ، 204 ، 205 ، 206 ، 207 ، 208 ، 211 ، 213 ، 227 ، 228 ، 246 ، 248 ، 250 ، 251 ، 254 ، 255 ، 256 ، 259 ، 260 ، 271 ، 272 ، 278 ، 279 ، 281 ، 282 ، 286 ، 288 ، 289 ، 292 ، 293 ، 296 ، 298 ، 300 ، 301 ، 302 ، 304 ، 306 ، 308 ، 313 ، 314 ، 315 ، 317 ، 318 ، 325 ، 327 ، 339 ، 344 ، 345 ، 348 ، 349 ، 350 ، 358 ، 372 ، 376 ، 379 ، 380 ، 381 ، 382 ، 383 ، 386 ، 387 ، 389 ، 410 ، 412 ، 418 ، 421 ، 424 ، 431 ، 435 ، 436 ، 438 ، 440 ، 446 ، 448 ، 450 ، 452 ، 453 ، 454 ، 455 ، 456 ، 458 ، 466 ، 467 ، 468 ، 473 ، 476 ، 477 ، 488 ، 492 ، 514 ، 522 ، 536 ، 537 ، 540 ، 542 ، 543 ، 545 ، 547 ، 549 ، 553 ، 554 ، 557 ، 558 ، 559 ، 560 ، 561 ، 562 ، 565 ، 568 ، 569 ، 572 ، 573 ، 575 ، 576 ، 578 ، 579 ، 581 ، 583 ، 584 ، 589 ، 592 ، 602 ، 605 ، 606 ، 610 ، 615 ، 616 ، 617 ، 619 ، 620 ، 623 ، 629 ، 643 ، 644 ، 646 ، 656 ، 660 ، 661 ، 664 ، 667 ، 674 ، 680 ، 681 ، 686.

المروة ( جبل ) 434 ، 435 ، 630.

المسجد الاقصى 113.

المسجد الحرام 47 ، 48 ، 50 ، 119 ، 325 ، 326 ، 434 ، 492 ، 493 ، 495 ، 496 ، 497 ، 628.

مسجد الأحزاب 457 ..

مسجد الشجرة 629.

ص: 748

مسجد ضرار 148 ، 569.

مسجد العريش 67.

مصر ( بلاط ) 339 ، 356 ، 358 ، 369 ، 370 ، 371 ، 373 ، 374 ، 377 ، 379 ، 442 ، 542 ، 615 ، 616 ، 647 ، 656 ، 674.

مكة المكرمة 3 ، 8 ، 9 ، 33 ، 34 ، 37 ، 38 ، 39 ، 40 ، 41 ، 44 ، 47 ، 49 ، 53 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 65 ، 67 ، 68 ، 81 ، 82 ، 88 ، 90 ، 91 ، 92 ، 121 ، 128 ، 133 ، 135 ، 136 ، 137 ، 140 ، 150 ، 174 ، 175 ، 180 ، 181 ، 191 ، 193 ، 194 ، 199 ، 200 ، 213 ، 228 ، 229 ، 231 ، 247 ، 248 ، 250 ، 257 ، 293 ، 300 ، 303 ، 307 ، 324 ، 325 ، 326 ، 327 ، 331 ، 332 ، 333 ، 334 ، 335 ، 339 ، 342 ، 343 ، 344 ، 345 ، 346 ، 348 ، 349 ، 352 ، 366 ، 419 ، 420 ، 429 ، 430 ، 431 ، 432 ، 433 ، 434 ، 436 ، 437 ، 438 ، 452 ، 464 ، 465 ، 467 ، 469 ، 470 ، 471 ، 472 ، 473 ، 474 ، 475 ، 477 ، 478 ، 479 ، 480 ، 481 ، 484 ، 485 ، 487 ، 488 ، 489 ، 490 ، 491 ، 492 ، 495 ، 496 ، 497 ، 500 ، 504 ، 505 ، 506 ، 507 ، 509 ، 513 ، 514 ، 516 ، 519 ، 521 ، 537 ، 538 ، 540 ، 542 ، 552 554 ، 560 ، 578 ، 588 ، 589 ، 591 ، 613 ، 614 ، 615 ، 616 ، 619 ، 620 ، 629 ، 630 ، 631 ، 632 ، 633 ، 646.

منى 620 ، 630 ، 634 ، 637.

ناعم ( حصن ) 390 ، 392 ، 394 ، 402.

نجد 203 ، 204 ، 250 ، 294 ، 383 ، 445 ، 548.

نجران 405 ، 578 ، 601 ، 602 ، 603 ، 604 ، 605.

النطاة ( حصن ) 407 ، 408 ، 606 ، 607 ، 610 ، 611 ، 612 ، 613 ، 614 ، 616 ، 617 ، 619 ، 620 ، 626 ، 633 ، 636.

الهند 111.

ص: 749

وادي الرمل 455.

وادي ذفران 57 ، 58.

وادي القرى 35 ، 121 ، 139 ، 386 ، 418 ، 421 ، 439.

وادي اليابس 454 ، 455 ، 456 ، 457.

يثرب 9 ، 17 ، 21 ، 22 ، 25 ، 27 ، 42 ، 66 ، 73 ، 121 ، 140 ، 209 ، 251 ، 247 ، 248.

اليرموك 381.

اليمامة 356 ، 384 ، 623 ، 657 ، 658.

اليمن 175 ، 335 ، 357 ، 366 ، 367 ، 368 ، 381 ، 382 ، 505 ، 509 ، 539 ، 549 ، 601 ، 613 ، 619 ، 623 ، 624 ، 625 ، 626 ، 632 ، 637 ، 643 ، 656 ، 659.

ص: 750

(9) فهرس المذاهب والأديان ونظم الحكم

الامامية ( الشيعة ) 172 ، 612 ، 660.

الروم ( الامبراطورية الرومية ) 21 ، 93 ، 356 ، 357 ، 358 ، 360 ، 361 ، 362 ، 363 ، 364 ، 369 ، 373 ، 376 ، 379 ، 381 ، 382 ، 387 ، 431 ، 444 ، 445 ، 446 ، 464 ، 552 ، 553 ، 554 ، 555 ، 568 ، 571 ، 572 ، 581 ، 582 ، 602 ، 632 ، 642.

الساسانيون 357 ، 364.

السنة ( أهل ) 172 ، 423 ، 659 ، 660 ، 661 ، 667.

الصابئون 550.

العباسيون 427 ، 428 ، 541.

الغساسنة 382 ، 383.

الفاطميون 118 ، 338 ، 427.

الفرس 93 ، 357 ، 358 ، 575 ، 643.

القياصرة ( الروم ) 643.

المستشرقون 42 ، 43 ، 46 ، 110 ، 147 ، 160 ، 203 ، 230 ، 238 ، 341 ، 353 ، 354 ، 356 ، 396 ، 411 ، 414 ، 478 ، 506 ، 588 ، 589.

النصارى ( المسيحيون ) 4 ، 28 ، 120 ، 239 ، 240 ، 304 ، 352 ، 364 ، 371 ، 380 ، 405 ، 415 ، 442 ، 547 ، 552 ، 559 ، 571 ، 578 ، 602 ، 603 ، 604 ، 606 ، 607 ، 610 ، 619 ، 629 ، 642 ، 643.

ص: 751

اليهود 18 ، 21 ، 22 ، 23 ، 24 ، 25 ، 26 ، 28 ، 29 ، 30 ، 31 ، 39 ، 43 ، 45 ، 47 ، 48 ، 49 ، 50 ، 82 ، 88 ، 121 ، 122 ، 123 ، 124 ، 125 ، 126 ، 132 ، 135 ، 139 ، 142 ، 145 ، 146 ، 206 ، 207 ، 208 ، 209 ، 210 ، 211 ، 212 ، 214 ، 215 ، 247 ، 249 ، 250 ، 252 ، 255 ، 257 ، 259 ، 260 ، 270 ، 272 ، 273 ، 282 ، 284 ، 285 ، 286 ، 287 ، 288 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 297 ، 298 ، 304 ، 321 ، 377 ، 387 ، 388 ، 389 ، 390 ، 391 ، 392 ، 393 ، 394 ، 395 ، 396 ، 398 ، 399 ، 400 ، 402 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 413 ، 414 ، 415 ، 416 ، 417 ، 418 ، 419 ، 421 ، 429 ، 438 ، 442 ، 523 ، 556 ، 578 ، 660.

ص: 752

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1 - مميزات النهضة الالهية وخصائصها 3

2 - دور المساجد في الاسلام 9

3 - خطأ المستشرقون في تفسير المناورات العسكرية 42

4 - كرامة علمية لرسول اللّه في مسألة القبلة 51

5 - اهمية الزواج في الاسلام ومشاكل الزواج المعاصرة وعلاجها 100

6 - المستشرقون والاساءة الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قصة زينب 237

7 - عالمية الرسالة المحمدية 354

8 - فدك وحكم الاراضي المفتوحة بلا قتال 422

9 - نوعية علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمغيبات 564

10 - مكافحة الاسلام للخرافة 599

11 - الخلافة من منظار السنة ، والشيعة 639

12 - الارتباط بالارواح في ضوء مكالمة أهل البقيع 665

ص: 753

(11) فهرس المصادر

1 - الآثار الباقية للبيروني

2 - الأبطال لتوماس كارلايل

3 - ابو طالب مؤمن قريش للخنيزي

4 - الإتحاف للشبراوي

5 - الاحتجاج للطبرسي

6 - إحياء العلوم للغزالي

7 - أخبار أصفهان لابي نعيم الاصفهاني

8 - الاخبار الطوال للدينوري

9 - الارشاد للمفيد

10 - إرشاد الساري للقسطلاني

11 - از پرويز تا جنكيز لتقي زاده

12 - الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي

13 - الاستيعاب لابن عبد البر

14 - اسد الغابة لابن الاثير الجزري

15 - الاسفار الاربعة لصدر الدين الشيرازي

16 - اسلام وجاهليت ( بالفارسية ) للنوري

17 - الاشارات والتنبيهات لابن سينا

18 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر

ص: 754

19 - أصالة روح ( بالفارسية ) لصاحب الدراسة

20 - الاصنام للكلبي

21 - اعلام النساء لكحالة

22 - إعلام الورى بأعلام الورى للطبرسي

23 - أعيان الشيعة للسيد محسن العاملي

24 - الأغاني للراغب الاصفهاني

25 - الاقبال لابن طاوس

26 - الامالي للطوسي

27 - الامالي للصدوق

28 - الامامة والسياسة لابن قتيبة

29 - إمتاع الاسماع للمقريزي

30 - الاحوال لابن سلام

31 - الانجيل

32 - أنيس الاعلام لفخر الاسلام

33 - اوائل المقالات للمفيد

34 - ايران در عهد ساسانيان ( بالفارسية ) ارتو كريستن سن

( ب )

35 - بحار الانوار للمجلسي

36 - البداية والنهاية لابن كثير

37 - برهان رسالة ( بالفارسية ) صاحب الدراسة

38 - بلوغ الادب في معرفة احوال العرب للآلوسي

( ت )

39 - التاج الجامع للاصول لناصف

40 - تاريخ اجتماعي ايران ( بالفارسية ) لجماعة من المؤلفين

41 - تاريخ الامم والملوك للطبري

ص: 755

42 - تاريخ بغداد للبغدادي

43 - تاريخ تمدن ايران در عهد ساسانيان ( بالفارسية ) لذبيح اللّه صفا

44 - تاريخ الخلفاء للسيوطي

45 - تاريخ الخميس للديار بكري

46 - تاريخ سني ملوك الارض والأنبياء لحمزة الاصفهاني

47 - تاريخ العرب لفيلب

48 - تاريخ علوم وادبيات در ايران ( بالفارسية ) لصفا

49 - تاريخ القرآن للزنجاني

50 - تاريخ اليعقوبي لليعقوبي

51 - تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام للصدر

52 - تحرير الاحكام للعلامة الحلي

53 - التحرير للنووي

54 - تحف العقول لابن شعبة الحراني

55 - تحفة الأجلة في معرفة القبلة للكابلي

56 - تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي

57 - التراتيب الدراية للكتاني

58 - الترغيب والترهيب للمنذري

59 - تفسير ابو الفتوح الرازي

60 - تفسير البرهان للبحراني

61 - تفسير التبيان للطوسي

62 - تفسير روح المعاني للآلوسي

63 - تفسير صحيح آيات مشكلة ( بالفارسية ) صاحب الدراسة

64 - تفسير الدر المنثور للسيوطي

65 - تفسير الطبري للطبري

66 - تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي

ص: 756

67 - تفسير الكشاف للزمخشري

68 - تفسير العياشي للعياشي

69 - تفسير فرات الكوفي لفرات الكوفي

70 - تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب

71 - تفسير القرطبي للقرطبي

72 - تفسير القمي للقمي

73 - تفسير مجمع البيان للطبرسي

74 - تفسير المنار لعبده - رشيد رضا

75 - تفسير الميزان للطباطبائي

76 - تفسير نور الثقلين للحويزي

77 - التقريب للحافظ العراقي

78 - تقييد العلم للبغدادي

79 - التنبيه والاشراف للمسعودي

80 - تنقيح المقال للمامقاني

81 - التوراة

82 - تهذيب الاصول لصاحب الدراسة

83 - تهذيب الاسماء واللغات للنووي

84 - تهذيب التهذيب للعسقلاني

( ث )

85 - ثمار القلوب للثعالبي

( ج )

86 - جغرافياى كشورهاى اسلامي ( بالفارسية ) الفقيهي

87 - جمهرة خطب العرب لصفوة

88 - جهان بيني اسلامي ( بالفارسية ) للشهيد المطهري

ص: 757

( ح )

89 - حجة الذاهب الى ايمان ابي طالب لفخار بن معد

90 - حلية الاولياء لابي نعيم الاصفهاني

91 - حياة محمد لهيكل

( خ )

92 - الخرائج والجرائح للراوندي

93 - الخصائص للنسائي

94 - الخصال للصدوق

( د )

95 - دائرة المعارف وجدي

96 - در مكتب وحي لصاحب الدراسة

97 - الدرجات الرفيعة للسيد علي خان المدني

98 - الذريعة الى تصانيف الشيعة لآغا بزرك الطهراني

99 - ديوان أبي طالب

( ذ )

100 - ذخائر العقبى للطبري

( ر )

101 - بزرك رسالت ( بالفارسية ) لصاحب الدراسة

102 - رجال الشيخ الطوسي

103 - الروض الانف للسهيلي

104 - روضة الكافي للكليني

105 - روضة المتقين للمجلسي

106 - الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري

( ز )

107 - زاد المعاد لابن القيم

ص: 758

( س )

108 - سفينة البحار للقمي

109 - السقيفة ( كتاب ) لابي بكر الجوهري

110 - سنن البيهقي للبيهقي

111 - سيرة الملائي لعمر بن محمد

112 - السيرة النبوية لابن هشام

113 - السيرة النبوية لدحلان

114 - السيرة الحلبية للحلبي

( ش )

115 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

(ص)

116 - صحيح البخاري / للبخاري

117 - صحيح الترمذي / للترمذي

118 - صحيح مسلم / ل مسلم

119 - الصحيفة السجادية / للامام السجاد (عليه السلام)

120 - الصواعق المحرقة / للهيثمي

( ط )

121 - الطبقات الكبرى لابن سعد

(ع)

122 - عبقات الانوار لمير حامد

123 - عدة الاصول للطوسي

124 - العقد الفريد لابن عبد ربه

125 - علل الشرائع للصدوق

126 - عمدة الطالب لابن المهنا

127 - عيون اخبار الرضا للصدوق

ص: 759

128 - عيون الاثر لابن سيد الناس

129 - عيون المجالس

( غ )

130 - الغارات للثقفي

131 - الغدير للاميني

( ف )

132 - فتوح البلدان للبلاذري

133 - فتوح الشام للواقدي

134 - فرائد السمطين للجويني

135 - الفصول المهمة لابن الصباغ

136 - الفهرست للنجاشي

137 - الفهرست لابن النديم

( ق )

138 - القاموس المحيط للفيروزآبادي

139 - قرب الاسناد للحميرى

140 - قرة العيون المبصرة للحنفي

( ك )

141 - الكامل في التاريخ لابن الاثير

142 - الكافي اصولا وفروعا للكليني

143 - كشف الظنون لخليفة

144 - كشف الغمة للاربلي

145 - كشف المراد للعلاّمة الحلي

146 - كشف اليقين للعلاّمة الحلي

147 - كفاية الطالب للكنجي

ص: 760

149 - كنز الفوائد للكراجكي

150 - كنوز الحقائق للمناوي

151 - كنوز الدقائق للمناوي

( ل )

152 - اللئالى المصنوعة للسيوطي

153 - لسان الميزان لابن حجر

154 - اللوامع الالهية للفاضل المقداد

( م )

155 - ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي

156 - المباهلة ( كتاب ) لابي المفضل الشيباني

157 - المبدأ والمعاد للملا صدرا

158 - المحجة البيضاء للفيض

159 - مجالس ابن الشيخ للطوسي

160 - المجالس للمفيد

161 - المحاسن والمساوى للبيهقي

162 - المحبّر لمحمد بن حبيب

163 - مروج الذهب للمسعودي

164 - المراجعات لشرف الدين

165 - المسند لابن حنبل

166 - المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري

167 - مصباح الظلام للدمياطي

168 - مصباح المتهجد للطوسي

169 - معالم العترة للجنابذي

170 - معجم البلدان للحموي

171 - المفصل في تاريخ العرب للدكتور جواد علي

ص: 761

172 - مقتل الخوارزمي للخوارزمي

173 - المغازي للواقدي

174 - مفاهيم القرآن لصاحب الدراسة

175 - مقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهانى

176 - مقدمة ابن خلدون

177 - مكاتيب الرسول للأحمدي

178 - مكارم الاخلاق للطبرسي

179 - الملل والنحل للشهرستاني

180 - من لا يحضره الفقيه للصدوق

181 - مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب

181 - المناقب للخوارزمي

182 - مناهل العرفان للزرقاني

183 - المنتقى لابن تيمية

184 - منهاج السنة لابن تيمية

185 - المواهب اللدنية للقسطلاني

186 - المواقف للايجي

187 - الموسوعة العربية الميسرة لجماعة من المؤلفين

188 - ميزان الاعتدال للذهبي

( ن )

189 - ناسخ التواريخ لسپهر

190 - نزهة المجالس للصفوري

191 - النص والاجتهاد للسيد شرف الدين

192 - النهاية لابن الاثير

193 - نهج البلاغة للشريف الرضي

194 - نور الابصار للشبلنجيّ

ص: 762

( و )

195 - الوثائق السياسية للبروفيسور حميد اللّه

196 - وسائل الشيعة للحر العاملي

197 - فاء الوفاء للسمهودي

198 - وفيات الأعيان لابن خلكان

199 - وقعة صفين لابن مزاحم

200 - الولاية في طرق حديث الغدير للطبري

( ه- )

201 - الهدى الى دين المصطفى للبلاغي

( ي )

202 - ينابيع المودة للقندوزي

ص: 763

(12) فهرس المواضيع

26 - أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

وقائع السنة الاولى من الهجرة

9 - 32

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم ... 9

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ ... 12

ضئر أرأف من والدة ... 16

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان ... 18

منقبتان عظيمتان ... 19

منقبة أخرى لعليّ علیه السلام ... 20

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب ... 21

أعظم معاهدة تاريخية ... 22

ممارسات اليهود الإجهاضية ... 27

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية ... 29

27 - مناورات عسكرية واستعراضات حربية

وقائع السنة الثانية من الهجرة

33 - 46

تهديد خطوط قريش التجارية ... 34

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يلاحق قريشا بنفسه ... 36

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية ... 41

ص: 764

نظرية المستشرقين حول هذه المناورات ... 42

28 - تحويل القبلة

من بيت المقدس الى الكعبة

47 - 52

كرامة علمية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 51

29 - معركة بدر

53 - 99

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران ... 55

المشكلة التي كانت تواجهها قريش ... 58

النبيّ يعقد شورى عسكرية ... 59

إخفاء الحقائق وكتمانها ... 60

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار ... 62

تحصيل المعلومات حول العدوّ... 63

كيف هرب أبو سفيان ... 66

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش ... 68

إختلاف قريش في القتال ... 68

« العريش » أو غرفة القيادة ... 70

نظرة الى مسألة العريش ... 70

تحرك قريش باتجاه بدر ... 72

قريش تتشاور في القتال ... 72

اختلاف قادة قريش في امر القتال ... 74

ما الذي حتّم القتال؟ ... 75

المبارزات الفردية أولا ... 76

أي القولين هو الأصح حول المبارزين؟ ... 77

الهجوم العامّ ... 78

ص: 765

رعاية الحقوق ... 80

مصرع أميّة بن خلف ... 80

خسائر بدر في الأرواح والاموال ... 81

ما أنتم باسمع منهم ... 82

الشعر يخلّد هذه القصة ... 83

بعد معركة بدر ... 85

قتل أسيرين في اثناء الطريق ... 87

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم ... 88

بشائر النبي الى المدينة ... 88

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر ... 89

المنع من النوح والبكاء في مكة ... 90

القرار الأخير حول مصير الاسارى ... 91

رسول الاسلام ومكافحة الامية ... 93

كلام لابن أبي الحديد في المقام ... 94

القرآن يتحدث عن بدر ... 95

30 - زواج سيدة النساء

100 - 120

مشاكل الزواج في العصر الحاضر ... 101

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا ... 102

جهاز فاطمة ... 105

مراسم الزواج تقام ببساطة ... 107

31 - جرائم بني قينقاع ( اليهود )

121 - 131

لهيب الحرب يبدأ من شرارة ... 123

تقارير جديدة تصل الى المدينة ... 127

ص: 766

غزوات في هذه السنة ... 127

1 - غزوة قرقرة الكدر ... 128

2 - غزوة السويق ... 128

3 - غزوة ذي أمر ... 129

قريش تغيّر مسير تجارتها ... 131

32 - الدفاع عن الحرية ( أو معركة احد )

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

132 - 195

سرية محمّد بن مسلمة لاغتيال كعب بن الأشرف ... 132

اغتيال مفسد آخر ... 135

قريش تتكفل نفقات الحرب ... 135

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ ... 137

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة ... 138

منطقة احد ... 139

المشاورة في كيفية الدفاع ... 140

الاقتراع من أجل الشهادة ... 142

حصيلة الشورى ... 144

النبيّ يخرج من المدينة ... 145

جنديان فدائيان ... 146

العسكران يصطفّان ... 150

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم ... 151

العدوّ ينظّم صفوفه ... 152

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس ... 153

القتال يبدأ ... 154

المقاتلون بدافع الشهوة ... 157

ص: 767

الهزيمة بعد الانتصار ... 158

شائعة مقتل النبيّ ... 160

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض ... 161

القرآن يكشف عن بعض الحقائق ... 162

التجارب المرة ... 164

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ ... 165

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد ... 169

حمزة بن عبد المطلب ... 173

العدوّ يحاول استغلال الفرصة ... 179

نهاية المعركة ... 181

آخر ما نطق به سعد بن الربيع ... 184

النبيّ يعود الى المدينة ... 185

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة ... 187

نموذج آخر من النسوة المجاهدات ... 187

لا بدّ من ملاحقة العدو ... 190

حمراء الأسد ... 192

لا يخدع مؤمن مرّتين ... 194

ميلاد الامام الحسن السبط ... 195

33 - فاجعة فريق المبلّغين

196 - 205

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين ... 197

الغدر بالدعاة الى الإسلام وقتلهم ... 198

دور حزب النفاق أيضا ... 201

جريمة بئر معونة ... 202

ص: 768

كيد المستشرقين ... 203

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ... 204

34 - غزوة بني النضير

206 - 215

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة ... 208

المستشرقون ودموع التماسيح ... 210

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط ... 213

35 - تحريم الخمر

غزوة ذات الرقاع ، غزوة بدر الصغرى

216 - 229

1 - تحريم الخمر ... 216

وقفة عند « البيان الشافي » في الخمر ... 220

رواية مختلقة ... 221

2 - غزوة ذات الرقاع ... 225

مواقف خالدة في هذه الغزوة ... 227

الحرّاس الصامدون ... 227

3 - غزوة بدر الثانية ... 228

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه ... 229

36 - من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

230 - 245

زواج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمطلقة دعيّه زيد ... 230

من هو زيد بن حارثة ... 231

زيد يتزوج ببنت عمة النبي ( زينب بنت جحش ) ... 232

زيد يطلّق زوجته زينب ... 233

ص: 769

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية ... 234

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب ... 237

توضيح الحقيقة وردّ الشبهة ... 239

37 - غزوة الأحزاب

بعض غزوات السنة الخامسة

246 - 280

1 - غزوة دومة الجندل ... 246

2 - غزوة الخندق ( الأحزاب ) ... 247

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة ... 250

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان ... 253

مقاتلوا العرب واليهود يحاصرون المدينة ... 254

العدد الدقيق لقوات الطرفين ... 254

خطر البرد ، وتناقص الغذاء والعلف ... 255

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد ... 258

تجاوزات بني قريظة الاولية ... 259

الإيمان في مواجهة الكفر ... 260

أبطال من العرب يعبرون الخندق ... 262

تصاول البطلين ... 266

ضربة عليّ (عليه السلام) لعمرو وقيمة هذه الضربة ... 267

لما ذا التنكر لهذا الموقف؟ ... 267

مروءة عليّ علیه السلام وشهامته ... 269

جيش العرب يتفرق في موقفه ... 270

العوامل التي فرقت كلمة الاحزاب ... 272

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة ... 274

آخر العوامل لهزيمة الكفار ... 275

ص: 770

القرآن الكريم ومعركة الاحزاب ... 276

38 - سقوط آخر اوكار الفساد والمؤامرة

281 - 295

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة ... 282

اليهود يتشاورون حول الموقف ... 283

خيانة أبي لبابة ... 286

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟ ... 288

حكم سعد في بني قريظة وتقييم ما استند إليه ... 290

39 - أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة

حوادث السنة السادسة من الهجرة

296 - 302

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة ... 298

الوقاية من تكرار التجارب المرة ... 299

النذر غير المشروع ... 302

40 - تمرّد بني المصطلق

303 - 312

غزوة بني المصطلق ... 304

منافق حاول إشعال الموقف ... 306

صراع بين الايمان والعاطفة ... 309

41 - قصة الإفك

313 - 323

الفاسق يفتضح ... 313

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب ... 314

أبرز النقاط في آيات الإفك ... 317

الزوائد في هذه القصة ... 318

ص: 771

1 - منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلی اللّه علیه و آله ... 318

2 - سعد بن معاذ توفي قبل حادثة الإفك ... 320

42 - رحلة سياسية دينيّة

324 - 351

مندوبو قريش عند النبي صلی اللّه علیه و آله ... 328

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش ... 331

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش ... 332

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه ... 335

التاريخ يعيد نفسه ... 337

نصّ صلح الحديبية ... 339

نشيد الحرية ... 340

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح ... 341

والقصّة التالية تشهد بما نقول ... 342

تقييم عاجل لصلح الحديبية ... 344

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة ... 348

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش ... 350

43 - النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

حوادث السنة السابعة من الهجرة

352 - 385

الرسالة المحمّدية كانت عالمية ... 354

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية ... 355

رسل الاسلام الى المناطق النائية ... 356

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية ... 357

رسول النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الروم ... 358

ص: 772

قيصر يحقّق حول النبي ... 360

أثر رسالة النبي إلى قيصر ... 363

سفير النبيّ في البلاط الإيراني ... 363

نظرية اليعقوبي ... 366

سفير النبيّ في أرض مصر ... 369

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ ... 372

سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أرض الذكريات « الحبشة » ... 375

محاورة سفير النبيّ وحاكم الحبشة ... 377

تقييم سريع لمراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله قادة العالم ... 378

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة ( بالشام ) ... 381

سادس السفراء في أرض اليمن ... 383

رسائل اخرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 385

44 - قلعة خيبر أو بؤرة الخطر

386 - 420

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا ... 390

متاريس اليهود تتهاوى ... 392

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة ... 394

فتح الحصون الواحد تلو الآخر ... 396

الانتصار الكبير في خيبر ... 399

تحريف الحقائق ... 401

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي علیه السلام ... 404

عوامل الانتصار ... 405

1 - التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق ... 406

2 - تحصيل المعلومات حول العدوّ ... 407

3 - تفاني امير المؤمنين ... 408

ص: 773

الرحمة في ساحة القتال ... 409

مصرع كنانة بن الربيع ... 410

تقسيم غنائم الحرب ... 410

قافلة من أرض الذكريات ( الحبشة ) ... 412

حجم الخسائر وعدد القتلى ... 413

العفو بعد الانتصار ... 413

سلوك اليهود المتعجرف ... 416

حيلة مجازة ... 419

45 - قصة فدك

421 - 429

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال ... 422

قصة فدك بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 425

فدك في محكمة التاريخ ... 428

السيطرة على وادي القرى ... 429

46 - عمرة القضاء

430 - 437

النبي يدخل مكة ... 433

النبي يغادر مكة ... 436

47 - معركة مؤتة

السنة الثامنة من الهجرة

438 - 451

حادثة أفجع من سابقتها ... 439

خلاف حول من هو الامير الاول ... 441

جيشا الروم والاسلام يتواجهان ... 444

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة ... 447

ص: 774

الجنود المسلمون يعودون الى المدينة ... 448

اسطورة بدل التاريخ الصحيح ... 449

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر ... 450

48 - غزوة ذات السلاسل

452 - 461

تفاصيل هذه الغزوة ... 454

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية ... 457

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة ... 457

اعتراض وجواب ... 459

49 - فتح مكة

462 - 512

تفاصيل فتح مكّة ... 463

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ ... 466

جاسوس يكتشف ... 469

النبي يتحرك باتجاه مكة ... 475

العفو عند المقدرة ... 477

تكتيك رائع لجيش الاسلامي ... 480

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي ... 482

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 483

مكة تستسلم من دون إراقة دماء ... 485

أبو سفيان يرجع إلى مكة ... 488

القوات الاسلامية تدخل مكة ... 490

كسر الاصنام وغسل الكعبة... 492

عليّ علیه السلام على كتف النبيّ ... 494

النبي يعلن عن العفو العام ... 497

ص: 775

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة ... 497

النبي يتحدث إلى أقاربه ... 499

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام ... 500

التفاخر بالنسب ... 501

التفاضل بالقومية ... 501

لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض ... 502

الحروب الطويلة والاحقاد القديمة ... 502

الاخوة الاسلامية ... 503

معاقبة المجرمين ... 504

قصّة عكرمة وصفوان ... 505

مبايعة النبي نساء مكة ... 506

هدم بيوت الاصنام بمكة وما حولها ... 509

جرائم اخرى لخالد ... 511

50 - معركة حنين

513 - 520

جيش قليل النظير ... 514

تحصيل المعلومات العسكرية ... 514

تجهيزات المسلمين ... 516

استقامة النبي ومن ثبت من أصحابه ... 517

لقطتان من الخلق النبوي العظيم ... 519

51 - غزوة الطائف

521 - 536

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق ... 523

ضغوط اقتصادية ونفسية ... 524

آخر محاولة لفتح حصن الطائف ... 526

ص: 776

جيش الاسلام يعود الى المدينة ... 526

حوادث ما بعد الحرب ... 528

اسلام مالك بن عوف ... 532

تقسيم الغنائم ... 533

رسول اللّه يعتمر ... 536

52 - لامية كعب بن زهير المعروفة

537 - 542

حزن قارن فرحا ... 542

53 - عليّ بن أبي طالب في أرض طيّ

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

543 - 551

إسلام عديّ بن حاتم الطائي ... 543

هدم بيوت الاصنام ... 546

علي في أرض طيّ ... 547

54 - غزوة تبوك

552 - 580

تعبئة المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب ... 553

المتخلّفون عن القتال ... 554

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة ... 555

عدم مشاركة « عليّ » في غزوة تبوك ... 557

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك ... 559

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعرض جيشه ... 560

قصة مالك بن قيس ... 561

مصاعب الطريق ... 562

تعليمات احتياطيّة ... 563

ص: 777

علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمغيبات واخباره بها ... 564

جيش الإسلام في أرض تبوك ... 568

بعث خالد إلى دومة الجندل ... 570

تقييم إجمالي لغزوة تبوك ... 572

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي ... 573

النية تقوم مقام العمل ... 574

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ ... 576

قصة مسجد الضّرار ... 578

55 - وفد ثقيف في المدينة

581 - 587

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف ... 582

شروط وفد ثقيف ... 584

56 - إعلان البراءة من المشركين في منى

588 - 595

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث ... 593

57 - في رثاء الولد العزيز

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

596 - 600

اعتراض غير وجيه ... 598

مكافحة الخرافات ... 599

58 - وفد نجران في المدينة

601 - 609

مفاوضات وفد نجران مع النبي ... 603

خروج النبي للمباهلة ... 605

انصراف وفد نجران عن المباهلة ... 607

ص: 778

صورة العهد النبويّ لأهل نجران ... 607

اكبر فضيلة ... 608

59 - تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

610 - 621

عام المباهلة حسب المشهور ... 611

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة ... 611

رأينا حول عام المباهلة ... 612

زمن المباهلة يوما وشهرا ... 614

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟ ... 619

60 - تقييم البراءة من المشركين

وفود القبائل في المدينة

622 - 627

محاولة اغتيال النبي ... 623

أمير المؤمنين في ربوع اليمن ... 624

61 - حجة الوداع

628 - 638

الامام علي (عليه السلام) يعود من اليمن ... 631

مراسم الحج تبدأ ... 633

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع ... 634

62 - إكمال الدين الاسلامي بتعيين الخليفة

639 - 655

اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة ... 641

الوقائع التاريخية تؤيد المحاسبات ... 645

النبوة والامامة توأمان ... 645

قصة الغدير ... 646

ص: 779

واقعة الغدير خالدة الى الأبد ... 649

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير ... 651

63 - المتنبئون كذبا

التفكير في أمر الروم

656 - 666

لمحة عن مسيلمة الكذاب ... 658

التفكير في أمر الروم ... 659

الاعذار غير المقبولة ... 664

الاستغفار لأهل البقيع ... 665

64 - الكتاب الذي لم يكتب

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

667 - 679

ايتوني بقلم وقرطاس ... 668

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟ ... 672

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟ ... 674

ملافاة الأمر وتداركه ... 675

تقسيم الدنانير ... 677

غضب النبي من الدواء الذي سقي ... 677

وداع النبي مع أهله ... 677

65 - اللحظات الأخيرة

680 - 687

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء ... 681

وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله قبيل رحيله ... 683

يوم الوفاة ... 685

الفهارس ... 689

ص: 780

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.