بحوث في الفقه المعاصر

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن الجواهري

الناشر: دار الذخائر

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

الصفحات: 443

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بحوث في الفقه المعاصر

الجزء الأول

تأليف: حسن الجواهري

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

تصنيف الكونجرس: BP183/5/ج 9ب 3 1377

تصنيف ديوي: 297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 78-24055

ص: 1

المجلد 1

اشارة

دار الذخائر

بيروت - لبنان

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة

الطبعة الأولی

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

اشارة

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

وبعد : فقد اجتمعت لدي أبحاث فقهية كنتُ قد اشتركتُ فيها بدعوة من الأمين العام لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة ما بين 1412 ه. ق - 1418 ه. ق ( في جدة وبروناي وأبي ظبي ) ، كما قد كتبتُ ابحاثاً أخرى معاصرة للمشاركة في مجمع الفقه الإسلامي في الهند وفي الندوة الفقهية الطبية التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الدار البيضاء بالمملكة المغربية ، فكان من هذا وذاك وهذه ثروة فقهية أحببت أن يطّلع عليها الجيل المتعطش لمسائل الفقه المعاصر في الحوزات العلمية فكانت النتيجة هذين الجزئين من الابحاث الفقهية المعاصرة ، والمهم في الأمر الذي اُريد أن أنبّه عليه هو :

إنَّ أكثر هذه الأبحاث بما أنها جديدة العرض على الساحة الفقهية لم يتعرض لها أكثر فقهائنا العظام بالبحث الاستدلالي المعمّق ، ولهذا السبب اُنبّه على عدم سماحي للمؤمنين بالعمل بهذه النتائج التي انتهيت إليها في هذا الكتاب الاستدلالي لأنَّه لم يك كتاب فتوى ويجب عليهم الرجوع إلى مراجع الامة في العمل بفتاواهم ، وتبقى هذه الأبحاث الاستدلالية قابلة للمناقشة فقهياً من قبل علماء الإسلام.

كما أرجو من الإخوة العلماء الذين يجدون نقصاً في هذا الكتاب مراجعتي لإصلاحه ، فانَّ العصمة لأهلها.

ص: 5

ولا أنسى أن ارفع الثواب الذي ارتجيه من اللّه سبحانه وتعالى إلى سماحة والدي « آية اللّه الشيخ محمد تقي الجواهري » الذي اهتم وأكبّ على أن اسلك طريقته المثلى ، في طلب علوم أهل البيت ، فرج اللّه عنه وعن جميع المؤمنين ، والحمد لله أولا وآخراً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

23 / محرم الحرام / 1419 ه. ق

المؤلف

ص: 6

ملحوظة

في المؤتمر التاسع لمجمع الفقه الإسلامي ( جده ) المنعقد في أبو ظبي من 1 - 6 ذي القعدة سنة 1415 ه ق 1 - 6 أبريل سنة 1995 م وفي اليوم الأخير بالذات ، وعند بعض المداخلات التي كنت أخوضها مع الإخوة المشاركين من الأعضاء والخبراء ، كنت مسترسلاً في حديثي وكنت اُكرر كلمة « الشارع المقدس » لما يقتضيه الموضوع الفقهي من تكرار ، وفجأة قاطعني رئيس المؤتمر الدكتور « بكر بن عبداللّه ابو زيد » بقوله : « شيخ حسن ، فقلت : نعم ، فقال : اترك كلمة المقدّس واكتف بقولك الشارع » وطلب مني الاستمرار في الحديث.

وبالفعل استمر حديثي ولكن بما أن طبيعتي في الحديث وفي كل تدريسي وصف الشارع بالتقديس ، فكنت حينما تأتي كلمة الشارع اردفها بقولي : « المقدس » ثم التفت الى طلب الرئيس مني ترك كلمة « المقدس » بعد فوات الأوان حتى انتهت المداخلة التي كنت في بيانها.

ثم التفت إليّ الرئيس وقال : « يا شيخ حسن هل تعلم لماذا طلبتُ منك ان تترك كلمة المقدس ؟

قلت : كلا ، وانا متعجب من طلبك هذا ! فإن أقدس شيء عندنا هو المشرع العظيم.

قال : انكم ( يقصد الشيعة الإمامية ) تعتقدون بأنَّ المشرع هم فقط الأئمة من أهل البيت.

فقلت له : وهذا خطأ فظيع ، فاننا نعتقد أن المشرع هو اللّه سبحانه وتعالى ورسوله الذي ذكره اللّه تعالى في كتابه فقال : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .

فقال الرئيس : « وبصورة متشنجة » : لا ... انكم تعتقدون بان الأئمة هم المشرعون فقط ، أتريد أن اذكر لك الكتاب الذي يذكر ذلك ؟!

فاجبتُه : أن لي كتاباً طبع قبل سنين بيّنت فيه ان ما

ص: 7

يقوله الأئمة علیهم السلام ليس أكثر من كونه حكماً عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، وأن التشريع قد انتهى في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله ينصّ القرآن الكريم ، وهذا شيءٌ ضروري فكيف يخفى على أحدٍ ؟! على أن الكتاب الذي يذكر ذلك - إن كان - فهو ليس بحجة عليّ ، أنا اتكلم عن الرأي الذي ارتأي صحته تبعاً للدليل ». ثم اخذ الرئيس في الكلام وأخذتُ في الردّ حتى تشنج الموقف ، وطلب مني الأعضاء والخبراء قطع الكلام لما فيه من خروج عن الموضوع فقطعت الكلام استجابة للطلب. ثم إن الشيخ محمد علي التسخيري حفظه اللّه ... كان هو العضو الرسمي الذي يمثل الجمهورية الإسلامية في المؤتمر ، قد أخذ وقتاً سابقاً للكلام والمداخلة فلما أن جاء دوره تكلم في مداخلته ، ثم عرج على نقطة « الشارع المقدس » فلم يسمح له الرئيس بالتعريج عليها ، الا أن الشيخ التسخيري قال له بالحرف الواحد « اتحداك ايها الرئيس أن تثبت أن الشيعة الإمامية يقولون بأن المشرع هو الأئمة فقط ». وهنا ساد الوجوم على المؤتمر ولم يعقب الرئيس ولا غيرهُ ولا انا بشيء.

وبعد هذه القصة : صممتُ على أن اُبيّن الحقيقة التي عليها الشيعة الإمامية ، فلعل هناك جمعاً كبيراً يعتقدون هذا الاعتقاد الخاطيء ، ولهذا عندما دعيت للمشاركة في مؤتمر « الوحدة الإسلامية » الثامن في سنة 1373 ه ش في طهران ، كتبتُ لهم هذا الموضوع ( الأئمة علیهم السلام ودورهم في حفظ السنّة النبوية ) وارسلتُ نسخة منه الى رئيس مجمع الفقه الإسلامي ( جده ) للاطلاع عليه.

وهذه القصه هي السبب الذي دعاني أن اضع هذا البحث في مقدمة كتاب « بحوث في الفقه المعاصر » وان لم يكن هذا البحث بحثاً فقهياً بالمعنى المصطلح للبحث الفقهي.

المؤلف

ص: 8

الائمة عليهم السلام ودورهم في حفظ السنة النبوية

اشارة

ص: 9

ص: 10

1 - السنة النبوية

تمهيد :

بعد أن ثبت ان القرآن الكريم قد جُمع وكُتب على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما روى ذلك عدّة من المسلمين منهم : ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن حبّان والحاكم والبيهقي والضياء المقدسي عن ابن عباس ، وروى ذلك الطبراني وابن عساكر عن الشعبي ، كما رواه قتادة عن أنس بن مالك ، وأخرج ذلك النسائي بسند صحيح عن عبداللّه بن عمر (1). وهناك عدّة أدلّة اُخرى ذُكرت لذلك تُورث القطع بأنَّ القرآن قد جمع في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحيث اُطلق عليه اسم الكتاب كما ورد ذلك عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين « ... إني تاركٌ فيكم الثقلين ؛ كتاب اللّه وعترتي ... ». والكتاب لا يطلق إلاّ على ما كان محفوظاً بين الدفتين ، ويكفيك التحدّي الذي كان في زمان الرسول صلی اللّه علیه و آله من قبل القرآن نفسه في الإتيان بمثله ، ولا يصح التّحدي إلاّ أن يكون القرآن مجموعاً متميّزاً في زمانه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 11


1- الروايات في كتاب البيان في تفسير القرآن للامام الخوئي : ص 258 وما بعدها.

قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (1).

أقول : بعد ان ثبت ان القرآن قد جمع في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله لم يبق من الشريعة مما يستوجب الحفظ والاهتمام به إلاّ السنّة النبوية الشريفة ، لأن الاكتفاء بالقرآن لا يمكّننا من أن نستنبط حكماً واحداً بكل ماله من شرائط وموانع ، حيث ان أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم ، وانما هي واردة في بيان أصل التشريع كآية : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ... ) (2) و آية : ( ... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ... ) (3) وآية : ( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... ) (4) وآية : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... ) (5) وآية : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ... ) (6) ؛ كل هذه الآيات الواردة في أهم أحكام الشرع من صلاة وصيام وحج وخمس وزكاة لا يمكن ان نستفيد منها حكماً محدوداً اذا تجرّدنا عن تحديدات السنّة لمفاهيمها واجزائها وشرائطها وموانعها.

لهذا نرى انه لا يمكن ان يفهم معنى للاسلام بدون السنّة الشريفة ، لذا كان لحفظها الأثر الكبير في حفظ الاسلام.

تحديد السنّة :

السنّة في اللغة : الطريقة المسلوكة أو الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة

ص: 12


1- الاسراء : 88.
2- البقرة : 43.
3- آل عمران : 97.
4- البقرة : 183.
5- الانفال : 41.
6- التوبة : 60.

أم سيئة.

وفي اصطلاح الفقهاء : تطلق السنّة على ما يقابل البدعة. ويراد بها كل حكم يستند الى اصول الشريعة في مقابل البدعة ، فانها تطلق على ما خالف اُصول الشريعة. وقد تطلق السنّة على المستحب والنافلة في العبادات من باب اطلاق العام على الخاص ، كما تطلق على ما واظب على فعله النبي صلی اللّه علیه و آله مع عدم تركه بلا عذر.

وتُطلق السنّة عند الاصوليين : - بالاتفاق - على ما صدر عن النبي صلی اللّه علیه و آله من قول أو فعل أو تقرير غير ما اختصّ به صلی اللّه علیه و آله . ويدور كلامنا في هذا المقال حول دور الأئمة الاثني عشر علیهم السلام في حفظ السنّة بمفهومها عند الاصوليين.

حجّية السنّة النبوية :

من نافلة القول التأكيد على حجيّة السنة النبوية والتماس دليل لها ، لأنها ضرورة دينية أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن الكريم بقوله : ( ... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... ) (1) ( ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... ) (2) ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (3) وقد تقدم القول منّا بانه لا يكاد يفهم معنى للاسلام بدون السنة النبوية. ثم ان العصمة الثابتة للنبي صلی اللّه علیه و آله تقتضي أن تكون أقواله وأفعاله وتقريراته من قبيل التشريع أو موافقة للشريعة.

اتجاهان مختلفان حول السنّة النبوية :

أقول : هناك اتجاهان متفاوتان بالنسبة الى السنّة النبوية حدثا في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله وبعد وفاته :

ص: 13


1- النساء : 59.
2- الحشر : 7.
3- النجم : 3 - 4.

الإتجاه الأول : ينحو لعدم الاهتمام بحفط وكتابة السنة النبوية وحتى يمنع من نشرها ، خشية ان تختلط مع القرآن الكريم وقد ادّى هذا الاتجاه الى صدور النهي عن كتابة الحديث (1) مثل ما حدّث به عبداللّه بن عمر حيث قال : « كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اُريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو بشر يتكلّم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك للرسول صلی اللّه علیه و آله فقال : اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ حق » (2) ، كما نسبت في ذلك روايات الى الرسول صلی اللّه علیه و آله تنهى عن كتابة الحديث.

ومن الجدير بالذكر تنبّه الخط المانع ( وهو الخط الحاكم آنذاك ) بعد قرن من الزمان الى بطلان هذا الاتجاه ! فدعوا الى كتابة الحديث وعرفوا ان القرآن لا يمكن ان يختلط مع غيره الذي لا يكون معجزا ، ولم ينقص من الاهتمام بالقرآن نتيجة كتابة الحديث. قال السيد رشيد رضا : « ونحن نجزم باننا نسينا وأضعنا من حديث نبيّنا حظّاً عظيماً لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه » (3).

الإتجاه الثاني : وهناك اتجاه آخر حَفِظَ السنّة وكتبها ونشرها وتوارثها وأمر المسلمين بكتابتها. وهذا الاتجاه قام به الامام علي علیه السلام ومَنْ بعده من أئمة أهل البيت الذين صرّحوا بأنّ ما يقولونه هو عبارة عن السنّة النبوية التي كانت محفوظة عندهم بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وإليك نموذجاً من الأدلة على ذلك من

ص: 14


1- كتاب الغدير ، للعلاّمة الأميني : ج 6 ، ص 294 - 295 نقلاً عن تاريخ ابن كثير ج 8 ، ص 107 ، الروايات في كتاب تنوير الحوالك ، للسيوطي : ج 1 ، ص 4 و مستدرك الصحيحين ، للحاكم : ج 1 ، ص 102 ، وراجع تذكرة الحفّاظ : ج 1 ، ص 7.
2- المدخل للفقه الاسلامي ، لمحمد سلام مذكور : ص 184 ، نقلاً عن ابن عبدالبر في جامعه وابي داود في سننه ، والحاكم وغيرهم.
3- تفسير القرآن ، للامام محمد عبده والسيد رشيد رضا : ج 6 ، ص 288.

الروايات التي تواترت في هذا الأمر المهم :

أوّلاً : ما ذكره في كتاب الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة عن ابي بصير قال : « قلت للامام الصادق علیه السلام : الحديث أسمعهُ منك أرويه عن أبيك ، أو أسمعهُ من أبيك أرويه عنك ؟ قال علیه السلام : سواء إلاّ انك ترويه عن أبي أحبُّ اليَّ » (1).

ثانياً : ما رواه في الكافي عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمد عن عمر بن عبدالعزيز عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا : « سمعنا الامام الصادق علیه السلام يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أميرالمؤمنين ، وحديث أميرالمؤمنين حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وحديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قول اللّه عزّ وجلّ » (2).

ثالثاً : ما رواه في المجالس عن الحسين بن أحمد بن ادريس عن أبيه عن محمد بن أحمد عن محمد بن علي عن عيسى بن عبداللّه عن أبيه عن آبائه عن علي علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّهم ارحم خلفائي ، قيل : يا رسول اللّه ومَنْ خلفاؤك ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي ثم يعلّمونها » (3).

ص: 15


1- وسائل الشيعة : ج 18 ، باب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 11 عن الكافي.
2- المصدر السابق : ح 26.
3- وبما ان الأئمة من أهل البيت هم خلفاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالنصّ الوارد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهم المقصودون في هذا الحديث وهم رواة السنّة وهم الذين يعلّمونها الناس. المصدر نفسه : حديث 5 ، وقد ورد الحديث عن الفقيه مرسلاً وعن المجالس مسنداً بالسند المتقدم ، وورد هذا الحديث بنفس المضمون في كتاب معاني الاخبار بسند آخر عن : صاحب معاني الاخبار عن أبيه عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلي عن اليعقوبي عن عيسى بن عبداللّه العلوي عن أبيه عن جدّه عن علي علیه السلام . وله أسانيد اُخرى عن الامام الرضا علیه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

رابعاً : روى محمد بن محمد بن النعمان ( الشيخ المفيد ) في المجالس عن جعفر بن محمد بن قولويه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن هارون بن مسلم عن ابن اسباط عن سيف بن عميرة عن عمرو بن شمر عن جابر قال : « قلت للامام الباقر علیه السلام اذا حدثتني بحديث فاسنده لي : فقال علیه السلام : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، وكلما اُحدثك بهذا الاسناد » (1).

خامساً : روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الاجازات ، قال : مما رويناه من كتاب الشيخ الحسن بن محبوب عن ابن سنان عن الامام الصادق علیه السلام ، قال : سمعته يقول : « ليس عليكم فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي علیه السلام ، وليس عليكم جناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عني. ليس عليكم في هذا جناح » (2).

سادساً : روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس قال : ومما روينا من كتاب حفص بن البختري قال : « قلت للامام الصادق علیه السلام نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال علیه السلام : ما سمعتَهُ منّي فاروِهِ عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (3).

سابعاً : وروى في الكافي عن محمد بن يحيى عن عبداللّه بن محمد عليّ بن الحكم عن ابان بن عثمان عن عبداللّه بن أبي يعفور قال : وحدّثني الحسين بن أبي

ص: 16


1- المصدر السابق : ح 67 ، عن مجالس المفيد.
2- المصدر السابق : ح 85 عن كتاب الاجازات للسيد بن طاووس ( مخطوط ).
3- المصدر السابق : ح 86 ، عن كتاب الاجازات للسيد بن طاووس ( مخطوط ).

العلا انّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس ، قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن اختلاف الحديث يرويه مَنْ نثق به ومنهم مَنْ لا نثق به ؟ قال علیه السلام : اذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به ». وروى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم مثله (1). والظاهر انّ المراد من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خصوص قوله ولو بالواسطة فلا يشمل قول غيره.

ثامناً : روى في عيون الاخبار عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعاً عن سعد بن عبداللّه عن محمد بن عبداللّه المسمعي عن أحمد بن الحسن الميثمي انه سأل الامام الرضا علیه السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الشيء الواحد ، فقال علیه السلام : « ... لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ لعلّة خوف ضرورة ، فأما ان نستحل ما حرّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو نحرّم ما استحلّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلا يكون ذلك أبداً لأنّا تابعون لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسلِّمون له كما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تابعاً لأمر ربه مسلِّماً له. وقال اللّه عزوجل : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » (2).

تاسعاً : روى محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار القمي ( المتوفى سنة 290 ه.ق ) قال : حدّثنا احمد بن محمد عن البرقي عن اسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة عن أبي المعزا عن سماعة عن أبي الحسن ( الامام الرضا علیه السلام ) ، قال : « قلت له : كل شيء تقول به في كتاب اللّه وسنته أو تقولون فيه برأيكم ؟ قال علیه السلام : بل

ص: 17


1- المصدر السابق : باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 11 ، فالامام الصادق علیه السلام الذي يقول : بأنّ الميزان هو الشاهد من كتاب اللّه وقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهو لم يرَ لقوله الذي ليس هو قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أي ميزة.
2- المصدر السابق : ح 21 ، عن عيون الاخبار.

كل شيء نقوله في كتاب اللّه وسنّة نبيّه » (1).

عاشراً : روى محمد بن الحسن الصفار القمي قال : حدّثنا احمد بن محمد عن البرقي عن صفوان عن سعيد الاعرج قال : « قلت للامام الصادق علیه السلام ان من عندنا من يتفقّه ، يقولون : يرد علينا مالا نعرفه في كتاب اللّه ولا في السنّة نقول فيه برأينا. فقال الامام الصادق علیه السلام : كذبوا ، ليس شيء إلاّ جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة » (2) والظاهر أنَّ المراد بالنسبة هي سنّة النبي صلی اللّه علیه و آله .

الحادي عشر : روى الصفار قال حدّثنا احمد بن الحسن بن علي فضّال عن أبيه عن أبي المعزا عن سماعة عن العبد الصالح ( الامام موسى بن جعفر علیه السلام ) ، قال : « سألته فقلت ان اُناساً من أصحابنا قد لقَوْا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان الشيء يبتلي به بعض أصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه ، وعندهم ما يشبهه ، يسعهم ان يأخذوا بالقياس ؟ فقال علیه السلام : إنه ليس بشيء إلاّ وقد جاء في الكتاب والسنة » (3). والظاهر ان المراد بالسنّة هي سنّة النبي صلی اللّه علیه و آله .

الثاني عشر : روى محمد بن الحسن الصفار قال : حدّثني السندي محمد بن صفوان بن يحيى عن محمد بن حكيم عن أبي الحسن ( موسى بن جعفر علیه السلام ) ، قال : « قلت له : تفقّهنا في الدين وروينا ، وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بشيء صغير ، الذي ما عندنا فيه بعينه شيء ، وعندنا ما هو يشبه مثله ، أفنفتيه بما يشبهه ؟ قال علیه السلام : لا ، وما لكم والقياس في ذلك ، هلك من هلك بالقياس. قال : قلت : جعلت فداك ، أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما يكتفون به ؟

ص: 18


1- بصائر الدرجات : ج 6 ، باب 15 ، ص 301 ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2.
3- المصدر السابق : ح 3.

قال علیه السلام : اتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما استغنوا به في عهده وبما يكتفون به من بعده الى يوم القيامة. قال : قلت : ضاع منه شيء ؟ قال : لا ، هو عند أهله » (1).

الثالث عشر : روى في الكافي عن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال : « سمعت الامام الصادق يقول : من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد صلی اللّه علیه و آله ، فقد كفر » (2).

الرابع عشر : روى الشيخ الطوسي في أماليه وروى الصفار في بصائر الدرجات وروي في ينابيع المودة - واللفظ للأول - عن أحمد بن محمد بن علي الباقر علیه السلام عن آبائه قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي : اكتب ، املي عليك. قال : يا نبي اللّه أتخاف عليّ النسيان ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : لستُ أخاف عليك النسيان وقد دعوتُ اللّه لك ان يحفظك ولا ينسيك ، ولكن اكتب لشركائك. قال : قلتُ ومَنْ شركائي يا نبي اللّه؟ قال صلی اللّه علیه و آله : الأئمة من ولدك ؛ بهم تُسقى اُمّتي الغيث ، وبهم يستجاب دعاؤهم ، وبهم يصرف اللّه عنهم البلاء ، وبهم تنزّل الرحمة من السماء. وأومأ الى الحسن علیه السلام وقال : هذا أولهم ، وأومأ الى الحسين علیه السلام وقال : الأئمة من ولده » (3).

إذن كَتَبَ علي لشركائه وهم الأئمة من ولده ، فما يقولونه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وقد وردت روايات كثيرة في شأن الصحيفة التي أملاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على عليّ علیه السلام وقد خطها عليّ بيده وتوارثها الأئمة علیهم السلام ، وهذه الروايات فيها تفصيل لما

ص: 19


1- بصائر الدرجات : ج 6 ، باب 15 ، ح 4 ، فاذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد أتى بما يستغني به المسلمون الى يوم القيامة ، ولم يفقد منه شيء ، وهو عند أهله الذين لا يقيسون ، وهم الأئمة : ، اذن ما يقولونه هو عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
2- وسائل الشيعة : ج 18 ، باب 9 من صفات القاضي ، ح 16 ، ولا يضرّ ارسال ابن ابي عمير عن بعض اصحابه لشهادة الشيخ الطوسي بانه لا يُرسل الاّ عن ثقة.
3- أمالي الشيخ الطوسي : ج 2 ، ص 56 ، ط النجف 1384 ه.

ذكر في إملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام ، إذ فيها « كل حلال وحرام حتى أرش الخدش ».

منها : ما رواه الصفار قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عن سليمان بن خالد قال : « سمعت الامام الصادق علیه السلام يقول : إنّ عندنا لصحيفة سبعين ( سبعون ) ذراعاً ، إملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخط عليّ علیه السلام بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى ارش الخدش » (1).

ومنها : قال النجاشي : أخبرنا محمد بن جعفر قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد عن محمد بن أحمد بن الحسن ، عن عبّاد بن ثابت عن أبي مريم عبدالغفّار بن القاسم عن عذافر الصيرفي قال : « كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر علیه السلام ( الامام الباقر ) فجعل يسأله ، وكان أبوجعفر له مكرِماً ، فاختلفا في شيء ، فقال أبوجعفر : يا بنيّ قم فأخرِج كتاب عليّ ، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ، ففتحه وجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة ، فقال ابوجعفر : هذا خطّ عليّ علیه السلام وإملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأقبل على الحكم وقال : يا أبامحمد اذهب أنت وسلمة وابوالمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل علیه السلام » (2). وقد عبّر عن هذه الصحيفة في بعض الروايات بالجامعة ؛ فقد روى الصفار عن أبان بن عثمان عن علي بن الحسين ( زين العابدين ) علیه السلام عن الامام الحسين بن علي علیه السلام قال : « ان عبداللّه بن الحسن يزعم انه ليس عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، فقال علیه السلام : صدق - واللّه - عبداللّه ابن الحسن ، ما عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، ولكن عندنا - واللّه -

ص: 20


1- بصائر الدرجات ج 3 : 142 ، باب 12 ، الاحاديث 24 حديثاً فراجع.
2- رجال النجاشي : ص 255 ، ترجمة محمد بن عذافر.

الجامعة فيها الحلال والحرام ... كيف يصنع عبداللّه إذا جاء الناس من كل اُفق ويسألونه ؟ » (1).

الخامس عشر : روي في كتاب الاختصاص عن حمزة بن يعلى عن احمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الامام الباقر علیه السلام قال : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم » (2).

الخلاصة : ان كثيراً من الروايات المتقدمة مختلفة من ناحية السند في تمام الطبقات ، كما ان بعضها عن الامام الصادق وبعضها عن الامام الباقر وبعضها عن الامام الرضا وبعضها عن الامام الحسين علیهم السلام ، وبعضها عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فهي تورث القطع بمضمونها الذي يقول : « ان كل ما يقوله الأئمة هو عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إما قد كُتِبَ عندهم بواسطة الكتب التي ورثوها عن آبائهم ، أو تعلّموه من آبائهم ورووه الى الناس لأجل ان تتضح معالم الشريعة المستفادة من القرآن الكريم وسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ». واذا كان حديث كل إمام من الأئمة الاثنيعشر ، هو عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حسب الروايات المتقدمة فيجب التسليم لهذه الاحاديث والأخذ بها ، ولذا قال ( الامام ) أحمد وهو يعلّق على حديث الامام الرضا علیه السلام عن آبائه حين مرَّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته ».

ومن هذا الذي تقدم نفهم ان خطّ أهل البيت قد تحمل العبء الثقيل في نشر سنّة النبي صلی اللّه علیه و آله وحفظها من الضياع في مقابل الخط الآخر ، الذي كان يرى في حفظ أو نشر السنّة النبوية اختلاط القرآن بغيره ، فصدرت النواهي عن كتابة الحديث النبوي أو نشره بين الاُمة.

ص: 21


1- بصائر الدرجات ج 3 : ص 147 ، باب 14 ، ح 19.
2- بحار الانوار : ج 26 : ص 28.
لماذا لم يكن لروايات كتاب علي ( الجامعة ) ذكر في كتب أهل السنّة ؟ وقد يتساءَل المتسائل المنصف عن علّة عدم وجود أثر للروايات التي ترويها الشيعة ( وهي متواترة ) عن كتاب علي علیه السلام الذي كتبه بيده بإملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ، بل وجد ما يخالف هذه الروايات وينفيها ويثبت كتاباً لعلي علیه السلام صغيراً موجوداً في ذؤابة سيفه قد املاه عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وقد ذكر هذه الروايات النافية لكتاب علي ( الجامعة ) كل من البخاري ومسلم وذكرت ايضاً في مسند أحمد وفي سنن البيهقي وسنن النسائي. واليك خلاصتها كما في البخاري بحاشية السندي :

1 - قال البخاري : حدّثنا محمد بن سلام قال اخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي حجيفة ، قال : « قلت لعلي : هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا ، إلاّ كتاب اللّه ، أو فهمٌ اُعطيَهُ رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال : قلت فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلمٌ بكافر » (1).

2 - قال البخاري : حدّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الاعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضی اللّه عنه قال : « ما كتبنا عن النبي صلی اللّه علیه و آله الاّ القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلی اللّه علیه و آله المدينة حرام ما بين عائر الى كذا ، فمن أحدث حدثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف. وذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل » (2).

ص: 22


1- صحيح البخاري : ج 1 ، ص 31 - 32 ، باب كتابة العلم.
2- المصدر السابق : ج 2 ، ص 205 ، باب إثم من عاهد ثم غدر.

3 - وروى البخاري : قال : حدّثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة حدّثنا مطرف قال سمعت الشعبي قال سمعت أبا جحيفة قال : « سألت عليّاً رضی اللّه عنه : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ ( وقال مرة ما ليس عند الناس ؟ ). قال : والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن الا فهماً يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر » (1).

4 - وروى البخاري : قال : حدّثنا عمر بن حفص بن غياث حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدثني ابراهيم التيمي حدّثني أبي قال : « خطبنا علي رضی اللّه عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة ، فقال : واللّه ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب اللّه وما في هذه الصحيفة فنشرها ، فاذا فيها اسنان الابل ، واذا فيها : المدينة حرم من عير الى كذا فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : مَنْ والى قوماً بغير اذن مواليه فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً » (2).

5 - وفي مسند أحمد : - الذي بهامشه منتخب كنز العمال - يقول : حدّثنا عبداللّه حدّثني ابي حدّثنا هاشم بن القاسم حدّثنا شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب قال : شهدت عليّاً يقول : « ... واللّه ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب اللّه وما في هذه الصحيفة ... » (3). وفي حدود تتبعي في كتاب البخاري ومسند أحمد

ص: 23


1- المصدر السابق : ج 4 ، ص 192 و 194 ، باب العاقلة.
2- المصدر السابق : ص 260.
3- مسند أحمد : ج 1 : ص 100.

وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وسنن البيهقي ، فقد رأيت كل الروايات ترجع الى ثلاثة أسناد :

السند الأول : الذي يكون عن مطرف عن الشعبي عن ابي جحيفة.

السند الثاني : الأعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه.

السند الثالث : عن شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب.

ولكن السند الاول والثاني فيهما سفيان فهما رواية واحدة لها اسناد متعددة فلا تخرج عن الخبر الواحد. ورواية الامام احمد هي رواية ثانية لأنَّ سندها يختلف عمّا سبقها ، وفي هاتين الروايتين من لم يوثَّق أو مجهول فلا تصلح لأن تكون حجّة ؛ فأبو جحيفة وهو وهب بن عبداللّه السوالي لم يوثّق في الكتب التي رجعت اليها وكذا الشعبي الذي هو عامر بن شرحبيل رغم عدِّه من الفقهاء ، واما ابراهيم التيمي فهو لم يذكر في كتب الرجال التي رجعت اليها ، وكذا لم يوثق كل من شريك وطارق بن شهاب ، ولم أجد لمخارق ذكراً في الكتب التي رجعت اليها ايضاً. ومع هذا فقد يدور في الذهن عدم صحة الروايات المتقدمة في وجود كتاب لعلّي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة حتى ارش الخدش.

والجواب :

1 - بعد الاغماض عن سند الروايتين المتقدمتين اللتين فيهما من لم يوثَّق والمجهول ، فان لسانهما وأمثالهما من الروايات التي فيها يمين مغلظة على النفي يدلّ على انّ هناك حديثاً حول كتاب خُصّ به علي ( فيه أحكام الدين وقواعده ) دون بقية المسلمين وكان مشهوراً ، الأمر الذي دعا بعض المسلمين الى السؤال عن هذا الكتاب ( الجامعة ) فنفى هذه الروايات باليمين المغلّظة.

انظر الى اليمين : « واللّه ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب اللّه وما في هذه الصحيفة ... » « والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن ... وما في الصحيفة ... » وفي رواية : « من زعم ان عندنا شيء نقرؤه إلاّ كتاب اللّه

ص: 24

وهذه الصحيفة فقد كذب » ، وانظر الى السؤال عن أبيجحيفة « هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا » فهو يدلّ على وجود حديث حول كتاب قد خُصّ به علي علیه السلام . وحينئذ يتوجه السؤال لمن روَوْا هذه الروايات فقط فيقال لهم : ما هي تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي يُدّعى انّ عليّاً علیه السلام قد كذبها في هذه الروايات كما يدّعي شرّاح الروايات من أبناء السُّنة ؟

2 - ثم لو تنزلنا عمّا تقدم ، يكون أمامَنا طائفتان من الروايات :

الأولى : تزعم انّ هناك كتاباً خُصّ به علي والائمة من ولده دون بقية الناس ( وهي متواترة كما تقدم ).

الثانية : تزعم نفي ذلك. فما علينا إلاّ أن نقول : إن الروايات المتواترة توجب علماً بالصدور عن النبي صلی اللّه علیه و آله بخلاف الروايات غير المتواترة فانها لا توجب علماً بالصدور وحينئذ يتعيّن الأخذ بالعلم وترك غير العلم عند التعارض.

اما عدم ذكر الروايات المتواترة في كتب بعض المسلمين ( أهل السنّة ) فهو لا يدل على عدم صدورها ولا يقلل من العلم الحاصل من التواتر.

3 - واما سرّ ترك كتب السنّة للروايات المتواترة ( التي تصرّح بوجود كتاب خصّ النبي صلی اللّه علیه و آله به عليّاً دون بقية الناس فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ) فهو الجوّ الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ضدّ أهل البيت وضدّ عليّ بحيث جعل سبّ عليّ سُنّة تعبّد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أكثر من أربعين سنة ، فكُتمت فضائل أهل البيت وعليّ ووضعت فضائل لغيرهم ممن تسلّم الحكم من قبل مَنْ يهوى الاُمويين والعباسيين. وهذا الجوّ الذي ساد في ذلك الزمان أوجب ان توضع روايات لتغيير ما كان مسموعاً ومألوفاً في حق أهل البيت علیهم السلام وتبعدهم عن الساحة السياسية ، كما حدث في زمان معاوية ، خصوصاً اذا علمنا ان مرحلة

ص: 25

تدوين الحديث حصلت في تلك الاجواء المعادية لعليّ علیه السلام وأهل بيته. وبهذا يتضح سرّ عدم ذكر الروايات ( القائلة بأنَّ كتاباً أملاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخطّه علي بيمينه بتفاصيلها المتقدمة ) في كتب أهل السّنة ووجدت متواترة في كتب الشيعة الامامية. والظاهر ان هذه الروايات كرواية عكرمة ومقاتل ( في شأن نزول آية التطهير ) حيث كان عكرمة ينادي في السوق (1) و يقول : « من شاء باهلته انّها نزلت في نساء النبي صلی اللّه علیه و آله خاصة » أو يقول : « ليس بالذي تذهبون اليه ، إنّما هو نِساء النبي صلی اللّه علیه و آله » (2).

على ان هذه الروايات التي تذكر كتاب علي ( الجامعة ) لو لم تتم فرضاً فيكفينا الروايات الاُخرى الكثيرة والمتواترة ايضاً القائلة بأنَّ الأئمة علیهم السلام يروون سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن آبائهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

2 - الأئمة علیهم السلام وتشريع الأحكام

اشارة

وبعد ان اتّضح خط أهل البيت في حفظ السنّة النبوية ونشرها يبقى علينا ان نبحث الروايات الواردة في كون الأئمة مشرّعين لنرى مدى انسجامها مع الروايات المتقدمة أو عدم انسجامها ، ولكن قبل ذلك لابدّ من بيان :

1 - معنى تشريع الحكم.

2 - تفويض الامر الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

3 - روايات التفويض الى الأئمة عليهم السلام.

ص: 26


1- الواحدي ، اسباب النزول : ص 268.
2- الدرّ المنثور : ج 5 ، ص 198. وعكرمة : خارجي معاد لعليّ ، ومقاتل : خارجي معاد لعليّ. راجع ترجمتهما في ميزان الذهبي ، وكان مقاتل يقول لأبي جعفر المنصور : « انظر ما يمكن ان اُحدثه فيك حتى احدثه ... ».
1 - معنى تشريع الحكم :

ان الاحكام الشرعية يمكن تقسيمها الى قسمين :

أ - الاحكام الواقعية.

ب - الاحكام الحكومتية.

اما الاحكام الواقعية : فهي الاحكام التي شرّعها اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم وجاء فيها الأثر القائل : « حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمّد حرام الى يوم القيامة ».

وهذه الاحكام الواقعية تنقسم الى قسمين :

أولاً : الاحكام الواقعية الأولية.

ثانياً : الاحكام الواقعية الثانوية.

اما الاحكام الواقعية الأولية : فيراد بها الاحكام المجعولة للشيء أولاً وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض اُخر مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلّية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية ، وما الى ذلك من أحكام واقعية تكليفية أو وضعية.

واما الاحكام الواقعية الثانوية : فيراد بها ما يجعل للشيء من الاحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير الحكم الأولي ؛ فالصوم اذا كان مضرّاً بالمكلف ينقلب حكمه الى الحرمة أو عدم الوجوب ، وشرب الماء اذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجباً ، والنوم في النهار اذا كان فيه خيانة للجيش الاسلامي يكون محرّماً ، وشرب الخمر اذا كان لإنقاذ النفس من الموت يكون واجباً ، وهكذا أكثر الاحكام الأولية اذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدّل واقعها وحكمها الأولي الى حكم ثانوي. وهذه الاحكام هي أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية ، لا تتغيّر ولا تتبدّل الى يوم القيامة. فاذا ثبت ان هناك تشريعاً من النبي صلی اللّه علیه و آله ( كما هو ثابت ) فهو في هذه الاحكام ، وكذا ما يقال عن

ص: 27

تشريع الامام المعصوم.

أما الاحكام الحكومتية : فهي الاحكام التي ترك الاسلام مهمة ملئها الى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الاسلامية ، سواء كان ولي الأمر هو النبي صلی اللّه علیه و آله أو الامام المعصوم أو الفقيه الذي تصدّى لإقامة دولة اسلامية ونجح في ذلك ، وحينئذ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومتية ( تمييزاً لها عن الاحكام الشرعية الواقعية ) حسب المصلحة التي تتطلبها الدولة أو المجتمع الاسلامي في كل زمان. وهذه الاحكام :

1 - ليست لها صفة الثبوت الى الأبد ، بل هي أحكام متحرّكة مؤقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر ، لأنها ليست أحكاماً صدرت من ولي الأمر بما انّه مبلِّغ للاحكام العامة الثابتة ، بل صدرت من ولي الأمر بما انّه حاكم وولي على المسلمين.

2 - كما ان هذه الاحكام لا توجد إلاّ على أساس وجود جهاز حاكم يتولى شؤون الدولة الاسلامية ، فيمنح هذه الصلاحية في ايجاد أحكام حكومتية بما تفرضه المصالح والأهداف الاسلامية حسب الظروف التي تعيشها الدولة الاسلامية.

3 - وهذه الاحكام تغطي حاجة تطور علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن والتي قد تكون مهدِّدة للعدالة الاجتماعية ان لم تكن هناك احكام متحركة يفرضها ولي الأمر ؛ فمثلاً هناك الحكم القائل : « بأنّ من سبق الى معدن فهو أحق به » قد صدر في زمان كان النصّ فيه حكماً عادلاً ، لأن من الظلم ان يساوي بين السابق الى المعدن وغير السابق ، إلاّ أنّ قدرات الانسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة ، اما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلّة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن فقد يؤدي الأمرُ الى تزعزع العدالة الاجتماعية في

ص: 28

الدولة الاسلامية. لهذا جعل الاسلام لولي الأمر صلاحية أن يُشرِّع في منطقة الفراغ - التي سنحددها - أحكاماً حكومتية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق : « من سبق الى معدن فهو أحق به ». وهكذا نقول في ما شرّعه الاسلام من حرمة احتكار اُمور معينة في صدر الاسلام ( من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح ) ، اما في زماننا هذا فيمكن لجماعة قد اُتيحت لها قدرة مالية معينة ان تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الاسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخيّل بموازين العدالة الاجتماعية ، فيتمكن ولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الاسمنت ويعاقب عليه ، حتى تتمكن الدولة من تنظيم اُمور المسلمين. قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... ) (1).

حدود منطقة الفراغ :

اما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعياً بطبيعته ، فيحق لولي الأمر اعطاؤه حكماً بالوجوب أو الحرمة ، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء الى يوم القيامة ، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع ، فقد يُغيَّر بعد مدّة من الوقت أو يُرفَع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة.

المشرِّع هو اللّه سبحانه وتعالى :

إن المشرِّع الأول هو اللّه سبحانه وتعالى ، ويكون دور النبي صلی اللّه علیه و آله تبليغ ما شرّعه اللّه ووصل اليه عن طريق الوحي الى الناس. وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ، وقد ذكرت ذلك الآية القرآنية القائلة : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، والنطق في الآية مطلق ورد عليه النفي ، ومقتضاه نفي الهوى عن مطلق

ص: 29


1- النساء : 59.
2- النجم : 3 - 4.

نطقه صلی اللّه علیه و آله ولكن بقرينة خطابه للمشركين وهم يرمونه - في تشريعاته والقرآن الذي يقرؤه على العباد على انه من اللّه - بانه كاذب متقوّل مفتر على اللّه سبحانه ... الخ ، كان المراد بقرينة المقام انه صلی اللّه علیه و آله ما ينطق عن الهوى فيما يقول من أمر الشريعة ( القرآن والاحكام ) بل هو وحيٌّ يوحى اليه من اللّه سبحانه.

2 - تفويض الأمر الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

هناك روايات فوّضت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر الخلق ليسوس الناس والاُمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد اللّه سبحانه ، قال تعالى : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... ) ، وفوّض اللّه سبحانه الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر الدين في ناحية خاصة وفي منطقة فراغ معينة ليململأها بنفسه فملأها صلی اللّه علیه و آله وأقرّه اللّه سبحانه وتعالى على ذلك ، وقال تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ؛ فمثلاً ورد انّ النبي صلی اللّه علیه و آله سأل ربّه في ان يخفف جَعْلَ عدد الصلاة على امته ، فجعلها خمس صلوات ثم فوّض اليه أن يزيد عليها ، فزاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقره اللّه عليها. وكما ورد في حرمة الخمر : ( ... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ... ) (1) وفوّض الى النبي صلی اللّه علیه و آله أن يزيد فحرّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كل مسكر وأقرّه اللّه تعالى عليه : وهذا التفويض من قبل اللّه سبحانه وتعالى لرسوله صلی اللّه علیه و آله هو في دائرة خاصة فملأها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه ؛ فما دلّ عليه الدليل بان اللّه سبحانه قد فوّض الأمر فيه الى النبي صلی اللّه علیه و آله وأقرّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الاحكام التي ترجع في النهاية الى مشرِّعية اللّه تعالى بعد اقراره عليه.

واليك بعض الروايات الدالة على ذلك :

1 - صحيحة الفضيل بن يسار ، فقد روى الكليني عن علي بن ابراهيم عن

ص: 30


1- المائدة : 90.

أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن الفضيل بن يسار قال : « سمعتُ الامام الصادق علیه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر (1) : انّ اللّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : إنّك لعلى خلق عظيم ، ثم فوّض اليه أمر الدين والاُمّة ليسوس عباده فقال عزّ وجلّ : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مسدداً وموفّقاً مؤيّداً بروح القدس ، لا يزلُّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب اللّه ، ثم انّ اللّه عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات ، فأضاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز اللّه عزوجلّ له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة. ثم سنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مِثْلَي الفريضة ، فأجاز اللّه عزّ وجلّ له ذلك. والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدُّ بركعة مكان الوتر. وفرض اللّه في السنة صوم شهر رمضان ، وسنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صوم شعبان وثلاثة أيّام في كل شهر مِثْلَي الفريضة ، فأجاز اللّه له ذلك. وحرّم اللّه عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسكر من كل شراب ، فأجاز اللّه له ذلك كلّه. وعاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخصّ فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ، ولم يرخّص لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم ؛ فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه

ص: 31


1- قيس الماصر : « من المتكلمين ، تَعلّمه من علي بن الحسين ( زين العابدين ) ، وصحب الصادق علیه السلام وهو من اصحاب مجلس الشامي » عن جامع الرواة ترجمة قيس بن الماصر.

نهي حرام لم يرخّص فيه لأحد ، ولم يرخّص رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما الى ما فرض اللّه عزّ وجلّ ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر ، وليس لأحد أن يرخّص [ شيئا ] مالم يرخّصه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! فوافق أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر اللّه عزّ وجلّ ونهيه نهي اللّه عزّ وجلّ ووجب على العباد التسليم له كالتسلم لله تبارك وتعالى » (1).

2 - عن زرارة عن الامام الباقر علیه السلام قال : « وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ديّة العين وديّة النفس ، وحرّم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل : وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غير ان يكون جاء فيه شيء ؟ قال علیه السلام نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه » (2). وهناك روايات اُخرى تؤدي نفس المضمون المتقدم في نفس المصدر المذكور. اذن تلخص لنا ان النبي صلی اللّه علیه و آله :

1 - مبلِّغ عن اللّه سبحانه ما شرَّعه اللّه للناس عن طريق الوحي.

2 - حاكم على الناس.

3 - مشرِّع لأحكام خاصة ( وهي التي فوّض اللّه فيها أمر التشريع الى النبي صلی اللّه علیه و آله في دائرة خاصة وملأها النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه وأقرّه اللّه عليها ). 3 - روايات التفويض الى الأئمة علیهم السلام :

وهناك روايات تقول : ان النبي صلی اللّه علیه و آله قد أعطى ما فوّضه اللّه اليه الى الأئمة علیهم السلام أو إلى علي علیه السلام ، وهي عبارة عن خمس روايات أربع منها غير حجّة (3) وواحدة لها

ص: 32


1- اصول الكافي : ج 1 ، كتاب الحجة ، باب التفويض الى رسول اللّه 9 والى الأئمة ، ح 4.
2- المصدر السابق : ح 7.
3- لأنّها بين مرسل أو مسند في بعض رجال سنده ضعف أو جهالة. راجع الروايات في اصول الكافي : ج 1 ، ص 265، كتاب الحجة ، باب التفويض الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والى الأئمة ، تجد الرواية الاولى هي المعتبرة بسندها الثاني ، واما الرواية الثانية فضعيفة بابن أشيم ، والرواية الثامنة فيها محمد بن سنان فهي ضعيفة ، والرواية التاسعة فيها الحسن بن زياد ومحمد بن الحسن الميثمي وهما لم يوثقا ، والرواية العاشرة مرسلة.

سند معتبر عن الامام الباقر علیه السلام : وهي : روى الشيخ الكليني في الكافي عن عدّة من اصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي اسحاق قال : « سمعت الامام الباقر علیه السلام يقول : ان اللّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه على محبته ، فقال : ( وانك لعلى خلق عظيم ) ثم فوّض اليه فقال عزّ وجلّ : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال عزّ وجلّ : مَنْ يطع الرسول فقد أطاع اللّه. قال : ثم قال : وإن نبي اللّه فوّض الى عليّ وائتمنه ، فسلّمتم وحجد الناس ، فواللّه لنحبّكم ان تقولوا اذا قلنا ، وان تصمتوا اذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين اللّه عزّ وجلّ ، ما جعل اللّه لأحد خيراً في خلاف أمرنا » (1) وهذه الرواية ظاهرة في إعطاء الولاية والحكومة الى الأئمة ، حيث يقول الى بعض اصحابه : « فسلّمتم وجحد الناس ». ونحن نعلم ان الذي جحده الناس هو الحكومة والولاية. اما رواية الأئمة عن النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يجحدها الناس. ثم لو تنزلنا وقلنا ان هذه الرواية مطلقة شاملة لإعطاء الولاية وحق التشريع ، فلابدّ من تخصيصها :

1 - بطائفة الروايات المتقدمة القائلة على لسان الأئمة علیهم السلام « كل ما اُحدّثك هو عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ».

2 - والروايات القائلة ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أملى على عليّ وكتب لشركائه كل شيء من حلال وحرام حتى ارش الخدش ؛ ومعنى ذلك ان كل أحكام الاسلام قد أملاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ وشركائه ، فلا حاجة الى تشريع من قبل الأئمة :. وقد ذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « ما من شيء يقربكم الى الجنة ويبعدكم من

====

2.

ص: 33


1- المصدر السابق : ح 1.

النار إلاّ أمرتكم به ».

3 - والآية القرآنية التي نزلت في حجّة الوداع. ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... ) (1) ، فقد تم الدين في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله فلا حاجة الى مشرِّع بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وحينئذ يكون معنى روايات التفويض الى الأئمة علیهم السلام ناظرة الى الحكومة وتبليغ الاحكام وحفظها. ومما يؤيد هذا هو استبعاد أن يكون امرٌ عظيم الأهمية ( كحق التشريع للائمة علیهم السلام ) في حياة المسلمين وفي مسيرتهم قد دلّ عليه خبر واحد ، بل لابدّ ان يكون مبيّناً بالدليل الواضح ( كالدليل على حاكميتهم في الخلافة العامة مثلاً ) الواصل بحيث لا يكون فيه غموض ولا إبهام فيكون مَنْ خالف قد خالف عن بيّنة. بقي علينا ان نجيب عن سؤال قد يوجّه الينا وهو : لماذا فوّض النبي صلی اللّه علیه و آله أمر الحكم والتبليغ الى الأئمة علیهم السلام دون غيرهم ؟

الجواب : ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، فيما يرجع إلى اُمور الشريعة بالانفاق لأنه ( مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) ، ومع هذا نتمكن ان نجيب على ذلك من باب حكمة هذا التفويض الى الأئمة دون غيرهم ، إذ نقول : يمكن ان تكون الحكمة هي عصمة (2) هؤلاء الأئمة دون غيرهم ؛ فهم الأجدر بتحمّل مسؤولية التبليغ لأحكام اللّه وحفظها من الضياع ، وهم الأجدر بحكومة الناس - من حيث عصمتهم من الوقوع في الخطأ أو الاشتباه أو النسيان - في تطبيق أحكام اللّه تعالى. وقد أثبت لنا التاريخ انهم الأجدر في حفظ سنّة النبي صلی اللّه علیه و آله حيث مُنع من كتابة وحفظ الحديث في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعد وفاته كما تقدم ذلك ، فان قريش ( ومَنْ تسلّم الحكم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) قد منعوا من كتابة الحديث بحجّة

ص: 34


1- المائدة : 3.
2- (2) الأدلة على عصمة الأئمة : من القرآن والسنة كثيرة منها :

خشية اختلاطه مع القرآن الكريم ! ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والائمة من بعده هم الذين حفظوا حديث رسول اللّه وكتبوه وتوارثوه ونشروه كما دلّت على ذلك الروايات المتقدمة.

خطأ فظيع :

قد ينسب بعضٌ الى الامامية القول : انهم يقولون بأن الأئمة علیهم السلام مشرّعون.

أقول : وهذا من الخطأ بمكان ، لأن مسألة ما يوهم تشريع الأئمة للاحكام الشرعية قد ورد فيها ( كما تقدم ) اخبار آحاد لم يسلم من عدم الحجّية إلا رواية واحدة كانت ظاهرة في تفويض أمر الخلق الى الأئمة ليسوسوا الناس بالحق ، ومع التنزل وافتراض اطلاقها لتفويض أمر الدين والخلق ، فبناء على حجية خبر الواحد الثقة ( وهو الصحيح ) تمكنّا ان نجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة التي أوجبت القطع بكون الأئمة علیهم السلام رواة وحفظة للسُّنة النبوية ، فكانت النتيجة هي : ان الأئمة قد فوّض اليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحكم على الامة والتبليغ لأحكام الشريعة التي تمَّت زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهذا رأي نلتزم به والتزمناه وكتبناه في كتابنا الحلال والحرام في الاسلام.

وهناك من علماء الامامية من ذهب الى عدم حجيّة خبر الواحد منهم :

1 - نُسب الى السيد المرتضى وأتباعه بان الخبر الواحد اذا كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فهو حجّة ويجوز العمل به وإلا فلا.

2 - نُسب الى المحقق الحلّي بان الخبرالواحد إن عمل به المشهور فهو حجّة وان كان ضعيف السند ، وان لم يعمل به المشهور فليس بحجة وان كان صحيح السند.

3 - نُسب الى صاحب المدارك وغيره بان الخبر الواحد إن كان رجال سنده عدولاً اُخذ به وإلا فلا وان كان رجال سنده من الثقات. وحينئذ : فعلى هذه المسالك الثلاثة لا يكون الخبر الواحد بما انه خبر واحد حجّة. إذن لا يمكن ولا يصح ان ينسب الى الطائفة الامامية اعتقادها بتشريع الأئمة للاحكام الشرعية

ص: 35

الواقعية ( الأولية والثانوية ) وانه أمرٌ مجمع عليه ، فان هذا من الخطأ الفظيع ، اضافة الى أنّ خبر الواحد في المسائل العقائدية ليس حجة بالاتفاق فتنبه.

الفرق بين الأئمة علیهم السلام وغيرهم كأئمة المذاهب والرواة :

ذكرنا فرقاً بين الأئمة من أهل البيت وغيرهم أدى توجيه اعطاء ولاية الحكم والتبليغ الى الأئمة دون غيرهم بعد زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . اما هنا فنريد بيان فرق آخر بعد التسليم بإعطاء ولاية التبليغ اليهم دون غيرهم ؛ إذ ليس المراد باعطاء ولاية التبليغ لهم دون غيرهم هو حرمة ان يكون المكلف مبلغاً لاحكام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق نشرها بين الناس ، فان هذا أمر لا يمكن ان يلتزم به أحد ، بل المراد هو اعطاء الولاية في التبليغ لهم ( مع ضم عصمتهم التي أوجبت أو سوغت ذلك ) هو الاطمئنان بعدم امكان تطرق الريب إليهم في الرواية عن النبي صلی اللّه علیه و آله . ولذا قال الامام أحمد وهو يعلّق على حديث الامام الرضا علیه السلام المعروف ب « سلسلة الذهب » عن آبائه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين مرّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته » (1). وحينئذ يكون النبي صلی اللّه علیه و آله قد تلقى الوحي من السماء ، بينما يتلقّى الأئمة علیهم السلام ما يوحى به الى النبي صلی اللّه علیه و آله عن طريقه صلی اللّه علیه و آله ، وهم منفردون بمعرفة جميع الاحكام ( كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك ). ولذا

ص: 36


1- الاصول العامة للفقه المقارن : ص 181 نقلاً عن الصواعق المحرقة : ص 203. وسند الحديث وأصل الحديث هو : حينما وصل الامام الرضا علیه السلام الى نيسابور وقد خرج اليه العلماء يستقبلونه ، فلما صاروا الى المربعة تعلقوا بلجام بغلته الشهباء وقالوا : يا ابن رسول اللّه حدّثنا بحقّ آبائك الطاهرين حديثاً عن آبائك صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز فقال : « حدّثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنّة عن أميرالمؤمنين علیه السلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن اللّه تقدست اسماؤه وجلّ وجهه : « إني أنا اللّه لا إله إلا انا وحدي ، عبادي فاعبدوني ، وليعلم من لقيني منكم بشهادة ان لا إله إلا اللّه مخلصاً بها انه دخل في حصني ، ومن دخل في حصني أمن من عذابي ... ». بحارالانوار ج 49 : ص 120 وما بعدها عن كتاب عيون أخبار الرضا علیه السلام .

اشتهر في زمان الخليفة عمر بن الخطاب قوله : « لولا عليّ لهلك عمر ». وقوله « معضلة وليس لها ابوالحسن » ، حينما ترد المعضلة ولا يجد الحلّ الصحيح لها. وعلى هذا فسيكون قولهم علیهم السلام حجّة يجب الأخذ به ، ويكون ما ذكره الأئمة علیهم السلام من قواعد وطرق استنباط وترجيح للتعارض بين الاخبار وما الى ذلك لا يعدوا ان تكون من تعاليم الاسلام نفسه قد وصلت الى الأئمة علیهم السلام عن طريق النبي صلی اللّه علیه و آله ، بينما يكون دور أئمة المذاهب أو غيرهم من المجتهدين هو الاجتهاد في كل ما يأتون به من أحكام ، فقد يصيبون كما قد يخطِئون ، فليسوا هم مصدراً من مصادر التشريع ، 2 ولذا لا يكون قولهم حجّة على المجتهدين الآخرين ، كما يمكن النظر فيما يأتون به من أصل الاستنباط للحكم الشرعي فلا يكون حجّة على الغير.

واما فرق الأئمة علیهم السلام عن غيرهم من الرواة فهو في عصمة الأئمة التي دلّ عليها الدليل ، بخلاف غيرهم الذي يكون في معرض الخطأ والنسيان وان كانوا عدولاً ، كما ان احتمال الدس والكذب بسبب الاهواء يكون موجوداً اذا لم يكونوا عدولاً.

وعلى ما تقدم : فلا يمكن ان نسمي الشيعة الامامية مذهباً في مقابل بقية المذاهب ، لأن ما يأتي به أئمة الشيعة ليس رأياً لهم وانما هو تعبير عن واقع الاسلام من أصفى منابعه ؛ فقد ذكر المحدّث أبو جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار القمي ( المتوفى سنة 290 ه.ق ) قال : « حدّثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن اسماعيل بن مهران عن سيف بن عميره عن أبي المعزا عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : « قلت له : كل شيء تقول به في كتاب اللّه وسنّته ، أو تقولون فيه برأيكم؟ قال علیه السلام : بل كل شيء نقوله في كتاب اللّه وسنة نبيّه » (1). ويتفرع على ما تقدم كون المجتهد من الشيعة الامامية إنْ اجتهد في ضمن إطار الاسلام فقد يُخطئ وقد يصيب كالائمة المجتهدين الأربعة ( ابي حنيفة والشافعي واحمد بن

ص: 37


1- بصائر الدرجات : ج 6 ، ص 7 ، الباب 15 ، ح 1.

حنبل ومالك ).

خلاصة البحث :

بعد اجماع المسلمين على أن القرآن الكريم قد جمع وكتب في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلم يبق من الدين إلاّ السّنة الشريفة التي كانت في صدور الرجال ( الصحابة ) ، الى أن الروايات المتواترة عن أئمة اهل البيت علیهم السلام تؤكد جمعها وايداعها عند الأئمة من قبل الرسول صلی اللّه علیه و آله حيث كان الامام علي علیه السلام يكتب ما أملاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليه ، وقد تواترت الروايات ايضاً في كون الأئمة علیهم السلام ينقلون ما قاله الرسول صلی اللّه علیه و آله واملى على عليّ علیه السلام فليس هم أهل رأي وقياس بل حَفَظَة للسنة النبوية التي هي عدل القرآن في التشريع ، وبهذا ينتهي الأمر إلى أن كل ما يقوله الأئمة علیهم السلام هو من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويكون المشرِّع الوحيد للدين الاسلامي الحنيف هو اللّه سبحانه وما فوضه اللّه الى نبيّه الكريم وشرعه النبي وأقره اللّه تعالى عليه ، فاذا اضفنا الى دور الأئمة علیهم السلام في حفظ السنة النبوية حصانتهم من الانحراف كما تبينه عدة أدلة ومنها الواقع الخارجي الذي كان عليه الأئمة علیهم السلام من سيرتهم المثلى التي يقتدي بها المسلمون من دون نكير ، يتبيّن لنا عظمة التشريع الاسلامي الحنيف الذي حفظ المصدرين الأساسيين للتشريع من ألاعيب اللاعبين ، وهذا هو سر خلود الشريعة الاسلامية وتفوقها على كل تشريع آخر ، ومعنى : أني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا. وبهذا ينحل ما يتخيل من التضاد بين الحديث المشهور بل المتواتر : « اني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ... » وبين حديث : « اني مخلف فيكم كتاب اللّه وسنّتي ... » بناءً على صحة سند الحديث الثاني وصدوره. فسلام اللّه على نبيه الاكرم حين ولد وحين توفى وحين يبعث حيّاً.

نسأل اللّه سبحانه التأييد والتسديد وان يحفظنا من الزلل والزيغ وأن ينفع بنا الاسلام والمسلمين وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين.

ص: 38

بيع التقسيط (بيع الؤجل أو بيع النسيئة)

اشارة

ص: 39

ص: 40

ينقسم البيع في الفقه الإسلامي بلحاظ التأجيل وعدمه في الثمن والمثمن الى أربعة أقسام :

1 - أن يكون الثمنان معجَّلين ، وهو المسمّى بالبيع النقدي أو ( يداً بيد ).

2 - ان يكون الثمنان مؤجَّلين ، وهو المسمّى ببيع الدين بالدين او ( بيع الكالي بالكالي ).

3 - ان يكون الثمن معجَّلاً ، والمبيع مؤجَّلاً ، وهو المسمّى ببيع السلم ( السلف ).

وهذا البيع مستثنى من عدم صحَّة بيع ما ليس عندك.

4 - أن يكون المبيع معجّلاً ، والثمن مؤجّلاً وهو المسمّى ببيع النسيئة ، او بيع التقسيط وهو محلُّ كلامنا الآن.

نقول : كلُّ هذه الأقسام صحيحة في الفقه الإسلامي إلاّ القسم الثاني وهو بيع الدَّين بالدَّين حيث ورد النهي عن هذا البيع.

بيع التقسيط :

اشارة

هو مصداق من مصاديق بيع النسيئة ، حيث يعجَّل فيه المبيع ويؤجَّل فيه الثمن كلُّه او بعضه على أقساط معلومة ( متساوية المبلغ أوْلا ) ، لآجال معلومة

ص: 41

( منتظمة المدة ، أوْلا ).

وليس هذا البيع هو الجديد الذي لم يُعرف حكمه كما ادُّعي ذلك من قبل البعض ، بل قد ذكره فقهاء الإمامية على أنه من مصاديق بيع النسيئة ، فقد ذكر صاحب الجواهر قدس سره ( المتوفى 1266 ه ) قال : « إن اشترط التأجيل للثمن جميعه او بعضه ولو نجوماً متعددة صحّ إجماعا بقسميه ونصوصاً ( عموماً وخصوصاً ) في البعض وهو المسمى بالنسيئة ، من غير فرق بين طول المدة وقصرها ، خلافاً للاسكافي فمنع فيما حكي عنه أكثر من ثلاث سنين في السلف وغيره » (1).

أهميته :

قد انتشر هذا البيع في الأزمنة الأخيرة بصورة واسعة ، لفائدته التي تعود للبائع حيث إنه يزيد من مبيعاته حتى على من ليس عنده النقد المالي ، فيبيعه الى أجل. وهو مفيد للمشتري أيضا حيث يمكنه من الحصول على السلعة مع أن دخله الشهري لا يسمح له بابتياعها بالنقد ، فبدلاً من أن يدخر فيشتري بعد ذلك ، أخذ الفرد يشتري ويستمتع بالسلعة ثم يدّخر للوفاء ، وبهذا تمكن الفرد أن يستمتع بالحاجات قبل أن يمكِّنه دخله الشهري من شرائها بالنقد.

وبعد أن عرفنا معنى بيع التقسيط واهميته نريد أن نبحث في نقطتين :

النقطة الاولى : ما هو الدليل على صحة بيع النسيئة ( التقسيط ) ؟.

النقطة الثانية : إذا كان بيع التقسيط صحيحاً ، فكيف نفسر التأجيل الذي فيه مع زيادة الثمن لأجل هذا التأجيل ، كما ذكر الفقهاء ، وكيف نفرّق بين هذا الذي هو حلال وبين التأجيل الذي تكون فيه الزيادة محرمة ؟

ص: 42


1- جواهرالكلام في شرح شرائع الاسلام ، لشيخ الطائفة صاحب الجواهر ، ج 23 ، ص 99.
النقطة الاُولى : ما هو الدليل على صحة بيع النسيئة ؟

نقول : لقد وردت الروايات عن أهل البيت علیهم السلام في جواز هذا البيع ، وقد اتفقت الإمامية على صحته. نعم الإسكافي خالف في طول المدة ، إذ منع من صحة البيع نسيئة لأكثر من ثلاث سنين (1) ، وله روايات يستند اليها ، إلاّ أنها محمولة على الإرشاد. فمن النصوص الخاصة الدالة على الصحة :

1 - موثق عمار بن موسى الساباطي عن الإمام الصادق علیه السلام : « في رجل اشترى من رجل جارية بثمن مسمّى ثم افترقا ، فقال علیه السلام : وجب البيع والثمن إذا لم يكونا اشترطا فهو نقد » (2) ومفهوم هذا الحديث يدل على أنهما اذا اشترطا أن يتأخّر الثمن فهو ليس بنقد وهو معنى النسيئة ، او إذا اشترطا أن يتأخر المثمن فهو معنى بيع السلم.

2 - صحيح هشام بن الحكم عن الإمام الصادق علیه السلام : « في رجل يشتري المتاع الى أجل قال علیه السلام : ليس له أن يبيعه مرابحة إلاّ الى الأجل الذي اشتراه إليه ، وإن باعه مرابحة فلم يخبره كان للذي اشتراه من الأجل مثل ذلك » (3). وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن بيع النسيئة كان مفروغاً من صحته في ذلك الوقت ، وإنما أخَذَ الإمام علیه السلام يبين حكماً آخر وهو عبارة عن أن الذي اشتراه نسيئة لا يجوز له أن يبيعه مرابحة إلاّ بذكر الأجل الذي اشترى به. وهناك روايات اُخر تدل على صحة هذا البيع أعرضنا عن ذكرها لكفاية ما تقدم مع وجود الإتفاق من الإمامية على صحة هذا البيع فلا نطيل ، بالاضافة الى وجود العمومات الدالّة على صحة هذا البيع مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، إذا لا إشكال في

ص: 43


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 1 من احكام العقود / ح 2.
3- الكافي للكليني ، ج 5 ، ص 208.

صدق البيع على بيع النسيئة ، فيجب الوفاء به وهو معنى صحته ، وهو حلال بمنطوق آية (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) . ثم إن من نافلة القول التلويح إلى أن الأجل ينبغى أن يكون معلوماً بحيث لا يتطرق إليه احتمال الزيادة او النقيصة ، كما إذا قلنا إن موعد الإستحقاق يكون في الشهر التاسع من سنة 1990 م ، أو أن الثمن اقساط معينة يستحق كل قسط معين القدر في أول الشهر الميلادي او الهجري ، أما إذا لم يكن الأجل معلوماً للمتعاقديْن فيبطل العقد للجهالة التي تستتبع غرراً في الثمن.

مصاديق بيع النسيئة :

نذكر هنا ثلاثة مصاديق لبيع النسيئة لنعرف ما هو حكمها :

1 - قد يحصل بيع النسيئة في الخارج على سلعة بنفس القيمة التي تباع بها حالاًّ ، وهذا البيع صحيح بلا إشكال ، وهو مستحب للبائع لما فيه من إعانة المشتري على شراء حاجته من دون زيادة لقاء الأجل.

2 - وقد يحصل البيع نسيئة ، ولكن على ثمن هو أكبر من ( قيمة السلعة نقداً ) كما إذا كانت السلعة تباع نقداً بدينار ، ونسيئة الى شهر بدينار ودرهم ، فهنا قد ذكرت الروايات صحة هذا البيع إذا وقع على الدينار والدرهم ، كأن يقول المشتري اشتريت نسيئة بدينار ودرهم ، فيقبل البائع ، او بالعكس. ومن الروايات الدالّة على صحة هذا البيع صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام : قال في ذيلها : « قال اميرالمؤمنين علیه السلام ... من ساوم بثمنين أحدهما عاجلاً والآخر نظرة ، فليسمِّ أحدهما قبل الصفقة » (1).

3 - قد يحصل البيع نسيئة ، بأن يقول : بعتك هذه السلعة بدرهم نقداً ، وبدرهمين الى شهرين وبثلاثة الى ثلاثة أشهر ، فيأخذ المشتري السلعة من دون تعيين البيع على احد هذه المحتملات ، وكذا لم يعيِّنه البائع ، ففي هذه الصورة قالوا

ص: 44


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 2 من احكام العقود ، ح 1.

ببطلان البيع ، وقد ذكروا أدلَّة للبطلان ، منها :

أ - إن العقد باطل : لوجود الإبهام الناشئ من الترديد القاضي بعدم وقوع الملك حال العقد على أحد الاُمور بالخصوص ، وهذا ينافي اقتضاء العقد وسببيته الى أحد الاُمور ، اما النقد ، او النسيئة الى الاجل الاول ، او النسيئة الى الأجل الثاني بالثمن الثالث. ولكن لنا أن نقول : لا يوجد هنا جهالة ولا غرر ، حيث إن الثمن معلوم (1) ، نعم الزيادة وقعت في مقابلة التأخير على وجه الشرط فتفسر الزيادة ، وهذا لا يؤدي الى بطلان العقد. ومما يؤيد الحكم بالصحة حكمهم بصحة الإجارة لو قلت له : خط هذا الثوب اليوم بدينار وبنصف دينار إن خطته في غد ( مع اشتراك الإجارة والبيع في اعتبار عدم الغرر والجهالة ) ، فالصحة هنا كما ذكر غير واحد تكون مؤيداً للقول بعدم وجود غرر ولا جهالة. وكذا الامر اذا قلت له : إن خطته فارسياً فلك دينار ، وإن خطته رومياً فلك نصف دينار. وقَبِلَ المستأجر الامر على الترديد ، فقالوا بصحة الإجارة وما ذاك إلاّ لعدم الضرر ولعدم الجهالة.

ب - ذكروا دليلاً ثانياً على بطلان هذا العقد وهو الروايات التي رويت عن الرسول صلی اللّه علیه و آله وهي تنهى عن بيعين في بيع ، او عن شرطين في بيع. كموثقة عمار الساباطي عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث : « أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث رجلاً الى أهل مكة وأمرهم أن ينهاهم عن شرطين في بيع » (2). وعن سليمان بن صالح عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع وعن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن » (3) وقد فسر هذان الحديثان بما نحن فيه او بما يشمله حيث : « روى أحمد بسند رجال ثقات ، عن ابن

ص: 45


1- حيث إن العُرف يرى أن الثمن غير مجهول كما اذا قلتُ لك : إن سعر هذه الآنية دولار او مئة تومان ، فالثمن محدد إلاّ أنه غير مشخَّص في اي الفردين ، وهذا ليس بجهالة تمنع من صحة البيع.
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 2 من احكام العقود ، ح 3.
3- نيل الاوطار 5 / 172 ، وعون المعبود ، 333 - عن البيع بالتقسيط د. علي السالوس ، ص 1.

مسعود قال : « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن صفقتين في صفقة ». قال سماك - راوي الحديث - هو الرجل يبيع البيع فيقول : هو بنسأ بكذا ، وهو بنقد بكذا وكذا. وقال الشافعي وأحمد في تفسير هذا : بأن يقول بعتك بألف نقداً أو ألفين الى سنة ، فخذ أيهما شئت أنت وشئت انا » (1).

ولكن هناك روايات تقول بأنَّ البيع صحيح ويكون للبائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، فمن الروايات :

1 - صحيحة محمد بن قيس عن الباقر علیه السلام انه قال : « قال اميرالمؤمنين علیه السلام من باع سلعة فقال : إن ثمنها كذا وكذا يداً بيد ، وثمنها كذا وكذا نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة » (2).

2 - رواية السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه عن آبائه علیهم السلام « ان علياً علیه السلام قضى في رجل باع بيعاً واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا ، فاخذ المتاع على ذلك الشرط فقال علیه السلام هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين » (3). وواضح أن هاتين الروايتين تقولان بصحة البيع على أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، بينما الروايات المتقدمة التي تنهى عن بيعين في بيع استدلوا بها على بطلان البيع ، فما هو الحل ؟

نقول : لا منافاة بين الادلة الناهية عن هذا البيع ، والادلة التي تقول بصحته بأقل الثمنين الى أبعد الأجلين وذلك : فإنَّ ما نفهمه من النهي هو حرمة هذا العمل ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) إذا صدر من البائع ولم يقع البيع على احدهما لانه عبارة عن كون الزيادة في مقابل الاجل ، ويحرم على المشتري ايضاً قبولها لنفس السبب ،

ص: 46


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 2 من احكام العقود ، ح 1.
3- المصدر السابق ، ح 2.

وبعبارة اخرى كأن البائع يقول : إذا سددت المبلغ الآن فهو بدرهم ، وإن سددته بعد شهر فهو بدرهمين ، فيكون درهم واحد في مقابل الإنساء ( الأجل ) ، وإن سددت المبلغ بعد شهرين فلابد من اعطاء درهمين في مقابل الأجل ، وهذا هو حقيقة الربا الجاهلي الذي هو عبارة عن « أتقضي ام تربي » او « أنظرني أزدك » وهو عمل حرام من قبل البائع ويحرم على المشتري قبوله ، أما إنّ العقد - بعد أن حرمت هذه العملية - فهل هو باطل ام لا ؟ فلا تقول الروايات الناهية بذلك ، وحينئذ تأتي الروايات القائلة للبائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين فتقول : إن البيع صحيح على أن يأخذ البائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، وهذا هو مورد التعبد بالروايات فتكون ملزمة للطرفين. ومعنى ان هذا هو مورد التعبد بالروايات ، هو ان القاعدة تقول : إن حِلّ المال الآخرين متوقف على الرضا وطيب النفس ، اما الاكل والتصرف في المال لا عن تراض هو اكل للمال بالباطل فلا يجوز ، ولكن في هذه الصورة حَكَمَ الشارع بأنَّ البائع القائل ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) نلزمه بان يكون له اقل الثمنين لأبعد الاجلين ، وهذا لم يرض به ، ولم تقع المعاملة عليه ، فإذا الزمناه به كان هذا على وفق تخصيص هذه القاعدة ( لا يحل مال المسلم إلاّ بطيب نفسه ورضاه ) بغير هذه الصورة. او نقول : إن الروايات تقول : اذا وقع العقد على نحو الترديد ، وقبل المشتري العقد على هذا الوجه ، وانتهت المدة ، « فبما أن شرط الزيادة في مقابل الأجل باطلة ، لم يبق إلاّ استحقاق البائع الأقل ، وبما أنه لم يقبضه قبل الآن فالآن له حق أخذ الاقل عند انتهاء أبعد الأجلين » وهذا القول لا يلزم البائع بالاقل عند عدم انتهاء ابعد الأجلين ، بينما القول الاول يلزمه كما هو ظاهر الروايات.

الخلاصة :

1 - إن ادلة النهي عن اشتراط هذا الشرط ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) تدل على أن هذا الشرط في هذا البيع حرام ، ويحرم قبوله من قبل المشتري ايضاً ، إلاّ أن هذه الروايات لا تقول إن البيع فاسد.

ص: 47

2 - لو صدر هذا الشرط في المعاملة ( الذي هو حرام ) وقد قُبِلَ من قِبَلِ المشتري على وجه الترديد ، فهنا تأتي الروايتان القائلتان إن البيع صحيح على هذه الكيفية ( أقل الثمنين لأبعد الاجلين ) ، اذن لا منافاة بين الروايات.

3 - اما اذا صدر هذا الشرط من البائع ، وقد قبل المشتري احدهما على وجه التعيين ، فهذا خارج عن محل النزاع وعن مضمون الروايتين ، ونحتمل هنا صحة العقد لشمول الاطلاقات (1) لهذا الفرد.

النقطة الثانية : كيف نفسر التأجيل في بيع النسيئة مع الزيادة ؟

قد يقال : إن الزيادة التي حصلت في بيع النسيئة كما عرفنا ذلك في المصداق الثاني لبيع النسيئة هي من أجلِ الأَجل فهي محرمة ، لعدم الفرق بينها وبين الزيادة في الأجل في عقد القرض. وهذه الشبهة اخذت تجري مجرى الماء في كتابات بعض علماء العامة ، فقد ذكر بعض تحريمها ، وذكر البعض تحليلها وكل ذلك له ادلة ، مع اننا لا نرى اصل الشبهة واردة ، وتوضيح ذلك : إن الأجل الذي حصل في بيع النسيئة لم يكن في مقابله مال حتى تأتي الشبهة وتقول ( إن المال إذا صار في مقابلة الأجل فهو حرام او شبيه بالزيادة في مقابلة الأجل في عقد القرض ولابد من تحريمه سداً لذريعة الربا وما شاكل ذلك من كلام ) ، بل إن الاجل في بيع النسيئة كان داعياً لزيادة ثمن السلعة وما أكثر الدواعي لإرتفاع الثمن ، فمثلاً قد يكون قلة السلعة في السوق بنسبة لا تساوي الطلب الذي عليها يكون داعياً لزيادة ثمنها في الحالات المتعارفة ، كما ان عدم سقوط الامطار في الفصول المتوقع سقوط المطر فيها يكون داعياً لزيادة سعر الحاجيات المتوقف زيادتها او انتاجها على سقوط الامطار. وإذا ثبت أن زيادة الثمن في بيع النسيئة كان الداعي له هو الأجل ، فهذا يختلف اختلافاً

ص: 48


1- (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

أساسياً عن قولنا إن الزيادة هي في مقابل الأجل ، بل يكون قولنا ( في بيع النسيئة ان الزيادة في مقابل الأجل ) تسامحاً من قبل العلماء ، بل الصحيح في بيع النسيئة هو أنَّ الثمن كله قد وقع في مقابل السلعة ، وكان الأجل داعياً لزيادة الثمن.

اذن لا أساس للشبهة هنا ، حيث إن الشبهة مبنية على قولنا إن الزيادة في بيع النسيئة هي في مقابل الأجل ، وقد اتضح أن الأمر ليس كذلك فلا شبهة أصلاً ، ولا مبرر للقول بأنَّ بيع النسيئة يشبه الزيادة في القرض من اجْلِ الأَجل الذي هو محرم ، إذ كما عرفنا أن بينهما بون شاسع. ثم لو تنزلنا وقلنا إن الشبهة واردة ، وهي : « إنَّ حصول الزيادة في بيع النسيئة هو في مقابل الأجل » إلاّ أننا نقول كما قال البعض : إنه لم يثبت بنحو القاعدة الكلية أن جعل الثمن في مقابل الاجل حرام. نعم ثبت في بعض الموارد فنلتزم بها ، كالثمن في مقابل الاجل في القرض ، وكالزيادة في مقابل الأجل في بيع المتجانسين وبيع الصرف.

الشراء نسيئة ( مع قدرته على الشراء نقداً ) هل هو مكروه ؟

نتكلم اولاً في كراهة القرض من الغير ( مع عدم احتياجه الى القرض ) ، واما مع ضرورة الفرد الى القرض فلا كراهة في الامر ، فقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على كراهة القرض مع عدم الحاجة اليه فمنها ما روي عن أبي الحسن الليثي عن جعفر بن محمد ( الإمام الصادق علیه السلام ) عن آبائه ، أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « الدَين راية اللّه عزوجل في الارضين ، فاذا أراد أن يذل عبداً وضعه في عنقه » (1). ولكن اذا كان الدَين لضرورة فلا كراهة في الامر ، ففي صحيحة معاوية بن وهب قال قلت للإمام الصادق علیه السلام : « ... أن رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران دَيناً ، فلم يصلِّ عليه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : صلُّوا على صاحبكم ، حتى ضمنهما عنه

ص: 49


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من ابواب الدين ، ح 10.

بعض قرابته فقال الإمام الصادق علیه السلام ذلك الحق ، ثم قال : ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انما فعل ذلك ليتعضوا ( ليتعاطوا ) وليرد بعضهم على بعض ولئلا يستخفوا بالدَين ، وقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليه دَين ، وقُتِل اميرالمؤمنين علیه السلام وعليه دَين ، ومات الحسن علیه السلام وعليه دَين ، وقتل الحسين علیه السلام وعليه دَين » (1).

هذا كله في القرض ، اما الشراء نسيئة مع قدرته على الشراء نقداً فليس بمكروه ، حيث لا يوجد نص خاص ولا يدخل تحت عنوان ان يكون للبائع منَّة على المشتري فيما اذا باع نسيئة بأكثر من الثمن الحال ( كما هو الغالب ) ، وحتى اذا دخل بيع النسيئة تحت هذا العنوان ( المنّة من البائع على المشتري ) بأنْ باع البائع سلعته نسيئة بقدر الثمن الحال ، ولكن هذا لوحده لا يوجب أن يكون العمل من جانب المشتري مكروهاً ، حيث إن المكروه هو ما يبغضه اللّه سبحانه بغضاً خفيفاً لم يصل الى حد الحرمة ، ومجرد حصول منّة - في البيع للبائع على المشتري - لا يوجب هذه الحزازة في الفعل من جانب المشتري ، نعم يكون الفعل مستحباً من قبل البائع وهذا تقدَّم.

الفروق بين بيع النسيئة وغيره من البيوعات :

ولأجل ان يتضح بيع النسيئة بصورة أوضح ، سوف نذكر الفرق بينه وبين غيره من البيوعات التي يمكن أن يشتبه بيع النسيئة بها ، وبذلك يشتبه علينا حكم بيع النسيئة لاشتباه الحكم في غيرها فنقول :

1 - هل يوجد فرق بين بيع النسيئة وبيع المرابحة للآمر بالشراء ؟

نقول : قد يبيع الإنسان سلعته الى المشتري بثمن مؤجل ( بأكثر من قيمتها نقداً ) وهذا هو بيع النسيئة. وقد يبيع البائع نقداً ، ولكن يلجأ المشتري الى البنك

ص: 50


1- المصدر السابق : ج 2 من ابواب الدين ، ح 1.

فيقول له : اشتر هذه السلعة وانا اربحك كذا وكذا مؤجلاً. فما هو الفرق بين هذين المثالين ؟

الجواب : اما المثال الاول ، فبما أن البيع قد وقع على السلعة بثمن معين الى أجل معين فهو بيع صحيح وقد تقدمت الادلة على ذلك. واما المثال الثاني ففيه تفصيل ، وتوضيح ذلك : إن البنك إذا اشترى السلعة نقداً ، والتزم بكل احكام البيع مع البائع له ، من ثبوت خيار للطرفين في المجلس ، او وجود خيار غبن للمغبون منهما ، او وجود خيار عيب لمن انتقل إليه المعيب ، وهكذا بقية احكام البيع ، ثم وبعد ذلك يبيع البنك هذه السلعة الى شخص ثالث مؤجلاً بثمن أعلى من الثمن الحال بحيث يتمكن المشتري الثالث أن لا يشتري منه ذلك ، ففي مثل هذه الحالة تكون علاقة البنك بالشخص الثالث هي علاقة بائع - وهو البنك - بالمشتري الذي اشترى نسيئة ، ولا توجد أي علاقة بالمشتري الذي هو الفرد الثالث بالبائع الاول الذي باع للبنك نقداً ، ففي هذه الحالة تصح هذه المعاملة ، وذلك لأنَّ المعاملة الثانية هي بيع نسيئة قد دل الدليل على جوازها ، كما تقدم ، وعليها الاتفاق الذي ذكرناه من الإمامية بشرط أن يكون قصد البنك والمشتري منه هو بذل المال المؤجل في مقابلة السلعة وان كان الأجل داعياً لزيادة ثمنها ، بحيث يلتزم المتبايعان بكل أحكام البيع وهذا هو معنى أن يكون للمتبايعين قصد جدي للبيع. اما اذا لم يقصد البنك شراء السيارة ( السلعة ) من البائع ، ولم يقصد بيعها الى المشتري منه بثمن مؤجل ، بل قصد البنك أن يعطي ثمن السيارة الى البائع ويأخذ من المشتري اكثر منه مؤجلا ، وكذا قصد المشتري ان يكون هو المشتري من البائع للسيارة ولكن البنك يدفع عنه المال وهو يعطي الى البنك اكثر مما دفع ، بالاقساط ، وحينئذ يكون في هذه الصورة ان البيع قد وقع بين البائع للسيارة والمشتري ، اما وظيفة البنك فقد اصبح وسيطاً في دفع المال عن المشتري وأخذ فوائد عن التأخير ، ولا يكون هناك علاقة بين البائع للسيارة وبين البنك ، ولا تطبق احكام البيع

ص: 51

بالنسبة اليهما ، لعدم قصد البيع بين البائع والبنك ، ففي مثل هذه الحالة تكون المعاملة في الحقيقة ربوية بين المشتري والبنك حيث يكون البنك قد أقرض المشتري قيمة السيارة نقداً ولكنه يجب عليه أن يدفع أكثر من هذا لقاء الأجل ، وهو الربا الصريح المحرم. اما البيع الذي وقع بين البائع للسيارة وبين المشتري فهي معاملة صحيحة.

2 - ما هو الفرق بين بيع النسيئة وبيع العينة ؟

نقول : عرفنا بيع النسيئة. اما بيع العينة : فهو عبارة عن بيع سلعتي نقداً ثم شرائها منه نسيئة بثمن اكبر ، او يبيعني سلعته بثمن مؤجل ثم يشتريها بثمن أقل نقدا ، فهنا قد حصل بيعان من الطرفين ونتيجتهما هو حصول صاحب السلعة على نقد ( وقد رجعت اليه سلعته ) ويدفع اكثر مما أخذ ، او حصول البائع على سلعته وحصول المشتري على نقد بحيث يدفع اكثر منه نسيئة. وهذا البيع يسمى ببيع التورق أي ينتج منه حصول ( الورق ) لأحد الطرفرفين ويسدد اكثر منه نسيئة ويسمى أيضا بعقد المخاطرة (1). وخلاصة ما ذهبنا إليه هو : أن اشتراط البيع الثاني في البيع الاول بأقل من البيع الأول او بأكثر يوجب بطلان المعاملة ، وبطلانها ليس من أجل وجود زيادة في مقابل بيع النسيئة ( الأجل ) ، بل لأن النص الخاص دل على عدم جواز بيع السلعة عند اشتراط البيع الثاني في البيع الاول بأقل أو أكثر ، ولعل النص ينظر الى أن هذا الشرط الحاصل في البيع الاول يفرِّغ البيع الأول والثاني عن معنى البيع ، فتكون المعاملة حقيقة هي القرض الربوي مع الزيادة لكن دخلت فيه سلعة في الوسط ، وحينئذ تكون هذه العملية القرضية محرمة. والذي يؤيد هذا النظر هو عدم حرمة شرط البيع الثاني للسلعة في البيع الاول اذا كان

ص: 52


1- راجع كتابنا الربا فقهياً واقتصادياً ص 245 وقد فصلنا الكلام في بيع العينة على مذهب أهل السُنَّة وعلى مذهب الإمامية.

بنفس الثمن ، اذ هنا يكون حقيقة الامر هو القرض مع ارجاع نفس القدر المقترض وهو جائز بلا كلام.

اما اذا حصل هذان البيعان ( اللذان ينتج منهما حصول أحدهما على نقد مع رجوع السلعة الى صاحبها ويسدد أكثر مما حصل عليه نسيئة ) من دون اشتراط البيع الثاني في البيع الاول ومن دون تبان من المتبايعين ، فالبيعان صحيحان كما دلت عليه الروايات الصحيحة عن أهل البيت علیهم السلام منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال علیه السلام : اذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (1) ومعناها إذا شرط ذلك فالبيع الاول غير صحيح كما هو ظاهر من كلمة البأس في المعاملات ، اي إذا كان ملزماً بالبيع الثاني فلا يصح البيع الأول ، لا أن الشرط فقط غير صحيح ، لأنَّ السؤال عن حلية البيع والشراء.

نقول : ولعل عدم اشتراط البيع الثاني في البيع الاول وعدم التباني عليه يجعل القصد الى البيع الاول قصداً جدياً وكذا القصد الى البيع الثاني ، فحينئذ لا يوجد قرض مع الزيادة فلا يكون ربا.

3 - ما هو الفرق بين بيع التقسيط والبيع الايجاري ؟

نقول : إن بيع التقسيط قد تقدم وهو عبارة عن تملك المشتري السلعة فوراً ويبقى ثمنها كله في ذمة المشتري يدفعه بعد مدة او نجوماً ( أقساطاً ). وهذه العملية قد يكون فيها ضرر على البائع كما في صورة تأخر المدين عن سداد ديونه في موعدها ، فلأجل أن يتوثق ( البائع بالتقسيط ) من سداد المشتري كل أقساط الثمن بدون تأخير ، ومن دون أن يتضرر الدائن في صورة عدم سداده الاقساط ، يلجأ الى ما يسمى ( بالبيع الايجاري ) الذي سنوضحه فيما بعد. وقد يلجأ البائع الى البيع

ص: 53


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 5 من احكام العقود ، ح 6 ، ص 371.

الايجاري بدلاً من البيع بالتقسيط لفائدة ثانية وهي تتضح فيما اذا أفلس ( المشتري بالاقساط ) وهو بعد لم يسدد الثمن او لم يسدد بعضه ، فإنَّ القانون الإسلامي ( ولعله حتى الوضعي ) يقول : إن البائع يكون كأحد الديّان ، حيث تباع سلعته التي باعها نسيئة كما تباع بقية السلع التي هي ملك للمشتري وتقسم الاموال على الديّان بالنسبة ، ولكن فيما اذا بقيت السلعة ملكاً للبائع ( كما في البيع الإيجاري ) ولم تملك للمشتري إلاّ بعد سداد آخر قسط من الثمن. فهنا لو فرضنا ان المشتري قد أفلس ، فان البائع يتمكن أن لا يخسر أي شيء ولا تباع سلعته كبقية أموال المفلس ، بل له الحق في أخذها ويدفع ما استلمه من اقساط ، وبذلك يتفادى الضرر الذي قد يلحقه في هذه الصورة لو كان قد باع سلعته نسيئة.

اما البيع الايجاري : فهو اللجوء ( عند بيع الارض او الدار أو السيارة أو غير ذلك ) الى أن يحتفظ صاحب السلعة بملكيته للسلعة الى حين تسديد المشتري كل أقساط الثمن فيعقد عقداً صورته الإيجار ويشترط ان يملكه السلعة عند دفع آخر قسط ، وحينئذ لا تنتقل الملكية الى الطرف الآخر إلاّ بعد سداد الثمن المقسط كاملاً. ونلاحظ على صورة عقد البيع الإيجاري نقطتين :

الاولى : إن الاقساط التي تدفع الى المالك ليست هي أقساط إيجار ، وانما هي أقساط بيع ، لان القسط المأخوذ بعنوان أنه قسط إيجار هو أعلى من قسط الاجارة الحقيقية بكثير.

الثانية : إن المالك يقول انا مالك للسلعة المأجورة ، ولكنه يتنصل بكل طريق عن تحمل مخاطر الملك وصيانته. فنفهم من الأمر الاول أن الإيجار صوري ، وحقيقة الأمر هو البيع نسيئة مع ضمان سداد الثمن بصورة كاملة ، ونفهم من الامر الثاني أن ملكية صاحب السلعة لها هي ملكية صورية أيضا ، اذن حقيقة الأمر هو ( بيع نسيئة لكن مع عدم نقل الملكية إلاّ بعد سداد الأقساط جميعا ) وهذا البيع قد

ص: 54

أجازه القانون الروماني وبعض القوانين الحديثة الوضعية (1).

ونحن وان امكننا تصحيح النقطة الاُولى بقولنا إن السلعة التي تؤجر ( مع اشتراط المستأجر على المؤجر أن يملكها له - بعد آخر قسط من الإيجار - مجاناً ) يكون مقدار القسط الإيجاري مرتفعاً جداً ، فالشرط الذي يكون في المعاملة يكون داعياً لزيادة القسط الإيجاري ، وحينئذ تكون الاجارة صحيحة. ولكن الامر الثاني لا يمكن تصحيحه ، باعتبار أن مالك السلعة اذا كان هو المالك لها كما هو مقتضى الامر الاول فيلزمه حينئذ أن يتحمل مخاطر الملك وصيانته ، فعدم تحمله مخاطر الملك وصيانته دليل على أن قوله أنا المالك هو ملك صوري وانما المالك حقيقة هو المستأجر الصوري ، فيكون البيع نسيئة هو الحقيقة لكن مع ضمان تسديد كل الاقساط.

نقول : أفلا يمكن للمالك ( المؤجر للسلعة مع اشتراطه على نفسه أن يملّكها للمستأجر ) ان يشترط على المستأجر أن يقوم بضمان وتحمل مخاطر الملك وصيانته ؟

الجواب : قد يقال : إن هذا الشرط غير صحيح لانه يجعل الاجارة غررية ، بالاضافة الى مخالفة هذا الشرط لاصل عقد الاجارة ، حيث إن المستأجر الذي يدفع قيمة الاجارة لابد أن يستفيد من المحل الذي استأجره ، وطبيعي أن يستهلك هذا المحل المؤجَّر ، فاذا كانت صيانة محل الاجارة عليه ، فمعنى ذلك أنه يدفع قيمة الاجارة ولا مقابل لها فيكون اكلاً للمال بالباطل.

والتحقيق : إن شرط تحمّل مخاطر الملك وصيانته لا يجعل الاجارة غررية ، حيث إن الاجارة قد وقعت على شيء محدد غاية الامر قد اشترط المالك تلافي ما

ص: 55


1- د. ابراهيم دسوقي ابو الليل ، ص 90 و 148 و 189 و 1. عن ( بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي ) د. رفيق يونس المصري ص 18.

يحدث من اضرار على المستأجر ، وهذا لا يوجب كون الاجارة غررية ، وكذلك لا يكون هذا الشرط مخالفاً لأصل عقد الاجارة وذلك : لأنَّ استحقاق الاُجرة يكون في مقابل انتفاع المستأجر او تمكنه من الإنتفاع بلا مانع ، وهذا يكفي لتصحيح عقد الاجارة فلا يكون اكلاً للمال بالباطل.

ولكن الإشكال المهم هو : لو تلفت هذه الدار في وسط المدة ( كما إذا احترقت ) فهل يجب على المستأجر أن يدفع القسط او الاقساط المتأخرة عن وقت تلف الدار او لا يجب ؟ فان قلنا إنه لا يجب ، فالاجارة صحيحة ، وإن قلنا إنه يجب عليه أن يدفع اتضح حينئذ إن العملية هي عملية بيع بالاقساط ، وتكو الاجارة صورية باطلة (1).

إذن حقيقة الامر هي ( بيع نسيئة ) فإذا اشترط على المشتري ان لا يملك السلعة حتى يسدِّد آخر قسط من أقساط الثمن ، فيكون هذا الشرط منافياً لمقتضى البيع حيث إن التمليك بشرط أن لا تملك هو تناقض فيكون العقد باطلاً. وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : هل يستغنى عن البيع الايجاري ، ببيع التقسيط مع تقديم ( كفالة او ضمان ) (2) او رهن رسمي للبائع بمفهوم عدم امكان البيع من قبل المشتري للملك إلاّ بعد سداد الدين ويتمكن المرتهن أن يأخذ حقه من السلعة المرهون ببيعها ولكن السلعة غير مجازة للراهن ويسمى هذا ب ( الرهن الرسمي غير الحيازي ).

والجواب : إن هذه التوثيقات للبائع لا بأس بها ، ولكنها لا تقوم مقام البيع

ص: 56


1- الظاهر أن البيت لو احترق فان المؤجر لا يأخذ الأقساط المتبقية من المستأجر لأنهم يذكرون ان في : « خلال مدة الاجارة قد توضع لوحة ظاهرة على الشيء المأجور تبين ان هذا الشيء ملك لفلان المالك المؤجر » فعلى هذا ، الظاهر تكون الاجارة صحيحة. بيع التقسيط ، د. رفيق يونس المصري ، ص 17.
2- الضمان هنا بالمعنى الشرعي وهو نقل ذمة الى ذمة ، بل الضمان بمعنى ان يتعهد الضامن للدائن بالسداد في صورة عدم سداد المدين ، فيكون معناه هو ضم ذمّة الى ذمّة مع كون الذمّة من الضامن تأتي في الدرجة الثانية في المسؤولية عن سداد الدين ، وكذا المراد من معنى الكفالة.

الإيجاري بالنسبة للبائع لانَّ الذمة الثانية التي أضيفت الى الذمة الاُولى فصارت مسؤولة عن الدفع عند عدم دفع صاحب الذمة الاُولى ، قد يكون صاحب الذمة هو ايضاً قد تخلف عن هذا الإلتزام وتأخر عن الدفع أو قد فلّس ايضا ، فلا يمكن إلزامه بملزم شرعي او قانوني. واما بالنسبة لرهن الملك المبيع ، فان البائع المرتهن انما يقدم على الديّان في صورة إفلاس المشتري وهذا صحيح ومفيد ، إلاّ أنه يقدم عليه اصحاب الحقوق والإمتيازات العامة ( كالخمس والزكاة وما يكون المفلَّس مسؤولاً عن دفعه للمنصب العام الذي هو راجع الى خزانة الدولة العامة ) وحينئذ يكون البيع الإيجاري أفضل بالنسبة للبائع من بيع التقسيط مع الرهن والكفالة بالمعنى المتقدم ، ولكننا قد عرفنا أنه ليس ببيع صحيح شرعاً ، إذا كان المقصود منه بيع التقسيط مع عدم التمليك الآن.

تنبيه :

إن الخوف الذي يساور البائع بالنسيئة قد لخصناه في نقطتين :

1 - تخلف المدين عن الدفع في الموعد المحدد ، فهنا وان أمكن اجبار المدين على الدفع بعد الرجوع الى المحكمة وإدانته بواسطة الحاكم إلاّ أن الضرر الذي توجه للبائع قد حصل ولا يمكن رفعه. نعم الذي يحصل هو رفع استمرار الضرر بحكم الحاكم.

2 - اذا فلس المدين قبل حلول الأجل ، فإنَّ الدُيّان الذي حل أجلهم يأخذون ما عند لمفلس ويقتسمونه ، ويبقى الدائن بالنسيئة عند حلول اجله صفر اليدين من حقه الذي متعلق بذمة المدين ( المشتري بالنسيئة ) ، او على أحسن الاحوال اذا فلس المدين عند حلول اجل دين البائع ، فهنا يكون حاله كحال الديان في اقتسام ما عند المفلس من مال يمكن بيعه ويقع التحاصى بين الديان ، وهذا فيه ضرر على البائع - ايضاً -.

وقلنا فيما سبق قد يلجأ البائع بالنسيئة - تخلصاً من هذين الضررين - الى

ص: 57

البيع الإيجاري الذي اشكلنا على صحته في صورة تلف البيت ومطالبة ( المالك المؤجر ) بالاقساط الباقية بعد التلف. ولكن هنا نقول : يوجد عندنا طريق صحيح يفي بدفع كلا الضررين وهو بيع الدار نسيئة او بالاقساط ولكن يشترط البائع على المشتري الدفع في الوقت المحدد ، فان لم يدفع يحق له الفسخ ، وكذا يحق له الفسخ إن فُلِّس ، من قبل الحاكم الشرعي ، وهي إذا لم يدفع المشتري بالنسيئة عند حلول الاجل ولم يكن مفلَّساً فيحق للبائع الفسخ فلا يتضرر لانه يرجع إليه ملكه ، وإن فلس المشتري يحق للبائع ايضا الفسخ حسب الشرط ، وحينئذ تكون هذه الصورة مغنية عن البيع الإيجاري ولكن نقول إنها مغنية في صورة كون السلعة موجودة حتى يكون رجوعها اليه بعد فسخه ، اما إذا لم تكن موجودة كما لو تلفت او باعها ، فستكون للبائع قيمتها في ذمة المشتري فيكون البائع دائناً ، فوقع في الضرر الذي فر منه.

4 - الفرق بين بيع النسيئة والربا :

1 - هناك كثير من الاحاديث الشرعية ذكرت أن بيع المتجانسين ( المكيلين او الموزونين ) لا تجوز فيه الزيادة ، لأنَّ الزيادة فيه تعتبر ربا فضل ان كانت زيادة حقيقية ، او حكمية مثل أن اُقرِض زيدا مئة دينار الى سنة بشرط ان يؤجل الدين الذي عليَّ وهو الف دينار الى ستة اشهر ، أو أن ابيع شيئاً لزيد بمثله ( مكيل او موزون ) نسيئة بشرط أن يؤخر الدين الذي عليَّ الى سنة ، وهذا شيء واضح لدى جميع المسلمين.

2 - في بيع الذهب والفضة : قد منعت الاحاديث من بيع الذهب بالذهب مع الزيادة او نسيئة ، وكذلك الامر في بيع الفضة بالفضة ، أما إذا بعت الذهب بالفضة مع الزيادة فهو امر لا بأس به بشرط أن يكون نقداً ( التقابض قبل التفرق ) ، ومعنى ذلك عدم صحة هذا البيع نسيئة ، حيث اشترطت الاحاديث ( التقابض ) قبل التفرق في هذا البيع الذي يسمى ببيع الصرف ، وهذا واضح ايضا لا يحتاج الى ذكر

ص: 58

الاحاديث لأنها مسلمة لدى الطرفين.

3 - في القرض لا يجوز الزيادة في مقابل الأجل ، وهذا واضح أيضا للاحاديث الكثيرة من الطرفين على ذلك ، فيثبت أن الزيادة في مقابل الأجل ( الإنساء ) لا يجوز في القرض.

4 - ما نحن فيه وهو بيع السلعة مؤجلاً ( بيع التقسيط ) بالدينار او بغيره من الاثمان ففي هذا البيع وجد نسأ وهو تأجيل الثمن ، ووجد فضل ( كما إذا باع السلعة باكثر من ثمنها النقدي في صورة بيع النسيئة حيث تباع بثمن مقسط اكثر من ثمنها حالاً.

والذي نريد أن نقوله هو : إن الامور الثلاثة الاولى ثابتة بالآثار الشرعية الواضحة ، اما الامر الرابع فلابد فيه من إثبات جواز الانساء وجواز الفضل ، فنقول :

أ - أما الامر الاول : وهو جواز بيع التقسيط ( بيع النسيئة ) فقد تقدمت الاحاديث الدالة على جوازه في هذه البيوع المختلفة جنساً ولم تكن من النقدين ( الذهب والفضة ). ولكن لماذا الجواز هنا ، والمنع في بيع الذهب بمثله ، والفضة بمثلها وحتى في بيع الذهب بالفضة ؟

الجواب : إن التعبد الشرعي هو الذي الزمنا بمنع البيع نسيئة في النقدين ( الذهب والفضة ) حيث اشترطت الروايات في بيع الصرف ، القبض قبل التفرق ولو قلنا إن هذا حكم عام لكل نقد وإن لم يكن ذهباً او فضة ( كما هو محتمل ) ، فمع هذا يكون الجواز في بيع السلعة بثمن نسيئة ، للفرق بين بيع الاموال النقدية بالاموال النقدية ، وبيع السلع بالاثمان ، سواء كان الثمن مقدماً والمثمن مؤخرا وهو بيع السلف ( السلم ) الذي دلت الادلة على جوازه من الكل ، أم كان المثمن مقدماً والثمن مؤخراً وهو بيع النسيئة الذي دلت الادلة على جوازه من الكل ايضاً إلاّ النادر.

ب - اما الامر الثاني : وهو كيف نحلل جواز الزيادة ( في بيع النسيئة ) عن

ص: 59

البيع الحال ؟ وبعبارة اُخرى لماذا جاز أخذ الزيادة في بيع النسيئة بداعي الأجل ولم يجز ذلك في القرض ؟

نقول : إن جمهور الفقهاء من العامة (1) علَّلُوا أخذ الزيادة في بيع النسيئة في

ص: 60


1- ذكرهم وذكر عباراتهم بالتفصيل الدكتور رفيق يونس المصري في بحثه المعنون : « بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي » ص 24 - 28. وقد حدث لي حادث في الدورة السابعة لانعقاد مجلس مجمع الفقه الإسلامي (بجدة) حيث كنتُ أشير في مداخلاتي إلى الرأي المخالف للإمامية وعلمائهم بالعامة من دون قصد الاسائة إلى أحد، كما كانت هذه الطريقة هي التي كتبتُ فيها مقالتي «بيع ا التقسيط». وقد أوجب هذا التعبير في خصوص هذا المجمع استياء لدى البعض ظهر في مداخلاته على الموضوع، وقد طلب مني رئيس المجمع «الدكتور بكر بن عبد اللّه أبو زيد» في جلسة الاستراحة أن أعبر عن الرأي المخالف للإمامية «بأهل السنة»، لأن مثل هذه المؤتمرات يجب فيها رعاية شعور الآخرين واحترامهم. وقد نزلت إلى تلك لما وجدتُ فيها من الرعاية لمشاعر الآخرين واحترامهم. ولكن في الدورة العاشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة ما بين 23 - 28 صفر 1418 ه. ق و في الجلسة الافتتاحية زنّ الأمين العام للمجمع «الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة» بشرى طبع المجمع كتاب «المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب» لرئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد اللّه أبو زيد»، وما أن تصفحت الجزء الأول منه فقط فقد تذكرت الحادثة المتقدمة التي حصلت لي بالخصوص، حيث وجدتُ أن الرئيس يعبر عن الامامية وينقل عن الغير التعبير «بالرافضة » و« أهل البدع» ويجعلهم خارجين عن جماعة المسلمن حيث يصل به الأمر الى تكفيرهم في بعض المواضع تبعاً لما قاله أحمد بن حنبل. راجع الجزء الأول من الكتاب المذكور ص 106 و 363 و 364 و 375 و 391 و 418 و 549 و 582 و 584. أفهل يصح من رئيس مجمع للدول الإسلامية حيث يحذر من الفرقة ويدعو إلى احترام مشاعر الآخرين واحترامهم، وتشترك في هذا المجمع طائفة الإمامية بصورة رسمية كما يدعى خبراء من نفس الطائفة للاشتراك أيضاً ويعبر عن الطائفة الإمامية بتعابير بحيث يصل الأمر إلى تكفيرهم ولا يرضى أن يُعبر عن المخالفين للإمامية «بالعامة»؟! ونحن إذ نضع هذا الأمر بين يدي المنصفين من فقهاء الأمة، نسأل اللّه تعالى العفو والارتفاع عما لا يرضي اللّه سبحانه وتعالى وأن يلهمنا السداد في القول والعمل وان تتبع الهدى والرشد الذي أمرنا ب--ه الأئمة عليهم السلام .

مقابل الأجل بقولهم : « إن للاجل قسطاً من الثمن » ، ولكن هذا التعليل هو الذي جاء لنا بالشبهة القائلة : « إن الشارع المقدس قد حرّم الزيادة في مقابل الأجل كما في القرض ، فلماذا أحلها في مقابل الأجل في بيع النسيئة ؟ فما هو الفرق بين الصورتين ».

نقول : إن هذا الفرق هو الذي نريد بيانه هنا ( خصوصاً وأن بعض الفقهاء قد حرّم (1) هذه الزيادة في مقابل الاجل في بيع النسيئة ) ، وسوف نبين الفرق على مستويين :

1 - إن الفرق بين الصورتين على مستوى الادلة الشرعية هو شيء واضح جلي ، حيث ان الادلة الشرعية دلت على جواز الزيادة في بيع النسيئة بداعي الاجل ( النسأ ) ، ودلت الادلة الشرعية ايضا على حرمة الزيادة في مقابل الأجل في عقد القرض.

2 - إن الفرق بينهما على مستوى النظرية الإسلامية هو شيء يحتاج الى بيان اي عندما نتدرج من الاحكام والادلة نعرف السرّ الذي فرَّق بين الصورتين وهو معنى النظرية الإسلامية الفارقة بين الصور.

النظرية : تقول إن السلع المبيعة تختلف عن النقود والسلع المقروضة ، فالسلع المبيعة قد أجاز الشارع المقدس للفرد أن يوسع ماليته عن طريق تملكها والإتجار بها ( بان يبيعها أو يؤجرها ومعنى الإجارة هو بيع المنفعة ). وما ذاك إلاّ لان السلعة هي عمل مختزن يجوز للانسان أن ينتفع به بكل انحاء الإنتفاع غير المحرم ، ومن الإنتفاع غير المحرم البيع والإجارة. وبطبيعة الحال عندما يؤجر الإنسان سلعته ويحصل على الايجار فهو قد دفع الى المستأجر منافع السلعة المؤجرة ، وهذه المنافع عندما تستوفى تستهلك تلك السلعة ( العمل المختزن ) بالتدريج فتقل قيمة العمل

ص: 61


1- انظر نيل الاوطار 5 / 172 ، فقد ذهب الناصر والمنصور باللّه والهادوية والإمام يحيى وغيرهم الى الحرمة.

المختزن فيها.

وكذلك إذا باع الإنسان سلعته ، فإنه قد حوّل العمل المختزن ( الذي اوجده هو أوْ ملكه بالشراء ) في السلعة الى الغير وأخذ في مقابله كمية من المال ، وهذا أيضا قد أجازه الشارع المقدس ، والادلة على ما قلناه هي ما ورد من الاحاديث الشريفة في باب الاجارة والبيع الواردة في كل المجاميع الفقهية الإسلامية. اما بالنسبة للنقود : فبما أن القرض هو عبارة عن تمليك الغير النقد مع الضمان ، فاذا أقرضت مئة دينار ، فاكون أنا قد ملّكت المقترض هذا المبلغ مع اشتراط ضمانه للمال يدفعه بعد سنة مثلاً ، وكذا الامر في إقراض السلع المثلية او القيمية ، فان معنى قرضها هو تمليك المقترض السلعة وان كانت قيمية مع اشتراط ضمان المقترض لقيمتها وقت القرض.

إذا عرفنا ذلك : فالادلة القائلة بان القرض لا تجوز فيه الزيادة تدلنا على أن الشارع المقدس لم يُجوّز لنا أن ننمي ثروتنا عن طريق الإقراض للنقد او للسلع ، حيث اننا إذا اقرضنا النقد او السلعة ( وهو معنى تمليكها مع الضمان ) وأخذنا في مقابل الأجل شيئاً فحينئذ يكون المقرض قد أخذ شيئا من دون أن يعطي شيئا ومن دون أن يُستهلك شيء من نقده او سلعته ، لان المقترض يجب عليه أن يرجع النقد الذي اقترضه كما هو ، ويرجع ما اقترضه إن كان سلعة قيمية بقيمتها حين الإقتراض ، ويرجعه بمثله إن كان المال المقترض سلعة مثلية ، من دون استهلاك او نقص للسلعة المقترضة ، وعلى هذا سوف يكون ما قد أخذه المقرض في مقابل الأجل اكلاً للمال بالباطل ، وقد نهانا القرآن الكريم عن اكل المال بالباطل قال تعالى : (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (1).

وبعبارة اخرى : إن المقرض إذا كان من المفروض ان يُرجَع إليه ما أقرضه

ص: 62


1- النساء ، 29.

للغير كما هو من دون استهلاك ولا نقص ، فيكون ما أخذه في مقابل الاجل بالإلزام والشرط هو كسب من دون عمل ، وهو لا يجوز شرعاً ولا يجوز من ناحية الاقتصاد اذ هو معنى ما يقال عن هذه العملية ( من تحرك الميزان التجاري من جانب واحد ) وهو لا يجوز اقتصادياً ، لان الذي يأخذ شيئاً في المفهوم الاقتصادي التجاري لابد ان يعطي شيئا من عمل مخزون او مباشر (1). وقد يقال إن المقرض قد اعطى مقابلاً الى المقترض ( عندما تسلّم النقد المحتاج اليه وملّكه اياه مع الضمان ) وهو « اتاحة فرصة الانتفاع » وحينئذ يحق للمقرِض أن يأخذ زيادة على المال في مقابلة اتاحة فرصة الانتفاع. ولكن نقول : إذا كانت إتاحة فرصة الإنتفاع ذات قيمة معينة ، اذن فلكل واحد من الناس إذا اتاح فرصة الإنتفاغ لغيره ( من دون استهلاك في السلعة المنتفع بها ) أن يأخذ منه فائدة ، ولكن لا قائل بهذا في الفقه الإسلامي الإمامي. ولعل السر هو أن أتاحة فرصة الإنتفاع هي حكم شرعي ، بمعنى يجوز لمالك المال أن يقدم فرصة الإنتفاغ بماله الى غيره ، ويجوز له ان لا يقدم ، وحينئذ لا يكون هناك حق لصاحب المال ، واذا لم يكن هناك حق فلا يجوز له أن يقابله بالمال (2).

نعم : ان إتاحة فرصة الإنتفاع بالمال مع المشاركة في الخسارة - ان وجدت - كما في عقد المضاربة هما معا يسوغان الربح المحتمل ، لانه يعبر عن تحرك الميزان من

ص: 63


1- ومن الطبيعي في العقود الربوية المشترط فيها الزيادة في عقد القرض ، والملزمة للمقترض ، لا يمكن القول بان الدافع قد تبرع بالزيادة الى المقرِض حتى تكون صحيحة ، اذ لا يجتمع الإلزام بالزيادة من قبل المقرض والتبرع من قبل المقترض.
2- الفرق بين الحكم والحق هو : أن الحق قابل للاسقاط بينما الحكم غير قابل للاسقاط ، وثانيا : ان الحق يقابل بالمال بينما الحكم لا يقابل بالمال. ويمكن ان يستدل على ان تقديم فرصة الإنتفاع بالمال الذي أملّكه لغيري هو حكم شرعي وليس حق ، بهذا البيان : نقول لو قلت لغيري ( اسقطت حقي في أن انفعك بهذا المال ) فانني لو قلت ذلك مئة مرة فلا يسقط حقي في ان انفعك به بواسطة القرض ، فمن هذا نستدل على ان حقي في انتفاعك يمالي بواسطة القرض هو حكم لا حَقْ ، ولو كان حقاً لسقط هذا الحق الذي لي.

طرفين ( ان وجد الربح فلصاحب المال وللعامل ، وان وجدت الخسارة فهي على صاحب المال ، واما العامل فقد خسر عمله ). أوْ أنَّ إتاحة فرصة الإنتفاع بالمال مع كون المال قابلا للاستهلاك في مدة فرصة الإنتفاع كما في الإجارة للبيت أو المعمل هما معا يسوغان اخذ الفائدة ( الاُجرة ) حيث تكون الاُجرة في مقابل حق الإنتفاع مع قابلية العين المؤجرة للاستهلاك فيدخل تحت التجارة عن تراض. نعم : الشارع المقدس قد فتح باب تنمية الثروة النقدية عن طريق دخولها في الاستثمار التجاري باحتمال الربح والخسارة ، فمن له الربح يتحمل الخسارة إن حصلت ولو عن طريق إدخال المال في عملية المضاربة الشرعية مع الآخرين ، فيشترك النقد من زيد مع العمل من الآخرين في التجارة ، فإن حصل ربح يقسم حسب ما اتفقا عليه من النسبة في العقد ، وإن خسرت التجارة فيتحمل الخسران صاحب النقد فقط ، اما العامل فقد خسر عمله ، فلا نحمّله خسارة اكثر من ذلك. وعلى هذا التفسير إتضح لماذا لم يجز الشارع المقدس القرض مع الزيادة لأجل الأجَل ، لان الزيادة لم يكن في قبالها شيء فيكون أخذها من قبل المقرض ظلماً واكلاً للمال بالباطل وهو لا يجوز ، واتضح لماذا أجاز الشارع المقدس البيع نسيئة بزيادة على الثمن الحال بداعي الاجل ، حيث أنَّ كل الثمن يكون في مقابل السلعة المبيعة فقد أعطى البائع عمله المخزون في قبال المال ، ومن حق كل إنسان أن بيع سلعته ( التي ملكها بالشراء او انتجها بجهده البشري ) باي ثمن أراد إذا علم المشتري بقيمتها الحالية ، وحينئذ لا يكون للمشتري خيار الغبن بعد ذلك ، واما إذا باعها باكثر من قيمتها ( مع عدم علم المشتري بذلك ) فالبيع صحيح ولكن يثبت خيار الغبن للمشتري إذا عرف أن قيمتها اقل من السعر الذي بيعت إليه. كما أن للانسان الحق أن يبيع سلعته نسيئة باكثر من ثمنها الحال فيكون الاجل داعياً لزيادة قيمتها.

وعلى كل صورة الحق للبائع في بيع سلعته فيكون البائع قد اعطى شيئاً الى المشتري وهو العمل المخزون في السلعة وتسلّم منه مكافأة على هذا العمل المخزون

ص: 64

وهو معنى البيع والتجارة عن تراض وتحرك الميزان من الجانبين الذي هو صحيح إقتصادياً.

نعم : إذا باع البائع سلعته الى المشتري باكثر من قيمتها بصورة علمنا من هذه المعاملة أن المشتري سفيه ، فهنا قد حكم الشارع المقدس ببطلان هذه المعاملة لاشتراطه عدم سفاهة المتعاملين في صحة المعاملة ، والمثال الموضح لهذه المعاملة ، كما اذا باع إنسان لآخر سريراً ( تساوي قيمته السوقية ديناراً واحداً ) بالف دينار ولم يكن هناك اي داع لهذه الزيادة من قبل المشتري للبائع ، فمثل هذه المعاملة تكشف عن سفه المشتري وقد حكم الشارع المقدس ببطلانها.

اذن النظرية تقول : ان الشارع المقدس قد جعل قانونا يقول :

1 - يتمكن الانسان ان ينمّي ثروته بواسطة السلع ( اجارة او بيعاً ) ، والاجارة هي انتفاع للمالك مع استهلاك في السلعة ، وتتميز الاجارة بميزة الضمان في الامر مع عدم الارتباط بنتائج العملية وما يكتنفها من خسائر وأرباح للمستأجر. والبيع هو تمليك العين التي هي عمل مخزون في مقابل مال ، ونختصر التعبير عن هذا القانون بقولنا : « يجوز للانسان ان يأخذ مالاً في مقابل العمل ».

4 - النظرية تقول : إن ما يُقرض يعاد من دون استهلاك او نقص ( كما هو الفرض ) وحينئذ فتنمية الثروة بواسطة الإقراض مع الزيادة معناها اخذ من دون عطاء ، وأخذ من دون عمل ، وهذا محرم في الشريعة الإسلامية ، ونلخص التعبير عن هذا القانون بقولنا : « كل كسب لا يسوغه عمل منفق فهو حرام » او : « لا يجوز الكسب من دون عمل » في المنظار التجاري. وإليك بعض المصاديق لهذه النظرية : 1 - إذا أجَّرت داراً بخمسين ديناراً ثم أجرتها بالسعر نفسه مع شرط سكناي في هذه الدار ، أو أجرتها باكثر من خمسين دينار مع عدم سكناي في الدار ، فهنا يوجد كسب قد حصلت عليه من دون عمل وهو لا يجوز كما عليه جملة من علماء

ص: 65

الاسلام (1) وفي هذا الحكم نصوص كثيرة منها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ( الإمامين الباقر او الصادق علیهماالسلام « أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه قال : لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئا » (2). وصحيحة محمد بن مسلم الثانية عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ، قال : لا بأس قد عمل فيه » (3). وصحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام « في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها باكثر مما استأجرها به ، قال علیه السلام : لا يصلح ذلك ألاّ ان يحدث فيها شيئاً » (4) وغير هذه الروايات.

هذا وقد نقل الجزيري عن فقهاء الاحناف : « أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين كُجنيه في الشهر ، فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة » (5).

وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه : « عن الشعبي في رجل استأجر بيتا وأجَّره باكثر مما استأجره به ، أنه لا بأس بذلك اذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل ، وعلق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنه انما يجوز له أن يستفضل اذا كان يعمل فيه عملاً ، نحو فتح الباب وإخراج المتاع ، فيكون الفضل له بازاء عمله ، وهذا فضل اختلف فيه السلف ... وكان ابراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فان زاد فيه شيئاً طاب له الفضل ، واخذنا بقول ابراهيم » (6).

ص: 66


1- كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي ، راجع المبسوط للشيخ الطوسي ، ج 3 ، ص 226 عن اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر ، ص 607.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 23 من احكام الاجارة ، ح 1.
3- المصدر السابق : ح 5.
4- المصدر السابق : باب 22 ، ح 4.
5- الفقه على المذاهب الاربعة ، ج 3 ، ص 117.
6- المبسوط ، للسرخسي ، ج 15 ، ص 78 ، عن اقتصادنا ، ص 613.
النتيجة من التحقيق والتحليل وبيان النظرية الإسلامية :

إتضح بما لا غبار عليه : « ان الزيادة في بيع النسيئة ( عن الثمن الحال ) ليس لأجل الزمن » بل هي في مقابل العمل المخزون في السلعة ، وبهذا ارتفع اصل الإشكال على بيع النسيئة. واتضح ايضا أن الزيادة في عقد القرض تكون كسباً من دون عمل وهي اكل للمال بالباطل فلا تجوز شرعاً كما لا يجيزها الإقتصاد القائل : لابد ان يتحرك الميزان من الجانبين.

تسويغات خاطئة لصحة بيع النسيئة :

ثم ان هناك تسويغات خاطئة لبيع النسيئة باكثر من الثمن الحال ، فلا بأس بعرضها وردِّها :

1 - قالوا : إن الزيادة هي في مقابل الأجل ، وقد ذكر الفقهاء أن للاجل قسطاً من الثمن. وصاحب هذا القول (1) يثبت ان هذه المعاملة ربوية إلاّ انه ليس كل ربا محرم ، بل هذا ربا حلال ، والربا المحرم في غير هذا المورد ، وانما هو في بيع المتجانسين وفي الذهب والفضة ، وفي القرض. نقول : اتضح من تحقيقنا السابق عدم صحة هذا القول ، اذ الزيادة ليست هي في مقابل الاجل ، بل الثمن كله في مقابل السلعة وكان الأجل داعياً للزيادة في الثمن.

2 - ذكروا ان زيادة الثمن في بيع النسيئة يمكن أن تكون لسبب المخاطرة ( وهي مخاطرة التخلف او التأخر عن سداد الدين ، او مخاطرة هلاك الدين ، او مخاطرة تقلبات الاسعار كما إذا ارتفع السعر ) (2) نقول : العجب ممن يدعي المعرفة بالفقه الإسلامي أن يقع في تأثير الفكر الرأسمالي الذي يتجه الى تفسير الربح

ص: 67


1- بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي ، د. رفيق يونس المصري ، ص 37.
2- المصدر السابق.

وتسويغه على أساس المخاطرة ، ولأجل الرد على هذه الفكرة نقول : ان المخاطرة هل يمكن ان تكون وسيلة للكسب ؟ وهل الإيثار يمكن أن يكون وسيلة للكسب ؟

والجواب : كما تعرض له السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه في كتابه اقتصادنا (1) فقال :

لا يمكن أن يكون احد هذين الامرين وسيلة للكسب وذلك : « فان المخاطرة في الحقيقة ليست سلعة يقدمها المخاطر الى غيره ليطالب بثمنها ، وليست المخاطرة عملا ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقه تملّكها او المطالبة بأجر على ذلك من مالكها. وانما المخاطرة ( هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه ، فاما أن يتراجع انسياقا مع خوفه ، واما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق واختار بمل بارادته تحمل مشاكل الخوف بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا ) فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتياً وليس عملا مجسداً في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الاحيان ، قد يكون ذا اهمية كبيرة من الناحية النفسية والخلقية ، ولكن التقييم الخلقي شيء والتقييم الإقتصادي شيء آخر ».

ثم إن الديون اذا كانت مدعمة برهن وضمانات كافية فهل لا تؤخذ عليها فائدة ( عند من يقول إن الفائدة هي في مقابل المخاطرة ) ؟! وهل إن البيع بنسيئة ( بثمن اكثر من الحال ) اذا كان مدعماً بضمانات ورهن كاف هل لا يجوز اخذ الزيادة على الثمن الحال ؟! او أن المخاطرة إذا كانت في بعض البيوعات فهي كافية لتسويغ اخذ الفائدة في مقابل الاجل ( كما يقولون ) حتى في البيوعات التي ليست فيها مخاطرة ؟

ص: 68


1- ج 2 ، ص 633 ، طبعة دارالتعارف ، بيروت. وننصح من يهتم بالاقتصاد الاسلامي بدراسة هذا الكتاب الجليل.
تفسير عملية المضاربة وأخذ الربح في مقابل المال :

إن عملية المضاربة التي قلنا إنها معاملة شرعية ، يستحق صاحب المال ( النقد ) على نقده ربحاً ، كيف نفسر استحقاق صاحب النقد للربح ؟ قد يقال : إن المالك للمال انما يستحق الربح في عقد المضاربة نتيجة عامل المخاطرة الذي أقدم عليه ، وسلم امواله الى العامل ليتاجر بها ، فهو قد خاطر في امواله ( بهلاكها وتلفها ). ولكن نقول : إن هذا التفسير خطأ فاضح وتوضيح ذلك : إن الربح الذي يحصل عليه المالك للمال في عقد المضاربة هو نتيجة اتجار العامل بأموال المالك ، فالمالك للمال عندما يسلّم امواله الى العامل ليتّجر بها لم تخرج تلك الاموال عن ملكه وحينئذ يصبح مالك المال هو المالك لما يشتريه العامل بهذه الاموال ، نعم ان هذه السلع المشتراة بنقد المالك تزداد قيمتها غالباً بعمل العامل الذي ينفقه على السلعة من نقلها الى السوق واعدادها بين أيدي المستهلكين ، ولكن تبقى السلعة هي ملك لمالك النقد ، للقاعدة القائلة : « ان كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها » كما في الصوف الذي يملكه زيد إذا غزله شخص آخر فهو لا يخرج عن ملك زيد رغم زيادة قيمته بواسطة عمل عامل فيه ، وهذا ما اُطلق عليه في الفقه الإسلامي : « ظاهرة الثبات في الملكية » وعليه ادلة كثيرة من الشارع المقدس لسنا الان بصدد ذكرها.

وبهذا اتضح أن حق صاحب المال في الربح في عقد المضاربة هو نتيجة ملكية صاحب النقد للسلعة المشتراة بامواله ، وقد باعها العامل وربح عن طريق بيعها فهو نظير حق مالك اللوح في السرير الذي يصنع من لوحه. واتضح ايضا أن صاحب المال في عقد المضاربة يستحق هذا الربح وان لم يمارس اي لون من الوان المخاطرة كما إذا اتجر شخص بأمواله من دون علمه وربح في تجارته ، فان بامكان صاحب المال في هذه الحالة أن يوافق على ذلك ويستولي على الارباح ، وهذا الحق لا يقوم على اساس المخاطرة.

ص: 69

ولنا أن نقول ( لمن يدعي أن المخاطرة هي السبب في الكسب ) من باب النقض عليه اذن يلزمكم أن تحللوا القمار فانه كسب ناتج على اساس المخاطرة وحدها حيث إن الفائز يحصل على الرهان لانه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه إذا خسر الصفقة ، ولا ندري لعل القمار ( عند المحل للكسب على اساس المخاطرة ) جائز كما هو جائز عند التفكير الرأسمالي. ولكن كلامنا لمن يلتزم الشريعة الإسلامية منهجاً في حياته ولا يؤثر عليه التفكير الرأسمالي في حياته الإقتصادية ، فان الشريعة الإسلامية قد حرمت القمار تحريماً حاسماً كما حرمت الربا وما ذاك كله إلاّ للنظرية القائلة : « لا يجوز الكسب من دون إنفاق عمل مباشر او مختزن » وقد عرفنا ايضا تسويغ أخذ الربح في عقد المضاربة ، حيث إنه لا يتنافى مع هذه النظرية المتقدمة (1).

* * *

ص: 70


1- راجع الملحق في آخر الكتاب.

أثر الموت في حلول الأجل

اشارة

ص: 71

ص: 72

إن المال الذي يدفع مؤجلا له صور متعددة : منها

1 - في مال السَلَم ، فان المثمن يكون في هذا العقد مؤجلا.

2 - في الجناية الخَطَئية المحضة ( فمال الجناية هنا على العاقلة ) ، وشبه العمد ، فقد أجل الشارع الدية في هذين الموردين ، ففي المورد الاول اجلّها ثلاث سنين ، وفي المورد الثاني أجلّها سنتين على قول المشهور ، وهناك قول آخر يقول انها تستوفى في ثلاث سنين (1).

اما في مال الجناية العمدية فهي تؤجل سنة واحدة ، والدّية في المورد الثاني والثالث على الجاني.

3 - في الدَّين او القرض ، كما إذا باعني بيتاً وبقي قسم من الثمن في ذمتي ، او أقرضني كمية من المال لمدة معينة.

ففي هذه الحالات أو غيرها مما شابهها تكون ذمة الانسان مشغولة لغيره بكمية من المال ، وحينئذ اذا حصل الموت فهل يؤثر الموت في حلول الأجل ؟

نقول : نتكلم اولاً في حالة موت المدين ، ثم نتكلم في حالة موت الدائن.

ص: 73


1- مباني تكملة المنهاج ، ج 2 ، ص 195 للإمام الخوئي.

أولا : إذا مات المدين :

اشارة

ذكر فقهاء الإمامية أن المدين إذا مات فقد حلت جميع الديون المؤجلة عليه ، والدليل الذي يذكرونه على ذلك هو الروايات ، منها صحيحة الحسين بن سعيد ( المضمرة ) : « قال سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم الى أجل مسمّى ، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض عند موت المستقرض منه ، او للورثة من الاجل مثل ما للمستقرض في حياته فقال علیه السلام : اذا مات فقد حل مال القارض » (1). ومنها رواية السكوني عن جعفر عن ابيه علیهماالسلام انه قال : « اذا كان على الرجل دَين الى أجل ومات الرجل حلّ الدَين » (2).

ولعل النكتة العقلائية والعرفية في حلية ديون المدين اذا مات هي أن المدين قبل موته كانت له ذمة قد شغلت بمال لغيره مؤجلاً الى أجل ، فمادامت هذه الذمة موجودة مادام حيّاً يبقى المال مؤجلاً حسب العقد او الشرط او التمديد الشرعي ، اما اذا مات المدين فقد زالت الذمة التي افترضناها مدينة ويتعلق حق الدائن في التركة التي بقيت للميت ، وهذا هو معنى حلول الدين بموت المدين ، ويكون الدائن له الحق في هذه التركة مقدماً على جميع الورثة ، اذ لا تركة إلاّ بعد سداد الديون وكذا لا تركة إلاّ بعد وصية من الميت كما هو الدستور الالهي الإسلامي المستند الى الآية القرآنية ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) (3).

إشكالات :

1 - قد يقال : إن الاجل الذي ضرب في عقد السلم يقتضي قسطاً من الثمن ،

ص: 74


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 12 من ابواب الدَّين ، ح 2.
2- المصدر السابق ، ح 3.
3- النساء ، 11.

فكيف يحل المثمن بموت البائع الذي اصبح مديناً للمشتري بعقد السلم ؟

2 - إذا اشترى انسان من آخر شيئاً نسيئة ، فبما أن للاجل قسطاً من الثمن ، فكيف يحل الدين بموت المشتري ؟

3 - قد يقال : إن الشارع المقدس قد فرّق بين الجنايات ، فجعل الجناية الخطئية المحضة والجناية الشبه عمدية مؤجلة أجلاً اكثر من أجل الجناية العمدية فكيف تحل بموت الجاني اذا كان الجاني قد جنى جناية شبه عمد ( او موت العاقلة كما اذا كانت العاقلة افرادا معدودين وقد ماتوا كلهم لسبب ما وقد جنى الجاني جناية خطئية محضة ) ؟ اذا حل مال الجناية الخطئية المحضة وشبه العمدية يوجب ان يكون حكم الجناية العمدية المؤجل الى سنة هو اهون من حكم الجناية الخطئية المحضة وشبه العمدية ؟ وهذا قد يقال إنه مناف لحكم الشارع بالفرق بينها حسب شدة الجريمة وضعفها.

جواب الإشكالات :

نقول في الحقيقة ان هذه المقولة « للاجل قسط من الثمن » مقولة فيها شيء من التسامح ، إذ إن الاجل المؤجل يكون داعياً للزيادة ، فمثلاً إذا كان سعر السكر الآن ديناراً واحداً ، ولكن إذا اشتريته الآن على أن يسلم بعد ستة اشهر فتكون قيمته الآن نصف دينار ، فحينئذ عندما اشتري كمية من السكر الآن على أن أتسلمها بعد ستة أشهر ، يكون هذا الاجل داعياً لتقليل قيمة السكر في هذه العملية البيعية وحينئذ عندما يقع البيع ، يقع على كون كل كيلو من السكر يكون في مقابل نصف دينار ، بشرط أن أتسلمه بعد ستة اشهر ، وهذا هو معنى ان يكون الاجل المتأخر هو الداعي لتقليل قيمة السلعة اذا كانت السلعة تسلم بعد ذلك الاجل. ففي الحقيقة نحن لم نجعل شيئاً من الثمن في مقابل الاجل حتى يأتي الإشكال الذي يقول : اذا مات المدين فكيف تحل ديونه مع أن للاجل قسطا من الثمن ؟

ونفس هذا الكلام نقوله في الجواب عن الإشكال الثاني ، فان من يشتري

ص: 75

بالنسيئة لم يجعل شيئاً من الثمن في مقابل الاجل حتى يأتي الاشكال المتقدم ، بل إن البائع والمشتري معا عندما يعلمون ان الثمن سوف يسدد بعد ستة اشهر فيكون هذا العلم داعياً لأن يقع البيع على السلعة بثمن اكبر من قيمتها الحالية ، وحينئذ إذا بيعت السلعة بثمن اكبر من قيمتها الحالية مع علم المشتري بذلك فيكون كل الثمن في مقابل السلعة وليس شيئاً من الثمن في مقابل الاجل ، بل يكون الاجل المتأخر داعياً للزيادة.

واما الجواب عن الإشكال الثالث : فنقول إن الشارع عندما جعل الدية مؤجلة أجلاً بعيداً في بعض صور القتل ( كإرفاق بالقاتل ) هو في صورة كون القاتل له ذمة تتعلق بها الديون ، اما إذا مات ، فلا ذمة ، فقد زال موضوع تأخير الدية ، فحينئذ تكون حالّة. وفي التعبير الفني نقول إن الشارع المقدس قد جعل الدية ( في صورة القتل الخطئي المحض وفي صورة القتل الشبيه بالعمد ) مؤجلة ، وهذا الحكم له فردان ، الفرد الاول يبقى القاتل حياً الى ان ينقضي الاجل ، والفرد الثاني لا يبقى القاتل حياً الى أن ينقضي الاجل بل يموت قبل ذلك. ثم حكم الشارع المقدس بان القاتل اذا مات حل الدين الذي عليه ، وهذا الحكم اخص من الحكم الاول فيخصص الحكم الاول بغير هذه الصورة فيكون الحكم الاول هو في صورة ما اذا لم يمت القاتل فان الدية تبقى مؤجلة الى الاجل الذي حدده الشارع المقدس ، وعلى هذا التصوير لا يقال إن الحكم بحلول الدية مناف لحكم الشارع المقدس ، لان حكم الشارع العام يخصصه المخصص.

اذن الفرق الذي جعله الشارع المقدس بين الجنايات تبقى له فائدة في كل جناية لم يحصل معها موت من عليه أن يدفع الجناية. وهذا الفرق بين الجنايات في هذه الصور هو غرض الشارع المقدس ، فلا منافاة بين تشريعه الآجل في مال الجنايات وبين تشريعه حلّ الديون اذا مات من عليه أن يسلم مال الجناية. ثم اننا نقول : إن اشتراط تأجيل المثمن في بيع السلم ، واشتراط تأجيل الثمن في بيع

ص: 76

النسيئة واشتراط الشارع أن تكون الدية في بعض الصور مؤجلة ، إنما يجب العمل بمقتضى هذه الشروط ان كنا نحن وهذه الشروط التي أمامنا ، اما إذا جاء دليل من الشارع له نظر الى هذه الشروط ويقول إنها ساقطة في حالة موت المدين ، فيكون الدليل الحاكم متقدما على الدليل المحكوم ، فهنا نقول إن الروايات القائلة اذا مات المديون فقد حلت جميع ديونه حاكمة على صحيحة عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام : « المسلمون عند شروطهم » (1) فتقدم. او نقول إن الروايات القائلة إذا مات المديون حلت ديونه هي مخصصة لعموم المؤمنين عند شروطهم ، فتندفع الإشكالات الثلاث ايضا.

ثانياً : إذا مات الدائن :

اما إذا مات الدائن فان الديون التي له على غيره لا تحل ، للأدلة التالية :

1 - إن القواعد الاولية كما في آية ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) تقول إن بيع السلم يجب الوفاء به سواء مات الدائن ( وهو هنا المشتري ) ام لا ، وكذا فان مفاد ( المسلمون عند شروطهم ) هو يجب الوفاء بالشروط ، فاذا كان الشرط في عقد القرض او البيع نسيئة هو ان اسلّمه المال المقترض بعد ستة اشهر او ادفع له سعر السلعة بعد مدة معينة ، فهنا يقول الحديث الشريف « المسلمون عند شروطهم » يجب الوفاء بذلك الشرط سواء مات الدائن ام لا ، وكذا الامر عندما حدد الشارع المقدس الاجل لدفع الدية في بعض صور القتل ، فان هذا الشرط هو شرط الهي يجب العمل به سواء مات الدائن ( وهو وارث المقتول خطأ او شبه العمد ) أم لم يمت. ثم إنه لا يوجد هنا نص صحيح يخرج هذا الفرد من تحت قاعدة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و « أوفوا بالشروط » كما في صورة موت المدين ، فحينئذ يبقى الدين بحاله لا يحل إلاّ

ص: 77


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 6 من أبواب الخيار ، ح 2.

بتحقيق الاجل.

نعم ، توجد هناك روايتان مرسلتان تقولان : اذا مات الانسان حلت ديونه التي له والتي عليه ، وهما مرسلة الصدوق قال : « قال الامام الصادق علیه السلام اذا مات الميت حلّ ماله وما عليه » (1) وفي نفس المضمون مرسلة ابي بصير (2) إلاّ أن هاتين الروايتين مرسلتان فلا يجوز العمل بهما لاستنباط الحكم الشرعي إذا لم يكونا حجة ، بالاضافة الى انهما مهجورتان عند معظم الاصحاب من الإمامية.

2 - لا يمكن قياس ديون الإنسان التي يطلبها على ديونه المطلوب بها ، لوجود الفرق ، وذلك فان ديون الإنسان المطلوب بها إذا كانت مؤجلة وقد مات ، فهنا اذا قلنا إنها لا تحل إلاّ اذا جاء الأجل ، فحينئذ ماذا نقول للورثة ؟ فان قلنا لهم لا تقسموا التركة حتى يحل الدين الذي على الميت ، فهذا يكون ضرراً عليهم. وإذا قلنا لهم اقتسموها من دون انتظار لحلول اجل الدَين ، فهذا يكون فيه تضرر للدائن ، اذ عندما يحل دينه لا توجد تركة للميت. اذن مراعاة لمصلحة الدائن والورثة وعدم الضرر بهما معا ووفقاً للروايات المتقدمة وللآية القرآنية القائلة ان الإرث ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) (3) لابد من القول بحلول الدين على المدين ، وأخذ ما يستحقه وتوزيع الباقي عن الدين ( والوصية ان كانت ) على الورثة (4). وهذا الذي ذكرناه ( في صورة موت المدين ) غير موجود في صورة

ص: 78


1- وسائل الشيعة ج 13 ، باب 12 من ابواب الدين ، ح 4.
2- نفس المصدر ، ح 1.
3- النساء ، 11.
4- إن حجة تضرر الورثة ( الذين مات مورثهم وهو مدين اذا لم يقتسموا التركة حتى يحل الدين ) وتضرر الدائن ( اذا اقتسم الورثة قبل حلول الدين ولم نقل بحل الدين ) غير مقبولة لامكان ان نقول إن الورثة يقتسمون ما عدا مقدار الدين. فان قيل ما هي فائدتهم في اقتسام ما عدا مقدار الدين اذا لم يحل الدين ويدفع للدائن ؟ نقول : الفائدة هي يضعون هذا المبلغ في بنك يمكنهم من اخذ الفائدة منه الى حين الاجل ، فان حل الاجل قدموه الى الدائن وحصلوا على الارباح في هذه المدة او ما شابه ذلك من الاعمال التي تضمن للدائن مقدار دينه ، ويكون فيها ربح مضمون ، وبهذا العمل لم يتضرر الدائن اذا لم يحل دينه ، ولم يتضرر الورثة. ولكن نحن لم تكن حجتنا في حلول الدين بموت المدين هي تضرر الوارث او المدين وانما الروايات والآية القائلة إن الارث هو بعد وفاء الديون.

موت الدائن اذا كانت له ديون مؤجلة على انسان آخر ، اذ لا ضرر على الورثة بانتظار المدين الى حين حلول الاجل ، فلهم الحق في قسمة التركة بمجرد موت مورثهم ، ولا توجد روايات تقول بحلول دين المديون اذا مات دائنه ، فبمقتضى وجوب الوفاء بالعقد ووجوب الوفاء بالشرط هو انتظار الورثة لمدين أبيهم حتى يحل الاجل فيستحقون ما لمورثهم حينئذ.

والظاهر ان هذا الحكم المتقدم ( حلول الدين بموت المدين ) ليس فيه خلاف بين المسلمين ( كما يقول الفقيه صاحب الجواهر قدس سره ) إلاّ من الحسن البصري المنقرض خلافه (1). ويكفي هذا الإتفاق دليلاً على المسألة.

الدائن للميت اذا وجد عين ماله في التركة :

فهل يجوز له اخذها مقدماً على الديان ؟

نقول : يوجد فرق بين المفلّس الذي وجد مع أمواله ( المحجور من التصرف بها ) نفس العين التي باعها اليه البائع ولم يسدد ثمنها ، فهنا ( البائع ) له الحق في أن يأخذ العين ( ان كان دينه حالاً ) مقدماً على كل الغرماء ، ولو كان ما عند المفلس لا يفي بحق الغرماء ، وليس للغرماء الاعتراض على ذلك. ولعل السر في ذلك : أن البائع عندما باع عين ماله الى شخص ولم يسدد المبلغ بعد حلول أجله ، فله المطالبة بالثمن ، فان لم يدفع اليه الثمن كما هو الحال فيما نحن فيه ( لان المدين قد فلس ) فيكون له الحق في فسخ ذلك البيع مادامت العين المبيعة موجودة ، فاذا فسخ فيكون مقدما

ص: 79


1- جواهر الكلام ج 25 ، ص 294.

على بقية الغرماء ، لانها عين ماله في يد المفلس ، فيأخذها من دون منازع. اما بالنسبة لما اذا مات المدين ووجدت عين احد الغرماء في التركة ، وكانت التركة غير وافية بحق الغرماء ، فليس للدائن أن يأخذ عين ماله ، نعم اذا كانت تركة الميت وافية بجميع حقوق الديان ، فهنا يجوز لمن وجد عين ماله أن ياخذها. وقد يقال هنا كما قيل بالنسبة للمفلس وتوضيح ذلك :

ان المدين عندما مات وحلت جميع ديونه ، ومنها ثمن العين المبيعة الموجودة الآن مع تركة الميت ، فالدائن يستحق المطالبة ، واذا لم يدفع اليه الثمن ( كما هو مفروض المسألة من ان التركة لا تفي بديون الميت ) فيتمكن من الفسخ ، فاذا فسخ تقدم على كل الديان في أخذ عين ماله التي عند غيره ، ولا حق للاخرين في منعه عن أخذ عين ماله.

هنا نقول : لكن الروايات فرقت بين الصورتين ففي صورة كون المدين قد فلِّس جاء صحيح عمر بن يزيد عن أبي الحسن علیه السلام ( الامام الكاظم علیه السلام ) قال علیه السلام : « قال سألته عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجلٍ عنده بعينه ، لا يحاصّه الغرماء » (1). والمستفاد من هذا الحديث الشريف العموم ، اي : سواء كانت التركة كافية للديان ام لا. ثم المراد من عدم المحاصة هو فسخ العقد لا عدم المحاصة في الوفاء اذ عدم المحاصة في الوفاء توجب التعرض لزيادة العين على الدين او نقيصتها ، وبما أن الإمام علیه السلام لم يتعرض لهذا ، فيفهم منه فسخ العقد.

وأما في صورة موت المدين ووجود عين الدائن في التركة ، فقد ذكرت الروايات عدم مزاحمة صاحب العين اذا وفت التركة ، فمن الروايات صحيحة أبي ولاد قال : « سألت ابا عبداللّه علیه السلام ( الإمام الصادق ) عن رجل باع من رجل متاعاً الى سنة ، فمات المشتري قبل أن يحل ماله ، وأصاب البائع متاعه

ص: 80


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 5 من ابواب احكام الحجر ، ح 2.

بعينه ، له أن يأخذه اذا حق له ؟ فقال علیه السلام : ان كان عليه دين وترك نحواً مما عليه فليأخذه إن حقّ له فان ذلك حلال له ، ولو لم يترك نحواً من دينه فان صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شيء ، يأخذ بحصّته ولا سبيل له على المتاع » (1).

وقد يكون الفرق بين الصورتين ( بالاضافة الى الروايات ) هو عدم تضرر الغرماء في صورة الفلس اذا قدمنا صاحب العين على الغرماء ، وتضرر الغرماء في صورة موت المدين اذا قدمنا صاحب العين على الغرماء ولم تف التركة بالدين. وتوضيح ذلك :

نقول : بالنسبة للمفلس ( الحي ) - الذي حكم عليه الحاكم الشرعي بالحجر - فان ذمته باقية ، وحينئذ اذا تقدم صاحب العين وأخذ عين ماله فهو بعمله هذا لا يضرر اي واحد من الغرماء حتى اذا لم يكن عند المفلس ما يكفي لسداد دينه ، وذلك لأنَّ الديان انما أقدموا على أن تكون ذمة هذا الانسان مشغولة لهم ، وها هي الذمة باقية ، وهي مشغولة لهم فلا ضرر عليهم اكثر من الضرر الذي هم قد أقدموا عليه. اما اذا مات المدين فقد زالت الذمة التي كانت مشغولة للغير ، وهي إذا جاء صاحب السلعة ووجد سلعته بعينها ، فلو أخذها مقدّماً على الغرماء فقد ضرر الغرماء وهو عمل غير جائز للحديث المشهور : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ».

نعم : اذا كانت تركة الميت كافية لسداد الديون فهنا يجوز لصاحب العين أن يأخذ عينه لان هذا العمل هنا لا يضرر الغرماء ، ولذا قالت الرواية بجواز أن يختص صاحب السلعة بها اذا كانت تركة الميت كافية لسداد الديون. اذا كان الدين على شخص موثقاً ( برهن أو غيره ) فهل يحل الدين بالموت ؟

ذهب بعض الى أن الدين اذا كان موثقاً بما يضمن حق الدائن ، فحتى اذا مات

ص: 81


1- بنفس المصدر ، ح 3.

المدين فلا تحل الديون التي عليه ، بل يبقى الاجل على حاله (1) ، ولعل صاحب هذا الرأي ينظر الى الديون التي تدفعها البنوك لاصحاب الاعمال ، والتي يستوفيها البنك مقسطة ، فان البنك لا يقدم على أخذ كل ديونه اذا مات المدين ، بل يبقى يأخذ أقساطه في موعدها ، لان دينه على الشخص الذي مات قد وثق برهن المعمل او البيت او شيء اخر عند البنك ، فلا يضيع حق البنك بموت المدين حتى اذا كانت تركته لا تفي بسداد كل الديون.

نقول : إن الرهان عقد تابع لعقد الدين ، والرهانة لا تختلف في حالتي موت الراهن وعدمه او موت المرتهن وعدمه ، فان الرهانة توثيق للدين ، فقد يؤخذ الرهن حتى في حالة كون الدين حالاّ ، ولا يوجد أي ارتباط بين الرهن ( الذي هو وثيقة للدين ) وبين الرواية الصحيحة للحسين بن سعيد القائلة « اذا مات ( المديون ) فقد حل مال القارض » (2) فهي مطلقة لما اذا كان الدين قد أخذ عليه وثيقة بما يضمن حق الدائن او لم يؤخذ عليه وثيقة.

نعم ذكر الفقهاء ان موت الراهن ( وهو المدين الذي أعطى وثيقة على الدين ) يجعل الحق للورثة في الامتناع من ابقاء الرهن في يد المرتهن ، لان المرتهن في قبض الرهن هو بمنزلة الوكيل ، وتبطل وكالته بموت الموكل وان كانت الوكالة لازمة ، كما اذا اشترطت بعقد لازم. واذا بطلت الوكالة في القبض الحقيقي فلا تبطل الرهانة ، لأنَّ الرهانة تابعة للدين.

نعم يمكن أن يشترط المرتهن ( استمرار وضع الرهن عند ورثته بعد موته حتى سداد الدين ) فحينئذ اذا مات المرتهن يكون الورثة بمنزلة الوصي في حفظ الرهن مادام الدين باقيا. كما يمكننا القول بان الرهانة ليست في الحقيقة هي وكالة

ص: 82


1- ذكر هذا الرأي الدكتور علي السالوس في بحثه ( البيع بالتقسيط ) ص 19 وقد ذكره بدون دليل شرعي.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 12 من ابواب الدين ، ح 2.

عقدية في حفظ الرهن ، بل إن قبض المرتهن الرهن صحيح بالحديث الصحيح « المسلمون عند شروطهم » فهو مصداق للوكالة ، وإن لم يكن وكالة عقدية ، فيكون المرتهن نائبا في الحفظ. وعلى هذا يتمكن ان يشترط النيابة في الحفظ لوارثه او للاجنبي. وبهذا لا تبطل الرهانة عند موت المرتهن اذا اشترط ان تكون لوارثه او للاجنبي عند موته ، فانه على هذا التقريب خرجت عن كونها وكالة عقدية تبطل بموت الموكل. ثم إن ما نراه من ان الدين اذا كان موثقاً ومضموناً ( برهن أو غيره ) (1) ، فلا يتقدم الدائن الى ورثة المدين للمطالبة بكل الدين في صورة موت المدين ، فليس معناه انه لا حق للدائن في المطالبة ، بل هو من باب أن الامر الجائز ( وهو مطالبة الدائن للمدين بكل الدين ) وهو حق للدائن يجوز التنازل عنه ، ونحن لم ندع سابقا ولم يكن معنى صحيحة الحسين بن سعيد المتقدمة هو وجوب المطالبة حتى يكون عدم المطالبة دليلا أو شاهدا على عدم الوجوب ، بل قلنا ان لصاحب الدين الحق في المطالبة ورثة المدين بكل الدين اذا مات المدين ، لان الدين الذي كان مؤجلا قد حل ، اما عدم المطالبة فهو قد يحصل حتى في صورة عدم كون الدين موثقاً فهو عبارة عن عدم تقدم صاحب الحق لاستيفاء حقه ، وهذا غير عدم الحق للدائن ، اذا كان الدين موثقا.

* * *

ص: 83


1- كما اذا قال انسان لآخر ، اعط فلانا كذا من الدين ، فان لم يعطك فلان الدين ( او ورثته ) فانا اعطيك الدين ، وكان هذا القائل بمنزلة ان كلامه هذا هو ضمان للدائن عند عدم وفاء المدين.

ص: 84

خصم الأوراق التجارية

ص: 85

ص: 86

إن الأوراق التجارية التي يكون لشخص ماحق فيها اذا كانت مؤجلة ( وهي بطبيعة الحال صادرة من شخص آخر نتيجة وفاء دين او ثمن لبضاعة مثلا ، او نتيجة استيثاق للدين باعتبار أن القانون يوجب على من اصدرها تسديد قيمتها عند الحلول ) ففي هذه الحالات واشباهها قد يتقدم ( المستفيد من هذه الورقة التجارية ذات الاجل المحدد ) قبل حلول موعد الوفاء الى بنك معين ليحصل على قيمتها ، وهنا يدفع له البنك بدوره قيمة هذه الورقة بشروط :

1 - بعد أن يستنزل مبلغاً معيناً يتكون من فائدة المبلغ المذكور في الورقة التجارية من يوم الدفع حتى يوم الاستحقاق.

2 - يأخذ البنك عمولة خاصة لقاء خدمته ، وهذا يستنزل ايضا من قيمة الورقة التجارية.

3 - يستنزل البنك ايضا مصاريف تحصيل الورقة التجارية اذا كانت هناك مصاريف تذكر ، كما اذا كانت الورقة التجارية تدفع في مكان غير المكان الموجود به البنك الذي يدفع قيمة الورقة. فلنفرض أن قيمة الورقة التجارية الف دينار ، ومقدار ما يستنزله البنك للموارد الثلاثة المتقدمة هو مائة دينار ، فالبنك يصرف تسعمائة دينار للمستفيد من هذه الورقة التجارية ، ثم حين حلول موعد الوفاء ، يطالب البنك محرر هذه الورقة التجارية ( وهو من صدرت منه وبتوقيعه ) بقيمتها ، فاذا حصل البنك على القيمة أخذها. ولكن هناك حالات قد تحدث مثلاً :

ص: 87

1 - قد يتخلف محرر الورقة عن دفع قيمتها المستحقة عليه ، فما هي وظيفة البنك حينئذ ؟

والجواب : ان المسؤول عن دفع قيمة هذه الورقة هو الشخص الذي خصم هذه الورقة لدى البنك.

2 - اذا تأخر محرر الورقة عن دفع المبلغ بعد حلول الموعد ، فهنا يحتسب البنك فوائد على مدة التأخير حسب سعر الفائدة العام ، ويأخذ هذه الفوائد من محرر الورقة التجارية.

هذا هو الواقع الفعلي لخصم الاوراق التجارية.

والآن وبعد أن عرفنا الواقع الفعلي لخصم الاوراق التجارية لابد لنا من أن نحلل هذه العمليات التجارية لنراها متكونة من اي شيء مع أخذ اعتبار أن يكون التحليل متفقاً مع الواقع الخارجي ، مع قلة الاشكالات الشرعية عليه.

تحليل الواقع الخارجي :

ان هذه العملية ( خصم الاوراق التجارية ) هي في الواقع عبارة عن ثلاثة امور :

1 - البنك يقدم قرضاً لمن كانت هذه الورقة. قد صدرت لصالحه ، وهو المستفيد من هذه الورقة.

2 - المستفيد ( يوكل ) البنك الدائن في تحصيل قيمة الورقة التجارية من محررها ، ليستوفي دينه منها.

3 - يتعهد المستفيد ( الذي خصم الورقة التجارية لدى البنك ) بوفاء محرر الورقة عند حلول الأجل.

اذن ، بحكم الامر الاول : أصبح المستفيد مالكاً للمبلغ الذي تسلمه وهو تسعمائة دينار في المثال ، وهذا المبلغ قد استقرضه من البنك ، وحينئذ يكون البنك

ص: 88

دائناً للمستفيد.

وبحكم الامر الثاني : اصبح ( البنك الدائن ) وكيلا في تحصيل المبلغ من محرر الورقة التجارية وأن يستوفي دينه منها.

وبحكم الامر الثالث : - وهو التعهد - : يحق للبنك أن يطالب المستفيد ( وهو المدين له ) بتسديد قيمة الورقة التجارية اذا تخلف محررها عن ذلك عند حلول الأجل ، وبما أن محرر الورقة التجارية هو المدين للمستفيد ، فإن تأخر في دفع المبلغ ، فيكون للمستفيد الحق ( بحكم القانون الربوي الوضعي ) أن يأخذ من المحرر الفائدة على التأخير ، وبما أن المستفيد هو مدين للبنك وقد تأخر عن دفع المبلغ الى البنك تبعا لتأخر محرر الورقة ، فيكون للبنك الحق أن يأخذ من المستفيد الفائدة على التأخير ، وبهذا ستكون الفائدة على التأخير قد استقرت على محرر الورقة التجارية بواسطة توكيل البنك على محرر الورقة في قيمة الفوائد.

اذن على هذا التحليل : يكون ما أخذه ( البنك الخاصم للورقة التجارية ) في مقابل الاجل ( وهو الشرط الاول ) هو الفائدة المحرمة ، لأنه قد أخذها نتيجة الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ، وهذا هو الربا بعينه ، وكذا يكون ما أخذه البنك من فوائد التأخير ( عند تأخر المحرر عن الدفع ) هو ربا ايضا لنفس السبب المذكور.

نعم : ما يقتطعه البنك ( حسب الشرطين الثاني والثالث ) أي ما يأخذه كعمولة على خدمته ، او لقاء تحصيل المبلغ اذا كان يدفع في مكان آخر ، فهو امر جائز وذلك :

لأن الاول : هو عمولة لقاء عمل من البنك ، فهو جائز لا إشكال فيه.

وأما الثاني : وهو ما يقتطعه البنك لقاء تحصيل المبلغ اذا كان يدفع في مكان آخر ، فجوازه يحتاج الى توضيح فنقول : إن البنك اذا خصم الكمبيالة فقد أصبح البنك دائنا لمن خُصمت له الورقة ، ولكن بعد أن وكل المستفيد البنك في استحصال

ص: 89

قيمة الورقة من محرر الورقة التجارية ويستوفي دينه منه ، فهنا من حق الدائن ان يطالب بالوفاء في نفس المكان الذي تحقق فيه الدين ، ولأجل أن يقبل البنك استيفاء دينه في مكان آخر وهو مكان محرر الورقة التجارية ، يجوز أن يجعل المقترض للبنك جعالة في قبال أن يسقط شرط الوفاء في مكان تحقق الدين ويقبل الوفاء في مكان آخر وهو مكان محرر الكمبيالة ، وهذا هو عبارة عن أخذ البنك قيمة مصاريف تحصيل الورقة التجارية اذا كانت في مكان آخر. كما يمكن للبنك ان يقبل الوكالة في مطالبة محرر الورقة في مكان غير مكان دينه للمستفيد في مقابل جعل أو أجر.

وبعد أن عرفنا تحليل عملية خصم الاوراق التجارية ، وعرفنا ان استنزال البنك الفوائد للمبلغ المذكور من حين الدفع الى يوم الاستحقاق هو عملية ربوية ، وكذا أخذ الفوائد على تقدير التأخير في الدفع ، فهل يوجد لنا طريق للتخلص من الفائدة المحرمة في خصم الاوراق التجارية ؟

نقول : يوجد هنا طريقان :

الطريق الاول : وهو ما ذكره السيد الشهيد الصدر في كتابه البنك اللاربوي في الإسلام (1) كطريق للتخلص من الفائدة المحرمة هنا ، وقد عبّر عنه : « باشتراط القرض المماثل مع التشجيع على تحويله الى حبوة » وتوضح ذلك : ان يشترط البنك على كل مقترض منه أن يقرض البنك لدى الوفاء مقدارا من المال ( يساوي ما يأخذه البنك لقاء الاجل ) لمدة خمس سنوات مثلا ، وهذا الاشتراط ليس به بأس شرعي ، لانه ليس من الربا ، وبعد أن اقترض البنك هذه الكمية من النقود يمكنه أن يودعها عند بنك يسوغ لنفسه اخذ الفائدة منه ( كالبنوك التي تكون للكفار ) وهنا يتقاضى البنك الدائن الفوائد عليها ، وعندما يحل الأجل المحدد يسحب البنك هذا

ص: 90


1- راجع ، ص 71 وما بعدها ، طبعة المطبعة العصرية في الكويت.

المقدار من المال ويدفعه لدائنه. ثم إن البنك يقسم المقترضين منه الى قسمين :

1 - عميل من الدرجة الاولى.

2 - عميل من الدرجة الثانية.

ويعلن البنك أن من يلتزم بوفاء الديون في وقتها بدون تسامح ويحوّل القرض - الذي يأخذه البنك عوضا عن الفائدة في مقابل الاجل لمدة خمس سنين - الى حبوة فهو عميل من الدرجة الاولى يفضَّل على العميل من الدرجة الثانية ، فيقدّم إقراض العميل من الدرجة الاولى على إقراض غيره ممن تسامح بالوفاء او ممن لم يحوّل القرض الى حبوة للبنك ، عند تزاحم المقترضين على البنك ، وطبعا فإنَّ التجارب السابقة للبنك هي التي تحدد درجة العميل. وهذا الاعلان من قبل البنك لا يعني اشتراط الفائدة في القرض ، لان تبرع المدين بزيادة حين الوفاء دون الزام عقد القرض له ودون الزامه بشرط ، هو امر جائز شرعا ، وكذلك يمكن لأي دائن أن يؤثر بالقرض ( من كان قد اقترض منه في مرة سابقة ووفى بالوفاء بالوقت وتبرع بزيادة ) فيعطيه قرضا من دون شرط اي زيادة ، وانما يشترط عليه ( القرض الذي يكون بدلا عن الفائدة في مقابل الأجل ) ، وحينئذ اذا تبرع هذا العميل بهذا القرض وحوّله الى حبوة فهو يبقى عميلاً من الدرجة الاولى يفضَّل على غيره في حالات التزاحم على الاقتراض.

نعم : يبقى البنك لا يمكنه أن يتفادى فوائد التأخير التي قد تنجم من تأخير محرر الورقة التجارية عن دفعها حين الأجل ، فان البنك الاسلامي هنا لا يمكنه اخذ هذه الفوائد من المستفيد من هذه الورقة التجارية بحكم كونه بنكاً اسلامياً ، ولكنه سوف يسجل هذا العميل عميلا من الدرجة الثانية ، فلا يقرضه مع وجود عميل من الدرجة الاولى.

وقد يمكن للبنك الاسلامي أن يحتاط لهذه العملية فيشترط على المقترض أن يقرضه كمية من المال ( بقدر العوض عن الفائدة في مقابل الاجل ) لمدة اطول من

ص: 91

انتفاعه من هذا المال المقترض ( قدر الفائدة في مقابل الاجل ) فاذا كان مثلا امكان استيفاء قدر الفائدة في مقابل الاجل ( بالصورة المتقدمة ) لمدة خمس سنين ، فهو يشترط على المقترض أن يقرضه هذا المبلغ لمدة ثمان سنين ، فان كان العميل قد اوفى المبلغ في الوقت المحدد فيتمكن البنك أن يستدعي المستفيد على رأس الخمس سنين ليدفع له القرض الذي أخذه منه ، وبقي له مدة ثلاث سنين ، واما اذا لم يسدد العميل القرض في الوقت المحدد ، فيحق للبنك أن يبقي المال الذي اقترضه كمال المدة ويستفيد منه ( بالصورة المتقدمة ) أو بغيرها ثم يرجعه الى صاحبه إن لم يحوله الى حبوة. وبهذه العملية يتفادى البنك الاسلامي بعض فوائد التأخير التي قد تنجم من تأخير محرر الورقة التجارية في الدفع في الوقت المحدد ، او كل فوائد التأخير.

أقول : هذا الطريقة متوقفة على أن نقول إن اشتراط البنك ( المقرض ) على المقترض القرض هو عملية جائزة ، ولعل القول بأنها عملية تجر الى المقرض نفعاً فهي غير جائزة اقرب للقبول.

الطريق الثاني : اما الطريق الثاني للتخلص من الفائدة المحرمة في عملية خصم الاوراق التجارية فهي عملية خصم الاوراق التجارية على اساس البيع ، وتوضيح ذلك :

هناك اتجاه فقهي سائد عند فقهاء الامامية يقول : إن المستفيد الذي صدرت الورقة التجارية ( كمبيالة أوشيكاً او غيرهما ) لصالحه ، يتمكن ان يتقدم الى البنك او الى اي مشتر آخر ، فيبيعه هذا الدين الذي له على محرر الورقة التجارية بأقل من قيمته (1) حالاً. وحينئذ يملك ( البنك او المشتري ) بموجب هذا البيع الدين الذي

ص: 92


1- كما يقول هذا الاتجاه الفقهي بجواز بيع هذه الورقة التجارية باكثر من قيمتها في بعض الصور ، كما اذا كانت الورقة التجارية صادرة من بنك حكومي معتبر ، وصاحب المال يريد ان يتخلص من عبّ النقد الذي لديه ولا يمكنه ان يودعه لدى البنك لوجود عطلة تستمر عشرة ايام ، فهنا يتمكن صاحب المال ان يشتري الورقة التجارية بأكثر من قيمتها لتلك الظروف الخاصة التي يمر بها ، كخوفه من سرقة النقد الذي عنده ، او أنه يريد السفر ولا يتمكن من حمله معه او غير ذلك.

كان المستفيد يملكه في ذمة المحرر للكمبيالة او الشيك لقاء الثمن الذي دفعه فعلا ، فيكون هذا من بيع الدين بأقل منه.

تحفُّظ :

إن هذه العملية البيعية الجائزة لدى الامامية ، انما تجوز في غير بيع الدين اذا كان من النقدين ( الذهب والفضة ) باقل منهما ، اما في هذه الصورة فالبيع باطل لانه يشترط في هذا البيع التقابض في المجلس ، فان لم يكن تقابض بطل البيع ، كما ان في هذا البيع يُشترَط التساوي ، فان زاد احدهما حَرُمَ ، للربا ، فلا يجوز بيع الدين ( الذي لي على انسان ) لآخر بأقل منه ، لانه ربا. كما أن هذه العملية الجائزة هي في غير بيع الدين اذا كان مكيلا او موزونا بأقل عنه من جنسه ، حيث يلزم منه بيع الاقل بالأكثر في المكيل والموزون ، وهو ربا البيع المحرم بروايات الاصناف الستة وغيرها ، وحينئذ يكون الجواز مختصا بما اذا كان الدين من الاوراق النقدية مؤجلا ، وقد باعه الانسان بأقل من قيمته كما هو الموجود في بيع الاوراق التجارية (1). والدليل على جواز بيع الدين باقل منه ( او اكثر ) هو عموم قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) واطلاق ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) حيث إن بيع الدين باقل منه هو عقد ، ولا يلزم منه اي محذور شرعي لعدم الربا ،

ص: 93


1- يوجد احتمال يقول : إن الاوراق النقدية المتداولة حاليا حكمها هو حكم النقدين من الذهب والفضة ، اذ ان النقدين في ذلك الزمان انما جاءت لها تلك الاحكام ( من التساوي في البيع ، والتقابض في المجلس ) من ناحية الثمنية ، لا من ناحية كونها مكيلة او موزونة ، فعلى هذا الاحتمال لا يجوز بيع الدين اذا كان اوراقا نقدية باقل منه. ولكن الامامية رأت أن الربا في النقدين ( الذهب والفضة ) انما هو لاجل الوزن لا للنقدية.

لاننا قلنا سابقا إن الربا اما أن يكون في القرض او يكون في البيع بشرط ان يكون العوضان متجانسين ومكيلين او موزونين ، اما هنا ، فالاوراق النقدية التي هي دين وتحل بعد مدة هي ليست مكيلة او موزونة ، بل هي معدودة فلا يجري الربا فيها اذا كانت المعاملة معاوضة.

ثم إن البنك : يجعل المستفيد ( البائع ) هو المسؤول عن دفع المبلغ المذكور عند عدم تسديد محرر الكمبيالة للمبلغ المذكور حين الأجل ، وهذه المسؤولية يمكن تخريجها على اساس أن البائع لقيمة الورقة التجارية يتعهد بوفاء المحرر لقيمة الورقة عند الأجل ، فعند عدم الايفاء يكون هو المسؤول عن سداد قيمة الورقة حسب تعهده ، او أن يكون ( البنك او المشتري ) قد اشترط عليه في عقد شراء الدين أن يوفيه المبلغ عند حلول الأجل اذا طالبه البنك ، وفي هذه الصورة الثانية يحق للبنك أن يرجع الى البائع حتى اذا لم يمتنع المحرر عن سداد المبلغ ، بخلاف الصورة الاولى.

لكن هناك روايتين : تمنع من أن يأخذ ( المشتري للدين ) اكثر مما دفع الى البائع وهما :

1 - رواية محمد بن الفضيل قال : « قلت للرضا علیه السلام رجل اشترى دَيناً على رجل ثم ذهب الى صاحب الدين فقال له : ادفع إليَّ ما لفلان عليك فقد اشتريته منه قال علیه السلام : يدفع اليه قيمة ما دفع الى صاحب الدين وبرئ الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه » (1).

2 - رواية ابي حمزة قال : « سألت ابا جعفر علیه السلام عن رجل كان له على رجل دين فجاءه رجل فاشتراه منه بعرض ثم انطلق الى الذي عليه الدين فقال : اعطني ما لفلان عليك فاني قد اشتريته منه كيف يكون القضاء في ذلك ؟ فقال

ص: 94


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 15 من ابواب الدين ، ح 3.

ابوجعفر علیه السلام - الامام الباقر - يردّ الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين » (1).

وقد عمل الشيخ الطوسي رحمه اللّه بهذين الحديثين وتبعه جملة من الامامية ، لكن الروايتين ضعيفتان من حيث السند ، فإنَّ في سندهما محمد بن الفضيل الذي فيه غلو وهو ضعيف ايضاً كما ذكر ذلك الرجاليون ، ولا جابر لهذين الحديثين من عمل الاصحاب ، بل شهرة الاصحاب على خلافهما ، وهما على خلاف اصول المذهب وقواعده من الوفاء بالعقد اذا لم يكن مانع شرعي يمنع من الوفاء ، بالاضافة الى أن الرواية الثانية ليس فيها أن الثمن الذي اشتري به الدين هو أقل ، فيمكن حمله على المساوي ، ولذلك وجدت هناك محاولات لحملهما على غير ظاهرهما ( مثل ان البيع فاسد ، وأن صاحب الدين قد أذن للمشتري أن يقبض من المديون مقدار ما أدى ، ويبقى الباقي لصاحب الدين ، فيكون المراد من البراءة في الحديث الاول هو البراءة التي تكون من قبل الدائن الى المديون مما بقي عليه لصاحب الدين ، أو يُحمل على أن الشراء هو للمديون نفسه ولو بصيغة الصلح بإذن من المديون او بإجازة لاحقة ، فيكون الشراء للمديون هو من صلح الحطيطة اذا فُرض كون العوض من الجنس.

والنتيجة عند الامامية : هو العمل على وفق القواعد من : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، و : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) إذ إن هذا العقد وهو شراء الدين بأقل منه ، هو عقد وبيع وليس فيه اي محذور شرعي ، فيجب الوفاء به.

اذن يتمكن البنك أو المشتري لقيمة الورقة التجارية ( كمبيالة أو شيكاً ) أن يشتري هذه الورقة التجارية بأقل من قيمتها ، وعند حلول الأجل يستحق جميع قيمة هذه الورقة لصالحه.

ص: 95


1- المصدر السابق ، ح 2.
تنبيه :

إن هذا المقام الذي نحن فيه يختلف عن الربا القرضي الذي هو ( الزيادة في مقابل الأجل في عقد القرض ) ، اذ هنا لا يوجد دائن ومدين وانما يوجد هنا بائع لقيمة الورقة التجارية المؤجلة ( بأقل من قيمتها ) حالاً ، فيكون المشتري منتظراً الزمان ليحصل على كل قيمة الورقة التي اشتراها بأقل ، وهذا لا بأس به لأنه ليس بربا (1).

اذن القاعدة الارتكازية والعرفية القائلة بأن الاجل يكون داعيا لزيادة الثمن ( إنَّ للأجل قسطاً من الثمن ) اذا طبقناها هنا ، فاشترى انسان هذه الورقة التجارية ( التي لها وقت محدد يأتي فيمابعد ) بأقل من قيمتها ، والمفروض انه لا يوجد هنا منع شرعي كما تقدم ، فلا بأس من صحة هذا العقد وهذا البيع. نعم ورد المنع من كون الزيادة في مقابل الأجل في موردين هما :

1 - القرض مع الزيادة في مقابل الأجل.

2 - في البيع بشروط معينة ، كما اذا بعتُ مَنّاً من الحنطة نقدا بمنٍّ ونصف نسيئة ، فلا يجوز أن يكون نصف المن في مقابل الاجل.

اما في مقامنا : فقد قلنا إن الجواز هنا هو في غير ( المكيل او الموزون ) وفي غير ( الذهب والفضة ) بمثلهما وفي غير القرض ، فلا محذور من ناحية الربا اصلا.

هذا ما ذهب اليه المشهور من علماء الامامية رضوان اللّه عليهم.

الفرق بين بيع الدينار بمثله في الذمة وما نحن فيه ( بيع الدين بأقل منه لشخص غير المدين )

ذهب السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه (2) الى أن عملية بيع وشراء « سند الدين » او

ص: 96


1- نحن نتكلم على مسلك المشهور المجمع عليه تقريبا من أن النقد الورقي ليس حكمه هو حكم النقدين ( الذهب والفضة ) وهو التقابض في مجلس البيع ، بل حكم الاوراق النقدية هو جواز بيع دينار بتومان في الذمة إن صدق عليه أنه بيع ، فلا يشترط التقابض في مجلس العقد.
2- يراجع البنك اللاربوي في الاسلام ، ص 162 و 175.

الورقة التجارية ، هو تغطية لفظية لعملية القرض التي تصدر من المشتري ، فإنَّ حقيقة القرض هو أن يملك شخص مالاً من آخر ، وتصبح ذمته مثقلة بمثله له ، وهذا هو تماما ما يقع في عمليات شراء السندات او الاوراق التجارية حيث إن البنك عندما يعطي تسعين ديناراً بحجة شرائه للكمبيالة التي هي بمائة دينار من موقّع الكمبيالة الى ستة أشهر يكون في حقيقة الامر أنه قد ملّك الغير تسعين ديناراً واصبحت ذمة الغير مثقلة بمثله له ، فاذا أخذ بعد ستة اشهر المائة دينار يكون قد أخذ زيادة في مقابل الاجل في عقد القرض وهو ربا. وهذا هو معنى أن بيع الدينار ( باكثر منه في الذمة ) الى أجل لا يجوز لأنه عبارة عن قرض مع الزيادة اُلْبِسَ ثوب البيع ، فلو بعت عشرة دنانيراً بأثني عشر ديناراً مؤجلة الى شهرين فهو قرض مع الزيادة لا يجوز. إلاّ أنَّ هذا يختلف عمَّا نحن فيه ، اذ المعاملة التي نتكلَّم عنها هي عبارة عن بيع الدين الذي ل ( أ ) على ذمة ( ب ) الى ( ج ) بأقل منه ، وتكون العلاقة بين ( أ ) و ( ج ) هي علاقة بيع وليست العلاقة هي علاقة مقرض بمقترض ، ولذا لو لم يحصل ( ج ) على ما اشتراه فأن ( أ ) ليس مسؤولا عن ذلك ولذا يشترط ( ج ) على ( أ ) ضمان هذا المال على ذمة ( ب ) فيضمنه وحينئذ يكون ( أ ) مسؤولا عن المال عند عدم السداد من قبل ( ب ) من باب الضمان لا من باب أنَّه اقترض من ( ج ).

هناك طريق ثالث وهو : بأن نبيع الدين الذي هو من الدينار على شخص آخر غير المدين بنقد اخر أقل منه بمقتضى الحساب في السوق التجارية ، فمثلا اذا كانت المائة دينار تساوي خمسين دولارا نقدا فيتمكن المشتري أن يشتريها مؤجلة الى شهرين بأربعين دولارا ويكون هذا من بيع احد الجنسين بغيره ، ونحصل على نفس النتيجة من بيع الدين بأقل منه ، وهذا ليس فيه أي محذور ، وهذه طريقة ثالثة للبنك في خصم الاوراق التجارية ، اي يشتريها بغير جنسها بأقل من قيمتها ، ويكون البائع متعهداً بسداد قيمتها لو تخلف المحرر من السداد في الوقت المحدد.

ص: 97

وهذه الطريقة الثالثة كالطريقة الاولى شاملة لكل دين سواء كان ذهبا أو فضة ، أو كان مكيلا او موزونا أو كان معدوداً كالاوراق النقدية ، فانه يجوز بيعه اذا كان نسيئة بجنس آخر أقل منه قيمة حالا ، وهذا هو بيع وعقد فيشمله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) وليس عليه أي شائبة من ربا.

الفرق بين بيع الدينار بالدولار في الذمة وبيع الدين باقل منه بغير جنسه :

هناك من يرى أن بيع الدينار بالدولار نسيئة هو ايضا معاملة قرضية بحسب النظر العرفي وذلك يتضح اذا قلنا بوجود ارتكازين هما :

1 - الارتكاز القائل إن كل معاملة مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمة تعتبر قرضا عرفاً.

2 - الارتكاز الناظر الى باب النقود يقول إن النظر في باب النقود هو الى ماليتها دون خصوصيتها ، اذن المنظور اليه عرفا في بيع ثمانية دنانير بخمسة دولارات هو عبارة عن تبديل مالية بمالية. وحينئذ يشمله عنوان القرض اذ يصدق عليه انه تبديل للشيء الى مثله في الذمة ( لأن المنظور اليه هو المالية فقط ) في الموردين ( الدينار والدولار ) فلا تبقى مغايرة بينهما الا في كون أحدهما خارجيا والاخر في الذمة وهو معنى القرض (1) ، فاذا كان في طرف المدين زيادة يأخذها الدائن كما اذا باعه مائة دينار في الذمة ( التي تساوي خمسين دولاراً ) بأربعين دولاراً نقدا ، فيكون المعطي للاربعين دولاراً دائنا ، وقد أخذ اكثر من اربعين دولاراً وهو ربا.

ولكن ما نحن فيه ( بيع الدين بأقل منه على شخص آخر غير المدين ) يختلف عمّا تقدَّم حيث إن ( أ ) الذي يطلب ( ب ) كمية من الدنانير قد باعها الى ( ج ) بالدولار ( بأقل من قيمتها المالية للدولار ) نسيئة فتكون العلاقة بين ( أ ) و ( ج )

ص: 98


1- البنك اللاربوي في الاسلام ، للسيد الشهيد الصدر ، ص 176 - 177.

هي علاقة بائع بمشتر لا علاقة مقترض بمقرض ، ولذا لو لم يدفع ( ب ) الدينار الى ( ج ) فان ( أ ) لم يكن مسؤولا عن ذلك ، ولذا لأجل محافظة ( ج ) على ما اشتراه يشترط على ( أ ) ضمان المال الذي في ذمة ( ب ) فإنْ ضمنه فسوف يكون ( أ ) مسؤولا عن المال اذا لم يدفعه ( ب ) ولكن اصبح مسؤولا بواسطة الضمان ليس الا. ولكن اشكالنا الاساس على الطريق الثاني لبيع الدين ، والطريق الثالث هو : أن ( أ ) عندما يضمن ل ( ج ) ما في ذمة ( ب ) بعد بيعه ، وطبعا ان هذا الضمان باذن ( ب ) ثم اذا لم يدفع ( ب ) المبلغ الى ( ج ) فسوف يأتي ( ج ) الى ( أ ) ويأخذ منه ما في ذمة ( ب ) بحسب قانون الضمان. ( ان لم يدفع ( ب ) فان ( أ ) هو المسؤول عن الدفع ) ولكن لماذا يرجع ( أ ) على ( ب ) في المبلغ الذي دفعه الى ( ج ) ؟ وعلاقة ( أ ) مع ( ب ) كانت قبل البيع هي علاقة مقرض بمقترض او علاقة دائن بمدين ، لكن بعد ان باع الدينار الذي له الى ( ج ) فقد زالت هذه العلاقة ، ثم بعد ذلك ضمن ( أ ) ما في ذمة ( ب ) ل- ( ج ) بدون اذن ( ب ) ، فان لم يدفع ( ب ) ، المبلغ ودفعه ( أ ) فلا يحق له ان يرجع عليه لأن ( أ ) قد وفى ما في ذمة ( ب ) الى ( ج ) بدون اذن ( ب ) فلا يستحق ان يرجع ( أ ) على ( ب ) ولكن وبما ان الواقع في الخارج هو رجوع ( أ ) على ( ب ) عند عدم تسديد ( ب ) المبلغ الى ( ج ) فتكون المعاملة هي عبارة عن قرض ( ج ) الى ( أ ) مقداراً من المال مع الزيادة في مقابل الاجل وهذا المقدار من المال مع الزيادة في مقابل الاجل له الحق في أخذها من ( ب ) وله الحق أن يأخذها من ( أ ) مع عدم دفع ( ب ) لها ، ولهذا تبقى علاقة ( أ ) مع ( ب ) هي علاقة دائن بمدين فيرجع ( أ ) على ( ب ) عند عدم تسديد ( ب ) الى ( ج ).

* * *

ص: 99

ص: 100

حط و تعجل (ضع وتعجل)

اشارة

ص: 101

ص: 102

يلجأ بعض التجار الى ما يعرف في الفقه الاسلامي باسم ( ضع وتعجل ) ومعناه أن يتعجل الدائن في دينه المؤجل عوضاً يأخذه وإن كانت قيمته اقل من دينه ، ويتنازل عن الجزء الآخر ، فلو كان زيد يطلب عمراً ألف دينار مؤجلة الى ستة أشهر فيحق لزيد أن يتعجّل بتسعمائة دينار ويتناول عن الباقي.

وقد أختلف فقهاء الاسلام في صحة هذه المعاملة أو بطلانها وحرمتها ، فقد ذهب الامامية وبعض من فقهاء الاسلام الى صحتها ، ولكن ذهب بعض آخر الى حرمتها.

ادلة المُحرّمين :

الدليل الاول ( القياس ) :

فقد يستدل على حرمة هذه المعاملة بما قاله ابن رشد في بداية المجتهد انها : « شبيهة بالزيادة المجمع النظرة تجتمع على تحريمها ، ووجه شبهها انه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا ، وذلك أنه هنا لك لما زاد له في الزمان زاد له عوضه ثمنا ، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا » (1).

نقول : إن هذا الدليل الذي ذكره ابن رشد هو ( قياس الشَبَه ).

ص: 103


1- ج 2 ، ص 144 والمراد من الثمن ما يقابل الزمان ( الاجل ).
مناقشة القياس :

ويرد عليه في باديء النظر اربعة ردود :

1 - ينقض على المقيس عليه بلزوم تحريم بيع السلعة بثمن ( اكثر من قيمتها الحالية ) نسيئة ، حيث إن البائع قد حسب للزمان عوضا ، وهذا ما لم يقل به احد من الجمهور والمذاهب الاربعة (1) ، حيث إنهم منتفقون على صحة بيع النسيئة ، وعادة يكون البيع بالنسيئة اكثر من البيع بالنقد. وقد ذهب الإمامية ايضاً الى صحة بيع النسيئة اذا كان باكثر من البيع بالنقد إذا وقع البيع على الثمن الذي هو اكثر من ثمن النقد ، وهذا البيع بالنسيئة هو ما يسمى ببيع التقسيط ، حيث يتفق الطرفان منذ البداية على بيع التقسيط بالضوابط الشرعية. اذن ليس كل زيادة مع النظرة هي حرام. مع اننا لا نرى ان في بيع النسيئة تكون الزيادة في مقابل الاجل (2).

2 - إنَّ قياس الشبه الذي استدل به ابن رشدليس بحجة ( حيث شبّه الزيادة مع النظرة المجمع على تحريمها بوضع الدائن شيئا من دينه في مقابل تعجيل الباقي ) ، فنقول :

أولاً : لا يوجد شبه يوجب سراية الحكم ، إذ إن المجمع على تحريمه هو أن تكون الزيادة في مقابل الإمهال والاجل ، اما هنا فالزيادة تكون في مقابل إسقاط الاجل ، فبينهما فرق واضح. فإذا قيل إنَّ كلا الموردين ( الزيادة في مقابل الامهال ، والزيادة في مقابل الاسقاط ) تغيير مناسب في المبلغ لأجل الزمن ، فالحقيقة الربوية واحدة ، فنقول في جوابهم الرد الثاني.

ثانياً : إن مجرد هذا الشبه لوحده لا يسوّغ لنا ان نعطي حكم المحرّم للشبيه ، إلاّ أن يكون الشبه من جميع الجهات ، وبما أن الشبه هذا ليس من جميع الجهات حيث إن الدائن إذا زاد من دينه في مقابل الأجل شملته ادلة حرمة الربا ، اما اذا حط

ص: 104


1- راجع نيل الاوطار ، 5 / 172.
2- بحثنا هذا مفصلا في بحث بيع التقسيط ( النسيئة ) حيث قلنا إن الثمن الاكبر ( من ثمن النقد ) نسيئة كله في مقابل السلعة وانما يكون الاجل داعيا الى الزيادة ، فهو يختلف عن الزيادة مع النظرة.

الدائن من دينه في مقابل تعجيله فلا تشمله ادلة حرمة الربا بل تشمله ادلة الحل كما سيأتي ، وحينئذ كيف نسري الحكم الى الشبيه ؟! ومما يقوله الاصوليون هنا : إننا اذا شككنا في حرمة هذه المعاملة ( حط وتعجل ) والشبهة حكمية طبعا فلا يجب التحرز عنها ونجري اصالة البراءة من الحرمة ، فملخص هذا الرد هو أن القياس الذي استدل به ليس بحجة ولتوضيح ذلك نقول : إن كل قياس له اركان اربعة :

الاصل : وهوالجزئي الاول المعلوم ثبوت الحكم له ( كالزيادة مع النظرة في المثال ).

الفرع : وهو الجزئي الثاني المطلوب اثبات الحكم له ( كالتنازل عن جزء من الدين في مقابل دفع الباقي للدائن في المثال ).

الجامع : وهو جهة الشبه بين الاصل والفرع ( كجعل مقدار من الثمن للزمان ).

الحكم : وهوالمعلوم ثبوته في الاصل ، والمراداثباته في الفرع ( كالحرمة في المثال ).

وهذ القياس بأركانه الاربعة الذي يسمى في عرف المناطقة ( التمثيل ) لا يفيد إلاّ الإحتمال ، حيث لا يلزم من تشابه شيئين في أمر أو اُمور أن يتشابها في الحكم ايضا ، نعم كلما قويت وجوه الشبه يقوى عندنا الاحتمال حتى يكون ظناً ، وهو في هذه الحالة لا يخرج عن ( القيافة ) التي لا تغني من الحق شيئا.

نعم : قد نستفيد ان الجامع ( جهة المشابهة ) العلة التامة لثبوت الحكم في الاصل كما جاء عن الإمام الرضا علیه السلام « ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأن له مادة » (1).

وبما أن العلة لا يتخلف عنها معلولها ، فنستنبط على نحو اليقين أن الحكم ثابت في الفرع لوجود علته التامة. ولكن إثبات أن الجامع هو العلة التامة لثبوت الحكم في المسائل الشرعية ليس لنا طريق إليه إلاّ من ناحية الشارع نفسه ، كما إذا نص الشارع على العلة بنفسه ، وحينئذ يخرج عن اسم القياس باصطلاح الفقهاء ، ويسمى قياساً منطقياً هو معنى البرهان الذي هو حجة. وحينئذ اذا عرفنا ذلك

ص: 105


1- وسائل الشيعة ، ج 1 ، باب 14 من ابواب الماء المطلق ، ح 7 صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع.

نقول : في موردنا ، لم ينص الشارع على حرمة الزيادة مع النظرة ، وحينئذ يكون القياس في هذا المورد غير مفيد إلاّ الاحتمال الذي لا يغني من الحق شيئا.

3 - إن ما يقال إن للاجل قسطاً من الثمن ، بمعنى ان يكون الاجل داعيا لزيادة الثمن عند العقلاء والعرف ، وهذا الشيء العقلائي والعرفي خرجنا عنه في موردين بحكم الشارع المقدس :

الاول : القرض : فإذا أقرضت شخصاً كمية من النقود ، فليس لي الحق في أخذ زيادة على النقد المقرض في مقابل الاجل ، وكذا إذا كنت دائناً لشخص نتيجة شرائه مني سلعة فليس لي الحق في زيادة الدين في مقابل الأجل ، لأنَّ هذا قد وصفه الشارع بكونه ربا محرما.

الثاني : في البيع ( وكل معاوضة ) اذا كانت المعاوضة ( في المتجانسين وكانا من المكيل او الموزون ) مع الزيادة نسيئة ، كما إذا بعت منّاً من الحنطة بمنّ ونصف نسيئة ، فلا يجوز أن يكون نصف المنّ في مقابل الأجل.

أما في غير هذين الموردين فعادة يكون الاجل داعيا لزيادة الثمن ، فحتى اذا بعت منّا من الحنطة نقدا بمنٍّ من الحنطة نسيئة ، فيأتي الإرتكاز العقلائي والعرفي ليقول : إن الاجل يكون داعياً لزيادة الثمن المؤجل ، فإذا بعت مع التساوي نسيئة فكأنني بعت منّاً بأقل منه ، فتكون المعاملة ربوية حيث إن البيع كان من جنس واحد وفي المكيل او الموزون مع الزيادة في احد العوضين ، وهذا ما يسمى بالزيادة الحكمية للربا وهو قسم من الزيادة المحرمة في مقابل القسم الثاني من الزيادة المحرمة وهو الزيادة العينية التي هي بيع كيلو من الارزفي مقابل كيلو ونصف مثلا (1).

وبعد أن تبين ان القاعدة العرفية الارتكازية التي تقول : إن للاجل قسطاً من

ص: 106


1- قد نتوقف في حرمة هذه الصورة إذ الحقيقة انها قرض بصورة بيع ، حيث إن القرض هو التمليك مع الضمان وهي اذا صارت قرضا فهي جائزة من دون زيادة.

الثمن قد خرجنا عنها في موردين.

نقول : إن في موردنا ( حط وتعجل ) يجري هذا الارتكاز العقلائي والعرفي دون اي مانع ، فيتمكن الدائن أن يسقط شيئا من ماله في مقابل أن يعجل له الباقي ، فيكون إسقاط الاجل داعياً لنقصان الدين ، وهذا لم يرد عنه دليل شرعي يقول إنه ربا. وفرق هذه المناقشة عن سابقتها هي أنه يوجد دليل على حليتها وهو الارتكاز العرفي العقلائي ، بينما المناقشة الثانية رددنا فيها دليل الحرمة وهو القياس.

4 - إن الربا الذي هو حرام هو : أن يأخذ الدائن زيادة على ما اعطاه بالشرط في متن العقد. ولذا قالت الآية الكريمة ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) (1). وحينئذ يكون الربا المحرم هو : أن يكون المدين ملزما باعطاء الزائد بحيث لو لم يعط الزائد ألزمه الدائن بواسطة الحاكم التابع للقانون الوضعي للدولة التي تحكّم القانون الوضعي بدلاً من القانون الاسلامي ، أما عملية ( حط وتعجل ) فان الدائن له رأس ماله وهو يتنازل عن بعضه فيأخذ أقل مما يطلب ، وهذا لا دليل على حرمته وذلك لأمرين :

الاول : إذا أراد صاحب المال وهو الدائن أن يبرئ المدين من بعض الدين فله ذلك ، وهذا مورد متفق عليه ، بل هو يستحب اذا كان الوضع عن معسر كما روي في سنن البيهقي وغيره بسنده ان الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحب أن يظله اللّه في ظله فلينظر معسراً ، او ليضع عنه » (2).

الثاني : إن المدين له حق أن يعجّل اعطاء المال الى الدائن ، وهذا ايضاً متفق عليه. وحينئذ نقول : اذا ضممنا الامر الاول للثاني نتج ما نحن فيه ، حيث أن

ص: 107


1- البقرة ، 279.
2- ج 6 ، ص 27.

الدائن يبرئ ويتنازل عن كمية من الدين في مقابل أن يعجّل المدين القسم الباقي ، فتكون العملية عبارة عن إيقاء المدين بعض دينه معجلا مع ابراء الدائن للباقي.

وحينئذ إذا كانت حلية هذه العملية على القاعدة فلا مجال الى اللّجوء الى دليل القياس ، لانه دليل حيث لا دليل. وهذا الشيء الذي انتهينا إليه قد اشارت إليه بعض الروايات ، فعن ابن عباس قال : « إنما الربا أخِّرلي وأنا أزيدك ، وليس عجّل لي وأضع عنك » (1).

ونحن وإن كنا لا نرى رأي ابن عباس حجة علينا وإنما هو رأي ارتآه ، إلاّ أنه يؤيد ما انتهينا اليه من عدم الحرمة. وبعد هذه الردود الاربعة على رأي من يرى حرمة حطّ وتعجّل بواسطة القياس ، نذكر الدليل القوي على حلّية عملية « حطّ وتعجّل » وهو الروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام ، وهذه الروايات صحيحة ، ومعها لا يمكن اللجوء الى دليل القياس لما قلنا من أن اللجوء اليه عند عدم وجود دليل على الحلية ..

الروايات الدالة على صحة ( حطّ وتعجل )

وهي كثيرة ، منها :

1 - صحيحة محمد بن مسلم عن الامام الباقر علیه السلام : « في الرجل يكون عليه دين الى أجل مسمى ، فياتيه غريمه فيقول : أنقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته ، أو يقول : أنقدني بعضا وأمد لك في الأجل فيما بقي ، فقال علیه السلام : لا ارى به بأسا ما لم يزده على رأس ماله شيئا يقول اللّه عزّوجل : لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (2).

ص: 108


1- مصنف عبدالرزاق ، ج 8 ، ص 27.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 32 من ابواب الدين ، ح 1 ورويت ايضا عن الامام الصادق علیه السلام باب 7 من ابواب الصلح ، ح 1.

2 - وكذلك جاءت صحيحة الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام في نفس المضمون قال : « سألته عن رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثم باعها فربح فيها قبل أن ينقد صاحبها الذي له ، فأتاه صاحبها يتقاضاه ولم ينقد ماله ، فقال صاحب الجارية للذين باعهم : أكفوني غريمي هذا والذي ربحت عليكم فهو لكم قال علیه السلام : « لا بأس » (1) بناء على ان المشتري قد باع الجارية مؤجلا ، فيكون البائع الثاني قد عجل حقه بنقص منه ، وقد أقره الامام علیه السلام بقوله لا بأس وهذا بخلاف تأجيل حقه بزيادة فيه ، فانه ربا ، وكم فرق بينهما. كما يمكن أن يستدل بصحيحة الحلبي حتى مع كون المشتري قد باع الجارية حالا ، وقد صالحهم باسقاط البعض واعطاء قدر ما اشتراها من البائع الاول الى البائع الاول ، وهذا هو صلح الحطيطة الذى يقوم مقام الابراء ، ولا ربا فيه وان قلنا بعموم الربا لكل المعاوضات ، لان هذا ليس معاوضة وانما هو ابراء للبعض.

3 - وكذلك جاءت صحيحة ابن أبي عمير عن الامام الصادق علیه السلام : « إنه سأله عن الرجل يكون له دين ( اللام هنا في له بمعنى على كما تقدم ذلك في صحيحة محمد بن مسلم مغيراً للسؤال بقوله الرجل يكون عليه الدين الى أجل مسمى (2) .. ) الى اجل مسمى ، فيأتيه غريمه فيقول : انقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته ، او يقول : انقدلي بعضا وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك ، قال : « لا ارى به بأسا مالم يزدد على رأس ماله شيئا ، يقول اللّه : لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (3).

ثم ان ظاهر الروايات المتقدمة هو : الاكتفاء بالتراضي في صحة ( حط

ص: 109


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 4 من احكام العقود ، ح 1.
2- هذه الرواية رويت عن الحلبي وعن ابن أبي عمير بتغيير السؤال مع أن الجواب واحد ، ورواها ايضا عن الامام الباقر علیه السلام محمد بن مسلم.
3- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 7 من ابواب الصلح ، ح 1.

وتعجّل ) من غير حاجة الى الابراء او الصلح. وحينئذ اذا أبرا الدائن المدين من بعض الدين ، او اسقط عنه شيئا او عفا عنه ، او صالحه باسقاط بعض ما عليه فيجوز ايضا على القاعدة من دون حاجة الى النصوص المتقدمة حتى في المتجانسين ، حيث إن الابراء لا يكون فيه ربا ، وكذلك في الاسقاط عنه أو العفو عنه والصلح ، إذ إن هذه الاُمور ليست بمعاوضة كما هو واضح وحتى الصلح حيث انه بمعنى الابراء وهو الاصح. وقد سمّاه الفقهاء بصلح الحطيطة ، وقد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله إنه قال لكعب بن مالك : « اترك الشطر واتبعه ببقيته » (1) وروي ذلك عن الامام الصادق علیه السلام ايضا ، فقد روى عبدالرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألناه عن الرجل يكون عنده المال لأيتام ، فلا يعطيهم حتى يهلكوا ، فيأتيه وارثهم ووكيلهم فيصالحه على أن يأخذ بعضا ويدع بعضا ، ويبرئه مما كان ، أيبرأ منه؟ قال علیه السلام : نعم » (2).

4 - ومن الروايات الدالة على صحة ( ضع وتعجل ) من غير حاجة الى ابراء او ماشابهه : الرواية المشهورة عن ابن عباس أن النبي صلی اللّه علیه و آله لما أمر باخراج بني النضير ، جاءه ناس منهم فقالوا : يا نبي اللّه إنك أمرت باخراجنا ، ولنا على الناس ديون لم تحل ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ضعوا وتعجلوا » (3).

الدليل الثاني : ( الروايات )

ومرة يستدل على حرمة ( ضع وتعجّل ) بروايات رواها الحافظ عبد الرزاق ( المتوفى سنة 211 ) في مصنفه ، ففي باب الرجل يضع من حقه ويتعجل ، ما يأتي :

1 - اخبرنا عبدالرزاق قال : اخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب وابن عمر قالا : من كان له حق على رجل الى أجل معلوم فتعجل بعضه وترك

ص: 110


1- المستدرك ( مستدرك الوسائل ) ج 2 ، ص 499 ، الطبعة الحجرية.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 6 من ابواب الصلح ، ح 1.
3- بداية المجتهد ج 2 ، ص 144 ، وسنن البيهقي ج 6 ، ص 27 والنهاية ج 4 ، ص 75.

بعضه فهو ربا. قال معمر : ولا أعلم أحداً قبلنا إلاّ وهو يكرهه.

2 - اخبرنا عبدالرزاق عن الثوري عن ابن ذكوان عن يسر بن سعيد عن أبي صالح مولى السفاح قال : بعت بزّاً لي الى أجل فعرض علي أصحابي أن يعجلوا لي وأضع عنهم ، فسألت زيد بن ثابت عن ذلك فقال : لا تأكله ولا تؤكّله.

3 - اخبرنا عبدالرزاق قال : اخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال اخبرني ابوالمنهال عبدالرحمن بن مطعم قال : سألت ابن عمر عن رجل لي عليه حق الى أجل ، فقلت : عجل لي وأضع لك ، فنهاني عنه.

4 - اخبرنا عبدالرزاق قال : اخبرنا اسرائيل عن عبدالعزيز بن رفيع عن قيس مولى ابن يامين قال : سألت ابن عمر ، فقلت : إنّا نخرج بالتجارة الى أرض البصرة والى الشام ، فنبيع بنسيئة ثم نريد الخروج فيقولون ضعوا لنا وننقدكم ، فقال : إن هذا يأمرني أن افتيه ان يأكل الربا ويطعمه ، وأخذ بعضد لي ثلاث مرات ، فقلت : انما استفتيك ، قال : فلا.

5 - اخبرنا عبدالرزاق قال : اخبرنا ابن عيينة عن اسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي ان ابراهيم قال في الرجل يكون له الدين على الرجل فيضع له بعضا ويعجل له بعضا : انه ليس به بأس ، وكره الحكم بن عتيبه ، فقال الشعبي : أصاب الحكم وأخطأ ابراهيم (1).

6 - ذكر مالك في الموطأ ( تحت باب ماجاء في الربا في الدين ) :

حدثني يحيى عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن يسير بن سعيد عن عبيد ابي صالح مولى السفاح ، انه قال : بعت بزّاً لي من اهل دار نخلة الى أجل ، ثم اردت الخروج الى الكوفة ، فعرضوا علي أن اضع عنهم بعض الثمن ، وينقدوني ، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت ، فقال : لا آمرك ان تأكل هذا ولا تؤكله.

7 - وحدثني عن مالك ، عن عثمان بن حفص بن خلدة ، عن ابن شهاب ، عن

ص: 111


1- راجع المصنف 8 / 71 - 75.

سالم بن عبداللّه ، عن عبداللّه بن عمر ، أنه سأل عن الرجل يكون له الدين على الرجل الى أجل ، فيضع عنه صاحب الحق ويعجله الآخر ، فكره ذلك عبداللّه بن عمر ونهى عنه.

8 - وحدثني مالك عن زيد بن أسلم ، انه قال : كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق الى أجل ، فاذا حل الاجل ، قال : أتقضي أم تربي ؟ فان قضى أخذ ، وإلاّ زاده في حقه وأخّر عنه في الأجل. قال مالك : والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا ، ان يكون للرجل على الرجل الدين الى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب ، وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله عن غريمه ويزيده الغريم في حقه ، قال : فهذا الربا بعينه ، لا شك فيه (1).

مناقشة هذه الروايات :

1 - اذا نظرنا الى هذه الآثار الثمانية نراها تشترك في نقطة ضعف مهمة وهي عدم صدور هذه النصوص من النبي صلی اللّه علیه و آله ، فلو كان هذا الحكم قد صدر من النبي صلی اللّه علیه و آله حقاً فما أجدر الاشارة اليه من هؤلاء الرواة !! وحينئذ يكون عدم الاشارة الى هذا يجعلنا نقول : إن هذه الآثار إنما هي اجتهادات من قبل اصحابها في تنزيل ( حطّ وتعجّل ) منزلة ( الزيادة مع النظرة ) ، وهذا التنزيل ( كما صرح به في الأثر الرابع حيث صرح السائل بانه يستفتي المسؤول وقد افتاه المسؤول بقوله لا ) اذا كان اجتهادا من صاحبه فهو ليس بحجة علينا مادامت الشريعة قد فرّقت بين الصورتين كما رأينا ذلك من الروايات الصحيحة المتقدمة عن أهل البيت علیهم السلام ، وعلى الاقل فان الصورة الاولى ( حطّ وتعجّل ) ليس فيها نهي من قبل الرسول صلی اللّه علیه و آله بخلاف الصورة الثانية ( الزيادة مع النظرة ) فان فيه النهي من قبل القرآن ومن قبل الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام.

وهذا الرد على هذه الآثار الثمانية لا يمكن أن ينسحب على الروايات

ص: 112


1- راجع لباب في كتاب البيوع من الموطأ.

الصحيحة المتقدمة التي نقلناها عن الأئمة علیهم السلام وذلك لان الأئمة علیهم السلام قد صرحوا بان ما يقولوه من أحكام هو عن آبائهم عن الرسول صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن اللّه سبحانه وتعالى ، فمن تلك الروايات ما ورد عن جابر قال : « قلت لابي جعفر علیه السلام ( الامام الباقر ) إذا حدثتني بحديث فاسنده لي فقال : حدثني أبي عن جدي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، وكلما احدثك بهذا الاسناد » (1).

وهناك روايات كثيرة متواترة معنى تدلل على ان ما يقوله الأئمة علیهم السلام ليس هو رأيا مخالفا للرسول صلی اللّه علیه و آله ولا هوى ، بل هو شيء له أصل ، فاذا ثبتت هذا وجب الأخذ بما ذكروه من أحكام ( إن كان الرواة الذين ينقلون الرواية عنهم ثقات ايضا ) لان ما يقولونه هو قول الرسول صلی اللّه علیه و آله او فعله او تقريره وهو السنة ، ويكون قول الامام علیه السلام ناقلا لها.

فمن هذه الروايات المتواترة ما رواه سماعة عن ابي الحسن علیه السلام قال : « قلت له كل شيء تقول في كتاب اللّه وسنته او تقولون فيه برأيكم ؟ قال : بل كل شيء نقوله في كتاب اللّه وسنة نبيه » (2).

تنبيه : وهذا الذي قلناه من وجوب العمل بروايات أئمة أهل البيت علیهم السلام اذا ثبت كونهم من الموثوقين انما هو لالزام غيرنا الذي لا يعتقد ما تعتقده الامامية الاثنى عشرية ، من أن الأئمة الاثنى عشر معصومون من الخطأ والزلل والنسيان كالنبي صلی اللّه علیه و آله لما دلت عليه الآيات القرآنية مثل ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) ومعنى اذهاب الرجس عنهم هوالعصمة. ولما ثبت ايضا عند الكل في خطبة الغدير من قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « اني اوشك ان ادعى

ص: 113


1- وسائل الشيعة ، ج 18 ، باب 8 من ابواب صفات القاضي ، ح 67 وغيره. وأمالي الشيخ المفيد ، ص 26.
2- بصائر الدرجات ، 301 ، تأليف المحدّث أبي جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي ، ( ت 290 ه.ق ).
3- الاحزاب ، 33.

فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه عزوجل وعترتي. كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي اهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما » وقد روى هذا الحديث مئة من الصحابة وعشرة ، ورواه من التابعين اربعة وثمانون تابعيا ، ورواه من أئمة الحديث وحفّاظه ثلاث مئة وستون نسمة (1).

2 - ثم نرجع الى مناقشة النصوص الثمانية المتقدمة التي تحرم ( حطّ وتعجّل ) فنقول : بعد الغض عن اسنادها ، وقولنا إنها آثار شرعية منتسبة الى الشارع المقدس ، يحصل هنا تعارض بدوي بين القاعدة الاولية والنصوص التي تقول إن ( ضع وتعجل ) ليس به بأس فهو جائز ، وبين هذه الآثار التي تنهى عنه. ومقتضى الجمع العرفي بين هذه الآثار هو حمل الآثار الثمانية على كراهة هذه العملية ( ضع وتعجل ) ، ومعنى الكراهة هو أن الترك اولى من الفعل ، الا أن الفعل جائز ، وسرّ حملها على الكراهة هو ان النصوص الثمانية التي تحرم هذه العملية تحرمها بواسطة النهي او الكراهة او تنزيل هذه العملية منزلة الربا ، بينما روايات الجواز هي صريحة في الجواز ، فنحمل روايات النهي على النهي الكراهتي ، للنص الصريح المجوز ، اذ يكون هذا النص الصريح المجوز قرينة على أن المراد من النهي هو الكراهة الاصطلاحية ، وكذلك يكون النص الصريح المجوز حاملا للتنزيل على التنزيل في الترك لا الحرمة. ثم ان بعض الآثار الثمانية ليس فيه نهي كما هو الحال في الاثر السادس الذي يقول فيه زيد بن ثابت ( لا آمرك أن تأكل هذا ولا تؤكله ).

نعم ان الاثر الاول من الاثار الثمانية يقول : ان حط وتعجل هو ربا ، وهذا الاثر يتعارض مع النصوص الصحيحة المجوزة لهذه العملية ، اذ إن جواز هذه العملية لابد أن يكون من باب أنها ليست ربوية وليست محرمة بالكلية ، فالاثر

ص: 114


1- راجع كتاب الغدير ، للعلاّمة الاميني.

القائل إن هذه العملية ربا يكون معارضا للروايات المجوّزة.

ما هو العمل عند تعارض الروايات في عملية حط وتعجل :

هناك جوابان :

1 - يتلخّص في أن الاثر القائل أن حط وتعجل هو ربا لا يمكن الالتزام به على أنه يفيد الحرمة وذلك لاحد سببين :

الأول : ان هذا الاثر المحرم يخالف القاعدة العرفية الارتكازية القائلة : أن لكل انسانِ الحق في أن يتنازل عن بعض حقه للآخر ، وهذه القاعدة الارتكازية مستحبة اذا كان التنازل عن الحق للمعسرين ، فقد روى في سنن البيهقي بسنده أن الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحب أن يظله اللّه في ظله فلينظر معسرا ، او ليضع عنه » وفي حديث آخر : « من سرّه أن ينجيه اللّه من كرب يوم القيامة فلينظر معسرا او ليضع عنه » (1) ، وهذا التنازل عن الحق هو الابراء. كما أن للانسان الحق في أن يتعجل في قضاء دينه المؤجل. فاذا عرفنا ذلك يكون الاثر الاول ( الوارد في الجو الارتكازي والعرفي الدال على جواز ابراء الانسان غيره من بعض الدين ، وجواز أن يتعجل المدين في قضاء دينه ) غير مراد منه الربا المحرم وانما يفهم منه المعنى اللغوي للربا وهو حصول المدين على زيادة وهذا ، شيء نسلم به ، إلاّ أن الكلام في حرمة هذه الزيادة.

الثاني : أن هذا الاثر الذي يقول إن ( حط وتعجل ) هو ربا لا يمكن الاعتماد عليه كدليل يفيد الحرمة لأن علماء الاسلام ذكروا أن الربا القرضي المحرم هو عبارة عن قسمين :

1 - الربا الجاهلي ( اتقضي ام تربي ).

2 - الزيادة على رأس المال من اول عقد القرض.

ص: 115


1- ج 6 ، ص 27.

وقد ذكر الفخر الرازي موضحا المعاملة التي كانت جارية في الجاهلية وتسمى ربا فقال : « اعلم ان الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل. أما ربا النسيئة فهو الامر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ، ويكون رأس المال باقيا ، ثم اذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال ، فان تعذر عليه الاداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به » (1). وعلى هذا فلا يكون ( حط وتعجل ) هو ربا ، لان الربا هو الزيادة على رأس المال يأخذها المقرض ، وهنا ليس كذلك. وحينئذ اذا لم يمكن استفادة الربا المحرم ( من الاثر الثامن ) فلابد من حمل لفظ الربا اما على الزيادة المكروهة او على استحباب تركها ، وتوضيح ذلك :

أ - ان لفظة الربا قد اطلقت على بعض العمليات المحللة بالقطع واليقين ، كما في الروايات القائلة : ان ربح المؤمن على المؤمن ربا ، وفي بعضها الا أن يشتري باكثر من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك ، او يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم وأرفقوا بهم (2). وعلى هذا فمجرد وجود لفظة الربا في أثر ( مع أن الموضوع الذي حكم عليه بانه ربا ليس بربا ووجود روايات تحلل هذا الموضوع ) يدل على أن لفظة الربا قد استعملت في الاثر الشرعي بمعنى الكراهة.

ب - توجد روايات تشير الى أن بعض التصرفات هي ربا حلال ، وهذه تسمى بروايات ( ربا العطية ) كما روى ذلك جعفر بن غياث عن الامام الصادق علیه السلام قال : « الربا رباءان احدهما ربا حلال والآخر ربا حرام ، فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا ، طمعا أن يزيده ويعوضه بأكثر مما أخذه بلا شرط بينهما ، فان اعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند

ص: 116


1- مفاتيح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير ، 7 / 91 طبعة مصر ( المطبعة البهية ).
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 10 من ابواب آداب التجارة.

اللّه ثواب فيما أقرضه ، وهو قول اللّه عزوجل : (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) وأما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا ويشترط أن يرد أكثر مما أخذ فهذا هو الحرام » (1). وعلى هذا نقول ان وجود لفظة الربا في أثر شرعي ( مع وجود الاثار الكثيرة التي تقول إن حط وتعجل ليس بربا ) يدل على أن لفظة الربا محمولة على الربا الحلال ( أي الذي يفضل تركه ويستحب ) فان وجود الروايات المحللة يكون قرينة على هذا الحمل. وحينئذ لا يكون هناك تعارض بين النصوص والاثار.

2 - يوجد حمل آخر للتخلص من المعارضة وللجمع بين الروايات التي تحلل والآثار التي تحرم وهو أن نقول : إن من افتى بتحريم ( حط وتعجل ) كان ينظر الى أن الدائن يبيع ماله الذي في ذمة الغير بأقل منه حالا ، وهذا هو الربا المعاملي ولكنه يختص في هذه الصورة بالمتجانسين المكيلين او الموزونين. وهذا صحيح اذا كانت العملية هي عملية معاوضة الاكثر بالاقل. اما الروايات الصحيحة عن اهل البيت المحللة لعملية ( حط وتعجل ) فهي لا تقول بوجود معاملة اصلاً في البين ، وانما تقول اذا حط الدائن من دينه وتعجل الباقي فهو امر جائز ( سواء قصد الابراء عن الزائد او المصالحة على الدين المؤجل بأقل منه وهو ما يسمى بصلح الحطيطة ، ام لم يقصد شيئا من ذلك ) ، ولذا قلنا إن عملية ( حط وتعجل ) صحيحة حتى اذا كان المال المدين هو من المتجانسين المكيلين او الموزونين ، لأن الدائن عندما يحط شيئا ويتعجل الباقي لم يكن هذا معاوضة بين ما يطلبه وما يأخذه ، وكذلك اذا أبرأ شيئا من ماله مع تعجيل الباقي فانه لا يجري فيه الربا وكذا الامر في المصالحة بالاقل ، فان هذا ما يسمى بصلح الحطيطة فلا يجري فيه الربا. وعلى هذا الحمل اذن لا يوجد اختلاف بين علماء الاسلام ، اذ يكون الأمر هكذا :

1 - اذا عاوض الدائن ماله في ذمة الغير بأقل منه حالا فهو ربا في المكيلين

ص: 117


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 18 من ابواب الربا ، ح 1.

او الموزونين.

2 - اذا لم يكن هناك معاوضة اصلا ، وانما يسقط الدائن قسما من ماله في ذمة زيد ويعجل زيد له الباقي فهذا صحيح لا ربا فيه حتى في المتجانسين المكيلين او الموزونين.

3 - اذا ابرأ الدائن المدين عن قسم من دينه ، او صالحه على الاقل فهو امر جائز لأنَّ الابراء لا يدخل فيه الربا ، وكذا هذا الصلح المسمى بصلح الحطيطة.

* * *

ص: 118

التداين ونظرة الإسلام اليه

اشارة

ص: 119

ص: 120

رأينا أن الأنسب بالمقام هو بحث التداين ونظرة الاسلام إليه من ناحيتين :

1 - اقتصادية.

2 - اخلاقية.

1 - التداين ونظرة الاسلام إليه من الناحية الاقتصادية :

اشارة

لابد أولاً من معرفة معنى الدَّين ، وقد عرّفه فقهاء الاسلام بانه : المال الكلي الذي أشغل وعاء الذمَّة الذي يفترض لصيقاً بالانسان. وحينئذ من الواضح أنَّ تصور الفقه الاسلامي لنقل الدَّين وانتقاله على حدّ تصورهما في المال الخارجي ، ولذا اعترف الفقه الاسلامي ( الشيعي ) بشيئين :

1 - الحوالة : التي هي عبارة عن تحويل المدين الدائنَ على شخص آخر ، أو قل هي عبارة عن نقل المال من مكان الى مكان آخر ( أي من ذمّة الى ذمّة ) وهي معروفة في الفقه الوضعي ب ( حوالة الدَّين ).

2 - بيع الدَّين : وهو عبارة عن تبديل مالك المال الموجود في الذمّة ، كما اذا باعه لشخص ثالث ، أو وهبه له. وهذا يسمى في الفقه الوضعي ب ( حوالة الحق ).

اما البحث حول الحوالة : فان معناها عند الشيعة هو الحوالة المطلقة ( غير المقيدة بالدَّين ) ، فان مشهور علماء الشيعة - على ما جاء في كتاب جواهر الكلام -

ص: 121

على الاعتراف بالحوالة على البريء. قال : « ويصح أن يحيل على من ليس عليه دَين ، وفاقاً للمشهور ، بل عن السرائر الاجماع عليه ، وهو الحجة بعد اطلاق النصوص السابقة وعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) والسيرة على فعلها بحيث يعلم شرعيتها » (2).

واما الحوالة على المدين فقد قال بها كل علماء الشيعة ، والنصوص التي اشير اليها كدليل على صحة الحوالة بصورة مطلقة كثيرة ، منها : ما رواه ابو أيوب الخزاز في الصحيح : أنه سأل الامام الصادق علیه السلام : « عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه ؟ قال : لا يرجع عليه ابدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (3).

وأما من ينكر الحوالة على البريء من علماء الشيعة ، فهو ليس لأجل الصعوبة في أصل تصويرها بل لأجل الدعوى القائلة بأن الحوالة على البريء ترجع الى الضمان الذي هو عبارة عن نقل المال من ذمّة الى ذمّة ، وهذا يختلف عن الضمان عند ابناء العامة الذي هو « ضم ذمّة الى ذمّة » فقد ذكر هذا المعنى السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه حيث قال :

« إن هذا الانكار ليس لاجل الصعوبة في تصوير أصل الحوالة ، بل لدعوى ان الحوالة على البريء ترجع الى الضمان ، فباب الضمان يختلف عن باب الحوالة ، فان الحوالة تصدر من المدين الى من يقع عليه الدَّين بعد الحوالة ، والضمان بالعكس ؛ فهو شيء يصدر من نفس من يقع عليه الدَّين ، ويقال : إن الحوالة على البريء يرجع روحها الى الضمان ، فانه - في الحقيقة - يصدر من الذي يقع عليه الدَّين بهذه المعاملة المتقبل للدَّين ، وهذا عبارة عن الضمان ، فلا تتصور الحوالة على البريء بنحو يفترق عن الضمان ، هذا ما يذكر في المقام. وهذا كما ترى غير مربوط بصعوبة أصل تصوير الحوالة ، والحق أن الحوالة على البريء - ايضاً - صحيحة ولا

ص: 122


1- المائدة ، 1.
2- جواهرالكلام ، ج 26 ، ص 165.
3- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 11 من احكام الضمان ، ح 1 ، ص 158.

ترجع الى باب الضمان على تحقيق موكول الى محله » (1).

وذكر السيد الحائري ( تلميذ السيد الشهيد ) توضيحاً لما ذكره السيد الشهيد الصدر اخيراً من عدم رجوع الحوالة على البريء الى باب الضمان فقال : « ولعله ينظر رحمه اللّه في تصحيحه للحوالة على البريء - من دون رجوع الى باب الضمان - الى ما ذكره في الجواهر ، من أن انشاء الضمان : يكون في باب الضمان من الضامن ، وفي باب الحوالة من المحيل ، غاية الامر أن يفرض اشتراط رضا المحال عليه بما أنشأ المحيل من الحوالة ، وهذا غير انشاء الضمان منه مباشرة » (2) ، فتختلف الحوالة على البريء عن الضمان.

أقول : تبين - مما تقدم - أن علماء الشيعة تصوّروا نقل الدَّين من ذمّة الى ذمّة أي تغيير المدين. وتغيير المدين مرة يكون عن طريق الحوالة بصورة مطلقة ( على المدين او على غير المدين ) كما تصور ذلك في الحوالة المطلقة اكثر علماء الشيعة ، ومرة يكون تغيير المدين بصورة الحوالة على المدين ، وبصورة الضمان ، وقد اعترف بالحوالة على المدين وبالضمان كل علماء الشيعة. اذن يمكن القول بأن الشيعة الإمامية تصوروا امكان تغيير المدين من اول الامر ، كما أن الدليل على ذلك من ائمة الهدى ( أهل البيت ) قد تقدم في تصوير مطلق الحوالة.

وأما الدليل على صحة ضمان الضامن للمدين ففيه - ايضا - نصوص وردت عن أئمة اهل البيت منها :

1 - صحيحة عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الرجل يموت وعليه دين ، فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : اذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمّة الميت »(3).

2 - موثق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الرجل يكون عليه

ص: 123


1- فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 66 - 67 ( مخطوط ).
2- فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 66 - 67 ( مخطوط ).
3- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 14 من أبواب الدين ، ح 1.

دين فحضره الموت ، فقال وليه : عليَّ دينك ، قال علیه السلام : يبرؤه ذلك وان لم يوفه وليه من بعده » (1). وطبعا هذه الرواية الثانية تقيد بما اذا رضي الغرماء بضمان الابن دَين ابيه كما دلت عليه الرواية الاولى.

3 - روى الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الخلاف عن ابي سعيد الخدري قال : « كنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جنازة ، فلما وضعت قال : هل على صاحبكم من دَين ؟ قالوا : نعم درهمان ، فقال صلی اللّه علیه و آله : صلّوا على صاحبكم ، فقال علي علیه السلام هما عليَّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فصلى عليه ، ثم أقبل على علي علیه السلام فقال جزاك اللّه عن الاسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك » (2). وهذه الرواية - كالرواية الثانية - مقيدة بما اذا رضي الغرماء بضمان الضامن كما دلت عليه الرواية الاولى.

اذن ثبت بالدليل الشرعي امكان تغيير المدين في صورة رضاء الغريم بذلك ، وهوى يؤدي معنى الحوالة.

السنهوري وما فهمه من فقه السنة ( بالنسبة لحوالة الدَين والحق ) :

لقد رأى السنهوري في الفقه السنّي باباً باسم باب الحوالة ( ويقصدون بها حوالة الدين ) ولكنه لم يجد اصطلاح حوالة الحق في المذاهب الأربعة إلاّ في الفقه المالكي في الجملة (3). فقد رأى الدكتور السنهوري أن هذا شيء لا يمكن أن يقع في فقه ما ، وإلاّ لكان هذا بدعاً في تطور القانون - على حد تعبيره - وذلك لأمرين :

احدهما : إنه من غير الطبيعي أن يعرف نظام قانوني حوالة الدَين قبل أن يعرف حوالة الحق ، لما مضى من ان رابطة الالتزام بالمدين اشد وأقوى منها

ص: 124


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 14 من أبواب الدين ، ح 2.
2- المصدر السابق ، باب 3 من احكام الضمان ، ح 2.
3- الوسيط ج 3 ، فقرة 240 ، ص 421 ، وفقرة 434 - 437.

بالدائن ، وشخصية المدين أخطر في هذه الرابطة من شخصية الدائن.

ثانيهما : إنه من غير الطبيعي ان يسلّم نظام قانوني بانتقال الدَّين بين الاحياء من مدين الى آخر ، وهو لم يعترف بانتقاله بسبب الموت ، لأنَّ تصور قيام الوارث مقام الميت أسهل من تصور قيام شخص مقام من هو حي يرزق كما مضى ، والاسلام لا يعترف بانتقال ديون الميت الى الوارث.

وهنا يواجه السنهوري فتاوى فقهاء السنة الذين أفتوا بحوالة الدَّين بين الاحياء ، ولم يفتوا بانتقال الدَّين بالموت الى الوارث ولا بحوالة الحق إلاّ في المذهب المالكي الذي اعترف به في الجملة ، لذا فان السنهوري أخذ يفسر هذا بالنحو الذي لا يعارض ما ذكره ( من عدم امكان معرفة حوالة الدَّين قبل معرفة حوالة الحق ) ، و ( عدم امكان معرفة انتقال الدَّين بين الاحياء قبل معرفة انتقاله بالموت ) ، ثم ذكر شواهد على تفسيره من كتب اهل السنة ( العامة ) ، وبعد ذلك يصل الى ان الحوالة ( حوالة الدَّين ) يجب صرفها عن معنى الحوالة بمعناها الدقيق ( وهو الحوالة المطلقة غير المقيدة بالدَّين ) ، الى معنى الوفاء الذي يفسر على اساس التجديد بتغيير المدين ، وتوضيح ذلك أن المدين يوفي ( عن طريق ما يسمى بالحوالة ) الدَّين الذي عليه للدائن بالحق الذي له في ذمّة المحال عليه ، فالمدين بدلاً من أن يستوفي حقه من المحال عليه ثم يوفي ( بهذا الحق الذي استوفاه ) دَينه الذي عليه للدائن ، يختصر هاتين العمليتين في عملية واحدة ، فيقضي الدَّين الذي عليه بالحق الذي له دون أن يستوفي شيئاً من مدينه او يوفي شيئاً لدائنه ، بل يقتصر على أن يحيل دائنه على مدينه ، وهذا لا يعني الاعتراف بفكرة الحوالة بمعناها العام ، وإلاّ لأعترفوا بها في الحوالة على البريء.

وكأنَّ الدكتور السنهوري التفت الى وجود طريق آخر لعلماء السنة ، فقد يقولون له : أن الحوالة على المدين يمكن ارجاعها الى حوالة الحق بأن يفترض أن المحيل في الحقيقة قد نقل ( الحق الذي كان له على المحال عليه ) الى دائنه ، فيكون

ص: 125

الفقه السني قد اعترف بحوالة الحق ، ولم يعترف بحوالة الدين. وهذا أمر منسجم مع تطور الفقه من دون مشكلة. إلاّ ان الدكتور السنهوري استبعد هذا الارجاع وذكر لذلك شواهد من الفقه السني.

أقول : وبهذا البحث الذي ذكره الدكتور السنهوري يكون قد فرّغ الفقه السنِّي من الاعتراف بحوالة الحق وحوالة الدين معا.

نقول : إن السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه ذكر الشواهد التي ذكرها السنهوري ، وردَّها ، واثبت أنها حيادية اتجاه مسألتنا (1) ، إلاّ ان الرد الحاسم لما ذهب إليه السنهوري ذكره السيد الشهيد الصدر أيضا فقال : « إن السنهوري خلط بين تصورات الفقه الغربي وتصورات الفقه الاسلامي ، فلئن واجه الفقه الغربي مشكلة من هذا القبيل على اساس أنه يرى الدَّين عبارة عن الالتزام ، وهو خيط بين الدائن والمدين ، لا مالاً موجوداً في ذمّة المدين ، وعندئذ يصعب عليه تصور تبديل احد طرفي الالتزام ، لأنَّ الالتزام متقوم بطرفيه ، فالفقه الاسلامي من أساسه لا يواجه مشكلة كهذه ، لانه يرى ان الدَّين مال موجود في ذمَّة المدين يتصور النقل والانتقال على حدّ تصورهما في المال الخارجي ، فحوالة الدَّين : عبارة عن نقل المال من مكان الى مكان ( اي من ذمّة الى ذمّة ) وحوالة الحق : عبارة عن تبديل مالك هذا المال الموجود في الذّمة. وهذان أمران لا يرتبط احدهما بالآخر ، ويجوز للفقه أن يتصور احدهما من دون الآخر ، سواء كان ما تصوره عبارة عن حوالة الحق دون حوالة الدَّين او بالعكس. اما عدم اعتراف الاسلام بانتقال الدَّين في باب الموت الى الورثة مع اعترافه بانتقال الحق اليهم ، فليس بسبب ما يقوله السنهوري من أن تصور انتقال الدين أصعب من تصور انتقال الحق ، وانما هو بسبب ما قاله استاذنا الشهيد الصدر رحمه اللّه وهو أن الاسلام يرى ان الدَّين عبارة عن مال موجود في الذّمة ، وليس عبارة عن الالتزام كما جاء في الفقه الغربي ويرى أن

ص: 126


1- المصدر السابق نفسه.

ذمّة الشخص لا تموت بموت الشخص ، فانها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتى بعد الموت ، ولذا لا حاجة الى قيام الوارث مقام المورث في الدّين ، فإنَّ الوارث انما يقوم مقام المورث في ما يكون المورّث ميتاً بلحاظه ، وهذا هو الحال بلحاظ أمواله الخارجية وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره ، ولذا عرف الفقه الاسلامي انتقال الحق في باب الارث. وأما بلحاظ الديون الثابتة على الميت ، فذمّة الميت باقية على حالها مالم يوف دينه ( ولا مجال لقيام الوارث مقامه ) ويوفى دينه من تركته ثم يورث المال كما قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (1). وعلى هذا الاساس لا يقول الاسلام بما جاء في الفقه الغربي من انتقال ديون الميت الى الورثة وادائهم اياها بمقدار ما ورثوه من التركة ، بل يقول : ان دَين الميت لا علاقة له بالورثة.

والصحيح : أن التركة تبقى ملكاً للميت ، ويوفى دَينه الثابت في ذمته بها ( لا أن الدَّين يتعلق بالتركة ). وإن لم تفِ تركته بمقدار دَينه بقيت ذمَّته مشغولة الى أن يتبرع عنه متبرع » (2) او يبرئه الدائن.

نقول : ومما يؤيد صحة ما ذهب إليه السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه ( من عدم الارتباط بين حوالة الدَّين وحوالة الحق ، وان الفقه يجوَّز له ان يتصور احدهما دون الاخر ، كما ان الدَّين في باب الموت لا ينتقل الى الورثة ليس له علاقة بصعوبة انتقال الدَّين من انتقال الحق ) هو ما وجدناه في الفقه الشيعي ( الإمامي من الاعتراف بحوالة الدَّين على المدين وعلى البريء والاعتراف بحوالة الحق ، مع أن الشيعة أنفسهم لا يقولون بانتقال ديون الميت الى الورثة ويقولون بانتقال حقوق الميت إليهم ، وهذا دليل على ان تصور انتقال الحق لا ربط به بتصور انتقال الدَّين من الناحية الاولية في التصور.

ص: 127


1- النساء ، 12.
2- فقه العقود ، للسيد الحائرى ، ص 68 - 69 ( مخطوط ).
مصطفى الزرقاء :

اما الاستاذ مصطفى الزرقاء ، فقد ذهب الى عكس ما ذهب اليه السنهوري ، حيث قال في كتابه : إن حوالة الحق وحوالة الدّين ثابتتان معاً في الفقه الاسلامي في حوالة المدين دائنه على دَين مدين له ، لانه يتحقق بهذه العملية حوالة الدائن وحوالة المدين في وقت واحد وتوضيح ذلك : لو حوّل زيد دائنه ( وهو عمرو ) على مدين له ( وهو بكر ) ، فقد حوّل زيد ( المدين لعمرو ) دينه على بكر ، وهذه هي حوالة الدين ، وفي نفس الوقت قد حوّل زيد ( الدائن لبكر ) حقه الى عمرو ، فأصبح عمرو هو الدائن لبكر بدلاً عن زيد ، وهذه هي حوالة الحق (1).

واورد على ذلك السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه :

« إن هذه الحوالة لا يمكن أن تكون حوالة دَين وحوالة حق في وقت واحد ، بل يجب ان تكون حوالة دَين فقط او حوالة حق فقط ، فزيد اما ان يحوّل الدَّين الذي في ذمَّته لعمرو على بكر استيفاء لحقه الذي له على بكر ، وهذه هي حوالة الدَّين ، اي حوالة الدَّين الموجود في ذمَة زيد على بكر. أما الدَّين الذي يطلبه زيد من بكر فقد سقط. واما ان يحوّل الحق الذي له في ذمّة بكر الى عمرو وفاء لدَينه ، وهذه هي حوالة الحق ، وبهذا سقط الدَّين الذي كان في ذمته لعمرو. أما اذا افترضنا ان هذه حوالة دَين وحوالة حق في وقت واحد فهذا يعني أن يكون كلا الدَينين ثابتين لعمرو على بكر ، لأنَّ الدَين الذي كان له على بكر حوّله لعمرو فملكه عمرو بحوالة الحق ، والدَّين الذي كان عليه لعمرو حوّله على بكر فهو لا زال ملكاً لعمرو يستوفيه من بكر ، وهذا يعني ان يأخذ عمرو المال من بكر مرتين وهو واضح البطلان » (2).

ص: 128


1- المصدر السابق ، ص 69 - 70 ، ( مخطوط ).
2- المصدر السابق نفسه.

نقول : ولو تنازل الاُستاذ مصطفى الزرقاء عن كلمة : « يتحقق بهذه العملية حوالة الدائن وحوالة المدين في وقت واحد » وقال : نتمكن أن تتصور حوالة الدائن وحوالة المدين في عمليتين ( اي في وقتين ) (1) ، فهل نتمكن ان نقول ان الفقه السنّي قد عرف حوالة الدَّين وحوالة الحق معاً ؟

الجواب : لا يمكن ذلك ، وذلك فانَّ حوالة الحق التي لم تذكر في المذاهب الاربعة إلاّ المذهب المالكي في الجملة ( كما ذكروا ) لا يمكن ان نقول إن الفقه السنّي قد عرفها وان تصور ذلك الاستاذ مصطفى الزرقاء حيث إننا بحاجة الى دليل شرعي على اعتراف الفقه السنّي بحوالة الحق ، او على الاقل نحتاج الى نص من فقيه قديم يصرح بحوالة الحق ، اما تصوّر الزرقاء فهو لا يكفي لنسبة القول بحوالة الحق الى الفقه السنّي ، اذ فرق كبير بين تصور الشيء وثبوته في الفقه بحيث ينسب الى الشريعة. وقد يتصور فقيه قديم حوالة الحق ، إلاّ ان تصوره اياها غير كاف لثبوتها في الشريعة الاسلامية كما هو واضح ، وتصور حوالة الحق في الفقه الاسلامي سهل يسير اذا عرفنا ان الدَّين هو مال كلي ثابت في ذمّة الغير ، وحينئذ يمكن نقله من مدين الى آخر ، ويمكن تغيير الدائن ايضا ، إلاّ ان هذا لا يكفي لنسبة حوالة الدَّين وحوالة الحق الى الشريعة ، بل لابد من سنّة او على الاقل ذهاب جمع من العلماء القدامى الى القول بحوالة الحق والدَّين كفتوى لهم تكشف عن وجود ارتكاز لدى المتشرعة بقبولهما ، وهذا الارتكاز يكشف عن رضا المعصوم علیه السلام او تقريره ، وهو سنّة متبعة.

ص: 129


1- اي شخص واحد يتمكن أن يحول دائنه على مدينه وهي حوالة الدَّين ، كما يتمكن أن يفعل هذه العملية بصورة اُخرى كما اذا تصورنا ان دائن زيد لم يطالبه بالدَّين ، ولكن زيداً اراد تسديد دَينه ، فأمر مدينه بدفع المبلغ الى دائن زيد ، فيكون زيد قد حوّل حقه الذي في ذمّة مدينه الى دائنه وهو حوالة الحق ، وهذا ليس فيه منع كما في بيع الدَّين على غير المدين.
المفهوم الغربي للدّيْن :

الدَّين في المفهوم الغربي هو مجرد التزام شخص لشخص ، وهذا أقرب ما يكون الى مفهوم انشغال العهدة عند الشيعة ، فكأنه رابطة بين انسان وانسان أو بين انسان ومال ، وكان هذا التعريف للدَّين هو الفارق عند الغربيين بين ما يسمونه بالحق الشخصي والحق العيني ، فالشخصي هو الذي يربط الانسان بانسان آخر ، والعيني هو الذي يربط الانسان بعين خارجية (1). قال الدكتور السنهوري متحدثاً عن تطور الرابطة بين الدائن والمدين في الفقه الغربي :

« ولم تثبت هذه الرابطة على حال واحدة ، بل انها تطورت فكانت في اول أمرها سلطة تعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي. فالاول سلطة تعطى للشخص على شيء ، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر ، وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الاعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف ، ثم تلطفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس المدين مثلاً ، ولم يصل الدائن الى التنفيذ على مال المدين ألاّ بعد تطور طويل ، فاصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران :

مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين.

ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم بذمَّة الدائن ، ويترتب دَيناً في ذمة المدين. ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين الى الوقت الحاضر وان اختلفت المذاهب فيه ، فمذهب يغلِّب الناحية الشخصية ؛ وهو المذهب الفرنسي التقليدي

ص: 130


1- أما الفقه الاسلامي فهو لا يعرف هذين الاصطلاحين مادام لا يعرّف الدَّين بهذا التعريف بل يعرفه على أنه مال في ذمَّة الغير قابل للنقل والانتقال كالاعيان ، نعم الفقه الاسلامي يعرف الحق الكلي والحق العيني.

الموروث عن القانون الروماني. ومذهب يغلِّب الناحية المالية ؛ وهو المذهب الألماني الحديث ... وأشهر من قال بالمذهب الشخصي من فقهاء الألمان ( سافيني ) فقد كان يرى الالتزام رابطة شخصية تخضع المدين للدائن ، وهو صورة مصغَّرة من الرق. فالسلطة التي تمنح لشخص على شخص آخر قد تستغرق حرية من يخضع لهذه السلطة وهذا هو الرق الكامل والملكية التامة ، وقد لا تتناول السلطة إلاّ بعض هذه الحرية ، ولا تمتد إلاّ الى جزء من نشاط المدين ، فيترتب - من ذلك - حق للدائن قريب من حق الملكية ولكنه ليس إيّاها فهو حق خاص بعمل معيَّن من أعمال المدين. وهذه النظرية قام في وجهها فقهاء الألمان وعلى رأسهم ( جييريك ) وأبوا أن تستقر في الفقه الألماني بعد ان عملوا على تحرير قانونهم من النظريات الرومانية وغلّبوا النظريات الجرمانية الاصل عليها. وقد بيَّن ( جييريك ) أن الفكرة الجرمانية في الالتزام لا تقف عند الرابطة الشخصية ، كما كان الامر في القانون الروماني ، بل تنظر الى محل الالتزام ، وهو العنصر الاساسي ، وتجرده من الرابطة الشخصية حتى يصبح الالتزام عنصراً مالياً اكثر منه علاقة شخصية ، فينفصل الالتزام بذلك عن شخص الدائن وعن شخص المدين ، ويختلط بمحله فيصبح شيئاً مادياً العبرة فيه بقيمته المالية » (1). ومن هنا دخلت فكرة الذمّة في الفقه الغربي إلاّ أنها اختلفت عن فكرة الذمّة عندنا ، فبينما الذّمة عندنا وعاء اعتباري لصيق بالانسان لا علاقة له بأمواله الخارجية ، كانت لديهم عبارة عمّا يسمى بالثروة او ( بالذمّة المالية ) وهي وعاء تستوعب كل اموال الانسان الخارجية وغيرها ايجابية وسلبية ، ففي الذمّة المالية عندهم عنصران : عنصر ايجابي هو الحقوق وعنصر سلبي هو التكاليف ، والذمّة تتكون من العنصرين معا ، وحاصل الفرق بين العنصرين يسمى الصافي ، وقد تكون الذمّة خالية ليس فيها

ص: 131


1- الوسيط ، ج 1 ، الفقرة 7 - 9 ، ص 107 - 108.

حقوق ولا تكليفات كذمّة الوليد الذي ليس له مال (1).

الموازنة بين النظرية الاسلامية والنظرية المقابلة :

إن اول فرق بين النظرية الاسلامية للتداين والنظرية المقابلة هو : تصور الاسلام الدين من أول الأمر على أنه مال في ذمّة المدين ، بينما لم يصل القانون الغربي الى هذه النتيجة إلاّ بعد تطور دام مدة طويلة. فالفرق هو عدم خضوع الفقه الاسلامي للتطور ، بل هو تشريع نازل من السماء لا يخضع لتطور الأحكام كما يخضع لها الفقه الوضعي. ومن نافلة القول بيان خطأ من يحاول أن يسبغ على الشريعة تطوراً يؤدي بها الى الخروج عن كونها شريعة اسلامية بحجة متطلبات الحياة ، وهو يعيش حياة رأسمالية في حكمها الاقتصادي ، فبالاضافة الى خطأ هذا القول يكون صاحبه قد اقترف جناية كبرى بمسخ الشريعة الاسلامية وتحويلها الى شريعة اُخرى قد تكون رأسمالية او اشتراكية ، وهو غافل او متغافل عن ان خطأ كلا التشريعين الوضعيَّين قد اثبته الاسلام الذي ينظر الى الانسان بوصفه كائناً فردياً له احتياجاته ، كما انه في ضمن جماعة يجب ان تحفظ مصالحها العامة.

ولا ادري بماذا يجيب من يدعو الى التحرر من بعض الاحكام القرآنية بحجة متطلبات الحياة وهو يسمع او يرى الحديث عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « حلال محمد حلال ابداً الى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً الى يوم القيامة » (2).

نعم نحن لا ننكر وجود تطور في الموضوعات التي يتبدل الحكم فيها بتبدل

ص: 132


1- راجع الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، للاستاذ مصطفى الزرقاء ، ج 3 ، فقرة 128 ، ص 233 ، بحسب الطبعة الخامسة.
2- اصول الكافي ، الكليني ، ج 1 ، ص 58 ، ح 19. وقد وردت هذه الرواية بهذا اللسان في كتب اهل السنة : « فما احل اللّه على لسان نبيِّه فهو حلال الى يوم القيامة ، وما حرَّم اللّه على لسان نبيّه فهو حرامٌ الى يوم القيامة » سنن الدارمي ، ج 2. ص 115.

موضوعه وهذا شيء آخر غير تطور الحكم الشرعي الذي ننكره ونحاسب عليه. ثم ان التصوير القديم لمعنى الدَّين في الفقه الوضعي ( بانه التزام شخصي ) ادى بهم الى ما يلي :

1 - عدم تصورهم لحوالة المدين الدائن في دينه ( وهذه هي الحوالة في فقهنا ، وهي حوالة الدَّين في الفقه الغربي ).

2 - عدم تصورهم لتغيير الدائن من شخص لآخر ( وهذا هو بيع الدَّين في فقهنا او هبته ، ويسمى في الفقه الغربي بحوالة الحق ).

3 - بما أن شخصية الوارث هي استمرار لشخصية المورّث ( كما يقول الفقه الغربي ، فقد استساغت القوانين الغربية :

أ - إنتقال الالتزام من الدائن ( عند موته ) الى ورثته من بعده ، ويصبح هؤلاء هم الدائنين مكانه.

ب - إنتقال الالتزام من المدين ( عند موته ) الى ورثته من بعده ، ويصبح هؤلاء هم المدينين مكانه ، وكأنهم لا يقولون بانتقال الالتزام الى شخص جديد بالموت مادام الوارث هو استمراراً لشخصية المورث.

قال الدكتور السنهوري : « قد كانت فكرة الرابطة الشخصية هي الفكرة السائدة في القانون الروماني ، ثم سادت بعد ذلك عصورا طويلة في القوانين اللاتينية ، فلم يكن يمكن معها تصور انتقال الالتزام لا من دائن الى دائن آخر ولا من مدين الى مدين آخر. على أن استعصاء الالتزام على الانتقال لم يلبث في هذه القوانين القديمة إلاّ في انتقاله فيما بين الأحياء ، أما انتقال الالتزام الى الوارث بسبب الموت ، فان هذه القوانين لم تلبث أن استساغته منذ عهد طويل ... فينتقل الالتزام من الدائن عند موته الى ورثته من بعده ، ويصبح هؤلاء هم الدائنين مكانه ، وكذلك ينتقل الالتزام من المدين عند موته الى ورثته من بعده ، ويصبح هؤلاء هم المدينين مكانه ... وتعتبر شخصية الوارث انما هي استمرار لشخصية المورث ،

ص: 133

فكأن الالتزام لم ينتقل الى شخص جديد بموت صاحبه ، بل بقي عند صاحبه ممثلا في شخص الوارث ... وقد يبدو ان الالتزام يتحور في الشرائع الغربية اذا هو انتقل من المدين الى وارثه وقبل الوارث الميراث محتفظا بحق التجريد ، فيفصل اموال التركة عن أمواله الشخصية ولا يكون مسؤولا عن ديون التركة إلاّ في المال الذي ورثه ، فيصبح الالتزام بعد أن انتقل الى الوارث لا يمكن التنفيذ به إلاّ على اموال التركة التي انتقلت الى هذا الوارث ، ولكن هذا التحوير ليس تحويرا حقيقيا ، فالواقع من الامر أن الالتزام بقي - من ناحية المال الذي يجوز التنفيذ عليه - كما كان في حياة المورّث ، فقد كان عندئذ لا يمكن التنفيذ به إلاّ على ماله فبقي كما كان. واذا كان قد أمكن في انتقال الالتزام بسبب الموت جعل الوارث خلفاً عاما للمورّث وتصوير هذه الخلافة العامة كأنها استمرار لشخصية المورث ففي انتقال الالتزام ما بين الاحياء حيث الخلافة خاصة لا يمكن تصوير هذه الخلافة الخاصة حال الحياة كما أمكن تصوير الخلافة العامة بعد الموت استمرارا لشخصية السلف ، ذلك انه اذا أمكن القول بان المورث قد زالت شخصيته بالموت يتصور استمرارها في شخص الوارث ، فانه يتعذر القول بأن السلف وهو لا يزال حياً تستمر شخصيته في شخصية خلفه الخاص. من اجل ذلك لم يكن ممكنا ان ينتقل الالتزام حال الحياة في القانون الروماني من دائن الى دائن آخر ، او من مدين الى مدين آخر عن طريق حوالة الحق او عن طريق حوالة الدَّين. ولم يكن ممكنا اذا اريدَ تغيير شخص المدين إلاّ تجديد الالتزام بتغيير الدائن ، أو اريد تغيير شخص المدين الاّ تجديد الالتزام بتغيير المدين ، وفي الحالتين لم يكن الالتزام ذاته بمقوماته وخصائصه هوالذي ينتقل من شخص الى شخص آخر ، بل كان الالتزام الاصلي ينقضي بالتجديد ، وينشأ مكانه التزام جديد بمقومات وخصائص غير المقومات والخصائص التي كانت للالتزام الاصلي ، وفي هذا الالتزام الجديد كان يتغير شخص الدائن او يتغير شخص المدين. على ان الرومان كانوا يلجأون الى طريقة

ص: 134

اخرى لتحويل الالتزام من دائن الى دائن اخر دون تدخل من المدين ، فكان الدائن الاصلي يوكل ( من يريد تحويل الالتزام إليه ) في قبض الدَّين باسمه من المدين وكان هذا التوكيل وسيلة يستطيع بها الوكيل ان يقبض الدَّين من المدين دون حاجة الى رضائه بتحويل الدَّين ولكن هذه الطريقة لم تكن مأمونة ؛ فان الدائن الأصلي كان يستطيع ان يعزل الوكيل قبل ان يقبض الدَّين. وبقي القانون الروماني على هذه الحال دون أن يعرف ، لا حوالة الحق ولا حوالة الدَّين ، وبقيت الحوالة مجهولة مدة طويلة في القانون الفرنسي القديم يتحايلون عليها عن طريق التوكيل بقبض الدَّين الذي كان القانون الروماني يلجأ اليه ، حتى أصبح هذا الطريق مألوفاً ، ومنه دخلت حوالة الحق في القانون الفرنسي القديم ، واصبح مما في هذا القانون انه يجوز للدائن ان يحول حقه الى دائن آخر دون حاجة الى الحصول على رضاء المدين بالحوالة ، على غرار التوكيل بالقبض الذي أصبح مفترضادون نص ، وهذا بالرغم من ان التحليل القانوني الدقيق يستعصي على أن ينتقل الالتزام - وهو رابطة شخصية - من دائن الى دائن اخر. وساعد على امكان انتقال الالتزام من دائن الى دائن آخر ، أن فكرة الالتزام - باعتباره رابطة شخصية - أخذت تتطور ، وأخذ العنصر المادي في الالتزام يبرز شيئا فشيئا ، فاصبح من السهل أن نتصور أن الالتزام ( باعتباره قيمة مالية لا باعتباره رابطة شخصية ، وبالنسبة الى موضوعه لا بالنسبة الى اطرافه ) ينتقل من دائن الى دائن آخر. لكن التطور في القوانين اللاتينية وقف عند هذا الحد ، ولم يصل القانون الفرنسي - حتى اليوم - الى تنظيم حوالة الدَّين ( أي انتقال الالتزام من مدين الى مدين اخر ) وليس هناك سبيل الى تغيير المدين في الالتزام إلاّ عن طريق التجديد أو الإنابة في الوفاء ، ذلك ان شخصية المدين في الالتزام اكبر خطرا من شخصية الدائن ، فعلى شخصية المدين ومقدار يساره وحسن استعداده للوفاء بدينه تتوقف قيمة الدَّين ، فلم يكن من السهل التسليم بتحويل الالتزام من مدين الى مدين آخر دون ان يكون الدائن طرفا في هذا

ص: 135

التحويل عن طريق التجديد ، لان الدائن يأبى ان يتغير عليه المدين من دون رضائه ، ويعنيه من تغيير مدينه ما لا يعني المدين من تغيير دائنه ، فبقيت القوانين اللاتينية عند هذه المرحلة من التطور ، ولم تستكمله الى غايته ، وذلك مع استثناء التقنين المدني الايطالي الجديد ، فقد أقرَّ حوالة الدَّين عند الكلام في الإنابة في الوفاء.

أما التقنينات الجرمانية فقد سارت في التطور الى نهاية الطريق ، ومادامت فكرة الالتزام قد تطورت فاصبح الالتزام قيمة مادية اكثر منه رابطة شخصية ، ومادام قد أمكن تصور انتقال الالتزام من دائن الى دائن اخر ، فما الذي يحول دون التسليم بانتقاله من مدين الى مدين آخر ، ومن ثم يعرف كل من التقنين المدني الايطالي ( 1414 - 1419 ) وتقنين الالتزامات السويسري ( المواد 157 - 183 ) الى جانب حوالة الحق حوالة الدَّين » (1).

وبعد نقل كلام الدكتور السنهوري لمعرفة النقاط الثلاث التي ذكرناها ، نعرف الموازنة بين النظرية الاسلامية للدّين ، والنظرية المقابلة ، فان الاسلام - كما تقدم - قد عرف حوالة الدَّين وحوالة الحق مباشرة وأقرهما من دون أن يتطور في معرفتهما كما حصل ذلك في القوانين البشرية ، والاسلام في نفس الوقت الذي عرف فيه كلتا الحوالتين لم يعترف بانتقال ديون الميت الى الوارث ، لكنه اعترف بانتقال الحق اليه ، وهذا كله تقدم ، وتقدم بيانه ومعرفة حكمته وعلَّته.

2 - التداين ونظرة الاسلام اليه من الناحية الاخلاقية

اشارة

ومن أجل تكميل البحث ، ولأنَّ الاسلام هو نظرة الى الحياة شاملة للنواحي الاقتصادية والاخلاقية وغيرها من نواحي الحياة ، رأينا من المناسب ان نتطرق الى نظرة الاسلام الى التداين من الناحية الاخلاقية ، ومقارنتها مع النظرية المقابلة ،

ص: 136


1- الوسيط ، ج 3 ، فقرة 237 - 239 ، ص 414 - 419.

لنعرف مدى اهتمام الاسلام بالمجتمع المتجانس والمتآخي ، ومدى وصول المجتمعات البعيدة عن الاسلام الى الاثرة وحب الذات والنفرة بين الافراد.

فنقول : مرة يكون التداين قد صدر من الدائن ( فهو حق له في ذمّة الغير ) ، ومرة يكون قد صدر من المدين ( فهو حق عليه في ذمّته للغير ) ، ولابد من معرفة نظرة الاسلام من البحث في كلا الامرين :

أ - الدَّين بما أنه قد صدر من المدين :

اولاً : اذا كان المدين غير محتاج الى الدَّين :

في هذه الحالة يستدين المرء لتوسيع نطاق تجارته مثلا ، فان الاسلام يرى كراهة هذا العمل ، والدليل على ذلك الروايات الكثيرة ، منها :

1 - صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « تعوَّذوا باللّه من غلبة الدَّين ، وغلبة الرجال ، وبوار الأيّم » (1).

2 - موثقة السكوني عن جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ايَّاكم والدَّين فانه شين الدِّين ».

3 - عن الإمام الصادق علیه السلام عن علي علیه السلام أنه قال : « إيَّاكم والدَّين ، فانه همٌّ بالليل ، وذل بالنهار » (2). وقد ورد عن علي بلفظ آخر أنه قال : « إياكم والدَّين فانه مذلة بالنهار ، ومهمّة بالليل ، وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة » (3).

4 - وقد روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انه قال : « من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء ، وليجود الحذاء ، وليخفف الرداء ، وليقل مجامعة النساء. قيل : وما خفة

ص: 137


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من ابواب الدين ، ح 1 ، ص 76.
2- المصدر السابق ، ح 3.
3- المصدر السابق ، ح 4.

الرداء ؟ قال : قلة الدَّين » (1).

5 - وعن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « أعوذ باللّه من الكفر والدَّين . قيل : يا رسول اللّه أتعدل الدَّين بالكفر ؟ قال نعم » (2).

6 - وعن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « لا تزال نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دَين » (3).

7 - وعن جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قال : « الدَّين راية اللّه - عزّوجل - في الأرضين ، فاذا أراد أن يذل عبداً وضعه في عنقه » (4).

وهذه الروايات وإن كانت مطلقة في ذم الدَّين وكراهته إلاّ أنها تقيد بالروايات الآتية التي تجوزه عند الحاجة كما ستأتي الاشارة إليها.

ثانياً : جواز الاستدانة مع الحاجة اليها :

وقد وردت الروايات بجواز الاستدانة مع الحاجة اليها ، وبهذا تقيد الروايات الذامة للدَّين بغير هذه الصورة ، فمن الروايات الدالة على الجواز مع الحاجة :

1 - صحيحة معاوية بن وهب قال : قلت للإمام الصادق علیه السلام : « إنه ذُكِرَ لنا أن رجلا من الانصار مات وعليه ديناران ديناً ، فلم يصلّ عليه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : صلُّوا على صاحبكم حتى ضمنهما عنه بعض قرابته ، فقال الإمام الصادق علیه السلام : ذلك الحق ، ثم قال : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انما فعل ذلك ليتعاطوا وليرد بعضهم على بعض ، ولئلا يستخفوا بالدَّين ، وقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليه دَين ، وقتل أميرالمؤمنين علیه السلام وعليه دَين ، ومات الحسن علیه السلام وعليه دَين

ص: 138


1- المصدر السابق ، ح 5.
2- المصدر السابق ، ح 6.
3- المصدر السابق ، ح 7.
4- المصدر السابق ، ح 10.

وقتل الحسين علیه السلام وعليه دَين » (1).

2 - موثقة موسى بن بكر قال : قال لي ابوالحسن علیه السلام « من طلب هذا الرزق من حلِّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه ، فان غلب عليه فليستدن على اللّه وعلى رسوله صلی اللّه علیه و آله ما يقوت به عياله » (2).

3 - عن جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عن آبائه علیه السلام قال : « لقد قُبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وانَّ درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لاهله » (3).

4 - وعن ابراهيم بن محمد الاشعري بإسناده عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قُبض علي علیه السلام وعليه دين ثمانمائة الف درهم ، فباع الحسن علیه السلام ضيعة له بخمسمائة الف فقضاها عنه ، وباع ضيعة له بثلثمائة الف فقضاها عنه ... » (4).

ثالثاً : جواز الاستدانة لعمل الطاعات :

وقد وردت الروايات بجواز الاستدانة للطاعة ، وبذلك تقيد الروايات الذامة للاستدانة بغير هذه الصورة ايضا ، فمن الروايات الدالة على جواز الاستدانة لأجل الطاعة :

1 - ما رواه الصدوق باسناده عن الميثمي عن أبي موسى قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : جعلت فداك يستقرض الرجل ويحج ؟ قال : نعم ، قلت : يستقرض ويتزوج ؟ قال : نعم ، انه ينتظر رزق اللّه غدوة وعشية » (5). ثم إن الجامع بين الزواج والحج هو الطاعة ، إذن تجوز الاستدانة لأجل الطاعة ، فتكون الاستدانة

ص: 139


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 2 من ابواب الدين ، ح 1.
2- المصدر السابق ، ح 2.
3- المصدر السابق ، ح 9.
4- المصدر السابق ، ح 11.
5- المصدر السابق ، باب 3 ، من ابواب الدين ، ح 1.

للعمل العبادي جائزة كما هو المستفاد من الرواية ، وان كان انتظار رزق اللّه غدوة وعشية هو مستحب ، إلاّ أنه شيء آخر غير الاستدانة ، بل يكون مسبباً عنها.

رابعاً : وجوب الاستدانة أحياناً ، ثم اننا نقول : إن الدَّين قد يكون واجباً ، كما اذا توقفت نجاة المؤمن عليه ، وبما ان نجاة المؤمن اذا كنت قادرا عليها او على سببها فهي واجبة ، فحينئذ يكون السبب اليها اذا كان منحصرا واجبا ، وهذا واضح كما قرره علماء الاصول في مسألة مقدمة الواجب.

ب - الدَّين اذا صدر من الدائن :

إن الدَّين اذا صدر من الدائن يكون إيثاراً للمدين في أغلب الحالات ، حيث قدم صاحب المال غيره على الاستفادة من السيولة النقدية والتمتع بالمال الناض ، وقد كان بمقدور صاحب المال أن لا يمنح فرصة الاستفادة لغيره ، ولكن قد يجنح الدائن الى ايثار غيره بالمال رغبة في ثواب اللّه سبحانه وقد تكون هناك غاية عاطفية أو انسانية اخرى تدعو الدائن أن يقدم غيره على نفسه للاستفادة من النقد ، في مقابل ان يردّمثله بعدمدة يتفقان عليها. وهذا العمل اذا صدر من الدائن بقصد التقرب الى اللّه تعالى - الذي يحب الخير والمساعدة على البر والعمل الصالح يحصل الدائن على الثواب الذي وعد اللّه سبحانه به عباده الصالحين ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) . واما اذا لم يكن الدَّين قد قصد فيه القربة ورضاء اللّه سبحانه ، فلا يحصل الدائن على الثواب الموعود به ، واليك الروايات الدالة على تحبيذ القرض من قبل القارض :

1 - ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام انه قال : « لأن أقرض قرضا احب الي من أن أتصدق بمثله » (1).

2 - عن جابر عن الإمام الصادق علیه السلام قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أقرض مؤمناً قرضاً ينشر به ميسوره كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من

ص: 140


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 6 من ابواب الدين ، ح 1.

الملائكة حتى يؤديه » (1).

3 - عن الفضيل قال : قال الإمام الصادق علیه السلام : « ما من مسلم أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه اللّه الا حسب له أجرها كحساب الصدقة حتى يرجع اليه » (2).

4 - عن هيثم الصيرفي وغيره عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « القرض الواحد بثمانية عشر ، وان مات حسبتها من الزكاة » (3).

ولعل السرّ في ترجيح ثواب القرض على ثواب الصدقة - حيث ان ثواب الصدقة الواحدة بعشر - ما ذكره الشهيد الثاني في كتاب شرح اللمعة الدمشقية : « إن الصدقة تقع في يد المحتاج وغيره والقرض لا يقع إلاّ في يد المحتاج غالباً ، وأن درهم القرض يعود فيقرض ثانياً ودرهم الصدقة لا يعود » (4). وهذا التعليل وجيه لترجيح القرض على الصدقة مع كون كلا العقدين يقصد بهما وجه اللّه تعالى ، فان الانسان إن امكنه ان ينفع اكثر من واحد بماله ويعود اليه سالما يكون أفضل من نفع فرد واحد ولا يعود اليه المال ، كما ان البر الاكمل أن يقع المال في يد المحتاج فهو أفضل من وقوعه في يد غير المحتاج.

5 - وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ومن اقرض أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل اُحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، وان رفق به في طلبه تُعُدِّي ( جاز ) به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا اليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرَّم اللّه - عزوجل - عليه الجنة يوم يجزي المحسنين » (5).

ص: 141


1- المصدر السابق ، ح 3.
2- نفس المصدر السابق ، ح 2 ، ص 87.
3- نفس المصدر السابق ، ح 4 ، ص 87.
4- اللمعة الدمشقية ، ج 4 ، ص 12.
5- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 6 من ابواب الدَّين ، ح 5 ، ص 88.

6 - عن الإمام الصادق علیه السلام في قول اللّه عزوجل ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) قال : « كان يوسع المجلس ، ويستقرض للمحتاج ، ويعين الضعيف » (1). وواضح ان نفس عملية الاقراض هي اولى من الاستقراض فيكون المقرض داخلا في المحسنين.

7 - عن عبداللّه بن سنان قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله « الف درهم أقرضها مرتين أحبّ الي من أن اتصدق بها مرة » (2).

وهذه الروايات المتقدمة بعضها مقيد بقصد القربة كما في الرواية الثالثة ، واما الباقي ، فان قلنا إنها روايات مطلقة حتى لصورة عدم قصد القربة ، فهنا يكون الثواب من اللّه تعالى على المقرض تفضلا ، وقد يقع الفضل من اللّه تعالى على كثير من فاعلي البر من غير اعتبار القربة كالكرم الذي يصدر من الكرماء.

ملاحظة : إن هذه الروايات المتقدمة كلها تذكر ( القرض ) كمصداق من مصاديق الدَّين ، وتخص الثواب على هذا المصداق فقط ، فيكون الدائن اذا كان مقرضا هو الحاصل على الثواب العظيم ، فكل ما صدق عليه من الدَّين أنه قرض كانت له هذه النتيجة وإلاّ فلا اقتصار على مورد الروايات.

وقد نقول في مصاديق الدَّين غير القرضية (3) ، اذا انتظر الدائن مدينه في

ص: 142


1- وسائل الشيعة ، ج 8 ، باب 4 من احكام العشرة ، ح 1 ، ص 90.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 113 ، باب 25 من أبواب الدَّين.
3- (3) إن مصادر الدَّين كثيرة منها : أ - العقد، كالقرض الذي يلتزم به المقترض أن يرد للمقرض مبلغا من النقد أو شيئا آخر مثلياً أو قيمياً ( إن دين القيمي صحيح عندنا، ولكن يرد المقترض قيمة ما اقترضه من القيمي حين القرض). وكالبيع ، فأن المبيع اذا كان الثمن نقودا او عينا كلية يلتزم المشتري أن يدفعه للبائع بعد مدة معينة، وكبيع السلم، فأن المبيع دين، وكثمن بيع النسيئة . ب - الارادة المنفردة ( النذر والوصية والهبة ) . ج - الضمان الذي ينشأ من غير عقد كغصب أو سرقة أو إتلاف، فيكون كل الدين عوض هذه الاشياء في صورة تلفها ، وهذا العوض قد يكون نقودا وقد يكون عيناً مثلية. د - الاثراء بلا سبب: وله امثلة كثيرة منها، كمن دفع شيئا لآخر ظاناً أن الدفع واجب عليه، فتبين عدم وجوبه، فللدافع الرجوع به على من قبضه بغير حق، فاذا كان هذا الشيء نقودا او مثليات قد تلفت او قيميات كذلك، كان رجوع الدافع على المدفوع اليه هو عبارة عن وجود دين للدافع بذمة المدفوع اليه. وكذا اذا تعامل شخص بالربا او بكل عقد باطل لا يعلمه الدافع كأن آجر بيتنا بخمسين دينارا و آجره لغيره باكثر من ذلك من دون ان يعمل فيه عملا، فالعقد الثاني باطل لا يستحق المستأجر الإثراء بواسطته ويجب عليه أن يرد الزائد على الخمسين دينارا الى المستأجر الثاني، وعلى هذا يكون المستأجر الاول مديناً للمستأجر الثاني بالزائد على الخمسين دينارا. ه - نفقة الزوجة، فان الزوج إن لم يقم بها تبقى ديناً في ذمة الزوج لها . و - الشارع قد يجعل شيئاً ديناً كما في النجوم والاقساط المقررة في الدية الخطأية او شبه العمدية . ز - وقد يكون الدين صداقا وفي النكاح مؤجلا لمدة معينة، وعوضاً عن الخلع كذلك. وقد يكون الدين غير ذلك، فان هذه الأمثلة ليست للحصر

سداد دينه ولم يعاجله في اداء الدَّين ، وكان قصده مساعدة المدين ، وايثارا له على نفسه ، كان ايضا ذا ثواب من اللّه إلاّ أن هذا الثواب قد لا يكون من سنخ ثواب القرض الذي هو بثمانية عشر ، حيث إن روايات ثواب الثمانية عشر قد خصصته بالقروض وهو احد مصاديق الدَّين.

الخلاصة :

إن القرض والدَّين بصورة عامة اذا انتظر فيه الدائن مدينه ، فيه نوع رعاية واحسان لمن عليه الدَّين ، فقد يكون ايثارا من قبل الدائن وقد يكون مخاطرة لنفع المدين ، وهذا الايثار والمخاطرة لهما قيمتهما الخلقية والانسانية ، لذا حقَّ لمن يعمل هذا الاحسان أن يحصل على مكافأة من اللّه سبحانه الذي يحب الاحسان الى العباد ، وان لم يقصد الانسان القربة فان اللّه سبحانه يثيب من يفعل البِرّ وان لم يكن لوجه الكريم.

ومع هذا كله فان الاسلام لم يرَ للإيثار والمخاطرة قيمة اقتصادية ، فلم يجعلهما طريقامن طرق الكسب التجاري ، حيث إن طرق الكسب في التشريع الاسلامي هي اما العمل المباشر من الافراد ، او العمل المختزن الذي هو بصورة سلعة او عين اُنفق

ص: 143

عليها عمل من الآخرين ، لذا حرَّم القرآن والسنة النبوية أخذ الفائدة على القرض الذي هو ليس إلاّ إحسان او مخاطرة بالمال الى التلف او إيثار للآخرين على النفس ، فالإحسان والمخاطرة والإيثار ليست مصدرا من مصادر التكسب في التشريع الإسلامي ، وإنما هي حالات شعورية ذاتية تستحق التقدير والإعجاب في اكثر الحالات فيستحق صاحبها ثواباً من اللّه تعالى.

اما المستقرض فحاله مردّدبين الجواز والكراهة والوجوب ؛ فان كان استقراضه للطاعة ( العمل العبادي ) فهو جائز لما فيه من الطاعة التي يحصل عليها فانها تجبر المنّة والذل الذي كان في عملية الاستقراض فكأن عمله القرضي ليس فيه حزازة.

وأما إذا كان محتاجا الى الاستقراض فان هذا الاحتياج يسَوّغ له ذلك العمل الذي رغَّب عنه الشارع المقدس.

وأما اذا كان غير محتاج الى الاستقراض وليس استقراضه للعمل العبادي ، ومع هذا يقدم على عملية الاستقراض لتوسيع نطاق تجارته مثلا ، فهو عمل مكروه لما فيه من المنّة التي تحصل من قبل المقرض وليس في مقابلها عمل عبادي ، وانما في مقابلها عمل دنيوي وهو الربح المأمول ، وهذا لا يجبر الذل الذي يحصل عليه الانسان من عملية الاستقراض ، لذلك كان العمل فيه حزازة الكراهة الاصطلاحية.

النظرية الغربية للتداين :

والمراد بها النظرية غير الاسلامية ، ويمكننا أن نوضح هذه النظرية بعرض رأي ثلاث مدارس رأسمالية بالنسبة الى الدَّين :

1 - المدرسة الكلاسيكية ونظرها الى التداين.

2 - المدرسة الكينزية ونظرها الى التداين.

3 - مدرسة ثالثة.

اما المدرسة الاُولى : فانها تنظر الى أن الدائن قد أخّر تمتعه الآني الحالي الى أجل « والفرد لا يقبل بهذه التضحية ، بهذا التأخير إلاّ اذا كان يأمل ان يكون

ص: 144

الاشباع او التمتع في المستقبل اكبر من التمتع الحالي » (1).

أما في المدرسة الثانية : فقد عرّف كينز الفائدة بأنها : « ثمن النقود ، أي ثمن النزول عن السيولة » (2) وبما أن السيولة النقدية يزداد الطلب عليها لأسباب متعددة فان من يتنازل عن السيولة قد ضحى بها ، ومن حقه أن يطلب فائدة على تضحيته بهذه السيولة النقدية لماله.

ومن الواضح أن مقصود كينز هو التنازل عن السيولة لمدة معينة يتفقان عليها ، حيث إن المال يرجع الى صاحبه بعد المدة بسيولته ، فليست الفائدة هي التنازل عن السيولة مطلقا ، ومن الواضح أن المدرستين تتفقان في تسويغ الفائدة للدائن على اساس الايثار من الدائن الى المدين.

اما المدرسة الثالثة : فهي تسوّغ الفائدة على أساس أنها مخاطرة أقدم عليها الدائن قد تفقده ماله اذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء وتنكّب له الحظ ، فكان من حق الدائن أن يحصل على أجر ومكافأة على مغامرته بماله لأجل المدين وهي الفائدة.

وأما المدين فبالعكس قد حصل على التمتع الحالي بدلا من التمتع في المستقبل ، والتمتع الحالي يُفضَّل على التمتع في المستقبل ، كما أنه قد حصل على السيولة النقدية المالية بدلا عن السيولة المستقبلية حسب رأي المدرسة الكينزية ، فمن واجبه ان يدفع أجرا لقاء هذه المكافأة التي قدمت له من غيره.

نقول : لقد قلنا سابقا ان الايثار والمخاطرة ليسا من عوامل الكسب في النظرية الاسلامية حيث إنهما ليسابسلعة يقدمانها حتى يطلب ثمنها ، وليسا هما عملا قد انفق على مادة ليكون من حقهما تملكها او المطالبة بأجر على ذلك من مالكها. فقد ذكر السيد الشهيد الصدر رحمه اللّه أن المخاطرة : « انما هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الاقدام على أمر يخاف عواقبه ، فاما أن يتراجع انسياقا مع

ص: 145


1- الدخل القومي والاستثمار ، د. خزعل البيرماني ، ص 165.
2- الاقتصاد السياسي ، د. رفعة المحجوب ، ج 2. ص 429.

خوفه ، واما أن يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق ، واختار - بملء ارادته - تحمُّل مشاكل الخوف بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا ، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتيا وليس عملا مجسدا في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الاحيان قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية النفسية والخلقية ، ولكن التقييم الخلقي شيء والتقييم الاقتصادي شيء آخر » (1).

ونفس هذا الكلام يقال عن الإيثار الذي هو شعور ذاتي إن لم يكن هو نفس المخاطرة بمنظار دقيق.

ثم إن في الشريعة الاسلامية عدة ظواهر تبرهن على الموقف السلبي من المخاطرة في تسويغ الكسب ، فمن ذلك : حرمة القمار وحرمة الشركة في الابدان ، فان القمار يرتكز على اساس المخاطرة وحدها ، فالفائز يحصل على الرهان لانه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه اذا خسر الصفقة ، او قل آثر غيره بماله اذا خسر الصفقة.

وأما الشركة في الابدان فهي عبارة عن اتفاق اثنين أو اكثر على ممارسة كل واحد منهم عمله الخاص ، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب ( كما اذا قرر طبيبان ان يمارس كل واحد منهما عمله في عيادته ، ويحصل في نهاية الشهر مثلا على نصف مجموع الاجور التي كسبها الطبيبان معاً خلال ذلك الشهر ) فان إلغاء هذه الشركة مردّه الى كون الكسب قائما فيها على اساس عنصر المخاطرة لا العمل ، لأنَّ كسب الطبيب الأقل دخلا ينبع من عنصر المخاطرة ولا يرتكز على عمل منفق.

وبهذا اتضح الفرق بين النظرة الاسلامية للدَّين ، والنظرة المخالفة ، إذ إن الرأسمالية لا تعترف بوجود قيم واخلاق في المجتمع (2).

ص: 146


1- اقتصادنا ، ج 2 ، ص 633 - 634 ، من الطبعة السابعة عشرة ، طبعة دارالتعارف ببيروت.
2- راجع المحلق في آخر الكتاب.

نظرية الذمّة في الفقه الإسلامي

اشارة

ص: 147

ص: 148

لمعرفة نظرية الذمّة في الفقه الاسلامي ، نعرض : -

1 - ما قاله علماء غير الشيعة فيها.

2 - نعرض ما قاله علماء الشيعة في الذمّة.

3 - ثم نتكلم فيما تخرب به الذمّة إن كان هناك شيء تخرب به.

1 - نظرية الذمّة عند علماء غير الشيعة :

اولاً : ذكر السنهوري في الجزء الاول من كتابه ( مصادر الحق ) ان الذمّة هي : « وصف شرعي يفترض الشارع وجوده في الانسان ، ويصير به اهلاً للالزام وللالتزام ، اي صالحا لان تكون له حقوق وعليه واجبات. ولما كانت هذه الصلاحية التي ترتبت على ثبوت الذمّة يسميها الفقهاء بأهلية الوجوب - إذ يعرفون هذه الأهلية بأنها : صلاحية الانسان للحقوق الواجبات المشروعة - فان الصلة ما بين الذمّة وأهلية الوجوب صلة وثيقة. فالذمّة هي كون الانسان صالحا لان تكون له حقوق وعليه واجبات. وأهلية الوجوب هي هذه الصلاحية ذاتها. والذمّة تلازم الانسان ، إذ يولد الانسان وله ذمّة بحكم أنه انسان ، ومن ثم تثبت له أهلية الوجوب. فأهلية الوجوب إذن تترتب على وجوب الذمّة.

ولا يقتصر الفقه الاسلامي في الذمَّة على ما في الانسان من الصلاحية

ص: 149

للتملك والكسب اي على نشاطه الاقتصادي فحسب ، بل الذمّة وصف تصدر عنه الحقوق والواجبات جميعها وان لم تكن مالية كالصلاة والصيام والحج ، او كانت مالية ذات صبغة دينية كالزكاة وصدقة الفطر والعشر والخراج. ومن ثم كان نطاق الذمّة واسعاً في الفقه الاسلامي حتى قال صاحب كتاب فخر الاسلام ( اليزدوي ) إن الذمّة لا يراد بها إلاّ نفس الانسان.

وتبدأ الذمّة ببدء حياة الانسان وهو جنين ، فتكون له ذمّة قاصرة ، إذ يجوز أن يرث وأن يوصى له وأن يوقف عليه. ثم يولد حيّاً فتتكامل ذمّته شيئاً فشيئاً في المعاملات والعبادات والحدود حتى تصير كاملة ، وتبقى ذمّة الانسان ما بقي حيّا وتنتهي بموته ، وانتهاء الذمّة بالموت تختلف فيه المذاهب » (1).

وهذا المعنى الذي ذكره السنهوري مأخوذ من تعاريف علماء السنة ( أهل العامة ) للذمّة ؛ فقد قال صاحب تنقيح الاصول إن الذمّة : « وصف شرعي يصير به الانسان اهلا لما له وما عليه » (2). وقد عرَّفها صاحب حاشية الحموي على الاشباه والنظائر بانها : « امر شرعي مقدر وجوده في الانسان يقبل الالزام والالتزام » (3).

ويعلل صاحب كتاب ( مرآة الاصول ) ما تقدم بما خلاصته : « ان اللّه تعالى قد ميّز الانسان عن سائر الحيوان بخصوصية من قوى ومشاعر كانت سبباً في أهليَّته لوجوب أشياء له وعليه ، فتلك الخصوصية هي المراد بالذمّة » (4).

والملاحظ على هذه التعاريف اُمور كثيرة منها :

1 - ما ذكره الاُستاذ مصطفى الزرقاء من ان هذه التعاريف تجعل الذمّة ملازمة لأهلية الوجوب مع اننا نعرف أن اهلية الوجوب كما يصطلح عليها العلماء

ص: 150


1- مصادر الحق ، السنهوري ، ج 1 ، ص 20 - 21.
2- ج 3 ، 152 عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد لمصطفى الزرقاء ، ج 3 ، ص 212.
3- ج 3 / 210 عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، لمصطفى الزرقاء ، ج 3 ، ص 212.
4- للعلامة ملا خسرو ( بحث المحكوم عليه ص 321 ) عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 217.

هي ( قابلية الانسان لثبوت الحقوق له وعليه ) ويعبَّر عنها بصلاحية الالزام والالتزام. فصلاحية الالزام وهي قابلية الانسان لثبوت الحقوق له هي ثابتة منذ كونه جنينا كما ذكر ذلك الفقهاء فقالوا بصلاحية الجنين لان يوصى له او يوهب او يملك او يرث ، وهذا متفق عليه. واما صلاحية الالتزام اي ثبوت الحقوق عليه فهي تتوقف على أمرين :

أ - أهلية ( قابلية ) الانسان لأن تجب عليه حقوق.

ب - محل مقدّر يتسع لاستقرار تلك الحقوق فيه.

وفي الحقيقة ، ان الذمّة هي الامر الثاني من الأمرين ، وإن كان الامران متلازمين في الوجود ، ولكنهما متغايران في المفهوم ، فانه يلزم من كون الشخص أهلا لتحمل الحقوق أن يكون في شخصه مستقر ومستودع لها ، واذا كان للشخص مستودع ومحل للحقوق ثبت كونه اهلا للتحمل. إذن متى اعتبرت للشخص اهلية التحمل شرعا اعتُبرت له ذمّة ، ومتى اُعتُبرت له ذمّة اعتُبرتا له أهلية التحمل ، ولكن ليست تلك الاهلية هي الذمة نفسها ، بل بينهما من الفرق ما بين معنى القابلية ومعنى المحل (1).

والدليل على التغاير في المفهوم مع التلازم في الوجود بين مفهومي الذمّة وأهلية التحمل هو أن الفقهاء في عباراتهم يصورون الحق والذمّة في صورة الشاغل والمشغول ، فيقولون : « إن ذمّته مشغولة بكذا » ويقولون : « إن الدَّين في الذمّة وصف شاغل لها » فهذا يفيد ان الذمّة غير أهلية الوجوب التي هي مجرد قابلية ، فلا يصح أن يقال مثلا : « إن أهليته او قابليته مشغولة بالدَّين » (2).

2 - ويمكن ان يورد على السنهوري ايراد آخر وهو مخالفة ما ذكره لما قاله

ص: 151


1- الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 213 - 214.
2- الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 213 - 214.

صاحب كتاب فخر الاسلام ( اليزدوي ) اذ ذكر أن الجنين ليس له ذمّة فقال : « إن ولي الطفل اذا اشترى بحكم ولايته شيئا له بعد ولادته فان الطفل يملكه ويلزمه الثمن ، أما قبل الولادة فلا ، لانه كالجزء من اُمه فليس له ذمّة ، فيكون صالحا لأن يجب الحق له ، لا لأن يجب عليه » (1).

3 - سوف يأتي منّا في معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ، ما يتبين به خلط السنهوري بين الذمّة والعهدة.

ثانياً : معنى الذمّة عند الاستاذ مصفى الزرقاء : هو أنها « محل اعتباري في الشخص تشغله الحقوق التي تحقق عليه » (2).

فتثبت في هذه الذمة الحقوق المالية وغير المالية مهما كان نوعها ومقدارها ، فكما تشغل بحقوق الناس المالية تشغلها - ايضا - الأعمال المستحقة كعمل الأجير ، وتشغلها الواجبات الدينية من صلاة وصيام ونذور وغيرها (3).

ويستند هذا التعريف الى ما ذكر في كتاب اصول فخر الاسلام لليزدوي وشرحه للشيخ عبد العزيز البخاري اذا قال : « إن الآدمي يولد وله ذمّة صالحة للوجوب بإجماع الفقهاء ، أما أهلية الوجوب فهي بناء على قيام الذمّة ، اي لا تثبت هذه الأهلية إلاّ بعد وجود ذمّة صالحة ، لان الذمّة هي محل الوجوب ، ولهذا يضاف إليها ( الذمّة ) ولا يضاف الى غيرها بحال » (4).

نقول : وسيأتي في بيان معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ما يتبين به خلط مصطفى الزرقاء بين الذمّة والعهدة.

ص: 152


1- شرح اصول فخر الاسلام للشيخ عبدالعزيز البخاري ، ص 239 ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 216.
2- الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 222.
3- الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 222.
4- ج 4 ، ص 238 ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 215.

ثالثاً : وهناك تعريف ثالث للذمّة ذكره القرافي من فقهاء المالكية في كتابه ( الفروق ) ذهب الى ان معنى الذمّة : « جعله الشارع مسبباً عن أشياء خاصة ، منها البلوغ ومنها الرشد ، فمن بلغ سفيهاً لا ذمّة له ومن حجّر عليه فقد ذمّته كالمفَّس ... » (1).

« فقد ذهب القرافي بالذمّة الى معنى أهلية الاداء الكاملة التي تشترط لصحة التصرفات ونفاذها ، وتتوقف على البلوغ وتنسلخ بالحجر. اذ من المقرر أن كلاًّ من المفلَّس والمحجور والطفل الوليد غير المميز يتمتع بأهلية وجوب كاملة تثبت بمقتضاها الحقوق له وعليه ؛ فيرث ويملك ما يوهب له ويضمن قيمة ما يتلف وتجب عليه النفقة لو كان غنيّاً.

فقوله : بان الصغير والسفيه والمفلَّس المحجور عليه لدَين لا ذمّة لهم ، معناه انه ليس لهم أهلية أداء تصح معها تصرفاتهم (2).

ويرد على هذا المعنى للذمّة ما تقدم على السنهوري من ان الذمّة هي المحل المقدر لأهلية الانسان لأن تكون عليه حقوق. إضافة الى أن الذمّة ربما يقال بارتباطها باهلية الوجوب لما ذكر من الملازمة ، فقد يفضل الانسان ويقول : إن الذمّة هي أهلية الوجوب ، ولكن لا معنى لارتباط الذمّة باهلية الاداء والتصرفات ، فلا معنى للقول بأن الذمّة هي مرتبطة ( او ملازمة ) باهلية الاداء ، إذ من الواضح ان من لا تصح تصرفاته المالية لفَلس او حجر ، له ذمّة تتعلق بها الحقوق عليه كما لو أتلف مال غيره مثلا.

ثم ان هذه التعاريف الثلاثة للذمّة تذهب بالذمّة الى أنها شيء افتراضي ( مقدر الوجود ) وهو شيء صحيح.

رابعاً : ولكن هناك تعريفا رابعا لابناء العامة فَرَّ من القول بأن الذمّة شيء

ص: 153


1- كتاب الحق والذمة ، ص 86 ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 215.
2- الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 218.

اعتباري الى القول بانها أمر وجودي مادي ، فقال فخر الاسلام اليزدوي : « إن الذمّة نفس لها عهد » ثم أوضحه بان ذلك من قبيل المجاز باطلاق اسم الحال ( وهو العهد على المحل اي نفس الانسان ) ، ثم شاع هذا الاستعمال فأصبح حقيقة عرفية (1).

وهذا التعريف وقع صاحبه فيما فر منه ( وهو الافتراض ) اذ أن تعلق الديون بالانسان لا يكون إلاّ اعتباريا ، فصاحب التعريف حوّل التعريف من افتراض المحل الى افتراض التعلق.

خامساً : وهناك تعريف خامس يفرّ من القول بأن الذمّة شيء افتراضي ، ويقول : بان الذمّة في لسان الفقهاء لم تخرج عن أصل معناها اللغوي وهو العهد (2) ، فليس معنى قول الفقهاء « ثبت في ذمّة فلان كذا » إلاّ أنه ثبت بعهده او فيما تعهد به او التزمه. ويكفي لثبوت الواجبات ان الشارع كلَّفه بها.

وضُعف هذا القول واضح لانتقاضه بالصغير والمجنون اللّذين لا يصح منهما عهد مع أن الحقوق تثبت عليهما ولو لم يكن لهما ، مال حيث تستوفى متى امتلكا مالا ، كما ينتقض بالكبير العاقل اذا اتلف مال غيره من دون وعي فانه يتعلق بذمته الضمان مع عدم وجود تعهد سابق بالضمان.

2 - الذمّة عند فقهاء الشيعة

اشارة

الذمّة - في الحقيقة - هي : « وعاء اعتباري افترضه العقل للاموال الرمزية ( التي لا وجود لها في الخارج ) كي يكون موطناً لتلك الأموال التي تتَّخذ كرمز للاموال

ص: 154


1- كشف الاسرار ، شرح اصول البزدوي ، ج 4 ، ص 239 عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 219.
2- سمي العهد بالذمة لان نقضه يوجب الذم ، ومن ذلك قول النبي صلی اللّه علیه و آله في حديث شريف : « المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم ».

الخارجية تُطبَّق حين التنفيذ والاداء على الخارج تطبيقا للرموز على ذي الرمز ».

ثم إن هذا الاعتبار العقلائي له فوائد كثيرة منها :

1 - ييسر المعاملات ويكيّفها تكييفاً عقلائيا ؛ اذ قد يحتاج انسان الى أن يبيع شيئا غير موجود له ( كما في السلم ) او يشتري بثمن لا يملكه. ولا طريق في هذه المعاملات إلاّ البيع للسلعة في ذمته تسلَّم بعد مدة معينة ، او الشراء بثمن في ذمّته يسلَّم - ايضا - بعد مدة معينة إشباعاً للقانون القائل « لا بيع إلاّ في مِلك » فان البائع لشي كلي وان كان لا يملكه عند البيع كي يبيعه ، إلاّ أنه تكفي مالكية الانسان لنفس ذمّته التي هي من سنخ مالكيته لنفسه ولأعماله ، فالانسان اولى باشغال ذمته من غيره وهو اولى - ايضاً - بابقائها على الفراغ.

2 - قد يمتلك الانسان المال الخارجي وهو لا يريد ان يفقده ، وفي نفس الوقت هو محتاج الى ايقاع معاملة على سنخ ما يمتلكه ، فلا طريق له إلاّ ايقاع المعاملة على الذمّة.

3 - قد يقتضي القانون تغريم شخص ما من دون غرض في التحجير على ماله ، كما اذا اتلف شخص مال غيره فيكون المتلف ضامنا في ذمّته لمن أتلف ماله ، وبهذايكون المتلف مالكاً لأمواله الخارجية وهو حرٌّ في التصرف فيها ، كما يكون من أتلف ماله قادراً على التصرف فيما ثبت له في ذمّة المتلف من بيع أو هبة مثلا. وهذا فيه جمع بين الحقين.

4 - وفي القرض تصبح عين المال المقترض ملكاً للمقترض ، ولكن يستقر عوضه في ذمّة المقترض ، ويمكن للمقرض أن يوقع بعض المعاملات على المال الذي له في ذمّة المقترض كبيع او هبة معوضة.

5 - إن بعض النظريات والاحكام الفقهية لا يمكن تفسيرها إلاّ بافتراض الذمّة ، مثلاً :

أ - صحة التزام الانسان - بما لاحد له من الديون من دون نظر الى قدرته

ص: 155

وثروته - لا يكون إلاّ بافتراض ان له ذمّة تكون وعاء لتلك الديون ، ولا علاقة للديون بما يملكه في الخارج او يمكن أن يملكه.

ب - صحة تصرفات الانسان بماله بحيث يتمكن من اخراج ماله من ملكه حتى لو كانت عليه ديون تستغرق ثروته لا يمكن تفسيره إلاّ بوجود ذمة تتعلق بها الديون ، ولا ربط لها بما يملكه في الخارج. بينما لو لم تكن هناك ذمّة مفترضة في الانسان ، لوجب أن نفترض أن الديون متعلقة اما بعين الأموال او بشخص المدين ، بحيث تكون سلطة للدائن على شخص المدين تمكّن الدائن من استرقاق المدين. وإن افترضنا أن تكون الديون متعلقة بعين اموال المدين ، فيلزم من ذلك أن تُشَلَّ حركته الاقتصادية حتى لو كان الدَّين غير محيط بكل ثروة المدين.

وتوضيح ذلك : إن الجزء الكافي من ثروة المدين لوفاء الدَّين بما أنه غير معين ، فلا يصح أن نمنع تصرف المدين في بعض ماله وأن نطلقه في البعض الآخر ، لأنَّ هذا يلازم مشكلات في التعيين والتخصيص ، وهذا ينافي مباني التشريع الاسلامي من عدِّه الحرج في الدِين وعدم الضرر في الاسلام ، ومن سلطة الناس على أموالهم.

6 - لولا قبول الذمّة الافتراضية في الشخص الطبيعى لما أمكن القول بملكية الجهة المعبَّر عنها ( بالشخص الحكمي في النظر الحقوقي ) التي هي من اساسها افتراضية اعتبارية ولكنها منتزعة من وجود مادي وهو افراد الجمعيات والشركات او المصلحة في المؤسسات ، فملكية الجهة تشبه الذمّة التي هي منتزعة من شخص الانسان وملتصقة به(1).

هذه هي مجموع الفوائد المترتبة على افتراض الذمّة للانسان ، فالذمّة امر لا مندوحة عنه في التشريع ، وليست الذمّة افتراضاً وهمياً تبنى عليه الاحكام ، بل

ص: 156


1- إن ملكية الجهة في الفقه الشيعي قد انكرها بعض العلماء ، لا لعدم تصورها بل لعدم الدليل عليها ، ولكن الصحيح ثبوتها لانها امر عقلائي لم يرد فيه نهي فيكون ممضى من قبل الشارع المقدس.

هو أمر تقتضيه استقامة منطق الاحكام وتخريجها وتأصيلها.

والآن - بعد ان مهّدنا لمعرفة فوائد الذمة في التشريع - نشير الى الفرق بين الذمة والعهدة في الفقه الشيعي فنقول : الذمّة عند الشيخ النائيني :

لقد فرّق الشيخ النائيني قدس سره بين الذمّة والعهدة فقال على ما هو المنقول عنه : « إن العهدة وعاء للأموال الخارجية ، والذمّة وعاء للأموال الكليّة » (1).

وهذا مأخوذ مما يقال في الفقه من أن الغاصب مادامت العين موجودة لم تنشغل ذمّته بشيء وانما كان على عهدته أن يَرُدَّ المال ، واذا تلفت العين انشغلت ذمّته بالبدل الكلي (2).

واُشكل عليه :

1 - فيما قد يكون في العهدة أداء مال ما من دون تعيين مال خارجي ، ورغم كليَّة هذا المال لا يكون شاغلا للذمّة ، كما في نفقة الاقارب الواجبة على الانسان.

2 - ربما يكون المال الكلّي مرتبطاً بالعهدة ، كما في من أتلف مال غيره ، فقد انشغلت عهدته بالمال حيث يجب عليه افراغ ذمّته وأداء المال.

الذمّة عند السيد الشهيد الصدر :

إن الفرق الجوهري عند الشهيد الصدر بين الذمّة والعهدة هو : « إن الذمّة

ص: 157


1- منية الطالب في حاشية المكاسب ، تقريرات الميرزا النائيني ، بقلم الحاج الشيخ موسى الخوانساري ج 1 ، ص 145 « فإنَّ العين التالفة لا يمكن دخولها في الذمّة رأسا ، فانَّ الذمَّة ظرف للكلّيّات لا الأعيان ، فتلف العين موجب لسقوط الخصوصيّة الشخصيّة ، وهذا بخلاف تذُّر المثل فانه لا وجه لسقوطه عن الذمة » وفي ص 141 « فانه لو تعذَّر العين لا ينتقل في العهدة الى القيمة ، بل تبقى نفس العين في العهدة ». وايضا في تقريرات الميرزا بقلم الشيخ الآملي نفس المعنيين » ، ج 1. ص 352.
2- منية الطالب في حاشية المكاسب ، تقريرات الميرزا النائيني ، بقلم الحاج الشيخ موسى الخوانساري ج 1 ، ص 145 « فإنَّ العين التالفة لا يمكن دخولها في الذمّة رأسا ، فانَّ الذمَّة ظرف للكلّيّات لا الأعيان ، فتلف العين موجب لسقوط الخصوصيّة الشخصيّة ، وهذا بخلاف تذُّر المثل فانه لا وجه لسقوطه عن الذمة » وفي ص 141 « فانه لو تعذَّر العين لا ينتقل في العهدة الى القيمة ، بل تبقى نفس العين في العهدة ». وايضا في تقريرات الميرزا بقلم الشيخ الآملي نفس المعنيين » ، ج 1. ص 352.

وعاء للاموال الرمزية ، والعهدة وعاء للتكاليف وما يلزم على الانسان من اعمال » (1). ويمكننا القول بأنَّ بين الذمة والعهدة عموماً وخصوصاً من وجه حيث يجتمعان ، فيكون المال الكلي مرتبطا بالعهدة والذمة معاً كما في من اتلف مال غيره ، فقد انشغلت ذمته بالمال وانشغلت عهدته به لوجوب افراغ ذمّته واداء المال. وقد يفترقان بان تكون عندنا عهدة ( وعاء التكليف فقط ) من دون انشغال للذمّة ، كما في نفقة الاقارب الواجبة على الانسان ، فعهدة الانسان مشغولة بالنفقة بينما ذمّته ليست مشغولة بها ، ولذا لا ضمان عليه لو ترك فمات مثلا اذا لم تؤخذ هذه النفقة - التي عصى ولم يعطها الى مستحقها - من تركته.

وقد يكون عندنا ذمّة ولا يكون عندنا عهدة ، كما في الطفل الذي اتلف مال غيره مثلا فانشغلت ذمّته بالمال فقط ، ولا يكون على عهدته شيء لعدم تكليفه - وهو طفل - بشيء من التكاليف ، وكذا الامر في المجنون ، وكما لو استدان الطفل مالاً من كافر حربي ، فقد انشغلت ذمّته ، ولكن ليس على عهدته الاداء ، وبإمكانه أن يمتلك ما في ذمّته فيسقط عنه وتفرغ ذمّته (2).

ص: 158


1- فقه العقود ، للسيد الحائري ، ص 45 ، مخطوط.
2- نسب بعض الكتّاب الى الامامية القول بأنّ الذمّة عبارة عن العهدة ، فقد قال صاحب نظريَّة العقد في الفقه الجعفري : « وقال الجعفريون في فقههم : إن الذمّة عبارة عن العهدة والى ذلك يشير الحديث عن النبي صلی اللّه علیه و آله « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » اي أن ما أخذته اليد يبقى في عهدتها الى ان تؤديه بنفسه او ببدله لو كان تالفا وقد تكرر هذا الاستعمال للذمَّة في جميع الموارد التي تعرض فيها الفقهاء للضمان ». نظرية لعقد في الفقه الجعفري ، لهاشم معروف الحسني ، ص 57. أقول: لقد خلط الكاتب خلطاً واضحاً، اذ أعطى الذمة معنى العهدة التي هي ظرف التكاليف الالهية، فان وجوب الردّ حكم شرعي ظرفه العهدة، واما الضمان فهو يكون لما أخذ في الذمة واحدهما غير الآخر كما هو واضح . نعم لقد ورد على لسان الفقهاء استعمال الذمة بمعنى العهدة او العكس، الا أنها استعمالات ليست دقيقة، لأنهم ليسوا بصدد بيان معنی الذمّة او العهدة ، بل بصدد بيان امر آخر فيقربون المعنی بما يتسامح به، ولذا نراهم عندما يتعرضون لتعريف لذمّة يتذكرون ذلك الفرق بينها وبين العهدة كما ذكرنا.

3 - الذمّة لا تموت بموت الانسان

اشارة

فعلى هذا الذي تقدم من معنى الذمّة « انها وعاء اعتباري ... » وعلى ما تقدم من معنى الدّين « بانه مال موجود في الذمّة » فيرى فقهاء الشيعة ان ذمّة الشخص لا تموت بموته حيث انها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتى بعد الموت ، ولذا لا حاجة الى قيام الوارث مقام المورّث في الدَّين ، لان الوارث انما يقوم مقام المورث في ما يكون المورّث ميتاً بلحاظه ، وهذا هو الحال بلحاظ الأموال الخارجية للمورّث ، وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره ( انتقال الحق ).

أما بلحاظ الديون الثابتة على الميت فذمّة الميت باقية على حالها مالم يوفّ دينه ولا مجال لقيام الوارث مقامه ويوفى دينه من تركته ثم يورث المال كما قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .

اذن فالاسلام يقول لا علاقة لدين الميت بالورثة ، وتبقى ذمّة الميت مشغولة بالدَين للآخرين ، فيتمكن أن يتبرع عنه متبرع في اداء ما على ذمّة الميت فتفرغ حينئذ ، وقد يبرئه الدائن فتفرغ الذمّة ايضا ، كما يمكن ضمانها وعند التبرع والابراء والضمان (1) تنتهي ذمّة الميت ، حيث ان العقلاء لا يعتبرون ذمّة بعد ذلك.

هذا وقد أقر الشارع المقدس هذا الفهم العقلائي للذمّة ، فقد وردت الروايات الكثيرة عن ائمة أهل البيت علیهم السلام تقرر ما اعتبره العقلاء موجوداً حتى بعد الموت ، فمن تلك الروايات :

ص: 159


1- المراد بالضمان هنا هو معناه الشيعي « نقل المال من ذمّة الى ذمّة ثانية » لا بمعنى ضم ذمّة الى ذمّة كما هو عند العامّة ، وحينئذ اذا ضمن انسان ما في ذمّة الميت فقد برأت ذمّة الميّت من الدَين.

1 - ما رواه محمد بن مسلم ( في الصحيح ) عن الإمام الباقر علیه السلام حيث قال :

« إن العبد ليكون بارّا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما الدَّين ولا يستغفر لهما فيكتبه اللّه عاقا ، وأنه ليكون في حياتهما غير بار بهما فاذا ماتا قضى عنهما الدَّين واستغفر لهما فيكتبه اللّه بارا .. » (1).

2 - وصحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا علیه السلام : « في رجل قُتِل وعليه دَين ولم يترك مالا ، فأخذ اهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دَينه ؟ قال : نعم ، قلت : وهولم يترك شيئا ، قال : انما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دَينه » (2).

3 - وعن ابراهيم بن عبدالحميد ، قال قلت للإمام الصادق علیه السلام : « إن لعبد الرحمن بن سبابة دَيناً على رجل قد مات ، وكلَّمناه على ان يحلِّله فأبى ، قال : ويحه أما يعلم ان له بكل درهم عشرة دراهم اذا حلَّله ، فان لم يحلِّله فانما له درهم بدل درهم » (3) فهي تدل دلالة واضحة على ان الدَين يبقى في ذمّة الميت ولا يسقط حتى اذا لم يكن للميت مال.

4 - وصحيحة عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الرجل يموت وعليه دَين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : اذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمّة الميت » (4).

وكل هذه الروايات تفيد ان ذمّة الانسان باقية حتى اذا مات ولم يكفِ ما لديه لسداد الدَين ، او لم يكن عنده شيء اصلا ، ولا تزول الذمّة إلاّ بابراء الديَّان او ضمان ما في ذمّة الميت من قبل شخص اخر قد رضي به الغرماء ، او بوفاء الدَّين من قبل ورثة الميت او شخص آخر.

ص: 160


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 30 من ابواب الدين والقرض ، ح 1.
2- المصدر السابق ، باب 24 من ابواب الدين ، ح 1.
3- المصدر السابق ، باب 23 من ابواب الدين ، ح 1.
4- المصدر السابق ، باب 14 من ابواب الدين ، ح 1.
خصائص الذمّة :

وعلى ما تقدم من معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ، فللذمّة خصائص هي :

1 - لا ذمّة للحيوانات ، حيث إن العقلاء اعتبروا الذمّة وعاءً في الانسان لما يجب عليه من حقوق مالية كلية. والحيوان لا يجب عليه حق مالي. نعم اذ اتلف الحيوان مال انسان ، فيجب على مالكه الضمان ، فتنشغل ذمته بالمال.

2 - العبد له ذمّة ، يتبع بعد عتقه ، فيستطيع ان يستدين بشرط ان يكون الدَّين متعلقا بذمته يتبع بها بعد عتقه ، لان العبد وما يملك لمولاه ، ويمكن أن يُضمن ما في ذمّة العبد ويبرأ ويتبرع عنه متبرع.

3 - الجنين لا ذمَّة له وان كان يمكن ان يوهب له او يوصى إلاّ ان هذا حق له في ذمّة غيره ، وليس هو حقاً عليه.

4 - الذمّة من لوازم الشخصية ، فالوليد هو شخص له صلاحية ان تكون عليه حقوق يكون محلها الذمّة ، كما لو فرضنا ان انسانا وليدا قد زوَّجه وليّه لمصلحة فتجب عليه النفقة للزوجة ، فلو فرضنا انه لم ينفق عليها الولي ، فيثبت في ذمّة الزوج ( مقدار النفقة على الزوجة ) ، ولكن لا يجب على الوليد الاداء لعدم تكليفه باداء المال. فعلى هذا يكون المولود له ذمّة ، وكذلك اذا اتلف الوليد الجديد مال غيره بحيث استند الاتلاف إليه فيثبت في ذمّته مثل ما تلف او قيمته.

5 - ليس لسعة الذمّة حدحيث انها امر اعتباري ، تتسع لكل ما يتصور من حقوق.

6 - الشخص الواحد ليس له إلاّ ذمّة واحدة.

7 - لا اشتراك في للذمّة ، اي : لا يكون للذمّة الواحدة اكثر من صاحب واحد ولذا اذا كان المورّث مدينا فلا يكون الوارث مسؤولا عنه ، وانما المسؤول عن الدين هو المورِّث ، فان كفت التركة اُعطي الدائن فيها ، وان لم تفِ فيكون الدائن يطلب الميت ، وذمّة الميت مشغولة بالدَّين الى ان تفرغ بأحد المفرّغات

ص: 161

المتقدمة من تبرُّع عنه او ابراء او ضمان.

8 - الذّمة اذا كانت مشغولة لا تمنع المدين من التصرف في امواله الخارجية أو يضيف الى ذمّته أشياء اُخرى مالية.

9 - التحجير من قبل الحاكم الشرعي في صورة ثبوت إفلاسه او سفهه او صغره ، لا يخرّب الذمّة. نعم ، التحجير يمنع المحجر عليه من التصرف في اعيان أمواله كما يمنعه من أن يضيف الى ذمّته ديونا اُخرى بحيث يشترك الدائن الجديد مع الدُيّان القدماء. اما اذا انشغلت ذمّته باتلاف مال غيره فيكون للمتلَف مالُه الحق في ذمَّة المتلِف يتبعه بعد فراغ ذمّته من الديون السابقة على دينه ، كما يمكن - المحجر عليه - ان يستدين على ان يدفع المال الكلي للدائن بعد فراغ ذمّته من الديون السابقة. وهذا معناه ان ذمّته باقية رغم التحجير عليه.

10 - قد تقدم منّا أن الذمة لا تخرب بالموت ، وانما اذا كانت ديون الميت تستغرق للتركة فتوثق الديون بتعلقها بماله اضافة الى ذمّته ، فتكون حقوقهم في هذه الحالة شبه عينية.

اما اذا مرض الانسان مرض الموت فبالاولى ان لا تسقط ذمّته ولا تخرب.

فما ذهب اليه بعض الحنابلة (1) : « من ان الذمّة تتهدم بمجرد الموت ، لان الذمّة من خصائص الشخص الحي ، وثمرتها صحة مطالبة صاحبها بتفريغها من الدين الشاغل لها ، واما اذا مات فقد خرج الانسان عن صلاحية المطالبة فتنهدم الذمة ، وعلى هذا اذا مات الانسان دون أن يترك مالا فمصير ديونه السقوط ، وان ترك مالا تعلقت الديون بماله » ضعيف وذلك : فان ثمرة الذمّة ليست هي فقط مطالبة صاحبها بتفريغها من الدَّين الشاغل لها ، وقد تقدمت منّا فوائد الذمّة. على أن تفريغ الذمّة ليس هو فقط باداء صاحب الذمّة ما عليه ، فقد عرفنا - سابقا ان -

ص: 162


1- القواعد ، لابن رجب ، ص 193 ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 8.

المتبرع يتمكن ان يفرّغ الذمّة المشغولة ، كما ان الابراء - ايضا - كذلك ، وكذا الضمان. ثم اننا لا ندري ما هو الدليل على أن صاحب الذمّة المشغولة ان لم يترك مالا عند موته تسقط ديونه ؟!! نعم ، الميت غير مكلف باداء الدَّين بعد موته ، لانه خرج عن كونه مكلفا ، اما أن ذمته مشغولة فهو شيء آخر غير العهدة ، وهذا لا يزول ولا يسقط بالموت.

اذن ، الصحيح ما قلناه - سابقا - من ان الذمّة تبقى بعد الموت صحيحة الى أن توفى الديون او يبرأ من قبل الدائنين او يتبرع عنه متبرع ، او يضمن من قبل شخص حي ويقبل الدائن. والدليل على ذلك بالاضافة الى ما تقدم - من ان الذمّة وعاء اعتباري يعتبره العقلاء ، والاعتبار سهل المؤونة ، فيكون بعد الموت ايضا - ما ورد في الحديث النبوي الشريف : « إن ذمّة الميت مرتهنة بدَينه حتى يقض عنه » (1).

نعم ، بالموت يخرج الانسان عن صلاحية المطالبة في الدنيا ، كما لا يجب عليه الاداء لعدم تكليفه ، لكن هذا لا يوجب عدم بقاء الذمة وصلاحيتها لان تشتغل بالدَّين وقد وردت صحة أن تشغل ذمّة الميت بدين جديد متفرع عن سبب سابق ، كما لو باع شخص شيئا وتوفى وردّ بعد الموت بعيب فيه ، فان ذمّة البائع تشتغل بثمنه الواجب الرد ، وكذا لو باشر في حياته سببا من اسباب الضمان كمن حفر حفرة في الطريق العام ثم مات فتردّى حيوان في الحفرة بعد موته ، فان ذمة الحافر تشتغل بضمان قيمة الحيوان فتؤخذ من تركته.

والى هذا الرأي ذهب الشافعية (2) ، وهورأي المالكية وفريق من الحنابلة ايضا (3).

ومما تقدم - ايضا - يبطل القول الحنفي القائل : إن الذمّة تضعف بالموت ولكن لا تنهدم ، اي يبقى للذمة ما تقتضيه الضرورة ، وهذا الضعف يبدأ من مرض الموت ،

ص: 163


1- الحديث اخذ عن كتاب الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 228. والظاهر انه لم يرد في كتب الشيعة مثل هذا النص ، الا انه موافق لنصوص كثيرة تؤيد هذا المعنى.
2- حاشية الرملي على اسناد المطالب ، ج 1 ، ص 235 عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج 3 ، ص 229.
3- الفقه الاسلامي في ثوبه الحديد ، ج 3 ، ص 229.

لذا توثق الديون التي على الميت بتعلقها بماله تقويةً لذمّته.

ودليل بطلان هذا القول هو : ان تعلق الديون التي على الميت باموال الميت الخارجية ، ليس معناه خراب الذمّة ، حيث إن هذا حكم مستقل دلَّت عليه الروايات القائلة اذا مات المدين حلّت جميع ديونه ، وبما أنه لا تركة الاّ بعد سداد الديون (1) ، فحينئذ تباع التركة وتسدد الديون ، وهذا كما ترى لا ارتباط له بفساد ذمّة الميت.

نعم ، ذمّة الميت لا يمكن ان تشغل بحق مالي كلي جديد ، لان الانسان هو الذي يشغل ذمته بنفسه لانه هو المالك لها على حد ملكيته لنفسه ولأعماله ، وبما أنه قد مات فلا يتمكن اي شخص من اشغال ذمته بعد الموت ، وهذا - ايضا - لا ارتباط له بخراب الذّمة ، اذ عدم امكان اشغال الذمّة في حال معين ليس معناه انه لا ذمّة او أنها قد خربت.

* * *

ص: 164


1- هذه القاعدة مستفادة من الآية القائلة : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ).

ضابط الاعسار الذي يوجب الانظار

اشارة

ص: 165

ص: 166

إن الاعسار اذا حدث للمدين فهو يوجب الانظار من قبل الدائن ( وهذا شيء واضح لا خلاف فيه ) وتدل عليه الآية القرآنية (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (1) وحينئذ فاذا أراد الدائن مضايقة مدينه في اداء الدين وهو معسر فيكون قد ارتكب محرّماً ، اذ كما تحرم على المدين مماطلة الدائن وتأخيره دفع الدين عن موعده في صورة اليسار ، تحرم على الدائن مطالبة المدين اذا كان معسرا ، وعلى هذا فتوى مراجع التقليد المعاصرين وغيرهم ، فقد ذكر السيد الإمام الخمينى رحمه اللّه في تحرير الوسيلة : « كما لا يجب على المعسر الاداء يحرم على الدائن اعساره بالمطالبة والاقتضاء ، بل يجب أن ينظره الى اليسار » (2). وذكر السيد الإمام الخوئي رحمه اللّه : « تحرم على الدائن مطالبة المدين اذا كان معسرا ، بل عليه الصبر والنظرة الى الميسرة » (3).

وتدل على هذا الرأي - مضافا الى الآية - الروايات الكثيرة ، منها ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في وصية طويلة كتبها الى أصحابه فقال : « واياكم واعسار أحد من اخوانكم المسلمين ، أن تعسروه بشيء يكون لكم قِبله وهو معسر ، فإنَّ أبانا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يقول : ليس لمسلم أن يعسر مسلماً ، ومن أنظر

ص: 167


1- البقرة ، 280.
2- ج 1 ، ص 651 ، مسألة 16 من كتاب الدين والقرض.
3- منهاج الصالحين وتكملة المنهاج ، ج 2 ، ص 191 ، مسألة 810.

معسراً أظلّه اللّه يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه » (1). وعن عبداللّه بن سنان قال : « قال النبي صلی اللّه علیه و آله الف درهم أقرضها مرتين أحب اليّ من أن أتصدق بها مرة ، وكما لا يحل لغريمك أن يمطلك وهو موسر ، فكذلك لا يحل لك ان تعسره اذا علمت أنه معسر » (2).

العسر لغة :

العسر لغة : ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة (3).

قال اللّه تعالى (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) .

وقال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) .

وقال : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) .

وحينئذ فان كان الانسان معسرا ، فمعناه انه في ضيق وشدة وصعوبة بحيث لا يمكنه سداد دينه الذي في ذمته ، فيكون معناه ضد اليسر الذي هو عبارة عن الرفاه والسهولة.

روايات الاعسار :

اشارة

وقد جاءت الروايات عن اهل بيت العصمة تحدد الشدة التي توجب الانظار ، وخلاصة ما يستفاد من الروايات أن عدم القدرة على سداد الدَّين معناه : « أن لا تكون عند الانسان المدين زيادة على ما يحتاج إليه مما يناسب شأنه ولا يمكنه تركه » ، فقد ذكرت الروايات :

1 - إن وجود دار للانسان - مناسبة لشأنه ، وحتى وجود دارين إذا كان مما

ص: 168


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 25 من ابواب الدين ، ح 1.
2- المصدر السابق ح 2.
3- لسان العرب ، مادة عسر.

يحتاجهما - لا يخرجه عن حدّ الاعسار الى اليسار ان لم يكن عنده اكثر من ذلك.

2 - إن وجود ثياب تجمُّل متعددة لائقة بحال الانسان المدين ، لا يخرجه ايضا عن حدّ الاعسار بالقيد المتقدم.

3 - وجود خادم او خادمة او خدم - اذا كان المدين مما يحتاج اليهم - لا يخرجه عن حدّ الاعسار كذلك.

4 - وجود دابة أو أكثر اذا كان مما يحتاج اليها ، لا يخرجه عن حد الاعساركذلك.

واليك تلك الروايات :

1 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا تباع الدار ولا الجارية في الدَّين ، ذلك أنه لابدّ للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه » (1).

2 - صحيحة الصدوق باسناد عن ابراهيم بن هاشم قال : « إن محمد بن أبي عمير رضی اللّه عنه كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر وكان له على رجل عشرة آلاف درهم ، فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم ، وحمل المال الى بابه فخرج اليه محمد بن أبي عمير فقال : ما هذا ؟ فقال : هذا مالك الذي لك عليَّ.

قال : ورثته ؟ قال : لا ، قال : وُهِب لك ؟ قال : لا ، فقال : هو من ثمن ضيعة بعتَها ؟ فقال : لا ، فقال : ما هو ؟

فقال : بعتُ داري التي اسكنها لأقضي ديني.

فقال محمد بن أبي عمير حدثني ذريح المحاربي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدَّين. إرفعها فلا حاجة لي فيها ، واللّه وإني لمحتاج في وقتي هذا الى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها درهم واحد » (2).

ص: 169


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 11 من ابواب الدين ، ح 1.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، ح 5 ، ص 95 ومن الواضح ان جملة ( ارفعه فلا حاجة لي فيها ... الخ ) هو فهم خاص لمحمد بن أبي عمير ، ولكنه فهم خاطئ لما سيجيء من أن صاحب الدين اذا باع داره من دون اجبار من قبل الدائن وأراد سداد دينه فيجوز الأخذ ، من قبل المدين ، ولعل ابن أبي عمير فهم كراهة أخذه في هذه الصورة لانه صار سببا في البيع وسيأتي انه يكره للدائن ان يصير سببا في بيع المدين داره وان يرضى بذلك.

3 - وعن مسعدة بن صدقة قال : سمعت الإمام الصادق علیه السلام وسئل عن رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة ، فربما بلغت غلتها قوته وربما لم تبلغ حتى يستدين ، فان هو باع الدار وقضى دينه بقي لا دار له. فقال : « ان كان في داره ما يقضي به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار وإلاّ فلا » (1).

ومعنى الحديث ان الانسان اذا كانت عنده دار واسعة يكتفي ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج ويقضي ببقيتها دينه ، وكذا الامر ان كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنها داراً ليسكنها ويقضي دينه بالثمن ، وكذا الامر ان كان يكفيه ومن شأنه ان يسكن داراً مستأجرة ، باع داره وقضى دينه ، فان كانت هذه المصاديق الثلاثة يصدق عليها « ان كان في داره ما يقضي به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار ».

تنبيهان :

الأول : إن معنى كون الدار من المستثنيات في الدَّين واشباهها هو : أننا لا نجبر المدين على بيعها لأجل أداء الدَّين ولا يجب عليه ذلك ، ولكن ذا رضي المدين ببيعها لقضاء دَينه جازله ذلك ويجوز للدائن أخذ المال. نعم ينبغي للدائن ان لا يرضى ببيع مسكن المدين وأن لا يصير سبباً في البيع وان رضي المدين ، ففي خبر عثمان بن زياد قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : إن لي على رجل دَيناً وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني ، فقال الإمام الصادق علیه السلام : أعيذك باللّه أن تخرجه من ظل رأسه » (2).

ص: 170


1- المصدر السابق ح 7 ص 96.
2- الوسائل ، ج 13 ، باب 11 من ابواب الدين ، ح 3 ، ص 94.

الثاني : انما لاتباع دار السكنى واشباهها في أداء الدَين مادام المدين حياً ، اما لو مات المدين ولم يترك غير دار سكناه ، او شيئاً من ثيابه ، او دابته او خادمه ، وكان دَينه مستوعباً لما تركه ، فهنا تباع هذه الأشياء وتصرف في أداء الدَين لاجل تفريغ ذمة الميت. وهذا واضح لا يحتاج الى دليل بعد الآية القرآنية القائلة : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (1).

الخلاصة : ان الميزان لبيع الدار وكذا الخادم والثياب واشباهها هو عدم الاحتياج اليها وهو معنى اليسر ، والميزان لعدم وجوب بيع الدار هو الاحتياج وهو معنى العسر ، والامثلة التي ذكرتها الروايات لا تخرج عن كونها أمثلة لما يحتاج اليه الانسان في ذلك الزمان ، اما في زماننا هذا فان الامثلة قد تكثر وقد تتبدل كما في الدابة فان العربة تقوم مقامها في هذه الازمنة ، وقد يكون الانسان محتاجا في أيامنا هذه الى الهاتف والراديو والمسجل واشباه ذلك كثير ولا يمكن حدّه بأمثلة معدودة ، فالاولى ما ذكرناه من الميزان المتقدم من الحاجة الى الشيء بحيث يصعب عليه تركه فهو ميزان الاعسار الذي لا يباع في الدَّين ، ومن عدم الحاجة الى الشيء بحيث يتمكن من تركه بسهولة فهو معنى اليسر الذي يباع في الدَّين.

هل يجب على المدين المعسر ان يقتصر على ما يمسك رمقه ؟

نقول : لا يلزم ذلك ، بل يجوز له أن يأكل ماشاء ( بشرط ان لا يؤدي الى الاسراف المحرم ) فقد روى علي بن اسماعيل عن رجل من أهل الشام أنه « سأل الامام أباالحسن الرضا علیه السلام عن رجل عليه دين قد فدحه وهو يخالط الناس وهو يؤتمن ، يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب ، فهل يحل له ام لا ؟ وهل يحل ان يتطلع من الطعام ام لا يحل له إلاّ قدر ما يمسك به نفسه

ص: 171


1- النساء ، 11.

ويبلغه ؟ قال : لا بأس بما أكل » (1).

هل يجب على المدين المعسر التكسب وأن يؤاجر نفسه ؟

اختلف فقهاء الإمامية في هذه المسألة ، فمنهم من ذهب الى عدم الوجوب كالشيخ الطوسي في المبسوط قال : « لا خلاف في انه لا يجب عليه قبول الهبة والوصية والاحتشاش والاحتطاب والاغتنام ، مؤيداً بالمشهور نقلا وتحصيلا على عدم وجوب التكسب عليه » (2). والقول بان مؤاجرته منفعة ، والمنفعة مال يتعلق بها حق الغرماء : « يدفعها أنه لا اشكال في عدم عدّ منفعة الحرّ مالا ، ولذا لا تضمن بالفوات وإنما تكون مالا بالاجارة لا قبلها ، فلا يتعلق بها حينئذ حق الغرماء » (3).

واما القول الثاني في المسألة فيقول بوجوب التكسب والمؤاجرة على المدين المعسر اذا كان من شأنه ذلك ، وهذا القول أقوى من الاول ، اذ من الواضح أن القادر على الاكتساب بحيث يكفيه اكتسابه لمؤونة سنته غني ، وحينئذ اذا كان مديناً معسراً وهو قادر على الاكتساب فيجب عليه لانه قادر بالقوة على أداء الدين ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالفعل يجب عليه اداؤه ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالقوة يجب عليه السعي لاداء الدين وهو الاكتساب مثلا ، لذا صرّح بعض الفقهاء بوجوب السعي لقضاء الدين ، ففي السرائر : « ومن كان عليه دين وجب عليه السعي في قضائه » وفي القواعد : « ويجب على المدين السعي في قضاء الدين » (4).

ولكن هذا الوجوب ليس معناه تسلط الغرماء على استعماله ومؤاجرته ، بل يجب عليه السعي في قضاء دينه ، وهذا غير تسليط الغرماء عليه.

ص: 172


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 27 من الدين ، ح 1 ، ص 115.
2- جواهر الكلام ، ج 25 ، ص 324.
3- المصدر السابق ص 325.
4- جواهر الكلام ، ج 25 ، ص 326.

السلم وتطبيقاته المعاصرة

اشارة

ص: 173

ص: 174

السَلَم - بِفَتح السين واللام - : مرادف للفظ السلف لغةً (1) ، واصطلاحاً : هو نوع من البيع. فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له ، غاية الامر ان هذا الفرد من البيع له احكامه الخاصة الزائدة على احكام البيع : « وقد عطف في مختصر النهاية القرض عليه ، ولعل اشتراكهما لفظاً فيه لاشتراكهما في أن كلاً منهما اثبات مال في الذمة بمبذول في الحال » (2).

والايجاب فيه :

1 - اذا كان بلفظ السلم او السلف ، هو أن يقول المشتري اسلمت اليك او اسلفتك كذا في كذا الى أجل ، فيقول المسلَم اليه ( البائع ) : قبلت وشبهه. وهذا من مختصات بيع السلم لعدم تعقل معناهما من غير المشتري.

2 - اما اذا وقع بغير لفظ اسلمتك او اسلفتك فيصح الايجاب من البائع فيقول : بعتك كذا بكذا وصفته كذا الى أجل كذا ، فيقول المشتري : قبلت ، ودفع الثمن في المجلس انعقد سلماً لا بيعاً مجرداً عن كونه سلماً اذ اتضح عدم اعتبار لفظ السلمية في صيرورته سلماً بعد ان كان مورده متشخصاً في نفسه. « فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من احكامه نظراً الى كون الايجاب بلفظ البيع واضح الفساد ، اذمع كون الأوْلى النظر الى المعاني ،

ص: 175


1- والأول : لغة اهل الحجاز ، والثاني لغة اهل العراق. راجع نيل الاوطار ، ج 1. ص 239.
2- جواهر الكلام ، للمحقق النجفي ، ج 24 ، ص 267 - 269.

لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ضرورة كون السلم نوعاً من البيع ، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم حتى يحتاج الى ترجيح النظر الى اللفظ على المعنى » (1).

3 - وكذا يقع السلم ( من البائع ) بلفظ : استلمتُ ، وتسلّفتُ وتسلّمتُ ، فيقول المشتري ( المسلِم ) : قبلت ونحوه ، فيكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري.

4 - كما يصح السلم بلفظ الشراء ، فيقول : اشتريتُ منك ثوباً او طعاماً صفته كذا بهذه الدراهم الى أجل كذا ، فقال البائع : بعته منك ، فهنا ينعقد هذا البيع سلماً ويكون صحيحاً بناءاً على جواز تقديم القبول على الايجاب ، كما هو الصحيح. اما لو قال البائع : قبلت ، فقد يقال بصحته ايضاً بناءاً على صحة العقد ، بالايجاب من المشتري والقبول من البائع. تعريف بيع السلم :

عُرِّف عند البعض بانه : « ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر او في حكمه » (2). وهذا التعريف ينسجم مع من يقول بان البيع هو اسم للنقل والانتقال المراد من الابتياع هنا (3).

والمراد من المضمون هنا هو الكلي في الذمة بقرينة الى أجل معلوم ، وبهذا يحترز عن البيع المضمون قبل القبض الذيورد النهي فيه اذا كان طعاماً. واخرج بقوله بمال حاضر أو ما في حكمه بيع النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها ، فالمراد بالمال الحاضر هو المال الموجود المشخّص في مجلس العقد.

والمراد بما في حكمه :

ص: 176


1- المصدر السابق.
2- شرائع الاسلام للمحقق الحلي ، ج 2 ، ص 75.
3- (3) اما مَنْ يقول بان البيع هو انشاء التمليك بعوض وهو فعل البائع ، البائع فلا ينسجم معه التعريف.

1 - المال المقبوض قبل التفرق وإن لم يكن موجوداً في مجلس العقد وهو الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق.

2 - او كان موجوداً بدون تشخيص ثم يشخّص قبل التفرق ويقبض.

3 - او كان الثمن ديناً في ذمة البائع بناء على جواز جعله ثمناً للسلم.

وهذه وامثالها لم تعتبر في النسيئة. واما الاجل في السلم فهو المشهور وسيأتي تحقيق الحال فيه. مشروعيته :

اما مشروعيته فقد دلّ عليها امور :

1 - شمول العمومات القرآنية مثل : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) اذ لا اشكال في كونه بيعاً عرفاً فتشمله الادلة (1).

2 - إجماع المسلمين على جواز هذا البيع. إلاّ ما حُكي في البحر الزخّارج 3 / 397 ، ونيل الأوطار 5 / 239 عن ابن المسيب أنّه لا يجيزه ، متمسكاً بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الانسان.

3 - الروايات المتواترة التي دلت على صحته وهي كاشفة عن السنة النبوية ، فمن الروايات :

أ - صحيح جميل بن دراج عن الامام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بالسلم في المتاع اذا وصفت الطول والعرض » (2).

ص: 177


1- اما الاستدلال بمشروعية السلم من الكتاب بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ) بشهادة ابن عباس عند ما قال : « اشهد ان السلف المضمون الى أجل مسمى قد احلّه اللّه في كتابه ثم قرأ : يا أيها الذين آمنوا ... » فلعله لعموم اللفظ والاّ فإنَّ الديْن الذي وردت فيه الاية القرآنية يختلف عن بيع السلف الذي نحن بصدده فلا تكون الاية دليل عليه.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من السلف ، ح 1.

ب - صحيح زرارة عن الامام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا وصفت اسنانها » (1).

ج - صحيح الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ، قال علیه السلام : لا بأس ، ( الى أن قال ) : والاكسية مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم » (2) ، وغيرها من الروايات.

هل مشروعية السلم اصلية او استثناء ؟

ذهب البعض إلى أن مشروعية السلم ليست أصلية ، بل إن تعامل الناس والحاجة جعل الفقه الاسلامي يميز بيع السلم ، فقد ذكر السنهوري ما خلاصته : هنا نجد الفقه الاسلامي - على الوجه الذي استقر عليه في عصور التقليد - يضيق بحاجات التعامل. فقد كان الاصل الذي قام عليه عدم جواز بيع المعدوم هو فكرة الغرر (3) ، ولكن سرعان ما اختفى هذا الاصل ، وأصبح انعدام الشيء في ذاته هو سبب البطلان ولو لم يكن هناك غرر او كان هناك غرر يسير.

لذلك نجد اجماعاً من المذاهب على أن الشيء اذا لم يكن موجوداً أصلاً وقت التعاقد كان العقد باطلاً ، حتى لو كان وجوده محققاً في المستقبل.

لقد سلّم الفقهاء كما رأينا ، أن الشيء اذا كان موجوداً في أصله دون أن يوجد كاملاً - كالزرع او الثمر الذي لم يبد صلاحه وكالزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض - فهذا الوجود الاصلي وإن لم يكن وجوداً كاملاً يكفي لجواز التعاقد. اما انعدام

ص: 178


1- المصدر السابق ح 3.
2- المصدر السابق ح 4 ، والاكسية معناها : الثياب.
3- الغرر هو عبارة عن التردد في حصول الشيء وعدمه كالطير في الهواء والسمك في الماء وهو يختلف عن المجهول الذي معناه ما علم حصوله مع جهل صفته.

الشيء اصلاً ، فقد خلطوا بينه وبين الغرر ، واعتبروا أن التعامل في شيء منعدم وقت التعاقد ينطوي في ذاته على غرر يفسد العقد ، ولم يميزوا بين مصير الشيء المعدوم في المستقبل ، هل هو محقق الوجود فتزول الخشية من الغرر وكان ينبغي أن يصح العقد أو هو محتمل الوجود ، وعند ذلك يدخل عنصر الغرر بقدر متفاوت فيعالج القدر الذي يقتضيه.

على ان تعامل الناس والحاجة أوجدا ثغرتين في هذا المبدأ الذي جمد عليه الفقهاء ، فأجاز الفقه الاسلامي بيع المعدوم في السلم والاستصناع فنتكلم أولا عن المبدأ ثم نستعرض الاستثنائين. ثم استند السنهوري في رأيه هذا على أقوال بعض الفقهاء كقول صاحب البدائع في عدم جواز بيع المعدوم ، ونقل عن فتح القدير ( ج 5 / 102 ) : « لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر » وعن الفتاوى الهندية ( ج 3 / 106 ) : « بيع الثمار قبل الظهور لا يصح اتفاقاً ». وعن بداية المجتهد ( ج 2 / 124 ) : « أما القسم الاول وهو بيع الثمار قبل ان تُخلَق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك ، لانه من باب النهي عن بيع مالم يُخلَق او من باب بيع السنين والمعاومة وهي بيع الشجر أعواماً ، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين »(1).

اقول : يرد على ما ذكره السنهوري عدة امور :

1 - إن ما ننسبه الى الفقه الاسلامي يجب أن يكون مستخرَجاً من الادلة الشرعية التي هي مصدر الفتاوى عند علماء الاسلام ، فنسبة مشروعية السلم الى الاستثناء ( من عدم جواز بيع المعدوم ) دعت اليها الضرورة كما صرح بذلك ، استناداً الى أقوال بعض الفقهاء غير صحيح.

2 - إن قاعدة « عدم جواز بيع المعدوم » ليس لها أصل في الشريعة المقدسة

ص: 179


1- مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج3، ص31 - 32.

( القرآن والسنة ) ، نعم ورد النهي عن بيع الغرر وهو كما يوجد في بيع بعض الاعيان المعدومة كبيع ما تحمل هذه الأَمَة او هذه الشجرة ، يوجد كذلك في بيع بعض الاعيان الموجودة كما في بيع الحنطة جزافاً ، وكبيع الآبق منفرداً. لقد أجاز الشارع المقدس بيع المعدوم في بعض الموارد ( كما سيأتي ذكر الروايات الدالة على ذلك ) فكيف مع هذا ننسب الى الفقه الاسلامي أن الاصل فيه عدم جواز بيع المعدوم ؟!.

3 - المبيع الشخصي لا يجوز بيعه قبل وجوده ، إما للغرر أو لقاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، وأما اذا كان المبيع كليّاً فلا يحتمل احدٌ عدم جواز بيعه قبل وجوده ، فانه اذا حُدِّد فلا يلزم غرر ولا تشمله قاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، فانه لا اشكال في جواز بيع الكلي حالاًّ وإن لم يملك البائع حين البيع مصداقاً من مصاديق ذلك الكلي ، وحيث إن المبيع في باب السلم كلي لا جزئي ، فقاعدة عدم جواز بيع الغرر او عدم جواز بيع المعدوم لا تشملانه.

4 - اجاز الشارع المقدس بيع السلم بروايات كثيرة وجعل له شروطاً رفعه عن دائرة الغرر والجهالة وبيع المعدوم الغرري ، فاشترط في المبيع ان يكون معلوم الجنس والنوع والصفة ، وان يكون معلوم القدر بالكيل او الوزن او العدّ او الذرع وان يكون مما يمكن ان يضبط قدره وصفته بالوصف الذي لا يفضي الى التنازع. كما اشترط في الثمن شروطاً معينة كأن يكون مقبوضاً في المجلس ، كما اشترط في الأجل ان لا ترقى اليه الجهالة ، وغير هذه الشروط المذكورة في الروايات التي صدرت في عصر التشريع الاسلامي الاول ، ومع هذا كيف يقال انه اُجيز للضرورة على خلاف الاصل ؟!.

روايات جواز بيع المعدوم ( الخاص ) :

لقد وردت روايات كثيرة تصحح بيع المعدوم ، وهي تكشف عن رؤية اسلامية لصحة بيع المعدوم اذا توفرت فيه شروط خاصة تخرجه عن الجهالة والغرر ( الخطر ) المؤدي الى المنازعة ، واليك بعضها :

ص: 180

1 - صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن شراء النخل فقال : كان أبي يكره شراء النخل قبل أن يطلع ثمرة السنة ، ولكن السنتين والثلاث كان يقول : إن لم يحمل في هذه السنة حمل في السنة الاخرى. قال يعقوب : وسألته عن الرجل يبتاع النخل والفاكهة قبل أن يطلع سنين او أربعاً ؟ قال علیه السلام : لا بأس انما يكره شراء سنة واحدة قبل أن يطلع مخافة الآفة حتى يستبين » (1).

2 - صحيحة الحلبي قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين او أربع سنين فقال علیه السلام : لا بأس ، تقول : إن لم يخرج في هذه السنة أخرج في قابل ، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتى يبلغ ، وإن اشتريته ثلاث سنين قبل ان يبلغ فلا بأس. وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من ارض ، فتهلك ثمرة تلك الارض كلها ، فقال علیه السلام : قد اختصموا في ذلك الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكانوا يذكرون ذلك ، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ، ولم يحرّمه ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم » (2).

فمن هذين النصين يتبين أن بيع ثمر النخل والفواكه سنين متعددة لا بأس به ، وهذا هو بيع المعدوم حالاًّ المحقق الوجود مآلاً ، ولا يوجد فيه غرر ، أما بيع ثمرة النخل سنة واحدة فقد كان الاصل هو الجواز كما تقول الرواية ، لكن لما انتهى في بعض الموارد الى الخصومة ( وهي موارد ما اذا هلكت الثمرة قبل القبض وعدم ارجاع الثمن الى المشتري حسب القاعدة المستفادة من الرواية القائلة : « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » نهاهم عنه ولم يحرِّمه فيكون النهي استثناءً.

ص: 181


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من بيع الثمار ، ح 8.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من بيع الثمار ، ح 2.

3 - صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « قال الامام الصادق علیه السلام اذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فادرك بعضها فلا بأس ببيعها جميعاً » (1).

4 - موثقة سماعة قال : « سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها ؟ فقال : لا الا أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة (2) او بقلاً ، فيقول : اشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا ، فان لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل » (3).

ويتبيّن من هذين النصين أن بيع المعدوم لا بأس به اذا لم يكن فيه غرر ( خطر ) كما لو اشترى المعدوم مع الموجود وكان المشتري على علم بالحاصل ، وهذا نظير بيع الآبق اذا لم يقدر على تسليمه البائع وكذا لا يتمكن ان يتسلّمه المشتري فإنّه اذا باعه لوحده فهو غير صحيح ، للخطر ، وأما اذا باعه مع الضميمة فحينئذ يصح البيع ، فإن حصل عليه وتسلّمه المشتري فهو ، وإن لم يتسلمه كان ماله في مقابل الضميمة الموجودة. وعلى هذا فيكون الميزان في بيع الموجود والمعدوم واحداً ، وهو عدم جوازهما اذا كان فيهما غرر ( خطر ) وجوازهما اذا زال الغرر ( الخطر ). فلا اصل هناك في جواز بيع الموجود وعدم جواز بيع المعدوم.

5 - عن ثعلبة بن زيد قال : « سألت الامام الباقر علیه السلام عن الرطبة تباع قطعتين او ثلاث قطعات ؟ فقال علیه السلام : لا بأس ... » (4).

6 - عن معاوية بن ميسرة في حديث قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الرطبة يبيعها هذه الجزّة وكذا وكذا جزّة بعدها ؟ قال علیه السلام : لا بأس به ثم قال :

ص: 182


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 2 من بيع الثمار ، ح 1.
2- الرطبة : واحد الرُّطَب : بالضم وفتح الطاء من التمر معروف وجمع الرُطب أرطاب ومنه أرطب البُسر اي صار رُطباً ، راجع مجمع البحرين.
3- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 3 من بيع الثمار ، ح 1.
4- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 4 من بيع الثمار ح 1.

قد كان أبي يبيع الحناء كذا وكذا خرطة » (1). وهاتان الروايتان ظاهرتان في جواز بيع الخرطات التي توجد فيما بعد فهي من بيع المعدوم حالاً المحقق الوجود مآلاً ولا غرر فيه.

إن ادلة عقد الاجارة كلها دليل على جواز بيع المعدوم حالاً المحقق الوجود مآلاً « فالاجارة هي بيع المنافع المستقبلة ، والمنافع ليست موجودة حالاً ولكنها ستوجد مستقبلاً » وقد اجاز الشارع عقد الاجارة بنصوص واضحة كثيرة مع شروط تخرجها عن الغرر (2).

ونكتفي بهذا القدر من النصوص الشرعية التي تدل على أن بيع المعدوم اذا لم يكن فيه غرر ( خطر ) فهو صحيح وهذا هو الاصل والقاعدة كما في بيع الموجود اذا لم يكن فيه خطر. واما بيع المعدوم والموجود معاً اذا كان فيه خطر وغرر فهو باطل لنهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر. وعلى هذا فالاصل والقاعدة هو عدم جواز بيع الغرر ، فاذا جوزت الشريعة او الفقهاء بيع غَرر خاص يكون استثناءً للاصل ، أما هنا فبيع المعدوم لا يوجد اصل في عدم جوازه ، بل ما تقدم من النصوص تصرح بأنَّ الاصل فيه الجواز اذا كان بعيداً عن الغرر. وعلى هذا فَسوف يكون بيع السلم على الاصل لما فيه من الشروط والقيود التي تخرجه عن كونه بيعاً غررياً « فالمسلَم فيه معين محقق الوجود مآلاً ، ومقداره معيّن بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع الذي يرفع الاختلاف والجهالة ، والثمن معلوم يدفع مقدماً ، ووقت التسليم محدد ايضاً بحيث لا يحتمل الزيادة والنقيصة ، وان يكون المسلم فيه موجوداً حين الاجل غالباً » وعلى هذا فكيف صار جوازه استثناءً وقد صرحت الشريعة بكل ذلك ؟!

ص: 183


1- المصدر السابق ، ح 3.
2- راجع وسائل الشيعة ، ج 13 باب 1 - 35 من الاجارة توجد روايات متعددة تدل على صحة عقد الاجارة ، فلا يصلح ان يقال : ان الاجارة أجازها الفقهاء استحساناً. راجع مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج 3 ص 34.

ثم إننا اذا تعقلنا عرفاً بيع الكلي في المعين الذي هو عبارة عن بيع الكلي الموجود في الخارج الذي له افراد خاصة يمتاز كل فرد عن الآخر بخصوصيته ، لكن المعاملة حينما وردت على فرد لم تلحظ فيه هذه الخصوصية ، فكان بيعاً كلياً في المعين ويكون تشخيص هذه الخصوصية للبائع كما قد يكون تشخيصها بيد المشتري كما اذا قال : بعت كتاباً من هذه الكتب أياً شئت منها ، وتعقلنا ايضاً بيع الحصة المشاعة (1) كمئة متر من الف ، او حصة من البيت مشاعة ، فتحصل الشركة ، ولابدّ من التراضي في التقسيم او القرعة ، نتعقل بيع الكلي المضمون في الذمة الموصوف باوصاف معينة تخرجه عن كونه غررياً واذا تعقل هذا عرفاً شمله : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) فتكون مشروعيته اصلية وليست على خلاف القاعدة.

شروط صحة السلم :

ذكروا أنّ شروط السلم ستة : (2)

1 - ذكر الجنس ( الحقيقة النوعية كالحنطة والشعير ).

2 - ذكر الوصف الرافع للجهالة والمائز بين افراد ذلك النوع. والضابط فيه : هو ما يختلف لاجله الثمن اختلافاً لا يتسامح بمثله ، فذكره لازم. والمرجع في ذلك الى العرف لانه ربما يكون اعرف من الفقيه في هذه الامور. ولا يجب الاستقصاء في الوصف ، بل يجوز الاقتصار على الوصف الذي يزيل اختلاف اثمان الافراد الداخلة

ص: 184


1- الفرق بين بيع الكلي في المعين وبيع الحصة المشاعة هو ما ذكرته الروايات بأن الميت اذا ترك ثلث ماله بوصية وقد تلف منه شيء قبل القسمة فانه يتلف على الميت والورثة بالنسبة. اما اذا كان الميت مديناً وقد تلف شيء من التركة ولم يبق الا بقدر الدين فيتخصص الباقي للغرماء ، وما الفرق بين تضرر الوصية وعدم تضرر الدين الا بسبب ان الدين كلي في المعين بينما الوصية على سبيل الاشاعة.
2- الذي ذكر ذلك هو المحقق الحلي صاحب الشرائع ، راجع الجزء الثاني من شرائع الاسلام ، ص 76.

في العين. وحينما نقول بعدم وجوب الاستقصاء في الوصف ، فليس معنى ذلك عدم جوازه ، بل هو امر جائز الا في صورة ما اذا ادّى الى عزة الوجود « الممتنعة » فيبطل العقد ، لاننا سنشترط كون وجود الجنس الموصوف غالبياً ، ولعل دليل هذا هو انَّ عقد السلم هو من بيع ما ليس بموجود ، فاذا كان عزيز الوجود كان مؤديا الى التنازع والفسخ ، وهو مناف للمطلوب ، كما ان بعضهم ذكر تعذر التسليم هنا هو المانع من صحة البيع.

3 - قبض رأس المال قبل التفرق ، فان حقيقة السلم ( السلف ) تعتمد على تسليم الثمن ، وعلى هذا فلا يصح ان يكون الثمن كليّاً لم تشتغل ذمة البائع به ( كالدين الذي لم يأتِ أجلُه ) اما اذا كان قد حلّ اجله وتراضيا على كونه هو الثمن صح عقد السلم. ويصح ان يكون الثمن حوالة للبائع فقبضه من المحال عليه في المجلس ، وذلك لحصول قبض الثمن في مجلس العقد قبل التفرق.

ولكن اذا تراضيا على كون الثمن ديناً على المشتري فالمشهور البطلان لكونه بيع دين بدين مثله (1) فيشمله ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يباع الدين بالدين » ولصحيح منصور بن حازم عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يكون له على الرجل طعام او بقر او غنم او غير ذلك فأتى الطالب المطلوب يبتاع منه شيئاً فقال صلی اللّه علیه و آله : لا يبعه نسيئاً واما نقداً فليبعه بما شاء » (2). فان شراء الطالب من المطلوب شيئاً بمالهُ في ذمته يجعل النسيء في الرواية بمعنى السلم.

ص: 185


1- هذا اذا لم نقل أن صدق الدين بالدين مخصوص بسبق الدينية ، اما في السلم فيصدق الدين بالدين بعد تمام العقد.
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 6 من احكام العقود ، ح 8 وهذه الرواية تكون دليلاً لنا كما هي هكذا في بعض الكتب ، اما بناءً على ما نقله صاحب الوسائل عن نسخ التهذيب المعتبرة : « أتى المطلوب الطالب » فهو في عكس المسألة.

4 - تقدير المسلم فيه بالكيل او الوزن أو الذرع او العدّ ( اذا كان يرتفع الغرر به ) لترتفع به الجهالة. وكذا رأس المال.

5 - أنْ يكون المسلم فيه مؤجلا ويجب تعيين الاجل بمالا يحتمل الزيادة والنقيصة ، اما اذا كان المثمن حالاً فهو بيع لا سلم اذا وقع بلفظ البيع. وتدلُّ عليه الادلة العامة الدالة على صحة البيع كأوفوا بالعقود وأحلّ اللّه البيع ، أو تجارة عن تراض ، مع خصوص صحيح بن الحجاج ، قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الأحل ، يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالاً ؟ قال : ليس به بأس. قلت إنَّهم يفسدونه عندنا. قال : فأيّ شيء يقولون في السلم ؟ قلت لا يرون فيه بأساً ، يقولون هذا الى أجل فإذا كان الى غير اجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح. قال : اذا لم يكن اجل كان احق به ، ثم قال : لا بأس أن يشتري الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه الى أجل وحالاًّ لا يسمي له اجل إلاّ أن يكون بيعاً لا يوجد مثل العنب والبطيخ في غير زمانه ، فلا ينبغي شراء ذلك حالاً » ونحوه آخر (1).

6 - ان يكون وجود المسلم فيه غالباً بحسب العادة وقت الحلول ولو كان معدوماً وقت العقد ، ليمكن التسليم. ويدل عليه صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج في حديث : « ... إنَّ ابي ( الامام محمد الباقر علیه السلام ) كان يقول : لا بأس ببيع كل متاع تجدهُ في الوقت الذي بعته فيه » (2).

ومفهومه هو عدم جواز بيع كل متاع لم تكن تجده في الوقت الذي بعته فيه.

ولعل هذا الشرط قد ذكر للردّ على من اوجب ان يكون الجنس المبيع

ص: 186


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 7 من احكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق ، ح 3.

موجوداً حال العقد الى حال المحل كالاوزاعي والثوري وابي حنيفة ) (1).

اقول : إنّ ما ذُكر مقدّماً بأن لا يكون عزيز الوجود إذا كان راجعاً إلى القدرة على التسليم فهو يكفي عن هذا الشرط ، لأنّه لا يُطمأن بالقدرة على التسليم إلاّ في معتاد الوجود ، وبهذا الشرط يكون السلم قد ورد على موجود بالنوع. ومما يؤكد أنَّ الشرط هو عبارة عن القدرة على التسليم هو : اننا لو بنينا على أن غير القدرة على التسليم للزم « بطلان السلم فيما اتفق انحصار ، في بعض الناس من غلّة أو قهوة أو إبل او غنم أو عبيد وغير ذلك ، وان كان الموجود فعلاً عنده كثيراً فليس له أن يبيع منه ... على انه سلم ، لاشتراط عموم الوجود والفرض انتفاؤه (2).

اقول : ان هذه الشروط الستة ، قسم منها وهي الاول والثاني والرابع هي شروط في كل بيع ، اما الشرط الثالث والخامس فهي شروط تخص بيع السلم فقط.

حكمة السلم :

ان الحكمة في بيع السلم واضحة حيث إنّه يحقق كثيراً من منافع المتعاقدين ، فمن لم يكن لديه السيولة النقدية وعنده القدرة على إنتاج السلع والمحصولات

ص: 187


1- راجع جواهر الكلام ، ج 24 ، ص 306. وحجتهم في ذلك كما قال الحنفية هو : بطلان الاجل بموت المسلم اليه ( البائع ) ويجب أخذ المسلم فيه من تركته فأشترط لذلك دوام وجود المسلم فيه لتدوم القدرة على تسليمه ، اذ لولم يشترط هذا الشرط ومات المسلم اليه قبل ان يحل الاجل فربما يتعذر تسليم المسلم فيه. ولكن يمكن ان تعالج حالة موت البائع وحلول الاجل بموته مع عدم وجود المسلم فيه بما عالج الحنفية به حالة انقطاع المسلم فيه بعد حلول الاجل وقبل أن يوفى وانعدم وجود المسلم فيه ، فقد قالو هنا يتخير المشتري هنا بين الانتظار الى وجود المسلم فيه وبين الفسخ وأخذ رأس المال ، فيمكن ان يقولوا بنفس هذا العلاج في حالة انقطاع المسلم فيه عند موت البائع من الاجل. راجع المرتقى ج 4 / 30 وراجع السلم د. الصديق.
2- جواهر الكلام ، ج 24 ص 308.

بكميات كبيرة والشيء الكثير بعد أجل معين ويريد ضمان تصريفها فيتمكن ان يحصل على السيولة النقدية ويسلم البضاعة أو المحصول في وقته الى المشتري ، وهذا بنفسه يشجع على الانتاج المستقبلي في الزراعة والصناعة والعمل ويسدّ باب عدم تصريف البضاعة وكسادها.

ثم إن المشتري يستفيد من استثمار فائض امواله بشرائه للسلعة السلمية بسعر أرخص بكثير من قيمتها الحقيقية في وقتها وبهذا سوف يحقق ارباحاً له جيدة حيث انه اذا استلم البضاعة فان كان بحاجة الى المال فسوف يبيعها بربح ، وإن لم يكن بحاجة الى المال فسوف يبيعها بيعاً آجلاً بثمن اكبر من ثمنها الحالي ، وبهذا يكون قد استثمر المال مرتين.

ويمكن ان يقال بان بيع السلم هو البديل الشرعي للتمويل بالقرض بفائدة في كل مجال يحتاج فيه المشروع الى التمويل.

بيان انواع المعاملات التي يجوز فيها السلم :

اقول : لما كان السلم لغةً واصطلاحاً مختصاً بالبيع كما هو واضح وأن السلم نوع خاص من البيع ، كان من الواضح عدم صحة هذا السؤال ولعل المراد به اصناف المعاملات التي يجوز فيها السلم فنقول : إنَّ اصناف المعاملات التي يجوز فيها السلم كثيرة وحاصلها :

1 - بيع السلم : وهو الشائع من انواع المعاملات السلمية الذي يكون الثمن فيه هو النقد سواء كان ذهباً او فضة او نقوداً ورقية ويكون المثمن فيه سلعة من السلع.

2 - اسلاف الاعراض في الأعراض اذا اختلفت ، كما اذا أسلفه رصاصاً بحنطة ، وقد دل عليه اطلاق خبر وهب عن علي علیه السلام قال : « لا بأس بالسلف ما

ص: 188

يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن » (1) المنجبر بالشهرة العظيمة ، ولهذا لا يصار الى ما ذهب اليه ابن أبي عقيل الى عدم جواز السلم الا بالعين والورق ولا يجوز بالمتاع ، والنهي الوارد في هذا النوع يحمل على الكراهة خصوصاً مع التعبير بلفظ « لا ينبغي للرجل اسلاف السمن بالزيت ولا الزيت بالسمن » (2).

3 - اسلاف الاعراض في الاعراض اذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل او الوزن كأسلاف الثياب في الثياب.

4 - اسلاف الاثمان في الاعراض كاسلاف النقد بالحنطة. فيشتري منه نقداً الى أجل بحنطة حالّة ، وهذا قد يقال له بيع النسيئة اذا كان البائع قد اشترى حنطة بنقد مؤجل الى ستة أشهر مثلاً. وفي خبر غياث عن جعفر عن أبيه علیه السلام قال : « لا بأس بالسلف في الفلوس » (3).

5 - اسلاف الاثمان في الاثمان وينقسم الى اقسام :

الاول : اسلاف الذهب بالفضة او العكس. وهذا لا يجوز لانه عبارة عن بيع الاثمان في الاثمان وقد اشترط فيه التقابض في المجلس فما لم يحصل التقابض يكون باطلاً.

ولو قيل ان التقابض قد يحصل بكون الاجل قصيراً ، فمع هذا لا يجوز بيع الاثمان في الاثمان سلماً ، وذلك للادلة الدالة على عدم جواز الاجل في النقدين اذا بيع احدهما بالآخر وانه لابدّ من الحلول في بيعهما والتقابض في المجلس (4).

الثاني : اسلاف الاوراق النقدية في الاوراق النقدية من جنس واحد ، فأيضاً لا يجوز ، لا لأجل ان التقابض شرط اذ ان التقابض شرط في النقدين

ص: 189


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 7 من السلف ، ح 1.
2- المصدر السابق.
3- المصدر نفسه ، باب 1 من السلف ، ح 12.
4- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 2 من ابواب الصرف ( الروايات ).

( الذهب والفضة ) ولكن لا يجوز لأنَّ العرف يرى قرضية هذه المعاملة ، فاذا كان ما يستحقه بعد ستة اشهر اكثر مما اعطاه الآن فهو ربا.

الثالث : اسلاف الاوراق النقدية في الاوراق النقدية من جنسين مختلفين ، فهذا يجوز على قول المشهور الذي يرى عدم وجوب التقابض في الاوراق النقدية ، وهناك رأي بعدم جواز ذلك لاشتراط التقابض فيها.

6 - يجوز ان يكون ما في الذمة ثمناً في السلم اذا كان حالاً كما تقدم.

7 - كما يمكن تجزئة تسليم السلم على اوقات متفرقة معلومة ، فقد وردت صحيحة ابي ولاد الحناط فقال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الرجل تكون له الغنم يحلبها لها ألبانٌ كثيرة في كل يوم ، ما تقول في شراء الخمسمائة رطل بكذا وكذا درهماً ، يأخذ في كل يوم منه ارطالاً حتى يستوفي ما يشتري ؟ قال علیه السلام : لا بأس بهذا ونحوه » (1).

بيان انواع السلع التي يجري فيها السلم :

هناك قاعدة في بيان انواع السلع التي يجري فيها السلم وهي كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي الى عزة الوجود فيصح فيه السلم قطعاً. فالميزان في صحة السلم رفع الغرر والجهالة ، فيصح في جميع السلع والمعادن والحيوان والطعام والخضر والفواكه بشرط الانضباط في الوصف كما تقدم.

وقد وردت بعض الروايات التي تمنع السلم او ترشد الى عدم تحققه في الخارج لعدم الانضباط في ذلك الزمان كاللحم نيّه ومشويه والخبز ، ففي خبر جابر : « سألت الامام الباقر علیه السلام عن السلف في اللحم فقال لا تقربنه فانه

ص: 190


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 4 من السلم ، ح 1.

يعطيك مرة السمين ومرة الثاوي ومرة المهزولة ، واشتر معاينة يداً بيد » (1) الا أن ادوات الضبط في هذه الايام متوفرة اكثر مما مضى من الزمان ، فما دامت القاعدة هي انضباط السلعة بما يرفع الجهالة ولا يؤدي الى الغرر وعزة الوجود فيصح السلم فيه اذا وجدت ادوات انضباطه في هذه الايام وإن منع فيه سابقاً لعدم انضباطه.

وعلى هذا المقياس فلا يجوز السلم في الجواهر واللآلي لتعذر ضبطها بحيث ترفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود ، وذلك لتفاوت الاثمان مع اختلاف اوصافها بالحجم والوزن واللون ، نعم هناك من الاحجار الصغيرة التي لا يتفاوت الثمن باعتبارها تفاوتاً بيّناً ، اذ هي تُباع بالوزن مثلاً ، فيجوز فيها السلم.

هذا وقد اطلقت الروايات جواز السلم فيما ينضبط وعدم الاداء الى عزة الوجود فقالت : « لا بأس بالسلم في المتاع اذا وصفت الطول والعرض ، ولا بأس بالحيوان اذا وصفت اسنانها » (2) وكأنها اتكلت على العرف الذي يكون عارفاً باوصاف الانضباط اكثر من الفقيه احياناً.

وعلى هذا فيجوز السلم :

1 - في الخضر والفواكه وكل ما انبتته الارض.

2 - وفي الحيوان كلّه والعبيد.

3 - وفي الالبان والسمون والشحوم والاطياب.

4 - وفي الالبسة والاشربة والادوية.

5 - ويجوز في جنسين مختلفين صفقة واحدة وغير ذلك مع ضبطه بما تقدم.

مفهوم صفة التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم :

لقد تقدم ذكر السلع التي يجوز فيها السلم بشرط انضباطها بما يؤدي الى رفع

ص: 191


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 2 من السلم ، ح 1.
2- المصدر نفسه ، باب 1 من السلم ، ح 1 - 3.

الغرر وعزة الوجود. وعلى هذا فاذا كانت الصفة التي ذكرت في السلعة لتعيينها قد استقصيت فأدت الى عزة (1) الوجود ، فيمتنع فيها السلم ، وقد علل بانه يؤدي الى التنازع والفسخ فهو مناف للمطلوب من السلف.

وقد نقول : إن التعيين اذا ادى الى عزة الوجود ارتفع شرط ان تكون السلعة موجودة غالباً بحسب العادة وقت الحلول فيبطل السلم.

ومن الامثلة على التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم ما اذا اشترط الأجود ، فإنَّ هذا العنوان غير منضبط ، اذ ما من جيد الا ويمكن وجود أجود منه.

وكذا اشتراط الاردأ : فان الاكتفاء ( في المرتبة الثانية من الرديء ، ودفع الاردأ إن وجد فقد تحققت الافضلية ، والا فدفع الجيد عن الرديء جائز وقبوله على المشتري لازم فيصح شرط الاردأ ) لا يفيد وذلك لان ضبط المسلَم فيه ( المبيع المؤجل ) يعتبر على وجه يمكن الرجوع اليه عن الحاجة سواء امتنع وجوده ام لا ، ومن جملة موارد الحاجة ما لو امتنع المسلَم اليه من دفعه ، فان الحاكم الشرعي يتدخل في أخذه قهراً ، وهو غير ممكن ، وذلك لان الجيد غير متعيّن عليه فلا يجوز لغير مالكه دفعه ، واما الرديء فما ممن رديء الا ويوجد اردأ منه ، فيتضح عدم الصحة في هذا العنوان.

نعم : اذا اشترط الجيد والرديء فهو امر جائز لامكان تحصيلهما بسهولة ، فان الواجب اقل ما يطلق عليه اسم الجيد ، فان زاد عنه زاد خيراً ، وكذا الرديء ، وكلما قلّل الوصف فقد احسن.

والخلاصة : فكل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف بمعنى انه يبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مفضية الى التنازع لا يصح فيه السلم. ولعل دليل ذلك هو ان السلم بيع ، فيكون المسلَم فيه مبيعاً ، والمبيع يحتاج الى أن يتعين بالتعيين ، فاذا كان التعين لا يعينه كما تقدم فلا يصح فيه السلم.

ص: 192


1- المراد من عزّة الوجود ممتنعهُ.

الصنف الواحد والاصناف المتعددة :

هل تُعد السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية ( الماركات ) المتعددة ، صنفاً واحداً ام اصنافاً متعددة ؟

ان السلعة الواحدة ذات العلامات التجارية ( الماركات ) المتعددة كمناديل تنظيف اليد والحليب والحبوب والادهان والفواكه واشباهها قد تكون على انحاء :

النحو الاول : اذا كانت تختلف من ناحية الثمن اختلافاً لا يتسامح بمثله ، ومعنى ذلك وجود اختلاف في خصوصيات الافراد كالجودة والرداءة وامثالهما ، ففي هذا الصورة تعدّ السلعة اصنافاً متعددة ، كالحنطة العربية والكردية والاسترالية ، فان اختلاف الثمن مع كون العنوان واحداً يكون بملاك اختلاف خصوصيات الافراد ، وهذا يجعل الحنطة اصنافاً ، فان لم يذكر في السلم صنفاً واحداً معيناً كانت الجهالة موجودة. وعندما يقول الفقهاء : ان المشتري او البائع للسلم « لا يطلب في الوصف الغاية ، بل يقتصر على ما يتناوله الاسم » فالمراد الاقتصار على ما يتناوله العنوان الذي يزيل اختلاف اثمان الافراد الداخلة في العين.

النحو الثاني : اذا كانت لا تختلف من ناحية الثمن لعدم اختلاف الخصوصيات في الافراد ، ففي هذه الصورة تعدّ العلامات التجارية المتعددة صنفاً واحداً عرفاً كالذَِرة التي تكون من صنف واحد ، ولكن مقدمات عرضها المتساوية وعرضها للاسواق تقوم به شركات متعددة ولكل واحدة منها ماركة خاصة ، ففي هذه الصورة لا يوجد بين افراد السلعة اختلاف في الخصوصيات وينبغي أن لا يكون هناك اختلاف في الثمن عرفاً الا نادراً ، وبهذا فسوف تكون السلعة هذه صنفاً واحداً وإن تعددت الماركات.

النحو الثالث : اذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الافراد ولكن تختلف من ناحية الثمن بسبب بعض الامور الجانبية ، مثل ان تكون هذه الشركة في مكان بعيد يوجب نقل السلعة الى هذا البلد

ص: 193

اجوراً اضافية فتكون السلعة اعلى سعراً من الشركة المحلية التي تعرض السلعة نفسها في نفس البلد بدون أجر يضاف الى تصنيعها او عرضها ، ففي هذه الصورة تكون السلعة صنفاً واحداً وإن كانت ماركاتها متعددة واثمانها مختلفة ، لان المدار في اختلاف الاثمان الذي يوجب ذكر الاوصاف هو الذي يوجب اختلاف الاوصاف بين الافراد ، أما اختلاف الاثمان هنا فهو ناتج عن امور جانبية لا عن اختلاف الاوصاف والخصوصيات. فعلى هذا تكون الماركات المتعددة صنفاً واحداً.

وكمثال على ذلك : أن الحنطة المزروعة في مكان واحد وزمان واحد تشترى من قبل شركات متعددة ، فبعضها في نفس بلد الزراعة. وبعضها في بلد آخر يبعد عن بلد الزراعة بآلاف الكيلومترات ، ثم تجري عليها عمليات واحدة قبل عرضها للاسواق ثم تعرض بعد ذلك ، وهنا سوف يكون ثمن الشركة المحلية للكيلو الواحد من الطحين أرخص من ثمن الشركة البعيدة إذا وصل نتاجها المطحون إلى بلد الشركة المحلية ، فهنا لا يوجد اختلاف في الخصوصيات ووجد الاختلاف في الثمن ، فتكون الماركات المتعددة من هذا القبيل صنفاً واحداً.

النحو الرابع : اذا كانت السلعة الواحدة ذات الماركات المتعددة لا تختلف من ناحية خصوصيات الافراد ولكنها تختلف من ناحية الثمن بسبب اختلاف عمليات ما قبل العرض في الاسواق كأن تكون السلعة الصادرة من الشركة المعينة تحمل قابلية بقائها صالحة للاستعمال اكثر من السلعة الصادرة من شركة اخرى بسبب خلط المواد المبعدة للتعفن والمبقية للسلعة على طراوتها مدة اطول من قبل الشركة الاولى دون الثانية ، فهنا سوف يكون اختلاف بين السلع الصادرة من شركات مختلفة الا ان الاختلاف ليس في نفس السلعة ، اذ المفروض ان السلعة واحدة ومن مزرعة واحدة ولكن الاختلاف هو في التصنيع الذي يجعل بعض الافراد يرغب اكثر لهذه الشركة التي صناعتها اجود من الاخرى ، وعلى هذا فسوف يكون اختلاف الماركات كاختلاف الاصناف للسلعة الواحدة.

ص: 194

تنبيه : ما لو فرضنا ( النحو الثاني والثالث ) الذي يجعل الماركات المتعددة صنفاً واحداً ، ولكن المشتري اشترط في صفقة السلم الماركة المعينة ولتكن الاغلى ثمناً او الارخص ثمناً ، ولكن بهدف إرباح هذه الشركة التي له معها رابطة خاصة ، فهل تعدّ الماركات المتعددة اصنافاً متعددة فيجب على البائع أن يلتزم فيدفع ما شرط عليه ، او يجوز له ان يدفع السلعة من الماركات الاخرى ؟

الجواب : ان الماركات المختلفة وإن كانت تعد صنفاً واحداً ، ولكن حكم هذه الصورة هوحكم السلعة ذات الاصناف المتعددة ، وقد جاء هذا الحكم من قبل الشرط ، فان القاعدة القائلة : « المسلمون عند شروطهم » توجب العمل بالشرط اذا كان لهذا الشرط فائدة تعود للشارط وإن لم يكن الشرط موجباً لاختلاف الافراد.

وبهذا التفصيل الذي تقدم اتضح أثر اختلاف العلامات التجارية في تعدد أصناف السلع المسلَم فيها ، فان الماركة المعينة اذا كانت توجد في السلعة ( ذات العنوان المشترك مع آلاف السلع ) خصوصيات معينة تجعلها متميزة عن بقية السلع بدون هذه الميزة ، فإنَّ ذكر هذه الميزات في عقد السلم يكون لازماً لرفع الجهالة والغرر فان فرضنا ان شركات صنع الورق او المناديل تختلف في صناعة الورق الى صقيل وخشن وكذا المناديل ، فان عقد السلم الذي يوجد في الخارج لابدّ فيه من ذكر الصفة التي تميّز افراد ذلك النوع والا لأدّى الى الغرر المنهي عنه.

اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك :

عقد علماء الاسلام في هذا الموضوع بحثين :

الأول : هل يجوز بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل ؟

الثاني : هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه ؟

البحث الأول : هل يجوز بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل ؟

وقد ذكر بعض علماء الاسلام عدم الجواز ، وكان دليله المدعى الاجماع

ص: 195

المحكي إن لم يكن محصّلاً فقد ذكر صاحب الجواهر قدس سره الدليل فقال : « للاجماع المحكي في التنقيح وظاهر الغنية وجامع المقاصد وغيرها ، وعن كشف الرموز إن لم يكن محصّلاً » (1). وقد صرح بان المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الاجل ليس لأجل عدم ملكية البضاعة للمشتري ، لان العقد هو السبب في الملك ، والاجل يكون لأجل المطالبة. كما ان المنع ليس لاجل عدم القدرة على التسليم اذ أن القدرة على التسليم في البيع الآجل تكون عند الأجل (2).

وقد ذكر في كتاب الجواهر فتوى نسبها الى كتاب الوسيلة ( لابن حمزة ظاهراً ) تخالف هذا الاجماع وهي : « واذا أراد أن يبيع المسلف ما أسلف فيه من المستسلِف عند حلول الاجل او قبله بجنس ما ابتاعه باكثر مع الثمن الذي ابتاعه لم يجز ، ومن باع بجنس غير ذلك جاز » فقد جوّز بيع السلم على البائع بجنس آخر غير المسلم فيه ، وذكر صاحب الجواهر ايضاً مخالفة بعض متأخري المتأخرين استناداً الى عمومات حلّ البيع ونحوها ، ولكنه تهجّم عليهم بعد ذلك.

وقد ذكر عن الامام مالك في المدونة الكبرى ( 4 / 88 ) الحديث عن السلم في غير الطعام فقال : « وما اسلفت فيه من العروض الى أجل من الآجال فأردت أن تبيعه من صاحبه فلا بأس أن تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته اليه او ادنى منه قبل محل الأجل ... وإن اردت أن تبيعه من غير صاحبه ، فلا بأس أن تبيعه منه بما شئت بمثل الثمن او اكثر او أقل ، او ذهب او ورق او عرض من العروض او طعام إلاّ أن يكون من صنفه فلا خير فيه ، ولا بأس أن تبيعه - وإن لم يحل الاجل - بما يجوز ... » (3). وهذا النص جوّز بيع بضاعة السلم غير الطعام على غير البائع قبل

ص: 196


1- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، للمحقق صاحب الجواهر ، ج 24 ، ص 320.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، للمحقق صاحب الجواهر ، ج 24 ، ص 320.
3- نقلنا هذا النص عن بحث الدكتور على السالوس المقدم الى الدورة الثانية لمجمع الفقه الاسلامي تحت عنوان تطبيقات شرعية لاقامة السوق الاسلامية ، ص 6.

حلول الاجل بمالا يكون ربا محرماً.

ولكن الشيخ صاحب الجواهر الذي ذكر فتوى الوسيلة ادعى تقدم الاجماع عليها وتأخره عنها ، فبناءً على حجية هذا الاجماع التعبدي يكون بحساب الاحتمال كاشفاً عن رأي المعصوم علیه السلام فسوف تكون النتيجة - كما هي الحق - عدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول اجلها ، وأظن ظناً قوياً بان المراد من منع بيع البضاعة السلمية قبل القبض ، الصادر من مجمع الفقه الاسلامي الموقَّر في دورته السابعة هو بيعها قبل حلول أجلها حيث ان المنع من بيع البضاعة السلمية قبل القبض مخصوص بالمكيل او الموزون او بالطعام كما سيأتي ذلك.

البحث الثاني : هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه ؟

وهذه المسألة خلافية عند علماء الاسلام نستعرضها بشيء من التفصيل والتقسيم ، فنقسم البحث الى قسمين :

القسم الاول : هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على غير البائع ؟

القسم الثاني : هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه على نفس البائع ؟

اما القسم الاول : اقول : هناك مسألة اعم من هذه المسألة من جهة واخص من جهة وهي مسألة : « جواز بيع المبيع قبل قبضه ( سلماً او غير سلم ) وعدمه » ومسألتنا الخاصة في السلم التي هي بيع البضاعة السلمية قبل قبضها ، هي من مصاديق المسألة العامة ، لذا سوف نبحث عن المسألة العامة فيتضح الامر في مسألتنا الخاصة ، فنقول :

في هذه المسألة العامة ثلاثة اتجاهات فقهية :

الاول : يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ( كان المعقود عليه طعاماً ام غيره وسواء كان مكيلاً او موزوناً ، عقاراً او منقولاً ) وذهب الى هذه الاتجاه

ص: 197

الامام الشافعي (1) وأكثر أصحابه والامام احمد في رواية (2) وجمع غفير من العلماء.

الثاني : يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، وذهب اليه بعض ، كعطاء بن أبي رباح وعثمان البتي (3). وذهب اليه بعض الامامية على كراهة (4).

الثالث : تفاصيل اهمها : التفصيل بين بيع المكيل والموزون قبل قبضه فهو لا يجوز الا تولية ، وبين غيره فيجوز وذهب اليه مشهور فقهاء الامامية قديماً وحديثاً (5).

ولا بأس بالتنبيه الى أن النهي الوارد هنا دال على الفساد ( اي الارشاد الى عدم امضاء المعاملة ) : فيكون معنى اذا اشتريت متاعاً فيه كيل او وزن فلا تبعه الا بعد كيله او وزنه هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني.

والذي يهمنا هنا هو ما ينساق اليه الدليل من هذه الاتجاهات الثلاثة فنقول :

البيع قبل القبض عند المذاهب السُنيّة :

كأن المسألة غير منصوصة عند غير علماء الامامية ، حيث ذُكِرَ أنَّ : « أصل الخلاف يعود الى مسألة الضمان ، هل هو من ضمان البائع ام من ضمان المشتري ، وهل ذلك الضمان يمنع المشتري من التصرف فيه ؟. فمالك واحمد في المشهور عنه ومن معهما قالوا : إن ما تمكن المشتري من قبضه فهو من ضمانه ، وأن المشتري يستطيع ان يتصرف في المبيع قبل التمكن من قبضه ، لأن ضمان البائع له لا يمنع تصرف المشتري

ص: 198


1- ألاُم 3 ، 60.
2- المغني لابن قدامة 4 ، 121 - 123.
3- المحلى لابن حزم 8 / 597 و المغني 4 / 220.
4- المختصر النافع ، ص 148.
5- هناك التفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز وبين بيع غير الطعام قبل قبضه فهو جائز ، ذهب اليه الامام مالك كما في المشهور عنه والامام احمد في رواية عنه. المدونة 4 / 90 والمغني 4 / 120.

الذي انتقلت اليه ملكية المبيعوالمسلم فيه بمجرد العقد. قال ابن تيمية : « فظاهر مذهب احمد ان جواز التصرف فيه ليس ملازماً للضمان ولا مبنياً عليه ، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكر في الثمرة وصنائع الاجارة وبالعكس كما في الصبرة المعينة ». بينما ربط أبو حنيفة والشافعي جواز التصرف بالضمان ، فاذا لم ينتقل الضمان الى المشتري لا يجوز له التصرف فيه حتى لا يتوالى الضمانان » (1).

وبما اننا لا نجد اي محذور في وجود ضمانات متعددة اذا كانت السلعة عند البائع وباعها المشتري الى مشتري ثاني ، وباعها المشتري الثاني الى ثالث وهكذا ، فاذا تلفت السلعة عند البائع قبل ان يسلمها فيكون المشتري الثاني ضامناً للمشتري الثالث ويكون المشتري الاول ضامناً للمشتري الثاني ويكون البائع ضامناً للمشتري الاول ، فيستقر الضمان على البائع الذي تلفت السلعة عنده قبل ان يسلمها الى المشتري الاول « ولم نجد اي شاهد من اصول الشرع لمنع ان تتوالى الضمانات ، ولم نشاهد حكماً علّق الشارع فساده على توالي الضمانات » بل قد ورد النص عند المذاهب في تجويز التصرف في المبيع قبل ان يتسلمه المتشري ، فهو مع انه مضمون على البائع يتمكن المشتري من بيعه بجنس آخر ، وهو رواية ابن عمر : « كنت أبيع الابل بالنقيع ، فأتيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في بيت حفصة ، فقلت : يا رسول اللّه رويدك ، أسألك إني أبيع الابل بالنقيع فابيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وابيع بالدراهم وآخذ الدنانير. آخذ هذه من هذه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها مالم تتفرقا وبينكما شيء » - (2) ، كما قد ورد عن كل المذاهب جواز التصرف في الثمرة المشتراة على النخل مع ان ضمانها اذا تلفت يكون على البائع ، فما نحن فيه ايضاً كذلك حيث يتصرف المشتري قبل القبض مع ان الضمان

ص: 199


1- راجع مجموع الفتاوى 29 / 5 - 6 - 509 عن تطبيقات شرعية لاقامة السوق الاسلامية المشتركة د. علي القرة داغي.
2- مسند أحمد ، ج 2 ، ص 82 ، 154.

على غيره ، فاذا حصل تلف ، حصل توالي الضمان.

اذن تكون النتيجة بناء على الخلاف السابق هو جواز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها لعدم ما يمنع من ذلك شرعاً ، ونهي النبي صلی اللّه علیه و آله على ما نسب اليه عن ربح مالم يضمن لا يمنع من النتيجة السابقة حيث يقال بجواز بيع مالم يقبض بسعر اليوم ، والبيع بسعر اليوم قبل القبض يكون خالياً عن الربح ، فلم يربح فيمالم يضمنه.

نعم ورد النهي عن النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الطعام قبضه ، ولكن ذكر ابن القيّم ان هذا النهي « انما هو في الطعام المعين او المتعلق به حق التوفية من كيل او وزن فلا يجوز بيعه قبل قبضه » (1).

البيع قبل القبض عند الامامية :

لقد وردت النصوص عند الامامية عن اهل البيت : تمنع من بيع المكيل او الموزون قبل قبضه ، وتجيز ما سوى ذلك واليك بعض الروايات :

1 - صحيحة منصور بن حازم عن الامام الصادق علیه السلام قال : « اذا اشتريت متاعاً فيه كيل او وزن فلا تبعه حتى تقبضه الا أن توليه ... » (2).

2 - صحيحة الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام انّه قال : « في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال ؟ قال علیه السلام : لا يصلح له ذلك » (3).

3 - صحيحة الحلبي الاخرى قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن قوم اشتروا بُزاً فاشتركوا فيه جميعاً ولم يقسّموه أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ؟ قال علیه السلام : لا بأس به وقال : إن هذا ليس بمنزلة الطعام ، إن الطعام يكال » (4).

ص: 200


1- عن تطبيقات شرعية لاقامة السوق الاسلامية ، د. علي القره داغي ، ص 66.
2- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 16 من احكام العقود ح 1.
3- المصدر السابق ، ح 5.
4- المصدر السابق ، ح 10.

4 - صحيحة معاوية بن وهب قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؟ قال علیه السلام : ما لم يكن كيل او وزن فلا تبعه حتى تكيله او تزنه الا أن توليه الذي قام عليه » (1).

5 - صحيحة منصور بن حازم قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل اشترى بيعاً ليس فيه كيل ولا وزن أَلهُ أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ فقال : لا بأس بذلك ما لم يكن كيل ولا وزن ( كما لو بيع بالمشاهدة ) فان هو قبضه فهو أبرأ لنفسه » (2) أي أن غير المكيل والموزون اذا قبضه ثم باعه فهو أبرأ لنفسه.

6 - صحيحة علي بن جعفر عن اخيه الامام موسى بن جعفر قال : « سألته عن رجل اشترى بيعا كيلاً او وزناً هل يصلح بيعه مرابحة ؟ قال علیه السلام : لا بأس ، فان سميّ كيلاً او وزناً فلا يصلح بيعه حتى تكيله او تزنه » (3).

وظاهر هذه الروايات عدم صحة بيع المكيل والموزون قبل قبضه الا تولية ، ولا فرق في هذا البيع بين كونه شخصيّاً او كليّاً الذمة او في المعيَّن.

7 - موثقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام او الثمرة وقد كان اشتراها ولم يقبضها ؟ قال علیه السلام : لا حتى يقبضها الا أن يكون معه قوم يشاركهم

ص: 201


1- المصدر السابق ، ح 11 ، تنبيه : ذهب المالكية الى منع بيع الطعام قبل قبضه ، أما إذا لم يكن طعاماً فيجوز بيعه قبل قبضه ، وتبيّن من النص الثالث المتقدّم أنَّ العبرة بالطعام لأنّه قال : إنّ هذا ليس بمنزلة الطعام إنَّ الطعام يكال ، فيكون ذكر الكيل اشارة الى أنّ المبيع طعام ولكن بقيت الروايات ذكرت الكيل أو الوزن من دون اشارة الى كون العبرة بالطعام فيؤخذ بها وبإطلاقها وقد يقال : إن الجمع بين الروايات يفهم منه عدم صحة بيع مال السلم إذا كان طعاماً مكيلا أو موزوناً ، وأما إذا لم يكن طعاماً أو لم يكن مكيلا أو موزوناً فيجوز بيعه قبل قبضه.
2- المصدر السابق ، ح 18.
3- المصدر السابق ، ح 22.

فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح او يوليه بعضهم فلا بأس » (1). وهذه الرواية جوّزت بيع الثمرة او الطعام على غير بائعها تولية ، كما جوزت بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.

اقول : ان هذه الروايات التي منعت من بيع المكيل او الموزون على غير بائعه قبل القبض الا تولية او شركة هل هي قاعدة مستفادة من الادلة العامة او استثناء ؟

الجواب : ان هذا استثناء على خلاف القاعدة ، حيث ان المشتري للمكيل او الموزون اذا ملك بواسطة العقد ، يتمكن من بيعه قبل القبض حسب القواعد العامة القائلة بتسلط الناس على اموالهم ، ولكن الروايات المتقدمة منعت عن البيع في خصوص المكيل او الموزون ، فنتعبد بها ونقتصر على موردها ، وموردها هو : « البيع بغير التولية وغير التشريك على طرف ثالث اذا كان المبيع مكيلاً او موزوناً ».

هل هناك حكمة من اشتراط القبض قبل البيع

وللجواب عن هذا السؤال نستعرض ما يمكن ان يقال في كونه حكمة لنرى مدى صحة ذلك او عدمه فنقول :

1 - قد ندعي ان الحكمة المتوخاة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمل الخسارة ، ومادامت السلعة المشتراة لم يقبضها المشتري ، فخسارتها على بائعها لقاعدة « إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه » فلا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمل للخسارة اذا حصلت في سلعته. وكأن هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل : « من كان له الغُنم فعليه الغُرم » فينبغي ان يكون من يربح اذا باع هو الذي يخسر اذا تلفت السلعة ، اما هنا فان السلعة

ص: 202


1- المصدر السابق ، ح 15.

ما دامت عند البائع وقبل قبض المشتري فخسارتها شرعاً على البائع ، فلا يجوز لمالكها ان يربح فيها.

ويشهد لهذه الحكمة جواز بيعها على شخص ثالث تولية.

ولكن رغم معقولية هذا القانون ، لم يدل عليه اي دليل شرعي ، بل نراه غير مرعيّ فيما اذا كان المشترى غير مكيل او موزون كما لو كان المشترى ثوباً او داراً ، فان المشتري يحق له أن يبيعه ويربح فيه قبل قبضه مع ان المشتري لا يخسر اذا تلف.

وكذا قد تخلف هذا القانون في موارد اُخر كالثمار بعد بدوّ الصلاح ، فان المشتري له حق ان يبيعها وهي على الشجر ، ولكن اذا اصابتها جائحة رجع على البائع ، وكذا منافع الاجارة ، فان المستأجر له الحق في أن يؤجر ما استأجره ويتصرف فيه ويربح بقسم كبير منه اذا عمل فيه عملاً ، ولكن اذا حدث تلف في المستأجَر ، فيرجع على المؤجر بمقدار ما تلف.

فتبين من هذه الاحكام ومن غيرها كما سيأتي ( وهو جواز بيع المكيل والموزون على بائعه بربح مع ان تلفه يكون على البائع ) ان هذه الحكمة ليست هي صحيحة بالنسبة لمنع بيع المكيل او الموزون قبل قبضه. قد يقال ان الأمر الوارد عن النبي صلی اللّه علیه و آله في النهي عن ربح ما لم يضمن (1) هو الدليل على هذه الحكمة للمنع من بيع مال السلم قبل قبضه. ولكن هذا باطل حيث ان الأثر الوارد عن النبي صلی اللّه علیه و آله ينهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن فيبدو أن ربح مالم يضمن الذي هو مورد النهي غير بيع الطعام قبل قبضه الذي وقع مورد النهي ايضاً وليس احدهما علّة للآخر كما هو واضح. هذا بالاضافة الى الرواية المروية.

2 - هل يمكن ان تكون الحكمة هي القدرة على التسليم ؟ فاذا باعه قبل قبضه فلا يقدر على التسليم لإحتمال عدم تسليم البائع الاول أو هلاك المحل بخلاف ماذا

ص: 203


1- المغني لأبن قدامة ، ج 4 ، ص 334.

باعه بعد القبض ، وهذا قول ذهب اليه الحنفيّة والشافعية والحنابلة والزيدية وابن تيمية. (1)

والجواب بالعدم اذ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري ، كما انها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه كما لو غُصبت بعد القبض.

3 - هل يمكن ان تكون الحكمة هي الوقوف ضدّ المعاملات الوهمية التي لا قصد اليها كما هو الواقع في اسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالباً هو انتظار تقلبات الاسعار للحصول على ربح ، وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية ؟

والجواب : ان كلامنا هو في صورة القصد الى البيع الحقيقي لإخراج كل البيوع التي لا قصد فيها الى تسلّم المثمن كما هو الجاري في البورصات العالمية التي لا يكون التسليم والتسلم فيها الا بمقدار 1 % كما اتضح هذا عند المناقشات التي جرت في مجمع الفقه الاسلامي في دورات سابقة. بالاضافة الى انتقاض هذا ببيع غير المكيل او الموزون قبل قبضه كما جوزت ذلك الروايات السابقة.

4 - وقد يقال (2) : إن الحكمة في النهي عن بيع المكيل او الموزون قبل قبضه هو التيقن من حصول القصد الحقيقي للبيع ، فإنَّ قبض السلعة ووضعها في المخازن يجعل المشتري في حالة من الجدية بحيث لا يشك احد في وجود قصده الحقيقي للشراء ، بينما عدم القبض لم يجعل قصده واضحاً للآخرين وإن دفع الثمن ، حيث

ص: 204


1- راجع الصدّيق الضرير ، رسالة في السلم ، ص 27.
2- هذا القول ذهب اليه المالكية ، وقد ذهب اليه من قبلهم ابن عباس حين قال في بيع الطعام قبل قبضه ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ ( اي مؤجّل ، من الارجاء والتأخير ) ( صحيح البخاري 3 / 68 ) كما ذهب اليه زيد بن ثابت وابوهريرة حين قالا لمروان أحللت بيع الربا ، عندما رأيا الناس يتبايعون صكوك الطعام قبل أن يستوفوها. راجع الموطّأ مع المنتقى ج ق ، ص 285 و صحيح مسلم مع شرح النووي ، ج 2. ص 171. وهذا التعليل - كما يقول الشوكاني - أجوَد ما علال به النهي لأنّ الصحابة اعرف بمقاصد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، راجع الصديق الضرير ، رسالة في السلم عن نيل الاوطار ، ج 2. ص 169 الخ.

يتهم بان قصده الحقيقي هو الربا ، فيدفع الثمن ليشتري بأقل من القيمة مؤجلا ويبيعها قبل قبضها بعد الاجل فيكون قد دفع مائة واستلم مائة وعشرين وقد منع منه الشارع لكونه فائدة مستترة تحت البيع.

ويؤيدهذه الحكمة هوجواز بيع السلعة على شخص ثالث تولية ( بدون ربح ).

ولكن يرد على هذه الحكمة :

1 - انها ليست مطردة في بيع البضاعة قبل قبضها اذا لم تكن السلعة مكيلة او موزونة بل جوزت الروايات بيعها قبل قبضها مرابحة كما سبق ، وما قيل من وجود نهي عن بيع كل مالم يقبض فهو لم يثبت (1).

2 - ان كلامنا في القصد الحقيقي للبيع والشراء الذي قد تلازمه الخسارة او عدم الربح ، بخلاف الربا الذي هو ربح مضمون دائماً من دون الدخول في المعاملات ، فاذا دخل الانسان في المعاملة التي قد تربح وقد تخسر ، من دون اشتراط ارجاع ماله اليه مع الزيادة فهي معاملة بعيدة عن الربا حتى وإن حصل الربح قبل القبض بواسطة البيع الحقيقي.

والخلاصة : اننا لم نجد حكمة معقولة لشرط قبض المكيل او الموزون قبل البيع ، فلابدّ من التعبد بالحكم مقتصرين على مورده رغم وجود روايات ترخّص في بيع المكيل والموزون قبل قبضه ، الا أنها ضعيفة السند او مطلقة للبيع تولية

ص: 205


1- اقول : لم يثبت وجود رواية عن النبي صلی اللّه علیه و آله نقول : « لا تبيعن شيئاً حتى تقبضه » وانما روي عن ابن عباس رحمه اللّه : عن أن النبي صلی اللّه علیه و آله : « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » وقال : « ولا أحسبُ كل شيء الا بمنزلة الطعام ». وقد روى هذه الرواية البخاري ، كتاب البيوع باب بيع الطعام قبل ان يقبض ج 4 ، 349 ومسلم 3 / 1159. وواضح ان هذه الرواية ليست كلها قد صدرت من النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل إن الصادر هو الفقرة الاولى وهي النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، اما الفقرة الثانية فهي من اجتهاد ابن عباس. وعلى هذا فان صدر الرواية يُقيّد بالروايات الناهية عن بيع المكيل او الموزون قبل قبضه او يُفسر بها. اما ما لا كيل له ولا وزن فقد اجازت الروايات بيعه قبل قبضه مرابحة. راجع الروايات المفصلة بين عدم جواز بيع المكيل او الموزون قبل قبضه وجواز بيع ما عداهما.

وغيره ، فتقيدها الروايات المانعة للبيع قبل الكيل او الوزن الا تولية او على سبيل الشركة ببيع نصف ما اشتراه قبل القبض مثلاً.

تنبيهات :

1 - ان المبيع اذا كان غير مكيل أو غير موزون ( كالمعدود والمذروع ، والمشاهد ) يجوز بيعه قبل قبضه ( سلماً او استصناعاً او غيرهما ) طبقاً للقاعدة القائلة : « الناس مسلطون على اموالهم » مع ورود الرخصة في بيع هذا في نفس الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون قبل القبض ، ففي ذيل صحيحتي منصور ابن حازم المتقدمتين : « فان لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه » ، وكذا في رواية ابي حمزة عن الامام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن رجل اشترى متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال علیه السلام : لا بأس » (1) وغيرها.

2 - الثمن اذا كان مكيلاً او موزوناً والمبيع عروضاً فيتمكن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقاً للقاعدة وعدم المانع ، فان الدليل اللفظي الدال على منع بيع المكيل والموزون قبل كيله او وزنه مختص بالمثمن ، فتعديته الى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام او مطلق ، او اطمئنان بان الملاك واحد فيهما ، وبما أنه لا يوجد اطلاق ولا عموم ولا يوجد اطمئنان بالملاك فيهما حيث ان الحكم تعبدي على خلاف القاعدة ، فنقتصر على مورد المنع ، ونتمسك بدليل (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) لصحة بيع الثمن اذا كان مكيلاً او موزوناً قبل قبضه.

نعم : من علل عدم جواز بيع المبيع اذا كان مكيلاً او موزوناً قبل القبض بضعف ملكية المشتري اذ يحتمل ان يتلف الطعام وتنحل المعاملة ، فان هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون او المكيل قبل القبض.

ولكن هذا الوجه ضعيف ، اذ لا يكون الملك ضعيفاً قبل القبض ، ولأن هذا

ص: 206


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 16 من احكام العقود ، ح 8.

الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى تولية ولغير المكيل والموزون ، ولا أحسب ان يقول بنتيجته احدٌ.

3 - إن الحكم بعدم جواز بيع المكيل او الموزون قبل قبضه مختص بالبيع ، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح عليه قبل قبضه ، وله أن يؤجره قبل قبضه اذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين ، لصحة الصلح والاجارة قبل القبض ، ومع الشك في صحة الصلح والاجارة عليه ، فنتمسك باطلاق صحة الاجارة والصلح جائز بين المسلمين. او اطلاق (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

4 - إذا اشترى مكيلاً او موزوناً ومات المشتري قبل قبضه ، فهل يجوز للوارث البيع قبل القبض ؟ وكذا اذا اشترى ذهبا موزوناً من الصائغ ثم جعله مهراً لزوجته فهل يجوز للزوجة بيع هذا الذهب قبل القبض ؟

وكذا اذا ملكت المكيل والموزون بواسطة الصلح ، فهل يجوز بيعه قبل قبضه ؟

الجواب : إن الروايات المانعة تخاطب المشتري ، فبناء عليها يجوز بيع الوارث والزوجة والمصالح ، لعدم صدق عنوان المشتري عليهم ، ولكن توجد صحيحة معاوية بن وهب تمنع من بيع المكيل او الموزون قبل قبضه بدون مخاطبة المشتري ، وبهذا نفهم ان مخاطبة المشتري ليس لها خصوصية ، بل المنع لكل من انتقل اليه المبيع المكيل والموزون ، واليك الصحيحة : قال سألت الامام الصادق علیه السلام : « عن الرجل يبيع البيع قبل ان يقبضه ؟ فقال : ما لم يكن كيل او وُزِن فلا تبعه حتى تكيله او تزنه الا أن توليه الذي قام عليه » (1).

فكرة السلم الموازي :

وهي فكرة يراد بها شيئان :

ص: 207


1- المصدر نفسه ، ح 11.

1 - التخلص من ( عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه ).

2 - التخلص من ( عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الاجل ).

وهذا البحث الذي نريد ان نطرقه يفيدنا في التخلص من عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه الذي دلت عليه الروايات المتقدمة وتعبدنا في الأخذ بها كما يفيدنا من عدم جواز بيع البضاعة السلمية قبل حلول أجلها الذي دلّ عليه الاجماع المتقدم ، ولذا سوف نتكلم في الموضوع الاول ولكن البحث يسري بأكمله في الموضوع الثاني أيضاً. فنقول :

بما ان النهي عن بيع المكيل والموزون قبل قبضه تعبد محض كما تقدم ، فإذا أردنا ان نصل إلى نتيجة بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ولكن لا عن طريق البيع المنهي عنه ، فهل هو جائز ؟

الجواب : إن العلة في منع المكيل والموزون قبل قبضه لم تعرف لدينا ، ولهذا يكون النهي تعبدياً ، فلا نتعدى إلى غير ما دلّ الدليل اللفظي عليه ، وعلى هذا فإذا وجد طريق لا يشمله النهي وأدّى إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه بدون البيع ، فلا بأس به ويكون جائزاً.

اما ما هي الوسيلة التي تخلصنا من « عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه » ؟

الجواب : هنا وسيلتان.

الوسيلة الاولى :

( الوكالة في القبض ) « أو فكرة السلم الموازي ».

بمعنى ان المشتري للمكيل أو الموزون ( إذا لم يقبضه من البائع ، أو لم يحل الاجل ) يتمكن ان يبيع في الذمة مكيلاً أو موزوناً من نفس النوع ، ثم بعد تمامية بيعه يوكل المشتري ( في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى منه ، ولم يقبضه أو لم يحل الاجل ) بوكالة غير قابلة للعزل ، وقد يعكس الامر بان يبيع كلياً في الذمة مكيلاً أو

ص: 208

موزوناً ، وهو يخشى من ارتفاع قيمته فيما بعد أو يريد السفر حين حلول الاجل أو قبله ، فيتمكن ان يشتري مقداره سلماً إلى حين الاجل وقبل قبضه أو قبل الاجل يتمكن ان يوكل المشتري في اخذه من البائع ، وهذه الوكالة منجّزة يكون متعلقها حلول الاجل كما في الوكالة المنجّزة في الطلاق في حالة معينة أو يوم معين. وهذه الطريقة لا تشملها الروايات المانعة ، لانها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الاول « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه ». وإذا نظرنا إلى استثناء بيع التولية نقطع بان الممنوع هو البيع الثاني إذا جرى على ما وقع عليه البيع الأول حيث إنّ التولية هي « أن يبيع ما اشتراه أولاً برأس ماله ». أما هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الاول ، بل وكَّل دائنه في أخذ المبيع من مدينه فهو استيفاء ، وفائدته سقوط ما في ذمته منه.

لكن هذه الطريقة التي قلناها هنا ، لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع ، كما إذا حلف انسان أو نذر عدم بيع بيته وكان السبب في ذلك هو ان لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمرّ بها ، ففي هذه الصورة إذا باع بيتاً كليّاً في الذمة ثم قال للمشتري : اُعطيك بيتي وفاءً لما في ذمتي ، فان العرف يرى أنه ممنوع من هذا العمل بواسطة حلفه أو نذره ، وذلك لعلمنا بالملاك الذي دعاه للحلف أو النذر بعدم بيع داره ، وهو اعم من البيع بحيث يشمل اعطاء داره وفاءً لبيع بيت كلي.

ومثال اوضح لذلك : هو النهي عن بيع امهات الأولاد في الشريعة الاسلامية ، كما ورد عن علي علیه السلام ، فالنهي وضعي يدل على البطلان ، والملاك والغاية منه هو تحرر الأمة ( ام الولد ) من نصيب ولدها إذا مات سيدها ، وحينئذ يرى العرف أن بيع امة على الغير بنحو الكلي في الذمة ثم يعطي أمته وفاءً عما في ذمته مشمول للنهي ، وذلك لان العلة التي أوجبت الحكم عامة تشمل هذه الصورة. وهذا يختلف عما نحن فيه حيث ان العلة المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه غير معلومة لنا ، فلا يكون المنع شاملاً لهذه الصورة.

ص: 209

ولا اشكال في هذه الوسيلة الاولى الا أن يكون القابض والمقبض متحداً ، وهو ليس فيه أي محذور ، إذ يكون قابضاً بالوكالة عن المشتري الاول ومقبضاً لنفسه بالاصالة. بالاضافة الى وجود صحيحة شعيب بن يعقوب كما يرويها الصدوق ( ولكن صاحب الوسائل توهم فرواها عن الحلبي ) قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل ... وسألته عن الرجل يكون له على الآخر أحمال من رطب او تمر فيبعث إليه بدنانير فيقول : اشتر بهذه واستوف منه الذي لك ؟ قال علیه السلام : لا بأس إذا ائتمنته » (1). فهنا المديون الذي اعطى الدراهم إلى الدائن واشترى الدائن بها رطباً للمديون ، فإذا استوفى الدائن دينه بعد الشراء فقد برئت ذمة المديون قبل قبضه ، ولكن قد يقال إن الوكالة في الشراء الموجود في الرواية هي وكالة في القبض عرفاً ، فحينئذ تكون الرواية دالة على استيفاء الدين بعد القبض للمكيل والموزون ، لا قبل القبض. الا أن الرواية شاملة باطلاقها لما إذا اشترى رطباً سَلماً ووكَّله في أخذه عند حلول الأجل.

ثم لا يتوهم ان هذه الطريقة فيها منع بواسطة صدر رواية شعيب المتقدمة عن الامام الصادق علیه السلام حيث جاء فيها : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل اسلفه دراهم في طعام ، فلما حلّ طعامي عليه بعث اليّ بدراهم وقال : اشتر لنفسك طعاماً واستوف حقك ؟ قال علیه السلام : ارى ان تولي ذلك غيرك وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ولا تتولى انت شرائه » وكذا موثقة عبدالرحمن بين أبي عبداللّه عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل أسلف دراهم في طعام ، فحلّ الذي له ، فأرسل إليه بدراهم فقال : اشترِ طعاماً واستوفِ حقك ، هل ترى به بأساً ؟ قال علیه السلام : يكون معه غيره يوفيه ذلك » (2).

وسبب عدم التوهم : هو أن النهي في هاتين الروايتين عن الشراء الذي هو

ص: 210


1- وسائل الشيعة ، ج 13 باب 12 من السلف ، ح 1.
2- المصدر السابق ، ح 2.

مورد تهمة وسوء ظن ، فان الدائن هنا هو المشتري وقد يتّهم في صورة شرائه لنفسه ، فيعلم ان النهي كراهتي حيث يجوز ان يكون الدائن هو المشتري لمدينه بلا إشكال.

الوسيلة الثانية ( الحوالة )

كما إذا كان المشتري للسلم قد احتاج إلى المال فيبيع سلماً الى مابعد ذلك الاجل ، ثم يحوّل المشتري على البائع الذي باعه قبل الاجل أو قبل القبض. وكذا إذا باع سلماً مكيلاً أو موزوناً وأراد أن يتخلص من هذا الدين لأي سبب كان ، فيتمكن ان يشتري البائع سلماً مماثلاً ثم يحوّل المشتري الذي كان مديناً له على البائع الذي اشترى منه سلماً. وبما أن الحوالة ليست بيعاً ولا معاوضة ، بل هي تعيين الدين الذي في ذمة المديون بحال في ذمة فرد آخر ، وهو عقد مستقل ، فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه أو قبل حلول الاجل.

ويمكن الاستدلال لجواز هذه الحوالة « مضافاً الى اقتضاء القاعدة والعمومات لذلك » بموثقة عبدالرحمن بن أبي عبداللّه قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل عليه كرّ من طعام ، فاشترى كراً من رجل آخر فقال للرجل انطلق فاستوفِ كرّك قال علیه السلام : لا بأس به » (1) فالرواية شاملة لما إذا كان الكرّ في ذمة الانسان بالشراء أو القرض ، وشاملة لما إذا كان في ذمة المحيل معوّض أو عوض ، وشاملة لكون المبيع كلياً في الذمة أو شخصيّاً ، فتكون دليلاً لما نحن فيه.

وهنا لا اشكال على هذه الوسيلة اصلاً إذا كان المال المحال عليه أو به حالاً ومستقراً (2) ، أي بعد الاجل وقبل القبض. اما الحوالة إذا كانت بمال غير حال أو

ص: 211


1- المصدر نفسه ، باب 10 من السلف ، ح 2.
2- الاحالة بمال السلم كما لو أحال البائع المشتري سلماً على من له عليه قرض أو اتلف مال البائع واما الاحالة على مال السلم كما إذا احال المشتري شخصاً آخر على البائع ليأخذ مقدار السلم ، كما يمكن الاحالة بمال السلم على مال السلم.

على مال غير حال كما في الحوالة بدين السلم أو على مال السلم قبل حلول الاجل فسنتكلم عنها الآن.

الاشكال على الحوالة بدين السلم أو على دين السلم :

وقد استشكل البعض في هذه الحوالة بثلاثة اشكالات :

الاشكال الاول : هو أن الحوالة بيع من البيوع كما عن الامام مالك (1) وعلى هذا فلا تجوز الحوالة ببضاعة السلم قبل حلول الاجل لانها عبارة عن بيع بضاعة السلم قبل حلول الاجل وهو مورد المنع.

الاشكال الثاني : ما نسب إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله من قوله : « مَنْ أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره » (2).

ولكن بما أن الجمهور والامامية يعتقدون بان الحوالة ليست بيعاً وانما هي عقد مستقل - كما هو الصحيح - فقد ارتفع الاشكال الاول. هذا مضافاً الى ان الحوالة حتى لو سلّمنا كونها بيعاً ، فلفظ البيع الوارد في الروايات الناهية عن البيع قبل القبض منصرف عن الحوالة الى البيع المتعارف.

واما الرواية النبوية فقد يناقش في متنها فضلاً عن سندها ، إذ لعل المراد هو النهي عن بيعه قبل الاجل لا النهي عن الحوالة على مال السلم بحيث يتمكن من أخذه في وقته وبعد الاجل. واما من ناحية السند ، فالحديث روي بثلاثة طرق في باب السلف يحوّل وفي باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ، وفي كل الاسناد عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف (3).

الاشكال الثالث : وقد ذكر الامام مالك اشكالاً آخر في المقام ، وخلاصته :

ص: 212


1- المدونة ، 4 ، 34 - 35.
2- المغني 5 / 55.
3- نظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال.

« اشتراط ان تكون الحوالة بدين حال » (1) اما الدين في بيع السلم إذا كان مؤجلاً فهو ليس بحال فلا تجوز الحوالة.

وقد أجاب الشوكاني عن هذا الاشكال فقال : « واستقرار الدين على المحال عليه ... فلا ادري لهذا الاشتراط وجهاً ، لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته ويسلّم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب لان به يحصل المطلوب بدين المحال ، ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين » (2).

وبعبارة اخرى ، الحوالة هي : « تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه » (3) ، فإذا كان زيد وهو الذي احتاج إلى النقد بعد شرائه البضاعة السلمية قد باع سلماً إلى شخص آخر ، فهو قد انشغلت ذمته بمقدار معين موصوف إلى المشتري الجديد ، وبما أنه يطلب البائع الذي باعه بتلك الكمية ، فيتمكن أن يحوّل ما في ذمته الى ذمة البائع ، فإن قبل المشتري الجديد ( المستحق ) وقبل المستحق عليه وهو البائع ، فلا يوجد أي مانع من صحة هذه الحوالة وتنفذ عند الاجل والاستحقاق ، وأي مانع في أن أقول للذي يستحق عليه المال بعد مدة : ادفع ما يستحق عليك في وقته إلى فلان الذي يطلبني قدره ؟!

نعم : إن صحة الحوالة بعد عملية السلم الموازي أو صحة الوكالة كذلك منوطة بان لا يُفسخ احدُ عقدي السلم المنفصلين ، فإذا فسخ العقد الاول فتبطل الحوالة لان العقد هنا هو : ان يتسلم المحال له بضاعة السلم التي كنتُ قد اشتريتها سابقاً ، فإذا بطل عقد السلم الاولي فلا يستحق المشتري إلاّ ثمنه ، فلا توجد بضاعة سلم يستحقها المشتري. كما أنه لو بطل عقد السلم الثاني فتبطل الحوالة أيضاً حيث ان العقد هو : أن يتسلّم المشتري الثاني ما استحقه بعقد السلم الثاني من البائع الذي

ص: 213


1- المغني 5 / 55 ، وبدائع الصنائع 6 / 16.
2- السيل الجرار المتدفق على حدائق الازهار 4 / 242.
3- اللمعة الدمشقية ، ج 4 / 142.

يستحق عليه المشتري الاول البضاعة السليمة. وبعد ان بطل عقد السلم الثاني ، فإن المشتري الثاني لا يستحق إلا ثمنه فلا يستحق بضاعة على بائعه ، وعلى هذا فيبقى حق المحال كما هو من دون ضياع ، لان الحوالة التي هي عبارة عن براءة ذمة المحيل وانتقال المال إلى المحال له انما يكون في صورة صحة الحوالة وعدم بطلانها ، اما إذا بطلت فيبقى حق المحال بحاله على ذمة المحيل. على أنه يمكن للشخص الثالث وهو المحال اشتراط عدم براءة ذمة المحيل الا في صورة تسلمه للبضاعة ، فانه شرط صحيح لا يخالف كتاباً ولا سُنّة حيث ان براءة ذمة المحيل على القول بها هي في صورة عدم وجود شرط على خلافها في صورة معينة.

وأما القسم الثاني (1) : بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع فقد جوزته الروايات ما لم يستلزم الربا وتفصيله يذكر في امور :

الأمر الأول : إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض ( سواء كان كلياً أو شخصياً ) بجنس آخر على البائع فهو جائز بلا كلام وذلك لان الروايات المانعة من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه وإن كانت مطلقة لكل بيع ، إلا ان الروايات التي جوزت البيع على البائع قد أحلّت هذه الصورة بشرط ان يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضاً ، فمن الروايات :

1 - صحيحة العيص بن القاسم عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل اسلف رجلاً دراهم بحنطة حتى اذا حضر الاجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، يحل له أن يأخذ من عروض تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (2).

2 - رواية الحسن بن فضال قال : « كتبتُ إلى الامام ابي الحسن علیه السلام : الرجل يسلفني في الطعام فيجيء الوقت وليس عندي طعام ، أعطيه بقيمته

ص: 214


1- لقد اشرنا الى القسم الأول في الصفحة رقم (210).
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 11 من السلف ، ح 6.

دراهم ؟ قال : نعم » (1).

3 - ما روي مرسلاً عن الامام الصادق علیه السلام في الرجل يسلم الدراهم في الطعام إلى أجل فيحلّ الطعام فيقول : « ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ منّي ثمنه ، فقال علیه السلام : لا بأس » (2).

وبظني ان الذي ذكر لصحة هذه العملية هو : « ان يأخذ بقدر دينه دراهم أو عروضاً لا اكثر » هو لأجل ان لا يستغل المشتري البائع ويضغط عليه بأن يردده بين ان يدفع المتاع الذي لم يوجد وبين ان يدفع اكثر من قيمته ، بل تريد الرواية ان تقول ان البائع له حق في ان يعطي بدل المتاع الذي في ذمته ولا يوجد في الخارج لا أنه يجبر على ذلك بحيث يُستغل من قبل الطرف الآخر ، وعلى هذا فان اعطى البائع من متاعه اكثر من قيمة ما عليه من الدراهم أو العروض باختياره فهو معاوضة صحيحة ، يشملها ( تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ) . ويدل على ذلك ان السائل قد فرض ان الدفع يكون بمقدار او ما على البائع ، فاجاب الامام علیه السلام بقوله « لا بأس » ولم يقل الامام إن ذلك شرط يلزم مراعاته.

الامر الثاني : إذا باع المشتري ما اشتراه قبل القبض بجنس ما اشتراه على البائع ، فهنا روايتان ضعيفتان (3) تجوّزان ذلك بشرط أن يكون بقدر الثمن الاولي لا اكثر. ولكن الروايات المتقدمة في الامر الاول أجازت البيع بجنس الثمن الاولي مطلقاً ( أي سواء كان بقدر الثمن الاولي أو بزيادة عنه أو نقيصة ) ولذلك فقد اختلفت اقوال العلماء. ولكن بما أن الروايتين ضعيفتان فنصير إلى روايات الجواز ،

ص: 215


1- المصدر السابق ، ح 8.
2- المصدر السابق ، ح 5.
3- إحداهما خبر علي بن جعفر قال : « سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو حنطة أياخذ بقيمته دراهم ؟ قال : إذا قوّمه دراهم فسد ، لان الاصل الذي يشتري به دراهم ، فلا يصلح دراهم بدراهم ... » وسائل الشيعة ، ج 3. باب 11 من السلف ح 12.

بالاضافة إلى أن الاصل الاولي القائل بان المشتري عندما ملك ببيع السلم ، فهو حرّ في بيعه بعد بجنس الثمن الاولي أو بزيادة أو بنقيصة ، لأنه يبيع المبيع ولا يبيع الثمن حتى يشترط ان يكون بقدر دراهمه لا اكثر ، وحينذ يشمله « احلّ اللّه البيع » و« تجارة عن تراض ».

الامر الثالث : إذا باع المشتري المسلم فيه بنفس جنس المسلم فيه فلا يجوز بزيادة أو نقيصة لانه ربا حيث اشترطت الروايات في بيع المتجانسين إذا كانا من المكيل أو الموزون التساوي.

آراء بقية المذاهب في بيع المكيل والموزون قبل قبضه

وقد ذهب العلامة ابن القيّم إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه على بائعه بدليل آخر فقال : « واما نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا انما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فانه لا يجوز قبل قبضه ، اما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء ، وفائدته : سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له ، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة ، فانه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضاً أو غيره اسقط ما في ذمته ، فكان كالمستوفي دينه لان بدله يقوم مقامه ، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.

والبيع المعروف : هو أن يملِّك المشتري ما اشتراه ، وهذا لم يملّكه شيئاً ، بل سقط الدين من ذمته ، ولهذا لو وفّاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم ، بل يقال : وفّاه حقه ، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فانه بيع.

ففي الاعيان : إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين من غير جنسها يسمى بيعاً.

وفي الدين : إذا وفّاها بجنسها لم يكن بيعاً ، فكذلك إذا وفّاها بغير جنسها لم يكن بيعاً ، بل هو ايفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف ليقضينه حقه غداً ، فاعطاه عنه عرضاً برّ ، في أصح الوجهين » (1).

ص: 216


1- عن القره داغي ، تطبيقات شرعية لاقامة السوق الاسلامية المشتركة ، ص 66.

وقد ارتأى هذا الرأي الامام مالك أيضاً فقد جاء في المدونة : « قلت فان كنتُ اسلفت في شعير فلما حلّ الاجل أخذت سمراء أو عمولة؟ قال : لا بأس بذلك وهو قول مالك ... ثم ذكر أن هذا انما يجوز بعد محل الاجل أن يبيعه من صاحبه الذي عليه السلف ولا يجوز أن يبيعه من غير صاحبه الذي عليه السلم. حتى يقبضه من الذي عليه السلف ... » (1).

وكذا ذهب إلى هذا القول الامام أحمد ، فقد جاء في مجموع الفتاوي : « سئل رحمه اللّه عن رجل أسلف خمسين درهماً في رطل من حرير إلى أجل معلوم ، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير ، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير ؟ أو يأخذ عوضه أو أي شيء كان ؟ فأجاب : هذه المسألة فيها روايتان عن الامام أحمد : أحدهما لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافعي. والقول الثاني : يجوز ذلك كما يجوز في غير دين السلم وفي المبيع من الاعيان ... » (2).

وقد استدل على ما نحن فيه بالحديث الذي يرويه ابن عمر رضی اللّه عنه قال : « كنت أبيع الابل بالنقيع ( بالنون سوق بالمدينة ، وبالباء مقبرتها ) فأتيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في بيت حفصة ، فقلت : يا رسول اللّه رويدك ، أسألك إني أبيع الابل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير ، آخذ هذه من هذه ؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا بأس ان يأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء » (3).

وهذا الحديث وإن كان في جواز الاعتياض عن الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينقل إلى ضمان البائع ، الا أنه استدُل به على جواز بيع المثمن الذي هو بيد البائع بغيره مع أنه مضمون على البائع لم ينقل إلى

ص: 217


1- ج 4 / 34 - 35.
2- مجموع الفتاوى ج 19 / 503 - 518.
3- رواه أحمد في مسنده ، ج 2 ، 82 - 154.

ضمان المشتري (1).

ثم إن ابن عباس الذي لم يجوّز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، أجاز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح حتى أنه لم يفرق بين الطعام وغيره ، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما ، وقد وجّه بقولهم : « لأنَّ البيع هنا من البائع الذي هو عليه وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه ، بل ليس هنا قبض ، لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة في اخذه منه ثم إعادته إليه ... » (2).

خلاصة القسم الثاني : هو جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضه على بائعه وبهذا يكون التفصيل المتقدم متّجهاً وهو :

1 - بيع المكيل والموزون قبل قبضه على شخص ثالث فهو لا يجوز ( وهذا نتيجة البحث الاول ).

2 - بيع المكيل والموزون قبل قبضه على البائع فهو جائز ( وهذا نتيجة البحث الثاني ).

ولكن الشيخ صاحب الجواهر قدس سره ذكر عن الرياض انه لا قائل ( من الطائفة الامامية ) بالفرق بين البيع على شخص ثالث أو على البائع (3). وحينئذ إن تم هذا فيكون بيع المكيل والموزون قبل قبضه ( على بائعه أو على شخص ثالث ) قد نهي عنه حسب روايات البحث الاول ، وقد جوّز حسب روايات البحث الثاني ، وحينئذ فتطبق القاعدة القائلة بان الروايات المجوزة هي صريحة في الجواز ، اما الروايات الناهية فهي ظاهرة في البطلان أو الحرمة فنحملها على الكراهة أو الارشاد ، إلاّ أن البيع قبل القبض قد تحدث منه خلافات يكون الاولى تجنبها.

ويؤيد هذه النتيجة :

ص: 218


1- راجع مجموع الفتاوى ج 29 / 510.
2- مجموع الفتاوى ج 29 / 514.
3- راجع جواهر الكلام ، ج 24 / 321.

1 - عدم وجود علة أو حكمة لمنع بيع المكيل والموزون قبل قبضه وجواز بيع غيرهما قبل القبض.

2 - الوسيلتان اللتان ذكرتهما الروايات للوصول إلى نفس نتيجة بيع المكيل والموزون قبل قبضه ، إذ لا معنى للمنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه وتجويزه بطريقة ملتوية عن طريق الحوالة أو الوكالة ، فانّ الفهم العرفي يرى التنافي في هذه الطريقة.

3 - تعبير بعض الروايات بان البيع للمكيل أو الموزون قبل قبضه بلفظ « لا يعجبني » (1).

ولكن الحق : ان الادلة دلّت على التفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على بائعه فأجازته ، وعلى غير بائعه فلم تجزه إلاّ تولية أو أن يشاركه معه غيره ، واما ما ذكر من عدم الفرق بين علماء الامامية فهو لم يثبت ، فيكون التفصيل متّجهاً.

النتيجة من البحث السابق :

1 - إذا اشترى مكيلاً أو موزوناً سلماً وحلّ الاجل ، فلا يتمكن ان يبيعه على شخص ثالث قبل القبض ، اما بيعه على البائع بجنس آخر غير ثمن السلم أو بجنس ثمن السلم حتى بزيادة عليه أو نقيصة فهو أمر جائز.

2 - إذا أراد بيع المال المسلم فيه بجنسه فلا يجوز أن يبيعه بزيادة أو نقيصة لانه ربا.

3 - بيع المسلم فيه إذا لم يكن مكيلاً أو موزوناً قبل قبضه امر جائز ، للعمومات الدالة على صحة البيع ، مثل « أحلّ اللّه البيع » و« تجارة عن تراض » والروايات الخاصة المصرحة بذلك وقد تقدمت.

ص: 219


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 16 من أحكام العقود ، ح 16.

4 - بيع المسلم فيه قبل حلول الاجل غير جائز.

ملاحظة : إن ما يجري في البورصات العالمية من شراء الرصاص أؤ الذهب أو المتاع أو غيرها التي يكون القصد فيها ليس هو البيع والشراء الحقيقي ، بل الانتفاع من تقلبات الاسعار للحصول على ربح ، لا يمكن ان نطبق عليها حصيلة البحث السابق ، لعدم وجود قصد حقيقي للحصول على السلعة عند البائع والمشتري ، بل إن المقصود هو المقامرة والاستفادة من تقلبات الاسعار ، ويكون لفظ المتاع والشراء غطاءاً لذلك.

ماذا يقوم مقام القبض ؟

هل التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلعة عند المطالبة يغني عن القبض ؟ (1)

وهل التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة يغني عن القبض ؟

نقول : إذا انتهينا إلى هذه النتيجة وهي ( اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه ، وعدم جواز بيع بضاعة السلم قبل حلول أجلها ). فيأتي هذان التساؤلان المتقدمان ، وللجواب عن ذلك نقول :

1 - ان القبض مفهوم يختلف عن مفهوم التأكد من قدرة البائع في السلم على توفير السلعة ، إذ القبض مفهوم محسوس يتحقق في الخارج حسب نوع البضاعة التي يراد قبضها ، اما المفهوم الثاني فهو مفهوم يقع في صقع النفس ، قد لا يكون له تحقق في الوجود الخارجي ، وانما هو افتراض الوجود الخارجي عند المطالبة ، فبين المفهومين تباين وتضاد ، كالتباين بين الحقيقة والافتراض. وقد جعل الشارع

ص: 220


1- القبض معنى عرفي يكون في بعض الموارد عبارة عن التخلية كما في الدار والبستان ، ويكون في بعض آخر بالتسليم والتسلم.

القبض موضوعاً لبعض الاحكام الشرعية « كتلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه » بمعنى أنه يوجب انفساخ البيع بحيث يكون التلف على البائع ويرجع الثمن على المشتري ، و« ككون القبض في الصرف في المجلس مصححاً للمعاملة الصرفية » بمعنى التقابض قبل التفرق في مجلس العقد ، وهذه الاحكام قد وردت على موضوع القبض بما هو مفهوم حقيقي خارجي ، فلا يقوم مقامه التحقق من القدرة على التقابض ، فما نحن فيه أيضاً كذلك.

2 - وكذا مفهوم التأمين على بضاعة السَلَم فهو مباين لمفهوم القبض ، إذ التأمين على البضاعة السلمية يجعل المشتري مطمئناً بوصولها إلى يده أو وصول المبلغ الذي تدفعه شركة التأمين على فرض عدم وصوله إلى يده فهو شيء مفروض يؤول إلى التحقق ، يغاير القبض الذي يجعل المشتري متسلطاً على بضاعته السلمية ويطبق عليها قانون « الناس مسلطون على اموالهم » بحيث يتمكن ان يبيع أو يهب أو يأكل العين التي قبضها أو يتلفها ، فالقبض يحوّل ما في الذمة الذي هو دين إلى عين خارجية حيث ان الدين الذي في الذمّة لا يتعيّن الا بتعيين البائع أو قبض المشتري ، فيكون ما في الذمّة تحوّل إلى عين خارجية يمكن تلفها وأكلها ، وهذا بخلاف التأمين على البضاعة السلمية فهو وإن كان يمكّن المؤمّن له على هبته أو بيعه ، الا أنه لا يتمكن من اكله واتلافه فهو ليس مسلطاً عليه كما في السلعة المقبوضة ، ولهذا الفارق لا يرى العرف قيام التأمين على البضاعة السلمية مقام القبض.

وبعبارة أخرى قد يكون التأكد من قدرت البائع في السلم على توفير السلعة والتأمين على السلعة المسلم فيها ، هو بمثابة الضمان للبائع على دفع البضاعة السلمية ، ومن الواضح ان الضمان يختلف عن القبض.

3 - كما لا يقوم مقام القبض وجود السلعة في المخازن العمومية المنظَّمة إذ يكون هذا الوجود غير مفيد لمشتري السلعة السلمية ، وإنما المفيد له قبضها بحيث

ص: 221

يتحول ماله في ذمة الغير إلى عين خارجية يتسلط عليها ، وكم فرق بين ان يتسلط الانسان على ذمة الغير فيكون دائناً لها ، وهو شيء اعتباري فرضي وبين ان يتسلط على عين خارجية قد قبضها فهو تسلط حقيقي. فوجود السلعة في المخازن لا يجعله متسلطاً عليها حقيقة ، بل يبقى يطلب الذمة التي هي وعاء اعتباري اخترعه العقلاء للاموال الكلية التي لا وجود لها في الخارج. نعم وجود السلعة في المخازن العمومية يحقق القدرة على التسليم ، وهذا ليس قبضاً للمسلم فيه.

هل هناك تصرفات في المكيل والموزون ( السلمي أو غيره ) صحيحة قبل القبض ؟

اقول : قد انتهينا سابقاً إلى عدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه حتى في بيع السلم ، فهل هناك معاملات اخرى تجوز التصرفات في السلم بغير البيع مرابحة ؟ وكذا يأتي هذا البحث في التصرفات الصحيحة للبضاعة السلمية قبل حلول الأجل ، فنقول :

هناك عدة معاملات للتصرف في المكيل والموزون قبل القبض ، وللبضاعة السلمية قبل حلول الأجل وهي :

1 - التولية.

2 - الشركة فيه بربح.

3 - الاقالة فيه.

فقد تقدمت الروايات الدالة على صحة الشركة والتولية في بيع مالم يقبض فيما تقدم :

الأولى : صحيحة منصور بن حازم عن الامام الصادق علیه السلام قال : « اذا

ص: 222

اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلاّ أن توليه ... » (1).

الثانية : موثقة سماعة ، قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان اشتراها ولم يقبضها ؟ قال : لا حتى يقبضها إلا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يوليه بعضهم فلا بأس » (2).

فهاتان الروايتان جوزتا بيع الثمرة والمتاع على غير بائعه تولية ، كما جوزت موثقة سماعة بيع نصف الحصة التي لم يقبضها من البائع فيشترك معه غيره.

وأما الاقالة : فقد دلّ الدليل العام على جوازها في كل بيع قبل القبض أو بعده سلماً أو غيره للحديث عن الامام الصادق علیه السلام قال : « أيما عبد أقال مسلماً في بيع أقاله اللّه عثرته يوم القيامة » (3) وقد ارسلها في الفقيه عن الامام الصادق علیه السلام لكن قال : « أيما مسلم اقال مسلماً بيع ندامة اقاله اللّه عزوجل عثرته يوم القيامة » (4). وفي استحبابها ورد عن سماعة بن مهران عن الامام الصادق علیه السلام قال : « أربعة ينظر اللّه عزّ وجلّ اليهم يوم القيامة : من اقال نادماً أو أغات لهفان أو اعتق نسمة أو زوّج عزوباً » (5).

والاقالة في الحقيقة : هي فسخ في حق المتعاقدين برضاهما ، وليست بيعاً ، لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعاوضات الموجبة ملكاً جديداً ، بل هي تفيد ردّ الملك بفسخ العقد الذي اقتضى خلافه. ولهذا لا تجوز الاقالة بزيادة عن الثمن ، لعدم ما يصلح مملّكاً للزيادة المفروضة ، كما لا تجوز الاقالة بنقصان لعدم ما يصلح

ص: 223


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 16 من أحكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق ، ح 15.
3- المصدر نفسه ، باب 3 من أبواب آداب التجارة ، ح 2.
4- المصدر نفسه ، باب 3 من أبواب آداب التجارة ، ح 4.
5- المصدر نفسه ، باب 3 من أبواب آداب التجارة ، ح 5.

مملِّكاً لما بقي من الثمن بعد فسخ العقد فيما قابله تماماً. وقد صرح صحيح الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام بذلك فقال : « سألته عن رجل اشترى ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه ثم ردّه على صاحبه فأبى ان يقبله إلاّ بوضيعة ، قال علیه السلام : لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الاول مازاد » (1) بناء على ان مبنى ذلك فساد الاقالة وبقاء الثوب على ملك المشتري.

وقد ذهب الى هذه النتيجة التى انتهينا اليها الامام مالك ، فقد جوّز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في مالم يقبض ، فقد جاء في المدونة : « قلت : أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل بنقد ، فلم اقبضها حتى أشركت فيها رجلاً أو وليتها رجلاً أيجوز ذلك ؟

قال : لا بأس بذلك عند مالك.

قلت : وإن كان طعاماً اشتريته كيلاً ، ونقدت الثمن فوليته رجلاً أو أشركته فيه قبل ان اكتاله من الذي اشتريته ؟

قال مالك : لا بأس بذلك وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.

قلت : لم جوزه مالك وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك أن النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن بيع الطعام قبل ان يُستوفى ؟

قال : قد جاء هذا ، وقد جاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى إلاّ ما كان من شرك أو اقالة أو تولية.

قال سحنون : وأخبرني ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة عن أبي عبدالرحمن عن سعيد بن المسيب ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه الا ماكان من شرك أو اقالة أو تولية.

ص: 224


1- المصدر نفسه ، باب 17 من احكام العقود ، ح 1.

قال مالك : اجتمع أهل العلم على أنّه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن ممن يشركه أو يقيله أو يوليه » (1).

4 - الصلح : اقول : لقد تقدم دليل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، أو المنع من بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل ، فهل الصلح الذي يذكر على أساس أنه عقد مستقل يختلف عن البيع والاجارة ، « وإن كانت نتيجته البيع أو الاجارة ». هل يشمله المنع المتقدم ؟

الجواب : بالعدم وذلك للتباين بين البيع والمصالحة التي تتحمل من المسامحة أكثر مما يتحمل البيع. هذا بالاضافة الى عدم وجود نص من الكتاب او السنة يمنع من التصرف في البضاعة السلمية ( حتى وإن كانت مكيلة او موزونة ) على أساس المصالحة قبل القبض ، فلا مناص من القول بصحة الصلح على المكيل أو الموزون قبل قبضه ، ومن القول بصحة المصالحة على البضاعة السلمية قبل حلول اجلها ولكن بشرط ان ينقد الثمن حالاًّ ، اما إذا كان نسيئة فيكون من باب بيع الدين بالدين على تفسير مشهور.

5 - الحوالة : وهو ما يسمى بفكرة السلم الموازي الذي تكلّمنا عليه سابقاً فلا نعيد ، بل نؤكد على ان عقد الحوالة عقد مستقل له شروطه الخاصة ومواصفاته فلا يمكن ان يكون داخلاً في عقد البيع ، ولذلك لا يشترط في عقد الحوالة التقابض حتى ولو كان الدينان من النقود ، ولا يدخل في بيع الدين بالدين الذي يمنعه الفقهاء.

ونفس هذا الكلام قلناه في الوكالة في السلم الموازي فلا نعيد.

6 - الحطيطة : وإذا نهت الروايات المتقدمة عن بيع المكيل أو الموزون مالم يقبض ، أو قام الاجماع على عدم جواز بيع مالم يحل أجله ، فهل تجوز الحطيطة عن

ص: 225


1- المدونة 4 ، 80 - 81.

رأس المال وانهاء هذه المعاملة ؟ أي بمعنى بيعها بأنقص من ثمنها.

والجواب : إذا كانت علة النهي في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض هو أن لا يربح بدون ضمان ، فلابد من تجويز الحطيطة ، لأنّها ليست ربحً بدون ضمان ، ولكن لم يتّضح لنا أنّ المانع هو ذلك لانتقاضه بالسلعة السلمية إذا لم تكن مكيلة أو موزونة ، بالاضافة إلى أن بعض الروايات لم تجوّز الا البيع تولية أو الشركة بربح. وبما ان الحطيطة ليست تولية ولا شركة فلا تجوز. ولا يجوز بيعها قبل الاجل بالاولوية. إلاّ أنه يمكن القول في خصوص الروايات القائلة : « لا يجوز البيع الى تولية » بان المقصود هو العقد الاضافي اي بالاضافة الى المرابحة ، فحينئذ يكون المعنى بأن البيع بنحو المرابحة قبل القبض لا يجوز ، بل يلزم ان يكون تولية ، وليس المقصود أن الحطيطة لا تجوز. وعليه فيمكن الحكم بجواز الحطيطة تمسكاً بقاعدة : (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

هذا كلّه في بيع المكيل والموزون قبل قبضه على غير بائعه ، اما إذا كان المشتري يريد بيع سلعته على نفس البائع بحطيطة ، لأنَّ سعر الحنطة الذي اشتراه قد تنزل فاصبح بعد الاجل قبل القبض أقل مما اشتراه إلى الاجل فهو جائز بل كلام لما سيأتي من جواز معاوضة السلعة المكيلة او الموزونة قبل قبضها بسعر يومها إذا وافق البائع على المعاوضة. وفي الحقيقة إنّ هذه ليست حطيطة عن الثمن ، بل هي معاوضة بسعر اليوم قبل القبض ، على مَنْ تكون السلعة المكيلة أو الموزونة في ذمته ، بل هي معاوضة بعد القبض لان ما في الذمة يكون مقبوضاً للمدين وان لم يكن مقبوضاً للدائن أو لفرد آخر. وقد ذكر الامام مالك جواز ذلك أيضاً فقال : « وما سلفت فيه من العروض إلى اجل من الآجال ، فاردت ان تبيعه من صاحبه فلا بأس ان تبيعه منه بمثل الثمن الذي دفعته إليه أو ادنى منه قبل محل الأجل ... » (1). اقول : ان هذا يختلف عن الاقالة بحطيطة لأنّه بيع ، بينما الحطيطة

ص: 226


1- المدونة الكبرى ، 4 / 88.

قبل الاجل على البائع اقالة ، والاقالة بوضيعة ممنوعة كما تقدم ذلك (1).

7 - الاجارة : إذا كانت الروايات قد نهت عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، فهل يجوز لنا ان نؤجره إذا كان قابلاً للاجارة بان كان يستفاد من عينه مع بقاء العين بدون تلف ؟ وإذا كان الاجماع قد منع من بيع السلعة السلمية قبل حلول اجلها ، فهل نتمكن ان نؤجرها قبل ذلك على ان تكون مدة الاجارة بعد الحلول والقبض ؟

والجواب : إن القاعدة تقتضي ذلك ، فيصح عقد الاجارة على المكيل أو الموزون قبل قبض المشتري له وقبل حلول الاجل ، ولكن لا يجب على المستأجر لهذه العين تسليم الاجرة الا بعد تسلم العين المؤجرة ، الا مع الشرط فإذا اشترط المستأجر تسليم الاجرة قبل تسلّم العين المؤجرة فيمكن ان تدخل الاجارة للعين السلمية قبل حلول أجلها أو قبل القبض مورد الاستثمار.

وربما يقال : بعدم فائدة هذا البحث لعدم وجود ما يكون سلعة سلمية مكيلة أو موزونة وتكون قابلة للاجارة. لأن شرط صحة الاجارة إمكان الإنتفاع بالشيء مع بقاء عينه ، والمكيل والموزون لا يمكن الانتفاع به عادة الا بانعدام عينه.

ولكن يقال : اننا نتكلم كلاماً عاماً ، سواء كان له مصداق في الخارج أو لا ، على انه يمكن ان نوجد مصداقاً له في الخارج الآن ، كما إذا افترضنا أن الالبسة ومجموعة ما يفرش على الارض كالسجاد ، وما يكون ملحفاً يلتحف به الانسان ، والحديد مما يباع بالكيل أو الوزن ، وحينئذ يمكن افتراض اجرتها مع بقاء عينها قبل القبض بشرط أن تُسلّم الاجرة مقدماً. على ان الزمان قد يوجد سلعاً تباع بالكيل أو الوزن مما تقبل الاجارة ، وقد قيل سابقاً ليس من دأب المحصل المناقشة في المثال.

ص: 227


1- لا بأس بالتنبيه إلى ان هذا البحث يختلف عن اخذ المسلم اقل ما شرط في المعاملة السلمية فان هذا امر جائز ومنصوص يراجع ج 13 من وسائل الشيعة ، باب 11 من السلم ، ح 1.

عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الاجل في السلم : ( استبدال المسلَم فيه )

إنَّ المشتري لما كان مالكاً في ذمة البائع سلعة معينة موصوفة ، فإذا حلّ الاجل ولم تكن هذه السلعة موجودة لآفة سماوية ونحوها فمقتضى القاعدة هو تخيّر المشتري بين امور :

1 - فسخ المعاملة واستعادة الثمن الاولي لتخلف الوفاء بالشرط.

2 - ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق.

3 - يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الاولي إذا رضي البائع بذلك.

4 - يأخذ قيمة المتاع حين الاستحقاق إذا رضي البائع بذلك.

5 - يعاوض البائع بجنس الثمن الاولي بزيادة (1) عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.

وواضح ان الامور الثلاثة الاخيرة لا تتعين على البائع كما اشرنا إلى ذلك ، وذلك لعدم وجود خطاب بدفع العين المتعذرة إلى المشتري ، وحينئذ لا تتعين قيمتها عند تعذرها ، بل إن تعذر العين يسقط أصل خطاب الدفع.

وهذا الذي تقدم بالاضافة إلى أنه على طبق القاعدة في تعذر مال السلم ، قد وردت فيه روايات خاصة منها :

1 - صحيحة الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا سميت الذي تسلم فيه ، فوصفته ، فان وفيته والا فأنت

ص: 228


1- (1) في هذه الصورة يوجد خلاف ، فقد خالف الشيخ الطوسي رحمه اللّه استناداً الى خبر علي بن جعفر ( المتقدم الضعيف ) عن الامام موسى بن جعفر قال : « سألته عن رجل له على آخر تمر ، أو شعير ، أو حنطة ، أيأخذ بقيمته دراهم ؟ قال : اذا قومه دراهم فسد، لأن الأصل الذي يشتري به دراهم ، فلا يصلح دراهم بدراهم ...» وسائل الشيعة، ج 13، باب 11 من السلم ، ح 13.

أحق بدراهمك » (1).

2 - موثقة عبداللّه بن بكير قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل أسلف في شيء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها ولم يستوفِ سلفه ، قال علیه السلام : فليأخذ رأس ماله او لينظره » (2).

3 - صحيحة العيص بن القاسم عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل اسلف رجلاً دراهم بحنطة حتى اذا حضر الاجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، أيحلّ له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (3).

4 - ابان بن عثمان عن بعض أصحابنا عن الامام الصادق علیه السلام : « في الرجل يسلم الدراهم في الطعام الى أجل ، فيحلّ الطعام فيقول ليس عندي طعام ، ولكن انظر ما قيمته فخذ منّي ثمنه ؟ قال علیه السلام : لا بأس بذلك » (4) وعن علي بن محمد قال : « كتبت اليه : رجل له على رجل تمر أو حنطة او شعير او قطن ، فلما تقاضاه قال : خذ بقيمة مالك عندي دراهم ، أيجوز له ذلك أم لا ؟ فكتب : يجوز ذلك عن تراض منهما إن شاء اللّه » (5).

ولا يقال في الصور الثلاثة الاخيرة بان هذه بيع للمكيل او الموزون قبل القبض وهو منهي عنه.

والجواب ( كما تقدم ) ان المنع في بيع المكيل او الموزون قبل قبضه انما هو على غير البائع ، اما بيعه والمعاوضة عليه مع بائعه فلا بأس بذلك. وبعبارة اُخرى ان

ص: 229


1- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 11 من السلف ، ح 17.
2- المصدر السابق ، ح 14.
3- المصدر السابق ، ح 6.
4- المصدر السابق ، ح 5.
5- المصدر السابق ، ح 11.

هذا الادلة الدالة على جواز المعاوضة مع البائع قبل ان يتسلم المشتري البضاعة تقيّد الروايات المانعة من بيع المكيل اوالموزون قبل قبضه بالبيع على غيرالبائع هذا ( كله بناءاً ) على أن الاستبدال ( في صورة ما اذا لم يوجد المسلَم فيه ) بيع ، وهو غير مسلَّم.

وفي حكم تعذر المبيع في السلم عند الحلول ، موت البائع قبل الأجل وقبل وجود المبيع ، حيث ان الموت يجعل الدين حالاًّ. وهناك صورة اخرى مختصة بما اذا كان البائع قد أحضر في الاجل قسماً من بضاعة السلم ولم يوجد القسم الآخر ، فهنا في حالة كون عدم القبض لا بتفريط من المشتري يكون بالخيار في أخذ المهيأ له ورأس ماله المقابل لغير الموجود او الفسخ بالجميع او الانتظار لحين وصول الباقي ، واما حالة ما اذا كان عدم القبض بتقصير من المشتري فلا خيار له ، بل يجب عليه اخذ الموجود وانتظار الباقي.

وقد يقال في الحالة الاولى - عندما يأخذ المشتري الموجود ويفسخ في غير الموجود - بوجود خيار للبائع وهو خيار تبعض الصفقة ، كما هو ليس ببعيد لو لم يكن التقصير في تبعض الصفقة قد نشأ من البائع نفسه ويدل على الصورة الاخيرة صحيحة الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ؟ قال علیه السلام : لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه ، ( له ) ان يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم ، ويأخذ دون شروطهم ... » (1).

وصحيحة عبداللّه بن سنان قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الرجل يسلم في الطعام ( الى ان قال ) : أرأيت إن اوفاني بعضاً وعجز عن بعض أيصلح إن آخذ بالباقي رأس مالي ؟ قال : نعم ما أحسن ذلك » (2) ومعنى ذلك

ص: 230


1- المصدر نفسه ، ح 1.
2- المصدر نفسه ، ح 2.

وجود اشياء جائزة ايضاً كالفسخ او الانتظار لحين وصول الباقي ، كما تقدم ذلك في صورة عدم تقصير المشتري في عدم القبض.

صحة الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة :

لقد عرف الفقه الامامي الشرط الجزائي في عقد الاجارة ، فقد روى الحلبي في الصحيح قال : « كنتُ قاعداً الى قاض وعنده ابوجعفر ( الامام الباقر علیه السلام ) جالس ، فجاءه رجلان فقال احدهما : إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً الى بعض المعادن ، فاشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنَّها سوق أخاف أن يفوتني ، فان احتبستُ عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم احتَبسته كذا وكذا ، وأنه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوماً ؟ فقال القاضي : هذا شرط فاسد وفِّهِ كراه ». فلما قام الرجل أقبل اليَّ ابوجعفر علیه السلام فقال : « شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه » (1).

اقول : فان لم تكن خصوصية لعقد الاجارة في صحة الشراط الجزائي ، فيكون الشرط الجزائي صحيحاً في جميع العقود إن لم يكن هناك نهي عنه ، هذا بالاضافة الى الحديث الصحيح : « المسلمون عند شروطهم » فاذا اشترط المشتري لبضاعة السلم أنّ أيّ تأخير يحصل في تسليم البضاعة يستوجب نقصان قيمة البضاعة بمقدار 10 % من الثمن الاصلي ، او أن البضاعة السلمية اذا تأخّرت شهراً عن الاجل المحدد نقصت قيمة البضاعة 10 % من الثمن الاصلي ، فان تأخرت شهرين نقصت 20 % ، فان هذا الشرط يكون صحيحاً ونافذاً حسب قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » وما لم يحط بجميع السعر حسب « ما لم يحط بجميع كراه » او حسب ما تسالم عليه الارتكاز العقلائي من عدم صحة هكذا شرط يكون مؤداه

ص: 231


1- المصدر نفسه ، باب 13 من الاجارة ، ح 2.

اشتريت البضاعة السلمية بلا ثمن. بل إن (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يوجب علينا العمل بالعقد الذي اشترطت فيه الشرط الجزائي اذا كان معنى العقد موجوداً معه ، فانه بعمومه يدل على وجوب الوفاء بالعقد الذي شرط فيه الشرط الجزائي. ثم ان هذا الشرط الجزائي الذي يذكر في متن العقد له صورتان صحيحتان :

الصورة الاولى : ان يكون على نحو شرط النتيجة : ومثاله ما تقدم ، اذ يكون المشروط له ( على تقدير مخالفة الشرط ) قد ملك مقدار النقصان على ذمة المشروط عليه.

الصورة الثانية : ان يكون على نحو شرط الفعل : وهو ان يقول له : اذا تخلفت عن تسليم البضاعة في وقتها المحدد الى شهر فعليك ان تدفع لى مقدار عشرة دنانير ، فان تخلفت الى شهرين فعليك ان تدفع عشرين ديناراً ، ففي هذه الصورة لا يوجد اشتغال ذمة المشروط عليه عند التخلف ، بل يجب عليه تمليك المقدار المعين حسب الشرط ، فان لم يفعل فقد فعل حراماً فقط.

وهناك صورة ثالثة : كما لو قال : إذا تأخرت عن تسليم البضاعة في الوقت المحدد فينقص الثمن ( ولم يحدد النقصان ) ففي هذه الصورة تبطل المعاملة لجهالة الثمن على تقدير التأخير (1).

والتحقيق : إننا نستثني من صحة الشرط الجزائي في البيوع ما اذا كان الثمن نسيئة او المثمن مؤجلاً ( كلياً في الذمة ) لما ثبت من أن بيع النسيئة الذي يكون الثمن في ذمة المشتري لا يجوز فيه تأجيل الثمن وتأخيره في مقابل المال لانه داخل ربا

ص: 232


1- تعرضنا للشرط الجزائي بصورة اوسع في بحث المناقصات ، فمن اراد التوسع فليراجع بحثنا في المناقصات. وقد يقال : إن الثمن في مقابل العين في البيع. واما الشرط فهو إن تخلف فيوجب خيار الفسخ ولا يقسّم عليه الثمن ، وهذا القول صحيح ولكننا ندعي أن الشرط الجزائي الذي شرطه المشتري وقبله البائع يوجب عليه العمل به وهو يوجب ان يملك المشتري مقداراً المثمن او يملّك من قبل البائع ، فان لم يفعل بهذا الشرط الثاني كان الخيار للمشتري بالفسخ.

الجاهلية « أتقضي ام تُربي » فكذا لا يجوز الزيادة في أجل المثمن في البيع السلمي في مقابل المال لانه مصداق من مصاديق الربا الجاهلي.

نعم لنا طريق واحد لضبط تصرف البائع ، وهو أن يشترط المشتري على البائع كمية من المال اذا تخلف عن تنفيذ العقد ، وهذا هو السعر العربون الذي أجازه المجمع في دورة سابقة. ولكن هذا لا يكون بديل للشرط الجزائي في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة.

والخلاصة : إن الشرط الجزائي في صورة تأخير تسليم البضاعة باطل لانه شرط مخالف للسُنة.

اصدار سندات سَلَم قابلة للتداول وضوابط ذلك في حال الجواز :

اذا كانت هناك شركة لبيع الحديد او الرصاص أو اي متاع من الامتعة أو أي طعام من الاطعمة التي يصح فيها السلم ، وقد عقدت الشركة عقد سلم مع شخص معين الى أجل محدد ، فقد تقدم انه لا يجوز له بيع بضاعة السلم قبل حلول الاجل ، وكذا لا يصح بيع المكيل او الموزون بعد الاجل قبل القبض الا تولية او شركة ، وقد قلنا فيما سبق بجواز ايجاد الوكالة في استلام البضاعة السلمية او الحوالة فيها بعد ايجاد ما يسمى بالسلم الموازي ، وجواز المصالحة والاقالة والاجارة قبل الاجل او قبل القبض. اما هنا فنريد ان نفتش عن امكان ان تقوم الشركة او الحكومة باصدار صك سلم قابل للتداول ، فنطرح هنا هذه الافكار للتداول والمناقشة وخلاصتها :

1 - ان تقوم الجهة ( حكومة او شركة او غيرهما ) باصدار صك ( وثيقة ) تفيد أنها تبيع البضاعة السلمية المعينة الى من يشتريها على ان تسلم له بعد سنة مثلاً ولكن الشركة لا تكون مسؤولة الا امام من يبرز هذه الوثيقة عند حلول الاجل. وهنا من يشتري هذه البضاعة السلمية ويتسلم الوثيقة لا يمكنه ان يبيع

ص: 233

البضاعة السلمية قبل الاجل او لا يمكنه من بيع المكيل او الموزون قبل القبض ، وهذا شيء صحيح الا أنّه هل يتمكن ان يهب هذه البضاعة السلمية لشخص آخر بشرط أن يهب الآخر له شيئاً معيناً ( وليكن كمية من المال ) ؟

الجواب : ذكرنا ان الهبة عقد مستقل يختلف عن البيع حتى وان كانت الهبة مشروطة بهبة الآخر له شيئاً آخر ، لان الهبة المعوضة ( المشروط فيها هبة الآخر كمية من المال ) عبارة عن التمليك الذي اشترط فيه العوض فهي ليست انشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة ، لذا لا يكون تملك للعوض بمجرد هبة الواهب الى الموهوب له وتملكه ما وهب له ، بل غاية الامر ان الموهوب له بعد ان تملّك ما وهب له يجب عليه ان يعمل بالشرط فيملّك العوض ، فان لم يفعل كان للواهب الرجوع في هبته نتيجة اقتضاء عدم العمل بالشرط.

وعلى هذا فان التعويض المشترط في الهبة كالتعويض الغير المشترط في الهبة ، يكون عبارة عن تمليك جديد يُقصد به وقوعه عوضاً ، لا ان حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كل من العوضين كما يتضح ذلك بملاحظة التعويض الغير المشترط في ضمن الهبة الاولى.

ولو كانت الهبة المعوضة هي تمليك بعوض على جهة المقابلة ، فلا يعقل تملّك احدهما لاحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر ، مع ان ظاهر الفقهاء في الهبة المعوضة هو عدم تملّك العوض بمجرد تملّك الموهوب له الهبة كما تقدم.

اذن قد اتضح أن البيع يختلف عن الهبة المعوضة اختلافاً اساسياً حيث أن حقيقة البيع : تمليك العين بالعوض ، وهذا لا يكون هبة معوضة وإن قصدها. وحقيقة الهبة المعوضة : هي التمليك المستقل مع اشتراط العوض في تمليك مستقل يقصد به العوضية. وهذا ليس معاوضة حقيقية مقصودة في كل من العوضين ، وبهذا يبطل ما يقال من أن الهبة المعوضة هي بيع للاختلاف الحقيقي في معنييهما.

ولكن الذي يقف في وجه هذه العملية : ان الهبة لابدّ في صحتها من القبض ،

ص: 234

والقبض للبضاعة لا يحصل بقبض الوثيقة ، بل يحصل بقبض مصداق الوثيقة وهي العين الخارجية.

ولكن : أليس من حقنا ان نتساءل في ان الاعلان عن كون الشركة مسؤولة عمن يبرز هذه الوثيقة عند الاجل يكون قد جعل للوثيقة قيمة عرفية ؟ وعلى هذا فهل يمكن ان يهب صاحب الوثيقة القيمة العرفية لهذه الورقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلمية ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها بما تحمل من قدرة على البضاعة كهبة الدينار والدرهم ؟

2 - إنّ المشتري للوثيقة يتمكن أن يوكل شخصاً في استلامها في اجلها ، مع اسقاط حق عزله من الوكالة في عقد لازم ويجعل وكالته مطلقة بحيث يتمكن ان يفعل الوكيل بالبضاعة السلمية كل ما يحلوله حتى بيعها او هبتها او اكلها أو اتلافها وما الى ذلك ، وبما ان هذه الوكالة بهذه الصفة لها ثمن ، فيتمكن الموكِّل ان يأخذ ثمن هذه الوكالة ، وهكذا يفعل الثاني والثالث ، وحينئذ لم يصدق ان المشتري قد نقلها قبل الأجل او قبل القبض مع تحقق فكرة تداول صكوك السلم ودخولها في الاسثمار ، فهل تكون هذه الفكرة كافية لتداول صكوك السلم ؟

وعيب هذه الفكرة الثانية هو فيما اذا مات أحد الأفراد قبل حلول الأجل فقد سقطت الوكالة ، وحينئذ يستحق البضاعة السلمية ورثة الميت ( لا من بيده الوثيقة وورثته ) ، وهذا مما يُلَكِّأ هذا الطريق.

3 - قد نقول بان التداول لصكوك السلم يحصل فيما اذا اقترض صاحب السلعة ( صاحب الوثيقة والصك ) مقدار هذه البضاعة من المال ، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم ، فاذا كانت المصالحة عقداً مستقلاً ولا ارتباط لها بالبيع ، فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم ؟

4 - وقد تأخذ الشركة بقانون الجعالة بان تقول الشركة : « مَنْ وهب لي كذا

ص: 235

مقداراً من النقود فله البضاعة التي ترد بعد شهر » يقول الواهب الذي استحق البضاعة بعد الأجل وهكذا.

خلاصة البحث

وتلخيص البحث يكون بذكر عدة نقاط :

1 - عُرف السَلَم بانه : « ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه ».

2 - دلّت على مشروعيته العمومات القرآنية مثل : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) والروايات المتواترة واجماع المسلمين.

3 - اتضح لدينا ان مشروعية السلم أصلية وليست استثناء ، وقد استدللنا على ذلك بروايات صحيحة دلّت على جواز بيع النخل والفاكهة سنتين أو أكثر ، وجواز بيع ثمرة الحائط إذا كان فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها ولم يدرك الآخر ، وجواز بيع ما يجزّ ، جزّتين أو ثلاث جزات وما يخرط خرطة أو خرطات ، وجواز الاجارة التي هي بيع منفعة معدومة.

كما استدللنا على أن المشروعية للسلم أصليّة بجواز بيع الحصة المشاعة والكلي في المعين ، حيث ان الكلي في الذمة لا يختلف في اصله عنهما.

4 - شروط السلم ستة هي : « اذكر الجنس والوصف الرافعين للجهالة ، وقبض رأس المال قبل التفرق وتقدير المسلم فيه ، والثمن بأحد المقادير الرافعة للجهالة ، وتعيين الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقيصة ، وان يكون المسلم فيه موجوداً غالباً بحسب العادة وقت الحلول ». وقد تبين اخيراً أن شرطين اساسيين هما الشروط الخاصة بالسلم وهما ان يكون المسلَم فيه مؤجلاً ويعين الاجل وان يقبض رأس المال قبل التفرق.

5 - ان المعاملات التي يجوز فيها السلم هي كما يلي :

ص: 236

أ - بيع السلم المعروف الذي يكون الثمن فيه هو النقد والمثمن عبارة عن سلعة من السلع.

ب - اسلاف الاعراض في الاعراض إذا اختلفت.

ج - اسلاف الاعراض في الاعراض إذا اتفقت ولم تكن مقدرة بالكيل أو الوزن ، كالثياب في الثياب.

د - اسلاف الاثمان في الاعراض ، وقد يقال له بيع النسيئة باعتبار آخر.

ه - اسلاف الاوراق النقدية بالاوراق النقدية إذا كانا من جنسين مختلفين على القول المشهور القائل : بعدم وجوب التقابض فيها.

و - يجوز أن يكون ما في الذمة ثمناً في السلم إذا كان حالاً.

ز - يمكن تجزئة تسليم السلم على اوقات متفرقة معلومة.

6 - ان السلم يجري في كل سلعة تنضبط في الوصف على وجه ترتفع الجهالة ولا يؤدي إلى عزة الوجود ، وهذا هو الضابط في انواع السلع التي يجري فيها السلم.

7 - ان كل شيء لا يمكن ضبطه بالوصف بحيث تبقى بعد بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره جهالة فاحشة مقتضية إلى التنازع ، لا يصحّ فيه السلم.

8 - ان الماركة المعينة إذا كانت توجِد في السلعة ( ذات العنوان المشترك ) خصوصيات معينة تجعلها متميزة في خصوصياتها أو في تصنيعها عن بقية السلع بدون هذه الميزة ، فهي صنف مستقل عن بقية الماركات. كما ان اشتراط المشتري ماركة معينة لغرض عقلائي يوجب ان تكون هذه الماركة صنفاً مستقلاً عن بقية الماركات التي يشترك افرادها في الخصوصيات.

9 - لا يجوز بيع البضاعة السلمية قبل حلول الاجل الا على البائع تولية أو بأقل من ثمنها.

10 - لا يجوز بيع بضاعة السلم « إذا كانت مكيلة أو موزونة » بعد حلول

ص: 237

الاجل وقبل القبض ، على غير بائعه الا تولية أو شركة. وهذا هو معنى اشتراط قبض المكيل أو الموزون في جواز بيعه على غير بائعه مرابحة.

11 - ان اشتراط قبض المكيل أو الموزون قبل بيعه على غير بائعه هو امر تعبدي لم نجد له حكمة معقولة.

12 - يجوز بيع بضاعة السلم ( إذا لم تكن مكيلة أو موزونة ) على غير بائعها بعد حلول الاجل وقبل القبض ، استناداً إلى قاعدة الناس مسلطون على اموالهم ، بل وورود الرخصة في ذلك في النصوص المتقدمة.

13 - يجوز لمن اشترى سلماً ان يبيع صفقة سلمية قبل الاجل أو قبل القبض ثم يحوّل المشتري الجديد على بائعه بنفس المقدار الذي اشتراه أو يوكله في القبض وهذه هي فكرة السلم الموازي التي نطقت بها بعض النصوص المتقدمة وهي خارجة عن حريم المنع الذي تقدم في بيع المكيل أو الموزون قبل القبض أو بيع البضاعة السلمية قبل الأجل.

14 - يجوز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على البائع ما لم يستلزم الربا ، وذلك لتصريح الروايات بذلك.

15 - ان التحقق من قدرة البائع في بيع السلم على توفير السلعة لا يقوم مقام القبض كما ان التأمين على السلعة المسلم فيها أو وجودها في مخازن عمومية منظمة لا يغني عن القبض ، كل ذلك للتباين بين القبض الذي اشترط في بيع السلعة المكيلة أو الموزونة وبين هذه الأمور التي غاية ما تفيد ضمان السلعة السلمية ، وهو يختلف عن القبض الذي هو مفهوم محسوس.

16 - تجوز عدة تصرفات في المكيل والموزون السلمي قبل القبض كما تجوز عدّة تصرفات في البضاعة السلمية قبل حلول الاجل وهي :

1 - التولية في البضاعة السلمية قبل الاجل ، أو قبل القبض.

2 - الشركة بربح في البضاعة السلمية قبل الاجل أو قبل القبض.

ص: 238

3 - الاقالة.

4 - الصلح.

5 - الحوالة أو الوكالة.

6 - الحطيطة ، على بعض الآراء.

7 - الاجارة.

17 - إذا عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الاجل في السلم فيتمكن المشتري من اتباع عدة خطوات :

1 - فسخ المعاملة واستعادة الثمن الاولي لتخلف الشرط.

2 - ينتظر وجود السلعة لحين توفرها في السوق.

3 - يعاوض البائع عليها بجنس آخر غير الثمن الاولي إذا رضي البائع بذلك.

4 - يأخذ قيمة المتاع حين الاستحقاق اذا رضي البائع بذلك.

5 - يعاوض البائع بجنس الثمن الاولي بزيادة عنه أو نقيصة إذا رضي البائع بذلك.

كل ذلك دلت عليه النصوص المتقدمة.

18 - إن الشرط الجزائي في صورة تأخير تسلم البضاعة ، إذا كان معيناً بنقصان الثمن أو بدفع مبلغ من المال أقل من الثمن فهو شرط صحيح يجب الوفاء به ، للنص الوارد في عقد الاجارة ولصحة الشروط مالم تكن مخالفة لكتاب اللّه وسنة نبيّه. اما إذا كان الشرط الجزائي يجعل البضاعة السلمية بدون ثمن أو كان النقصان من الثمن غير معلوم فهو شرط باطل.

19 - طرحنا هنا فكرة اصدار سندات سلميّة قابلة للتداول خلاصتها : هو ان تصدر الشركة وثيقة ( صكاً ) يفيد بيع كمية من السلع المعينة بثمن معين ، يباع لمن اراد على ان يكون حامل الصك هو المالك له. ثم يقوم الحامل للصك بهبته بشرط ان يهب له الموهوب له شيئاً آخر. وعيب هذه الفكرة هو ان الهبة يشترط في

ص: 239

صحتها القبض ولم يكن هناك قبض للبضاعة السلمية. ولكن تساءلنا عن امكان أن يهب حامل الوثيقة القيمة العرفية لهذه الوثيقة بما تحمل من قدرتها على تحقق البضاعة السلميّة ، ويكون تسليمها هو تسليم لقيمتها كهبة الدينار والدرهم ؟

كما طرحنا فكرة ان يوكِّل صاحب الصك شخصاً في استلام البضاعة السلمية في وقتها وكالة غير قابلة للعزل ويوكّله في التصرف فيها بأي أنواع التصرف حتى الاتلاف والاكل والبيع ، وهذه الوكالة بهذه الصورة لها قيمة ، فيتمكن الموكل ان يأخذ قيمة هذه الوكالة فهل بهذه الفكرة نتمكن ان نجعل صكوك السلم قابلة للتداول ؟

وهناك فكرة ثالثة عبارة عن اقتراض صاحب السلعة مقداراً من المال يساوي ثمن البضاعة السلمية ، ثم يقوم صاحب السلعة بمصالحة الدائن عما في ذمته من الدين بما في ذمة بائع السلم ، فان كانت المصالحة عقداً مستقلاً لا ارتباط له بالبيع ، فهل تكون هذه العملية كافية لتداول صكوك السلم ؟

* * *

ص: 240

بطاقات الائتمان

اشارة

ص: 241

ص: 242

نبذة تاريخية للبطاقات المصرفية :

ان البطاقات المصرفية ( اعم من بطاقات الائتمان ) مثل بطاقة الاعتماد والملاءة كان وجودها نتيجة لتطلّع المجتمع الى ايجاد نظام متطور ومأمون لتسديد الديون والمقاصة وانجاز التبادلات التجارية. وكان هذا الحديث قد زامن مطلع القرن التاسع عشر ، وقد ابتكرته شركات عالمية مثل شركة « سترن يونين » في امريكا سنة 1914 م لتسهيل اعمال عمالها ثم تبعتها على ذلك شركات النفط وسكك الحديد وبعض الفنادق الفخمة والمحلات التجارية ، ولكن ضمن حدود خاصة ولبعض العمال. وفي سنة 1924 م قامت شركة « جنرال تبروليوم كوربوريشن » في كاليفورنيا باصدار اول بطاقة ائتمان حقيقية ، توزع على الجمهور لدفع قيمة البنزين المباع لهم ، على ان تسدد المبالغ المترتبة عليهم في تواريخ لاحقة.

ثم تقدمت البنوك - نتيجة نجاح فكرة الدفع بالبطاقة الائتمانية - لاصدار بطاقات الائتمان ، وتشكلت منظمة غير ربحية تنضوى تحت لوائها البنوك التي ترغب باصدار بطاقة خاصة بها وسميت هذه المنظمة « الفيزا » (1).

ص: 243


1- الفيزا : منظمة ، تقبل بطاقة الائتمان المرتبطة بها اكثر من مائة وستين دولة حول العالم ، وبعبارة اخرى تقبل بطاقة الائتمان المرتبط بهذه المنظمة اكثر من ستة ملايين مؤسسة ، تشمل شركات الطيران والفنادق والمطاعم والمحلات التجارية والنوادي ووكالات تأجير السيارات وغير ذلك.

وكانت مهمة منظمة الفيزا ما يلي :

1 - قبول طلبات البنوك في اصدار بطاقة خاصة بها او رفضها.

2 - تزويد البنوك الاعضاء بالخبرة الفنية لاصدار البطاقات.

3 - تقديم الخدمات بين البنوك الاعضاء في حالات المراسلة الخاصة بالمنظمة والمقاصة والتسديد وفي عمليات التفويض.

4 - تطور خدمات البطاقات مع تزويد البنوك الاعضاء بها.

والخلاصة : ان « منظمة الفيزا » تسعى لخدمة البنوك الاعضاء التي تصدر البطاقة لهم من الناحية الادارية والفنية والخدماتية وتتكون ادارتها من ممثلي البنوك الاعضاء.

ما هي بطاقات الائتمان ؟

ان بطاقة الائتمان : هو سند يعطيه مصدره لشخص طبيعي او اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء او بيع السلع ، او غيرها من الحصول على الخدمات او تقديمها.

ومن فوائده : سحب النقود من البنك على حساب المصدّر.

وهذا التعريف لبطاقات الائتمان عبارة عن عقدين :

1 - عقد بين المصدّر للبطاقة وبين الحامل لها ، يتضمن حدّاً اقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما ، فالبنك تعهد باعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة مثلا ( من حساب العميل ان وجد ، او من حساب البنك المصدّر ان لم يوجد للعميل رصيد كاف عند البنك ) ، وفي مقابل ذلك تعهد حامل البطاقة ( العميل ) بالسداد في وقت محدد كشهر مثلا.

ومن الواضح هنا ان هذا العقد هو عقد صحيح يشمله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لعدم اختصاص الآية بالعقود التي كانت وقت نزولها بل تشمل كل ما يراه العقلاء

ص: 244

عقدا وعهدا مالم ينه عنه من قبل الشارع ، والمفروض عدم النهي هنا لعدم الضرر ( الخطر ) وعدم الجهالة اللذان يبطلان العقد ، حيث ان البطاقة مشتملة على سقف ائتماني معين لا تتعدّاه ، فلا خداع ولا خطر في البين. فان حصل الشراء او تلقّى الخدمة او سحب نقداً معيناً فان الوثائق التي تدل على هذه الامور قد تبادلت بينهما وعلم كل منهما بما هي وظيفته. ثمَّ : ان هذا التعهد من البنك للحامل هو عبارة عن اداء دين شخص نيابة عنه ، فاذا تعهد البنك اداء دين حامل البطاقة بمال نفسه او بمال البنك المصدّر ويرجع عليه بعد ذلك ، مع اجرة على هذا التسديد والاداء وقد قبل حامل البطاقة هذا التعهد ، فان هذه العملية هي من مصاديق العقود العقلائية ، وقد قام الارتكاز العقلائي على ان كل عقد بما انه عقد وعهد ، وجب الوفاء به مالم يندرج تحت احد النواهي المعينة.

وبعبارة اخرى : ان هذا التعهد من البنك لحامل البطاقة هو عبارة عن جعل مالية المال المشتري مثلا في عهدة مصدّر البطاقة ، وهذا معنى مشروع للضمان يمكن انشاؤه مستقلا.

2 - عقد بين المصدّر للبطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات ومصارف ، يتضمن شروط العلاقة بينهما ، والعلاقة هي ان يقوم البنك باعطاء التاجر ثمن البضاعة او الخدمة التي قدمها الى حامل البطاقة. محسوماً منها نسبة معينة ، وقد تبلغ البطاقة حداً من الاعتبار تبيح لكل احد بيع السلع او تقديم الخدمات لحامل البطاقة بلا حاجة الى عقد ينشاً بينهما. ويكون الدافع لثمن البطاقة نائباً عن المصدّر لها حسب ضمانه لقيمتها.

وقد ذكروا (1) عدم وجود أي صلة بين حامل البطاقة والمؤسسة التجارية

ص: 245


1- هو الدكتور عبدالستار ابوغدّة عند عرضه لبحث بطاقات الائتمان ، في مجمع الفقه الاسلامي في دورته السابعة لسنة 1412 ه في ذى القعدة الحرام المنعقد في جدة.

بحيث لو فرضنا ان المؤسسة التجارية لم تحصل على الثمن من المصدّر للبطاقة ، فلا يحلّ لها ان ترجع على الحامل للبطاقة لتسديد حقه. وسوف يتضح ان العمل الخارجي لهذه البطاقات ليس كذلك ، بل هناك ارتباط ثالث بين المؤسسة التجارية والعميل لم يظهر للخارج لوجود البنك الذي يتولى التسديد بما أنه ضامن للعميل ( او محال عليه من قبل العميل ) قيمة ما اخذه وهنا لابدّ لنا من تفسير الضمان ( او الحوالة ) بما قاله الامامية من انه : عبارة عن نقل الدين من ذمة العميل الى ذمة البنك المصدّر للبطاقة حتى يكون العميل بعد شرائه اجنبيا وليس مديناً للمؤسسة التجارية. اما على تفسير اهل السنة الذى يقول بان الضمان عبارة عن ضم ذمة الى ذمة ، فيبقى العميل له ارتباط بالتاجر ، ويتمكن التاجر أن يرجع عليه في تسديد الثمن.

اطراف بطاقات الائتمان :

ذكروا ان لبطاقات الائتمان اطرافاً هي :

1 - شركة عالمية او بنك عالمي يرعى البطاقة.

2 - وكالات محلية للشركة العالمية ، او فروع للبنك العالمي تستخدم للوساطة بين الشركة العالمية والعملاء.

3 - اصحاب المتاجر ( المؤسسات التجارية ) والخدمات ( وهم من يتعاملون مع هذه البطاقة ).

4 - حملة البطاقة ، وهم العملاء الذين يشترون او يحصلون على خدمات البطاقة قدر حاجتهم ،

والعلاقة بين هذه الاطراف الاربعة بصورة مجملة كالآتي :

الف - تتفق الشركة العالمية مع الوكالات المحلية ( او يتفق البنك العالمي مع فروعه ) لاصدار البطاقة لكل من يتعامل بها سواء كان عضوا مشترياً ، او طالباً

ص: 246

لخدمة ، او عضوا بائعاً او عارضاً للخدمة.

ب - يتقدم حامل البطاقة ( المشتري ) الى صاحب المتجر ( البائع ) او يتقدم من يريد الخدمة فيتسلم ما اراد لقاء الالتزام بالدفع عن طريق الشركة او البنك بتوقيع القسيمة مع اعطاء صورة البطاقة ( مشخصاتها ).

ج - يتقدم صاحب المتجر او الخدمة بالاشعار الموقع من حامل البطاقة الى البنك (1) او الشركة ، وحينئذ يتسلم من البنك العالمي او الشركة العالمية او فروعهما ثمن البضاعة او الخدمة.

د - تقوم الشركة او البنك بارسال صورة المشتريات بالبطاقة للعميل مطالبة اياه تسديد ثمن ما دفعته الشركة او البنك على شكل دفعات منتظمة أو غير منتظمة ، او يقوم البنك بخصم ذلك المبلغ من حساب عميله اذا كان صاحب حساب دائن عند البنك.

ه - اذا تأخر حامل البطاقة ( المستفيد ) عن سداد التزاماته في الفترة المحددة المسموح بها في العقد ، فانه يحسب عليه فائدة من اجل التأخير وهي فائدة مركبة.

و - اذا لم يسدد حامل البطاقة التزاماته وما ترتب عليه فسوف توضع البطاقة في قائمة منع الاستخدام الى ان يتم المحاسبة بين البنك والعميل.

اقسام بطاقات الائتمان :

وتقسم بطاقات الائتمان تقسيمات متعددة بلحاظ اخذ رسوم في مقابلها او

ص: 247


1- قد يكون بنك التاجر الذي يضع التاجر قسيمة البيع عنده ليتسلم ثمنها هو بنك المصدّر ايضا ، فيكون العميل والتاجر كلاهما قد ارتبطا بالبنك المصدّر للبطاقة ، واحيانا يكون بنك التاجر غير البنك المصدّر للبطاقة ، ولكنه مخوّل من قبل البنك المصدّر للبطاقة بتسديد دين التاجر والرجوع عليه ، فحينئذ يقوم بنك التاجر بتسديد قيمة القسيمة ويرجع على البنك المصدّر في الاستيفاء وحينئذ تُقسّم ما يخصمه بنك التجار ( من ثمن البطاقة ) بينه وبين البنك المصدّر كأجر على عملها.

اشتراط فتح حساب لدى البنك ، او تحديد زمن التسديد او غير ذلك ، وعلى هذا فقد تقسم بطاقات الائتمان الى :

1 - بطاقات يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.

2 - بطاقات لا يؤخذ رسوم اشتراك في مقابلها.

وقد تقسم بطاقات الائتمان الى :

1 - بطاقات تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.

2 - بطاقات لا تطلب فتح حساب في البنك الذي يصدرها.

وقد تقسم بطاقات الائتمان الى :

1 - بطاقات توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها.

2 - بطاقات لا توجب الدفع خلال شهر واحد من الاستفادة منها ولا تحدد عليه الدفع فورا بل اذا دفع فورا فهو ، والاّ وضعت عليه فوائد.

وقد تقسم بطاقات الائتمان الى :

1 - بطاقات توجب الدفع الفوري لكل المبلغ لمدة معينة.

2 - بطاقات لا توجب ذلك ، بل تقسط دفع المبلغ الى آجال متعددة.

وهناك بطاقات تقسم حسب امتيازها ، العالي ، والمتوسط ، والعادي ، مثل البطاقة الذهبية والالماسية والخضراء ، فالذهبية تمنح لمن يتمتع بكفاءة عالية من العملاء ، وليست محدودة بسقف ائتماني محدد ، وتتميز بكون صاحبها مضموناً من قبل المصدّر لها والذي عنده حساب دائن فيه.

فائدة بطاقات الائتمان :

لقد اصبح لبطاقات الائتمان في المجتمعات الحديثة شأناً مهماً ، ومن الاساسيات ، اما في البلاد الاسلامية فهي على مستوى بعض الافراد مهمة في سفره ، حيث تحقق له فوائد كثيرة سوف نذكرها فيما بعد ، وهي مهمة جدا بالنسبة

ص: 248

للتاجر الذي يعرض سلعته وخدماته ، كما انها مفيدة للبنك الذي يصدرها. واليك الفوائد مفصّلة شيئا ما :

الف - فائدة البطاقة للعميل :

1 - تحقق للعميل سهولة وأماناً على الاموال من حملها معه ، لأن الأموال قد تتعرض للسرقة او الفقدان ، او يتعرض هو للهجوم والسطو المسلح.

2 - تمكنه من شراء ما يبدو له شراؤه في ظروف مفاجئة لم يستعد لها ، بحمل ما يقابلها من الاموال.

3 - تيسر لحاملها السداد بأيِّ عملة كانت. وبهذا يستريح العميل من اجراءات دخول العملات وخروجها في بعض البلاد التي بها قيود على تحويل العملة او منع خروجها او دخولها.

4 - انها تحمل معها وسيلة المحاسبة وضبط المصاريف وتوثيق السداد للمطالبات.

5 - تزود حاملها بتسهيلات نقدية في أي دولة كان ، ضمن حدود ممنوحة له عند طلبه.

6 - ان بعض بطاقات الائتمان يخوّل العميل سحب نسبة من النقد من فروع البنك الذي يتعامل معه او بنوك اخرى تتعامل معه ، بمراجعة البنك او اجهزة الصرف الآلي او انظمة التحويل الاكتروني. وهنا تؤخذ عمولة تقسم بين شركة البطاقة والبنوك التي لها دور في عملية الاستخدام ان وجدت. وهذه العملية تقلص الوقت الذي يبذل في تحقيق نفس الخدمة يدوياً عن طريق البنوك الفرعية او التي تتعامل مع البنك العالمي لمصدِّر البطاقة الائتمانية.

7 - قد يلتزم التاجر بتخفيض ثمن السلعة ( لحامل البطاقة ) عن السعر السوقي ، حسب الالتزام مع الجهة المصدرة للبطاقة.

8 - ان بعض البطاقات تمنح صاحبها التأمين على الحياة ، كالبطاقات

ص: 249

الذهبية ، وتمنحهم اضافة الى ذلك حدوداً ائتمانية عالية ، وخدمات اخرى دولية فريدة كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية.

9 - ان بعض البطاقات تدفع جوائز وهدايا لعملائها بطريقة القرعة ترغيباً لهم على الحصول على بطاقة الائتمان عند هذا البنك المصدر لها ، فيدفع البنك لمن اصابته القرعة مبلغاً من المال بعنوان الجائزة.

10 - ان ضياع بطاقة الائتمان يوجب ضمان مسؤولية محدودة فقط كمبلغ من المال ، اذا أبلغ الجهة المصدرة بضياع البطاقة فوراً ، حتى لا تستخدم هذه البطاقة من قبل الآخرين بصورة غير مشروعة ، وطبعاً في حالة الاطمئنان بعدم وجود تواطي بين حامل البطاقة ومن استخدمها بصورة غير مشروعة ، وهذا الشرط لا حاجة له ، اذ أنَّ عنوان ضياع البطاقة او سرقتها يكفي لذلك.

ب - فائدة البطاقة للتاجر :

هناك فوائد كثيرة للتاجر يمكن تلخيصها على النحو التالي :

1 - يستقطب التاجر عملاء جدد ، وبنوعية جيدة ، وثقافة عالية.

2 - تخفف على التاجر مخاطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة في متجره ، فيأمن من السرقة او السطو المسلح.

3 - البنك يضمن للتاجر تغطية المبالغ الناشئة من استعمال بطاقة الضمان عند تقديم المستندات بصورة صحيحة ، او على الاقل فان البنك يقدم المبلغ المستحق للتاجر قرضاً ويستوفيه بعد ذلك.

ج - فائدة البطاقة للبنك :

ان البنك التجارى يحصل من البطاقة على دخل له ، وذلك من خلال :

1 - استيفاء رسوم اصدار البطاقة ( رسوم العضوية ) ، ومنحها.

2 - استيفاء رسوم تجديد البطاقة حيث تكون صلاحيتها لسنة واحدة.

ص: 250

3 - رسم تبديل البطاقة عند الضياع او التلف او السرقة.

4 - رسم التجديد المبكر ، وذلك عند طلب العميل تمديدها قبل موعد الانتهاء بسبب سفره عند حلول التجديد.

5 - تحصيل البنك على نسبة من ثمن البضاعة يستوفيها من التاجر ( حسب الاتفاق معه ) عند تسديده لقيمة قسيمة البيع او الخدمة. كما قد يحصل على نسبة من الثمن عند تسديد العميل ما عليه ، كأجر على تسديد البنك دينه الذي للتاجر.

6 - الحصول على فرق سعر العملة الاجنبية ( اذا كان التسديد بها ) عند تحويله عملته المحلية اليها ، فهو يأخذ فائدة بيع الصرف عند ما يسدد بالدولار ويستلم بالدينار.

7 - يأخذ أجراً على وفاء دين العميل خارج البلد أو مطلقا ( حسب قرارات البنك ).

8 - غرامات التأخير عند عدم سداد ما على العميل حسب الوقت المحدد ( الفائدة ).

9 - البنك يحصل على نسبة من الثمن في مقابل استخدام جهازه الآلي ، او نظام تحويله الالكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية ، اذا كانت مخولة لذلك. وهذه النقطة بالذات توفر امكانات ائتمانية جديدة للعملاء مما يجعل زيادة عائدات البنك المصدر للبطاقات الائتمانية.

10 - يأخذ البنك عمولة على دفعه النقود لبطاقة ائتمان اجنبية مرتبطة بمنظمة الفيزا.

كيف تتم المعاملات التجارية ببطاقة الائتمان ؟

ونعرض عليك صورة مفصلة بعض الشيء عن المعاملات التجارية التي تتم بواسطة بطاقة الائتمان وهي تتم ضمن مراحل.

ص: 251

المرحلة الاولى : عند شراء حامل البطاقة سلعة او تلقّي خدمة في أي مكان كان ، فان التاجر او صاحب الخدمة الذي يقبل التعامل بالبطاقة يقوم بتسجيل العملية على قسيمة البيع ويعطي نسخة منها الى حامل البطاقة مع وضع علامة البطاقة على جميع نسخ القسيمة بواسطة آلة بسيطة.

المرحلة الثانية : يقوم التاجر بايداع اصل القسيمة الذي حصل البيع بها في حسابه لدى البنك الذى يتعامل معه لأجل ان يحصّل قيمتها ( سواء كان هو البنك المصدر للبطاقة أوْلا ، كما في بنك التاجر الذي يقوم بعملية تحصيلها من البنك المصدر لها ) فان بنك التاجر يقوم بتقاضي نسبة من ربح التاجر متفق عليها ، بعد ان يضع في حساب التاجر قيمة القسيمة ( مخصوماً منها النسبة التي يتقاضاها من التاجر حسب الاتفاق ) ضمن ثلاثة ايام ويتبع المصدر نفسه مباشرة او عن طريق منظمة ( الفيزا ) لتسوية الحساب مع عميله فيرسل بيان قسيمة البيع مفصلة ، فيذكر وقتها ومكانها وكميتها ، ويطلب من بنك المصدّر للبطاقة التسديد.

واما اذا كان البنك واحدا وهو بنك المصدر للبطاقة فهو الذى يضع في حساب التاجر المبلغ مخصوماً منه نسبة من الثمن حسب الاتفاق كأجر على عمله مثلا.

تنبيه :

اذا كانت بطاقة الائتمان لها حداً على مشار اليه ، وكان مبلغ قسيمة البيع يزيد على الحد المشار اليه او كان هناك تردد في صحة الامور المذكورة في بطاقة الائتمان لاحتمال التلاعب فيها او اشباه ذلك ، فان هذا يستلزم من التاجر أن يأخذ الموافقة من البنك المصدر للبطاقة على انجاز هذه العملية ، بواسطة نظام الاتصالات المتبع والذي يتم خلال عدة دقائق بواسطة شبكة الكترونية ، بشرط سرعة الرد على طلب الموافقة.

وقد تزود نقاط البيع وتقديم الخدمات بآلات التفويض ، وهي اجهزة

ص: 252

الكترونية قارئة للشريط المغناطيسي على البطاقة ، ومربوط بالجانب الآلي ( ترمينال ) ، اذ يقوم هذا الجهاز بمجرد امرار البطاقة فيه ، ووضع الرقم السري للعميل بالاتصال بمركز التفويض في بنك التاجر الذي يقوم بدوره بتحويل الاتصال آليا الى البنك المصدر مباشرة او بتوسط « منظمة الفيزا » ، وذلك للحصول على التفويض بقبول العملية او رفضها وفق معايير البنك المصدر ، وياتي الرد آلياً من نفس القنوات.

نعم هناك تفويض عالمي لاستخدام البطاقة الائتمانية وقبولها من قبل التاجر دون الرجوع الى البنك المصدرلها ، لأجل الحصول على تفويض بقبولها بشروط هي :

1 - ان لا يكون تا ريخ البطاقة قد انتهى.

2 - ان يكون توقيع وشخصية العميل مطابقة لبيانات البطاقة ( اي غير محتملة التزوير ).

3 - ان لا تكون البطاقة مذكورة في نشرة البطاقات المطلوب حجزها.

المرحلة الثالثة : وعند وصول بيان قسيمة البيع للبنك المصدر للبطاقة فانه تجري عملية التسديد يومياً. فلو فرضنا أن بنك التاجر غير البنك المصدِّر للبطاقة ، فان بنك التاجر سوف يوضع في حسابه قيمة القسيمة ويخصم من حساب بنك المصدّر هذا المبلغ في نفس اليوم ، وهذا يتم وفق نظام كفوء ودقيق.

وهنا لا بأس بالاشارة الى ان بنك المصدر للبطاقة يأخذ عمولة ( 1 % ) او أكثر (1) او اقل على قسيمة الشراء الصادرة من حامل البطاقة. وقد تكون هذه العمولة على حصول عملية الشراء خارج البلاد الذي فيه البنك المصدّر للبطاقة فقط ، وقد تكون شاملة.

ص: 253


1- ذكر البعض ان هذه العمولة تتراوح بين ( 4 - 6 % ) من قيمة القسيمة. وقد ذكر بيت التمويل الكويتي اخذ العمولة من العميل في صورة وقوع الصفقة خارج البلاد فقط. ، راجع بحث بطاقات الائتمان الصادرة عن دار التمويل الكويتي.

المرحلة الرابعة : اذا سحب صاحب البطاقة نقداً من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة مع بنكه ، ( مباشرة او عن طريق اجهزة الصرف الآلي المشتركة ) يقوم البنك المصدر للبطاقة بتسديد المبلغ المسحوب من البنك الخارجي نيابة عن العميل ، على ان يحصّلها من حساب العميل ( صاحب البطاقة ) فيما بعد ، ويأخذ البنك المصدر عمولة ( 1 % ) او اكثر او اقل لقاء سحب النقود في الخارج بواسطة البطاقة.

التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان :

هل يوجد تكييف شرعي لهذه البطاقات ؟

الجواب : ان هذا هو البحث المهم والاساسي في هذه القضية.

فنقول : اننا نؤمن بأنَّ صيغ المعاملات المالية في الفقه الاسلامي تتسع لاستيعاب المستجدات العصرية بشرط دخولها في صيغة واحدة معروفة ، او دخولها في صيغ مركبة ، او شمول القواعد في العقود لها اذا اتوفرت اركانها ، وعدم وجود أي محذور يؤدي الى بطلانها او حرمتها.

وهنا نريد ان نعرف ان ما يدفعه التاجر او المقدّم للخدمة ، وما يدفعه حامل البطاقة للبنك ، او ما يأخذه البنك منهما معاً في حالات مختلفة ، هل يدخل تحت عنوان معروف محلل ؟ او صيغة مركبة تجمع اكثر من عقد محلل ؟ او يدخل تحت القواعد العامة للعقود ؟ اولا يدخل في شيء من هذه الصيغ المحللة ، بل يدخل في الصيغ المحرمة الربوية ؟

ونحن نحتاج هنا الى سرد عمليات البنك المستفيد من هذه البطاقات لنرى حكمها :

1 - رسم العضوية ( الاشتراك ) :

وهذا هو المبلغ الذى يدفعه العميل عند منحه بطاقة الائتمان ، ويدفع مرة

ص: 254

واحدة فقط.

ويمكن تكييف هذا على اساس انه اجر على عمل او منفعة تؤديه شركة البطاقة ووكلائها لحامل البطاقة فهو عبارة عن تقديم خدمة مصرفية لقاء اجر معلوم ( والخدمة هي تمكين العميل من شراء وبيع السلع او الحصول على الخدمات او تقديمها ، وعملية سحب نقدي باليد من فروع البنوك الاعضاء المشتركة في مؤسسة الفيزا أو من اجهزة الصرف الآلي التابعة للبنوك المشتركة ).

وبعبارة اخرى ان رسم الاشتراك هو أجر مقطوع لقاء اجراءات قبول طلب العميل للحصول على البطاقة ، واجراءات فتح الملف ، وتعريف الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها ، وما الى ذلك من امور تتعلق بالخدمة للعميل ، فهو يقدم أجراً ثابتاً على هذه الخدمات والتسهيلات التي تقدم له.

وقد ذكر البعض ان هذا الرسم في بعض البنوك يكون عبارة عن مائة وعشرين دولاراً في السنة.

2 - رسم التجديد :

وهو رسم سنوي يدفعه العميل حين تجديد بطاقته ، حيث ان البطاقة سارية المفعول لمدة سنة واحدة. وايضاً يمكن تكييف هذا على اساس التكييف المتقدم في رسم العضوية ، لأنَّ الخدمة لرسم الاشتراك تنتهي بانتهاء السنة ، وتحتاج الى اجراءات اخرى لتمديد فترة تقديم الخدمة للعميل.

3 - رسم التجديد المبكر :

وذلك عند طلب العميل تجديد بطاقته قبل موعد الانتهاء بسبب سفره عند حلول التجديد وتكييف هذا الرسم يندرج في رسم التجديد وان كانت قبل موعده ، لان كافة الاجراءات التي يقوم بها البنك عند اجل التجديد يقوم بها عند طلب العميل تجديد بطاقته قبل موعد انتهائها.

ص: 255

4 - رسم استبدال البطاقة عند الضياع او التلف او السرقة :

وهذا الرسم ينبغي ان يكون اقل بكثير من رسم التجديد ، حيث ان رسم التجديد يحتوي على اجراءات تعريف الجهات الخارجية التي سيحتاج التعامل معها ، بينما رسم استبدال البطاقة يتم فقط في صدورها من البنك الذي قد أتمَّ اجراء التعريف للجهات الخارجية ، وهذا الرسم معقول لانه في مقابل خدمات اصدار البطاقة الذي يحتاج الى اجراءات وان كانت بسيطة. وهذه الاجراءات البسيطة هي صحيحة في صورة تلف البطاقة امام عين صاحبها او تحريقها ، اما اذا ضاعت او سرقت ، فقد يقال بان الاجراءات التي يقوم بها البنك هي نفس الاجراءات السابقة ، اذ يقوم بابلاغ الجهات الخارجية بسرقة البطاقة او ضياعها ويطلب منهم عدم التعامل مع القسيمة التي تأتي حاملة هذا الرقم. ثم اذا طلب العميل استبدال رقمه بوضع مميّز له مثلا ، فان البنك سوف يقوم بعملية الاعلام الخارجي للبنوك التي يتعامل معها ، وبهذا سيكون الاجر الذي يتسلمه من استبدال البطاقة عند الضياع او السرقة هو اجر رسم التجديد.

5 - اخذ البنك نسبة من ثمن البضاعة او الخدمة :

انّ البنك ( حسب اتفاقه مع التاجر ) يخصم نسبة من اثمان البضائع والخدمات التي يستوفيها التاجر من البنك عند تسديد البنك قيمة قسيمة البيع او الخدمة ، سواء كان عند العميل رصيد في البنك ام لم يكن ، وهنا ياتي التساؤل عن التكييف الشرعي الفقهي لذلك ؟

وقد عرضت هنا عدة تكييفات شرعية لذلك ، نعرض اهمها :

التكييف الاول ( قرض من مصدّر البطاقة للعميل وعمولة من التجار ) :

قيل « ان بطاقة الائتمان عبارة عن فتح اعتماد للعميل لشراء ما يحتاجه على ان يقوم بسداد القيمة في موعد محدد ، فيكون المبلغ قرضا من مصدّر البطاقة لعميله

ص: 256

لقاء عمولة من المحلات والتجار » (1).

نقول : اذا كان الامر كما ذكر سابقا ( من ان البنك ياخذ نسبة من ثمن البضاعة او الخدمات عند التسديد للتاجر ، سواء كان في رصيد العميل ما يكفي لثمن البضاعة أوْلا ) فهو يدل دلالة واضحة على انّ ما يأخذه البنك ليس هو في مقابل قرض العميل في صورة عدم وجود حساب دائن عند البنك للعميل ، والا فلماذا يأخذ البنك نفس النسبة اذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك يكفي لثمن البضاعة ؟

نعم اذا كان هذا التكييف هو في صورة عدم وجود رصيد دائن لدى العميل عند البنك فيمكن ان يكون ما يأخذه البنك من ثمن البضاعة في مقابل القرض ، كما يمكن ان تكون عمولة من اصحاب المحلات والتجار للبنك على قيامة بعملية تسديد الدين وكالة عن العميل. ولكن يرد على هذا التوجيه ارتكازية ان تكون العمولة على تسديد الدين هي من قبل المدين الذي قام البنك بالتسديد عنه ، بينما نجد ان العمولة يدفعها التاجر للبنك ، فاذا اضفنا الى ذلك عدم اعطاء التاجر هذه العمولة للبنك ان لم يقم بعملية الاقراض للعميل ، يتضح انّ ما ياخذه البنك من ثمن البضاعة هو في مقابل القرض للعميل ، وقد استفدنا من ادلة حرمة القرض الربوي عدم جواز الزيادة على المال المقترض للمقرض سواء كانت الزيادة من المقترض او غيره ، وسواء كانت الزيادة للمالك او لغيره ، اذ إن الروايات اشترطت ارجاع نفس المال المقترض ليس الا.

التكييف الثاني ( عمولة على تحصيل الثمن من العميل لدفعه الى اصحاب المحلات ) :

ان هذه النسبة التي تحصل عليها شركة البطاقة من اصحاب المتاجر

ص: 257


1- بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي ، د. عبدالستار ابوغدة ، ص 5.

والخدمات هي عمولة على تحصيل الثمن من العميل - حامل البطاقة - لدفعه الى اصحاب المحلات والخدمات مع مراعاة ان العملية فيها تقديم وتأخير اقتضاهما سهولة اداء المهمة المزدوجة وهي : تحصيل قسيمة البيع واداء المبالغ لمستحقها ، فقد بادرت شركت البطاقة بالدفع - من طرفها - لقيمة قسيمة البيع الى اصحاب المحلات والخدمات ، ثم تقوم بتحصيلها من حاملي البطاقات ، وهذه المبادرة من شركة البطاقة لأجل ضبط التزامها مع اصحاب البضائع والخدمات ، اذ لا تستطيع شركة البطاقة ضبط مواعيد التحصيل من العملاء ، في حين انها يمكنها التحكم فيما تدفعه من عندها ثم تقوم بتحصيله. ومن الواضح شرعاً جواز اخذ اجر معلوم متفق عليه مع كل من تحصيل الدين من المدين لدائنه ، أو توصيله الى الدائن من قبل المدين ، وما يجوز اخذه من الطرفين ، يجوز اخذه من احدهما كما هو الحال في عمولة السمسرة ، اذ يجوز اشتراطها على كل من البائع والمشتري ، او على واحد منهما فقط (1).

اقول :

اولا : ان هذا الوجه خارج عن العلاقة التي ذكرناها بين البنك والعميل من كون البنك ضامنا لما يشتريه او يتلقاه العميل ، بل افترض هذا الوجه ان البنك ليس ضامنا ولا متعهدا لما يشتريه العميل بل البنك يقوم بعملية اقراض للتاجر ويسعى لتحصيل ما دفعه من العميل للتاجر.

وثانياً : ان هذا التكييف يتوجه لصورة ما اذا لم يكن لدى العميل رصيد دائن كاف لما اشتراه ببطاقته ، فيقوم البنك المصدّر بالدفع الى التاجر كقرض حسن ، ثم يحاول استيفاء ثمن البضاعة من العميل للتاجر.

وعلى كل حال : لابدّ لنا من معرفة ان القصد الحقيقي للبنك هل هو اخذ

ص: 258


1- المصدر السابق.

النسبة من ثمن البضاعة في مقابل تحصيل الدين من العميل الى التاجر ، وليس له اي ارتباط بالثمن الذى قدمه للتاجر ، أو أن الامر بالعكس ، اذ يكون مرتبطا بالثمن الذي قدمه للتاجر وكان عنوان العمولة على تحصيل الدين عنواناً يتستر تحته الربا ؟

نقول : قدتذكر منبهات (1) على ان القصد هو ربوي تستَّر تحت الاجرة ، منها :

1 - اننا اذا قبلنا ان تحصيل الثمن من العميل صاحب البطاقة وتسليمه الى اصحاب المحلات عملية لها اجر يقوم بها البنك لامكاناته المتوفرة والعالية ، وان ما يقوم به البنك من تسديد الثمن الى اصحاب المحلات قبل حصوله عليه هو لاجل ضبط التزامات البنك مع اصحاب البضائع والخدمات ، فيكون دفع البنك للثمن مقدماً الى اصحاب البضائع والخدمات هو قرض حسن ، وقبلنا ان الاجرة يمكن ان تكون نسبة من الثمن حيث انها مرتبطة بالمنفعة التي يقدمها البنك للتاجر. اننا اذا قبلنا كل هذا يبقى لنا ان نتسائل فنقول : هل تؤخذ هذه النسبة من التاجر حتى في صورة عدم تقديم البنك قرضاً الى التاجر ، أو أن هذه النسبة انما قبلت ( كاُجرة على تحصيل الدين من العميل ) في صورة تقديم البنك القرض الى التاجر ؟

والجواب : إن كانت الاجرة واحدة في الصورتين ، فالقصد هو غير ربوي ، واما اذا اختلفت الاجرة في الصورة الاولى عن الثانية ، فيتبين ان العملية ربوية

ص: 259


1- إنَّ المنبهات التي نذكرها الآن لمعرفة القصد الحقيقي للبنك عن أخذ نسبة من ثمن السلعة ، وإن لم تكن واقعة في الخارج ومقصودة إلاّ أنها تنبّهنا الى القصد الحقيقي ، فهي مثل ما حدث في زمان الإمام علي علیه السلام عندما تنازعت اليه امرأتان في مولود ، كلٌّ تدّعيه ولا بينة ، فقال علیه السلام : يا قنبر اقسمه نصفين ، فقالت من كان الوليد لها حقيقة : لا يا علي ، دعهه لها ، بينما قبلت الثانية التنصيف. فبهذا الأمر ( الذي قاله الإمام اللّه مع عدم كونه حقيقياً ) عرف الإمام الأم الحقيقية ، فهنا أيضاً كذلك نريد ان نعرف القصد الحقيق لأخذ البنك نسبة من الثمن من التاجر، هل هي في مقابل عمله أو في مقابل الثمن الذي اعطاء والأجل الذي أجل اليه ؟

فيخرج القرض عن كون قرضاً حسناً ، بل يكون قرضا جرّ نفعاً ، حيث ان القرض اذا لم يكن موجودا تكون الاجرة على تحصيل الدين من العميل اقل بكثير من صورة وجود القرض للتاجر من البنك ، ومثل هذا ما اذا أجَّرتُ بيتي اليك بأقل من ثمن المثل ، فهو عقد صحيح لكنه اذا اقترن بقرض كمية من النقود على وجه الالتزام ( بحيث لولا القرض لما اوجر بالاقل ) يكون ربويا. فهنا كذلك.

وبعبارة اخرى : ان اخذ البنك نسبة من ثمن القسيمة اذا اقترن بعملية قرض للتاجر بحيث لولا هذه العملية القرضية لا يقدم التاجر على اعطاء هذه النسبة من الثمن الى البنك ، ينبهنا الى ان النسبة من الثمن هي مرتبطة واقعا بالثمن الذي قدمه البنك الى التاجر ، ولكنها غُطّيت تحت الفاظ عمولة تحصيل الدين من العميل الى التاجر.

2 - اذا فرضنا ان البنك لم يتمكن من تحصيل الثمن من العميل ، فهل يسترجع البنك ما اقرضه فقط - وهو اقل من ثمن الضاعة - او يأخذ من التاجر ثمن البضاعة كاملة ؟

الجواب : فان اخذ ما دفعه فقط ، فقصده هو قصد حسن ليس فيه شائبة الربا ، اما اذا اخذ الثمن كله من دون خصم اجرة تحصيل الدين ، فهو منبه واضح على ان الذي خصمه بعنوان اجرة تحصيل الدين هو ربا تستَّر بالاجرة.

3 - اذا افترضنا ان العميل على قسمين :

أ - قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن شهر واحد من حين الشراء.

ب - قسم يحمل بطاقة يسدد فيها ثمن ما يشتريه في ضمن ثلاثة اشهر.

فهل البنك يوافق على القرض للتاجر في كلا البطاقتين من دون أن تزداد النسبة التي يأخذها من التاجر عند البيع لكل منهما حتى يكون ما يدفعه البنك الى التاجر هو قرض حسن وما يأخذه من ثمن البضاعة منهما هو اجرة على تحصيل

ص: 260

الدين من العميل الى التاجر ، او ان البنك يفاوت بين القسمين ، فيأخذ من التاجر في الصورة الثانية اعلى على تحصيل الدين من الصورة الاولى ؟

فاذا اختلفت الاجرة في الصورتين ، فمعنى هذا ان العملية ليست كما صوّرت من القرض الحسن بل النسبة التي اخذت من ثمن البضاعة هي فائدة على تقديم الثمن الى التاجر.

اذن خلاصة كلامنا : لابد من توجيه هذه الاسئلة للبنك فيُنظر في اجابته ، حتى نعرف قصد البنك الحقيقي عند اخذه للنسبة من الثمن بعنوان الاجرة على تحصيل الدين مع تقديمه القرض للتاجر ، وعلى اجابات البنك يكون الحكم الشرعي واضحا.

التكييف الثالث ( اجر على قبول البنك لضمان العميل ) :

قيل ان البنك انما يقدم ثمن البضاعة الى التاجر لانه تعهد من الاول ان يدفع ثمن السلعة المشتراة من قبل حامل البطاقة ، فهو يكون ضامناً لما يتلقاه العميل من المؤسسة التجارية ، فينتقل ما في ذمة العميل من الدين الى البنك المصدّر للبطاقة. وعلى هذا فلا توجد هنا عملية اقراض للتاجر بل في الحقيقة هي عملية اقراض للعميل بقبول البنك ضمانه مع طلبه ، فيرجع البنك على العميل بما دفعه الى التاجر. وعلى هذا يكون اخذ البنك المصدّر للبطاقة نسبة من ثمن البضاعة اجرا على قبول البنك للضمان ، وليس هو تنازلا من التاجر الى الضامن حتى يقال بان البنك لا يتمكن ان يرجع على العميل الا بما اداه الى التاجر.

وقبول الضمان هذا وان كان عقداً ارفاقيا للعميل لا يجوز اخذ الاجرة عليه منه ، الا انه ليس عقدا ارفاقيا للتاجر ، فيمكن للبنك ان يأخذ نسبة من الثمن لقاء قبوله الضمان للتاجر عن العميل.

وهذا الوجه لا يفرق فيه بين ان يكون للعميل رصيد في البنك يكفي للمشتريات ولتلقي الخدمات ام لا ، لانه حتى اذا كان عند العميل رصيد عند البنك

ص: 261

فهو دائن للبنك ، الا ان الدائن يتمكن ان يضمن المدين لغيره. وسوف تأتي مناقشة هذا الوجه فيما بعد.

التكييف الرابع ( اجر على قبول البنك للحوالة من العميل على البنك للمحتال وهو التاجر ) :

وقد يقال : ان العميل عندما يشترى من التاجر ويوقِّع قسيمة البيع ، فيكون قد احال التاجر على البنك المصدّر للبطاقة ، ومن حق البنك المصدّر للبطاقة ان يقبل الحوالة عليه بشرط ان يأخذ نسبة من الثمن ، اي للبنك ان لا يقبل الحوالة الا اذا التزم التاجر باداء مبلغ الى البنك عمولة على قبوله الحوالة. وبما ان التاجر له نفع في قبول البنك للحوالة عليه ، فمن حق البنك ان يأخذ اجرة مقابل هذا النفع الذي قدمه للتاجر (1).

وهنا ايضا نقول كتتميم لهذا الوجه : ان قبول الحوالة من قبل البنك وان كان عقد ارفاقيا للمشتري لا يحق ان يأخذ منه في قباله اجرا ، الا ان هذا العقد ليس ارفاقيا بالنسبة للتاجر ، فيحق للبنك ان يأخذ في مقابل قبوله الحوالة اجرا من المحتال.

ويرد على هذا الوجه بالخصوص : ما اذا كان للعميل رصيد دائن عند البنك ، فمن حق العميل ان يحيل التاجر على البنك ليأخذ من حساب العميل ، وفي هذه الصورة يقول الفقهاء : « يجب على البنك ان يدفع الى التاجر من حساب العميل لانه مدين للعميل ، ويجب على البنك اداء الدين للعميل او الى من يحوّله عليه » ، وعلى هذا فلماذا يأخذ البنك عمولة على قبوله الحوالة حتى في هذه الصورة ؟

وقد يجاب على هذا الاشكال : بان يقول البنك الذي هو مقترض من صاحب الحساب حسب الفرض : « انما اقبل منك ايها العميل الاقتراض بشرط ان

ص: 262


1- ان هذا التكييف قَبِلَهُ اكثرية اعضاء مجمع فقه اهل البيت : وهو رأي ارتآه رئيس المجمع آية اللّه الشيخ محمد المؤمن عند بحثه لبطاقات الائتمان في مجلس درسه في قم المقدسة.

لا تحيل عليّ » وبهذا لا يجب على البنك قبول الحوالة بحسب الشرط ، فاذا احال العميل على البنك ، فللبنك ان يقول للمحتال : انا اقبل الحوالة عليّ بشرط ان تلتزم بدفع نسبة من الثمن.

والخلاصة : فان هذا الوجه يجوّز للبنك ان يأخذ اجرا من المحتال على قبوله الحوالة الّتي حوّلت عليه من قبل العميل.

ويرد على هذا الوجه والوجه الثالث ما يلي :

1 - ان هذا التسهيل الذي اعطاه البنك للتاجر حين صدور البطاقة ، وتعهد بضمان العميل وقبول حوالته ، قد اخذ عليه اجراً سميناه رسم صدور البطاقة ، فان البطاقة التي تصدر ، لها خدمات مصرفية ، منها :

ان البنك ضامن لما يشتريه العميل من المؤسسات التجارية ، وما يستفيده من اصحاب الخدمات ، او قل ان البنك يقبل حوالة العميل اذا حوّل على البنك التجار او اصحاب الخدمات ، وعلى هذا فكيف يجوز للبنك ان يأخذ على نفس هذا العمل أجراً مرة ثانية ؟

ولو اُجيب عن هذا الاشكال بان رسم الاشتراك ليس هو في مقابل الخدمة الممنوحة ومقدماتها المتمثلة في : « شراء السلع والخدمات وعملية السحب النقدي من فروع بعض البنوك الاعضاء او من اجهزة الصرف الآلي التابعة لها ومن قبول طلب العميل واجراء فتح الملف وتعريف الجهات الخارجية التي سيحتاج الى التعامل معها وبيان حدود الاستخدام وما الى ذلك من امور تتعلق بالخدمة » (1) بل ان رسم الاشتراك يكون في مقابل مقدمات الخدمة الممنوحة بالبطاقة ، اما نفس الخدمة الممنوحة بالبطاقة لقبول الحوالة من قبل البنك فهو عمل يصح اخذ الاجرة عليه ، فياتي الاشكال الآتي.

ص: 263


1- راجع بطاقات الائتمان ، بيت التمويل الكويتي ص 30 - 31.

2 - ان الارتكاز العرفي والعقلائي يقول : ان عملية الاقتراض او قبول الحوالة على المحتال عليه ، او قبوله لعملية الضمان ليست مما تقابل بالمال ، لا من المقترض ولا من قبل المسدّد له. بل ان العمولة حقيقة هي بازاء المال المقترض لا في مقابل نفس الاقتراض او نفس الضمان او قبول الحوالة ، وجعل العمولة في مقابل عملية الاقراض وقبول الحوالة والضمان هي مجرد لفظ فقط.

3 - ثم لو فرضنا ان البنك والتاجر قد تحررا من الارتكاز العقلائي المتقدم ، وجعلت نسبة الثمن في مقابل قبول الحوالة والضمان ، فهل هي صحيحة ؟

الجواب : انها غير صحيحة ، وذلك : لان النسبة من الثمن الذي هي اجر انما تصح اذا كان في مقابلها عمل قام به البنك قابل للضمان. اما مالا ضمان له من الالفاظ والاعمال فلا يصح اخذ الاجرة في مقابله ، وهنا نقول : ان مالية قبول الضمان وقبول الحوالة هي نفس مالية المال المعطى الى المؤسسة التجارية ، وليس لقبول الحوالة والضمان مالية مستقلة زائدة عن المال المعطى الى التاجر ، وهذا المال المعطى الى التاجر مضمون على العميل ، فلا يصح اخذ اجرة على نفس عملية قبول الضمان او الحوالة.

اذن تبين انه ليس عندنا الامالية واحدة وهي ( المال الذي يعطيه البنك المصدّر للتاجر ) وهذه المالية تضاف الى قبول الحوالة او الضمان باعتبار نفس المال الذي يعطى الى التاجر ، وحينئذ ليس عندنا الاضمان واحد وهو ضمان المال المقترض للعميل وقد سدد الى التاجر ، اذن لا يصح اخذ اُجرة عليه ولو من قبل التاجر ، فانه اما أكل للمال بالباطل او انه قرض للعميل مع اخذ فائدة من التاجر ، وهو محرم لان القرض لا يشترط فيه الا ارجاع نفس المال المقترض.

التكييف الخامس ( اجرة سمسرة الى البنك المصدّر للبطاقة ) :

إنَّ البنك المصدّر للبطاقة للعميل وللمؤسسة التجارية ، يقوم بجملة اعمال تنفع الطرفين. فهو يقوم بعملية ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية ، اذ يؤمِّن

ص: 264

لهم زبائن من الدرجة الاولى ويحصّل لهم الدين ، كذلك يقوم بتقديم منفعة للعميل ، اذ يمكّنه من شراء او تلقي الخدمات في اماكن بعيدة من دون ان يقدم النقد لهم بالفعل ، ويسهِّل عليه كثيراً من الصعوبات التي تنجم من حمل النقود معه ، فالبنك يتمكن ان يأخذ عمولة سمسرة من الطرفين او من التاجر فقط لقاء هذه المنافع التي يقدمها لهم اذا حصلت صفقات بيع او تلقي الخدمات في الخارج. اما الضمان الذي يوجد في بعض الحالات ( كما اذا كان العميل ليس له حساب دائن لدى البنك ) فلا اثر له وذلك لانه لا تزداد العمولة في مقابله.

اذن يكون ما يأخذه البنك من المؤسسات التجارية هو اُجرة سمسرة عن كل عميل يقوم بالانتفاع من هذه البطاقة بالفعل ، وهذا الوجه يصحح ايضا ما يأخذه البنك من العميل كنسبة على مشترياته وانتفاعه ايضا. وهذه الاجرة تختلف عن اجرة رسم الاشتراك التي هي ثمن للبطاقة وخدماتها الممكنة سواء استفاد منها التاجر او العميل ام لا اما هنا فان السمسرة هي اجرة على وقوع الانتفاع بالبطاقة في الخارج فعلا.

اقول : ان هذا الوجه جيد اذا اطمأننا بان التاجر يقوم بدفع هذه النسبة من قيمة القسيمة حتى اذا لم يدفع البنك المصدّر للبطاقة قيمة البضاعة الى التاجر. ونتمكن ان نتاكد من هذا في حالة ما اذا كان هناك عميلان للبنك وقد استفادا من هذه البطاقة وكان احدهما له رصيد دائن لدى البنك ، بينما لم يكن الآخر مثله ، وقد قام البنك بأخذ هذه النسبة من التاجر ومن العميل على حدّ سواء. فبهذا يثبت ان الضمان الذي ضمنه البنك لمن لم يكن عنده حساب دائن لدى البنك ، وتسديد قيمة القسيمة كان قرضاً حسناً ، ولا اثر له في ازدياد العمولة.

التكييف السادس ( عقد بيع بين المصدِّر والتاجر على ان يبيعه بأقل من الثمن ، وعقد بين المصدّر والعميل على ان يبيعه بأكثر من الثمن ) :

الى هنا كان مسير البحث ينظر الى العميل على انه هو المشتري الحقيقي من

ص: 265

المؤسسة التجارية ويكون البنك متعهدا لتسديد قيمة القسيمة. اما هنا نريد ان نغيّر مسير البحث بادعاء : أنَّ الحقيقة والواقع تقول : بأن البنك هو المشتري الحقيقي للبضاعة التي يريدها العميل ، ويشهد لهذا بان المؤسسة التجارية لا تعرف العميل ولا تطمئن اليه ، بل هي تعرف البطاقة الائتمانية بواسطة مصدّرها ، كما ان الذي يدفع قيمة قسيمة البيع هو البنك المصدّر للبطاقة ، واذا ما افترضنا ان المؤسسة التجارية لم تتمكن ان تحصل على قيمة قسيمة البيع او الخدمة من البنك فلا يحق لها ان ترجع على العميل الذي اشترى بواسطة البطاقة ، فان هذه الامور الثلاثة تشير الى ان المشتري الحقيقي هو البنك ، وعلى هذا نتمكن تكيف اخذ البنك لحصة من الثمن ، باتفاق بين البنك المصدّر والمؤسسة التجارية مفاده : تعهد المؤسسة التجارية للبنك في صورة شراء البنك لما يريده عميله ، بان البيع يقع بالسعر اليومي مخصوماً منه نسبة من الثمن. وبهذا صححنا اخذ البنك لحصة من الثمن بعد عقد صفقة البيع.

ثم يقوم العميل بشراء هذه السلعة من البنك على ان يسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلا. ومفاد هذا العقد الثاني هو : ان العميل يشتري هذه السلعة من البنك بزيادة على ثمنها اليومي بنسبة معينة. وهكذا نقول بالنسبة لتقديم الخدمات : فان الحقيقة وجود عقدين :

1 - عقد بين المصدّر والتاجر ، مفاده : اذا ارسلت لي اتباعك لتستفيد من خدماتي فانا اعطيك نسبة من الثمن الذي استلمه منك او اقدم لك خدماتي بانقص من الثمن اليومي بنسبة معينة.

2 - عقد بين المصدّر والعامل ، مفاده : اذا استفدت ايها العميل من الخدمات التي اهيئها لاتباعي فانا اريد منك ربحا بنسبة كذا من ثمنها اليومي بشرط ان تسدد الثمن في ضمن شهر واحد مثلا.

وهذا التكييف السادس وان كان خلاف ما هو المشهود من ان المشتري

ص: 266

الحقيقي هو العميل ، الا ان المشهود كان عبارة عن اندماج عقدين مستقلين ، كانت نتيجتهما حصول العميل على ما اراد ، ولكن الدقة في مراحل العمل بالبطاقة الائتمانية يمكن ان تكون عبارة عن عقدين مستقلين :

الاول منهما : كون المشتري الحقيقي هو البنك ( لما يريده عميله ) بواسطة.

والثاني منهما : هو بيع البنك ما اشتراه الى عميله بزيادة معينة لمدة شهر واحد مثلا. ولا بأس بأخذ نسبة من الثمن من التاجر ومن العميل معاً.

ومما يؤيد هذا التكييف السادس ما ذكروه من قولهم : بعد اتمام عملية الشراء ببطاقة الائتمان اذا رغب العميل ان يعيد كل البضاعة المشتراة الى التاجر ووافق التاجر على ذلك ، فان التاجر في هذه الحالة لا يقوم بدفع وارجاع قيمة البضاعة المرتجعة نقداً الى العميل ( حامل البطاقة ) بل يحرر له قسيمة دفع بقيمة البضاعة المرتجعة ، يحتفظ العميل بنسخة من هذه القسيمة للمتابعة ، بينما يقوم التاجر بايداع هذه القسيمة لدى بنك التاجر الذي يتعامل معه ، وذلك حتى يتم خصم القيمة من قسيمة البيع الاصلية وايداع القيمة الصافية المستحقة له في حساب التاجر ، وحينئذ اذا كان بنك التاجر قد سحب هذا المبلغ من البنك المصدّر ، فيرجع اليه قيمة القسيمة الثانية ، ويبقى البنك المصدّر يطالب العميل بتسديد القيمة الصافية فقط. (1)

فان اعادة البضاعة لو كان المشتري حقيقة هو العميل كان من حقه ان يتسلم المبلغ الذي يساوى البضاعة المرتجعة ، الا اننا نرى انهم لا يسلمون الى العميل قيمة البضاعة المرتجعة مما يؤيد القول القائل : بأنَّ المشتري حقيقة من المؤسسة التجارية هو البنك. لذا يوضع في حساب البنك المصدّر قيمة البضاعة المرتجعة.

ص: 267


1- بطاقات الائتمان ، بيت التمويل الكويتي ص 25.

التكييف السابع ( عمولة تحويل البنك المصدّر لما استفاده العميل خارج البلاد ) :

قد يقال ان التاجر اذا اشترى سلعا خارج البلاد ، فالبنك وان كان ضامنا له ، الا ان التسديد في هذه الصورة يستوجب جهدا زائدا على مجرد دفع المال للسلع المشتراة ، فيصح للبنك ان يأخذ عمولة على التسديد من العميل كما يصح له ان يأخذها من التاجر. وهذا الكلام يأتي ايضا فيما اذا استفاد العميل من خدمات خاصة او سحب نقداً معيناً خارج البلاد.

ولكن هنا لابدّ من ان تكون العمولة المأخوذة هي عمولة التحويل والتسديد فقط ، وهي تختلف عن الفائدة ، اذ اذا قبلنا ان البنك قد ضمن العميل او قبل حوالته فهو قد اصبح مدينا للتاجر. ويمكن أن يقول للتاجر : ان الدين الذي كان على العميل قد انتقل الى ذمتي ، وانا حاضر لدفع المال اليك في بلدي ( بلد الضمان ) ، فاذا اردت ان ادفع لك المال في بلدك ، فانا آخذ منك نسبة من الثمن. وحينئذ يقوم بنك التاجر بالموازنة بين ما يطلبه البنك المصدّر للبطاقة من العمولة وما يطلبه بنك آخر على عمولة تحويل الثمن ، فان كانت العمولة واحدة فان بنك التاجر او التاجر سوف يوافق على اعطاء العمولة التي هي عمولة التحويل ، اما اذا كانت العمولة واحدة فان بنك التاجر او التاجر سوف يوافق على اعطاء العمولة التي هي عمولة التحويل. اما اذا كانت العمولة كبيرة تختلف عن عمولة تحويل نفس المبلغ من قبل بنك آخر ، فان التاجر سوف يقول للبنك المصدّر : اعطني المبلغ في بلدك ، ثم يأمر بنكاً آخر بتحويل المبلغ اليه في مقابل اجر التحويل الذي هو يختلف عن الفائدة ، لزهادته.

والخلاصة :

ان بعض الوجوه المتقدمة - كالخامس والسادس - تجوّز اخذ البنك المصدّر للبطاقة نسبة من ثمن قسيمة البيع من التاجر ومن العميل ايضا ، بشرط ان لا

ص: 268

يرتبط هذا بالقرض الذي يحصل من البنك في بعض الحالات ولا بالأجل الذي يشترط فيه تسديد القرض ، فمع هذين الشرطين يكون ما يأخذه البنك من المؤسسة بل من العميل ايضا جائزا. (1)

6 - فرق تحويل العملة :

وهي اخذ البنك فرق تحويل عملته الى عملة اجنبية :

كما اذا سحب العميل ببطاقته مبالغ نقدية من فروع بعض البنوك الخارجية المرتبطة ببنكه بواسطة منظمة الفيزا مثلا ، مباشرة او من طريق اجهزة الصرف الآلي ، فان البنك المصدّر يقوم بتسديد الدين الذي اخذه عميله ( صاحب البطاقة ) ، وعملية التسديد تقتضي أوّلا ان يقرض البنك عميله عملة محليّة أو أن العملة المحليّة موجودة لدى حساب العميل ثم يقوم بتحويلها الى العملة الخارجية ، فيستحق البنك المصدّر الفرق في تحويل هذه العملة ، وهو ما يسمى بالصرف ، فيبيع نقده الذي هو دينار الى العميل بدولار ثم يسدد دين عميله في الخارج بواسطة الدولار ، فيحصل البنك على فائة الصرف ، وهو امر مشروع اذا كان بهذا القدر.

ثم لا يخفى ان هذا السحب المالي من البنك الخارجي هو عبارة عن اذن من

ص: 269


1- قد يقال : ان النسبة المأخوذة ( من التاجر الى البنك المصدّر للبطاقة مثلا ) هي عبارة عن بيع الدين بأقل منه ، وهو صحيح للعمومات الدالة على جواز بيع الدين بأقل منه ، فان العميل عندما يشتري يكون مدينا الى التاجر ، وقد اعطى سند الدين وهو توقيعه على القسيمة ، ويتمكن التاجر ان يبيع هذا الدين على البنك او غيره بالاقل ، ولا مانع منه شرعا ، لان المانع ان يأخذ الدائن على دينه اكثر مما اعطى ، وهنا الدائن اخذ الاقل فهو عكس الربا مثلا. ولكن هذا التوجيه بالاضافة الى انه غير الذي يجري في الخارج من تعهد البنك المصدر لأداء دين العميل لا يقبله بعض الفقهاء لوجود روايات تقول بوجوب ان يأخذ المشتري لهذا الدين ما دفع الى الدائن لا اكثر.

المصدّر للبطاقة لبنك خاص او لكل احد في ان يؤدّي قرضاً عليه لمن يحمل بطاقته ، فحامل البطاقة يأخذ النقد على ذمة المصدّر وهو مأذون في التصرف فيه ، ويتملكه الساحب اما بعنوان اداء الدين الذي له على المصدّر ( ستيفاء ) فيما اذا كان الساحب صاحب حساب دائن لدى البنك المصدّر للبطاقة وهو امر لا باس به ، أو بعنوان الاقتراض من البنك المصدّر ان لم يوجد له حساب دائن لدى البنك المصدّر للبطاقة.

7 - اجرة نقل وحفظ المال :

ولو اضيف الى فائدة بيع الصرف ، اجر نقل وحفظ المال من البلد الذي فيه البنك الى البلد الذي استخدم حامل البطاقة بطاقته فيه ، فان هذا يدخل تحت عنوان الحوالة بأجر ، بشرط ان لا يرتبط هذا الاجر بالأجل الذي يجب على العميل التسديد فيه ، والاّ كان الربا مستترا تحت عنوان الحوالة بأجر ، كما اذا كانت النسبة تكثر اذا كانت البطاقة تجوّز التسديد لمدة اطول.

ومن اجل الاطمئنان بأنَّ الاجر الذي يحصل عليه البنك المصدّر هو أجر على الحوالة فيجب ان تكون النسبة التي يأخذها البنك كأجر على حوالته في النسبة التي تحوّل بها هذه الكمية من الثمن الى الخارج في بنوك اخرى ، او ان يسمح البنك المصدّر للعميل في ان يحوّل هذا المبلغ بواسطة أي بنك آخر اذا كان يتقاضى أجراً على حوالته اكثر من البنوك الاخرى ، فان في هذين الامرين نكشف عن القصد الحقيقي للبنك المصدّر للبطاقة ونجزم بانه بعيد عن شائبة الربا.اما اذا كانت هذه النسبة التي تؤخذ كأجر على الحوالة هي اكثر بكثير من قيمة الحوالة التي تحوّل بها هذه الكمية من الثمن الى الخارج في بنوك اخرى ولم يسمح البنك المصدّر بتحويل ما اقرضه لعميله الى البنك الخارجي ، فان هذا يكشف عن ان القصد الحقيقي هو مستتر وراء الاجر على الحوالة او الوكالة لقضاء الدين ، وهو اخذ النسبة من الثمن في مقابل المال الذي يقرضه البنك المصدّر للعميل ويحوله الى

ص: 270

البنك الخارجي.

وقد يقال : بان هذه النسبة هي قيمة قبول الحوالة من قبل العميل على البنك المصدّر للبطاقة وهي حوالة على مدين اذا كان لدى العميل حساب دائن عند البنك ، او على بري اذا لم يكن لدى العميل حساب دائن عند البنك.

ولكن نقول : ان قبول الحوالة ليس معناه الا اقراض المحيل ان لم يكن له حساب عنده وهو لا يقابل بالمال ، واما اذا كان عند المحيل حساب دائن لدى البنك ، فلم يبق الا ثمن حوالة المبلغ الى خارج البلاد.

8 - الفائدة :

قد يأخذ البنك المصدّر للبطاقة غرامات على تأخير العميل عن سداد ما عليه حسب الوقت المحدد ، وهذا فائدة صريحة محرمة. ولا بأس بالتنبيه الى ان بعض بطاقات الائتمان لا تأخذ اي غرامة على تأخير العميل عن سداد ما عليه ، كما في بطاقة بيت التمويل الكويتي.

9 - اجرة استخدام الجهاز الآلي او نظام التحويل الالكتروني :

يأخذ البنك نسبة من الثمن المسحوب في مقابل استخدام جهازه الآلي او نظام تحويله الالكتروني عند سحب نقود معينة بواسطة البطاقة الائتمانية اذا كان مخوّلة بذلك.

وطبعا ان هذه النسبة من الثمن تقسّم بين البنك الخارجي الذي قدم للعميل النقد بعد استعمال اجهزته الآلية او نظام تحويله الالكتروني وبين البنك المصدّر للبطاقة حيث يكون البنك المصدّر للبطاقة وكيلاً عن العميل لقضاء دينه.

وهذه النسبة كأجر على هذا النفع الذي حصل عليه الساحب للنقد ، وهي اجرة معقولة مرتبطة بالنفع الذي يحصل عليه العميل بشرط ان لا ترتبط هذه النسبة بالأجل وليست عوضاً عما ادى الى حامل البطاقة الذي يدفع العميل فيه ما

ص: 271

سحبه من البنك الخارجي الى بنكه الذي اصدر البطاقة. ولاجل ان نطمئن الى ان النسبة ليست مرتبطة بالاجل ، لابدّ من ان يكون البنك المصدّر للبطاقة يأخذ هذه النسبة من الثمن ممن عنده حساب دائن لدى البنك وممن ليس له حساب دائن لدى البنك بلا فرق بينهما.

10 - اجرة الاتصالات الخارجية للحصول على تفويض :

يأخذ البنك عمولة من الذي يحمل البطاقة المرتبطة بمنظمة الفيزاء الصادرة عن بنوك اجنبية اذا سحب عميل البنك الاجنبي ببطاقته من بنك آخر كمية من المال ، فيقوم البنك المقدّم للدفعة النقدية بأخذ نسبة من الثمن المقدَّم ، كأجر على الخدمة المصرفية التي يقدمها. وهذه الخدمة تشتمل على توليه عملية التفويض والمتابعة والتحصيل والتسويات.وهذه النسبة تقسَّم بين البنك المسحوب منه النقد والمصدّر للبطاقة حسب الاتفاق بينهما.

اقول : يقال بجواز ذلك في مقابل الخدمة التي يقدمها البنك المعطي للصفقة النقدية ، حيث يكون قد نفع العميل منفعة كبيرة بهذه الخدمات ، فهو يستحق أجراً على خدماته حتى وان كان نسبة مئوية على ما حصل عليه الساحب ، ولكن بشرط ان لا ترتبط هذه النسبة بالاجل الذي يدفع فيه الساحب ما حصل عليه.

تنبيه :

اذا كان بين التاجر والبنك المصدر للبطاقة واسطة تؤدي الى التاجر قيمة قسيمة البيع وهي ما تسمى ( بنك التاجر ) ، فان هذا البنك يقوم بتسديد قيمة القسيمة ثم يستوفي ذلك من البنك المصدّر للبطاقة مقابل نسبة لبنك التاجر. وهذه العملية قد تتم بواسطة تعاقد بين البنك المصدر وبنك التاجر ، وقد تتم استناداً الى الاذن العام من البنك المصدر بتسديد قيمة القسيمة والرجوع عليه. وتكييف اخذ نسبة من الثمن لبنك التاجر استنادا الى قيامه بالتسديد للتاجر وهو عمل يزيد في

ص: 272

اعتبار البنك المصدّر للبطاقة فصحَّ ان يأخذ بنك التاجر هذه النسبة لقيامه بهذه الخدمة ، ولعل هذا جعالة من البنك المصدّر لمن يسدد قسيمة البيع نيابة عنه. ولا حاجة للتنبيه على ان بنك التاجر في هذه الحالة يأخذ نسبة من ثمن القسيمة قد يكون 3 % ولكن يحسم منه نسبة 1 % على عمله الذي قام به نيابة عن المصدّر للبطاقة ويبقى 2 % هي للبنك المصدّر للبطاقة ، يدفعها له عند مطالبته بتسديد ثمن القسيمة.

والخلاصة : لقد تبين لنا ان ما يأخذه البنك من التاجر او العميل اذا لم يكن مرتبطاً بالاجل الذي يسدد فيه العميل الدين ، وكان في مقابل عمل له نفع للتاجر او العميل فهو امر مسموح به شرعاً ، ولكن لابدّ لنا من الاطمئنان بأنَّ البنك لم يربط ما يأخذه بعنوان الأجر على عمله بالاجل الذي يسدد فيه العميل ما عليه. نعم اذا لم يسدد العميل ما عليه في الوقت المحدد ، فلا يجوز للبنك ان يحسب عليه فوائد ، فانه ربا صريح وواضح ، وقد تخلّت عنه بعض البنوك الاسلامية.

« العمليات البنكية الترغيبية »

1 - جوائز البنك :

هناك بعض العمليات التي يقوم بها البنك كترغيب لعملائه في اخذ بطاقة الائتمان منها الجوائز ، فيدفع البنك لمن اصابته القرعة من الذين استلموا بطاقات الائتمان مبلغا من المال. فهل يجوز للبنك القيام بهذه العملية الترغيبية ؟

الجواب : اذا كان البنك هو المقترح لهذه العملية بقصد التشويق والترغيب في فتح بطاقات الائتمان من دون ان يكون لعملائه اي شرط عليه ، فهو امر جائز ، اما اذا اشترط عملاء البنك في ضمن عقد قرض البنك وفتح الحساب لديه واخذ بطاقة الائتمان ان يقيم لهم جوائز بعملية القرعة ، فهذه الجوائز تكون محرمة حيث تدخل عند اصابة احدهم تحت عنوان القرض الذي جرَّ نفعاً لصاحبه

ص: 273

بواسطة الشرط.

2 - التأمين على الحياة :

ان بعض البنوك تعطي البطاقات الائتمانية الذهبية التي فيها حدوداً ائتمانية عالية الى العملاء ذوي الكفاءة المالية العالية ، وتمنحهم اضافة الى الخدمات المتقدمة المتوفرة للبطاقة تأميناً على الحياة وخدمات اخرى دولية فريدة ، كأولوية الحجز في مكاتب السفر والفنادق والتأمين الصحي والخدمات القانونية. كما ان بعض البطاقات تتضمن تأميناً على حياة المسافر حال سفره اذا اشترى بطاقة السفر.

والمهم هنا : وجود تصور عند البعض في عدم تطابق هذا المنح من قبل البنك او الشركة للتصور الاسلامي (1).

فنقول : ان عقد التأمين هو اتفاق بين المؤمِّن ( الشركة او البنك مثلا ) وبين المؤمَّن له على ان يدفع المؤمَّن له مبلغاً من المال معينا شهريا او سنويا لقاء قيام المؤمِّن بتدارك خسارة ما ( كالحياة ) ان حدثت على المؤمَّن عليه ، وقد يكون الشرط هو ان يطلب المؤمِّن فتح بطاقة الائتمان ويدفع الرسم على ذلك ، وان يكون له حساب من الدرجة الاولى في البنك. فهنا يكون عقد التأمين قد اشتمل على اركان اربعة.

1 - الايجاب من المومَّن له.

2 - القبول من المؤمِّن.

3 - المؤمَّن عليه ( الحياة ).

4 - قسط التأمين الشهري او السنوي.

وواضح ان الاركان الاربعة متوفرة هنا حيث ان المؤمَّن له يوجب ، ويقبل

ص: 274


1- بحث عن بطاقات الائتمان المصرفية لبيت التمويل الكويتي ، ص 27.

المومِّن ، ويكون المؤمَّن عليه هو ( خطر الموت ) ، وقسط التأمين هو الرسم الذي يدفعه او فتح حساب من الدرجة الاولى لدى البنك ليحصل على خدمات ، منها : التأمين على الحياة ، وبما ان البطاقة تنتهي الى سنة فان بداية ونهاية التأمين ايضا معينة ، وبهذا سوف يكون هذا الاتفاق عقداً وعهداً يشمله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . كما أنه يمكننا ان ننزّل عقد التأمين منزلة الهبة المعوضة حيث ان المؤمَّن له يهب مبلغاً معيناً من المال سنويا في مقابل ما يحصل على خدمات بواسطة بطاقة الائتمان ومنها التأمين على الحياة (1) وحينئذ يجب على المؤمِّن الوفاء بهذا الشرط ، وعلى هذا يكون التأمين بجميع اقسامه صحيحاً شرعا ، واذا لم يعمل المشترط عليه بالشرط

ص: 275


1- وقد نوقشت هذه الفكرة في مجمع الفقه الاسلامي في بروناي دار السلام من قبل اتباع بعض المذاهب الذين ذهبوا الى القول بأن الهبة المعوضة هي بيع ، والبيع لا يمكن ان يكون مؤقتاً بينما التأمين على الحياة في بطاقة الائتمان مؤقتٌ ، فلا يصح توجيه التأمين على الحياة في بطاقة الائتمان على اساس الهبة المعوضة. وقد جهدنا في توضيح الفرق بين البيع والهبة المعوضة فكان خلاصة ما بين هو : ان الهبة المعوضة عبارة عن التمليك الذي اشترط فيه العوض . وعلى هذا فهي ليست انشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة وإلا اذا كانت هي تمليك بعوض على جهة المقابلة - لم يعقل تملك احدهما لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر مع أن ظاهر الفقهاء في الهبة المعوضة هو عدم تملك العوض بمجرد تملك المرهوب له الهبة ، بل غاية الامر أن الموهوب له لابد له من إنشاء تمليك العوض نتيجة اقتضاء الشرط في ما وهب له ، وإن لم يفعل كان للواهب الرجوع في هبته نصيحة اقتضاء عدم العمل بالشرط . وعلى هذا : فان التعويض المشترط في الهبة كالتعويض الغير المشترط في الهبة يكون عبارة عن تمليك جديد يُقصد به وقوعه عوضاً ، لا أن حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كل من العوضين كما يتضح ذلك بملاحظة التعويض الغير المشترط في ضمن الهبة الاولى. وقد اتضح من هذا ان البيع يختلف عن الهبة المعوضة اختلافاً أساسياً حيث أن حقيقة البيع تمليك العين بالعوض، وهذا لا يكون هبة معوضة وإن قصدها . وحقيقة الهبة المعوضة : هو التمليك المستقل مع اشتراط العوض في تمليك مستقل يقصد به العوضية وهذا ليس معاوضة حقيقية مقصودة في كل من العوضين، وبهذا يبطل ما يقال من أن الهبة المعوضة هي بيع ، للاختلاف الحقيقي في قعنيهما .

يحق للمؤمَّن له ان يرجع في هبته نتيجة عدم العمل بالشرط ، كما يجب على المؤمِّن العمل بالشرط اذا حصل الموت ، نتيجة اقتضاء الشرط ذلك.

الخصم من التاجر للعميل :

قد يعلن البنك المصدّر للبطاقة عن فائدة للبطاقة تكمن في خصم المؤسسة التجارية نسبة تتراوح بين ( 5 - 30 % ) ، وهذا امر قد تقوم به بعض المؤسسات التجارية لبعض السلع ، وهو يعدّ من فوائد العميل المستهلك ، وهو امر لا باس به شرعاً لانه عبارة عن تخفيض للثمن من قبل البائع ، ولا بأس بأن يقول البائع ان الثمن مائة او ان يقول ( ان لثمن مائة وعشرين مع تخفيض عشرين لمن يحمل البطاقة الائتمانية ).

تنبيهات :

ان هنا عدة تنبيهات متفرعة على صحة العمل بالبطاقة الائتمانية حيث كيّفت الاعمال المنتسبة اليها على انها اجور على خدمات قام بها البنك المصدر او البنك الواسطة ( بنك التاجر ) للتاجر ، وللعميل ، وهذه الخدمات تستحق أجراً ، وهذا الأجر غير مرتبط بالقرض الذي يحصل في التعامل بهذه البطاقات ، حيث إنَّ هذا الأجر يؤخذ - مثلا - على حدّ سواء من المتعامل بالبطاقة الائتمانية سواء كان له حساب دائن لدى البنك المصدر ام حساب مدين. فعلى هذا الاساس توجد عدة تنبيهات لا بأس بالاشارة اليها واهمها :

1 - قد تبيع المؤسسة التجارية حاجتها لحامل البطاقة بثمن اعلى من الاشتراء نقدا ، وكذا المؤسسة التي تقدِّم خدماتها لحملة البطاقات. فهل يصح هذا التعامل او انه يحتوي على شائبة ربوية ؟

الجواب : ان المؤسسة التجارية قد تنظر الى ان الثمن الذي تبيع به احد حاجياتها بواسطة بطاقة الائتمان يحتاج الى خدمات معينة من اجل الوصول اليه ،

ص: 276

فقد تصمِّم من الاول ان السلعة التي تباع ببطاقة الائتمان يكون ثمنها اعلى من السلعة التي تباع نقداً ، لعدم احتياج أي خدمات للحصول على الثمن النقدي بخلاف الثمن الذي يكون ببطاقة الائتمان ، فهو وان كان مضموناً من قبل البنك المصدّر ، الا ان الحصول عليه يحتاج الى خدمات معينة ، فتكون هذه الخدمات المعينة داعية لزيادة ثمن السلعة التي تباع بالبطاقة الائتمانية وليست هذه الزيادة هي في مقابل الاجل ، بل في مقابل السلعة التي يحتاج الحصول على ثمنها الى جملة من الخدمات.

2 - اذا كان مصدّر البطاقة قد تضمن عقده نصاً ربوياً ، كما اذا شرط المصدّر في عهده مع الحامل للبطاقة دفع فوائد ربوية اذا تخلف حامل البطاقة عن الدفع في فترة معينة. فهل الدخول في هذا العقد اقدام على قبول اعطاء الربا الذي هو حرام ؟

الجواب : ان حامل البطاقة اذا اقدم على قبول هذا الشرط بصورة جدية فيكون قد اقدم على التعامل باعطاء الربا. اما اذا دخل فيه بانياً على دفع قيمة القسيمة نقدا ، او في خلال المدة المتفق عليها مع مصدّر البطاقة ، او كان قاصدا عدم قبول الشرط المذكور وعدم دفع الفائدة من تلقاء نفسه اذ يعتقد بحرمتها ، فيكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط فلا يكون دخوله في هذا العقد حراماً ، وبعبارة اخرى إن هذا يختلف عن اشتراك الانسان في السهم شركة تتعامل بالربا ، فإنَّ الشركة معناها : قيام كل واحد من المتشاركين بعميلة الربا ويعدّ مسؤولا عن عقود الشركة بواسطة وكلائه. أما هنا فلا اشتراك وإنما عقد بيني وبين انسان يشترط عليَّ شرطاً محرماً ، وهذا الشرط ليس مما يُبنى عليه العقد وإنما هو شرط اُحتمل وجوده ، فإذا كنت مصمماً على عدم العمل به فالعقد صحيح ، لشموله له : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

3 - الف ) اذا امتنع حامل البطاقة من دفع قيمة القسيمة الى البنك المصدّر ، فهل يتمكن المصدّر للبطاقة من الرجوع على معتمد البطاقة لاسترجاع الثمن منه ؟

الجواب : لا يتمكن مصدّر البطاقة من الرجوع على معتمدها لاسترجاع

ص: 277

الثمن منه وذلك : لان المصدّر كان متعهدا بالاداء ، وبهذا التعهد فقد اشتغلت ذمته بالثمن ووجب عليه اداء ما اخذه العميل من التاجر. وبهذا تكون ذمة العميل مشغولة للبنك المصدّر ، فان امتنع العميل من الدفع فقد ضاع مال البنك المصدّر ان لم يكن للبنك المصدّر اجراء اُخر لأخذ دينه من قبلهم. ومن جملة الاجراءات التي يتمكن البنك من اخذها لعدم ضياع حقه هو : « اشتراط البنك المصدّر للبطاقة في ضمن تعهده للبائع رجوعه على البائع لو امتنع العميل عن السداد ، فهو شرط صحيح بمقتضى قاعدة : المسلمون عند شروطهم ».

ب ) اذا اخذ التاجر قيمة القسيمة من بنك التاجر الذي هو مأذون من البنك المصدّر للبطاقة بالدفع ، ثم امتنع البنك المصدّر من التسديد لإفلاسه مثلا ، فلا يتمكن البنك الواسطة ( بنك التاجر ) من الرجوع على التاجر ولا على العميل ، لان الدين قد انتقل الى ذمة البنك المصدّر حسب التعهد الذي تعهد به ، وقد دفع البنك الواسطة هذا الدين بإذن من البنك المصدّر.اذن يكون البنك الواسطة - وهو بنك التاجر - دائناً الى البنك المصدّر ليس إلاّ ، فلا يتمكن ان يرجع على التاجر ولا على العميل.

نعم : اذا اشترط على التاجر الرجوع عليه اذا امتنع البنك المصدّر من التسديد ، فهو شرط صحيح يتمكن بواسطته من الرجوع على التاجرفي هذه الصورة.

ج ) اذا امتنع بنك التاجر والبنك المصدّر من دفع الثمن الى التاجر لإفلاسهما مثلا او لأيِّ شيء آخر ، فهل يجوز للتاجر الرجوع على العميل ؟

الجواب : ان التعهد الذي صدر من المصدّر يقضي بان المال في ذمة المصدّر ، فيبقى التاجر يطلب المصدّر وليس له الرجوع على العميل ، الا ان يشترط التاجر على العميل الرجوع عليه ان لم يتسلم المبلغ من المصدّر ، فهو شرط صحيح.

خلاصة البحث :

ان خلاصة بحثنا المتقدم « بعد معرفة حقيقة بطاقة الائتمان واقسامها

ص: 278

وفائدتها وكيفية المعاملات التجارية بها » يكمن في التكييف الشرعي لها وقد كانت خلاصته هي :

أولا : لا اشكال في اخذ رسم العضوية من باب الاجر على عمل او منفعة تؤدّيها شركة البطاقة لحاملها ، وكذا لا اشكال في رسم التجديد ، ورسم التجديد المبكر ورسم الاستبدال عند الضياع او التلف او السرقة ، لنفس السبب المتقدم.

ثانياً : ان اخذ نسبة من ثمن قسيمة البيع للبنك المصدّر انما تصح ( وتكون اجرا على عمل قام به البنك المصدّر ، من قبيل اجر السمسرة مثلا ) اذا كان غير مرتبط بالقرض الذي قدمه البنك وغير مرتبط بالاجل او بزيادته ونقيصته. ولأجل التأكد من ذلك هو أخذ الاجرة من قبل البنك المصدّر للبطاقة حتى اذا كان للعميل حساب دائن لدى البنك المصدّر للبطاقة ، ولا يفرق في اخذ الاجرة بين العميل الذي له حساب دائن والعميل الذي له حساب مدين لدى البنك المصدّر. كما يمكن التأكد من ان القصد هو اجر سمسرة ، هو اقدام البنك على اخذ هذا الاجر حتى اذا لم يقدم قرضاً الى التاجر.

ثالثاً : ان اخذ نسبة من ثمن البضاعة من قبل العميل ، واخذ نسبة من الثمن المسحوب نقدا خارج البلاد وامثال ذلك من العمليات التي يتم بها الاستفادة من بطاقة الائتمان كله جائز بشرط ان لا ترتبط هذه النسبة بالاجل او بالعوض الذي اعطي الى حامل البطاقة ، وحينئذ تكون هذه النسبة مرتبطة بالنفع الذي قدمه اليه البنك الخارجي والبنك المصدر للبطاقة غير القرض الحسن الذي زامن هذا النفع. وللتأكد من صحة هذا القصد للقرض الحسن ، هو اخذ نفس النسبة من الذي له حساب دائن لدى البنك المصدّر للبطاقة.

رابعاً : اذا لم يسدد العميل ما يجب عليه في ضمن مدة معينة ، فلا يجوز للبنك المصدّر ان يأخذ منه غرامات على التأخير ، فانه فائدة صريحة محرمة.

خامساً : يجوز للبنك ان يجعل عمليات ترغيبية للعملاء ، من قبيل الجوائز او

ص: 279

التأمين على الحياة لمن يسافر اذا اشترى بطاقة سفر معينة ، فان الاول : يجوز اذا كان اقتراحاً من قبل البنك ولم يشترط عليه العملاء ذلك. واما الثاني : فهو داخل في عقد بين المصدّر والعميل توفرت فيه اركان هذا العقد بصورة صحيحة.

سادساً : قد تبيع المؤسسة التجارية سلعتها بثمن اكثر من الشراء النقدي لحامل بطاقة الائتمان ، وهو امر جائز وان كان الداعي اليه هو قيام المؤسسة بخدمات معينة من اجل الحصول على الثمن ، وهو امر جائز حيث ان السلعة قد قوبلت بالثمن الاكثر حين البيع وان كان الداعي هو تقديم الخدمات للحصول على الثمن.

سابعاً : قد تبيع المؤسسة حاجاتها لحامل البطاقة بأقل من السعر السوقي ، وهو امر جائز بلا كلام ، اذا لا فرق بين أن يقول بعتك السلعة بمائة او بمائة وعشرين مع خصم عشرين مثلاً.

ثامناً : ان استقرار الضمان يكون على البنك المصدّر للبطاقة ولا علاقة بين العميل والتاجر او بنك التاجر. كما لا علاقة بين بنك التاجر والتاجر بالعميل.

تاسعاً : يجوز للعامل ان يتعامل مع شركة البطاقة حتى اذا تضمن عقدها معه نصّاً ربوياً بشرط ان يقصد دفع قيمة القسيمة نقداً او في خلال المدة المتفق عليها مع مصدّر البطاقة ، او كان قاصدا عدم قبول الشرط الربوي وعدم دفع الفائدة طوعاً ، اذ يكون هذا العميل قد قبل العقد ولم يقبل الشرط الفاسد فلا يكون دخوله في هذ العقد حراماً.

هذا خلاصة ما ذكرناه في بطاقة الائتمان والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

* * *

ص: 280

بحث في حرمة ربا القرض

اشارة

ص: 281

ص: 282

1 - مع الدكتور النمر

طالعنا في صحيفة الأهرام ، وفي الصفحة السابعة في العدد الصادر يوم 1 / 6 / 1989 الخميس 27 شوال / 1409 ه مقالاً بعنوان : « حول تحديد ربا القرض والوديعة الاستثمارية » للدكتور عبدالمنعم النمر ( وزير الأوقاف الأسبق ). و خلاصة المقال « دعوة الى الاجتهاد » في جواز الربح المحدد للقرض » ، ثم أفتى بحل هذه الزيادة بمقدار (9) أو (10) بالمائة ما دامت من البنوك.

و خلاصة الأدلة التي أدى إليها نظره هي : أدلة ثلاثة ، نعرض كل واحد منها و نناقشه.

1 - « الرسول صلی اللّه علیه و آله اجتهد في المعاملات الدنيوية ، و بنى حكمه على الظروف الموجودة أمامه ».

2 - « وأنَّ الصحابة قد خالفوا أحكامه واجتهدوا و عملوا بخلافها .. ».

3 - وقد حكي عن النمر في كتابه « السنة و التشريع » ص 46 قوله : « فمادام الرسول كان يجتهد ، و ما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات ، أفلا يجوز لمن يأتي بعده أن يدلي بالموضوع باجتهاده أيضاً؟ هادفاً الى تحقيق المصلحة ، ولو أدى اجتهاده الى غير ما قرره الرسول باجتهاده؟ ولايصبح ما قرره الرسول باجتهاده حكماً ثابتاً الى الأبد ».

ص: 283

العصمة للأنبياء عند الشيعة

نقول : إن الشيعة الإمامية تعتقد بعصمة النبي وكل الأنبياء والرسل ، والعصمة التي تدعيها الشيعة للنبي صلی اللّه علیه و آله ولكل الأنبياء والرسل هي ثلاثة أقسام :

1 - العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي.

2 - العصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة.

3 - العصمة عن المعصية. والمعصية هي التي فيها هتك حرمة العبودية عن المخالفة المولوية.

ونعني بالعصمة : وجود أمر في الانسان يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ والمعصية. والأدلة التي تُذكر في هذا المجال كثيرة : قرانية ، وروائية ، و عقلية.

فمن الأدلة القرآنية قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ... ) (1) فانه يدل على أن اللّه سبحانه إنّما بعث الأنبياء بالتبشير والإنذار ، وانزال الكتاب ( وهو الوحي ) ليبيّنوا للناس الحق في الاعتقاد والعمل. وقد قال تعالى : (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) (2) فهو دال على أن اللّه سبحانه لا يضل في فعله ولا يخطأ في شأنه ، فإذا أراد شيئاً فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ. وحينئذ يكون النبي صلی اللّه علیه و آله ، وكل نبي ، مصوناً من الخطأ في تلقي الوحي وفي تبليغه. وبما أن عمله صلی اللّه علیه و آله كقوله في الدلالة عند العقلاء ، فلو تحققت معصية من النبي صلی اللّه علیه و آله وهو يأمر بخلافها لكان ذلك منه تناقضاً ، ويكون مبلّغاً لكلا المتناقضين ، وكمال تعلمون لا يكون تبليغ المتناقضين تبليغاً للحق لكون كل منهما مبطلاً للآخر. وعلى هذا ، فلا يمكن أن تتحقق معصية من النبي صلی اللّه علیه و آله ولا يكون تبليغ الرسالة إلاّ مع

ص: 284


1- البقرة / 213.
2- طه / 52.

عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة.

ومن هذه الأدلة أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... ) (1) فكون الرسول مطاعاً هو غاية للارسال ، وهذا يستدعي بالملازمة البيّنة تعلق ارادته تعالى بكل مايطاع فيه الرسول ( قوله أو فعله ) حيث إن كلاً منهما وسيلة متعارفة في التبليغ ، وحينئذ لو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي ، أو في التبليغ ، أو في معصية ما ، لكان ذلك ارادة من اللّه تعالى للباطل ، بينما اللّه سبحانه و تعالى لا يريد إلاّ الحق.

ومنها أيضاً قوله تعالى : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ... ) (2) فاللّه تعالى يريد قطع عذر الناس فيما فيه المخالفة و المعصية ، و بما أنه لاقاطع لعذرهم إلاّ الرسل علیهم السلام ، ومن المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس إنما يصح إذا لم يتحقق من ناحيتهم مالا يوافق ارادة اللّه ورضاه ( من قول أو فعل أو معصية ) وإلاّ إذا لم يتحقق من ناحيتهم مالا يوافق ارادة اللّه يكون للناس أن يتمسكوا به ويحتجوا على ربّهم سبحانه ، وهذا نقض لغرضه تعالى.

نقول : و بعد هذه النبذة من الأدلة على عصمة النبي و بقية الأنبياء ، هل يسوغ للشيخ النمر أن يقول أن النبي صلی اللّه علیه و آله قد اجتهد في المعاملات الدنيوية ؟! وهل المعاملات الدنيوية إلاّ وقائع لها أحكام من قبل اللّه تعالى قد بيّنها سبحانه على لسان نبيّه الكريم ؟ وإذا كان هذا حقاً فهل يمكن أن يكون كلام النبي غير حق حتى يسوغ للنمر أن يخالف النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ؟!.

نعم ، حدثت مخالفات للنبي الأكرم بعد وفاته من قبل بعض الصحابة ، ولكن هذا ليس دليلاً لجواز مخالفة النبي الأكرم في أحكام اللّه ( المعاملات و السياسات وغيرها حتى العبادات ) ، بل إن هذاعمل غيرصحيح قام به هؤلاء لأنه ردّ على رسول

ص: 285


1- النساء / 64.
2- النساء / 165.

اللّه ، والراد على رسول اللّه راد على اللّه سبحانه و تعالى ، كما في الأحاديث الشريفة.

ولا أدري كيف خفيت الآيات القرآنية الدالة على أن النبي الأكرم لا تجوز مخالفته بشيء ، ونحن نورد بعضها للاستاذ النمر حتى يتذكر ، فان الذكرى تنفع المؤمنين.

قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (1).

فان النبي إذا قضى في أمر من أمور المعاملات الدنيوية ، كما إذا قال : « أحلّ اللّه البيع وحرّم الربا » ، وهذا الحكم من اللّه سبحانه قد جرى على لسان الرسول فهو حق ، فهل يجوز للاستاذ النمر أن يجتهد في مخالفته ، وهل يكون هذا غير الاجتهاد في مقابل النص ؟!

وقال تعالى أيضاً : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... ) (2).

وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (3).

أفهل تكفي لك هذه الآيات القرآنية الرادعة أم لا ؟!

ثم إن من قال باجتهاد النبي صلی اللّه علیه و آله فانه قال إنه صلی اللّه علیه و آله لا يُقرّ على خطأ ، بمعنى أن اجتهاد النبي صلی اللّه علیه و آله إن وافق حكم اللّه أقره اللّه عليه ، وإن خالفه عدّله اللّه الى حكمه ، وحينئذ يكون الحكم في النتيجة هو حكم اللّه تعالى ، وحينئذ لا يجوز للاستاذ النمر أن يجتهد ( كما يحلوله أن يقول ) فيخالف النبي صلی اللّه علیه و آله .

2) : أما الدليل الثاني لحلّية ربا القرض ، كما استدل به الاستاذ النمر ، فهو قوله :

إن سبب تحريم الربا تحديد الربح ، ويقول : « إن علماءنا جميعاً متفقون على تحريم هذه المعاملة بسبب تحديد ربحها ، ويقولون إن التحديد جعلها ربا محرماً وقالوا : إن التحديد يجعل المعاملة حراماً » وبما إن النمر يريد أن يحلل ربا القرض ،

ص: 286


1- الأحزاب / 36.
2- الحشر / 7.
3- النجم / 3 ، 4.

فكأنه يريد أن يحلل ربا القرض الذي لم تحدد فيه نسبة الربح من الأول ، بل نسبة الربح تحدد من قبل البنك بعد ذلك.

أقول : إن أقبح ما يكون عليه الكاتب والعالم هو الكذب والافتراء والاتهام ، فإن هذا هو ما يسمى بالخيانة العلمية ، فإن نسبة شيء الى علمائنا اجمع ( سواء كان قصده علماء السنة أم الشيعة ) شيء لم يجترئ عليه إلاّ الاستاذ النمر ، ففي حدود تتبعي للربا لم أجد من يصرح بأن الربا المحرم في القرض هو الذي تحدد فيه نسبة الربح ، بل إن علماء الشيعة كلهم وكل من قرأتُ له من علماء السنة إذا كان يحرم ربا القرض فهو يحرمه من أجل : « أنه زيادة ، في عقد القرض قد شرطت في مقابل الأجل » ، فمن ذلك ما ذكره في كتاب « المغني » لابن قُدامة حيث يقول : « كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف. قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المسلّف إذا شرط على المستسلِف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك ، كان أخذه الزيادة على ذلك ربا » ثم قال ابن قدامة : « وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها ، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها ، أو على أن يهدي له هدية ، أو يعمل له عملاً ، كان أبلغ في التحريم » (1).

وأما ما أفتى به الشيعة من كون مطلق الزيادة المشترطة هي ربا سواء كانت زيادة حقيقية أو حكمية ، محددة أو غير محددة ، فذلك هو المروي بطريق صحيح ، كما في صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : « من أقرض رجلاً ورِقاً فلا يشترط إلاّ مثلها ، فان جوزي أجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه » (2).

وكذا صحيحة محمد بن مسلم ، عن الامام أبي جعفر الباقر علیه السلام : « في الرجل يكون عليه دَين الى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني من الذي لي

ص: 287


1- ج 4 / 360.
2- الوسائل / ج13 / باب 19 من أبواب الدين / ح 11 ص 106.

كذا و كذا ، وأضع لك بقيته. أو يقول : انقدني بعضاً وأمد لك في الأجل فيما بقي. فقال : لا أرى به بأساً مالم يزد على رأس ماله شيئاً ، يقول اللّه عزّوجل : (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (1).

هذا كله بالاضافة الى اطلاق الآيات القرآنية التي دلت على أن كل زيادة في القرض هي ربا منهيٌ عنها ، فلا فرق بين أن تكون الزيادة محددة أو غير محددة.

بالاضافة الى أن البنوك في حالنا الحاضر هي التي تحدد الربا من أول الأمر ، فتحدده بنسبة معينة مع العميل الذي يريد التعامل معها ، فالخارج الربوي هو عكس ما يريد أن يستنتجه الاستاذ النمر ، وكذا إذا كان القرض من المرابي فهو الذي يحدد الفائدة من الأول. نعم ، إذا كان العقد مع البنك هو عقد مضاربة حقيقية بحيث يكون البنك هو العامل الذي يتاجر برأس مال العميل ، وتحدد الأرباح على وفق نسبة معينة فان هذا هو عقد المضاربة الذي أحله الاسلام ، وفي الحقيقة إن المال يبقى على ملك مالكه ، لكن بيد العامل ( وهو هنا البنك حسب القرض ) يتاجربه ، و حينئذ تتحول أموال العميل الى بضاعة و يبيعها البنك ، فإنْ ربح ، فالربح يكون لصاحب المال قد تنازل عن حصة منه الى العامل ( وهو البنك ) حسب العقد ، وأما إذا خسر البنك المال في تجارته ، فالخسارة تقع على صاحب المال فقط ، أما البنك فقد خسر عمله ، وهذا هو عقد المضاربة التي أحلها الاسلام كطريق لتنمية الثروة في الاسلام.

3 - أما الدليل الثالث للاستاذ النمر الذي يحلل فيه ربا القرض فهو يقول :

« إن التحديد الذي اعتبرناه علة لتحريم التعامل مع الأفراد ، لا يصح أساساً لتحريم التعامل مع المصارف ، لعدم وجود أي ضرر عليها منه ، والمفهوم أنها ( أي الزيادة ) مع الأفراد قد تطحنهم ويخسرون ، لكن المصرف يعرف وضعه و تصرفاته التي تجني له الربح ، وغالباً بنسبة ( 99 % ) و تسعة دائرة - لا يخسر ».

ص: 288


1- الوسائل / ج 13 / باب (32) من ابواب الدين / ح 1 / ص 120.

وخلاصة هذا المقالة هي :

1 - إن الزيادة في ربا القرض المحرمة هي بين الأفراد ، أما بين المصارف والأفراد فلا.

2 - إن الزيادة في ربا القرض إنما تحرم إذا خيفت الخسارة ، أما إذا ضمن المكسب فلا.

نقول : إن هذه الاستنتاجات التي ذكرها الاستاذ النمر هي دعاوى تحتاج الى دليل ، ولم يقدم لنا دليلاً على أن الربا المحرم هو بين الأفراد ، أما بين المصارف فلا ، ولم يقدم لنا دليلاً على أن ربا القرض إنما يحرم إذا خيفت الخسارة.

بل الأدلة متوافرة على حرمة مطلق رباالقرض « الذي هوالزيادة في القرض في مقابل التأجيل » وقد ذكرنا قسماً من الأدلة القرآنية والروائية وستأتي بقية الأدلة. ولم يذكر في الأدلة ما استنتجه النمر من القيود التي ذكرها ، فيكون النمر محجوجاً للأدلة القرآنية والروائية.

والذي أراه ، أن الاستاذ النمر قد درس الفقه الاسلامي دراسة ساذجة ، فلم يلتفت الى أن الاسلام له منهج خاص في الاقتصاد ، وله مذهب اقتصادي خاص به ، فله طريقته في تنمية الثروة وفي توزيعها بحيث تنسجم مع العدالة الاجتماعية ، التي يقرها الاسلام ، فالمسألة ليست مسألة ضرر على المدين ، ولاضرر على البنك ، بل المسألة هي مسألة مذهب اقتصادي ينسجم مع العدالة المقصودة في الاسلام. ولذلك فمن سرق من البنك أموالاً طائلة ، من دون أن يُعرف ، لأن البنك كان في عطلة مقدارها شهر واحد ، ثم اشتغل بها شهراً واحداً حتى ربحت ربحاً كثيراً ، وأرجع المال المسروق الى البنك فهل يحل له أخذ الربح ؟ مع أنه لا يوجد هنا ضرر على البنك.

الجواب هو : عدم جواز الربح للسارق و إن لم يوجد ضرر على البنك ، لأن الطرق المشروعة للكسب قد حددها الاسلام ، وهي : إمّا العمل البشري المباشر

ص: 289

الذي يقوم به الانسان ، أو العمل البشري المختزن الذي هو في صورة نقد أو عقار قد ملكه ، وأما هذه المعاملة التي بنيت على مال مسروق فهي ليست عملاً مباشراً ، وليست عملاً مختزناً له ، فلا يجوز له أن ينمي ثروته على حسابه. إذن : ليست القضية هي قضية ضرر على الفرد و عدم الضرر على المصرف.

النظرية في تحريم ربا القرض

ولأجل أن يتضح ما نقول نذكر بعض الأحكام في الفقه الاسلامي :

1 - ونذكر حكماً قد اتفق عليه كل الفقهاء وهو : « يجوز للانسان المنتج أن يستأجر أحدى أدوات الانتاج وآلاته من غيره ليستخدمها في عملياته ، ويدفع الى مالك الأداة مكافاة يتفق عليها معه ، و تعتبر هذه المكافاة أجرة لمالك الأداة على الدور الذي لعبته في عملية الانتاج ودَيناً في ذمة الانسان المنتج يجب عليه تسديده ، بقطع النظر عن مدى ونوع المكاسب التي يحصل عليها في عملية الانتاج » (1).

2 - وقال المحقق الحلي في « الشرائع » في كتاب المضاربة : « إن المالك لو دفع الى العامل آلة الصيد بحصة ثلث مثلاً ، فاصطاد العامل ، لم يكن مضاربة ، وكان الصيد للصائد الذي حازه ، وليس لصاحب الآلة شيء منه ، وإنما على الصائد الاجرة لقاء انتفاعه بالآلة » (2).

ونص على الحكم نفسه الفقيه الحنفي السرخسي اذ كتب يقول : « وإذا دفع الى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون ما صاد بها من شيء فهو بينهما ، فصاد بها سمكاً كثيراً فجميع ذلك للذي صاد ... لأن الآخذ هوالمكتسب دون الآلة فيكون الكسب له ، وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو

ص: 290


1- اقتصادنا / للشهيد الصدر / ص 600.
2- ج 2 ص 139 ( الطبعة الجديدة ).

مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد » (1).

إذن : هنا الاسلام لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الربح على أساس أداة الانتاج ، مع أن هذا الاتفاق بين صاحب الآلة والصائد ليس فيه ضرر على الصائد ولا على صاحب الآلة ، فلماذا لم يجوزه الاسلام ؟

نقول : إن الاسلام نظم لأدوات الانتاج اسلوب الأجر بتشريع أحكام الاجارة فقط ، وليس لمن له أداة من أدوات الانتاج أن يشارك في الربح ، لذا رأينا اتفاق أهل الاسلام على جواز استئجار أداة الانتاج ، أما حينما أرادت أداة الانتاج أن تشارك في الربح فقد منع منه العلماء ، وما ذاك إلاّ لأجل أن الاسلام له طريقة خاصة ومذهب اقتصادي معين يتوافق مع تصوره عن العدالة الاجتماعية ، فليس كل مكان لا يوجد فيه ضرر على البنك فهو جائز.

وهنا نقول : بالنسبة لرأس المال التجاري سواء كان من المصرف ، أو من الأفراد ، أو من الدولة ، أو من غير ذلك ، فالاسلام لم يسمح لرأس المال التجاري بالكسب على أساس الاجور ، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض بفائدة ، أي يدفعه الى العامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجراً على ذلك ، و ذلك لأن الأجر يتمتع بميزة الضمان وعدم الارتباط بنتائج العملية وما يكتنفها من خسائر و أرباح ، وهذا هو الربا المحرّم شرعاً. نعم ، يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن يدفع ماله الى العامل ليتاجر به ويتحمل وحده الخسارة بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت العملية ربحاً ، فالمشاركة في الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي سمح لرأس المال التجاري باتخاذه (2). وأما العامل فقد سمح له الاسلام باسلوب الاجارة واسلوب المشاركة في الربح. فيستطيع أن يؤجر نفسه للعمل بأجر معين كما يجوز أن يشارك في الربح بنسبة مئوية كما في المضاربة.

ص: 291


1- المبسوط للسرخسي ج 22 / ص 35.
2- راجع « اقتصادنا » للشهيد الصدر ، ص 616 وما بعدها.

إذن : ما ذكره الاستاذ النمر من عدم ضرر على البنك إذا أعطى الربا القرضي هو كلام غير مسؤول من قبل من يدعي أنه يعرف التشريع الاسلامي ، مع أن التشريع الاسلامي الذي بأيدينا من أحكام هو عبارة عن نظريات اقتصادية اسلامية تكشف عن المذهب الاقتصادي في الاسلام ، لذا لا يجوز لمن يتبع الذهنية الرأسمالية أن ينظر الى الأحكام الاسلامية من ناحية النظرة الرأسمالية ، بل الأحكام الاسلامية تختلف في أساسها عن النظام الرأسمالي الموجود الذي يحلل الربا « القرض بفائدة » استناداً منه الى جواز أن يكون رأس المال داخلاً في أحكام الاجارة ، وقد رأينا أن الاسلام يمنع هذا أشد المنع ، وما الآيات القرآنية الناهية عن الربا والروايات الكثيرة إلاّ شاهد ودليل على عدم السماح لرأس المال أن ينمو عن طريق الاجارة في الاسلام.

تنبيه و تعميق للنظرية : لعل النمر يرتدع عن الفتاوى التي تخالف نصوص الاسلام ، فهنا نريد أن نحلل للاستاذ النمر بعض النصوص التي عليها فتاوى فقهاء الاسلام ، و خلاصة ما نقول : هو أنه توجد عندنا فتويان :

الأولى : هي ما تقدم الاشارة إليها ، وهي جواز اجارة أدوات الانتاج وجواز الكسب الواقع على هذه الاجارة باتفاق علماء الاسلام.

الثانية : عدم جواز اجارة رأس المال النقدي وعدم جواز الكسب الواقع على هذه الاجارة ، وهذا الحكم هو مورد وفاق علماء الاسلام الملتزمين بالنصوص القرآنية و الروائية.

وهنا قد يتساءل النمر فيقول : إذا كان بالامكان اجارة أداة الانتاج بما انها عمل مختزن ، وكذلك يجوز اجارة البيت للعلة نفسها ، فكذلك يجوز اجارة رأس المال النقدي ، فأي فرق بينهما ؟

وفي الجواب عن ذلك : نقول : إن الاسلام عندما سمح لأداة الانتاج أن تؤجر وكذلك الأمر في البيت ، وكذلك الأمر في ايجار الانسان نفسه للعمل ، فان هذا يكشف عن قاعدة ايجابية في الفقه الاسلامي ، هي : أن العمل المباشر والعمل

ص: 292

المختزن هوجهد ، فالاجرة التي يتسلّمها عن العمل المباشر تكون في مقابل الجهد الذي بذله العامل مباشرة ، و كذلك الأمر في الدار وأداة الانتاج ، فانه عمل مختزن فيكون جهداً قد تم انفصاله عن العامل ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن ، إذن تكون الاجرة في كل هذه الأمثلة هي في الحقيقة اجرة على عمل.

أما بالنسبة الى رأس المال و منعه من النمو عن طريق الاجارة ، فان هذا أيضاً قاعدة ، إلاّ أنها عكس القاعدة الأولى ، وهي عبارة عن : « أن كل كسب لا يسوغه عمل منفق فهو حرام » ، وما نحن فيه هو أحد مصاديق هذه القاعدة ، وتوجد مصاديق اخرى لها. مثلاً ، إذا أجرتُ داراً بخمسين ديناراً ثم أجرتها بالسعر نفسه مع سكناي في الدار ، أو بأكثر من السعر مع عدم سكناي في الدار ، فهنا يوجد كسب لي من دون عمل. وهذا لا يجوز ، كما عليه جملة من علماء الاسلام (1) وفي هذا الحكم نصوص كثيرة منها :

صحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما ( الإمامين الباقر أو الصادق علیهماالسلام أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ، و يدفعه الى آخر فيربح فيه قال : « لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئاً » (2).

وصحيحة محمد بن مسلم الثانية ، عن أحدهما علیه السلام قال : سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه و يعطيه من يخيطه و يستفضل ، قال : « لا بأس قد عمل فيه » (3).

وصحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق علیه السلام قال : « لو أن رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وأجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ،

ص: 293


1- كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي / راجع المبسوط للشيخ الطوسي / ج 3 ص 336 / عن اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر / ص 607.
2- وسائل الشيعة / ج 13 / باب 23 من أحكام الاجارة / ح 1 / ص 265.
3- المصدر نفسه / ح 5.

ولايؤاجرها بأكثر مما استأجرها به ، إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (1).

وصحيحة الحلبي الثانية ، عن الامام الصادق علیه السلام في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به قال : « لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (2) وغيرها.

ونقل الجزيري ، عن فقهاء الأحناف « أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين ، كجنيه في الشهر ، فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة » (3).

وذكر السرخسي الحنفي في « مبسوطه » ، عن الشعبي ، في رجل استأجر بيتاً وأجره بأكثر مما استأجره به ، أنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه و يغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل ، وعلق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً ، نحو فتح الباب واخراج المتاع ، فيكون الفضل له بازاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف ... و كان ابراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فان زاد فيه شيئاً طاب له الفضل ، وأخذنا بقول ابراهيم (4).

وهذا الذي نقلناه عن علماء السنة هو نفسه ماذهبت إليه الإمامية مستندةً الى النصوص الشرعية ، وحينئذ نقول : إن كسب المرابي هو كسب بلا عمل فلا يجوز. أفهل يقبل الدكتور النمر على هذه النتيجة الاقتصادية الشرعية ؟

الفرق بين العقارات وأدوات الانتاج ورأس المال :

قد يقول الاستاذ النمر : كما يمكنك أن تستأجر داراً تسكنها برهة من الوقت ثم تدفعها الى صاحبها مع اجرة معينة ، كذلك يسمح لك في القرض الذي يقرض

ص: 294


1- المصدر نفسه / باب 22 / ح 3.
2- المصدر نفسه / ح 4.
3- الفقه على المذاهب الأربعة / ج 3 ص 117.
4- المبسوط / للسرخسي ج 15 ص 78 ، عن اقتصادنا ص 613.

بالفائدة أن تقترض كمية من النقود لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثم تدفع الكمية نفسها مع اجرة محددة الى الشخص الذي استقرضت المال منه.

الجواب : يوجد فرق نظري بين العقارات و أدوات الانتاج ورأس المال النقدي. فان العقارات والأدوات الانتاجية هي عمل مختزن ، فيكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه من خلال استخدام العقار أو أداة الانتاج التي يباشرها ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن. إذن ، الكسب قام على أساس عمل منفق في السلعة ، وهذا يجوز كما تقدم.

أما الكسب المضمون القائم على رأس المال النقدي ، فليس له ما يسوغه نظرياً ، لأن التاجر الذي يستقرض ( الف دينار ) لمشروع تجاري بفائدة معينة ، فانه سوف يدفع الألف دينار في الوقت المحدد الى الدائن من دون أن يستهلك منها ذرة ، وحينئذ تصبح الفائدة كسباً غير مشروع لأنه لايقوم على أساس أي عمل منفق ، فطبيعة رأس المال النقدي عند القرض لا يؤدي الى استهلاك شيء أصلاً ( لا منه ولا من العمل المتجسد فيه ). أما انتفاع المستأجر بالبيت أو الأداة فانه يؤدي الى استهلاك شيء من العمل المختزن فيها ، ولهذا اجاز لصاحب البيت أن ينتفع لقاء العمل الذي استهلك من استخدام الدار أو الأداة (1).

المسوغ للفائدة :

قد يقال ، كما قالت الرأسمالية على يد بعض رجالاتها : إن القيمة التبادلية لدينار اليوم هي أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل ، فاذا أقرضت غيرك ديناراً الى سنة ، كان من حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار ، لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته ، فالفائدة هي الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل.

ص: 295


1- يراجع اقتصادنا / للسيد الشهيد الصدر للتوسع ج 2.

الجواب : ان هذا الكلام قد يحصل عكسه في بعض الظروف ، كما إذا كانت قيمة السلع عالية جداً نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي و نجوم الحرب في البلاد وضعف الحكومة ، ثم بعد فترة من الزمن يتحسن الوضع الاقتصادي وتنتهي الحرب وتأتي للحكم حكومة قوية ، فهنا ترتفع قيمة الدينار بحيث إنه إذا كانت قيمته التبادلية كيلواً من السكر ، فأصبحت قيمته التبادلية كيلوين من السكر ، فهل هنا يقول الاقتصاديون الرأسماليون بأن من أقترض خمسين ديناراً وقت الحرب ، فبعد الحرب يؤدي خمسة وعشرين ديناراً لانها هي القيمة التبادلية للخمسين ؟

أقول : لا أظن أن يلتزم بهذا أحد منهم ، وما ذلك إلاّ لأن المقرض هي الدنانير نفسها ، والدنانير هي هي بطبيعتها لا تنزل قيمتها ولا ترتفع ، وإنما الذي ينزل ويرتفع هي السلع ، وهذه السلع ليست هي المُقرَضَة حتى نُلزِم المدين بما يساويها.

ثم حتى لو سلّمنا بصحة هذه المقالة وهي : « أن القيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل » إلاّ أن هذا وحده لا يسوغ الفائدة مالم تتفق الفائدة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي عن العدالة. فمثلاً ، نحن نعتقد أن كثيراً من العناصر لها دخل في تكوين القيمة التبادلية لسلعة من السلع بعد الانتاج ، كالعامل الذي يغزل الصوف الذي أملكه أنا ، والماكنة التي هي لزيد والتي لها دخل في غزل الصوف ، ووجود قيمة تبادلية للصوف ، هذه الامور كلها لها دخل في تكوين القيمة التبادلية ، إلاّ أنها ليس لها نصيب في تلك السلعة في التوزيع الاسلامي ، وإنما لها الأجر من صاحب الصوف. إذن ، عناصر الأنتاج ليس لها نصيب في السلعة المنتجة بعد الانتاج ، وإنما لها اجور فقط لأنها أدت بذلك عملاً ، وعمل المسلم محترم. فهنا في مسألتنا فلنفترض أن المرابي بأمواله التي قدمها الى المستقرض كان قد تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة ( الصوف المملوك ) إلاّ أن هذا لوحده لا يسوغ أخذ اجرة ، ما لم تتفق الاجرة المأخوذة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي ، ولكننا نجد أن الاسلام - كما تقدم - لا يجيز كسباً من دون انفاق عمل مباشر أو مختزن ، والفائدة

ص: 296

هي من هذا القبيل لأنها تبعاً للتفسير الرأسمالي المتقدم ، نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق ، وإذا كان هذا هو المدعى ، فمن حق المذهب أن يمنع الرأسمالي عن استغلال دور الزمن في الحصول على كسب ربوي ، حتى لو اعترف المذهب بدور ايجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة ، إلاّ أن هذا في السلع والنقد الذي تحت يده وتصرفه ، أما إذا أقرضه لآخر وملَّكه له مع الضمان ، فليس له أن يطالب بأكثر مما ملّك ، لأنه كسب بدون عمل.

والى هنا تم الحديث مع الدكتور النمر من الناحية التشريعية الفقهية ، ولنا معه حديث آخر من الناحية الاقتصادية ، إذ لعله لاينسجم مع الشريعة والفقه وإنما ينسجم مع الاقتصاد الرأسمالي أو الماركسي ، وسوف نبيّن فيما بعد أن الماركسية تمنع من الربا ، كما أن الرأسمالية تعترف بواسطة أقطابها ( كينز ) وأمثاله بأن الفائدة كلما انخفضت تحسن الوضع الاقتصادي العام ، وكلما ارتفعت تدهور الوضع الاقتصادي العام ، فاذا كان هذا هو المصرح به عندهم كما سيأتي ، يتضح أنَّ كبار الاقتصاديين الرأسماليين أدركوا أن انخفاض الفائدة الى نصف الواحد بالمائة هو الأسلم للأقتصاد العالمي. إذن ، فهم يرون ضررها أكثر من فائدتها ، ولعل بهذا الذي سيأتي يقتنع الدكتور النمر ، وما علينا إلاّ الارشاد والتذكير بما ينفع الناس.

2 - مع الدكتور جمال مرسي بدر

بعد نشر موضوع النمر بأربعة أيام نشرت الأهرام كلمة تحت عنوان : « حكم الشرع في فوائد القروض والودائع المصرفية » لكاتب يدعى الدكتور جمال مرسي بدر ، استاذ الشريعة الاسلامية بجامعة نيويورك. قال الدكتور في مقاله :

« إني أتفق مع فضيلة الدكتور النمر كل الاتفاق في الرأي الذي قال به ، وإن كنت أقترح تبريراً آخر للوصول الى النتيجة نفسها ».

والتبرير هو : « إن القاعدة في الفقه الاسلامي ، أن الأحكام المانعة التي

ص: 297

تقضي بالتحريم لا يتوسع في تفسيرها ولا يجوز سحبها على ما لم يرد به النص ، ومن ثم فإن الحديث الشريف الذي يحرِّم أي زيادة في تبادل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة لا يجوز أن نعتبره منطبقاً على نقود من غير هذين الصنفين ».

ثم قال : « ولمّا ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة كالنحاس أو البرونز ، أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لا يسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ، ولما كانت النقود الورقية هي المثل البارز للنقود بالاصطلاح ، فان القاعدة التي طبقها القدامى على غيرها من النقود بالاصطلاح تنطبق على النقود الورقية من باب أولى وآحرى ، ولذلك لا تكون الفوائد في عصرنا هذا من قبيل الربا المحرم ».

أقول : لعمري إنه حاطب ليل ، فقد خلط بين حديث الأصناف الستة الوارد في ربا البيع من جهة وربا القرض الذي تحدث عنه الدكتور النمر من جهة أخرى. فعلى الاجتهاد السلام إذا كان الدكتور مجتهداً قد أدلى برأيه كما هو واضح.

ولعل السبب في هذه الفتاوى هي الشهادات التي تعطى لغير مستحقيها من طلاب الدنيا الذين لاورع لهم في الدين إلاّ بقدر ما تدرّ عليهم الدنيا من أرباح ظاهرة ، بل هي سبب خسرانهم في الآخرة ، فان الدنيا مزرعة الآخرة. وما نعمل وكل انسان فمه مفتوح يقول من دون حساب ولا مسؤولية ، لأن الدولة التي ينتمي إليها قد قررت عملاً محرماً في الشريعة الاسلامية ، ولابُدَّ لطلاب الدنيا من التأييد والتسديد وجمع الأدلة الواهية وإن كانت شيطانية ؟

نعم ، ليس علينا إلاّ الرد ، ولكن للحقيقة فقط نقول : لقد جانب صاحب المقال الصواب بقوله : « ولما ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة ... أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لا يسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن

ص: 298

يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ... ».

واليك الأدلة على ذلك ( في خصوص الفلوس ) :

ورد في المدونة الكبرى للامام مالك 3 ( 395 - 396 ) بعض الروايات الدالة على الربا في الفلوس منها :

أ - ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه قال : الفلوس بالفلوس بينهما فضل فهو لايصلح في عاجل لآجل ، ولا عاجل بعاجل ، ولا يصلح بعض ذلك ببعض.

ب - قال الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد وربيعة ، أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة.

ج - الحنفية : « شرح العناية على الهداية » و ( شرح فتح الغدير » ( 6 / 162 ) :

« الفلوس الرايجة أمثال متساوية قطعاً ، لاصطلاح الناس على اصدار قيمة الجودة منها ، فيكون أحد الفلسين فضلاً خالياً عن العوض مشروطاً في العقد وهو الربا ». وأما الأدلة الدالة على تقوله على أقوال العلماء ( فيما يشمل الفلوس ) فهي :

أ - مالك في « المدونة » ( 4 / 25 ) : « وكل شيء أعطيته الى أجل فردّ إليك مثله وزيادة فهو ربا ».

ب - قال ابن قدامة في « المغني » ( 4 / 364 ) : « المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ».

ج - قال ابن تيمية في « مجموع الفتاوى » ( 29 / 535 ) : « لا يجب في القرض إلاّ ردّ المثل بلا زيادة ». وقال : « وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء. والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته ».

د - أهل الظاهر : الذين وقفوا عند الأصناف الستة في ربا البيع ، كابن حزم في « المحلّى » ( 8 / 462 ) قال : « ولا يجوز في القرض إلاّ ردّ مثل ما اقترض » وقال في

ص: 299

موضع آخر ( 9 / 509 ) : « والربا يجوز في البيع والسَلَم إلاّ في ستة أشياء فقط ... وهو في القرض في كل شيء فلا يحل اقراض شيء ليردّ إليك أقل ولا أكثر ... ».

ومما ورد عن الإمامية قول المحقق الحلي في الشرائع ( ج 2 / 67 ) عن حقيقة القرض : « والاقتصار على رد العوض فلو شرط النفع حرم ولم يفد الملك ». ثم قال فيما يصح اقراضه ( ص 68 ) : « وهو كل ما يضبط وصفه وقدره ، فيجوز إقراض الذهب والفضة وزناً والحنطة والشعير كيلاً ووزناً ، والخبز وزناً وعدداً ... وكل ما يتساوى أجزاؤه يثبت في الذمة مثله ... وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم ». وواضح دخول الفلوس والأوراق النقدية في هذه الفتوى.

أقول : لا أحب أن أطيل على الدكتور مرسي بدر في نقل الفتاوى من قبل علماء الاسلام الذين نسب إليهم عدم القول في حرمة ربا الفلوس ، وألحق بها الأوراق النقدية ، بل أقول له : ان هذا الاطباق على حرمة ربا القرض سواء كانت في الذهب أو الفضة ، أو في الفلوس ، أو في الأوراق النقدية ، إنما نتج عن اطلاق النصوص القرآنية والروائية عن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وأهل بيته الكرام ، وعن الصحابة. فمن الروايات التي وردت عن أهل البيت علیهم السلام ما تقدم من صحيحة علي بن جعفر في « قرب الإسناد » عن أخيه الامام موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألت أخي موسى علیه السلام عن رجل أعطى رجلاً مائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر. فقال : هذا الربا المحض (1) ». وموثق إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي إبراهيم الامام موسى بن جعفر علیه السلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل ، كراهة أن يأخذ ماله ، حيث لا يصيب منه منفعة ، يحل ذلك له ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن شرطاه (2) ».

ص: 300


1- وسائل الشيعة / ج 12 باب (12) من أبواب الصرف / ح 1.
2- المصدر نفسه / ج 13 / باب (9) من أبواب الدَين والقرض / ح 13.

وواضح أن الرواية الاولى لم تقيّد الدرهم بالفضة ، بل كل نقد سواء كان من فضة أو من غيرها ، وكذا الأمر في الدينار. أما الرواية الثانية ففيها لفظة المال التي هي عامة لكل مال ، سواء كان نقداً ذهباً ، أم فضة ، أم نحاساً ، أم ورقاً ، أم شيئاً آخر من الأموال ، فان كانت الزيادة بشرط والتزام فهي الربا ، أما إذا كانت برضا المقترض ومن دون إلزام ، فهي حلال ، كما عبّرت به بعض الروايات بأن خير القرض ما جرّ نفعاً.

ومن الغريب أن الحديث الذي أخرجه صاحب « بلوغ المرام » عن علي علیه السلام ، وقال عنه السيد رشيد رضا : « انه جرى على ألسنة العوام والخواص » وهو : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا (1) » هو مروي من قبل رواة أهل السُنّة وهو أحد أدلتهم على حرمة الربا ، فكيف خفي هذا على النمر ورفيقه المرسي ؟!

وبعد هذه الفتاوى على حرمة ربا القرض في الفلوس وغيرها من الأموال ، والنصوص التي ذكرناها ، وهي غيض من فيض ، هل يستحق كلام المرسي من دراسة أو يكون مؤيداً للنمر ؟!!

3 - مع الدكتور محمد سيد طنطاوي

ثم انه قد طالعتنا جريدة النور / السنة الثامنة / العدد (387) الأربعاء (30) ذوالحجة ( 1409 ه ) المصادف (2) اغسطس ( 1989 م ) بفتويين غريبين للدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي جمهورية مصر. وإليك كلا السؤالين وجوابهما :

1 - وردت رسالة للمفتي برقم (145) بتاريخ (4) يوليو الماضي من ( ج.م ) تضمنت سؤالاً جاء فيه : « شهادات الاستثمار التي تدرّ عائداً شهرياً محدداً ، هل

ص: 301


1- راجع كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » ص 192.

العائد حلال أم حرام ؟ ».

2 - وردت رسالة للمفتي برقم (256) جاء فيها « أن السائل كان مودعاً أمواله بأحد البنوك الاسلامية ، ونظراً لما حدث لبعض شركات توظيف الأموال قام بسحب أمواله وأودعها في أحد البنوك الحكومية بفائدة محددة ، ويسأل عن حكم هذه الفوائد المحددة ». وقد أجاب المفتي بإجابة واحدة على السؤالين ، قال فيها : « يرى جمهور الفقهاء أن العائد من الأموال المودعة بالبنوك هو من قبيل الشبهات أو الربا ، لأن العائد قد حدد مقدماً زمناً ومقدراً. ويرى البعض الآخر أن هذا العائد هو من قبيل المضاربة الشرعية فهو حلال. ونحن نرى أنه لامانع من الأخذ بالرأي الثاني رعاية لمصالح الناس ، ولأن تحديد نسبة الربح لم يرد ما يمنعها في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة. وهذا إذاكان الحال كما وردبالسؤال ، واللّه أعلم ».

أقول : يبدو وجود محاولات حكومية تبذل حالياً لهدف الوصول الى فتاوى بحلّيّة فوائد البنوك التي هي تابعة للدولة ، ولكن هذه المحاولات غير ذكية بل جاهلة ، حيث إن محاولة الدكتور النمر في الحلّيّة تتعارض مع محاولة السيد طنطاوي ، حيث إن الأول حلل الربا وكان أحد أدلته « أن الربا إنما حرم من ناحية التحديد في سعر الفائدة » بينما السيد طنطاوي يقول : « إن تحديد نسبة الربح في الأموال المودعة في البنك لم يرد ما يمنعها في القرآن الكريم أو السُنّة الصحيحة ».

أقول : نعم ، المهم هوالتحليل لما حرّم اللّه ، أما الدليل فليس مهماً !

الفرق بين الربا والمضاربة الشرعية :

الفرق بين الربا والمضاربة الشرعية : (1)

الربا هوعبارة عن أخذ الفائدة على رأس المال النقدي في مقابل الامهال.

ص: 302


1- انما قلنا المضاربة الشرعية ، لأنه يوجد اصطلاح للمضاربة في الاقتصاد الحديث. ومعناها في الاقتصاد الحديث : « رغبة بعض الأفراد في تحقيق الأرباح عن طريق الاستفادة من تقلبات معدلات الفائدة الناجمة من تغيرات أسعار السندات » « الدخل القومي والاستثمار » ص 173.

وهذا قد وقفت منه النصوص الشرعية ، قرآنية وروائية ، موقفاً حاسماً. فمن الآيات القرآنية قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) (1).

وأما الروايات المانعة فهي كثيرة سوف نعرض قسماً منها فيما بعد.

إذن ، الاسلام لم يوافق على أن يكون رأس المال مكسباً على نحو اجارة الدور أو الآلات التي تدخل في الانتاج وتُؤخذ الأجرة عليها.

ولسائل أن يسأل : إذن كيف يتمكن المالك لرأس مال نقدي أن ينميه ؟

الجواب : إن رأس المال النقدي قد جعل له الاسلام طريقاً للتنمية ، وذلك بدخوله في التجارة « إما أن يتاجر فيه صاحبه ، وإما أن يعطيه لمن يتاجر به ، على أن تكون نسبة مئوية لصاحب المال ونسبة مئوية أيضاً للعامل » وإذا خسر المشروع فلا يجوز أن يجبر العامل على تحمل الخسارة ، وإنما حدد الشرع الخسارة على صاحب المال النقدي ، أما العامل فقد خسر عمله ، وهذه العملية هي التي تسمى بالمضاربة أو القراض ، وهي عقد شرعي قد أجازه الشارع لتنمية رأس المال النقدي. وهذا المعنى للمضاربة الذي أحلّه الشارع هو المعنى اللغوي للكلمة ، ومعنى المضاربة في اللغة هو « اتجار انسان بمال غيره (2) ». وفي مجمع البحرين : « المضاربة : مفاعلة ، من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة (3) » ، ومن أراد

ص: 303


1- البقرة / 275 إلى 279.
2- المؤتمر الثاني لجمع البحوث الاسلامية / د. محمد العربي ، ص 83.
3- ج 2 باب ضرب ، ص 107.

التوسع فعليه مراجعة كتابنا : « الربا فقهياً واقتصادياً » لمعرفة شروط المضاربة بتفاصيلها وعناصرها المهمة الدخيلة في تكوينها (1).

وفي الحقيقة : إن المضارب عامل يعمل بأموال غيره ، فعندما يحولها الى أعيان بالشراء ويبيعها ، فكل الربح يكون لصاحب المال حيث إن ماله قد تحول الى مال آخر ، فيستحق كل الربح ، وبما أنه قد تعهد أن يعطي للعامل نسبة من الربح ، فهو في الحقيقة قد تنازل عن شيء من أمواله التي يملكها لهذا العامل حسب الاتفاق السابق في العقد ، كما أن للعامل أن لايوافق على عقد المضاربة ، بل يتفق مع صاحب المال على العمل في التجارة بأموال صاحب المال لقاء أجر ثابت ، وبذلك يدفع عن نفسه احتمال الخسارة في عمله ، وقد أجاز الشارع المقدس لعمل العامل كلا الطريقين ، ولكن يمتاز طريق الأجر بعنصر الضمان على أجره بقطع النظر عن نتائج العمل وما يسفر عنه الانتاج من مكاسب أو خسائر. وأما طريق المشاركة في الأرباح بنسبة مئوية ، بأمل الحصول على مكافأة أكبر ، فحقيقته أن العامل قد ربط مصيره بالعملية التي يمارسها وفقد بذلك الضمان ، اذ إنه من المحتمل أن لا يحصل على شيء إذا لم يربح المشروع التجاري ، ولكنه في مقابل تنازله عن الضمان يفوز بمكافأة منفتحة ، غير محددة ، تفوق الأجر المحدد في أكثر الأحيان. وهذا الأسلوب الثاني نظم الاسلام أحكامه عن طريق عقد المضاربة ، ومثلها المزارعة والمساقاة والجُعالة. والذي يهمنا هنا هوالمضاربة ، فمن الأدلة على جوازها شرعاً صحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق علیه السلام قال : « المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شيء إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال (2) » وصحيحة الحلبي الثانية عن الامام الصادق علیه السلام أنه قال : « في المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شيء ، إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال ،

ص: 304


1- ص 435.
2- وسائل الشيعة / ج 13 / باب (1) من أبواب المضاربة / ح 4 ص 181.

فإن العباس كان كثير المال ، وكان يعطي الرجال يعملون به مضاربة ، ويشترط عليهم أن لا ينزلوا بطن واد ، ولا يشتروا ذا كبد رطبة ، فإن خالفت شيئاً مما أمرتك به فأنت ضامن المال (1)».

ثم إن من نافلة القول تأكيد أن عقد المضاربة إنما يصح في التجارة بالمال ، فالمال من فرد والعمل من آخر ، أو المال من جماعة والعمل من جماعة ثانية ، والربح نسبة محددة والخسارة على ربّ المال ، والعمال خسروا العمل ، ولا يصح تضمين العمال للخسارة ، فان كل هذه الشروط هي في باب المضاربة التي يذكرها علماء الاسلام ، ولسنا الآن بصددها.

ولكن نقول : للمفتي ( طنطاوي ) كيف رجّحت القول القائل بأن الأموال المودعة في البنك وتدر عائداً شهرياً محدداً ( كما في السؤال الأول والثاني ) بأنها مضاربة شرعية ، فأين شرط المضاربة من كونها في التجارة وأن الربح نسبة مئوية ، والخسارة إن حصلت فهي على صاحب المال ؟ فأين هذه الشروط ممن يودع ماله في البنك نتيجة العائد المحدود الذي هو ربا واضح ؟!!

وإذا كان هذا مضاربة ، فأين يوجد الربا القرضي ؟

ثم إنه لماذا تقول إن جمهور الفقهاء يرون أن العائد من الأموال المودعة بالبنوك هو من قبيل الشبهات أو الربا ، فأين الشبهة يا استاذ ؟ أليس أن القرآن الكريم والسُنّة النبوية قد حرمت الربا بصورة قاطعة ، فأين الشبهة ؟!

ثم هل يجوز الأخذ بصالح الناس - حسب قولك - إذا كان يخالف القرآن والسنة ؟ وهل الصالح هو بتحليل الحرام ، أو بتحريم الحلال ؟ وإليك يا مفتي مصر العربية ، يا من تتجه إليه الأسئلة الدينية ، هذا الكلام الاقتصادي لتعرف إن كانت مصلحة الناس في تحريم الربا أو في تحليله !

ص: 305


1- المصدر نفسه / ح7.

هل ينمو الانتاج بأخذ الفائدة ؟

ذكر الاقتصاديون : أن ارتفاع سعر الفائدة يؤدي الى انخفاض حجم الاستثمار ، وانخفاض سعر الفائدة يؤدي الى ارتفاع حجم الاستثمار. وبطبيعة الحال إن انخفاظ الفائدة يؤدي ( اضافة الى ما ذكرنا ) الى ارتفاع الدخل القومي ، وبالتالي الى ارتفاع الاستهلاك والادخار. كما أن ارتفاع الفائدة يؤدي ( اضافة الى ماذكرناه ) الى تخفيض الدخل القومي ، وبالتالي الى خفض الاستهلاك والادخار ، فاذا منعنا الادخار فيتعيّن الجانب الآخر ، وقد نهى الاسلام من الادخار بالآية القرآنية الواضحة : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (1).

ولما كانت النتيجة واضحة ( وهي أن ارتفاع سرع الفائدة يؤدي الى انخفاض حجم الاستثمار والى قلة الدخل القومي والعكس صحيح ) فلماذا إذن لا تحظر الفائدة اقتصادياً ؟ ، فإن في منعها أو تحريمها اقتصادياً أو شرعاً فوائد اقتصادية هي ارتفاع حجم الاستثمار وارتفاع الدخل القومي ، وفي اباحتها تأخير للاستثمار وتقليل للدخل القومي. وإذا سارالاقتصاد العالمي في طريق مع الفائدة أو تحريمها فلا حاجة إذن للادخار ، إذ أنَّ الادخار أساس الاقراض بالفائدة ، وكما قلنا سابقاً إن الأموال إذا لم تدخر لابُدَّ لها من أن تصرف في وجوه البر والخير والصلاح والمصالح العامة ، أو أن تستثمر في التجارة والصناعة على أساس المشاركة والمضاربة حسب اختلاف الأفراد. وبهذه الطريقة تكون النتيجة واضحة وفي صالح الدولة كما هو واضح.

ص: 306


1- التوبة / 34 - 35.

وهنا يدور في خاطرنا سؤال نعرضه على الاقتصاديين وهو : لماذا لا يحظر الاقتصاديون الفائدة إذا كان في منعها زيادة لدخل الفرد ولحجم الاستثمار ؟

إنّ هذا السؤال يحتاج الى جواب ليس هذا محله ، فللأوضاع السياسية ولأرباب البنوك دخل في ذلك ، إذ ليس السياسيون يريدون صلاح المجتمعات ككل ، بل يريدون صلاح دنياهم ولو كانت على جماجم الآلاف من المستضعفين. لذا نراهم يسلكون ما فيه اشباع لشهواتهم الحيوانية ، وإن أدى الى ظلم المجتمعات الكبيرة ، كالحيوان الذي لا يرى إلاّ شهوته وهي مقدمة على كل الناس.

ويجدر بنا هنا أن نعرض أشكالاً بيانية من الاقتصاديين ليلتفت الاستاذ الى أن تحريم الفائدة هوالمصلحة للناس ، لا تحليلها.

الصورة

الشكل رقم ( أ ) (1)

فالشكل رقم ( أ ) يشير الى تحديد سعر الفائدة بالكمية النقدية وبتفضيل السيولة ، فلو انخفض معدل الفائدة الى الصفر تكون كمية النقود المبذولة للاستثمار أكثر من أي وقت ، وإذا ارتفعت الفائدة انخفضت كميات النقود المبذولة للاستثمار.

ص: 307


1- « الاقتصاد السياسي » د. رفعة المحجوب ، ج 2 شكل 45 ص 289.

الصورة

الشكل رقم ( ب ) (1)

وهنا في شكل ( ب ) نرى أن انخفاض معدل الفائدة يزيد من الادخار والاستثمار ، والعكس صحيح ، وإذا منعنا الادخار وخفضنا الفائدة تجمعت الأموال للاستثمار.

الشكل رقم ( ج ) (2)

ص: 308


1- « الدخل القومي والاستثمار » شكل رقم (2) ص 166.
2- المصدر نفسه شكل رقم (5) ص 181.

وهذا الشكل أيضاً يدل على أن انخفاض سعر الفائدة يجعل حجم الاستثمار كبيراً ، فاذا انعدمت الفائدة كان حجم الاستثمار أكبر بالاضافة الى زيادة الدخل القومي لزيادة حجم الاستثمار ، أي أنه ( إذا كانت الكفاية الحدّية لرأس المال ثابتة فان حجم الاستثمارات يزداد كلما كان معدل الفائدة منخفضاً ، والعكس صحيح ).

وقد يرد بعض الاقتصاديين على هذه الحقيقة بقولهم : إن أيام الأزمة أو أيام الكساد مثلاً سنة (1931) كانت الأسواق مملوءة بالسلع والطلب كان قليلاً ، فحتى لو خفّضت الحكومة معدل الفائدة الى أقل سعر ممكن أو الى الصفر ، فإن طلب أموال لأجل الاستثمارات لن يزيد ، إذن حجم الاستثمار يعتمد على الأرباح التي سوف يتوقع المنظم الحصول عليها من بيع السلع بالدرجة الاولى ، وبعد ذلك يعتمد على معدل الفائدة.

ولكن يجاب بأن أزمة سنة (1931) شاذة عن القاعدة ، ونادرة الوقوع وكان الأفراد قليلي الدخل. وقد يكون لها أسباب اخرى ليس هنا محل ذكرها.

وماذا بعد تحريم الفائدة يا مفتي الجمهورية المصرية ؟

نقول : إن المفاسد المترتبة على اباحة الربا ( قلة الدخل ، وقلة حجم الاستثمار ) سوف تزول وتستبدل بها صور نافعة ، أما حلّية الفائدة فهي تحرّض الانسان على انفاق أقل ما يمكن على نفسه وادخار أكثر ما يستطيع ، وتوعد الدولة من لم يدخر بأن ليس في المجتمع من يأخذ بيده عند الطوارىٌ والكوارث الى شاطئ الرحمة والرأفة. وقد رأينا سابقاً ما يترتب على ارتفاع سعر الفائدة أو حلّيتها من قلة الدخل ، وانتشار البطالة ، وقلّة حجم الاستثمار ، وما الى ذلك.

ص: 309

لماذا خلاف القرآن الصريح بين الحين والآخر ؟

نقول : ان الذي جرّأ بعض الأستاتذة في الفقه على القول بحلّية ربا القرض ، هو المسلك الذي سار عليه بعض فقهاء السلطة في ذكر الأدلة الدالة على تحريمه ، مدعين ان الآيات القرآنية نزلت في ربا الجاهلية ، وهو يختلف عن ربا القرض ، فالنتيجة : أن ربا القرض لم تكن له أهمية كبيرة عند بعضهم ، ولذا فقد أهمله بعض منهم وشك في حرمته آخرون (1) ، ولهذا تسمع بين الحين والآخر أصواتاً تدعو لحلّيته ، ونرى المخلصين منهم يردون بحماسة بالغة ولكن من دون تقديم الأدلة الرادعة على ذلك سوى قولهم : ان المؤتمرات حرّمت ربا القرض ، « وكذلك الفتاوى الجماعية التي صدرت عن المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية المتخصصة » (2).

ولكن الذي أراه أن هذا غير كاف لردع الأصوات التي تنادي بحلّيته ، لأنها تحتاج الى دليل فقهي يقنعهم بالحرمة ، ونحن نذكر أدلتهم على حرمة ربا القرض لأجل أن نوضح السير الضعيف لهذه الأدلة ، ثم نذكر الأدلة التي ذكرها علماء الإمامية على الحرمة ( وهي أدلة قرآنية وروائية ) مقنعة وصريحة وكثيرة تصل الى حدّ التواتر الموجب لحصول القطع على حرمة ربا القرض.

الأدلة المذكورة على حرمة ربا القرض :

1 - فمن الأدلة ما ذكره السنهوري وغيره بقوله : « لأن الزيادة تشبه الربا لأنها فضل لا يقابله عوض والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب » (3).

ص: 310


1- راجع « نظرية الربا المحرم في الشرعة الإسلامية » د. زكي ابراهيم بدوي / ص 32.
2- جريدة النور / فوائد البنوك ربا محرم / د. علي السالوس.
3- السنهوري / مصادر الحق / ج 3 ص 238.

نقول : وواضح فساد هذا الاستدلال ، لأن الشبه بالمحرم لوحده لايسوّغ لنا أن نعطي حكم المحرم للشبيه ، إلاّ أن يكون الشبه من جميع الجهات ، وهنا الشبه ليس من جميع الجهات فهل يكفي هذا لإعطاء الحرمة لربا القرض ، على أن التحرز من شبهة الربا إذا كانت حكمية ( كما فيما نحن فيه كما يدعي ) فليست بواجبة.

وفيما أرى أن الدليل الذي ذكره السنهوري يعود الى القياس ، فقد قاسوا ربا القرض على الربا المنصوص العلة ، وهذا القياس يسمى في عرف المناطقة ( التمثيل ) وهو لايفيد الاحتمال ، نعم ، كلّما قويت وجوه الشبه قوى عندنا الاحتمال حتى يكون ظناً ، وهو في هذه الحالة لايخرج عن القيافة التي لاتغني من الحق شيئاً (1).

2 - ومن أدلتهم على حرمة ربا القرض حديث سوار الذي أخرجه صاحب « بلوغ المرام » عن علي علیه السلام وهو : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ثم قالوا : اسناده ساقط. وسوار : متروك الحديث.

وهكذا أبعدوا القرآن الكريم ( الذي هو أساس التحريم للربا القرضي الذي كان معروفاً في الجاهلية ، عن أدلة الحرمة ، ولذا نجد من يقول بحلّيته ، مثل النمر وطنطاوي وغيرهما ، وقد سبقهم الى مثل هذه الدعوى الاستاذ معروف الدواليبي في محاضراته التي ألقاها في ( مؤتمر الفقه ) بباريس ، وقد ناقشناه في كتابنا : « الربا فقهياً واقتصادياً » (2) مما لامزيد عليه. وذهب الى هذه الآراء المستشرق « مكسيم رودنسون » في كتابه : « الاسلام والرأسمالية » (3) بل ادعى أكثر من ذلك بقوله : إن الآيات التي حرمت الربا تشير الى مضاعفة الدّين إذا عجز المدين عن الوفاء به في أجله. ثم قال : « ولعل تحريم الربا كأكثر نواهي القرآن ( وفي الوقت نفسه كأكثر أحكام الأديان الاخرى ) قاعدة عارضة دعت إليها ظروف مؤقتة ». وفيما

ص: 311


1- راجع كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » ص 74 وما بعدها.
2- ص 394 ومابعدها.
3- ترجمة نزيه الحكيم ص 50.

أظن أن الدكتور النمر قد تأثر أو أثر في كتابات هذا المستشرق المؤرخ الذي تطرق لقضايا العلم والفقه ، وقد ناقشنا هذا الأخير أيضاً في كتابنا المتقدم ذكره ، فراجع (1).

وممن ذهب الى ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده أو تلميذه السيد محمد رشيد رضا الذي كان كثيراً مايخلط كلام استاذه بكلامه (2). وغير هؤلاء من العلماء.

ربا القرض والربا الجاهلي :

ذكر بعضهم فرقاً بين ربا القرض والربا الجاهلي فقالوا : إن الربا الجاهلي عبارة عن معاملة مخصوصة تختلف عن معاملات الربا التي كافحتها الشرائع السماوية وغيرها وما زالت مورد تعامل عند الناس ، فيقول بعض الفقهاء : ان الربا الجاهلي هو ما أشارت اليه آية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (3) وربما يستدل أو يؤيد هذا الرأي ما روي عنهم بعبارة : « أتقضي أم تربي » التي تدل على أن الزيادة تحصل الآن ، وهذا يختلف عن الربا المتعارف الذي تكون فيه الزيادة من أول الأمر عند عقد القرض ، وإليك الآثار التي تدل على هذا التمييز.

منها : أخرج هذا الأثر جلال الدين السيوطي ، ونصه : « وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد ابن جبير في الآية قال : إن الرجل كان له على الرجل المال ، فاذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول المطلوب أخّر عني وأزيدك في مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك الربا أضعافاً مضاعفة » (4).

ص: 312


1- ص 402 وما بعدها.
2- « نظرية الربا المحرم في الشريعة الاسلامية » ابراهيم زكي الدين بدوي ص 267.
3- آل عمران / 130 - 131.
4- « الدر المنثور » للسيوطي ج 2 ص 71.

ومنها : المروي عن زيد ، ونصه : « إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن فيكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حلّ الأجل فيقول له تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلاّ حوّل الى السن التي فوق ذلك » إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة « لبون » في السنة الثانية ثم « حقه » ثم « جذعه » ثم « رباعياً » ثم هكذا الى فوق ، وفي العين ( النقد الذهبي والفضي ) يأتيه فإن لم يكن عنده ، أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضاً ، فتكون مائة فيجعلها الى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة أو يقضيه ، قال : فهذا قوله : « لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة » (1).

هكذا قصروا كل الآيات القرآنية على ربا الجاهلية ، بينما استدلالهم كما رأينا هو قصر آية (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) على ربا الجاهلية. أما غيرها من الآيات فلم يرد في تفسيرها ذلك ، ولكن اشتبه الأمر عليهم فذهب قسم منهم الى أن الآيات القرآنية تحرم ربا الجاهلية فقط. وقد جرّ البحث بعضهم الى أن لفظة الربا المحلاة بالألف واللام ، هل هي للجنس أم للعهد ؟ ولكن هذا لا يجدي في حرمة الربا القرضي مادام الانصراف الى قسم خاص من الربا وهو ( الربا الجاهلي ) يمكن أن يُدعى في المقام.

كما نرى من الخطأ البحث في عموم لفظة الربا ، إذ لا عموم فيها كما هو واضح المراد من العموم المستفاد من اللفظ ، فإن اللفظة إذا كان فيها شمول فمن مقدمات الحكمة ، ولذلك من الخطأ البحث في أنها عامة أو خاصة ، كما نقل ذلك عن المفسّر القرطبي في « الجامع لأحكام القرآن » والفقيه الشافعي الكياهراسي في كتابه « أحكام القرآن » وهو مخطوط في مصر ، وقد نقل عبارته السيد محمد رشيد رضا في رسالته عن الربا ص 24.

ص: 313


1- « جامع البيان » ج 4 ص 90.

تغيير خطة البحث :

1 - من الأرجح تغيير خطة البحث من عموم اللفظ وجنسية الألف واللام ، الى مراجعة الآثار التي ذُكرت لنرى إن كانت تثبت فقط حرمة الربا الجاهلي ، أو أنها لا تحصر الربا المحرم بالجاهلي المتقدم ذكره وإنما تشمل معاملات اخرى كانت تسمى بربا الجاهلية ؟

2 - ثم بعد ذلك : نرى الآيات الاخرى التي نزلت في تلك الفترة من الزمن ، هل المقصود منها نوع خاص من المعاملات الربوية أم تشمل كل المعاملات الربوية الموجودة في ذلك الوقت ؟ وأما آية : (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فهي تريد لفت نظر المرابين الى النتائج الفضيعة التي يسفر عنها الربا. ؟

البحث الأول : نقول : إن الآثار المتقدمة وغيرها لاتحصر معنى « ربا الجاهلية » بالمعنى الذي ذكر ، وإنما يذكر له معنى آخر وهو « القرض بفائدة » ، وقد ذكر الفخر الرازي موضحاً المعاملة التي كانت جارية آنذاك فقال : « إعلم ، أن الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل. أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوداً متعارفاً في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به » (1).

وهذا وإن كان فهماً خاصاً له ، إلاّ أنه يكشف عن معاملة ذلك الزمان بحسب رأيه في الأقل ، كما أن الآثار المتقدمة لم نستفد منها إلاّ فهمهم الخاص للربا المسمى بالجاهلي.

وفي هذا المعنى الذي ذهب إليه الفخر الرازي ماذكره الجصاص في « أحكام

ص: 314


1- « مفاتيح الغيب » المشتهر بالتفسير الكبير ج 7 ص 91 ( طبعة مصر - المطبعة البهية ).

القرآن » إذ قال : « والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير الى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد ، وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك قال اللّه تعالى : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) فاخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال المعيّن لأنه لا عوض لها من جهة المقرض » (1).

إذن ، لم يكن معنى الربا الجاهلي ذلك المعنى الخاص الذي ذكر له ، وإنما له معنى آخر كما تقدم ، وربما يكون معنى « الربا الجاهلي » هوالمعنى العام الشامل للتأخير في مقابل الزيادة والقرض بفائدة من أول الأمر ، وأن كل أثر لا يحصر معنى « الربا الجاهلي » بما قاله فلا مانع من المعنى العام للربا الجاهلي.

نعم ، إن ما جاء في « أحكام القرآن » هوالحصر ، إذ يقول : « ولم يكن تعاملهم بالربا إلاّ على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير الى أجل مع شرط الزيادة ». ولكن نقول : ان الحصر لا وجه له لما ذكر من الآثار الكثيرة الدالة على وجود ما يسمى بالربا الجاهلي المتقدم.

ثم على فرض أن يكون للربا الجاهلي ذلك المعنى الخاص الذي ذكر فقط ( وهو التأخير في سداد الدين في مقابل الزيادة ) إلاّ أن هذا المعنى لم يكن دليلاً على استعمال لفظة الربا في ذلك المعنى فقط ، بل يمكن أن تكون لفظة الربا تستعمل في « الربا الجاهلي » وفي الربا غير الجاهلي الذي كان موجوداً في ذلك الزمان وهو « القرض بفائدة » الذي كان شائعاً قبل الاسلام وفي الديانات السماوية قبل الاسلام والذي رُدع عنه أيضاً.

البحث الثاني : وهو : هل المقصود من الآيات القرآنية هو « الربا الجاهلي »

ص: 315


1- ج 1 ص 465.

الذي هو بمعنى الزيادة في مقابل تأجيل الدين الى الأجل الثاني ؟

نقول : إنما نقبل هذه الدعوى إذا صرح بالنصوص الواردة في تفسير آيات الربا كلها بأن المراد ذلك المعنى من « ربا الجاهلية ». أو أن يكون استعمال هذا المعنى من الربا الجاهلي بصورة كثيرة بحيث نُقِل المعنى العام للربا الى هذا المعنى الجديد ، باعتبار أن كثرة استعمال اللفظ وارادة معنى خاص منه يوجب أن يكون هذا الاستعمال الثاني هو المراد دائماً ويُنسى المعنى الأول ، وحينئذ إذا جاءت لفظة الربا مطلقة فلا يمكن ارادة المعنى الأول منها ، لأن اللفظة إنما يصار الى اطلاقها إذا لم تكن هناك قرينة على القيد ، وهذا المعنى الذي ذكرناه ، أو في الأقل الفرق الخاص بين اللفظة وارادة معنى معين بكثرة هو قرينة على القيد.

ثم بعد هذه المقدمة نقول :

أما التصريح بأن المراد من كل الآيات القرآنية حصة خاصة من الربا ، فلم يرد ذلك أصلا. نعم ، وردت الآثار في خصوص تفسير قوله تعالى : (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) بأن المراد منه الربا الجاهلي ، وقد تقدم أيضاً بأن الآثار عن معنى الربا الجاهلي مختلفة ويمكن أن يراد جميعها.

ثم إن آية (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) تريد لفت نظر المرابين الى النتائج الفضيعة التي قد يسفر عنها الربا ، إذ يصبح المدين مثقلاً بأضعاف ما استقرضه لتراكم فوائد الربا ، ولذا نجد القرآن الكريم في آية اخرى يقول : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، إذن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا الجاهلي وهو الذي يضاعف الدين أضعافاً مضاعفة في بعض الأحيان ، وإنما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة الى رأس المال النقدي الذي تحدد له مسوغات نموه و تشجب كل زيادة له منفصلة عن تلك المسوغات مهما كانت ضئيلة ، كما يقرره الزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله لا يظلم ولا يُظلم. وهذا سوف نوضحه في الأبحاث القادمة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 316

أما الاستعمال ، فإن لفظ الربا لاإشكال في استعماله في ذلك الزمان في الزيادة في القرض والزيادة عند حلول الأجل الذي هو « الربا الجاهلي » بالمعنى الأخص ، ولم يكن أحد الاستعمالين شائعاً بحيث يُشكِّل قرينة على الانصراف.

وعلى هذا الأساس ، تكون الآيات القرآنية غير خاصة بالربا الجاهلي بالمعنى الأخص ، سواء كانت الألف واللام للجنس أو للعهد ، وبهذا تبطل دعوى من يقول إن النهي القرآني لايشمل القرض بفائدة ، وهذه النتيجة التي وصلنا إليها بطريقتنا هذه هي مورد قبول قسم من علماء أهل السُنّة ، وان كانت طريقتهم إليها لاتخلو من ضعف ، كما تقدم ذلك.

فقهاء الامامية :

أما فقهاء الإمامية رحمهم اللّه فإن حجّتهم على حرمة ربا القرض لا تكاد أن يفكر في ردها ، ولذا لم يرد صوت واحد منهم يدعو الى دراسة فكرة تحليل ربا القرض على مدى العصور إذ أنهم يرون أن الأدلة القرآنية شاملة لربا القرض كما أنها تشمل كل ربا الجاهلية لأنها صريحة في كل زيادة بلا مسوغ من قبل الشارع الذي رسم لنا دواعي الكسب ونمو المال ، وليس منها الربا الذي نهي عنه بصورة بشعة وحاسمة. وسوف نعرض قسماً منها هنا.

ربا القرض عند الامامية :

القرض معروف عند العرف وهو : عبارة عن طلب المال من شخص أو جهة على أن يرجعه في مدة معينة أو عند الاستطاعة ، وهو عند الفقهاء : تمليك المال على وجه الضمان ، ولا فرق فيه بين أن يكون بصيغة عقد أو لا ، كالقرض المعاطاتي.

والزيادة في القرض لها صورتان :

الأولى : أن تكون في مقابل التأجيل : فهي زيادة حقيقية في الشيء نفسه لأنها زيادة على ما كان في الذمة.

ص: 317

الثانية : زيادة في عقد القرض نفسه ابتداءً ، فهي زيادة بالمسامحة العرفية وإنما تكون ربا حراماً في صورة مالو شرط النفع في عقد القرض فحصلت الزيادة ، وهذا لا يختص بالمكيل والموزون ، بل يعم المعدود والمشاهد. الأدلة على حرمته :

استدلوا على حرمة ربا القرض بأدلة كثيرة تصل الى حدّ التواتر ، منها :

1 - قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وأمثالها من الآيات الناهية ، عن التعامل بالربا وتصوره بصورة بشعة تحذر من الاقتراب منه ، فإن الحرمة هنا مطلقة لكل زيادة تؤخذ بلا عوض في بيع المتجانسين (1) ، أو في عقد القرض ، فهنا أيضاً الزيادة المشترطة قد اخذت بلا عوض في عقد القرض ، وهذا هو الربا الحقيقي.

2 - معتبرة اسحاق بن عمار ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضاً فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله ، من غير أن يكون شرط عليه ، قال علیه السلام : لا بأس بذلك مالم يكن شرطاً » (2). ومفهوم هذه الرواية أن اعطاء شيء من الربح بعقد القرض إذا كان بشرط فهو حرام وفيه البأس ، ولذا نرى أن الراوي لم يسأل عن هذه الصورة لوضوح حكمها عندهم ، وإنما سأل عن اعطاء شيء من الربح من دون شرط في عقد القرض حيث شك في حلّيته.

3 - معتبرة اسحاق بن عمار الثانية ، قال : « قلت لأبي ابراهيم الامام موسى بن جعفر علیه السلام الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة ، فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن

ص: 318


1- هنا النهي الوراد من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله قَبِله الأصحاب تبعداً ، ولكن في ربا القرض علة الحرمة واضحة.
2- وسائل الشيعة / ج 14 باب 19 من أبواب الدين / ح 3 و 13 ص 104 - 106.

يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة ، أيحل ذلك ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن شرطاً » (1) ، ومثل هذه الرواية توجد روايات صحيحة.

4 - صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر الامام الباقر علیه السلام « في الرجل يكون عليه دين الى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته ، أو يقول انقدني بعضاً وأمدّ لك في الأجل فيما بقي. فقال : لا أرى به بأساً ما لم يزد على رأس ماله شيئاً ، يقول اللّه عزّ وجلّ : (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (2). فهذه الرواية تدل على أن الزيادة في القرض ( سواء كانت في عقد القرض أو في مقابل الامهال ) فيها بأس.

5 - صحيحة علي بن جعفر ( في قرب الاسناد ) ، قال : « سألت أخي موسى بن جعفر علیه السلام عن رجل أعطى رجلاً مئة درهم يعمل بها على أن يعطيه خمسة دراهم وأقل أو أكثر هل يحل ذلك ؟ فقال : هذا الربا محضاً » (3).

6 - معتبرة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر الامام الباقر علیه السلام قال : « من أقرض رجلاً ورِقاً فلا يشترط إلاّ مثلها فإن جوزي أجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورِقه » (4).

وهذه الرواية تدل على منع اشتراط الورِق ( وهو الفضة ) الزائدة أو غير ذلك من الشروط ، كاشتراط ركوب الدابة أو العارية من الزيادات التي تسمى حكمية.

والى هنا نكتفي بسرد هذه الأدلة القاطعة على حرمة ربا القرض ، ونود التنبيه على ان هذه الروايات هي عن الأئمة ( المعصومين علیهم السلام ) حسب عقيدتنا

ص: 319


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه / باب 32 من أبواب الدين. ح 1 ص 120.
3- المصدر نفسه / ج 12 / باب 7 من أبواب الربا / ح 7 ص 437.
4- المصدر نفسه / ج 13 / باب 19 من أبواب الدين ح 11 / ص 106.

الإمامية الاثني عشرية ، فهي حجّة نحتج بها على غيرنا ، وهي حجة عليه حتى وإن لم يعتقد بعصمة الأئمة علیهم السلام ، وذلك لأن هؤلاء الأئمة علیهم السلام أكدوا في أحاديثهم أنها عن آبائهم ، عن رسول اللّه ، عن جبرائيل ، عن اللّه تعالى. وبما أن هؤلاء الأئمة علیهم السلام هم أفضل أهل زمانهم علماً وتقى وهدى وجهاداً وفضلاً ، فيجب على من يرى أن سلسلة السند كلهم من الثقات حتى الأئمة فيلزمه الأخذ بأقوالهم ، لأنها أقوال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وليس الأئمة هم بمجتهدين في الأحكام حتى يكون رأيهم كرأي غيرهم لا يمكن الاعتماد عليه بحسب رأي الآخرين في صورة المخالفة.

ومن الروايات المتواترة اجمالاً على ما ادعيناه ما رواه سماعة ، عن أبي الحسن علیه السلام الامام موسى بن جعفر علیه السلام قال : قلت له : « كل شيء تقول به في كتاب اللّه وسنّته أو تقولون فيه برأيكم ؟ قال : بل كل شيء نقوله في كتاب اللّه وسنة نبيّه » (1). ومنها ما ورد عن جابر قال : قلت لأبي جعفر الامام الباقر علیه السلام : « إذا حدثتني بحديث فاسنده لي. فقال : حدثني أبي عن جدي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، وكلما احدثك بهذا الاسناد » (2).

والى هنا يكفي ما أردنا أن نثبته للنمر وطنطاوي ومرسي ، من أن الأدلة كافية وقاطعة على حرمة ربا القرض ، وينبغي للاستاذ العالم أن لا يكتفي بما ورد من طريقه كدليل على الحكم الشرعي ، ويقلِّد مَنْ سبقه في الأقوال ، بل يجب عليه أن ينظر في أدلة الفرق الاخرى ومنها الفرقة الامامية التي اتخذت على عاتقها أن لا تتخطى القرآن والسنة في الاستدلال على الأحكام الشرعية باضافة حكم العقل ، فاذا نظر هؤلاء الأساتذة الثلاثة الى ما ذكرناه يحصل لهم القطع بالحرمة ، فلا تنبعث

ص: 320


1- بصائر الدرجات / ص 301.
2- وسائل الشيعة ، ج 18 / باب 8 من أبواب صفات القاضي / ح 67 وغيره. وأمالي الشيخ المفيد ، ص 2. ويراجع كتابنا في الحلال والحرام فإن فيه بحثاً مفصلا عن هذه الحقيقة.

أصوات من هنا وهناك لتؤيد فتوى التحليل التي هي خلاف القرآن والسنة.

ثم هناك أدلة اقتصادية تدل على حرمة الربا القرضي رجحنا ذكرها هنا اتماماً للفائدة ، وللذكرى ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وسوف نبيّن فيها أن الاقتصاديين الكبار في المجتمع الرأسمالي يصرحون بأن انخفاض سعر الفائدة يؤدي الى انعاش الاستثمار ، وبالتالي يُحسِن الحالة الاقتصادية ، وان ارتفاع سعر الفائدة يؤدي الى تدهور الاستثمار والحالة الاقتصادية ، ومن هذه النتيجة يُطرح السؤال التالي : إذن ، لماذا لا نحرّم الفائدة من الوجهة الاقتصادية ؟ وهذا ما سوف نتحدث عنه فيما يأتي ان شاء اللّه.

الأدلة الاقتصادية على حرمة ربا القرض :

إذا أردنا أن ننظر بمنظار اقتصادي للفائدة ونقوّمها من ناحية فائدتها للاقتصاد الوطني ، وعدم فائدتها أو ضررها ، فإننا نجد أن حرمة الفائدة تؤدي :

أولاً : الى القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة والصناعة ، ومصالح رأس المال الربوي ، إذ أنَّ الرأسماليين الذين يؤمنون بالفائدة « ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتد حاجة رجال الأعمال في التجارة والصناعة الى المال ، ويزيد طلبهم عليه ، لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكن لها. أما حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال ونقل حاجتهم إليه ، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة ، فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكل سخاء وبأزهد الأجور. ومن الواضح أن إلغاء الفائدة يضع حداً لهذا التناقض في حياة طبقة المرابين وطبقة التجار في المجتمع الرأسمالي ، لأن إلغاء الفائدة سوف يؤدي بطبيعة الحال الى تحويل الرأسماليين الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة الى مضاربين ( المضاربة الشرعية ) يساهمون في مشاريع صناعية وتجارية على أساس الاشتراك في الأرباح ، وبذلك يتحدد الموقف ، ويصبح رأس

ص: 321

المال في خدمة التجارة والصناعة ، ويلبّي حاجاتها ويواكب نشاطها » (1).

وبما أننا لانفرق بين طبقة الرأسماليين والتجار وما يقوم به البنك العالمي اليوم من القرض بفائدة ، فإن البنوك أيضاً تقوم بالدور نفسه الذي يقوم به المرابي من التناقض بين مصالح رأس المال الربوي ومصالح التجارة والصناعة.

ثانياً : الى الحصول على مكسب آخر من تحريم الفائدة وهو وجود العزم والطمأنينة في المشاريع الضخمة الطويلة الأمد ، إذ أنَّ صاحب المال - بعد إلغاء الفائدة - لم يبق أمامه إلاّ أمل الربح ، وهذا يُحرّكه نحو المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها ، خلافاً لحاله في المجتمع الربوي ، فإنه يفضل إقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع ، إذ أنَّ الفائدة مضمونة على أي حال ، كما أنه سوف يفضِّل أيضاً أن يقرض المال لأجل قصير ويتحاشى الإقراض لمدة طويلة لئلا يفوته شيء من سعر الفائدة ، إذا ارتفع في المستقبل القريب سعرها ، وبذلك يضطر المقرضون ( مادام أجل الوفاء قريباً ) الى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد حتى يتمكنوا من إعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها الى البنك أو الرأسمالي الكبير.

كما ان إباحة الفائدة تؤدي الى ضررين آخرين هما :

الأول : إن رجال الأعمال في ظل نظام الفائدة لن يقدموا على إقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي ما لم تبرهن الظروف على أن بإمكانهم الحصول على ربح يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي ، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف ، كما يجمد المال في البنوك وعند الرأسماليين ، ويحرمه من المساهمة في الحق الاقتصادي ولايسمح له بأي لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي ، الأمر الذي يؤدي الى عدم إمكان

ص: 322


1- اقتصادنا ، للشهيد الصدر ص 656.

تصريف كل المنتجات وكساد السوق وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية.

أما عند إلغاء الفائدة ، وتحويل الرأسماليين والبنوك الى تجار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية ، فإنهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقل من الربح لأنهم لن يضطروا الى تسليم جزء منه باسم الفائدة ، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع التجارة والانتاج ، وبذلك يتم إنفاق الناتج كله إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياً بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه ، وتوقف تصريف جزء من المنتجات على إنفاقه (1).

الثاني : إن نظام الفائدة يحث ويشجع على الاكتناز حتى يحصل لدى البنوك أو الرأسماليين رؤوس أموال لمشاريع كبار ، ولكن الاكتناز يعرقل حركة الحياة الاقتصادية ويهدد حركة الانتاج إذا حصل من الأفراد أو من المؤسسات والبنوك. وإليك توضيح ذلك :

كان في عصر المقايضة أن المنتج لاينتج إلاّ بقدر ما يستهلك ، لأنه يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها ، وحينئذ تكون السلعة المنتجة تتضمن دائماً طلباً بقدرها ، وبهذا يتساوى الانتاج والاستهلاك ، والعرض الكلي مع الطلب الكلي.

أما بعد اختراع النقد ( كوسيلة للقضاء على المصاعب المعروفة لعصر المقايضة التي ليس هنا محل ذكرها ) فقد صار المنتج ينتج لا لاستهلاكه ، بل بقصد أن يبيع ويحصل على نقد ليضيفه الى ما ادخره من نقود ، وبهذا يوجد عرض لايقابله طلب ، فيختل لأجل ذلك التوازن بين العرض العام والطلب العام ، ويتعمق هذا الاختلال بقدر ما تتسع ظاهرة الاكتناز لدى المنتجين والبائعين ، وبهذا يظل جزء كبير من الثروة المنتجة دون تصريف ، وتعاني السوق الرأسمالية

ص: 323


1- المصدر السابق ص 657.

من مشكلة تصريفها ، وبذلك تتعرض حركة الانتاج والحياة الاقتصادية لأشد الأخطار (1).

وأما الاسلام : فقد اختلف مع الرأسمالية في نظرته الى الادخار والاكتناز ، ونظرته الى الفائدة ، فقد جعل ضريبة على المال المكتنز ، وحث على إنفاق المال في مجالات الاستهلاك غير المسرف والانتاج المثمر ، حتى جاء في الحديث عن الامام جعفر الصادق علیه السلام : ( إن اللّه إنما أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها اللّه ، ولم يعطكموها لتكنزوها ) (2) وقد صرّح القرآن الكريم وهدد المكتنزين ، إذ قال : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ( التوبة / 34 - 35 ).

ثم إن الاسلام بغير حاجة الى الاكتناز والحث عليه ، لوجود رؤوس أموال ضخمة تملكها الدولة ويمتلكها المجتمع الاسلامي ويملكها الناس ، هذه هي الملكيات العامة المعترف بها في الاسلام. وتستطيع الدولة أو البنوك استثمارها في المشاريع الاقتصادية والعمرانية الضخمة ، وهذا بخلاف الرأسمالية التي لاتقر بهذه الملكية للدولة وللمجتمع ، هي بحاجة الى تشجيع الاكتناز حتى تتجمع لديها الأموال لهذه المشاريع.

الكسب بدون عمل حرام :

الكسب بدون عمل غير جائز من الناحية الاقتصادية ، لأن الاقتصاد يريد عملاً وجهداً ( إما أن يكون مباشراً أو مختزناً ) حتى يتمكن الانسان من الحصول

ص: 324


1- هذا في صورة ما إذا لم تفكر الدولة الرأسمالية بايجاد أسواق لها في الدول الضعيفة ، وأما إذا فكرت بذلك فإنها سوف تستعمل شتى الحيل لاستثمار تلك الدولة في سبيل جعلها سوقاً لبضائعها ، وبهذا يحدث لنا الاستعمار الذي رأينا منه الكثير.
2- الكافي / ج 4 / باب وضع المصروف موضعه / ح 5 ص 32.

على ربح في مقابل عمله. أما إذا أخذ الانسان يكتسب ويحصل على الربح من دون مباشرة عمل ( مباشر أو مختزن ) فهذا معناه في المصطلح الاقتصادي تحرك الميزان من جانب واحد وهو لا يجوز في المنظار الاقتصادي ، إذ أنَّ المنظار الاقتصادي يقول بلا بدّية تحرك الميزان من جانبين : عمل و كسب ، أي عمل في كفة وكسب في كفة أخرى.

وهذه الحقيقة لم يغفلها الفقه الاسلامي ، فقد حرم الكسب القائم بدون عمل وصرح الفقهاء : بأنه لا يجوز للانسان أن يستأجر أرضاً أو أداة انتاج بأجرة معينة ثم يؤجرها بأكثر من ذلك مالم يعمل في الأرض أو أداة الانتاج عملاً يسوّغ حصوله على الزيادة. وقد نص على هذا الحكم جماعة من كبار الفقهاء ، كالسيد المرتضى ، والحلبي ، والصدوق ، وابن البراج ، والشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي (1).

وهذا الرأي الفقهي يستند الى أحاديث وردت بهذا الصدد ، منها :

1 - موثقة أبي بصير قال : قال الامام أبو عبداللّه الصادق علیه السلام : « إني لأكره أن أستأجر رحاً وحدها ثم اواجرها بأكثر مما استأجرتها به ، إلاّ أن يحدث فيها حدث أو تغرم فيها غرامة » (2).

2 - صحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق علیه السلام قال : « في الرجل يستأجر الدراثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به ؟ قال علیه السلام : لا يصلح ذلك ، ألاّ أن يحدث فيها شيئاً » (3).

وهذا الكلام نفسه نقوله في العمل أيضاً ، فلا يجوز أن يتفق شخص مع آخر على إنجاز عمل بأجرة معينة ثم يستأجر للقيام بذلك العمل أجيراً آخر لقاء مبلغ أقل من الأجرة التي ظفربها في الاتفاق الأول ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأجرتين

ص: 325


1- المبسوط / للطوسي / ج 3 ص 226.
2- وسائل الشيعة / ج 13 / باب 22 من أبواب الاجارة / ح 5 ص 265.
3- المصدر السابق / ح 4.

من دون عمل يقوم به. و الدليل على ذلك الروايات الكثيرة ( وقد تقدم بعضها ) ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم ، أنه سأل الامام الصادق علیه السلام « عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ، ويدفعه الى آخر فيربح فيه ؟ قال : لا ، الاّ أن يكون قد عمل شيئاً » (1) و مثلها روايات كثيرة.

إذن ، من كل هذه المقدمة نستفيد فقهياً واقتصادياً أن الكسب من دون تقديم عمل لا يجوز ، وبما أن المرابي هو كذلك ، فانه يكتسب من دون تقديم عمل ( مباشر أو مختزن ) فهو لا يجوز.

وقد يقال ان المال النقدي الذي يقدمه المرابي هو عبارة عن عمل مختزن فيجوز أن يؤجره فيكون كسبه في مقابل العمل المختزن.

فاننا نقول : قد تقدم منّا أن العمل المختزن إنما يجوز إيجاره للغير وأخذ الكسب عليه ( كالبيت والدكان والآلة ) لأنه يُستهلك بعضه بالاستعمال ، أما هنا في النقد المالي فإنه يرجع بنفسه من دون ذرة استهلاك ، ولهذا يكون كسباً من دون عمل ، وهذا يتعارض مع تصورات الاسلام عن العدالة.

نعم ، إذا كانت الفائدة هي : تعبير عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال ، فان هذا الحق بالاضافة إلى أنه في صورة استثمار المال وحصول الربح فقط والاسلام أقرّ هذا الحق في صورة ما إذا كان اشتراك بين صاحب المال والعامل وربط الرأسمالي بنتائج العملية ، وهذا هو معنى المضاربة التي جوّزها الاسلام ، بشرط أن يكون حق الرأسمالي المتقدم بصورة نسبة مئوية ، وإذا حصلت خسارة فانه هو الذي يتحملها فقط ، أما العامل فقد خسر عمله ، وهذا هو معنى تحرك الميزان من جانبين ، وهو جائز اقتصادياً أيضاً ، ولكن هذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجراً ثابتاً منفصلاً عن نتائج العملية التجارية.

ص: 326


1- وسائل الشيعة / ج 13 / باب 23 من أبواب الاجارة / ح 1 ص 265.

وقد يقال : ان المال الذي قدمه الرأسمالي الى المدين ( قد هبطت قيمته التبادلية ) فالربح والفائدة هو عبارة عن قيمة هذا الهبوط ، فيكون جائزاً.

والجواب : صحيح انه في بعض الحالات تكون القيمة التبادلية للدينار أكثر منها في وقت آخر ، وقد يكون العكس صحيح ، فاذا كانت القيمة التبادلية للدينار تساوي مائة كيلو من الحنطة ثم تحسنت فكانت تساوي مئتي كيلومن الحنطة ، فهل يرضى الدائن بأن يأخذ نصف دينار على ديناره الذي أسلفه للمدين بحجة أن القيمة التبادلية للدينار قد تحسنت ؟! والجواب : إن المدين لا يرضى بذلك لأنه إنما أقرض الدينار فهو يريده بنفسه سواء نزلت قيمته التبادلية أو صعدت ، فان هذا النزول أو الصعود هو تابع الدينار نفسه ولمالكه ، ولا يجوز أن يتحمل النزول فرد آخر ، كما لا يجوز أن يستفيد من الصعود غير صاحبه المالك له.

ثم : لماذا لانقول هذا الكلام عندما أؤجر بيتي لفلان بخمسين ديناراً ثم تهبط قيمة البيت فهل يجوز أن نقول إن المستأجر يتحمل قيمة الهبوط ؟! وبعكس ذلك إذا صعدت قيمة البيوت ، فإنه لا يجوز للمستأجر أن يقول : أنا أستحق نصف قيمة الصعود ، إذ إن صعود قيمة السلعة أو هبوطها نتيجة لأوضاع خاصة لا ربط لها بالمقرض أو المستأجر. وعلى هذا الأساس إذا نزلت أسعار النقود في السوق ، إلاّ أن هذا لا يكون استهلاكاً للعمل المختزن في النقد وقد انتفع به المستقرض حتى يجب عليه تعويضه ، بل إنَّ العمل المختزن في النقد لا يزال كما هو لم يتفتت ولم يستهلك وإنما العمل يكون قد حصل على كسب بدون سبب ، أي حصل صاحب النقد على كسب من دون أن يستهلك من عمله المختزن شيئاً خلال عملية الانتفاع ، وهذا ما يرفضه الاسلام حسب النهي عن كسب بدون عمل.

الأثر الفطري للربا :

لقد تعرضنا في كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » الى مضار الربا ، وذكرنا أن له مضاراً من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ، ومن ناحية المرابي ومن

ص: 327

ناحية المنتج ومن ناحية تنمية الاقتصاد ، فمن أراد التوسعة فعليه مراجعة الكتاب (1) ، إلاّ أننا هنا نستل من ذلك الفصل عنوان الأثر الفطري للربا لنجعله أمام الرأي العام ، ونقول للنمر وطنطاوي ومرسي ، إذا كان الربا حلالا فلماذا هذه الضجة عندما أقرضت امريكا بريطانيا قرضاً ربوياً ؟!

نقول : بعد الحرب العالمية الثانية عقدت اتفاقية ( برتين وود ) لَديْن كبير من قبل امريكا لبريطانيا ، ولكن بريطانيا قد تأثرت من هذا القرض الربوي على لسان كبار سياسيهم واقتصاديهم ، فمما قاله ( اللورد كينز ) بعد ان عقد الاتفاقية مع امريكا باعتباره ممثلاً للشعب الانجليزي : « لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد ، والألم المرير الذي لحق بي من معاملة امريكا إيانا في هذه الاتفاقية ، فانها أبت أن تقرضنا شيئاً إلاّ بالربا ».

ومما قاله تشرشل : « إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الإثرة وحب المال الذي عاملتنا به امريكا ضروباً من الأخطار. والحق أن هذه الاتفاقية قد تركت أثراً سيئاً جداً فيما بيننا و بين امريكا من العلاقة ».

وقال اللورد والتن وزير المالية : « إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا ، جائزة عجيبة جداً نلناها على ما عانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتضحيات لأجل الغاية المشتركة ، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يروا رأيهم في هذه الجائزة الفذة من نوعها ، التمسنا من امريكا أن تقرضنا قرضاً حسناً ولكنها قالت لنا جواباً على هذا : ما هذه بسياسة عملية » (2).

الخلاصة : إن المرابين بالرغم من أنهم طفيليون على مائدة أموال الناس ، والمترقب أن يكون حظهم أقل من حظ أصحاب الموائد أنفسهم ، أصبح حظهم

ص: 328


1- ص 377.
2- الربا / للمودودي / ص 43 - 44.

أكثر ، وذلك لأن نفعهم مضمون سواء ربحت التجارة أو خسرت ، فكأن المال - تلقائياً - ينمو بمضي الزمن عليه في ذمة الناس بلا حاجة الى أي عمل من قبل صاحب المال !!.

وقد ذكروا أن هناك كتاباً أصدره أحد العلماء الفرنسيين الأحرار « كتاب لم يكد يخرج من المطابع سنة (1955) حتى استولى عليه هذا الاخطبوط ( أصحاب المصارف الربوية ) فأباد جميع نسخه إلاّ عدداً قليلاً افلت من قبضته » (1). وعنوان هذا الكتاب : « الماليون وكيف يحكمون العالم ويقودونه الى الهاوية » ذكروا أن فيه أدلة كثيرة ووثاق ثابتة تثبت بالبرهان أن كل المحن و الكوارث هي من صنع أصحاب المصارف المرابين.

ويشير الكتاب نفسه في مقدمته الى كتاب آخر يقول عنه الدكتور محمد عبداللّه العربي : بحثت عنه سنوات متتالية وفي كل مكان فلم أجد له أثراً ، ولعل الاخطبوط قد أباده أيضاً ، والكتاب عنوانه : « فرنسا اليهودية أمام الرأي العام » ( ونقتبس من هذه المقدمة كلمة لمؤلف هذا الكتاب الثاني ... لأنها صورة دقيقة وموجزة لنفوذ البنوك العالمية الحديثة ) وهي :

« ان الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة وأحياناً بأساليب فاجرة ، بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها ولا قيد ، سيطرة تصول بها فئة قليلة ليسواهم - في الغالب - ملاّك المال ، بل مجرد مستودعين له ، ولكنهم يديرونه ويتصرفون فيه كما لو كانوا ملاّكه بالفعل » ، « إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال ، وعلى الائتمان ، أي الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة ، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي

ص: 329


1- المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية / د. محمد عبداللّه العربي ص 92.

بكل أوضاعه ، فاذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس ، وإذا شاءوا قدّروا مدى انسيابه في جسم الجهاز ، التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية ». « ثم إن تجمع هذه القوى وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي بالتالي الى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية ، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة متساندة ، الاولى ، الكفاح في سبيل احراز السيادة الاقتصادية. ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم ، ومتى تحققت لهم بادروا الى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية ، وفي النهاية ينقلون المعركة الى المجال الدولي العالمي ». والنتيجة الملازمة لهذا الوضع وهي : « أن ولي الأمر - الذي كان مفروضاً فيه أن يمثل مصالح المجتمع وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وايثار لمصالح المجتمع - قد سقط الى درك الرقيق لهذه القوى المالية ، وأصبح أداة طيّعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها » (1).

فهل يريد النمر وطنطاوي ومرسي أن يزيدوا من قوة المصارف وقوة الفضائح التي تصدر منها ؟! وماذا سيكون الجواب غداً عند مليك مقتدر ؟ وأخيراً ، أذكر لكم آيات الربا القرآنية ليتذكر مَنْ يدعو الى حلّيته ولو بصورة خاصة وبحجج سقيمة.

قال تعالى : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ( الروم / 39 ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ( آل عمران 130/ 131 ).

( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ

ص: 330


1- المصدر السابق / ص 93.

مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( النساء 160 / 161 )

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ( البقرة / 275 و 276 و 279 ).

ومن قرأ هذه الآيات القرآنية يفهم منها الاطلاق لكل ما يسمى ربا في زمن نزولها سواء كان « ربا جاهلياً وهو ما عُبِّر عنه بجملة : أتقضي أم تربي ؟ وهو الذي يكون أضعافاً مضاعفة » أم كان ربا في عقد القرض من أول الأمر. وهب أن آية « أضعافاً مضاعفة » قد نزلت في ربا الجاهلية وهي « أتقضي أم تربي؟ » ولكن قال الاصوليون « أن المورد لايخصص الوارد ».

ثم إنني أقدم النصح ( الذي يجب على كل إنسان ) للنمر وطنطاوي ومرسي بأن يقرأوا جملة من المواعظ والدروس الأخلاقية ، فإني أرى أن القضية ليست عدم معرفة بأحكام القرآن الواضحة البيّنة ، وإنما القضية تحتاج الى دروس في الوعظ والتذكير بالآخرة وجملة من الدروس الأخلاقية ليعرف الانسان نفسه بأنه قد يكون أشرف من الملائكة إذا التزم ما أراده اللّه تعالى له ، وأنه يكون أسوأ من الحيوان إذا لم يستوعب ما قرأ وغرّته الحياة الدنيا وزينتها و شهواتها ، فالى دراسة الأخلاق ليعرف الانسان كيف يتسلط على هذه النفس الأمّارة الشهوانية عن زخارف الدنيا الدنيّة التي تجرّه الى المعصية ومخالفة صريح القرآن.

ومن الروايات التي تستقبح الربا و تشينه ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله في وصيته لعلي أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : « يا علي ، الرِّبا سبعون جزءاً فأيسرها مثل أن

ص: 331

ينكح الرجل أمه في بيت اللّه الحرام. يا علي ، درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت اللّه الحرام » (1).

وفي موثقة ابن بكير قال : بلغ أبا عبداللّه الامام الصادق علیه السلام عن رجل كان يأكل الربا ويسميه اللبا ، فقال علیه السلام : « لئن أمكنني اللّه منه لأضربن عنقه » (2).

وفي رواية عن علي علیه السلام قال : « لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الربا وآكله وبايعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه » (3).

وأخيراً : أبتهل الى اللّه سبحانه وتعالى أن يهدي كل مؤمن الى الصواب وأن لا يحرمنا من رحمته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَنْ أتى اللّه بقلب سليم ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ونفع المؤمنين ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه ، محمد و آله الطيبين الطاهرين.

* * *

ص: 332


1- وسائل الشيعة / ج 12 / باب 1 من أبواب الربا ح 12.
2- المصدر السابق / باب 2 / ح 1.
3- وسائل الشيعة ج 12 باب 4 من ابواب الربا ، ح 2.

المناقصات (عقد الاحتياط ودفع التهمة)

اشارة

ص: 333

ص: 334

1 - ما هي المناقصة ؟

اشارة

عُرّفت المناقصة بانها : « طريقة بمقتضاها تلتزم الادارة ( او الشخص ) باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معها شروطاً ، سواء من الناحية المالية او من ناحية الخدمة المطلوب أداؤها » (1).

ويرى البعض (2) ان التعريف الاصح هو : ان المناقصة طريقة يلتزم باختيار افضل من يتقدمون للتعاقد معها من الناحية المالية فقط حيث يفترض ان الداخلين في المناقصة متساوون من النحاية الفنية ( مطابقة الشروط والمواصفات من حيث تحقيق الغرض الفني ).

وأما التعريف الاول : فهو يسمح بالتحايل والتلاعب بإرساء المناقصة على غير الارخص بدعوى افضليته في المواصفات الفنية.

ونرى ان هذا التعريف شامل للمزايدة ايضاً ، باعتبار أن المناقصة والمزايدة معاً من عقود المنافسة النزيهة والتي تساوي بين المتنافسين ، وعلى هذا سوف يكون شراء الحاجات وتنفيذ الاعمال من خصوصيات عقد المناقصة ، كما أنّ بيع

ص: 335


1- مصطلحات قانونية ، اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ، مطبوعات المجمع العلمي العراقي 1394 ه ق 1974 م ، ص 178.
2- د. رفيق يونس المصري في بحثه مناقصات العقود الادارية ، ص 4.

الحاجات والمباني الحكومية او التابعة للأشخاص من خصوصيات عقد المزايدة.

وهذا التعريف وان لم يكن تعريفاً حقيقياً للمناقصات ، بل هو شرح الاسم ، إلاّ أنه قد تعرض لالتزام أحد الاطراف بالتعاقد ، ولم يتعرض لالتزام المتعاقد الآخر ، ولكن من مجمل عملية المناقصة الحديثة نفهم أن المناقص ملزَم بما تقدم به من عرض لبيع سلعته او تقديم خدماته لحين رسوّ عملية المناقصة ، ولذا من الأفضل اضافة هذه الجملة الى التعريف السابق وهي : « ويلتزم الطرف الآخر بما عرضه لحين رسّو العملية ». ولذا يمكننا ان نعرّف المناقصات بأنها : « طريقة بمقتضاها تلتزم الاطراف باختيار افضل من يتقدم للتعاقد شروطاً ».

وقد يقال : إن التزام الداعي الى المناقصة هو التزام إبتدائي ليس في ضمن عقد فيكون وعداً لا يجب الوفاء به وهو معنى عدم كونه ملزِماً.

ونجيب على ذلك : بأن الالتزام اذا كان قد وصل الى حدّ التعهد الى الغير بحيث رتب الغير عليه الآثار ، فصار عهداً « عقداً » مستقلاً يجب الوفاء به خصوصاً اذا قابله التزام من الطرف الآخر (1).

هذا بالاضافة الى ما سيأتي من إمكان أن يكون الزام الداعي الى المناقصة باختيار أحسن العروض والزام المتناقصين بالبقاء على إلتزاماتهم لحين رسوّ المناقصة ، قد شرط في ضمن عقد بيع المعلومات التي تشترط للدخول في المناقصة ، فيحصل الالتزام في ضمن عقد فيكون ملزِماً بالاتفاق.

وقد يستشكل في صحة التزام الداعي الى المناقصة باختيار افضل مَن يتقدمون للتعاقد معه ، سواء قلنا أنّ هذا الالتزام قد وصل الى مرحلة التعهد والعقد او كان شرطاً في ضمن عقد بيع المعلومات ، وقد يستشكل باشكال آخر ،

ص: 336


1- هذا الرأي يخالف ما ذهب اليه علماء الامامية من أن التعهد الابتدائي لا يجب الوفاء به ، ولكن رأينا أن الادلة الروائية والقرآنية الدالة على وجوب الوفاء بالعهد حتى الابتدائي كافية ، لذا ارتأينا هذا الرأي خلافاً للمعظم من علماء الامامية.

وخلاصته تكمن في غررية هذا الالتزام ، لان الداعي الى المناقصة قد التزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معه ، مع أنه لا يعلم المقدار الذي يقع عليه التعاقد في الخارج الآن ، فهو التزام غرري.

والجواب ذلك :

1 - إن الغرر الذي منعه الشارع المقدس ليس هو الجهالة ، بل الغرر : عبارة عن عدم معرفة حصول الشيء من عدمه ، كالطير في الهواء والسمك في الماء ، وهذا يختلف عن المجهول الذي معناه : « ما علم حصوله مع جهالة صفته ».

2 - ولو قلنا كما قال الفقهاء : بانَّ الغرر يشمل الجهالة أيضاً ، فان الغرر المنهي عنه هو الغرر الذي يؤدي الى منازعة بين المتبايعين ، اما ما كان لا يؤدي الى المنازعة فهو لا بأس به ، وقد ذكرت الروايات الامثلة الكثيرة الدالة على عدم الضرر في وجود غرر ( جهالة ) لا تؤدي الى المنازعة كما في بيع شيء من الحليب في الاسكرجة مع ما في الضرع ، وبيع السمك في الأجمة مع القصب الظاهر ، وامثال ذلك من البيوع التي فيها جهالة واضحة إلا أنها لا تؤدي الى منازعة بين المتخاصمين.

3 - ولو تنزلنا وقلنا ان الغرر يشمل كل جهالة ، فهو إنما يضر اذا كانت الجهالة في العقد ، أما هنا فان الجهالة في الشرط وليست في العقد (1).

ولا حاجة الى التنبيه الى أن هذه العقود لا يجوز فيها التفرير والخداع من المتناقصين أو المتزايدين او واحد منهم أو أطراف خارجية ، وذلك لأجل تحقيق المنافسة النزيهة التي هي اساس المناقصة الحرة. كما هي عقود يطلب فيها المشتري او البائع الاحتياط لنفسه ودفع التهمة عنه فيما اذا كان وكيلاً او ولياً.

ص: 337


1- وقد يكون أقوى شاهد على عدم وجود الغرر في هذه المعاملة هو النصّ الوارد في بيع مَنْ يزيد ، فإنَّ البيع صحيح ، ومعنى ذلك عدم وجود الغرر المضرِّ مع ان البائع حينما عرض سلعته للبيع لا يدري بكم يكون الثمن ، فهنا يكون الامر كذلك حيث إن المشتري يريد الشراء ولا يعلم الثمن وحينئذ يكون الالتزام بمثل هذه المعاملة صحيحاً لأنَّ الالتزام بالصحيح صحيح وهذا واضح.
العلاقة بين المزايدة والمناقصة :

وبهذا يتضح ان العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد من الناحية اللغوية والموضوعية ، فالزيادة ضدّ النقص ، ولهذا وردت التفرقة بينهما في العقود :

فالمناقصة : تستهدف اختيار من يتقدم بأقل عطاء ، ويكون ذلك عادة اذا أرادت الادارة القيام باعمال معينة كالاشغال العامة مثل بناء العمارات او اقامة الجسور او تبليط الطرقات وما شابه ذلك.

اما المزايدة : فترمي الى التعاقد مع الشخص الذي يقدم أعلى عطاء ، وذلك اذا أرادت الادارة ان تبيع او تؤجر شيئاً من املاكها مثلاً (1).

وعلى هذا نتمكن ان نقول : ان العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد في اللفظ والموضوع كما هو واضح من اختلاف طبيعة كل منهما ، ولكن يشتركان في الاجراءات والتنظيمات في الجملة كما هو واضح من اشتراكهما في التعريف ( اختيار أفضل من يتقدم للتعاقد ) ، فالاجراءات المتبعة في عقد المناقصة هي بنفسها متبعة في عقد المزايدة ، فمثلاً : بعد الاعلان عن المزايدة او المناقصة في وسائل الاعلام وتتم الاجراءات الكتابية والمناداة العلنية تأتي هذه المراحل الثلاث :

1 - التقدم بالعطاءات من قبل الافراد او المؤسسات.

2 - فحص العطاءات وارساء المزايدة او المناقصة.

3 - ابرام العقد.

النجش :

ويأتي في بيع المناقصة النجش الذي يذكر في بيع من يزيد ويعرّف : « بانه

ص: 338


1- الاسس العامة للعقود الادارية ( دراسة مقارنة ) ، السيد محمد الطحاوي ، الطبعة الرابعة مصر ، 1984 ، ص 213 ومصطلحات قانونية ، ص 178.

تواطؤ صاحب السلعة مع مزايد صوري يدفعه للمزايدة في السلعة حتى يُعلي ثمنها ، ولا يقصد شرائها ، وانما اراد خدمة صاحبها » وذكر الفقهاء حرمته في صورة كون الناجش قد رفع الثمن عن القيمة الحقيقية تضليلاً للمزايدين ، وذلك لوجود العلة التي حرمته وهي الاحتيال والاضرار بالأخ المسلم ظلماً ، المستنبطة من نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن النجش. وعلى هذا فلو تواطأ المريد للسلعة الموصوفة باوصاف معينة مع احد الافراد المشتركين في المناقصة بان يعرض بثمن أقل من الثمن السوقي ولا يقصد البيع حقيقة خدمة لمن طلبها فسوف يكون هذا حراماً ، للعلة التي حرم النبي صلی اللّه علیه و آله فيها النجش وهي الاحتيال والخديعة والاضرار بالاخ المسلم ظلماً ، ويشتركان في الاثم.

وكذا يحرم فيما اذا اتفق البائع مع مَنْ ينافسه في بيع السلعة الكلية على عدم المنافسة له في العرض ، او اتفق معهم على عدم عرض السلعة بثمن أقل من كذا ، فهو من الاحتيال والغش « حيث ان اتفاق الاطراف كلها كان قد بني على المنافسة النزيهة فيكون اتفاق البعض على عدمها غشاً واحتيالاً » فان كان فيه اضرار بالمشتري ( كأن اشترى السلعة باكثر من الثمن السوقي مع عدم علمه بذلك ) فالعمل يكون حراماً لوجود علة حرمة النجش ويثبت للمشتري الخيار في امضاء الصفقة او فسخها.

وإن حصل التنقيص في الثمن ممن لا يريد شرائها بغير تواطؤ مع المشتري ليضرّ الغير ويخدعه ، فان الحرمة تختص بالمنقص.

اختلاف الموجب بين المزايدة والمناقصة في البيع :

قالوا (1) : إن الموجب هو من يتقدم بعطاء ، الا أنه في المزايدة يكون الموجب

ص: 339


1- مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج 2 ، ص 66.

هو المشتري ، بينما في المناقصة يكون الموجب هو البائع ، كما يكون ارساء المناقصة باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد هو القبول.

ولكن يمكن المناقشة في جعل الموجب في المزايدة هو مَنْ يتقدم بعطاء ، باعتبار انه يتملّك بثمن معين ( وانما يملّك ثمنه للغير تباعاً لتمليك الغير سلعته اياه ، فهو تمليك تبعي ) فيكون قابلاً ، وقدّم قبوله بلفظ اشتريت او ابتعت او تملكت واشباهها ، واما الموجب فهو الذي يملِّك السلعة وإن تأخر عن القبول ، وعلى هذا لا يشترط تقديم الايجاب على القبول لظهور كونه عقداً يجب الوفاء به ، أما الرضا فهو موجود في تقديم القبول على الايجاب وتقديم الايجاب على القبول نعم يكون المتقدم بالعطاء في المناقصة موجباً ، لأنه يملَّك ماله بثمن معين وهو معنى الايجاب ، ثم إننا وإن قبلنا ( قياساً على المزايدة ) بأن الذي تقدم بعرض سلعته بثمن معين هو الموجب ، فان بذل آخر عمله او سلعته بأقل من الأول فقد سقط الإيجاب الأول ووجد ايجاب ثاني ( وهو البذل الثاني ) استناداً الى التعريف الذي تقدم للمناقصات القائل بأنه باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد ، وحينئذ يكون البذل بالأقل هو أفضل من الأول للتعاقد ، وقد التزم الداعي الى المناقصة باختياره فيكون ملزَماً به ومعرِضاً عن البذل الأول فيسقط الأول ، فاننا وإن قبلنا كل ذلك الا أننا لا نقبل ذلك فيما إذا كان البذل الثاني قد صدر من القاصر أو المحجور عليه (1) ، لان هذا البذل الأخير ليس ملزِماً للداعي الى المناقصة وإن تصوره ملزِماً. وعلى هذا يمكن القول بعدم وجود بذل ثاني أفضل من الأول في هذه الصورة الأخيرة.

علاقة المناقصة بالتوريد :

ان التوريد ( كما ذكره البعض ) (2) : هو عقد بيع يتأجل فيه البدلان ( المبيع

ص: 340


1- مصادر الحق في الفقه الإسلامي ج 2 ، ص 66.
2- د. رفيق المصري ، في بحثه في المناقصات المقدم للدورة التاسعة لمجمع الفقه الاسلامي ، ص 18.

والثمن ) اي انه عقد على توريد سلع او مواد محددة الاوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على اقساط.

فالتوريد يختلف عن السلم في كون دفع الثمن اقساطاً ، وهو يشبه السلم من ناحية أنَّ المثمن له أجال معلومة ، اذن يمكن القول بان التوريد اشبه شيء بعقد الاستصناع ( المعروف عند الحنفية ) لأنهم اجازوا فيه عدم تعجيل الثمن. لكنه يختلف عن الاستصناع حيث إن الاستصناع يقدم فيه المقاول العمل والمواد معاً ، بينما عقد التوريد قد يقدم فيه المورِّد السلع او المواد فقط من دون عمل.

ومن هنا نفهم ان علاقة المناقصة بالتوريد هي عبارة عن العموم والخصوص من وجه حيث يجتمعان ، كما اذا كانت المناقصة هي عبارة عن توريد سلع او مواد معينة ، وقد يفترقان كما اذا كانت المناقصة عبارة عن مقاولة عمل ، كما قد يوجد عقد توريد بلا مناقصة كما اذا كان العقد بين فردين على نحو المباشرة.

المهم هنا هل يصح عقد التوريد ؟

الجواب إن المانع هنا هو صدق بيع الدين بالدين ( الكالي بالكالي ) الذي ورد فيه النهي ولكن هذا الحديث ليس بسليم السند كما ذكر ذلك جماعة منهم الامام احمد حيث قال : « ليس في هذا حديث يصح » (1) كما أن دلالته لا تشمل : « لما صار ديناً في العقد بل المراد منه ما كان ديناً قبله والمسلّم فيه ( هو المورّد ) من الاول لا الثّاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه مما كان ديناً قبل العقد » (2) وحينئذ يكون دليل المنع عن بيع الدين بالدين هو الاجماع ويقتصر فيه على مورد الاتفاق وليس هذا من مورد الاتفاق. وحينئذ اذا لم يدخل تحت المنع ولم يكن فيه ربا بالضرورة لأن عقد التوريد : مبادلة سلعة بنقد ، فالبدلان مختلفان لا يدخلهما الربا. ويسمى بيعاً عرفاً شملته العمومات

ص: 341


1- نيل الاوطار ، ج 5 ، ص 177.
2- جواهر الكلام ، ج 24 ، ص 293.

فيكون صحيحاً.

نعم يكون المتقدم بالعطاء في المناقصة موجباً ، لانه يملَّك ماله بثمن معين وهو معنى الايجاب ، ثم إننا وإن قبلنا ( قياساً على المزايدة ) بأن الذي تقدم بعرض سلعته بثمن معين هو الموجب ، فان بذل آخر عمله او سلعته بأقل من الأول فقد سقط الايجاب الاول ووجد ايجاب ثاني ( وهو البذل الثاني ) استناداً الى التعريف الذي تقدم للمناقصات القائل بأنه : باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد. وحينئذ يكون البذل بالأقل هو أفضل من الاول للتعاقد ، وقد التزم الداعي الى المناقصة باختياره فيكون ملزَماً به ومعرِضاً عن البذل الأول فيسقط البذل الاول ، فاننا وإن قبلنا كل ذلك الا أننا لا نقبل ذلك وفيما اذا كان البذل الثاني قد صدر من القاصر او المحجورِ عليه (1) ، لان هذا البذل الأخير ليس ملزِماً للداعي الى المناقصة وإن تصوره ملزِماً.

وعلى هذا يمكن القول بعدم وجود بذل ثاني أفضل من الاول في هذه الصورة الاخيرة.

علاقة المناقصة بالمقاولة :

علاقة المناقصة بالمقاولة : (2)

إن علاقة المناقصة بالمقاولة من حيث ان المناقصات هي قسم من المقاولات التي تكون ملزِمة للطرفين ، فان المقاولة ربما تكون مع طرف خاص من غير ان تسبق بعرض ذلك المشروع على الآخرين ، وبعبارة اوضح ان المناقصة والمقاولة كلاهما تعهد من قبل مَنْ يشترك في المناقصة والمقاولة ، إلا أن الاختلاف من ناحية

ص: 342


1- مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج 2 ، ص 66.
2- المقاولة معناها اللغوي هو : المفاوضه والمجادلة ، وفي الاصطلاح الحديث : عقدٌ بين طرفين يصنع فيه المقاول شيئاً لآخر ويقدم له عملاً في مقابل مبلغ معلوم. وبهذا يتضح أنَّ المقاولة أعم من المناقصة من هذه الناحية.

ان المقاولات عامة تشمل المناقصات التي هي مقاولات خاصة وتشمل غير المناقصات التي يكون التقاول مع طرف خاص من غير ان تسبق هذه المقاولة بعرض المشروع على الآخرين. فالعلاقة بينهما هي علاقة العموم والخصوص المطلق ، إذ كل مناقصة هي مقاولة وليست كل مقاولة هي مناقصة ، فالمقاولات اعم من المناقصات التي هي مقاولات خاصة (1).

توضيح لعقود المناقصات المعاصرة :

إن ما يجري في الخارج لعقود المناقصات قد يحتوي على عمليات متعددة يكون لفهمها الاثر الخاص في تشخيص الحكم الذي نحن بصدده ، لذا من المستحسن أن نستعرض سير عملية المناقصة من اول ما يدعى الى المشاركة فيها وحتى نهاية العقد فنقول :

1 - إن أول ما يصدر منشوراً في الصحف الكثيرة الانتشار هو وجود عزم عند جهة معينة لتأسيس مشروع معين او شراء سلع موصوفة ، ولكن طريقة تمامية العقد تكون على طريقة المناقصة التي هي : « التزام بالتعاقد مع افضل من يتقدم بالتعاقد معه » ، ويذكر عادة في هذا المنشور الدعوة الى الاشتراك في المناقصة وذكر آخر موعد لتسلّم المضاريف التي فيها الاستعداد الكامل لتقبل الصفقة بسعر معين.

2 - قد يُشترط لأجل الاشتراك في عملية المناقصة شراء المعلومات التي أعدتها الجهة الداعية الى المناقصة حول المشروع ، وهنا لابدّ لأجل الاشتراك في عملية

ص: 343


1- واذا نظرنا الى ان المقاولة هي عبارة عن عقد بين طرفين يقدم فيه المقاول صناعة لآخر أو عملاً في مقابل مبلغ معلوم ، عرفنا ان المناقصات قد تكون في البيع والسلم وحينئذ تكون العلاقة بين المناقصة والمقاولة هي العموم والخصوص من وجه حيث يلتقيان كما في المقاولة التي وجدت من طريق المناقصة فهي مقاولة ومناقصة وقد يفترقا حيث توجد مقاولة ليست بمناقصة كما في المقاولة المباشرة بين الاطراف وقد توجد مناقصة ليس بمقاولة كما اذا حصلت مناقصة على شراء كمية من السلع تسلّم نجوماً.

المناقصة لمن يرغب بها من شراء تلك المعلومات. وهذا عقد مستقل قبل الاشتراك في المناقصة ولا ارتباط له بعقد المناقصة الذي لم تبدأ أيُّ مرحلة من مراحله لحدِّ الآن. وقد يشترط في هذا العقد تقديم خطاب ضمان ابتدائي يدفعه البنك اذا رست المعاملة على أحد المتناقصين ولم يلتزم بها.

3 - يبدأ عقد المناقصة من حين تسلّم المضاريف وفتحها ( وقد يكون من حين كتابة المضاريف ) ، وبما أن في كل مضروف استعداد صاحبه لتقبل المشروع بسعر معين ، فهو يكون ايجاباً من قبل صاحبه للالتزام بما يريده صاحب الطلب « وفي حالة كون المناقصة علنية وعلى وجه المباشرة بين البائع او المقاولين وبين الراغب في تمامية المشروع له ، تكون المناداة بالاستعداد بسعر معين هي الايجاب ». ولكن بما أن الداعي الى المناقصة قد التزم بانه يختار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه ، فحينئذ يكون بذل السلعة او العمل بسعر أقل من الأول موجباً لسقوط الايجاب الاول وبقاء الثاني وهكذا اذا حصل من يبذل أقل من الثاني ، الا أن هذه المرحلة يبدأ بها العقد ولكنه لم يتم الا بعد إرساء المناقصة على أحد الافراد وهو الأقل من غيره.

4 - واذا رست المعاملة على أحد المتناقصين باعتباره الأفضل للتعاقد ، فقد حصل القبول وتمّ العقد في هذه اللحظة وإن كان قد بدأ قبل ذلك. وفي هذه المرحلة لا يوجد ايّ إشكال في هذه المعاملة حيث يكون الثمن معلوماً للمشتري ، كما لا بأس بالفاصل بين الايجاب والقبول هنا كما لا نرى بأساً به فيما اذا حصل الايجاب بواسطة الرسالة التي تستغرق مدّة ( أكثر من المدة التي تكون بين كتابة المضاريف وفتحها وارساء المناقصة على افضلها ) غير قليلة حتى يتحقق القبول ويتم العقد.

ولكن قد يكون سير المناقصة بصورة اخرى : خلاصتها : « تقديم القبول على الايجاب » كأن يقول الداعي الى المناقصة ( كما تقدم في تعريفها ) أنا التزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معي حول هذا المشروع الموصوف بهذه

ص: 344

الاوصاف المعينة ، ويعتبر هذا قبولاً متقدماً على الايجاب. وعلى هذا فسوف يكون فتح المضاريف والاطلاع على اقل من تقدم للتعاقد هو الايجاب المقبول سابقاً.

وفرق هذه الصورة عن سابقتها هو في تحديد بدء العقد وانتهائه. ففي الصورة الاولى كان بدء العقد بكتابة المضاريف او فتحها وانتهائه بالقبول مع أفضل من تقدم للتعاقد ، أما في الصورة الثانية فيكون بدء العقد من حين الدعوة الى المناقصة وختامها بفتح المضاريف ومعرفة افضل من تقدم للتعاقد.

ولكن إشكال هذه الطريقة الثانية يكمن في عدم معرفة الثمن حين القبول المتقدم ، حيث أن المشتري او صاحب المشروع قد قبل افضل مَنْ يتقدم للتعاقد معه ، وهو لا يعرف الثمن الذي يكون في مقابل المشروع او السلعة المشتراة ، نعم يعرف الثمن حين تمامية العقد ومجيء الايجاب ، فهل هذا يضرّ بصحة العقد ؟

والجواب : قد يقال بأنّ جهالة الثمن عند القبول المتقدم لا يضر بصحة العقد ، حيث ان معلومية الثمن وكذا المثمن هي شرط لصحة العقد ، وحينما يتم العقد يتضح الثمن ، جهالة بالثمن عندتمامية العقد ، نعم هناك جهالة بالثمن قبل تمامية العقد وهي لا تضر.

وبعبارة اخرى : اذا قلنا أن جهالة الثمن مضرّة بصحة العقد لأنها تؤدي الى الضرر المنهي عنه ، فإن الضرر غير موجود بعد تمامية العقد ، حيث أن المشتري قد علم بالثمن حين رسوّ المعاملة.

ثم إننا اذا لم نقبل ما تقدم كتوجيه لصحة الصورة الثانية للمناقصات ، فنقول : إن القبول المتقدم إن لم يكن مقبولاً ، فبعد فتح المضاريف ومعرفة أفضل من تقدم للتعاقد يحصل القبول من المشتري الآن ، فيكون ابتداء العقد وإنتهائه كالصورة الاولى وقد عرفنا أنه لا إشكال فيها.

2 - انواع المناقصات :

اشارة

ان المناقصات التي توجد في الخارج يمكن ان تكون على انواع متعددة :

ص: 345

الاول : مناقصات للبيع والشراء : فان الجهة الداعية الى عقد المناقصة تريد الشراء لما ترغب فيه بمواصفات معينة ، والذي يبذل ما يريده المشتري يكون بائعاً. وهذا هو بيع الكلي المضمون حالاًّ.

الثاني : مناقصات الاستصناع والسلم : حيث تعقد المناقصة لشراء الكلي الموصوف الذي يسلّم بعد ستة اشهر مثلاً ، فيتعاقد المشتري مع أفضل من يتقدم من الناحية المالية والالتزامية ، فهي مناقصة سلم اذا كانت على سلعة لابدّ من تحويلها بعد الاجل ، ومناقصة استصناع اذا كان المراد تحويله عبارة عن شيء كوّنه العمل مع المواد الاولية التي يوفرها المستصنَع.

الثالث : مناقصات لعقد الاجارة : لإنشاء مشروع معين ، على ان تكون مواد المشروع من الجهة الداعية الى المناقصة.

الرابع : عقد مناقصة لأجل الاستثمار : ولهذ القسم انواع متعددة تبدو في كل من :

أ - عقد المضاربة.

ب - عقد المزارعة.

ج - عقد المساقاة.

فإنَّ المموّل في المضاربة الشرعية ، وصاحب الارض والبذر الذي يريد زراعة أرضه بنسبة من الربح ، وصاحب الاصول الذي يرغب في أن يسقي غيره اصوله المغروسة قد يعقدون مناقصة لمن يكون شريكاً لهم في الربح ، فيعلن ( المضارب والمزارع والمساقي ) رغبته للتعاقد مع أفضل من يتقدم للشركة معه.

ونحن لا نحتاج الى سرد دليل خاص على مشروعية المناقصات حيث انها كما اتضحت داخلة :

اما في بيع الكلي حالاًّ.

او بيع الكلي سلماً.

ص: 346

او بيع الاستصناع.

او الاجارة.

او الاستثمار على طريقة المشاركة.

وبهذا سوف تكون ادلة هذه العقود هي الادلة على صحتها.

ثم انه كما يكون البيع في الحيوان والصرف والسلف والاستصناع ، كذلك تكون المناقصة فيها على حدّ سواء. وعلى هذا فسوف تكون المناقصات شاملة للبيع وللاجارة وللاستثمار عن طريق المشاركة في الربح ، فهي عبارة عن عنوان عام يمكن أن نطلق عليه عنوان عقود المناقصات.

وعلى هذا فان المناقصات لما كانت تختلف عن البيوع العادية في اعتبار أنَّ المشتري ملتزم بالتعاقد مع أفضل من يتقدم بالتعاقد معه ، وكذا البائع قد التزم بذلك كما في التعريف فمعنى ذلك أن العقد الحاصل من تلك المناقصة قد اشترط فيه اسقاط الخيارات ، حيث ان الالتزام في العقد بالتعاقد مع أفضل من يتقدم للتعاقد ليس معناه عرفاً هو الالتزام بالتعاقد حتى يتمّ ثم يُفسخ بعد ذلك بخيار مجلس مثلاً ، فإنَّ هذا المعنى وإن كان له وجه دقيق الا أنه ليس عرفياً لمن يصرح بانه ملزَم بالعقد مع غيره ، كما اذا حلف أن يبيع داره من فلان ، فانه لا يحق له أن يبيعها منه ثم يفسخ البيع بخيار المجلس ، وحينئذ يكون التصريح معناه بقاء العقد بدون فسخ ، اما اذا وجد فسخ بعد ذلك فلا معنى للالتزام بالعقد.

وعلى هذا فسوف يكون معنى الالتزام بالعقد مع مَنْ يتقدم بأحسن الشروط هو عدم جواز الفسخ بخيار المجلس مثلاً ، وهو معنى إرتكازية عدم الفسخ في عقد المناقصات. ومما ينبهنا على ذلك أخذ خطاب الضمان الابتدائي الذي يكون لصالح من يلتزم بالعقد ضدّ من لم يلتزم به بعد رسوّ المعاملة ، وسوف يأتي توجيه ذلك بكونه شرطاً في فسخ المعاملة ، ومعنى ذلك عدم جواز الفسخ بدونه ، ونستطيع أن نستنتج من كل ذلك : أن الخيار موجود للمتبايعين ولكن لا يحق لكل

ص: 347

واحد شرعاً الفسخ الا في صورة أن يكون خطاب الضمان لصالح الآخر. بالاضافة الى أن المشتركين في هذه العقود هم من أهل الخبرة الذين لهم سابقة جيدة في هذه المعاملات السوقية فيكون ادعاء الغبن مثلاً هنا غير مسموع عادة ، فلا يثبت خيار الغبن فيها من هذه الناحية أيضاً.

اختلاف المناقصة عن البيع :

واذا نظرنا بمنظار آخر للمناقصات نراها انها عبارة عن قسم من البيوع ، حيث ان البيع قد يكون مع طرف خاص من غير أن يُعرَض المشروع في شراء السلع للاخرين. كما تكون المناقصات قسماً من بيع السلم او الاستصناع او الاجازة او الاستثمار حيث قد تكون هذه العقود الأخيرة من غير ان يعرَض مشروعها للاخرين .. وبهذا اتضح ان المناقصات قد تكون اعم من البيع كما قد تكون اخص منه من ناحية اخرى. فبين المناقصة والبيع عموم وخصوص من وجه ، فيتفقان ويختلفان ، وكذا تكون هذه النسبة بين المناقصة والسلم ، والمناقصة والشركة ( مضاربة ، مساقاة ، مزارعة ).

التكييف الشرعي للمناقصات

إن المناقصات التي قد لا يكون لها أثر شرعي خاص في كتب الحديث ، يمكن الاستدلال على صحتها ومشروعيتها بعمومات (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بعد وضوح كونها من مصاديق البيع والتجارة والعقد عرفاً ، حيث أن المشتري اراد الوصول الى مقصوده ، وكذا المستأجرِ ، وكذا الطرف الآخر البائع او مقدّم الخدمات الى الاخرين يريد الحصول على نتيجة عمله متمثلاً في النقد او اي شيء آخر ، واذا إتضح ان المعاملة الجارية بصورة المناقصة هي بيع او اجارة او مزارعة او مضاربة او مساقاة او غير ذلك ، فالدليل الذي دلّ

ص: 348

على صحة هذه العقود من الادلة العامة او الخاصة هو نفسه الدليل على صحة هذه المناقصة بشرط أن تسلم اصول العقد وتحقق اغراضه. وسوف نرى فيما يأتي ان ما اشترط في عقد المناقصة هل يخلّ بأصل العقد او لا ؟.

ثم إن المناقصات تستهدف في حقيقتها المحافظة على المنافسة الشريفة في خفض الاسعار لصالح طالب السلعة ، او خفض الاجرة لصالح طالب العمل ، وهذا العمل قد يتعين في الشريعة الاسلامية اذا كان الغرض منه الشراء للايتام بواسطة الحاكم او الوصي او القيّم ، لما فيه من توقع الشراء بأقل ودفع التهمة. وكذا قد يتعين هذا العمل في الشراء او انجاز العمل لمؤسسات الدولة كالاوقاف والمؤسسات العامة كالمدارس ، وان لم يتعيّن فلا اقل من استحبابه في مثل الصور المتقدمة لما فيه من تحقيق المصلحة العامة او مصلحة المتولى عليهم او دفع التهمة على المباشر في بعض الصور. هل هناك تعارض بين صحة عقود المناقصات والنهي عن الدخول في سوم الاخ ؟

هناك طائفتان من الروايات قد يقال بتعارضها مع عقد المناقصة وهما :

طائفة النهي عن بيع الرجل على بيع اخيه.

طائفة النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه.

الطائفة الاولى :

1 - فقد ورد عن عبداللّه بن عمر رضی اللّه عنه ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا يبيع بعضكم على بيع أخيه » (1).

2 - عن أبي هريرة قال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبيع حاضر لباد ... ولا

ص: 349


1- صحيح البخاري بشرح فتح الباري ، ج 4 ، ص 352 - 353 باب 58 ، حديث رقم 2139.

يبيع بعضكم على بيع اخيه » (1).

وقد روى هذا الحديث ايضا مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضی اللّه عنه بلفظ : « لا يبع بعضكم على بيع بعض ».

وعنه أيضاً : « لا يبع الرجل على بيع اخيه ولا يخطب على خطبته الا أن يأذن له ».

ولما كان البيع حقيقة هو في صورة انعقاده ، فيكون البيع على البيع حقيقة في صورة انعقاد البيع الاول وهذه الحقيقة هنا منتفية ، فحُمِل على اقرب المجازات اليها ، وأقرب المجازات هي المراكنة التي يركن فيها المشتري الى البائع وتنشر السلعة له (2).

اقول : ان حقيقة البيع على البيع هنا موجودة ، فلا حاجة الى حمل الروايتين على أقرب المجازات ، وتوضيح ذلك هو أن البيع الاول عندما يتم يأتي البائع الآخر فيقول للمشتري في زمن خيار المجلس : « اذا فسخت بيعك فانا ابيعك مثله بأقله ، منه او يقول مشتر آخر للبائع اذا فسخت بيعك ، فأنا أشتري منك بأكثر منه ».

وأما ما ذكر من المراكنة فقد وردت فيها روايات الطائفة الثانية.

الطائفة الثانية :

روى عن الحسين بن زيد عن الامام الصادق علیه السلام عن آبائه في حديث المناهي انه قال : « ونهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم » (3).

ص: 350


1- المصدر السابق ، حديث رقم 2140.
2- ذهب الى هذا العلاّمة ابو عبداللّه محمد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي في كتابه إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ، ج 4 ، ص 178 ، بيروت دار الكتب العلمية ، ذكر ذلك صاحب كتاب « عقد المزايدة بين الشريعة الاسلامية والقانون د. عبدالوهاب ابوسليمان ، ص 17.
3- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 49 من ابواب التجارة ، ح 3.

ومعناه : ان يطلب غيره من المسلمين ابتياع الذي يريد أن يشتريه ، ويبذل زيادة عنه ليقدمه البائع او يطلب البائع بيع سلعته بسعر اقل مما اتفق عليه البائع مع المشتري او يبذل شخص آخر غير المتساومين الى المشتري متاعاً غير ما اتفق هو والبائع عليه. فنرى أن احد المتبايعين قد ركن في المعاملة الى الآخر ولم يبق الا العقد والصفقة ، فاذا أراد أحد أن يدخل في ما بين المتراكنين ليفسد عليهما صفقتهما فيكون مشمولاً لهذا النهي ، وهذا النهي دالٌ على الحرمة ظاهراً ، فقد يقال بتعارضه مع صحة عقد المناقصة.

ولكن اقول : بعد الغضِّ عن ضعف سند الحديث :

ان هذا النهي وإن كان ظاهراً يدل على الحرمة ، الا أن ارتكازية « تسلط الناس على أموالهم » التي ورد فيها النص تدلّ على أن السلطنة على مال الانسان تمتدّ الى تمامية البيع او العقد ، ومادام هنا في المساومة لا يوجد بيع ولا عقد فتكون قرينة على ان المراد من النهي المتقدم هو الكراهة ، ولذا اورد الفقهاء هذه الرواية في باب الآداب ، وعلى هذا فلا تكون معارضة لصحة عقد المناقصة بناء على وردها في مورد عقد المناقصة. ولكننا نقول ان المناقصة التي نحن بصدد الكلام عنها تختلف اختلافاً اساسياً عن مورد النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه ، ومورد النهي عن الدخول في سوم الاخ المسلم وذلك :

لان المناقصات التي توجد في الخارج ويحصل التوارد على المناقصة في العملية الواحدة لا يوجد فيها بيع حتى يكون بيع الرجل على بيع أخيه ، ولا يوجد ركون حتى يكون دخول على سوم الاخ المسلم ، وانما هي عروضات تحصل من المتناقصين ، للمشتري أن يختار احدها الموافق له وحينئذ تكون هاتان الطائفتان من الروايات خارجتين عن صحة المناقصات التي نحن بصدد الكلام عنها.

على انه قد صرح عض الفقهاء (1) بعدم شمول النهي في الدخول على سوم

ص: 351


1- الشهيد الاول ، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، ج 3 ، 296.

الاخ المسلم للدِلالة التي يتعارف وجودها في المزايدات والمناقصات حيث أنها موضوعة عرفاً لطلب الزيادة أو النقيصة ، فما دام الدلال يطلب الزيادة او النقيصة لا يكون هناك سوم او ركون حتى يأتي النهي عن الدخول في سوم الاخ المسلم.

ويمكن توجيه عدم التنافي بشكل اخر وهو ان يقال : ان حديث النهي عن الدخول في السوم ناظر الى المعاملة الخاصة الجارية بين طرفين خاصين ولا يشمل مثل بيع المناقصة التي تكون المعاملة فيه مبنية من الاول على عدم السوم مع شخص واحد بل مع جماعة.

3 - الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة أهو من المواعدة ؟ او الإستصناع ؟ او بيع ما ليس عند الانسان ؟

اشارة

لابد لنا من التفرقة بين الاستصناع او السلم وبين بيع ماليس عند الانسان الذي روي فيه النهي عن النبي صلی اللّه علیه و آله لنرى أن ما نحن فيه ( بيع المناقصة ) من اي القسمين. ثم لابدّ من التفرقة بين ما نحن فيه وبين المواعدة التي تحصل بين اثنين على أمر من بيع او عمل.

بيع ما ليس عندك :

إن الروايات الواردة في بيع ما ليس عندك على طوائف :

الطائفة الاولى : روايات حاكية لنهي النبي صلی اللّه علیه و آله عندك بيع ما ليس عند فقد روى سليمان بن صالح عن الامام الصادق علیه السلام انه قال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن » (1).

ص: 352


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 7 من احكام العقود ، ح 2 ، وكذا ح 5.

وهذه الروايات مطلقة لبيع ما ليس عند الانسان سواء كان بيعاً كلياً او شخصياً.

ولكن يتعين علينا رفع اليد عن الاطلاق وحمله على صورة كون المبيع شخصيا ، وذلك لورود الروايات المعتبرة الدالة على جواز بيع الكلي على العهدة مع عدم ملك الشخص حال البيع كما سيأتي.

ويتعيّن علينا أيضاً رفع اليد عن اطلاق بطلان بيع ما ليس عنده بالاضافة الى مالك المال ، لما ورد من الادلة الدالة على صحة بيع الفضولي باجازة المالك ، وهذا واضح.

فالخلاصة : ان النهي المتقدم هو في ( خصوص المبيع الشخصي لغير المالك ) ، وهذا النهي يدل على عدم حصول النقل والانتقال شرعاً ( اي فساد البيع باعتبار اشتراط الملك في البيع الشخصي اذا باعه لغير المالك ).

الطائفة الثانية : روايات تصحح البيع بعد ان يشتري العين الخارجية وتبطله اذا باعها قبل الشراء ، منها :

1 - صحيحة يحيى بن الحجاج قال : سألت الامام الصادق علیه السلام عن رجل قال لي « اشتر لي الثوب او هذه الدابة ، وبعنيها ، أربحُك فيها كذا وكذا ، قال : لا بأس اشترها ولا تواجبه البيع قبل ان تستوجبها او تشتريها » (1) والاستيجاب عام لمطلق التملك ولو بغير الشراء ، بينما الشراء خاص لخصوص التملك بالشراء.

2 - روى ثقة الاسلام الكليني (2) في باب ( لا تبع ما ليس عندك ) عن ابن

ص: 353


1- المصدر نفسه ، باب 8 من احكام العقود ، ح 13.
2- روى هذه الرواية الشيخ الطوسي في باب ( النقد والنسيئة ) ولعل الذي جعله يرويها في هذا الباب هو احتمال ان الحديث بصدد بيان تحصيل الانسان مالاً بدون محذور الربا وهو ما يسمى به ( بيع العينة ) وحينئذ فان لم يكن البيع الثاني مشروطاً في البيع الاول فلا بأس به.

عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج قال قلت للصادق علیه السلام : « الرجل يجيئني ويقول : اشتر هذا الثوب واربحك كذا وكذا ، فقال علیه السلام : أليس إن شاء اخذ وإن شاء ترك ؟ قلت بلى ، قال علیه السلام لا بأس : انما يحلل الكلام ، ويحرم الكلام » (1).

فكأن الامام الصادق علیه السلام لا يرى بأساً بالمواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه ، وانما المانع اذا باع الثوب ثم اشتراه من صاحبه ، ودفعه الى المشتري ، فان هذا باطل. اقول : وإذا ناقشنا بكون طائفة الروايات الاولى ضعيفة وطائفة الروايات الثانية غير ظاهرة في المفروض (2) لاحتمال كونها في من اراد الحصول على المال بدون محذور الربا وهو ما يسمى ( بيع العينة ) فان كان البيع الثاني مشروطاً في الاول فهو باطل ، ولا ربط لها في من باع ثم ملك ، فتاتي.

الطائفة الثالثة : وهي روايات تصحح البيع بعد أن يشتري المتاع ، سواء كان كليا او شخصياً ، منها :

1 - صحيحة محمد بن مسلم عن الامام الباقر علیه السلام : قال : « سألته عن رجل أتاه رجل فقال له : ابتع لي متاعاً لعلّي اشتريه منك بنقد او نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله ، قال علیه السلام : ليس به بأس ، انما يشتريه منه بعدما يملكه » (3).

2 - صحيحة منصور بن حازم عن الامام الصادق علیه السلام : « في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً ، فيشتريه منه ؟ قال علیه السلام : لا بأس بذلك انما البيع بعد ما يشتريه » (4).

ص: 354


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 8 من احكام العقود ، ح 4.
2- هذا الاحتمال غير وارد في الصحيحة الاولى ، لانه يقول « اشتر لي هذا الثوب او هذه الدابة وانا اربحك فيها كذا وكذا » فوجود كلمة ( لي ) تبعد الاحتمال المذكور وهي ظاهرة في ارادة أن يشتري له ملك الغير.
3- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 8 من احكام العقود ، ح 8.
4- المصدر السابق ، ح 6.

وهاتان الروايتان تقضيان بأنَّ الجواز بعد ان يشتري الشيء وبعد ما يملكه ، اما بيع الشيء قبل تملكه فهو باطل. ولكن لابد من تخصيصهما بصورة العين الخارجية ، وذلك : لورود الروايات الصحيحة الدالة على صحة بيع الكلي كما سيأتي.

بيع الكلي ( بيع ما في الذمة ) :

وهو يتصور على قسمين :

الأول : بيع السلم.

الثاني : بيع الكلي.

اما الاول : فهو عبارة عن ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر او ما في حكمه ) (1). والدليل على صحته بالاضافة الى عمومات صحة البيع والتجارة عن تراض هو :

1 - ما رواه زرارة في الصحيح عن الامام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا وصفت أسنانها » (2).

2 - صحيحة الحلبي عن الامام الصادق علیه السلام قال : « سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ؟ قال : لا بأس » (3).

3 - موثقة سماعة قال : « سئل الامام الصادق علیه السلام عن السلم في الحيوان ؟ فقال : « اسنان معلومة واسنان معدودة الى أجل مسمى لا بأس به » (4).

وأما الثاني ( بيع الكلي حالاً ) : فقد ذكر الفقهاء ان بيع الكلي في الذمة حالاً صحيح تشمله الادلة العامة لصحة البيع مع خصوص صحيح ابن الحجاج قال : « سألت الامام الصادق علیه السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده

ص: 355


1- جواهر الكلام ، ج 24 ، ص 267.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 1 من السلف ، ح 3.
3- المصدر السابق ، ح 4.
4- المصدر والباب نفسه ، ح 7.

فيشتري منه حالاً ؟

قال : ليس به بأس.

قلت : إنهم يفسدونه عندنا.

قال : فأيّ شيء يقولون في السلم ؟

قلت : لا يرون فيه بأساً ، يقولون : هذا الى أجل فاذا كان الى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح.

قال : اذا لم يكن أجل كان احق به.

ثم قال : لا بأس ان يشتري الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه الى أجل ، وحالاً لا يسمي له أجلاً إلا ان يكون بيعا لا يوجد ، مثل العنب والبطيخ في غير زمانه ، فلا ينبغي شراء ذلك حالاً » ونحوه آخر (1).

النتيجة : أن المناقصة ليست من بيع ما ليس عندك :

وبعد ان اتضحت هذه الامور :

1 - ان المراد من لاتبع ما ليس عندك هو في خصوص العين الشخصية التي تكون ملكاً للغير ، فلا يجوز لغير صاحبها أن يبيعها ثم يشتريها ويسلمها الى المشتري.

2 - وان بيع الكلي في الذمة صحيح ، سواء كان سلماً ( مؤجلاً ) او حالاً ، مادام تسليمه الى المشتري مقدوراً.

نأتي الى ما نحن فيه وهو بيع المناقصة فنقول :

اذا كانت المناقصة عبارة عن رغبة المشتري في الحصول على شيء كلي له مواصفاته الخاصة فيكون المناقص بائعاً لهذا الكلي بثمن يعرضه ، فان رست عليه العملية فهو صحيح لصحة بيع الكلي.

أ - فان كان هذا الكلي سلعة مؤجلة الى اجل معين فهو بيع سلم.

ص: 356


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 7 من احكام العقود ، ح 1 و ح 3.

ب - وان كان هذا الكلي سلعة حالّة فهو بيع الكلي الحال.

ج - وان كان هذا الكلي عبارة عن صنع شيء معين الى اجل معين فهو بيع الاستصناع الذي هو قسم من السلم.

د - وان كان هذا الكلي عملاً في المستقبل كالزرع والسقي والضرب في الارض بحصة من الربح فهو مزارعة ومساقاة ومضاربة.

ه - واذا كان هذا الكلي عملاً له شرائطه كالبناء والخياطة والطباخة بأجرة معينة فهو اجارة ، وهكذا. وعلى هذا تبيّن ان المناقصة التي يدعو لها فرد او جهة معينة لا تتصور في الرغبة في شراء شيء معين خارجي له مالك واحد او متعددون ، بل يتصور هنا المساومة والمراوضة معهم للوصول الى الاتفاق على شيء خاص وهو غير المناقصة.

إذن تبين أنَّ علاقة الاستصناع بالمناقصة هي علاقة الخاص بالعام ، اذ قد تكون المناقصة استصناعاً وقد لا تكون.

الفرق بين المواعدة والمناقصة :

بقي أن نعرف الفرق بين المواعدة والمناقصة ، فنقول : اذا كانت المناقصة ( عبارة عن بذل سلعة كلية او عمل كلي بمواصفات معينة بثمن معين ، وهو معنى الايجاب وصاحبها يكون هو البائع ، وارساء المناقصة على أي واحد من المتناقصين هو القبول من قبل المشتري فمعنى ذلك : أن العقد يتم ويكون ملزِماً بهذه الامور التي تكون على صورة الجزم والبت ) (1) فقد اتضح فرقها عن المواعدة التي لا تكون ملزمة للطرفين ، بل يكون صاحباها بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا ، كما ذكرت ذلك الروايات كصحيحة معاوية بن عمار قال : « قلت للصادق علیه السلام

ص: 357


1- وانما يبرم العقد بعد ذلك ، بمعنى كتابته كوثيقة.

يجيئني الرجل يطلب منّي بيع الحرير وليس عندي منه شيء ، فيقاولني عليه ، واقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثم اذهب فاشتري له الحرير ، فادعوه اليه ، فقال علیه السلام أرأيت إن وجد بيعا هو أحبُّ اليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف اليه ويدعك ، أو وجدت انت ذلك اتستطيع أن تنصرف اليه وتدعه ؟

قلت : نعم. قال : فلا بأس » (1).

والمفهوم من هذه الصحيحة هو أن الرجل الذي طلب الحرير من الآخر لم يحصل بينهما البيع الكلي في الذمة وانما تقاولا ، وبما ان التقاول قد يكون ملزِماً كالعهد ، وقد لا يكون ملزِماً كالوعد ، اراد الامام علیه السلام أن يُفهمه بأنَّ التقاول غير الملزِم وهو المواعدة او الوعد الذي ليس لها صفة الزام في البيع او الشراء ، بينما الذي له صفة الالزام هو العهد او البيع الكلي ولم يحصل أياً منهما.

اذن حصل الفرق بين المناقصة والمواعدة بالالزام وعدمه ، فاذا تمت المناقصة مع احد الاطراف فهي اما بيع ، او بيع خاص ( كالسلم ) ، او استصناع ، او اجارة ، او استثمار على احد الطرق المتقدمة وهذا كله يختلف عن المواعدة التي لا تكون ملزِمة وليست هي من العقود.

4 - بيع وثائق المناقصة بالتكلفة او بأي ثمن للحصول على ربح

اقول : إن المناقصات التي هي عبارة عن قائمة احتياجات ( مشاريع او مقاولات ) يحتاجها المعلِن بمواصفات معينة تسدّ حاجته وتشبع رغبته ، تستدعي توظيف بعض الخبرات والاستشارات التي يُنفق عليها المحتاج مقداراً من المال. ثم

ص: 358


1- وسائل الشيعة ، ج 12 ، باب 8 من احكام العقود ، ح 7.

يقوم المحتاج بتزويد المتناقصين بهذه المواصفات والدراسات التي يرغب في تنفيذ احتياجاته على وفقها ، وهذه الدراسات تفيد المناقص اذا رست عليه المناقصة ، اذ ليس عليه بعد ذلك الا التنفيذ. وهنا قد يقوم المشتري على استعادة هذه التكلفة من الرسوم التي يأخذها من المتقدمين للمناقصة ، أو يأخذ اكثر منها للحصول على ربح ، فهل هذا العمل جائز ؟

اقول : ان هنا معاملتين :

الاولى : يقوم بها المشتري مع الاخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة لكي تعرض للمشتركين في المناقصة مثل تهيئة خريطة المشروع او صفة السلعة او نوع الشركة او شروط الاجارة او الاستصناع وما يتربط بهذه المشروعات من امور ، وهذه المعاملة بين المشتري والمُعدِّين لهذه المعلومات يمكن أن تكون على أساس الجعالة ، كما يمكن أن تكون من قبيل استئجار المتصدِّين لتهيئتها ، وهو عقد صحيح.

ثم هناك معاملة ثانية : هي بين من استحق هذه المعلومات لصالحه - وهو المشتري - وبين من يريد ان تعرض تلك المعلومات له ، فهي معاملة ثانية صحيحة سواء كانت بسعر الكلفة او أزيد لدخولها تحت عنوان التجارة عن تراض ، او احلّ اللّه البيع ، حيث ان هذه المعلومات قد تكون كراساً صغيراً ذا قيمة ومنفعة بذل في اعداده وقتاً وجهداً ومالاً ، فبيعه على من يريد ان يقتنيه للدخول في المناقصة جائز بلا اشكال.

ولعل هذا من قبيل شراء الجريدة لمن يريد أن يرى اسمه من المقبولين في الجامعة أو من الفائزين في مسابقة أم لا.

ونحن لا نريد بهذا أن نقول : أن بذل هذا الكراس إلى المتناقصين مجاناً أو بسعر التكلفة لا يجوز ، بل كل أمر من الامور الثلاثة جائز ، واللّه اعلم ، ولا بأس بالتنبيه على أنَّ بيع دفتر المعلومات الى الداخل في المناقصة صحيح وإن لم يكن فيه

ص: 359

نفع للمناقص ، فإنَّ البيع الصحيح : هو تمليك عين بمال ، سواء كانت العين فيها نفع للمالك أم لا ، ( مع افتراض أنّها فيها نفع حتى يصح البيع ).

5 - طلب المشتري ضماناً بنكياً :

طلب المشتري ضماناً بنكياً من كل من المشتركين في المناقصة وطلبه تأميناً نقدياً منهم ، فهل يحق اخذه كلياً او جزئياً عند النكول ؟

ولايضاح الحقيقة في هذا الامر ينبغي لنا أن نتكلم في عدة نقاط :

الاولى : ما هو الضمان البنكي الذي يطلبه المشتري من كل من المشتركين في المناقصة ؟ وما هو التأمين النقدي منهم ؟

الثانية : ما هي أقسام هذا الضمان البنكي ؟

الثالثة : هل يجوز شرعاً للمشتري أن يأخذ هذا الضمان مطلقاً عند نكول المقاول ؟

اما النقطة الاولى : فخلاصة الكلام فيها هو عبارة عن طلب الجهات التي تقوم بالمناقصة من مطالبة : كل مشترك في هذه العملية. وكل من ترسو عليه العملية ويبرم معه العقد ، بتقديم تأمينات نقدية تبلغ نسبة معينة من قيمة العملية ، بشرط ان تصبح هذه التأمينات من حق الجهة التي قامت بالمناقصة في حالة عدم اتخاذ المشترك الاجراءات اللازمة لرسوّ العملية عليه او عدم تنفيذ العقد.

ولكن بدلاً عن تكليف المشترك بتقديم هذه التأمينات النقدية وتجميدها ، حصل الاتجاه القائل : بأن يتقدم المشترك الى البنك طالباً منه خطاب الضمان (1).

ص: 360


1- (1) أقول : إنَّ صورة خطاب الضمان متعددة وهي : 1 - الضمان النقدي ، وقد استبعدنا هذه الصورة لأنها تؤدي الى تجميد النقد . 2 - ضمان بحوالة أو شيك مصرفي، ويشترط أن يقرض عليه المصرف المسحوب عليه بالقبول. وقد استبعدت هذه الصورة حيث يكون الشرط والحوالة أداة وفاء وليس اداة ائتمان. 3- ضمان بالاقتطاع من مبالغ مستحقة ( للمناقص الذي تمت المناقصة له ) لدى الداعي الى المناقصة ، وقد استبعدت هذه الصورة لأنها تؤدي الى تجميد النقد من التداول والاستثمار . 4- ضمان بخطاب ضمان مصر في يدفع لدى الطلب الى الجهة الداعية الى المناقصة ، دون التفات الى معارضة قد تصدر من صاحب العرض. 5 - ضمان بتعهد من شركة وتأمين واجب الدفع عند أول طلب من الجهة الداعية الى المناقصة دون اعتبار لأتي معارضة يمكن ان تصدر من صاحب العرض . اما الصور الثلاث الاولى فليس فيها اى مشكلة سوى استبعادها عن مجال الضمان أما الصورتان الاخيرتان فهما اللتان عليها العمل وقد اخترنا هنا خطاب الضمان المصرفي.

ومعنى خطاب الضمان : أن يكون البنك كفيلاً وضامناً بقبول دفع مبلغ معين لدى المستفيد من ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزمات معينة قبل المستفيد (1) ولكن لا بمعنى الكفالة الاصطلاحي التي هي عبارة عن احضار المكفول ، ولا بمعنى الضمان الاصطلاحي الشرعي الذي هو عند طائفة : ضم ذمة الى ذمة ، وعند طائفة : النقل من ذمة الى ذمة ، بل بمعنى اداء البنك شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه باداء الشرط مثل ضمان الاعيان المغصوبة التي لا تكون الذمّة مشغولة بها ما دامت العين موجودة ، فيكون معنى ضمان الاعيان المغصوبة هو ما نحن فيه من التعهد بادائها (2).

ويترتب على هذا التعهد بالاداء اشتغال ذمة المتعهد بقيمتها عند تلفها.

ويتحقق تلف الشرط على المشترِط : بامتناع المشروط عليه عن اداء الشرط الذي هو تلف للفعل على مستحقه ، وبذلك تتحوّل العهدة الجعلية ( التعهد باداء الشرط ) الى اشتغال ذمة البنك بقيمة ذلك الفعل ( اداء الشرط ) لإنه من

ص: 361


1- راجع البنك اللاربوي في الاسلام ، الشهيد الصدر ، ص 128.
2- غاية الامر أن وقوع العين المغصوبة في عهدة الغاصب قهري ، اما وقوع اداء الشرط في عهدة البنك فهو بسبب انشاء البنك لمثل هذا التعهد المفروض كونه نافذاً بحسب الارتكاز العقلائي الممضى شرعاً. وهذا البحث يأتي في صورة ضمان البنك او الفرد اداء دين شخص معين.

اللوازم العقلائية لدخول ذلك الشرط في العهدة.

وعلى ما تقدم : فاذا تخلف المقاول عن الوفاء ، اضطر البنك الى دفع القيمة المحددة في خطاب الضمان ، ويرجع في استيفائها على الشخص الذي صدر خطاب الضمان اجابة لطلبه. وسيأتي زيادة توضيح في تكييف هذا التعهد شرعاً فيما بعد.

أما النقطة الثانية : فان خطاب الضمان ينقسم إلى قسمين :

1 - خطاب الضمان الابتدائي.

2 - خطاب الضمان النهائي.

اما خطاب الضمان الابتدائي : فهو تعهد بنكي لضمان دَفع مبلغ من النقود من قيمة العملية يطلبه من يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة ، ويستحق المستفيد الدفع له عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم عند رسوّ العملية عليه.

واما خطاب الضمان النهائي : فهو تعهد بنكي لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة من قيمة العملية التي استقرت على عهدة العميل ، يطلبه من رست عليه العملية ونفّذ معه العقد لصالح المستفيد ، ولا يكون دفع المبلغ واجباً على البنك الاّ عندك تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية التي عقدت بين المقاول والمستفيد من خطاب الضمان (1). لماذا خطابات الضمان ؟

ثم إن الفكرة الاساسية في خطابات الضمان تكمن في نقاط ، أهمها :

1 - ان الجهة المعلنة عن المناقصة تحتاج إلى التأكد من جدية عرض خدمات

ص: 362


1- يمكن أن يكون خطاب الضمان الابتدائي والنهائي لصالح المقاول اذا شعر بأن الجهة المقابلة قد لا تلتزم بالعقد او قد لا تؤدي ما عليها من مال في الوقت المحدد ، كما يمكن أن يكون خطاب الضمان الابتدائي والنهائي من كل منهما لصالح الآخر اذا لم يلتزم احدهما بالعقد او بشروطه.

كل شخص من المشتركين. وهذا يحصل بفكرة خطابات الضمان الابتدائية.

2 - إنَّ الجهة المعلنة عن المناقصة تحتاج الى الزام المناقص بابرام العقد اذا رست المناقصة عليه.

3 - ان الجهة الداعية الى المناقصة تحتاج الى الزام المقاصد بتنفيذ العقد.

4 - كما انها تحتاج الى التحفظ على عدم التورط في خسائر أو مضاعفات عند الاتفاق مع أحد المشتركين ورسوّ العملية عليه ، فيما إذا تخلف عن الوفاء بالتزاماته. وهذا يحصل بفكرة خطابات الضمان النهائية.

وعلى العموم فان فكرة خطابات الضمان فيها حماية للمصلحة العامة ( التي تقوم بالمناقصات عادة ) أو الفرد ، وتقطع على المتهاونين سبل الخلل والاهمال ، ولكل احد الحق في سلوكها.

اما النقطة الثالثة : اما ( حكم خطابات الضمان ) فينبغي ان نتكلم في كل من القسمين بصورة مستقلة.

اما خطاب الضمان الابتدائي : فقد يقال إن الطالب للضمان الابتدائي من البنك وهو المقاول أو المشترك في المناقصة لم يرتبط مع الجهة التي تجري المناقصة بأي ارتباط عقدي ، وإذا كان كذلك فلا يمكن الزامه بشرط لكي يتمكن البنك ان يضمن وفاء ذلك الشرط. فلو فرضنا ان هذا المقاول الذي يريد ان يتنافس على الوصول إلى رسوّ العملية عليه قد التزم للجهة الداعية للمناقصة بأن يدفع مبلغاً معيناً من المال إذا لم يتخذ الاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه ، فهو من الوعد الابتدائي غير الملزم. وعلى هذا فلو تعهد البنك لدفع هذا المبلغ عند عدم دفع المقاول فهو من التعهد غير الملزِم أيضاً وإن كان جائزاً (1).

ولكن : ألا يمكن أن يقال ان المقاول إذا التزم بدفع مبلغ معين عند عدم القيام

ص: 363


1- راجع البنك اللاربوي في الاسلام ، ص 131.

بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه يكون متعهداً وملزماً بذلك ، استناداً إلى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الذي معناه اوفوا بالعهود ، ونتيجة ذلك الزام البنك بتعهده إذا حصل نتيجة طلب المقاول لصالح المستفيد. على أن هذا الضمان من قبل البنك لمن اشترك في المناقصة يمكن ان يكون عربوناً ، وهو لا يحق اخذه في جميع الاحوال ، بل يؤخذ في صورة عدم التزام مَنْ رست عليه العملية بالمقررات اللازمة. وعلى هذا ، فسوف يكون دفع المبلغ المعين عند عدم القيام بالاجراءات اللازمة شرطاً في فسخ المعاملة المذكورة ، فالمعاملة إذا رست على احد فهي لازمة ولا يحق فسخها الاّ إذا دفع المقدار المعين من المال المتمثل في خطاب الضمان الابتدائي. وبهذا يكون اخذه من قبل الجهة الداعية إلى المناقصة عند عدم القيام بالاجراءات اللازمة لمن رست عليه العملية جائزاً كما يمكن أن يشترط الداعي الى المناقصة في عقد بيع المعلومات الى من يريد الاشتراك في المناقصة ، يشترط عليه اخذ مبلغ معين من المال اذا لم يلتزم بالعقد حين رسوّ العملية عليه ، وهذا شرط في ضمن عقد ، فيكون ملزِماً.

خطاب الضمان النهائي : وهو الخطاب الذي يكون بعد وجود عقد قائم ( بين من دعى إلى المناقصة - وهي الجهة المستفيدة من الخطاب - وبين المقاول الذي طلب اصدار الخطاب من البنك لصالح المستفيد ) ، وهذا العقد ينصّ على شرط على المقاول لصالح من دعى إلى المناقصة ، وخلاصة هذا الشرط هو أن يدفع المقاول نسبة معينة من قيمة العملية في حالة تخلفه عن الوفاء بالتزاماته.

فهل هذا الشرط صحيح ولازم ؟

الجواب : نعم انه شرط صحيح ولازم مادام واقعاً في عقد صحيح كعقد الايجار مثلاً أو البيع ، وحينئذ يصح لمن أعلن عن المناقصة الحق في تملك هذه

ص: 364

النسبة من قيمة العملية في حالة التخلف (1).

ثم ان هذا الحق قابل للتوثيق والتعهد من قبل طرف آخر ، وهو نظير تعهد طرف ثالث للدائن بوفاء الدين عند عدم قيام المدين بما هو عليه ، وعلى هذا يصح أن يرجع المستفيد على البنك عند تخلف المقاول عن التزاماته وعدم دفع ما شرط عليه.

ولما كان تعهد البنك وضمانه للشرط بطلب من المقاول فيكون المقاول ضامناً لما يخسره البنك نتيجة لتعهده ، فيحق للبنك ان يطالب المقاول بقيمة ما دفعه إلى المستفيد.

اذن هنا بحثان نحتاج إلى ادلة شرعية عليهما :

البحث الاول : صحة الشرط على المقاول.

البحث الثاني : صحة تعهد البنك ( خطاب الضمان ).

البحث الاول : صحة الشرط بدفع مبلغ من المال عند تخلفه عن التزاماته :

وقد ذكر السيّد الشهيد الصدر أن صحة الشرط المتقدم على المقاول يتصور صياغته بأحد انحاء ثلاثة ، يكون الصحيح منها شرعاً هو الثاني والثالث.

ص: 365


1- قد يقال بصورة مبسّطة : إن في طلب الضمان من قبل الجهة الداعية الى المناقصة لمواجهة حالات التعدي والتقصير وما ينشأ عنها من اضرار ، وهذا بنفسه يحث المشتري أو المتعاقد عن القيام بالتزاماته ، ونرى أنَّ هذا الطلب مشروعاً ولا يرد عليه أنّه ضمان مالم يجب لأننا فقهاء لا فلاسفة. أي أنَّ اشكال ( ضمان مالم يجب ) مبني على منهج الفلسفة ، وهي علم المعاني المجردة والمفاهيم الكلية ولا شأن له بالحياة اليومية والعامة للناس والمجتمع وعلاقة بعضهم ببعض ، وهو منهج - اي منهج الفلسفة - لا علاقة له بالفقه الذي هو المنهج المستمد من اللغة ودلالاتها وحياة الناس الواقعية وعلاقات بعضهم ببعض ومع الطبيعة ايضاً ، وهو منهج الفهم العرفي. فعلى المنهج العرفي لا نرى أي اشكال في طلب المناقِص من المناقَص خطاب ضمان ابتدائي أو انتهائي لمواجهة احتمال حالات التعدّي والتقصير وما ينشأ من اضرار عنهما. أما على المنهج الفلسفي يظهر الاشكال ولا سبيل الى ردّه ، ولكن بما أننا نلتزم المنهج الفقهي فلا اشكال في طلب خطاب الضمان.

الاول : أن يكون ( الشرط ) بنحو شرط النتيجة بحيث تشترط الجهة الخاصة على المقاول أن تكون مالكة لكذا مقداراً في ذمته إذا تخلف عن تعهداته.

الثاني : ان يكون بنحو شرط الفعل ، والفعل المشترط هو أن تملَّك الجهة الخاصة كذا مقداراً ، لا ان تكون مالكه.

الثالث : أن يكون بنحو شرط الفعل ، والفعل المشترط هو أن يملِّك المقاول تلك الجهة كذا مقداراً. والفرق بين هذا النحو وسابقه مع أن الشرط في كل منهما شرط الفعل : هو ان الشرط في هذا النحو فعل خاص وهو تمليك المقاول مالاً للجهة الخاصة. واما في النحو السابق فالمشترط وإن كان هو عملية التمليك أيضاً ولكن المراد بها جامع التمليك القابل للانطباق على تمليك نفس المقاول وعلى تمليك غيره ... وإذا اتضحت هذه الانحاء الثلاثة ، للشرط فنقول : إن النحو الاول ( أي شرط النتيجة ) غير صحيح في المقام ، لان النتيجة المشترطة في المقام وهي اشتغال ذمة المقاول بكذا درهماً ابتداءً ليس في نفسه من المضامين المعاملية المشروعة ، وادلة نفوذ الشرط ليست مشرِّعة لأصل المضمون ، وانما هي متكفلة لبيان صلاحية الشرط لأن تُنشأ به المضامين المشروعة في نفسها ... وأما النحو ان الآخران من الشرط فهما معقولان (1).

ولكن لا يبعد أن يقال : بان قاعدة « المسلمون عند شروطهم » حيث أنها تشمل الشرط إذا كان فعلاً أو كان الفعل مترتباً على الشرط ، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة المعينة ملكاً لي ، والملكية لها اسباب مختلفة منها الاشتراط ، فالمسلمون عند شروطهم يقول : ادفع السلعة إلى فلان ، وهو معنى صحة شرط النتيجة ، وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وانشائه بغير الشرط صحيحاً وبالشرط لازماً. كما يمكن ان يكون

ص: 366


1- النبك اللاربوي في الاسلام ، للشهيد السيد الصدر ، ص 236 - 237.

الاستدلال على صحة شرط النتيجة ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث أن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام بأصل المعاملة والالتزام بالامر الوضعي ، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد ، فأوفوا بالعقود يقول فِ بالعقد والشرط ، فيكون الشرط صحيحاً (1).

وعلى هذا فيمكن ان يكون شرط دفع مبلغ من المال على المقاول عند تخلفه بصياغاته الثلاثة المتقدمة عن السيد الشهيد صحيحاً ، والفرق بين شرط الفعل وشرط النتيجة هو الوجوب التكليفي على المشروط عليه في ان يملِّك. أما في شرط النتيجة فيكون المشروط عليه ضامناً للشرط وضعاً ، ويترتب عليه الحكم التكليفي بوجوب الدفع.

البحث الثاني : صحة خطاب الضمان الذي يصدره البنك عند طلب المقاول لصالح المستفيد :

ويمكن ان نصحح خطاب الضمان الذي يصدره البنك بطلب من المقاول لصالح المستفيد :

على اساس الضمان بالمعنى المتقدم ، حيث قلنا ان المراد بالضمان ليس هو المعنى الاصطلاحي عند أهل السنة أو الامامية ، بل هو ما تعارف عند العرف من ضمان أن يفي المقاول بالشرط ، وبعبارة اخرى هو التعهد باداء المقاول الشرط ، وهذا الضمان كالضمان (2) المعروف من قبول البنك للكمپيالة بمعنى تحمل البنك

ص: 367


1- لا بأس بالاشارة إلى أن شرط النتيجة الذي يُحكم بصحته ، هو خصوص تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة. اما هذه الغايات التي اشترط الشارع فيها صيغة خاصة فلا يمكن ان تحصل في الخارج الاّ بصيغتها الخاصة ولا ينفع في تحققها شرط النتيجة.
2- (2) يوجد فرق غير فارق بين ضمان البنك للكمپيالة وضمان البنك لخطاب الضمان وهو : أن المضمون في موارد قبول البنك للكمپيالة هو المدين ، والمضمون في خطاب الضمان هو المشروط عليه ( المقاول ) وهذا فرق غير فارق إذ كما يصح للبنك أن يتعهد للدائن باداء الدين كذلك يصح للبنك ان يتعهد للمشروط له باداء الشرط ، وهذا مقبول ارتكازاً عند العقلاء.

مسؤولية أمام المستفيد من تلك الكمپيالة ، وهو كما حُرر ضمان جائز شرعاً على أساس أنه : تعهد بوفاء المدين بدينه. ونتيجة هذا التعهد من الناحية الشرعية هو فيما إذا تخلف المدين عن الوفاء ، فيمكن ان يرجع المستفيد من الكمپيالة على البنك لقبض قيمتها.

وتوضيح ذلك من الناحية الفنية : ان يقال ان البنك تعهد تعهداً إنشائياً وجعل نفسه مسؤولاً ( باداء المقاول للشرط عند تخلفه عن التزاماته ) وهذا التعهد نافذ بحسب ارتكاز العقلاء ، وحينئذ يكون ممضى من قبل الشارع المقدس.

وقد تقرّب هذه المسؤولية من قبل البنك بمسؤولية الغاصب عن العين المغصوبة حيث تكون العين بعهدته ومسؤولاً عنها ما دامت موجودة ، فإذا تلفت العين المغصوبة تتحول هذه العهدة إلى اشتغال ذمة الغاصب بقيمة العين المغصوبة ، فما نحن فيه أيضاً كذلك حيث ان البنك جعل نفسه مسؤولاً عن اداء الشرط الذي على المقاول عند تخلفه عن التزاماته من عملية الارساء عليه ، ومعنى هذا ان البنك مسؤول عن تسليم الشرط بوصفه فعلاً له مالية ، فإذا تلف أداء الشرط على المشترط عند تخلف المقاول عن التزاماته وعن اداء الشرط بسبب امتناع المقاول عن اداء ما شرط عليه نتيجة تخلفه ، فقد تلف الفعل الذي له مالية على مستحقه ، وعندها تتحول عهدة البنك الجعلية إلى اشتغال ذمة البنك بقيمة ذلك الفعل ( اداء الشرط ) ، لأنَّ اشتغال الذمة بقيمة المال ( سواء كان عيناً أو فعلاً ) عند تلفه من اللوازم العقلائية لدخول ذلك المال في العهدة.

ونحن بعد فرضنا إمضاء الشارع لهذا الضمان الجعلي العقلائي ، يترتب عليه اشتغال ذمة البنك بقيمة ( ضمان اداء الشرط ) على تقدير تلف اداء الشرط.

ص: 368

وعلى هذا الاساس يصح خطاب الضمان من البنك في المقام (1).

ويمكن توضيح الضمان بالمعنى المتقدم بصورة عرفية : بأنْ ندعي أنَّ معنى الضمان من قبل البنك للمقاول هو تحمّل البنك للعمل بالشرط إذا تخلف المقاول عن التزاماته وعن الشرط معاً ، ولا يفهم العرف الاّ هذا التحمل عند ضمان البنك لاداء المقاول الشرط الذي له مالية ، عند تخلف المقاول.

ولكنّا نلاحظ كما ذكر السيّد الشهيد الصدر : وجود فرق دقيق بين توضيح الضمان بالوجه الفني وتوضيح الضمان بالوجه العرفي ، والفرق هو :

ان صاحب الشرط ( الداعي إلى المناقصة ) بناء على المعنى العرفي ليس له مطالبة البنك باقناع المقاول بالاداء وانما له على تقدير امتناع المقاول أن يُغرِّم البنك قيمة ما تعهد به. اما بناء على المعنى الفني ، فلصاحب الشرط مطالبة البنك باقناع المقاول بالاداء (2).

ولعل وجه هذا الفرق يكمن في أن المعنى الفني للضمان انما يتم عند تلف الشرط على المشروط له ، ولا يتحقق التلف إلاّ عند امتناع المقاول عن الاداء رغم الحث على اقناعه بالعمل بالشرط.

ملاحظة : لا حاجة الى التنبيه الى عدم صحة خطاب الضمان لو كان بقدر قيمة العملية او اكثر منها ، لانه يؤول الى حصول الداعي الى المناقصة الى العوض والمعوّض وهو بمعنى الشراء او الحصول على الخدمة بدون ثمن.

هل يصح للبنك أن يأخذ عمولة على خطاب الضمان ؟

تقدم أن التأمين المالي الذي يأخذه الداعي إلى المناقصة مثلاً قد تطور إلى الضمان البنكي المتمثل في خطاب الضمان الذي يصدره البنك ويتحمل فيه مسؤولية

ص: 369


1- راجع للتوسع البنك اللاربوي في الاسلام ، للشهيد الصدر ، ص 239 مع تعمق اكثر.
2- المصدر نفسه ، ص 240 - 241.

ما ينجم من تقصير المناقص تجاه مسؤوليته وواجباته حيال الطرف الآخر.

ولكن البنك إنما يصدر خطاب الضمان ويتحمل المسؤولية في مقابل نسبة مثوية يحصل عليها من صاحب الخطاب ، وعلى هذا يتولد لهذا الاجراء جانبان :

الجانب الأول : العلاقة بين من يدعو إلى المناقصة ومن يدخل في المناقصة ، فالاول الذي يكون هنا هو المشتري للسلعة أو المؤجر للعمل أو المشتري لما يصنعه المقاول ، له أن يشترط في العقد ما يضمن حقوقه ومصلحته سواء كان في صورة ضمان أو رهن أو غير ذلك استناداً إلى قوله صلی اللّه علیه و آله : المسلمون عند شروطهم. فإذا طالب المقاول بضمان بنكي فهو حق له لا اشكال فيه.

الجانب الثاني : العلاقة بين المناقص ( المقاول ) والبنك الذي يصدر خطاب الضمان ، فان البنك هنا يأخذ نسبة مئوية من صاحب الخطاب الذي صدر الخطاب بطلبه ، فهل لهذه النسبة المأخوذة وجه شرعي ؟

الجواب : لقد ذكر الشهيد الصدر رحمه اللّه جواز ذلك معبِّراً عنها : « عمولة على خطاب الضمان هذا ، لان التعهد الذي يشتمل عليه هذا الخطاب يعزز قيمة التزامات الشخص المقاول ، وبذلك يكون عملاً محترماً يمكن فرض جعالة عليه أو عمولة من قبل ذلك الشخص » (1).

اقول :

1 - ان الارتكاز العرفي والعقلائي يقول بان عملية الضمان المجردة من قبل البنك للمقاول باداء شرط المشترط ليست مما تقابل بالمال ، وانما الذي يقابل بالمال هو نفس خسارة البنك عند عدم قيام المقاول بالتزاماته مطلقاً ، نتيجة لضمان البنك ، فالعملية التي قام بها البنك من ضمان شرط المقاول فيها جانبان ، الاول : نفس عملية الضمان كالفاظ معينة. والثاني : تحمل البنك الخسارة على تقدير عدم

ص: 370


1- المصدر نفسه ، ص 131.

التزام المقاول بالتزاماته مطلقاً. والذي يكون مهماً في تعزيز التزامات المقاول كلا الامرين الذي يكون الثاني منهما هو لبّ الاول ، والاول يكون كاشفاً عن الثاني ، فإذا اخذ البنك على عملية الضمان المجرد مالاً بنحو الالزام كان من أكْلِ المال بالباطل. اما إذا آل الضمان اللفظي إلى خسارة البنك في حالة معينة ( وهي حالة : عدم سداد المقاول ما عليه من الشرط عند التخلف عن اداء التزاماته ) فهو مضمون على المقاول بلا اشكال فلا يتمكن أن ياخذ عمولة عليها.

اننا لو تحررنا من الارتكاز العقلائي المتقدم ، وصرّحنا بان العمولة ياخذها البنك في مقابل نفس عملية الضَمان ، فحينئذ نقول :

ان العمولة إنما يصح اخذها شرعاً في خصوص ما قابلها من عمل قابل للضمان ( كالخياطة والحلاقة واشباهها ) بخلاف ضمان البنك لوحده ( من دون دخل الاجراءات الادارية في ذلك الذي تستوجب اخذ المال عليها ) فان ضمان البنك لوحده من قبيل الالفاظ والاعمال التي ليست قابلة للضمان لعدم مالية له الانفس مالية المال المعطى من قبل البنك عند تخلف المقاول عن التزاماته وما شرط عليه ، وهذا المال مضمون على المقاول ، ولا يوجد عمل آخر له مالية حتى يصح ضمانه ليأخذ اجراً عليه.

3 - ان عقد الضمان الذي يسمى خطاب الضمان : هو من العقود الارفاقية للمقاول كالقرض ، فاذا كان الضمان يعزز قيمة التزامات المقاول ، فان قيام البنك بالتعهد باقراض شخص معين عند حاجته أيضاً يعزز قيمة التزاماته ، فهل يجوز اخذ اجرة على قيام البنك بتعهده لعملية الاقراض ؟

وان ادعي الفرق بين القرض والضمان بحرمة اخذ الزيادة في عملية القرض دون عملية الضمان فاننا نقول ليس الكلام في اخذ الزيادة في مقابل المال المقترض في القرض ، وانما الكلام في تعزيز التزامات الانسان لقيام البنك بعملية الاقراض ، فهي واحدة في اصدار خطاب الضمان أو عملية الاقراض عند الحاجة ، وإذا كان

ص: 371

يجوز اخذ البنك اجرة على قيامه بعملية الاقراض متى احتاج إلى المال فقد جوّزنا الربا بصورة ملتوية.

وعلى ما تقدم نتمكن ان نقول : ان خطاب الضمان الصادر من البنك بطلب من المقاول لصالح المستفيد ( سواء كان مغطى من حساب المقاول فيكون حوالة أو غير مغطى فيكون ضماناً ) لا يجوز اخذ الاجر عليه.

نعم اذا عممنا جواز أخذ الاجرة على كل خدمة يقدمها شخص لآخر بشرط ان لا يكون منهيّاً عن أخذها ، فحينئذ يكون أخذ الاجرة على الضمان جائزاً. وهذا هو الذي ذهب اليه بعض كبار علماء الامامية المعاصرين.

نعم : ان المصاريف الادارية التي يسلكها البنك تبعاً للقوانين الدولة لأجل إصدار خطاب الضمان ( الابتدائي والنهائي ) فهي جائزة شرعاً.

وعلى كل حال : فان المناقص إذا طلب من البنك إصدار خطاب الضمان لصالح المشتري فان هذا التعاقد بين المناقَص والمشتري يكون صحيحاً مادام يحصل على ضمان حقوق المشتري بطريقة شرعية ولم يكن للمشتري علاقة فيما حصل بين المناقَص والبنك.

6 - تضمين عقد المناقصة شرطاً جزائياً في حالة التأخير

اشارة

قد يقال : إن البحث قد تعرضنا له في صورة طلب الجهة الداعية الى عقد المناقصة خطاب ضمان نهائي لصالح المستفيد منه عند عدم القيام بما يجب على الطرف الآخر من التزامات وشروط شرطت عليه في العقد.

ولكن نقول : يوجد فرق بين هذا البحث وما تقدم من خطاب الضمان النهائي ، حيث أن ما تقدم كان في صورة تخلف المقاول عن الالتزامات او الشروط المشترطة عليه بصورة عامة في العقد ، أما هذا البحث فهو في صورة عدم تخلفه عن

ص: 372

اي التزام او شرط ، سوى شرط التسليم في الموعد المقرر حيث حصل التأخير الذي فيه ضرر على المستفيد. وحينئذ يكون الشرط الجزائي عبارة عن غرامة ، وهي تختلف عن التعويض إذا الغرامة يكون العذر فيها مفترضاً ولا يلزم اثباته على الداعي الى المناقصة ولا يستطيع المتعاقد الاحتجاج بعدم وقوعه ، وهذا بخلاف التعويض الذي يجب فيه اثبات الضرر ومقدار هو يستطيع المتعاقد اثبات عدم وقوعه.

وحينئذ نقول : إن الشرط الجزائي المتصور في كل عقد على أنحاء ثلاثة ولنأخذ الاجارة مثالاً للعقد :

1 - التنقيص من الاجرة بمقدار معين :

لقد تعرض الفقه الامامي لهذه الحالة في بحث الاجارة ، فقد ذكر العلماء في مسألة : « ما لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معين باجرة معينة واشترط عليه وصوله في وقت معين فان قصّر عنه نقص عن اجرته شيئاً معيناً ، جاز وفاقاً للاكثر نقلاً وتحصيلاً ، بل المشهور كذلك ، للاصل وقاعدة : المؤمنون عند شروطهم والصحيح أو الموثق أو الخبر (1) المنجبر بما عرفت عن محمد الحلبي قال : كنتُ قاعداً عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر ( الامام الباقر علیه السلام ) جالس ، فأتاه رجلان فقال احدهما : إني تكاريتُ إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن واشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لانها سوق أتخوف أن يفوتني فإن احتبستُ عن ذلك حططت من الكرى لكل يوم احتبسته كذا وكذا ،

ص: 373


1- (1) انما عبّر صاحب الجواهر بهذا التعبير لان هذه الرواية لها ثلاثة أسناد : الاول : سند الشيخ الكليني وفيه ( محمد بن أحمد ) وهو مجهول فالرواية تكون ضعيفة فعبّر عنها بالخبر: الثاني : سند الشيخ الطوسي وهو سند صحيح . الثالث : سند الشيخ الصدوق وهو سند صحيح أيضاً. اقول : بعد وجود الطريق الصحيح لا معنى للتعبير بالخبر.

وأنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً. فقال القاضي هذا شرط فاسد ، وفِّهِ كراه ، فلما قام الرجل أقبل إليّ أبو جعفر ( الامام الباقر علیه السلام ) فقال : شرط هذا جايز مالم يحط بجميع كراه » (1) (2) (3).

ومقابل قول الاكثر : من أشكل في صحة هذا الشرط الجزائي لكونه يوجب تعليقاً وجهالة وإبهاماً وأنه كالبيع بثمنين نقداً ونسيئة مثلاً ، ولذا ذهب المحقق الثاني في « جامع المقاصد » وغيره من المتاخرين إلى البطلان في ذلك وطرح الرواية أو حملها على الجعالة أو نحو ذلك.

اقول : ان ما ذهب إليه مخالف الاكثر هو كالاجتهاد في مقابلة النص الذي لا يقبل الحمل على الجعالة. ثم اننا لا نرى تعليقاً في الاجارة لانه لم يستأجره بالناقص لو لم يصل في اليوم المعين ، بل وصل بعده ، بل الاجرة معينة إن وصل في اليوم المعين ، فإنْ تأخر نقص من الاجرة ، وهو شرط في متن العقد على نحو شرط النتيجة او شرط الفعل ، والفرق بينهما واضح ، اذ على النحو الاول : يكون المشروط له ( على تقدير مخالفة الشرط ) قد ملك مقدار النقصان على ذمة المشروط عليه ، بينما على النحو الثاني لا يوجد اشتغال ذمة المشروط عليه ، بل يجب عليه تمليك مقدار النقصان ، فإن لم يفعل ، فعلَ حراماً فقط.

نعم : هناك جهالة في الشرط ولكن لا تضرّ هذه الجهالة التي ليست راجعة الى أحد العوضين. كما ان التشبيه بالبيع بثمنين ليس بصحيح ، لان المشابهة للبيع

ص: 374


1- جواهرالكلام ، ج 27 ، ص 230.
2- وسائل الشيعة ، ج 13 ، باب 13 من الاجارة ، ح 2.
3- لقد ثبتت الروايات المتواترة عن الأئمة : بان قولهم ليس من الرأي أو الاجتهاد وانما هو عن آبائهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ ، فيكون قولهم حسب هذه الروايات المتواترة حجة وكاشفاً عن السنة النبوية ، فيلزمنا العمل بها إذا كان السند صحيحاً. راجع كتاب الحلال والحرام في الاسلام الامر الخامس من مقدمة المحقق ، ص 23.

بثمنين ان يقول مثلاً ، إن خطته روميّاً فلك درهم وفارسياً نصفه ، اما ما نحن فيه فهو ليس كذلك ، ولذا صرح بالصحة هنا من لم يقل بها في مثال الخياطة بالرومية والفارسية وذلك لان المستأجر عليه فيما نحن فيه معيناً ولكن اشترط عليه التنقيص على تقدير المخالفة. وهذا شرط صحيح لعموم « المسلمون عند شروطهم » واطلاق الرواية المعتضدة بفتوى الاكثر.

2 - التنقيص من الاجرة بدون تعيين :

نعم لو كان الشرط الجزائي هو التنقيص بدون ذكر لمقداره لو أوصله متأخراً ، فيكون الشرط هنا باطلاً لجهالة الاجرة على تقدير الايصال المتأخر ، وحينئذ تبطل الاجرة ، واذا بطلت الاجرة ننتقل الى اجرة المثل في هذه الصورة.

ويدلّ عليه : كونه على مقتضى القواعد القائلة بصحة الاجارة وبطلان الاجرة لجهالتها ، فننتقل الى اجرة المثل. ويؤيده ما ورد في كتاب دعائم الاسلام عن الامام الصادق علیه السلام « أنه سئل عن الرجل يكتري الدابة او السفينة على أن يوصله الى مكان كذا يوم كذا ، فان لم يوصله يوم كذا كان الكرى دون ما عقده ؟ قال علیه السلام : الكرى على هذا فاسد ، وعلى المكتري أجر مثل حمله » (1).

3 - سقوط الاجرة باكملها :

ثم لو كان الشرط الجزائي هو سقوط الاجرة باكملها إن لم يوصله في الوقت المعين ، فهو شرط باطل لكونه شرطاً منافياً لمقتضى الاجارة ، لانه يرجع الى استحقاق المستأجر العمل بعقد الاجارة بلا اجرة ، فهو مثل قوله : آجرتك بلا اجرة ، وحينئذ فان فسد الشرط فسد العقد على رأي ، لانه شرط اساسي بني عليه العقد ، ويدلّ على بطلان الشرط نفس الرواية المتقدمة عن الحلبي بقول الامام

ص: 375


1- المستدرك ، ج 14 ، باب 7 من الاجارة ، ح 1 ، طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الباقر علیه السلام : « وشرط هذا جائز مالم يحط بجميع كراه » وعلى قول آخر ان الشرط اذا كان فاسداً لا يُبطل العقد ، ولكن لا بأس بالتنبيه الى أن المؤجر يستحق اجرة مثله على كلا التقديرين ( من بطلان عقد الاجارة او عدم بطلانه ) ، لانه عمل عملاً بدون تبرع بطلب من صاحب السلعة ، فيستحق اجرة المثل لما عمل ، ولقاعدة ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) ، والاجارة عقد مضمون لو كان صحيحاً بالاجرة المسماة ، فلو كان فاسداً فهو مضمون باجرة المثل (1).

اقول : هذا الكلام في الشرط الجزائي قد ورد فيه الحديث المتقدم في الاجارة ، فان لم نرَ فرقاً بين عقد الاجارة وبقية العقود ( غير القرض ) (2) فيكون دليل الشرط الجزائي غير منحصر بعقد الاجارة ، فيصح الشرط الجزائي على النحو الاول في كل عقد ، ومنه عقد المناقصة التي نحن بصددها والتي تكون الاجارة قسماً منها ، فيتمكن الداعي الى المناقصة ان يشترط على منْ رست عليه المناقصة نقصان أجرته او ثمنه بمقدار معين إن لم يكمِّل المشروع الصناعي او لم يسلم المبيع في مدته المعينة. كما يمكن ان يكون الدليل على صحة الشرط الجزائي هو قاعدة « المسلمون عند شروطهم » التي توجب الوفاء بالشرط اذا كان في ضمن عقد مالم يكن مخالفاً للكتاب او السنة.

ولو قيل : إنَّ الثمن في البيوع يكون مقابل الاعيان ، وأما الشرط : فتخلفه يوجب فسخ ولا يقسَّم عليه الثمن ، اجبنا : أننا ندّعي أنَّ الشرط الجزائي الذي شرطه المشتري وقبله البائع يوجب عليه العمل به ، وهو يوجب ان يملك المشتري

ص: 376


1- هنا أبحاث معمقة آثرنا تركها لاجل ان لا يطول بنا المقام.
2- إن الشرط الجزائي في القرض سواء كان الغرض منه حث المقترض على الوفاء بدينه في الميعاد فيكون تهديداً مالياً للتنفيذ العيني ، او كان شرطاً جزائياً حقيقياً وهو خلاف التهديد المالي حيث أنه يتصل بالتعويض لا بالتنفيذ العيني ، وعدم صحته في القرض واضحة حيث أنَّ كل زيادة للمقرِض جاءت من قبل الشرط في عقد القرض هي ربا.

مقداراً من الثمن أو يملَّك من قبل البائع إن لم يفعل بهذا الشرط الثاني كان الخيار للمشتري بالفسخ.

اقول : والتحقيق اننا وإن قلنا أنَّ الشرط الجزائي صحيح في الاجارة على الاعمال وفي البيوع ، إلاّ اننا نستثني من البيوع ( السلم والتوريد ) الذي يكون المثمن كلياً في الذمة ومؤجلاً الى أجل ، وبما أن الثمن كان مؤجلاً لا يجوز الزيادة في الاجل في مقابل المال لأنه ربا ( اتقضي ام تربي ) فكذا لا يجوز الزيادة في أجل المثمن في البيع السلمي في مقابل المال وهو تنقيص الثمن ، وبما أنَّ الشرط الجزائي تكون نتيجته هو رضا المشتري في تأخير المثمن في مقابل المال الذي هو نقصان في الثمن فهو ربا جاهلي. يبقى لنا طريق واحد لضبط تصرف البائع ، وهو أن يشترط المشتري على البائع كمية من المال اذا تخلّف عن تنفيذ العقد ، وهذا هو العربون الذي أجازه المجمع الفقهي في دورة سابقة ، ولكن هذا لا يكون بديلاً للشرط الجزائي في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة.

والخلاصة : فإنَّ الشرط الجزائي في صورة تسليم البضاعة باطل لأنه شرط مخالف للستة ، ولولا هذا المانع لكان جائزاً (1).

ص: 377


1- وقد أقرَّ مجمع الفقه الاسلامي في دورته السابعة بجدة/ رقم 65 / 2 / 7 بشأن البيع بالتقسيط الفقرة 5 الشرط الجزائي في حالة اتفاق المتداينين على حلول سائر الاقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الاقساط المستحقة عليه مالم يكن معسراً ، ومما يؤيد قرار المجمع ( كما ذكر ذلك د. رفيق المصري في بحثه حول المناقصات ص 41 ) ما جاء في حاشية ابن عابدين 4 / 533 : « عليه ألف ثمن جعله رُبُّهُ نجوماً = اقساطاً ، إن أخلَّ بنجم حلَّ الباقي، فالأمر كما شرطا .....». وقد أقرَّ - ايضاً - صورة اخرى من الشرط الجزائي في الدورة الثامنة في بروناي، وهي العربون في صورة عدول احد الطرفين عن عقد البيع أو الاجارة أو مضت الفترة المحددة لانتظار امضاء العقد، فحينئذ يكون مبلغ العربون من حق الطرف الآخر . وقد وردت بعض النصوص في حلية الشرط الجزائي منها : 1 - عن ابن سيرين قال : قال رجل لكريه ( المكاري ، المؤجر ) ارحل ركابك ( اي شد رحلك على ظهر دابتك ) فإن لم ارحل مع يوم كذا وكذا فلك مائة درهم ، فلم يخرج ؟ فقال شريح : من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه. راجع صحيح البخاري ج 3 ص 259 باب ما يجوز من الاشتراط. ومصنف عبدالرزاق ، باب الشرط في الكراء ج 8 ص 59 وفتح الباري ج 5 ص 354 واعلام الموقعين ج 3 ص 400.

7 - مدى حرية الجهة الداعية الى المناقصة في اختيار احد من العروض او التقيد بالانقص منها ؟

7 - مدى حرية الجهة الداعية الى المناقصة في اختيار احد من العروض او التقيد بالانقص منها ؟(1)

إن التعريف المتقدم للمناقصات كان يلزم الداعي الى المناقصة الى إختيار احسن من يتقدم للتعاقد معه ، وهذا التعريف قد إستُل من العرف التجاري لعقد المناقصات ، فاذا وصل هذا العرف الى حدّ التعهد من قبل المشتري ومن يدخل في المناقصة فلا يبعد ان يُلزم المشتري شرعاً باختيار أقل العروض لهذا التعهد الذي يكون ملزِماً حسب « اوفوا بالعقود ». وبعبارة أخرى : ان الغرض من المناقصة هو اختيار الانقص من العروض ، والمناقصة من شأنها ذلك. فلو اُختير غير الانقص لكان هذا مدعاة لاتهام المناقص برشده اذا كان يشتري لنفسه أو اتهام الجهة الوكيلة والمتولية بعدم الامانة أو نفوذ رشوة في المعاملة.

ونستطيع أن نتخلص من هذا العرف التجاري في صورة واحدة وهي ما اذا اشترط المشتري على المتناقصين عدم الالتزام باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معه ، ففي هذه الصورة يكون المشتري مختاراً في اختيار احد المتقدمين للمناقصة حسب الشرط. ولكن في هذه الصورة قد لا تنجح المناقصة ولا يقدم عليها أحد ، لأن المناقصة تكون تحكماً وتشهيّاً ، وبهذا يفوت الوقت والكلفة على المتناقصين.

واما اذا لم يكن الزام للداعي الى المناقصة في اختيار افضل العروض كما في

ص: 378


1- هذا البحث مفروض فيه تساوي المتناقصين في الشروط والمواصفات.

المناقصات البدائية التي تحصل مشافهة ، فحينئذ يكون الحكم هو حرية الجهة الداعية الى المناقصة في اختيار احد العروض وان لم يكن أحسنها ما لم يشترط تقييد الداعي الى المناقصة بافضل العروض. ولكن هذه طريقة بدائية للمناقصة يسلكها من لا يقدّم ضمان خطاب ابتدائي ونهائي ولا يشتري دفتر الشروط ولا يصرف وقتاً لدراسة المشروع ، ولا يعدّ الخطط لذلك ، وكلٌ منها مهم في المناقصة التي يحسب فيها للوقت وللتكلفة ولخطاب الضمان حسابه المهم في العرف.

خلاصة البحث :

وخلاصة ما سبق من البحث نذكره على نقاط :

1 - بعد تعريف المناقصات وبيان علاقة الضد بين المزايدة والمناقصة ، واشتراكهما في الاجراءات تبيّن أن المناقصات هي قسم من المقاولات التي تكون ملزِمة للطرفين.

2 - المناقصات على انواع ( مناقصات البيع ، والاستصناع والسلم والاجارة والاستثمار باقسامه المختلفة من مزارعة ومضاربة ومساقاة ) وتبين ان المناقصة كما تكون قسماً من البيع والسلم والاستصناع والاجارة والاستثمار تكون ايضاً اعم من البيع لشمولها لهذه العقود.

3 - لا تعارض بين صحة عقود المناقصات والنهي عن الدخول في سوم الاخ لأنَّ حديث النهي ناظر الى المعاملة الخاصة الجارية بين طرفين خاصين ، ولا يشمل بيع المناقصة المبنية على عدم السوم مع شخص واحد بل مع جماعة.

4 - الدخول في المناقصة قد يكون لمن لا يمتلك السلعة وهو يكون من قبيل بيع السلم او الاستصناع او بيع الكلي او الاجارة او الاستثمار باقسامه المختلفة الشرعية ، اما بيع ما ليس عند الانسان الذي ورد فيه النهي فانه مختص ببيع السلعة الخارجية لمن لا يملكها ، وقد تبين ايضاً أن المناقصة ليست من المواعدة التي لا تكون ملزمة للطرفين.

ص: 379

5 - بيع وثائق المناقصة بالتكلفة او باي ثمن آخر عقد صحيح لدخول ذلك تحت حلّية البيع والتجارة عن تراض.

6 - إن خطاب الضمان الابتدائي الذي يأخذه الداعي الى المناقصة عند تخلف من رست عليه من القيام بمقررات المناقصة أمر جائز لانه عبارة عن شرط في حق فسخ المعاملة المذكورة.

7 - ان خطاب الضمان النهائي الذي يكون لصالح الداعي الى المناقصة الذي يكون عبارة عن دفع نسبة معينة من قيمة العملية في حالة تخلف المقاول عن الوفاء بالتزاماته هو شرط صحيح ولازم مادام واقعاً في عقد صحيح سواء كان بنحو شرط النتيجة او شرط الفعل. كما يمكن أن يقوم البنك بضمان هذا الشرط والعمل به عند تخلف المقاول عن التزاماته وبالشرط معاً.

8 - ان العمولة التي يأخذها البنك على خطاب الضمان التي هي عمل لفظي ليس قابلاً للضمان ، غير جائزة لانها من قبيل اكل المال بالباطل. الا اذا جوزنا أخذ الاجرة على كل خدمة يقدمها شخص لآخر لم يكن منهيّاً عنها.

9 - ان الشرط الجزائي في حالة التأخير عن وقت التسليم يكون صحيحاً اذا كان معيناً ، ولم يكن المثمن نسيئة ، اما اذا كان غير معين فهو غير صحيح ويؤثر على صحة العقد ، وحينئذ ننتقل الى ثمن المثل ، وكذا اذا كان المثمن نسيئة ( كما في عقد التوريد او الاستصناع ) حيث يؤول هذا الشرط الجزائي الى اتقضي ام تربي وهو ربا الجاهلية.

اما اذا كان الشرط الجزائي عبارة عن سقوط الثمن باكمله فهو شرط باطل لكونه منافياً لمقتضى العقد ، وقد كان دليل هذا كله الرواية المعتبرة عن الامام الباقر علیه السلام بالاضافة الى قاعدة « المسلمون عند شروطهم ».

10 - ان الجهة الداعية الى المناقصة تكون ملزمة باختيار أقل العطاءات الا في صورة اشتراط عدم الالزام في متن شراء وثيقة المناقصة اما في المناقصات البدائية التي ليس فيها التزام باختيار أقل العروض فالعكس هو الصحيح.

ص: 380

تغيير قيمة العلمة

اشارة

ص: 381

ص: 382

المقدمة

قبل البدء في البحث لابدّ من التنبيه إلى خطرين يقفان في طريق المجتهد عليه أن يتجاوزهما :

الخطر الأوّل : « تبرير الواقع الفاسد على حساب تطوير النص ».

ويحدث هذا الخطر عند مَنْ استسلم للواقع الإجتماعي أو الإقتصادي الفاسد الذي يعيشه كما حدث لبعض المفكرين المسلمين حيث تأوّل حرمة الربا ، وخرج بنتيجة تواكب الواقع الفاسد وهي : أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً كما في آية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (1).

وقد منع هذا الواقع الفاسد هؤلاء المفكّرين من إدراك غرض الآية التي كانت تريد لفت نظر المرابين إليه ، وهي النتائج الفضيعة التي يسفر عنها الربا ، ولذا نرى القرآن الكريم يقول : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (2).

ص: 383


1- آل عمران : 130.
2- البقرة : 279.

إذن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا ، وإنّما هي مسألة عدم جواز نموّ رأس المال من دون مبرّرات شرعيّة لنموّه.

النتيجة : هو عدم جواز اتّباع الواقع الفاسد الذي يعيشه المسلمون اليوم ، وهو الواقع الرأسمالي الذي تعيشه بعض البلدان الإسلاميّة ، أو الواقع الإشتراكي الذي تعيشه بعض البلدان الاُخرى ، وإنّما يجب أن تكون الشريعة الإسلاميّة هي المتّبعة ويكون مذهبها الإقتصادي هو المتبع أيضاً حتّى وإن خالف الواقع المعاش ، فعلى علماء الإسلام أن يغيّروا الواقع إذا لم يكن منسجماً مع الشريعة الإسلاميّة حتّى تكون شريعة الإسلام هي المتّبعة.

الخطر الثاني : « اتخاذ موقف معين مسبق اتجاه المسألة ».

كما إذا كان العالم الذي يبحث المسألة له اتجاه نفسي ، فإنّ هذا الإتجاه النفسي سوف يؤثر عليه إلى حدّ كبير في عمليّة الإستنباط أو فهم النص الشرعي ، وقد تصل المرحلة إلى إغوائه وخداعه بحيث تنطمس أمام عينيه جوانب واضحة من النص الشرعي الذي لم ينسجم معه نفسيّاً.

ومثال ذلك : ما ينهجه علماء العقائد في سبيل ترسيخ عقائدهم المنسجمين معها نفسيّاً ، فيحاولون تفسير وتأويل النصوص الشرعيّة بما ينسجم مع هذه العقيدة ، وقد تصل هذه الطريقة إلى حدّ الإغواء والخداع ، فأيُّ موضوعيّة في مثل هذا البحث ؟!!

وكمثال فقهي من الشريعة الإسلاميّة ما نراه من نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن « ذبح الحمر الأهليّة يوم خيبر » ، فإنّ بعض العلماء يتخذون موقفاً نفسيّاً مسبقاً تجاه النص ، وهو الموقف القائل : ب « أنّ كلّ نص هو حكم شرعي عام » ، وأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله : هو « مبلّغ الأحكام دائماً ». إذن هؤلاء العلماء سوف يفسّرون النص المسبق بأنّه حكم شرعي عام ، بينما هذا الموقف الخاص من تفسير النص لم ينبع من

ص: 384

النص نفسه وإنّما نتج عن اتجاه نفسي خاص عند العالِم ، ويمكن أن يكون نهي النبي صلی اللّه علیه و آله هو إجراء معيّن اتخذه في تلك الحالة والفترة بما أنّه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين ، وحينئذ يكون النهي نهياً ولائيّاً بما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله هو حاكم المسلمين.

وقد نبّه الإمام الباقر علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم وزرارة حيث سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهليّة فقال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أكلها يوم خيبر ، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لأنّها كانت حمولة الناس ، وإنّما الحرام ما حرّم اللّه في القرآن » (1). وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أكل لحوم الحمير ، وإنّما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنوها وليست الحمير بحرام ، ثمّ قرأ هذه الآية : قل لا أجد فيما اُوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه ... » (2).

إذن موضوعيّة البحث في النصوص الشرعيّة تفرض على الباحث إستيعاب كلا هذين التقديرين ، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص الظاهرة.

فالنتيجة : لا يجوز أن يكون عند الباحث في مسألتنا موقفاً مسبقاً معيّناً يقول بوجوب أن يعوّض الضرر الذي حدث لهذا الفرد نتيجة معاملة قد قام بها بكل اختياره وإرادته مادام لا يوجد دليل ظاهر من الشريعة الإسلاميّة على تعويضه ، بل ربمّا يكون الحكم بتعويضه مخالفاً لمباديء الشريعة الحقّة ، فالنظر الموضوعي في بحثنا الذي نريد أن نبحثه يدعونا إلى فحص الأدلّة الشرعيّة للحكم بتعويض الضرر أو عدم الحكم به.

وبعد هذه المقدّمة نقول :

ص: 385


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، باب 4 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح 1.
2- المصدر السابق ، ح 6.

المشاكل المتعلقة بتغيير قيمة العملة :

اشارة

والجواب : هناك مشكلتان تتعلّقان بكيفيّة الوفاء.

الاُولى : كيفيّة الوفاء في عقد القرض إذا تغيّرت القيمة ؟

الثانية : كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل في البيع إذا تغيّرت القيمة ؟

وسوف نبحث كل واحدة من المشكلتين على حدة لنرى الحكم الشرعي في الشريعة الإسلاميّة ( الإماميّة ). وتوجد مشكلة ثالثة لا تتعلق بالقرض أو البيع ، نتعرض لها في آخر البحث وهي مشكلة مهر الزوجة الذي كان عبارة عن مائة تومان إيراني قبل ثلاثين سنة ، فكيف توفّى هذه الزوجة مهرها ؟ وأمثال هذه المسائل.

المشكلة الاُولى :

فهي جزء من بحث مهم في الشريعة الإسلاميّة وهو « كيفيّة الوفاء في عقد القرض » سواء كان المال المقترض من المثليّات ( كالحنطة والشعير ، والأوراق النقديّة ، والدنانير الذهبيّة والدراهيم الفضيّة ، أو كان من القيميّات كقرض خاتم عقيق أو زمرّد ).

وهنا لابدّ لنا من معرفة معنى القرض في الشريعة الإسلاميّة أولاً ، ثمّ نرى كيف يؤدّى المال المقترض ثانياً.

أولا : معنى القرض : لا يخفى أنّ معنى القرض معروف وهو : « تملّك كميّة من المال مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً ». وقد أثبته اللّه سبحانه وتعالى للمحتاجين.

ثانياً : المال المقترض : ثمّ إنّ المال المقترض إمّا أن يكون من المثليّات أو من القيميّات.

ص: 386

والمثلي : ما تساوت أجزاؤه في القيمة والمنفعة وتقاربت صفاته كالسكر والحنطة والدهن النباتي وأمثالها.

والقيمي : وهو ما كانت أجزاؤه مختلفة في القيمة والمنفعة مثل الخيار والعقيق والزمرّد وأمثالها.

فإن اقترض الإنسان شيئاً مثليّاً : فقد يكون أحد أقسام ثلاثة :

1 - أن يقترض مثليّاً ، وهو عرض من الأعراض كالثوب المثلي ، والحنطة ، والرز ...

2 - أن يقترض نقداً مثليّاً « ذهباً أو فضّة ».

3 - أن يقترض نقداً ورقيّاً تكون ماليّته إعتباريّة وإلزامية من قبل الدولة.

والمشكلة المطروحة هنا من قبل الباحثين هي فقط في النقد الورقي إذا تغيّرت قيمته إلى النقيصة ، بينما ينبغي أن تبحث المسألة بصورة أوسع ، لأنّ الذهب والفضّة الذي كان هو النقد المتعارف قبل سنة 1914 م ، أي قبل الحرب العالميّة الاُولى أيضاً تتغيّر قيمته بالنقيصة والزيادة ، ولا يلتفت إلى من يقول بأنّ قيمة الذهب والفضّة لم تتغيّر وثابتة مادامت النصوص الكثيرة في زمان الإمام الصادق علیه السلام تخبرنا عن نزول قيمة الذهب مرّة ونزول قيمة الفضّة مرّة اُخرى. وإليك رواية واحدة من الروايات الكثيرة ليتضّح لك الأمر.

فقد روى عبدالملك بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر علیه السلام عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه ، فيأخذ مكانه ورِقاً في حوائجه ، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض الورِق وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه ، ثم يتغيّر السعر قبل أن يحتسبا حتّى صارت الورِق اثنى عشر بدينار ، هل يصحّ ذلك له ؟ وإنّما هي بالسعر الأوّل حين قبض كان سبعة وسبعة ونصف

ص: 387

بدينار ؟ ... الخ » (1).

وكذلك ينبغي أن تبحث المسألة في صورة ما إذا كان المال المقترض من العَرَض كالحنطة والسكّر ، حيث أنّ قيمتها تنخفض مرّة وترتفع اُخرى كما هو واضح.

ثمّ إنّ ارتفاع القرض أو إنخفاضه وكذلك ارتفاع الذهب أو الفضّة أو انخفاضهما قد يكون سببه ظلم الإنسان لاخيه الإنسان في سلوكه الإقتصادي من احتكار أو غيره ، وقد يكون سببه من السماء ، كما إذا تحسّن المطر في سنة من السنين فكان الناتج جيّداً أو وافراً ، وقد يسوء المطر أو ينقطع في سنة اُخرى فيكون الناتج رديئاً أو قليلاً ، كما يمكن أن يكون ارتفاع سعر الذهب نتيجة قلّته في بعض البلدان ، ورخصه في مكان آخر نتيجة عثور تلك الدولة على مناجم له في أرضها.

وكذلك نقول نفس الكلام في الأوراق النقديّة ، فقد ترتفع قيمتها نتيجة تحسّن الأوضاع الإقتصاديّة ، وقد تنزل قيمتها نتيجة تردّي الأوضاع الإقتصاديّة لأنّها اصبحت الآن بنفسها قيمة سوقيّة ، ويُقصد النقد بنفسه لأنّه مال ، وإن كان هذا المال اعتباريّاً ، وتدلّ عليه السيرة من قبل الناس والإعتبار في قياس قيمة كلّ شيء بالأوراق النقديّة ، ومعنى هذا أنّ النقد الورقي أصبح الآن عرضاً مطلوباً بنفسه وهو مال اعتباري.

إذن المشكلة التي يجب أن تبحث ليست مقتصرة على النقد الورقي ، وليست مختصّة بتدهور القيمة إلى النزول ، بل يجب أن تبحث المسألة في كلّ نقد سواء كان ورقياً أو معدنيّاً ، كما يجب أن تبحث في حالة تدهورها أو تحسّنها ، لأننا نرى إمكان تحسّن قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أمراً متصوّراً وواقعاً حتّى في هذا الزمان بالنسبة للأوراق النقديّة للدول المتقدّمة من الناحية الإقتصاديّة ، كاليابان وأمريكا وأمثالهما ... كما يجب أن تبحث المسألة في اقتراض القرض الذي قد تنزل قيمته ، وقد ترتفع للأسباب المتقدّمة.

ص: 388


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، باب 9 من أبواب الصرف ، ح 1.
جواب المشكلة :

إذا اقترض الفرد شيئاً من المثليّات المتقدّمة بأقسامها الثلاثة ، فبما أنّ القرض معناه : « تملّك الشيء مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً » أي حسب المدّة المتفقة بين الطرفين إن كانت. فهنا يكون المقترض قد أقدم على ضمان ما في ذمّته من هذا المثلي ، فلنفرض أن المقترض قد اقترض خمسة كيلوات من الحنطة لمدّة شهر واحد ، فهو مسؤول عن ضمان هذا المقدار المثلي بعد الشهر الواحد ، سواء كانت قيمة الحنطة قد ارتفعت نتيجة تدهور حالة الطقس وهجوم الجراد على المزارع ، أو كانت الدولة قد جمعت الحنطة لأجل تصديرها إلى دولة اُخرى ، أو قد جمعها المحتكر يترقّب بها الغلاء ، وقد تكون الحنطة قد تدهورت قيمتها نتيجة تحسّن الطقس وهبوط الأمطار الملائمة للزراعة ، أو استوردت الدولة كميّات كبيرة من الحنطة ، أو منعت وعاقبت المحتكرين فنزلت الحنطة من مستودعات المحتكرين إلى السوق. وكلّ الروايات الواردة في اقتراض المثليّات تؤكّد على وجوب ارجاع المثل ( بصفاته وقدره ) ، ولا توجد أي رواية تقول بوجوب ردّ عوض ما يمكن أن يشترى بالقرض في زمن القرض ، بل كلّ الروايات تقول بوجوب ردّ عوض القرض ( بصفاته وكميّته ). ونفس هذا الكلام نقوله بالنسبة للذهب والفضّة أو الأوراق النقديّة إذا كان أحدها هو المال المقتَرض. بل لا يخفى على علماء الإسلام أنّ وجوب ردّ أكثر ممّا اقترض من الناحية الكميّة أو من الناحية الوصفيّة هو الربا الذي نهانا عنه القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ، فأنّى تذهبون ؟!

وقد يقال : إنّ الأوراق النقديّة أو الحنطة والسكر قد تنخفض قيمتها بعد شهر فيتضرّر المقرِض نتيجة معاملته هذه.

والجواب : إنّ هذا الضرر على فرض تحقّقه ، هو الذي أقدم عليه فلا يكون مضموناً على المقترض ، كما إنّ العكس قد يكون صحيحاً ، إذ قد ترتفع قيمة الأوراق النقديّة أو الحنطة أو السكّر ، فهل يصح في هذه الصورة أن يقال

ص: 389

بوجوب أن يردّ المقترض أقلّ ممّا استقرض بحجّة إنّ القيمة الشرائيّة للمال المقترض قد ارتفعت ؟!! (1).

وعدم صحّة هذا القول : لأنّ القرض كما قلنا معناه « ردّ العوض » ، فإذا أخذ الفرد شيئاً ولم يردّ عوضه بل ردّ أكثر منه ، فهو قد ردّ « عوض ما يمكن أن يشتري به » ، وهذا ليس هو معنى القرض ، لأنّ القرض هو ردّ العوض المثلي ، لا رد ما يمكن أن يشترى به من أشياء.

نعم في صورة عدم وجود المثل عند الأداء لسبب من الأسباب ، فهنا يجب على المقترض أن يردّ الأقرب للمثل ، وحينئذ يجب عليه أن يردّ القيمة وقت الأداء لأنّها أقرب إلى المثل.

وأمّا إذا كان الشيء المقترض من القيميّات : فالقاعدة تقول بوجوب ردّ قيمة يوم قبضه ، لأنّ المقترض أقدم على ضمانه وردّه ، وبما أنّه ليس له مثل كما هو الفرض ، فهو مسؤول عن ردّ قيمته يوم تملّكه وهو يوم القبض.

تنبيهات :

الأوّل : « كلّ الروايات توجب إرجاع نفس المال المقترَض ».

عند مراجعتنا للروايات الواردة في القرض رأينا أنّها تشير إشارة عهديّة إلى وجوب رد المال المقترَض ، ومعنى ذلك أنّ كلّ الروايات تقول بأنّ المقترِض مسؤول عن ردّ ما أخذه من المقرِض ، والذي أخذه هو عبارة عن الشيء المثلي ( بكميّته وكيفيّته ) ، ولا توجد أي إشارة إلى وجوب رد قيمة ما يمكن أن يشترى به ، فلو كان وجوب ردّ ما يمكن أن يشترى به هو الحكم الشرعي لظهر ذلك في

ص: 390


1- حينما كنت أكتب هذا الموضوع كان سعر الذهب في إيران للمثقال الواحد (6700) تومان ، وعلى حين غفلة من الناس أصدرت الحكومة موافقتها على قبول إتفاقيه (598) الصادرة من منظمة الاُمم المتحدة ، وفجأة نزل الذهب فصار المثقال الواحد (4500) تومان ، ومعنى هذا تحسّن النقد الإيراني ، فهل نقول للمقترض قبل الإعلان بإرجاع أقل ممّا أخذ ؟!!

أسئلة الرواة وأجوبة الأئمة أو النبي علیهم السلام ، فعدم انعكاس هذا في الروايات ولو على مستوى رواية واحدة يكون دليلاً كاشفاً عن أنّ إرجاع نفس المال المقترض سواء زادت قيمته السوقيّة أو نقصت هو المعتبر في عقد القرض.

بل الروايات الكثيرة المتواترة من الطرفين تؤكّد أنّ أي زيادة على المال المقترض بالنسبة إلى المقرِض ( سواء كانت الزيادة عينيّة أم حكميّة ) هي ربا إذا كانت على وجه الإلزام من قبل المقرِض بواسطة الشرط.

وإليك نموذج من الروايات :

1 - موثّقة موسى بن بكر ، قال : قال لي أبو الحسن علیه السلام : « من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه ، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه وعلى رسوله صلی اللّه علیه و آله ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام علیه السلام قضاؤه ... » (1).

فلم تقل الرواية كان على الإمام قضاء قيمته أو قضاء ما يمكن أن يشترى به ، بل قال : كان على الإمام علیه السلام قضاء نفس الدين وهو ما اقترضه بمكيّته وصفاته.

2 - رواية إبراهيم بن محمّد الأشعري في كتابه بإسناده عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قبض علي علیه السلام وعليه دين ثمانمائة ألف درهم ، فباع الحسن علیه السلام ضيعة له بخمسمائة ألف فقضاها عنه ، وباع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضاها عنه ... » (2).

وهذه الرواية قد صرّحت بوجوب وفاء نفس المال المقترض مع أنّ المال الفضّي قد تنزل قيمته وقد ترتفع ، إلاّ أنّ الواجب هو وفاء المثل لأنّه هو المال المقترض.

3 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمّ

ص: 391


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 90 من أبواب الدين ، ح 2.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 2 من أبواب الدين ، ح 11.

أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (1).

4 - وصحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم فيردّ عليه المثقال أو يستقرض المثقال فيردّ عليه الدراهم ، فقال علیه السلام : إذا لم يكن شرط فلا بأس وذلك هو الفضل إنّ أبي علیه السلام كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال ، فيقول : يا بني ردّها على الذي استقرضتها منه ، فأقول : يا أبه إنّ دراهمه كانت فسولة ، وهذه خيرمنها ، فيقول : يا بني إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » (2).

وواضح من هذه الرواية أنّ رد الأجود والأكثر يجوز إذا لم يكن بشرط ، وأمّا إذا كان بشرط فهو الربا ، وما نحن فيه أيضاً من قبيل الربا ، لأنّنا نعطي مائة دينار ونلزم المقترض بأن يرجع منها بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة للمائة دينار قد نزلت ، بينما هذه الروايات مطلقة ، فيما إذا تنزلت القيمة الشرائية أوْ لا فإنّها تقول بعدم جواز ردّ أكثر ممّا اقترض.

الثاني : « شرع اللّه القرض للمحتاجين ، وجعل فيه ثواباً كثيراً ».

لا يخفى أنّ المسلم ينبغي أن يلتفت إلى الروايات الواردة في الإهتمام بهذا العقد وإستحبابه ، ومن خلال هذه الروايات يتكلّم في أنّ المقرِض هل استفاد في عقده هذا أو خسر شيئاً ، حتّى إذا نقصت القيمة الشرائيّة للنقد او العرض ؟ ولا يجوز لنا أن نبحث هذه المسألة « كالرأسماليّين والإشتراكيّين » ، بعيدين عن فضل هذا العقد عند اللّه سبحانه وتعالى كما ذكرت ذلك الروايات ، لأنّنا نكون بهذا العمل قد فصلنا بين المذهب الذي يرتكز عليه تشريع القرض وبين نفس التشريع.

فقد ورد في الروايات أنّ في القرض أجراً عظيماً ينشأ من معونة المحتاج

ص: 392


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أبواب الصرف ، ح 3.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أبواب الصرف ، ح 7.

تطوّعاً ، وكشف كربة المسلم حتّى روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « القرض الواحد بثمانية عشر وإن مات حسبتها من الزكاة » (1) ، بينما نحن نعلم أنّ درهم الصدقة بعشرة.

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « لئن أقرض قرضاً أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثله » ، وكان يقول : « من أقرض مؤمناً وضرب له أجلاً فلم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثوب في كلّ يوم يتأخّر عن ذلك الأجل بمثل صدقة دينار واحد في كلّ يوم » (2).

وقد أكدت الروايات فضل هذا العقد بالنسبة للمؤمن حتّى قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتّى يؤدّيه » (3). وقال أيضاً صلی اللّه علیه و آله : « من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، وإن رفق به في طلبه تُعدّي به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرّم اللّه عزّ وجلّ عليه الجنّة يوم يجزي المحسنين » (4). وقال الإمام الصادق علیه السلام : « وما من مسلم أقرض مسلماً قرضاً حسناً يريد به وجه اللّه إلاّ حُسب له أجره كأجر الصدقة حتّى يرجع إليه » (5).

ومع النظر إلى هذه الروايات وما يكسبه الإنسان من الثواب الكثير على حسب عقيدته في أنّ هذه الدنيا طريق إلى الآخرة فهل يعدّ متضرّراً إذا نزلت قيمة

ص: 393


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 6 من أبواب الدين ، ح 4.
2- المصدر السابق ح 1.
3- المصدر السابق ح 3.
4- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 6 من أبواب الدين ، ح 5.
5- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 6 من أبواب الدين ، ح 1.

ما أقرضه ؟ على أنّ النزول أمر احتمالي في بعض الأوقات وبعض البلدان ، كما أنّ احتمال زيادة القيمة الشرائيّة أيضاً وارد إذا توّفرت أسبابه السماويّة أو الأرضيّة.

إذن الواقع الفاسد الذي نعيشه نحن المسلمون ( من تطبيق النظم الرأسماليّة أو الإشتراكيّة ) في مجتمعنا يجب أن لا يجعلنا نغض النظر عن النصوص الشرعيّة ونأوّلها حتّى تنسجم مع الواقع الفاسد ( وهذا هو أوّل خطر نبّهنا عليه في المقدّمة ) فإذا كان الرأسمالي لا يعتقد بما يعتقد به المسلم من الجزاء والثواب في يوم القيامة على هذا العمل الذي شرّع للمحتاجين ، وكان الرأسمالي يبحث المسألة من ناحية نفعيّة ماديّة فقط ، فيجب أن لا ينساق المسلم ورائه في هذا المنهج العقيم ، إذ رسالتنا التي خطّها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحتم علينا أن نربط بين أساس التشريع والتشريع لا أن نفصل بينهما ، على أنّ ما يقوله الرأسمالي هو نظر إلى شق واحد من المسألة وهي مسألة تنزل قيمة النقد ، أمّا الشقّ الآخر الذي هو أيضاً أمر متوقّع فلا ينظر إليه.

الثالث : « الإقتراض لغير حاجة مكروه في الشريعة الإسلاميّة ».

لا يخفى أنّ القرض لغير المحتاجين يكون ممّا نهى عنه الشارع المقدّس ، وحينئذ لا ينبغي للمسلم أن يقدم على قرض إذا لم يكن محتاجاً إليه ، وبهذا لا يكون للمقرِض في هذا القرض أي فضل يذكر ، فمن الروايات ما عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « أعوذ باللّه من الكفر والدَيْن قيل يا رسول اللّه أتعدل الدَين بالكفر ؟ قال : نعم » (1). وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضاً ، قال : « ما الوجع إلاّ وجع العين ، وما الجهد إلاّ جهد الدَين » (2). وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - أيضاً - قال : « إيّاكم والدَيْن ، فإنّه شين الدِين » (3). وقال علي علیه السلام : « إيّاكم والدَين فإنّه مذلّة بالنهار ومهمّة بالليل وقضاء في الدنيا

ص: 394


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 1 من أبواب الدين ، ح 7.
2- المصدر السابق ح 9.
3- المصدر السابق ح 2.

وقضاء في الآخرة » (1). وقال علي علیه السلام : « إيّاكم والدين فإنّه همّ بالليل وذلّ بالنهار » (2). وهذه الروايات وإن كانت مطلقة لكلّ دين ، إلاّ أنّ الروايات السابقة في فضل الدين إذا كان لحاجة تخصّص هذه الروايات في صورة القرض لا لحاجة.

إذن ، القرض الذي يستحصله التجّار لزيادة تجارتهم وأرباحهم ليس هو القرض الذي قالت عنه الروايات أنّه زكاة ، وأنّ الدرهم بثمانية عشر ، وهو القرض الذي يعود به الإنسان لرفع حاجته وحاجة عياله ، وإذا كان هذا القرض الذي لا لحاجة ليس فيه ثواب فلا حاجة للبنوك أن تفتح لها سجلاًّ وتطالب بالزيادة على ما تقرض بالحجّة المتقدّمة ، فإنّ هذا القرض ممّا نهي عنه شرعاً فلا حاجة إلى سلوكه وإن كان النهي كراهيّتاً.

المشكلة الثانية :

المشكلة الثانية : (3)

فهنا - أيضاً - لا نرى أي مشكلة تذكر حيث أنّ البائع عندما باع ورضي أن يكون الثمن مؤجلاً إلى سنة مثلاً ، فهو يحتمل على أقل تقدير أن تنخفض قيمة النقد أو العرض ، كما يحتمل أن ترتفع ، ومع هذا هو راض بأن تكون له في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود أو العروض المثليّة أو القيميّة ، وحينئذ يكون احتمال انخفاضها وارتفاعها غير مضرٍّ بالعقد وصحّته ، ولا يضمن المشتري هذه القلّة المحتملة إن حدثت.

ثمّ إنّ التاجر الذي يبيع شيئاً من التمر بكميّة من النقد الورقي بعد سنة مثلاً أو ستة أشهر ، فهو قد حسب حساب المدّة التي تكون فاصلة بين دفع التمر وبين إستلام النقد ، وبما أنّ للأجل قسطاً من الثمن فإنّ التاجر سوف يبيع تمره « الّذي

ص: 395


1- المصدر السابق ح 4.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 1 من أبواب الدين ، ح 3.
3- « وهي كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل إذا تغيّرت قيمة النقد ».

يساوي خمسين ديناراً » بسبعين ديناراً يستلمها بعد ستّة أشهر مثلاً ، وبعد هذه العمليّة من قبل التاجر ، لماذا نقول يجب تدارك الضرر الذي وقع على البائع نتيجة نقصان الثمن بسبب التضخّم ؟! على أنّ التضخّم الذي نجده في بعض البلدان لا نقطع باستمراره على مدى السنين والأيّام ، إذ من الممكن أن يتحسّن اقتصاد الدولة ويكثر انتاجها فيقف التضّخم ، أو يتحسّن نقدها كما حدث لبعض بلدان العالم.

وكما قلنا سابقاً - أيضاً - إنّ ازدياد قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أو إزدياد قيمة القرض هو محتمل أيضاً نتيجة لفعل السماء أو فعل الإنسان ، فكما في صورة تحسّن قيمة النقد لا يكون المشتري مسؤولاً عن قيمة النقد سابقاً وإنّما هو مسؤول عن نفس النقد ، كذلك في صورة نقيصة قيمة النقد أو القرض يكون المشتري مسؤولاً عمّا في ذمّته من النقد أو القرض.

ثمّ إنّ المشتري عندما يشتري شيئاً على أن يكون ثمنه مؤجلاً إلى ستّة أشهر ، ففي الحقيقة أنّ البائع يملك في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود حين حلول الأجل ، ومعنى ذلك أنّه لا يملكها حين العقد ملكيّة مطلقة حتّى يستوجب أن يقول : إنّ قيمة هذه النقود حين العقد كان أكبر من القيمة الشرائيّة حين الأجل فيطالب بالزيادة على حسب القيمة الشرائيّة حين العقد ، إذ أنّه يملكها ملكيّة مقيّدة بالأجل « بعد ستة أشهر » فهو كأنّه يملك قيمة النقود حين الأجل ، لا حين العقد ، وبهذا تبطل المشكلة المتصوّرة هنا بالكليّة ، وعلى فرض وجود تصوّر المشكلة نقول :

إنّ البائع والمشتري أقدما على أن يكون المشتري ضامناً لكميّة النقد أو القرض ، وقد أقرّ الشارع هذه المعاملة ، ولا يوجد أي نص يقول إنّ على المشتري أن يدفع القيمة الشرائيّة للنقد أو للقرض فيتحمل النقص إذا نقصت القيمة الشرائيّة ، على أنّ لازم هذا القول أن نقول بأنّ القيمة الشرائيّة للنقد إذا تحسّنت فيجوز للمشتري أن يدفع أقل ممّا اتفقا عليه وإن لم يرض البائع ، وهذا ممّا لم يقل به أحد من الفقهاء.

ص: 396

إذن عدم وجود أي نص على وجوب أن يدفع المشتري القيمة الشرائيّة للثمن حين العقد ، ووجود الإمضاء الشرعي على وجوب رد نفس الثمن المتفق عليه بين الطرفين حين الأجل ، دليل على أنّ الواجب هو الأداء بنفس كميّة الثمن ( سواء كان نقداً أو عروضاً ) سواء نزلت القيمة الشرائيّة أو ارتفعت أو بقيت كذلك من دون زيادة أو نقصان.

الإستدلال بالأولويّة :

ويمكن أن يستدلّ لما قلناه بالأولويّة المستخرجة من مسألة في الغصب أو الجحود وهي :

مسألة : إذا غصب أحد من آخر مالاً أو جحده عليه ، ثمّ وقع بيد المجحود أو المغصوب مال الآخر فما هو الحكم ؟

الروايات هنا كثيرة تقول بجواز أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، ومن هذه الروايات نفهم الحكم في القرض والبيع نسيئة ، إذ أنّ الصورة الاُولى وهي الصورة الغصبيّة والإعتدائيّة المحرّمة لم يُجِز الشارع إلاّ أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، فكيف بصورة القرض الذي حدث برضا المقرِض ولم يكن هناك اعتداء من المقترض ، وكذا الأمر في البيع الذي يكون فيه الثمن مؤجلاً ، إذن بالأولويّة يكون الحكم هو ردّ مثل المال المقترض أو قيمته وقت القرض. واليك الروايات :

1 - صحيحة أبي العبّاس البقباق : « إنّ شهاباً ما راه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العبّاس فقلت له : خذها مكان الألف التي أخذ منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبداللّه علیه السلام فذكر له ذلك ، فقال : أمّا أنا فأحب أن تأخذ وتحلف » (1).

2 - صحيحة ابن مسكان عن أبي بكر الحضرمي ، قال : « قلت له ( للإمام

ص: 397


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، باب 82 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.

الصادق علیه السلام ) رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي ؟ قال : فقال : نعم ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو ؟ قال : تقول اللّهمّ إنّي لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً » (1).

3 - صحيحة محمّد بن عيسى ، عن علي بن سليمان ، قال : « كتبت إليه ( الإمام الكاظم علیه السلام أو الرضا علیه السلام ) رجل غصب مالاً أو جارية ، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أيحلّ له حبسه عليه أم لا ؟ فكتب : نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه ، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء اللّه » (2). وبما أنّ النقد الورقي في هذا الزمان هو مال فلا يفترق حكمه عن حكم أي عرض آخر سواء كان ذهباً أو غيره.

بحث اقتصادي ( تاريخ النقد )

اشارة

ثمّ إننّا لا بأس لنا أن نبحث المسألة بحثاً اقتصاديّاً فنقول :

كان الإنسان في بداية حياته هو الذي يوفّر جميع ما يحتاج إليه من حاجات ، ولكن حين تنوعّت حاجات الفرد وتعدّدت السلع لم يكن ممكناً للإنسان الواحد أن ينتجها بكاملها ، ولذا اضطرّ المجتمع إلى تقسيم العمل بين الأفراد ، فأخذ كلّ فرد أو فئة بانتاج سلعة ما ، وبدأ الإنسان يعطي ما أنتجه ويأخذ ما أنتجه غيره إذا كان محتاجاً إليه. وهكذا وجدت المبادلة كوسيط بين الإنتاج والإستهلاك ، ولكن لهذه الحالة تعقيداتها ، إذ من الصعب تبادل المنتوجات مباشرة إذ أنّ صاحب الجمل إذا احتاج في حياته إلى صوف مثلاً فهو لا يستطيع الحصول عليه من منتج الصوف في

ص: 398


1- المصدر السابق ح 4.
2- المصدر السابق ح 9.

مقابل الجمل إلاّ إن كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى جمل وكان الصوف كثيراً بحيث يقابل قيمة الجمل ، وهكذا بقيّة الاُمور التي هي مورد حاجة الإنسان ، وحينئذ كان اختراع النقد الذهبي والفضّي علاجاً لهذه المشاكل ، فكان للنقد دوره الأصيل وهو :

1 - القيام بدور المقياس العام للقيمة ، وأصبح من الميسور تقدير قيم السلع بسهولة.

2 - أصبح أداة للمبادلة.

وبهذا العلاج أصبح عندنا مبادلتان بدل المبادلة الواحدة ، فصاحب الجمل يبيع جمله بمائة دينار ، ثمّ يشتري بعشرة دنانير الصوف الذي يحتاجه. وبهذا زالت جميع صعوبات المقايضة ، وهذا هو الدور الأصيل للنقد.

ولا بأس بالتنبيه إلى أنّ اختراع النقد كان بواسطة الإنسان ، واللّه سبحانه وتعالى خلق معدن الذهب والفضّة كبقيّة المعادن وبقيّة الأعراض ، ففيهما فائدة في نفسهما كبقيّة المعادن ، وحينئذ يكون الذهب والفضّة عرضاً من الأعراض ونقداً ، وبهذا يختلفان عن الأوراق النقديّة ، حيث أنّها تحمل صفة النقد ولا تحمل صفة العَرَضيّة ، ثمّ إنّ كلّ من قال بأنّ الذهب والفضّة خلقهما اللّه ثمناً وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ، لا دليل له يقدّمه على كلامه بل الوجدان يقضي بخلاف ذلك ، إذ أنّهما زينة ويستعملان كعرض من الأعراض في حياة الإنسان المترفة كتزيين السقوف وصنع الأواني وأدوات الحلاقة وغير ذلك ممّا يحتاجه الإنسان من بقيّة المعادن.

خروج النقد عن دوره الأصيل :

وقد خرج النقد الذهبي والفضّي عن دوره الأصيل الذي وجد لأجله وهو دور « المقياس العام للقيمة وأداة المبادلة » نتيجة ظلم الإنسان ، فحدثت مفاسد من هذا الأمر ، وتوضيح ذلك :

ص: 399

لقد استخدم النقد للقيام بدور طاريء لم يوجد لأجله وهو دور ( الإدخار والإكتناز ) فقد أخذ الإنسان يبيع سلعته لا لحاجة له بسلعة اُخرى يشتريها ، بل لأجل أن يحوّل سلعته إلى نقد يختزنه لوقت الحاجة ( إذ أصبح النقد هو الوكيل العام عن السلع ) ، وهذا معناه أنّ البيع لم يوجد لأجل الشراء المحتاج إليه في الإنتاج أو الإستهلاك ، وإنّما وجد البيع لأجل أن يمتص النقود فيختزنها ( إذ هي قابلة للإختزان من دون نقص في قيمتها ، ولا يحتاج إدخارها إلى نفقات بعكس إدخار السلع ) ، وهذا هو الدور الطاريء للنقد حيث أصبح النقد وسيطاً بين الإنتاج والإدّخار.

ومعنى هذا الدور أن المشتري - الذي اشترى سلعة ودفع نقداً فادخره البائع - لم يتمكّن أن يبيع منتوجه ، لأنّ البائع قد اكتنز النقد وسُحِبَ من مجال التداول فظهر الإختلال في توازن العرض والطلب الذي كانا متساويين في عصر المبادلة.

ثمّ إنّ الإختلال في توازن العرض والطلب يؤدّي إلى الكساد وعدم تصريف السلعة ، وهذا بدوره سوف يؤدّي إلى الإستغناء عن بعض العمّال وسدّ بعض المعامل فتحدث البطالة التي تعاني منها السوق الرأسماليّة.

ثمّ لم تقف المفاسد عند هذا الحدّ ، إذ قد يأتي المحتكر الذي اكتنز النقد ، ويخلق طلباً كاذباً فيشتري كلّ أفراد السلعة من السوق لا لحاجة إليها بل ليرفع ثمنها ، أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الإنسحاب من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس ، وبهذا تصبح الأثمان غير حقيقيّة وتكون السوق تحت رحمة المحتكرين ، ويسقط آلاف المنتجين والبائعين الصغار فريسة المحتكرين الكبار.

ثمّ يبقى المكتنز والمحتكر يبيع لأجل الإكتناز ، وبهذا يسحب النقد من مجال التداول وبهذا يقل الإستهلاك أو يتوقّف لإنخفاض المستوى الإقتصادي للجمهور ، وبهذا تقل أو تتعطّل حركة الإنتاج لعدم وجود القدرة الشرائيّة عند

ص: 400

الجمهور المستهلك ، فيعم الكساد البلاد.

وبعد هذه المشاكل والمفاسد جاءت المفسدة الكبرى ، إذ أصبح النقد أداة لتنمية المال من طريق الفائدة « الكسب من دون عمل » ، فأخذ المكتنز يقرض ماله للأفراد بفائدة أو يودعه البنك فيحصل على الفائدة ، وبهذا أصبح النقد بعيداً عن دائرة الإنتاج لأنّ البنك أيضاً يقرض أمواله بفائدة ، وأصبح التاجر أو البنك لا يقدم على عمل تجاري أو صناعي إلاّ إذا اطمأنّ بأنّ ربحه أكثر من الفائدة التي يحصل عليها من دون عمل.

ثمّ إنّ مجموع هذه المشاكل التي نتجت ( من دور النقد وظلم الإنسان ) جعلت زمام الاُمور بيد الرأسمالي ( صاحب الأموال ) وطبيعي أنّ الرأسمالي الظالم إذا سيطر على زمام الاُمور يجرّ المجتمع إلى ويلات كبيرة ذكرها علماء الإقتصاد ، وقد جاء في الحديث عن الرسول صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم » (1).

حلول الإسلام لمفاسد الدور الطاريء للنقد :

على عكس الرأسماليّة التي تشجّع على الإدّخار والإكتناز والقرض بفائدة بتشريعها ، فيكون النقد أداة للتنمية من دون عمل ومن دون إستهلاك فيه ، فإنّ الإسلام يحارب أشدّ المحاربة أن يكون النقد أداة لتنمية المال ، فحرّم الفائدة تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه ، وجعل ضريبة الزكاة على النقد الذهبي والفضّي المكتنز ، وحثّ على الإنفاق في مجال الإستهلاك والإنتاج ، فقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام « إنّما أعطاكم اللّه هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها اللّه ، ولم يعطكموها لتكنزوها » (2) ، وبهذا يكون الإسلام قد قضى على مشكلة

ص: 401


1- الكافي : ج 2 ، باب حبّ الدنيا والحرص عليها ، ح 6 ، ص 316.
2- الكافي للكليني : ج 4 ، باب وضع المعروف موضعه ، ح 5 ، ص 32.

من أهم مشاكل الإنتاج.

وقد يقال : إذا لم يشجّع الإسلام على الإدّخار فسوف لن يتمكن المسلمون من إقامة وإدارة المشاريع الكبيرة في الإنتاج كما هي الحال في المجتمع الرأسمالي الذي يدير هذه المشاريع بواسطة تشجيعه على الإدّخار.

والجواب : إنّ المجتمع الإسلامي يختلف عن المجتمع الرأسمالي حيث أنّ الثاني لم يقرّ إلاّ الملكيّة الخاصّة ، أمّا المجتمع الإسلامي فإنّه يقرّ بالإضافة إلى الملكيّة الخاصّة ، الملكيّة العامّة وملكيّة الدولة ، فيتمكّن أن يوضّف هذه الملكيّة العامّة ( كملكيّة المسلمين للأرض المفتوحة عنوة وكانت عامرة وقت الفتح ) ، وملكيّة الدولة ( كملكيّة الأنفال وغيرها ) في مشاريع الإنتاج الكبرى ، وتبقى للملكيّات الخاصّة المجالات التي تتسع لها ، وبهذا تكون المشاريع الكبرى ملكاً للمسلمين ككل أو ملكاً للمنصب ( منصب ولي الأمر ) ، وهاتان الملكيّتان الكبيرتان تعملان على إصلاح اُمور المسلمين.

والآن وبعد هذه الإلمامة المختصرة في دور النقد الأصيل والطاريء ، والمفاسد التي تنجم عن الدور الطاريء للنقد ، وعلاج الإسلام لهذا الدور الطاريء ، نرجع إلى موضوعنا الذي نحن بصدده لنرى هل من المعقول مذهبيّاً أن يجيز الإسلام تنمية المال من غير طريق العمل ؟ وبعبارة اُخرى أنّ الذي يقرض غيره كميّة من النقد الذهبي أو الورقي إلى ستّة أشهر هل يحقّ له أن يأخذ منه أكثر ممّا دفع بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة للمال المقترض سوف تنزل أو قد نزلت ؟

والجواب : إنّ هذا حرام لا يجوز ، وذلك :

1 - إنّ هذه الحجّة ( أنّ القيمة الشرائيّة قد تدهورت ) هي الحجّة التي يقولها مريدوا الربا من الرأسماليّين ، لأجل أن يصحّحوا أخذ الفائدة ، فإنّ أقوى مبرّرات الفائدة عند الرأسمالي أنّ الفائدة هي الفارق بين قيمة سلع الحاضر وقيمة سلع المستقبل ، حيث تعتقد الرأسماليّة أنّ للزمن دوراً إيجابيّاً في تكوين القيمة ، فالقيمة التبادلية للدينار اليوم أكبر من القيمة التبادليّة لدينار المستقبل ، وبهذا يكون القائل

ص: 402

بصحّة أخذ مقدار من المال زيادة على المال المقترض قبل ستّة أشهر بهذه الحجّة يكون قد قال بحليّة الربا الذي قد وقف منه القرآن وقفة صريحة وبارعة.

2 - إنّ ضمن هذه الحجّة ( أنّ سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل ) أنّ الذي يشتري سيّارة مثلاً قبل سنة يتمكّن أن يبيعها بعد السنة أكثر ممّا اشتراها بالإضافة إلى فائدته التي استفادها منها ، وهذا الربح قد أقرّه الإسلام باعتبار أنّ ملكيّة السيّارة عبارة عن ملكيّة لعمل مختزن في السيّارة ، فزيادة المال عن طريق العمل المختزن شيء قد أقرّه الإسلام ، ونحتمل أيضاً أنّ إستهلاك السيّارة في ضمن السنة قد ينزل من قيمة السيّارة في مقابل ما استفاده منها ، أمّا بالنسبة للكسب الذي لم يقف على عمل مباشر أو مختزن فهذا لا يقرّه الإسلام من الناحية المذهبيّة ، والفائدة على النقد من هذا القبيل لأنّها - كما قالوا - نتيجة عامل الزمن من دون عمل منفق ، فإنّ المقرض للمال إذا أخذ نفس ماله الذي قد أقرضه وزيادة فيكون قد كسب من دون عمل مباشر أو مختزن ، وهذا لا يقرّه الإسلام.

3 - يلزم أن يقول - القائل بصحّة أخذ مقدار أكثر من المال المقترض نتيجة تدهور القوّة الشرائيّة للمال المقترض - بأنّ على المقرض أن يقبل أقل ممّا أقرض إذا زادت القوّة الشرائيّة للمال المقترض في بعض الحالات ، وهذا لم يقله أي فقيه حسب علمنا.

4 - إنّ تدهور القيمة الشرائيّة للنقد ليس شيئاً حتميّاً وقياساً ثابتاً حتى نتمكّن أن نقول من أوّل الأمر وحين العقد بأنّ المائة دينار تكون قيمتها الشرائيّة بعد ستّة أشهر مثلاً مائة وعشرين ديناراً ، بل إنّ الأمر قد يكون واحداً في هذه الستة أشهر بالنسبة للمائة دينار ، وقد يتحسّن النقد في ضمن الستة أشهر كما قد يتدهور ، إذن احتمال النقيصة يقابله احتمال الزيادة ، فهل يجوز لنا ان نقول حين العقد للمقترض بأنّه يجب عليك أن تسدّد مائة وعشرين ديناراً بعد ستّة أشهر بحجّة أنّ القوّة الشرائيّة للمائة دينار قد انخفضت ؟! مع أنّنا نحتمل الإنخفاص ليس إلاّ ،

ص: 403

أليس يكون هذا قول بلا علم ؟! وقد نهانا اللّه سبحانه وتعالى من القول بلا علم.

5 - إذا أقرضت كميّة من القرض ( كيلو من البطيخ ) وكان هذا القرض يساوي كلّ كيلوات منه خمسة كليوات من الحنطة ، فعند السداد إذا كان كلّ كيلو منه يساوي كيلو واحد من الحنطة فحينئذ - إذا قلنا أنّ القيمة الشرائيّة قد تدهورت للبطيخ والمقترض مسؤول عن أداء القيمة الشرائيّة حين القرض - يجب على المقترض أن يدفع خمس كليوات من البطيخ إلى المقرِض ، وهذا لم يقل به أحد حسب علمنا.

وإذا أردنا أن نسير هذا السير فسوف يوجد عندنا فقه لم يقله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إننا نرى وجوب أن تعالج المسألة علاجاً أساسيّاً ، بمعنى أننا لا يصح لنا أن نقبل حقيقة هبوط النقد من دون معالجة ، ونريد أن نصحّح العقود القائمة حين تحقّق هذه الحقيقة ، بل اللازم علينا أن نتنبّه إلى العوامل التي تؤدّي إلى هبوط النقد بصورة مستمرّة فنعالجها ، وحينئذ نقضي على أساس المشكلة التي تعاني منها العقود القرضيّة والبيع المؤجّل الثمن القائم مع تحقّق هذه الحقيقة ، فنقول :

لماذا تتدهور قيمة النقد ( الورقي والذهبي ) ؟

الجواب : إنّ تدهور قيمة النقد هو ما يسمّى في عرف الإقتصاديّين بالتضخّم ، ومعناه هو إرتفاع متواصل في الأسعار ، بينما تكون السلع هي السلع من دون تغيير.

وإذا بحثنا كثيراً عن سبب التضخّم فلا نقع إلاّ على هذا السبب وهو « قلّة الإنتاج وزيادة الإنفاق » ، فعندما يكون الإنفاق كثيراً معنى ذلك وجوب طلب كثير على السلع وحينئذ إذا لم يكن الإنتاج بقدر الطلب ترتفع الأسعار للسلع ، وهذا معنى تدهور النقد « انخفاض متواصل في قيمة النقد » (1).

ص: 404


1- (1) إنّ السبب التضخم العادي هو ما قلناه ، وهو السبب أيضاً في حالات طارئة كما إذا وجدت حرب في بلد معيّن ، وكان الإنفاق بقدر الإنتاج أو أقل ، ولكن مع هذا قد يحصل التضخّم بتقريب أنّ أكثر ما تنتجه الدولة من سلع وتحوّلها بعد ذلك إلى نقد يحترق في ساحات القتال ، وبهذا يكون الطلب مع وجود الحرب أكثر من الإنتاج ، وبهذا رجع السبب الأصيل للتضخّم هو انَّ الإنفاق أكثر من الإنتاج.

ثمّ إذا بحثنا كثيراً عن سبب قلّة الإنتاج ، فالسبب الواضح هو ( الفائدة ) التي شرّعها النظام الرأسمالي ، فجعلت الإنسان يسحب أمواله من مجال الإنتاج ويجعله في مجال الفائدة ليدرّ عليه النقد ربّما من دون خسارة ولا أي جهد من العمل ، وحينئذ يكون الإنتاج قد انخفض ، بينما الإنفاق على حسب قوّته أو أكثر فيحصل التضخّم.

وفي خصوص النقد الورقي قد تعمد الدولة إلى طبع كميّة من الأوراق النقديّة لتخفّف الديون الداخليّة المتراكمة عليها ، وهذا بدوره يؤدّي إلى زيادة طلب الإنفاق مع أنّ الإنتاج على حاله من القلّة ، فيحصل التضخّم أيضاً.

المعالجة :

ولأجل أن نبقي النقد على حالة من الثبات ، فما علينا إلاّ أن نحرّم الربا ، وحينئذ سوف تتجّه الأموال تلقائيّاً إلى الإنتاج ، فيكثر حتّى يصير بقدر الطلب ، وبهذا سوف لا تنحط قيمة النقد الورقي ، بل قد تتحسّن كما في صورة زيادة الإنتاج على الطلب ، وبهذا لا تكون عندنا أي مشكلة من ناحية انحطاط قيمة النقد ، ولا أدري هل في هذه الصورة تثار مشكلة زيادة قيمة النقد من ناحية المقترض أم لا ؟

ثمّ إذا كان المجتمع يعمل بنظام الفائدة ، فسوف يكون الإنتاج بطبيعة الحال قليلاً ، فيحصل التضخّم ، ومع هذا فإن تقدّم إنسان بالقرض لصاحبه ، فهو يكون قد خاطر بماله ( أي كمن أقرض حنطة مثليّة مثلاً ، أو خياراً مثليّاً في أول نضوجه على أن يستلمه حين كثرة الحنطة أو الخيار ) هل يجوز لهذا المخاطر بحاله أن يطلب منفعة لقاء مخاطرته هذه ، فيطلب من المقترض أن يدفع إليه نتيجة هذه المخاطرة أكثر ممّا دفع ؟

وللإجابة على هذا التساؤل لابدّ لنا من معرفة معنى المخاطرة أوّلاً ، وهل

ص: 405

يجوز للإنسان أن يطلب تعويضاً على أساسها ثانياً ؟

فنقول : المخاطرة هي حالة شعوريّة خاصّة تغمر الإنسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه ، فإمّا أن يتراجع انسياقاً مع خوفه ، وإمّا أن يتغلّب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه ، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق ، واختار بملأ إرادته تحمّل مشاكل الخوف بالإقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلاً.

وعلى هذا فلا تكون المخاطرة سلعة يقدمها المخاطر إلى غيره حتّى يطلب ثمنها.

ولا تكون عملاً ينفقه المخاطر على مادّة ليكون من حقّه تملّكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها ، وحينئذ لا يحقّ للمخاطر أن يطالب تعويضاً ماديّاً على خوفه مادام خوفه شعوراً ذاتيّاً.

المخاطرة تقييم خلقي :

إنّ المخاطرة قد تكون ذا أهميّة كبيرة من الناحية النفسيّة والخلقيّة ، ولكن كلامنا نحن ليس كلاماً نفسيّاً أو خلقيّاً ، وإنّما هو كلام فقهي اقتصادي ، فالمخاطرة من الناحيّة الإقتصاديّة لا تستحق ثمناً ، نعم من الناحية الخلقيّة تكون ذا أهميّة كبيرة قد تستدعي أخلاقيّاً أن يكون المخاطر مستحقّاً للثناء والمال ، وهذا شيء لا نتكلّم عنه الآن مادام البحث اقتصاديّاً.

تصحيح أخطاء :

لقد وقع كثير من المفكّرين المتأثرين بالتفكرين الرأسمالي المذهبي في خطأ حيث زعموا أنّ الربح في عقد المضاربة لصاحب المال إنّما يقوم على أساس المخاطرة ، حيث إنّ صاحب المال قد عرّض نفسه للخسارة بدفعه المال إلى العامل ليتجر به ، فكان على العامل أن يكافئه على مخاطرته بنسبة مئويّة من الربح يتفقان عليها حين العقد ، وقد يقال أيضاً أنّ الربح الذي يحصل عليه صاحب المال هو عبارة عن ربح لم يكن في مقابل عمل مباشر ولا مختزن ، لأنّ المال الذي دفعه

ص: 406

يرجع إليه في آخر الأمر من دون نقيصة في كميّته وصفته بخلاف الدار التي آجرها وهي عبارة عن عمل مختزن ، إذ ترجع إليه مع إستهلاك لها بعد عقد الإجارة ، وما هذا الربح الذي يحصل عليه صاحب المال إلاّ ربحاً في مقابل مخاطرته بماله.

والجواب : إنّ الربح الذي يحصل عليه صاحب المال ليس قائماً على أساس المخاطرة ، وإنّما يستمد مبرّره من ملكيّة صاحب المال للسلعة التي اتّجر بها العامل ، فإنّ السلعة التي اشتراها العامل وزاد في قيمتها نتيجة نقلها وجعلها بين يدي المستهلك ، تبقى هي ملكاً لصاحب المال ، وبهذا يكون حق لصاحب المال في الربح نتيجة ملكه السلعة التي اشتراها العامل وزاد في قيمتها بعمله ، كحقّ مالك الألواح إذا جعلها آخر سريراً ، فإنّ الربح يكون لهما معاً ، ويوجد عندنا شاهد لما نقول وهو التشريع القائل : أنّ الخسارة إذا حصلت في هذا العقد فهي إنّما تكون على صاحب المال ، وما ذاك إلاّ لأنّ السلعة أصبحت له فخسارتها عليه.

ثمّ ماذا يقول المتأثّرون بالتفكير الرأسمالي في صورة ما إذا لم يمارس صاحب المال أي لون من ألوان المخاطرة ، كما إذا اتّجر شخص بأموال أخيه من دون علمه ، وربح في تجارته ، فهنا من الناحية الشرعيّة بإمكان صاحب المال أن يوافق على هذا العمل الفضولي ويقرّه ويستولي على الأرباح ، كما أنّ من حقّه أن يعترض ويستحصل على ماله أو ما يساويه من العامل في صورة الربح أو في صورة الخسارة من قبل الأخ ، لأنّ ماله مضمون على العامل ، وحينئذ يكون المخاطر هنا هو العامل ، لإقدامه على ضمان المال عند الخسارة.

إذن ليس حقّ صاحب المال في الربح ناتجاً عن المخاطرة ولا تعويضاً عنها.

حالات مخاطرة ألغى الشارع الكسب بها :

1 - الربا : فقد اعتاد الكثير من الباحثين على تفسير القرض بفائدة على أساس المخاطرة ، لأنَّ المقرض عندما يقرض ماله يكون قد أقدم على نوع من المغامرة التي قد تفقده ماله إذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء ، وحينئذ كان من

ص: 407

حق الدائن أن يحصل على أجر ومكافأة له على مغامرته بماله وهذه المكافأة هي الفائدة.

والحق والإنصاف أنّ هذا العمل من قبل الدائن يعد مخاطرة في هذه الصورة (1) ، إلاّ أنّ الشارع المقدّس لم يقرّ هذا اللون من التفكير في نمو المال ، ولهذا حرّم الفائدة تحريماً قاطعاً.

2 - القمار : كما أنّ الإسلام حرّم القمار وحرّم الكسب القائم على أساسه ، وهذا جانب آخر يبرهن على الموقف السلبي للشريعة الإسلاميّة من عنصر المخاطرة ، حيث أنّ الكسب في القمار لا يقوم على أساس عمل من أعمال الإنتفاع والإستثمار ، وليس هو عمل مختزن بحيث يقل عند إستعماله كما في صورة إجارة البيت ، وإنّما القمار مغامرة بمال الإنسان لتقديمه لصاحبه إذا خسر الصفقة.

3 - شركة الأبدان : كما الغى بعض الفقهاء « الشركة في الأبدان » من الإعتبار الشرعي ، والمراد بالشركة في الأبدان : أن يتفق اثنان أو أكثر على ممارسة كلّ واحد منهم عمله الخاص على أن يشتركان فيما يحصلان عليه من مكاسب.

والغاء هذه الشركة يتفق مع الموقف السلبي العام للشريعة الإسلاميّة من عنصر المخاطرة ، حيث أنّ الكسب فيها يقوم على أساس المخاطرة لا العمل ، فإنّ كلّ واحد من العاملين يحتمل أنّ اُجور صاحبه سوف تزيد على اُجوره ، فيقدم على الشركة موطناً نفسه عن التنازل عن شيء من اُجوره إذا زادت على اُجور صاحبه ، في سبيل أن يحصل على شيء من اُجور صاحبه في حالة تفوّق شريكه عليه ، وحينئذ يكون من حقّ الأقل دخلاً أن يحصل على جزء من كسب الأكثر دخلاً لأنّه غامر وأقدم على دفع شيء من كسبه إذا كان أكثر من صاحبه ، إذن كسب الأقل دخلاً يقوم على أساس المخاطرة ولا يرتكز على عمل.

ص: 408


1- يتمكّن الدائن أن يرفع هذه المخاطرة من أوّل العقد كأن يأخذ رهناً على ماله ، أو يطلب ضامناً متمولاً.
الإسلام لا يقرّ كسباً غير مرتبط بعمل مباشر أو مختزن :

ومن الفتاوى المتقدّمة وغيرها المماثلة لها يرى الإسلام أن العمل هو سبب لملكيّة العامل نتيجة العمل. وهذا تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملّك نتائج عمله ، ومردّ هذا الميل إلى شعور كلّ فرد بالسيطرة على عمله ، وبالنتيجة إلى نتائج عمله ومكاسبه ، وبهذا يصحّ لنا أن نقول من وجهة نظر إسلاميّة « أنّ العمل سبب الملكيّة » ، هذا ما نقوله في العمل المباشر.

أمّا العمل المختزن : كما في صورة البيت الذي أملكه ، وكذا السيّارة وبقيّة السلع ، فإنّها عمل قد اختزن بصورة سلعة ، حيث أنني عندما اشتريت السيّارة أو البيت أكون قد حوّلت عملي المباشر الذي حصلت منه على المال إلى عمل مختزن ، وبهذا يصحّ لي أن أكسب بواسطة إجارة البيت أو السيّارة ، فإنّ الكسب هنا كسب قائم على العمل المختزن ، وفي مقابل كسبي من هذا العمل المختزن فإنّ السيّارة تستهلك وكذا البيت.

وأمّا الكسب من دون عمل مباشر أو مختزن فهو محرّم في الشريعة الإسلاميّة.

خذ إليك هذا المثال : إذا استأجرتُ بيتاً بمائة دينار ، ثمّ أجرت نصفاً منه بمائة دينار إلى شخص آخر ، فأكون أنا قد انتفعت من دون عمل مباشر ولا مختزن ، إذ قد حصلت على سكنى البيت مجّاناً ( مع أنّ صاحب البيت لم يقدّم لي المنفعة بالمجّان ) ، وما دمنا نتكلّم في مجال الإقتصاد والكسب ، فإنّ هذا الكسب لا يجوز وقد حرّمه علماء الإسلام.

ومن هذه النظريّة المذهبيّة نفهم أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ انّ المقرض لأخيه شيئاً إلى ستّة أشهر ، إذا أردنا أن يأخذ أكثر ممّا أقرض بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة قد انخفضت ، فإنّ هذا الإنسان لو لم يقرض مبلغه هذا إلى غيره ، والمفروض أنّه لم يقحمه في عمل مختزن ، فالمفروض أن مبلغه قد انخفض نتيجة لإنخفاض جميع العملة ، فإذا أراد أن يأخذ شيئاً من المقترض حتّى يحافظ على عدم

ص: 409

تدهور نقده بالخصوص ، فيكون قد كسب ( أخذ أكثر ممّا يجب أن يأخذ ) من دون عمل مباشر أو مختزن.

ثمّ إنّ كلّ ما قلناه في القرض ، نقوله في البيع المؤجّل ثمنه ، بالإضافة إلى أنّ هذا البائع له خيار أن يبيع بأكثر من الثمن الحالي تحسّباً لنزول النقد ، كما أنّ المشتري له حقّ أن يشتري بأقلّ من ثمن المثل تحسّباً لإرتفاع النقد ، وهذا هو المتعارف عند البيع نسيئة ، فتنتفي المشكلة من الأساس ، بخلاف القرض ، فإنّ المقرِض لا يتمكّن من الزيادة على ما أقرض.

تنبيه :

يتمكّن المقرض إذا كان شخصاً أو جهة - كالبنك - أن يمتنع من أن يقرض نقده الورقي وله أن يقرض ذهباً أو عرضاً كالسكّر والحنطة ، وحينئذ إذا نقصت قيمة النقد الورقي فهو لا يمسّه أي ضرر لأنّه يأخذ مثل ما أعطى ، ولكن قد تنشأ نفس المشكلة حينما ينخفض سعر الذهب نتيجة عوامل معيّنة ، فيقول المقرِض أنا أقرضتك ذهباً تساوي قيمته كذا مقداراً من الدينار ، والآن ترجع لي ذهباً تكون قيمته الشرائيّة أقل ، فهل يتمكّن المقرض من الزام المقترض بأكثر ممّا أعطى من الذهب ؟! والجواب هو عدم الجواز هنا ، فكذا بالنسبة للنقد الورقي لأنّه مال مثلي ؟ والمقترض مسؤول عن إعطاء مثل ما أخذ منه.

إذا كان المقرِض لا يدفع ما اقترض مع تموّله وعناده : وافترضنا أنّ القيمة النقديّة قد تدهورت نتيجة فعل السماء أو الإنسان ، ففي هذه الحالة يكون الفرد قد فعل حراماً لعد وفائه في هذه الحالة ، ولكن هل يضمن تنزل قيمة النقد ؟

الجواب : لا يجب الضمان لأنّ المقترض أقدم على ضمان المال ، وهو بعد ذلك يدفع المال كاملاً من دون نقيصة في كميّته أو صفته ، فلماذا يكون ضامناً لضرر المقترِض ؟

وإذا لاحظنا أنّ سبب الضمان في الشريعة الإسلاميّة يكون بأحد حالين :

ص: 410

1 - تلف المال بالتعدي أو التفريط.

2 - زوال الصفات كذلك.

وبما أنّ المقترض حتّى في حالة عدم الوفاء في الموعد المقرّر ، وكان متجولاً حتّى تدهورت القيمة الشرائيّة للنقد ، فإنّه لم يتلف المال ولم تزل صفته ، وحينئذ لا يكون ضامناً ، كما لو أقدم إنسان على بناء خمسة طبقات في بيته بحيث يتضرّر الجار بتقليل قيمة بيته لعدم دخول الشمس إلى البيت ، فإنّ هذا الضرر على الجار لا يكون مضموناً.

وإذا اعترض علينا بالفرق بين المثال الأوّل والثاني بأنّ المثال الأوّل تكون اليد فيه يد عدوانيّة على المال عند عدم الوفاء في الموعد المقرّر وعدم رضا المقرِض ، أمّا المثال الثاني فلا يكون صاحب البناء له يدّ عدوانيّة على الجار ، فالجواب أنّ هذا الفرق بين المثالين دخيل في الحرمة وعدمها ، أمّا بالنسبة لعدم ضمان الضرر فهما سواء لأنّهما لت يتلفا العين ولا صفاتها فلا ضمان في المثالين ، نعم في القرض يكون أصل المال مضموناً بقدره وصفاته ، ويكون المقرض حالته في هذه الصورة كحالته في صورة إخفاء المال في مكان معين ، فإنّ هذا المال الذي لم يوفّره بعمل مباشر ، ولم يقحمه في عمل مختزن ينبغي أن يبقى هو هو ، فإن انخفضت القيمة الشرائيّة لكل النقود وكان له نصيب منها ، فإن لم يؤدّ المقرِض القرض في الموعد المقرّر يكون كمن فقد موضع المال الذي وضعه فيه ، فإنّ عدم الضمان في الصور يبنى على حدّ سواء ، وإن كان المقترض قد فعل حراماً لأنّه لم يؤدّ المال في موعده مع تمكّنه من ذلك.

قد يقال : إنّ الضرر المنهي عنه في الشريعة الإسلاميّة ، يشمل ما إذا بنيت بناءً فوق أرضي بحيث تضرّر الجار من هذا البناء ، كأن يكون عالياً بحيث يُشرف الساكنون فيه على الجار ، فلا يتمكّن الجار من تحرك أهله بصورة مريحة وبدون حجاب ، أو كان البناء لمعمل يؤثّر على سعر البيوت المحيطة به أو غير ذلك ،

ص: 411

فالضرر هنا ليس مباشراً ، بل هو ضرر غير مباشر يؤدّي إلى سوء حال الآخرين من دون أن ينقص فعلاً شيئاً من أموالهم ، فإذا كان الضرر بمعنى سوء الحال كما جاء في كتب الضرر من مفهوم أوسع من النقص المالي المباشر ، وحينئذ يكون هذا العمل منهيّاً عنه لأنّه مضرر بالجار في سوء حاله ، إلاّ أنّ هذا أيضاً لا يكون موجباً للضمان ، حصل الضرر بإيجار لأنّ الضمان كما قلنا - له أساسان ، وليس هو هو أحد الأساسين -.

الخاتمة :

ونتعرف فيها على بعض الأبحاث الفقهيّة :

1 - إذا اُلغي النقد فماذا يجب على المقترض ؟

كنّا فيما مضى نتكلّم في صورة ما إذا تدهورت حالة النقد ، أمّا في هذه الصورة فالكلام هوفي صورة إلغاء الدولة لنقدها ، وتصدير نقد آخر ، فإذا أقرضت زيد مائة دينار كويتي إلى سنة ، ثمّ ألغت الحكومة الكويتيّة عملتها ، وأصدرت عملة اُخرى قبل تمام السنة ، فهل يجب في هذه الصورة أن أدفع الأوراق النقديّة الاُولى أو الثانية ؟

الجواب : في هذه الحالة لم يبق للأوراق النقديّة الاُولى أي ماليّة تعتبر ، لأنّ تمام ماليّتها كان باعتبار الدولة المصدّرة لها ، فإذا ألغت الدولة ماليّتها فقد سقطت من الإعتبار ، وحينئذ نقول : كان يجب على المقترض أن يدفع المثل الموصوف بأن له قيمة اعتباريّة وهذه الأوراق النقديّة القديمة هي مثل لما اُخذ إلاّ أنّها لا قيمة اعتباريّة لها الآن ، فحينئذ يجب على المقترض أن يدفع الأقرب إلى المثل ، والأقرب هو النقد الجديد الذي اعتبرته الدولة ، وهذا هو معنى الضمان الذي أقدم عليه المقترض.

2 - سريان المشكلة في غير القرض والبيع المؤجل ثمنه :

كما لو تزوجت إمرأة بمهر قدره مائة تومان إيراني قبل ثلاثين سنة ، ثمّ أراد

ص: 412

الزوج طلاقها الآن ودفع مهرها لها ، فهل يدفع لها المائة تومان لا غير ، أو يدفع لها القيمة الشرائيّة للمائة تومان قبل ثلاثين سنة والتي كانت تساوي مثلاً عشرة مثاقيل من الذهب ؟

وقد يقال بوجوب ردّ القيمة الشرائيّة للمائة تومان ، وهي « عشرة مثاقيل من الذهب » ، وذلك : لأنّ النقد الإيراني الوقرقي ليس مقصوداً بالذات كالحنطة والشعير وبقيّة الأعراض ، وليس كالذهب الذي يقصد لنفسه بما أنّه عرض من الأعراض ، إذن قصد المتعاقدين كان منصبّاً على القيمة الشرائيّة للمائة تومان في ذلك الوقت ، والزوج ملزم بدفع القيمة الشرائيّة في تلك الفترة.

ولكن نقول : إنّ العرف والسيرة قائمة على أنّ النقد بنفسه له قيمة ، وجاءت هذه القيمة من اعتبار العرف لها ، وحتّى الذهب والفضّة تقاس قيمتهما الآن بالأوراق النقديّة « فقد سقطت قيمتها وبقيت عرضيتهما » ، وإذا أردّت أن تتأكّد من هذه الحقيقة فما عليك إلاّ أن تلتفت إلى ما عليه الناس وأنت منهم حين يقولون بكم الذهب اليوم ؟ وبكم الفضّة اليوم ؟ وبمكم الحنطة اليوم ؟ وهكذا ، أليس هذا دليل على أنّ الذهب تقاس قيمته بالنقد الورقي ؟ وإذا صحّ أنّ الأوراق النقديّة هي النقد المتعارف في هذا الزمان ، فالمنظور والمقصود عند المتعاقدين هو نفس الأوراق النقديّة بمالها من قيمة اعتباريّة ، فتكون الدنانير الورقيّة كالعرض إذ هي المقصودة بالذات.

وعلى هذا فالذي يجب على الزوج أن يدفع المائة تومان ، والذي يؤيّد ما نقوله من أنّ الأوراق النقديّة نقد مقصود لذاته ، هو ما تراه عند ضياع النقود التي استلمتها من زيد الذي كنت تطلبه كميّة من النقد ، فهنا تكون ذمّة زيد قد برأت وقد أضعت مالك ، بينما إذا كان زيد قد أعطاك شيكاً بالمبلغ ، وقد ضاع هذا الشيك فسرعان ما تبلغ البنك بضياع الشك الذي يكون رقمه كذا ، وتبقى تطلب زيداً ذلك المبلغ الذي لم يسحب من حسابه في البنك المذكور ، وبهذا اتضح أنّ الأوراق النقديّة عند ضياعها أو احتراقها ، فقد احترق وضاع المال ، أمّا الشيك والكمپيالة مثلاً عند ضياعهما فلا

ص: 413

يكون المال ضائعاً ، فيكون الشك والكمپيالة ليست لهما ماليّة وإنّما هو كورقة التمويل ، فيكونان مقصودان بالعرض بخلاف النقد (1).

3 - هل يصح اقتراض القيمة الشرائيّة للنقد ؟

بأن يقول المقرض أقرضتك هذا المبلغ على أن ترجع لي قيمته السوقيّة في زمن العقد من الذهب.

الجواب : إنّ هذه معاملة ربويّة وذلك لأنّ الأدلّة قالت كلّ قرض جرّ نفعاً فهو ربا ، وهنا القرض هو نفس النقد ، فاشتراط إرجاع قيمته السوقيّة في زمن القرض معناه وجود معاملتين :

1 - ضمان النقد ( وهذا يحصل بعقد القرض ).

2 - معاوضة النقد بما يساوي قيمته من الذهب وقت العقد.

وبما أنّ المعاملتين في وقت واحد ، وقد تصورهما بعقد القرض فتكون المعاملة الثانية شرطاً في المعاملة القرضيّة ، والشرط في القرض إذا كانت منفعته للمقرض فهو ربا ، لأنّه زيادة حكميّة ، والشرط هنا فيه نفع للمقرِض لأنّه يسلب حريّة المقترض من الإختيار في البيع وعدمه ، ويكون ملزِماً للمقترِض بأن يدفع ذهباً بما يساوي قيمة النقد حين العقد ، وهذا الإلزام هو نفع حكمي للمقرِض في عقد القرض فهو ربا.

ص: 414


1- وهذا البحث يكون جواباً عن كلّ من قال بالفرق بين الدنيانير والدراهم المعدنيّة وبين الأوراق النقديّة ، بتقريب أنّ المعدنيّة هي عرض مقصود بذاته ، أمّا الأوراق النقديّة فليست هي مقصودة ذاتها ، إذ يجاب بأنّ العرف والسيرة قائمة على أنّ لها ماليّة في نفسها كالذهب والفضّة والحنطة.

ص: 415

ص: 416

الملحق

اشارة

المخاطرة في بحث الأستاذ حسن الجواهري بعنوان: «بيع التقسيط»

تعليق

د. رفيق يونس المصري

مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي

ص: 417

ص: 418

المخاطرة

بسم اللّه والحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللّه وبعد ، اني سأعلق ، بعون اللّه ، على ما جاء في ورقة الاستاذ حسن لجواهري بعنوان « بيع التقسيط » ، مما يتعلق بالمخاطرة فقط.

ص: 419

ص: 420

رأي الاُستاذ الصدر والاُستاذ الجواهري في المخاطرة

اشارة

في الصفحة 23 من الورقة (1) ذهب الأستاذ حسن إلى أن المخاطرة ليست من عوامل الكسب في النظرية الإسلامية ، حيث انها ليست سلعة اقتصادية حتى يطلب ثمنها ، وليست عملا أنفق على مادة ليكون من حقه تملكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها.

ومرجعه في ذلك ما رآه الأستاذ محمد باقر الصدر في كتابه المعروف « اقتصادنا » فالمخاطرة ، كما صوّرها الصدر هي : « حالة شعورية خاصة تغمر الانسان ، وهو يحاول الاقدام على أمر يخاف عواقبه ، فإما أن يتراجع انسياقاً مع خوفه ، وإما أن يتغلب على دوافع الخوف ، ويواصل تصميمه ، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق واختار بملء ارادته تحمل مشاكل الخوف ، بالاقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا ، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف ما دام شعوراً ذاتياً ، وليس عملاً مجسداً في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح أن التغلب على الخوف بعض الأحيان قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية

ص: 421


1- المقصود الصفحة 23 من النسخة الأصلية من بحث بيع التقسيط أما في هذا الكتاب فقد تغيرت الصفحة وأصبحت الصفحة 68.

النفسية والخلقية ، ولكن التقييم الخلقي شيء ، والتقييم الاقتصادي شيء آخر » (1).

وظن الأستاذ الصدر أن الاعتراف بالمخاطرة ضرب من التأثر بالفكر الرأسمالي « الذي يتجه إلى تفسير الربح وتبريره على أساس المخاطرة » (2) وانتقد الرأسماليين « الذين يحاولون أن يضفوا على المخاطرة سمات البطولة ، ويجعلوا منها سبباً للحصول على كسب في مستوى هذه البطولة » (3).

وخطّأ الصدرُ قولَ الذين قالوا : « ان الربح المسموح به لصاحب المال في عقد المضاربة ، يقوم على أساس المخاطرة » (4). ثم قال : « ولكن الحقيقة ... هي أن الربح الذي يحصل عليه المالك ، نتيجة لاتجار العامل بأمواله ، ليس قائماً على أساس المخاطرة ، وانما يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للسلعة التي اتجر بها العامل » (5).

ثم ذهب الأستاذ الجواهري - مثل الصدر - مضيفاً أن في الشريعة الإسلامية عدة ظواهر تبرهن على الموقف السلبي من المخاطرة في تسويغ الكسب ، فمن ذلك حرمة القمار ، وحرمة الشركة في الأبدان ، فإن القمار يرتكز على أساس المخاطرة وحدها ...

وفي الصفحة 21 من الورقة (6) ، ذكر الأستاذ الجواهري أن الإسلام لم ير للمخاطرة قيمة اقتصادية ، فلم يجعلها طريقاً من طرق الكسب التجاري ، حيث ان طرق الكسب في التشريع الإسلامي هي إما العمل المباشر من الأفراد ، أو العمل

ص: 422


1- اقتصادنا : ص 633.
2- اقتصادنا : ص 634.
3- اقتصادنا : ص 635.
4- اقتصادنا : ص 634.
5- اقتصادنا : ص 634.
6- المقصود الصفحة 21 من النسخة الأصلية من بحث بيع التقسيط ، أما في هذا الكتاب فقد تغيرت الصفحة ، راجع بحث بيع التقسيط في هذا الكتاب.

المختزن الذي هو بصورة سلعة أو عين أنفق عليها عمل من الآخرين ، لذا حرّم القرآن والسنّة النبوية أخذ الفائدة على القرض الذي هو ليس إلاّ احساناً أو مخاطرة بالمال ، بتعريضه للتلف ، أو ايثار الآخرين على النفس ، وانما المخاطرة حالة شعورية ذاتية تستحق التقدير والاعجاب في أكثر الحالات ، فيستحق صاحبها ثواباً من اللّه تعالى.

خلاصة رأي الصدر والجواهري

العمل والمال - في غير صورة القرض - في الإسلام لهما قيمة اقتصادية ، وهما من عوامل الكسب.

أما المخاطرة فعلى العكس : ليس لها قيمة اقتصادية ، وليست من عوامل الكسب. مستندهما في ذلك :

1 - القمار.

2 - شركة الأبدان.

3 - شركة المضاربة.

4 - ربا القرض.

مناقشة هذا الرأي

أولا - المخاطرةُ الأصلُ فيها أنها حلال
1 - مخاطرة القمار :

الأصل في القمار أنه محرم في الإسلام ، دلت على ذلك الآية 219 من سورة البقرة ، والآية 90 من سورة المائدة. ومن ثم فالمخاطرة التي في القمار حرام مثله. غير

ص: 423

أن الفقهاء استثنوا من القمار المحرم : السباق والنضال والقرعة ( في حالات محددة ).

المهم هنا أنه حتى مخاطرة القمار ليست كلها حراماً في الإسلام ، وقد يكون السبق على مال ، فتفيد هذه المخاطرةُ كسباً.

2 - المخاطرة في شركة الأبدان :

شركة الأبدان ، كما عرفها الأستاذ الجواهري ( ص23 من الورقة ) ، هي اتفاق بين اثنين أو أكثر على ممارسةِ كلِ واحد منهم عملَه الخاص ، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب. ومثَّل لها بطبيبين يمارس كل منهما عمله في عيادته الخاصة ، ويتقاسمان في نهاية كل شهر - مثلا - مجموع الاُجور التي حصلا عليها معاً.

ويبدو أن تحريم هذه الشركة عند من حرمها ( الشافعية ، والظاهرية ، والإمامية ) يأتي من أن عمل كل من الطبيبين منفصل عن الآخر ، فأين العمل المشترك ، أو المال المشترك ، الذي يسوّغ الايراد المشترك ، أو الربح المشترك ؟ فالكسب الاضافي الذي قد يحصل عليه أحد الشريكين ، نتيجة هذه الشركة ، مَردُّه الغرر أو القمار ، أي المخاطرة المحرمة.

وأيا ما كانت الحال ، فإن تحريم الكسب بالمخاطرة التي في شركة الأبدان لا يعني تحريم الكسب بمخاطرات أخرى مشروعة.

3 - المخاطرة في شركة المضاربة :

شركة المضاربة هي اتفاق بين رب مال وعامل على اقتسام الربح بنسبة معلومة. وفي هذه الشركة يقدِّم رب المال مالا ويتحمل مخاطرةَ خسارةِ ماله ، كله أو بعضه ، ويقدّم العامل المضارب عملا ويتحمل مخاطرة خسارةِ عمله ، كله أو بعضه.

ومن هنا فإنَّ رب المال يكسب الربح بماله ومخاطرته ، والعامل يكسب الربح بعمله ومخاطرته. ولا نتفق مع الذين قالوا بأن رب المال يكسب الربح بمخاطرته ، ولا مع الذين قالوا بأن رب المال يكسب الربح بماله ، انما كسب الربح هنا من

ص: 424

العنصرين معاً : المال ، والمخاطرة. ومن قال أن رب المال يكسب الربح بماله فانما يعني ضمناً أنه يكسب الربح بمخاطرته أيضاً ، لأن رب المال يملك المال ويتحمل مخاطرة الملك.

كذلك العامل يكسب ربحه من عنصري العمل والمخاطرة ، ولا ريب أن هذه المخاطرة تعطيه حقاً في زيادة كسبه. فلو عمل عامل بأجر شهري مضمون قدره 5000 ريال ، فانه لا يرضى بأن يعمل مضارباً مُخَاطِراً إذا توقع أن يكون عائده الشهري 5000 ريال فقط ، ويرضى إذا زاد العائد المتوقع على هذا المبلغ زيادة مُرْضِية.

4 - المخاطرة في القرض الربوي :

القرض الربوي حرام في الإسلام ، فلا يجوز التذرع بالمخاطرة التي يتعرض لها المقرض ، لاستباحة الربا على القرض. فالمخاطرة هنا ليست مصدراً للكسب ، لأن الربا حرام. ولكن حرمة الربا كحرمة القمار لا تعني أن كل مخاطرة حرام ، ولا أن كل مخاطرة لا تفيد كسباً.

ثانياً - رأينا في المخاطرة : مُنتجة ولها عائد

1 - المخاطرة لا غنى عنها في كل الأنشطة الاقتصادية النافعة ، من زراعة وصناعة وتجارة ونقل ... الخ ، بل هي مهمة جداً في الانتاج والتنمية. وكلما زادت المخاطرة في المشروعات وجب أن تزيد أرباحها المتوقعة ، وإلاّ أحجم الناس عنها ، ولو عظمت منفعتها العامة.

2 - المال والعمل من عوامل الانتاج ، ولكن في حين أن المال والعمل هما من عوامل الانتاج المستقلة ، فإن المخاطرة من عوامل الانتاج التابعة ، أعني بهذا أن المخاطرة لا تستقل في الكسب ، بل تنضاف إلى مال أو عمل ، فتزيد في الكسب. فمن أَجَّر مالا ( آلة مثلا ) بأجر مضمون ، فانه إذا أجَّره بحصة من الايراد أو من الربح ،

ص: 425

فانما يتوقع الحصول على عائد أكبر من العائد المضمون. وكذلك العامل بأجر مضمون ، والعامل بأجر احتمالي غير متيقن.

3 - يؤيد هذا قول الفقهاء بأن الربح يُستحق بالمال والعمل والضمان. ويجب الانتباه هنا إلى أن الضمان يعني المخاطرة. ولكن الضمان كما قلنا لا يستحق الربح على وجه الاستقلال ، بل على وجه التبعية للمال أو للعمل.

4 - جاء في النصوص الشرعية النهي عن ربح ما لم يضمن ( رواه أحمد وأصحاب السنن ). والضمان هنا هو المخاطرة أيضاً. ويستفاد من هذا أن الربح يستحق بالضمان ، وهذا هو أصل القاعدة التي ذكرها الفقهاء : يستحق الربح بالمال والعمل والضمان.

ومرة أخرى نقول أن الضمان لا يستقل في الربح ، انما هو تابع للمال أو للعمل ، فيزيد في مقدار الربح المحتمل.

5 - كذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « الخراج بالضمان » ( رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن ) يفيد أن الغلة يستحقها المالك ، لأنه يملك المال ويضمنه ، أي يتعرض لمخاطرة الملك. فهذا ضمان ملك ، وليس ضماناً محضاً. المهم هنا أن مالك الشيء يملك خراجه ، لأنه مالك ومُخاطِر ، يتحمل مخاطر ملكه.

ثالثاً : علماء قدامى صحت آراؤهم في المخاطرة
1 - العز بن عبد السلام ( 660 ه )

قال صلی اللّه علیه و آله : « من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سَلَبُه » ، رواه الشيخان وغيرهما.

قال العز : « كذلك جعل الأسلاب للقاتلين المخاطرين ، لقوة تسببهم إلى تحصيلها ، ترغيباً لهم في المخاطرة بقتل المشركين » ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 99 - 100 ).

2 - ابن تيمية ( 728 ه )

قال : « المجاهدة في سبيل اللّه عزّ وجلّ فيها مخاطرة ، قد يَغلِب وقد يُغلَب.

ص: 426

وكذلك سائر الأمور ، من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر » ( مختصر الفتاوى المصرية ص535 ).

وقال أيضاً : « ليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة » ( مختصر الفتاوى المصرية ص532 ).

3 - ابن القيم ( 751 ه )

قال : « المخاطرة مخاطرتان : مخاطرة التجارة ، وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على اللّه في ذلك ، والخطر الثاني هو الميسر ( القمار ) ، وهو بخلاف التجارة ... » (1).

4 - ابن خلدون ( 808 ه )

قال : « كذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة ، أو في شدة الخطر في الطرقات ، يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً ... ، لأن السلعة المنقولة تكون حينئذ قليلة مُعْوِزة ( = عزيزة ، نادرة ) ، لبعد مكانها ، أو شدة الغَرَر ( = الخطر ) في طريقها ، فيقل حاملوها ( = ناقلوها ) ، ويعزّ وجودها ، وإذا قلَّت وعزّت غلت أثمانها » (2).

رابعاً : معاصرون نبهوا على مسألة المخاطرة

سبق لي أن نبهت على أن المخاطرة مخاطرتان : حلال وحرام ، وعلى أهمية المخاطرة في الأنشطة الاقتصادية ، وعلى ادراجها ضمن عوامل الانتاج « التابعة » ، وعلى دورها في الكسب والتوزيع ، خلافاً للأستاذ الصدر ، وذلك في موضعين :

1 - في كتابي « أصول الاقتصاد الإسلامي » ( 1409 ه - 1989 م ) ص 97 و ص 218.

ص: 427


1- زاد المعاد 3 / 263.
2- المقدمة 2 / 930.

2 - في ورقتي المقدمة إلى ملتقى الفكر الإسلامي الرابع والعشرين في الجزائر ، ( 1411 ه = 1990 م ) ، بعنوان : « الادخار المصرفي والاستثمار في اقتصاد اسلامي » ص 7.

هذا ما بدا لي التعليق عليه ، وباللّه التوفيق.

توضيح لما كتبه الدكتور رفيق يونس المصري

اشارة

بعد أن اطَّلعنا على ما كتبه الدكتور رفيق المصري حول المخاطرة التي منعنا أن تكون مصدر كسب ، رأينا أن بحثه يستحق الجواب والتوضيح فنقول : إنَّ المخاطرة لها معنيان :

المعنى الأول : وهو المعنى الذي قصدناه في بحثنا تبعاً لما ذكره السيد الشهيد الصدر وهو : ان المخاطرة هي حالة شعورية نفسية قبل الاقدام على حالة معينة ، وهذه الحالة الشعورية حالة اخلاقية نفسية تغمر الانسان قبل اقدامه على أمر معين ، فمثلا إذا صمم انسان على بيع بيته لعالم ديني محاباة ( أقل من السعر السوقي ) أو صمم انسان على اقراض جاره مبلغاً من المال مع تمكنه من تشغيله مضاربة ، أو صمم انسان على بيع سلعته لرجل مستحق نسيئة بثمنها الحال ، فيكون هذا الانسان قد تغلب على نوازع نفسه في الربح وقَبِل بالخسارة في هذه المعاملات ، فهنا نقول : ليس لهذا الانسان أن يأخذ شيئاً من المال في مقابل هذه المخاطر التي تغلَّب عليها وهي حالات شعورية نفسية مثل تخوفه من التخلف عن سداد الدين أو التأخر عن سداده أو مخاطرة تقلبات الاسعار. نعم هذه الحالات النفسية الناشئة من التخوفات المتقدمة قد تغلب عليها وهذا أمر يستحق عليه المدح من قبل الناس.

المعنى الثاني : المخاطرة التي تحمل الخسارة للمال أو للسلعة حين حصول

ص: 428

التلف ، كما أن الربح يكون له إن حصل ، وهذه هي حالة توقّع الخسارة والربح من المعاملة في ظلّ النظام السليم ، وهو معنى تملّكه للسلعة أو المال.

وهذا المعنى الثاني هو الذي قصده الدكتور رفيق حين جوّز الربح على أساس المخاطرة بينما قصدنا - تبعاً للشهيد الصدر - المعنى الأول للمخاطرة حينما منعنا الربح استناداً إلى المخاطرة في إقراض المال أو البيع المحاباتي أو البيع نسيئة.

فقد ذكر الدكتور رفيق : ان المخاطرة سبب للكسب في المضاربة وقصد من المخاطرة تحمل خسارة مال المضارب إن حصلت فقال : « وفي هذه الشركة يقدّم رب المال مالا ويتحمل مخاطرة خسارة ماله كله أو بعضه ... ومن هنا فإن رب المال يكسب الربح بماله ومخاطرته ».

وفي الحقيقة أنّ هذا الكلام معناه أنّ الربح يكون لملكية المال إن وجد ، كما أنّ الخسارة تكون عليه إن حصلت ، وهذا شيء واضح ، فمن قال : إن الربح يكون للمال وللمخاطرة في المضاربة يكون قصده أن الربح يكون لمالك المال ، كما أن الخسارة تكون عليه ، إذ معنى ملكية المال هو هذا.

ولهذا نسب الدكتور رفيق إلى الفقهاء أنّ الربح يُستحَقُ بالمال والعمل والضمان ، وقال : يجب الانتباه هنا إلى أن الضمان يعني : المخاطرة ، ومعنى كلامه أنّ الربح يُستحَقُ بالمال الذي يضمنه صاحبه بحيث تكون خسارته عليه ، وهذا شيء واضح لا ينكره أحد فضلا عن الشهيد الصدر ، وعلى هذا الأساس يتبين ( على رأي الدكتور رفيق ) أنّ الربح إنما يستحقه الإنسان بما أنه مالك للسلعة أو للمال والخسارة تكون عليه ( المخاطرة تكون عليه ) فيتمكن المالك أن يزيد في سعر السلعة عند بيعها نسيئة ، ومعنى هذا : أن الربح يكون في مقابل العين ، كما أنه لو تلفت فهو الذي يخسرها ، فقوله : إن الربح إنما يُستحَقُ بالمال والمخاطرة هو نفس ما نقوله من أن الربح إنما يُستحَقُ في مقابل العين لأن تلفها عليه لو حصل.

ثم إن هذه المخاطرة ( بالمعنى الثاني ) تنقسم إلى قسمين كما ذكر ذلك الدكتور

ص: 429

رفيق : ( حلال وحرام ) فالمخاطرة في المضاربة حلال وكذلك في الانشطة التجارية ، فإن كل من يملك سلعة أو مالا يكون نتاجه له ، وهو الذي يتحمل خسارته عند التلف. والمخاطرة في القمار ( الميسر ) حرام بالنص القرآني ، فإنّ الربح في القمار لا يتبع المال ، كما أن الخسارة فيه لا تقع على مالك المال.

والمخاطرة في القرض الربوي حرام بالنص القرآني كذلك.

ولكن لنا أن نقول : إن القمار لا تصدق عليه المخاطرة بالمعنى الثاني ؛ لأن الربح في القمار ليس ربحاً تجارياً « في مقابل إعطاء شيء » حتى يكون لصاحب المال ، والخسارة أيضاً ليست خسارة تجارية « في مقابل أخذ شيء » ولهذا سوف يكون تعليل النهي عن القمار هو أكل المال بالباطل الذي نهت عنه الآية القرآنية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

أما القرض : فهو ما دام مضموناً على المقترض يكون ربحه للمقترض وخسارته عليه. نعم المقِرض : أقدم على القرض بعد أن حصلت عنده المخاطرة التي هي حالة شعورية نفسية قد تغلَّب عليها باقراضه المال مع تمكنه من الاستفادة منه ، وهذه الحالة النفسية الاخلاقية ليست هي من طرق الكسب عند الشارع المقدس.

وعلى هذا اتّضح أن المخاطرة التي لم يجعلها الشهيد الصدر من طرق الكسب التجاري هي ( المعنى الأول ) الحالة الشعورية النفسية في التصميم على الاقدام على البيع المحاباتي أو الاقراض بنفس المال أو بيع السلعة نسيئة بمثن حال ، وهذه الحالة يمدحُ عليها صاحبها ، ولكن لا تكون مصدراً للكسب ، لأن مصدر الكسب هو أما المال المختزن أو العمل.

وعلى هذا اتضح أن رأي الدكتور رفيق لا يعارض رأي الشهيد الصدر ولا يعارض ما كتبناه حول بحث المخاطرة من بيع التقسيط ، وقد حصل التباس عند الدكتور رفيق من لفظ المخاطرة إذ يقصد منها معنىً لم يكن مقصوداً عند الشهيد الصدر ولم يكن مقصوداً من بحثنا « بيع التقسيط » ، بل المقصود هو المعنى الأول

ص: 430

للمخاطرة وهو بحق لم يكن من طرق الكسب عند الشارع المقدّس.

واتّضح أيضاً أن معنى المخاطرة ( الثاني ) الذي يجوّز للمالك أن يربح بسلعته ويخسرها إذا تلفتَ يجوّز للمالك أن يبيع سلعته باكثر من سعرها الحالي. نسيئة ، ومردّ هذا إلى أن الربح يكون في مقابل العين لا في مقابل الأجل وأن كان الداعي إلى ذلك هو تأجيل الثمن.

ردود سريعة وايضاحات لما كتبه الدكتور « رفيق » :

1 - قلنا : إن الربح الذي يحصل عليه المالك عند اتجار العامل بامواله مضاربة يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للمال الذي أخذ العامل يتجرّ به وذلك لقاعدة الثبات في الملكية القائلة : بأن مال الفرد مهما تغيّر ولو بعمل عامل يبقى على ملك مالكه الأول ، وأما عمل العامل واستحقاقه نسبة من الربح انما يكون بالاتفاق السابق الذي تنازل فيه المالك عن نسبة من ربحه على تقدير حصولها للعامل مقابل عمله.

2 - ذكر الدكتور رفيق أن تأجير السلع بحصة من الايراد أو الربح يجوز ، والصحيح عدم الجواز ، لأن السلعة هي عمل مختزن ، وهو يدخل في الاجارة فقط ، ولابدّ من تحديد الاجرة لتصح الاجارة ، أما النسبة فهي ليست محدّدة ، فتدخل في الغرر ، ولذلك ذكروا أن من دفع شبكة لغيره على أن يكون الصيد بينهما فالصيد للعامل ، ولصاحب الشبكة اُجرة المثل.

3 - إن قاعدة الخراج بالضمان والنهي عن بيع ما لم يضمن معناهما واحد ، وهو : أن المالك له حق النماء والربح بشرط أن تكون السلعة داخلة في ضمانه بحيث يخسرها لو تلفت ، وما لم يدخل المال أو السلعة في ضمانه وخسارتها عند تلفها فلا يستحق نماءها وربحها ، ومعنى ذلك وجود تلازم بين الملك والتلف وبين النماء والملك ( أي بين الضمان والنماء ).

ص: 431

ولكن توجد استثناءات لهذه القاعدة هي :

1 - « قاعدة التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له » وهذه وإن اختصت بخيار الحيوان والشرط إلاّ أنها تخصّ قاعدة الخراج بالضمان حيث يكون الضمان في خيار الحيوان والشرط على غير مَن ملك المبيع.

2 - « قاعدة تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه » فمع أن الملك يكون للمشتري والنماء له ، لكن التلف لو حصل فهو على غير مالكه وهو البائع.

3 - الغاصب للمال ، فمع كونه ضامناً للمال إلاّ أن النماء لا يكون له بل يكون للمالك ، ويكون التلف على الغاصب لا على المالك.

والحمد اللّه رب العالمين.

ص: 432

محتويات الكتاب

المقدمة... 5

الائمة : ودورهم في حفظ السنة النبوية

1 - السنة النبوية... 11

تمهيد :... 11

تحديد السنّة :... 12

حجّية السنّة النبوية :... 13

اتجاهان مختلفان حول السنّة النبوية :... 13

لماذا لم يكن لروايات كتاب علي ( الجامعة ) ذكر في كتب أهل السنّة ؟... 22

2 - الأئمة علیهم السلام وتشريع الأحكام... 26

1 - معنى تشريع الحكم :... 27

حدود منطقة الفراغ :... 29

المشرِّع هو اللّه سبحانه وتعالى :... 29

2 - تفويض الأمر الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :... 30

3 - روايات التفويض الى الأئمة علیهم السلام :... 32

ص: 433

خطأ فظيع :... 35

الفرق بين الأئمة : وغيرهم كأئمة المذاهب والرواة :... 36

خلاصة البحث :... 38

بيع التقسيط ( بيع المؤجّل أو بيع النسيئة )

بيع التقسيط :... 41

أهميته :... 42

النقطة الاُولى : ما هو الدليل على صحة بيع النسيئة ؟... 43

مصاديق بيع النسيئة :... 44

النقطة الثانية : كيف نفسر التأجيل في بيع النسيئة مع الزيادة ؟... 48

الشراء نسيئة ( مع قدرته على الشراء نقداً ) هل هو مكروه ؟... 49

الفروق بين بيع النسيئة وغيره من البيوعات :... 50

1 - هل يوجد فرق بين بيع النسيئة وبيع المرابحة للآمر بالشراء ؟... 50

2 - ما هو الفرق بين بيع النسيئة وبيع العينة ؟... 52

3 - ما هو الفرق بين بيع التقسيط والبيع الايجاري ؟... 53

تنبيه :... 57

4 - الفرق بين بيع النسيئة والربا :... 58

النتيجة من التحقيق والتحليل وبيان النظرية الإسلامية :... 67

تسويغات خاطئة لصحة بيع النسيئة :... 67

تفسير عملية المضاربة وأخذ الربح في مقابل المال :... 69

أثر الموت في حلول الأجل

أولا : إذا مات المدين :... 74

ص: 434

إشكالات :... 74

جواب الإشكالات :... 75

ثانياً : إذا مات الدائن :... 77

الدائن للميت اذا وجد عين ماله في التركة :... 79

اذا كان الدين على شخص موثقاً ( برهن أو غيره ) فهل يحل الدين بالموت ؟... 81

خصم الأوراق التجارية

تحليل الواقع الخارجي :... 88

تحفُّظ :... 93

تنبيه :... 96

الفرق بين بيع الدينار بمثله في الذمة وما نحن فيه ( بيع الدين بأقل منه لشخص غير المدين ) 96

الفرق بين بيع الدينار بالدولار في الذمة وبيع الدين باقل منه بغير جنسه :... 98

حط وتعجل ( ضع وتعجل )

ادلة المُحرّمين :... 103

الدليل الاول ( القياس ) :... 103

مناقشة القياس :... 104

الروايات الدالة على صحة ( حطّ وتعجل )... 108

الدليل الثاني : ( الروايات )... 110

مناقشة هذه الروايات :... 112

ما هو العمل عند تعارض الروايات في عملية حط وتعجل :... 115

ص: 435

التداين ونظرة الإسلام اليه

1 - التداين ونظرة الاسلام إليه من الناحية الاقتصادية :... 121

السنهوري وما فهمه من فقه السنة ( بالنسبة لحوالة الدَين والحق ) :... 124

مصطفى الزرقاء :... 128

المفهوم الغربي للدّيْن :... 130

الموازنة بين النظرية الاسلامية والنظرية المقابلة :... 132

2 - التداين ونظرة الاسلام اليه من الناحية الاخلاقية... 136

أ - الدَّين بما أنه قد صدر من المدين :... 137

ب - الدَّين اذا صدر من الدائن :... 140

النظرية الغربية للتداين :... 144

نظرية الذمّة في الفقه الإسلامي

1 - نظرية الذمّة عند علماء غير الشيعة :... 149

2 - الذمّة عند فقهاء الشيعة... 154

الذمّة عند الشيخ النائيني :... 157

الذمّة عند السيد الشهيد الصدر :... 157

3 - الذمّة لا تموت بموت الانسان... 159

خصائص الذمّة :... 161

ضابط الاعسار الذي يوجب الانظار

العسر لغة :... 168

روايات الاعسار :... 168

ص: 436

تنبيهان :... 170

هل يجب على المدين المعسر ان يقتصر على ما يمسك رمقه ؟... 171

هل يجب على المدين المعسر التكسب وأن يؤاجر نفسه ؟... 172

السلم وتطبيقاته المعاصره

تعريف بيع السلم :... 176

مشروعيته :... 177

هل مشروعية السلم اصلية او استثناء ؟... 178

روايات جواز بيع المعدوم ( الخاص ) :... 180

شروط صحة السلم :... 184

حكمة السلم :... 187

بيان انواع المعاملات التي يجوز فيها السلم :... 188

بيان انواع السلع التي يجري فيها السلم :... 190

مفهوم صفة التعيين في السلع التي يمتنع معها السلم :... 191

الصنف الواحد والاصناف المتعددة :... 193

اشتراط قبض بضاعة السلم قبل بيعها والحكمة في ذلك :... 195

البحث الأول : هل يجوز بيع بضاعة السلم قبل حلول الأجل ؟... 195

البحث الثاني : هل يجوز بيع بضاعة السلم بعد حلوله وقبل قبضه ؟... 197

البيع قبل القبض عند المذاهب السُنيّة :... 198

البيع قبل القبض عند الامامية :... 200

هل هناك حكمة من اشتراط القبض قبل البيع... 202

تنبيهات :... 206

فكرة السلم الموازي :... 207

ص: 437

الوسيلة الاولى :... 208

الوسيلة الثانية ( الحوالة )... 211

الاشكال على الحوالة بدين السلم أو على دين السلم :... 212

آراء بقية المذاهب في بيع المكيل والموزون قبل قبضه... 216

النتيجة من البحث السابق :... 219

ماذا يقوم مقام القبض ؟... 220

هل هناك تصرفات في المكيل والموزون ( السلمي أو غيره ) صحيحة قبل القبض ؟... 222

عجز البائع عن تسليم البضاعة عند حلول الاجل في السلم : ( استبدال المسلَم فيه ) 228

صحة الشرط الجزائي عن تأخير تسليم البضاعة :... 231

اصدار سندات سَلَم قابلة للتداول وضوابط ذلك في حال الجواز :... 233

خلاصة البحث... 236

بطاقات الائتمان

نبذة تاريخية للبطاقات المصرفية :... 243

ماهي بطاقات الائتمان ؟... 244

اطراف بطاقات الائتمان :... 246

اقسام بطاقات الائتمان :... 247

فائدة بطاقات الائتمان :... 248

الف - فائدة البطاقة للعميل :... 249

ب - فائدة البطاقة للتاجر :... 250

ج - فائدة البطاقة للبنك :... 250

ص: 438

كيف تتم المعاملات التجارية ببطاقة الائتمان ؟... 251

تنبيه :... 252

التكييف الشرعي لبطاقات الائتمان :... 254

1 - رسم العضوية ( الاشتراك ) :... 254

2 - رسم التجديد :... 255

3 - رسم التجديد المبكر :... 255

4 - رسم استبدال البطاقة عند الضياع او التلف او السرقة :... 256

5 - اخذ البنك نسبة من ثمن البضاعة او الخدمة :... 256

6 - فرق تحويل العملة :... 269

7 - اجرة نقل وحفظ المال :... 270

8 - الفائدة :... 271

9 - اجرة استخدام الجهاز الآلي او نظام التحويل الالكتروني :... 271

10 - اجرة الاتصالات الخارجية للحصول على تفويض :... 272

تنبيه :... 272

« العمليات البنكية الترغيبية »... 273

1 - جوائز البنك :... 273

2 - التأمين على الحياة :... 274

الخصم من التاجر للعميل :... 276

تنبيهات :... 276

خلاصة البحث :... 278

بحث في حرمة ربا القرض

1 - مع الدكتور النمر... 283

ص: 439

العصمة للأنبياء عند الشيعة... 284

النظرية في تحريم ربا القرض... 290

الفرق بين العقارات وأدوات الانتاج ورأس المال :... 294

المسوغ للفائدة :... 295

2 - مع الدكتور جمال مرسي بدر... 297

3 - مع الدكتور محمد سيد طنطاوي... 301

الفرق بين الربا والمضاربة الشرعية :... 302

هل ينمو الانتاج بأخذ الفائدة ؟... 306

وماذا بعد تحريم الفائدة يا مفتي الجمهورية المصرية ؟... 309

لماذا خلاف القرآن الصريح بين الحين والآخر ؟... 310

الأدلة المذكورة على حرمة ربا القرض :... 310

ربا القرض والربا الجاهلي :... 312

تغيير خطة البحث :... 314

فقهاء الامامية :... 317

ربا القرض عند الامامية :... 317

الأدلة على حرمته :... 318

الأدلة الاقتصادية على حرمة ربا القرض :... 321

الكسب بدون عمل حرام :... 324

الأثر الفطري للربا :... 327

المناقصات ( عقد الاحتياط ودفع التهمة )

1 - ما هي المناقصة ؟... 335

العلاقة بين المزايدة والمناقصة :... 338

ص: 440

النجش :... 338

اختلاف الموجب بين المزايدة والمناقصة في البيع :... 339

علاقة المناقصة بالتوريد :... 340

علاقة المناقصة بالمقاولة :... 342

توضيح لعقود المناقصات المعاصرة :... 343

2 - انواع المناقصات :... 345

اختلاف المناقصة عن البيع :... 348

التكييف الشرعي للمناقصات... 348

هل هناك تعارض بين صحة عقود المناقصات والنهي عن الدخول في سوم الاخ ؟ 349

الطائفة الاولى :... 349

الطائفة الثانية :... 350

3 - الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة أهو من المواعدة او الإستصناع او بيع ما ليس عند الانسان ؟ 352

بيع ما ليس عندك :... 352

بيع الكلي ( بيع ما في الذمة ) :... 355

الفرق بين المواعدة والمناقصة :... 357

4 - بيع وثائق المناقصة بالتكلفة او بأي ثمن للحصول على ربح... 358

5 - طلب المشتري ضماناً بنكياً :... 360

لماذا خطابات الضمان ؟... 362

البحث الاول : صحة الشرط بدفع مبلغ من المال عند تخلفه عن التزاماته :... 365

البحث الثاني : صحة خطاب الضمان الذي يصدره البنك عند طلب المقاول لصالح المستفيد : 367

ص: 441

هل يصح للبنك أن يأخذ عمولة على خطاب الضمان ؟... 369

6 - تضمين عقد المناقصة شرطاً جزائياً في حالة التأخير... 372

1 - التنقيص من الاجرة بمقدار معين :... 373

2 - التنقيص من الاجرة بدون تعيين :... 375

3 - سقوط الاجرة باكملها :... 375

7 - مدى حرية الجهة الداعية الى المناقصة في اختيار احد من العروض او التقيد بالانقص منها ؟ 378

خلاصة البحث :... 379

تغيير قيمة العملة

المقدمة... 383

المشاكل المتعلقة بتغيير قيمة العملة :... 386

المشكلة الاُولى :... 386

جواب المشكلة :... 389

تنبيهات :... 390

المشكلة الثانية :... 395

الإستدلال بالأولويّة :... 397

بحث اقتصادي ( تاريخ النقد )... 398

خروج النقد عن دوره الأصيل :... 399

حلول الإسلام لمفاسد الدور الطاريء للنقد :... 401

لماذا تتدهور قيمة النقد ( الورقي والذهبي ) ؟... 404

المعالجة :... 405

المخاطرة تقييم خلقي :... 406

ص: 442

تصحيح أخطاء :... 406

حالات مخاطرة ألغى الشارع الكسب بها :... 407

الإسلام لا يقرّ كسباً غير مرتبط بعمل مباشر أو مختزن :... 409

تنبيه :... 410

الخاتمة :... 412

1 - إذا اُلغي النقد فماذا يجب على المقترض ؟... 412

2 - سريان المشكلة في غير القرض والبيع المؤجل ثمنه :... 412

3 - هل يصح اقتراض القيمة الشرائيّة للنقد ؟... 414

الملحق

المخاطرة... 419

خلاصة رأي الصدر والجواهري... 423

مناقشة هذا الرأي... 423

أولا - المخاطرةُ الأصلُ فيها أنها حلال... 423

1 - مخاطرة القمار :... 423

2 - المخاطرة في شركة الأبدان :... 424

3 - المخاطرة في شركة المضاربة :... 424

4 - المخاطرة في القرض الربوي :... 425

ثانياً - رأينا في المخاطرة : مُنتجة ولها عائد... 425

ثالثاً : علماء قدامى صحت آراؤهم في المخاطرة... 426

رابعاً : معاصرون نبهوا على مسألة المخاطرة... 427

توضيح لما كتبه الدكتور رفيق يونس المصري... 428

ردود سريعة وايضاحات لما كتبه الدكتور « رفيق » :... 431

ص: 443

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن الجواهري

الناشر: دار الذخائر

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

الصفحات: 480

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بحوث في الفقه المعاصر

الجزء الثاني

تأليف: حسن الجواهري

ص: 1

دار الذخائر

بيروت - لبنان

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة

الطبعة الأولی

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

حدود عرفات مزدلفة، منی

اشارة

ص: 5

ص: 6

إنّ البحث الذي نريد الكتابة عنه هو بحثٌ تاريخيٌّ جغرافيّ يكون موضوعاً لأحكام شرعيّة كثيرة ، ألا وهو تحديد عرفات ، مزدلفة ، منى. وقد ذكر الفقهاء الأحكام الكثيرة الواردة على هذه الموضوعات الثلاثة ، ولئن كان الموضوع قد حدّده الشارع المقدّس في الروايات الواردة عن المعصوم علیه السلام إلاّ أنّ المصداق لهذا المفهوم لا بدّ من أخذه من أهل الخبرة في تعيين ما حدّده الشارع ، وعلى هذا فنحن بحاجة :

أولاً : إلى ما حدّده الشارع المقدّس كمفهوم لهذه الألفاظ الثلاثة.

وثانياً : إلى تعيين هذه المواضع إمّا من شياع أهل الخبرة إذا اختلفوا في تعيين المصداق ، أو لم يختلفوا حيث إنّه يفيد علماً أو اطمئناناً.

ولا يخفى أنّ القاعدة عند الشكّ في تعيين المصداق تقتضي الاقتصار على القدر المتيقّن ؛ لقاعدة الاشتغال اليقيني الذي يستدعي الفراغ اليقيني ، بمعنى أنّ مشكوك الموقفيّة أو الموضعيّة يوجب الشك في الامتثال الذي حدّد في هذه الأمكنة ، فتجري القاعدة.

ولا بأس بالتنبيه إلى بعض الاشكالات والأبحاث الفقهيّة التي تتعلّق بهذه الدراسة. فنقول وباللّه التوفيق :

أولاً : حدود عرفات

اشارة

إنّ عرفات منطقة تقع شرقيّ مكّة بحوالي 22 كم وهي سهل واسع منبسط

ص: 7

مُحاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عَرَفَة ، فمن الشمال الشرقي يُشرف عليها جبل أسمر شامخ وهو ( جبل سعد ) ومن مطلع الشمس يشرف عليها جبل أشهل أقلّ ارتفاعاً من سابقه ويتّصل به من الجنوب ، وهذا يُسمّى ( مِلْحه ) ، ومن الجنوب تشرف عليه سلسلة لاطية سوداء تسمّى ( اُمّ الرضوم ) ، أمّا من الشمال إلى الجنوب فيمرّ وادي عَرَفَة (1).

وقد ذكرت الروايات حدود عرفات ممّا يلي الحرم ، لأنّها هي التي تحتاج إلى تحديد ، أمّا الجهات الثلاث الأُخرى فكأنّها لا تحتاج إلى تحديد ؛ لوجود سلسلة الجبال التي تقطع بين عرفات وغيرها. فقالت الروايات وتبعها الفقهاء : بأنّ الحاج لو وقف « بنَمِرَة أو عَرَفَة ، أو ثوية ، أو ذي المجاز ، أو بجنب الأراك ، أو غير ذلك ممّا هو خارج عن عرفة لم يجزه » ، فمن الروايات :

1 - صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « فإذا انتهيت إلى عَرَفات فاضرب خباك بنَمِرَة ، ونمرة هي بطن عُرَنَة دون الموقف ودون عرفة ... وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثوية ونَمِرَة إلى ذي المجاز ، وخلف الجبل موقف » (2).

2 - خبر سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام : « واتّقِ الأراك ونَمِرَة وهي بطن عُرنَة ، وثوية وذي المجاز فإنّه ليس من عَرَفَة ولا تقف فيه » (3).

3 - خبر إسحاق بن عمّار عن الإمام الكاظم علیه السلام . قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ارتفعوا عن وادي عُرَنَة بعرفات » (4).

ص: 8


1- معالم مكة التأريخيّة والأثريّة : 182 ، البلادي ( عاتق بن غيث ) ، طبع دار مكّة ، 1980 م.
2- الوسائل : ج 10 ، الباب 9 من أبواب إحرام الحاجّ ، ح 1 ، وذيل ح 1 من باب 10 من أبواب إحرام الحاجّ ، ح 1.
3- المصدر السابق ، الباب 10 ، ح 6.
4- المصدر السابق ، الباب 10 ، ح 4.

أقول : إنّ هذه الأماكن الخمسة هي حدود عَرَفَة من ناحية الغرب ( الحرم ) وهي راجعة إلى أربعة كما هو المعروف من الحدود ، لأنّ نَمِرَة هي بطن عَرَفَة ، كما روي في حديث معاوية المتقدّم عن الإمام الصادق علیه السلام .

شرح الألفاظ :
1 - نَمِرَة :

نَمِرَة : بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة ( وهي بطن عُرَنَة ) كما ذكرت الروايات المتقدّمة.

وقد ذكر ابن تيمية عن نَمِرَة فقال : « ونَمِرَة كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمن ، فيقيمون فيها إلى الزوال كما فعل النبي صلی اللّه علیه و آله ثمّ يسيرون منها إلى بطن الوادي ، وهو موضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي صلّى فيه الظهر والعصر وخطب ، وهو في حدود عَرَفَة لبطن عُرَنَة ، وهناك مسجد يُقال له مسجد إبراهيم ، وإنّما بُني في أوّل دولة بني العبّاس ».

وقال ابن القيّم : « نَمِرَة قرية غربيّ عرفات ، وهي خراب اليوم ، نزل بها النبي صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحّلت له ، ثمّ سار حتّى أتى بطن الوادي من أرض عَرَفَة فخطب الناس ، وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنّه خطب بعُرَنَة ، وليس من الموقف ، فهو صلی اللّه علیه و آله نزل بنَمِرَة وخطب بعُرَنَة ووقف بعَرَفَة » (1).

والمُراد من المسجد الذي يسمّى مسجد إبراهيم فيما ذكره ابن تيمية هو المسجد القديم الذي اختلف فيه أنّه من عرفات أو خارجها ؟ على ثلاثة أقوال :

1 - فقد ذكر إمام الحرَمَين الجويني والقاضي حسين والرافعي وجماعة من

ص: 9


1- هداية الناسكين ، تحقيق الدكتور الفضلي : 175 ، عن هامش كتاب الإرتسامات اللِطاف ، أرسلان ( الأمير شكيب بن حمود 1366 ه ) ، تعليق عبد الرزّاق محمّد سعيد حسن ( الطائف : مكتبة المعارف ) : ص 58 - 65.

الخراسانيّين : أنّ مقدّم المسجد القديم في وادي عُرَنَة ومؤخّره في عَرَفات ، ويتميّز ذلك بصخرات كبار فُرِشت هناك.

2 - قال في البحر العميق نقلا عن الطرابلسي وغيره : « إنّ جميع المسجد القديم من عَرَفَة ، وإنّ جداره الغربيّ لو سقط لسقط على بطن عُرَنَة ».

3 - صرّح كثيرٌ من علماء الإسلام بعدم دخول المسجد القديم في عَرَفة تبعاً للروايات المشتملة على صفة حجّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد روى معاوية بن عمّار حجّ النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : حتى انتهى إلى نَمِرَة وهي بطن عُرَنَة بحيال الأراك ، فضرب قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتّى وقف بالمسجد ، فوعَظَ الناس وأمَرَهم ونهاهم ، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتَين ، ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به » (1).

وقد قال الشافعي - وهو مكّي قَرَشي - في الأُْمّ : « وعَرَفَة ما جاوز وادي عُرَنَة الذي فيه المسجد ، وليس المسجد ولا وادي عُرَنَة من عَرَفَة ».

وقال النووي في الايضاح : « واعلم أنّه ليس من عرفات وادي عُرَنَة ولا نَمِرَة ولا المسجد المسمّى مسجد إبراهيم - ويُقال له أيضاً مسجد عُرَنة - بل هذه المواضع خارجة عن عرفات على طرفها الغربيّ ممّا يلي مُزْدَلِفَة ».

أقول : إنّ القاعدة التي ذكرناها في أوّل البحث في خصوص ما إذا اختلف أهل الخبرة في كون المسجد من عَرَفات أو خارج عنها فإنّ المدار على الشياع الذي يفيد الاطمئنان بأنّ المسجد ليس من عَرَفَة ، على أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة أنّه خارج عن موقف عرفات ، كما هو الأحوط لهذه العبادة العظيمة.

ومساحة ضلع هذا المسجد القديم من مبتدئه من الناحية الغربيّة إلى منتهاه من الناحية الشرقيّة ( مئة ذراع وثلاث وستّون ذراعاً ) كما ذكره الأزرقي في تأريخ مكّة ، وأنّ مساحة ضلعه من ركنه الشمالي الشرقي إلى الركن الجنوبي الشرقي

ص: 10


1- الوسائل : 8 ، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ ، ح 3.

( مئتان وثلاث عشرة ذراعاً ) (1).

ولكن حصلت زيادات على القدر القديم للمسجد ، فإن كانت هذه الزيادة لجهة المشرق فقد دخلت هذه الزيادة في عَرَفَة ، كما قال البعض وهو القشيري ، فقد قال : « والمسجد - أي القديم - الذي يصليّ فيه الإمام - اليوم - يوم عَرَفَة هو في بطن عُرَنَة ، فإذا خرج منه الإنسان يريد الوقوف فقد صار في عَرَفَة ».

ولكن إذا أخذنا بهذا القول الشائع والمشهور ، وقلنا : إنّ المسجد القديم ليس من عرفات ، وقد صلّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله الظهر والعصر فيه فسوف تواجهنا مشكلة ينبغي حلّها ، وهذه المشكلة عبارة عن القول بعدم وجوب الوقوف في عَرَفَة من أوّل الزوال إلى الغروب اختياراً ، بل يكفي الوقوف بعَرَفَة بعد الزوال بمقدار ما يغتسل ويصليّ ويخطب ويذهب إلى الموقف ، بينما ذُكر : أنّ وقت الاختيار في الوقوف بعَرَفَة هو من زوال الشمس إلى غروبها ، وأنّ الركن هو المسمّى ، وكأنّ هذا من البديهيّات ، فقد ذكر الشهيد الأوّل والثاني في كتاب اللُمعة الدمشقيّة وشرحها بأنّ من الواجبات : « الوقف بمعنى الكون بعَرَفَة من زوال التاسع إلى غروب الشمس مقروناً بالنيّة المشتملة على قصد الفعل المخصوص متقرّباً بعد تحقّق الزوال بغير فصل ، والركن من ذلك أمر كلّي وهو جزءٌ من مجموع الوقت بعد النيّة ولو سائراً ، والواجب الكلّ » (2).

وقد صرّح غير واحد من الفقهاء بذلك ، بل في المدارك نسبته إلى الأصحاب ، فيجب مقارنة النيّة للزوال ليقع الوقوف بأسره بعد النيّة ، وإلاّ فات جزءٌ منه ، ثمّ لو أخّر أثِم ، إلاّ أنّه يجزي ، كما صرّح به في الدروس (3).

ص: 11


1- مجلّة العرب السعوديّة : ج 5 ، السنة السادسة ، 1972 م ، تحت عنوان تحديد عرفات ، عن هداية الناسكين : 173.
2- المصدر السابق : ص 269.
3- جواهر الكلام : ج 19 ص 15.

وهذه المشكلة وإن لم تُحلّ بناءً على وجوب الوقوف من الزوال إلى الغروب إلاّ أنّها لا تعينّ القول القائل بوجوب مسمّى الوقوف في عَرَفَات فقط ، فإنّ هذا القول يدفعه وجوب البقاء إلى الغروب وحُرمة الخروج من عَرَفات قبله ، والكفّارة لِمَن تعمّد ذلك ، ووجوب العَود إلى الموقف لو خرج إذا كانت الشمس لم تغرب.

وقد تحلّ هذه المشكلة بأحد حلَّين :

الحلّ الأوّل : ( بناءً على وجوب الوقوف ما بين الحدَّين ) بقولنا : إنّ المراد من الوقوف في عَرَفَة هو الوقوف العرفي الذي تكون مقدّماته المشرفة على الوقوف محسوبة منه ، وعلى هذا تكون مقدّمات الوقوف المشتملة على الغسل والصلاة والخطبة والتهيّؤ للوقوف من الوقوف.

الحلّ الثاني : عدم وجوب دليل يثبت وجوب الوقوف ما بين الحدَّين ، بل ذكر ذلك بعض الفقهاء ، وأمّا الدليل الذي ذكر لنا حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فهو يدلّ على أنّ الوقوف يكون بعد الظهر بساعة - مثلاً - إلى غروب الشمس ، وهذا الحلّ الثاني هو الأوفق ، إذ أنّ الحلّ الأوّل وإن كان يثبت أنّ مقدّمات الوقوف من الوقوف إلاّ أنّه لم يثبت أنّ الوقوف كان في عرَفات.

قرائن على أنّ نَمِرة من عَرَفَات :

وإلى هنا كنّا نؤيّد القول القائل بأنّ نَمِرَة هي خارجة عن حدود عَرَفَات كما ذكرت ذلك الروايات ، ولكن هناك قولٌ آخر يبيِّن أنّ نَمِرَة من عَرَفَات لكنّها خارج موقف الدعاء وسنذكر بعض القرائن على ذلك :

1 - ما قاله في القاموس : « إنّها - أي نَمِرة - موضعٌ بعَرَفات ، أو الميل الذي عليه أقطاب الحَرَم » وحينئذ يكون المراد بُمضيّه الرواح إلى الموقف ميسرة الجبل الذي يستحبّ الوقوف به.

2 - إطلاق عَرَفات في بعض الأخبار على ما يشمل نَمِرَة - أيضاً - كما ورد في صحيح معاوية بن عمّار وأبي بصير جميعاً عن الإِمام الصادق علیه السلام ، حيث قال :

ص: 12

« وحدّ عَرَفَات من المأزمَين إلى أقصى الموقف » (1).

وهذا الحديث صريحٌ في أنّ ما بعد المأزمَين إلى أقصى الموقف اسمه عرفات ، ونَمِرَة داخلةٌ في عرفات ، حيث إنّها واقعةٌ على يمين مَن خرج مِن المأزمَين وأراد الموقف ، وعلى هذا فيكون إطلاق عرفات على ما بعد نَمِرَة في بعض الأخبار لأجل أفضليّة هذه القطعة ، أو لكونها محلاًّ للاعتراف بالذنوب ، لا أنّ عرفات هي هذه القطعة فقط.

3 - ما ذُكر من استحباب الجمع بين الصلاتَين بعَرَفَة ، قال في التذكرة : « ويجوز الجمع لكلّ مَن بعَرَفَة من مكّي وغيره ، وقد أجمع علماء الإسلام على أنّ الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعَرَفَة » (2).

وعلى هذا يظهر أنّ صلاة النبي صلی اللّه علیه و آله كانت بعَرَفَة ، ويشهد لهذا ما رُويَ في دعائم الإسلام عن الإمام الصادق علیه السلام عن عليّ علیه السلام : « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غدا يوم عَرَفَة من منى فصلّى الظهر بعَرَفَة ، لم يخرج من منى حتّى طلعت الشمس » (3).

كما يظهر من خبر جذاعة الأزدي معروفيّة إيقاع الصلاتَين بعَرَفَة في ذلك الزمان ، حيث قال : قلت للإمام الصادق علیه السلام : رجلٌ وقف بالموقف فأصابته دهشة الناس فبقي ينظر إلى الناس ولا يدعو حتّى أفاض الناس ، قال علیه السلام : « يجزيه وقوفه. ثمّ قال : أليس قد صلّى بعرفات الظهر والعصر وقنت ودعا ؟! قلت : بلى. قال علیه السلام : فعرفات كلّها موقف ، وما قرب من الجبل فهو أفضل » (4).

4 - لقد ذكر بعض الفقهاء : أنّ نَمِرَة من عَرَفَة ، فقد قال الصدوق في المقنع :

ص: 13


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 10 من أبواب الإحرام بالحجّ والوقوف بعرفة ، ح 8.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، للمحقّق صاحب الجواهر : ج 19 ، ص 23.
3- مستدرك الوسائل : ج 10 ، الباب 7 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 1.
4- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 16 من أبواب احرام الحج ، ح 2.

« ثم تلبّي وأنت مارٌّ إلى عرفات ، فإذا ارتقيت إلى عرفات فاضرب خباءَك بنَمِرَة ، فإنَّ فيها ضَرَب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خباءه وقبّته ، فإذا زالت الشمس يوم عَرَفَة فاقطع التلبية ، وعليك بالتهليل والتحميد والثناء على اللّه ... ثمّ قال : إيّاك أن تفيض منها قبل غروب الشمس ... ».

وقال ابن بابويه في الفقيه : « فإذا أتيت إلى عرفات فاضرب خباءَك بنَمِرَة قريباً من المسجد ، فإن ثمَّ ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خباءه وقبّته ... ».

وفي المقنعة : « ثمّ لِيُلَبّ وهو غاد إلى عرفات ، فإذا أتاها ضرب خباءه بنَمِرة قريباً من المسجد ، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ضرب قبّته هناك ... » (1).

وقد ذكر عن بعض الحنفيّة : أنّه قيل : حدّ عرفات ما بين الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة لعرنة ممّا يلي حوائط بني عامر وطريق الحضّ.

وعن الأزرقي : عن ابن عبّاس : أنّ حدّ عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة - بالنون - إلى جبال عرفات إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة.

وعن بعضهم : أنّ مقدّم مسجد إبراهيم علیه السلام أوّله ليس من عُرَنَة ، ومقتضاه أنّ ما عدا الأوّل من عرفات ، فيمكن أن تكون صلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيما كان منه من عرفات ، ويشهد لذلك ما يُحكى عنهم من الجواب لأبي يوسف ( عن إشكاله بمنافاة الصلاة للوقوف من أوّل الوقت إلى الزوال ) بأنّه لا منافاة ، فإنّ المصليّ واقف. وهذا كالصريح في كَون المسجد من عرفة. وقد تقدّم منّا عن الرافعي الجزم بذلك مع شدّة تحقيقه واطّلاعه (2).

أقول : إذا أخذنا بهذه القرائن على أنّ نَمِرَة التي فيها المسجد الذي يُقال عنه : إنّه مسجد إبراهيم ، وقُلنا : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد صلّى فيه الظهر والعصر جمعاً فيجب أن

ص: 14


1- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 20 و 23 - 24.
2- المصدر السابق : ص 26 ، 27.

نفسّر الروايات القائلة بذهاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الموقف بعد الصلاة بإرادة موقف الدعاء في ميسرة الجبل الذي يُستحبّ فيه الوقوف أو التشاغل بما يقتضيه من الدعاء والتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير لنفسه ولغيره ممّا جاءت به النصوص في ذلك الموقف.

والتحقيق : أنّ هذه القرائن كلّها لا تقف في وجه الروايات القائلة بأنّ الوقوف في نَمِرَة - التي هي بطن عرنة - لا يجزي.

ولا بأس بالتنبيه في آخر كلامنا عن نَمِرَة ، بأنّ في حدود عرفات يوجد جبل اسمه ( جبل نَمِرَة ) وهو غير قرية نَمِرَة التي هي بطن عرنة ، وإنّما عرّفه البلادي : « بأنّه جبلٌ صغير بارز تراه غربك وأنت واقفٌ بعرفة بينك وبينه سيل وادي عرنة ، وإذا كنت تؤمّ عرفة عن طريق ضبّ تمرّ بسفحه الشمالي » (1).

وهذا الجبل خارج عن حدود عرفة كما هو واضح.

2 - عُرَنَة :

عُرَنة : بضمّ العين المُهملة وفتح الراء المهملة وفتح النون - هي وادي ما بين عرفات والحرم عرضاً ، وهو حدّ عرفات من الناحية الغربيّة ، حيث يبتدئ من الجهة الشماليّة من مُلتقى وادي وصيق بوادي عُرَنَة ، وينتهي من الجهة الجنوبيّة عندما يُحاذي أوّل سفح الجبل الواقع بين طريق المأزمين وطريق ضبّ ، والذي بطرفه الشمالي قرية نَمِرَة من الجهة الشرقيّة غربيّ الواقف هناك وغربيّ سفح الجبال التي في منتهى عَرَفَة من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة بخطٍّ مستقيم ، وقد قُدِّرت المسافة بين وصيق بوادي عُرَنَة من الجهة الشماليّة إلى مُنتهاه من الجهة الجنوبيّة بخمسة آلاف متر (2).

وبين وادي عُرَنَة المذكور وبين الموقف عَلَمان كبيران يقعان شمالي شرقي

ص: 15


1- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 92.
2- جاء ذلك في قرار اللجنة الحكومية السعوديّة المنشور في مجلّة العرب السعودية : ج 5 ، السنة السادسة ، 1972 م ، من الصفحات 375 - 384 ، تحت عنوان : تحديد عرفات ، عن هداية الناسكين : ص 172.

مسجد إبراهيم ، وهما الحدّ الفاصل بين وادي عُرَنَة وبين عَرَفَة ، كما ذكر ذلك تقيّ الدين الفاسي في كتابه ( شفاء الغرام ) حيث قال : « وكانت ثمّة ثلاثة أعلام سقط أحدها ، وهو الذي إلى جهة المغمّس وأثره بيّن ، ورأيت عنده حجراً مُلقىً مكتوباً فيه : أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفّر الدين صاحب إربل حسان أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى أرض عَرَفَة ووادي عُرَنَة ، لا يجوز لحاجّ بيت اللّه العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس ، وفيه كان ذلك بتاريخ شعبان من شهور سنة ( 605 ه ) ، ورأيت مثل ذلك مكتوباً في حجر مُلقىً في أحد العَلَمين الباقيَين ، وفي هذَين العَلَمين مكتوب : أمَرَ بعمارة علَمَي عرفات ، وأضاف كاتب ذلك : هذا الأمر للمستظهر العبّاسي ، ثمّ قال : وذلك في شهر ... سنة أربع وثلاثين وستمائة » (1).

وقد تقدّم منّا ذكر الحديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في خبر إسحاق الذي يقول : « ارتفعوا عن وادي عرنة بعرفات » وهو يدلّ دلالة واضحة على أنّ عرنة ليس من موقف عرفة ، للأمر بالارتفاع عنه الذي لازمه النهي عن الإتيان بالوقوف به.

وبعبارة اُخرى : أنّ وادي عُرَنَة لمّا كان ملاصقاً لموقف عَرَفَة ، بل ومشابهاً له احتاج إلى أن يُنبَّه على عدم إجزاء الوقوف فيه والأمر بالوقوف حين الارتفاع عنه.

أقول : إنّ الأحاديث المتقدّمة التي ذكرت أنّ عُرَنَة ليست من عرفات قد شخّصت منذ قديم الزمان بأعلام تفصل بين عَرَفَة ووادي عُرَنَة ، وبهذا التحديد وبيان المصداق تخلّصنا من مشكلة التعيين التي لابدّ فيها من الرجوع إلى أهل الخبرة التي يضعف الاعتماد عليها كلّما تمادى الزمان.

إشكال في تعيين صُغرى عَرَفات :

قلنا فيما تقدّم : إنّ الروايات التي ذكرت بأنّ عُرَنَة ليست من عرفات قد

ص: 16


1- المصدر السابق.

شخّصها المتقدّمون علينا بزمن ليس بالقليل ، فقد ارتفع إشكال تحديد معنى عرفات من ناحية المصداق ، ولكن مع هذا بَقي إشكال واحد هو : إذا كانت عُرَنَة هي وادي بين عرفات والحرم عرضاً فينبغي أن يكون بانتهاء الوادي العرضي موقف عرفات ، ولكنّنا نرى الآن بين العَلَمينَ الذين وضَعَهُما ملك إربل في عام ( 605 ه ) وبين مجرى وادي عُرَنَة مسافة لا يقلّ عرضها عن مائة متر وهي مرتفعة عن وادي عُرَنَة ، فكيف لا تكون داخلة في موقف عرفة ؟!

الجواب : أنّه لابدّ من الرجوع إلى أهل الخبرة ، فقد ذكروا : أنّ مجرى وادي عُرَنَة آنذاك هو بداية وضع الأعلام ، ولكن بما أنّ سهول عَرَفَة كلّها رمال تنتقل فقد تراكمت الرمال في هذا الجانب من الوادي ، وقد ذكر القاطنون في تلك الأماكن بأنّ سيل الوادي قد يشتدّ في بعض الأحيان فيعلو على هذه الأتربة ويُزيلها (1).

وعلى هذا فيبقى أنّ حدّ عَرَفَة هو ما اُثبت بواسطة الأعلام منذ قديم الزمان ، وأنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبدّل ولا تتغيّر بتراكم الأتربة في أحد جانبيَ الوادي.

3 - ثَويَّة :

ثوية : بفتح الثاء وتشديد الياء :

لقد ذكر الطريحي في مجمع البحرين قول : « والثويّة : حدٌّ من حدود عَرَفَة ، وفي الحديث : ليست منها ».

وقد ذكر في كتاب المجاز بين اليمامة والحجاز ما نصّه : « عرفات : إذا ترك الطريق ثنية ( الجُليلة ) خلفه ووادي نعمان يساره دلف إلى منطقة عرفات مارّاً بجنوبيّها غربيّها » (2).

وقال البلادي في ( معجم معالم الحجاز ) معرّفاً الجُليلة - وهي بالتصغير وتشديد الياء المثنّاة - شِعْب يسيل من جبل ملحة فيصبّ في عرفة من الجنوب

ص: 17


1- هكذا جاء في قرار اللجنة الحكوميّة السعوديّة المنشور في مجلة العرب ، عن هداية الناسكين.
2- المجاز بين اليمامة والحجاز ، ابن خميس : ص 290.

الشرقي مجتمعاً مع الأحموم ، في رأسه ريع ( يعني ثنية ) بهذا الاسم يطلعك من عرفة على نعمان » (1).

وقد ذكر محقّق كتاب هداية الناسكين هذا الاستنتاج : « وهذا يعني أنَّ هذه الثنية أو الريع حد من حدود عَرَفَة ، وعليه فمن المظنون قويّاً أنّ كلمة ( ثنية ) دخلها تحريف النسخ فعادت ثَويَّة » (2).

أقول : إذا كانت ثويّة أو ثنية هي حدّ عَرَفَة من ناحية الجنوب الغربي فإنّ جنوب عَرَفَة جبالٌ ممتدّةٌ من المشرق إلى الجنوب ، وقد اخترق فيها قبل فترة طريقٌ للسيّارات الذاهبة إلى الطائف ، فما أدخله هذا الحدّ من حوائط ابن عامر وقرية عَرَفَة داخلٌ في عرفات.

وقد نقل الطبري في القرى نقلا عن البلخي في معرفة حائط بني عامر فقال : « حائط بني عامر غير عُرَنَة ، وبقربه المسجد الذي يجمع فيه الإمام الظهر والعصر ، وهو حائط نخل وفيه عين تُنسب إلى عبد اللّه بن عامر بن كريز ، قلت : وهي الآن خراب ». وقد شوهد أخيراً الآثار لتلك الحوائط من الجهة الجنوبيّة عندما كشفت الرياح من آثار المصانع والبرك الكبار والأساسات القويّة التي تشير إلى أنّه كان في الموضع المذكور قصورٌ وحوائط وجوابي واسعة تليق بمكانة هذا الرجل الشهير ، والذي قال ابن الأثير عنه : « إنّه أوّل مَن اتّخذ الحياض بَعَرَفَة وأجرى فيها العين » (3).

وقال ياقوت في ( معجم البلدان ) نقلا عن البشاري : « قرية عرفة : قرية فيها مزارع وخضر ومطابخ وبها دورٌ حسنة لأهل مكّة ينزلونها يوم عَرَفَة والموقف منها على صيحة » (4). فإذا كانت قرية عَرَفَة داخلةً في حدود عرفة فالمراد

ص: 18


1- معجم معالم الحجاز ، البلادي : ج 2 ، ص 166.
2- هداية الناسكين ، للدكتور الفضلي : ص 169.
3- راجع مجلّة العرب السعوديّة : ج 5 ، السنة السادسة : ص 375 - 384.
4- المصدر السابق.

من الموقف هنا هو الوقوف في سفح الجبل للدعاء الذي يكون مستحبّاً.

4 - ذو المجاز :

قال الأزرقي في أخبار مكّة : « وذو المجاز : سوقٌ لهُذيل عن يمين الموقف مِن عَرَفَة قريب كبكب على فرسخ من عَرَفَة » (1).

وقال حمد الجاسر : « يسمّى المجاز الآن ، وهو واد عظيم يحفّ كبكب من غربيّه ثمّ يمرّ بعرفات ، وفيه مياه ومزارع على المطر ، وسكّانه هذيل » (2).

وقد اختصره صاحب الجواهر بقوله : « وهو سوق كانت على فرسخ من عرفة بناحية كبكب » (3).

وفي الوافي : « وفي النهاية : ذو المجاز موضعٌ عند عرفات كان يُقام فيه سوقٌ من أسواق العرب في الجاهليّة ، والمجاز موضع الجواز والميم زائدة ، سمّي به لأنّ إجازة الحاج كان فيه » (4).

أقول : إذا كان ذو المجاز هو السوق فهو بعيدٌ من عرفات وليس حدّاً لها ، وإذا كان هو الوادي العظيم الذي يمرّ بعرفات فتكون إحدى جهاته حدّاً لعرفات ، وهي الجهة الملاصقة لعرفات منه ، ولمّا كان هذا الوادي شبيهٌ بعرفات نهى الشارع المقدّس عن الوقوف فيه.

5 - الأراك :

والمقصود به نعمان الأراك.

ص: 19


1- أخبار مكّة ، الأزرقي : ج 1 ، ص 191.
2- راجع المجاز بين اليمامة والحجاز ، لابن خميس : ص 284.
3- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 18.
4- كتاب الوافي للفيض الكاشاني : ج 13 ، ص 1021.

قال البلادي : « واد فحل من أودية الحجاز التهاميّة ... وينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثمّ يجتمع بعُرَنَة فيطلق عليه اسم عُرَنَة ، يمرّ بين جبلَي كُساب وحَبَشي جنوب مكّة على أحد عشر كيلا ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتّسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمّى خبت نعمان لفياحه وسعته » (1).

وقال الجاسر : « ونعمان : واد عظيم يقطعه القادم من الطائف إلى مكّة من طريق كرا إذا أقبل على عرفات ، وهو يحفّ جنوب عرفات ، فيه مزارع ومياه كثيرة » (2).

وقال في مجمع البحرين : « الأراك كسحاب شجر يُستاك بقضبانه ، له حمل كعناقيد العنب يملأ العنقود الكفّ ، والمراد به هنا موضعٌ بعرفة من ناحية الشام قرب نَمِرَة » (3).

أقول : يبدو - كما ذكرنا سابقاً - أنّ الأراك ليس من حدود عرفة ؛ لعدم ملاصقته للحدود ، وإنّما نُهي عن الوقوف فيه وصرّح بعدم الإجزاء ؛ لاحتمال الاشتباه في الوقوف فيه.

وقد ذكر الدكتور الفضلي : أنّ عين زبيدة الشهيرة تنبع منه (4).

والخلاصة : فعرفة من جهة الشمال الشرقي حدّها جبل سعد ( جبل عرفات ).

ومن جهة الشرق سلسلة جبال. وكذا من جهة الجنوب. ومن الغرب وادي عُرَنَة.

وعلى هذا فسيكون ذو المجاز - إذا لم يكن هو السوق - حدّها من جهة الشمال الغربي.

ص: 20


1- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 69.
2- انظر المجاز لابن خميس : ص 287.
3- مجمع البحرين للطريحي ، مادّة أرك.
4- هداية الناسكين : 169.

وأمّا الأراك فهو ليس حدّاً لعَرَفَة ، كما هو واضح.

وجوه الجبال المحيطة بعَرَفَات داخلة في الموقف :

قد يقال : إنّ الجبال المحيطة بعرفات بما أنّها حدّ لعرفات فهي خارجةٌ عن الحدود ، فلا يجوز الوقوف بها ، مثلها مثل الحدود التي ذكرت في الرواية لعرفة فإنّها خارجةٌ عن الحدود.

ولكن نقول : إنّ الروايات التي ذكرت حدود عَرَفَة مثل ( نَمِرَة وعُرَنة وثَويَّة وذي المجاز والأراك ) قد صرّحت بخروجها عن عَرَفَة ؛ للنهي الذي ورد في الوقوف بها أو الأمر بالاتّقاء.

أمّا الجبال المحيطة بعرَفَة فالمفهوم الارتكازي أنّ واجهاتها من عَرَفَة ، بالإضافة إلى وجود القرائن الكثيرة الدالّة على دخول واجهات الجبال في عرفة ، منها :

1 - موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : « سألت الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام عن الوقوف بعرفات فوق الجبل أحبّ إليك أم على الأرض ؟ فقال : على الأرض » (1).

وواضح أنّ فوق الجبل يكون محبوباً إليه ، إلاّ أنّ الأرض أحبّ إليه ، وهو معنى الجواز.

2 - صحيح معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثَويَّة ونَمِرَة إلى ذي المجاز ، وخلف الجبل موقف » (2). ومراده خلف الجبل الذي يكون وجهه إلى عرفات ، وهو يشمل كلّ ما يكون خلفه حتّى جهته التي تكون إلى عرفات.

ص: 21


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 10 من أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ، ح 5.
2- المصدر السابق ، ح 1.

3 - استحباب الوقوف في ميسرة الجبل : ومعنى ذلك - على أكثر تقدير - كراهة الوقوف على واجهة الجبل وهو معنى الجواز ، فقد روى معاوية بن عمّار في الصحيح عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قف في ميسرة الجبل ، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقف بعرفات في ميسرة الجبل ، فلمّا وقف جعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته فيقفون إلى جانبه ، فنحّاها ، ففعلوا مثل ذلك ، فقال : أيّها الناس ، إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف ، ولكن هذا كلّه موقف ، وأشار بيده إلى الموقف » (1).

4 - عدم وجود أيّ رواية ولو ضعيفة في النهي عن الصعود على واجهة الجبال ، سواء كانت في عَرَفَة أو المُزْدَلِفة أو منى ، وما ذاك إلاّ لأوضحيّة جواز الوقوف عليها ودخولها في الحدّ.

5 - ما قاله الماوردي عن الشافعي : « حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها ونواحيها وجبالها وسهولها وبطاحها وأوديتها ... إلخ » فإنّ هذا الكلام إذا ثبت تتمّ دليليّته بعدم الردع من قبل الإمام علیه السلام .

فتبيّن من هذه الأدلّة إجزاء الوقوف على واجهة الجبل المطلّة على عرفات أو منى أو مزدلفة على كراهيّة فيها.

ثانياً : حدود المزدلفة

اشارة

ويقال لها : جُمَع ( كما في بعض مناسك الحجّ ). ويقال لها : المشعر الحرام ، أو المشعر اختصاراً ، أخذاً بقوله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) ولكن يُطلق المشعر على نفس المسجد القائم في المزدلفة ، ويؤيّده العنديّة المذكورة في الآية ، كما يطلق على جبل قُزَح أيضاً ، فقد ورد استحباب وطئ

ص: 22


1- المصدر السابق : الباب 11 ، ح 1.

الصرورة المَشْعَر برجله.

فقد حُكي عن الشهيد الأوّل في الدروس : « والظاهر أنّه المسجد الموجود الآن » ، وورد استحباب الصعود على قُزَح ( بضمّ القاف وفتح الزاي المعجمة ) ، قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه : « هو المشعر الحرام ، وهو جبلٌ هناك يستحبّ الصعود عليه وذكر اللّه عليه » (1).

وعلى هذا الذي تقدّم يكون إطلاق المشعر على المزدلفة كلّها إطلاقاً مجازيّاً من باب تسمية الشيء باسم الجزء.

وأمّا جُمَع التي ضُبِطَت في بعض مناسك الحجّ بضمّ الجيم وفتح الميم ، فقد ضُبِطَت عند الجغرافيّين والبلدانيين وأهل اللغة والمعاجم ، بفتح الجيم وسكون الميم ، فقد قال الشريف الرضي :

اُحِبُّكَ ما أقامَ منى وجَمْع *** وما أرسى بمكّة أخشباها

وقد سمّيت بذلك لاجتماع الحجّاج فيها بعد الإفاضة من عرفات.

وأمّا تسميتها بالمزدلفة : وبدون أل على صيغة اسم الفاعل على زِنَة ( مُفْتَعِل ) فقد جاءت هذه التسمية من الازدلاف بمعنى التقدّم والإفاضة كما جاء في حديث معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق علیه السلام : « وإنّما سُمّيت مزدلفة لأنّهم ازدلفوا إليها من عرفات » (2). ومقتضى مفاد هذا الحديث أن يكون لفظها بصيغة اسم المفعول ( مزدلَفة ) بفتح اللام لأنّها اسم مكان.

وأمّا حدود المزلفة : فقد ذكرت الروايات حدود المزدلفة « بما بين المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسِّر » (3).

وفي صحيح زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « حدُّها ما بين المأزمين إلى

ص: 23


1- شرح اللمعة الدمشقيّة : ج 2 ، ص 276.
2- الوسائل : ج 10 ، الباب 4 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 5.
3- المصدر السابق ، ح 1.

الجبل إلى حياض محسِّر » (1).

وقال الصادق علیه السلام في خبر أبي بصير : « حدّ المزدلفة من وادي محسِّر إلى المأزمين » (2).

وفي خبر إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن علیه السلام : قال : « سألته عن حدّ جَمْع ؟ قال : ما بين المأزمين إلى وادي محسِّر » (3).

وفي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « ولا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة » (4).

شرح الحدود :

1 - المأزمان - بكسر الزاء وبالهمز ، ويجوز التخفيف بالقلب ألفاً - ، وهما جبلان بينهما مضيق يدلف إلى عرفات ، وهو حدّ المزدلفة من الشرق ، فقد ذكر الجوهري : « أنّ المأزم كلّ طريق ضيّق بين جبلَين ، ومنه سمّي الموضع الذي بين جمع وعرفة مأزمَين ».

وفي القاموس : « المأزم ، ويقال له : المأزمان مضيق بين جمع وعرفة ، وآخر بين مكّة ومنى ». وظاهرهما : أنّ المأزم اسمٌ لموضعٍ مخصوص وإن كان بلفظ التثنية.

2 - حياض مُحَسِّر ( وادي محسِّر ) : محسِّر - بضمّ الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة وتشديدها - على زِنَة اسم الفاعل.

قال البلادي : « محسِّر : واد صغير يمرّ بين منى ومزدلفة وليس منها ، يأخذ من سفوح ثبير إلى الأثبرة الشرقيّة ، ويدفع إلى عرفة مارّاً بالحسينيّة ، ليس به

ص: 24


1- المصدر السابق ، ح 2.
2- المصدر السابق ، ح 4.
3- المصدر السابق ، ح 5.
4- المصدر السابق ، ح 3.

زراعة ولا عمران ، والمعروف منه ما يمرّ فيه الحاجّ على طريق بين منى ومزدلفة ، وله علامات هناك منصوبة » (1).

وقال ابن خميس في مجازه : « ومحسِّر : واد يُقبل من الشمال إلى الجنوب من فج يفصل بين منى وجبالها وبين مزدلفة وجبالها ، وهو منخفض يسيل عليه ما والاه منهما ، وما يسيل من منى أكثر ، وعرض وادي محسِّر خمسمئة وأربعون ذراعاً » (2) ، أي ما يساوي (270) متراً تقريباً.

وذكر في وجه تسميته بمحسِّر من التحسير ، أي الإيقاع في الحسرة ، أو الإعياء ، سُمّي به لأنّه قيل : إنّ أبرهة أوقع أصحابه في الحسرة أو الإعياء لمّا جهدوا أن يتوجّه إلى الكعبة فلم يفعل » (3).

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الحياض هي وادي محسِّر ، لا أنّه مكانٌ آخرٌ من المزدلفة ، وأنّ الحياض جمع حوض وهو الوادي الذي قد يكون فيه مجموعة حياض ، وقد تقدّم من الروايات التعبير ( بحياض محسِّر ) فيكون التعبير بوادي محسِّر بعد كلمة « الحياض » في بعض الروايات لبيان معنى الحياض.

ووادي محسِّر هو حدود مزدلفة من ناحية الغرب ، فضفّة وادي محسِّر الشرقيّة هي الحدّ الفاصل بين مزدلفة ومنى.

أقول : هذا التحديد الذي ذُكر هو تحديد للمزدلفة من ناحية طولها.

أمّا تحديد مزدلفة العرضي فيوجد جبلان كبيران مطلاّن على المزدلفة : أحدهما من الجهة الشماليّة يقال له جبل المزدلفة ، والآخر من الجهة الجنوبيّة ، وقد ذكرتهما صحيحة زرارة المتقدّمة عن الإمام الباقر علیه السلام بقولها : « إلى الجبل » ، والمراد به جنس الجبل هناك فيشمل الشمال والجنوب.

ص: 25


1- معجم معالم الحجاز ، البلادي : ج 8 ، ص 42.
2- المجاز لابن خميس : ص 301.
3- جواهر الكلام : ج 19 ، ص 21.

إذن تبيّن أنّ ما بين حدَّي مزدلفة طولا وما بين حدَّيها عرضاً من الشعاب والهضاب والقلاع والروابي ووجوه الجبال كلّها تابعةٌ لمشعر مزدلفة وداخلةٌ في حدودها ، فعن الإمام الباقر علیه السلام قال : « ووقف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بجمع ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته ، فأهوى بيده وهو واقفٌ فقال : إنّي وقفت ، وكلّ هذا موقف » (1).

وعلى هذا التحديد لمزدلفة فلا يجوز الوقوف في المأزمَين وقبلها إلى عرفات ، ولا في وادي محسِّر وبعده إلى منى ، فإنّ هذه الحدود ليست من مزدلفة ، فلا يجزي الوقوف فيها ، وقد ورد في صحيح هشام بن الحكم عن الإمام الصادق علیه السلام قال في حديث : « ولا تجاوز وادي محسِّر حتّى تطلع الشمس » (2).

وصحيح الحلبي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال في حديث : « ولا تجاوز الحياض في ليلة المزدلفة » (3).

وقد جوّزت الروايات الارتفاع إلى المأزمَين الذي هو حدّ لمزدلفة خارجٌ عن المحدود عند الضرورة ؛ لازدحام الناس وضيق مزدلفة عليهم ، فقد روى سماعة في الموثّق قال ، قلت للإمام الصادق علیه السلام : « إذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ قال : يرتفعون إلى المأزمَين » (4).

ثالثاً : حدود مِنى

اشارة

منى : - بكسر الميم والتنوين - ، سُمّيت بذلك لما يُمنى فيها من الدماء.

ص: 26


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 7.
2- المصدر السابق ، الباب 15 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 2.
3- المصدر السابق ، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 3.
4- المصدر السابق ، الباب 9 من أبواب الوقوف بالمشعر ، ح 1.

وقيل : إنّها سُمّيت لما يُمنى فيها من الدعاء.

وقيل : لِما رُويَ عن ابن عبّاس : « أنّ جبرئيل علیه السلام لمّا أراد أن يُفارق آدم علیه السلام قال له : تَمَنَّ ، قال : أتَمنَّى الجنَّة ، فُسُمِّيت بذلك لاُمنيته » (1).

وقيل : « سميت منى لأنّ جبرئيل أتى إبراهيم علیه السلام فقال له : تمنَّ على ربِّك ما شئت ». فسُمِّيَت مِنى ، واصطلح عليها الناس ، وفي الحديث : « أنّ إبراهيم تمنّى هناك أن يجعل اللّه مكان ابنه كبشاً يأمره بذبحه فديةً له » (2). فأعطاه اللّه مُناه.

وقد اتّفقت الروايات على أنّ حدّ مِنى من جهة الطول من العقبة إلى وادي محسِّر ( على صيغة اسم الفاعل ) ، فقد ذكر في صحيح معاوية ، عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « حدّ منى من العقبة إلى وادي محسِّر » (3).

وجمرة العقبة هي حدّ منى من جهة مكّة ، ووادي محسِّر حدّها من جهة مزدلفة ، وهذا الحدّ قد ذكره المؤرّخون والجغرافيّون أيضاً.

فقد قال الأزرقي في أخبار مكّة بسنده عن ابن جريح : « قال : قُلت لعطاء ابن أبي رباح أين مِنى ؟ قال : من العقبة إلى محسِّر ، قال عطاء : فلا أحبّ أن ينزل أحد إلاّ فيما بين العقبة ومحسِّر ... » (4).

أقول : هذا الذي تقدّم هو حدّ لمِنى من ناحية الطول ، أمّا حدّها من ناحية العرض فهو ما بين الجبَلَين الكبيريَن بامتدادهما من العقبة حتّى وادي محسِّر ، وقد ذكر الفاسي في شفاء الغرام : « أنّ ما أقبل على مِنى من الجبال المحيطة بها من كِلا جانبَيها فهو منها ، وما أدبر من الجبال فليس منها » (5).

ص: 27


1- جواهر الكلام : ج 19 ، ص100.
2- راجع مجمع البحرين ، مادّة مِنى.
3- الوسائل : ج 10 ، الباب 6 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 3.
4- مجلّة العرب ، السنة الثامنة : ج 1 ، ص 78 - 80 ، عن هداية السالكين : ص 164.
5- المصدر السابق ، عن هداية السالكين : ص 163.

وقد قال النووي في المجموع : « واعلم أنّ منى شِعبٌ ممدودٌ بين جبلَينَ : أحدهما ثبير ، والآخر الصابح قال الأصحاب : ما أقبل على مِنى من الجبال فهو منها ، وما أدبر فليس منها » (1).

أقول : كأنَّ مِنى لا تحتاج إلى أن تحدّد من ناحية العرض ؛ لوجود هذَين الجبلَين الكبيرين المفروض أنّهما حدٌّ للمنطقة ، فكأنّ السؤال في الروايات عن حدٍّ خاصٍّ من ناحية مكّة ومزدلفة فذكرته الروايات.

العقبة هل هي من مِنى ؟

الجواب : بقرينة اتّفاقهم على أنّ ( محسِّراً ) ليس من مِنى ، وإنّما هو حدّ لها فكذلك العقبة ، لاقترانها هي الأُخرى بأداة التحديد وهي ( من ) ، ولكن حكى عن بعض الفقهاء : أنّ العقبة من مِنى وليست حدّاً لها.

وسُمّيت بالعقبة لأنّها مدخل مِنى من الغرب ، وسُمّيت الجمرة هنا بجمرة العقبة.

مشكلة الذبح :

وعلى ما تقدّم من حدود مِنى تواجهنا مشكلة حاليّة بناءً على ما اتّفقت عليه الإماميّة من وجوب الذبح في مِنى ، لأنّ المذبح الذي أوجدته الحكومة السعودية يكون خارج مِنى حسب العلامات التي نصبت هناك ، وتمنع الحكومة الذبح في غير هذه الأماكن التي أعدّتها للذبح حتّى في الأيّام الأُخرى بعد يوم النحر وأيّام التشريق ، فهل من مخرج لهذه المشكلة العويصة ؟

وتشتدّ هذه المشكلة على الناس فيما إذا علمنا أنّ الذبح خارج مِنى لا يجزي ، إذ ليس المورد من موارد التقيّة ، فإنّ مورد التقيّة فيما إذا كان المكلّف غير معروف المذهب ، فلا يعمل بما هو الحقّ عنده خوفاً من الظالم ، والواقع القائم الآن بخلافه

ص: 28


1- المصدر السابق ، عن هداية السالكين : ص 164.

تماماً ، لأنّ المكلّف معروف المذهب ، ومعلوم أنّه لا يعتقد صحّة الذبح خارج مِنى ، وأنّه يريد الذبح في مِنى ، إلاّ أنّ المنع الحكومي الناشئ من أنّ من يخالف ويشقّ عصا طاعة وليّ الأمر لا يجوز إقراره على مخالفته من أيِّ مذهب كان.

وعلى هذا يكون المورد إذا كان هناك إجبار على الذبح في المسلخ على المكلفّ من باب ارتكاب أخفّ المحظورَين وأقلّ الضررَين ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ، ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، فهو من باب قوله علیه السلام : « لَئِن أفطر يوماً ثمّ أقضيه أحبّ إليَّ من أن تضرب عنقي » ، وأمّا إذا لم يكن إجبارٌ على الذبح وذَبَحَ خارج مِنى فهو لا يجزي أيضاً.

وعلى هذا فيجب القضاء على المكلف لهذا النسك إذا تمكّن بعد ذلك في بقيّة أيّام ذي الحجة ، أو أن يخلف ثمنه عند عدل ليشتري له هدْياً ويذبحه في شهر ذي الحجّة.

فهل توجد طريقة للتخلّص من هذه المشكلة وتقول بالاكتفاء بالذبح في المذبح الحالي الذي هو خارج مِنى ؟

الجواب : توجد عندنا روايات معتبرة تقول : إذا ازدحمت مِنى بالناس ارتفعت إلى وادي محسِّر ، فيكون وادي محسِّر حكمه حكم مِنى ، وحينئذ يكون الذبح في المذبح الحالي مجزياً.

ففي معتبرة سماعة قال : « قلت للصادق علیه السلام : إذا كثر الناس بمِنى وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ فقال : يرتفعون إلى وادي محسِّر ... » (1).

فهل يمكن الاكتفاء بهذه الرواية للذبح خارج الحدّ والوقوف كذلك ؟

إذا كان الجواب بالإيجاب فتنحلّ مشكلة مهمّة.

خلاصة لكلّ البحث :

الخلاصة هي : أنّ نَمِرَة - التي هي بطن عُرَنَة - هل من عرفات أو لا ؟ وكذا مسجد

ص: 29


1- الوسائل : ج 10 ، الباب 11 من أبواب إحرام الحجّ ، ح 4.

إبراهيم القديم الذي يكون في نَمِرَة ؟

فإن قلنا : إنّها خارجةٌ من عرفات - كما هو ظاهر الروايات التي شرحت لنا حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكذا بقيّة الروايات التي أخرجت نَمِرَة عن حدود عرفات - تواجهنا مشكلة أنّ الوقوف في عُرَنَة ليس من الزوال إلى الغروب.

وإن قلنا : إنّ نَمِرَة من عرفات - كما هو رأي يقال - تخلّصنا من هذه المشكلة ، ولكن تبقى مشكلة ثانية ، وهي مخالفة ظاهر الروايات ، بل صريح بعضها ، وأقوال أهل الخبرة الذين حدّدوا عرفات بإخراج نَمِرَة من عرفات ؛ لأنّها بطن وادي عُرَنَة ، وهذا الوادي كلُّه حدّ عرفات من جهة الغرب ، وقد صرّحت الروايات بالارتفاع عنه.

أقول : ألا نحتمل وجود منطقة في داخل عرفات كانت تسمّى نَمِرَة قد صلّى النبي صلی اللّه علیه و آله فيها ووضع رحله ؟ وأمّا قرية نَمِرَة التي هي بطن عُرَنَة فهي خارجةٌ عن حدّ عرفات ، فإن ثبت ذلك انحلّت مشكلة عدم وجوب الوقوف من أوّل الزوال إلى الغروب في عُرَنَة. ويكون حكاية حجّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مطابقة لوجوب الوقوف في عرفة من أوّل الزوال إلى الغروب ، وأمّا الموقف الذي يُذكر في الروايات فالمراد به الوقوف في سفح الجبل الذي يستحبّ فيه الدعاء والوقوف.

وإن لم يثبت ذلك فلابدّ من القول بعدم وجوب الوقوف من الزوال إلى الغروب ، بل الواجب هو الوقوف بعد الظهر بساعة إلى الغروب.

وأمّا بالنسبة للمزدلفة فلا يوجد خلاف في حدودها ، وقد وقع تعيين هذه الحدود طبقاً لما قرّره الشارع المقدّس بين المأزمين ووادي محسِّر ، وأمّا التحديد العرضي فهو الجبلان المطلاّن عليها من الجبهة الشماليّة والجنوبيّة.

وأمّا مِنى فأيضاً لا يوجد خلاف في حدّها الذي هو من وادي محسِّر إلى العقبة طولا وما بين الجبلين المطلّين عليها عرضاً ، وقد تعرّضنا لمشكلة الذبح التي هي مشكلة معاصرة ؛ لوجود المذابح خارج مِنى ، والحكومة السعودية تمنع من الذبح في مِنى ، وأوجدنا حلاًّ قد يكون مقبولاً من الناحية الفنّيّة.

ص: 30

أدنی الحل

اشارة

ص: 31

ص: 32

إنّ المقصود بأدنى الحِلِّ : هو أقرب الأماكن الى حدود الحرم من خارج الحدود ؛ ولهذا تعرف المنطقة التي تقع داخل حدود الحرم ب ( الحرم ) ، لما لها من أحكام خاصة تقديساً لمكّة.

وتعرف المنطقة التي تقع خارج الحدود ب ( الحِلّ ) ؛ لأنّ اللّه تعالى حلّل فيها ممارسة ما حرّم داخل الحدود.

وقد انعكس ذكر ( الحلّ والحرم ) في الشعر العربي ، كما ورد في قول الفرزدق مادحاً الإمام علي بن الحسين ( زين العابدين ) علیه السلام :

هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفه والحلّ والحرمُ

وقد جعل الشارع المقدّس أدنى الحِلِّ ميقاتاً للعمرة المفردة على نحو الرخصة بالتفصيل الآتي :

لقد ذكر الفقهاء ( رضوان اللّه عليهم ) : أنّ القارن أو المفرِد أو المتمتّع بعد إتمام حجّة التمتع ، أو مَنْ كان بمكّة ليس بحاجٍّ ، أو مَنْ تعدَّى المواقيت - التي وقَّتَها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للإحرام وأراد الدخول الى مكّة - إذا أراد إتيان العمرة المفردة فميقاته أدنى الحِلّ بلا خلاف في ذلك.

ومعنى ذلك : هو أن يخرج المعتمر - مثلاً - الى خارج حدود الحرم المحدّد في الروايات بأنّه : « بريد في بريد » فيحرم منه.

وقد ذكر الفقهاء استحباب أن يحرم المعتمر من الجعرانة أو الحديبيّة أو

ص: 33

التنعيم ، للتصريح بها في الروايات ، وللتأسّي ، فمن الروايات :

1 - ما عن معاوية بن عمار في الصحيح عن الإمام الصّادق علیه السلام قال : « اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث عمر متفرقات : عمرة ذي القعدة ، أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية ، وعمرةٌ أهلَّ من الجحفة وهي عمرة القضاء ، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين » (1).

وقد نقل عن طريق أبناء السنّة ، عن ابن عباس : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله اعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة ، والرابعة التي مع حجّته » (2).

أقول : وظاهر الروايتين جواز الإحرام من عسفان ، وهو يبعد عن مكّة مرحلتين ( 48 كيلومتراً ) تقريباً ، وهو ليس ميقاتاً ، وليس من أدنى الحِلّ.

ولكن الإمام الخوئي رحمه اللّه ذكر ما يلي : « أنّ الذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين ، وإنّما عبّر في الصحيحة المتقدمة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها ، ولكنّ المشركين منعوه من الدخول الى مكّة ، فرجع صلی اللّه علیه و آله بعد ما صالحهم في الحديبية ، واعتمر في السنة اللاحقة قضاءً عما فات عنه صلی اللّه علیه و آله وعن أصحابه ، فسُمّيت بعمرة القضاء ، كما صرّح بذلك في صحيحة أبان ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة » (3).

وفي صحيحة صفوان أنه صلی اللّه علیه و آله أحرم من الجعرانة (4).

ص: 34


1- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 2.
2- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 6.
3- وسائل الشيعة : ج 10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح 3.
4- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 9 من أقسام الحجّ ، ح 6.

فالذي يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ، ورفع صوته بالتلبية من عسفان ( وهو معنى أهلّ ) وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول الى مكة وصالحهم في الحديبيّة ، ورجع من دون إتيان مناسك العمرة ، ثم في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة ، وأهلّ ورفع صوته بالتلبية من الجحفة فسُميت بعمرة القضاء ، وأمّا الجعرانة فالظاهر من الصحيحة أنه صلی اللّه علیه و آله أحرم منها لظهور قوله : « وعمرة الجعرانة » في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة ، لا أنه أحرم قبل ذلك ورفع صوته بالتلبية من الجعرانة ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان المتقدمة. فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبي صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، كما يجوز الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولكن يختص ذلك بمن بدى له العمرة في الأثناء » (1).

أقول : وعلى هذا الذي تقدم فستكون هذه الرواية دليلا على جواز الإحرام من الجعرانة ، التي هي أقرب الحلِّ الى الحرم فقط.

2 - ما عن جميل بن دراج في الصحيح ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ؟ قال علیه السلام : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة » (2).

وكان صُنْعُ عائشة ، كما ذكره ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب معاوية بن عمار ، فقال :

« ... إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نزلها - البطحاء - حين بعث عائشة مع أخيها عبد الرحمان إلى التنعيم ، فاعتمرت لمكان العلّة التي أصابتها ؛ لأنّها قالت

ص: 35


1- مستند العروة الوثقى : ج 2 ، ص391 - 392 ، كتاب الحج ، تقريرات الإمام الخوئي ، بقلم السيد رضا الخلخالي.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 21 من أقسام الحجّ ، ح 2.

لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً ، وأرجع بحجّة ؟ فأرسل بها عند ذلك ... » (1).

3 - روى ابن بابويه في الصحيح ، عن عمر بن يزيد ، عن الإمام الصّادق علیه السلام : « مَنْ أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر فليعتمر من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما » (2).

وهذه الرواية تشمل جميع مواضع الحرم لقوله علیه السلام : « أو ما أشبههما » ، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحجّ أم لا ، فحينئذ لا ينبغي الريب في هذا الحكم.

أقول : تبيّن من هذه الروايات : أنّ ثلاثة مواقيت قد فضِّلت في إحرام العمرة المفردة على بقية نقاط أدنى الحِلّ ، وهي :

1 - الحديبية. 2 - الجعرانة. 3 - التنعيم.

أمّا الجحفة فهي ميقات أبعد من أدنى الحِلّ بكثير ، يمرّ بها - الآن - حجّاج البحر القادمون عن طريق ميناء ينبع من مصر وغيرها ، وحجّاج البّر القادمون من الأردن عن طريق العقبة. وقد رأينا أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أهلَّ منها ، وكذا عسفان التي تبعد عن مكة مرحلتين.

ولا بأس بالإشارة الى أنَّ هذه المواقيت الثلاثة هي رخصة لا عزيمة ، كما ذكر ذلك صريحاً شيخ الطائفة وصاحب الجواهر 0 (3).

وبهذا يكون من الجائز الخروج الى أحد المواقيت كالجحفة ويلملم والعقيق وغيرها للإحرام منها ، وذلك للروايات الدالة على أنَّ هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها ، فقد روى صفوان بن يحيى في الصحيح عن الإمام أبي

ص: 36


1- المصدر السابق ، باب 3 من أقسام الحج ، ح 4.
2- المصدر السابق ، باب 22 من المواقيت ، ح 1.
3- جواهر الكلام : ج 18 ، ص 119.

الحسن الرضا علیه السلام فكتب : « ... أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقَّت المواقيت لأهلها ، ومن أتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا تجاوز الميقات إلاّ من علّة » (1).

والذي نريد أن نبحثه الآن هو تفصيل المواقيت الثلاثة ، وهي : ( الحديبية ، الجعرانة ، التنعيم ) ، وما أشكل على موضع التنعيم من كونه أبعد من موضعه الحالي والجواب عنه ، فنقول :

1 - الحديبية

اشارة

الحديبية : - بضمّ الحاء المهملة ، ففتح الدال المهملة ، ثمّ ياء مثنّاة تحتانية ساكنة ، ثمّ باء موحّدة ، ثم ياء مثنّاة تحتانية ، ثمّ تاء التأنيث - هي في الأصل اسم بئر خارج الحرم على طريق جدّة عند مسجد الشجرة ، التي كانت عندها بيعة الرضوان ، التي نزل فيها القرآن : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... ) (2).

وقال الخطّابي في أماليه : سُمّيت بالحديبية لشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع ، وبين الحديبية ومكة مرحلة وفي الحديث : « إنّها بئر ». وبعض الحديبية في الحِلّ وبعضها في الحرم وهو أبعد الحلّ من البيت ... وعند مالك بن أنس انها جميعها من الحرم (3).

ضبط الكلمة :

لقد استعملت الياء المثناة المفتوحة بالتخفيف والتشديد.

ص: 37


1- وسائل الشيعة ، 8 : باب 15 من ابواب المواقيت ، ح 1.
2- الفتح : 18.
3- معجم معالم الحجاز لعاتق بن غيث البلادي : ج 2 ، ص 246 - 247.

وفي كشف اللثام : قال السهيلي : « والتخفيف أعرف عند أهل العربية ، وقال أحمد بن يحيى : لا يجوز فيها غيرُه وكذا عن الشافعي ». وقال أبو جعفر النحاس : « سألت كل من لقيت ممن أثق بعلميته من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. وقيل : إنَّ التثقيل لم يُسمع من فصيح » (1).

وقال في الحدائق الناضرة : « قال ابن ادريس في السرائر : الحديبية اسم بئر خارج الحرم يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العطار النوهي ؟ فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد » (2).

وفي تهذيب الأسماء عن مطالع الأنوار : « ضبطناها بالتخفيف عن المتقنين ، وأمّا عامّة الفقهاء والمحدّثين فيشدّدونها » (3).

وتعرف منطقة الحديبية - اليوم - ب « الشميسي » بالتصغير ، وتقع غربي مكة المكرمة في الحِلّ على طريق مكة جدة القديم ، بينها وبين علمي الحرم المكي مسافة قليلة ، وبين العلمين ومكة حوالي اثنين وعشرين كيلو متراً.

2 - الجعرانة

اشارة

ضبطها : « بكسر الجيم وإسكان العين المهملة وتشديد الراء المهملة المفتوحة » كما عن الجمهرة. وعن الأصمعي والشافعي : « بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء. قيل : العراقيون يثقّلونه ، والحجازيون يخفّفونه » وحكي عن ابن ادريس : بفتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضاً ، فالراء فيها تخفف وتشدّد

ص: 38


1- كشف اللثام.
2- الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني : ج 14 ، ص 455 - ص 456.
3- عن كتاب الحج ، تقريرات آية اللّه العظمى السيد الشاهرودي : ج 2 ، ص 294.

لاستعمالين موثقين.

وهي موضع بين مكّة والطائف من الحِلِّ ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلاً على ما ذكره الباجي ، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة ، وفيها علما الحدّ ، ومنها أحرم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات ، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لذلك ، ولوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى. وبالقرب من مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله بئر واسعة عذب ماؤها. وهي اليوم قرية صغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً ، وفيها المسجد الذي أقامته الحكومة السعودية محرماً ، شرقي أرض المسجد القديم دونما فصل بينهما .. (1) ولكن مؤلف معجم معالم الحجاز ذكر عن الجعرانة : « ومن قال : إنها - الجعرانة - بين مكة والطائف فقد أخطأ ، فهي شمال مكة ، مع ميل إلى الشرق ولا لزوم في ذكر الطائف في تحديدها أبداً ، إذ هي لا تبعد عن مكة بأزيد من (29) كيلو متراً » (2).

الجعرانة وموقعها الجغرافي :

ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكّة التاريخية : أنَّ « جبل الستار يقع قُرب الجعرانة من الجنوب ، وهو الجبل الذي يُشرف على علميْ طريق نجد من الشمال ، والذاهب من مكة الى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب ، والجعرانة - اليوم - قرية صغيرة في صدر وادي سَرِف » (3).

ص: 39


1- هداية الناسكين : ص 89 ، تحقيق الدكتور عبد الهادي الفضلي.
2- معجم معالم الحجاز ( عاتق بن غيث البلادي ) : ج 2 ، ص 148 - 149.
3- مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص 15.

3 - التنعيم

اشارة

التنعيم : - بفتح التاء الفوقانية المثناة - « بلفظ المصدر ، سُمي به موضع على ثلاثة أميال من مكة أو أربعة ... به مسجد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ومسجد الإمام زين العابدين علیه السلام ومسجد اُمّ المؤمنين عائشة ، وسمي بالتنعيم لأنّ جبلا اسمه نعيم يقع عن يمينه ، وعن شماله يقع جبل آخر اسمه ناعم ، واسم الوادي نعمان ، وهو أقرب أطراف الحِلّ الى مكة ، كما هو واضح الآن » (1).

والتنعيم يقع في الشمال الغربي لمكّة المكرّمة ، بينها وبين سَرِف - الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - على طريق مكة المدينة المارِّ بوادي فاطمة ( المعروف قديماً بمرِّ الظهران ).

وقد ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكة التاريخيّة موقع التنعيم فقال : « واد ينحدر شمالا بين جبال بشم شرقاً ، وجبل الشهيد جنوباً ، فيصب في وادي ياج وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكّيّين ، وتسمى عمرته : عمرة التنعيم ، أي مكان الاعتمار ؛ وذلك تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة ، وكان يسمى نعمان ، قال محمد بن عبد اللّه النميري :

فلم تر عيني مثل سرب رأيتهُ *** خرجنَ من التنعيم معتمرات

مررنَ بفخٍّ ثمّ رُحْنَ عشية *** يلبين للرحمن مؤتجرات

تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت *** به زينبٌ في نسوةٍ عطرات (2)

وقد ذكر في المختصر المتقدّم : « وقد توهّم البعض أنّ نعمان الوارد هنا هو

ص: 40


1- كتاب الحج للسيد آية اللّه العظمى الشاهرودي : ج 2 ، ص 295 بتصرّف. أقول : سيأتي أنّ جبل نعيم جنوب شرق التنعيم ( مسجد العمرة ) وجبل ناعم يكون من ناحية الشرق.
2- مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص 9 - 10.

نعمان الأراك وهذا خطأ ، إذ أنّ من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك » (1).

أقول : لا ينبغي الريب في أن نعمان الذي يكون بعد الاعتمار من مسجد التنعيم لا ارتباط له بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات ، وذلك لأنَّ التنعيم يقع شمال غربي مكّة ، فالمعتمر منه الذي يريد مكة لا يمرّ بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات (2) ، والذي حدده البلادي بأنه « واد فحل من أودية الحجاز التهامية ... ينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثم يجتمع بعُرنة فيطلق عليه اسم عُرَنة ، يمرّ بين جبلي كُساب وحَبَشي جنوب مكة على أحد عشر كيلو متراً ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمى خبت نعمان لفياحه وسعته » (3).

ثمّ إنّه يُعرف موضع الإحرام من التنعيم اليوم ب « العمرة » ، وفيه مسجد يعرف ب « مسجد عائشة » نسبة الى أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأنَّ أخاها عبد الرحمان أحرم بها للعمرة من التنعيم امتثالا لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عندما أمره بذلك ، كما ذكرت ذلك الرواية المتقدّمة ، وقد شيّدت الحكومة السعودية مسجداً جنوبي علمي الحرم المكّي ، الماثلين حالياً ، وقريباً من موقع المسجد ، الذي كان قبله في هذا الموضع ، وقد أصبح المكان اليوم حيّاً من أحياء مكّة السكنيّة يُعرف بحيّ العمرة ، يبعد عن المسجد الحرام أو مكّة القديمة (6) كيلومترات.

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي :

هذا وقد وجدت كلمات لبعض المؤرخين الجغرافيين تلمح الى أن التنعيم

ص: 41


1- المصدر السابق.
2- ومعلوم أنّ عرفات تقع شرقي مكّة.
3- معجم معالم الحجاز : ج 9 ، ص 69.

الذي هو موضع الإحرام هو في غير الموضع المعروف حاليّاً بالعمرة ، واليك بعض الكلمات في ذلك :

1 - قال أبو إسحاق الحربي الخراساني ( ت 285 ) في كتابه المناسك ص 467 : « والتنعيم وراء القبر ( قبر ميمونة ) بثلاثة أميال قبل مسجد عائشة ، وهو موضع الشجرة ، وفيه مسجد وأبيات ، ومنه يحرم مَنْ أراد أن يحرم ».

والشجرة التي أشار اليها هي شجرة هليلجة كانت في المسجد المعروف بمسجد الهليلجة ثمّ سقطت.

وهذا الكلام يتنافى مع ما هو واقع اليوم ، من أن التنعيم بين مكة وسَرِف الذي فيه قبر ميمونة ، ويتنافى مع كون التنعيم هو مسجد عائشة التي أحرمت منه بأمر الرسول الكريم حيث يقول المؤرخ : « بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وقبل مسجد عائشة ».

ثم قال أبو اسحاق الحربي الخراساني : « عن مالك بن دينار ، عن القاسم ، عن عائشة : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعمرها من التنعيم ، ثم مسجد عائشة بعده بنحو ميلين دون مكة بأربعة أميال ».

وهذا الكلام - أيضاً - يغاير ما هو المعروف اليوم من أن المسافة الى علمي التنعيم القائميْن حالياً لا يزيد على ستة كيلومترات أي أربعة أميال.

2 - وجاء في كتاب وفاء الوفاء للسمهودي ( ت 911 ه ) : « قال الأسدي : والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وهو موضع الشجرة وفيه مسجدٌ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفيه آبار ، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر ، ثمّ قال : ميقات أهل مكّة بالإحرام مسجد عائشة ، وهو بعد الشجرة بميلين ، وهو دون مكة بأربعة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة ».

وهذا النص - أيضاً - يصرِّح بأن التنعيم الذي يحرم منه للعمرة ليس هو ما يكون ماثلاً اليوم ، إذ يكون التنعيم بعد قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة.

ص: 42

3 - وقال أحمد بن عبدالحميد العباسي - من مؤرخي القرن العاشر الهجري - في كتابه عمدة الأخبار ص 144 : « والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ».

4 - وقال المقدم عاتق بن غيث البلادي - مؤرخ الحجاز المعاصر - في كتابه على طريق الهجرة ص 10 : « ويقال : إنَّ العمرة كانت في هذا المكان ( يعني عند قبر ميمونة ) وإنّ المكيّين يعتقدون أنه حدود الحرم ، ثمّ غيّرت العمرة عندما اختلَّ الأمن خوفاً على الحجَّاج والمعتمرين ».

أقول : إنّ هذه النصوص المتقدمة كلها قد اتفقت على أن التنعيم الذي اُجيز للمعتمر أن يحرم منه هو : إمّا أن يكون عند قبر ميمونة كما في النص الأخير ، وإمّا أن يكون أبعد منه بثلاثة أميال أو ميلين ، وبهذا تكون هذه النصوص قد خالفت موقع مسجد التنعيم اليوم من كونه بين مكة وسَرِف - الذي فيه قبر ميمونة - الذي يبعد عن المسجد أو مكة القديمة ستة كيلومترات تقريباً.

وهناك نصوص اُخرى صرحت بأنّ التنعيم هو أبعد من أدنى الحلِّ الى مكة بقليل ، منها :

1 - ما ذكره المحب الطبري المكي ( ت 694 ه ) فيما حكاه عنه محقق أخبار مكة للأزرقي رشدي ملحِسي بهامش الكتاب المذكور ، 2 : 130 : والتنعيم « أبعد من أدنى الحلِّ بقليل وليس بطرف الحلِّ ».

2 - وقال أبو الطيب الفاسي المكي في شفاء الغرام ، 1 : 289 : « الثاني التنعيم المذكور في حدِّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة ، وهو أمام أدنى الحلِّ كما ذكره المحب الطبري ، قال : « وليس بطرف الحلِّ » ومَنْ فسّره بذلك تجوَّز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه ، وأدنى الحلِّ إنما هو من جهته ، وليس موضع في الحلِّ أقرب إلى الحرم منه ، وهو على ثلاثة أميال من مكّة ، والتنعيم أمامه قليلا ».

وهناك نص ثالث يقول : بأنَّ التنعيم يبعد عن مكّة فرسخين ، فقد قال الفاسي : « وقال صاحب المطالع : والتنعيم من الحلّ بين مكة وسَرِف على فرسخين من مكّة ، وقيل : على أربعة أميال ».

ص: 43

موقع فخ :

ومما يزيد في التشكيك موقع فخ الذي يقع غربي مكة ، على طريق مكة - التنعيم - المدينة ، وبينه وبين مكة ثلاثة أميال أي حوالي ستة كيلومترات.

وفخّ - بفتح الفاء الموحدة فتشديد الخاء المعجمة - بئر معروف على نحو فرسخ من مكة كما قيل ، وفي القاموس : « موضع بمكّة دفن فيه ابن عمر ». وفي نهاية ابن الأثير : « موضع عند مكة ، وقيل : واد دفن فيه عبد اللّه بن عمر ». وفي السرائر لابن إدريس الحلّي : « أنّه موضع على رأس فرسخ من مكّة ، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين علیهماالسلام على ما حكاه صاحب كشف اللثام.

وعلى كلّ حال فإنَّ الموقع واضح ، وهذه المعرِّفات قد تكون كلها صحيحة ، فهو واد دفن فيه ابن عمر وفيه بئر ، وقد وقعت فيه معركة فخّ التي ذكروا بأنَّها من الشدّة بحيث لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجعَ من فخّ (1).

ص: 44


1- ومنطقة فخ الآن فيها حيّان من أحياء مكة هما : « حيّ الزاهر » و « حيّ الشهداء » نسبةً الى شهداء فخ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وأنصاره رضوان اللّه عليهم ). و في فخ مقبرة معروفة تُعرف بمقبرة المهاجرين ، كان يدفن فيها كلّ مَنْ جاور مكة منهم، ولا تزال موجودة معروفة حتى الآن. أما موضع شهداء فخ فلا أثر له الآن، يقول السباعي في تاريخ مكة : 89: «في هذا المكان - يعني فخاً - تقرر مصير العلويين حيث قتل الحسين بن علي وهو محرم، بعد أن أبلى بلاء شديداً ، وقتل معه أكثر من مائة من أصحابه ، وكانت قبورهم معروفة هناك ، ويُشرف قبر زعيمهم الحسين على ربوة في الوادي. وجاء في معجم معالم الحجاز ، 7: 19 ما نصه : «حكى شاهد عيان أنه كان في أواخر الستينات من هذا القرن الرابع عشر الهجري حدث أثناء حفر أساس قصر بالشهداء أن بدت يد إنسانٍ طريّة عارية من تحت الأرض، فحفروا عنها فإذا هي مطبقة على صدر إنسان فجذبوها ، فإذا الدم يندفع من موضعها ، فتركوها ، فاذا هي ترتدّ بسرعة الى مكان النزيف فتوقفه ».

وفخّ قد اختلف فقهاء الإماميّة في كونها ميقاتاً للصبيان على قولين :

الأوّل : ذهب جمع من فقهاء الإماميّة ( رضوان اللّه عليهم ) الى كون فخ ميقاتاً للصبيان ، بمعنى جواز تأخير إحرامهم الى هذا المكان من دون تعيّن ذلك عليهم ، واستدلوا لذلك بصحيح أيوب بن الحر ، قال : « سُئل الإمام الصادق علیه السلام عن الصبيان من أين يجرّد الصبيان ؟ قال علیه السلام : كان أبي يجرّدهم من فخ » (1).

هذا إذا مرّوا من طريق المدينة ، أمّا إذا مرّوا من طريق آخر فيحرمون من الميقات الذي مرّوا عليه ، فقد ذكر جماعة : أن في الرواية كناية عن جواز إحرامهم من فخ. بل ربما نسب الى الأكثر ، بل في الروضة يظهر من آخر عدم الخلاف فيه.

الثاني : ذهب آخرون الى أن إحرام الصبيان من الميقات ، ولكن رُخّص لهم في لبس المخيط الى فخ ، فإذا وصلوا الى فخ جرّدوا منه ، استناداً الى ظاهر الصحيح المتقدم في حمله على الحقيقة ، وظاهر الروايات المقتضية لزوم الإحرام من الميقات.

وإذا كان إحرام الصبيان من الميقات مطلقاً في حجّ أو عمرة ، وكان مطلقا حتى لمن كان من أهل مكة وأراد العمرة المفردة - كما هو ظاهر إطلاقهم ذلك - فحينئذ على القول الثاني يكون إحرام المعتمر من التنعيم الحالي البالغ بعده ستة كيلومترات ، مع أن الصبي يحرم من الميقات ، ولكن يجرّد من فخّ الذي يبعد ستة كيلومترات أيضاً ، وهذا فيه بعدٌ عرفيّ واضح يكون الصبي في هذا الحكم أشد حالا من البالغ ، أمّا بالنسبة إلى القول الأول فإنّ الصبي والبالغ في هذا الحكم سيّان ، مع أن العرف يرى لابدّية أن يكون إحرام الصبي أسهلَ من البالغ إذا أردنا الإرفاق به (2).

ولنا في الجواب على هذا التشكيك عدّة مسالك نستعرضها إن شاء اللّه تعالى :

ص: 45


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 18 من المواقيت ، ح 1.
2- قد يقال : إنّ الرواية في تجريد الصبيان من فخّ ناظرة لمن أحرم من طريق المدينة فقط ، فلا اطلاق فيها لما نحن فيه.
1 - جواب التشكيك من الناحية الفقهية :

نقول : إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم وإن كانت مختلفة اختلافاً غير يسير إلاّ أنّ هذا الاختلاف بين المؤرخين والجغرافيين لا يجيز لنا رفع اليد عن موضع الإحرام في التنعيم الحالي ؛ وذلك لعدم حجيّة هذه الأقوال في أنفسها ، إذ هي : إمّا أخبار آحاد غير معتبرة ، وإمّا متعارضة ، وحتى إذا كانت أقوال ذوي الخبرة فهي ساقطة بالتعارض ، فتبقى السيرة المتلقّاة من المسلمين في الإحرام من مسجد التنعيم الحالي الذي يبعد 6 كيلومترات عن المسجد أو حدود مكة القديمة ، وهذا خير دليل على بطلان التشكيك المتقدم ، فإنّ هذه السيرة المتلقاة يداً عن يد ممن يلتزم الشريعة الغرّاء نهجاً في حياته ، وفي زمن المعصومين علیهم السلام تفيد العلم في معرفة ميقات التنعيم الذي وقّته رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان هناك أيّ تغيير في الميقات في أي زمان لنقل الينا بصورة واضحة ، إذ أنّ التغيير في العبادات وأماكنها التي حدَّدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مما يوجب اعتراض المسلمين قاطبةً ونقل ذلك التغيير والاعتراض لغيرهم ، مع أنّنا لم نجد في الروايات التي بين أيدينا أيّ تغيير في ميقات التنعيم.

نعم ، نقل عن بعض المؤرخين المعاصرين « تغير موضع العمرة عندما اختل الأمنُ خوفاً على الحجّاج والمعتمرين » بقوله : ويقال.

وهذا الكلام لا يعتدّ به ؛ لأنه لم يعتقد به حتى هذا المؤرخ المعاصر كما تقدم ، فهو عبارة عن كلام غير معتبر تردّه السيرةُ القائمة على تعيين موضع الإحرام للعمرة من مسجد التنعيم الحالي من قبل كلّ المسلمين.

هذا وقد ذكر غيرُ واحد من الأصحاب (1) هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، ولعلّه لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام :

ص: 46


1- راجع جواهر الكلام ، 18 : 107.

« يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك » (1).

ومعنى ذلك أن الشياع الموجود عند المسلمين هو المرجع في تحديد الميقات ، لا قول المؤرخ أو الجغرافي ، خصوصاً مع التعارض والاختلاف.

2 - جواب التشكيك من الناحية الرياضية :

إنّ الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم تتمثل في المسافة التالية : « 3 ميل / 4 ميل / 6 ميل / 1 فرسخ / 2 فرسخ / 6 كم / 12 كم » تقريباً. فهل يمكن أن نرجع هذا الاختلاف في المسافة الى اختلاف أسباب العدّ مع كون الموضع الذي يحرم منه هو الموضع الحالي ؟

الجواب : نعم يمكننا ذلك ؛ لأن تقدير المسافة يختلف لأسباب متعددة ، منها :

الأول : الاختلاف في تقدير الذراع المستعمل في العدّ ، فإنّه على ثلاثة أوجه :

أ - ذراع اليد الذي هو مختلف بين عدّه ( 52 سم ) أو ( 50 سم ) أو ( 48 سم ) وذلك لأنَّ الذراع - كما ذكر أهل اللغة ، كمجمع البحرين - « من المرفق الى أطراف الأصابع ، والذراع ست قبضات ، والقبضة أربع أصابع » وبما أن الإصبع يختلف قدره من شخص الى شخص في الإنسان المتعارف فبذلك يختلف العدّ بين الأرقام الثلاثة المتقدّمة.

ب - الذراع الحديدي يساوي ( 58 سم تقريباً ).

ج - الذراع المعماري الذي يساوي ( 75 سم تقريباً ).

الثاني : الاختلاف في تقدير الميل بالذراع ، فقد قُدر الميل بالنسبة لذراع اليد بتقديرات مختلفة :

2000 ذراع يد.

3500 ذراع يد.

4000 ذراع يد.

ص: 47


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، باب 5 من أبواب المواقيت ، ح 1.

6000 ذراع يد (1).

ولهذا الاختلاف في تقدير الميل بالذراع يفهم الاختلاف في تقدير المسافة بالأميال ، ومنه يفهم اختلاف تقدير المسافة بالفرسخ أو الكيلومتر.

الثالث : أضف الى ذلك الاختلاف في مبدأ العدّ ، فإنَّ مبدأ العدِّ قد يكون باب المسجد ، كما قد يكون سور مكة.

الرابع : الاختلاف في تقدير الطريق المعدود الذي يختلف باختلاف الانحناءات في أزمان مختلفة ، فقد يكون طريق فيه تعرجات كثيرة يستوجب كثرة المسافة المطوية في زمان ، وفي زمان آخر يتبدل الطريق بإزالة هذه التعرجات أو اختصارها بما يستوجب قلة المسافة.

3 - جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :

إنَّ الموضع الحالي للتنعيم هو بين مكة وسَرِف ( الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) ، وحينئذ يمكن أن تكون العبارات القائلة : بأنَّ التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال متفقة مع الوصف الأولي ، إلاّ أنّ الوصف الأولي يكون للموضع لمن كان في مكة وأراد السير إلى الموضع.

أمّا الوصف الثاني فهو ناظر إلى الموضع لمن كان خارج مكّة أو بعيداً عنها ، فالموضع هو نفسه بين مكة والقبر لمن أراد الإتيان إليه من مكة ، وهو بعد القبر لمن أراد الوصول إليه وهو خارج مكة ، واللّه تعالى هو العالم بحقائق الاُمور.

ولعلّ مما يحسم الخلاف والتشكيك ما وجدته في خريطة مكة المكرمة - المرفقة بكتاب مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي ، وهو دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية - من وجود ثلاث مناطق للتنعيم :

الاُولى : منطقة العمرة التي هي شمال غربي جبل نعيم وغربي جبل ناعم ،

ص: 48


1- استندنا في ذكر هذه التقديرات الى كتاب هداية الناسكين للدكتور الفضلي : ص 93.

وهو مكان العمرة الحالي.

الثانية : التنعيم التي تقع شمال منطقة العمرة.

الثالثة : منطقة التنعيم التي تقع شمال جبل الواتد وجنوب منطقة الغزالة وجبل الغبير.

وحينئذ فإنَّ الخلاف في بُعد التنعيم عن المسجد الحرام أو مكة قد يكون منشؤه هذه المناطق الثلاث ، فالذي يصح منه الإحرام هو منطقة العمرة التي هي أقرب مناطق التنعيم للحرم.

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟

إنّ الشارع المقدّس قد حدّد الحرم المكّي كما في موثّق زرارة ، قال : سمعتُ الإمام الباقر علیه السلام يقول : « حرّم اللّه حرمه بريداً في بريد ... » (1) الذي هو عبارة عما يقارب ثلاثة وعشرين كيلومتراً.

فهل بإمكاننا أن نوفِّق بين هذا التحديد الإجمالي وما هو متلقّى من تعيين الحدود ومعرفتها بالعلامات والنصب الموجودة الآن ، المأخوذة يداً عن يد من زمن المعصومين علیهم السلام بحيث يكون التنعيم الحالي خارج حدود الحرم ، والى جنبه النصب الموجودة حاليّاً ؟

نقول : إنّنا إذا نظرنا الى الأدلة القائلة بأنّ المزدلفة هي من الحرم ؛ بقرينة جواز التقاط حصى الجمار منها ، وبأنّ الجعرانة والتنعيم والحديبية هي خارجة عن حدود الحرم ؛ لجواز الإحرام للعمرة المفردة منها ، للنصوص المتقدمة ، بل جواز الإحرام من أشباه الجعرانة والحديبية - كما في الصحيح المتقدم الذي يدلّ

ص: 49


1- وسائل الشيعة ، 9 : باب 87 من تروك الإحرام ، ح 4.

على جواز الإحرام من كلّ مكان خارج الحرم - ، فيلزمنا أن نفسّر حدود الحرم الواردة في الموثّق بما يكون بين هذه المواقيت ، بحيث تدخل المزدلفة فيه ، وبهذا فسوف يكون الحرم مختلفة أبعاده بالنسبة الى مكة ، فمن ناحية التنعيم ( الشمال الغربي ) يكون الحرم قبل مسجد التنعيم الحالي ، كما هي علامات الحرم بالنصب الموجودة حاليّاً ، وهي لا تبعد إلاّ ستة كيلومترات. وأما من ناحية الجنوب فقد ذكروا : أنّ إضاءة لبين ( لبن ) هي حدود الحرم من الناحية الجنوبية ، وهي لا تبعد أكثر من ( 18 كم ) وبهذا فسوف يكون البريد ما بين علمي التنعيم وعلمي إضاءة لبين ( لبن ) متحققاً.

أمّا الجعرانة ( التي هي ميقات للإحرام من ناحية الشمال الشرقي ) ، وعرنة ( وهي حدود الحرم من الناحية الشرقية ) ، والحديبية ( وهي ميقات من ناحية الغرب ) فهي خارجة عن الحرم وهي تبعد ما بين ( 20 - 23 كم ).

وحينئذ لا يمكن تطبيق البريد في البريد ما بين هذه الأماكن الثلاثة ، ولكن لنا أن نقول : إنّ الفقهاء قد ذكروا استحباب الإحرام من الجعرانة والحديبية ، وجوّزوا الإحرام من أدنى الحلّ ، فإذا عرفنا أدنى الحلّ بصورة قطعية - كما فيما بعد المزدلفة - جاز لنا الإحرام منه ، وإذا شككنا في حدود الحرم من جهة من الجهات فالاحتياط يقتضي أن نحرم من منطقة تبعد عن الحرم كما في الجعرانة والحديبية وأمثالهما.

وبهذا فسوف تكون حدود الحرم - التي هي بريد في بريد - ليست على نسق واحد في جميع الأطراف ، كما توجد إشارة الى ذلك في بعض الأخبار.

وعلى كلّ حال فإنَّ تحديد الحرم بكونه بريداً في بريد غير مثير للإشكال في موضع التنعيم الحالي ، فإنَّ ما ذكر من كونه ميقاتاً بفعل الرسول صلی اللّه علیه و آله - كالحديبية والجعرانة - إنّما هو على نحو الاستحباب ؛ للتأسّي بفعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولما فيه من البعد عن مكة ، وليست هي أقرب الأماكن إلى الحرم ، وحينئذ ما قطعنا من كونه من الحرم نطبّق عليه أحكام الحرم ، وما لم نقطع فيه أنّه من الحرم لا نطبق عليه أحكام الحرم ، ولكن يلزمنا - أيضاً - الإحرام من المكان الذي نقطع فيه بأنه خارج عن حدود الحرم ، واللّه سبحانه هو الموفّق.

ص: 50

البيع قبل القبض

اشارة

ص: 51

ص: 52

وردت أحاديث عديدة في النهي عن البيع قبل القبض ، وقد اختلفت الآراء حول تعميمها أو تخصيصها تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك. وقد بادر مجمع الفقه الإسلامي في الهند بالدعوة إلى عقد الدورة التاسعة في الفترة ما بين 11 - 14 اكتوبر عام 1996 م في جامعة الهداية لبحث مواضيع فقهية عديدة ، منها « البيع قبل القبض » بفروعه ، التي أراد لها جواباً شرعياً ينسجم مع العقود المستجدّة التي يشتبه أن تكون داخلة تحت البيع قبل القبض.

وإجابةً لتلك الدعوة الكريمة رأينا أن نوضّح ما طلب ايضاحه في تلك الأسئلة.

1 - أحكام القبض والإقباض

اشارة

إنّ القبض الذي ورد في الروايات قد رتّب عليه أحكام عديدة ، منها :

أ - ارتفاع ضمان البائع عن المبيع عند تحقّق القبض ، كما في النص القائل : « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

ب - الوجوب التكليفي للقبض والإقباض في المعاملات ، كما في البيع الحالّ الذي يكون القبض والاقباض شرطاً ضمنيّاً ارتكازياً ، وكما في وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها ، فإنَّ اللّه تعالى يقول : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) .

ص: 53

ج - الوجوب التكليفي للإقباض وإن لم يكن في معاملة ، كمافي وجوب ردّ مال الغير الذي اُخذ غصباً.

د - قد يكون القبض شرطاً في صحة بعض المعاملات ، كما في السلم والهبة والوقوف.

ه - القبض شرط في صحة المعاملة الثانية إذا اشترى سلعةً ولم يقبضها ، للأحاديث الناهية عن البيع قبل القبض. ولكنّ هذا مخصوص بالمكيل والموزون - كما سيتّضح ذلك - فلابدّ من قبضه وبيعه.

حقيقة القبض :

ليس للقبض حقيقة شرعية ولا اتفاق من قبل علماء اللغة ، إذن فلابدّ من الرجوع إلى العرف.

قال الشيخ الأنصاري قدس سره (1) : اتفق العلماء على أنَّ القبض في غير المنقول هو التخلية ، واختلفوا في معنى القبض في المنقول على أقوال ثمانية ، ثم ذكر بعدها : أن القبض هو فعل القابض ( المشتري ) وهو الأخذ ، والأخذ في الأموال هو الاستيلاء

ص: 54


1- راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 309. «وأما اعتبار الكيل والوزن في القبض أو كفايته في قبض المكيل والموزون فانه تعبد محض لأجل النص ، قال في صحيحة معاوية بن وهب : «سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؟ فقال له : ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه». وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ح 11 ، وغيرها من الروايات. ولا بأس بالتنبيه إلى أن هذا البحث إنما هو لتصحيح البيع الثاني فيما إذا اشترى ولم يكل مثلاً ، لا لأجل ارتفاع الضمان عن البائع بالقبض . والظاهر : أنّ الكيل والوزن هو كناية عن القبض لا لمعرفة المقدار المبيع؛ وذلك : لأن معرفة المقدار لا يفرق فيه بين البيع مرابحة أو تولية ، الشرطية معرفة المقدار المبيع عند كل بيع ، وحينئذ عندما جوزت الروايات البيع تولية بغير القبض ومنعته مرابحه تبين أن المنع لم يكن لأجل اشتراط معرفة المقدار ، بل لأجل اشتراط القبض في صحة البيع الثاني تعبداً .

ووضع اليد مطلقاً ، بلا فرق بين المنقول وغيره ، غاية الأمر اختلاف المستولى عليه ، ففي غير المنقولات يكون الاستيلاء عبارة عن عدم وجود مانع بين الإنسان المالك وبين المال ، بحيث يكون قد تصرف فيه فعلا. وعلى هذا فإن التخلية من دون تصرف ليست قبضاً. وأمّا في المنقول ، يكون القبض هو الأخذ باليد ( الاستيلاء ) ثم الإقباض ، فهو فعل البائع ، وهو دائماً يكون عبارة عن التخلية.

وعلى هذا سيكون عندنا أمران :

الأمر الأول : القبض الذي هو فعل القابض ( المشتري مثلاً ).

الأمر الثاني : القبض الذي هو فعل المقبض ( البائع مثلاً ).

ولابدّ لنا من ملاحظة الخطابات الشرعية ، لنرى متعلق الحكم التكليفي أو موضوع الحكم الوضعي هل هو فعل القابض أو المقبض ؟ وهي على قسمين :

القسم الأول : إذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل البائع والغاصب والراهن - وهو الإقباض - فيكون القبض هو التخلية ، وهذا ليس قبضاً حقيقياً حتى في غير المنقول.

القسم الثاني : وإذا كان موضوع الخطاب في مورد هو فعل المشتري - أي القابض - فيكون القبض هو الاستيلاء من قبل المشتري وتسلّطه على الشيء الذي يتحقّق به معنى اليد ، ويتصوّر فيه الغصب (1).

وحينئذ نقول : إنّ موضوعنا الذي نحن بصدده هو القسم الثاني ، لأن القبض

ص: 55


1- أي عندما أوجب الشارع على الغاصب ردّ المغصوب فقد أوجب عليه أن يوجد كل المقدّمات لوصول المال إلى صاحبه ، إذن يجب عليه أخذ المال إلى المغصوب منه وجعله أمامه ، أمّا الأخذ باليد من قبل المغصوب منه فهو غير واجب على الغاصب ، لخروجه عن القدرة وحينئذ يكون الإقباض الواجب على الغاصب هو التخلية. هذا الكلام نفسه يقال بالنسبة إلى البائع الذي أوجب الشارع عليه التخلية ، فإنَّ الإقباض الحقيقي وإن لم يصدق إلاّ باستيلاء الطرف الآخر على الشيء إلاّ أن التكليف بالإقباض على البائع والغاصب يكون تكليفاً بالتخلية فقط وإن لم يستولِ الطرف الآخر على الشيء.

الذي اشترطته الروايات في البيع الثاني هو فعل المشتري الذي يكون القبض فيه هو الاستيلاء على المبيع والسيطرة التي تمكّنه من بيعه للآخرين ، وعلى هذا فاذا أوجد البائع التخلية للمبيع ولم يستولِ المشتري عليه فلا يتمكّن من بيعه.

كما أنَّ اعتبار القبض في الهبة دلّ على حيازة المتَّهب للهبة ، وحينئذ لا تكفي التخلية التي هي فعل الواهب.

قال في المكاسب : « إنّ القبض للمبيع هو فعل القابض وهو المشتري ، ولا شك أنَّ الأحكام المترتبة على هذا الفعل لا تترتب على ما كان من فعل البائع من غير مدخل للمشتري فيه ، كما أنَّ الأحكام المترتبة على فعل البائع - كالوجوب على البائع والراهن في الجملة واشتراط القدرة على التسليم - لا يحتاج في ترتّبها إلى فعل من المشتري » (1).

2 - هل تختلف صور القبض في الأموال المنقولة عن غير المنقولة ؟

نقول : إن ما تقدّم منّا هو ظهور النهي عن البيع قبل القبض الحقيقي ، والقبض الحقيقي هو قبض المشتري ، وهو معنى واحد عبارة عن الاستيلاء على المال ، بحيث يكون الاختيار تحت يد المشتري ، وهذا هو المعنى العرفي للقبض الذي توافقه اللغة أيضاً ، إنّما الاختلاف في مصاديق القبض ، ففي مثل الدار يكون مصداق الاستيلاء والاستعلاء هو التخلية بين المالك وبين ملكه ، بحيث يتمكّن من التصرف فيه بإعطائه مفتاح الدار ، وفي مثل الاُمور المنقولة - كالجواهر - يكون مصداق الاستيلاء هو القبض باليد ، وفي مثل الحيوان والسيارة يكون مصداق القبض هو أخذ مقود السيارة أو الحيوان ( أو سوْق الحيوان أو السير بالسيارة ).

ص: 56


1- المكاسب ، للشيخ الأعظم الأنصاري 1 : ج 2 ، ص 309.

إذن تبيّن أن القبض له معنى عرفي واحد ، وهو الاستيلاء والتسلط على الشيء. نعم ، قد يقع الاختلاف في مصاديق القبض وصوره باختلاف الأموال.

3 - هل النهي عن البيع قبل القبض عام ، أو فيه استثناء ؟ وما هي آراء الأئمة وأدلّتهم ؟

إنّ مسألتنا هذه هي في صورة وقوع البيع على سلعة عند البائع ، ثم أراد المشتري بيعها قبل قبضها ، فهل البيع الثاني صحيح قبل قبض المشتري السلعة ؟

أقول : إنّ الأقوال المهمة في هذه المسألة أربعة ، هي :

القول الأول : يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، سواء كان المعقود عليه طعاماً أم غيره ، وسواء كان مكيلا أو موزوناً أو عقاراً أو منقولا ، وذهب إلى هذا القول الإمام الشافعي (1) وأكثر أصحابه والإمام أحمد في رواية (2) وجمع غفير من العلماء.

واحتجّوا بنهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الطعام قبل قبضه ، وبما روى أبو داود : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وروى ابن ماجة : أن النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض. وروى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (3).

ص: 57


1- الام : ج 3 ، ص 60.
2- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 121 - 123.
3- هذه الأحاديث ذكرت في المغني : ج 4 ، ص 221. أقول : الرواية المروية عن النبي صلی اللّه عليه وآله عن شراء الصدقات حتى تقبض قد رويت في مجالس الشيخ الطوسي : قال : «ابتعت طعاماً من طعام الصدقة، فاربحت فيه قبل أن أقبضه ، فسألت النبي صلی اللّه عليه وآله ؟ فقال : لا تبعه حتى تقبضه». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 317.

القول الثاني : يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً. وذهب إلى هذا القول بعض ، كعطاء ابن أبي رباح والبتّي (1).

ولكن قال ابن عبد البرّ : « وهذا قول مردود بالسنّة والحجّة المجمعة على الطعام. وأظنّه لم يبلغه هذا الحديث ، ومثل هذا لا يلتفت إليه » (2).

أقول : إن هذا القول - الثاني - اختاره بعض علماء الامامية على كراهيته (3) وذلك للجمع بين الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام التي تنهى عن بيع الطعام أو المكيل والموزون قبل قبضه. والروايات التي أجازت ذلك ، فحملت الروايات الناهية على الكراهية لقرينة الروايات المجوِّزة التي منها :

1 - رواية الكرخي : قلت للإمام الصادق علیه السلام : أشتري الطعام من الرجل ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله ، فأقول : ابعث وكيلك حتى يشهد كيله إذا قبضته ؟ قال علیه السلام : « لا بأس » (4).

ص: 58


1- المحلّى ، لابن حزم : ج 8 ، ص 597 ، والمغني : ج 4 ، ص 220.
2- المغني : ج 4 ، ص 220.
3- حكي هذا القول عن الشيخين ( الطوسي والمفيد ) في المقنعة والنهاية والقاضي ، وهو المشهور بين المتأخرين. راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2 : 3. وراجع المختصر النافع : ص 148.
4- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 3. أقول: أما رواية خالد بن الحجاج الكرخي فهي ضعيفة لعدم توثيق خالد ، وأيضاً لم يذكر سند الصدوق إليه مع أن الرواية يسندها الصدوق إليه . وأما رواية جميل بن دراج فهي ضعيفة لوجود علي بن حديد الذي ضعفه الشيخ الطوسي . نعم ، هناك روایتان صحيحتان قد يستدل بهما على حمل النهي الوارد في بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه على الكراهية، وهما كما في وسائل الشيعة : 1- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : سألته عن الرجل يشتري الثمرة ثم يبيعها قبل أن يأخذها ؟ قال عليه السلام : «لا بأس، إن وجد ربحاً فليبع : ج 13، بل من أبواب بيع الثمار ، ح 2 . 2 - صحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (الإمام الباقر أو الصادق عليهما السلام ) انه قال في رجل اشترى الثمرة ثم يبيعها قبل أن يقبضها ؟ قال عليه السلام : « لا بأس» . المصدر السابق : ح3. والصحيح (كما قال الشيخ الأنصاري) إنهما منصرفتان إلى بيع الثمرة على الشجرة بملاحظة الاخبار الواردة في بيع الثمار ، حيث يعبر عن بيع الثمرة على الشجرة ببيع الثمرة، وبما أن بيعها على الشجرة لا يعتبر فيهما الكيل أو الوزن فيصح أن تباع قبل القبض فتخرجان عن موردنا .

2 - ورواية جميل بن دراج عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الرجل يشتري الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال علیه السلام : لا بأس. ويوكل الرجل المشتري منه بقبضه وكيله ؟ قال : « لا بأس » (1).

أقول : سيأتي الكلام في عدم صحة هذا الجمع لو كانت الروايتان صحيحتين.

القول الثالث : تفصيل بين بيع الطعام قبل قبضه فلا يجوز ، وبين غيره فيجوز. وقد نقل هذا القول عن الإمام أحمد فقال : « إن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه ، سواء كان مكيلا أو موزوناً أو لم يكن ». ولعلّ دليله هو ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله انه : « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه.

وروى ابن عمر فقال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً يضربون على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم ». وهذا نصّ في بيع المعيّن.

وعموم قوله علیه السلام : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه » متفق عليه. ولمسلم عن ابن عمر قال : « كنّا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ... » (2).

القول الرابع : تفصيل بين بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه فلا يجوز إلاّ تولية ، وبين غيره فيجوز. وقد ذهب إلى هذا القول مشهور علماء الإمامية قديماً وحديثاً.

ص: 59


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 6.
2- راجع المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 217 و 218.

ودليله هو الروايات المروية عن أئمة أهل البيت علیهم السلام التي تنقل وتفسِّر وتوضّح ما ورد عن النبي صلی اللّه علیه و آله من نهي ، منها :

1 - صحيحة ابن حازم عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا اشتريت متاعاً فيه كيْل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه إلاّ أن تولّيه ، فإن لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه » (1).

2 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « في رجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكتال ؟ قال علیه السلام : لا يصلح له ذلك » (2).

3 - صحيح الحلبي الآخر قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن قوم اشتروا بزاً ( البز : هو الثوب ، ومنه البزّاز ) فاشتركوا فيه جميعاً ولم يقتسموا ، أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : « لا بأس به ، وقال : إنّ هذا ليس بمنزلة الطعام ، لأنّ الطعام يكال » (3) بناء على أن المراد قبل أن يقبضه من البائع ( لا القبض من الشركاء ) كما هو الظاهر ، إذ لم يلتزم أحد بثبوت البأس في بيع أحد الشريكين حصته قبل قبضه من شريكه بعد قبضه من البائع ولو بتوكيل شريكه.

4 - صحيح منصور بن حازم ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل اشترى بيعاً ليس فيه كيل ولا وزن ، أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : لا بأس بذلك ما لم يكن كِيل أو وزِن ( كما لو بيع بالمشاهدة ) فإن هو قبضه كان أبرأ لنفسه » (4). وغيرها من الروايات الصحيحة.

وواضح من هذه الروايات أن الكيل أو الوزن هو كناية عن القبض ، بمعنى أنه لابدّ من قبضه ثم بيعه للآخرين.

وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل السنّة أيضاً ، فقد روي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد ابن أبي سليمان : أنّ كل ما بيع على الكيل أو الوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وما ليس بمكيل ولا بموزون يجوز بيعه

ص: 60


1- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
2- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
3- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.
4- وسائل الشيعة 12 : ب 16 من أحكام العقود ح 1 و ح 5 و ح 10 و ح 18.

قبل قبضه (1).

وقد ذكرنا سابقاً : أنّ اعتبار الكيل أو الوزن قبل البيع الثاني ليس لإحراز مقدار البيع ليتم شرط معرفة مقدار المبيع في البيع الثاني ، إذ على هذا لم يكن فرقٌ بين التولية وغيرها ، بينما فرّقت الروايات بين التولية وغيرها ، فأجازت الأول دون الثاني ، ولهذا يتعيّن أن يكون الكيل أو الوزن لجهة القبض قبل البيع الثاني الذي اشترط في بيع المرابحة دون التولية.

هذه هي أهم الأقوال في المسألة.

أقول : أمّا القول الأول الذي يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً فهو قول باطل ، وذلك لأنّ أدلّته إن سلّمنا بصحتها (2) فهي مقيدة أو مفسَّرة في صورة كون المبيع طعاماً أو مكيلاً أو موزوناً ؛ للأدلة الكثيرة التي تقيّد النهي عن النبي صلی اللّه علیه و آله بهذه الصورة.

وأما القول الثاني الذي يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، فأيضاً باطل وذلك للروايات المصرِّحة بالجواز في صورة عدم كون المبيع طعاماً أو مكيلا أو موزوناً.

نعم من قال من الإمامية بجواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً على كراهةٍ استند إلى الجمع بين الروايات المجوّزة والمانعة ، حيث حمل الروايات المانعة على الكراهة لقرينة الروايات المجوزة.

وهذا وجه غير وجيه بالنظر إلى الصناعة الاُصولية لو كانت الروايات المجوزة

ص: 61


1- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 217.
2- ويكفي توهيناً للروايات المطلقة هو ما روي عن ابن عباس : أن النبي صلی اللّه علیه و آله « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » حيث قال ابن عباس : « ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام. أقول : لو كانت هناك روايات مطلقة في المنع عن بيع السلع قبل قبضها لذكرها ابن عباس واسند المنع اليها ، ولم يقل : ولا أحسبُ كل شيء إلا بمنزلة الطعام .

صحيحة ، وذلك لأن التعارض بالاطلاق والتقييد ، لأنّ الروايات المجوزة موضوعها مطلق لصورة كون البيع قبل القبض بنحو التولية أو غيرها ، فيرفع اليد عن اطلاقها بالروايات المانعة عن البيع مرابحة ، على أنَّ الروايات المجوزة ضعيفة كما تقدم.

نعم : حَملُ ظاهر النهي على الكراهة إذا كان هناك نصّ على الجواز إنما يُصار إليه لو لم يكن إطلاق وتقييد في البين ، كما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو الإطلاق أو بنحو التقييد. ولذا نرى الفقهاء يتصرفون في موضوع الدليل دون الحكم في دليل آخر عند تعارضهما بالإطلاق والتقييد ، كما في تعارض « لا تعتق رقبة كافرة » و « اعتق رقبة » ، وكذا في تعارض « لا تكرم زيداً العالم » و « أكرم العلماء » حيث يرفعون اليد عن عموم الموضوع ، لا عن ظهور النهي في الحرمة.

وحينئذ يكون دليل « لا يجوز بيع المكيل والموزون مرابحةً إلاّ بعد كيله أو وزنه » مقيّداً لدليل « لا بأس ببيع المكيل والموزون قبل قبضه » بغير صورة المرابحة. ولا نرى مانعاً من التعبير عن الدليل المفصِّل ( وهو عدم جواز بيع المكيل والموزون مرابحة إلاّ بعد قبضه ، وبين جواز بيعه تولية ) بأنّه مفسِّر للدليل المطلق عند العُرف.

إذن لم يبقَ إلاّ القول الثالث والرابع ، وكل منهما له دليله من الروايات المروية عن الشارع المقدّس. ولكن في روايات القول الرابع ما يفيد : أن علّة المنع من بيع الطعام قبل قبضه هو الكيل ، وهي صحيحة الحلبي ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن قوم اشتروا بزّاً ... أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال علیه السلام : لا بأس به ، وقال : إن هذا ليس بمنزلة الطعام لأن الطعام يكال » (1).

وبهذا نعرف أن الروايات التي ذكرت الطعام ومنعت من بيعه قبل قبضه إنّما كان لعلّة كيله ، فلا خصوصية للطعام ، فيتعيّن أن يكون القول الرابع هو الصحيح

ص: 62


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 10.

من بين الأقوال.

ولنا أن نقول أيضاً : إنّ معنى الطعام ظاهراً هو الحنطة والشعير ، فقد جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصّةً ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة ». وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

وحينئذ نقول : بما أن الحنطة والشعير مكيلان أو موزونان فلا يكون هناك قول ثالث ، لأنَّ أصحاب القول الرابع يكونون قد أخذوا بكلتا طائفتي الروايات القائلة بأن بيع المكيل والموزون - ومنه الطعام - لا يجوز قبل قبضه ، بمعنى أنَّ روايات القول الثالث صحيحة ، وهي تدل على حكم خاص ، وروايات القول الرابع صحيحة وهي تدلّ على حكم أعم من القول الثالث ، ولا تعارض بينهما ، إذ لم يعلم أن الحكم واحد ، فنأخذ بكلتا طائفتي الروايات.

4 - هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟

وللجواب عن هذا السؤال لابدّ أن نستعرض ما يمكن أن يقال بعلّيّته للنهي عن البيع قبل القبض ، ثم نرى مدى صحته فنقول :

1 - قد يقال : إنّ العلة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمّل الخسارة ، وما دامت السلعة المشتراة لم يقبضها المشتري فخسارتها بالمنظور الشرعي على البائع ، لقاعدة : « تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه » ، وحينئذ لا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمّل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأنّ هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل : « من كان له الغنم فعليه الغرم ». ويشهد لهذه العلّة جواز بيعها على شخص ثالث أو على بائعها توليةً بدون القبض.

أقول : ولكن رغم معقولية هذا القانون لم يدلّ عليه أيّ دليل شرعي ، بل

ص: 63

نراه غير مراعىً في موارد هي :

أ - فيما إذا كان المشترى ( غير مكيل أو موزون ) ثوباً أو داراً ، فإنّ المشتري يحقّ له أن يبيعه بربح قبل قبضه ، مع أن المشتري لا يخسر إذاتلف المبيع لأنه غير مقبوض.

ب - وكذا قد تخلّف هذا القانون في موارد اُخر ، كالثمار بعد بدو الصلاح ، فإنَّ المشتري له الحقّ في بيعها وهي على الشجر ، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع.

ج - وكذا في منافع الإجارة ، فإنّ المستأجر له الحقّ في أن يؤجر ما استأجره بربح من نفس جنس الاُجرة إذا عمل فيه عملاً أو يُؤجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا كان بغير جنس الاُجرة (1) ، ولكن إذا حدث تلف في المستأجَر فيرجع على المؤجِر بمقدار ما تلف.

د - وكذا قد تخلّف هذا القانون في بيع المكيل والموزون ( الكلي والشخصي ) قبل قبضه على بائعه - كما سيأتي - وذلك لأنَّ ظاهر الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون بربح هو المنع من بيعها على شخص ثالث ، أمّا هنا فإن البيع على نفس البائع فلا تشمله الروايات.

ثم إننا حتى لو قلنا : إنّ روايات المنع مطلقة لكلّ بيع إلاّ أنَّ روايات بيع السلم قبل قبضه على بائعه تقول بجواز ذلك ، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، يحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (2).

ص: 64


1- وسائل الشيعة 13 : ب 21 من الاجارة ، أحاديث الباب.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 11 من السلف ، ح 6 ، وراجع بقية الروايات. وللتوسع يراجع ما كتبناه في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة.

نعم ، هناك تلازم بين الضمان والتلف ، فمن كان ضامناً يكون التلف عليه ، حسب القاعدة القائلة : « كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». ولكن هذا غير المنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه بربح.

2 - هل يمكن أن تكون العلّة في نظر الشارع القدرة على التسليم ؟

والجواب : بالعدم ، وذلك لأنّ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري ، كما أنّها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه ، كما لو غصبت بعد القبض.

3 - هل يمكن أن تكون العلّة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها ، كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالباً هو انتظار تقلّبات الأسعار للحصول على ربح ، وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية ؟

والجواب : أنّ كلامنا هو في صورة القصد الحقيقي إلى البيع ، وبذلك تخرج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلّم المثمن ، كما في أسواق البورصة التي لا يكون التسليم والتسلّم فيها إلاّ بمقدار 1 % بالإضافة إلى انتقاض هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه ، كما جوّزت ذلك بعض الروايات - كما تقدم - وسيأتي وعليه جمع غفير من العلماء.

5 - هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟

اشارة

أقول : تقدّم الكلام منّا في بطلان كون هذا البيع مكروهاً فلا نُعيد.

وأمّا التحريم فقد عبّر بعض الفقهاء بحرمة هذا البيع ، كالشيخ الأنصاري حيث قال : « الأقوى - من حيث الجمع بين الروايات - حرمة بيع المكيل والموزون

ص: 65

قبل قبضه إلاّ تولية ... » (1).

كما عبّر بعض آخر بالمنع من هذا البيع في مقابل تعبيره بالجواز في البيع التوليتي ، والظاهر من المنع هو الحرمة.

قال في منهاج الصالحين : « من اشترى شيئاً ولم يقبضه : فإنْ كان ممّا لا يكال ولا يوزن جاز له بيعه قبل قبضه ، وكذا إذا كان ممّا يكال أو يوزن وكان البيع برأس المال ، أمّا لو كان بربح ففيه قولان أظهرهما المنع » (2).

ويؤيد هذا القول التعبير الوارد في بعض الروايات المروية على عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، حيث روى ابن عمر قال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم » (3).

أقول : إنّ النهي عن المعاملة يكون على أنحاء :

1 - قد يكون النهي تكليفياً ، كما إذا وجدت قرينة عليه ، كما في النهي عن البيع وقت النداء الذي نعلم أن ترك البيع فيه للتحفّظ على صلاة الجمعة ، وهذا النهي التكليفي لا يقتضي الفساد ، كما قرر ذلك في الاُصول.

2 - قد يكون النهي تكليفياً ووضعياً ، كما إذا قامت قرينة على ذلك ، كما في لعن مشتري الخمر وبائعها ، وقوله علیه السلام : « ثمن الخمر سحت » وكما في المعاملات الربوية كما هو واضح من التشديد والوعيد عليها.

3 - أمّا النهي عن المعاملة إذا لم يكن فيه قرينة على الحرمة التكليفية فيكون ظهوره الأوّلي هو الإرشاد إلى عدم الإمضاء والحكم بالبطلان ، كما في نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر ، وحينئذ فيكون ظهور « إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن

ص: 66


1- المكاسب : ج 2 ، ص 315.
2- منهاج الصالحين للإمام الخوئي : ج 2 ، ص 48 ، مسألة (188).
3- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 218.

فلا تبعه حتى تقبضه » هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني ، فإن لم يحصل القبض قبل البيع الثاني يكون البيع الثاني باطلا.

أمّا إذا كان بيع المكيل أو الموزون قبل القبض تولية فلا يشترط فيه القبض قبل البيع ، ولا مانع من ذلك ، فإنَّ بيعاً قد يشترط فيه ما لا يشترط في بقية البيوع ، كما في بيع الصرف الذي قد اشترط فيه التقابض في المجلس قبل التفرق دون غيره من البيوع ، فهنا كذلك لأنَّ النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل القبض خال عن قرينة تدلّ على الحرمة التكليفية ، أو قرينة تدلّ على ربوية المعاملة المحرمة تحريماً تكليفياً ، فلا مناص من القول بأنَّ النهي عن البيع قبل القبض مرابحةً إرشادٌ إلى شرطية القبض قبل البيع في خصوص المكيل أو الموزون إذا بيع مرابحة.

تنبيهات :

1 - إنّ الأدلّة المتقدمة - على القول الرابع - لا تفرّق بين الأشياء التي تباع بالكيل أو الوزن ، بين ما كان عند البائع قد حصل عليه بالزراعة أو قد وهب إليه أو اشتراه كلياً في الذمة أو في المعيّن ، أو مبيعاً شخصياً قد اشتراه بغير كيل أو وزن ، فإنّه في كل هذه الصور لابدّ من قبضه بالكيل أو الوزن إذا أراد بيعه للآخرين.

أمّا إذا كان البائع قد اشتراه ووزنه أو كاله فيكفي هذا الكيل أو الوزن في بيعه للآخرين ، أما الآخرون فلا يجوز لهم بيعه إلاّ بعد قبضه وحيازته إلى رحالهم.

2 - إنّ هذه الروايات هي بصدد بيان جواز البيع الثاني مرابحةً بعد قبض ما اشتري بالكيل أو الوزن ، وهذا البحث يختلف عن حقيقة القبض الذي تقدّم من أنّه قد يكون في بعض الاُمور التخلية التي يرتفع بها الضمان عن البائع.

وبعبارة اُخرى : أنّ القبض الذي يرتفع به الضمان عن البائع في المكيل والموزون هو التخلية ، ولكن صحة البيع الثاني لابدّ فيها من القبض من قبل المشتري التي تحصل بالكيل أو الوزن.

ص: 67

3 - قد أجازت هذه الروايات بيع المكيل والموزون قبل القبض إذا كان البيع تولية ، وهذا هو مفاد الروايات المتقدّمة عن أهل البيت علیهم السلام التي هي عن آبائهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فتكون حجّة.

وهنا نريد أن نقول بجواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه إذا كان البيع على نحو الشركة في المبيع ، فقد دلّت عليه موثّقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان قد اشتراها ولم يقبضها ؟ قال علیه السلام : لا ، حتى يقبضها ، إلاّ أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يولّيه بعضهم فلا بأس » (1).

وقد ذهب إلى هذه النتيجة الإمام مالك ، فقد جوّز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض ، فقد جاء في المدوّنة : « قلت : أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل ينقد فلم اقبضها حتى أشركت فيها رجلاً أو ولّيتها رجلاً أيجوز ذلك ؟

قال : لا بأس عند مالك.

قلت : وإن كان طعاماً اشتريته كيلا ونقدتُ الثمن فولّيته رجلاً أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته ؟

قال : لا بأس بذلك ، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.

قلت : لِمَ جوّزه مالك ، وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك : أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله نهى عن الطعام قبل أن يُستوفى ؟

قال : قد جاء هذا ، وقد جاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.

قال سحنون : وأخبرني ابن القاسم ، عن سليمان بن بلال ، عن ربيعة ، عن أبي عبد الرحمان ، عن سعيد بن المسيب أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من ابتاع طعاماً

ص: 68


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 15.

فلا يبعه حتى يستوفيه ، إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية ».

قال مالك : اجتمع أهل العلم على أنّه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يُستوفى إذا انتقد الثمن ممّن يشركه أو يقيله أو يولّيه » (1).

4 - إن أصل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ( إلاّ تولية أو شركة ) هو على خلاف القاعدة الأوليّة القائلة بتسلّط الناس على أموالهم ، بمعنى أنّه إذا ملك إنسان شيئاً يتمكّن أن يبيعه - سواء كان قد قبضه أم لا - فإذا أضفنا إلى هذا عدم وجود علّة للنهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، وإنّما هو تعبّد خاصّ ، فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة المانعة نفسها لنرى سعتها أو ضيقها فنتمسّك بها ، لأنّها هي الدليل على النهي وعلى خلاف القاعدة ، ولا علّة حتى تتبع.

وحينئذ فما لم يكن داخلا تحت النهي فهو جائز سواء دلّ عليه دليل خاص أو لا ، إذ يكون داخلا تحت قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، فيتمكّن من التصرّف فيه ببيعه ما لم يكن داخلا تحت عنوان منهيّ عنه. وعلى هذا نتمكّن أن نذكر عدّة اُمور جائزةً قد يشتبه في دخولها تحت عنوان البيع قبل القبض ، منها :

أ - إذا كان البيع غير مكيل أو غير موزون ( كالمعدود (2) والمذروع والمشاهد ) فيجوز بيعه قبل قبضه ( سلماً أو استصناعاً أو غيرهما ) طبقاً للقاعدة المتقدّمة ، مع ورود الرخصة في ذلك أيضاً. ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدّمتين : « فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه ». وكذا في رواية أبي حمزة عن

ص: 69


1- المدوّنة : ج 4 ، ص 80 - 81.
2- ذكر ابن قدامة في المغني فقال : « كل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه ... إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود » : ج 2. ص 221. أقول : بالاضافة إلى عدم الارتباط بين ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض وبين عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه فإنَّ لكلّ مسألة من المسألتين دليلها الخاص وموضوعها الخاص، فإنَّ عدم جواز بيع المعدود قبل قبضه لم يرد فيه أي نص .

الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن رجل اشترى متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال علیه السلام : لا بأس » (1) وغيرها من الرويات.

ب - إنّ الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل القبض مختصّ بالبيع ، كما تقدّمت الروايات عن الفريقين تصرّ بأنّ المنع مختصّ به ، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح على المكيل والموزون قبل القبض ، وله أن يؤجره قبل القبض إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين ، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض ، ومع الشك في صحتهما على المكيل والموزون قبل قبضه نتمسك بإطلاق أدلّة الإجارة وأدلة الصلح جائز بين المسلمين ، أو إطلاق (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

ج - إذا كان الثمن مكيلا أو موزوناً والمبيع عروضاً فيتمكّن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقاً للقاعدة ، وعدم المانع ، لأنَّ الدليل اللفظي الدالّ على المنع مختص بالمثمن ، فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق ، أو اطمئنان بوحدة الملاك فيهما ، وبما أنّه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا اطمئنان بوحدة الملاك - لأنّ الحكم تعبّدي على خلاف القاعدة كما تقدّم - فنقتصر على مورد المنع ونتمسّك بدليل (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل قبضه.

نعم ، من علّل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل القبض بضعف ملكية المشتري ؛ لاحتمال أن يتلف الطعام فتنحلّ المعاملة ، فإنّ هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.

ولكنّ هذا الوجه ضعيف ، إذ لا يكون الملك ضعيفاً قبل القبض ، ولأنّ هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى توليةً ولغير المكيل والموزون. ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.

ص: 70


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 8.

د - إذا لم يقبض المشتري المكيل أو الموزون فيتمكّن أن يبيع بمقداره ونوعه في الذمّة ، وبعد تمامية البيع يوكّل المشتري في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى بائعه منه ولم يقبضه بوكالة غير قابلة للعزل. وهذا ما يسمّى ب ( السلم الموازي ) أو ( الوكالة في القبض ) ، وهي طريقة لا تشملها الروايات المانعة ، لأنّها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الأول : « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه ». أمّا هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الأول ، بل وكّل دائنه في أخذ المبيع من مدينه ، فهو استيفاء ، وفائدته سقوط ما في ذمّته عنه (1).

ه - إذا كان المشتري لم يقبض المكيل والموزون لعدم حلول الأجل في المبيع ( كما في السلم ) وقد احتاج إلى المال فيتمكّن أن يبيع سلماً إلى ما بعد ذلك الأجل بقليل ، ثمّ يحوّل المشتري على البائع الذي باعه فيستلم المثمن في وقته ، وبما أنّ الحوالة ليست بيعاً ولا معاوضة ( كما هو التحقيق ) بل هي تعيين الدَّين الذي في ذمّة المديون بمال في ذمّة فرد آخر - وهي عقد مستقل - فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه.

ويمكن الاستدلال لجواز هذه الحوالة - مضافاً إلى اقتضاء القاعدة والعمومات ذلك - بموثّقة عبد الرحمان ابن أبي عبد اللّه ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل عليه كرُّ من طعام ، فاشترى كرّاً من رجل آخر ، فقال للرجل : انطلق فاستوفِ كُرَّك ؟ قال علیه السلام : لا بأس » (2).

ص: 71


1- إنّ هذه الطريقة لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع ، كما إذا حلف انسان أو نذر عدم بيع بيته ، وكان السبب في ذلك هو أن لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمرّ بها ، فلا يجوز أن يبيع بيتاً كليّاً في الذمة ثمّ يقول للمشتري : اُعطيك بيتي وفاءً لما في ذمتي ، لأنَّ العرف يرى أن عمله هذا ممنوع منه بواسطة حلفه أو نذره لوجود الملاك فيه. وكذا الأمر في النهي عن بيع اُمهات الأولاد في الشريعة الإسلامية.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 10 من السلف ، ح 2.

فالرواية شاملة لما إذا كان الكرّ في ذمّة الإنسان بالشراء أو القرض ، وشاملة لما إذا كان في ذمّة المحيل معوّض أو عوض ، وشاملة لكون المبيع كليّاً في الذمّة أو شخصياً ، فتكون دليلا لما نحن فيه.

و - إذا باع المشتري المكيل أو الموزون الذي لم يقبضه على بائعه فهو جائز ما لم يستلزم محذوراً آخر كالربا ، وذلك بأن يبيعه بجنس آخر أو يبيعه بنفس الجنس بلا زيادة ولا نقيصة. ودليل هذا هو : أنّ ظاهر الروايات المانعة هو المنع عن بيع ما لم يكن مكيلا أو موزوناً على شخص ثالث ، أمّا هنا فالمبيع على البائع نفسه فلا تشمله روايات المنع.

وحتى لو قلنا بأنّ روايات المنع مطلقة للبيع على شخص ثالث أو على البائع ، إلاّ أنّ الروايات التي جوّزت البيع على البائع قد أحلّت هذه الصورة ، فمن الروايات الصحيحة رواية العيص بن القاسم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة ، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً يحلّ له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال علیه السلام : نعم ، يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً ... » (1).

ز - الإقالة : إذا اشترى إنسان مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يطلب الإقالة من البائع فيرجع إليه ثمنه قبل القبض ؟

الجواب : نعم ، يجوز ذلك ، لجواز الإقالة في كل بيع ، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « أيّما عبد أقال مسلماً في بيع أقال اللّه عثرته يوم القيامة » (2).

ص: 72


1- المصدر السابق : ب 11 من السلف ، ح 6 وغيرها من الروايات.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 3 من أبواب آداب التجارة ، ح 2 وغيرها.

والإقالة في الحقيقة هي فسخ في حقّ المتعاقدين برضاهما وليست بيعاً ، وذلك لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعاوضات الموجبة ملكاً جديداً ، بل هي تفيد ردّ الملك بفسخ العقد الذي ارتأى خلافه. ولهذا لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن ، كما لا تجوز بنقصان ، لعدم ما يصلح مملِّكاً لما زاد عن الثمن أو نقص منه بعد فسخ العقد.

وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض أهل السنّة أيضاً ، فقد ذكر في المغني عن الإمام الخرقي : أنّ الإقالة فسخ ، وأيّد ذلك ابن قدامة وذكر : أن هذا هو اختيار أبي بكر وهو مذهب الشافعي ، خلافاً لمذهب الإمام مالك حيث اعتبرها بيعاً (1).

ر - الحطيطة : إذا اشترى إنسانٌ مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يبيعه على ثالث بحطيطة عن الثمن الذي اشتراه به ؟

قد يقال : إنّ الروايات لم تجوّز البيع قبل القبض إلاّ تولية أو شركة ، وحينئذ تكون الحطيطة ممنوعاً منها.

ولكن يمكن القول : إن الروايات المانعة من البيع إلاّ تولية كان المقصود منها هو القصر الإضافي بالنسبة إلى المرابحة ، فحينئذ يكون المعنى بأنّ البيع بنحو المرابحة قبل القبض لا يجوز ، بل يلزم أن يكون تولية ، وليس المقصود أنَّ الحطيطة لا تجوز. وعليه فيمكن الحكم بجواز الحطيطة تمسكاً بقاعدة (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) .

ويدلّ على هذا ظاهر التقابل بين المرابحة والتولية في الروايات ، فيجوز ما عدا المرابحة ، فقد ذكرت صحيحة علي بن جعفر عن الإمام الكاظم علیه السلام : « إذا ربح لم يصلح حتى يقبض ، وإن كان تولية فلا بأس » (2).

أقول : في الرواية المتقدّمة شرطيتان اختلف الجزاء فيهما بنحو التضاد أو التناقض ، وكل منهما بعض مفهوم الآخر ، وحينئذ يكون الظاهر الذي سيق لبيان

ص: 73


1- المغني : ج 4 ، ص 225.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 9.

المفهوم هو الشرطية الاُولى فقط ، لا كلتاهما ، ولا خصوص الثانية ، بل الشرطية الثانية هي لصرف بيان بعض أفراد مفهوم الشرطية الاُولى ، وعلى هذا يرتفع توهّم التناقض بين الشرطيتين ، فيتّضح إناطة الحرمة بالمرابحة وجوداً وعدماً (1).

ويؤيّد هذا ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله انّه لما بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (2). وبما أنّ الحطيطة ليست ربحاً لما لا يضمن ، بل هي خسارة فلا يشملها النهي.

هذا ، ولكن توجد رواية أبي بصير القائلة : « لا بأس أن يولّيه كما اشتراه إذا لم يربح فيه أو يضع » (3).

فقيّدت عدم البأس في البيع قبل القبض بعدم الربح وعدم الوضع. ولكن الرواية ضعيفة بعلي ابن أبي حمزة البطائني.

أقول : ممّا تقدّم من هذه الاستثناءات يتّضح عدم صحّة ما ذكر من أن الشركة في المكيل والموزون قبل القبض والتولية والحوالة به كالبيع ، كما ذهب إلى ذلك ابو حنيفة والشافعي (4) ، لعدم دليل يعتدّ به على ذلك ، على أنّ الدليل خلافه.

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟ (5)

إذا اشترى إنسان شيئاً مكيلا أو موزوناً وباعه قبل قبضه ، ولكن اشترط على

ص: 74


1- شرح الشهيدي على مكاسب الشيخ الأنصاري : ص 316.
2- المغني 4 : 221.
3- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 16 من أحكام العقود ، ح 16.
4- المغني لابن قدامة : ج 4 ، ص 223.
5- ذكرنا في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي بجدّة في دورته التاسعة في « أبو ظبي » : عدم قيام قدرة البائع ( في بيع السلم على توفير السلعة عند المطالبة ) عن القبض ، وكذا ذكرنا عدم قيام التأمين على سلعة المسلم فيها عن القبض ، وعدم قيام وجودها في مخازن عمومية منظمة عن القبض أيضاً بنفس النكتة التي ذكرناها هنا.

نفسه فيما إذا تلف المبيع يكون ضمانه عليه ( لا على البائع الأول ولا على المشتري الثاني ) فهل يصحّ أن يقوم هذا الضمان مقام القبض الحسّي فتصحّ المعاملة الثانية ؟

أقول : إنّ القبض الذي يجعل البائع ضامناً للبضاعة إذا لم يحصل ويرتفع الضمان عنه إذا حصل ، هو غير القبض الذي يجوّز للمشتري بيع بضاعته بعده ، ولا يجوز له بيع بضاعته قبله ، إذ المراد من الأوّل التخلية ، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين البضاعة المباعة فقد خرج عن الضمان وإن لم يحصل القبض الحسّي من قبل المشتري ، وحينئذ يكون البائع غير ضامن ، ومع ذلك لا يجوز للمشتري أن يبيع البضاعة قبل أن يقبضها قبضاً حسيّاً ويحوزها. وبهذا يفهم أنّ المراد من القبض في الثاني هو القبض الحسّي ، وعليه فإذا خرج البائع عن الضمان بالتخلية توجّه الضمان على المشتري ، ولكن إذا لم يحصل القبض الحسّي فلا يجوز له بيع البضاعة المكيلة أو الموزونة ، للأدلّة المتقدّمة المصرِّحة بلا بدّية القبض الحسّي في البيع الثاني.

ثم : إنّ بين ضمان المشتري للمبيع وقبضه تبايناً وتضادّاً ، وقد جعل الشارع القبض الحقيقي شرطاً لصحّة البيع الثاني إذا كان غير تولية.

وحينئذ نقول : لا يمكن أن يقوم مقامه ضمان المشتري للمبيع ، على أننا لم نعلم علّة لابدّية القبض في المكيل والموزون قبل البيع الثاني ، ومن يقول بقيام الضمان مقام القبض لابدّ له من أن يثبت أنّ علّة القبض في المبيع قبل البيع الثاني إنّما هي لضمان المشتري السلعة ، وهذا دونه خرط القتاد.

7 - شحن السلعة في السفن

في التجارة الدولية يكون شحن السلع في السفن مُخرِجاً للبائع عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ، ثم إنّ المشتري قد يقوم ببيعها وهي في البحر لشخص ثالث ، ويكون هذا البيع مُخرِجاً للمشتري الأول عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ،

ص: 75

ويتحمّل المشتري الثاني الخسارة في صورة التلف ، فهل تكون هذه المعاملة صحيحة ؟

أقول : هنا مشكلتان :

الاُولى : الضمان على المشتري قبل أن يقبض المبيع.

الثانية : بيع المبيع قبل قبضه.

ولأجل حلّ المشكلتين نقول : إذا كان الشرط في البيع هو التسليم على ظهر السفينة وكان البائع قد شحن السلعة في السفينة فيكون قد خلّى بين المشتري وسلعته ، وحينئذ فقد خرج عن الضمان وقد انحلّت المشكلة الاُولى.

ثم إذا كان ربّان السفينة يعدّ وكيلا عن المشتري فقد حصل القبض الحسّي بالوكالة الذي يجوّز للمشتري أن يبيع هذه السلعة وإن كانت مكيلة أو موزونة. أمّا إذا كانت البضاعة غير مكيلة أو موزونة فيجوز بيعها قبل قبضها ، كما تقدّم ذلك.

ونتمكّن أن نتصوّر وكالة ربّان السفينة فيما إذا كان أمرُ ما في السفينة بيد المشتري ، بحيث يتمكّن أن يأمرَ ربّانها بواسطة الاتصالات الحديثة بالتوجّه إلى غير بلد المشتري ، أو يأمره بتسليم البضاعة إلى شخص آخر ، وحينئذ يتمكّن أن يبيع هذه البضاعة إلى شخص ثالث ، لأنّها مقبوضة بالقبض الحسّي بالوكالة. وبهذا فقد انحلّت المشكلة الثانية.

ثم إذا كان أمر ما في السفينة بيد المشتري الثاني ، بحيث لا يكون للمشتري الأوّل الذي باع أيّ تسلّط بعد بيعه على البضاعة فقد خرج المشتري الأوّل عن الضمان ، لحصول التخلية بين البضاعة وبين المشتري الثاني. فإن عُدّ ربّان السفينة وكيلا عن المشتري الثاني في القبض والتسلّط بحيث كان يأتمر بأمر المشتري الثاني في التوجّه إلى أي مكان أراد فحينئذ تكون البضاعة مقبوضة بالقبض الحسّي للمشتري الثاني بالوكالة ، فيصحّ بيعها وإن كان مكيلة أو موزونة ... وهكذا.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في كتاب المكاسب فقال : « لو باع داراً أو سفينة مشحونة بأمتعة البائع ومكّنه منها بحيث جعل له تحويلها من مكان إلى

ص: 76

مكان كان قبضاً ... » (1).

أمّا إذا كان الشحن في السفينة لا يعدّ تخلية كما إذا كان الشراء للسلعة قد اشترط فيها التسليم في بلد المشتري ففي هذه الصورة لا يكون الشَحن في السُفن تخليةً للسلعة ، كما لا يكون المشتري متسلّطاً عليها بحيث يتمكّن أن يأمر ربّانها بتسليمها إلى شخص ثالث أو التوجّه إلى غير بلد المشتري ، بل يكون أمر البضاعة بيد البائع ، وحينئذ إذا تلفت السلعة فيكون ضمانها على البائع ، لقاعدة « اذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه ». كما لا يمكن للمشتري بيعها على آخر إذا كانت مكيلة أو موزونة ، لعدم تسلّطه عليها بحيث يكون قابضاً. وعلى هذا فإنَّ اشترط الضمان على المشتري في هذه الصورة يكون الشرط مخالفاً للسنّة ، ولا يصحّ بيعها قبل قبضها للأدلّة المتقدّمة على ذلك إن كانت البضاعة مكيلة أو موزنة.

8 - بيع السمك في النهر أو البركة

قد يملك إنسانٌ نهراً أو بِركةً قد ربّى فيها السمك فهل يجوز له أن يعقد مقاولة مع آخرين على الانتفاع بهذه البركة أو النهر الذي فيه السمك ( أكلا أو بيعاً له بعد اصطياده ) مدّة معلومة بأجر معيّن ؟

والجواب : أنّ هذه المقاولة يمكن تصوّرها بثلاث صور :

1 - بيع السمك الموجود إذا كان معيناً ) وإجارة البركة مدّة معيّنة. وبما أنَّ السمك معلوم بالمشاهدة فالبيع صحيح. وبما أن المدّة معلومة لإجارة البركة والأجر معين أيضاً فالإجارة صحيحة.

2 - إذا لم يكن السمك معلوماً فيتمكّن أن يبيع كمية معلومة منه مع الباقي الذي

ص: 77


1- المكاسب : ج 2 ، ص 311.

يجهل مقداره ، ويدلّ على صحّة هذا البيع روايات الضميمة ، وهي على طوائف :

الطائفة الاُولى : تدلّ على جواز بيع اللبن في الضرع إذا ضمّ إليه شيء معلوم (1).

الطائفة الثانية : تدلّ على جواز بيع ما في بطون الأنعام مع الضميمة لا منفرداً (2).

الطائفة الثالثة : تدلّ على جواز بيع الآبق منضمّاً إليه شيء معلوم لا منفرداً (3).

الطائفة الرابعة : تدلّ على جواز شراء ما لم يدرك منضمّاً إليه ما أدرك (4).

الطائفة الخامسة : تدلّ على جواز بيع الثمار قبل خروج الطلع مع الضميمة (5).

فمن الطائفة الاُولى : موثقة سماعة قال : « سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع ؟ فقال : لا ، إلاّ أن يحلب لك منه اُسكرجّة فيقول : اشترِ منّي هذا اللبن في الاُسكرجة وما في ضروعها بثمن مسمّى ، فإن لم يكن في الضرع شيء كان ما في الاُسكرجة » (6).

ومن الطائفة الثالثة : صحيحة رفاعة النخّاس قال : « سألت الإمام الرضا علیه السلام قلت له : أيصلحلي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة واُعطيهم الثمن وأطلبها أنا ؟ قال علیه السلام : لا يصلح شراؤها إلاّ أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً فتقول لهم أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً ،

ص: 78


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من عقد البيع وشروطه.
2- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
3- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
4- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
5- المصدر السابق : ب 10 من عقد البيع وشروطه.
6- الحديث الثاني من الطائفة الأولى.

فإنّ ذلك جائز » (1).

ومن الطائفة الخامسة : موثّقة سماعة عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها ؟ فقال علیه السلام : لا ، إلاّ أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلة فيقول : أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا ، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل » (2).

3 - كما يمكن تصوّر المقاولة بصورة الإجارة للبركة مدّة معلومة على أن ينتفع بها وبما فيها أكلا أو بيعاً بعد اصطياده ، وهذا نظير إجارة البقرة للانتفاع بها وبلبنها مدّة معلومة ، وإجارة المرأة للرضاع (3).

وهذا الحكم في الصور الثلاث لا يختلف فيما إذا جاء السمك إلى النهر أو البركة تلقائياً بواسطة الفيضانات ، فإنَّ المالك للنهر أو البركة يملك ما يدخل فيها ، وحينئذ إمّا أن يبيعه إذا كان معلوماً ويؤجر البركة لمدّة معينة. وإمّا أن يبيع شيئاً معلوماً منه مع ضميمة الموجود فيها الذي لا يُعلم مقداره. أو يؤجر البركة على أن ينتفع بما فيها لمدّة معلومة كإجارة المرأة للإرضاع.

كما أنّ هذا الحكم لا يختلف لو كانت الدولة مالكة للنهر أو البركة من باب ملكيتها للأنفال ، فتملك ما فيهما كذلك ، وتصحّ المعاملات المتقدّمة على هذا السمك الذي في البركة بصوره الثلاث بشرط أن تكون الدولة شرعية ، بمعنى قيمومتها الشرعية على المجتمع ، كأن يكون رئيس الدولة حاكماً شرعياً أو منصوباً من قبله بحيث تكون الأنفال ملكاً للمقام.

وكذا تصحّ هذه الصور الثلاث إذا كانت الملكية للمسلمين ، وكان المتوليّ

ص: 79


1- الحديث الأول من الطائفة الثالثة ، وأمّا الحديث الثاني فيها فهو موثّق.
2- الحديث الأوّل من الطائفة الخامسة.
3- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 71 من أبواب أحكام الأولاد ، أحاديث الباب.

عليهم حاكماً شرعياً يصرف حاصل ما باعه أو أجّره على المسلمين.

9 - بيع الحطب

قد تعمد الدولة لبيع أحطاب الأشجار التي تغرسها في أطراف الطرق ، أو تخرج تلقائياً في أرض الحكومة ، وهذه المعاملة أيضاً صحيحة إذا كان ما يغرس أو يخرج تلقائياً في أرض الدولة ( الأنفال ) أو الأراضي الميتة التي تكون للإمام علیه السلام أو في أرض المسلمين إذا قام بها الحاكم الشرعي أو وكيله.

أمّا إذا كانت الحكومة غير شرعية فالتصرّفات فيها على بيع الحطب أو المقاولة على السمك بصوره الثلاث المتقدّمة مشكلةٌ ، لأنّ الحكومة إمّا ليست بمالكة ، أو ليس لها ولاية على أموال المسلمين ، فتحتاج تصرّفاتها إلى إمضاء من الحاكم الشرعي ، فإن لم يمضِ الحاكم الشرعي تصرّفات الحكومة غير الشرعية في المقاولات على السمك أو بيعها له بصوره الصحيحة أو بيعها للحطب ، فيجب على المشتري لهذه الأسماك أو المؤجّر للبرك أو المشتري للحطب المراجعة والمصالحة مع الحاكم الشرعي ، لأخذ الثمن أو الإجارة منه وصرفها في مواردها المقررة من صرف موارد الانفال أو الصرف على مصالح المسلمين ، حتى يكون عمل المشتري صحيحاً. واللّه هو العالم بحقائق الاُمور.

هذا ما أردنا بيانه على الأسئلة الموجّهة من مجمع الفقه الإسلامي في الهند لدورته التاسعة. والحمد لله أولاً وآخراً.

* * *

ص: 80

العقود المستجدة

اشارة

ص: 81

ص: 82

مقدمة

إذا نظرنا إلى العنوان المطروح من قبل المجمع الموقّر (1) وكذا إلى عناصره ( من تعريف للعقود المجتمعة وتحرير المقصود من منع صفقتين في صفقة ... الخ ) وأثر المواعدة على العقود المجتمعة والنماذج للتطبيقات المعاصرة - عقود التوريد والمشاركة المتناقصة « المناقصات » - نجد أن المراد من البحث ليس هو عموم العقود المستجدة ، بل خصوص عقد التوريد الذي يبدو اعتباره من العقود المركبة ، وعقد المناقصات الذي يبدو اعتباره من العقود المجتمعة ( الجمع بين العقود ) (2).

والمراد بالمناقصات التي تقع في الخارج أو يمكن أن تقع :

1 - إمّا مقاولات ، وهي أعمال التنفيذ في المشروعات الكبيرة ، وتسمّى مناقصات عقد الإجارة.

2 - أو مناقصات البيع والشراء إذا كانت على سلعة خارجية تباع أو تشترى.

ص: 83


1- المقصود به مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
2- لم نجد فرقاً بين العقود المركبة والعقود المجتمعة ، إلاّ أن يكون التركيب عبارة عن عدة عقود من نوع واحد متدرجة في الزمان أو لا ، أمّا العقود المجتمعة فهي عدة عقود متنوعة اجتمعت لغاية واحدة. وإلاّ فكلاهما عقود مجتمعة.

3 - أو مناقصات الاستصناع إذا كانت المواد والعمل يحوَّلان بعد الأجل إلى المشتري.

4 - أو مناقصات السلم إذا كانت السلعة تحوّل بعد الأجل إلى المشتري.

5 - أو مناقصات الاستثمار ، كما إذا كانت المناقصة لإيجاد عقد مضاربة أو مزارعة أو مساقاة مثلاً.

ولهذا سوف نتعرض لبعض العقود المجتمعة بصورة اجمالية حسب عموم الموضوع ، ونركّز على عقد التوريد وعقد المناقصات حسب ما جاء في عناصر البحث.

ولكن قبل بدء البحث لابدّ من بيان أن العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن بقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هل تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن الشارع المقدّس ، وحينئذ يكون كل عقد - غيرها - محكوماً بالبطلان ، أو أن المراد من قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كل عقد كان موجوداً في زمن النص أو سيوجد فيما بعد مما ينطبق عليه عنوان العقد فهو محكوم بالصحة ويجب الوفاء به ؟

وبعبارة اُخرى : أنّ الآية القرآنية : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هل المراد منها العقود الخارجية أو المراد منها العقود الحقيقية ، وقد اُخذ العقد على نحو القضية الحقيقية ؟

والمعروف في الجواب على هذا التساؤل هو : أنّ خطابات الشارع لو خلّي وطبعها تكون قد اُخذت على نحو القضايا الحقيقية ، بمعنى أن الشارع اوجد حكمه على موضوع معين ، فمتى وجد هذا الموضوع وجد حكم الشارع ، فتكون خطابات الشارع ومنها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قد اُخذت على نحو القضية الحقيقية.

وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي - ولو كان جديداً لم يكن متعارفاً عند نزول النصّ - يجب الوفاء به إذا كان مشتملا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين أو المتعاقدين أو العقد ، ككون الثمنين معلومين ، وبلوغ وعقل المتعاقدين وأمثالهما.

ص: 84

وقد نجد في ثنايا الفقه الإمامي وغيره نتيجة هذه الاجابة ، فقد ذكر السيد اليزدي في العروة الوثقى فقال : « يمكن أن يقال بإمكان تحقيق الضمان منجزاً مع كون الوفاء معلقاً على عدم وفاء المضمون له ، لأنه يصدق أنه ضمن الدين على نحو الضمان في الأعيان المضمونة » (1).

وقد ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه في شرح مراد السيد اليزدي فقال : « ولعلّ مراده من كلامه هذا يرجع إلى ارادة معنى آخر غير المعنى المصطلح من الضمان ، اعني نقل ما في ذمة إلى اُخرى (2). وقد يكون هذا المعنى هو التعهد بالمال وكون مسؤوليته عليه من دون انتقاله - بالفعل - إلى ذمته ، كما هو الحال في موارد ضمان العارية مع الشرط ، أو كون العين المستأجرة ذهباً أو فضة فإن ضمانها ليس بالمعنى المصطلح جزماً ، إذ لا ينتقل شيء بالعارية إلى ذمة المستعير ، فإن العين لا تقبل الانتقال إلى الذمة وهو غير مشغول الذمة ببدلها قبل تلفها ، فليس ضمانها إلاّ بمعنى كون مسؤوليتها في عهدته بحيث يكون هو المتعهد بردّها ولو مثلاً أو قيمةً عند تلفها ... وكيف كان فإذا صحّ مثل هذا الضمان في الأعيان الخارجية كموارد اليد والعارية فليكن ثابتاً في الاُمور الثابتة في الذمة أيضاً ، فإنه لا يبعد دعوى كونه متعارفاً كثيراً في الخارج ، فإنَّ أصحاب الجاه والشأن يضمنون المجاهيل من الناس من دون أن يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم ، وإنّما يراد به تعهدهم به عند تخلّف المضمون عنه عن أداءه ».

ثم قال الإمام الخوئي : « والحاصل : أنّ الضمان في المقام غير مستعمل في معناه المصطلح ... وإنّما هو مستعمل في التعهد والمسؤولية عن المال ، وهو أمر متعارف عند العقلاء ، فتشمله العمومات والاطلاقات ، فإنَّه عقد يجب

ص: 85


1- العروة الوثقى : ج 2 من كتاب الضمان ، ص 588 طبعة 1410 ه - 1990 م.
2- إنّ المشهور في فقه الإمامية أن عقد الضمان هو نقل الدين من ذمة إلى اُخرى ، لا ضم ذمة إلى ذمة.

الوفاء به » (1).

وقد ذكر الشهيد الصدر - رضوان اللّه تعالى عليه - النتيجة نفسها التي انتهينا إليها سابقاً فقال : إنّ هناك معنىً للضمان غير المعنى المصطلح عند الإمامية وعند السُنَّة ، وهو معنى ثالث عبارة عن : « تعهد بالأداء لا تعهد بالمبلغ في عرض مسؤولية المدين ، وأنّ هذا التعهد ينتج ضمان قيمة المتعهد به إذا تلف بامتناع المدين عن الأداء ، ولكن حيث إنّ الأداء ليس له قيمة مالية إلاّ بلحاظ مالية مبلغ الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين ، فيسقط الدين بذلك.

وهذا المعنى للضمان صحيح شرعاً بحكم الارتكاز العقلائي أولاً ، وللتمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ثانياً ، إلاّ أنّ التمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يتوقف على أن نثبت قبل ذلك بالارتكاز العقلائي - مثلاً - عقدية هذا النحو من التعهد والضمان ، أي كون ايجاده المعاملي متقوماً بالتزامين من الطرفين ، ليحصل بذلك معنى العقد بناء على تقوّم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقوداً بالآخر » (2).

وعلى هذا فسوف تكون عندنا قاعدة أنَّ كل عقد عرفي قد ثبتت عقديته عرفاً بالارتكاز العقلائي إذا كان مشتملا على شروط صحة العقد الشرعية وخالياً عن موانع العقد يجب الوفاء به استناداً إلى قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

تعريف العقود المجتمعة

اشارة

لم أطّلع على تعريف ذكر للعقود المجتمعة ، ولكن يمكن أن يقال : « إنّها عبارة عن منظومة عقود لها صلة ببعضها تؤدي إلى هدف - عقد - واحد هو الأصل ».

ص: 86


1- مباني العروة الوثقى : كتاب المساقاة ص 114 - 116.
2- البنك اللاربوي في الإسلام للشهيد الصدر : ص 231 - 232.

ويمكن أن نمثّل للعقود المجتمعة بعقود المناقصات التي قد تكون لتوريد سلعة أو لإنشاء مشروع أو مناقصة بيع أو شراء أو استصناع أو سلم أو استثمار ، فإنَّ في جميع هذه العقود يوجد عقد واحد هو المقصود الأصلي من المناقصات ، ولكن تسبقه عدّة إجراءات وعقود مرتبطة ببعضها ، كبيع دفتر الشروط وتقديم الضمان الابتدائي والانتهائي وغيرهما - كما سيأتي ذلك فيما بعد - ممّا يكون دخيلا في العملية الأصلية ، ويعتبر العقد في النهاية عقداً واحداً وهو العقد الأصلي.

وسنتحدث عن العقود المجتمعة ضمن هذه الأمثلة :

1 - بيع العينة.

2 - الإجارة بشرط التمليك.

3 - بطاقة الائتمان.

4 - المشاركة المتناقصة.

5 - عقد التوريد.

6 - المناقصات.

ولا بأس بالتعرض لها اجمالاً لمعرفة حكمها.

1 - بيع العينة

وقد يُدعى بعقد المخاطرة ، وقد ورد في الفقه الإسلامي التعرض له.

وخلاصته : أن يبيع رجل من آخر سلعته التي قيمتها مئة دينار بمئة وعشرين ديناراً مؤجلة الى سنة ، ثم يبيع المشتري - الذي أصبح مالكاً للسلعة - السلعة نفسها على البائع نقداً بمئة دينار ، فيكون المشتري في النهاية قد حصل على مئة دينار نقداً بمئة وعشرين ديناراً مؤجلة إلى سنة. وهذا هو الربا المستور تحت البيع.

ص: 87

وقد يكون الأمر بالعكس بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نقداً ثم يشتريها من المشتري نسيئةً بمقدار أكبر من قيمتها - وهذا هو الذي تنظر إليه روايات الإمامية - فيكون البائع في البيع الأول هو المشتري في البيع الثاني ، وبالعكس.

وقد تصوّر بصورة ثالثة : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئة بالسعر السوقي ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً.

وقد ذكرت معان اُخر للعينة إلاّ أنّها ليست معروفة نُعرض عنها (1).

أقول : إنّ ما تقدم من صور العينة قد يكون على أنحاء ثلاثة :

1 - أن يشترط البيع الثاني في البيع الأول صريحاً.

2 - أن يبنى البيع الثاني على البيع الأول بالاتفاق عليه قبل العقد ولكن من دون ذكر صريح له في العقد.

3 - أن يقع البيع الثاني بعد البيع الأول صدفةً ومن دون سبق اتفاق بين الطرفين.

أمّا الصورة الاُولى والثانية - والذي لا فرق بينهما إلاّ أن الأولى كان الشرط فيها صريحاً دون الثانية التي كان الشرط فيها ضمنيّاً وارتكازياً - فقد ذهب علماء أهل السُنَّة إلى البطلان فيهما ؛ لعدم قصد البيع واقعاً وقصد الربا حقيقة بهذه المعاملة.

أمّا عند علماء الإماميّة فقد نقل الشيخ الأنصاري قدس سره : إنّ المشهور بينهم عدم الجواز ، ولكن اختلفوا في تعليله على وجوه :

منها : عدم قصد البيع كما ذكر عند أهل السُنَّة.

ومنها : وجود النصوص الصحيحة في المقام الدالة على البطلان ، منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ( الإمام الكاظم علیه السلام ) قال :

ص: 88


1- راجع الرابا فقهياً واقتصادياً للمؤلف : ص 245 وما بعدها.

« سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد ، ؟ قال علیه السلام : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس »(1).

ومعناها : إذا شرط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات حيث إن السؤال عن حلّيّة البيع وشرائه.

وأمّا إذالم يشترط ذلك بأن كان البائع بالخيار إن شاء اشترى وان شاء لم يشترِ فلا بأس بهذه المعاملة ، وهذا هو حكم الصورة الثالثة ، بالاضافة إلى أنها لا تحتاج إلى نص ، إذ هي كما إذا بعتُ سلعتي بمئة دينار نقداً ، ثم اشتريت مثلها من شخص ثالث بمئة وعشرين مؤجلة إلى شهر ، أو مثل ما إذا اشتريت سلعة مؤجلة إلى شهر بمئة وعشرين ثم بعتها على غير البائع بمئة نقداً فهذه المعاملة صحيحة بلا إشكال بلا احتياج إلى نص ، لعدم وجود شرط في البين فهي كالصورة الثالثة.

ملاحظة : يمكننا القول في الصورة الاُولى والثانية : بأنَّ العرف يرى انطباق المعاملة القرضية عليها ، لأنّ القرض هو : تبديل المال الخارجي بمثله في الذمة. والنتيجة من المعاملتين المشروط فيها المعاملة الثانية في الاُولى هو حصول أحدهما على مائة دينار خارجية على أن تكون مضمونة عليه في ذمته ، فلا قصد إلى معاملتين أصلاً ، بل القصد إلى معاملة واحدة هي القرض ، وحينئذ لا يجوز الزيادة في القرض ، فإذا حصلت الزيادة بالشرط فهو ربا.

2 - الإجارة بشرط التمليك
اشارة

إنّ الإجارة بشرط التمليك هي إحدى وسائل التمويل عن طريق تمليك المنفعة أولاً ، ثم تمليك العين نفسها في آخر مدّة الاجارة. وقد وصفه فقهاء القانون

ص: 89


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 5 من أحكام العقود ، ح 6 وغيره.

بالبيع الايجاري وذلك في سنة 1846 م ، أو الايجار الساتر للبيع ، أو الايجار المملِّك. وله صور أهمّها :

أ - عقد واحد :

بأنْ يصاغ عقد الإجارة الذي ينتهي بتملك الشيء المؤجَر مقابل ثمن يتمثّل في المبالغ التي دفعت كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجَر خلال المدّة المحدودة ، فيصبح المستأجِر مالكاً للشيء المؤجَر تلقائياً بمجرد سدّ القسط الاخير دون حاجة إلى عقد تمليك جديد.

ب - عقدان مع وعد بينهما :

بأن يصاغ عقد الايجار لمدة محدودة على أن يكون للمستأجِر الحقّ في تملك العين المؤجَرة في نهاية المدّة مقابل دفع مبلغ سواء كان الثمن :

1 - رمزياً ، روعي فيه الاقساط الايجارية المرتفعة ارتفاعاً كبيراً عن ثمن المثل للاجرة المتعارفة لهذا الشيء التي تعادل مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما اُضيف إليه من ثمن رمزي.

2 - أو حقيقياً ، بحيث لا يكون للاقساط الايجارية أي تأثير في ثمن السلعة الحقيقي (1).

أقول : الصورة الأولى ليست من العقود المجتمعة ، بل هي عقد واحد فيه شرط نتيجة.

ص: 90


1- والهدف من هاتين الصورتين للاجارة المنتهية بالتمليك هو ضمان حقوق المؤجر التي يريدها من وراء البيع لهذه السلعة لمصلحة المستأجر بحيث لا يتلكأ المشتري من عدم السداد بعد عقد صفقة البيع ، أو يحجر على السلعة إذا لم يحصل المؤجر على كل ماله من الثمن ، فإذا حصل المؤجر على الثمن كاملا وتحقّق قصده فهو لا يمانع أن تكون السلعة ( البيت ) للمستأجر بثمن أو بلا ثمن.
ما هو شرط النتيجة ؟

أقول : إنّ الشرط الذي اشترط لم يكن فعلاً وإنّما هو أمر جعلي جعله المتعاقدان ، مثل أن يقول شخص لآخر : بعتك السيارة بألف بشرط أن يكون الكتاب ملكي.

ويختص شرط النتيجة الذي يحكم بصحته في العقود في تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص ( كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة ) مثل الوصية والوكالة ، كما إذا زوجت المرأة نفسها للزوج بشرط أن تكون وكيلة أو مأذونة في طلاق نفسها مطلقاً ، أو في موارد خاصة كحبس الزوج مدة معينة ، فالمشروط هنا الوكالة نفسها. وكذا إذا اشترطت الزوجة أن تكون وصية للزوج بالنسبة لثلث ماله أو على أطفاله. وكذا إذا اشترط شخص في هبته سقوط الخيار في النكاح ، فهذه الشروط - التي هي شروط نتيجة - قد صحّحتها نصوص شرعية (1).

ولكن يكفينا « المؤمنون عند شروطهم » الذي يشمل الشرط إذا كان فعلاً يقوم به المشروط عليه ، أو كان الشرط نتيجة الفعل المترتب على الشرط ، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة لي ، « فالمسلمون عند شروطهم » يقول : ادفع الثلاجة إلى المشتري وهو معنى صحة شرط النتيجة.

« وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وانشاؤه بغير الشرط صحيحاً ، وبالشرط لازماً » (2).

ص: 91


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 6 من الخيار ، ح 4 رواية الحلبي ، و ب 8 من الخيار ، ح 3 رواية معاوية بن ميسرة ، و ج 13 ، ب 30 من أحكام الاجارة ، ح 5 رواية موسى بن بكر ، و ب 29 من أحكام الإجارة ، ح 15 ، و ج 16 ، ب 11 من المكاتبة ، ح 1 رواية سليمان بن خالد.
2- (2) وقد يقال : إنّ هذا الاستدلال غير صحيح ، لأن حديث « المسلمون عند شروطهم » مقيّد بجملة « إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه أو إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ». وإذا شككنا في أن الملكية الحاصلة بالشرط من دون انشاء ولا عوض ولا مجاناً هل تكون مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فحينئذ يكون التمسك ب « المسلمون عند شروطهم » من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصص. وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس سره عن هذا الاشكال بما خلاصته : أن الهبة بدون إنشاء ولا عوض ولا مجاناً كان جائزاً وغير مخالف للكتاب والسنة ولو قبل الكتاب والسنة ، والآن لا نعلم أنها مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فنستصحب عدم المخالفة . وحينئذٍ تكون الملكية بالشرط وجدانية وكونها غير مخالفة للكتاب والسنة بالأصل فيكون الموضوع محرزاً . أقول: إن كل شرط إذا لم يعلم مخالفته للكتاب والسنة يمكن التمسك لصحته بعمومات فوقانية ، مثل : «المسلمون عند شروطهم ...» أو موثقة إسحاق بن عمار القائلة: « من شرط لامرأته شرطاً فليفلها به ، فإنَّ المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً». وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 40 من العقود. وقد أشكل على الشيخ الأنصاري : بأنَّ الاستصحاب غير صحيح، وذلك لأنَّ الحالة السابقة هي سالبة بانتفاء الموضوع ، بمعنى أن الشرط حينما كان غير مخالف للكتاب والسُنَّة لم يكن الشرط موجوداً ، ولكن موضوع وجوب الوفاء هو : سالبة بانتفاء المحمول (السالبة المحصلة) بمعنى وجود الشرط وعدم مخالفة الكتاب والسنة ، وهذه السالبة المحصلة ليست لها حالة سابقة، وحينئذ إذا أردنا استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لاثبات السالبة بانتفاء المحمول يكون أصلاً مثبتاً . وقد رد الشيخ النائيني قدس سره هذا الإشكال بما لا يسع المقام لذكره في مثل هذه الأبحاث، فنكتفي بهذا المقدار .

كما يمكن أن يستدل على صحة شرط النتيجة ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث إن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام باصل المعاملة والالتزام بالأمر الوضعي ، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد ، ف (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقول : فِ بالعقد والشرط ، فيكون الشرط صحيحاً.

ولا نرى حاجة للتنبيه إلى أن وجوب الوفاء بالشرط لا يفرق فيه بين العقد اللازم والجائز ما دام العقد لم يُفسخ ، لأنّ الشرط مرتبط بالالتزام العقدي وهو موجود لم يلغ.

ص: 92

نعم ، إذا اُلغي الالتزام العقدي بالفسخ في العقد الجائز أو بالاقالة في العقد اللازم فلا يجب الوفاء بالشرط ؛ لزوال الالتزام العقدي.

الصورة الثانية (1) : وهي عبارة عن عقد اجارة ثم وعد أو عهد ببيع البيت ( عند انتهاء أمد الاجارة ) بثمن معين ، ثم بيع البيت بذلك الثمن آخر المدة.

وهذه عقود مجتمعة على مرّ الزمان مرتبطة فيما بينها تحقّق هدفاً - عقداً - واحداً هو الأصل.

ولا يوجد هنا عقد معلق على شرط أو أجل كما قيل (2) ، وإنّما عند انتهاء عقد الاجارة يحصل بيع البيت ( كما وعد المؤجر بذلك ) للمستأجر بثمن معين ، وهذا هو شرط فعل البيع في عقد الاجارة.

وبما أنّنا لا نرى أي إشكال في وجود شرط الفعل ( فعل البيع ) عند الاجارة أو أي شرط آخر إذا كان هذا الشرط لا يوجب تعليقاً في العقد ويحقّق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين ، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد ولا يخالف كتاباً ولا سُنَّة ، ولا يوجب غرراً أو محذوراً آخر ، ولا يكون مستحيلا وذلك للحديث الصحيح الذي قبله الفريقان وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً أو إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه » (3).

ص: 93


1- تقدّمت الصورة الاُولى في ص90.
2- راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، الدورة الخامسة ج 4 بحث الدكتور حسن علي الشاذلي « الايجار المنتهي بالتمليك ».
3- رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود وابن ماجة ، وصححه ابن حبان. وروي أيضاً في وسائل الشيعة : ج 3. ب 40 من المهور ، ح 4 والحديث موثّق ، وفي ب20 من المهور ح 4 والرواية صحيحة.

وأمّا ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله من انه : نهى عن شرطين في بيع ، فيما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ». وقد ورد هذا الحديث من طرق الامامية أيضاً ، فنقول : إنّ معناه ليس كما قاله بعضٌ ( الحنابلة ) من أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد ولا يبطل شرط فاسد واحد (1).

وليس معناه أيضاً : النهي عن اشتراط عقد في عقد ، كما لو باعه بيتاً بشرط أن يبيعه السيارة ، كما عن الزيدية والأباضية (2).

بل معناه - كما ورد في ذلك أثر - هو التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة ، فقد روى النوفلي عن السكوني عن جعفر ( الإمام الصادق علیه السلام ) عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن آبائه علیهم السلام : « أن عليّاً علیه السلام قضى في رجل باع بيعاً واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا فاخذ المتاع على ذلك الشرط ، فقال علیه السلام : هو بأقلّ الثمنين وأبعد الأجلين » (3).

وأمّا الوعد - العهد - الذي تقدّم من المؤجر للمستأجر فسوف نرى فيما بعد أنه ملزم للمؤجر.

ص: 94


1- راجع بحث الدكتور حسن علي الشاذلي : « الايجار المنتهي بالتمليك » في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في الدورة الخامسة : ج 4 ، عدد 5.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 2. وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً من الناحية السندية إلا أنه يفسِّر معنى الشرطين في العقد ، فإن السند إذا كان غير صحيح لا يمكن الاعتماد على الحكم الذي قال به الأثر ، أما الاستعمال والمعنى فلا يحتاج إلى صحة السند لمعرفته ، لكن توجد صحيحة محمد بن قيس البجلي وهو الحديث الأول في الباب نفسه تقول بنفس المضمون، وتوجيه الحكم فيها هو فيها إذا باعها حالاً بنقد وإذا أجل الثمن فيزيد فهو شرط حرام لأنه ربا حيث أجل المال في مقابل الزيادة.
3 - بطاقة الائتمان

إنّ بطاقة الائتمان التي يعطيها المصدِّر ( وهو البنك ) لشخص حقيقي أو حقوقي بناء على عقد بينهما يمكّن من بيع أو شراء السلع أو غيرها من الحصول على الخدمات أو تقديمها أو سحب النقود من بنك آخر على حساب المصدِّر هي عبارة عن عقدين :

الأول : عقد بين مصدِّر البطاقة وبين الحامل لها يتضمّن حدّاً أقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما ، فالبنك تعهد باعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة ( من حساب العميل إن وجد ومن حساب البنك المصدِّر إن لم يوجد للعميل رصيد كاف عند البنك ). وفي مقابل ذلك تعهّد حامل البطاقة بالسداد في وقت محدد إن لم يكن له رصيد كاف في البنك.

ونتمكّن أن نطلق على هذا العقد عقد ضمان بالمعنى الذي يقوله الإمامية ، وهو نقل الدين من ذمة إلى ذمة ( في صورة ما إذا لم يكن للعميل رصيد عند البنك ) ، وهذا العقد يمكن انشاؤه مستقلاً بعد كل معاملة قام بها العميل مع التاجر وكسب التاجر الموافقة على ضمان العميل من قبل البنك بالطرق الالكترونية الحديثة. وحينئذ ينتقل الدين من ذمة حامل البطاقة بعد الشراء إلى ذمة البنك ، على أن يسدد حامل البطاقة المال في مدّة محدّدة ، وهذا عقد صحيح يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

الثاني : عقد بين مصدّر البطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات أو مصارف يتضمن شروط العلاقة بينهما. والعلاقة هي أن يقوم البنك باعطاء التاجر ثمن البطاقة أو الخدمة التي قدمها إلى حامل البطاقة ، محسوماً منها نسبة معينة هي أجر سمسرة - مثلاً - تؤخذ ممّن قدمت له الخدمة التي هي غير ضمان المال

ص: 95

الذي يقدمه البنك إلى التاجر من باب الضمان لقيمة شراء العميل مثلاً ، بل الخدمة هي ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية التي هي خدمة للطرفين ( العميل والتاجر ).

4 - المشاركة المتناقصة

وهي عبارة عن عملية استثمارية جديدة يقوم بها البنك الحكومي مع عميله الذي يحتاج إلى التمويل في إنشاء مشروع ، أو بناء عقار بعيد عن القروض الربوية ؛ وذلك بتقديم البنك قسماً من رأس مال المشروع بصفته مشاركاً للعميل في مشروعه ويتعهد البنك مع الشريك على طريقة معينة لبيع حصة البنك في المشروع تدريجياً إلى الشريك (1).

وهذه العملية إذا كان عليها بعض الاشكالات ممن لا يرى أن البنك الحكومي الذي هو شخصية حقوقية مالك فيمكن تبديل هذا البنك ببنك أهلي حقيقي ، أو تبديل المثال بشخص حقيقي يكون شريكاً لصاحب المشروع.

ونلاحظ هنا رغم أن البنك الشريك لا يقصد البقاء والاستمرار في الشركة مع العميل عند العقد إلاّ أنّه لابُدَّ من قصده أصل الشركة كعقد بحيث يلتزم بجميع التزامات الشركة وتبعاتها وضماناتها وله حقوق الشريك كاملة.

وهذا العقد قد طبقته بنوك الجمهورية الإسلامية في ايران وعليه العمل خارجاً ، فبعد المشاركة في المشروع يتفق الطرفان على تنازل البنك عن حصته تدريجاً لشريكه مقابل سداده ثمنها شهرياً خلال فترة يتفق عليها ، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك إلى الشريك.

ص: 96


1- ويجب على البنك أن يوجد البيع بعد ذلك باعتباره عملاً مستقلاً لا علاقة له بعقد الشركة.

وقد نلاحظ في هذه الصورة أنَّ البنك وان كان يأخذ من الشريك أكثر مما دفعه البنك إليه عندما صار شريكاً له ، إلاّ أنَّ هذا يمكن تخريجه فقهياً بصورتين :

الاُولى : أنّ البنك يتعهد ببيع حصته بنفس المبلغ الذي دفعه البنك إلى الشريك عند المشاركة حينما يتم وجود المبلغ عند البنك على شكل دفعات شهرية ، أما الزائد على ذلك المبلغ الذي اجتمع لدى البنك فهو اجارة لحصة البنك الشريك مع العميل في هذه الفترة.

وطبعاً يقوم البنك حالياً في الجمهورية الإسلامية في ايران بتخفيض الأجرة كلَّما سدّد الشريك قسماً من الثمن ؛ وذلك لأنَّ البنك إذا كان له 50 % من المشروع وسدد الشريك له ما يقابل 1 % من الثمن فقد نقصت حصة البنك إلى 49 % ولهذا تنقص اُجرته.

الثانية : بعد أن تتم المشاركة يتمكّن البنك أن يبيع حصته على شريكه بأقساط شهرية بأكثر من المبلغ الذي دخل فيه مشاركاً. وحينئذ يخرج البنك عن كونه مشاركاً يلزم بتبعاتها وله حقوقها ، ولكن لا يعترف البنك للشريك بملكية المشروع حتى يتم السداد ، وهذا عبارة عن توثيق للبنك على ثمن حصته التي باعها.

وهذه العملية مفيدة لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع واحداث المستشفيات وبناء دور السكن بعيداً عن الربا ، كما هي مفيدة للطرفين حيث تجعل احدهما قد حصل على ارباح شهرية والآخر قد حصل على تملّك المشروع أو الدار بصورة تدريجية.

والى هنا قد اتضح أنَّ هذه المشاركة المتناقصة هي عبارة عن عقدين :

الأول : عقد الشركة بين الطرفين لانشاء مشروع أو بناء عقار.

الثاني : بيع أحد الطرفين حصته من الشركة تدريجاً إلى شريكه ، أو إلى أي

ص: 97

طرف آخر بحيث يكون البائع حراً في بيعه والمشتري كذلك.

وقد يوجد ضمن هذين العقدين عقد اجارة لشخص ثالث أو لأحد الشريكين بحيث يدفع اُجرةً لشريكه الذي آجره حصته وجعلها تحت تصرف شريكه الآخر في صورة عدم بيع الحصة بأكملها بعد تمامية الشركة.

أقول : إن هذه العقود المركبة إذا نظرنا الى كل واحد منها لوحده فلا نجد مانعاً شرعياً من صحتها ، واذا نظرنا إليها مجتمعة في اتفاقية واحدة بحيث يوجد تعهد على الالتزام بها فأيضاً لا يوجد أي مانع يمنع من صحة هذه العقود من غَرر أو ضَرر أو ربا أو غير ذلك من الموانع لصحة العقود.

نعم : إذا كان البنك يقوم بهذه الاُمور والعقود من غير قصد إليها بحيث لا يكون مسؤولاً عن تبعات الشركة وضماناتها فيتبيّن أنَّ قصده الحقيقي هو الربا المستور تحت الشركة والبيع.

5 - عقد التوريد ( عقد مركب )
اشارة

هو عقد بين طرفين على توريد سلعة أو مواد محدّدة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على أقساط.

فالتوريد عقد جديد ليس بسلم ولا نسيئة ، لأنّ السلم - كما قال مشهور الفقهاء - يتقدم فيه الثمن ويتأجل المثمن ، والنسيئة يتقدم فيها المثمن ويتأخر الثمن ، أمّا هنا فالثمن والمثمن يتأجّلان.

والمهم هنا بيان حكم عقد التوريد المتداول الآن بين الدول والشركات ، بل أصبح ضرورةً من ضرورات المعاملات ، حيث إن الدولة المحتاجة إلى كمية من النفظ لفصل الشتاء وتشتري هذه الكمية لا تكون مستعدة لقبولها مرة واحدة ؛ حيث لا توجد عندها المخازن الكافية لحفظها ، كما أنَّ الدولة نفسها لا تملك تلك

ص: 98

الكمية الهائلة من الثمن لتقدّمه إلى الدولة المصدّرة. وكذا الأمر في الدولة المحتاجة إلى تأمين غذاء جيشها في حالة الحرب لمدة ستة أشهر ، فهي ليست بحاجة إلى الخبز الكثير مرة واحدة ، بل تحتاج إلى قسم منه كل يوم ، وليس لديها المال الكافي لتقديمه مرة واحدة ، بل يقدم الثمن على اقساط تشابه أقساط استلام الخبز مثلاً. وهكذا صار عقد التوريد حاجةً ماسّةً في هذا العالم.

وقد يجاب على التساؤل المتقدّم فيقال : إنّ المانع من صحة عقد التوريد هو صدق بيع الدَيْن بالدين - الكالي بالكالي - عليه ، وقد ورد النهي عن بيع الدين بالدين كما روى ذلك طلحة بن زيد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « قال رسول صلی اللّه علیه و آله : لا يباع الدين بالدين » (1).

وقد ذكرت أدلّة اُخرى لمنع هذه المعاملة ، هي :

أ - الإجماع على عدم جواز المعاملة إذا كانت نسيئة من الطرفين.

ب - ولأنّها من ابواب الربا.

ج - ولأنّها شغل لذمتين ( ذمة البائع وذمة المشتري ) من غير فائدة (2).

والجواب : أمّا الحديث الذي نقل عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في النهي عن بيع الدين بالدين فهو لم يصح سنداً من طريق الامامية ؛ لجهالة طلحة بن زيد في كتب الرجال (3).

وأمّا من طرق غيرهم فأيضاً لم يصح السند ، كما قال الإمام أحمد : « ليس في

ص: 99


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 15 من الدين والقرض ، ح 1.
2- راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري عن أحكام القرآن للجصاص : ج 2. ص 483. ونظرية العقد : ص 2. واعلام الموقعين : ج 1 ، ص 400 ، وحاشية الشرقاوي : ج 2 ، ص 30 وغيرها.
3- وقد ذكر كتاب المجروحين ج 1 في ترجمة طلحة بن زيد « أنّه منكر الحديث جداً ، يروي عن الثقات المقلوبات ، لا يحلّ الاحتجاج بحديثه ».

هذا حديث يصح » (1).

كما أنّ دلالة الحديث لا تشمل « لما صار دينا في العقد ، بل المراد منه ما كان ديناً قبله ، والمسلَم فيه ( أو المورَّد ) من الأول لا الثاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه ممّا كان ديناً قبل العقد » (2).

وأمّا الإجماع فهو مدركي ، بمعنى أنّ إجماع العلماء على الحكم مدركه الرواية المروية عن الرسول صلی اللّه علیه و آله فلا اعتبار لهذا الإجماع ، وإنّما الاعتبار بالرواية ، وبما أنّ الرواية لم يذكر لها العلماء معنىً واحداً متفقاً عليه ، والقدر المتيقن منها ما كان ديناً قبل العقد ، أمّا ما صار ديناً بالعقد فلا تشمله الرواية ، وقد ذهب بعضٌ ( السبكي ) إلى أنَّ المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدل الواحد ( السلم أو النسيئة ) إذا زيد في أجله لقاء الزيادة في بدله (3).

وأمّا الربا في بيع الدين بالدين فهو لا يدخل في الصورة التي نحن بصددها ، لاننا نتكلم عن مبادلة سلعة بنقد ، فالبدلان مختلفان.

وأما شغل الذمتين من غير فائدة فهو مصادرة ، إذ الفائدة في هذه الصورة - كما قدمنا - كبرى للطرفين.

إذن إذا بطلت كل الأدلة على عدم جواز هذه المعاملة يبقى عندنا عمومات القرآن الكريم مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) و (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، فما دام يصدق على هذه المعاملة انها عقد وتجارة وبيع فتشملها العمومات المتقدّمة وهي دليل الصحة.

ص: 100


1- راجع نيل الأوطار : ج 5 ، ص 177.
2- راجع جواهر الكلام : ج 24 ، ص 293.
3- راجع مقالة الدكتور رفيق المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص 31 عن تكملة المجموع للسبكي : ج 10 ، ص 106 ، واعلام الموقعين : ج 2 ، ص 9 و 11 وغيرها.

يبقى : لماذا اُطلق في ورقة المجمع : أنّ التوريد من العقود المركبة ؟

أقول : لعلّ المراد أنَّ هذا العقد ينحل إلى عقود من نوع واحد بموجب النجوم التي اُعدَّت لاستلام قسم من الثمن والمثمن ، فإن كانت الاقسام اربعة فهو عبارة عن اربع عقود كل عقد يتمثّل في قسم من الثمن والمثمن ، فلهذا يسمى عقداً مركباً.

أقول : إنّ المعقود عليه في عقود التوريد هو مبيع واحد بثمن واحد ، وان اختلف موعد تسليم بعض الثمن وبعض المثمن فهو اشبه شيء بعقد الاستصناع الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل المبيع والثمن الى آجال معلومة.

تنبيهان :

الأول : هناك مجموعة عقود ترتبط بعقد التوريد فيما إذا أصدرته جهة عامة كالحكومة ، مثل : اعداد المعلومات في عقد التوريد ، وبيع دفتر الشروط ، وخطاب الضمان الابتدائي والانتهائي فيما إذا اُعدّت مناقصة لتوريد سلعة معينة ، وضمان البنك في مقابل أجر ، والشرط الجزائي. كل هذه العقود نتكلم عنها في عقد المناقصة على المقاولات ، كما سيأتي.

الثاني : أنّ عقد التوريد للسلع في الآجال المعلومة لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، لأنّ الصحيح أنّ النهي عن بيع ما ليس عندك مخصص في صورة بيع المال الخارجي المملوك للغير بدون إذن الغير للبائع ، وذلك :

1 - لأنّ جمهور الفقهاء على جواز بيع السلم ، وهو يصح في صورة عدم ملك المال خارجاً حين العقد ، بل يكتفون أن يغلب على الظن أن تكون السلعة عامّة الوجود حين التسليم.

2 - كما أنَّ جمهور الفقهاء قالوا بصحة بيع الفضولي إذا أجاز المالك وكان البيع له ، فيخصّص الحديث فيما قلناه.

ص: 101

6 - المناقصات ( مثال للعقود المجتمعة )

والمراد بها بيع المناقصات ، وقد تقدّم الكلام عن المناقصة إذا كانت بيع توريد ، الذي افترض أنّه يختلف عن السلم ، فيبقى الكلام عن المناقصة فيما يأتي :

1 - إذا كانت المناقصة من الاشغال العامّة - المقاولات - فهنا لا إشكال في تأخير الأجر ، لأنَّ الأجر في عقد الاجارة يمكن تأجيله كما يمكن تعجيله ، وأمّا البدل المتمثّل في المنفعة فإنَّ طبيعة حال الاشغال العامّة أن لا تستوفى دفعة معجلة أو مؤجلة ، بل تستوفى بالتدريج.

2 - إذا كانت المناقصة عبارة عن بيع سلع جاهزة فلا إشكال فيها من ناحية تقديم الثمن أو تأخيره ، إذ في الصورة الاُولى يكون البيع نقداً ، وفي الصورة الثانية يكون البيع نسيئة.

3 - وإذا كانت المناقصة عقد استصناع بحيث يتأخر فيه الثمن والمثمن فتأتي مشكلة (1) بيع الدين بالدين والنهي الوارد من الرسول صلی اللّه علیه و آله فيه.

ولكن الجواب الذي تقدّم في بيع التوريد يأتي هنا بلا اختلاف.

4 - وأمّا إذا كانت المناقصة لأجل الاستثمار - كما في مناقصة لعقد المضاربة أو المزارعة أو المساقاة - فطبيعة هذه العقود لا يشترط فيها تقديم كل المال المموِّل للمشروع ؛ لأن مشروع المضاربة والمزارعة إذا كان البذر من صاحب المال والأرض ، والمساقاة يكون فيه كل الحاصل للمموِّل تبعاً لقانون الثبات في الملكية ، وللعامل نسبة من الربح أو الحاصل يتنازل عنها صاحبها إليه حسب الاتفاق

ص: 102


1- ولكنّ هذه المشكلة لا تأتي على مذهب الأحناف ، حيث أجازوا في عقد الاستصناع تأجيل الثمن إلى أجل معلوم.

بينهما. إذن لا مشكلة هنا أيضاً.

وكما قلنا سابقاً : إنّ عقد التوريد للسلع لا يدخل في بيع ما ليس عندك ، نقول : إنّ عقد المناقصة في الاستصناع كذلك لنفس البيان السابق.

يبقى أنّ عقد المناقصة يحتوي على مجموعة عقود ، هي :

1 - بيع وثائق المناقصة ، وهو يحتوي على عقدين :

الأول : عقد بين الداعي إلى المناقصة والأخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة لعرضها على المشتركين في المناقصة ، كتهيئة الخرائط أو صفة السلعة أو شروط الاجارة أو الاستصناع وما يرتبط بهذه الاُمور.

الثاني : عقد بين الداعي إلى المناقصة والمدعوّين إليها في بيع ما يسمى بدفتر الشروط.

2 - تقديم المتناقصين خطاب الضمان الذي هو عبارة عن كون البنك كفيلا وضامناً بقبول دفع مبلغ معين لدى المستفيد من ذلك الخطاب نيابةً عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قِبَل المستفيد ، بمعنى أداء البنك شرط المشترط في حالة عدم قيام المشترط عليه بأداء الشرط ، مثل ضمان الاعيان المغصوبة التي لا تكون الذمة مشغولة بها ما دامت العين موجودة (1).

ويتحقّق تلف الشرط على المشترط بامتناع المشروط عليه عن أداء الشرط الذي هو تلف للفعل على مستحقه ، وبذلك يتحوّل التعهد بأداء الشرط إلى إشغال ذمّة البنك بقيمة ذلك الفعل ( أداء الشرط ) لأنّه من اللوازم العقلائية لدخول ذلك الشرط في العهدة.

وخطاب الضمان هذا ينقسم إلى قسمين :

أ - خطاب ضمان ابتدائي.

ص: 103


1- راجع البنك اللاربوي في الإسلام : ص 128.

ب - خطاب ضمان انتهائي.

فالابتدائي : هو تعهد بنكي لضمان قيمة دفع مبلغ من العقود من قيمة العملية يطلبه مَنْ يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة ، ويستحق المستفيد الدفع له عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم من رسوّ العملية عليه.

والنهائي : هو تعهد بنكي أيضاً لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة من قيمة العملية التي استقرت على عهدة العميل يطلبه مَنْ رست عليه العملية ونُفِّذ معه العقد لصالح المستفيد ، ولا يكون دفع المبلغ واجباً على البنك إلاّ عند تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية التي عقدت بين من طالب الضمان من البنك والمستفيد من خطاب الضمان.

والخطاب الأولي لفائدة التأكد من جديّة عرض الخدمات من كل الاشخاص المشتركين وإلزام المناقص بإبرام العقد إذا رَست عليه المناقصة.

والخطاب النهائي لفائدة إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد وللتحفظ على عدم التورط في خسائر أو مضاعفات فيما إذا تخلف عن الوفاء بالتزاماته.

3 - عمولة يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان.

4 - ضمان الطالب من البنك ما يخسره البنك نتيجة لتعهده ، فيحق للبنك أن يطالب مطالبه بإصدار خطاب الضمان بقيمة ما دفعه إلى المستفيد.

5 - قد يوضع الشرط الجزائي في عقد المناقصات عند عدم التسليم للبضاعة والعمل في موعده المقرر الذي فيه ضرر على المستفيد.

وهذا قد يكون في عقد التوريد ، أو في عقد الاستصناع ، أو في عقد الاجارة ( المقاولة للعمل فقط ).

6 - إبرام العقد الأصلي مع مَنْ رستْ عليه المناقصة ( توريد ، أو بيع ، أو استصناع ، أو مقاولة ، أو استثمار ).

ص: 104

وأمّا حكم هذه العقود المجتمعة :

فاننا قد قدّمنا بحثنا عن المناقصات (1) في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في ( أبو ظبي ) وذكرنا توجيهات مفصلة لحكم هذه العقود المجتمعة ، لذا سوف نقتصر هنا في ذكر حكم هذه العقود بصورة مختصرة ، ومن أراد التوسع فليرجع إلى بحثنا في المناقصات الذي عرض ونوقش في الدورة السابقة.

فنقول : إن العقود المجتمعة التي تكون بين الداعي إلى المناقصة والمناقصين هي :

1 - بيع دفتر الشروط على المشتركين في المناقصة ، وهو أمر جائز ؛ لأنّه بيع وعقد فيه منفعة للمشترِك في المناقصة فيشمله : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

2 - خطاب الضمان الابتدائي : وهو عقد صحيح ، لأنّ المقاول - مثلاً - قد التزم وتعهد بدفع مبلغ من المال عند عدم القيام بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه ، فهو متعهد وملزم بذلك ، لما قلناه من أن هذا عقد برأسه ، حيث رتب عليه الطرف الآخر الأثر فيشمله أوفوا بالعقود الذي معناه : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، وقد وثق هذا الالتزام والشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد. ونتيجة ذلك هو الزام البنك بتعهده نتيجة طلب المقاول لصالح المستفيد إذا لم يقم المقاول بالاجراءات اللازمة عند رسوّ العملية عليه.

3 - خطاب الضمان النهائي : فهو صحيح ؛ لأن أقل ما يقال عنه أنّه شرط وقع في عقد اجارة أو توريد أو استصناع أو استثمار ، وقد وثق هذا الشرط من قبل البنك بطلب من أحد طرفي العقد.

على أنّه يمكن أن يكون عقد برأسه ، لأنَّ أحد طرفي العقد التزم وتعهد

ص: 105


1- وقد تقدم ذلك منّا في الجزء الأول من الكتاب.

بإعطاء نسبة من قيمة العملية في حالة التخلف وقَبِل الآخر ورتب عليه اثراً ، فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

كما يمكن تخريجه على أنَّه ضمان عرفي لوفاء المقاول بالشرط ، مثل ضمان البنك للكمبيالة.

4 - الشرط الجزائي (1) : فهو صحيح أيضاً إذا لم يحصل منه محذور الربا ، لأنَّه شرط في ضمن عقد ، ولكن في خصوص عقد التوريد وبيع السلَم والاستصناع. يؤول إلى الربا الجاهلي ، لأنّ المثمن يكون نسيئة في هذه العقود ، فالزيادة لتأخيره كزيادة الثمن لتأخيره ، فهو رباً جاهليّ محرّم ، فيكون الشرط الجزائي في هذه الصورة مخالفاً للكتاب والسنّة.

أمّا الشرط الجزائي في الاجارات - المقاولات - فهو صحيح إذا كان محدداً معيناً ، لما قلناه من أنّه شرط في ضمن عقد يجب الوفاء به لقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » ولم يلزم منه محذور الربا ، بالاضافة إلى ما ورد في مشهور الفقه الإمامي في مسألة ما لو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن بأجرة معينه ، واشترط عليه وصوله في وقت معين ، فإن قصّر عنه نقَّص عن اُجرته شيئاً معيناً جاز وفاقاً للاكثر نقلاً وتحصيلاً ، بل المشهور كذلك للأصل ، وقاعدة « المؤمنون عند شروطهم » والصحيح أو الموثق أو الخبر المنجبر بما عرفت عن محمد الحلبي قال : « كنت قاعداً عند قاض من القضاة وعنده أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) جالس ، فأتاه رجلان فقال أحدهما : إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن ، واشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنَّها سوق

ص: 106


1- إن ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى عن شرطين في بيع لا يشمل ما نحن فيه ، لاننا ذكرنا بأنَّ المراد منه في روايات الامامية هو « اشتراط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا » ، راجع وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 2.

أتخوّف أن يفوتني ، فإن احتبستُ عن ذلك حططتُ من الكرى لكلّ يوم احتبسته كذا وكذا ، وإنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوماً؟ فقال القاضي : هذا شرط فاسد ، وفِّهِ كراه.

فلما قام الرجل أقبل إليّ أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) فقال : شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه » (1).

5 - وأمّا إبرام العقد الأصلي فهو لا يخلو من أن يكون عقد توريد أو بيع أو سلم أو استصناع أو استثمار ، وكل هذه البيوع صحيحة - بما فيها التوريد كما تقدّم من أنه عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) - إذا توفرت فيها أركانها ولم يوجد ما يبطلها كما هو المفروض.

تبقى هناك عقود وقعت بين الداعي إلى المناقصة وغير المناقص ، أو وقعت بين المناقص وغير الداعي إلى المناقصة.

أمّا العقد الواقع بين الداعي إلى المناقصة والخبراء الذين أعدوا دفتر الشروط وهيّأوا المعلومات اللازمة الكاملة عن المشروع فهو عقد جائز ؛ لأنّه إمّا عقد إجارة ، أو جعالة على من يُهيّ هذه المعلومات.

وأمّا العقود الواقعة بين المناقص والبنك فهي :

1 - العمولة التي يأخذها البنك على اصدار خطاب الضمان ، فقد قلنا : إنّه عمل غير جائز ، لأنّ نفس عملية الضمان ( كالفاظ معينة ) ليست ممّا تقابل بالمال ،

ص: 107


1- جواهر الكلام 27 : 230 ومصدر الرواية في وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 13 من الاجارة ، ح 2. وأما تعبير صاحب الجواهر (والصحيح أو الموثق أو الخبر ) فهو باعتبار أن للرواية ثلاثة أسناد : الأول سند الشيخ الكليني وفيه أحمد وهو مجهول ، فالرواية ضعيفة عبّر عنها بالخبر . والثاني سند الشيخ الطوسي وهو سند صحيح . والثالث سند الشيخ الصدوق وهو صحيح أيضاً . أقول : لا وجه للتعبير بالموثق إلا أن يكون محمد بن أحمد موثقاً عند البعض باعتبار أنه من مشايخ الكليني .

وإنما الذي يقابل بالمال هو نفس خسارة البنك عند عدم قيام المقاول بالتزاماته. وهذه مضمونة كما سيأتي.

2 - ضمان الطالب من البنك ( اصدار خطاب الضمان ) ما يخسره البنك نتيجة تعهده فهو أمر جائز بلا اشكال ، لأنّ ضمان البنك الابتدائي والنهائي لم يكن مجاناً ، بل بطلب من أحد طرفي العقد ، فإذا خسر ما ضمنه البنك فيرجع على الطالب للضمان - وهو المقاول - ليأخذ منه ما خسره بطلبه.

ما المقصود من صفقتين في صفقة ( أو بيعتين في بيعة ) ؟

ذكروا ورود النهي عن بيعتين في بيعة في أحاديث صحيحة عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذكروا اتفاق الفقهاء على القول بموجبها ، فمنعوا أن يبيع الشخص بيعتين في بيعة (1). ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذه الجملة - بمعنى اختلافهم في الصورة التي يطلق عليها هذا الإسم والمنع - على صور عديدة أهمّها :

الصورة الاُولى : ذهب بعض من علماء الإسلام إلى أن الاسم والمنع ينطبق على تضمن العقد الواحد بيعتين على أن تتم واحدة منهما ، كأن يقول البائع : بعتك هذه السلعة بمائة نقداً وبمائة وعشرين إلى شهرين ، فيقول المشتري : قبلتُ ، من دون أن يعيّن بأي الثمنين قد اشترى ، ويفترقان على أنّ البيع لزم المشتري بأحد الثمنين. أو المراد منه النهي عن ايجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين ، وعليه يكون الحديث متعلقاً بصيغة العقد حيث لم ينعقد العقد ، لعدم تحديد ثمن معين وأجل معين عند العقد ، ومن شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الايجاب ، بينما الايجاب هنا ليس باتاً وإنّما هو متردد بين بيعتين ( صفقتين ) (2).

ص: 108


1- بداية المجتهد : ج 2 ، ص 153.
2- د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص 43. عن المغني : ج 6 ، ص 87 ، واعلام الموقعين : ج 3 ص 401 ، والبيان والتحصيل : ج 8 ، ص 438 ، والمدونة : ج 3 ، ص 389 ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج 1 ، ص 256. وقد ذكر بعضٌ أنّ علة المنع في الصورة الاُولى هو جهل الثمن فهو من بيوع الغرر التي نهي عنها. وذكر بعض أن علّة المنع هو سدّ الذريعة الموجبة للربا. راجع بحث العقود المستجدّه د. نزيه كمال حماد : ص 2.

نعم ، لو قال المشتري : قبلت في هذا السعر نقداً ، أو قبلت هذا السعر إلى هذا الأجل كان قبوله ايجاباً جديداً ، فإذا قبل البائع لزم البيع على هذه الصورة المعينة الباتَّة. وأمّا الصيغة الاُولى من البائع فهي باطلة (1).

الصورة الثانية : في صورة اجتماع عقدين في عقد على أمرين مختلفين ، كعقد الزواج مع البيع أو القرض ، أو كإجارة الدار شهراً وبيع الثوب بكذا. وقد اختلف علماء أهل السنة في انطباق بيعتين في بيعة على هذه الصورة ، فقد ذهب إلى بطلان هذه الصورة للعقد كل من الحنفية والشافعية والمالكية غير أشهب ، والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الاجارة - أي اجتماعهما في عقد واحد - لتوافق أحكام البيع مع الاجارة غالباً ، ويرى أشهب - من علماء المالكية - جواز هذه الصورة للعقد (2).

الصورة الثالثة : عقد البيع مع عقد الاجارة : فقد اجازه كل من المالكية والشافعية والحنابلة ، ويوزع المسمى على قيمتهما من حيث الاُجرة والمبيع.

ولكن ذهب إلى البطلان بعضٌ بحجّة أن هذه الصورة قد تقتضي فسخ أحد

ص: 109


1- د. رفيق يونس المصري ، مناقصات العقود الادارية ص43 ( بتصرف ). و قد احتمل الصحة صاحب الجواهر قدس سره في صورة بقاء ايجاب البائع كما هو وكان القبول علی النقد أو النسيئة. جواهر الكلام 107:23. أمّا نحن فنقول بالصحة من باب أن القبول صادر إيجاباً والإيجاب قبولاً.
2- راجع بحث الايجار المنتهي بالتمليك ، د. حسن علي الشاذلي ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الخامسة ، عدد 3. ج 4 عن الشرح الكبير للدسوقي : ج 4 ، ص 5 ، والشرح الصغير : ج 2 ، ص 235 وغيرهما.

العقدين ، فيحتاج إلى التوزيع ويلزم الجهل عند العقد بما يخصّ كلا منهما من العوض ، وهذا هو محذور الصحة.

وقد اُجيب بأنَّ هذا ليس محذوراً للصحة ، ويتّضح في صورة ما إذا بعنا أشياء معينة صفقة واحدة وتبيّن أنَّ بعضها مستحق للغير ، فيبطل البيع بالنسبة إليها ويصح في الباقي (1) فيحتاج إلى التوزيع بسبب بطلان أحدهما. الإمامية :

وقد تعرض الامامية لروايات (2) النهي عن بيعتين في بيعة ، أو صفقتين في صفقة ، والقدر المتيقن منها هو ما لو باع بثمن حالٍّ وبأزيد منه إلى أجل بأن قال : بعتك هذا نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهرين. وقد اختلفوا في بطلان أو صحة هذه المعاملة ( فيما إذا قبل المشتري على صفة الترديد ) على قولين :

القول الأول : بطلان المعاملة ، وذلك للغرر والجهالة. فيكون النهي الوارد في هذه الصورة ارشاداً إلى عدم تمامية المعاملة من جهة الغرر والجهالة. وذهب إلى هذا القول بعض القدماء وأكثر المتأخرين.

ولكن يمكن أن يناقش هذا القول بعدم وجود الغرر وعدم الجهالة بعد تعيين الثمن ، وأنّ الزيادة وقعت في مقابلة التأخير على جهة الشرطية فتفسد ، ولهذا تختلف هذه الصورة عن الاجارة ، حيث قال بصحة الاجارة غير واحد في صورة

ص: 110


1- المصدر السابق.
2- راجع الروايات في وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أحكام العقود ، ح 3 و 4 و 5 ، والرواية الثالثة موثّقة لأن محمد بن يحيى الخزّار ثقة وقد وثق مصدق بن صدقة ، ولسان الرواية هو : عن الإمام الصادق علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع.

ما لو قال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فَلَكَ نصف درهم ، وإن خطته روميّاً فَلَكَ درهم ، وإن خطته فارسياً فَلَكَ نصف درهم ، مع أنَّ الاجارة والبيع مشتركان في اعتبار عدم الغرر والجهالة.

ولكن الحقّ : أنّه لا جهالة في صفة الثمن ، أمّا الجهالة فهي متحقّقة في أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع أصل الثمنية ، بمعنى أن المشتري وكذا البائع بعد القبول على الترديد لم يعلما ما صار ثمناً في مقابل المبيع.

ودعوى تعيينه باختيار المشتري فيما بعد ينافي سببية العقد المقتضية لترتب الأثر عليه بالفراغ منه.

وحينئذ لا فرق بين البيع والاجارة وغيرهما من عقود المعاوضات ( كالسَلَم ) (1). ولكن الذي يقف في وجه قبول هذا القول أمران :

الأول : أنّ النهي الوارد في هذه الصورة والاهتمام من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله في ذلك يمنع من حمله على الارشاد (2) ، إذ أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله « بعث رجلاً إلى أهل مكّة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع » فهذا الاهتمام يدل على أن النهي لتحريم العمل لا لأجل الارشاد إلى وجود غرر أو جهالة.

الثاني : وجود رواية صحيحة تقول بصحة هذا البيع إذا قبله المشتري على صفة الترديد ، ويكون للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الاجلين ، والرواية هي صحيحة

ص: 111


1- أي كما لا يصح أن يقال : بعته نقداً بدرهم وبدرهمين إلى شهر ، فكذا لا يصح أن يقال : إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غداً فلك نصف درهم ، وكذا لا يصح أن يقال : إن سلّمت المبيع السلمي بعد ثلاثة اشهر فلك الف وبعد ستة أشهر فلك ثمانمائة فقبل الآخر من دون أن يكون القبول على أحد الصورتين ، كل ذلك الغرر والجهالة في الثمن أو الاُجرة ، فان المتبايعين لم يعلما على أي ثمن أو اُجرة وقع البيع أو الاجارة وذلك مبطل للعقد.
2- وأيضاً يمنع من حمله على الكراهة ، حيث ذهب بعض إلى ذلك نتيجة وجود صحيحة محمد بن قيس الدالة على صحة البيع بثمن أقل للأجل الأبعد.

محمد بن قيس البجلي ، عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : من باع سلعة فقال : إنّ ثمنها كذا وكذا يداً بيد وثمنها كذا وكذا نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة ... » (1). وكذا رواية السكوني بهذا المضمون (2).

فالخلاصة : أنّنا إذا قلنا بالبطلان في هذه الصورة نتيجة الغرر والجهالة تكون هذه الصحيحة معارضة للروايات المرشدة إلى بطلان المعاملة (3).

القول الثاني : حرمة المعاملة لوجود الربا من دون بطلان ، إذ هذه المعاملة ترجع إلى بيع السلعة بنقد حالٍّ بشرط انه إذا أراد المشتري تأخير الثمن فيزيد فيه ، وهذا ربا محرم قد نهى عنه رسول اللّه ؛ لأنّه ربا مبطّن بصورة البيع. وحينئذ إن حصلت هذه المعاملة الربوية المبطّنة فالذي يبطل هو الشرط دون العقد ؛ لأنّ النهي متوجّه للشرط وقبوله ، لا للعقد.

وعلى هذا القول لا معارضة بين الروايات الناهية وبين الروايات التي تصحح المعاملة بأقل الثمنين إلى أبعد الاجلين. وقد ذهب إلى هذا القول جمع من القدماء وبعض المتأخرين.

ص: 112


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 2 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2.
3- هذا ، وقد ذهب الإمام الخوئي قدس سره إلى أن المعاملة هذه باطلة من ناحية التعليق في العقد الذي قام الإجماع على بطلانه في العقود ، وحينئذ تكون الروايات المجوزة لهذا البيع مخالفة لقاعدة تبعيّة العقود للقصود فتخصصها كما تخصص الإجماع بغير هذه الصورة ؛ لوجود الدليل على صحة المعاملة مع مخالفتها للقواعد وللاجماع ، وحينئذ تحمل الروايات الناهية على الكراهة. راجع مصباح الفقاهة : ج 3. ص 558 - 563 ، ولكن الإمام الخوئي في ص 299 و ص 300 في الكتاب نفسه ذكر : أن التعليق المضرّ في العقود هو أن يكون على أمر استقبالي غير حاضر ، أمّا إذا كان أصل الالتزام مربوطاً بشيء آخر بمعنى أنّه لا يبيع مع عدم هذا الالتزام من المشتري فلا يضر التعليق هنا ؛ لكونه واقعاً على أمر حاصل وهو الالتزام ، كما في قولنا : بعتُ السيارة بشرط أن تبيعها إلى زيد.

فقد ذكر صاحب الجواهر عن المختلف أو الدروس فقال : « والاقرب الصحة ولزوم الأقل ... فالزيادة ربا ؛ ولأجلها ورد النهي ، وهو غير مانع من صحة البيع » (1).

وهذا القول هو الذي احتمله الفاضل في المختلف ، إذ قال : « ويمكن أن يقال انه رضي بالأقل فليس له الأكثر في البعيد وإلاّ لزم الربا ، إذ تبقى الزيادة في مقابلة تأخير الثمن لا غير ... » (2).

وعلى هذا القول يمكن أن يختلف الحكم في البيع عن الاجارة ، بأن تكون هذه الصورة في البيع محرمة لوجود الربا ، وغير محرمة في الاجارة لعدم وجود الربا ، ولكنّها صحيحة في الصورتين إذا تمكّنا من إزالة اشكال الجهالة في أصل الثمنية والاُجرة. بقولنا : إنّها لا تضر لأن العلم بأحد البيعين معلوم بعد العقد مباشرة ، أو نقول : بأنّ هذه الجهالة وان كانت موجودة لكنّها لا تضر بصحة العقد لأنّها لا تجرّ إلى التنازع ، فتكون الجهالة والضرر المبطل للبيع أو الاجارة هو في خصوص ما إذا كانت الجهالة بطبعها تؤدي إلى التنازع.

على أننا لو اخترنا القول الأول القائل ببطلان المعاملة فيما إذا قال : بعته نقداً بكذا وبنسيئة بأكثر منه للجهالة والغرر فيمكننا أن نقول بصحة الاجارة فيما إذا قال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وذلك لإمكان أن يكون الدرهم ونصف الدرهم على الخياطة اليوم أو غداً جعالة لا اجارة ، والجعل لا يعتبر فيه المعلومية ، أو نقول بالفرق بين الاجارة والبيع بأنّ العمل الذي يستحقّ به الاُجرة لا يمكن وقوعه إلاّ على أحد الصفقتين فتتعيّن الأجرة المسماة عوضاً له ، فلا يقتضي التنازع ، بخلاف البيع الذي يمكن أن يقبل المشتري في نيّته

ص: 113


1- جواهر الكلام : ج 23 ، ص 104.
2- المصدر السابق.

النقد ويتلكّأ في توفير المبلغ حتى يمضي الأجل فيقع التنازع بينهما في الثمن. وعلى هذا فلا يصح ما قيل : « إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم » (1).

فعن أحمد روايتان : أحداهما : لا يصح ، وله أجر المثل. نقلها أبو الحارث عن أحمد ، وهذا مذهب مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي ثور ، لأنّه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال : بعتك نقداً بدرهم أو بدرهمين نسيئة (2).

إذا قبل المشتري أحد الثمنين :

أمّا إذا قبل المشتري أحد الثمنين كما لو قال : قبلته نسيئة أو قبلته نقداً فهذه الصورة خارجة عن محلّ النزاع والروايات ، ويكون البيع صحيحاً إذا رضي البائع بعد ذلك ، إذ يكون القبول بنقد - مثلاً - إيجاباً ، والقبول من البائع قبولا للايجاب ، أمّا الايجاب الأولي من البائع فهو استدعاء للبيع. وقد اجاز هذه الصورة - بالاضافة إلى الامامية - جماعة من أهل السنة أيضاً (3).

ص: 114


1- لا بأس بالتنبيه إلى أن هذا الفرض ( جعل اُجرتين على تقديرين ) يختلف عن الشرط الجزائي في الاجارة ، وهو ما إذا قال : آجرتك على أن توصلني إلى السوق يوم كذا وكذا بكذا وكذا درهماً ، فإن أوصلتني بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة درهم ، فإن أوصلتني بعد يومين فيسقط من الاُجرة درهمان ، فإنّ هذا شرط صحيح ما لم يحط بجميع الكراء ، حيث إن عقد الاجارة كان باتاً على أجر معين وزمن معين ، فإن أخلَّ بالشرط ووصل بعد ذلك بيوم فيسقط من الاُجرة شيء ، وهذا شرط نتيجة يكون صحيحاً من دون خلل في الاُجرة ، وقد ورد بهذا الشرط الجزائي نصّ موثّق عن الإمام الباقر علیه السلام في الاجارة.
2- راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري ص 2. عن المغني : ص 6 ، ص 87 ، واعلام الموقعين : ج 3 ، ص 401 ، والمدونة : ج 3 ، ص 389 ، والموسوعة الفقهية الكويتية : ج 1 ، ص 256.
3- المصدر السابق.

أقول : النتيجة التي انتهينا إليها : أنّ روايات نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن صفقتين في صفقة لا علاقة لها بالعقود المركبة التي تكلمنا عنها سابقاً.

أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :

إنّ العقود المجتمعة يسبقها عادةً اتفاق عام حول إيجادها ، وهو ما يسمى ب ( إطار التعامل ). فالمناقصة في المقاولات أو البيوع سواء كانت لسلع جاهزة أو لتوريد سلع (1) يسبقها تفاهم واتفاق بين الأطراف حول إيجادها ، فهل يكون هذا الاتفاق العام ملزماً للاطراف ؟

أقول : إنّ المواعدة والتفاهم العام بين الأطراف قد يكون شرطاً ابتدائياً ، وقد يكون وعداً أكيداً رَتَّب الطرفُ الآخر عليه أثراً ، وحينئذ لابد من الكلام حول الوعد الأكيد وحول الشرط الابتدائي.

فنقول : الوعد (2) : إذا رجعنا إلى معنى المواعدة التي تكون بين اثنين المشتقة

ص: 115


1- وكذا الأمر في « المرابحة للآمر بالشراء » كأن يقول شخص للبنك : اشترِ لي هذه السلعة وأنا اُربحك كذا ، وأقدم البنك على الشراء بقصد بيعها لمن أمره.
2- الكلام في الشرط كالكلام في الوعد بلا أي اختلاف من حيث دلالة الشرط الذي هو معنى حدثي على الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير ، فان المراد من الشرط هنا هو المعنى الحدثي الذي يشتق منه ، لا المعنى الذي هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » أو المعنى الأدبي الذي يقع بعد أداة الشرط ، أو المعنى الاصطلاحي للشرط في مقابل المقتضي والمانع. فإنَّ هذه المعاني الثلاثة ليست مرادةً عرفاً من الشرط الذي يقع في إطار العقود. ولا بأس بالتنبيه : إلى أن المراد من الوعد والشرط في كلامنا هذا : هو في خصوص ما يكون قد دخل الآخر (الموعود أو المشروط له) في عمل نتيجة الشرط أو الوعد بحيث صار هناك التزام من الطرفين فحصل معنى العقد بناء على تقوم العقد بالربط بين التزامين، وحينئذٍ فيشمله قوله تعالى: «أوفوا بالعقود » والصحيحة الواردة عند الفريقين: «المسلمون عند شروطهم» وقد طبق الإمام عليه السلام هذا القانون الوارد في الصحيحة على موارد متعددة ، فمن ذلك ما رواه سليمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رجل كان له أبٌ مملوك وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها ، فقال لها ابن العبد : هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت : نعم ، فاعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك. قال الإمام عليه السلام: لا يكون لها الخيار«المسلمون عند شروطهم»، وسائل الشيعة: ج16، ب11 من كتاب المكاتبة، ح1.

من الوعد الصادر من واحد لرأينا أنّ الوعد في اللغة جاء بمعنى العهد كما جاء بمعنى الخبر ، فقد ذكر في مجمع البحرين من معاني العهد : الوعد والخبر قوله : (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) (1) أي خبراً ووعداً بما تزعمون. وجاء في المنجد : واعد مواعدة : وعد كل منهما الآخر ... عاهده على أن يوافيه في موضع أو وقت معين.

وقال في لسان العرب : إنّ الوعد هو العهد ، فقد قال تعالى : ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) (2) ، فقال مجاهد : الموعد : العهد ، وكذلك قوله تعالى : ( فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) قال : عهدي.

ثم إنّ من الواضح أنّ العهد لغةً : هو الالتزام ، فقد استعمل العهد مع مشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من مائة وخمسين موضعاً ، وفي كل هذه المواضع دلّ على إلزامية العهد. وممّا ذكرته كتب اللغة عن معنى العهد هو « ما التزمه المكلف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره » فقد ذكر في مجمع البحرين قوله : ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) قيل : يدخل فيه النذر وكلما التزم المكلف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره ... والضمان ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (3) أي ( أوفوا بما ضمنتم أوفِ بما ضمنت لكم من الجنة ) ومثله ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ

ص: 116


1- البقرة : 80.
2- طه : 87.
3- البقرة : 40.

كَانَ مَسْئُولًا) (1)

وقد ذكر الخليل الفراهيدي في العين انَّ العهد : الموثِق ، وجمعه عهود.

كما ذكر في لسان العرب : « عهد : قال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) ... قال غير الزجاج : العهد كل ما عوهد اللّه عليه وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ... وفي حديث الدعاء : « وانا على عهدك ووعدك ما استطعت » ، أي أنا مقيم على ما عاهدتُك عليه من الإيمان بك والاقرار بوحدانيتك لا أزول عنه. واستثنى بقوله : « ما استطعت » موضعَ القدر السابق في أمره. أي إن كان قد جرى القضاء أن أنقض العهد يوماً ما فإني اُخلدُ عند ذلك إلى التنصل والاعتذار لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيته عليَّ. أو قيل : معناه إني متمسك بما عهدته إليَّ من أمرك ونهيك ... والعهد : الموثق ».

والخلاصة : أنّ الوعد اللغوي الذي هو يأتي بمعنيين : الأول هو العهد ، والثاني خبر عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل.

فإذا كان بمعنى العهد فهل يلزم الوفاء به شرعاً ؟

الجواب : اتفق الفقهاء على أنَّ خلف الوعد منهي عنه ، ولكن اختلفوا في إلزاميته على نحو الوجوب بحيث يقاضى مَنْ لم يلتزم به أمام القضاء على أقوال أربعة :

1 - ذهب الجمهور من كل الطوائف إلى عدم لزومه وان كان المكلّف مأموراً بالوفاء به ديانة لأنّه تفضل واحسان ، ويقول اللّه تعالى : ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

2 - الإلزام إذا دخل الموعود بسبب هذه العِدَة في شيء ، وهذا قول مالك

ص: 117


1- الإسراء : 34.
2- التوبة : 91.

وابن القاسم وقول سحنون ( وهذا هو المشهور عند المالكية ).

3 - الإلزام ، إذا كان الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا. وهذا قول لمالك وأصبغ من علماء المالكية.

4 - الإلزام مطلقاً ، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة فيما حُكي عنه (1).

والصحيح هو التفصيل بين أن يكون الوعد على مستوى العهد فيجب الوفاء به ، وبين أن يكون على مستوى الإخبار فلا يجب الوفاء به ، وتشخيص إرادة هذا دون ذاك أو العكس يتم من خلال القرائن.

وحينئذ نقول : إنّ الوعد الذي يسبق العقد أو العقود المجتمعة - ويكون في الاطار العام للتعامل ويبنى عليه العقد بمعنى دخول الموعود بسبب العدة في العقد - ويكون بمعنى العهد والالتزام - الذي يجب أن يفي به المكلف (2) - للقرائن التي اكتنفت هذا الوعد بالخصوص ، وعلى هذا فتعتبر المواعدة السابقة ( التفاهم ) على العقود المجتمعة مرتبطة بالعقود ، وجزءاً منها من حيث حكمها التكليفي والآثار المترتبة عليها.

وإليك بعض الأدلّة على وجوب الوفاء بالوعد إذا كان على مستوى العهد :

ص: 118


1- راجع المحلى لابن حزم : ج 8 ، ص 377.
2- نودّ أن نذكر هنا : أنّ مشهور الطائفة الإمامية على أنّ الوعد والعهد الذي بمعنى الالتزام إذا لم يكن في متن العقد فلا يجب الوفاء به ، فقد ذكر الشيخ الأنصاري في الشرط الثامن من صحة الشرط أن يكون في متن العقد : « فلو تواطيا عليه قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به على المشهور ، بل لم يعلم فيه خلاف عدا ما يتوهّم من ظاهر الخلاف والمختلف ... ». راجع مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2. ص 282. و نحن كلامنا في الشرط الابتدائي والوعد الذي يكون بين اثنين قد رتب الآخر عليه أثراً وعملاً، هذا وقد وجدت أن آية اللّه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره يذهب إلى ما ذهبنا إليه ويعده من متفرداته ، فيقول : « فلو قال رجل لآخر : بع هذا الشيء من فلان وإن لم يعطك الثمن أنا أدفعه لك ، فلو لم يعطه الثمن فان كان الوعد بنحو الإلزام والتعهد وجب أن يدفع له ، وإلا فلا ، وهذا من متفرداتنا ، أما ظاهر المشهور فعدم الوجوب مطلقاً ، فليتدبر » راجع تحرير المجلة : ج 1 ، ص 54 .
أ - الكتاب الكريم :

1 - قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (1) ، فقد وصفت الآية انَّ القول بما لا يفعله الإنسان ممقوت عند اللّه ، وهذا على قسمين :

الأول : يقول ما لا يفعل ، ولا يصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

الثاني : يقول ما لا يفعل ، ويصدق عليه أنّه خدع وغش وخان.

ولكن الأول خرج عن الحرمة بدليل عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل.

والثاني ممقوت بحدِّ الحرمة لصدق عنوان الخداع والغش والخيانة المحرمة.

والأول يصدق على الوعد الذي لا يدخل فيه الموعود بسبب العدة في عقد.

والثاني يصدق على الوعد الذي يدخل فيه الموعود بسبب العدّة في عقد بحيث يكون عدم الوفاء بالوعد خيانة وغشاً وضرراً على الموعود ، فيكون عدم الوفاء بالوعد محرّماً ، كما يلزم الواعد رفع الضرر الذي حصل نتيجة وعده وخيانته وخداعه (2).

2 - قال تعالى على لسان موسى علیه السلام : ( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

ص: 119


1- الصف : 2 - 3.
2- أقول : من المحتمل أن تكون الآية الشريفة ناظرة الى معنى آخر غير مسألة الوفاء بالوعد وهو المعنى الذي يشير إليه شاعر حيث يقول : لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم بأن يكون الناهي عن الخلق عازماً على فعل ما ينهى عنه ، ولكنّ عموم الآية يجعلها تشمل كل ما التزم به الإنسان أمام اللّه والآخرين ولا يعمل به ، سواء كان عازماً من الأول على عدم العمل أو طرأ له ذلك.

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (1) فقد بين النبي موسى علیه السلام أنّ في مخالفة موعده غضب اللّه ، ونحن نعلم أن الغضب لا يكون إلاّ على أمر محرم ، وهذه قرينة على أنّ المراد من موعده العهد والالتزام الذي قدم له ، بحيث تكون مخالفته موجبة للعقوبة الرادعة.

3 - قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) وقد فسِّرت العقود بالعهود.

4 - قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (3).

فالمعاهدات التي كان يعملها المسلمون مع أعدائهم من المشركين قد أمر القرآن الكريم بالالتزام بها بما تقدّم ، وقد استثناها القرآن الكريم من البراءة من المشركين ، فقال تعالى : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * ... كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (4).

فالمشرك الذي عوهد من قِبل المسلمين ولم ينقض عهده ولم يظاهر على المسلمين - بمعنى أنّه استقام على عهده - يجب الوفاء له بالعهد ، وحينئذ تكون البراءة من المشركين الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد ، أو كان عهد ولم يستقيموا عليه بأن ظاهروا على المسلمين أو نقضوا من العهد الذي تعهدوه ، فيكون من حقّ المسلمين أن ينقضوا عهدهم وينبذوه إليهم ، لذا قال تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ

ص: 120


1- طه : 86.
2- المائدة : 1.
3- الاسراء : 34.
4- براءة : 4 - 7.

قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (1) ، والخوف هنا بمعنى اليقين بالنبذ من ظهور أماراته الكاشفة عنه مثل قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) (2).

وما هذه المعاهدات التي تحصل بين الدول الإسلامية أو غيرها إلاّ كنموذج ومصداق للمعاهدات النبوية مع المشركين ، لذا فهي تقتضي عرفاً وقانوناً الالتزام بما نصّت عليه المعاهدة فيما إذا لم تكن مخالفة للقوانين الإسلامية وذلك لقاعدة « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه تعالى أو إلاّ شرطاً حرم حلالا أو حلّل حراماً ».

ونحن لا نرى أي ملزم للمسلمين في عهد النبي صلی اللّه علیه و آله في الالتزام بالقرارات الواقعة بينهم إلاّ التعاهد ، وهذا هو معنى وجوب الوفاء بالوعد إذا كان بمعنى العهد.

وإذا كان معنى الوعد هو العهد بواسطة قرائن الأحوال فيجب الوفاء به كما تقدّم.

ولعلّه لهذا كان المشركون يتحرزون من قول : « لا إله إلاّ اللّه » حينما كان الرسول صلی اللّه علیه و آله يقول لهم : « قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا ». ب - السنّة :

لقد وردت النصوص (3) الشرعية الدالّة على إلزامية الوعد الذي بمعنى الالتزام والتعهد :

1 - روايات جعلت مخالفة العهد والوعد من خصال النفاق ، فقد قال

ص: 121


1- الأنفال : 58.
2- النساء : 34 ، وراجع تفسير القرطبي : ج 5 ، ص 170 ، وتفسير الميزان : ج 4 ، ص 345.
3- وبما أن هذه النصوص متواترة - ولو معنىً - فلا حاجة إلى البحث في سندها ، حيث إنّنا نقطع بصدورها من المشرِّع الأقدس فهي حجّة بمضمونها الضيّق.

النبي صلی اللّه علیه و آله : « أربع مَنْ كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر » (1).

2 - روايات جعلت الوعد ( العهد ) من قسم النذر الذي ليس فيه كفارة ، فقد روى هشام بن سالم في الصحيح قال : سمعت الإمام الصادق علیه السلام يقول : عدة المؤمن آخاه نذر لا كفارة له ، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ ولمقته تعرّض وذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (2).

3 - روى علي بن عقبة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدةً فيخلِفه » (3).

4 - موثّق سماعة بن مهران عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوّته » (4).

وهذه النصوص المتقدّمة وان كانت مطلقة لمخالفة كل وعد حتى إذا لم يكن بمعنى العهد إلاّ أن معلومية عدم حرمة مخالفة الإخبار عن إنشاء معروف في المستقبل تخصّص حرمة المخالفة بالوعد الذي هو بمعنى العهد.

5 - صحيحة عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال : « حدثني أبو جعفر الثاني ( الإمام الجواد علیه السلام ) قال : سمعت أبي الإمام الرضا علیه السلام يقول : سمعت أبي

ص: 122


1- صحيح البخاري ، كتاب الايمان : ج 1 ، ص 89 ، صحيح مسلم ، كتاب الايمان : ج 1 ، ص 78.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 109 من أحكام العشرة ، ح 3.
3- المصدر السابق : ب 122 من أحكام العشرة ، ح 6.
4- المصدر السابق : ب 152 من أحكام العشرة ، ح 2.

موسى بن جعفر الإمام الكاظم علیه السلام يقول : دخل عمرو بن عبيد على الإمام الصادق علیه السلام فلمّا سلّم وجلس وتلا هذه الآية ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) ثم أمسك. فقال له الإمام الصادق علیه السلام : ما أسكتك ؟ قال : اُحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّوجلّ. فقال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر الشرك باللّه يقول اللّه تعالى : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن اللّه عزّوجلّ يقول علیهم السلام ( لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ... ) » (1).

6 - وفي حديث الحسين بن مصعب الهمداني قال : سمعت الإمام الصادق علیه السلام يقول : « ثلاثة لا عذر لاحد فيها : أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر ، وبرِّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين » (2).

ورويت الرواية المتقدّمة عن عنبسة بن مصعب أيضاً إلاّ أنّه قال : « لم يجعل اللّه لاحد من الناس فيهن رخصة ».

7 - ويؤيد ما ذكرنا في سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله حيث يقول ابن القيّم :

أ - ثبت عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنّه لا يرجع إليهم فقال صلی اللّه علیه و آله : « إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد ولكن ارجع إلى قومك ... » وثبت عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه ردّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم « أن يردّ إليهم مَنْ جاء منهم مسلماً » (3).

ولا يمكن أن يقال بأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله إنّما ردّ من أسلم إليهم لعمله بالراجح الذي هو الوفاء بالوعد.

ص: 123


1- وسائل الشيعة : ج 11 ، ب 46 من جهاد النفس ، ح 2 ، والآية القرآنية إشارة إلى قوله تعالى : ( والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) الرعد : 25.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 2 من أحكام الوديعة ، ح 1.
3- زاد المعاد : ج 5 ، ص87 - 88.

ب - وقال صلی اللّه علیه و آله : « مَنْ كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقداً ولا يشدّنه حتى يمضي أمده أو ينبذ اليهم على سواء » قال الترمذي : حديث حسن صحيح (1).

ج - ولما أسَّرَتْ قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكانوا خارجين إلى بدر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انصرفا نَفِي لهم بعهدهم ونستعين باللّه عليهم » (2).

وعلى هذا الذي تقدّم تبيّن لنا أنّ الوعد ( إذا كان بمعنى العهد ) الذي يعطيه إنسان لآخر في الحالات الاعتيادية ويقبل به الآخر ويرتب عليه أثراً يكون من العقود الواجبة الوفاء بها حسب الأدلّة المتقدّمة ، وإن نوقش في بعضها فإنّ في ما لا نقاش فيه كفاية.

أمّا الوعد الذي يكون بمعنى العهد الذي يعطيه إنسان لآخر ولم يقبله أو قبله ولم يرتب عليه أثراً - بمعنى أنّه لم يصل إلى حدّ العقد - فلا يسمى عقداً ولا عهداً ، فلا يجب الوفاء به ، بمعنى أن الموعد أو المعاهد يتمكّن أن يرجع عن عهده وعِدته.

الضمان والكفالة :

نتمكّن أن نقول : إنّ عقد الضمان العرفي الارتكازي القائل : « بأنّ المدين إذا لم يفِ بدينه إلى الدائن فأنا ملزم بالوفاء به » أو القائل : « إذا لم يفِ فلان بالشروط والالتزامات التي عليه والتي لها مالية عرفية عقلائية فأنا مسؤول عنها » أو القائل : « أطلقوا فلاناً من السجن وأنا مسؤول عن الاتيان به في الوقت المطلوب الذي يكون لاتيانه مالية عقلائية أو عرفية » نتمكّن أن نقول : إنّ هذه العقود المقبولة

ص: 124


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

عرفاً وارتكازاً وقد افتى على وفقها علماء كبار هي مصاديق للوفاء بالعهد الذي ندّعي إلزاميته ولو كان ابتدائياً.

إذن فمن قال لزيد : « إذا اشتريت هذا البيت فأنا مستعد لاقراضك الف دينار من المال ، وقد أقدم زيد على الشراء مستنداً إلى الوعد الذي قدّم له من الموعِد » يجب عليه الوفاء والالتزام بما قال تكليفاً ، ويجب عليه وضعاً رفع الضرر عن الطرف الآخر فيما إذا لم يفِ له بما التزم وتعهد ، كل ذلك لوجود وعد بينهما وصل إلى مرحلة العقد الواجب الوفاء.

أما الشرط :

فله معان متعدّدة :

الأول : الشرط بالمعنى الحدثي الذي يشتق منه ، وهو الالتزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير (1) ويحصل منه الزام بالعمل أو بثبوت الحقّ للغير.

الثاني : « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » مثل أن يقال : إن الوضوء شرط للصلاة.

الثالث : « أن يقع بعد أداة الشرط مثل : إنّ جاء زيد فاكرمه » وهذا اصطلاح أدبي للشرط وهو مأخوذ من المعنى الثاني للشرط.

الرابع : « أحد أجزاء العلّة » وهو ما يكون به الأثر الذي يختلف عن السبب

ص: 125


1- أما تعريف صاحب القاموس للشرط بأنّه الزام والتزام في البيع ونحوه فهو لا مبرر له إذ اُطلق الشرط على الالتزام الابتدائي وان كان حكماً شرعياً كما في خبر بريرة حيث قال الرسول صلی اللّه علیه و آله عندما اشترت عائشة بريرة وأعتقتها وقد اشترط مواليها الولاء لهم قال صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن اعتق وشرط اللّه اوثق » ، فقد اطلق الشرط على حكم اللّه كما اطلق على خيار الحيوان حيث قالت الروايات : الشرط في الحيوان ثلاثة أيام » ، كما اطلق الشرط على النذر والعهد والوعد في الأخبار ، راجع وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 20 من المهور.

الذي يكون منه الأثر ، ويختلف عن المانع الذي يمنع الأثر. وهذا المعنى منقول من المعنى الثاني أيضاً (1).

أقول : الظاهر أن الشرط في جميع الموارد قد استعمل بمعنى الربط والاناطة وهذا الربط قد يكون تكوينياً ، وقد يكون تشريعياً ، وعلى كل حال فنحن نتكلم في الشرط بالمعنى الأول وان كانت كلمة « الشرط » إذا جاءت في لسان الشارع أو لسان العرف فلا يراد بها المعنى الأدبي للشرط ، ولا المعنى الفلسفي للشرط اللذان هما اصطلاحان لأهل الأدب والفلسفة ، إذ الشارع لا يخاطب العرف بلسان أهل الاختصاص ، وحينئذ إذا كانت هناك قرينة على إرادة المعنى الأوّل الذي نحن نتكلّم عنه أو كانت هناك قرينة على إرادة المعنى الثاني فهو ، وإلاّ أصبح الكلام مجملا من ناحية أن الربط تكويني أو شرعي.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره : أن الشرط قد اُطلق على حكم اللّه وعلى النذر ( أي اطلق على الالتزام الابتدائي ) كما اُطلق على الالتزام في البيع فيكون مشتركاً اشتراكاً معنوياً وهو مقدّم على المجاز. كما أنّ المتبادر من قول الإنسان : شرطتُ على نفسي كذا هو الالتزام (2) ، فيكون معنى الشرط العرفي هو الالتزام ولو كان ابتدائياً. بالاضافة إلى صحيحة منصور بن يونس بن برزج عن العبد الصالح ( موسى بن جعفر علیهماالسلام ) قال : قلت له : « إنّ رجلاً من مواليك تزوج امرأة ثم طلقها فبانت منه فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلاّ أن يجعل لله عليه أن لا يطلقها ولا يتزوج عليها فأعطاها ذلك ثم بدا له في التزويج بعد ذلك كيف يصنع ؟ فقال علیه السلام : بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار ؟ قل له فليف للمرأة بشرطها فإنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : المؤمنون

ص: 126


1- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 275 طبعة حجرية.
2- المصدر السابق.

عند شروطهم » (1).

وفي هذه الرواية فقد اُطلق الشرط على النذر وأوجب الوفاء به بقول الرسول صلی اللّه علیه و آله « المؤمنون عند شروطهم » (2).

ولنا أن نضيف موثّقة اسحاق بن عمار عن جعفر ( الإمام الصادق علیه السلام ) عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) أن عليّ ابن أبي طالب علیه السلام كان يقول : « من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به ، فإنَّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً » (3).

وقد ذكر الشيخ الأنصاري فقال : « وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف بينهم في أن مقتضى عموم أدلّة الشرط ، الصحة في الكلّ ( أي صحة الشرط ووجوب الوفاء به في كل مورد سواء كان عقداً أوْ لا ) وإنّما الاخراج لمانع ، ولذا قال في الدروس بعد حكاية المنع من دخول خيار الشرط في الصرف عن الشيخ الطوسي قدس سره : « أنّه لم يعلم وجهه مع عموم صحيحة ابن سنان : المؤمنون عند شروطهم » (4).

إذن تبين أن الشرط معناه لغةً وشرعاً هو مطلق الالتزام ، سواء كان في ضمن معاملة أو ابتدائياً ، وتبيّن وجوب الوفاء به مطلقاً نتيجة عموم الأدلّة التي هي في خصوص ما إذا رَتَّب الآخر أثراً على هذا الالتزام.

وبهذا تبيّن أن ما ذهب إليه مشهور العلماء من عدم وجوب الوفاء بالوعد ( العهد ) وعدم وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي ليس له دليل واضح إلاّ ادّعاء

ص: 127


1- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 275.
3- وسائل الشيعة : ج 15 ، ب 40 من أبواب المهور ، ح 4 ، وإنّما قلنا : إنّها موثّقة لأن الشيخ وثّق غياث بن كلوب في العدّة.
4- مكاسب الشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 233.

الإجماع على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد وبالشرط إذا لم يكن في ضمن العقد ، بل الأدلّة دالة على وجوب الوفاء بهما في صورة ما إذا رتّب الآخر على الوعد والشرط أثراً بحيث يكون عدم الوفاء بهما غشاً وخداعاً وخيانة محرمة. بالاضافة إلى أن هذا الوعد والشرط يكون عقداً عرفاً فيجب الوفاء به.

ونتمكّن أن نقول : بأنّ الإجماع المدّعى على عدم وجوب الوفاء بمطلق الوعد وبالشرط في غير متن العقد هو دليل لبّي على تقدير ثبوته ، فيقتصر فيه على صورة ما إذا كان الوعد أو الشرط لم يرتّب عليه الطرف الآخر شيئاً ولم يصدق عليه العهد والالتزام ، وبهذا يكون التفصيل هو المتّبع لثبوت دليل على كل شقّ منه. وينبني على هذا أن التفاهم السابق على العقود إذا ترتّب عليه مع العقود أمرٌ محظور كالجهالة والغرر والربا فانه يعدّ محظوراً شرعاً ، وإن لم يرتّب عليه أمرٌ محظور فيجب الوفاء به وفقاً لما تقدم من الأدلّة السابقة.

***

ص: 128

المرابحة للآمر بالشراء

اشارة

ص: 129

ص: 130

المقدّمة

اشارة

نتكلم في هذه المقدّمة عن أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه ثم نتكلم عن بيع المرابحة بالخصوص جوازاً وكراهةً وشرائط.

أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه :
اشارة

وقد عدّ الفقهاء هذه الأقسام الى خمسة ، وتوضيح ذلك : أنّ البائع إِمّا أن يخبر بالثمن أولاً ، فعلى الثاني يكون البيع مساومة ، وعلى الأول : فإمّا أن يبيع برأس المال ، أو بزيادة عليه ، أو بنقصان عنه ، والأول هو بيع التولية ، والثاني هو بيع المرابحة ، والثالث هو المراصعة ، وهنا قسم رابع وهو : ما إذا باع بالتشريك ( وهو اعطاء بعض المبيع برأس المال مع علمهما بقدر رأس المال ) كأن يقول : أشركتك بالنصف فحينئذ يلزمه نصف مثل الثمن ، وهذا في الحقيقة عبارة عن بيع الجزء المشاع برأس المال.

بيع المرابحة :

وموضوع بحثنا هو بيع المرابحة ، ومعناها - كما تقدّم - هو « البيع مع الإخبار

ص: 131

برأس المال مع الزيادة عليه » ، وهذا البيع جائز بين جميع أهل العلم وعليه الإجماع.

ومع هذا قد وردت الروايات الكثيرة على جواز بيع المرابحة ، منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يبيع السلعة ويشترط أنَّ له نصفها ، ثم يبيعها مرابحةً أيحل ذلك ؟ قال : لا بأس » (1).

ورواية علي بن سعيد قال : « سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل يبتاع ثوباً فيطلب منّي مرابحة ، ترى ببيع المرابحة بأساً إذا صدق في المرابحة وسمّى ربحاً دانقين أو نصف درهم ؟ قال : لا بأس » (2).

كراهة المرابحة :

هذا وقد وردت الروايات دالّة على كراهة بيع المرابحة ، منها : موثّقة محمد بن مسلم قال : قال الصادق علیه السلام : « إنّي أكره بيع عشرة بإحدى عشرة ، ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة ، وقال : أتاني متاع من مصر فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم عليّ ، فبعته مساومة » (3).

شروط بيع المرابحة :

ويشترط في بيع المرابحة شروط كثيرة ، راجعة الى تحقّق هذا البيع في الخارج على وجه الامانة والصدق في الإخبار ، وهذه الشروط التي تذكر هنا هي غير الشروط العامّة في كل البيع. والشروط الخاصة هي :

ص: 132


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أحكام العوقد ح 3.
2- المصدر السابق : ح 1.
3- المصدر السابق : ب 14 من أحكام العقود ح 4.

1 - علم المتبايعين بقدر الثمن وقدر الربح والغرامة ( كالضرائب الحكومية ) والمؤن ( وهي المصاريف التي تصرف على السلعة للاسترباح ) إن ضمها الى رأس المال.

2 - يجب على البائع أن يذكر ما طرأ من موجب النقص ( كما إذا عرض خلل أو عيب في المبيع بحيث أوجب النقص ).

3 - يجب على البائع أن يذكر الاجل إذا كان الثمن مؤجّلا ، لأنّ للأجل قسطاً من الثمن.

4 - إذا زاد المبيع بفعل البائع أخبر بالواقع بأن يقول : « اشتريته بكذا وعملتُ فيه عملاً يساوي كذا » ، وكذا الأمر لو عمل فيه متطوع يزيد في قيمته.

5 - إذا استأجر الكيّال أو الوزّان أو الحارس أو الصبّاغ أو الرفّاء أو القصّار أو الدلاّل وأشباه ذلك فيقول : تقوّم عليّ بكذا ، ولا يقول : اشتريتُ بكذا ، لأنّ الشراء لا يدخل فيه إلاّ الثمن ، بخلاف « تقوّم عليّ » ، فإنّه يدخل في الثمن وما يلحقه من الاُجرة.

6 - إذا أخذ البائع أرشاً بسبب البيع أسقطه من الثمن ، لأنّ الأرش جزء من الثمن ، فكأنّ البائع اشترى المبيع بما عدا الأرش (1). أمّا إذا كان الأرش بسبب جناية فهو لا يسقط من الثمن ، لأنّ الأرش هنا حقّ متجدّد لا يقتضيه العقد كنتاج الدابة ، وهذا بخلاف العيب وإن حدث بعد العقد ( حيث يضمن ) ، فإنّه كالموجود حالة العقد.

7 - إذا اشترى أشياء جملةً واحدةً فلا يجوز له أن يبيع بعضها ويخبر بما

ص: 133


1- ويوجد هنا قول آخر ( وهو الأصح ) يقول بأنّ الأرش ليس جزءاً من الثمن وإنّما هو غرامة شرعية ، وعلى هذا الأساس لا يسقط من الثمن ، ولكن بنظري لابدّ من أن يبيّن الحقيقة للمشتري.

يقتضيه التقسيط من الثمن وإن كانت الاجزاء متساوية ، لأنّ المبيع المقابَل بالثمن هو المجموع ، وليست الأفراد ، وإن كانت الافراد يقسّط عليها الثمن في بعض الموارد ، كما لو تلف بعضها أو ظهر مستحقاً للغير.

بالإضافة الى أنّ بيع جملة أشياء متساوية بثمن واحد قد يختلف عن بيع كل واحد من الأشياء لوحده منفرداً.

8 - لا يجوز أن يخبر بما اشتراه ممّن يرتبط به سبب أو نسب حيلةً ، كما لو اشترى الشيء من زوجته أو ولده بمائة وكانت قيمته في السوق ثمانين فإنّ هذا خديعة وتدليس فلا يجوز.

9 - لا يجوز أن يخبر بأنّ ثمن السلعة هو ما قوّمه عليه التاجر من غير عقد على أن يكون الزائد له ، لأنّ مجرد التقويم لا يوجب البيع.

10 - إذا اشترى دابةً حاملةً فولدت وأراد بيعها منفردةً عن الولد مرابحةً فلا يجوز ، نعم ، إذا أخبر بالواقع فيجوز.

وكل هذه الشروط تقتضيها الامانة التي هي مفروضة في هذا العقد بين الطرفين ، فكل شيء يخالف هذه الأمانة فهو لا يجوز ، وعلى هذا فإن ظهر كذب البائع أو تدليسه وخديعته بأيّ شكل من الأشكال فيكون آثماً ، ولكنّ البيع صحيح يتخيّز فيه المشتري إذا علم بذلك بين الردّ والأخذ بالثمن.

ولهذه الشروط الكثيرة وتوابعها كان بيع المساومة أفضل ، لأنّه خال من هذه الشروط فلا يوقع الإنسان في محذور مخالفة الأمانة ، إذ لا نأمن من هوى الإنسان وجشعه في الربح الذي يؤدّي به الى غلط أو تأويل.

إذا عرفنا بيع المرابحة فيما تقدّم فهنا نتساءل هل أنّ مسألتنا « المرابحة للآمر بالشراء » هي من هذا القبيل ، أو هي شيء آخر ؟ ثمّ نبحث عن حكم المسألة.

ص: 134

المرابحة للآمر بالشراء

الصورة الاُولى :

وهي المشهورة المعروفة ، بأن يتقدّم العميل إلى البنك طالباً منه شراء سلعة معينة بأوصاف معينة ، ويَعِدُ العميل البنك بشراء تلك السلعة مرابحةً مقسطة بنسبة يتّفق عليها مع البنك.

وبعبارة اُخرى : أنّ العملية تتكوّن من خمس مراحل هي :

1 - طلب العميل من البنك شراء سلعة معينة موصوفة.

2 - البنك يَعِدُ العميل بأنّه سوف يشتريها ويبيعها له.

3 - العميل يَعِدُ البنك بأنّه سوف يشتري السلعة مرابحةً بنسبة معينة بالأقساط.

4 - يشتري البنك السلعَة المعينة.

5 - يبيعها إلى العميل مرابحة.

وهذه الصورة المعروفة نتكلم عنها أولاً حسب القاعدة الأوليّة ، ثم ننظر في ما إذا كان هناك نص يُدّعى على حرمة هذه المعاملة.

أمّا القاعدة الأوليّة فهي تقتضي صحة هذه المعاملة إذا جرت ، وكان كلّ من البنك والعميل بالخيار في البيع والشراء وعدمهما بعد أن يشتري البنك السلعة. أمّا إذا أراد البنك أن يلزم العميل بالشراء ، أو أراد العميل أن يلزم البنك بالشراء فهل تكون المعاملة صحيحة أيضاً على القاعدة ؟

وبعبارة اُخرى : أنّ الإلزام والالتزام في المرحلة الثانية والثالثة إذا أوجدناه بصورة من الصور فهل تبطل المعاملة ؟

ص: 135

الجواب : أنّ أكثر المعاملات التي يكون المتعامل فيها حرّاً بالبيع والشراء قد يأتي فيها الإلزام ، ومع هذا تكون المعاملة صحيحة ، واليك بعض الأمثلة.

1 - إذا أردتُ أن أشتري منك سيارةً فأنا بالخيار في عقد صفقة الشراء وعدمه ، وأنت أيها البائع أيضاً كذلك بالخيار في عقد صفقة البيع وعدمه ، ولكن إذا أردنا أن نلتزم بإحداث صفقة بيع تقع فيما بعد بثمن معين فيمكننا أن نوجد معاملة ثانية غير معاملة السيارة ، كأن أبيعك ثلاجةً واشترط عليك في ضمن البيع أن تبيعني سيارتك بثمن معيّن ، فإن قبلت بيع الثلاجة أصبحت الثلاجة لك ، ولكنّك ملزم من ناحية شرعية ببيع سيارتك لي بثمن معيّن.

وهذه العملية ليس فيها بأس ، لأنّ البيع الثاني أصبح شرطاً في البيع الأول ، والحديث الشريف الصحيح يقول : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز » (1) ، وبما أنّ القاعدة الأوليّة تقول : إنّ هذا الشرط ليس مخالفاً للكتاب فهو نافذ.

2 - قد يكون الإلزام - من قبل البنك بالبيع للعميل ، والالتزام من قبل العميل بالشراء - قد حدث بواسطة يمين من الطرفين بإحداث العقد ، وكذا الأمر في نذر كلّ واحد منهما هذا الأمر مع تحقّق متعلّق النذر.

وبهذه الاُمور الثلاثة يكون كلّ من البنك والعميل مُلزَماً من ناحية شرعية باجراء المعاملة. إذن قد اتّضح أنّ الإلزام الذي يأتي إلى البنك أو إلى المشتري بصورة من الصور المتقدّمة لا يغيّر من صحة المعاملة.

ولكن هنا نريد أن نبيّن أنّ مجرد المواعدة من قبل البنك للعميل ، أو من قبل العميل للبنك هل هي كافية في الإلزام ؟

ص: 136


1- صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام ، وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 6 من أبواب الخيار ، ح 2.

نقول : إنّ معنى الوعد على قسمين :

أ - وعد ابتدائي ، كما إذا وعدتُ شخصاً بأن أدفع له ديناراً غداً.

ب - الوعد الذي هو عبارة عن معنى التعهّد والالتزام ، كما إذا واعدت البنك بأنّ أشتري منه سلعةً معينةً إذا أقدم بشرائها ، وقد أقدم البنك على شرائها وجلبها إلى المكان الذي فيه يقيم الواعد بالشراء ، ففي مثل هذا الوعد - الذي هو بمعنى التعهد - يكون الوفاء به واجباً ، والدليل على ذلك هو :

1 - الفهم العرفي من التزام الواعد بأنّه ينجّز هذه المعاملة ، فإنّ العرف يفهم من هذا الالتزام معنى الوجوب ، لأنّ الوعد - في الكسب التجاري الذي هو تداول السلعة بالثمن والربح - يكون بمعنى الالتزام والتعهد ، وهذا يكون موضوعاً لوجوب العمل على وفقه. وهذا الوعد يختلف عن الوعد بالمعنى الأول الذي يكون سبيله الإرفاق ، فإنَّه بمعنى « إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل » ، وهذا هو الذي اختلف فيه الفقهاء بالوجوب وعدمه.

إذن الفهم العرفي لهذا الوعد - في الكسب التجاري - هو موضوع الحكم الشرعي ، وهذا الحكم الشرعي هو وجوب الوفاء بهذا الوعد الذي متعلقه هو « فعل ما التزم به وما واعد به » وليس معنى هذا الوجوب هو الحكم الوضعي « وهو ترتب أثر متعلّق الالتزام ».

وبهذا يتّضح سقوط مَن استدل على عدم وجوب الوفاء بهذا الوعد - كالجمهور - « بأنّ الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء » (1) ؛ حيث أن الموعود لا يضارب لأنّه ليس عنده شيء هنا ، وإنّما الواعد يجب عليه الوفاء بالتزامه ، وهذا شيء آخر غير استحقاق الموعود بمجرد وعد الواعد.

وكذلك اتّضح سقم الاستدلال - على عدم الوفاء بالوعد - بالاولوية من

ص: 137


1- المرابحة للآمر بالشراء ، د. بكر بن عبد اللّه أبو زيد : ص 6.

الهبة ، حيث قال الجمهور : إذا كانت الهبة لا تتمّ إلاّ بالقبض فكيف بالهبة لو وعده بها مجرد وعد ؟! (1).

والجواب : هو أنَّ الهبة حكم وضعي وقد رتّبها الشارع على القبض ، أمّا الالتزام بالهبة فهو حكم شرعي ، كما لو حلف على أن يهب فيجب عليه أن يوقع متعلق الحلف وهو الهبة ، إلاّ أنّ الهبة لا تقع ولا يترتب حكمها من الصحة إلاّ بعد القبض.

2 - الستدلال بالاية القرانية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (2). وهذه الآية مسوقة لتوبيخ المؤمنين على « مطلق تخلف الفعل عن القول وخلف الوعد ونقض العهد ».

ثم إذا نظرنا الى سياق الآيات التي منها : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ... ) (3) و ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... ) (4) فإنّه يفيد أنّ متعلق التوبيخ هو تخلف بعضهم عمّا عاهد النبي صلی اللّه علیه و آله من الثبات في القتال وعدم الانهزام والفرار ، ولكنهم لم يفوا بعهدهم فأوجب هذا العمل التوبيخ الذي أعقبه حكم عملهم هذا ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) ، وهذا الحكم الصارم يدل على أنَّ الوعد ( العهد ) الذي كان يصدر من المؤمنين يجب الوفاء به ، فعدم الوفاء به مقتٌ عند اللّه كبير ، وهذا كاف للدلالة على حرمة عدم الوفاء بالوعد الذي نحن بصدده ، فإنّ المقت هو البغض الشديد ، وليست الحرمة إلاّ هذا.

ص: 138


1- المصدر السابق.
2- الصف : 2 - 3.
3- الصف : 4.
4- الصف : 10 - 11.

وفي الحقيقة : أنّ هذا الوعد ( العهد ) عبارة عن عقد بين اثنين أحدهما يعطي والآخر يأخذ ، أو كل واحد يعطي ويأخذ ، وحينئذ تشمله ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) او ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) (2).

ولا بأس بالتنبيه على أنّ هذين الدليلين يُلزمان الواعد بالوفاء بوعده ، وليسا ناظرَين الى تضرر الموعود نتيجة عدم الوفاء بالوعد ، وكيفية رفع ضرره ، فإنّ هذا شيء آخر لسنا الآن بصدده.

4 - أمّا الوعد الابتدائي المتقدّم فهو ينقسم الى قسمين :

أ - وعد ابتدائي لا يترتب عليه أثر.

ب - وعد ابتدائي يترتب تعليه أثر ، كما إذا كان الموعود يتضرر فيما لو لم يفِ الواعد بوعده فهنا يأتي « لا ضرر ولا ضرار » المتفق عليه بين أهل الإسلام ، يقول للواعد : يجب عليك الالتزام بوعدك الابتدائي ، لأنّك إن لم تلتزم بما وعدت به يقع أخاك في ضرر بسبب وعدك ، وعدم الوفاء به ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

ولا يرد علينا القول بأنّ حديث « لا ضرر » يشمل الواعد ، ووجوب الوفاء بالوعد ينبغي أن لا يكون ضررياً بالنسبة إلى الواعد ، فإنّنا نقول بأنّ حديث لا ضرر لا يجري في حقّ الواعد ؛ لأنّه هو الذي أقدم على الوعد لغيره ، وهو الذي ضرّر نفسه لو كان في الوفاء بوعده ضرر عليه.

وقد يقال : صحيح أن القاعدة الأوليّة تقتضي صحّة هذه المعاملة ، وإن وجد فيها إلزام والتزام من الطرفين بإيقاعها إلاّ أن المانع هو الأدلّة الخاصة في المقام التي تقول بتحريم هذا الإلزام في هذه المعاملة بالخصوص. وقد اختلف علماء العامة (3)

ص: 139


1- المائدة : 1.
2- الاسراء : 34.
3- المرابحة للآمر بالشراء ، محمد أمين الضرير : ص 6.

ببيان هذا المانع ، توضيح ذلك :

1 - ذهب قسم منهم الى أنّ المانع من صحة المعاملة هو دخولها تحت عنوان بيع العينة المنهيّ عنه (1).

2 - وذهب قسم آخر الى أن المانع هو دخول المعاملة تحت عنوان « لا تبع ما ليس عندك » (2).

3 - وذهب قسم ثالث الى أن الالزام في هذه المعاملة يدخلها تحت النهي الوارد عن بيعتين في بيعة (3).

4 - وذهب قسم رابع الى أن الالزام يجعل المعاملة مخاطرة (4).

5 - وذهب قسم خامس الى أن الالزام يجعل المعاملة داخلة تحت عنوان « السلف والزيادة » (5).

والآن يجب علينا أن نفحص أنّ هذه الموانع التي ذكرت هل هي كافية في دخول معاملتنا التي نحن بصددها تحت أحد هذه الموانع ، أو لا ؟ فنقول :

أولاً : أنّ ما نحن فيه مغاير لبيع العينة ، التي معناها : هو أن تباع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجّل أقل ممّا باع به.

وهذه الصورة لبيع العينة هي المعروفة عند أبناء العامّة ، وقد تصور بصورة ثانية ، وهي : أن يبيع صاحب السلعة سلعته نقداً ، ثم يشتريها من المشتري نسيئةً بمقدار أكثر قيمة ، فيكون البائع في البيع الأوّل هو المشتري في البيع الثاني وبالعكس ، وهذه الصورة لبيع العينة هي التي ورد فيها أكثر روايات الإمامية.

ص: 140


1- ذهب الى هذا الباجي ، المنتقى : ج 5 ، ص 38 و 39.
2- ذهب الى هذا الشافعي والباجي.
3- ذهب الى هذا الباجي.
4- ذهب الى هذا الشافعي.
5- ذهب الى هذا الباجي.

وتوجد صورة ثالثة ، وهي : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئةً بالسعر السوقي ، ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً (1).

وقد قال بحرمة بيع العينة كل من مالك وأحمد ، لأنّها حيلة لربا النسيئة ، وقد احُتجَّ لهؤلاء بحديث عائشة « حينما أخبرتها اُمّ محبّة بأنّها كانت لها جارية ، فباعتها لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم الى عطائه ، وأنّه أراد بيعها ، فابتاعتها منه بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت وبئسما اشتريت ، فأبلغي زيد أنّه قد بطل جهاده مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أن يتوب. فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه إلاّ رأسمالي ؟ فقالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » (2).

ومن هنا يتّضح أن المانع من صحة البيع عند العامّة هو الربا المستور تحت البيع ، بتقريب أن المشتري قد حصل على مائة دينار - مثلاً - نقداً بمائة وعشرين ديناراً مؤجلة الى سنة ، وهذا إنّما يكون في صورة اشتراط البيع الثاني في البيع الأول صراحةً أو ضمناً ، كأن يكون البيع الثاني مبنيّاً على البيع الأول.

أمّا عند الإمامية فقد وردت النصوص ببطلان هذه المعاملة ، منها صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام ( الإمام الكاظم ) قال : « سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ ؟ قال : إذا لم يشترطاً ورضيا فلا بأس » (3). ومعنى ذلك أنّه إذا اشترط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات.

وذهب قسم من علماء الإمامية إلى أنّ البطلان هنا للنصّ الخاصّ ، ولكن

ص: 141


1- راجع كتاب نظرية الربا المحرم ، ابراهيم زكي الدين بدوي : ص 203.
2- نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية : ص 203 ، عن القرطبي : ج 3 ، ص 359 وما بعدها.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 5 من أحكام العقد ، ح 6.

ليس من البعيد - إن قبلنا الفكرة القائلة : إنّ وراء الالفاظ لُبّاً قد قصده المتعاقدان ، والاعتبار باللب - أن يكون البيعان روحهما هو القرض الربوي ، وقد توصّلا إليه بهذا الثوب من المعاملة ، إذ القرض هو تمليك مع الضمان ، وهو حاصل من المعاملتين فلا يجوز فيه الزيادة ، لأنّ أدلّة حرمة ربا القرض تشمله.

هذا كلّه راجع الى بيع العينة بالمعنى المتقدّم الذي حرّمته الروايات من الطرفين ، ولكن أي ارتباط بينه وبين ما نحن فيه ؟

نقول : لا يوجد أي ارتباط ، وذلك لأنّ بيع العينة - كما تقدّم - هو إرجاع سلعة الرجل الى نفسه ، وحصوله على نقد على أن يُرجع أكثر منه ، حيث ذكروا في تسمية عقد العينة ما حاصله (1) :

1 - إنّ المشتري يأخذ بدل سلعته عيناً ( أي عقداً حاضراً ).

2 - إنّ البائع يعود إليه عين ماله بعد أن باعه.

أمّا ما نحن فيه فليس كذلك ، لأنّ البنك يشتري السلعة من جهة معينة ثم يبيعها الى جهة ثالثة ، فليس عندنا عقدين بين اثنين ، وإنّما عندنا عقدان بين ثلاثة أطراف ، وهذا ليس له ارتباط بالقرض ولا بالربا.

نعم ، يوجد شيء مشترك بين المسألتين وهو : الزام البائع والمشتري بالبيع الثاني مرابحةً الذي يقع بين البنك والآمر بالشراء ، كما أن في بيع العينة يوجد الزام ببيع العين - التي وقعت في البيع الأول - إلى البائع ، لكنّ هذا الشيء المشترك لم يجعل المسألتين من باب واحد فانتبهوا أيّها المسلمون ، فلو أنّني بعت سيارتي الى شخص بشرط بيعها الى اخي إذا اراد المشتري بيعها فهنا يكون المشتري ملزماً ببيعها الى أخي فيما إذا أراد البيع ، إلاّ أنّ هذا الإلزام لم يجعل هذه المسألة من باب بيع العينة.

ص: 142


1- نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية ، إبراهيم زكي الدين بدوي : ص 203.

ثانياً : إنّ ما نحن فيه يختلف عن بيع ما لا يملك ، ومن يقول : إنّ ما نحن فيه داخل تحت النهي الوارد عن بيع ما ليس عندك فهو قول خاطئ ، وتوضيح ذلك :

إنّ مفروض المسألة هو أنّ عقد البيع بين البنك والعميل يقع بعد شراء البنك للسلعة ووضعها بين يدي العميل ، وإنّما الذي تقدم من البنك والعميل هو الوعد ( الالتزام ) بالبيع في وقته بعد حصول البنك على السلعة المطلوبة ، بينما النهي ورد عمّن باع ولم يملك ، وهنا لم يوجد بيع من دون ملك ، وإنّما وجد التزام بالبيع في وقته ، كما إذا التزمتُ ببيع داري الى صديقي عند إرادة بيعها ، وهذا لا يسمّى ببيع الدار إلى الصديق.

ومن العجيب عدم تفرقة البعض بين أن يقول شخص لآخر : « بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا » والسلعة ليست عنده ، وبين أن يقول شخص لآخر : اشترِ سلعة كذا وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا (1) ، إذ أنّ في الصورة الاُولى قد وجد حكم وضعي ، وهو النقل والانتقال ، إلاّ أنّ الشارع لم يوافق على صحة هذا الحكم ، أمّا في الصورة الثانية فلم يوجد البيع ، وإنّما وجد التزام من قبل المشتري بالشراء بكذا ، وهذا موضوع لحكم تكليفيٍّ يتوجّه إلى المشتري ، فإن لم يشترِ فهو قد خالف الحكم التكليفي الذي التزمه على نفسه ، أمّا نفس الحكم الوضعي - وهو النقل والانتقال - فلم يحصل حتى يقال : إنّ الشارع قد نهى عنه.

إذن الالتزام بالشراء من البنك هو موضوع حكم تكليفيٍّ بوجوب الشراء ، فإن حصل البنك على السلعة وعرضها على المشتري فاشتراه فهو بيع لسلعة يملكها البنك ، وإن لم يشترها المشتري فقد فعل حراماً ، ولكنّه لم يشتر بعد.

ثمّ إنّ حديث « لا تبع ما ليس عندك » قد ذكر الفقهاء : أنّ المراد منه النهي عن بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد وأمثالهما الذي لا يتمكّن المشتري فيه من

ص: 143


1- المرابحة للآمر بالشراء ، ملازم الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص 2.

تسلّم المبيع ولا البائع من تسليمه ، فيحدث الغرر في البيع ؛ لأنّ البيع إنّما حصل على أن يكون التسليم حالا ، بينما البائع غير قادر على التسليم حالا ، ولا يعلم متى يتمكّن من التسليم ، لأنّ العبد غير معروف زمن رجوعه إن كانت عنده نيّة إلى الرجوع ، كما لم يعلم أيرجع الجمل الشارد الى صاحبه أم لا ؟ فيحصل الغرر من هذه المعاملة ، وليس المراد منه النهي عن « بيع الصفة في الذمّة » ، ولذا قد اُجيز بيع السلم إلى الأجل ، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال ، ولكن جوّزه الفقهاء بالاتفاق ، كما أنّه ليس المراد من « لا تبع ما ليس عندك » هو النهي عن « بيع غير الموجود التابع للموجود » مثل بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها ، إذ أن هذا جائز بالاتفاق أيضاً كما يجوز بيع المقاثي والمباطخ.

ثالثاً : وأمّا حديث النهي عن « بيعتين في بيعة » فقد وردت عدّة روايات تنهى عن بيعتين في بيعة ، أو عن شرطين في بيع ، أو صفقتين في صفقة ، ولكنّ الكلام في معنى هذه الروايات وشمولها لما نحن فيه.

وقد فسّر الشافعي البيعتين في بيعة على نحوين :

1 - أن يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا.

2 - أن يقول : بعتك هذا العبد - مثلاً - بألف على أن تبيعني أو فلان يبيعني الدار بكذا ، أو يقول : أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا ، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري (1).

أمّا التفسير الأول فهو الصحيح ، لأنّ البيع يكون باطلاً ؛ لتردّد الثمن عند العقد ، بل لم يحصل قصد الى أحدهما بالخصوص.

وأمّا التفسير الثاني للشافعي فهو لا يبطل المعاملة ، لأنّه من قبيل الالتزام في الالتزام ، فيشمله قوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » الذي تقدم ذكره.

ص: 144


1- نهاية المحتاج الى شرح المنهاج ، للرملي : ج 3 ، ص 433 وما بعدها ، وفتح القدير : ج 5 ، ص 218.

ويوجد معنى آخر للبيعتين في بيعة ، وهو : أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة الى شهر ، فلمّا حلّ الأجل وطالبه بالحنطة قال : بعني القفيز الذي لك عليّ الى شهرين بقفيزين ، فصار ذلك بيعتين في بيعة ، لأنّ البيع الثاني قد دخل على الأوّل فيردّ إليه أوكسهما ، وهو الأول (1).

وهذا المعنى الأخير للأحاديث بهذا المثال المذكور آنفاً يوجب حرمة البيع الثاني ؛ لوجود الربا ، لأنّ المشتري قد باع قفيزاً واحداً بقفيزين من الحنطة فهو ربا ، إلاّ أنّ المثال إذا غيّرناه وأراد المشتري أن يبيع قفيزه من الحنطة بدراهم فهو بيع جائز رغم أنه بيع ما لم يقبض ، إلاّ أنّ النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض مخصوص ببيعه على غير بائعه ، أمّا بيعه على بائعه فلا بأس به ، وقد وردت النصوص بصحة ذلك ، منها : صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل باع طعاماً بدراهم ، فلمّا بلغ ذلك الأجل تقاضاه ، فقال : ليس عندي دراهم ، خذ مني طعاماً ، قال علیه السلام : لا بأس إنّما له دراهمه يأخذ بها ما شاء » (2) وغيرها من الروايات.

نعم ، يحتمل أن يكون المعنى الذي ذكر أخيراً للبيعتين في بيعة ، عبارة عن بيع ما لم يقبض على شخص ثالث ( غير البائع ) ، كما إذا اشتريت كمية من الحنطة ولم أقبضها بعد ، وأردتُ بيعها الى ثالث فهنا توجد أدلّة تمنع من بيعها قبل القبض بزيادة أو نقيصة ، وهذا الحكم صحيح ، وقد يبنى على النظرية القائلة بأنّ الكسب من دون عمل غير صحيح.

وعلى كل حال - سواء اُريد بالبيعتين في بيعة ما ذكره الشافعي أو ما ذكر أخيراً من النهي عن البيع قبل القبض - فهل ما نحن فيه داخل تحت معنى الحديث ؟

ص: 145


1- نظرية الربا المحرم ، لإبراهيم بدوي : ص 214 هامش 3.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 19 من أبواب السلف ، ح 10 ، وهي مروية عن عبيد بن زرارة أيضاً.

نقول : لا يوجد أي ارتباط بين ما نحن فيه وبين الحديث ، وذلك :

أ - إنّ مفروض مسألتنا هو : يشتري البنك أولاً ويقبضها.

ب - وبعد ذلك يعرضها على المشتري ويبيعها له مرابحة.

فلا يوجد بيع قبل القبض ، كما لا يوجد بيع ( نقداً بكذا أو نسيئة بكذا الذي يبطل العقد نتيجة عدم معلومية الثمن ). نعم ، الذي وقع قبل القبض هو الالزام بالبيع عند التملك والقبض ، وهذا لا بأس به ؛ لعدم وجود نهي فيه ، وإنّما النهي عن البيع قبل القبض.

رابعاً : أما المخاطرة : التي تحدث عن الالزام كما يقول الشافعي : « إنّك إن اشتريته بكذا اُربحك فيه كذا » (1). فلا ندري ماذا يريد الشافعي من قوله هذا ، فهل يريد بيع العينة بالمعنى المتقدّم كما ورد أن بيع العينة يسمى ببيع المخاطرة ، فقد تقدّم أنّه يختلف عمّا نحن فيه فلا نعيد (2) ، أو يريد أن الالزام بالبيع الثاني فيه مخاطرة على المشتري أو البائع ؟

نقول : الصحيح أن عدم الالزام هو الذي فيه مخاطرة على البائع أو المشتري. وتوضيح ذلك : أنّ البنك إذا اشترى السلعة ولم تكن مرغوبة إلاّ للمشتري ثم امتنع المشتري من شرائها نتيجة عدم الزامه شرعاً فهذا فيه مخاطرة وضرر على البنك ، كما أن البنك إذا اشترى السلعة وقد انتظرها المشتري مدّة طويلة ، ولم يوظف أمواله في أي عمل بانتظار تلك السلعة المعينة ولكن البنك لسبب عدم الزامه يبيعها لمن أمره بالشراء ، أو لبذل سعر أكثر ممّا بذله الآمر بالشراء باعها البنك لغير الآمر المنتظر الموعود ببيعها له ، فهنا توجد مخاطرة وضرر على المشتري ، إذن جاءت

ص: 146


1- الاُم ، الشافعي : ج 3 ، ص 33.
2- نقول : لا يمكن للشافعي أن يريد بالمخاطرة هو بيع العينة بالمعنى المتقدّم ، لأنّه قال بجواز بيع العينة كما نقل عنه ، راجع نظرية الربا المحرم : ص 203.

المخاطرة من عدم الالزام ، لا أنّها جاءت من الالزام.

وأمّا إذا اراد الشافعي ورود النصوص بحرمة هذا ، وقد علّله بالمخاطرة فهذا سوف يأتي.

خامساً : أمّا ما ذكر من أن مسألتنا داخلة تحت النهي الوارد « عن سلف وزيادة » كما قال الباجي : « لأنّه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين الى أجل يتضمّن ذلك أنّه أسلفه عشرة في عشرين الى أجل » (1) فهو بعيد عمّا نحن فيه ، لأنّ البنك إنّما يشتري السلعة لنفسه ( كما هو مفروض الصورة الاُولى التي نحن بصددها ) بينما السلف والزيادة المنهيّ عنه - كما يقول الباجي - هو عبارة عن شراء السلعة للآمر بعشرة ، ثم يبيع المشتري العشرة بعشرين إلى أجل فهو رباً لا كلام لنا في حرمته.

إذن إذا كان شراء البنك السلعة لنفسه وبماله ، ثم بعد ذلك يبيع السلعة إلى الآمر نسيئةً مرابحة فهو ممّا لا إشكال فيه ، وكثير من البيوع التي تحصل في الخارج تكون على هذا النسق من البيع مرابحة مع أن البائع قد اشتراها لنفسه بثمن أقل.

نعم ، هنا إلزام في البيع الثاني على البنك أن يبيع السلعة على المتعهد بالشراء ، كما يوجد الزام على المشتري أن يشتري السلعة التي اشتراها البنك بأمر الآمر ، وهذا الالزام حصل بتعهد الطرفين أو بحلفهما أو بنذرهما أو بشرط في عقد لازم فهل هذا الالزام يبطل البيع الثاني ؟

الجواب : قلنا فيما تقدّم إن القاعدة الأوليّة تقول بصحة العقد الثاني كما قالت بصحة العقد الذي أوجده البنك في شراء السلعة بأمر الآمر ، إذن لا إشكال في صحة هذا العقد الذي يحدث من قبل البنك الآمر بالشراء حتى مع الالزام للطرفين

ص: 147


1- المنتقى : ج 5 ، ص 38 و 39.

بالبيع للآمر وبالشراء من البنك.

سادساً : وقد ذكر البعض : أنّ الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر حيلةً تقوم مقام الالزام ، فقد قيل له : « أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم وأخبره أنّه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم ، فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها ، فتبقى في يد المأمور ، كيف الحيلة في ذلك ؟ قال : يشتري المأمور الدار على أنّه بالخيار ثلاثة أيام ، ويقبضها ويجيء الآمر ويبدأ فيقول : قد أخذتُ منك هذه الدار بألف ومائة درهم ، فيقول المأمور : وهي لك بذلك ، فيكون ذلك للآمر لازماً ويكون استيجاباً من المأمور للمشتري ، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكّن المأمور من ردّها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك » (1).

واستفاد هذا القائل من هذه الحيلة أن الالزام في المعاملة غير جائز ، بينما الصحيح هو أن الشيباني ذكر عملاً يدفع به البائع الضرر عن نفسه فيما إذا كان المشتري مختاراً في شرائه وعدمه ، وهذا لا يدل على أن الالزام غير جائز إذا حدث سببه ، وبواسطته يندفع الضرر على البائع ، إذ لو اهتدى الامام الشيباني الى عملية تؤدّي إلى الالزام فلعلّه يقول بصحتها ، إذ الطريق الذي قاله : إنّما كان لأجل دفع الضرر عن البائع في بعض الصور ، والالزام الذي يقوله أيضاً طريقة لدفع الضرر عن البائع ، فاهتداؤه إلى الطريق الأول ليس معناه حرمة الطريق الثاني.

على أنّ الأفضل للدارس أن يذكر دليلا على الحكم الشرعي ، لا أن يأتي بفتوىً لبعض الفقهاء.

سابعاً : قالوا : إنّ ما نحن فيه هو بيع نقد بنقد أكثر منه الى أجل ( بينهما سلعة

ص: 148


1- كتاب الحيل رواية السرخسي : ص 79 من بحث المرابحة للآمر بالشراء ، للاُستاذ الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص 5.

محلّلة ) فغايته قرض بفائدة.

ويرد على هذا القول : أن كل بيع نسيئة أو بنقد هو معناه ( بيع نقد بنقد أكثر منه ، نقداً أو نسيئة بينهما سلعة محلّلة ) ، ولكن اللّه سبحانه أحلّ هذا حيث إنّ البائع حوّل نقده الى عمل مخزون ، وهذا العمل المخزون يستهلك بمرور الزمان ، فتذهب صفته ، والمشتري له الحقّ أن يبيع هذا العمل المخزون بعد قبضه بفائدة وربح ، فيكون ربحه مرتكزاً على عمل ، أمّا القرض بفائدة الذي حرّمه الشارع المقدّس فالمفروض فيه أن النقد الذي دفعته إلى المقترض يرجع بنفسه إليّ بعد الأجل من دون نقيصة في صفاته ، ومن دون استهلاك ، ومعنى هذا عدم جواز الفائدة ككسب يحصل عليه المقرِض ، لأنّه لم يقدم عملاً مباشراً إلى المقترض ولا مخزوناً بحيث يستهلك أو تذهب صفته بالاستعمال ، وحينئذ لا يحقّ له الاكتساب من هذا الطريق.

بالاضافة الى ورود النص بحرمة القرض بفائدة ، وعدم وروده إلى الآن فيما إذا اشترى سلعةً من زيد ، وأراد بيعها إلى عمرو مرابحة نسيئة وكان ملزماً ببيعها بسبب من أسباب الالزام.

ثامناً : الأصل اللفظي للمسألة : إذا تنزلنا عن الأدلّة السابقة الدالة على صحة المرابحة للآمر بالشراء كما في الصورة الاُولى التي عرضناها فغاية ما يقال : إنّنا نشك في صحة هذه المعاملة ، وحينئذ فإنّ إطلاق (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) تدل على صحة هذه المعاملة ، لأنّ معاملة البنك للعميل ممّا لا إشكال أنّها بيع عند العرف ، وهي عقد وتجارة فتشملها الآيات الثلاث الدالّة على صحة المعاملة ولزوم الوفاء بها ، وإن كان الالزام موجوداً لإيقاع هذه المعاملة.

نقول : هذا الذي تقدم كان على مقتضى القاعدة ، وعدم صحة ما ذكر من نصوص على البطلان عند فقهاء السنة.

ص: 149

هذا ، ولكنّ الإمامية تلتزم ببطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام للنصوص الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت علیهم السلام الدالّة على بطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام ، وصحتها إذا كان البنك بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكذا إذا كان العميل بالخيار إذا شاء اشترى أو إذا شاء لم يشترِ.

والشيعة الإمامية يلتزمون بالبطلان ، لا لما تقدم ذكره عن فقهاء السنة ، وإنّما للنصوص الخاصة في المنع عن هذه المعاملة ، وقد ذكرت بعض الروايات على لسان الرواة : أن هذا قسم من أفراد بيع العينة ، ولكن الحجّة التي نستند إليها هي نهي الأئمة عن هكذا بيع ، سواء سمّاه الأفراد السائلون للأئمّة بيع عينة ، أم لا.

والروايات كثيرة ، منها :

1 - صحيحة معاوية بن عمار قال : قلت للصادق علیه السلام : « يجيئني الرجل فيطلب منّي بيع الحرير وليس عنده منه شيء ، فيقاولني عليه ، واُقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه ، فقال : أرأيت إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (1).

وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الالزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها البأس وهو معنى البطلان ، وأمّا إذا كانت المعاملة الثانية خاليةً من الالزام للمشتري وللبائع فلا بأس بها.

2 - صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الصادق علیه السلام عن العينة فقلتُ : يأتيني الرجل فيقول : اشترِ المتاع واربح فيه كذا وكذا ، فاُراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به ، ثم أنطلق فاشتري المتاع من أجله ، لولا مكانه

ص: 150


1- الوسائل : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 7.

لم أرده ، ثم آتيه به فأبيعه ؟ فقال : ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك ، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه ، وإن شاء ردّه ، فلستُ أرى به بأساً » (1).

3 - صحيحة منصور بن حازم قال : « قلت للصادق علیه السلام : الرجل يريد أن يتعيّن من الرجل عينة ، فيقول له الرجل : أنا أبصرُ بحاجتي منك فأعطني حتّى اشتري ، فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثمّ يجيء بها إلى الرجل الذي له المال فيدفعه اليه ، فقال : أليس إن شاء يشتري وان شاء ترك ، وإن شاء البائع باعه وإن شاء لم يبع ؟! قلت : نعم ، قال : لا بأس » (2).

4 - وعن منصور بن حازم أيضاً قال : « سألت الصادق علیه السلام عن رجل طلب من رجل ثوباً بعينة قال : ليس عندي ، هذه دراهم فخذها فاشترِ بها ، فأخذها فاشترى بها ثوباً كما يريد ، ثم جاء به أيشتريه منه؟ فقال : أليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم ؟ قلت بلى ، قال : إن شاء اشترى ، وإن شاء لم يشترِ ؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس » (3).

5 - صحيحة اسماعيل بن عبد الخالق قال : « سألت أبا الحسن علیه السلام عن العينة ، وقلت : إنّ عامّة تجارنا اليوم يعطون العينة ، فأقصّ عليك كيف نعمل ؟ قال : هات ، قلت : يأتينا المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع ، فيقول : اُربحك ده يازده ، وأقول أنا : ده دوازده ، فلا نزال نتراوض حتى نتراوض على أمر فإذا فرغنا قال : قلت : أيّ متاع أحبّ إليك أن أشتري لك ؟ فيقول : الحرير لأنّه لا يجد شيئاً أقل وضيعةً منه ، فأذهب وقد قاولته من غير

ص: 151


1- وسائل الشيعة 12 : ب 8 من أحكام العقود ، ح 9.
2- المصدر السابق : ح 11.
3- المصدر السابق : ح 12.

مبايعة ، فقال : أليس إن شئت لم تعطه ، وإن شاء لم يأخذ منك ؟ قلتُ : بلى ، قال : فأذهب فاشتري له ذلك الحرير ، واُماكِس بقدر جهدي ، ثم أجيء به الى بيتي فاُبايعه ، فربما ازددتُ عليه القليل على المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا فلم يكن شيء ، فإذا اشترى مني ... فقال : أليس إنّه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد ؟ فقلتُ : بلى لو أنّه هلك فمن مالي قال : لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس به » (1).

6 - وعن خالد بن الحجاج قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : الرجل يجيء فيقول : اشترِ هذا الثوب واُربحك كذا وكذا ، قال : أليس إن شاء ترك ، وإن شاء أخذ ؟! قلت : بلى ، قال : لا بأس به » (2).

وهذه الروايات كلها تفيدنا قاعدة عامّة هي : « لا يجوز مواجبة البيع قبل أن تستوجبه » أي لا يجوز أن نلزم أحداً بالبيع قبل أن نوجب البيع لنا ، وقد ذُكرت هذه القاعدة في رواية ، هي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام ومَنْ وجب له البيع قَبل أن يلزم صاحبه فليبع بعدما شاء » (3).

ولا بأس بالتنبيه الى وجود روايات تصحّح هذه العملية من دون تفصيل بين صورة وجود الالزام وعدمه ولكن بواسطة هذه الروايات المتقدّمة نقيّدها بصورة عدم وجود الالزام. فمن تلك الروايات المطلقة :

1 - عن ابن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه ، ثم تشتري له نحو الذي طلب ، ثم توجبه على

ص: 152


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 14.
2- المصدر السابق : ح 4.
3- المصدر السابق : ب 3 ، ح 2.

نفسك ، ثم تبيعه منه بعدُ » (1).

2 - وروى عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه قال : « سألت الصادق علیه السلام عن الرجل يأتيني يطلب منّي بيعاً وليس عندي ما يريد أن اُبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتى أشتري متاعاً فأبيعه منه ؟ قال : نعم » (2).

3 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن رجل أتاه رجل فقال : ابتع لي مقاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله ، قال : ليس به بأس ، إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه » (3).

الخلاصة : هذه الروايات الكثيرة تجعلنا نرفع اليد عن القاعدة الأوليّة ، ونقول ببطلان المعاملة إذا كان هناك إلزام من أحد الطرفين للآخر بالنسبة للبيع الثاني الذي يحصل بعد تملّك الأول للسلعة.

وهذه النتيجة المستفادة من الروايات تشمل تعهّد البنك والعميل كلّ منهما للآخر ، وتشمل أيضاً الالزام الذي يأتي من قبل الشرط في ضمن العقد إذا كان الشرط قد أملاه أحدهما على الآخر ، لأنّ هذا الشرط الذي قد نهي عنه في هذه المعاملة يكون شرطاً قد حرّمه اللّه تعالى ، وكلّ شرط قد حرّمه اللّه تعالى لا يجوز اشتراطه في المعاملة ، كما قالت الرواية المتقدّمة : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا يجوز ».

نعم ، الروايات لا تنظر الى ما إذا أوجب أحد الطرفين العقد الثاني على نفسه بواسطة « حلفٍ أو نذرٍ أو تعهّدٍ لله تعالى » إذا حصلت شروط انعقاد هذه العقود ، ولم تكن حيلة من قبل الطرف الآخر لإلزام الحالف أو الناذر أو

ص: 153


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 8 من أحكام العقود ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 5.
3- المصدر السابق : ح 8.

المتعهد لله تعالى ، بمعنى أن الروايات غير ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل السماء ، وإنّما هي ناظرة إلى الإلزام الذي يأتي من قبل الآخر قبل أن يملك الطرف الآخر السلعة.

الصورة الثانية للمرابحة للآمر بالشراء :

الصورة الثانية (1) للمرابحة للآمر بالشراء :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا بعشرة دراهم نقداً وأنا اشتريها منك بإثني عشر درهماً الى أجل ».

وهذه المعاملة باطلة ؛ لوجود نص صحيح على بطلانها ، وهو صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام ( الإمام الباقر علیه السلام ) قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيراً بنقد ، ويزيدونه فوق ذلك نظرة ، فابتاع لهم بعيراً ومعه بعضهم ، فمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقه نظرة » (2).

ومعنى الحديث واضح ، إذ أنّ المشتري كان مأموراً ووكيلا عن جماعة ، فاشترى لهم وعندما يدفع الثمن ، فإنّه يدفع الثمن أيضاً بوكالته عنهم ، وعلى هذا يكون البعير ملكاً للجماعة بذلك النقد ، فإذا دفع الجماعة أكثر من النقد نظرةً فمعناه أنّهم دفعوا للمشتري ( الوكيل ) ثمناً على انتظاره « على قبض ما دفع » وهو الربا.

الصورة الثالثة :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي سلعةً كذا باثني عشر الى أجل ، وأنا اشتريها منك بعشرة نقداً ».

ص: 154


1- وقد تقدّمت الصورة الاُولى في ص 135.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 3 من أحكام العقود ، ح 1.

وهذه المعاملة حرام أيضاً وإن لم يوجد فيها نص بالخصوص ، لأنّ البنك كان وكيلاً عن العميل في شراء السلعة ، وحينئذ يكون المدين في الحقيقة هو العميل ، ولكنّ العميل دفع عشرةً نقداً إلى البنك في سبيل أن يدفع البنك اثني عشر مؤجلة ، وهذه العملية معناها أن البنك أخذ عشرة من العميل نقداً ورضي أن يسدّد عنه اثنى عشر بعد مدّة ، وهذه هي الزيادة في مقابل الأجل وهي ربا حرام (1).

ونستطيع أن نقول : إنّ الروايات المتقدّمة شاملة للصورة الثانية والثالثة ، إذ أنّ قول العميل للبنك : اشترِ لي هذه السلعة ، بمعنى اشترِ لأجلي هذه السلعة ثم بعها لي بكذا وكذا ، وحينئذ لا يكون أي فرق بين الصورة الاُولى والثانية والثالثة في الروح وإن كان هناك فرق في اُمور اُخر لا تضرّ بالحكم.

الصورة الرابعة :

كما إذا قال العميل للبنك : « اشترِ لي هذه السلعة بكذا وكذا درهم ، وأنا اُقدم لك أجرأ على عملك كذا نقداً » - نتيجة قدرات البنك على جلب السلعة من خارج البلاد - ففي هذه الصورة يكون البنك أجيراً للعميل ، ويكون الشراء للعميل ، والبنك أجيراً عنه ووكيلا ، وبهذا يستحق البنك الاُجرة التي حدّدها العميل ، سواء كانت نقداً أو نسيئة ، وهذه معاملة صحيحة لا إشكال فيها.

الخلاصة :

انتهينا الى بطلان الصورة الاُولى والثانية والثالثة إذا كان البيع الثاني على نحو الإلزام الصادر من الطرف الآخر.

أمّا إذا كان البيع الثاني من غير إلزام على العميل وعلى البنك فهو معاملة

ص: 155


1- كتاب الربا فقهياً واقتصادياً ، للمؤلف.

صحيحة ، وكذا يصحّ البيع الثاني مع الإلزام إذا كان الإلزام سببه حلفاً أو نذراً أو تعهّداً لله تعالى ، من دون أن يكون حيلةً لإلزامه من قبل صاحبه.

أمّا الصورة الرابعة فهي صحيحة ؛ لأنّ البنك أجير في إجراء المعاملة ويأخذ على عمله أجراً ، ولكن لا بأس بالتنبيه الى أنّ السلعة إذا تلفت من دون تفريط في الصورة الرابعة فهي تكون قد تلفت على المشتري الموكَّل ، لأنّ الوكيل أمين لا يضمن من دون تعدٍّ أو تفريط.

هذا ما انتهى إليه البحث ، والحمد لله أولاً وآخراً.

* * *

ص: 156

مشاكل البنوك الاسلامية وأدوات حلّها

اشارة

ص: 157

ص: 158

إنّ البنوك الإسلامية التي تعمل في نطاق بعض الدول الإسلامية - وقد جذبت بعض أموال المسلمين وأدخلتها عملية الاستثمار المفيد للبلد ولصاحب المال والعامل - لا زالت بطيئة السير في اتجاهها الهادف للوصول إلى سوق إسلامية لها أدواتها الشرعية التي تخدم جميع الاطراف المشاركة في العمل والاستثمار ، كما تخدم المجتمع الذي يعيش في ظلها ، فأدواتها الشرعية قليلة ، والربح الذي يحصل عليه من يرتبط بهذه البنوك غير مغر وغير مضمون لأصحاب الأموال ، بخلاف البنوك الربوية التي يكون ربحها مضموناً بالاضافة الى إغرائها صاحب المال ، لذا نجد - كما قالوا - أنّ الاستثمارات العربية الخليجية في الغرب والبنوك الربوية تقدّر بأكثر من سبعمئة مليار دولار ، وهو رقم ضخم إذا قيس بالأموال الاستثمارية في البنوك الإسلامية ، وما ذاك إلاّ لأنّ البنوك الإسلامية لم توفر الأدوات المشروعة الفعّالة بحيث تكوّن لها ما يسمى بسوق « البورصة » التي يدخلها رأس المال الإسلامي ليكون في خدمة الأهداف التنموية ، التي منها تحقّق التوازن في المجتمع الإسلامي.

لذا سوف نبحث في هذا النطاق ، مبينين بعض الأدوات التي يمكن للبنك أن يستخدمها في أعماله الاستثمارية ، مستندين الى نصوص الشريعة الإسلامية ، كما سننبه الى بعض ما اُقرّ في مجمع الفقه الإسلامي وضرورة إعادة النظر فيه ، لوجود الرُخَص التي تبرِّر لنا أن نتبعها أو يتبعها البنك الإسلامي للوصول الى

ص: 159

هدفه المنشود.

وبصورة مجملة فان النظام الإسلامي قد جعل كلاًّ من العمل ، وأدوات الإنتاج ، ورأس المال النقدي ، والأرض ؛ موارد للكسب ولتنمية الثروة ، ولكن لكلّ واحد من هذه الاُمور الأربعة شرطه الخاص في دخوله عملية الاستثمار الشرعية ، فقد جعل العمل حينما يمارس على مادّة غير مملوكة بصورة مسبقة لشخص آخر سبباً في تملّك العامل كل الثروة التي حصل عليها ، ولا تشترك معه في هذه الثروة العناصر الماديّة التي استعملها في عمله ، وهي ملك لغيره ، حيث أن العناصر المادّية هي قوى تخدم الإنسان المنتج ، فقد جُعِلَ لها الاُجرة فقط ، وجعل العمل حينما يمارس على مادّة مملوكة لفرد آخر سبباً في استحقاق الاُجرة أو نسبة من الربح ، وطبعاً تختلف الاُجرة عن النسبة من الربح ، حيث تكون الأجرة محدّدة نوعاً وكمّاً فهي مضمونة بقطع النظر عن نتائج العمل المربحة أو غيرها.

أمّا النسبة من الربح فهي عبارة عن ربط العامل بنتيجة العملية التي يمارسها ، وبهذا يفقد عنصر الضمان على هذه النسبة من الربح حيث لا تكون العملية مربحة ، كما أنّه قد يحصل على نسبة من الربح تفوق الأجر المحدّد بكثير.

وأمّا ادوات الانتاج فهي التي تستعمل خلال عملية الانتاج ، وبواسطتها يستحق صاحبها الأجر فقط.

وأمّا رأس المال التجاري ( النقدي ) الذي منع من ضمانه مع تقاضي الأجر عليه بحيث لا يرتبط بنتائج العملية الاستثمارية ، يتمكن أن يدخل العملية الاستثمارية بنسبة من الربح ويتحمّل الخسارة إن وجدت كما في عقد المضاربة. كما أن صاحب السلع يتمكّن من أن يدخل العملية التجارية بسلعه هذه فيحصل على نسبة من الربح إن وجدت ويتحمّل الخسارة.

أمّا العامل في هذه العملية فهو يتحمّل خسارة عمله إن وجدت. كما أن عقد المزارعة أو المساقاة يمكن إدراجه في السلع التي تدخل عملية المضاربة ولكن إذا

ص: 160

كانت السلعة هي الأرض أو الأرض والبذر - على قول والعمل من الآخر فهي المزارعة ، وإن كانت السلع عبارة عن الاشجار والنخل والعمل من الآخر فهي المساقاة.

أمّا الأرض لوحدها فتتمكن أن تدخل عملية الكسب على أساس الاُجور إذا كانت محياةً وقلنا إنّ المزارعة هي عبارة عن تقديم الأرض مع البذر أو الآلات.

وهناك المشاركة في المال من الجانبين وكذا العمل منهما فتحصل الشركة في الربح بنسبة المال والعمل ، والخسارة أيضاً بنفس النسبة.

ونحن هنا إذ ننتظر من البنوك الإسلامية أن لا تحدد سيرها الاستثماري على النقد وتداوله ، بل ننتظر منها ومن الشركات الإسلامية أن تدخل مجال الاستثمارات بكافة جوانبها ، وتفتح لها شُعباً خاصة تتولّى عمليات الاستثمار الذي يكون بواسطة العمل أو استخدام ادوات الانتاج أو النقد ، أو الأرض ، وحتى المشاركة مع الآخرين بقسط من الثمن والعمل ؛ حتى تكون بعض أعمالها المربحة معينةً لها ، إذا حصل كساد أو خسارة في جانب آخر وأن تصل الى هدفها من خدمة المجتمع الإسلامي بأعمالها الاستثمارية التي يحتاجها المجتمع.

ولهذا فسوف نبحث الأدوات التي يمكن للبنك الإسلامي أو للشركة التابعة له أو المستقلة أن تسلكها فتستثمر المال الفائض لدى الأفراد أو الأدوات أو العمل أو الأرض فتنتفع وتنفع أصحاب المال وتفيد المجتمع الإسلامي الذي يكون بحاجة الى تطوره ورفاهه وأنْ تقطع أيادي المستثمرين والمرابين الذين يضرّون المجتمع الإسلامي على حساب نفعهم الربوي اللاشرعي.

1 - المضاربة الشرعية

اشارة

وهي عملية إشراك المال والعمل في الانتاج ونسبة من الربح لكل منهما.

ص: 161

ولكي تكون المضاربة بدلا عن الربا يحتاج صاحب المال الى ضمان ماله من الضياع والخسارة ، فهل هناك طريق لضمان المال لصاحبه ؟

ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلائم مع أحكام المضاربة الشرعية :

قد يحتاج أصحاب الودائع التي توضع في البنوك الإسلامية على أساس المضاربة الشرعية الى عنصر الاطمئنان على أموالهم من الضياع ، ليكون عاملا مشجِّعاً للركون إلى المضاربة وترك الربا الذي يكون رأس المال فيه مضموناً لدى البنوك الربوية ، فهل هناك طريقة لاطمئنانهم على أموالهم في حالة الخسارة ؟

الجواب : أنّ عملية المضاربة في البنوك الإسلامية تكون على أقسام :

القسم الأول : أن يكون المضارَب هو نفس البنك.

القسم الثاني : أن يكون المضارَب هو جماعة من التجار يكون البنك وسيطاً بينهم وبين أصحاب الأموال.

القسم الثالث : أن يكون المضارَب هو جماعة من التجار بما فيهم البنك.

ففي القسم الأول يكون مقتضى القاعدة الأولية جواز جعل المال على عهدة البنك بعقد مستقل ، أو بشرط في ضمن عقد بنحو ( شرط النتيجة ) (1)قد يقال: إنّ هذا الاستدلال غير صحيح، لأن حديث المسلمون عند شروطهم مقيد بجملة «إلا شرطاً خالف كتاب اللّه، أو إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» وعلى هذا فالشرط الذي هو عبارة عن تحصيل الغاية كالهبة والملكية من دون إنشاء أو أن الغاية إذا كانت عبارة عن الملكية بدون عوض ولا مجاناً وانما بالشرط فهل يكون هذا مخالفاً للكتاب والسنة أم لا؟ وعلى هذا فلا يمكن التمسك ب- «المسلمون عند شروطهم»، لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصص. وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس سره عن هذا الاشكال وخلاصته امكان اخراج المشكوك عن عنوان المخصص بواسطة الاصل العملي، وتقريب ذلك: أنّ الهبة والملكية بدون انشاء - مثلاً - كان غير مخالف للكتاب والسنة ولو قبل الكتاب والسنة ، والآن لا نعلم أنّه مخالف للكتاب والسنة ام لا ، فنستصحب عدم المخالفة ، فالشرط في ضمن العقد « وهو أن يكون هذا ملكي بدون انشاء في عقد ما مثلاً » وجداني ، وكونه غير مخالف بالأصل ، فالموضوع محرز.

وقد أشكل جماعة على الشيخ الأنصاري : بأن الاستصحاب غير صحيح؛ وذلك لأن الحالة السابقة هي سالبة بانتفاء الموضوع، بمعنى أن الشرط حينما كان غير مخالف للكتاب والسنة لم يكن الشرط موجوداً، ولكن موضوع وجوب الوفاء هو سالبة بانتفاء المحمول (السالبة المحصلة) بمعنى وجود الشرط وعدم مخالفته للكتاب والسنة، وهذه السالبة المحصلة ليست لها حالة سابقة، وحينئذ إذا أردنا استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لاثبات السالبة بانتفاء المحمول يكون أصلاً مثبتاً.

وقد ردّ الشيخ النائيني قدس سره هذا الاشكال بما لا يسع المقام لذكره في مثل هذه الإبحاث، فنكتفي بهذا.(2) او شرط

ص: 162


1- (1) المراد من شرط النتيجة هنا الذي يحكم بصحته هو تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص - كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة - مثل الوصية والوكالة ، كما إذا زوجت المرأة نفسها للزوج بشرط أن تكون وكيلة ومأذونة في طلاق نفسها مطلقاً أو في موارد خاصة كحبس الزوج مدّة معينة ، فالمشروط هنا هو نفس الوكالة ، وكذا إذا اشترطت أن تكون وصية الزوج بالنسبة لثلث ماله أو على اطفاله وكذا إذا اشترط شخص في هبته سقوط الخيار في النكاح ، فهذه الشروط التي هي « شروط نتيجة » هي شروط صحيحة ووردت فيها نصوص شرعية : 1- رواية الحلبي في الباب 6 من الخيار حديث 4، ج 12 من الوسائل ص 353. ورواية موسى بن بكر الباب 30 من أبواب احكام الاجارة : ج 13، ص 277 من الوسائل، ح 5. 2 - رواية معاوية بن ميسرة باب 8 من الخيار حديث 3، ج 12 من الوسائل: ص 355، ورواية يعقوب بن شعيب باب 29 من أحكام الاجارة حديث 15، ج 13، ص 275. 3 - صحيحة سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سألته عن رجل كان له أب مملوك وكانت لابيه امرأة مكاتبة قد أدت بعض ما عليها فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك، قال: لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم». وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 11 من المكابتة ، ح 1. ولكن هذه الأدلّة قد يقال: إنها مختصة بهذه الامثلة التي جاء الدليل الخاص على عدم احتياجها الى سبب خاص، وحينئذ تبقى عندنا غايات نشك في اعتبار سبب خاص لها شرعاً، فهل تصح إذا اشترطت على نحو شرط النتيجة؟ الجواب: قد يستدل لصحة شرط النتيجة بالمعتبرة «المسلمون عند شروطهم» لأنها تشمل الشرط إذا كان فعلاً أو كان الفعل مترتباً على الشرط، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة المعينة هبة لي. فالمسلمون عند شروطهم يقول: ادفع الثلاجة الى فلان، وهو معنى صحة شرط النتيجة
2- ، وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وإنشاؤه بغير الشرط صحيحاً، وبالشرط لازماً. كما قد يستدل على صحة شرط النتيجة ب- «أوفوا بالعقود» لأن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام بأصل المعاملة والالتزام بالأمر الوضعي، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد فاوفوا بالعقود يقول: في بالعقد والشرط، فيكون الشرط صحيحاً. (*)

ص: 163

الفعل ، لما دلّ على نفوذ الشرط والوفاء بالعقد.

ولكن دلّ الدليل في عقد المضاربة بالخصوص على أنَّ الضمان إذا فرض على عامل المضاربة ( البنك أو الشركة ) فهو يستوجب حرمان المالك من الربح ، وتتحوّل العملية من مضاربة الى عقد قرض من صاحب المال إلى البنك أو الشركة ، والدليل هو الروايات ، ففي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : من اتجر مالاً واشترط نصف الربح فليس عليه الضمان ... ، وقال : مَنْ ضمن تاجراً فليس له إلاّ رأس ماله وليس له من الربح شيء » (1).

ومن هذه الرواية نفهم أن ضمان المال عرفاً لا يجتمع مع استحقاق المالك لشيء من الربح شرعاً ، فالضمان يكون سبباً شرعياً لعدم استحقاق المالك لشيء من الربح ، واستحقاق المالك للربح يكون سبباً لعدم الضمان على العامل في صورة الخسارة ، وهذا معناه التنافي بين الأمرين شرعاً بالنظر العرفي.

ولكن لأجل اعطاء الضمان لأصحاب الأموال كأمر ضروري لسحب الأموال من البنوك الربوية إلى الإسلامية يتمكن البنك أنْ يطلب من بنك آخر

ص: 164


1- وسائل الشيعة: ج13 ، ب3 من المضاربة ، ح2 و ب4 من المضاربة ح1 و ح2.

ضمان أموال التجار الذين يتعاملون معه في صورة الخسارة ، لقاء ضمانه هو عمليات المضاربة التي يقوم بها البنك الآخر المساويه لعمليات مضاربته ، وهذا البنك الثاني ليس طرفاً في عملية المضاربة ، وممّا لا اشكال فيه أنَّ غير الطرفين في عقد المضاربة يصح له أن يضمن خسارة أصحاب المال بعقد مستقل أو بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل في عقد آخر. وهناك طريقة أيسر من هذه وهي اشتراط تعويض البنك من أمواله الخاصة ما يعادل مقدار الخسارة ، وهو أمر آخر غير تضمين العامل ، وقد أفتى الإمام الخوئي بجواز ذلك (1).

وبهذا التكييف أيضاً يصح ضمان أموال المستثمرين في القسم الثالث الذي يكون البنك واحداً منهم.

أمّا القسم الثاني - الذي يكون البنك فيه وسيطاً بين التجار وأصحاب الأموال - فقد اتّضح امكان أن يقوم الطرف الثالث ( البنك أو الشركة الاستثمارية ) في ضمان أموال المودعين بعقد مستقل أو بنحو شرط النتيجة أو الفعل ، ولا دليل على بطلان ذلك ، لأنّ ما لا يجوز : عبارة عن ضمان العامل رأس المال ، وما هو ضامن هنا ليس هو العامل ، بل هو طرف وسيط بين المودعين والعمال المستثمرين وهو البنك.

وفي هذا القسم الثاني - الذي يكون البنك فيه وسيطاً - يتوجّه اشكال حاصله :

إذا قبلنا أنَّ البنك هو طرف اجنبي عن المضاربة حتى يتمكن أن يضمن مال المستثمرين ، فبماذا نكيّف النسبة التي يأخذها البنك من المضاربة مع أنّه ليس مضارباً مع المستثمرين ؟

الجواب : قد يقال : إنّ النسبة من الربح التي يأخذها البنك كوسيط هي اُجرة

ص: 165


1- راجع منهاج الصالحين : ج 2 ، 125 ، مسألة (568).

من قبل المودعين على عمله الذي هو عبارة عن إنجاز المضاربة والإشراف عليها ، ولكن يقف في وجه هذا التكييف أمران :

الأمر الأول : أنّ هذه الاُجرة مجهولة من حيث القدر ، وقد لا تحصل في وقت ما ، وقد اشترط الفقهاء في الاُجرة أن تكون معلومة.

الثاني : أنّ الاُجرة يملكها الأجير بنفس عقد الاجارة ، أمّا في المقام فالنسبة المئويّة من الربح المفترض هو شيء سوف يملكه في المستقبل ، وهو يتنافى مع الاُجرة.

والصحيح ما ذكره الشهيد الصدر قدس سره بأنّ هذه النسبة يمكن أن تكون جعالة ، يجعلها المستثمر للبنك إذا أنجز المعاملة وواصل الإشراف عليها الى حين انتهائها ، وهذه الجعالة وإن كانت مجهولةً فهي لا تضرّ بالجعالة ، والجُعْل المقرر في باب الجعالة لا يكون مملوكاً حين إنشاء الجعالة ، بل بعد إنجاز العمل المفروض ، وقد افترضنا في الجعالة أنّ البنك يملك النسبة من الربح إذا انجز المعاملة وأشرف عليها الى نهايتها (1).

وقد وردت روايات تصحح أن يكون الجعل جزءاً من الثمن على تقدير زيادة الثمن على حدٍّ معين ، وهذه الزيادة مجهولة ، وهي غير مملوكة حين الجعل ، وإنّما تكون مملوكة في ظرف انجاز المعاملة ، فمن هذه الروايات :

1 - عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال في رجل قال لرجل : « بع ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك قال علیه السلام : ليس به بأس » (2).

2 - عن زرارة قال : قلت للإمام الصادق علیه السلام : « ما تقول في رجل يعطي المتاع فيقول : ما ازددت على كذا وكذا فهو لك ؟ قال علیه السلام : لا بأس » (3).

ص: 166


1- البنك اللاربوي في الإسلام : ص 206.
2- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 10 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.
3- المصدر السابق : ح 2.

وهاتان الروايتان تجوّزان الحصّة التي يجعلها المستثمر للبنك « وإن كانت مجهولة وغير مملوكة حين الجعل » بشرط انجاز عملية المضاربة والاشراف عليها الى نهايتها.

وقد ذكر الفقهاء تخريجين آخرين :

أحدهما : إمكان أن تكون هذه النسبة من قبل المستثمر للبنك على أساس ( شرط النتيجة ) في عقد ما ، بأن يشترط البنك على المودِع والعامل أن يكونا مالكَيْن لحصة معينة من الربح على تقدير ظهوره.

وقد يستشكل على هذا التكييف بإشكالين :

الأول : أنّ هذا تمليك للبنك معلّق على ظهور الربح.

الثاني : أنّ المودِع والعامل المملِّكين غير مالكين بالفعل للربح ، فكيف ينفذ تمليكهما لغيرهما ؟

ولكن يجاب عن الإشكال الأول بعدم المانع من تمليك البنك حصّةً من الربح على تقدير ظهوره ودخوله في ملك المملِّك ، فإنّ التمليك أمر اعتباري يُنشأ ويقصد.

وقد تقدّمت الروايات التي جوّزت تمليك صاحب السلعة ما زاد عن قدر معين إن باعها بأكثر.

ويجاب عن الاشكال الثاني : بأنّ المعتبر في نفوذ التمليك من فرد لآخر أن يكون مالكاً لما يملِّكه في ظرف التمليك المجعول ، لا ظرف الجعل والانشاء للملكية.

ثانيهما : يمكن أن نتصور أن البنك يشترط على أطراف عقد المضاربة أن يملِّكوه نسبةً من الربح على تقدير ظهوره ، وهذا ما يسمى بشرط الفعل ، وهو لا إشكال فيه.

هل يتمكّن المضارِب من تداول سهمه في عملية المضاربة ؟

إنّ سهم المضارب الذي يمثّل ملكيةً مشاعةً من الربح في مشروع المضاربة

ص: 167

مع أصل المال الذي تحوّل في هذه العملية الى اعيان وسلع ، أو بعض أصل المال. إذا كان المشروع فيه عدّة مستثمرين - هل يتمكن صاحب هذا السهم أن يربح من ماله الذي قدّمه الى عملية المضاربة بتداوله بالبيع والرهن والهبة والصدقة والاجارة ( إذا كان المشروع دائمياً ) والوقف وما الى ذلك من عقود صحيحة شرعية ؟

الجواب : أنّ هذا التداول على السهم المشاع جائز بشرط أن يكون البائع والمشتري والمستأجر مطَّلِعِين على معلومية رأس المال وتوزيع الربح وكمية العمل الذي حصل في المشروع والنهاية التي تحدّد له ، وكل شيء له دخل في المشروع المضارَب فيه.

وعلى هذا نتمكن أن نصدِّر سهاماً متساويةً للمضاربين المشتركين في عملية المضاربة ، وهذه السهام تحكي عن شركة كل واحد في أعيان الشركة بنسبة معينة ، ولها حصة من الربح إن ظهر. ويمكن تداول هذه السهام بالبيع والشراء والاجارة بعد أن تبدَّل السهام من نقود الى سلع خارجية ، ولا يمكن أن تعامل هذه السهام معاملة النقد ، لأنّها في حقيقتها بعد عمل الشركة قد تحوّلت الى سلع خارجية مشتركة بين المستثمرين على سبيل الإشاعة.

أمّا إذا كانت السهام عبارةً عن أوراق نقدية غير محوّلة الى أعيان فيجوز بيعها بنقد آخر نقداً أو نسيئةً ؛ لأنّنا لا نعتبر وجوب التقابض في صرف الأوراق النقدية ، لعدم الدليل على ذلك ، كما بيّنا ذلك في بحث « تعلّق الزكاة بالأوراق المالية ».

وأمّا بيعها بنفس النقد فيشترط فيه التساوي ؛ لأنّنا ننظر الى هذه العملية على أساس أنّها قرض بالنظر العرفي.

وأمّا العامل فهو - أيضاً - يتمكّن من أن يبيع حصّته من شركة المضاربة بعد أن عمل في المشروع شيئاً ما وربح فيه ، لأنَّ حصّة العامل تكون مشاعةً في الأعيان والأوراق النقدية الموجودة والديون التي على المشروع ، فحينئذ يتمكن من بيع

ص: 168

هذه الحصّة بعد معرفة المشتري ما عمله العامل وما تبقّى من العمل عليه حتى يتكفله المشتري إذا اشترى حصة العامل التي يستحقها. ولكنّ هذا الجواز مشروط بعدم كون عامل المضاربة قد اشتُرط عليه أن يكمل العمل الى نهايته بنفسه اشرة.

سحب المضارِب لما أودعه في عملية الاستثمار :

هل يتمكن المضارب من سحب ما أودعه في عملية الاستثمار أثناء العملية الاستثمارية إذا تعرّض لظروف صعبة جعلته محتاجاً إلى المال ؟

الجواب : يمكن للبنك أن يعلن من الأول عن مشروع مضاربة قد تمّ إنجازه وبدأ العمل به ، وعن استعداده لاستقبال مساهمين جدد على الاحتياط ، يتم ادخال السابق منهم في عملية المضاربة إذا أراد أحد المساهمين أن يخرج من هذه العملية بسحب ما أودعه في العملية الاستثمارية.

وبهذا يتمكن البنك من تنفيذ رغبات مودعيه في أي وقت أرادوا ، بشرط وجود المستثمر الاحتياطي ورغبته في المشاركة بعد أن تمّ المشروع وبدأ العمل به.

كما يمكن للبنك أن يتقدّم هو فيدفع من احتياطيّه السائل الى من يرغب في ردّ ما أودعه ، فيكون البنك هو المساهم الجديد بدل المساهم القديم.

كما يمكن للبنك أن يعلن أيضاً عن استعداده لردّ بعض ما استودِع في عملية الاستثمار بشرط أن يحسب الربح للمودِع على الموجود عنده في الوديعة الاستثمارية الى نهاية العمل ، وبهذا يكون ما سحبه المودِع قد اشتراه البنك ، فيكون ربحه للبنك ، وهو عمل جائز حيث يكيّف على أساس أن صاحب السهم إذا احتاج الى نصف وديعته الأوليّة فالبنك يشتري نصف سهمه الذي تحول الى سلع في العملية بنصف ما أودعه أولاً ، وبهذا سوف يستحق المستثمر نصف سهم مع نصف ربح السهم ، وهذا ما درجت عليه البنوك في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الودائع الاستثمارية.

ص: 169

هل بامكان البنك أن يضمن للمودِع نسبةً معيّنةً من الربح ؟

واجهنا فيما سبق مشكلة أن المودِع يحتاج الى من يضمن رأس ماله من الخسارة ، ولكن هنا نريد أن نوجد وجهاً لضمان نسبة معينة من الربح للمودِع حتى يطمئن على ربحه ، كما كان يطمئن عندما يضع أمواله في البنوك الربوية ، فهل هنا وجه فقهيّ لهذا الضمان ؟

الجواب : أنّ البنك بما أنّه وسيط في عملية المضاربة وله إشراف عليها يتمكن بواسطة إشرافه أن يقيّد المعاملات التي يقوم بها التجار المستثمرون بقيود بحيث يطمئن بحصول كمية معيّنة من الربح على أقل تقدير ، ولِهذا سوف يقدّم على أساس ذلك بضمان هذا المقدار المعيّن الى أصحاب الدوائع.

وتوضيح ذلك : أنّ البنك يتمكن - بما أنّه واسطة - أن يجعل تعامل التجار مع الدولة أو بعض الشركات العامّة بصورة بيع مرابحة ، ولهذا فسوف يكون الربح محدّداً من الأول وبصورة واضحة ، بمعنى أنّه يبحث عن مُشترين لما يقوم به من عمليات تجارية ويتواعد معهم وعداً ملزماً بالشراء من التجار بصورة بيع المرابحة ، ولا يكون هذا من قبيل بيع ما لا يملك ، بل هو الزام للطرف الآخر بالشراء من أشخاص معينين مرابحة ، فهو تكليف شرعي بالشراء من الملاّك الحقيقيين للمال نشأ من الشرط الملِزم في عقد آخر أو من التعهد الذي قام به الطرف مع البنك.

وكذا يمكن أن تبيع الشركة أو البنك سلعها بيعاً آجلا بربح معين مضمون وتتفق مع المشترين لتلزمهم بذلك في عقد آخر أو على نحو شرط النتيجة أو الفعل.

وعلى هذا يتمكن البنك أن يقدم على ضمان ربح معين إلى المودِع ، ويسلمه إياه في أيّ وقت أراد بعد انتهاء عقد شركة المضاربة ، ثم ينظر البنك الى نتيجة عملية المضاربة ، فإن كانت قد حصلت على أقلّ نسبة من الربح فهو ، وإذا كانت النسبة الربحية أكثر من ذلك فيقوم البنك بإبلاغ المودِع بحصول ربح أكثر من الّذي ضمنه البنك وسلّمه له ، وهذا هو الذي درجت عليه بنوك الجمهورية الإسلامية في إيران بعد

ص: 170

نجاح الثورة الإسلامية وتحويل البنوك من كونها ربوية الى بنوك بعيدة عن الربا.

2 - الوساطة في الإجارة والضمان

اشارة

وإذا انتهينا الى أن البنك يتمكّن من أن يحصل على نسبة من الربح في عقد المضاربة بين المودعين والمستثمرين على أساس أنّه وسيط بينهما لإجراء المضاربة والاشراف عليها ، فهل له حقّ في أن يكون وسيطاً في عقد اجارة أو وسيطاً في عقد ضمان كمية من المال لآخر ويأخذ نسبة من المال على هذه الوساطة ؟

الجواب : أمّا بالنسبة للوساطة في الاجارة فلا إشكال في جوازها وأخذ نسبته من كميّة الايجار بعنوان الأجر على عمل إذا قام البنك في هذه الوساطة التي تستتبع عملاً للتقريب بين الملاّك والمستأجرين ، وهذا هو ما يقوم به الوسطاء والسماسرة بين المتبايعين وأصحاب الملك والمستأجرين ، ولا مانع من أن تكون هذه الاُجرة نسبةً من الكمية المعينة في متن العقد ؛ لأنّها معلومة وتملك في نفس إنشاء الإيجار.

وأمّا بالنسبة للوساطة في الضمان : فإن كان معناها قيام البنك باجراء عدّة عمليات لتوثيق الضمان الذي يقوم به فرد لآخر أو يقوم به هو لآخر وجعله من الناحية القانونية صحيحاً ونافذاً فلا بأس بأخذ الاُجرة أو الجعالة على هذه الوساطة التي استتبعت عملاً. وإن كان معنى الوساطة في الضمان هو أن يقوم البنك بضمان ما في ذمّة فرد آخر بحيث ينتقل المال من ذمّة الفرد الآخر الى ذمّة البنك أو بمعنى أن تضم ذمة البنك الى ذمة المدين أو بمعنى أن يتعهد البنك بالتسديد إلى الدائن عند تعذر تسديد الثمن إليه من قبل المدين فإن هذه العملية عبارة عن إقراض المضمون والدفع إلى المضمون له إمّا مطلقاً أو في حالة عدم الدفع ، وهذا العمل من البنك ليست له ماليةً غير مالية نفس المال المعطى إلى المضمون له أو المتعهد به ، وهذا المال المعطى أو المتعهد به هو مضمون على المضمون عنه ، فلا يتمكن الضامن

ص: 171

أن يأخذ أجراً على هذا الفعل الذي هو إنشاء الضمان ، لأنّ هذا ليس عملاً ( يمكن أن تكون في مقابله اُجرة أو جعل ) عرفاً وارتكازاً لأن العرف والارتكاز العقلائي يقول بأن الأجر أو الجعل إنّما يكون على عمل يستحقّ أجراً أو جعلا ، كالحلاقة والخياطة والتجارة ... ، أمّا هنا فإنّ هذا العمل مجرد انشاء عقد الضمان بحكم الارتكاز العقلائي ليس له أجر بحيث يصح جعل الاُجرة أو الجعالة في مقابله (1).

نعم ، هناك مالية لنفس المال المضمون ، وهذا المال المضمون يجب دفعه إلى البنك إذا قام هو بعملية الضمان ( ضمان الغرامة ) وحينئذ لا يستحق شيئاً زائداً على هذا المال الذي ضمنه ودفعه إلى المضمون له بحجة أنّه قام بعملية الضمان.

3 - المزارعة

إنّ من أدوات البنوك الإسلامية المربحة والنافعة للمجتمع الإسلامي : عقد المزارعة التي شرّعها الإسلام كأسلوب لتنظيم شركة معيّنة بين صاحب الأرض والزارع يتعهد بموجبه الزارع بزرع الأرض ويقاسم صاحب الأرض الناتج الذي يسفر عنه العمل ويحدد نصيب كل منهما بنسبة مئويّة من مجموع الناتج ، ونحن بدورنا نحث البنوك والشركات الإسلامية إلى دخول هذا المجال الاستثماري إمّا بتهيئة الأرض واحيائها ودفعها إلى الزارع بعقد المزارعة ، وإمّا باستلام الأرض المحياة ومباشرة مزارعتها بعهدة البنك الذي يستأجر من يقوم بالعملية الى نهايتها باشراف من البنك أو شعبة منه ، وندين البنوك الإسلامية التي تتوقف اعمالها على مزاولة النقد أخذاً وعطاءً وتطالب بادوات شرعية لها بحيث تحصل على الربح من دون مباشرة عمل استثماري حقيقي للمال ينتفع به العامل والمجتمع وصاحب المال ،

ص: 172


1- نعم ، إذا صاحبَ هذا الإنشاء عمل يقوم به الضامن ( كذهاب إلى البنك وحضور في مكان معين مدة من الزمن وسلوك طريق وأمثال هذه الأمور ) فيتمكن أن يأخذ أجراً على العمل المصاحب لإنشاء الضمان.

فإن الإسلام كنظام للحياة شرّع للنقد مجالا استثمارياً محدّداً وشرع للعمل مع المال مجالا آخر ، كما شرع للعمل لوحده مجاله الاستثماري ، كما شرّع لأدوات الانتاج مجالها في دخول الاستثمار ، فكيف نطالب الإسلام كمنظم للحياة البشرية بايجاد أدوات ربحية تنتج من مزاولة النقد فقط ، وننسى جوانب الإسلام التي شرعها لتنظيم حياة المجتمع والفرد ؟!

نعود إلى شركة المزارعة ، فقد قال الشيخ الطوسي قدس سره في كتاب الخلاف : « لا يجوز أن يعطي - صاحب الأرض - الأرض غيره ببعض ما يخرج منها ، بأن يكون منه الأرض والبذر ومن المتقبّل ( العامل ) القيام بها بالزراعة والسقي ومراعاتها » (1).

وقال ابن قدامة يقول : « ظاهر المذهب أن المزارعة إنّما تقع إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل ، نصّ عليه أحمد في رواية جماعة ، واختاره عامّة الأصحاب ، وهو مذهب ابن سيرين والشافعي واسحاق » (2).

ومن هذين النصين لفقيهين من فقهاء الإسلام يفهم أنَّ من غير المشروع إنجاز عقد المزارعة بمجرّد تقديم صاحب الأرض لأرضه وتكليف العامل بالعمل والبذر معاً ، لأنّ مساهمة صاحب الأرض بالبذر اُخذت شرطاً أساسياً لتحقّق المزارعة في النص السابق.

ولم تعدم النصوص من من تأييد هذين النصين ، فقد ورد في صحيحة الحسن

ص: 173


1- الخلاف : ج 1 ، ص 705 ، وهناك قول آخر في المزارعة ، يجوّزها أيضاً في صورة كون الأرض فقط من أحدهما والعمل والبذر والعوامل من الآخر كما هو مروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله حينماعامل أهل خيبر ( الزرع والنخل ) فلم ينقل في النصوص أن النبي صلی اللّه علیه و آله قدم لهم بذراً ، وكذا تظهر هذه الصورة من النصوص التي سنذكرها فيما بعد ، راجع الوسائل : ج 13 ، ب 8 من المزارعة والمساقاة ، الأحاديث ، وأكثرها صحيحة السند.
2- المغني : ج 5 ، ص 348.

بن محبوب عن ابراهيم الكرخي قال : « قلت للصادق علیه السلام : اُشارك العلج ( المشرك ) فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام والسقي ( السعي ) والعمل في الزرع حتى يصير حنطة أو شعيراً ، وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقّه ويبقى ما بقي على أنّ للعلج منه الثلث ولي الباقي ، قال : لا بأس بذلك ، قلت : فلي عليه أن يردّ عليّ ممّا أخرجت الأرض البذر ويقسّم ما بقي؟ قال : إنّما شاركته على أنّ البذر من عندك وعليه السقي والقيام » (1).

وبعد أن عرفنا مشروعية المزارعة وشرطها الأساسي نأتي إلى البحث عن عملية إمكان أن يُزارع المزارع غيره بحصّة أعلى من الحصة التي كانت عليه لمالك الأرض ، فهل بالإمكان ذلك ؟

نقول : نعم ، لقد وردت النصوص الشرعية في جواز هذه العملية ، منها : رواية الحلبي قال : « قلت للصادق علیه السلام أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع ، فأقبلها بالنصف ؟ قال علیه السلام : لا بأس. قلت : فاتقبلها بألف درهم ، واقبلها بالفين ؟ قال : لا يجوز. قلت : لِمَ. قال : لأنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » (2).

وهذا النصّ يبيّن أنّ العامل في المزارعة يجوز له أن يعطي الأرض لعامل آخر يباشر زراعتها على أن يدفع له أقل من النسبة التي يستحقّها بمزارعته مع مالك الأرض ، وحينئذ يحتفظ العامل الأول بالفرق بين النسبتين بخلاف الاجارة ، فإنّ هذا العمل لا يجوز إلاّ أن يعمل عملاً في العين المستأجرة وإن كان أرضاً بحيث تكون الزيادة في مقابل عمله.

وهذا الفرق بين العمليتين قد علّله النص بقوله : « إنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » بمعنى أن الاُجرة في عقد الإجارة مضمونة لصاحب الأرض ، فإن أراد المستأجر أن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها فقد ضمنت له الأجرة أيضاً بنفس العقد

ص: 174


1- وسائل الشعية : ج 13 ، ب 10 من المزارعة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 21 من الاجارة ، ح 1.

وحصل على الفارق بين الاُجرتين بنفس العقدين من دون عمل يبرر هذه الزيادة في الشريعة الإسلامية ، وهي لا تقرّ كسباً مضموناً بدون عمل.

أمّا في المزارعة فإنّ العامل ومالك الأرض لا يملك الحصّة بنفس العقد ، فإذا أراد العامل أن يزارع الأرض لعامل آخر فهو أيضاً لا يملك الحصة التي اتّفق عليها مع المزارع الثاني ، وما دام لا يملك حصته حين العقد فلا ضرورة في وجود عمل يسبق العقد الثاني.

وعلى هذا الذي تقدم يتمكن البنك الإسلامي أن يقدّم أرضاً محياة مع بذر الى عدّة عمال بحصة من الحاصل ، وكذا يتمكن أن يدخل في عملية المزارعة على أن يكون العمل منه ، فيتكفل به ويشرف عليه ويرعاه ويحصل على النسبة ويستأجر عمالاً للقيام بالعمل ، فإنّ في هذا العمل نفعاً عاماً حيث يستفيد العامل بحصوله على الاجرة ويستفيد المجتمع من الزرع الذي إذا كثر حصل الرخاء للجميع كما يستفيد صاحب الأرض الذي قدّم البذر. كما يمكن للبنك أن يكون هو مع مجموعة من العمال هم طرف في المزارعة لتكون الحصة لهم يقسمونها حسب رأيهم ، وبهذا يتخلّص البنك من احتمال خسارته نقداً بالاضافة الى عمله ( اشرافه على عملية المزارعة ورعايته لها وتوجيهها ) بواسطة وكلائه أو عماله.

4 - المساقاة

وهو عقد يشبه المزارعة إذ هو اتفاق بين طرفين أحدهما يكون منه البستان وما يحتاج اليه ممّا يرجع الى تحسين الثمر كالتسميد ، ويكون من الآخر ممارسة العمل الذي يؤتي بالثمار بنسبة معلومة فيها. وقد دلّ على هذا العقد جملة من النصوص منها صحيحة الحلبي قال : « اخبرني الإمام الصادق علیه السلام أنَّ أباه علیه السلام حدثه أنَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعطى خيبر بالنصف أرضها ونخلها » وغيرها من

ص: 175

الروايات الصحيحة.

وهذه أداة من أدوات البنك الإسلامي والشركات الإسلامية التي تريد الابتعاد عن الربا والاهتمام بالاستثمار الشرعي للمال الذي يخدم الأمة الإسلامية ، فهي عملية اشتراك العمل المباشر من العامل مع العمل المخزون على شكل بستان فيه شجر ونخل للوصول الى ربح مشروع ينتفع به كل من العامل وصاحب العمل المختزن والمجتمع الإسلامي الذي ينشد الرفاه في ظل النظام الإسلامي ، وهنا البنك أو الشركة تتمكن أن تكون هي صاحبة البستان فتساقي العمال على حصة من الحاصل ، كما تتمكن أن تهيء العمال اللذين يكون البنك مشرفاً عليهم ومرشداً لهم وعاملا معهم على أن يكون البستان من غيرهم.

ونحن إذ نشجع البنوك على دخول هذه الاستثمارات التي تنفع المجتمع وتحرك عجلة الاقتصاد في نفع العمال وتوفير ما يلزم من رفاه للجميع ، ندين الوقوف على عمليات شرعية صورية لا يكون الطرفان لهما قصد حقيقي لما يجري على الورق من بيع أو شراء أو مشاركة أو مبادلة ، بل القصد الحقيقي لهم هو أخذ مال ( ورق نقدي ) ودفع أكثر منه ، فإنَّ في هذه العمليات الصورية - كما يجري في بيع المرابحة لدى البنك - يكشف الوجه الحقيقي لأصحاب البنوك من الحصول على ربح لعملائهم من دون نظر الى حصول الرفاه للمجتمع الذي هو بحاجة الى اشراك العمل في توفير ما يحتاجه المجتمع ليسد حاجة الأمة وتعتمد الأمة على نفسها في ذلك بدلا من الاعتماد على الاستيراد في أكثر ما يحتاج إليه من الفواكه والخضر والحبوبات.

5 - إعادة التأجير لمالك العين المستأجرة أو لغيره وإجارة خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها

ممّا لا اشكال فيه بين الفقهاء جواز أن يستأجر أحدٌ أحد أدوات الانتاج أو

ص: 176

الاعيان التي فيها نفع للمستأجر من غيره ، يستخدمها فيما فيه نفع له ، وقد جوّز أكثر الفقهاء استئجار الأرض بأجرة معيّنة من صاحبها الذي يملكها أو له حقّ فيها ، خلافاً لبعض الصحابة ومن تبعهم الذين انكروا جواز اجارة الأرض.

كما يجوز أن نستأجر عاملا للبناء أو للخياطة أو للبيع ... فإذا أنجز الأجير مهمته وجب على من استأجره دفع الأجرة المحددة له ، وهذا واضح.

ولكن إذا ملك المستأجر منفعة الآلة أو منفعة الأرض أو الدار أو منفعة عمل العامل ، فهل يتمكن أن يؤجر هذه المنفعة للمالك أو غيره ؟

الجواب : إنَّ ايجار الآلة أو الدار أو الأرض أو العمل يتصور على انحاء :

1 - الايجار بنفس الأجرة السابقة.

2 - الايجار بأنقص من الأجرة السابقة.

3 - الايجار بأزيد من الأجرة السابقة مع عمل للمستأجر الأول في الآلة ( كإصلاحها ) أو الدار ( كترميمها ) أو الأرض بحرثها أو تسميدها ، أو عمل المستأجر الأول في الثوب بتفصيله مثلاً.

4 - الايجار بأزيد من الأجرة السابقة بدون أي عمل في العين المستأجرة.

وقد ذهب جمع من كبار الفقهاء الى منع الصورة الرابعة فقط وتجويز الصور الاُخرى ، لأنَّ الصورة الرابعة لا تبرر حصول المستأجر الأول على الزيادة التي حصل عليها من الفرق بين الاجارتين ، وقد ثبت في الشريعة الإسلامية أنَّ الكسب المضمون لا يقوم إلاّ على أساس انفاق عمل خلال المشروع سواءٌ كان عملاً مباشراً أو مخزوناً كالآلة التي هي عبارة عن عمل مخزون يتفتت خلال الاستعمال ، وكالدار والأرض اللّتان هما أيضاً عمل مختزن لعمل سابق من احياء الأرض أو بناء الدار. والغاء الكسب المضمون الذي لا يقوم على أساس انفاق عمل في المشروع.

أمّا الصورة الاُولى والثانية فليس فيها كسبٌ حتى يبرر ويحتاج الى عمل في مقابله ، وقد ذهب الى هذا قول - كما قلنا - جماعة من الفقهاء كالسيد المرتضى

ص: 177

والحلبي والصدوق وابن البرّاج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي (1).

والأساس في هذه القاعدة تمدّه نصوص شرعية : منها :

1 - صحيحة سليمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « إني لاكره أن استأجر الرحى وحدها ثم اُواجرها بأكثر ممّا استأجرتها إلاّ أن اُحدث فيها حدثاً أو اُغرم فيها غرماً » (2) وقد روي موثّقاً عن أبي بصير.

2 - حديث الحلبي قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام أتقبل الأرض بالثلث أو الربع ، فأقبلها بالنصف قال : لا بأس. قلت : فأتقبلها بألف درهم وأقبلها بألفين ؟ قال : لا يجوز. قلت : لِمَ ؟ قال : لأنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون » (3).

فهذا النصّ فرّق بين صورتي المزارعة والاجارة ، ففي المزارعة تكون الحصة غير مضمونة عند عقد المزارعة للمالك.

أمّا في الاجارة ، فعندما يستأجر الأرض فالعامل يضمن القيمة للمالك ، والمستأجر الثاني يضمن القيمة للمستأجر الأول في نفس عقد الاجارة ، وهذا الفرق المضمون لابدّ أن يسبقه عمل يبرره.

أمّا المزارع الثاني إذا كان يعطي نسبة أكبر من نسبة المزارع الأول لصاحب الأرض ، فهو فرق غير مضمون بنفس عقد المزارعة ، فلا يجب أن يسبقه عمل من المزارع الأول للثاني يبرر هذا الكسب غير المضمون.

3 - موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام إنَّه قال : « إذا تقبّلتَ أرضاً بذهب أو فضة فلا تقبلها بأكثر من ذلك ، وإن تقبلتها بالنصف والثلث ، فلك أن تقبلها بأكثر ممّا تقبلتها به ، لأنّ الذهب والفضة مضمونان » (4).

ص: 178


1- المبسوط للطوسي : ج 3 ، ص 226.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 20 من احكام الاجارة ، ح 1 ، وب 22 من احكام الاجارة ، ح 5.
3- المصدر السابق : ج 13 ، ب 21 من أحكام الاجارة ، ح 1.
4- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 21 من احكام الاجارة ، ح 2.

ومثلها موثّقة أبي بصير عن الإمام الصادق علیه السلام (1).

4 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به ؟ قال علیه السلام : لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (2).

5 - حسنة اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه ( الإمام الباقر علیه السلام ) « كان يقول : لا بأس أن يستأر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً » (3).

6 - موثّقة سماعة قال : « سألته ( أي الإمام علیه السلام لأنَّ سماعة لا يسأل من غير الإمام علیه السلام لجلالة قدره وعلوّ منزلته ) عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقل أو أكثر ، فأراد أن يدخل معه ، مَنْ يرعى معه قبل أن يدخله منهم الثمن ؟ قال : فليدخل من شاء ببعض ما اعطى ، وإن أدخل معه بتسعة واربعين وكانت غنمه بدرهم فلا بأس وإن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك بعد أن يبيّن لهم فلا بأس ، وليس له أن يبيعه بخمسين درهماً ويرعى معهم ، ولا بأكثر من خمسين درهماً ولا يرعى معهم ، إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى عملاً ، حفر بئراً أو شقَّ نهراً ، تعنّى فيه برضا أصحاب المرعى ، فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه لأنّه قد عمل فيه عملاً ، فبذلك يصلح له » (4).

والظاهر أنَّ المراد بالشراء والبيع هنا الاجارة كما فهمه الكليني رحمه اللّه بقرينة

ص: 179


1- المصدر السابق : ب 21 من احكام الاجارة ، ح 6.
2- المصدر السابق : ب 22 ، ح 4.
3- المصدر السابق : ح 2.
4- وسائل الشيعة : ب 22 ، ح 6.

قوله « إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى ... برضا أصحاب المرعى » ، وهذا يدل على أنَّ للمرعى أصحابه ، فيكون المقصود من البيع هو بيع المنفعة.

وهذا الموقف الذي رأيناه عند علماء الإمامية تبعاً للنصوص الشرعية ، قد أخذ به الاحناف أيضاً فقد نقل الجزيري عن الفقهاء الاحناف أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين كجنيه في الشهر فلا يحلّ له أن يؤجرها لغيره بزيادة (1) وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه عن الشعبي في رجل استأجر بيتاً وآجره بأكثر ممّا استأجره به انه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل. وعلَّق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن انه إنّما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً نحو فتح الباب وإخراج المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف ... وكان إبراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً فإنّ زاد فيه شيئاً طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم (2).

7 - صحيحة محمد بن مسلم عن ( الإمام الباقر أو الصادق علیهماالسلام ) انه : « سأل عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل به ، ويدفعه الى آخر فيربح فيه ؟ قال علیه السلام : لا ، إلاّ أن يكون قد عمل شيئاً » (3).

8 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام ( الباقر أو الصادق علیهماالسلام ) قال : « سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ؟ قال الإمام علیه السلام : لا بأس قد عمل فيه » (4).

9 - وفي حديث على الصائغ قال قلت للإمام الصادق علیه السلام : « أتقبل العمل ثم اقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين ؟ فأجاب الإمام علیه السلام : إنَّ ذلك لا يصلح إلاّ

ص: 180


1- الفقه على المذاهب الأربعة : ج 3 ، ص 117.
2- المبسوط ، للسرخسي : ج 15 ، ص 78.
3- وسائل الشيعة 13 : ب 23 من الاجارة ح 1.
4- المصدر السابق : ب 23 من الاجارة ، ح 5.

بأن تعالج معهم فيه ، قال : قلت فإنّي اُذيبه لهم فقال : وذلك عمل فلا بأس » (1).

ومن هذه الروايات المتقدّمة ، فإن النتيجة التي نستفيدها هنا هي : يجوز للبنك الإسلامي أو للشركة أو لأي فرد أن يستأجر أرضاً أو أداةً أو معملا أو خدمات اشخاص ، ويؤجرها بأكثر مما استأجرها بشرط أن يعمل عملاً في الأرض أو الأداة أو المعمل ، أو يعمل عملاً مع عمل الآخرين ، وحينئذ يكون الكسب في مقابل ما عمله من عمل.

وبهذا ينفتح الباب أمام الاستثمار فتؤجّر الطائرات والقطارات والسفن وما الى ذلك ويعمل فيها عملاً يجوّز للمستأجرين تأجيرها بأكثر من الاجارة الاُولى ويكون الفرق بين الاجارتين في مقابل العمل الذي بذل فيها. ولا يُفرق بين هذا وبين تأجير خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها ، فإنه لا يجوز بزيادة إذا لم يكن معهم عمل اضافي يبرّر أخذ الربح ، وعلى هذا فيمكن أن تستأجر الشركة خدمات اشخاص ثم تؤجرها لشركة اُخرى بزيادة على الأجر الأول بشرط أن تعمل الشركة معهم بواسطة اعضائها ووكلائها ، فيكون الربح في مقابل هذه الخدمة من قبل الشركة.

6 - شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها

اشارة

لقد استشكل بعض علماء المسلمين في صورة شراء عين نسيئة بشرط بيعها نقداً بأقل من الثمن الأولي للبائع بعد ذلك ، أو بيع عين نقداً بشرط شرائها نسيئة للبائع بأكثر ممّا باعها عليه ، وكذا استشكلوا في صورة ما إذا كان من نيّتهما ذلك وان لم يذكروا ذلك كشرط في متن العقد ، إذ يكون شرطاً ارتكازياً. وهذا الاشكال قد

ص: 181


1- المصدر السابق : ب 23 من الاجارة ، ح 7.

يكون هو الحيلة للوصول الى ربا النسيئة كما عن الإمام مالك وأحمد ، وقد يكون نتيجة النص الخاص الوارد في صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام حيث قال علي بن جعفر : « سألته ( أي الإمام موسى بن جعفر ) عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال علیه السلام : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (1). ومعناها وجود البأس في البيع الأول إذا اشترطا.

أمّا هنا فنريد أن نتكلم عن شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها ، فهل يوجد منع عن هذه المعاملة ؟

الجواب : انَّ مقتضى البيع الذي يحصل بين البائع والمشتري هو ملكية المشتري لمنافع العين ، وملكية البائع للثمن ، ولكن المشتري هنا يشترط في تمليك الثمن للبائع أن يستأجر العين التي ملكها المشتري بالشراء الأول ، فهذا الشرط هو عبارة عن تقييد البائع ، بالتزامه استئجار العين ، كما لو شرطت عليه في عقد آخر أن يستأجر عيناً بثمن معين ، فهو شرط صحيح لم يخالف كتاباً ولا سُنَّة فيشمله الحديث الصحيح « المسلمون عند شروطهم ».

وقد يستشكل في صحة هذا البيع بشرط الاستئجار ، بلزوم الدور وذلك حيث يقال : إنَّ صحة البيع الأول متوقفة على استئجار الدار من قبل البائع ، واستئجار الدار متوقف على صحة البيع الأول ، فتوقف صحة البيع الأول على

ص: 182


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 5 من أحكام العقد ، ح 6 ، وهذه الصحيحة لها سندان أحدهما صحيح لأنّ الرواية رواها علي بن جعفر في كتابه عن اخيه موسى بن جعفر علیه السلام وبما أن الرواية في كتاب الوسائل وسند صاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر صحيح باعتبار أنَّ صاحب الوسائل وإن لم يكن له طريق مباشر الى كتاب علي بن جعفر ولكن للشيخ الطوسي طريق معتبر إليه وصاحب الوسائل له طريق معتبر إلى الشيخ الطوسي وبضم هذا الى ذاك يثبت طريق معتبر لصاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر فتكون الرواية صحيحة.

صحة البيع الأول.

وقد ينقض على هذا الاشكال :

أولاً : في مثل ما إذا اشترط البائع ايجار الدار على شخص ثالث فهو شرط صحيح مع أن شبهة الدور موجودة.

وثانياً : إذا باع الدار بألف بشرط أن توقف الدار على البائع وأولاده وقفاً خاصاً.

وثالثاً : اذا باع شخص داره على آخر نسيئة بشرط أن يرهنه عند البائع على الثمن ، فالشروط هنا صحيحة بلا اشكال مع أنَّ شبهة الدور واردة فيها ، بل هذه النقوص آتية في كل شرط.

وحلّ الاشكال : هو أنَّ الشرط الذي يؤدّي إلى الدور المستحيل هو الشرط الفلسفي الذي هو من أجزاء العلة التامة ، أمّا الشرط هنا فهو شرط معاملي ، وهذا الشرط المعاملي إن كان بمعنى التعليق في العقد على أمر مجهول التحقّق في المستقبل أو معلوم ، فهو باطل كما عن المشهور من عدم امكان الانشاء التعليقي ، وإنّ كان بمعنى الالتزام في ضمن العقد - كما هو الصحيح لغة وعرفاً - فهو صحيح ، لأنّ الالتزام موجود حين العقد من قبل المشروط عليه ، وبما أن كلامنا هو ( اشتراط التزام ايجار العين في البيع الأول ) فيكون البيع صحيحاً ويجب على المشروط عليه ايجار العين بحيث لو لم يؤجرهَا يكون قد فعل حراماً وبرّر للمشتري فسخ البيع. وبعبارة اُخرى : أنَّ صحة البيع ليست موقوفة على الوفاء بالشرط ، بل يصح البيع حتى مع عدم الوفاء وإنما يترتب على عدم الوفاء بالشرط ثبوت الخيار لافساد البيع.

صيانة العين المستأجرة :

إذا صحَّ ايجار العين أو حمل المتاع الى مكان معين ، فهل يصح لمالك العين أن يشترط على المستأجر صيانة العين من العيوب أو النقص الذي يحصل حين

ص: 183

استعمالها أو حملها ؟ وبعبارة اُخرى هل يجوز أن يضمن الأجير على حمل المتاع أو المستفيد من العين ما يحصل من تلف في العين على أساس ضمان الغرامة ؟

الجواب : لقد ذهب المشهور الى عدم صحة شرط الضمان على المستأجر والأجير ولعلّ أهم دليل على ذلك هو أنّ شرط الضمان على المستأجر هو من الشرط المخالف للسنة القائلة بعدم ضمان الأجير والمستأجر ، ففي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام في حديث : ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة » (1).

وصحيحة الحلبي : « قال سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل تكارى دابة الى مكان معلوم فنفقت الدابة ؟ فقال : إنّ كان جاز الشرط فهو ضامن لأنَّه لم يستوثق منها » (2) ، وغيرها من الروايات.

وواضح من هذه الروايات : أنَّ الضمان إنّما يكون على المتعدي أو المفرّط ، وفي غير هاتين الصورتين لا ضمان ، فيكون اشتراط الضمان خلاف السُنّة ، وقد يستدل - أيضاً - على أنَّ اشتراط الضمان على الأجير مخالف للكتاب والسُنَّة بروايات عدم الضمان على الأجير ، فقد روى خالد بن الحجاج قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الملاّح أحمله الطعام ثم أقبضه منه فينقص ؟ قال علیه السلام : إنّ كان مأموناً فلا تُضْمِنه » (3).

والتحقيق : أنَّ ظاهر هذه الروايات التي ترفع الضمان على المستأجر أو الأمين إنّما ترفعه في صورة عدم اشتراط الضمان ، فهي تريد أن ترفع القاعدة المركوزة عند العقلاء ، وهي قاعدة : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » الموجبة للضمان ، فتقول هذه الروايات : إن الأمين إذا ائتمنته على شيء فلا تنطبق قاعدة اليد الارتكازية في

ص: 184


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 23 من احكام الاجارة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 23 من احكام الاجارة ، ح2 .
3- المصدر السابق : ب 30 من أحكام الاجارة ، ح 3.

صورة التلف ، وكذا المستأجر العامل أو المستأجر للعين ، ولذا لو قلنا بالضمان في هذه الصورة كان خلافاً للروايات ولكن ما نريد أن نتكلم عنه هو شيءٌ آخر. ويمكن توضيحه ببيانين :

أ - إن صاحب العين لا يشترط على المستأجر الضمان واشتغال ذمته ، كي يقال : إن الأمين لا يضمن ، وإنّما يشترط عليه تحمل الخسارة ، ودفع ما يساوي قيمة المقدار التالف. فيقول له هكذا : عند تلف شيء من العين يساوي مئة دينار فاللازم عليك دفع المقدار المذكور من دون أن تكون ذمتك مشغولة به. فالشرط شرط للفعل وليس شرطاً للنتيجة ، فان صاحب العين يشترط تسديد قيمة التالف وما يعادله ، وهذا شرط للفعل وبمثابة الأمر التكليفي ، ولا يشترط الضمان واشتغال الذمّة الذي هو شرط للنتيجة وحكم وضعي.

ب - إنَّ أدلة نفي الضمان عن المستأجر ناظرة الى نفي الضمان في حالات عدم اشتراط الضمان ، وإنَّ عقد الإجارة لو خلي ونفسه فهو لا يقتضي الضمان ، وهذا لا ينافي تحقّق الضمان من خلال الاشتراط.

وكلمة اُخرى أنَّ انطباق عنوان الأمين على المستأجر إنما جاء بلحاظ إذن صاحب العين للمستأجر في التصرف فيها ووضع اليد عليها ، فيكون عنوان الأمين منتزعاً من الإذن في التصرف ، وحينئذ إذا كان الإذن في التصرف مقيّداً بالضمان ، فمعنى ذلك أن المستأجر أمين يقبل قوله فيما يدعيه ويصدّق ولكن يضمن إذا حصل تلف سماوي بدون تعدي ولا تفريط حسب الشرط الذي قيّد وضع اليد على المال على أن يكون على وجه الضمان ، وحينئذ يرجع المعنى الارتكازي القائل على اليد ما أخذت حتى تؤدي.

ونحن لا نرى تنافياً بين أن يكون الأجير أو المستأجر مأموناً وبين تضمينه بالشرط في صورة حصول التلف السماوي ، لأدلة نفوذ الشرط ، كصحيحة : « المسلمون عند شروطهم ».

ص: 185

ولكن قد يقال : إنَّ ادلّة نفوذ الشرط غير صالحة لمشروعية الضمان على الأجير الحامل للمتاع أو المستأجر للسلعة ، بل إنَّها تقول إنَّ : « المسلمون عند شروطهم » إنّما يُلزم بالنتائج المشروعة ، وحينئذ نحتاج أولاً الى اثبات مشروعية ضمان الأجير للمال الخارجي ، فإذا ثبت ذلك صحّ تضمينه بصحيحة « المسلمون عند شروطهم ».

والجواب : توجد روايات تدل على صحة شرط الضمان على الأجير ، وهي بنفسها تكون دليلا على صحة شرط الضمان بلا حاجة الى روايات « المسلمون عند شروطهم » ومن هذه الروايات :

1 - الروايات الدالة على صحة شرط الضمان على المستعير الأمين ، وإذا صح هذا فلا فرق بينه وبين شرط الضمان على المستأجِر الأمين ، ففي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام في حديث قال : « إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلاّ أن يكون اشترط عليه » (1).

وفي حديث أبان عن سلمة عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه علیه السلام قال : « جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى صفوان بن اُمية ، فسأله سلاحاً ثمانين درعاً ، فقال له صفوان : عاريةً مضمونةً أو غصباً ؟ فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بل عارية مضمونة » (2).

2 - صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الرجل يبيع للقوم بالأجر وعليه ضمان مالهم ؟ قال علیه السلام : إنّما أكره ذلك من أجل أني أخشى أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم ، فإذا طابت نفسه فلا بأس » (3).

وهذه الرواية تنظر الى عمل الدلال الذي يبيع كتب الغير مثلاً ويضمن لهم

ص: 186


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 1 من كتاب العارية ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 1 من كتاب العارية ، ح 5.
3- نفس المصدر السابق : ب 29 من الاجارة ح 15.

هذه الكتب في صورة التلف ، وقد أقرّه الإمام علیه السلام على هذا الضمان إذا طابت نفسه.

3 - رواية موسى بن بكر عن العبد الصالح ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن رجل استأجر ملاّحاً وحمّله طعاماً في سفينته واشترط عليه إن نقص فعليه ؟ قال علیه السلام : إن نقص فعليه » (1).

والنتيجة المتوخّاة من هذا هو صحة أن يؤجر البنك أو الشركة أدواته وسلعه وما تحت يده من عقار بشرط صيانة العين ، وبذلك يطمئن الى أنّ العين مصانة وقد حصل على ربح منها.

7 - التأمين على الديون

إنّ من وظائف البنك اعطاء تسهيلات للعملاء ، ومن هذه التسهيلات القروض التي يقدّمها البنك لعملائه ، وهذه القروض - حسب الاحصاءات الاقتصادية - سوف يبقى بعضها بدون وفاء ، لذا فإنَّ البنوك الربوية تبرّر أخذ الفائدة كتعويض عن هذه « الديون الميتة » كما تبرر أخذ الفائدة بالنفقات التي تستهلكها البنوك من اُجور الموظفين إضافةً إلى الربح الخالص لرأس المال.

وهنا نريد أن نتساءل عن امكانية أن يتخلص البنك الإسلامي من مشكلة « الديون الميتة » بالتأمين على الأموال التي تقترض منه في السنة - مثلاً - المقدَّرة بحدٍّ معين. وكذا نتساءل عن امكانية أن يأخذ البنك أجراً على نفقاته التي يبذلها في سبيل انجاز ديون العملاء.

أمّا بالنسبة للربح الخالص لرأس المال فهو الربا المحرم الذي لا يمكن التساؤل عن جوازه.

الجواب : هو امكانية أن يؤمِّن البنك على هذه الديون التي يدفعها الى

ص: 187


1- المصدر السابق : ب 27 من الاجارة ، ح 1.

عملائه خلال عام - مثلاً - بكلفة محددة ، وهذه القروض قد تكون محددة بحدٍّ معين ، وقد تكون محددة بين سطح أعلى أو سطح ادنى ، ولا تضرّ هذه الجهالة في التأمين على هذه القروض ما لم يؤدِّ إلى الخطر ، وقد سبق منّا تحقيق أن التأمين على خطر الموت عقد مستقل يشمله أوفوا بالعقود.

وبالجملة : فإنَّ أنواع التأمين - كالتأمين على الحياة ، وعلى المال ، وعلى الحريق ، وعلى الغرق ، وعلى السيارة ، وعلى الطائرة ، وعلى السفينة ، وما شاكل هذه الاُمور التي لا يختلف فيها الحكم الشرعي - كلّها جائزة لأنَّ التأمين هو اتفاق بين الشركة وبين المؤمَّن له ( سواء كان شخصاً أو أشخاص ، حقيقي أو اعتباري ) على أن يدفع المؤمَّن له مبلغاً معيناً من المال شهرياً لقاء قيام المؤمِّن بتدارك الخسارة التي تحدث في المؤمَّن عليه على تقدير حدوثها.

وبما أن هذا الاتفاق يشتمل على أركان العقد الأربعة التي هي :

1 - الإيجاب من المؤمَّن له.

2 - القبول من المؤمِّن.

3 - المؤمَّن عليه ( الحياة ، الأموال ، الديون ، الحوادث وغيرها ).

4 - قسط التأمين الشهري.

فيمكن تنزيله - كما قلنا سابقاً في بحث بطاقات الائتمان - منزلة الهبة المعوضة ، لأنَّ المؤمَّن له يهب مبلغاً من المال في كل قسط إلى المؤمِّن ويشترط عليه ضمن العقد أنَّه يقوم بتدارك الخسارة الناجمة عند حدوث حادثة معينة نصّ عليها في الاتفاق ، وعلى هذا يجب على المؤمِّن الوفاء بهذا الشرط ، ولا مانع أن تكون الهبة المشروطة في النتيجة مجانيةً إذا لم يحصل الشرط ، وإذا حصل الشرط فهي هبة معوضة ، كما إذا قال انسان لآخر : أهبُك هذا المال بشرط إن وصلت إلى المدينة المنوّرة ، فتزور النبي صلی اللّه علیه و آله نيابة عني. وهذا معناه أنَّ الموهوب له إن وصل إلى المدينة ولم يكن هناك مانع في طريقه فيجب عليه أن يزور للواهب ، فتكون الهبة معوضة ،

ص: 188

وإن حصل مانع من الوصول إلى المدينة المنورة فتكون الهبة مجانية. وليس من الصحيح القول بأنّ الهبة المعوضة هي بيع فلابدّ فيها من شروطه ، إذ الهبة المعوضة عقد مستقل.

كما يمكن أن يكون هذا العقد عقداً مستقلاً عقلائياً فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . لأنَّه لا يخرج عن كونه التزاماً في مقابل التزام.

وأمّا من ناحية الشك في حرمة هذا العمل فتجري اصالة الإباحة ( عدم الحرمة ).

وطبعاً إنّما يقدم البنك على أن يؤمِّن على قروضه التي يقرضها لعملائه فيما إذا رأى أن عملية الاقراض بالنسبة له مهمّة وضرورية ، كما أن تحصيل الدين منهم كذلك. والتأمين على الديون أقل كلفة من تلف بعض الديون وبقائها بدون تسديد.

ما يمكن للبنك أن يطلب من عملائه الذين يرغبون في الاقتراض منه أن يؤمِّنوا على هذه القروض عند شركة التأمين ، ويكون طلب البنك من عميله هذا بمثابة كفيل معين لسداد القرض في صورة تخلف المقترض ، وهنا يكون المؤمَّن المقترِض هو الذي يدفع اُجور التأمين لمصلحة البنك ، وبهذا تكون اجرة التأمين من المقترض لشركة التأمين رأساً أو تدفع إلى البنك ليوصلها الى شركة التأمين كوكيل عن المقترض ، وبهذا لا يكون البنك قد اشترط على المقترض مالاً لنفسه غير المال المقترض ، وتخلّص من مشكلة الديون الميتة ، فلا يحتاج الى أخذ الربا كما يفعل البنك الربوي في مقابل تلك الديون.

وقد يُستشكل في هذه العملية لشمول نص الرواية القائلة : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » لما نحن فيه لأنَّ هذا القرض مع شرط التأمين على الدين لمصلحة البنك يكون قد جرّ نفعاً لشركة التأمين فهو ربا.

والجواب : أنَّ النص القائل « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ينظر إلى النفع

ص: 189

الذي يحصل عليه من نفس عملية الاقراض للمقرض أو لشخص آخر ، أو يحصل من عملية تأجيل القرض ، أمّا ما نحن فيه فعقد التأمين الذي يطلبه البنك لمصلحته هو الذي نفع الشركة ، فهذا النفع للشركة لم يحصل من عملية الاقراض ، وإنّما حصل من عقد التأمين الذي هو ضمان معاملي وعقدي تقوم به الشركة وتتعهد بوفاء المقترض للمقرِض مباشرة أو بوفائها للقرض في حالة عدم وفاء المقترض ، وليس هذا شرطاً ربوياً لأنّ مرجعه إلى الاستيثاق في وفاء الدين ، كما أنَّه ليس أجراً على إنشاء الضمان والدفع في حالة معينة ، بل إنّ الشركة تتعهد بأنّها تقوم بعمليات معينة لأجل أن يفي المقترض بالتزامه ، من قبيل ملاحقته ومطالبته والضغط عليه أو ترغيبه ونصحه وإرشاده الى حسن الوفاء بالعهد والقرض وما الى ذلك من اُمور تؤدّي في النهاية الى تسديد القرض ، وأمّا عملية إنشاء الضمان والتعهد بالمال فهو عمل لا يقابل بالمال ؛ لأنّه لا يبذل في مقابله أجر ، وإنّما الأجر يكون على قيام الشركة بعمليات معينة لتسديد القرض من قبل صاحبه. وإذا تعذر علينا قبول هذه التكييفات للتأمين على الديون فيتمكن البنك للتأمين على ديونه من أخذ ضامن معتبر على السداد في الوقت المحدد - بواسطة الشيك الموقّع من قبل الضامن - إن لم يقم المدين بالتسديد ، كما يمكن للبنك أن يأخذ أكثر من ضامن لهذا الأمر. كما أن الكمبيالات التي يشتريها الضامن أو المقترض لأجل أن يوقّع عليها الضامن - بمعنى تعهده بالسداد إن لم يسدد المدين - هي عبارة عن نفس عقد التأمين الذي يحصل فيه المؤمِّن على ربح بواسطة عقد التأمين ، فإن لم نستشكل في النفع الحاصل لبائع الكمبيالة لأجل توثيق الدين فكذلك ينبغي أن لا نستشكل في عقد التأمين الذي فيه نفع للمؤمِّن والذي كان لأجل توثيق الدين.

ثم إنّ من نافلة القول التأكيد على أن البنك يتمكن أن يأخذ أجراً على نفقات إنجاز الديون إلى العملاء لأنَّ هذا الانجاز للديون فيه جملة من العمليات التي تستوجب كتابةً وعملا محترماً يقابل بأجر.

ص: 190

8 - إقتراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدود

قد يقوم البنك بإقراض بعض عملائه أو غيرهم مقداراً من المال بشرط أن يتعامل معه في صفقاته التجارية ، فهل في هذا الشرط حرمة ربوية ؟

الجواب : اننا بلا شك نرى أنَّ هذه العملية القرضية إنّما يقصد بها البنك جرّ النفع له ، فهل تشمله الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ؟

ويمكن أن يقال : إنّ النفع الذي هو حرام في عملية القرض بواسطة الشرط هو النفع الذي يوجد من عملية الاقراض أو في مقابل الأجل - كما تقدّم ذلك - أمّا هذا النفع الذي يذكر في المقام فهو نفع قد حصل في مقابل عقد قام به البنك مع المقترض ، كأن يبيعه سيارة بمبلغ معين (1) كما يحصل البنك على نفس هذا النفع من عملاء آخرين قد تعاملوا معه بدون هذه العملية ، ولهذا يمكن ادّعاء إنصراف كل قرض جرّ نفعاً عن هذه الانتفاعات التي في مقابلها عقد تجاري.

ولم يعدم الفقه الإسلامي من أمثلة لمثل هذه الشروط التي جوّزت هذه العملية ، فمن تلك النصوص حسنة جميل ، قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام أصلحك اللّه اننا نخالط نفراً من أهل السواد فنقرضهم القرض ويصرفون الينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة ؟ قال : لا بأس. ولا أعلمه إلاّ قال : ولولا

ص: 191


1- أمّا إذا كان تعامل البنك مع عملية المقترض الذي اشترط عليه التعامل معه يختلف عن العميل الذي لم يقترض منه ولم يوجد بينهما هذا الشرط ، فيكون الربح في الصورة الاُولى عشرين بالمئة وفي الصورة الثانية عشرة بالمئة فهذه العملية من البنك مع شرط التعامل تكون ربا لأنّها دخلت تحت الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » إذ يكون ما انتفع به البنك في العقد عشرة بالمئة والعشرة الثانية من عملية القرض أو في مقابل الأجل.

ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم ، قال : لا بأس » (1) بناءً على أنَّ جملة ولولا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم هي عبارة عن شرط صريح في ضمن عقد القرض أو شرط ارتكازي قام عليه عقد القرض.

وبعبارة اُخرى : الروايات تحرم أن يكون القرض هو الذي جرّ النفع مباشرة بواسطة الشرط ، ونحن وإن قبلنا أن « جارَّ الجار جارٌّ » فإذا جر القرض بيعاً والبيع جرّ نفعاً فهو داخل عقلاً في جرّ القرض للنفع ، إلاّ أن هذا منصرف عن الروايات التي معناها العرفي هو أن يكون القرض هو الجارّ للنفع مباشرة ، ولهذا ينبغي يكون معنى القرض الذي يجرّ منفعة الذي نَصِفُه بالربا هو ما كانت المنفعة مشترطة فيه ولم تكن في مقابل عمل يبذله المقرض.

ثم إذا حكَّمنا الأصل العملي عند الشك ، فالجواز بمعنى عدم الحرمة هو الجاري في المقام ، وترتب الأثر على هذا العقد يكون بالتمسّك بإطلاق (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

9 - بيع الدين ( خصم الكمبيالات أو الشيكات )

لقد تقدّم منا في بحث « بيع التقسيط » (2) جواز بيع الدين بأقل منه حالا ، وبما أنَّ الكمبيالة الحقيقية أو الشيك الحقيقي الذي يعبّر عن وجود قرض واقعي قد استلمه موقّع الشيك أو موقّع الكمبيالة ، فيكون الدائن هو من كتبت باسمه هذه الوثيقة ( السند ) لإثبات أنَّ المبلغ الذي تتضمّنه دين في ذمة موقِّعها لمن كتبت باسمه.

ص: 192


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 19 من الدين ، ح 12 وإنّما عبّرنا عنها بالحسنة لأنّ طريق الشيخ الطوسي الس محمد بن أبي عمير حسن ، وقد عبّر عنها بالمرسلة لوجود طريق الصدوق بإسناده عن جميل بن دراج عن رجل. اذن الرواية لها طريقان أولهما حسن ، فهي حجّة عند مَنْ يعتبر الحَسَن.
2- البحث المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة سنة 1413 ه ق.

وهذه السندات لم تعتبر لها مالية كالأوراق النقدية ، بل هي مجرد سند إثبات ، فالمشتري عندما يشتري سلعة ويدفع الشيك أو الكمبيالة فهو لم يدفع ثمن البضاعة ، بخلاف ما إذا دفع ورقة نقدية.

ولذا لو ضاعت الكمبيالة أو ضاع الشيك أو احترق عند البائع لم تفرغ ذمة المشتري ، بخلاف ما إذا احترق الورق النقدي الذي دفعه المشتري إلى البائع أو سُرِق أو ضاع.

وعلى هذا يتبيّن أنَّ الشيك أو الكمبيالة هي : عبارة عن سند يثبت أن ذمّة الموقّع عليه مدينة بقدر المبلغ لمن صدر السند بأسمه. وعلى هذا فلا يوجد مانع من صحة بيع هذا الدين الكلي في ذمّة المصدِّر بأقل منه حالا للمصدِّر أو لغيره ، وقد قلنا فيما سبق إنّ هذا عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أمّا إذا كان الثمن مؤجلا فهو لا يجوز ، بناءً على صدق بيع الدين بالدين هنا المنهي عنه.

ولا بأس بالتنبيه الى أن صحة هذا العقد مشروطة بشروط :

1 - أنْ لا يكون الدين من الذهب أو الفضة أو كل مكيل أو موزون ، لثبوت النهي عن بيع المكيل والموزون بأقل منه أو بأكثر.

2 - أنْ لا يكون البيع نسيئة.

وبما أن بيع الكمبيالة التي هي عبارة عن دين على ذمّة شخص ، بأوراق نقدية والبيع حالا فهو أمر جائز لا يشمله المنع ويشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والروايات المؤيّدة لصحة هذا البيع ، ولكن ننبه الى أنَّ عملية بيع الدين بأقل منه تقترن بها مسؤولية المستفيد من البيع عن وفاء المدين للدين ، وعن وفاء المستفيد للبنك عند عدم وفاء محرِّر الكمبيالة أو الشيك ، ولذا نحتاج الى تخريج لهذه المسؤولية ، ولهذا نقول : يمكن تخريجها على أساس أن المستفيد ( البائع ) تعهد أمام البنك أو أمام المشتري بوفاء المدين للدين ، ووفائه هو عند عدم وفاء المحرر ، فيقبل المشتري ، ويكفي أنْ يصدق العقد على هذا التعهد وهذا القبول لأنّه يعتبر عقلائياً تحت

ص: 193

سلطانهما معاً ، كما في الهبة التي اعتبرناها عقداً مع أنَّها مشتملة على تصرف الواهب مع قبول الموهوب له.

فتبين أن عملية بيع الدين بأقل منه هي عبارة عن عقدين :

الأول : بيع المستفيد من الشيك أو الكمبيالة التي تعبّر عن دين حقيقي في ذمّة مصدِّرها للمشتري بثمن أقل من الدين حالاً.

والثاني : تعهد وعقد من المستفيد بأداء المدين للمبلغ إلى المشتري ، وأداؤه هو عند عدم وفاء محرّر الكمبيالة.

وهذا التعهد من المستفيد عقد ضمان صحيح شرعي ، دليله الارتكاز العقلائي مع (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، وهو يختلف عن الضمان الذي هو ضم مسؤولية إلى مسؤولية ، أو نقل الدين من ذمّة الى ذمّة ، بل هو شيء آخر ينتهي الى استحقاق المشتري للمطالبة من الضامن فيما إذا امتنع المدين عن الوفاء لأنَّ هذا الامتناع معناه : أنَّ ما تعهد به الضامن - وهو اداء الدين للمشتري - لم يتحقّق ، بل تلف على المشتري ، وحينئذ يكون مضموناً على من تعهد به.

والجدير بالاضافة هنا هو : أن مجمع الفقه الإسلامي قد قرر في دورته الثامنة جواز الأخذ برخص المذاهب فيما إذا كانت هناك حاجة الى هذا الأخذ لا لمجرد التلهي ، وهذه الرخصة قال بها الإمامية ، فيمكن للبنك أو للمشتري لهذه السندات التي تمثّل ديناً حقيقياً في ذمة موقّعها من شراء هذه الديون الحقيقية بثمن أقل حالاً. وبهذا يكون للبنك الإسلامي أداة من أدوات الربح الشرعي والابتعاد عن الربا ، فيتمكن من شراء الديون التي في ذمّة الآخرين بأقل من قيمتها حالا ، كما يتمكن من بيع دينه على ذمّة الآخرين بالأقل إذا احتاج إلى السيولة النقدية.

أمّا إذا كان السند الذي وقَّعه شخص لآخر ( شيكاً أو كمبيالة ) صورياً ولا يحكي عن وجود دين في ذمّة الموقع - وهو المسمى بالسند الصوري وكمبيالة المجاملة - وتقدم المستفيد لخصم قيمته من البنك أو من فرد آخر ، فحقيقته هو

ص: 194

اقراض من البنك للمستفيد ، وتحويل المستفيد البنك الدائن على الموقع ، وهذا من الحوالة على البريء ، وعلى هذا فسوف يكون اقتطاع البنك شيئاً من قيمة الكمبيالة لقاء المدة الباقية محرَّم لأنّه ربا.

10 - الأوراق المالية : « اجرتها ، اقراضها ، رهنها »

الأوراق المالية المقصودة هنا بالبحث هي الأسهم والسندات :

1 - السهم : ونقصد به الصك الذي يمثل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يزيد وينقص تبعاً لرواجها وعدمه ، وقد يسمى عند الاقتصاديين نصيباً أيضاً ، ولذا يعرّف بأنّه : نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة ، وكلامنا هنا يدور حول الأسهم العادية المتساوية القيمة والحقوق والواجبات وكانت تدور في نطاق المباحات.

2 - السند : وهو صك يمثل جزءاً من قروض الحكومة أو الهيئات الرسمية أو غير الرسمية ، فيصدر الصك بقيمة ألف دينار الى أجل محدَّد ولكنه يباع بتسعمائة دينار نقداً ، وحينئذ يكون السند في حقيقته وثيقة بدين مع التزام المصدِّر بدفع نصيب من الفائدة في تاريخ محدد.

ثم إنّ هذه الأوراق ( السهم والسند ) تصدر بقيمة محددة ، ولكنَّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك كبقية السلع ، مثلاً السهم له ثلاث قيم :

1 - القيمة الأسمية : وهي التي تحدد للسهم عند انشاء الشركة ، فيكون مجموع القيم الاسمية يساوي رأس مال الشركة عند انشائها.

2 - القيمة الحقيقية : وهي عبارة عن نصيب السهم من صافي اُصول الشركة بعد اعادة تقديرها وفقاً للاسعار الجارية بعد ملاحظة الارباح والديون.

3 - القيمة السوقية : وهي عبارة عن القيمة التي يباع بها السهم ، وهذه القيمة

ص: 195

مرتبطة بنجاح الشركة أو فشلها وبحسب رأس مالها الاحتياطي والظروف والأزمات المالية والسياسية والرغبة والدعاية وغير هذه الأمور ممّا هو دخيل في قيمة السهم السوقية.

وهكذا الأمر بالنسبة للسندات ، فإنّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك ، فيكون لها قيمة سوقية غير قيمتها الاسمية التي اشتريت بها (1).

ولهذا السبب فإنَّ الناس - بما فيهم البنك أو الشركات - يقبلون على شرائها لغرض الربح الذي ينتج من الفرق بين قيمة الشراء والبيع ، كما أن الاحتفاظ بها يكون عبارة عن سيولة ، حيث يمكن تحويلها الى نقد بسرعة ، فهل هذا العمل صحيح شرعاً ؟

الجواب : يوجد فرق بين السهم والسند ، فالسهم الذي يمثّل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يكون بيعه وشراؤه جائزاً إذا كانت هذه الشركة تدور اعمالها في نطاق المباحات ، لأنَّ هذا السهم يمثل جزءاً من أعيان الشركة يجوز بيعه بأيّ ثمن أراد البائع بيعه.

أمّا بالنسبة إلى السندات ففي واقعها هي ربا محرّم يمنع من التعامل به إلاّ في حدود خاصة وهي :

ص: 196


1- (1) هناك اشتراك بين الأسهم والسندات في تساوي القيمة الأسمية لكل فئة ، وقابليتها للتداول وعدم قابليتها للتجزء ، ومع هذا يوجد فرق بين السند والسهم يتلخّص في هذه الأمور : أ - السند يعتبر شهادة دين على الشركة بينا السهم هو جزء من رأس المال. ب - السند يحصل صاحبه على الربا من دون أن يرتبط بربح الشركة أو خسارتها بخلاف السهم. ج - صاحب السند لا يشارك في إدارة الشركة بخلاف صاحب السهم. د - يحصل صاحب السند على قيمة سهمه وفوائده في الوقت المحدّد بخلاف صاحب السهم الذي ينتظر عادة تصفية الشركة للحصول على سائر أمواله. ه- - صاحب السند له ضمان على موجودات الشركة فيحصل على حقه في حالات التصفية مقدماً على صاحب السهم.

1 - شراء سندات صدرت من أشخاص لا يؤمنون بالإسلام.

2 - شراء سندات صدرت من بنوك حكومات لا تؤمن بالإسلام.

والسبب في هذا المخرج هو ما ورد من الفتاوى والنصوص (1) التي تجوِّز التعامل بالربا مع الكافرين ( الذمي بشرط أن نأخذ منه الزيادة ) وهذه النصوص وإن كانت ضعيفة السند ولكن أخذ بها كل علماء الإمامية الذين يرون الشهرة الفتوائية جابرة لضعف السند (2). وذهب الى هذا القول بعض علماء المسلمين من غير الإمامية كالامام الحنفي. وأرى أنَّه على وفق القاعدة إذا نظرنا الى حكم الكافر غير الذمّي ( الحربي ) الذي جوّز لنا الشارع قتله ، فكيف بأخذ المال منه بطريقة سلمية وباختياره !!

وعلى كل حال فإنْ كان بيع هذه الأوراق صحيحاً بالقيود التي ذكرت له ، فهل يمكن للبنك أن يقوم بالتوسط لبيعها أو شرائها ؟

ص: 197


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 7 من أبواب الربا ، ح 2 و ح 3 و ح 5.
2- أمّا الإمام الخوئي ; الذي لا يقول بأنّ عمل المشهور الفتوائي جابر لضعف سند الرواية ( حسب ما حقّقه في الاُصول ) فقد ذكر « جواز أخذ الربا من الكافر الحربي بعد وقوع المعاملة من باب الاستنقاذ » في رسالته العملية « منهاج الصالحين : ج 2 ، ص 61 مسألة 218 » فكأنّه يفرق بين الحكم الوضعي والتكليفي فقال بجواز أخذ الربا وضعاً بعد تمامية المعاملة ، أمّا نفس المعاملة الربوية مع الكافر الحربي فهي محرمة لأنّه تمسك بإطلاق « حَرَّم الربا ». ولكن الصحيح أن «حَرَّم الربا» غير شامل للحربي، حيث أن الحرمة إنما تكون لمن كان لماله حرمة بحيث لا يجوز التصرف فيه، وأمّا الحربي الذي حكمه القتل فهو مهدور الدم فلا حرمة لدمه فضلاً عن ماله فلا تشمله «حَرَّم الربا» فتكون منصرفة عنه، وبهذا يكون أخذ الزيادة منه جائزاً بلا حاجة الى نص خاص وقد يقال: إنَّ دعوى الانصراف توجب الالتزام بجواز احراق أموال الكافر أو القائها في البحر باعتبار عدم حرمتها، ولكن هذا لا يجوز لأنه تبذير، وحرمة التبذير لا تتأثر بعدم حرمة المال. والجواب: ان الانصراف المدعى هو لعدم حرمتها بحيث لا يجوز التصرف فيها، أما التصرف بنحو تكون حراماً من ناحية ثانية فهو أمر آخر.

والجواب : أنَّ عملاء البنوك عندما يأمرون البنوك بشراء كمية من هذه الأوراق أو بيعها لهم ، يقوم البنك - بعد التأكّد من سلامة هذه الطلبات - بالاتصال بالبورصة مباشرة عن طريق ممثله أو بواسطة سماسرة الأوراق المالية ، لأجل الوقوف على سعر الأوراق لإنجاز عملية البيع أو الشراء بالسعر المتفق عليه ، والبنك من حقه أن يطلب أجراً أو جعلا على هذه العملية المشروعة.

ولا بأس بالتنبيه على أن بيع أو شراء هذه الأسهم إنّما يكون بعد تكوّن الشركة كلها أو أغلبها من العينيات ( السلع والعروض ) وإن كان اساسها من النقد ، بناءً على أنَّ العبرة بالغالب لا بالقليل والتابع.

وأمّا إذا كانت هذه الشركة تتعامل بالأوراق النقديّة فقط أو كان غالب عملها هو هذا ، فهل يجوز بيع السهم وشراؤه ؟ الجواب : نعم يصح إذا باع سهمه الذي هو من الأوراق النقدية المختلفة بورق نقدي واحد نقداً أو نسيئة ، حيث لا نشترط التقابض هنا ، كما ذهب الى ذلك المشهور - كما سيتّضح عند بحثنا للأوراق النقدية.

أمّا بيع ورقة ونقده بنفس الورق فالارتكاز العرفي يقول : بأنَّه قرض لا يجوز الزيادة في رده ولو نسيئة.

وهنا قد يطرح سؤال آخر - وهو المقصود بالبحث - وهو :

هل يجوز تأجير الأسهم ؟ وهل يجوز اقراضها ؟ وهل يجوز رهنها وإعارتها ؟

أمّا بالنسبة لتأجير السهم ، الذي هو : عبارة عن حصة من الشركة مشاعة ، فقد ذكر الفقهاء : « أن كل ما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، تصح إعارته وإجارته ، وينعكس في الاجارة كلياً دون الاعارة ، لجواز إعارة المنحة (1) مع أن المقصود منها هو اللبن ، ولا تبقى عينه ، ولا تصح اجارتها لذلك » (2) بعد أن كان ذلك بدليل ،

ص: 198


1- المنحة : هي الناقة التي تستعار للبنها.
2- شرح اللمعة الدمشقية ، للشهيد الثاني : ج 4 ، ص 331 ( كتاب الاجارة ).

ولا يفرق فقهاء الإمامية بين الملك الخاص المتميز والمشاع حيث يمكن استيفاء المنفعة من الملك المشاع بموافقة الشريك ، فيدخل تحت قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وتشمله - أيضاً - خصوص اطلاقات الاجارة.

نعم لا تسلّم العين إلى المستأجر إلاّ بإذن الشريك ، ولو أبى الشريك الإذن ، رفع المالك أمره إلى الحاكم الشرعي ليجبره على الإذن أو يأذن الحاكم الشرعي في التصرف إذا عاند الشريك.

نقول : إنَّ كلامنا في تأجير السهم الذي هو حصة مشاعة من الشركة التي تعمل وفق إدارة لها ، وبما أن المستأجِر للسهم لا يريد استلام العين التي استأجرها ، بل يريد أن ينتفع بحاصلها الذي يُعلم في ضمن سنة مثلاً ، فقد انتفى مشكل تسليم العين إلى المستأجر إذا لم يوافق الشريك ، وقد عرفنا أنَّه لا يمنع من صحة الاجارة للمشاع.

ولكن لا يتمكن هذا المستأجر لهذه الحصة أن يؤجرها الى غيره بأكثر مما استأجرها ، ليأخذ الفارق بين الأجرتين بدون عمل يبرر هذا الأخذ ، وهذا يختلف عن حصول المستأجر على ربح السهم المشاع إذا سُلِّم إليه وكان أكثر من مال الاجارة ، إذ أنَّ المستأجر قد استحق حصة السهم المشاع من الربح المتلبس بالأعيان ، وقد قُدِّرت هذه بالنقد الورقي ، فكأنَّ المستأجر حينما يستلم النقد الورقي قد باع ربح السهم المشاع الذي استأجره ، والمتلبس بالأعيان بالنقد الورقي أو بادله بذلك فلا ينطبق عليه أنَّه ربح بدون عمل ، بل انَّ أمواله النقدية قد حوّلها الى منافع السهم المشاع ، وقد حصلت وبادلها بالنقد ، فيكون كالمشتري للدار التي يربح من بيعها ولو لم يعمل فيها عملاً.

وأمّا بالنسبة لرهن السهم : فكذلك لا يوجد اشكال في ذلك ، لأنّ رهن السهم عبارة عن رهن الحصة المشاعة من الشركة عند آخر لأجل التوثيق للدين ، ورهن السهم هنا لا يحتاج إلى تسليمه إلى المرهون عنده حتى نحتاج الى رضا

ص: 199

الشركاء ، بل معناه تسجيل الحصّة في قائمة الحصص الممنوعة من البيع والاجارة والهبة والأرث إلاّ بعد سداد الدين للمرتهن الذي رهنت الحصة عنده. وان لم يدفع الراهن ما عليه عند تمامية مدة الدين يكون الحق للمرتهن من بيع هذه الحصة المشاعة وسداد مقدار دينه وارجاع الباقي إلى الراهن ، وهذا شيء صحيح يجري في كلّ عين مرهونة سواءٌ كانت محددة ومشخّصة أو مشاعة ، وقد ذكر الفقهاء في شرط الرهن : « أن يكون عيناً مملوكة يمكن قبضها ويصح بيعها » (1).

وعلى هذا فهل يمكن قبض الحصة المشاعة ؟

الجواب : نعم يصح قبضها بإذن الشريك ، فيقبض المرتهن الحصة المشاعة ويمنع الراهن من التصرف فيها الى سداد الدين وفك الرهن.

أمّا بالنسبة لاقراض هذه الأسهم للغير ، فلا تخرج عن كونها إمّا أن تحسب من الأعيان المثلية أو القيمية ، والقاعدة هي جواز اقراضها للغير وهو معنى تمليكها مع الضمان ، ونطبق عليها قواعد القرض ، فإنْ كانت مثلية فيجب عليه إرجاع مثلها ، وإن كانت قيمية فيجب عليه ارجاع قيمتها حين اقترضها كما هي القاعدة في باب القرض.

والخلاصة : أنّ السهم الذي هو عبارة عن حصَّة مشاعة في الشركة يترتب عليه جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك ، من بيع وهبة وإعارة وإرث وإجارة وغيرها. ولا نحتاج لأجل إحكام العقد الذي حصل بين المالك والمشتري والواهب والمستأجر مثلاً من قبول الجهة المصدِّرة للسهم البائعة له بعد أن كان السهم ملكاً لغير هذه الجهة إلاّ إذا اشترطت الجهة المصدِّرة والبائعة له أن يكون الانتقال بإذنها ، فإنَّ « المسلمون عند شروطهم » يوجب أخذ الإذن من الشركة في كل هذه التصرفات إلاّ الارث الذي هو حكم شرعي نافذ ولو بدون رضا المصدِّر

ص: 200


1- المصدر السابق : ص 65 كتاب الرهن.

للسهام ، حيث يكون شرطه هنا مخالفاً للكتاب والسُنَّة فيكون باطلاً.

11 - إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية ، فهل يجوز شراء هذه السهام ؟

نقول : إنَّ شراء هذه السهام مع بقاء الشركة ربوية معناه أنَّ المشتري دخل في المعاملات الربوية بعد شرائه لسهم أو أكثر منها ، وهو عبارة عن الربا المحرَّم الذي نهت عنه الشريعة بصورة شديدة.

ولا يقال بأنّنا نحكم بأنَّ أصل الشراء صحيح ، وإنّما المحرم هو التعامل الربوي الحاصل بعد ذلك ، إذ أنَّ أصل الشراء هو عبارة عن الدخول في المعاملات الربوية عرفاً فيكون محرماً.

وهناك صورة ذكرها بعضٌ لتجويز شراء سهام هذه الشركات الربوية ، خلاصتها : أنَّ تجويز شراء هذه السهام من قبل الأفراد المسلمين سوف يجرّ في نهاية المطاف الى استملاك الشركة وتغيير قانونها الأساسي إلى المنع من العمليات الربوية ، فالغاية المتوخاة من تجويز شراء السهام في الشركة الربوية غاية شريفة يجعل شراء السهام والدخول في المعاملات الربوية أمراً جائزاً.

ولكن هذا التوجيه يرجع إلى القول المعروف بأنّ الغاية الشريفة تبرر الواسطة حتى المحرّمة ، وهو أمر غير مقبول شرعاً لأنَّ اللّه سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى ، فإذا أردنا أن نغيّر الشركة الربوية بمنعها من الربا بواسطة دخولنا معهم فترة من الزمن في التعامل بالربا فهو عبارة عن تحليل الربا لفترة من الزمن لأجل الحدّ منه في الزمن الآتي ، وهو أمر لا يجوز.

نعم ، ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه فتوى هي : « يجوز بيع هذه السهام والسندات وكذا شراؤها ، نعم إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية فلا يجوز شراؤها

ص: 201

بغرض الدخول في تلك المعاملات فإنَّه غير جائز وإنْ كان بنحو الشركة » (1).

وواضح أنَّ الإمام الخوئي حرّم الشراء بغرض الدخول في تلك المعاملات ، فهو ينظر إلى شراء لا بغرض الدخول في المعاملات الربوية وهو ينحصر في صورة شراء كل سهام الشركة المساهمة الربوية دفعة واحدة بحيث يخرج السهام كلها من الربا أو يُخرج سهمه الذي كان موجوداً سابقاً مع السهام الربوية ، فإنّ هذه الصورة جائزة بلا شبهة لأنَّ شراءه للسهام لم يكن بغرض الدخول في تلك المعاملات الربوية :

فالنتيجة : هي صحة شراء السهام في الشركة الربوية إذا كان الشراء يؤدّي الى منع الربا فوراً وبصورة دفعيّة لا بصورة تدريجية.

12 - ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الاسعار

من الحقوق والالتزامات : اُجرة العامل التي يجب أن يدفعها المؤجر إلى الأجير ، وأداء الدين الذي يجب على المدين اداؤه في الوقت المحدَّد ، وعندما يكون عقد العمل لفترة زمنية طويلة نسبياً ( شهوراً أو أعواماً ) وكذا عندما يكون أجل أداء الدين كذلك ، كالمهور الآجلة التي يجب على الزوج اداؤها بعد فترة طويلة قد تكون عشرين سنة أو أكثر ، وتكون هناك زيادة مطَّردة في تكاليف المعيشة سوف تحدث مشكلة قد طرقت في عدّة مجالس علمية وهي : هل يجب على المدين أداء تلك الكمية من الدين التي اصبحت الآن نتيجة التضخم الحالي تساوي كمية قليلة من السلع ، بينما كانت فيما سبق تساوي كمية كبيرة منها ؟ وهل يجب على صاحب العمل أن يدفع نفس الكمية من الأجر المتّفق عليه سابقاً وإن اصبحت هذه الكمية نتيجة التضخم غير قادرة على سدِّ احتياجات العامل الضرورية ، بخلافها

ص: 202


1- منهاج الصالحين : ج 1 ، ص 411 الطبة الثامنة والعشرون سنة 1410 ه.

وقت عقد العقد حيث كانت تفي بذلك وربما تزيد عليها شيئاً ما ؟

وطبعاً يكون الجواب الفقهي : إذا كان عقد العمل قد حدد الأجر بالنقد ، وكان عقد الدين قد نص عليه بوجوب دفع مقدار الدين هو أداء نفس الكمية المتّفق عليها في عقد الايجار وعقد الدين.

ولكن في هذا البحث نريد أن يتّفق العامل مع صاحب العمل على صيغة اُخرى للايجار مفادها ربط الأجر بالمستوى العام للاسعار الذي يعلن من قبل الاقتصاديين المتخصّصين الفنيين ، وكذلك ربط الديون بالمستوى العام للاسعار ، فهل يجوز هذا العقد من الناحية الشرعية ؟

ولأجل توضيح الفكرة أكثر نضرب المثال التالي لبيان ربط الأجر أو الدين بالمستوى العام للاسعار :

إذا كان عقد العمل يستمر لمدّة خمس سنوات على أن يدفع في كل سنة ألف ومائتين ديناراً ، أو كان القرض بهذا المقدار يُدفع في كل شهر مئة دينار ، ففي الشهر الثاني إذا زادت الاسعار بمقدار 10 % فيجب على المؤجر أن يدفع مئة وعشرة دنانير ، وكذا المقترض ، فإن ارتفعت الاسعار في الشهر السادس بمقدار 30 % فيجب أن يدفع مئة وثلاثين ديناراً وهكذا ، ومعنى هذا : أنَّ في الشهر الواحد يدفع المؤجر أو المدين مئة دينار بالاضافة الى نسبة ارتفاع الاسعار.

والجواب : أنّ هذا العقد بالنسبة للاُجرة إذا كان بصيغة الاتفاق منذ بداية العقد على أن يزداد الأجر النقدي الأساسي في كل سنة - أو كل شهر إذا كان التضخم سريعاً - لاحقة بنسبة الزيادة العامّة في الاسعار الذي يقاس من قبل المتخصّصين المستقلين عن طرفي العقد ، فيكون معنى ذلك : أنَّ الأجر هو نقد معين بإضافة زياد نسبة التضخم ، فيكون العقد صحيحاً إذا قلنا إنَّ جهالة نسبة التضخّم غير مضرّة بهذا العقد. وليس من البعيد أنَّ مثل هذه الجهالة غير مضرّة في العقود ، كما نرى أمثلة كثيرة للعقد الصحيح الذي فيه نوع من الجهالة ، مثل إجارة العامل

ص: 203

على أن يشتغل ثمان ساعات في اليوم ، فكم ينتج هذا العامل في عمله ؟ وكم يحتاج من الوقت للذهاب إلى المرافق وشرب السجائر والصلاة وحضور الجمعة أو الجماعة ؟ كل هذا جهالة ، إلاّ أنّها لا تفسد العقد لأنها لا تؤدّي الى نزاع ، وقد رأينا أن في الروايات كثيراً من الأحكام التي تنهى عن الجهالة إذا أدّت الى نزاع بين المتعاملين ، وتجيز الجهالة إذا كانت لا تؤدّي الى نزاع بين المتعاملين ، ففي بيع الحليب في الاسكرجة مع ما في الضرع توجد جهالة إلاّ أن الشرع قد أجاز هذا البيع ، وكذا في بيع العبد الآبق مع الضميمة ، إذ توجد جهالة الحصول على العبد الآبق ، ولكن بما أنَّ هذه الجهالة لم تؤدِّ الى نزاع بين المتعاملين حيث يكون الثمن كلّه في مقابل الضميمة - كما قالت النصوص - كان العقد صحيحاً ، وكذا في صحة بيع الثمار لسنتين إذا ظهرت الثمرة ، وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي جوَّز الفقهاء فيها العقد مع وجود جهالة غير مفضية الى نزاع. كما قد يدعى أنَّ هذه الجهالة معلومة للطرفين على وجه الترتيب.

وقد فسّر الغرر - الذي جاء عن النبي النهي عنه - بالخطر الذي يقدم عليه الإنسان لا مطلق الجهالة.

وقد يرى بعضٌ أنَّ الغرر المنهي عنه في الشريعة الإسلامية هو لأجل حفظ العدل بين طرفي العقد ، لأنَّ الخطر الذي يقدم عليه الإنسان في العقد إذا كان بحدّ يؤدّي إلى الحاق ظلم بأحد الطرفين لم يرضَ به لو علم الحقيقة قبل العقد ، أمّا الجهالة هنا فحتى لو قلنا أنّها خطر فهي لا تؤدّي الى ظلم بأحد الطرفين ، بل على العكس هي تؤدّي الى تحقيق العدل بينهما في ظلّ ارتفاع الأسعار وذلك : لأنّ زيادة نسبة الاسعار معناه تخفيض القوة الشرائية للاجور ، وهذا الأمر يجعل المؤجر ( صاحب العمل ) قد حصل على أرباح من زيادة الأجور يوازي التضخم ، فإنْ اقتطعنا منه جزءاً من هذه الارباح نتيجة زيادة الاسعار وقدمناه للعامل كان هذا اقرب إلى العدل ، ومن الواضح ان هذا العقد لا يؤدّي في بعض الضروف الى نقيصة

ص: 204

الأجر الذي عُيّن للعامل حتى إذا تحسن وضع النقد ، لأنَّ الأجر محدد بإضافة نسبة ارتفاع الأسعار ، فان لم يكن ارتفاع في الاسعار بل انخفضت في ضروف معينة فلا يقل الأجر الذي حدّد للعامل.

على أنّه يمكن من الأول أن يتّفق العامل مع صاحب العمل على أن يكون اجرة ما يسمى بسلة السلع ، وهي عبارة عن مجموعة من سلع مختلفة محددة وخدمات موصوفة ، أو ما يقابلها من النقد الورقي على أن يكون الخيار في اختيار احدهما إلى العامل. وليس هذا من قبيل التردد في الأجرة ، لأنَّها معينة وهي مجموعة السلع والخدمات ولكن للعامل الحقّ في أخذ قيمتها نقداً.

وهذا التكييف الثاني يختلف عن الأول من ناحية أنَّ وضع النقد الورقي إذا تحسن ، فمعنى ذلك امكان شراء سلة السلع والخدمات بنقد أقل ، وبهذا سوف يقل أجر العامل الذي ربط نفسه بسلة السلع والخدمات عن العامل الذي كان أجره محدداً من الأول بالنقد ، فمثلاً العامل الذي ربط نفسه بسلة السلع والخدمات إذا كانت قيمتها ألف دينار ، وقد هبطت السلع وتحسن النقد فصارت هذه السلع والخدمات توفر بخمسمئة دينار ، فلا يستحق العامل إلاّ نفس السلع أو الخمسمئة دينار ، بخلاف العامل الذي عُيّن أجره من الأول بألف دينار ، ففي حالة تحسن النقد وازدياد القوة الشرائية له لا ينخفظ أجره الى أقل من ألف دينار التي حددت في العقد.

13 - هل يمكن ربط الدين وغيره بمستوى الاسعار ؟

اشارة

ونحن في هذا البحث لا نتكلم عن الدين لوحده وربطه بالمستوى العام للاسعار ، بل لابدّ من الكلام بنحو عام عن كل عقد يتم بين طرفين ، كالإعارة ، ومال المضاربة ، والمال المبيع إذا انخفضت قيمته السوقية نتيجة ارتفاع الأسعار ، فلو

ص: 205

استعرتُ بيتاً وقد اشترط عليّ المالك ارجاع البيت مع نسبة التضخم الذي حصل في ارتفاع قيمة البيوت ، وكذا إذا اعطيت مال المضاربة واشترطت ارجاع هذا المال مع نسبة التضخم عند التصفية ، وكذا إذا اشتريت مالاً ولم يسلمه البائع ولكن اشترطت عليه أن يسلمني المال المبيع بإضافة نسبة التضخم التي حصلت نتيجة تأخيره في الدفع ، وكذا اذا استقرضت مالاً واشترط عليّ المقرض أن اُرجع هذا المال مع نسبة التضخم عند الأداء ، فهل يصح هذا الربط لهذه الاُمور بالمستوى العام للاسعار بحيث ترجع السلعة أو النقد مع نسبة التضخم التي نشأت من ارتفاع الاسعار ؟

وهذا معناه في الحقيقة اشتراط ضمان القيمة الشرائية إذا تنزلت في النقد وفي السلعة المعارة أو حتى السلعة المستأجرة ، فهل هذا الشرط صحيحاً ؟

والجواب : لا بأس بالاشارة الى أقسام الضمان هنا بعد معرفة معناه ، فلا نقصد من الضمان إلاّ : جعل الشيء بعهدة الغير بحيث لو تلف كان مسؤولاً عنه. فالمال لمالكه وخسارته عليه ولكن يتداركها الضامن بالشرط أو العقد. وهذا ضمان عقلائي يختلف عن الضمان الاصطلاحي ويتصور في الديون والأعيان.

أقسام الضمان :

1 - تضمين المال على تقدير تلفه أو نقصه « فهو مثل ضمان الغرامة ».

2 - تضمين قيمة المال ، بمعنى أنَّ المال الذي يكون تحت يدي وقد اشتريته بثمن معين لو انخفضت قيمته السوقية نتيجة لتقلبات الأسعار في السوق فيجب على الضامن تدارك قيمته ، كما إذا اشتركتُ معك بالنصف في شراء بيت قيمته مليون تومان ثم ضمنت لك قيمة البيت ، فلو نزلت قيمته السوقية الى نصف مليون تومان كانت الخسارة علينا معاً بقانون الشركة ، ولكن الضمان الذي قمتُ به يجعلني ادفع لك قيمة ما دفعته لي وهو نصف مليون تومان.

ص: 206

3 - تضمين تنزل المنفعة الاستعمالية للسلعة.

4 - تضمين تنزل القيمة الشرائية للنقد ، بمعنى أنَّ المقترض يشترط ارجاع العين مع نسبة تنزل القيمة الشرائية إن حصلت نتيجة التضخم.

أمّا القسم الأول من الضمان : فو ضمان صحيح حتى على الأمين غير المحسن مع الشرط ، أمّا الأمين المحسن فهو كالودعي الذي استؤمن لحفظ المال فلا يمكن أن يقال بتضمينه ، للتنافي بين إحسانه وتضمينه عرفاً في صورة التلف السماوي وقد قال تعالى ( ومَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) .

وأمّا الأمين غير المحسن وهو الذي نشأت أمانته من الإذن له في كون المال تحت يده كالمستأجر الذي بيده الدار فيصح تضمينه المال في صورة التلف السماوي ، إذ لا منافاة بين وضع المال تحت يده وتضمينه في صورة التلف ، وما ورد من الأدلّة على عدم تضمين الأجير مثلاً أو أي أمين آخر فهو في صورة كون العقد مطلقاً ( غير مقيّد بالضمان ) فكأنّ هذه الروايات أرادت أن تقول إنَّ ارتكازية ضمان على اليد ما أخذت حتى تؤدي مرتفعة في الأمين الذي سُلّط على العين ، فلا نحكم بضمانه إلاّ في صورة التعدي أو التفريط ، أمّا إذا كان العقد مقيداً بالضمان في صورة كون التلف سماوياً أو من قبل شخص آخر فهو ضمان قد جاء من قبل الشرط ولا مبرر لعدم نفوذه كما لا مبرر لعدم نفوذ عقد الضمان إذا حدث حتى بالنسبة للوديعة ، فإنَّه ضمان بواسطة العقد لما تحدثه السماء ، وبه يخرج المودع عن كونه محسناً لمقابلة تضمينه هنا للمنفعة التي يستلمها عوض الضمان العقدي. ولعل هذا هو المقصود من قول العلماء : « إنَّ عدم الضمان على المستأجر وأمثاله هو بالإطلاق ، فلا ينافي اشتراط الضمان عليه بالشرط أو العقد ».

وقد تقدّمت الأدلّة من الروايات على صحة شرط الضمان على الأمين الذي وضعت السلعة تحت يده في مبحث « صيانة العين المستأجرة » فلا نعيد.

أمّا القسم الثاني من الضمان : بمعنى جعل مالية المال وقيمته في عهدة

ص: 207

شخص آخر ، أي أن القيمة مضمونة بحيث لو نزلت قيمة المال يكون الشخص الضامن مسؤولاً عن هذا النزول ولو كانت العين باقية ، وهو ما يسمى باشتراط عدم الخسران من الناحية التجارية ، وهو عبارة عن جبران تنزل القيمة السوقية على الغير رغم أن العين هي ملك لشخص آخر.

وهذا الضمان مشروع دلّت عليه الروايات ، منها :

1 - صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام « في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين ، وعليهما دين ، فقال احدهما لصاحبه : أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال الإمام علیه السلام : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرطاً يخالف كتاب اللّه فهو ردّ الى كتاب اللّه عزّوجلّ » (1).

وهذا يدل على مشروعية المضمون في نفسه وكونه قابلاً للاشتراط وقابلاً لانشائه في عقد مستقل ، وهذا المضمون هو عبارة عن تصدي أحد الشريكين لضمان قيمة المال الذي تشارك به أولاً ، مع كون الشركة باقية على ملكية الشريكين معاً.

2 - صحيحة رفاعة قال : « سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن رجل شارك رجلاً في جارية له وقال : إنّ ربحنا فيها فلك نصف الربح ، وإن كانت وضيعة فليس عليك شيء ، فقال علیه السلام : لا أرى بهذا بأساً إذا طابت نفس صاحب الجارية » (2). فمع كون الشركة باقية لغرض المناصفة في الربح قد ضمن أحدهما للآخر مالية شريكه بحيث لو خسر فتكون الخسارة في عهدته.

وهذا الضمان لمالية المال وقيمته (3) يتمشى في كل سلعة تكون لها قيمة ولا

ص: 208


1- وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 4 من الصلح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ب 1 من كتاب الشركة ، ح 8.
3- (3) المراد من القيمة هي المالية الخالصة للسلع المشتركة بين جميع الأموال ، سواء كانت تلك السلع مثلية أو قيمية ، من دون أن تلاحظ فيها أي خصوصية من الخصوصيات التي تتفاوت بها الرغبات ، فالسلع تكون مضمونة مع أوصافها الدخيلة في ماليتها ، كما أنَّها مضمونة بخصوصياتها النوعية والشخصية.

يشمل ( مالية النقود الورقية ) لأنَّ النقد الورقي ليس سلعةً ، بل هو قوّة شرائية متجسدة ، وهو محض القيمة فيختلف عن السلع التي دلّ الدليل الشرعي المتقدّم على ضمان ماليتها.

وعلى صحة هذا الضمان ، فإذا استعار شخص العين - كالسيارة - لمدّة معينة واشترطتُ عليه الضمان إن نزلت قيمتها السوقية ، فيجب عليه ضمان تنزل القيمة السوقية إن ارجعها وقد إنخفضت بسبب السوق. وكذا إذا كان الأجر على العمل الذي أملكه وقت ابرام العقد وكان عيناً مشخصة لها قيمة سوقية ، واشترطتُ على المالك أن يضمن لي قيمتها وماليتها إذا نزلت وقت الدفع ، وكذا في مهر الزوجة إذا كان عيناً مشخصة إذا اشترطت الزوجة مالية العين إذا نزلت القيمة السوقية وقت الدفع. وكذا المال المبيع إذا انخفضت القيمة السوقية وكان عيناً مشخصة وقد اشترط المشتري ضمان القيمة وقت الدفع مع التأخير من قبل البائع. كما ويشمل هذا الضمان غصب العين مع ارجاعها وقد انخفضت القيمة السوقية ، ولكن هذا الضمان قد يكون هنا من باب أنَّ الغاصب قد ضرّر المشتري ، فيجب عليه جبران ضرره ، وهو ما يقال من أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال.

وقد نقول : يمكن الاستدلال على ضمان القيم ومالية الشيء بإدلة نفوذ الشرط « المسلمون عند شروطهم » لمن لم تثبت عنده الروايات المتقدّمة ، ولكن يقال : إنَّ صحة هذا الشرط ووجوب الوفاء به متوقّف على اثبات كونه ليس خلاف القرآن والسُنَّة فنحتاج الى دليل على جواز هذا الفعل ( وهو ضمان قيمة الشيء ) حتى يكون اشتراطه في العقد صحيحاً وملزماً ، فما هو الدليل على جواز هذا الضمان ؟

الجواب : أنَّ الدليل هو ما ثبت عند علماء المسلمين من ضمان قيمة الأشياء عند إقراضها للغير وهي قيمية ، فيكون المقترض مسؤولاً عن ارجاع القيمة ، لأنّ

ص: 209

القرض هو : عبارة عن تمليك للعين مع الضمان ، وبما أنَّ العين قد انتقلت الى ملك الغير فيكون المقترض مسؤولاً عن قيمتها فقط ، فلو فرضنا أنَّ القيمة للعين قد نزلت ، فيجب على المقترض ارجاع القيمة قبل نزولها ( أي حين الاقتراض ) وهذا يكفي لاثبات جواز ضمان قيمة الشيء ، فإذا جاز ، جاز اشتراطه ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة.

وأمّا القسم الثالث : وهو تضمين تنزل المنفعة الاستعمالية للسلعة ، بمعنى أنَّ الثوب الضخم الذي استعاره أحد ، ثم ارجعه وقد خفت ضخامته ( أي خفت وقايته من البرد ) نتيجة للاستعمال يكون لصاحب الثوب الحق في تضمين هذا التنزل للمنفعة الاستعمالية بالشرط. وكذا الدواء الذي استعاره أحد وأرجعه بعد أن خفّ تأثيره نتيجة لافتقاره لبعض الخواص التي كان موجودة فيه بسبب مرور الزمان.

ودليل هذا الضمان هو كل ما دلّ على أنَّ الاوصاف الذاتية للشيء هي مضمونة على آخذها لو تلفت مع شرط الضمان عليه ، كما تقدّمت الأدلّة في بحث صيانة العين المستأجرة فلا نعيد.

وبما أن تنزل المنفعة الاستعمالية بالمعنى الذي ذكرناه يعتبر نقصاً في السلعة وتغييراً في وصفها الذاتي فهي مضمونة على الآخذ لو شرط عليه المضان.

وأمّا القسم الرابع من الضمان وهو : تضمين القيمة الشرائية للنقد الورقي ، فقد يقال بصحة هذا الضمان بدون شرط ، بمعنى أنَّ النقد الورقي الذي يؤخذ من أحد بعنوان القرض أو الاعارة أو بأي عنوان آخر ، يكون على الآخذ إرجاع نفس القوة والقيمة الشرائية للنقد الورقي حين التسليم ، فإذا انخفضت القوة الشرائية له بإزدياد التورم ، كان على المستلم أن يرد نفس الشيء الذي أخذه مع زيادة تساوي قيمة التورم ، بحيث يكون هذان الأمران مساويين للنقد حين تسلمه أولاً.

ولكن الجواب : هو أنَّ العرف لا يرى في دفع النقد الورقي إلاّ مسؤولية ارجاعه بنفسه كما سُلّم ، لأنَّ الاعطاء كان بنفسه فالارجاع يكون كذلك ، وما ذاك

ص: 210

إلاّ لأنّ هذه الأوراق النقديّة هي أموال اعتبارية تحمل قيمة شرائية ونحن لم نأخذ منه إلاّ الأوراق الاعتبارية فيجب ارجاعها بنفسها ، وأما القوة الشرائية فهو أمر معنوي تحمله الأوراق النقدية فلا يجب ارجاعه لأنّه ليس قيمة حقيقية ، وبعبارة اُخرى أنَّ الأوراق النقدية أصبحت أموالاً بالاعتبار ، بمعنى أنَّ قيمتها متقومة به فهي كالسلع ولكنها تحمل قيمة اعتبارية لا حقيقية ، فلا يجب ارجاعٌ إلاّ النقد الورقي ، لا قيمته الشرائية.

على أن هذا التكييف مشترك بين زيادة التورم ونقيصته ، فيجب أن يلتزم من يقول به بدفع الأقل ممّا أخذه لو انخفض التورم ، ولا يلتزم بهذا أحد ، ممّا يكشف على أن القوة الشرائية ليست هي المنظورة حين تسلّم النقد الورقي.

ثم إن الضمان إذا كان للنقد الورقي عرفاً ، وليست القوة الشرائية مضمونة - لما قلناه - فيكون ارجاع القوة الشرائية على أنَّ الآخذ مسؤول عنها بالعقد من باب أكل المال بالباطل ، حيث لا يستحقها الطرف الآخر ، وعلى هذا سوف يكون اشتراطها بالعقد غير جائز أيضاً.

هذا وقد يقال : بأنّ صحة هذا الضمان يؤدّي الى حلية الربا القرضي ، ولكنه قول باطل حيث اننا إذا قلنا بصحة هذا الضمان فتقيد ادلّة حرمة الربا في صورة ارجاع العين مع الزيادة مع عدم تنزل القيمة السوقية أو مع ارتفاعها.

وجه آخر لضمان القوة الشرائية للنقد :

وخلاصته أنَّ النقد بأقسامه ( الذهب والفضة والاوراق النقدية ) هي أموال ( حقيقة أو اعتباراً ) وهذه الأموال مثلية ، وتكون قوتها الشرائية من صفات المثل ، فلابدّ من الاحتفاظ بها لدى الأداء ، ولذا يجب ارجاع مبلغ أكبر لدى ضعف القوة الشرائية في وقت الأداء بواسطة التورم.

وهذا الوجه يختلف عن سابقه الذي كيّف الزيادة عند شدة التورم والنقيصة

ص: 211

عند انخفاض التورم ، وحيث يكيّف هذا الوجه الزيادة عند شدة التورم فقط ، وذلك : لأنّ المستلم للنقد مسؤول عن كميته وعن قوته الشرائية التي فيه معاً ، فإذا انخفظت القوة الشرائية كان عيه ارجاع مقدار أكبر ، حفاظاً على القوة الشرائية التي هو مسؤول عنها ، وإذا ارتفعت القوة الشرائية كان عليه ارجاع نفس الكمية حفاظاً على الكمية.

ويرد على هذا الوجه :

1 - لا تعتبر القوة الشرائية من صفات المثل التي يجب الاحتفاظ بها من قبل الطرف الآخر في ما أخذه من النقد. وسوف نوضح هذا الأمر أكثر فيما يأتي.

2 - إنَّ اختلاف القوة الشرائية في النقد الذهبي والفضي كان أمراً مبتلى به في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام بسب تعرضهما للصعود والنزول ، ولم يرد أثر شرعي يشير الى أنَّ القوة الشرائية ينبغي أن ترجع فيما إذا انخفظت بالاضافة الى ارجاع نفس العين ، بل لم يكن يؤثر هذا في تحريم الزيادة عند الردّ واعتبارها رباً محرّماً لشمولها لقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، فكيف يقال بضمان القيمة الشرائية للنقد الورقي الاعتباري ؟!

ثم أنَّ تكييف ضمان القيمة الشرائية إذا تنزل النقد الورقي كان مبتنياً على أنَّ القوة الشرائية من أوصاف المثل ، فلابدّ لنا من تحقيق في معرفة اوصاف المثل التي تضمن وتفريقها عن الاوصاف التي لا تضمن ، فنقول :

إن الشارع المقدّس لم يرد منه نص على تحديد مثلية المثل ، فلابدّ من الرجوع إلى النظر العرفي ، والعرف يرى أنَّ الاوصاف الدخيلة في مثلية المثل وتكون مضمونة إذا زالت هي الاوصاف الذاتية ، ونقصد بها الاوصاف التي تكون ثابتة للشي ومطلوبة بحدِّ ذاتها بغضّ النظر عن نسبتها الى حاجة الإنسان أو سائر الأموال ، كالطعم في البطيخ واللون في القماش ، والسُمك في الثوب لوقايته من البرد ، وخواص الدواء المؤثرة في الشفاء ، وكمية الخبز المؤثرة في الشبع.

ص: 212

أمّا الاوصاف في الشيء الراجعة الى قياس حاجات الإنسان كالثوب السميك الذي يُستعار في الشتاء ويُرجع في الصيف ، والدواء الذي يُستعار مثلاً في حالة كثرة الأمراض وقلة الدواء ويُرجع في حالة شيوع السلامة أو كثرة الدواء ، والخبز الذي يقترض - مثلاً - أو يستعار في حالة جوع المالك ويُرجِع إليه حالة شبعه ، كل هذه الاوصاف لا تعتبر تغييراً في الوصف الذاتي للسلعة ، فلا يقال عن هذا أنَّه تصرّفٌ في السلعة وتقليل من المنفعة الاستعمالية.

وكذا الاوصاف الراجعة الى مقايسة الشيء مع باقي السلع في الرخص أو الغلاء ، كالقيمة أو القوة الشرائية للنقد ، فهي ليست أوصافاً ذاتية للنقد ، فلو نقصت القوة الشرائية للنقد المقترض أو المأخوذ بإذن حين ارجاعه فلا يُعتبر هذا تغييراً في النقد الورقي وتصرفاً فيه يتبعه تقليل المنفعة الاستعمالية عرفاً.

وقد يقال : إنّ إرجاع المثل والصفات الذاتية للنقد مع قلّة المنفعة الاستعمالية ( قلّة القوة الشرائية ) بالقياس الى حاجات الإنسان يوجب ضماناً عند الفقهاء ، وذلك في مثل مَنْ غصب ثلجاً في شدّة الحرّ ثم أرجع نفس المقدار الى مالكه في الشتاء الشديد البرد ، فقد يقال : إنّ المنفعة الاستعمالية التي انتفت ببرد الهواء توجب ضماناً وإن لم تكن من أوصاف المثل ، فيجب على الغاصب الفرق بين ثلج الشتاء وثلج الصيف.

والجواب : أنّ الضمان الذي أوجبه الفقهاء هنا ليس ناشئاً من انتفاء المنفعة الاستعمالية بواسطة برد الهواء ، والدليل على ذلك هو عدم الحكم بالضمان في صورة ما إذا اقترضتُ ثلجاً في الصيف أو استعرته على أن اُرجعه في الشتاء ، وارجعته في شدة البرد ، مع أنَّ القيمة الاستعمالية قد انتفت في المثالين ، فلابدّ لنا من الفحص عن سبب الضمان في مثال الغصب فنقول :

1 - إنّ الغاصب قد أرجع المثل حقيقة فلا وجه لتضمينه من هذه الناحية.

2 - لقد تضرر المالك بتفويت المنفعة الاستعمالية ، ولكن تفويتها لا يوجب ضماناً كما تقدّم في مثال القرض والاستعارة.

ص: 213

نعم ، إنّ تضمين المنفعة الاستعمالية في مثال الغصب كان له سبب خاص وهو الحيلولة بين المالك وبين ما كان يقدر عليه من الانتفاع بثلجه في الصيف ، وهو ما يسمى بالاضرار بمالك الثلج ، بينما هذا الاضرار ( الحيلولة ) لم يوجد في مثال اقدام المالك على الإقراض على أن يُرجع في الشتاء ، لأنَّ الاضرار هو المنع عن الانتفاع بالشيء رغم الحاجة إليه. اذن نتمكن من التفصيل بين مَنْ غصب سلعة أو مالاً (1) وأرجعه بعد مدّة الى صاحبه وقد تنزلت قوته الشرائية والتبادلية نتيجة لزيادة التضخم ، وبين استعارة السلعة أو المال أو الاقراض أو الاجارة ، وقد اُرجعت السلعة أو اُرجع المال ( الورق النقدي ) وقد تنزلت القيمة السوقية أو الشرائية نتيجة لزيادة التضخم ، ففي الصورة الأولى يجب على الغاصب ارجاع ما يناسب التورم بالاضافة الى ارجاع نفس العين ، وذلك لأنّه منع المالك من الانتفاع بعينه رغم حاجته إليه ، فقد اضرّه ضرراً يحكم الارتكاز العقلائي بتداركه ، بالاضافة الى قاعدة نفي الضرر.

أمّا في الصورة الثانية فلا يجب إلاّ ارجاع نفس العين التي دخلت في الضمان وأوصافها الذاتية الدخيلة في المثلية.

أمّا القوة الشرائية والتبادلية فهي ليست مضمونة هنا لأنّها ليست اوصافاً ذاتية دخيلة في المثلية ، ولم يكن هنا أي اضرار بالمالك حتى نقول بوجوب التدارك بالارتكاز العقلائي أو بقاعدة نفي الضرر.

هل حكم السلطة المزيدة للورق النقدي كالغاصب ؟

إنّ السلطة المعتبِرة للاوراق النقدية إذا أدخلت من نقدها مبلغاً كبيراً الى

ص: 214


1- ان هذا التفصيل لا يفرق فيه بين السلع والأوراق المالية الاعتبارية لأنَّ منفعته السوقية هي المنفعة الاستعمالية عرفاً.

السوق ، فانخفضت القوة الشرائية ، وبما أنَّ القوة الشرائية للورق النقدي هي القوة الاستعمالية ، فهل تضمن الدولة - كالغاصب - ما نقص من القوة الشرائية للنقد الورقي ؟

والجواب : بوجود فرق بين الدولة والغاصب ، لأنَّ الدولة هي التي أعطت الاعتبار للاوراق النقدية وهو حقّ لها ، فالقوة الشرائية من أساسها مستمدة من الدولة والسلطة ، وحينئذ يكون من حقّ الدولة إضافة هذه الأوراق النقدية ، لأنّها لم تعمل إلاّ ما كان من حقّها ، وحينئذ لا يحكم عقلائياً بوجود ضمان على الدولة التي أعملت حقها ، بخلاف الغاصب الذي ليس له أي حقّ في الغصب.

ونتمكن أن نُشبّه ما نحن فيه بعصر النقد الذهبي والفضي ، فمن حقّ أي انسان أن يكتشف منجماً للذهب أو الفضة رغم أدائه الى نزول القوة الشرائية للنقد الذهبي والفضي عند الناس ، ولا يقول أحد بالضمان على المكتشِف ، كما أنَّ من حقّ أي انسان أن يزرع حنطة أو شعيراً أو غيرهما رغم أدائه الى تنزل القيمة التبادلية لهذه الأشياء عند كثرة السلعة خارجاً ، ولا يقول أحد بضمان الزارع لأنّه تسبب في انخفاض القوة التبادلية للسلع.

14 - هل تتعلّق الزكاة بالنقود الورقية ؟

كان يصح في زمان سابق القول بأنّ الأوراق المالية هي نائبة عن رصيدها من الذهب أو الفضة المحتفظ به في خزانة مصدِّر الأوراق ( الدولة ) ، فهي حاكية عن تلك الارصدة ، كما كان يصح سابقاً القول بتبدل الاحتفاظ بالذهب والفضة إلى التعهد بدفع الرصيد لمن جاء بالورقة النقدية الى مصدِّرها. ومعنى هذا أنّ مصدِّر الورقة تعهد تعهداً مستقلاً بإعطاء الرصيد عوضاً عن الورقة التي تقدّم له.

أمّا في هذه المرحلة التي نعيش فيها ، فلا يصح شيء ممّا تقدّم ، بل إنّ المعروف.

ص: 215

عالمياً هو إلغاء التعهد بدفع الرصيد ( الذهب والفضة ) من قبل المصدِّر للورقة النقدية نهائياً ، وأصبح المفهوم من الرصيد الورقي في الوضع العالمي اليوم لكل دولة هو : عبارة عن مجموع ما تمتلكه الدولة من سلع أو أعمال ( القوة الاقتصادية ) بمعنى أن هذه الأوراق النقدية تمكّن صاحبها من امتلاك قدر من السلع أو الأعمال مختلف المقدار وفقاً للوضع الاقتصادي للدولة وقاعدة العرض والطلب ، فإذا ازدهر وضع الدولة اقتصادياً تقوّت الأوراق النقدية وكان ما يناسبها شيئاً مهماً من السلع والخدمات ، وإذا تدهور الوضع الاقتصادي ضعفت هذه الأوراق وكان ما يناسبها شيئاً غير مهم من السلع والخدمات ، ولهذا خرجت هذه الأوراق النقدية عن كونها سنداً ، لأنّ السند إذا كان يحكي عن شيء في ذمة الدولة أو مصدِّر الأوراق فليس من المعقول نزوله أو صعوده أحياناً.

هذا هو معنى هذه الأوراق النقدية في هذا الزمان ، وهذا هو معنى الرصيد الذي يُذكر لها ، ولذا نرى أنَّ القوة الاقتصادية للبلد ( سلع ، اعمال ) توزّع على مجموع النقود التي أصدرتها الدولة ، فلو طبعت الدولة مبلغاً أكثر من النقد انخفضت قوة هذا النقد ، وإذا ألغت الدولة قسماً من الأوراق بدون بدل لها إرتفعت قوة النقد.

وبهذا يتّضح أنَّ الأوراق النقدية في هذا الزمان تعتبر أموالاً بسبب تعهد الجهة المصدِّرة لدفع كمية من السلع أو الأعمال لمن يبرز هذه الأوراق وفقاً لوضعها الاقتصادي ، فإنَّ هذا التعهد يمنح الورقة النقدية اعتباراً أو قيمةً لدى الناس باعتبار ثقتهم بالجهة المصدِّرة.

وعلى هذا تأتي الشبهة القائلة : بتعلق الزكاة بهذه الأوراق ، لأنَّ الأدلّة دلّت على أنّ الزكاة إنّما تكون في اُمور منها ( الذهب والفضة ) ، ولا خصوصية للذهب والفضة إلاّ لكونهما نقدين رائجين ، كما يشهد له اشتراط كونها مسكوكين ، والأوراق النقدية في هذا الزمان هي نقد رائج ، اذن يتعدى العرف من الذهب والفضة إلى هذه الأوراق النقدية ، فهل نجزم بالتعدي أو نقول بوجود فرق بين النقد

ص: 216

الذهبي والفضي والأوراق النقدية فلا يكون الحكم واحداً لهما ؟

الجواب : أنّ احتمال الفرق بين الأوراق النقدية والنقد الذهبي والفضي موجود ، ومع هذا الاحتمال لا نعدّي حكم الزكاة إلى الأوراق النقدية ، وتوضيح ذلك :

إنّ الشريعة الإسلامية قد فرضت ضرائب على أصحاب الأموال وجعلتها للدولة وللمحتاجين من أتباع الدولة وللمصارف العامة الاُخرى ، وهذا شيء واضح ، ومن البديهي أيضاً أنَّ مِلاك هذه الضرائب هو سدّ حاجات الدولة أو المحتاجين أو سدّ الحاجات الاجتماعية العامّة كما اشارت الى ذلك آية الفيء ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) فعلى هذا لو جزمنا بأنَّ المِلاك من زكاة النقدين منحصرٌ في سدّ الحاجات ، فيكون هذا الملاك مشتركاً بين النقدين والأوراق المالية ، ولكن من المحتمل أنَّ هذا المِلاك المتقدّم هو أهم ملاكات زكاة النقدين ، وهناك ملاك آخر يشترك معه وهو « المنع من الكنز وركود مبلغ من النقد السابق » الذي يسبب اختلالاً في الوضع الاقتصادي القائم نقده على الذهب والفضة (1).

وإذا جاء هذا الاحتمال وعرفنا أنَّ مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على النقد الذهبي والفضي المحدود تختلف عن مقاييس تحسين الاقتصاد القائم على أساس النقد الورقي غير المحدود ، القائم على أساس الجعل والاعتبار وثقة الناس بالجهة المعتبرة ( سواءٌ لم يكن لها رصيداً وكان لها رصيد من السلع أو الخدمات التي تعينها الدولة ، كأن يكون ذهباً أونفطاً أو معدناً آخر أو غير ذلك ) فيكون بالإمكان الاحتفاظ بسيولة الأوراق النقدية رغم كنز بعضها ، ولا يضرّ هذا بالاقتصاد الحالي للبلد ، فلا حاجة الى وضع الزكاة عليه ، بينما كان الاحتفاظ بسيولة الذهب والفضة مضرّاً بالاقتصاد القديم لمحدودية النقد ، فقد وضع الإسلام ضريبة

ص: 217


1- وممّا يؤيّد هذا الملاك تعلق الزكاة بالنقدين بشرط كونهما مسكوكين ، أمّا إذا كانا حُليّاً ( أي ليسا نقدين ) فلا يكون كنزهما مضرّاً بالوضع الاقتصادي لخروجهما عن كونهما نقداً مربحاً.

على كنزه.

وبهذا نصل الى نتيجة عدم إلحاق الأوراق النقدية بالنقدين ( الذهبي والفضي ) في الزكاة ، لاحتمال أنَّ ما هو دخيل في ملاك تعلق الزكاة هو اكتنازهما مع كونهما محدودين ، فيضران بالوضع الاقتصادي القديم.

أمّا الأوراق النقدية فبما أنّها ليست محدودة فلا يكون اكتنازها مضرّاً بالاقتصاد الحديث ، فلا داعي لسريان حكم الزكاة على النقدين للأوراق النقدية.

ثم إنّ مَنْ يقول بإلغاء خصوصية الذهب والفضة ويجعل الحكم دائراً مدار النقدية فيعدّيه عرفاً الى هذه الأوراق النقدية - كما جاء عن مجمع الفقه الإسلامي المؤتمر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي - يواجه مشكلة وهي : كيف يعين النصاب ؟ وهل تقاس قيمة الأوراق النقدية بقيمة الذهب أو الفضة ؟ فالذهب الذي نصابه عشرون ديناراً ، وكل دينار عبارة عن ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي يساوي في هذا اليوم من النقد الورقي ما يقارب سبعمئة وخمسين دولاراً أمريكياً ، بينما الفضة التي نصابها عبارة عن مائتين درهماً والتي تساوي في الأوراق النقدية خمسة وسبعين دولاراً أمريكياً ، فهل يكون النصاب على الأوراق النقدية هو الأول أو الثاني ، أو بالتخيير ؟ وبأيِّ دليل ؟

وعلى هذا ، فبناءً على شرط القبض في مبادلة الذهب والفضة - كما هو المشهور - فهل نتعدى من ذلك إلى الأوراق الاعتبارية إذا كانت من عملتين ؟

والجواب : إنّ التعدي مشكل لأنَّ الحكم في النقدين تعبدي لا نعرف له ملاكاً ، خصوصاً مع عدم اختصاص شرط القبض بالذهب والفضة المسكوكين حتى نحمله على مطلق النقد الرائج ، بل انّ الحكم مطلق يشمل حتى الذهب والفضة غير المسكوك.

والنتيجة : إننا ندعو مجمع الفقه الإسلامي الموقّر باعادة النظر في الحاق الأوراق النقدية بالنقدين في وجوب التقابض وفي وجوب الزكاة.

ص: 218

15 - الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها

انتهينا في البحث السابق الى عدم وجوب الزكاة على الأوراق النقدية الرائجة في هذا الزمان خلافاً لمن ذهب الى قياسها على النقدين ( الذهب والفضة ).

والآن نتكلم على فرض أنَّ الزكاة واجبة على الأوراق النقدية فنقول :

هل تجب الزكاة في الأوراق النقدية التي تملكها البنوك الإسلامية باعتبارها أموال لها اودعت من قبل العملاء ، فصارت ملكاً للبنك ، لأنَّ الوديعة هي قرض للبنك مع الضمان ؟

والجواب : أنَّ هذه البنوك الإسلامية إذا كان لها اشخاص حقيقيون يملكونها حسب سهامهم ، فتكون هذه الأوراق النقدية ملكاً لهم بما أنَّ كل واحد منهم يملك شخصية حقيقية ، وحينئذ يجب على كل واحد منهم الزكاة بمقدار حصته التي يملكها من البنك بشروط وجوب الزكاة.

أمّا إذا كان البنك تابعاً للدولة ( الحكومة ) أو لأي جهة من الجهات كوزارة معينة ، أو للمستضعفين أو غيرهما من الأشخاص غير الحقيقيين ، فهل يجب في الأوراق النقدية التابعة لها زكاة ؟

الجواب : لابدّ لنا أن نرى إمكان تصور الملكية للشخصية المعنوية أولاً وتحقّقها في الخارج من ناحية الشرع ، وهل أن ثبوت الضرائب الشرعية هو على الأشخاص الحقيقيين فقط أو يشمل الشخصية المعنوية أيضاً ؟

والجواب عن التساؤل الأول : هو إمكان التصور لملكية الجهة بل وقيام الدليل عليها في الخارج كملكية الزكاة للجهة التي منها الفقراء ، وكملكية حقّ الامام لمنصب الامامة وكملكية حقّ السادات - كرمهم اللّه تعالى - لهم ، وكملكية المسلمين للأراضي الخراجية والوقف على حسب ما يوقفه أهله ، وبعدم الفرق بين

ص: 219

تملك هذه الجهات وجهة البنك أو الوزارة أو النقابة أو المؤسسة يتم القول بملكية البنك للنقد الورقي.

والجواب : عن التساؤل الثاني : هو ثبوت جعل الضرائب في الشريعة المقدّسة على الاشخاص الحقيقيين ، أمّا الشخصية المعنوية وان ملكت إلاّ أن ثبوت الضرائب عليها غير ثابت ، فإنّ حقّ الإمام علیه السلام وحقّ الفقراء والصدقات ( الزكاة ) وأموال المسلمين التي كانت في زمن الأئمة علیهم السلام لم يرد فيها نص على خضوعها لقانون الضرائب على طول خط الأئمة علیهم السلام وحياة النبي صلی اللّه علیه و آله . وهذا دليل على أنَّ الشخصية المعنوية غير خاضعة للضرائب.

* * *

ص: 220

التذكية الشرعية وطرقها الحديثة

اشارة

ص: 221

ص: 222

المقدمة :

اشارة

إنّ من الموضوعات المهمّة التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي - بجدة في دورته العاشرة - هو التذكية الشرعية وطرقها الحديثة ، الذي سوف نتعرض فيه إلى معنى التذكية وشروطها الشرعية ، لنخلص إلى أنّ الذبح بالمكائن الحديثة هل يطلق عليه ، أو يمكن أن يطلق عليه التذكية الشرعية إذا روعيت فيه شروط التذكية الشرعية ؟

كما أننا سوف نتعرض ثانياً إلى حكم ما جهل إسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ، أو بالأحرى نتعرض إلى حكم ما جهل تحقّق أحد شروط التذكية الشرعية ممّا حلّ أكل لحمه ، ليكون البحث أكثر نفعاً وأعمّ ممّا طرح في موضوع الذبائح.

كما أنّنا سوف نتعرض لحكم اللحوم المستوردة التي ابتلي بها المسلمون في هذه الأيام وغزت الدول الإسلامية. وطبيعي سوف يقتصر كلامنا على تذكية البهائم والطيور التي تقع عليها الذكاة مع القدرة عليها.

التذكية لغةً :

التذكية هي الذبح ، وذكّيتم أي ذبحتم ، والذبح - بالفتح - هو قطع الحلقوم من

ص: 223

باطنٍ عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق ، وأصل الذبح هو الشق ، وهو مصدر قولك : ذبحتُ الحيوان فهو ذبيح ومذبوح (1).

التذكية شرعاً :

وأمّا التذكية الشرعية فقد وقع الاختلاف في معناها عند الفقهاء ، فقد ذكر مشهور علماء الإمامية : أنّ التذكية عبارة عن قطع الأعضاء الأربعة التي هي :

المريء : وهو مجرى الطعام.

والحلقوم : وهو الحلق ومجرى النفس.

والودجان : وهما عرقان محيطان بالحلقوم.

هذا ، وذكر صاحب نهاية الكرام ومحكي المهذب الإجماع عليه (2).

ولكن ذهب الأسكافي إلى أنّ التذكية عبارة عن قطع الحلقوم وخروج الدم ، وقد ذكر في الدروس أنّه يظهر من الخلاف ، ومال إليه الفاضل ، وربما مال إليه في المسالك (3).

ولعلّ دليل المشهور هو صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الإمام أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) ... فقال : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (4).

فإنّ مفهومها ثبوت البأس إذا لم تفر ( تقطع ) الأوداج.

وأمّا دليل المخالف للمشهور فقد ذكرت صحيحة زيد الشحّام عن الإمام

ص: 224


1- مجمع البحرين ، مادة ذكى وذبح ، ولسان العرب مادّة ذبح.
2- راجع جواهر الكلام : ج 36 ، ص 105.
3- المصدر السابق.
4- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1.

الصادق علیه السلام أنّه قال : « ... إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس » (1).

وبما أنّ النسبة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام العموم من وجه ، حيث يجتمعان في صورة ما إذا قطع الحلقوم والأوداج الثلاثة ، ويفترقان في صورة قطع الحلقوم بدون الأوداج ، أو قطع الأوداج الثلاثة بدون الحلقوم ، فيقع التعارض بينهما في صورة قطع الحلقوم فقط ، خصوصاً إذا نظرنا إلى أن التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف.

وقد نقل صاحب الجواهر قدس سره إمكان أن لا تكون معارضة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام ، بناءً على ما ذكره المقداد « من أنّ الأوداج الأربعة متصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلابدّ أن ينقطع الباقي معه ، ولعلّه كذلك في الذبح المتعارف المسؤول عنه في النصوص ، لا ما إذا قصد الاقتصار على أحدها ... وحينئذ فالانتهاء بالذبح المتعارف إلى منتهى الحلقوم يستلزم قطع الجميع ، لأنّها مع اتصالها به على وجه الإحاطة ونحوها لا يزيد عرضها على عرضه ... » (2).

ومع تحكيم المعارضة فإذا شككنا في حصول التذكية الشرعية بقطع الحلقوم وجريان الدم فالأصل عدمها ، كما أنّ التقديم يكون ما ذكره المشهور - من معنى التذكية الشرعية - على ما ذكره غيره كما هو واضح.

وقد وقع الخلاف أيضاً في معنى التذكية الشرعية عند أهل السُنَّة ، فقال بعض : « يعتبر قطع الحلقوم والمريء ، وبهذا قال الشافعي. وعن أحمد رواية اُخرى : أنّه يعتبر مع هذا قطع الودجين ، وبه قال مالك وأبو يوسف ، لما روى أبو هريرة قال : نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد

ص: 225


1- المصدر السابق ح 3.
2- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 106 - 107.

ولا تفري الأوداج ، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وقال أبو حنيفة : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين » (1).

ولكن اتّفق علماء السنة على أنّ الأكمل في التذكية هو قطع الأوداج الأربعة (2).

الشروط الشرعية للتذكية

اشارة

لقد ذكر الفقهاء شروطاً في الذبح ، وهي :

أولاً : اسلام الذابح :

وهذا شرط ذهب إليه مشهور الإمامية ، ودلّت عليه روايات كثيرة ، منها :

صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن ذبيحة الغلام والمرأة هل تؤكل ؟ فقال علیه السلام : إذا كانت المرأة مسلمة فذكرت اسم اللّه على ذبيحتها حلّت ذبيحتها ، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم اللّه ... » (3). وبما أنّ الأحكام يشترك فيها الرجل والمرأة فتدل على المطلوب.

أمّا ذبيحة الكافر فإنّ كان وثنيّاً أو ملحداً أو مرتداً أو مغالياً أو ناصبيّاً (4)

ص: 226


1- المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 44 - 45 ، الشرح الكبير : ج 11 ، ص 51.
2- المصادر المتقدّمة نفسها.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 23 من الذبائح ، ح 7 وغيره.
4- حدث لآية اللّه الشيخ محمد المؤمن « حفظه اللّه تعالى » حدث في الدورة الثامنة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في بروناي « دار السلام » حيث قدم بحثه المعنون ببطاقة الائتمان ، وكان يصدره بالسلام على النبي وآله ولعن أعدائهم. فأثارت كلمة « لعن اعداء أهل البيت علیهم السلام » بعض الحضّار حيث طبق عنوان الاعداء على نفسه ومن وافقه ، واعتبر هذا من اللعن المبطّن لهم ولبعض الصحابة. ثم طلب الرئيس رفع البحث من طاولة الاجتماع وهكذا كان. أقول: للتوضيح ان كلمة: أعداء أهل البيت تختلف عن كلمة المخالفين لأهل البيت. وأهل السنة (باستثناء النواصب) يعتبرون عند الإمامية من المخالفين لا أعداء لأن العدو وهو الناصبي يُعتبر منكراً لضرورة قرآنية وهي «محبة أهل البيت» فيكون كافراً. بينما المخالف لا يحكم بكفره لانه ليس عدواً لأهل البيت وان كان قد خالف طريقتهم باعتقاد الامامية فالمخالف ليس منكراً لمحبة أهل البيت، بل قد يفتخرون بمحبتهم ويطلبون الشفاعة منهم استناداً إلى تعاليم القرآن التي أمرت بمحبتهم. ولكن وللأسف طبق بعض على نفسه العداء لأهل البيت واعتبر نفسه هو الملعون. وهذا التطبيق الذي حصل لا يرتضيه حضار المجمع بالتأكيد، إذ فيه من اللوازم ما لا يقبله المسلم فكان الأنسب لرئيس المجمع ان لا يتخذ قراراً برفع البحث عن طاولة المؤتمر وينسبه إلى المجتمعين ولكن الذي حصل خلاف ذلك وهو نقطة غير مضيئة في تاريخ هذا المجمع. غفر اللّه للجميع. ومن الطريف ما حدث في الدورة العاشرة للمجمع حيث زفّ الأمين العام للمجمع «الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه» بشرى طبع المجمع كتاب «المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب» لرئيس المجمع الدكتور «بكر بن عبد اللّه أبو زيد». وحينما تصفحت الجزء الأول منه تذكرت هذه الحادثة السابقة حيث وجدت السب واللعن لمن لم يرتأي رأي صاحب الكتاب ومسلكه وهو كثير جداً. اللّهم نسألك العفو والارتفاع عما لا يرضي اللّه سبحانه وتعالى والحمد لله أولاً وآخراً ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

ونحوهم فذبيحته محرَّمة عند الإمامية « بل في المسالك وغيرها : أنّه مجمع عليه بين المسلمين » (1).

وإنّ كان الكافر كتابيّاً فالأقوال ثلاثة عند الإمامية ، ثالثها التفصيل بالحلّية مع سماع لتسميتهم ، والحرمة مع عدمها.

ولكن المشهور شهرة عظيمة - عند الإمامية - حرمة ذبيحته ، « بل استقرّ الإجماع في جملةٍ من الأعصار المتأخرة عن زمن الصدوقين على ذلك ، بل والمتقدّمة كما حكاه المرتضى أو الشيخ بعد اعترافهما بأنّهُ من منفردات الإمامية ، بل

ص: 227


1- جواهر الكلام 36 : 79 - 80.

كاد يكون من ضروريات المذهب في زماننا ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة التي إن لم تكن متواترة بالمعنى المصطلح فمضمونها مقطوع به ... » (1).

نعم ، هناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت علیهم السلام تجوّز أكل ذبائحهم ، إلاّ أنّ هذه الروايات المجوّزة مطلقاً أو المفصّلة قد بلغت من الاختلاف الشديد ( حتى عدّ صاحب الجواهر اثني عشر وجهاً من هذه الروايات ) ما يوجب القطع بأنّها لم تصدر لبيان الحكم الواقعي (2).

أقول : إنّ الأدلّة الدالة على إسلام الذابح ، والروايات القائلة بعدم أكل ذبائح أهل الكتاب والناهية عن ذبحهم إن كانت مرشدةً إلى ميتة المذبوح فهي تعارض الروايات المجوّزة لأكل ذبائح أهل الكتاب ، وحينئذ نأخذ بروايات التحريم ، للترجيح. ومع تحكّم المعارضة فإنّ الشك في حلية الذبيحة يؤدي إلى جريان أصل عدم التذكية الشرعية ، خصوصاً إذا علمنا أنّ التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف (3).

أمّا علماء أهل السنة فقد اتّفقوا على حلّيّة ذبيحة الكتابي ، مستندين إلى قوله تعالى : (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) حيث فُسِّر الطعام بالذبائح ، لما رواه البخاري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة من أنّ طعامهم يعني ذبائحهم.

وقد اختلفوا في ذبائح العرب من أهل الكتاب ، وذبائح نصارى بني تغلب ، ومن كان أحد أبويه غير كتابي ممّا لا يحلّ ذبيحته. وقد استدلّوا لحلّيّة ذبائحهم أيضاً بعموم الآية القرآنية (4). كما قد اختلفوا فيما يذبحه الكتابي لكنيسته وأعياده ،

ص: 228


1- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 79 - 80.
2- راجع جواهر الكلام : ج 36 ، ص 81 - 85.
3- التذكية أمر وجودي سواء كان عبارة عن الأفعال المخصوصة التي اشترطها الشارع أو شيئاً بسيطاً حاصلاً منهما.
4- راجع الشرح الكبير : ج 11 ، ص 46 - 47 ، المغني : ج 11 ، ص 35.

فحرَّمه بعض لأنّه اُهلّ به لغير اللّه ، وأحلّه بعض استناداً إلى عموم آية (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (1).

أقول : جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصة ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البُرّ خاصة » (2) وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

ثم إنّ الروايات المروية عن أهل البيت علیهم السلام (3) تؤكّد أنّ المراد من الطعام في الآية هو البُرّ وسائر الحبوب ، فكأنّ الروايات عن أهل البيت تقول : إنّ الآية نزلت على لغة أهل الحجاز.

فعلى هذا لا يشمل هذا الحلّ لحوم أهل الكتاب.

على أنّ حلية ذبائح أهل الكتاب من دون توفر شروط حلية الذبيحة التي منها التسمية يؤدّي إلى نتيجة قد لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وهي كون أهل الكتاب أحسن حالا من المسلمين عند اللّه تعالى ، لأنّ المسلم إذا ذبح من دون تسمية عمداً حرمت ذبيحته ، أمّا الكتابي الذي يذبح من دون تسمية تحلّ ذبيحته للمسلمين ، على أنّ التمسّك بحلية كل (4) طعامهم يلزم أنّ تحلل الخمر والخنزير ، فهل يمكن الالتزام بهذه النتائج ؟!

ولهذه النتيجة التي لا يلتزم بها مسلم ذهب الإمامية إلى أنّ حليّة الحبوب أيضاً جهتية ، بمعنى عدم المانع من طعامهم من ناحية كونهم أهل كتاب لا من الجهات الاُخرى.

ص: 229


1- المغني : ج 11 ، ص 37.
2- لسان العرب : ج 12 ، باب طعم.
3- راجع وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 26 من الذبائح وب 27.
4- لأنّ كلمة طعام عامّة تشمل كل طعام لهم.
ثانياً : التسمية من الذابح :

وهذا الشرط لا خلاف فيه عند الإمامية في حلّ الأكل ، قال تعالى : (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (1). وقد خصّصت الروايات هذا الشرط في صورة التذكّر ، ففي صحيح الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام « أنّه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يُسمّ أتؤكل ذبيحته ؟ فقال علیه السلام : نعم ، إذا كان لا يتّهم » (2) بمعنى تصديقه بدعوى النسيان إذا كان مسلماً يرى وجوب التسمية. وعلى هذا فسيكون الجاهل بالتسمية كذلك إذا كان لا يتّهم ، بمعنى تصديقه بدعوى جهله بوجوب التسمية ، وإن كان هناك من يذهب إلى حرمة ذبيحة الجاهل ؛ لعدم النص على حلية ذبيحته ، فيدخل تحت إطلاقات حرمة مالم يذكر اسم اللّه عليه.

والتسمية عبارة عن ذكر اسم اللّه تعالى مع التعظيم ، كقوله : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أو بسم اللّه واللّه أكبر ، ونحوهما ، كما يفهم ذلك العرف من ذكر اسم اللّه تعالى. أمّا ذكر كلمة اللّه لوحدها فيشك في تحليلها للأكل فتجري أصالة عدم التذكية.

هذا ، وقد ذكر مشهور علماء أهل السنّة شرطها في حال الذكر أيضاً ، وتسقط بالسهو ، ولكن ذهب الإمام أحمد في أحد قوليه إلى استحبابها ، وبه قال الشافعي (3).

ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :

وقد ذهب إلى اشتراطه الإمامية وبعض من غيرهم كما سيأتي ، ففي حسنة

ص: 230


1- الأنعام : 121.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 15 من الذبائح ، ح 3.
3- راجع المغني لابن قدامة : ج 1 ، ص 32 - 33.

محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن الذبيحة ؟ فقال علیه السلام : استقبل بذبيحتك القبلة » (1).

وصحيح الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام وقد سئل عن الذبيحة تذبح لغير القبلة ؟ فقال علیه السلام : « لا بأس إذا لم يتعمد » (2) ، ومفهومها ثبوت البأس مع التعمد للذبح لغير القبلة ، وحينئذ تكون الذبيحة حلالا في صورة النسيان والجهل بجهة القبلة.

ولا ريب أنّ هذا الشرط إنّما يشترط الاستقبال بمقاديم الذبيحة التي منها مذبحها ، ولا يشترط استقبال الذابح معها ، خصوصاً بملاحظة النصّ القائل : « استقبل بذبيحتك القبلة ».

أمّا مشهور علماء أهل السُنّة فقد جعلوا الاستقبال سُنّة ، ولكن قد اشترط الاستقبال ابن حبيب ، فقد جاء في الجواهر الثمينة قوله : « وأمّا الذبح فقال محمد : السُنَّة أن تضجع الذبيحة برفق على الجانب الأيسر مستقبلة القبلة ، ورأسها مشرف ... فإن لم يستقبل القبلة ساهياً أو لعذر اُكلت ، ولو تعمد الترك اُكلت أيضاً على المشهور. وقال ابن حبيب : لا تؤكل » (3).

رابعاً : أنّ تكون الآلة من حديد :

لقد ذكر الفقهاء من الإمامية عدم صحة التذكية إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وقد دلّت على ذلك الروايات :

منها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام عن الذبيحة

ص: 231


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 14 من الذبائح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 4.
3- الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 589 ، وراجع المغني : ج 11 ، ص 46 ، الشرح الصغير : ج 2 ، ص 172.

بالليطة وبالمروة ؟ فقال علیه السلام : لا ذكاة إلاّ بحديد » (1).

ومنها : صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن ذبيحة العود والحجر والقصبة ؟ فقال علیه السلام : قال علي علیه السلام : لا يصلح إلاّ بالحديدة » (2).

ومنها : صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ... » (3).

ومن هذه الروايات يفهم أنّ الإمام علیه السلام نفى أن يكون الذبح مع القدرة على الحديد بالعود والحجر والقصبة. وهذا واضح ولكن ما المراد من الحديد أو الحديدة ؟

الجواب : لقد ذكرت كتب اللغة للحديد معاني منها :

1 - الحادّ ، ومنه قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي حاد ( أو نافذ ) وصيغ للمبالغة. فحديد فعيل بمعنى فاعل ( أي حاد ) وحديد صيغ مبالغةً من الحادّ.

2 - القطعة من الحديد وهو الفلز المعروف في مقابل بقية الفلزات ، ومنه « خاتم حديد » ، واسم الصناعة : الحدادة ، والحدّاد معالج الحديد (4).

وحينئذ فهل المراد من الحديد :

المعنى الأول الاشتقاقي وهو الحادّ ومؤنثه حديدة ، أي القطعة الحادّة القاطعة بحدتها التي شاع استعمالها في السلاح ( آلة الذبح والقتل والقطع ) وهي ما

ص: 232


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 1 من الذبائح ، ح 1. والليطة : بفتح اللام وهي القشر الظاهر من القصبة . والمروة : وهي الحجر الذي يقدح النار . قال في لسان العرب المرو: حجارة بيض برّاقة تكون منها النار ويقدح منها النار ، واحدتها مرو . (مادة مرا) .
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 1 من الذبائح ، ح 2.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
4- مجمع البحرين ج 3 ، ولسان العرب ج 3 مادّة ( حديد ).

يعدّ ويصنع من المعادن الصُلبة على شكل سكين أو سيف أو مدية أو شفرة في الزمن القديم وعلى شكل آخر في الوقت الحاضر لأجل القتل والجرح ؟

أو المعنى الثاني وهو المعدن الخاص المعروف وهو معنى جامد ومؤنثه حديدة أيضاً ؟

والجواب : لقد ذهب مشهور علماء الإمامية إلى المعنى الثاني ، بل ادّعي عليه الاتفاق والإجماع ، كما سيأتي عن صاحب الجواهر قدس سره .

ولكن نقول (1) : إنّ المراد من الحديد هو المعنى الأول وهو الحاد ، وذلك لعدّة قرائن هي :

1 - إنّ مقتضى المقابلة بين الحديد وبين العود والحجر والقصبة في الروايات يعني النظر إلى حيثية المحدّدية ، أمّا لو كان النظر إلى حيثية الفلز الخاص لكانت المقابلة بين الحديد وبين بقية الفلزات من الرصاص والنحاس وغيرهما.

2 - إنّ بعض الروايات ذكرت السكين بدلا من الحديدة في سؤال السائل ، ممّا يدلّ على أنّ الحديد في تلك العصور يطلق على الحاد القاطع بصورة واضحة ، وهو المراد من الحديد في بقية الروايات.

ففي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا إبراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهن الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال علیه السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (2). وكذلك صحيحة زيد الشحّام قال : « سألتُ الإمام الصادق علیه السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح

ص: 233


1- إنّ هذا الرأي الذي انتهينا إليه - وهو أنّ المراد من الحديد الحاد القاطع - لم يكن هو الرأي المتبنى عند علماء الإمامية ، ولكن ساقنا إليه الدليل ، وقد تبنّاه آية اللّه السيد محمود الهاشمي حسب ما جاء في مقالته المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد 1 / ص 29 - 76.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1 ، وفي الخبر : « مَنْ وُلِّيَ قاضياً فقد ذبح نفسه بغير سكين » مجمع البحرين : مادّة ذبح.

بقصبة ؟ فقال علیه السلام : اذبح بالحجر والعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة » (1).

وهاتان الروايتان وإن وردتا في مقام عدم القدرة على السكين ( الحديد ) إلاّ أنّهما توضّحان المراد من الحديد الوارد في الروايات الاُخر ، بأنّ المراد منه السكين القاطع ( الحاد ) لا الفلز الخاص ، حيث كان سؤال الراوي في صورة عدم وجود السكّين ، وكان الجواب مبنيّاً على عدم وجود الحديد ، فيفهم أنّ الحديد هو السكّين الذي سأل السائل عن عدم وجوده.

3 - لا يمكن أن يكون المراد من الحديد هو الفلز الخاص المعروف وإن لم يكن محدّداً ، إذ لو كان الفلز المخصوص على شكل عصا فلا يصلح الذكاة به اتفاقاً ، وما ذلك إلاّ لأنّها ليست حديدة بالمعنى الأول ( الحاد ). وبهذا يفهم أنّ الحديد الوارد في الروايات قد اُخذ فيه معنى المحدّدية.

4 - إنّ روايات أهل السنّة في هذا الشرط المنقولة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يرد فيها التعبير بالحديد ، بل ورد الذبح بمحدد يقطع أو يخرق ، فقد ذكر علماء السُنّة أنّه يشترط في آلة الذبح شرطان (2) :

أ - أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدّها لا بثقلها.

ب - أن لا تكون سنّاً أو ظفراً.

وهذه الروايات تلقي الضوء على المراد من الحديد في رواياتنا ، فتكون قرينة على أن الحديد الوارد في رواياتنا هو الحادّ القاطع لا الفلزّ الخاص.

ص: 234


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
2- راجع عقد الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 586 ، والمغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 43 ، والشرح الصغير : ج 2 ، ص 155.

5 - قد وردت روايات عن النبي صلی اللّه علیه و آله مؤكّدة على لزوم تحديد الشفرة ( السكين الحاد ) وإراحة الذبيحة عند الذبح ، ممّا يؤيّد أنّ المراد من الحديد هو الحاد ، سواء كان من جنس الحديد أو بقية الفلزات.

فقد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى شأنه كتب عليكم الإحسان في كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » وفي حديث نبوي آخر أنّه صلی اللّه علیه و آله أمر أن تحدّ الشفار ، وأن توارى عن البهائم (1).

وقد ذكر في المسالك : من وظائف الذبح تحديد الشفرة وسرعة القطع ناسباً لها إلى النص (2).

6 - معتبرة الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي علیه السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود وأشباههما ، ما خلا السِنّ والعظم » (3). إشكال :

هل اُخذت خصوصية الحادّ والفلز المخصوص في آلة الذبح ؟

بمعنى أنّ الروايات التي ذكرت أنّه لا ذكاة إلاّ بحديد أو حديدة قد نظرت إلى كون الآلة من الفلز الخاص المعروف وأن يكون محدداً ، وبهذا لا يجوز الذبح بغير الحاد من الفلز الخاص ، كالسكين من الذهب أو الرصاص أو غيرهما.

ص: 235


1- سنن البيهقي : ج 9 ، ص 280.
2- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 133.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 5. أقول : مقتضى الصناعة يدلّ على أن الجمع بين : « لا ذكاة إلا بجديد » و « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما » هو أن الأفضل أن يكون الذبح بآلة محددة كما سيأتي ذلك .

الجواب : أنّ بين معنى الحديد بمعنى الحاد ، ومعنى الحديد بمعنى الفلز الخاص تبايناً ، كما أنّهما قد يجتمعان في مصداق واحد وقد يفترقان ، وحينئذ إذا كان المراد من الحديد كلتا الخصوصيتين المتباينتين في المعنى فهو استعمال لمادّة الحديد في كلا المعنيين ، وهو غير جائز كما بيِّن ذلك في الاُصول.

وحينئذ إمّا أنّ يكون المراد من الحديد الحادّ كما هو ظاهر المقابلة بين الحديد والحجر والقصبة ، أو يكون المراد من الحديد الفلز المعروف.

وبما أنّنا قد ذكرنا عدّة قرائن لإرادة الحادّ من الحديد فيتعين ارادته من الحديد.

وبهذا نخلص إلى أنّ آلة الذبح في الحالات الاعتيادية لابدّ أن تكون حادة قاطعة نافذة ، في قبال الحجر والقصب والعصا واشباه ذلك ممّا لم يكن حاداً بطبعه.

الإجماع على لا بدّية الفلزّ الخاص ( الحديد ) :

قد يدّعى الاجماع عند الإمامية على خصوصية الفلزّ الخاص في الذبح ، بالاضافة إلى فتوى الفقهاء بذلك ، وهذا يجعلنا نشك في النتيجة التي توصلنا إليها من عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في الذبح وإمكان الذبح بكلّ فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما ، فهل هذا الاجماع حجّة يمنعنا من التمسّك بالنتيجة السابقة ؟

الجواب : لقد نقل صاحب الجواهر قدس سره الاجماع فقال : « وأمّا الآلة فلا تصح التذكية ذبحاً أو نحراً إلاّ بالحديد مع القدرة عليه ، وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والصفر والرصاص والذهب وغيرهما بلا خلاف فيه بيننا ، كما في الرياض ، بل في المسالك ( عندنا ) مشعراً بدعوى الاجماع عليه كما عن غيره ، بل في كشف اللثام اتفاقاً كما يظهر لأنّه المتعارف في التذكية على وجه يشك في تناول

ص: 236

الاطلاق لغيره من القدرة عليه ، فيبقى على أصالة العدم » (1).

ولكنّ عبارة الجواهر « النافية للخلاف في الرياض والمثبتة للاتفاق في كشف اللثام ونقله لعبارة المسالك ( عندنا ) المشعرة بدعوى الاجماع » نفسها تدلّ على عدم وجود اجماع ولا ادعاء اجماع عند المتقدّمين ، بل والمتأخرين ، وذلك لأنّ زمان صاحب الرياض وكشف اللثام يعدّ - بالاصطلاح - من زمن متأخري المتأخرين ، فيكفي في عبارة الجواهر المحيط بآراء القدماء والمتأخرين عدم نقل الاجماع عنهم.

وأمّا فتاوى العلماء المتقدّمين والمتأخرين فهي تابعة لتعبير الروايات ، فالمهم في الأمر هو معنى الروايات القائلة : « لا ذكاة إلاّ بحديد » وقد تقدّم أنّ الظاهر منها ما يكون حاداً في طبعه ، في مقابل الحجر والليطة وامثالهما ممّا لا حادّية له بطبعه.

هل توجد خصوصية للحديد ؟

أقول : ذكر المشهور وجود خصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) في مقابل الحجر والقصبة والصفر والنحاس وأمثالها ، ولابدّ أن يكون الذبح بالحديد إذا وجدت القدرة عليه ، أمّا مع عدم القدرة عليه فيجوز الذبح بالحجارة والمروة والصفر والرصاص إذا فريت الأوداج وسال الدم بصورة متعارفة.

ولكن تقدّم منّا عدم الخصوصية للحديد ( الفلز الخاص ) ، بل يجوز الذبح بكل فلزٍّ حاد ، سواء كان حديداً أو نحاساً أو غيرهما من الفلزات.

أمّا الآن فنريد أن نقول بعدم وجود الخصوصية للفلز مطلقاً وإنّما العبرة بما يفري الأوداج من الأمور الحادّة ، سواء كانت فلزاً أو لا. والدليل على ذلك : أنّ

ص: 237


1- جواهر الكلام : ج 36 ، ص 99 - 100.

المستفاد من بعض الروايات ضابطة كلية في الذبح هي قطع الأوداج أو الحلقوم وخروج الدم المتعارف ، والروايات هي :

1 - صحيحة زيد الشحّام ، قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة ؟ فقال علیه السلام : اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » (1).

فجملة : « إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس به » بمثابة قاعدة في حليّة الذبح ، ولكن هذه القاعدة واضحة وجلية في الذبح بالسكين والحديد ، ويخشى من الذبح بغيرها من الحجر والعود والقصب عدم تحقّقها ، فحصل السؤال وجاء الجواب.

2 - صحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : « سألت أبا ابراهيم ( الإمام الكاظم علیه السلام ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهنّ الإنسان إذا لم يجد سكيناً ؟ فقال علیه السلام : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (2).

والفهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ السائل إنّما سأل عن الذبح بالقصبة إذا لم يجد سكيناً إنّما هو للخشية من عدم تحقّق الذبح الصحيح من قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وهذه الخشية تحصل عادة في صورة عدم وجود الشيء الحادّ بطبعه كالسكين ، وقد جاء الجواب من الإمام علیه السلام بأنّ اللازم هو قطع الأوداج وخروج الدم المتعارف ، وإن حصل من الليطة والحجر. وبهذا الفهم لا يكون عدم القدرة على الحديد قيداً في الذبح الصحيح كما ذكر المشهور ، بل هو سبب لحصول الشك في التذكية الشرعية بشيء لم يكن بطبعه حادّاً قاطعاً ، فحصل السؤال وجاء الجواب

ص: 238


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 2 من الذبائح ، ح 1.

مقيِّداً جواز التذكية بما هو قاطع للحلقوم وخروج الدم بصورة متعارفة ، وهو القاعدة المتقدّمة لحلّ الحيوان. ولا نرى معارضاً لهذا الفهم من الروايات ، وذلك لأنّ الروايات المعتبرة على قسمين :

القسم الأول : الروايات الناهية عن الذكاة إلاّ بالحديد ، ففي صحيح محمد بن مسلم ، قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام عن الذبيحة بالليطة والمروة ؟ فقال : لا ذكاة إلاّ بحديدة » (1).

وهذه الرواية لم تنة عن الذبح بالليطة والمروة ، بل قرّرت أنّ التذكية لابدّ أن تكون بشيء حاد ، وبما أنّ الليطة والمروة على قسمين : منه ما يكون حاداً ومنه غير ذلك فهي قد جوّزت الذبح بالمروة والليطة الحادتين ، فكأنّها قالت : لا ذبح إلاّ بالحاد.

القسم الثاني : الروايات المجوّزة للذبح بالعود والمروة وأشباههما ما عدا السنّ والعظم ، ففي معتبرة الحسين بن علوان عن الإمام الصادق علیه السلام عن أبيه ، عن علي علیه السلام أنّه كان يقول : « لا بأس بذبيحة المروة والعود واشباههما ما خلا السنّ والعظم » (2).

وبما أنّ الذبح معناه القطع فيكون المعنى : لا بأس بقطع المروة والعود للأوداج إذا خرج الدم. وهذه الرواية لم تكن في صورة عدم وجدان السكين أو الحديد ، بل هي مطلقة ، ولا حاجة لحمل المطلق على المقيّد لعدم العلم بأنّ الحكم واحد ، إذ يجوز أن يكون الحكم هو جواز التذكية بالحديد والسكين وبالمروة الحادة والليطة

ص: 239


1- المصدر السابق : ب 1 من الذبائح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ب 2 من الذبائح ، ح 5. أقول : إن صحيحة زيد الشحّام المتقدّمة قد جوّزت الذبح بالعظم، ولذا فإنّ أقوال فقهائنا استثنت السن والظفر ، كما عليه الرواية المروية عن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم « ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً » سنن البيهقي 9 : 246 .

الحادة أيضاً.

وهاتان الطائفتان من الروايات لا تعارض الروايات المتقدّمة التي فهم منها أنّ كل ما قطع الحلقوم أو الأوداج وخرج الدم فلا بأس به.

ويؤيّد هذا الفهم ما أفتى به القاضي في مهذبه حيث قال : « والذباحة لا تجوز إلاّ بالحديد ، فمن خاف من موت الذبيحة ولم يقدر على الحديد جاز أن يذبح بشيء له حدّة ، مثل الزجاجة والحجر الحاد أو القصب ، والحديد أفضل وأولى من جميع ذلك » (1).

ولكن أقول : إنّ هذا الاستظهار وإن كان يتّفق مع الفهم العرفي القائل بأنّ السكين إن وجدت وهي حادة وقاطعة بطبعها فالذبح إنّما يكون بها لتسهيل عملية الذبح وإجادته وإراحة الذبيحة ، وعندما لم توجد السكين فيجوز الذبح بكل آلة قاطعة من الحجر أو الليطة واشباههما ، إذ العرف لا يفهم بأنّ عدم وجود السكين يكون قيداً في صحة التذكية بالحجر الحاد والليطة الحادة. ولكن عندما نرجع إلى الروايات التي يُسأل فيها الإمام علیه السلام عن الذبح بالليطة والمروة فيأتي الجواب بصيغة : « لا ذكاة إلاّ بحديدة » أو « لا يصلح إلاّ بالحديدة » أو « اذبح بالحجر والعظم والقصبة إذا لم تصب الحديدة ... » نرى أنّ هذه الروايات كأنّها تقيّد جواز الذبح بالحجر الحاد إذا لم توجد الحديدة كما فهم المشهور.

ولكن أقول : إنّ الروايات التي استفيد منها القاعدة الكلية هي روايات صحيحة أكّدت أن قطع الحلقوم أو الأوداج وخروج الدم كاف في التذكية ، وهذه الروايات تكون قرينة على أن المراد ب « لا ذكاة إلاّ بحديدة » هو لا ذكاة مريحة ومطمأنّ بها إلاّ بحديدة ، وإلاّ فإنّ الذكاة بغير الحديدة قد جوّزتها الروايات المتقدّمة ، وهذا مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ».

ص: 240


1- الينابيع الفقهية : ج 21 ، ص 98 عن المهذب ، كتاب الصيد والذباحة.

إذن لم يبق عندنا إلاّ مخالفة فهم المشهور فقط ، ولا بأس به مع مساعدة الدليل عليه.

وأمّا أهل السنّة : فقد اشترطوا في آلة الذبح أن تكون محدّدةً بحيث تنهر الدم إذا فري الأوداج بها ( سواء كانت من الحديد أو غيره حتى الليطة أو الحجر المحدد بشرط أن لا تكون سنّاً أو ظفراً ) على خلاف في السنّ والظفر على ثلاثة أقوال.

ودليلهم : هو ما رواه رافع بن خديج عن النبي صلی اللّه علیه و آله حيث قال : « ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً » (1).

التذكية بالمكائن الحديثة

اشارة

وبعد هذه المقدّمة في معنى التذكية وبيان شروطها الشرعية فهل يطلق على الذبح بالمكائن الحديثة الذكاة الشرعية ، أو لا يمكن أن يطلق عليها ذلك ؟

والجواب : يمكن أن تطرح عدّة إشكالات ليستنتج منها عدم تحقّق التذكية أو عدم تحقّق الشروط المعتبرة فيها ، والاشكالات هي (2) :

الإشكال الأول : انتساب الذبح للآلة :

من حيث إنّ الذبح إذا تمّ بالماكنة الحديثة يكون الانتساب إلى الآلة قهرياً ، بينما ذكرت الآية القرآنية في حلية الأكل من الذبيحة أن يكون انتساب التذكية إلى الإنسان ، فقد قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ

ص: 241


1- راجع المغني : ج 11 ، ص 43 ، وعقد الجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 586 - 587.
2- ذكر أكثر هذه الإشكالات آية اللّه السيد محمود الهاشمي في مقالته حول الذبح بالمكائن الحديثة المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد الأول.

بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ... ) (1).

هذا ، بالاضافة إلى أن التذكية هي فعل الإنسان فلا تصدق بفعل غيره ، وقد دلّت على ذلك الروايات الدّالة على أنّه لا يكفي في الحلية زهاق روح الحيوان من قبل نفسه أو بفعل حيوان آخر ولو بقطع مذبحه وأوداجه ما لم يدركه الإنسان فيذكيه ، فعن أبي بصير عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا تأكل من فريسة السبع ولا الموقوذة ولا المتردّية إلاّ أن تدركها حية فتذكيه » (2).

الإشكال الثاني : عدم تحقّق التسمية :

وذلك لوجود الفاصل الزمني بين ذبح الحيوان وبين زمان تشغيل الآلة ، أو ربط الحيوان بها إذا صدرت التسمية من الذابح حين تشغيل الآلة أو ربط الحيوان بها لأجل الذبح ، إذ يكون الذبح بلا تسمية حين صدوره.

الإشكال الثالث : عدم تحقّق الاستقبال :

وهذا الاشكال مبني على اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، إذ لا يحصل عند الذبح بالماكنة توجيه مقاديم الذبيحة إلى القبلة ، أو وضعها على الجهة اليسرى متوجّهة للقبلة.

الإشكال الرابع : الذبح بغير الحديد :

وهذا الاشكال هو في صورة كون الذبح بالماكنة المشتملة على آلة الذبح بغير الفلزّ المعروف.

ص: 242


1- المائدة : 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 19 من الذبيحة ، ح 5 وغيره.
الإشكال الخامس : وهو قطع المنحر :

وهذا الإشكال نتيجة وجود الروايات الناهية عن قطع المنحر ، فتكون الذبيحة محرمة لذلك.

الاجابة عن الإشكالات الخمسة :

أما الاشكال الأول - وهو انتساب الذبح للآلة لا للانسان - فلا أرى له وجهاً بعد صدق عنوان الذبح بالماكنة ، إذ أنّ الانتساب إلى الفاعل عرفاً يكفي فيه أن يحصل الذبح بفعل الإنسان ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً ، ولذا يصدق القتل وينسب إلى الإنسان إذا سدّد رصاصته من بندقيته ، فحكم الماكنة التي يشغّلها الإنسان لأجل الذبح هو حكم البندقية والسكينة التي تفعل القتل أو الذبح ، فيصدق عنوان القاتل أو الذابح على الإنسان إذا حصلت النتيجة بفعله من دون تخلل شيء بين عمله وبين حصول النتيجة ، وكانت النتيجة قهرية لعمله.

وأمّا الاشكال الثاني - وهو عدم تحقّق التسمية من الذابح - فجوابه : أنّ الظاهر من أدلّة اشتراط التسمية هو حصولها حين الشروع في الذبح الذي هو عمل اختياري للفاعل ، وإن تحقّق الذبح في الحيوان متأخّراً عن ذلك زماناً. وبما أنّ الذبح في الماكنة يكون الشروع فيه عند تشغيلها أو عند تعليق الحيوان على الشريط السيّار المؤدي إلى الذبح فإنّ التسمية في هذا الحين تكون تسمية عند الشروع في الذبح ، فيصدق أنّه سمّى حين الشروع في الذبح.

ومثل هذا ما ورد في الصيد الذي اشترطت التسمية فيه حين رمي السهم أو إرسال الكلب المعلَّم ، مع أنّ الإصابة متأخرة زماناً عن ذلك ، على أنّ الفاصل الزمني إذا كان قصيراً فيعدّه العرف بحكم المتصل بزمان الذبح ، فيشمله اطلاق ذكر اسم اللّه عليه.

ص: 243

ويمكن أيضاً التخلص من هذا الاشكال بتكرار الذابح للتسمية إلى حين حصول الذبح بالماكنة.

تنبيهان :

الأول : بما أنّ الذبح بالماكنة يستوجب تشغيل عمال عديدين لأجل انجاز العمل ، وأنّ التسمية لابدّ أن تكون من الذابح فمن هو الذابح الذي يجب عليه التسمية لأجل حليّة الذبيحة ؟

الجواب : أنّ تعيين الذابح في الماكنة يكون بتعيين الشخص الذي يتحقّق على يده الجزء الأخير من سبب الذبح ، فلو فرضنا أنّ شخصاً معيناً شغّل الماكنة وجاء آخر وأخذ بتعليق الذبائح على الشريط المتحرك لأجل الذبح فإنّ هذا الشخص الأخير يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ، فيجب عليه التسمية ، كما أنّنا فرضنا أنّ شخصاً أخذ بتعليق الذبائح والشريط ساكن ، ثم جاء آخر وشغّل الماكنة لأجل الذبح ، فإنّ هذا الشخص الأخير المحرك للماكنة يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً.

إذن يجب التسمية على مَنْ يحقّق الجزء الأخير الذي يحصل الذبح بعده (1).

الثاني : إذا كانت الذبائح المعلّقة على الشريط الدائري للذبح كثيرة فهل يكفي تسمية واحدة عليها جميعاً ، أو لابدّ من تعدد التسمية بتعدد الذبائح ؟

والجواب على هذا التساؤل يختلف باختلاف الماكنات المعدّة للذبح ، فإن كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة مرّة واحدة فيكفي للحلّ تسمية واحدة لصدق اسم اللّه عليها.

ص: 244


1- وهذا شيء عرفي يمكن تشبيهه بالمدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه موجبة لاطلاقه ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الواضع لها. أمّا المدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه غير كافية لاطلاقها ، بل لابدّ من سحب آلة معينة لاطلاق القذيفة ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الساحب للآلة المعيّنة التي يحصل الاطلاق بعدها.

أمّا إذا كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة بالتدريج ، فلا يكفي للحِلِّ تسمية واحدة ، لأنّه لا يصدق عليها حين الذبح أنّها ممّا ذكر اسم اللّه عليها. نعم ، يصدق عليها ذكر اسم اللّه تعالى قبل الذبح ، وهو غير كاف في حلّية الذبيحة ، وحينئذ لابدّ من تكرار الذابح للتسمية على كل ذبيحة حين الشروع في ذبحها.

وأمّا الإشكال الثالث - وهو عدم تحقّق الاستقبال للقبلة في الذبيحة حين ذبحها - فجوابه : إمّا بناءً على اشتراط الاستقبال ( كما ذهب إليه الإمامية وبعض من غيرهم كما تقدّم ) فيكفي فيه أنّ تكون مقاديم الذبيحة حين الذبح أو يكون منحرها مواجهاً للقبلة ، فإنّه يصدق عليه أنّه ذبح لجهة القبلة. وإمّا أن يكون مضجع الذبيحة حين الذبح على شمالها أو يمينها فهذا ليس عليه أي دليل.

وعلى هذا فيكفي في صدق استقبال القبلة بالذبيحة أن يكون الذبح بشكل عمودي على أن توجّه المقاديم أو المنحر إلى القبلة.

وإمّا بناء على عدم اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، بل هو سنّة باعتبار أنّ جهة القبلة أفضل الجهات ، فلا إشكال في أصل عدم استقبال الذبيحة القبلة أيضاً.

وأمّا الإشكال الرابع - وهو أنّ الذبح بالماكنة يكون بغير الحديد من الفلزات الاُخرى ، وقد ورد أنّ الذبح لا يكون إلاّ بالحديد - فجوابه ما تقدّم من أنّ المراد بالحديد هو الحادّ في مقابل الذبح بشيء ليس بحادّ ، كالقصبة أو الحجارة أو غيرهما ممّا لا يكون حاداً في ذلك الزمان ، ولذا نجد الروايات - والفقهاء تبعاً لها - قد جعلت الحديد في مقابل الزجاج والحجر والقصب ، ولم تجعله في مقابل بقية الفلزات ، حتى يفهم من الفلز الخاص المعروف (1).

ص: 245


1- راجع عبارة المبسوط : ج 6 ، ص 263 ، وموسوعة الينابيع الفقهية : ج 21 ، ص 98 - 290 من كتاب المهذب والغنية والوسيلة والشرائع والمختصر النافع والجامع للشرائع والقواعد واللمعة وغيرها.

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه مشهور علماء الإمامية فلا يرتفع الاشكال إلاّ بأنّ تكون الآلة الذابحة من جنس الحديد ( الفلز الخاص ) ، فإذا حصل هذا فلا اشكال من ناحية الذبح بالآلة عند الفريقين.

وأمّا الإشكال الخامس - وهو أنّ الذبح بالماكنة يؤدّي إلى قطع الرأس عمداً وقد نهي عنه ، فتكون الذبيحة محرّمة - فجوابه : أنّ النهي الوارد في إبانة الرأس عمداً في صحيحة محمد بن مسلم (1) عن الإمام الباقر علیه السلام إذ قال : « لا تقطع الرقبة بعدما تذبح » قد اختلف الفقهاء في افادته للحرمة ، فذهب جمع إلى الكراهة ، وذهب بعض إلى الحرمة.

ولكنّ الصحيح على كلا التقديرين عدم حرمة الذبيحة بهذا الفعل. فقد ذكر الشهيد الثاني في الروضة البهية فقال : « ويكره إبانة الرأس عمداً حالة الذبح ، للنهي عنه في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « لا تنخع ولا تقطع الرقبة بعدما تذبح » وقيل - والقائل الشيخ في النهاية وجماعة - بالتحريم لاقتضاء النهي له مع صحّة الخبر وهو الأقوى. وعليه هل تحرم الذبيحة ؟

قيل : نعم ، لأنّ الزائد عن قطع الاعضاء يخرجه عن كونه ذبحاً شرعياً فلا يكون مبيحاً ، ويضعّف بأنّ المعتبر في الذبح قد حصل ، فلا اعتبار بالزائد ، وقد روى الحلبي في الصحيح عن الإمام الصادق علیه السلام حيث سئل عن ذبح طير قطع رأسه أيؤكل منه ؟ قال : « نعم ، لكن لا يتعمّد قطع رأسه » وهو نصّ ، ولعموم قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) فالمتجه تحريم الفعل دون الذبيحة (2).

وقد ذهب مشهور أهل السُنَّة إلى حلّية الذبيحة بهذا الفعل ، فقد ذكر في

ص: 246


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 15 من الذباحة ، ح 2.
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية : ج 7 ، ص 234 ، جواهر الكلام : ج 36 ، ص 120 - 123.

المغني قائلاً : « ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك. نصّ عليه أحمد فقال : لو أنّ رجلاً ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله. روي عن عليٍّ رضی اللّه عنه أنّه قال : « تلك ذكاة وحية ». وأفتى بأكلها عمران بن حصين ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري. وقال أبو بكر : لأبي عبد اللّه فيها قولان ، والصحيح أنّها مباحة ، لأنّه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فاُبيح كما ذكرنا ، مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف » (1).

النتيجة : وبما تقدّم من ردّ الاشكالات الخمسة على طريقة الذبح بالمكائن الحديثة يتّضح أنّه لا اشكال في الذبح بالماكنة إذا حصلت التسمية من الذابح مع توجيه مقاديم بدن الذبيحة إلى القبلة إذا كان الذابح مسلماً على رأي مشهور الإمامية ، وحتى لو كان كتابياً على رأي مشهور أهل السُنَّة ، وكانت الشفرة ( السكين ) من جنس الحديد على رأي مشهور الإمامية ، أو من غير جنس الحديد على ما ذكرنا ، وذلك لتوفّر شروط حليّة الذبيحة.

نعم هناك إشكالات اُخر ، هي :

1 - إنّ الغالب في هذه الطريقة أن يجتمع معها الصعق بالكهرباء قبل وصول الحيوان إلى الآلة الذابحة بوقت قصير ؛ لغرض أن يكون الحيوان مشلولاً ومنعدم الحركة ، فإذا اضفنا إلى ذلك قول المتخصّصين بأنّ بعض الحيوانات يموت بهذا الصعق فحينئذ يحصل عندنا علم اجمالي بموت بعض الحيوانات قبل إجراء التذكية لها ، وبهذا لا يمكن الحكم بحلّ اي ذبيحة من هذه الحيوانات التي نعلم بحصول ميتة فيها وهي شبهة محصورة.

2 - إنّ الذبيحة المعلّقة على الشريط الدوّار ليست كلّها على نسق واحد من

ص: 247


1- المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 50.

ناحية الطول ، وحينئذ فقد تضرب الآلة الحادّة موضع الذبح وقد تضرب الرأس نفسه أو الصدر ، وحينئذ لا تكون كل الحيوانات مذكاة لحصول علم اجمالي بقتل بعضه بما ليس ذبحاً شرعياً.

وحينئذ لا يمكن الحكم بحل هذه الطريقة إلاّ إذا تأكّدنا من أنّ الحيوان الذي صعق بالكهرباء لم يمت وقد ذبحته الآلة الحادة في موضع التذكية.

طرق اُخرى للتذكية:

طرق اُخرى للتذكية (1) :

هناك طرق اُخرى قديمة وحديثة متداولة لازهاق الروح ، لابدّ من تسليط الضوء عليها لمعرفة أنّها هل تعتبر تذكية شرعية يمكن الحكم بحلية الحيوان الذي وقعت عليه أم لا ؟

وقبل البدء في تعداد هذه الطرق بصورة مختصرة نذكر بأنّ التذكية الشرعية وشروطها التي تقدّمت هي عبارة عن قطع الأوداج الأربعة من قبل مسلم بآلة حادة مستقبلا للقبلة مع التسمية ( ذكر اسم اللّه على الذبيحة ) ، وقد ذكر الاطباء فوائد مهمّة صحّيّة لهذه العملية التي هي في العرف الطبي عبارة عن صدمة نزيفية تجتذب كل الدم السائل إلى الدورة الدموية واخراجه من خلال العروق المقطوعة حتى يتوقّف القلب وينقطع النفس.

أمّا ما هي الطرق الاُخرى للتذكية ؟ فالجواب :

1 - تدويخ الحيوان قبل الذبح :

وهي على صور :

أ - تدويخ الحيوانات الكبيرة كالماشية والخيول ؛ وذلك بضرب العظم

ص: 248


1- هذه الطرق اعتمدنا في توضيحها على بحث « الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة » للدكتور محمد الهوادي الاستاذ بجامعات المانيا من ص 21 - 25.

الجبهي للحيوان بمطرقة ضخمة تحدث ألماً شديداً للحيوان وتفقده الوعي وينهار مباشرةً ثم يتم تذكيته باليد.

وهذه الطريقة قديمة قد تخلّت عنها المجازر الحديثة واستبدلتها بطرق حديثة للتدويخ سنشير إليها.

ب - تدويخ الحيوان بواسطة المسدس الواقذ (1) الذي يحدث ثقباً في جوف الجمجمة ( دماغ الحيوان ) يؤدّي إلى فقدان الوعي بشكل فوري نتيجة لتخريب جزء من البنية الحيّة من الدماغ وهذا هو المسدس الواقذ الابري. وهناك قسم من المسدسات تحدث انهداماً في العظم الجبهي يفضي إلى فقدان الوعي ، وهذا هو المسدس الواقذ الكروي.

ج - التدويخ بالصدمة الكهربائية : وهي طريقة حديثة نصّ عليها القانون البرطاني ( سنة 1958 م ) تستعمل في بعض الحيوانات كصغار العُجول والشياة والأرانب ، وخلاصتها : إمرار تيار كهربائي ذي شدة معينة ولمدّة ثابتة إلى صدغي الحيوان يحدث فقدان الوعي مباشرة ، ثم يحدث طور من التقلص العضلي المزمن قبل الارتخاء التام (2).

وقد نقل أن في نهاية الثمانينات من القرن العشرين تستخدم المجازر النيوزيلندية الصدمة الكهربائية لتدويخ الماشية ؛ وذلك باستعمال تيار كهربائي شدته ( 5 / 2 أمبير ) يؤدّي إلى توقف القلب.

د - التدويخ بغاز ثاني اوكسيد الكاربون : وهي طريقة قد يلجأ إليها لتدويخ

ص: 249


1- هناك نوعان من المسدسات الواقذة : النوع الأول مسدس واقذ إبري ، بمعنى أن يكون المتفجر الناري يدفع سهاماً تصادمية تنتهي برأس ابري. والنوع الثاني : مسدس واقذ كروي ، بمعنى أن يكون رأسه التصادميّ ينتهي بكتلة نصف كروية.
2- لقد عدّل استخدام هذه الطريقة في الطيور والدواجن سنة 1970 م بامرارها في حمام مائي مكهرب ليجمع لها الغرق والصعق.

الشياه والماشية ، استعملت في احدى المصانع المحلية بأمريكا سنة 1950 م ثم انتقلت إلى الدانمارك ثم شملت معظم الدول الأوروپية ، وخلاصتها : حبس الحيوان في بيئة هوائية تحتوي على 70 % من غاز ثاني اوكسيد الكاربون فيبقى الحيوان محتفظاً بوعيه خلال عشرين ثانية ، ثم يحدث فقدان الوعي مباشرة ، وتتبعه منعكسات حركية تستمر لمدّة عشر ثوان ، ثم تحدث حالة الارتخاء العضلي إذا حصلت حالة التخدير العميق ، وتستمر هذه الحالة عادة من دقيقتين إلى ثلاث دقائق ، ولا يؤدّي هذا التخدير العميق بواسطة غاز ثاني اوكسيد الكاربون توقّف القلب إلاّ في حالات نادرة.

وفي حالة التدويخ يلاحظ أنّ زمن النزف للدم أطول من الوقت المعتاد بدون تدويخ.

ه - التخدير قبل الذبح بواسطة مادّة مخدرة كالبنج بشكل حقن أو بتقديم طعام فيه مادّة البنج.

2 - الخنق بالطريقة الانجليزية :

وهي طريقة تعتمد على خرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس ، ومن خلال هذا الخرق ينفخ بمنفاخ فيختنق الحيوان نتيجة لضغط هواء المنفاخ على رئتي الحيوان ، وهذا الاختناق يحول دون نزيف الدم وإنهاره (1).

ص: 250


1- اقول : إنّ ما تقدّم من العمليات التدويخية التي تسبق عملية الذبح إنّما هو لأجل أن لا يشعر الحيوان بالألم والضيق اثناء الذبح ، فهم يعتبرون أن تدويخه بالصور المتقدّمة أو خنقه بالطريقة الانجليزية ليس فيها أي ألم أو ضيق على الحيوان ، إلاّ أنّ هذا الرأي مخالف لرأي كثير من العلماء الذين يعتقدون بأنّ هذه العمليات حتى التدويخية المتطوّرة فيها ضيق شديد وألم على الحيوان. ولعلّي أقطع بأنّ اتباع الأداب الشرعية في الذبح أسهل على الحيوان من هذه العمليات التدويخية أو الخنقية أو الغرقية. على أن القوانين الغربية التي لا تُجيز تسويق لحوم الحيوانات الميتة لا تشترط بوضوح في طريقة التدويخ أن لا يؤدّي إلى موت الحيوان قبل الذبح ، وطريقة الخنق الانجليزية شاهد على ذلك.

وإلى هنا انتهينا من ذكر الطرق الحديثة والقديمة للتذكية ، فما هو الحكم الشرعي اتجاهها ؟

والجواب :

1 - بالنسبة للخنق بالطريقة الانجليزية حيث تؤدّي إلى موت الحيوان بالاختناق - فالحكم بالتحريم واضح ، إذ المنخنقة محرّم أكلها بالنص القرآني ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ... ) (1).

وكذا الحكم جار في كل خنق يؤدّي إلى ازهاق الروح ، كاطلاق غاز ثاني اوكسيد الكاربون في غرف مقفلة ، يؤدي إلى ازهاق الروح.

2 - وأمّا بالنسبة إلى التدويخ - بصوره المتقدّمة - فتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى وقف قلب الحيوان وموته - كما قد يحدث بصورة نادرة - قبل إجراء عملية الذبح عليه ، ففي هذه الحالة يكون الحيوان ميتة ولا ينفعه الذبح بعد الموت.

وتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى جعل الحيوان فاقد الوعي ( كما هو الفرض ) وسيعود الوعي إليه بعد مدّة معينة ، ففي هذه الحالة يكفي إجراء التذكية على الحيوان لحلِّها فيكفي خروج الدم المتعارف في أمثال هذه الحيوانات المدوّخة وان كان زمن النزف فيه أطول من الوقت المعتاد بدون التدويخ.

وأمّا إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بالحياة حركته بعد التذكية ( كحركة الذنب والاُذن ) وذلك للروايات الصحيحة : منها صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق علیه السلام المصرِّحة باعتبار الحركة بعد الذبح ، قال : « سألته

ص: 251


1- المائدة : 3.

عن الذبيحة ؟ قال : إذا تحرك الذنب والطرف أو الاُذن فهو ذكي » (1).

ومنها : صحيحة زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « ... فإن ادركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد ادركت ذكاته فكله » (2).

نعم ، هناك رواية الحسين بن مسلم (3) التي اكتفت بخروج الدم المعتدل ( الخارج بدفع لا بتثاقل ) ، لكن سندها غير تام ، ومن اعتمدها من الفقهاء جعل أحد الأمرين كافياً في حليّة الذبيحة ، وبعض اعتبر اجتماعهما شرط لحلية الذبيحة ، لكن الأقوى هو الاكتفاء بحليّة الذبيحة بالحركة بعد التذكية لصحة دليله وضعف غيره.

وعلى هذا فمن الطبيعي حرمة الحيوان المشكوك حياته إذا اُجريت عليه التذكية ولم يتحرك منه شيء ، وهذا هو مفهوم صحيحتي الحلبي وزرارة المتقدّمتين ، أو لم يتحرك منه شيء ولم يخرج الدم بصورة معتدلة على الرأي الآخر.

تنبيه :

إنّ التدويخ إذا اُجري على عشرين رأس من الغنم ، وحصل لنا قطع بوقف قلب بعضها من هذا التدويخ وحصل الذبح للجميع ولم نعلم على وجه التعيين ذلك البعض الذي وقف قلبه نتيجة التدويخ فالحكم هنا يكون بحرمة أكل جميع العشرين من الغنم ؛ وذلك لحصول العلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة ، فيحرم الجميع لهذه الشبهة الموضوعية والعلم الاجمالي الذي حصل فيها.

ص: 252


1- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 11 من الذباحة ، ح 3.
2- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 12 من الذباحة ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 12 من الذباحة ، ح 2.
الآداب الشرعية في التذكية :

روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدُكم شفرته وليُرح ذبيحته » (1).

وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله لمن حدّ شفرته أمام الشاة : « أتريد أن تميتها ميتتين ، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ».

وقال الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام : « لا تذبح الشاة عند الشاة ، ولا الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه » (2).

ومن هذه النصوص المتقدّمة نفهم أن الإسلام أراد إراحة الحيوان عند الذبح ، ولكن كيف لنا إراحة الحيوان عند الذبح ؟

ذهب بعضٌ (3) إلى أن إراحة الحيوان بصورة موضوعية تكون من خلال علامات رئيسية هي الألم والكرب (4) والوعي ، فالألم يسبب الكرب ، والكرب قد يحدث لأسباب عديدة احدها الإحساس بالألم ، وحينئذ إذا أفقدنا وعي الحيوان فيزول الكرب والإحساس بالألم.

أقول : لابدّ لإراحة الحيوان من غياب الألم أو إنقاصه إلى الحدّ الأدنى عند الذبح الذي هو العنصر الرئيسي في اراحة الحيوان ، وهذا يتوقّف على أن تكون آلة

ص: 253


1- اخرجه مسلم في باب الأمر بالاحسان بالذبح.
2- الكافي : ج 6 ، ص 230.
3- نقل هذا الرأي الدكتور محمد الهواري في مقالته حول الذبائح والطرق الشرعية في انجاز الذكاة عن دراسة مقتبسة من رسالة جامعية لذيل شهادة الدكتوراه من اعداد « إن كاترين فيرمو » بعنوان الذبح الشرعي الديني الحلال والشيخيتا عام 1994 - 1995 م.
4- الكرب هو الخوف.

الذبح حادّة جداً ، ولكن حدّها ينبغي أن لا يكون أمام الحيوان الذي يتولد له خوف وكرب من هذه الحالة.

وعلى هذا فينبغي أن نتجنّب أيّ عملية تخيف الحيوان عند الذبح مثل الضجيج الذي يحدث عند الذبح ، ورائحة الدم الذي يخرج من حيوان نتيجة ألم وخوف ، حيث ثبت أن الدم الذي يخرج على الصفة المتقدّمة يؤدّي إلى كرب الحيوانات الاُخرى ، بخلاف الدم الذي يخرج من حيوان هادئ حيث لا يسبب أي خوف للحيوانات الاُخرى ، بل تقوم الحيوانات الاُخرى بلعق هذا الدم الذي خرج بهدوء.

أمّا فقد الوعي في الحيوان بواسطة مسدس واقذ أو بواسطة الصعقة الكهربائية أو بغاز ثاني اوكسيد الكاربون ، فإنّ ثبت أنّ هذه الأمور لا توجد أي أذىً او خوف عند الحيوان ولا توجب توقف قلبه وإماتته فلا بأس بها ، وتكون منسجمة مع النصوص الشرعية التي أمرت باراحة الذبيحة عند الذبح ومصاديق جديدة لها. وأمّا إذا كان فيها نوع أذىً وخوف للحيوان فتكون منافية للغرض الذي جاءت من أجله ، حيث أوجدت خوفاً أو أذىً للحيوان ، وقد تكون أكثر من خوفه وأذاه عند الذبح وهو واجد لوعيه تماماً ، ولهذا نرى أنّ فقدان الوعي في الحيوان إنّما يكون من الآداب الشرعية إذا خلا من الأذى والكرب للحيوان ، وإلاّ فلا يكون من آداب الذبح.

حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :

وهذه المسألة قد عبرّ عنها علماء الإمامية ب ( الشبهة الموضوعية ) لأنّ الحكم واضح من حيث حلية الذبيحة إذا كان الذابح مسلماً ، وحرمتها إذا كان غير مسلم كما هو الصحيح. ولكن الاشكال في حلية الذبيحة قد جاء من الموضوع

ص: 254

الخارجي الذي حقّق الذبح ، هل هو مسلم أو غير مسلم ؟

وهذا البحث لا يكون علمياً إذا شككنا في اسلام الذابح أو كتابيته ، بناءً على ما ذهب إليه مشهور أهل السنة (1) وبعض من غيره من حلية ذبيحة الكتابي وذبح ما يستحلّه ، لأنّ الذبيحة حلال على كل حال إذا توفّرت بقية شروط الذبح.

نعم ، يكون هذا البحث مثمراً لأهل السنّة ومن يرتأي رأيهم في صورة كون الشك في اسلام الذابح أو كونه كافراً غير كتابي ، فتكون الشبهة موضوعية أيضاً ، بمعنى أنّها نشأت من الموضوع الخارجي مع معرفة الحكم في صورة كون الذابح مسلماً أو كونه كافراً غير كتابي.

وعلى كل حال فقد يعمّم موضوع البحث لما إذا شُكَّ في تحقّق شروط الذبيحة أو لم يسمّ عمداً ، أو شك في تركه في توجيه الذبيحة إلى القبلة عمداً أو سهواً ، أو نشك في فري الأوداج الأربعة بآلة حادة ، أو بالسكين بناءً على من يشترطها أو يشترك الفلزّ الخاص ، أو قطعها بيده ، وهكذا ممّا يرجع الشك إلى الموضوع الخارجي.

وأمّا حكم هذه المسألة فتوجد عندنا قاعدة واستثناء :

أمّا القاعدة فهي عامّة في كل حكم قد شرط (2) بأمر آخر ، فما لم يتحقّق ذلك الأمر لا يتحقّق الحكم خارجاً ، وحينئذ يكون الحكم في موردنا عدم جواز الأكل من الذبيحة للذي يشك في اسلام الذابح ، فلا يدري أنّه مسلم أو ملحد ، أو لا

ص: 255


1- راجع المغني لابن قدامة : ج 11 ، ص 54 وما بعدها ، والجواهر الثمينة : ج 1 ، ص 584 ، والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك : ج 2 ، ص 154. هناك اختلاف شديد بين أهل السنة في حلية ذبيحة الكتابي مطلقاً ، أو في صورة سماع تسميته ، أو في ذبحه لنفسه ما يستحلّه ، أو ذبحه المسلم ، راجع في ذلك الجواهر الثمينة .
2- المراد من الشرط هنا هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » كما يقال : إنّ الوضوء شرط الصلاة.

يدري أنّه مسلم أو غير مسلم بناء على الرأي الآخر. وقد طابق هذه القاعدة أيضاً أصل عدم التذكية ، لأنّ شرط الأكل هو التذكية الشرعية ، وهذا الأمر مشكوك في تحقّقه ، كما هو الفرض ، والأصل يقتضي عدم التذكية ، لأنّها أمر وجودي يشك في تحقّقه ، فتبقى حرمة الأكل على حالها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصلاة التي اشترط في صحتها أن يكون الملبوس غير ميتة ، فالقاعدة تقول بعدم جواز الأكل وعدم صحة الصلاة إلاّ بما علم أنّه مذكّى (1).

وقد اشار إلى هذا صاحب الجواهر إذ قال : « إنّ المشكوك فيه باعتبار عدم

ص: 256


1- وقد ذكر المشهور نجاسة الجلد أو اللحم ، بالاضافة إلى عدم جواز اكله وعدم جواز الصلاة فيه ، لأنّ المشهور قد جعل عدم التذكية ميتة ، فإذا كان أصل عدم التذكية جارياً ، فاللحم حرام أكله ، ولا يجوز الصلاة في جلده وهو نجس. راجع فوائد الاُصول ، تقريرات الميرزا النائيني قدس سره : ج 1. ص 384 ، إذ قال : « لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الاُصول العملية. هذا ولكن يظهر من بعض الأساطين التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدّم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه ». وراجع مستمسك العروة الوثقى : ج 1، ص 328 حيث نقل عن الحدائق نجاسة الجلد المطروح - الذي لا يعلم أنه مذكى أم لا - إلى المشهور لأصالة عدم التذكية. وراجع المحكم في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم : ج 4 ، ص 119 و 120 . بينما ذكر بعض - كصاحب الحدائق وغيره - أنّ الطهارة التي هي شرط في الصلاة يكفي فيها احتمال التذكية ، وحينئذ تجري قاعدة الطهارة في المقام، فيحصل التفكيك بين حرمة الأكل وطهارة الجلد واللحم ، باعتبار أن الأكل وكذا جواز الصلاة في الجلد) لابد فيهما من احراز التذكية ، وما لم تحرز التذكية لا يجوز أحدهما . بينما طهارة اللحم والجلد يكفي فيهما احتمال التذكية الذي هو موجود في المقام . وقد وافق صاحب الحدائق السيد الخوئي واللّه ولكنه خالفه في دليل طهارة اللحم والجلد فقال : إنّ الطهارة وجواز الانتفاع بمشكوك الحلّ أو الحرمة هو من باب أنّ النجاسة وحرمة الانتفاع إنما رتبا على موضوع الميتة، واستصحاب عدم التذكية أو إحالة عدم التذكية لا يثبتا الميتة إلا بالأصل المثبت (الذي ليس بحجة كما قرر في الأصول) فلا تترتب النجاسة ولا حرمة الانتفاع بالمشكوك ذكاته . فقه الشيعة : تقريرات الإمام الخوئي : ج 2، ص 393 - 396.

العلم بتذكيته وعدم أمارة شرعية تدلّ عليها محكوم بأنّه ميتة لأصالة عدم التذكية » (1).

والدليل على ذلك - بالاضافة إلى ما تقدّم من - النصوص الشرعية التي منها :

قول الإمام الصادق علیه السلام لزرارة في موثّق ابن بكير : « ... فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكاه الذابح » (2) بناءً على أنّ التذكية شرط في حلية الأكل كما هي شرط في لباس المصلّي ، أو نستفيد ذلك من قوله علیه السلام : « وكل شيء منه جائزة إذا لم تكن راجعة إلى ألبانه ».

أمّا الاستثناء فهو في صورة ما إذا شككنا في إسلام الذابح ، أو شككنا في توفر شرائط الذبح ، ولكن كان المشكوك في يد المسلمين بأنّ كان في سوقهم أو أرضهم ، وكان عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، فإنّه يجوز اكله والصلاة في جلده. وقد دلّ على هذا الاستثناء روايات صحيحة منها :

1 - صحيح الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها ؟ فقال علیه السلام : اشترِ وصلِّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه » (3).

2 - صحيح أحمد ابن أبي نصر عن الإمام الرضا علیه السلام « وقد سأله الخفّاف ياتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو ام لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه ؟ قال علیه السلام : نعم أنا أشتري الخف من السوق ويصنع

ص: 257


1- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 50.
2- وسائل الشيعة : ج 3 ، ب 2 من لباس المصلي ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 2.

لي واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (1).

3 - وفي موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت له : وإنّ كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (2).

وقد يقال هنا بجريان قاعدة اُخرى في خصوص ما إذا شككنا في شرائط الذبيحة بعد إحراز أنّ الذابح مسلمٌ ، وهي قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة التي هي مقدّمة على أصالة عدم التذكية (3).

ولكن ذكر الشيخ النائيني قدس سره في فوائد الاُصول بأنّ أصالة الصحة إنّما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، وأمّا إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال فلا تجري فيه اصالة الصحة (4).

تنبيهات :

1 - ما المراد من الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ؟

الجواب : إنّ المراد من الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة هو الاستعمال الاقتضائي أو الاستعدادي لا الفعلي من كل جهة ، فإذا كان الجلد الذي يعرض

ص: 258


1- المصدر السابق : ح 6.
2- المصدر السابق : ح 5.
3- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 56 حيث أرجع قاعدة سوق المسلمين ويد المسلم إلى أصالة صحة فعل المسلم.
4- فوائد الاُصول : ج 4 ، ص 656.

للبيع يمكن أن يُجعل ظرفاً للماء ، كما يمكن أنّ يجعل ظرفاً للقاذورات ، وكان اللحم المعرّض في السوق للبيع يمكن أن يأكله الإنسان ، كما يمكن أنّ يقدّم غذاء للقطط ، فهذا كاف في صحة الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة (1).

كما أنّ الموجود في سوق المسلمين أو أرض الإسلام لا يكفي في الحلّية للأكل أو جواز الاستعمال في الصلاة إذا لم يعلم استعماله الاقتضائي أو الاستعدادي في ما يشترط فيه الطهارة ، كما إذا وجد في السوق مع احتمال إرادة احراقه أو اعطائه للحيوانات احتمالا معتدّاً به ، أو احتمل أن يكون فريسة سبع كذلك (2).

2 - ما المراد من السوق الوارد في الروايات ؟

الجواب : إنّ كلمة « السوق » في الروايات منصرفة إلى سوق المسلمين ؛ وذلك لعدم وجود سوق للكفار في بلاد المسلمين يتعاطون فيها ما يعتبر فيه التذكية من لحوم أو جلود أو شحوم. كما أن الروايات ذكرت عدم العبرة بسوق الكفار ، كصحيحة الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا الإمام الباقر علیه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون ؟ فقال علیه السلام : « كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه » (3).

3 - ما هو ميزان معرفة سوق المسلمين ؟

الجواب : إنّ الميزان في معرفة سوق المسلمين أو أرضهم من غيرهم هو الميزان الذي ذكره الإمام الصادق علیه السلام في جواب سؤال اسحاق بن عمار المتقدّم : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » وهذا الميزان غير مناف للعرف

ص: 259


1- راجع مهذب الاحكام للسيد السبزواري : ج 5 ، ص 277.
2- راجع جواهر الكلام : ج 8 ، ص 57.
3- وسائل الشيعة : ج 16 ، ب 29 من الذبائح ، ح 1.

أيضاً ، فيميّز سوق الإسلام بأغلبية المسلمين فيه ، سواء كان حاكمهم مسلماً أم لا ، وحكمهم نافذاً أم لا.

4 - لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم :

لقد ذكر الفقهاء أنّه لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم ، بمعنى أن سوق المسلمين أو أرضهم يكون كاشفاً نوعيّاً عن كون البائع مسلماً ، وإلاّ فلا دخل للبناء في السوق من غرف أو سقف. وعلى هذا فإنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرضهم هو عبارة عن أمارة يد المسلم إذا كان المسلم يستعمل ما في يده في ما يشترط فيه الطهارة ( كالصلاة مثلاً ) فلا اثنينية بين أمارة سوق المسلمين ويد المسلم في الحكم بتذكية المشكوك الذي نحن بصدده.

وبعبارة أدقّ : إنّما يكون المقصود أولاً وبالذات في أمارة التذكية هو يد المسلم وتصرفه في اللحم أو الجلد في ما يشترط فيه الطهارة ، ويكون السوق طريقاً إليها ، فلا تكون يد المسلم في قبال سوق المسلمين.

وهكذا نخلص إلى أنّ ما وجد في يد المسلم أو سوق المسلمين أو أرضهم ولا يعلم ذابحه قد حكم الشارع بحلية الذبيحة ( كما ذكرت الروايات ) وحَكَمَ الشارع على الذابح بأنّه مسلم ، ولذا عند موته يجب تغسيله ودفنه وغيرهما من احكام المسلمين (1).

وعلى ما تقدّم لا يجوز الشراء من معلوم الكفر ولو كان في سوق المسلمين ، لما ذكرنا من أن العبرة هي يد المسلم الذي يستعمل السلعة في ما يعتبر فيه الطهارة ، ولا خصوصية للسوق.

ومن نافلة القول أنّ نبيّن أن المفروض في كل مسلم معرفته بالأعمال المشترط فيها الطهارة ومقيّد بها غالباً.

ص: 260


1- جواهر الكلام : ج 8 ، ص 56.

5 - هل يستحب الاجتناب عن مشكوك الذابح ؟

بعد أن ذكرنا حلية أكل اللحم المشكوك ذابحه « أو المشكوك حلية أكله من ناحية الشبهة الموضوعية » فهل يوجد دليل على استحباب اجتنابه ؟

والجواب على ذلك : أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره ذكر حسن الاحتياط بترك الأكل ، حيث إنّ الاحتياط حسن عقلاً وراجح شرعاً في كل موضع لا يلزم منه الحرام ، وما قيل من أنّ الاحتياط يلزم منه العسر والحرج واختلال النظام فإنّه في صورة وجوب الاحتياط ، لا في حسنه واستحبابه (1) ، وعليه فيستحب اجتناب اللحم المشكوك ذابحه بلا كلام.

هذا ، وقد ذكر صاحب الجواهر قدس سره : أنّ « ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح واللحوم والجلود يجوز شراؤه ، ولا يلزم الفحص عن حاله أنّه جامع لشرائط الحلّ أو لا ، بل لا يستحب ، بل لعلّه مكروه ؛ للنهي عنه في صحيحة الفضلاء (2) « سألوا الإمام الباقر علیه السلام عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون ؟ فقال علیه السلام : كُلْ إذا كان ذلك في أسواق المسلمين ولا تسأل عنه » (3). وعلى هذا فيكره السؤال عما وجد في أرض المسلمين يباع ويشترى ، وهذا لا ينافي استحباب الاجتناب ، كما هو واضح.

الأصل العملي :

إنّ ما تقدّم كان عبارة عن الأدلّة الدالة على حلية أكل لحم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه. وأمّا هنا فنريد أن نثبت أنّ الأصل العملي - الذي يُلجأ

ص: 261


1- فرائد الاُصول ( رسائل الشيخ الأنصاري ) : ج 1 ، ص 376.
2- الفضلاء هم : « زرارة والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ».
3- جواهر الكلام 36 : 138 ، وصحيحة الفضلاء مصدرها الوسائل : ج 16 ، ب 29 من الذبائح ، ح 1.

إليه في حالة عدم قيام دليل في المسألة - يؤدّي إلى نفس نتيجة ما ادّى إليه الدليل ، حيث إنّ ادلة البراءة عن حرمة الأكل في ما نحن فيه جارية ، فيحلّ الأكل كما تجري قاعدة الطهارة أيضاً ، كما قرر ذلك في الشبهة الموضوعية (1).

إشكال : لقد قرّر المشهور من علماء الإمامية أنّ الشبهة الموضوعية المحكومة بالحلية والطهارة إنّما تجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي يقتضي الحرمة ، أمّا في موردنا فتوجد اصالة عدم التذكية التي تقتضي حرمة اللحم ونجاسته على المشهور ، فيحكم على أصالة الإباحة ويتقدّم عليه.

والجواب : لقد ذكر السيد السبزواري قدس سره في مهذب الأحكام فقال : « إنّ أصالة عدم التذكية لا تجري في المقام : إمّا للعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة وهي عدم الذبح ، أو لما تقدّم من الأخبار في جواز الأكل » (2).

وإذا لم تجر اصالة عدم التذكية فتبقى اصالة البراءة تقتضي عدم حرمة الأكل فيما نحن فيه.

ولكن نقول : إذا استندنا إلى الأخبار في تكميل البراءة فلا حاجة إلى الأصل العملي حينئذ ، لعدم الشك في التذكية.

وأمّا إذا غضضنا النظر عن الأخبار ولم تجر اصالة عدم التذكية للعلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة - كما قرره السيد السبزواري - فتجزي اصالة الإباحة بلا مانع ، لعدم جريان اصالة عدم التذكية.

ولكن الصحيح والمشهور أنّ اصالة عدم التذكية تجري وتتقدّم على أصالة الإباحة ، وذلك لأنّ الشارع المقدّس حرّم علينا ( الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) (3) ،

ص: 262


1- فرائد الاُصول : ج 1 ، ص 368 - 370.
2- مهذب الأحكام : ج 5 ، ص 276.
3- المائدة : 3.

وحينئذ يكون الأصل في الحيوان عدم التذكية ، إلاّ أنّ تثبت تذكيته بأمارة معتبرة ، لأنّ التذكية أمر وجودي ، سواء كانت عبارةً عن الأفعال المخصوصة (1) ، أو شيئاً بسيطاً حاصلاً منها ، فيستصحب عدمها عند الشك فيها ، وهو معنى اصالة عدم التذكية.

حكم اللحوم المستوردة :

لا حاجة للبحث عن حكم اللحوم المستورَدة من البلاد الإسلامية التي تكون لحومهم بأيديهم يتصرفون فيها ويستعملونها في ما يشترط فيه الطهارة ، حيث يكون الحكم هو حلية الأكل كما هو واضح. إنّما الكلام في اللحوم المستورَدة من بلاد الكفر ( الذي يكون كل أهلها أو أكثرهم كفاراً ) وهذا البحث يشمل حكم اللحوم التي تكون بيد الكفار أو أرضهم أيضاً.

أقول : إنّ الأصل الذي هو عدم التذكية - حيث إنّ التذكية أمر وجودي كما تقدّم فإذا شككنا في حصوله فالأصل عدمه - محكّمٌ هنا بلا إشكال ، وهو يقتضي بطلان المعاملة عليها إذا لم يكن لها منفعة محلّلة غير الأكل ، وحرمة أكلها واستعمالها ونجاستها على المشهور ، وبما أنّه لا توجد هنا أمارة تتقدّم على هذا الأصل - كيد المسلم مثلاً - فيبقى أصل عدم التذكية محكّماً ، وهو يقتضي حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في الجلد المستورد ونجاستها على المشهور ، حيث نكون قد عرفنا الحرام من جهة الأصل.

بل توجد بعض الروايات التي يستفاد منها الحكم بعدم التذكية المعاضد للأصل مثل :

ص: 263


1- من فري الأوداج مع التسمية ، واسلام الذابح ، وخروج الدم بالصورة المتعارفة مع التوجّه بالذبيحة إلى القبلة ، وغيرها ممّا اشترطه الشارع المقدّس.

1 - موثق اسحاق بن عمار عن العبد الصالح ( الإمام الكاظم علیه السلام ) انّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفِراء اليماني وفي ما صنع في أرض الإسلام. قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (1).

ومفهومها وجود البأس في ما صنع في أرض الكفر ، بضميمة عدم الفرق في استعمال ما يصنع أو أكل ما يوجد عندهم ، أو بأن يكون الأكل من مصاديق الاستعمال الذي هو موجود في الرواية ، لأنّ الكلام عن الصلاة ، فاللباس في الصلاة هو استعمال للملبوس.

2 - رواية اسماعيل بن عيسى ، قال : « سألت الإمام الرضا علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال علیه السلام : عليكم انتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه » (2).

ومنطوق الرواية يقول : إذا رأينا المشركين يبيعون ذلك فعلينا أن نسأل ، ولا يفيد السؤال هنا إلاّ في صورة حصول العلم بالتذكية أو الحجّة الشرعية بها ، لعدم حجية خبر الكافر ، وحينئذ في صورة الشك في التذكية فالأصل عدمها.

ولنفس النكتة يحكم بعدم التذكية لما وجد في يد الكافر وإن كان في أرض المسلمين ، وكذا الحكم في اللحم المأخوذ من يد مجهول الحال في غير سوق

ص: 264


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 5.
2- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 50 من النجاسات ، ح 7. الحديث: رواه الصدوق بسنده عن اسماعيل بن عيسی، والسند معتبر إلّا أن الكلام في نفس اسماعيل ابن عيسی لم يوثق.

المسلمين ، أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم يكن عليه أثر الاستعمال.

وبالجملة : كل مشكوك الذبح إذا لم توجد قرينة يد المسلم الدالة على الحلّية يحكم فيه بأصالة عدم التذكية (1) ، ولا نرى ضرورةً للتنبيه على أنّ هذا الحكم ليس مختصاً باللحوم ، بل يجري في الشحوم والجلود أيضاً ، فيكون الحكم فيها جميعاً هو الحرمة وعدم جواز الصلاة في الجلود.

المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر :

إنّنا إذا علمنا أنّ تلك اللحوم التي في يد المسلم قد اخذها المسلم من يد الكافر - كما هو المتعارف في هذه الأيام في الدول الإسلامية - فهل تجري القرينة السابقة على التذكية وتقدّم على أصالة عدم التذكية ؟

والجواب : أنّ يد المسلم إذا كانت مسبوقة بيد الكافر تكون على أقسام :

القسم الأول : ما إذا علمنا اجمالاً باشتمال يد الكافر على المذكّى وغيره ، كما إذا كان في بلاد الكفر نسبة معتبرة من المسلمين ، وكان هذا الكافر يحصل على اللحوم والجلود من المسلمين وغيرهم ، أو كان هذا الكافر يستورد الجلود واللحوم من المسلمين وغيرهم ثم يصنّعها ويبعثها اليهم ، ففي هذه الصورة قد يقال بعدم جريان أصالة عدم التذكية ، وذلك لوجود العلم الاجمالي بوجود المذكى ، ولم يثبت كون يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، إذن يكون المرجع في هذه الشبهة

ص: 265


1- قد يقال : إنّ خبر السفرة ينافي ذلك ، فقد روى النوفلي عن السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزُها وجبنُها وبيضُها وفيها سكين ؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : يقوّم ما فيها ثم يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له : يا أمير المؤمنين ، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ ، فقال : هم في سعة حتى يعلموا ». وسائل الشيعة : ج 2 : ب 50 من النجاسات ، ح 11. أقول: إنّ هذه الرواية لا تعارض ما تقدّم من أن أمارة سوق المسلمين هي في خصوص ما كان في يد المسلم يتعامل معه معاملة الطاهر، حيث إنّها ضعيفة بالنوفلي.

الموضوعية أصالة الحلّ والطهارة (1).

أقول : ولكن هذا الكلام بإطلاقه خلاف التحقيق ، حيث تجري أصالة عدم التذكية في جميع أطراف الشبهة الموضوعية (2) وذلك لعدم حصول مخالفة عملية حتى تتحقّق المعصية أو يتحقّق القبح ، بل الذي يحصل من جريان اصالة عدم التذكية المخالفة الالتزامية ، ولم يثبت وجوب الالتزام بالحكم الواقعي الفرعي مع قطع النظر عن العمل (3).

لو تنزلنا عن ذلك والتزمنا بمسلك الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره القائل بأنَّ أصالة عدم التذكية لا تجري « للمناقضة بين الصدر والذيل في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، بل انقضه بيقين آخر » (4) فحينئذ تصل النوبة إلى أصالة الاباحة في أطراف الشبهة الموضوعية ، ولكنّها لا تجري في المقام ؛ لوجود العلم الاجمالي بوجود غير المذكى ، حيث يكون جريانها موجباً للمخالفة العملية التي هي معصية.

إذن يكون العلم الاجمالي بوجود غير المذكى موجباً لحرمة الاجتناب عن

ص: 266


1- راجع مهذّب الأحكام ، للسيد السبزواري ; : ج 5 ، ص 280.
2- ملاحظة : ليس كلامنا في وجود ميتة واحدة في اطراف عديدة غير محصورة حتى يقال : إنّ العلم الاجمالي غير منجز أو أن أطراف العلم الاجمالي ليس كلّها محلّ ابتلائنا ، إذ ما نحن فيه هو وجود كميّة كبيرة من اللحوم مذكاة ووجود كميّة كبيرة غير مذكاة ، وفي هذا الفرض وإن لم يكن أطراف العلم الاجمالي كلّها مورد ابتلاء ، إلاّ أن ما هو مورد ابتلائنا فيه علم اجمالي بوجود الميتة أيضاً.
3- راجع فرائد الاُصول للشيخ الأنصاري : ج 2 ، ص 744 طبعة جماعة المدرسين في قم ، ومصباح الاُصول ، تقريرات السيد الخوئي : ج 3 ، ص 257 - 258.
4- فإنَّ « لا تنقض اليقين بالشك » ، شامل للشك المقرون بالعلم الاجمالي وجريان الاستصحاب بعدم تذكية للاطراف ، ومقتضى اطلاق اليقين في قوله علیه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، هو شموله للعلم الاجمالي وعدم جريان الاستصحاب - أصالة عدم التذكية - في بعض الاطراف ، ولا يمكن الأخذ بكلا الاطلاقين.

الجميع ؛ تطبيقاً لقاعدة منجزية العمل الاجمالي ، أو جريان اصالة عدم التذكية في جميع الأطراف كما تقدّم.

وبهذا نعرف أن فتوى السيد السبزواري في جريان اصالة الحلّ والطهارة مبنية على جواز جريان اصالة الاباحة والطهارة في أطراف العلم الاجمالي ، وهو مسلك ضعيف.

القسم الثاني : إذا لم يعلم باشتمال يد الكافر على المذكى وغيره ولم يتفحّص المسلم عن المذكى - لأنّه لم يكن مبالياً بكون اللحم ميتة أو مذكى - ففي هذه الصورة تجري اصالة عدم التذكية ، فيحرم اللحم وينجس على المشهور ، ولا توجد أمارة حاكمة على هذا الأصل.

القسم الثالث : إذا كانت هنا أمارة على تفحّص المسلم حين شرائه بأن كان ملتزماً ملتفتاً إلى حرمة ذبائح الكفار ، متثبتاً في كل اُموره التجارية ففي هذه الصورة يجوز الاعتماد على قوله وتفحّصه حملا لفعله على الصحّة. ومثل هذا ما إذا كانت الدولة مطبقة للإسلام تتفحّص في شراء الذبائح المذكاة بإرسال هيئات للدول المصدِّرة للّحوم تشرف على كيفية ذبحها وتسويقها إلى الدول الإسلامية أو إلى بلادها ففي هذه الصورة يحلّ اللحم المستورد بواسطة الدولة المتثبتة في عملها هذا.

خلاصة البحث :

في التذكية الشرعية وطرقها الحديثة هناك عدّة نقاط :

1 - بعد بيان الذبح الشرعي وشروطه عند طائفتي الامامية وأهل السنّة رأينا أن لا اشكال في ما يذبح بالمكائن الحديثة من ناحية التسمية واستقبال القبلة إذا كان الذابح مسلماً على رأي مشهور الإمامية ، أو مسلماً أو كتابياً على رأي

ص: 267

أهل السُنَّة وبعض من الإمامية.

2 - كما لا اشكال أيضاً من ناحية الذبح بالآلات الحادة في المكائن الحديثة إذا كانت الآلة من جنس الحديد المعروف على رأي مشهور الإمامية ، أو حتى إذا لم تكن من جنس الحديد المعروف إذا كانت الآلة حادّة قاطعة على رأي آخر يوافق عليه كل أهل السُنَّة.

3 - كما لا اشكال في حلية الذبيحة إذا قطعت الرقبة بواسطة الذبح وإن كان هناك نهي عن قطع الرقبة حين الذبح ، لأنّ النهي وإن كان دالاً على حرمة الفعل إلاّ أنّ حلية اللحم مستندة إلى توفر شرائط التذكية المفروض توفرها عند الذبح.

ولكن الحلية في هذه الصور المتقدّمة مشروطة بعدم حصول علم اجمالي بموت بعض هذه الحيوانات قبل التذكية ، وأن لا يحصل علم اجمالي بموت بعضها نتيجة لضرب الآلة الحادة رأس الذبيحة أو صدرها.

4 - إنّ خنق الحيوان حتى الموت بالطريقة الانجليزية محرّم بنصّ القرآن الكريم ، وكذا كل خنق يؤدّي إلى الموت كالخنق بثاني اُوكسيد الكاربون.

5 - التدويخ بكل صوره إذا ادّى إلى توقّف القلب وموت الحيوان قبل التذكية فهو محرم الأكل لأنّه ميتة.

6 - التدويخ بكل صوره إذا جعل الحيوان فاقد الوعي - كما هو الفرض - وسيعود إليه وعيه بعد مدّة معينة ، ثم اجريت عليه التذكية الشرعية حال فقدان الوعي وخرج منه الدم المتعارف فهو حلال الأكل.

7 - إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بحياته قبل الذبح حركته بعد الذبح كما صرحت بذلك الروايات عن أهل بيت العصمة سلام اللّه عليهم.

ص: 268

8 - إذا حصل من التدويخ علم اجمالي بموت البعض قبل إجراء التذكية فلا نحكم بحلية أي واحد من هذه الحيوانات التي جرت عليها التذكية ، وكان بعضها ميتاً قبل التذكية ، وذلك للعلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة.

9 - إذا شككنا في حلية الذبيحة من ناحية جهلنا بإسلام الذابح ممّا حلّ أكل لحمه فالقاعدة تقتضي حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في جلد هذه الذبيحة ، لوجود الروايات القائلة بأنّ جواز الأكل وجواز الصلاة في الجلد لا يكون إلاّ في ما علم بالتذكية.

10 - إذا شككنا في حلية الذبيحة من ناحية جهلنا بإسلام الذابح ، أو جهلنا بتوفر شروط الذكاة وكانت في يد المسلم يتعامل معها معاملة المذكى فالحكم هو حلية أكل اللحم وصحة الصلاة في جلد هذه الذبيحة ، للروايات القائلة بأنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرض الإسلام يتعامل معه معاملة المذكى إذا كان المسلم يتعامل معه كذلك.

11 - وأمّا اللحوم المستوردة من الدول الكافرة فالحكم فيها حرمة أكلها وعدم جواز استعمال جلودها في الصلاة ، ويحكم بنجاستها على المشهور ، وذلك لأصالة عدم التذكية التي لا توجد أمارة حاكمة عليها. كما يحكم بعدم صحة المعاملة عليها إذا لم يكن لها منفعة محلّلة غير الأكل. وكذا يحكم بحرمة أكل ما وجد في يد الكافر وإن كان في أرض الإسلام.

وكذا يحكم بحرمة أكل اللحم المأخوذ من يد مجهول الحال في غير سوق المسلمين ، أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم يكن عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، كل ذلك لأصالة عدم التذكية الموجب لذلك ولا حاكم عليها.

12 - أمّا المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر فيحلّ منه

ص: 269

ما إذا علم أنّ المسلم قد أخذه من الكافر بعد تفحّص عند الشراء بأنّ كان ملتزماً ملتفتاً إلى حرمة ذبائح الكفار ومتثبتاً في اُموره كلها ، وفي غير هذه الصورة يحكم بحرمة اللحم لأصالة عدم التذكية.

* * *

ص: 270

الاستتئام والاستنساخ

ص: 271

ص: 272

إنّ الثورة العلمية المعاصرة قد أتحفت البشر بما ليس في الحسبان في عالم النبات والحيوان ، وستفضي في المستقبل القريب أو البعيد بما تحمله من تقنية عالية إلى ثورة في المعرفة تقلب الموازين ، خصوصاً في عالم التكاثر البشري ، فالعلم والعقل لابدّ لهما من انطلاق ، ولا يجوز أن يحجر على العقل في التفكير وعلى العلم في المواصلة والارتقاء وتَقَصّي الاحتمالات للتوصّل إلى الممكن.

ولكن لابدّ من أن يحكم العلم نظام ويهيمن عليه دستور ليكون في صالح البشرية لا في ضررها وفنائها ، ولهذا احتجنا إلى الفقه أو القانون ؛ لأجل أن يصرّح بكلمته اتجاه هذه الثورة المعاصرة التي لابدّ لها من الاستمرار لصالح المجتمع ، فإن الدين قادر على مواجهة ومسايرة الحياة وانضباطها بالشكل الصالح للمجتمع.

ومن الطبيعي أن يعتمد الفقه أو القانون على أهل التخصّص بالعلوم الطبيعية في تشخيص الموضوع الموجود أو الذي يفترض أن يحدث ، لأنّ الحكم على شيء فرع تصوره.

وهذا الذي ذكرنا هو الطريق الأصلح للعلم الذي لابدّ أن لا يترك لوحده يمتطي طغيانه في عالم البشرية الكبير ، ولهذا سنعتمد على أهل التخصّص في تصوير الموضوع الذي حدث أو الذي يترقّب أن يحدث ، ثم نعرضه أمام الفقه ليقول كلمته من القرآن والسنة أو قواعد الشريعة المستلهمة منهما.

ص: 273

توطئة :

اشارة

إنّ عملية التكاثر في الكائنات الحيّة ( بدءاً بالأوليات ونهايةً بالإنسان ) على قسمين :

أ - التكاثر بالانقسام الثنائي : وهو يحصل في الأوليات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبيا والبكتريا ، وفي بعض النباتات كالصفصاف والتين والتوت ، حيث نتمكّن أن نأخذ جزءاً منها لنزرعه فنحصل على نبات كامل كالأصل. وبعبارة اُخرى : يسمّى هذا التكاثر بالتكاثر اللاتزاوجي.

ب - التكاثر الجنسي : ويحدث هذا في النبات والحيوان والإنسان ، ولابدّ فيه من نكاح يتمّ بين الذكر والاُنثى.

وعلى ما تقدّم نفهم أنّ التكاثر اللاجنسي ( اللاتزاوجي ) كان موجوداً في الأوليات ذات الخلية الواحدة وبعض النباتات ، ولكن هناك فكرة بدأت بدافع التمييز البشري في المانيا في العقد الثالث من هذا القرن ( العشرين يوم قرر الحزب النازي بقيادة هتلر خلق عِرق بشريٍّ متميّز ) ، ولكنّ التقنية المتوافرة آنذاك قد خذلته.

ثم جاءت نقطة التحوّل عام ( 1960 م ) يوم استطاع العلماء استنساخ النباتات.

ثمّ في عام ( 1993 م ) حيث تمكّن ( چيري هال وروبرت ستلمان ) العالمان الأمريكيان من إنجاز علميٍّ كبير كشفا عنه خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر ، وهذا الحدث قد تناول جنين الإنسان رأساً ، وقد حصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر ، ثمّ أعقبته زوبعة من الاعتراضات.

وهذا الانجاز العلمي يطلق عليه اسم ( الاستتئام ) لأنّه يحاول إيجاد التوائم البشرية بطريقة علمية سيأتي شرحها.

ص: 274

ثمّ في عام ( 1995 م ) تمكّن علماء يابانيون من دمج خلية جنينية ( بيضة ) مع خلية جسدية عن طريق تيار كهربائيٍّ ليحصلوا لأول مرّة في تأريخ الإنسان على نسل لم يتمَّ بالمعاشرة الجنسية ( أي طريق تلقيح البويضة بالحيوانات المنوية ).

والخلاصة : في العشرة الأخيرة من القرن العشرين شهد العالم حدثين مهمّين :

الأول : ما حدث سنة ( 1993 م ) على يد العالمين الأمريكيّين ، وهو ( الاستتئام ).

والثاني : ما حصل سنة ( 1997 م ) من استنساخ النعجة ( دولي ) على يد البروفسور ( آيان ويلموت ) الاُسكتلندي مع خبراء من معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية ، وهذا يعتبر تعميقاً لما عمله العلماء اليابانيون من دمج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي.

والآن سنشرح كلا الحدثين المهمّين مع رأي الفقه الإسلامي فيهما.

أولاً : الاستتئام
اشارة

أولاً : الاستتئام (1)

وقبل البدء في بيان طريقة الاستتئام يحسن بنا أن نبيّن الولادة التي تتمّ عن طريق الخلايا الجنسية.

فنقول : الخلايا الجنسية : هي المنويات التي تفرزها الخصية ، والبيضات التي يفرزها المبيض.

وهذه الخلايا الجنسية تختلف عن بقية خلايا الجسم.

ص: 275


1- إنّ توضيح موضوع الاستتئام اعتمدنا فيه على بحث الاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت في بحث له تحت عنوان استنساخ البشر. ولكن هناك معلومات اُخرى اُضيفت من علماء آخرين نشرت الصحف والمجلات العالمية تصريحات لهم.

وتوضيح ذلك : إنّ خلايا الجسم ( غير الجنسية ) كخلايا الأمعاء والجلد والعظم وغيرها تشتمل على نواة في داخل الخلية هي سرّ النشاط الحياتي فيها ، ويحيط بالنواة غشاء نووي ، وتحتوي النواة بداخلها على شبكة مكوّنة من ستّة وأربعين شريطاً تسمى بالأجسام الصبغيّة ( الكروموزومات ) ، أمّا باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين جدار الخلية فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو ( السيتوبلازم ).

والأجسام الصبغية ( الكروموزمات ) الستة والأربعون هي حوامل الصفات الوراثية تسمّى ( الجينات ) ، وهي التي تقرّر الصفات الوراثية للفرد.

وتتكاثر الخلية بالانقسام الذي بموجبه ينشقّ كلّ شريط من هذه الأجسام طولياً إلى نصفين يتمّم كلّ منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به ، وهكذا تتكوّن شبكتان صبغيتان تغلِّف كلّ منهما نفسها بغلاف نوويٍّ لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي ، ويحيط بكلٍّ منهما غشاء خلوي وتصبح الخلية خليتين ، وهكذا أجيالا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة. فالخلية الجلدية - مثلاً - تنجب أجيالا من الخلايا الجلدية ، وخلية الكبد تعطي أجيالا من خلايا الكبد ، وهكذا.

أمّا الخلية الجنسية فلها خاصيتها التي ليست لغيرها ؛ وذلك بأنّها في انقسامها الأخير الذي تتهيّأ به للقدرة على الإخصاب لا ينشطر الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمّل كلّ منهما نفسه ، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة ويذهب نصفها ليكون نواة خلية ، والنصف الآخر ليكون نواة خلية اُخرى ، وحينئذ تكون نواة الخلية الجديدة مشتملةً على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغية ، لا على ثلاثة وعشرين زوجاً ، ولهذا يسمّى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي ، فكأنّ النواة فيما يختصّ بالحصيلة الإرثية نصف نواة (1).

ص: 276


1- (1) إنّ الآيات القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة ، فقد قال تعالى : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا الزمر : 1. وهذا خطاب لكلّ البشر ، حيث قال اللّه تعالى لهم : لقد خلقت هذا النوع من البشر وكثّرت أفراده من نفس واحدة ( الزوج ، أو آدم أبو البشر وزوجها الذي هو الاُنثى ) مثلاً ، فقد قال الراغب : الزوج يقال لكلّ واحد من الفريقين من الذكر والاُنثى من الحيوانات المتزاوجة. وقد قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) الروم : 21 أي خلق لأجلكم من جنسكم قرائن ؛ لأنّ كلّ واحد من الرجل والمرأة مجهّز بجهاز تناسليٍّ يتمّ فعله بمقارنة الآخر ، فكلّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ، ويحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر ، حتى إذا اتّصل به سكن إليه. راجع تفسير الميزان للسيد الطباطبائي : ج 1. ص 166.

والقصد من ذلك : أنّه إذا أخصب منويّ ناضج بيضةً ناضجةً باختراق جدارها السميك تُمِّمت نواتاهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجاً لا فرداً ، أي صارت النواة مشتملة على (46) من الأجسام الصبغية كما هي سائر خلايا جسم الإنسان ، فكأنّ المنيّ مع البويضة نصفان التحما إلى خلية واحدة هي البيضة الملقّحة ، وهي أول مراحل الجنين.

خصوصية البيضة الملقّحة : وهناك خصوصية للبيضة الملقّحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم. وسرّ هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي ( السيتوبلازم ) الذي يحيط بالنواة ، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة فإنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال ، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنين وثلاثين خليّة (1) حتى تتفرّع خلايا الأجيال التالية إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى ذات وظائف متباينة ، وتتخلّق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها ، أي ينحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة رغم أنّها لا زالت تشبه خلايا الاُمّ التي ينشق الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كلّ منهما نفسه ، ولكنّ طوائف من

ص: 277


1- ذكر بعض الأطباء المتخصّصين في علم الوراثة بأنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة حتى تبلغ (128) خلية ، ثمّ تتفرّع الخلايا إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى.

الجينات ( الكروموزومات ) تنطفئ ( بقدرة قادر ) فتبقى موجودةً ، لكنّها غير فعّالة في تمايز يتيح لكلّ مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعدّدة.

هذا كلّه هو الطريق المألوف للولادة الذي يتمّ عن طريق التلاقح الجنسي.

أمّا الاستتئام :

فهو إنجاز علمي كشف عنه العالمان ( چيري هال وروبرت ستلمان ) خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر عام ( 1993 م ) تناول جنين الإنسان رأساً ، وحصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر.

وخلاصة هذا الإنجاز العلميّ هو : أنّ البيضة الناضجة التي تحتوي على (23) كروموزوم إذا اخترق جدارَها السميك منويّ ناضج يحتوي على (23) كروموزوم فسوف تلتحم النواتان في نواة تحمل الكروموزومات الستّة والأربعين ( 23 زوجاً ) وهي صفة خلايا الإنسان.

ثمّ يحدث انقسام النواة إلى جيل بكر من خليتين ، وإلى جيل حفيد من أربع خلايا ، وأجيال تالية من ثماني ، ثمّ أجيال من ستة عشرة ، ثم أجيال من اثنين وثلاثين ، ثمّ يحدث الشروع في التخصّص لتكوين أنسجة وأعضاء.

وبما أنّ الانقسام الأول للخليّة الاُمّ إلى خليتين يحتوي على تمزّق الجدار الخلويّ السميك فيكون عندنا خلية اُمّ أصلية واحدة يتمّ انقسامها لتكوين جنين واحد ، ولكن كشف العلماء أنّ الانقسام الأول إذا لم يمزّق الجدار السميك فإنّ كلاًّ من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبر نفسها اُمّاً أصليةً من جديد ، وتشرع في الانقسام لتكوين جنين لوحدها ، وهذا ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة ( أي التي تنتمي إلى خلية اُمٍّ واحدة ).

ص: 278

وبما أنّ العلماء استطاعوا أن يركّبوا من بعض الحشائش البحرية مادةً صناعيةً تؤدّي وظيفة هذا الجدار الخلويّ السميك فيما إذا تمزّق بعد الانقسام الأول ، فإذا كُسيت به كلّ خلية من خلايا الجيل الأول ( الاثنتين ) أو الثاني ( الأربع ) أو حتّى الثالث ( الثماني ) فإنّها تعتبر نفسها خليّةً اُمّاً من جديد ، وتشرع في النموّ إلى جنين ، وحينئذ تكون تلك التوائم متطابقةً في مادّتها الوراثية ، فهي كالنُسخ المتشابهة تماماً.

وبهذه الطريقة استطاع العالمان ( هال وستلمان ) أن يفصلا خلايا الأجيال الاُولى ويكسواها بالجدار الخلويّ الاصطناعي ، فإذا هما يحصلان من سبعة

الصورة

ص: 279

الصورة

عشر جنيناً باكراً على ثمانية وأربعين جنيناً كلّ منهما نسخة من خليتها الاُمّ ( بواقع ثلاثة لكلّ جنين أصيل في المتوسّط ) ولكنّ العالمان لم يحاولا زرع تلك الأجنّة في أرحام النساء ، ولكن حسبهما أنهما أثبتا نجاح التجربة ( الاستتئام ) وسلامة المنهاج (1).

وحينئذ نقول : قد يتمكّن العلم من زرع هذه التوائم - المتشابهة المنتسبة أصلاً إلى بيضة واحدة ملقّحة - في أرحام النساء ، وقد تنجح هذه العملية بإيجاد (8) أو (16) أو (32) فرداً توأماً ، وعلى رأي آخر (128) فرداً توأماً ، فإنّ هذا عبارة عن استنساخ الأجنّة البشرية كما عبّر عنه ، وصحبته ضجة في الصحف وغيرها نعرض عنها الآن.

وجهة نظر العالِمَيْن في الاستتئام :

قالا : إنّهما قصدا به تحديداً فائدتين :

ص: 280


1- إنّ بعض العلماء الأمريكيين استنسخوا توأماً من القردة بواسطة خلية ( جنينية ) واحدة ، والقرد أقرب الحيوانات الثديية للإنسان.

الاُولى : أن يكون إسهاماً في علاج حالات العقم التي تحتاج إلى تقنية أطفال الأنابيب. وأطفال الأنابيب يكون المتَّبع فيها أن تعطى المرأة دواءً منشِّطاً للاباضة ، ثم تسحب من مبيضها البيضات الناضجة خلال منظار يخترق جدار البطن وإبرة شاخطة تشخط البيضات ثم يضاف إليها المني بغية تلقيح عدد منها ، ثم تودع البيضات الملقّحة رحم السيدة بغية أن تنغرس فتنمو إلى جنين.

ووجد أنّ أنسب عدد يودع الرحم هو ثلاث أو أربعة بيضات إن انغرست منها واحدة فخير ، وإن انغرس أكثر من واحدة فزيادة خير.

ولكن هناك من السيدات التي يُعاني مبيضها نوعاً من الفقر البُييضي فلا تنتج عنها إلاّ بيضة ملقحة واحدة ، وهذا يهبط بفرصة الحمل هبوطاً كبيراً ، وحينئذ يكون من الأفضل أن نفصل بيضها في بواكير انقسامها إلى جنينين لا واحد ، وهو الاستتئام ، ونفصل كلاّ إلى اثنين ، وهكذا حتى نوفر عدداً كافياً من الأجنة ، يودع في رحم السيدة منها أربعة ، ويحفظ ما زاد من الاجنة أي ( النسخ ) في التبريد العميق ؛ ليكون رصيداً احتياطياً يستعمل في مرّة قادمة ( أو مرات ) إذا لم تسفر الزرعة الاُولى عن حمل.

الثانية : والفائدة الثانية تكمن في مجال تشخيص مرض جنينيٍّ محتمل قبل أن يودع الجنين الباكر المكوّن من عدد صغير من الخلايا إلى الرحم لينغرس ، فقد جرى الأمر على فصل خلية من هذا الجنين لاجراء التشخيص عليها ، فإن كان الجنين معافى غُرس ، وإلاّ اُهدر. ولكنّ أخذ خلية من جنين باكر ذي عدد محدود من الخلايا فيه خطر على الجنين ، بينما لو فصلنا هذا الجنين إلى توأمين بطريقة الاستتئام هذه فاننا نستعمل واحداً للتشخيص ، والآخر للزرع كاملا غير منقوص.

هذا ما قاله العالِمَان عن الاستتئام.

ص: 281

الإشكال على ما قاله العالِمَان :

يرتكز الإشكال على علاج العقم ، فإنّ الطريقة التي وصل إليها العالمان تفضي إلى وجود أجنة فائضة ليس أمامها إلاّ طريقين :

الأول : الموت فيما إذا غرست الأجنة الاُولى ونمت إلى جنين.

الثاني : وأمّا إذا لم توكل إلى الموت فإنّها ستزرع في أرحام سيدات اُخر.

وعلى الطريق الأول نتج إنشاء حياة أسلماها إلى الموت. وعلى الطريق الثاني فمعناه أن سيدةً ستحمل جنيناً غريباً ليس من زوجها ولا منها ، وليس هو في نطاق عقد زواج.

وإذا علمنا أنّ بالإمكان حفظ الأجنة الفائضة في التبريد لآماد طويلة فربما تُشترى هذه الأجنة التي رُؤي توأمها مستقبلا بالاطلاع على صورته ( النسخ الأصل ) التي تكبره بسنوات.

فوائد الاستتئام :

وقد ذكر للاستتئام فوائد هي :

1 - إنّ من فوائد الاستتئام وحفظ الأجنة هو ما إذا حملت الاُم بطفل واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد ، فإنَّ هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل وأراد والداه أن يعوّضاه بطفل مماثل له تماماً ، فإنَّ الجنين سوف يوضع في رحم اُمّه بعد إخراجه من التبريد وينمو ويحصل التوأم لهما.

2 - وقد يحتاج الطفل - الذي حُفظ توأمُه - في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج ، وتعوق ذلك مشكلة المناعة إن عزّ العثور على الزرعة الموائمة ، فحينئذ تزرع النسخة التوأم الاحتياطية وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب ، ونظراً للتطابق بينهما فمن المؤكّد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال

ص: 282

رفضها مناعياً.

وحينئذ يكون السؤال هنا - في حالة كون الطفل لا يعيش بدون العضو المأخوذ منه - عن جواز أن تُنشأ حياة ثم تهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى. وأمّا عن حالة ما إذا كان الطفل يعيش مع الآخر فقد حدثت منذ ثلاثة أعوام أن طفلة في ولاية كاليفورنيا مرضت بأحد سرطانات الدم ولم يمكن العثور على زرعة مناسبة من نخاع العظم ( وهي الوسيلة الوحيدة للعلاج المجدي ) ، فقرر والداها أن تحمل الاُم من جديد على أمل أنّ الوليد القادم سيكون نخاع عظمه ملائماً ... وفعلا أنجبا طفلة وجاء نخاعها ملائماً ، وبعد أشهر تم زرع نخاع منها لاختها المريضة فشفيت. وحينئذ تكون النسخة التوأمة ملائمة لأخذ نخاع العظم لتستفيد منه النسخة التوأمة المريضة ، ويعيش كلا الطفلين ، وهنا أيضاً قد يثور تساؤل عن جواز إنشاء حياة لا لذاتها ، بل لإنقاذ حياة اُخرى.

ثم هل يوجد بأس في أن تحمل السيدة بتوأمها إن فصل عنها في الدور الجنيني الباكر وبقي طيلة السنوات نسخة منها محفوظة في التبريد ؟

ثم هل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين ( استتئام ) ، أو استنساخ جنينين يفصل بين عمريهما سنوات فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وخلاصة الأسئلة المطروحة هنا التي تحتاج إلى جواب فقهي أو قانوني هي :

1 - هل يجوز عمل أجنة متعددة من لقيحة واحدة بالصورة المتقدّمة حتى إذا كانت تلك الاجنة قد وصلت إلى (32) جنيناً متشابهاً ، أو إلى (128) جنيناً على الرأي الآخر ؟

2 - وإذا حُفظت بعض الأجنة في التبريد العميق فهل يجوز قتلها في المستقبل إذا لم يحتج اليها في صورة نجاح الزرعة التي وضعت في رحم الاُمّ وكان المولود غير

ص: 283

محتاج إلى دواء موجود في توأمه ؟

3 - وهل يجوز إعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها أو بيعها لها ؟ ومن هو الأب والأم في هذه الحالة لو حصلت ؟

4 - وهل يجوز أن يستفاد من الأجنة المبرّدة لزرعها في رحم الاُم لأجل الاستفادة من الأعضاء التي يتمكّن الطفل الجديد من الحياة بدونها في حالة إعطائها إلى أجنة أو إلى أي كائن آخر يحتاج إليها ؟

5 - وفي صورة ما إذا كان العضو أو النسيج لا يمكن أن يعيش الطفل بدونه فإنّ الحكم واضح في عدم جواز إنشاء حياة لتهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى.

6 - وهل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين يفصل بين عمريهما سنوات ، فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وقد أجاب آية اللّه السيد كاظم الحائري ( حفظه اللّه ) عن هذه الأسئلة فقال :

1 - تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة جائز بشرطين :

الأول : أن لا تكون في ذلك مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيُكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد أو على صحتهما.

والثاني : أن لا يستعمل ذلك بشكل يؤدي إلى اختلال النظام ، كما لو وزّعت اللقيحة إلى عدّة أجنة واستعملت في وقت واحد ضمن عدّة أرحام فأوجب ذلك عدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحرم من غير المحرم ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير إليها في مسألة الاستنساخ (1) ، فمع انتفاء هذين المحذورين لا دليل على الحرمة.

ص: 284


1- ستأتي هذه المشاكل في بحث الاستنساخ الآتي.

2 - ما يحفظ في التبريد يجب أن يحفظ بلا جدار كي يجوز قتله بعد ذلك ، إذ بعد صنع الجدار له يكون حاله - احتياطاً - حال الجنين الأصلي الذي يحرم قتله ، أمّا قبل صنع الجدار له فحاله حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل في وقت المقاربة ، أو قل : حال إسقاط منشأ النطفة قبل انعقاد النطفة.

3 - لا دليل على حرمة ذلك بعد سقوط اسم المني عن النطفة ، لأنّ إدخال ذلك في رحم المرأة لا يعني إدخال المني في رحم امرأة محرَّمة كي يشمله دليل حرمة ذلك ، وأبوه هو الذي ولده - أي صاحب المني - واُمّه هي التي ولدته أي صاحبة البيضة. وأمّا التي تضع رحمها بخدمة هذا الجنين فهي الاُم الحاضن وليست اُمّاً حقيقية. نعم ، لا يبعد الإفتاء بمحْرميتها له بالأولوية القطعية من الاُم المرضعة.

4 و 5 - إن كانت هذه الاستفادة لا تؤدي إلى موت الجنين الثاني أو الاضرار به جازت ، وإلاّ فلا.

6 - لا دليل على حرمة ذلك. انتهى ما أجاب به السيد الحائري حفظه اللّه.

أقول : ومن المناسب هنا أن نبيّن مدرك هذه الإجابة من الأدلّة الشرعية فنقول :

أمّا الجواب الأول فهو لِما ثبت من أن اللقيحة المكوّنة من منيّ الرجل وبويضة المرأة هي عبارة عن الجنين الذي هو مبدأ نشوء إنسان ، ومن الواضح فقهيّاً عدم جواز قتل الإنسان ، ولكن ورد - أيضاً - عدم جواز قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ففي معتبرة إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي الحسن ( الإمام الكاظم علیه السلام ) : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : لا ، فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال علیه السلام : إنّ أول ما يخلق نطفة » (1).

بالإضافة إلى إمكان استفادة الحرمة - أيضاً - من الروايات الكثيرة الواردة

ص: 285


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 7 من أبواب القصاص في النفس ، ح 1.

في وجوب الدية على من أسقط النطفة الملقّحة فمن تلك الروايات : صحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة ؟ فقال علیه السلام : عليه عشرون ديناراً ، قلت : يضربها فتطرح العلقة ؟ فقال : عليه أربعون ديناراً ... » (1).

ولهذا الذي تقدّم من الروايات فقد اشترط في تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة أن لا يكون في التقسيم مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد.

وكذا إذا كان هناك ضرر على حياة الجنين في التقسيم فهو أمر غير جائز ، لِمَا ثبت عن النبي صلی اللّه علیه و آله من طريق الفريقين أنّه قال : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » فإنَّ التقسيم إذا كان فيه ضرراً على حياة هذا الجنين فهو أمر غير جائز.

وأمّا إذا كان تقسيم اللقيحة - التي هي مبدأ نشوء الإنسان - ليس فيه مخاطرة على الجنين أو حياة ما سيكسا جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد ، وليس هناك شيء يخاف منه على صحتهما فهو أمر جائز لكن بشرط أن لا نعمل عملية الاستتئام بصورة تؤدّي إلى اختلال النظام ، كما إذا قسِّمت اللقيحة إلى قسمين وكسيت كل واحدة منهما بالجدار الخلوي ثم قسما إلى أربعة وكسي الجدار الخلوي ، وهكذا إلى اثنتين وثلاثين خلية اُمّاً ، ففي هذه الصورة إذا كانت النُسخ متشابهة تماماً فهو أمر يؤدي إلى اختلال النظام ؛ لعدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحَرْم من غيره ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير اليها - فيما يأتي في مسألة الاستنساخ - فإنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، كما صرح بذلك في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) فيلزم من هذه الحكمة أن يحرم كل ما يؤدي إلى اختلال النظام ، ومنه ما إذا طبق الاستتئام بصورة واسعة

ص: 286


1- المصدر نفسه : ب 19 من أبواب ديات الاعضاء ، ح 4.

لزمت منه الاُمور المتقدّمة الفاسدة.

الخلاصة : أنّ تقسيم اللقيحة إلى عدّة خلايا تكون كل خلية اُمّاً لنشوء جنين مشروط بعدم المخاطرة على الجنين أو الأجنة ، ( حتى على صحة الأجنة ) ، فإن كان هناك أي حذر فهو أمر غير جائز ، وبشرط أن لا يؤدي الاستتئام إلى اختلال النظام.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني فإنّنا إذا احرزنا عدم اختلال النظام وعدم الضرر والمخاطرة لما يحصل من تقسيم اللقيحة فإنّه لا مانع من التقسيم كما تقدّم ، ولكن بالنسبة إلى حفظ بعض الأجنة في التبريد العميق فإذا لم يحتج إليها فسوف تقتل هذه الأجنة فيشملها دليل حرمة قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ولهذا لا يجوز قتل هذه الأجنة بعد أن تصبح جنيناً ويكسى الجدار الخلوي بالمادة الصناعية (1). أمّا

ص: 287


1- أقول : لقد أفتى الإمام الخوئي ; بعدم حرمة قتل الأجنة خارج الرحم ، وتبعه على ذلك آية اللّه العظمى الميرزا جواد التبريزي ، لأنّهما رأيا حرمة قتل الجنين مختصة فيما إذا كان الجنين في الرحم. فقالا في جواب سؤال عن قتل الأجنة التي تلقّح خارج الرحم وتكون زائدة : « في الصورة المذكورة لا بأس بإتلاف تلك الأجنة ، فإن قتل الجنين المحرّم إنّما هو فيما إذا كان في الرحم ، أمّا في الخارج فلا دليل على حرمة إتلافه » راجع صراط النجاة : ج 1. مسألة (965) ، ص 351. ولعل دليلهما ما روي في تحديد النطفة ، كما في رواية سعيد بن المسيب ، قال : سألت الإمام زين العابدين عليه السلام عن رجل ضرب امرأة حاملاً برجله فطرحت ما في بطنها ميتاً ؟ فقال عليه السلام : « إن كان نطفة فإنّ عليه عشرين ديناراً . قلت فما حدّ النطفة ؟ فقال : هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه أربعين يوماً». راجع وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 19 من أبواب ديات الاعضاء ، ح 8. أقول: إن السائل وإن سأل عن حدّ النطفة - التي هي مبدأ نشوء الإنسان الذي بسقوطها يتحمل المعتدي (الجاني) الدية - إلّا أنّ الجواب لم يكن تعريفاً منطقياً بحيث يكون كل ما عداه خارجاً عن حدّ النطفة التي هي مبدأ نشوء الإنسان وإنما كان الجواب عبارة عن التعريف بالمثال، ولا يعني الجواب أنّ غير هذا التحديد ليس بنطفة ، والدليل على ذلك : أنّ العرف إذا ألقيت إليه رواية سعيد بن المسيب لا يفهم خصوصية للرحم ، كما لا يعرف خصوصية للضرب بالرجل، بل يفهم أنّ الحرمة والدية هي لمبدأ نشوء الإنسان.

إذا تمكّن العلماء من تبريد اللقيحة المقسومة قبل أن يصنع لها الجدار الصناعي ويُقتصر على إكساء الجدار الخلوي للّقيحة المقسّمة التي يراد وضعها في الرحم ، أمّا الذي يراد تبريدها فإن لم تكسَ بالجدار الخلوي فلا تكون مبدأ نشوء الإنسان ، بل حالها حال المني لوحده الذي يحتوي على (23) شريطاً ، وحال البويضة لوحدها التي تحتوي على (23) شريطاً أيضاً. وهذا لا دليل على حرمة إهداره ، سواء كان منيّاً أو بيضة ، بل دلّ الدليل على جواز إهدار المني ، كما في عملية العزل عن المرأة ( إمّا برضاها أو مطلقاً ) ، كما يجوز إهدار بويضة المرأة فيما إذا استعملت دواءً للإسراع بإلقائها إلى خارج على شكل حيض.

وأمّا الجواب الثالث فهو قد ثبت عندنا حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة ، وهذا شيء غير حرمة الزنا ، فقد روي في المعتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه » (1).

وفي رواية اُخرى رواها الصدوق عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه عزّوجلّ من رجل قتل نبيّاً أو إماماً أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه قبلة لعباده أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً » (2).

ومعلوم إرادة المني من النطفة التي ذكرت في الحديث الأول لاضافتها إلى

ص: 288


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 4 من أبواب النكاح ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2. يرى بعض الفقهاء أنّ المراد من الروايتين ( في حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة) هو كناية عن حرمة نفس عملية الزنا التي هي ملازمة عادة لالقاء المني في الرحم. ونحن وإن كنّا نخالف هذا الفهم لأننا نرى أنّ الرواية قد صرّحت بحرمة القاء النطفة في رحم يحرم عليه ، وهو معنى آخر غير حرمة الزنا الذي هو عبارة عن التقاء الختانين المحرم ، ولكن حتى على هذا المبنى الذي لا نقبله لا يحرم وضع اللقيحة في رحم امرأة أجنبية لأنه ليس من الزنا ، كما هو واضح .

الرجل بينما كان السؤال الثالث عن النطفة التي هي لقيحة مكوّنة من ماء الرجل وبويضة المرأة التي هي مبدأ نشوء إنسان ، ولهذا كان الجواب بجواز وضع هذه اللقيحة ( بحدِّ نفسها ) في رحم امرأة أجنبية لعدم شمول دليل الحرمة المتقدّم له. ولعلّ من المستحب أن تحضن هذه المرأة الأجنبية مبدأ نشوء الإنسان وعدم تركه للموت ، فإنّ الاُم الحاضن إذا لم يكن عملها للحمل بهذا الجنين ( اللقيحة ) مستحباً فلا أقلّ من جوازه.

وأمّا ما قيل من التهويل لهذه العملية « إنّ سيدة ستحمل جنيناً غريباً لا هو من زوجها ولا هو منها ولا هو في نطاق عقد زواج » (1) فهو لا ينفع في الحرمة ، إذ ما هو البأس أن تحضن سيدة ولداً ليس من زوجها ولا منها ولا هو في نطاق عقد الزواج ؟ فهل هو زناً أو دلّ الدليل على حرمته من السنة الشريفة أو قواعد الشريعة ؟ بل قد يقال : إنّ هذه السيدة - التي انقذت هذا الجنين ( اللقيحة التي هي مبدأ نشوء إنسان ) من الموت وحملتها وحضنتها حتى الولادة - قد أنقذت الجنين من الموت فتستحق الشكر.

وأمّا بالنسبة إلى الأب والاُم فهو واضح ، إذ الولد معناه ما تولّد منه الشيء ونشأ منه ، وقد تولّد هذا الولد من مني الرجل فهو أبوه ، ومن بويضة المرأة فهي اُمّه ، أمّا التي وضعت اللقيحة في رحمها فهي اُمّ حاضن وليست اُمّاً حقيقية ، فإنّ القرآن الكريم قال : (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والولادة الحقيقية ليست هي الوضع وافراغ ما في البطن إلى الخارج كما هو معنى ذلك عند غير العرب ، بل الولد حقيقةً هو ما تولد من الشيء ونشأ منه ، وقد تولد هذا الولد ونشأ من مني الرجل وبويضة المرأة فهما الأبوان الحقيقيان له ، كما تتولد الشجرة من البذرة.

أمّا المغذية فهي ليست اُمّاً حقيقية ، ومع هذا فقد أفتى السيد الحائري

ص: 289


1- استنساخ البشر ، د. حسان حتحوت ص 8.

بمحرمية الاُم الحاضن ، لأنّه يرى الأولوية القطعية من الاُم المرضعة التي يحرم عليها الولد الذي اشتد عظمه ونما لحمه من حليب الاُم بواسطة الرضاع ، حيث إنّ هذا الولد قد كبر بواسطة الاُم الحاضن وإنّ كان قد تولد من غيرها.

ولكن أرى في هذه الأولوية القطعية تأمّلا ، حيث إنّ موضوع حرمة الرضاع هو شيء يختلف عن مجرد ترعرع الجنين من الاُم.

أمّا بالنسبة إلى الجواب الرابع والخامس فإنّ الاستفادة من هذا الجنين التوأم إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تكون مؤدّية إلى موته أو الاضرار به ، فإنّ من الواضحات عدم جواز إماتته لأجل إنقاذ حياة اُخرى ، وعدم جواز الإضرار به من قبل الغير لأجل أن يستفيد منه شخص آخر.

أمّا إذا كانت الاستفادة منه للآخرين ليس فيها أي ضرر عليه فهو أمر جائز يقوم به وليّه أو نفسه إن كان قد وصل إلى مرحلة البلوغ والرشد ، وهذا الحكم واضح من الشريعة الإسلامية الغراء التي حرّمت قتل مبدأ نشوء الإنسان وحرّمت الضرر على الكائن الحي بقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

أمّا الجواب السادس فلا دليل على حرمة أن يرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ، فكم من الاُسر المبتلية بأمراض السكّر أو السمنة أو ضغط الدم أو غيرها من الأمراض الوراثية ولا أحد يقول بحرمة إيجاد طفل لهذه الاُسر ، لأنّ الطفل سوف يُبتلى بتلك الأمراض الوراثية.

نعم ، قد يحكم بعدم جواز إعلام الصغير أو حتى الكبير فيما يعرض له من الأمراض ، لأنّه أذىً له وقد نهت الشريعة عن أذى المسلم ، إلاّ أن هذا غير حرمة إيجاد طفل يُعلم أنّه سيبتلى بأمراض وراثية.

هذا خلاصة ما أردنا بيانه في بحث الاستتئام.

ص: 290

ثانياً : الاستنساخ
اشارة

فهو عبارة عن الحصول على النُسخ طبق الأصل ( في النبات أو الحيوان أو الإنسان ) بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية واُنثوية ، والنسخة التي تكون طبق الأصل هي التي تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة ، فيكون المخلوق الناتج صورة منه تماماً كالكتاب الذي نطبع منه آلاف النسخ فتجيء متشابهة تمام الشبه.

وحينئذ فلو جئنا بنواة خلية من أي خلايا الجسم - كالجلد مثلاً - وهي تحتوي على الكروموزومات الستة والأربعين شريطاً ثم أودعناها داخل بيضة ناضجة تمّ إخلاؤها من نواتها التي تحمل (23) شريطاً فإن النواة الضيفة تشرع في انقسام ليس في اتجاه تكوين خلايا جلدية ، بل في تكوين جنين سيكون صورة طبق الأصل عمن أخذنا منه نواة الخلية ، لأنّ الذي يحدد جهة الانقسام هو السيتوبلازم ، وبما أن السيتوبلازم هنا هو لبيضة ناضجة ، فإن الانقسام للخلية سيكون باتجاه تكوين جنين ، وبما أن الكروموزومات في الخلية كاملة فمعنى ذلك أنّ الصفات الوراثية للجنين ستكون مطابقة تماماً لصاحب النواة ، إذ ليس عندنا (23) فرداً من الصفات الوراثية من الزوج و (23) فرداً من الصفات الوراثية للاُنثى حتى يكون الجنين حاملا لصفات الاثنين معاً.

وبتكرار هذا العمل نستطيع أن نحصل على أي عدد شئنا من النسخ التي تطابق صاحب النواة في التكوين الوراثي.

ولقد اُنجز هذا العمل - فعلاً - في عدد محدود من الأحياء الدنيا ، كالضفدعة (1) واُنجز - أيضاً - في النعجة دولّي في انجلترا التيولدت في يوليو ( 1996 م ) وبقيت سرّاً

ص: 291


1- لخّص هذا من بحث استنساخ البشر للاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت وأبحاث اُخرى لعلماء آخرين ذكرتهم الصحف والمجلات العالمية ، منهم العالم الاسكوتلندي الذي أنتج النعجة دولّي « آيان ويلمون ».

لا يعرفه أحد حتى اُعلن عنها في فبراير ( 1997 م ) والنعجة هي من الحيوانات الثديية ( ترضع الثدي ) ، فقد اُخذت من نعجة خليّة ( ثديية ) عزلت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية وزرعت تلك النواة في بيضة (1) اُنثى بعد أن سُحبت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية ، ثم وضعت البيضة الملقحة في رحم النعجة ، فتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

الصورة

ص: 292


1- إنّ الخلية الثديية هي متخصّصة لإنتاج الحليب ومكوّناته ، وأمّا المورّثات ( الجينات ) في هذه الخلية فهي في حالة سكون وعاطلة عن العمل ، ولكنّها بمجرد وضعها في سيتوبلازم البيضة ثارت شجون هذه العوامل الوراثية الساكنة وبدأ في العمل ، فالسيتوبلازم الذي في البيضة له دخل في العملية.

وإذا كان هذا ممكناً - ولو بصورة نادرة الآن - حيث زرعت (277) نواة في (277) بيضة ناضجة تم اخلاؤها من نواتها فنجحت حالة واحدة ، ولكن التقنية العلمية العالية قد تتمكّن من زيادة نسبة النجاح في المستقبل.

وإذا أمكن هذا في النعجة - وهي من الحيوانات الثديية - فهو ممكن في الإنسان ، لأن المرأة لها ثدي ترضع به ولدها.

وقد أحدث هذا الحدث ( للنعجة دولّي ) ضجة في العالم ، وسبب الضجة هو التخوّف من استخدام نفس الاُسلوب لإنتاج بشر متشابِهِين في الشكل والمظهر (1) حسب الطلب ، وهو الموضوع الذي كان يحلم به هتلر وأشباهه في هذا الزمان. فقد يفاجئنا العلم بإنجاز نسخ للإنسان فتؤخَذ خلية من الإنسان من أي مكان أريد ( بشرط أن لا تكون جنسية ) وتعزل نواتها التي تحمل الصفات الوراثية ، وتزرع تلك النواة في بيضة امرأة بعد أن تسحب من البيضة الصفات الوراثية التي فيها ، ثم توضع اللقيحة في رحم المرأة فيتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

وحينئذ بما أنّ الدين لابدّ له من أن يقول كلمته في كل مورد من

ص: 293


1- إنّ الفرق بين النسخة الأصل والتابعة موجود بحكم الفرق الزماني والتطور الثقافي والعلمي ويمكن باختلاف البيئة والتربية ، وهذا الاختلاف يمكن أن يكون بين النسخ المتطابقة في الزمن الواحد ، فإن البيئة إذا اختلفت واختلف التعليم والتربية فسوف يكون اختلاف السلوك واضحاً ، كما نشاهد الاختلاف بين التوأمين اللذَين نشآ في بيت واحد من أب واُم ، ولكنّ التشابه التام يكون في الشكل والمظهر كما قلنا. ثم إنّه لحدّ الآن بالنسبة لاستنساخ الحيوان لا يعلم مقدار عمرُ خلايا النسخة ، ففي النعجة دولّي لا يدرى هل عُمر خلاياها عندما ولدت هي نفس عُمر خلايا صاحبة الخلية ، أم عمرها جديد كعمر الحمل حين يولد في حَمل جنسي ؟ فإن كان الأول فمعنى ذلك أن النسخة ضحية لأعراض شيخوخة مبكرة. ولا يعُلم أيضاً هل ستكون هذه النسخة قادرة على التناسل كغيرها من الحيوانات أم انها ستكون عقيمة لا تلد ؟

الموارد العلمية لقدرته على مواجهة ومسايرة الحياة فحينئذ نسأل عن عدّة اُمور :

أولاً : هل توجد حرمة شرعية لهذا العمل بحدِّ نفسه ؟

ثانياً : هل هذا الكائن الحي إذا وجد هو ولد شرعي ؟

ثالثاً : إذا كان ولداً شرعياً فمن هو أبوه ومن هي اُمه ؟

رابعاً : هل في هذا العمل خطر على البشرية ؟

وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لابدّ أن نستبعد أولاً ما قيل من أنّ الاستنساخ عبارة عن تغيير لخلق اللّه تعالى ، وتغيير خلق اللّه تعالى يحرم بقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ... ) (1).

فتغيير خلق اللّه تعالى محرّم ؛ لأنّه ممّا يأمر به الشيطان ؛ وهو لا يأمر إلاّ بالفحش والمعاصي (2).

وواضح أنّ استبعاد هذا الكلام من حيث إنّ الاستنساخ لم يكن تغييراً لخلق اللّه تعالى ، بل هو كشف سرٍّ من أسرار خلق اللّه في الحيوان ، قد ينجح في الإنسان ، فإن هذا السِّر لم يكن مكشوفاً فتوصل إليه الإنسان ، فلم يخلق العلماء قانوناً ولم يوجدوا سرِّاً في جسد الإنسان والحيوان ، على أنّ المراد بتغيير خلق اللّه في الآية هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ؛ وذلك بتحريم الحلال وتحليل الحرام ، حيث يقول اللّه تعالى في مكان آخر من كتابه الشريف : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

ص: 294


1- النساء : 117 - 119.
2- ذكر ذلك الإمام محمد مهدي شمس الدين في مجلة الشراع ، وراجع الاستنساخ لمحمد الأشقر : ص 16.

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1).

فإذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن - والقرآن أطلق خلق اللّه على حكم الفطرة وهو التديّن بدين - فيكون تغيير خلق اللّه هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين والارتباط بالطبيعة من دون خضوع للسماء في نتائج ما تصل إليه العلوم الطبيعية.

وكذا لابدّ أن نستبعد الحجج غير العلمية للتحريم ، فقد ذكرت الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية عندما أعلنت موقفها ضدّ الإخصاب :

« إنّ الإخصاب الصناعي جريمة ضد قاعدة الزواج والاُسرة والمجتمع » فإن هذه ليست حجّة علمية ، حيث إنّ الإخصاب قد يكون في زواج واُسرة ولكن يوجد مانع منه بصورة طبيعية فيصار إليه بصورة صناعيّة ، وهذا مما ينمّي الأسرة والزواج ، لا أنّه جريمة ضدهما كما هو الحال في أطفال الأنابيب الذي هو علاج لحالة العُقم.

وكذا لابدّ أن نستبعد ما يُظن « من أنّ الاستنساخ هو محاولة من البشر أن يخلقوا مثل خلق اللّه تعالى ، ومحاولة مثل ذلك ظلمٌ ، وأيُ ظلم ؟! لإنّها لا تقع إلاّ ممن لا يقدّر اللّه تعالى حقّ قدره ، فيضل تحت قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « قال اللّه تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة ». أخرجه البخاري (2).

وقد رُدّ هذا بالقول : بإنّ الاستنساخ ليس من جنس الخلق الذي تفرّد اللّه به ( وهو الخلق من العدم ) ، بل الاستنساخ هو من نوع التركيب يوضع بنواة الخلية التي خلقها اللّه تعالى في بيضة منزوعة النواة ، وسرّ الخلق والحياة موجود في

ص: 295


1- الروم : 30.
2- الاستنساخ في ميزان الشريعة الإسلامية ، د. محمد سليمان الأشقر : ص 17 و 18.

النواة وسيتوبلازم البيضة ، فالاستنساخ هو مخلوق اللّه تعالى ، وهو أيضاً من ذكر واُنثى ؛ لأنّ الخلية المأخوذة من الأصل ناشئة في الأصل من تزاوج ذكر واُنثى عندما كان ذلك الأصل خلية واحدة ، ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت كثيرة وكل منهما يحتوي على (46) كروموزوم ، نصفها من الذكر ونصفها من الاُنثى.

وبعد أن استعبدنا هذه الاجابات المحرمة للاستنساخ نعود لنرى رأي علماء الإمامية ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في عملية الاستنساخ.

وقد أجاب على مجمل هذه الأسئلة آية اللّه العظمى الشيخ ميرزا جواد التبريزي ( حفظه اللّه ) فقال :

« لا يجوز الاستنساخ البشري ؛ لأنّ التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الانسانية اقتضتها حكمة اللّه سبحانه ، قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) وقال : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) وذلك لتوقف النظام العام عليه. بينما الاستنساخ البشري - إضافة إلى استلزامه محرمات اُخرى كمباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة - يوجب اختلال النظام وحصول الهرج والفوضى ... ففي النكاح يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية وبين المحَرْم وغيره ، وفي المعاملات كافة لا يمكن تمييز طرفيها فلا يعرف الموجب والقابل. وفي القضاء والشهادات لا يمكن تمييز المدّعي عن المدّعى عليه وهما عن الشهود ، والملاّك عن غيرهم ، وفي المدارس والمشاغل والإدارات والامتحانات حيث يسهل إرسال ( النسخة ) بدل الأصل فتذهب الحقوق ، وفي الأنساب والمواريث حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي - إضافة إلى كون ( النسخة ) لا يعدّ ولداً شرعياً لوالده « صاحب الخلية » - فتضيع الأنساب والمواريث ... وهذا غيض من فيض ، وعليه فقس سائر الاُمور حيث لا يبقى نظام أو مجتمع ... واللّه العالم ».

ص: 296

أقول : إنّ هذه الفتوى المتقدّمة قد نظرت إلى العنوان الثانوي اللازم لنفس العملية - وهو اختلال النظام - ولم تنظر إلى نفس العملية بعنوانها الأولي ، وهو أمر صحيح إذا طُبّق هذا الاستنساخ بصورة واسعة أدّت إلى اختلال النظام ، أمّا إذا طبق بصورة ضيقة بحيث لا يلزم منه المحاذير التي ذكرت فلم تتعرض الفتوى له.

ولكنّ الأمر الذي يجب أن نتوقف عنده هو التصريح بعدم عدّ الولد ولداً شرعياً لوالده صاحب الخلية ، حيث إنّ الولد لغة وشرعاً ما تولّد من الشيء ، وقد تولد هذا الولد - حسب الفرض - من الخلية والبيضة ، فهو ولد شرعي وعرفي إذ لا نهي عن لحوقه بأبيه صاحب الخلية ، أو باُمه صاحبة البيضة ، كما ورد النهي في الزاني حيث قال الحديث الشريف : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وقد أجاب آية اللّه السيد كاظم الحائري على هذه الأسئلة بصورة مفصلة ، فقال :

« إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي لو نجحت لا بأس بها إن لم تقارن محرماً.

وأمّا مسألة الاُبوة والاُمومة فمتعينة من باب أنّ الفهم العرفي للأب هو صاحب الخلية (1) ، والأم هي صاحبة البيضة ، لأن الولادة الحقيقية تنصرف البيضة

ص: 297


1- فيما إذا كان صاحب الخلية ذكراً. أما إذا كان صاحب الخلية اُنثى فتتصور على نحوين : أ - صاحب الخلية أنثى وهي غير صاحبة البيضة . ب - صاحب الخلية أنثى وهي نفس صاحبة البيضة. ففي هذين النحوين لا يوجد عنصر ذكري، فالعرف وكذا الشرع لا يقول بوجود أب لهذا الولد. نعم ، له أم وهي صاحبة البيضة. أما صاحبة الخلية فهل هي أم ؟ نعم لا يبعد أن تكون أماً لأنه نشأ منها أيضاً .

والخلية اللتين ولدتا الولد.

ولكن نفهم من الآية الشريفة في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ) أنّ حكمة اللّه البالغة جرت على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، وبما أن هذا الاستنساخ يؤدي حتماً إلى اختلال النظام لو طبق بصورة شاملة وواسعة « لعدم معرفة البائع من المشتري والمدّعي من المدّعى عليه ومن الشهود وعدم معرفة الظالم من المظلوم وامثال هذه الاُمور في العقود والإيقاعات والجنايات وغيرها » فيلزم تحريم هذه العملية في صورتها الواسعة لهذا اللازم الباطل حتماً.

وهذا الجواب - كما هو واضح - قد تعرّض بصورة مفصلة لحكم المسألة في عنوانها الأولي والثانوي ، وقد تعرض لمسألة الاُبوة والاُمومة لهذا الكائن لو وجد ، وهو جواب متين ومقبول عرفاً ؛ لأنّ الولد قد نشأ من الخلية والبيضة ، ولولاهما لما نشأ الولد ، بما أن معنى الولد والتولّد الحقيقي هو تولد الشيء من الشيء ، وقد تولد هذا الولد من طرفين ( خلية + بيضة ) كما هو المفروض ، ونشأ منهما فان العرف ينسب هذا الولد إلى صاحب الطرفين وهما صاحب الخلية وصاحبة البيضة (1). وقد ذكر في مجمع البحرين : أنّ التفسير المفهوم من الوالدية هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حيّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء. وهذا الولد قد تصوّر وتكوّن من الخلية والبيضة.

وعلى هذا فلو وضعنا هذه اللقيحة في رحم طرف ثالث ( امرأة أجنبية عن صاحبة البيضة ) فإنّ الاُم تبقى هي صاحبة البيضة والأب هو صاحب الخلية ؛ لأن التولّد غير التغذّي ، فإنَّ هذا الولد قد نشأ ووجد من طرفين ( خلية وبيضة ) فلو وضع في رحم حاضن فهو قد تغذى على طرف ثالث والمغذية ليست هي الاُم

ص: 298


1- قد يقال أنَّ الفهم العرفي للأب هو صاحب المني.

الحقيقية ( كما أنّ المغذية للطفل بلبنها - وهي المرضعة - ليست أمّاً حقيقية ، بل هي اُم مرضع ومجازية ).

نعم ، قد يحكم بمحرمية هذه الاُم الحاضن للطفل للأولوية من الاُم المرضع الذي ترعرع الطفل على لبنها.

وحتى لو تكوّن النسيخ من خلية المرأة وبيضتها - كما في النعجة دولّي حيث كانت الخلية من نعجة حامل - فإن الولد ينسب إليها لأنّها هي ولدته.

تحريم ولي الأمر :

إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي التي قيل بحليتها لو نجحت في الإنسان إن لم تقارن محرماً آخر يمكن لولي الأمر تحريمها بالحكم الولائي ( الحكومي ) ؛ وذلك إذا أخذنا بنطر الاعتبار أنّ الدول الغربية التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ على أقسام :

فمنها : من منعت أبحاث الاستنساخ البشري.

ومنها : من حَرَمتها من معونة ميزانية الدولة.

ومنها من جمّدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المتخصصة ثم ينظر في أمرها من جديد ، لهذا فقد يرى ولي الأمر تحريم ذلك لئلاّ يسعى رأس المال الخاصّ وشركات الأدوية إلى تخطّي هذا الخطر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلا للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق ، ولكن مع ذلك نقول : إنّ هذا التحريم ليس حكماً شرعياً لا يتبدل ، بل هو حكم ولائي حكومي قد يتبدل في زمان ما أو مكان ما.

ص: 299

تحفظ من القول بالاباحة بالعنوان الأولي :

إنّ الفتوى المتقدّمة بحلّية عملية الاستتئام والاستنساخ بالصورة المتقدّمة لابدّ من تقييدها بعدم الضرر ، كما هي مقيّدة في صورة الاستتئام ، ولكن لما كانت بعض المضار لا تظهر قبل مرور وقت طويل فلابدّ من عدم التسرع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة من عدم الضرر عند العامل لعملية الاستتئام والاستنساخ البشري ، ولهذا قد نرى الارشاد لإجراء التجارب على الحيوان لاستنساخه أو استتئامه ، فإن سلِم من التبعات والأضرار وتأكّدنا من عدم الإضرار لو طبِّق على الإنسان فنجيز ذلك بصورة لا تؤدّي إلى الإخلال بالنظام « ولا ينبغي أن تنسى الانسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة ، إذ ظهر لها بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلوماً ومتوقعاً » إذن لابدّ من أن يستمر ترصد نتائج التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل لنأمن من الاضرار والتبعات ، فإن حصل لنا قطع بعدم الاضرار بتطبيقها على الإنسان فنسمح بذلك بصورة لا تؤدي إلى الاخلال بالنظام ، واللّه العالم.

هل تنجح عملية الاستنساخ ؟

إن اللّه تعالى صرّح في كتابه الكريم بأنّه بدأ خلق الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعل نسله من ماء مهين ( وهي الحيامن الذكرية ) فقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1).

أقول : إذا كان مراد هذه الآية وأمثالها - التي هي في صدد خلقة الإنسان

ص: 300


1- المؤمنون : 12 - 14.

الأول وخلقة نسله - الحصر ، وقلنا : إنّ الخليّة التي تؤخذ من الذكر ( غير الخلية الجنسية ) لن تتحوّل إلى مني حين صعقها وتلقيحها ببويضة المرأة - كما هو الفرض - فسوف لن تنجح طريقة الاستنساخ الآنفة الذكر في الإنسان.

أمّا إذا لم يكن الحصر مراداً من الآية أو افترضنا أنّ الصعق الكهربائي ( أو التلقيح الذي يحدث ) يستخرج من الخلية حيمناً ، أو قلنا : إنّ المراد من الماء المهين هو ماء المرأة ( البويضة ) فتكون عملية الاستنساخ المفروضة غير منافية للآيات القرآنية ، ويحتمل أن تقع في الخارج (1).

ص: 301


1- (1) هناك فروض واحتمالات على مصطلح ( الأرأيتيون ) لابدّ من طرحها لنرى إجابة الشارع المقدّس حولها ، منها : أ - لو تم الاستنساخ بين امرأة وأخرى وغيب العنصر الذكري فما هو حكم الشارع في هذه العملية ؟ لو أصبح هذا الأمر ممكناً - كما لو كانت الآيات القرآنية التي هي في صدد أصل الخلقة لم تكن للحصر ، وكان المراد من الماء المهين هو بويضة المرأة - فلابد من معرفة الحكم من الناحية الشرعية . ب - إمكان تنوع الاستنساخ الواحد ليصبح نصفه من الإنسان ونصفه من الحيوان ، كما لو أخذنا نواة خلية من إنسان وزرعناها في بويضة (غزال أو فيل أو ذئب أو أسد أو طائر) منزوعة النواة فما حكم الناتج الذي قد يكون انساناً بسرعة غزال أو قوة فيل أو أنياب ذئب أو أسد أو أجنحة طائر ؟ أقول: إنّ هذين الفرضين إن أمكنا فإنّ الفقه لا يتوقف في حكم ما أنتج ، حيث إن أحكام اللّه تعالى تابعة لما يص-دق عليه هذا الموجود عرفاً من كونه أنثى أو إنساناً ذك--راً في الشك--ل والمظهر، وبما أن المولود سيكون نسخة طبق الأصل عن صاحب النواة فإن حكمه واضح وإن كانت له سرعة الغزال أو انياب الفيل، وإن كنا قد نتوقف في صحة فرض أن يأخذ المولود من صاحب البيضة إذا كانت الصفات الوراثية هي لصاحب النواة . ح - عذراء صنعت نسخة لها ثم أودعت الزريعة رحمها لتنمو حتى الميلاد فهل هذا الحمل شرعي وهي لا زواج لها ، وهل هي بنتها أو توأمها ؟ د - لو أخذت خلية مني بقصد اصدار نسخة وراثية طبق الأصل مع بويضة امرأتي وحفظت في التبريد حتى مات الزوجان ثم وضعت في رحم وصارت ولداً فهل يستحق ارثاً مع بقية الورثة حتى إذا كان الإرث قد قسم وانتهى ؟
خلاصة البحث :

بالنسبة إلى الاستتئام : عبارة عن عدّة نقاط :

أولاً : أنّ عمل الأجنة المتعددين من لقيحة واحدة ، أو قل عمل عدّة توائم جائز بشرطين :

أ - أن لا يكون في ذلك العمل مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً خلوياً ليكون منشأً لحياة جنين ، وأن لا يكون خطر على صحتهما.

ب - أن لا يكون عمل التوائم بصورة واسعة بحيث يؤدي إلى اختلال النظام لعدم التمييز بينهم.

ثانياً : إذا عملنا أجنة متعددين بإيجاد الجدار الخلوي الاصطناعي للخلايا المقسَّمة بحيث تكون كل خلية هي خلية اُمّ ففي هذه الصورة لا يجوز قتل هذه الأجنة ولو كانت فائضة ؛ لأنّها مبدأ نشوء إنسان ولا يجوز قتل مبدأ نشوء الإنسان. نعم ، إذا حفظنا الخلية المقسمة في التبريد العميق قبل أن نعمل لها جداراً خلوياً ونلئم ما تمزّق من الجدار ، فإنّ قتل هذه الخلية لا بأس به ؛ لأنّ حال هذه الخلية حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل ، أو قل لأنّه ليس مبدأ نشوء إنسان حتى يحرم قتله.

ثالثاً : يجوز اعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها ، بل لعلّ هذا العمل مستحب لما فيه من المحافظة على الجنين ورعايته إلى حين الولادة. نعم ، ثبت حرمة أن يفرغ الرجل ماءه في رحم يحرم عليه ، ولكنّ وضع اللقيحة ليست ماءً للرجل ، إذ بعد التقليح لا يطلق على اللقيحة إنّها ماءٌ للرجل.

ص: 302

رابعاً : أنّ الأب هو صاحب المني ، والاُم صاحبة البيضة وإن وضع الجنين في رحم غير صاحبة البيضة ، لأنّ القرآن الكريم يقول : (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والولد الحقيقي والولادة الحقيقية هي ما تولد منه الشيء ، ونحن نعلم بأنّ الولد قد تولد من المني والبيضة حقيقية.

خامساً : لا يبعد أن تكون الاُم الحاضن محرَماً على الجنين الذي سيولد ، من باب أولويته من الاُم المرضعة عرفاً ، فيتعدى من المحرمية الرضاعية إلى محرمية الجنين على اُمّه إذا حضنته في رحمها حتى الولادة.

سادساً : أنّ الاستفادة من الجنين الثاني ( الطفل الثاني التوأم ) للطفل الأول إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تؤدّي إلى موت الطفل الثاني ولا إلى الاضرار به ، وأمّا إذا أدّت إلى موته أو الاضرار به فهي غير جائزة.

سابعاً : لا حرمة في أن يرى الطفل الثاني الذي يفصل بينه وبين أخيه المشابه له عدّة سنين مستقبله وما يعرض لأخيه من أمراض هي له بالمرصاد.

ثامناً : لا يجوز اذى الطفل الثاني أو الولد الثاني بإعلامه بمصيره الذي سوف ينتهي إليه فيما إذا علمنا بذلك نتيجة ابتلاء الولد الأول به.

أمّا بالنسبة إلى الاستنساخ فخلاصته عدة نقاط أيضاً :

أولاً : أنّ عملية الاستنساخ في البشر بعنوانها الأوّليّ - لو نجحت - لا بأس بها إن لم تقارن محرّماً آخر ، من قبيل كشف العورة أمام الأجنبي.

ثانياً : أنّ الأب في عملية الاستنساخ هو صاحب الخلية ، والاُم هي صاحبة البيضة ، فبالإضافة إلى أنّ مفهوم الولد هو ما تولّد من الشيء وهذا الولد تولّد منهما يفهم العرف أن صاحب الخلية هو الأب ، إذ لا يفهم العرف أنّ هذا الولد نشأ من غير أب ، كعيسى علیه السلام .

ثالثاً : إذا ادّى الاستنساخ البشري إلى اختلال النظام - كما لو طبق بصورة

ص: 303

واسعة - فهو أمرٌ محرّم ؛ لأنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على حفظ النظام باختلاف الألسنة والألوان.

وبهذا الّذي تقدّم يتبيّن لنا : أنّ العلماء الذين قاموا بالاستنساخ أو الاستتئام لو اداموا عملهم هذا ونجحوا فيه في الإنسان فإنّ عملهم هذا سيكون عبارةً عن اكتشاف سرٍّ من أسرار الخلق التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى في الجسد ، فلم يكن لأحد الحقّ في القول بأنّهم قد خلقوا قانوناً أو أوجدوا سرّاً في جسد الإنسان أو الحيوان ، بل هم كشفوا هذا السرّ الذي أودعه اللّه في الجسد فلم يأتوا بشيء جديد غير الاكتشاف.

إذن ليس في هذين العنوانين أيّ تحدٍّ لله ، كما يحبّ البعض أن يسمّيه اهتزاراً بين العِلم والدين.

* * *

ص: 304

اخلاقيات الطبيب (1)

اشارة

ص: 305

ص: 306

ما المقصود بسرِّ المهنة ؟

اشارة

ويقصد به : السرّ الطبي الذي هو عبارة عن كتمان ما اطّلع عليه الطبيب من أحوال مريضه ، وهذا الكتمان هو عبارة عن اتفاق مكتوم بين الطبيب ومريضه وخلاصته هو عبارة عن المبدأ الذي يقضي على الطبيب أن يكون دائماً هو المدافع عن مصالح مريضه ليمنع عنه الضرر وهذا المبدأ مقيد بقيد ارتكازي عقلائي هو أن لا يكون كتمان السرّ سبباً في نشر مرض أو تولّد ضرر عند الآخرين.

فإن المريض عند مراجعته الطبيب يذكر له أسراره مضطرّاً بسبب المرض الذي ألمّ به وعطله عن عمله اليومي كليّاً أو جزئيّاً ، وهذا السرّ الذي يبوح به المريض إلى طبيبه قد يكون حاجة ملحّة في الاستشارة الطبية ، وقد يتوقّف على نتائجها تشخيص المرض ووصف الدواء الضامن للشفاء وربما المنقذ للحياة ، ولذا وردت الروايات في ذم كتمان سرّ الداء كما عن علي علیه السلام « من كتم مكنون دائه عجز طبيبه عن شفائه » (1) « ومن كتم الأطباء مرضه خان بدنه » (2).

وهذا السرّ الطبي يختلف عن الاسرار الاُخرى التي نطّلع عليها صدفةً عن

ص: 307


1- غرر الحكم : ج 2 ، ص 668.
2- غرر الحكم : ج 2 ، ص 663.

اُناس آخرين ، إذ المطلوب ممّن اطلع على سرّ اخيه في غير حالة العلاج الطبي هو نسيانه ، أمّا السرّ الطبي الذي اطّلع عليه الطبيب من مريضه يوجب عليه أن يتمسّك به ولا ينساه وأن يتذكره كلّما راجعه المريض أو أحد اقربائه كولده - مثلاً - أو اخيه إذا راجعه في سنيّ حياته المقبلة ، إذ قد يكون هذا السرّ هو مفتاح حياة المريض أو اُسرته ، كما هو الحال في الأمراض التي تنتقل بالوراثة إلى الفروع.

وعلى كل حال فنحن نريد أن نعرف الحكم الشرعي في إفشاء هذا السرّ خصوصاً إذا كان المريض لا يرغب أو يمانع اطلاع غير طبيبه على هذا السرّ من ناحية كونه عيباً عرفياً في بدنه أو يوجب الاطلاع عليه هتكه وتعييره في بعض الأحيان.

والجواب : أنّ الشريعة الإسلامية قد اوجبت كتمان كل سرٍّ من اسرار الإنسان المسلم بالعنوان الأولي ، فقد ورد الحث في الشريعة الإسلامية على كتمان سرّ المؤمن ، ووعد اللّه سبحانه أن يجعل لمن يكتم سرّ أخيه المؤمن الاستظلال بظل العرش يوم القيامة حيث لا ظلّ إلاّ ظلّ اللّه (1).

وعلى هذا يكون حفظ السرّ الطبي من ناحية حكمه الأولي واجباً ، فلا يجوز البوح به - إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ - من ناحية الأطباء والجراحين ورجال الصحة والقوابل وكل من يتلقى الأسرار الطبية كالطلبة والمساعدين في الكليات والمستشفيات.

ولا حاجة إلى أن نستدل على حرمة كشف السرّ الطبي - إذا لم ينطبق عليه غير عنوان كشف السرّ - بعد معرفة حرمة أذيّة الإنسان (2) بإفشاء عيبه وتعييره

ص: 308


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 12 مقدمات النكاح ، ح 3.
2- وقد دلّت الروايات المتواترة على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته وسبّه وتعييره حتى في صدور المعصية منه ، راجع وسائل الشيعة : ج 8 ، أبواب العشرة من الحج. كما دلّت الروايات الكثيرة على حرمة كشف عيب المؤمن للآخرين وهو ما يسمى بغيبة المؤمن ، وبما أن كشف سرّه إذا كان عيباً في جسمه فيكون مشمولاً لها ، وقد قال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ) . الحجرات : 12.

وانتقاصه وهتكه بدون مبرر شرعي ، فإنّ كشف السرّ هو من مصداق أذيّته وسبب تعييره وانتقاصه واشعاره بالذم ، وهو أمر غير جائز شرعاً ، فقد ورد في صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام انه قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام : عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال : نعم ، قلت : سفلتيه ؟ قال : ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه » (1).

والخلاصة : أنّ مقتضى القاعدة هو تحريم كشف سرّ المريض الذي نحن بصدده بالعنوان الأولي حتى إذا رضي صاحب المرض بكشفه وكان عليه فيه مهانة ، لأنّ هذا هو حكم شرعي لا يسقط بالاسقاط ، وعدم جواز إذلال الإنسان لنفسه من الاُمور التي أكّد عليها الشارع المقدّس ، وقد ورد في الحديث : « إذا رضي الإنسان بالذل طائعاً فليس منّا أهل البيت ».

كما لا يجوز لمن ليس له علاقة بمرض المريض من الموظفين والأطباء الآخرين الاطلاع على الأسرار التي يكشفها المريض لطبيبه وتثبت في الملفّ الخاص بالمريض ، لما ذكرناه سابقاً.

متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟

إنّ ما تقدم من وجوب كتمان سرّ المريض أو حرمة افشاء سرّه إنّما كان لأجل احترام المؤمن ، وبما أنَّ كشف السرّ فيه أذى للمريض أو هتكاً له أو بياناً لعيبه الذي لا يحب نشره وامثال هذه العناوين ، فهو ينافي وجوب احترام المؤمن فيكون حراماً أولاً وبالذات. أمّا إذا كان كشف سرّ المريض لغرض صحيح ( راجع إلى

ص: 309


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 157 من أحكام العشرة ، ح 1.

المريض نفسه أو الطبيب أو إلى شخص ثالث ) بحيث يكون هذا الغرض الصحيح أعظم مصلحةً من احترام المؤمن فهنا يجب العمل على طبق أقوى المصلحتين أو أهم الأمرين ، وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرمات ، سواء كانت من حقوق اللّه أو حقوق الناس (1).

وبعبارة اُخرى : إذا امتنع الجمع بين أمرين الزاميين في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع فلابدّ من تقديم الأهم عند الشارع. وهنا نذكر بعض الأمثلة كمصاديق لهذه القاعدة :

1 - إذا كان كتمان سرّ المريض يؤدّي بالمريض إلى ضرر أكبر من ضرر إفشائه ، كما إذا كان المريض بحاجة إلى كشف مرضه أمام عائلته ( لأجل العناية به بصورة دقيقة ، وكوقاية من استفحال المرض في صورة عدم الاعتناء بالمريض ، وكحجره في صورة اللزوم لمعالجته ) حتى يقضى على ذلك المرض في مهده ولا يكون مهدداً لنفس المريض ، ففي هذه الحالة يكون في كشف السرّ مصلحة أهم من كتمانه ، فيجوز في هذه الحالة الكشف لمصلحة المريض ، ولكن الكشف في هذه الحالة ينبغي أن يقتصر فيه على حدود رفع الضرر على المريض ولا يجوز تجاوزه كما هو واضح.

2 - إذا كان في كتمان سرّ المريض مفسدة كبيرة تؤدي إلى إصابة شريحة كبيرة من المجتمع بذلك المرض المسري كعائلته وأهله وجيرانه بل أهل بلدته ، وبعبارة اُخرى : يكون في إفشاء سرّ المريض مصلحة عامّة تكمن في الوقاية من هذا المرض

ص: 310


1- إذا كان هناك حكمان الزاميان ليس في كل منهما دلالة التزامية على نفي الحكم الآخر ولم يمكن امتثالهما معاً ، بل دار الأمر بين أن يمتثل هذا او ذاك ، فيسمى هذا بالتزاحم بين الحكمين ، ومرجحات التزاحم التي ذكرت في الاُصول كلّها ترجع إلى أهمية أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهم عند الشارع هو الأرجح في التقديم ويكفي للتقديم احتمال الأهمية أو قوة احتمال الأهمية.

بصورة تحدّ من انتشاره ، ففي هذه الحالة تكون المصلحة العامّة مقدّمةً على المصلحة الخاصة الفردية في عدم كشف سرّه. وايضاً يقيّد هذا الكشف بحدود اطلاع السلطات المكلّفة بوقاية الأمراض والسهر على الصحة العامة.

3 - إذا استشير الطبيب الذي يعرف سرّ المريض في أهلية المريض من الناحية الصحية للزواج ، بأنّه هل لديه أمراض معدية أو جنسية تنتقل إلى الذرية أو الزوجة ؟ ففي هذه الحالة لا يجوز للطبيب أن يخون المستشير ، بل يجب إصداقه الأمر وكشف السرّ إذا كان ترك الكشف موجباً لمفسدة كبيرة أهم من مفسدة كشف السرّ.

4 - إذا استدعي الطبيب من القضاء للإشهاد حول مريض معين ( كما إذا كان افشاء السرّ قد نجم عن حادث جنائي ) فإذا كان في شهادة الطبيب افشاء سرّ المريض فهو جائز بل واجب لوجوب الادلاء بالشهادة شرعاً ، وهو مبرر شرعي للبوح بهذا السرّ ، إذ يكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

5 - إذا كان كشف السرّ لدفع الاتهام المتوجّه إلى الطبيب من المريض أو ذويه يتعلق بتقصيره في مهنته ومعالجته ، فهذا أيضاً كسابقه مبرر شرعي للكشف عن السرّ فيكون حاكماً على حرمة كشف السرّ.

6 - إذاكان إفشاء سرّ المريض يحول دون ارتكاب جريمة ، كما إذا كان المريض مصاباً بمرض عصبي ( عقلي ) يكون في كشفه منعاً لارتكاب جريمة في حق الآخرين.

وهكذا بقية الموارد التي يكون هناك مبرر شرعي الزامي للكشف عن السرّ الذي يقدم على حرمة كشفه ولكن في كل هذه الموارد وامثالها إنّما يتحدّد كشف السرّ امام الآخرين بالقدر الواجب لا أكثر.

الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :

أرى من اللازم عليَّ أن اُبيِّن هذا الموضوع وحكمه الشرعي وإن لم يذكر عادة تحت عنوان السرّ الطبي ، ولكن ارى من اللازم أن نقسّم السرّ الطبي إلى قسمين :

ص: 311

1 - السرّ المتعلّق بالمريض وما يكشفه لطبيبه ، وهذا تقدّم الكلام عنه.

2 - السرّ المتعلّق بالأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة.

وهذا الأمر الثاني واجب كما يجب كتم اسرار المريض ، فيجب على الطبيب أن لا يكشف عن الأدوية القاتلة أو السامّة أو الضارة لمن يسي استعمالها مطلقاً.

والسرّ في هذا الوجوب هو : أنّ الطبَّ الذي أوجب اللّه سبحانه وتعالى على العباد تعلّمه وجوباً كفائياً ، وقد يكون عينياً في بعض الحالات إنّما هو لأجل خدمة الإنسانية ولتخفيف آلامها ، فإذا عرفنا أن التعريف ببعض الأدوية القاتلة أو الضارة يؤدّي إلى إسائة استعمالها فيكون الطب حينئذ وبالا على الإنسانية وضرراً كبيراً قد يؤدّي إلى قتل النفوس واشاعة المرض ، لذا لا ترضى الشريعة بكشف اسرار الدواء لمن يسيء استعماله حتى لا يكون الطبيب الذي اُريد له أن يكون عامل رخاء في المجتمع مساعداً لزيادة آلام البشر بإعطاء هذا السرّ لمن يسيء استعماله. وقد ورد عن الإمام علي علیه السلام قوله : « ثلاثة لا يُستحى من الكتم عليها : المال لنفي التهمة ، والجوهر لنفاسته ، الدواء للاحتياط من العدو » (1) والمراد بالعدو هنا من يسيء استعمال الدواء.

ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟

قد يقال : إنّ العقوبة في هذه الصورة منوطة بنظر الحاكم الشرعي في تعزير وتأديب الطبيب ، وقد يكون التأديب بالتأنيب أو عدم مزاولة مهنته لمدّة معينة ، أو الحبس أو الضرب كبقية المحرمات التي تصدر من الفرد المخالف للشرع. وقد تكون الطلب بتعويض عما اُلحق بالمريض وسمعته من جرّاء الاباحة بسرّ مرضه.

ص: 312


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج 2 ، ص 289.

اخلاقيات الطبيب (2)

اشارة

ص: 313

ص: 314

مسؤولية الطبيب

اشارة

إنّ اللّه سبحانه قد أمر المريض بمراجعة الطبيب عند حدوث علامات المرض فيه ، إذ الطبيب هو الذي يستطيع أن يقدّم للمريض المعونة بتخفيف آلامه أو انقاذ حياته ، لهذا فإن الطبيب يتحمل اعظم مسؤولية في هذا المجال ، سواءً على صعيد تقديم الدواء والعلاج أو على صعيد المعونة النفسية للمريض ببعث الأمل واعادة الثقة في النفس ، لهذا نرى أن مسؤوليات الطبيب بالنسبة لنفسه وبالنسبة لمن يفترض أن يعالجه هي كثيرة ومتنوعة من ناحية التشريع الإسلامي ، ونحن نجمل هنا ما أمكن منها :

1 - المبادرة إلى علاج المريض :

فلا يجوز له التعلّل بعدم الأجر أو قلته ، إذ يؤدّي هذا إلى فسح المجال للمرض بالفتك بصاحبه إذا ضعفت قدرات المريض ومناعاته. وهذا الوجوب يختص بحالة الطوارئ التي لا مجال لتأخير العلاج إلى وقت لاحق ، أمّا إذا كان العلاج قابلاً لتأخيره إلى وقت لاحق فمن حقّ الطبيب أن يؤخره لسبب أو لآخر.

ص: 315

2 - عدم التمييز بين الغني والفقير :

إنّ الواجب الشرعي الكفائي أو العيني يوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام البشر أو انقاذهم من الموت ، وهذا أمر لا يفرق فيه بين الغني والفقير ، وقد عرفنا أنّ الإسلام يفضّل بين البشر بالعمل الصالح والتقوى ، إلاّ أن هذه الأفضلية لا تكون موجبة للتمييز في الحقوق والواجبات ، بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس فضلا عن الوضع الاجتماعي ( الغنى والفقر ). وقد ورد عن الإمام الرضا علیه السلام قوله : « من لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي اللّه عزّوجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان » (1).

3 - إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :

ومن الواضح أن الطبيب لا يجوز له أن يتصدّى لمعالجة أمراض لا يعرف عنها شيئاً ، إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على المعالجة ، وحينئذ يجوز للإمام ( الحاكم الشرعي المتصدّي لقيادة الاُمة المتمثّل بوزارة الصحة مثلاً ) محاسبته.

4 - بذل الجهد :

وممّا يجب على الطبيب بذل الجهد في معالجة المريض ، من حذاقته وامانته وتقواه ونصحه للمريض وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام : « كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب ، وهو : أن يكون حاذقاً بعمله ، مؤدّياً للأمانة فيه ، مستميلاً لمن استعمله » (2).

وقد قيل : إنّ معنى الطب هو الحذق بالأشياء وإن كان في غير علاج المريض ،

ص: 316


1- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 36 من أحكام العشرة من الحجّ ، ح 1.
2- البحار : ج 78 ، ص 236.

ورجل طبيب أي حاذق ، سمي بذلك لحذقه (1).

وقد ورد عن الإمام علي علیه السلام أنّه قال : « من تطبب فليتَّقِ اللّه ولينصح وليجتهد » (2).

وبهذه المسؤولية يكون الطبيب أداةَ خير للإنسان كما أراده الإسلام ، فيندفع للقيام بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأكمل.

5 - الرفق بالمريض ورفع معنوياته :

وقد ورد في بعض النصوص التعبير عن الطبيب « بالرفيق » فعن الإمام علي علیه السلام : أنّه قال : « كن كالطبيب الرفيق الذي يدع الدواء بحيث ينفع » (3).

وفي رواية عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال : « سمعت موسى بن جعفر علیه السلام وقد اشتكى فجاء المترفقون بالأدوية ، يعني الأطباء » (4).

وفي بعض النصوص : « أنّ اللّه عزّوجلّ الطبيب ولكنّك رجل رفيق ». وفي نصٍّ آخر : « أنت الرفيق واللّه الطبيب » (5).

ومن الواضح أن المريض بما أنّه لم يتمكّن من التغلب على مرضه فهو ضعيف بسبب شعوره بالألم والمتاعب ، فإذا انهارت نفسه تبعها الانهيار الجسدي لا محالة ، ولذا فقد اهتمت الشريعة برفع معنويات المريض وربط أمله باللّه وتسهيل أمر مرضه وفتح الأمل أمام مريضه ، وبهذا يكون العلاج الجسدي أمراً ثانوياً.

ص: 317


1- الطب النبوي لابن القيم : ص 107 - 108.
2- البحار : ج 62 ، ص 65.
3- البحار : ج 2 ، ص 53.
4- الفصول المهمّة : ص 415.
5- كنز العمال : ج 10 ، ص 1 و 8.
6 - غض البصر عن المحارم :

فقد عرفنا من الشريعة أنَّها اوجبت غض البصر عن المحارم إلاّ في صورة الضرورة إلى ذلك فيقتصر عليها ، وإذا تمكّن للطبيب علاج مريضه بدون نظر ، بل يكتفي بما يسمعه من كلام مريضه فيقتصر عليه ، وإذا حكمت الضرورة للنظر المحارم فلا يجوز اللمس ، وإذا اضطر إلى اللمس القليل فلا يجوز له اللمس الكثير.

7 - العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :

إنّ الروايات الكثيرة التي تؤكّد على عدم تناول الدواء ما احتمل البدن الداء أو مع عدم الحاجة إلى الدواء (1) هي كافية في الاستدلال على هذا الأمر. وقد ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام قوله : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره » (2). وقد ورد في بعض النصوص : « ليس فيما أصلح البدن اسراف ، إنّما الاسراف فيما أتلف المال وأضرّ البدن » (3) (4).

والخلاصة : أنّ المسؤولية التي تجب على الطبيب هي عبارة عن مزاولة عمله بصورة جيدة ، ومخالفة هذه المسؤولية يكون عند تحقّق شرطين :

أحدهما : وجود الأذى والضرر بالمريض.

وثانيهما : وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الذي وقع فيه الطبيب ، ولم يكن له حقّ للوقوع بهذا الخطأ.

ص: 318


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، أحاديث الباب.
2- البحار : ج 81 ، ص 207.
3- الكافي : ج 6 ، ص 499 ، الوسائل : ج 1 ، ص 397 و 398 وغيرهما.
4- لخّصنا بحث « مسؤولية الطبيب » مع تصرفات فيه من كتاب الآداب الطبية في الإسلام ، للسيد جعفر مرتضى العاملي من ص 110 - 122.

مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )

إنّ الاستطباب كعمل فرديٍّ يقوم به الإنسان قد يُحتاج فيه إلى مراجعة غير المسلم من يهود أو نصارى أو ملحدين ، فهل هناك منع من هذا الاستطباب شرعاً ؟

الجواب : لا يمنع الإسلام من مداواة غير المسلم للمسلم ، بل وردت الروايات التي تجعل هذا الأمر جائزاً.

فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يداويه النصراني واليهودي ويتّخذ له الأدوية ؟ فقال 7 : لا بأس بذلك إنّما الشفاء بيد اللّه » (1).

وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال : « قلت للإمام موسى بن جعفر علیه السلام : إنّي احتجت إلى طبيب نصرانيٍّ ( اُسلّم عليه وادعو له ) قال : نعم ، إنّه لا ينفعه دعاؤك » (2).

وواضح في هذه الرواية مفروغية جواز التطبيب عند النصراني ، إنّما كان السؤال عن السلام عليه والدعاء له ، وقد أقرّ الإمام علیه السلام التطبيب ، وذكر أن الدعاء لا ينفعه.

وقد حدثت ممارسات عملية لمداواة المسلمين من قبل غيرهم في زمان الرسول صلی اللّه علیه و آله كما نقل ذلك التاريخ.

على أنّه يكفينا عدم وجود الردع من قبل الشارع المقدّس لهذا التطبيب ، فعند الشك نحكّم البراءة والجواز. وعلى هذا فيكون الإسلام قد اهتم بالكفاءات في العلوم.

ص: 319


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 136 من الأطعمة المباحة ، ح 7.
2- وسائل الشيعة : ج 8 ، ب 53 من احكام العشرة ، ح 1.

ولكن لا ننسى أن هذا الجواز - الذي هو عبارة عن عدم الاقتضاء للمنع - قد يؤدّي في حالات معينة إلى التأثير في عقيدة المسلم أو سلوكه ، أو يوجب مودّة للكافرين ، وقد أمر اللّه تعالى بمودّة المؤمنين دون الكافرين ، قال تعالى : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1).

فإذا حصلت هذه الحالة - وهي مودّة الكافرين من هذه المعالجة - فيقدم المنع على الجواز ؛ لأنّ المنع اقتضائي والجواز لا اقتضائي.

نعم ، إذا اضطر الإنسان إلى المعالجة عند غير المسلم وكان مع هذه المعالجة مودّة لهم ، فنحكّم قانون التزاحم هنا فنقدم أهم الأمرين.

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟

ممّا لا إشكال فيه أنّ الذي أقدم على جناية خطئيّة محضة عليه الدية والكفارة ، كما ذكرت ذلك الآية القرآنية (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... ) (2).

ولكن جاءت الروايات الكثيرة والصحيحة تذكر لنا حكماً تكليفياً محضاً ، مفاده : أن العاقلة يجب عليها في هذه الصورة تحمّل الدية.

نقول : إنّ هذا التكليف في دفع الدية على العاقلة هو نوع تكليف شرعي

ص: 320


1- المجادلة : 22.
2- النساء : 92.

محض لأداء حق المجنيّ عليه ، وليس فيه أي عقوبة ، لأنّ المفروض أنَّ الجناية خطئيّة محضة ، ومن هنا نفهم أنَّ هذا الحقّ هو حقّ مالي محض للوارث لا عقوبة فيه على القاتل ، وحينئذ يتمكّن أي إنسان أن يتبرّع به بدلا عن العاقلة ، وذلك للارتكاز العقلائي القائل : إنّ التكاليف المالية المحضة يجوز قيام الغير بها عوضاً عن المكلف بها ، بخلاف التكاليف المالية التي فيها نوع عقوبة كالفدية والكفارة ، فإنّها لا تصح من المتبرع لأنّها تُعتبر نوع عقوبة على المباشر ، فلابدّ من صدورها منه لتتحقّق العقوبة.

إذا عرفنا هذا فنقول : إنّ دليل اطلاق وجوب الدية على العاقلة لا يشمل شركة التأمين أو نقابة الأطباء ؛ للمباينة بين العاقلة وبينهما.

ولكن نقول : تتمكّن الشركة أو النقابة أن تقوم بدور العاقلة بعدّة طرق :

1 - أن تدفع عوضاً عن العاقلة وتقوم مقامها تبرّعاً ما دام هذا التكليف المتوجّه إلى العاقلة هو تكليف مالي محض ، وهو حقّ للورثة ، وهذه التكاليف المالية يصح فيها قيام الغير بها تبرعاً.

2 - وإذا صح هذا العمل من النقابة أو الشركة فيمكن أن يكون هناك عقد بين الجاني خطأً وبين أحدهما مفاده : « تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأ في هذه السنة - مثلاً - مقابل دفع الطبيب مبلغاً شهرياًالشركة أو النقابة » وهذا عقد يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيجب الالتزام به.

3 - وكذا يمكن أن يكون هناك شرط في ضمن عقد لازم مفاده : تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأً في هذه السنة ، وذلك للقاعدة القائلة بوجوب التزام المسلمين بشروطهم.

4 - ومن نافلة القول بإمكان أن تدفع الشركة أو النقابة الدية إلى القاتل خطأ أو إلى العاقلة تبرّعاً ، فتدفعها هي من قبل نفسها ، ولكنّ كلامنا ليس في هذا لجواز

ص: 321

هذا الأمر حتى إذا حصل القتل الشبيه بالعمد ، بل حتى القتل العمدي ، وهذا معناه أن القاتل هو الذي دفع الدية بعد قبول التبرع.

إشكال : ولكن قد يقال : إنَّ الطريق الأوّل والرابع لا يلزم نقابة الأطباء ولا شركة التأمين على القيام بهذا العمل ، بل يبقى هذا العمل من قبلهما تبرعياً ، وعلى هذا لا يمكن أن يتخلّص الطبيب من مشكلة دية الخطأ إن حصل. وأمّا الطريق الثاني والثالث فيأتي عليهما اشكال جهالة العقد والشرط ( حيث لا يُعلم كم عدد الموارد التي يقع بها الطبيب في القتل الخطئي ، وقد لا يقع أصلاً ) والجهالة تضرّ بصحة العقد لأنّه يكون غررياً ، وقد أبطل المشهور العقد الغرري.

ولا يمكن الجواب على هذا الاشكال إلاّ بأنّ نقول : إن الغرر في اللغة ليس هو الجهالة بل بمعنى الخطر « وهو المتيقن من معناه ، وإن كان مادّته بمعنى الغفلة والخديعة أيضاً » ، وحينئذ لا تكون الجهالة المذكورة في العقد أو الشرط مبطلة للعقد. ولنأمن الأمثلة المتعدّدة في الفقه الإسلامي ( التي تدل على صحة بيع ما فيه جهالة ) الشيء الكثير ، مثل بيع العبد الآبق مع الضميمة ، وصحة بيع اللبن الذي في الاُسكرجّة مع ما في الضرع ، وصحة بيع الثمرة بعد ظهورها وانعقادها سنةً أو سنتين مثلاً.

* * *

ص: 322

العلاج الطبي

اشارة

ص: 323

ص: 324

البحث عن التداوي

إنّ الإنسان بفطرته يسعى لازالة آلامه واسقامه ، وقد حثّ الإسلام على التداوي ، حيث ذكرت كتب الطب النبوي الأحاديث الشريفة المتواترة - التي منها الصحيح والحسن والموثّق والضعيف - التي تحثّ على التداوي بصورة عامة أو خاصة ، حتى استخدام الحجامة والحبة السوداء والكمأة والحنّاء ومداواة المبطون والمطعون والرمد والحمّى ، فمن تلك الروايات :

1 - عن محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر علیه السلام هل يعالج بالكّي ؟ فقال : نعم ، إن اللّه جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً كثيراً و ... و ... » (1).

2 - عن يونس بن يعقوب قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الرجل يشرب الدواء وربما قتل ، وربّما سلم منه ، وما يسلم منه أكثر ؟ قال : فقال علیه السلام انزل اللّه الدواء وانزل الشفاء وما خلق اللّه داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ اللّه تعالى » (2).

ص: 325


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 134 من الأطعمة المباحة ، ح 8.
2- المصدر السابق : ح 9.

3 - وعن جابر قال : « قيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتتداوى ؟ قال : نعم ، فتداووا فإنَّ اللّه لم ينزل داءً إلاّ وقد انزل له دواء ، وعليكم بألبان البقر فإنّها ترعى من كل الشجر » (1).

وقد اخرج ابو داود والترمذي والحاكم وصححاه ، والنسائي وابن ماجة وابن السني وابو نعيم واحمد كما حكى عنهم اسامة بن شريك قال : « كنت عند النبي صلی اللّه علیه و آله وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول اللّه انتداوى؟ فقال : نعم : يا عباد اللّه ، تداووا فإن اللّه عزّوجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ، غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم ».

ومن الواضح أنّ التداوي الذي تفزع اليه النفوس البشرية لا ينافي التوكّل على اللّه سبحانه لأنّه سبحانه قد جعل مباشرة الاسباب مقتضيات لمسبباتها ، فإنّ معنى التوكّل هو اعتماد القلب على اللّه سبحانه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، وقد جعل اللّه سبحانه قانونه الحكيم في الوصول إلى ما ينفع ، ودفع ما يضر إلى سلوك الأسباب لذلك ، فالتداوي لرفع الداء هو مثل دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها ، وكرد العدو بالجهاد.

4 - وقد ورد في مسند احمد والسنن ، واخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول اللّه أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل تردّ من قدر اللّه شيئاً ؟ قال : هي من قدر اللّه ».

ولهذا نقول إنّ المتوكّل يجب عليه أن يعمل ما ينبغي ويتوكّل على اللّه في نجاحه ، فالفلاّح يحرث ويبذر ثم يتوكّل على اللّه في نزول المطر والنماء ، وقد ورد في القرآن الكريم (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لصاحب الناقة : « اعقلها وتوكّل ».

ص: 326


1- المصدر السابق : ح 10.

أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي

اشارة

وينقسم التداوي من ناحية الحكم الشرعي إلى الأقسام الخمسة :

أ - الجواز.

ب - الوجوب.

ج - الندب.

د - المكروه.

ه - المحرم.

أ - جواز التداوي :

أمّا جواز التداوي فهو مستفاد من الروايات الكثيرة القائلة : « إنّ الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء » ، ومن الاجماع المنقول في عدم وجوبه كما في مرض الموت أو كان التداوي موهوماً مضنوناً أو كان المرض مزمناً ، أو لا دواء له حسب قول الطبيب ، أو كان له دواء وكان فيه مخاطر كبيرة وفائدته مظنونة أو موهومة ، مثل أمراض السرطان أو الأورام الخبيثة التي يخاف انتشارها في الجسم ، وكذلك في الأمراض التي لا تضر إلاّ صاحبها ضرراً يتحمّله مثل حساسية الأنف.

ب - الوجوب :

ووجوب التداوي له موارد متعدّدة ، منها :

1 - إذا كان بدن الإنسان لا يتحمّل الألم الذي هو فيه ، فقد ورد في كتاب « مكارم الأخلاق » قال : « قال علیه السلام : تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم

ص: 327

يحتمل الداء فالدواء » (1).

2 - الأمراض التي تنتقل إلى الآخرين بالعدوى ، مثل مرض السل والجذام ، والخناق والكُزاز ، والهيضة ( الكوليرا ) والأمراض الجنسيّة ، وأنواع الحميات مثل : الحمى الشوكية والملاريا ... الخ. فإنّ هذه الأمراض إن لم يتداوى المصاب بها فإنّها تجر المرض إلى الآخرين ، ويحصل التضرر بسبب عدم المعالجة والقضاء عليها ، وقد نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن الضرر والضرار في الإسلام ، فكل ما يأتي منه الضرر من أفعال المكلّفين فهو منهي عنه في الإسلام ، والنهي يساوق الحرمة ، وإذا صار عدم التداوي حراماً فلازمه وجوب التداوي إذا كان للمرض علاجاً ، وأمّا إذا لم يكن للمرض علاج ودواء فيمكن استخدام وسائل الوقاية والتطعيم لمنع انتشارها ، كما أن عمليات الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب على الأقل يؤدّي الى حصر الوباء في مكان معين.

ثم إنّ عدم التداوي في الأمراض التي لها علاج طبّي يؤدّي إلى الهلاك غالباً ، وقد نهانا اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعدم القاء النفس في التهلكة حين قال : (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وهذا النهي يشمل القاء النفس بالتهلكة مباشرة أو تسبيباً بترك المعالجة أو انتشار المرض المعدي.

ثم إنّ وجوب التداوي ينقسم إلى قسمين :

أولاً : وجوب فردي يتوجّه فيه التكليف إلى الفرد المصاب ، وهذا قد تقدّم.

ثانياً : وجوب إلى المجتمع المهدد بالخطر ( المرض ) ، وهذا الوجوب المتوجّه الى المجتمع يحدّده ولي الأمر ، كما في حالات ظهور امارات الوباء ، فإنّ الولي - متمثّلا بوزارة الصحة - يصدر أمراً إلى المجتمع بوجوب مباشرة دواء معين أو زرقة

ص: 328


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.

من علاج وقائي. وقد تكون الوقاية حجراً صحياً على بلدة كاملة لمنع خروج أفرادها ، أو دخول أحد إليهم ، وهذا كلّه يدخل في نطاق العلاج الواجب.

ج - الندب :

وهو مستفاد من الروايات الكثيرة المتقدّمة التي تحثّ على التداوي ، ولما في التداوي من فضل العافية وعدم التعرّض للبلاء ومقدّماته.

د - المكروه :

وكراهة التداوي إنّما تكون في صورة إمكان إزالة المرض وذهابه بدون مراجعة الطبيب واستعمال الدواء ، كالأمراض الناشئة من عوارض البرد ، فإنّها تزول بالاستراحة والحمية ، وكذا كل مرض يزول بالامساك عن الغذاء إلاّ فيما يحتاج إليه ، فقد وردت الروايات ايضاً بذلك ، ففي رواية عثمان الأحول عن الإمام أبي الحسن ( الرضا علیه السلام أو الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « ليس من دواء إلاّ ويهيّج داءً ، وليس شيء انفع في البدن من إمساك البدن إلاّ ممّا يحتاج إليه » (1).

وما ورد في كتاب الخصال ( للصدوق ) بسند عن الإمام الصادق علیه السلام انه قال : « من ظهرت صحته على سقمه فيعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى اللّه منه بريء » (2).

بضميمة وضوح عدم حرمة المعالجة لمن ظهرت صحته على سقمه.

وكذا يكره التداوي في الأمراض التي ليس لها دواء أو مرض الموت.

ص: 329


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.
2- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 4 من الاحتضار ، ح 5.
ه - المحرّم :
اشارة

وقد يكون التداوي محرّماً على المريض فيما إذا كان الدواء الذي يريد استعماله محرماً وله بديل آخر يمكنه الحصول عليه ، وقد يكون الدواء نجساً وله بديل يمكنه الحصول عليه ايضاً. وقد يكون تداوي الإنسان الذي فيه المرض بقتل الجنين الذي في بطن اُمّه مع عدم الخطر الجدي على الاُمّ كما في حالات « الارحام » التي قد تبتلى بها بعض النساء ، فإن إزالة هذه الأرحام الشديدة قد يكون بواسطة اجهاض المراة لطفلها ، وهو محرم ، فالتداوي به محرم ايضاً.

هذه بعض المصاديق للتداوي بالمحرم.

ولا بأس بالتعرض هنا إلى بحث أقسام من التداوي قد يقال بحرمتها ، منها :

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟

نقول : ممّا لا اشكال فيه أن النجس - كالدم والخمر والميتة وما شاكلها - يحرم استعماله بالأكل والشرب ، وكذا إذا كان الشيء محرماً شربه واكله وان لم يكن نجساً كلحوم السباع المذكّاة والخمر بناءً على القول بطهارته ، فإنّ عدم وجود ضرورة إلى الأكل والشرب وعدم وجود انطباق عنوان آخر عليها يجعلها في حيّز المنع من الاستعمال في الأكل والشرب ، وهذا واضح من الأدلّة الصريحة عند كل المسلمين.

ولكنّ الكلام فيما إذا انطبق على هذه المحرمات الأكل والشرب عنوان الدواء ، كما إذا استُحضر الدواء من أحد هذه الاُمور أو ركّب من بعضها ، أو انطبق عنوان الانقاذ من الموت عليها فهل يجوز استعمالها في الأكل والشرب ؟

وللجواب على هذا السؤال نقول :

1 - أمّا في حالة توقّف حياة الإنسان على استعمال الميتة أو الدم أو البول فقد أفتى الفقهاء بجواز استعمالها وذلك للتزاحم الموجود بين وجوب حفظ النفس

ص: 330

وحرمة استعمال النجس ، وبما أنّ وجوب حفظ النفس أهم من حرمة استعمال النجس فقد جُوِّز استعمال النجس لأجل حفظ النفس من الموت طبقاً لقانون تقديم الأهم على المهم عند التزاحم ، أو طبقاً لقانون الضرورات تبيح المحظورات ، وليس هناك ضرورة أهمّ من حفظ النفس.

2 - أمّا في حالة انطباق عنوان الدواء على بعض هذه النجاسات ، وافترضنا أنَّ المرض الذي فيه هذا الإنسان لا يؤدّي إلى هلاكه فهل يجوز استعمال الدواء المحرم بالأكل والشرب ؟

الجواب : هنا صورتان :

الاُولى : أنّ الدواء ليس منحصراً في النجس ، بل يوجد فيه وفي غيره.

الثانية : أنّ الدواء منحصر في النجس.

أمّا في الصورة الاُولى فلا يجوز استعمال النجس للشفاء ، لعدم التزاحم بين حرمة النجس ووجوب الشفاء من المرض ، حيث يمكن الشفاء عن طريق الحلال ، وبهذا يجوز استعمال النجس ، ومثال ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى بحاجة إلى دواء معين كالدم النجس ، ويمكن تهيئة ذلك عن طريق استعمال الدواء المستحضر من مادة طاهرة العين ، كالكبد الطاهر ، أو المقويات المزيدة للدم ، ففي هذه الحالة لا يجوز شرب الدواء الذي فيه نجاسة عينية.

وأمّا الصورة الثانية فقد يقال بعدم جواز استعمال النجس ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة استعمال النجس والشفاء من المرض ، لأنّ الشفاء من المرض ليس بواجب.

ولكن الصحيح أنّ السعي إلى الشفاء من المرض واجب أيضاً ، لما فيه من مصلحة الفرد الكبرى التي يتوقّف عليها سعيه في الأرض وكونه فرداً صالحاً ، ولما فيه أيضاً من مصلحة مجتمعه الذي يعيش فيه فإن المرض الذي يوجد في المجتمعات

ص: 331

إن لم يسع إلى التخلّص منه فإنّ البشرية جمعاء تبتلى بالمفاسد الكبرى التي تهلك الجماعات والأفراد ، لذا فإن التزاحم الذي ذكر سابقاً يجري هنا بين وجوب السعي للشفاء من المرض وبين حرمة استعمال المحرّم وحينئذ إذا كان وجوب السعي للشفاء من المرض أهم من استعمال المحرم فيجوز حينئذ استعمال المحرّم لأجل الشفاء من المرض إذا كان الشفاء منحصراً في استعمال المحرّم.

ومن الأمثلة على ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى يحتاج إلى دواء ولا طريق إلى ذلك إلاّ استعماله للنجس أكلا أو شرباً قبل أن يطغى مرضه ويستفحل ، فإذا كان القضاء على المرض في استعمال الدواء أهم من حرمة استعمال النجس جاز استعمال النجس كما تقدّم ، هذا كله بحسب القاعدة الأوليّة.

أمّا بالنسبة للروايات فقد وردت الروايات الظاهرة بل الصريحة في حرمة استعمال النجس أكلا أو شرباً حتى في صورة انحصار الدواء به كالضرورة ، واليك بعضها :

1 - صحيحة عمر بن اذينة ، قال : « كتبت إلى الإمام الصادق علیه السلام أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير ، فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ ، ليس يريد به اللذة ، إنّما يريد به الدواء ؟ فقال علیه السلام : لا ولا جرعة ، ثم قال : إنّ اللّه عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » (1).

2 - صحيحة الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن دواء عجن بالخمر ؟ فقال : لا واللّه ما اُحبّ أن أنظر إليه ، فكيف أتداوى به ؟ إنّه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير وترون اُناساً يتداوون به » (2).

ص: 332


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 20 من الأشربة المحرّمة ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 4.

3 - صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن الدواء هل يصلح بالنبيذ ؟ قال : لا ... إلى أن قال : وسألته عن الكحل يصلح أن يعجن بالنبيذ ؟ قال : لا » (1).

وهذه الروايات وإن كانت واردةً في الخمر إلاّ أنّ ظاهرها النهي عن التداوي بالحرام ، وهي مطلقة لصورة الضرورة وانحصار الدواء بالحرام وعدمها ، إلاّ الرواية الاُولى فهي تقنن قاعدة « إنّ اللّه لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواءً ولا شفاءً » فهي تشير إلى عدم وجود انحصار الدواء في المحرم ، بل تقرّر أنّ المحرّم لا يمكن أن يجيء منه الشفاء والدواء ، وبهذا يبطل الفرض الذي نحن فيه ، هو انحصار رفع الداء بالحرام أو ارتفاع الداء بالحرام.

هذا ولكن إذا أثبت العلم بما لا شك فيه ولا ريب أنّ بعض المحرمات والنجاسات يمكن استفادة الدواء منها ، وقد ينحصر الدواء فيها في بعض الحالات فحينئذ تطرح هذه الروايات للخلل في متنها الذي يكون مخالفاً للواقع الخارجي ، ويعود الفرض ويحكّم قانون التزاحم.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات المانعة من وجود الدواء في الحرام هي ناظرة إلى الواقع الخارجي الذي كان في وقت صدور الروايات فكان الدواء غير موجود فيما هو محرّم ، أمّا في زمان آخر كزماننا إذا تمكّن العلم بأدواته الدقيقة وعمقه الكبير أن يوجد دواءً من النجاسات أو المحرّمات ، وانحصر الدواء به فنرجع إلى القاعدة ، حتى لو لم يكن المتن الروائي مخالفاً للواقع الخارجي وقت صدورها.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات مختصة بصورة الخمر وشرابه على هيأته الخمرية ، بينما كلامنا في صورة استخراج الدواء من المحرم بحيث تزول صفة الخمرية أو صفة الحرام ويتّصف بصفة اُخرى هي صفة الدواء ولكن عيبه هو

ص: 333


1- المصدر السابق : ح 15.

النجاسة أو الحرمة ، فتكون الروايات منصرفة عمّا نحن بصدده من انحصار الدواء في ما يستخرج من المحرّم أو النجس ، وهذا سيأتي في القسم الثالث. وبهذا الذي تقدّم يرجع البحث السابق ، ونحكّم قانون التزاحم.

ولكن نقول : إنّ هذه الروايات قد تكون معارضةً - إذا قلنا بحرمة شرب الأبوال الطاهرة ، كما هو الصحيح - بالروايات التي خصّت في التداوي فقط بأبوال الأبل والبقر والغنم في صورة الدواء فقط ، ومن تلك الروايات :

1 - موثّقة عمار بن موسى الساباطي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال علیه السلام : إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك أبوال الإبل والغنم » (1).

2 - موثّقة المفضل بن عمر ، عن الإمام الصادق علیه السلام « أنّه شكا إليه الربو الشديد ، فقال له علیه السلام : اشرب أبوال اللقاح ، فشربت ذلك فمسح اللّه دائي » (2).

3 - وعن أنس : « أنّ رهطاً من عرينة أتو النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقالوا : إنا اجتوينا المدينة وعظمت بطوننا وارتهست اعضاؤنا ، فأمرهم النبي صلی اللّه علیه و آله : أن يلحقوا برّاً الإبل ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فلحقوا براعى الابل ، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم ، ثم قتلوا الراعي وساقوا الابل » (3).

وفي القاموس : جوى : كره ، وأرض جويه : غير موافقة وفيه ، ارتهس الوادي : امتلأ.

ص: 334


1- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 59 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 17 ، ب 59 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 8.
3- السنن الكبرى للبيهقي : ج 10 ، ص 4 ، ورواه البخاري في الصحيح : ج 1 ، باب الأبوال ص 67 بأدنى تفاوت.

4 - وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذربة بطونهم » (1).

وفي القاموس : الذربة محركة : فساد المعدة.

والصحيح أنّ هذه الروايات لا تكون معارضة لما تقدّم حيث انها اخص منها فتقيد الحرمة بغير شرب الأبوال الطاهرة للدواء. نعم ، هناك روايات تجوِّز شرب أبوال مأكول اللحم على وجه الاطلاق ، إلاّ أنّها ضعيفة السند ولابدّ من تقييدها بالتداوي وحتى لو كانت صحيحة السند فلابُدَّ من تقييدها بالتداوي لموثّقة عمار المتقدّمة.

القسم الثاني : التداوي بالنجس أو الحرام بغير الأكل والشرب :

نقول : إنّ لفظ « التداوي بالحرام » يشمل غير الأكل والشرب أيضاً ، كالتدهين والتزريق والتكحيل ووضع عضو من جسم الخنزير في جسم الإنسان واشباهها ، ولكن الروايات المتقدّمة وان كان مطلقة إلاّ أنّها منصرفة إلى المحرم الذي حرم أكله أو شربه ، لكثرة استعمال الحرمة وارادة خصوص الأكل والشرب منها ، كما إذا قال شخص لآخر : « حرم الشارع علينا الميتة » فإنّ المنصرف منها هو حرمة الأكل وإن كان اللفظ يشمل حرمة الحمل واللمس والنظر. وكذا كل رواية فيها لفظ « الخمر » ، فإنّ المحرم شربه ومقدماته ومؤخرته التي تتعلق بالشرب ، وعلى هذا تبقى موارد بقية الاستعمالات مثل التزريق - إذا لم يكن فيه ذهاب العقل - والتدهين والتكحيل ووضع مادة من جسم حيوان في جسم الإنسان واشباهها غير محرمة ، وذلك لعدم التزاحم بين الواجب والحرام.

نعم ، نخرج التكحيل الذي فيه خمر عن دائرة الجواز ، لوجود روايات تحرمه ،

ص: 335


1- مسند أحمد : ج 1 ، ص 293.

مثل الرواية الثالثة المتقدّمة ( صحيحة علي بن جعفر ) وغيرها ، إلاّ أن روايات « ليس شيء ممّا حرمه اللّه تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه » تجوِّز ذلك إذا كان ضرورة ، ولا يمكن الدواء إلاّ به.

ولا تأتي هنا قاعدة « إنّ اللّه لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها منصرفة إلى خصوص الأكل والشرب.

إذن النتيجة : هو جواز التداوي بعين النجس إذا لم يكن أكلا أو شراباً ، ولو لم تكن ضرورة إلى ذلك.

القسم الثالث : هل يجوز التداوي بالنجس إذا استهلك في شيء آخر ؟

أقول : هذه هي الصورة الواسعة المنتشرة في الدواء ، حيث يوضع النجس مع مواد اُخرى بحيث يستهلك فيها ولا ينعدم ، فهل يجوز استعمال الدواء في هذه الصورة وإن كان هناك دواء غيره ، أو يجوز في صورة انحصار الدواء بالنجس المستهلك ؟

الجواب : مرةً نتكلّم عن صورة كون الدواء هو عبارة عن الأكل والشرب.

ومرة نتكلّم عن صورة كون الدواء ممّا ينتفع به بغير الأكل والشرب.

أمّا في الصورة الاُولى فإنّ الاستهلاك الذي حصل للنجس في ضمن غيره لا يجعله طاهراً ، فيبقى الدواء الذي فيه النجس على حكم عدم جواز اكله أو شربه ، سواء كان مائعاً أو لا ، وذلك لأنّ الشبهة هي وجود النجس في المادة ، ولا يجوز تناول المادة التي فيها النجس ، وعلى هذا فإذا كان هذا الدواء غير منحصر لذلك الداء فلا يجوز استعماله ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة أكل النجس أو شربه ، وبين وجوب السعي في الشفاء من الداء لوجود الدواء الطاهر ، أمّا إذا كان هذا الدواء قد انحصر فيه الاستشفاء فهل يجوز شربه أو أكله أم لا ؟

ص: 336

الجواب : يقع التزاحم بين حرمة أكله أو شربه ووجوب السعي للاستشفاء ، فإن كان الوجوب أهمّ من حرمة استعمال النجس جاز استعماله للاستشفاء ، وهنا لا تأتي قاعدة « إنّ اللّه عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها واردة في عين النجس ، أو منصرفة إليه ، أمّا هنا فإنّ عين النجس مستهلكة مع اشياء اُخر ، فتأتي قاعدة « ليس شيء ممّا حرمه اللّه تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه ».

وأمّا الصورة الثانية فهو أمر جائز بلا كلام ، كالتدهين والتزريق والتكحيل فإنّ هذه الأمور لا مانع من استعمال النجس فيها فضلا عن استهلاكه مع غيره ؛ لأنّها جائزة بالأصل ولا دليل على الحرمة ، فلا تزاحم أصلاً بين الوجوب والحرمة. دفع توهّم :

إنّ ما ذهبنا إليه من حرمة استعمال أبوال مأكول اللحم ليس من ناحية الاستدلال بآية (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، فإنّ معنى الخبائث في الآية هو كل ما فيه مفسدة ولو كان من الأفعال ، فإنّ لفظ « الخبيث » يطلق على العمل الخبيث كما في قوله تعالى : (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) وبما أن أبوال ما يؤكل لحمه فيه مصلحة للمريض فهي ليست من الخبائث وإن تنفّر منها الطبع ، وإنّما دليلنا هو الروايات المتقدّمة التي أحلّت شرب البول لأجل الدواء.

هل يجوز تعطيل عضو من اعضاء الإنسان بواسطة الطبيب ؟

قد يطلب الفرد اختياراً تعطيل عضو من اعضائه التناسلية - مثلاً - أو غيرها ، كرضّ الخصيتين ، أو منع المني من عملية الاخصاب ، كما قد تطلب المرأة من الطبيب قلع الرحم أو سد الانابيب التي تخصب ، أو يطلب شخص رفع كليته واشباه ذلك ، فهل يجوز هذا العمل ؟

وقد يصوّر هذا البحث بصورة ثانية ، وهي : هل يجوز للطبيب أن يعمل هذا

ص: 337

العمل بدون رضا الفرد ؟ (1)

وبحثنا الآن في صورة العمل الاختياري الذي يقوم به الفرد والطبيب ، فهل هذا جائز ؟

الجواب : قد يقال : إنّه عمل محرم في صورة يعدّ الجسم المأخوذ منه العضو ناقصاً ، لأنّه يدخل تحت اطلاق « لا ضرر ولا ضرار » التي تشمل الأحكام الشرعية التي يحدث منها الضرر والأفعال الضررية ، فإنّها كلها قد نهى عنها النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : « لا ضرر ولا ضرار » ، ومن الأفعال الضررية : ضرر الإنسان لنفسه وجعل جسمه ناقصاً عرفاً ، وهو ضرر كبير لا يمكن أن يقال بجواز اقدام الإنسان عليه.

نعم ، يُستثنى من الحرمة ما لو كانت المرأة في حالة يضرها الحبل بصورة قد يؤدّي إلى فقدان الاُم حياتها ، ففي هذه الحالة تكون حياة الاُم مقدّمة على حرمة نقص العضو ، كسد الأنابيب المخصبة للحمل عند المرأة. كما تستثنى حالة ما إذا توقف على نقص العضو عند فرد نجاة إنسان آخر من الموت ، كما إذا كان هناك شخص يعاني من توقف كليتيه ، وقد أراد آخر أن يتبرّع له بإحدى كليتيه لينقذه من الموت ، ففي هذه الحالة ترتفع الحرمة التي تقدّم الكلام عنها ، وذلك لأنّ دليل حرمة أن ينقص الإنسان عضواً من أعضائه هو في صورة ما إذا كان التنقيص

ص: 338


1- وقد ذكر لنا أن الصين قامت بعقم أكثر من مائة مليون شخص في عهد ماوتسي تونغ بالاكراه ، كما قامت انديرا غاندي ( رئيسة وزراء الهند ) في بداية السبعينات من هذا القرن بعقم احد عشر مليوناً من الرجال والنساء قسراً ، وطبعاً أنّ هذا العمل محرم لما فيه من انتهاك لحرية الإنسان - التي اعطاها اللّه سبحانه له - بدون مبرر ، كما أنّها انتهاك وتعدٍّ على جسم الإنسان وضرر عرفي متوجّه إليه. ومثل هذا ما يحدث في إجراء التجارب القاسية والخطيرة علی المسجونين بالاكراه.

لا يلازمه عنوان آخر مهم يعدّ معه التنقيص غير محرم ، كفرضنا الذي نحن فيه ، وهذا يتّضح من ملاحظة التزاحم الذي يذكر فيما إذا كان انجاء الغريق متوقفاً على أضرار الغير بإتلاف زرعه ، ففي هذه الحالة لا يكون الاتلاف محرماً حيث يُقدّم انقاذ الغريق على حرمة اتلاف زرع الغير ، فما نحن فيه كذلك وان لم يكن انقاذ حياة الفرد الآخر واجباً على المعطي ؛ لأنّنا نتكلم في التزاحم الأعم من الحكمي ، وهو التزاحم الملاكي (1) وان لم يكن أحد فرديه واجباً من قبل الشارع لمصلحة التسهيل على العباد إلاّ أنّه ذو مصلحة مهمّة جدّاً تجعل اضرار الفرد الآخر بنفسه وتنقيص عضو من أجل إنقاذ حياة الآخر ليست محرمة.

هذا كله بالنسبة إلى العضو إذا قلع من جسم الإنسان ، كالعين والكلية

ص: 339


1- التزاحم الملاكي : والمراد منه اعطاء الكِلية لفرد آخر إذا لم تكن واجبة ( رغم أهميّة ملاكها ) لوجود مانع من الوجوب كمصلحة التسهيل مثلاً فمع ذلك هو يزاحم حرمة اضرار الإنسان بنفسه. وهذا التزاحم يختلف عن التزاحم في الحكم الذي أشير إليه في الأصول من مصطلحات الآخوند (صاحب الكفاية) القائل بالتزاحم الملاكي، ومصطلحات الميرزا النائيني القائل بالتزاحم الخطابي في كيفية تصوّر التزاحم ، فيقصد الآخوند أن المولى ناظر إلى أقوى الملاكين، ويحكم وفقاً له. ويقصد الميرزا أن المولى خاطبنا خطابين قد تزاحما ، فإنّ في هذا التزاحم الأصولي يقصد وجود ملاكين كلُّ منهما بحد ذاته يؤدّي إلى الحكم ، فالآخوند يصور التزاحم في نفس الملاكين فبالتالي لا يوجد سوى حكم واحد ، والميرزا يصوره في الخطابين أي أن الملاكين أثرا ووصلا إلى حكمين وتزاحما . أما في التزاحم الذي نقصده في هذا البحث فهو اننا حتى إذا فرضنا أن الملاك لا يصل إلى الحكم فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر ، ففي موردنا إذا قلنا بحرمة أن يضر الإنسان بنفسه ويقلع عضواً من اعضائه ففي صورة كون هذا العمل منقذاً لإنسان آخر وان لم يكن انقاذه واجباً يحصل تزاحم ملاكي بين الفعلين، فلا تكون حرمة الضرر مطلقة لصورة انقاذ إنسان آخر .

والنخاع. أمّا إذا كان المقلوع من الجسم غير الأعضاء ( كالجلد مثلاً ) الذي هوقابل للتجديد في الإنسان وكالدم فهو جائز بلا كلام ؛ لعدم عدّ ذلك نقصاً في جسم الإنسان بحيث يشمله حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

وقد يقال في ردّ دليل « لا ضرر » : إنّ لا ضرر لا يشمل صورة اضرار الإنسان لنفسه ، وإنّما يقتصر على منع الضرر الذي يتوجّه إلى الغير من قبل الأخرين (1).

وقد يقال بعدم وجود الضرر كما في مثال العقم ، فعلى هذا المنبى هل يوجد دليل يحرم هذه الأعمال في صورة الاختيار ؟

نقول : إنّ أهم دليل يمكن أن يُستدل به للحرمة هو الآية القرآنية الواردة على لسان الشيطان ، وقد نقلها القرآن الكريم ولم يردّها ، فهي مقبولة عند اللّه تعالى وهي (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (2).

فقد يقال : اننا نفهم من هذه الآية أن تغيير خلق اللّه تعالى من عمل الشيطان

ص: 340


1- هناك مبنى يقول : إن ضرر الإنسان بالغير قد منعه الشارع وفقاً لقانون ارتكازي عرفي يمنع اضرار الإنسان بغيره ، وهذا القانون مستمد من عدم جواز اضرار الإنسان بنفسه الذي هو ارتكازي ايضاً ، ولذا ورد في الحديث « الجار كالنفس غير مضار » فقد افترض أن الإنسان لا يضر نفسه ، فكذا لا يجوز له اضرار جاره كنفسه. ولكن لنا أن نقول : إن الحديث وارد في القضايا الأخلاقية لا الشرعية؛ حيث إنّ إقدام الإنسان على ضرر نفسه في المعاملات والأعمال جائز بلا كلام كما في اقدامه على الشراء الغبني مع علمه به ووقوفه تحت الشمس ساعات طويلة لأجل تحصيل رزق يومه مع امكانه صنع مضلة له ، وأمثال ذلك، على أن ارتكازية حرمة الضرر بالغير عرفاً ممنوعة ، فإنّ الشارع أراد بتأسيسه الحرمة إيجاد المجتمع الإسلامي الصالح، فشرع حرمة الاضرار بالغير، كما هو واضح لمن اطلع على حكاية سمرة بن جندب وجذع النخلة .
2- النساء : 119.

الذي يخسّر به الإنسان المتَّبع له.

وعيب هذا الدليل هو عدم إمكان الأخذ بظاهر الآية ؛ وذلك لأنّ كثيراً من الأشياء المتيقّن بجوازها هي عبارة عن تغيير خلق اللّه ، مثل قصر اللحى والختان وقص الاظفار والشعر ، وتغيير مجرى المياه وإزالة الجبال وشق الطرق وما إلى ذلك من اُمور كثيرة نقطع بجوازها وهي تغيير لخلق اللّه تعالى.

وقد يجاب على هذا الاشكال بتطبيق قانون التغيير ، فيقال : إنّ الآية مطلقة في حرمة تغيير خلق اللّه على انه من عمل الشيطان ، وقد خرج ما خرج بمخصص منفصل أو إجماع أو ضرورة فقهية أو بمخصص متصل ، وبقي ما بقي مثل نقص العضو في الإنسان الذي نحن بصدده.

ولكن نقول : إنّ الاشكال الذي نذكره هنا هو أحد شِقّين :

1 - إنّ وضوح خروج عدد مهمٍّ من الاُمور بصورة مرتكزة قد اكتنف بالآية القرآنية ، وهذا يغيّر المعنى ويزلزل أصل الظهور ، فيأتي الاجمال.

2 - أو نقول : إنّ هذا الخروج لكثير من الاُمور المهمّة بصورة مرتكزة المقارن للآية يكون قرينة على ارادة معنى آخر وهو : أنّ الشيطان بقوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) يريد به التهديد بتغيير فطرة التوحيد ، لا التغيير المادي.

ولكن ممّا يهدم الشق الثاني قوله تعالى : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) فإنّ تشقيق آذان الأنعام هو أمر مادّي ، فيكون المراد من تغيير خلق اللّه في الآية هو التغيير المادّي لا تغيير فطرة التوحيد.

ولكنّ هذا الهدم غير سليم ؛ وذلك لأنّ فرض ضلالية تشقيق الآذان ليس من باب تغيير خلق اللّه ، وإنّما توجد هناك عمليتان يشير إليهما ابليس ، وهما :

أ - فليبتِّكن آذان الأنعام ، فقد فسّر بأنّه اشارة إلى جرّ البشرية الخرافات ، وكانت هناك خرافة في العصر الوثني في أن الأنعام : إمّا أن تقص آذانها أو تشق ،

ص: 341

وحينئذ يحرم أكل لحمها ، والإسلام جاء لابطال هذه الخرافات.

ب - فليغيّرنّ خلق اللّه ، وقد فسّر بتفاسير ، وفي الروايات التي نقلتها كتب التفسير عن الإمام الباقر والصادق علیهماالسلام : أنّ المراد بتغيير خلق اللّه هو تغيير فطرة التوحيد ، ويستشهد على ذلك بآية (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1).

إذن يبقى الاشكال على الآية بأنّها إمّا مجملة ، أولها معنىً آخر غير التغيير المادّي الذي نحن بصدده.

ج - وقد يستدل بدليل ثالث على حرمة بعض هذه الاُمور (2) ، كما إذا كان تنقيص العضو عند المرأة يستوجب إجراء عملية لها من قبل الرجل ، وهو حرام ، لحرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ، أو كون تنقيص العضو - من قبيل سدّ الأنابيب - الذي يسمى بالعقم الدائم قد يستوجب النظر إلى العورة وهو أمر محرم ، بينما يكون سدّ الأنابيب أو تنقيض العضو أمراً اختيارياً للمرأة ، وحكمه الجواز ، ولكن لا يقدم الجواز على الأمر الحرام. وهنا لأجل البحث في هذا الموضوع المهم نقسّمه قسمين :

القسم الأول : ويبحث عن صورة التماثل بين المعالِج والمعالَج ، فالطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على الرجل وينظر إلى خصيتيه مثلاً ، أو المرأة هي التي تنظر إلى عورة المرأة لأجل غلق الأنابيب ، أو قطع الكلية مثلاً.

القسم الثاني : ويبحث عن صورة الاختلاف ، بمعنى أن الطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على المرأة ، أو قطع كليتها ، أو المرأة هي التي تجري عملية العقم الدائمي للرجل وتنظر إلى خصيتيه مثلاً أو تقطع كليته.

ص: 342


1- الروم : 30.
2- إنّ هذا الدليل يختص في صورة كون العملية فيها نظر إلى العورة ، أو فيها حرام آخر مثل النظرالأجنبية.

أمّا بالنسبة للقسم الأول فقد يقال : إنّ الحرمة التي اثبتها الشارع المقدّس على المرأة في النظر إلى عورة امرأة متماثلة لها ، أو وجوب ستر عورتها عن المماثل لها قد دلّت عليها الآية القرآنية (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... ) (1). وكذا جملة من الروايات مثل صحيحة حريز عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » (2).

وفي حديث المناهي عن الإمام الصادق علیه السلام عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « ومن تأمل في عورة أخيه المؤمن لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة » (3).

ولكن لنا أن نتساءل هنا عن تقييد لهذا الاطلاق يجوّز لنا أن تنظر المرأة عورة المرأة ، فهل يوجد تقييد ؟

الجواب : هناك تقييد واضح في حالة الاضطرار إلى المعالجة ، أو كون عدم المعالجة فيه حرج على المرأة ، فنفس الضرورة والحرج يُجوِّزان للمرأة أن تعرض نفسها على المرأة لأجل النظر إلى العورة إذا احتاجت إلى ذلك ، وكذا يجوز للطبيبة النظر كذلك.

ولكنّنا حيث كنّا نتكلم في العقم غير الضروري ، بحيث لو بقيت المرأة من دون سدٍّ للأنابيب تتمكّن من عدم الإنجاب ، أو الإنجاب من غير أن توقع نفسها في حرج أو ضرر كبير ، فهل لنا تقييد آخر يجوّز لنا أن ينظر المماثل إلى المماثل ؟

ص: 343


1- النور : 30 - 31.
2- وسائل الشيعة : ج 1 ، ب 75 احكام الخلوة ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 1 ، ب 75 من أحكام الخلوة ، ح 2.

قد يقال (1) بأنّنا لا نفهم الاطلاق من حرمة النظر إلى المماثل ، لأنّ هذا الحكم الذي هو خال عن الشهوة إنّما وجد من أجل الاحترام والاحتشام ، ففي كل مورد يوجد هناك غرض عقلائي لكشف العورة لا يكون الكشف محرماً ؛ لأنّه ؛ لا يكون خلاف الاحتشام والوقار.

وبعبارة اُخرى : أنّ الاستظهار العرفي من الآية القرآنية المتقدّمة ومن رواية « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » وأمثالها لا يفهم منه الاطلاق بعد إحراز أنَّ

ص: 344


1- (1) ذهب إلى هذا الدليل آية اللّه السيد كاظم الحائري ، وهو متين إذا احرزنا أن الحرمة التي جعلها الشارع المقدّس في النظر إلى المماثل هي حرمة احترامية ، ونستطيع أن نثبت ذلك بعدّة روايات ، منها : 1 - صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار». وسائل الشيعة : ج 1 . ب 6 من أبواب آداب الحمام ، ح 1. 2 - ما روي عن السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم : لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن». وسائل الشيعة : ج 14، ب 112 من مقدمات النكاح و آدابه، ح 1. 3 - ما روي عن عباد بن صهيب قال : سمعت الصادق عليه السلام يقول : « لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج ، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون ، قال : والمجنونة والمغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك» . المصدر السابق : ب 113، ح 1. 4 - صحيحة محمد بن مسلم قال : سمعت الإمام الباقر عليه السلام يقول: «ليس على الأمة قناع في الصلاة ولا على المدبرة، ولا على المكاتبة إذا اشترط عليها قناع في الصلاة وهي مملوكة حتى تؤدي جميع مكاتبتها ... » . المصدر السابق : ب 114 ، ح 2 . وهذه الروايات واضحة الدلالة على أنّ الحكم في الحجاب هو للاحترام، ولذا يسقط هذا الحكم في صورة زوال الاحترام والاحتشام. ولكن لا يمكن العمل باطلاق الرواية الأولى التي هي تشمل صورة نظر المماثل إلى المماثل ونظر المخالف إلى المخالف ؛ لوجود روايات تمنع من أن ينظر المخالف إلى المخالف إلا في صورة الاضطرار ، كما في صورة احتياج المرأة إلى الطبيب الذكر، فتبقى صورة المماثلة يجوز فيها النظر إذا لم يكن خلاف الاحترام، كما في صورة وجود غرض عقلائي من الكشف . قد يقال : إن الاحترام الذي يدور مداره الحكم الشرعي ليس بيد العرف ، لتربية الإسلام الخاصة لأتباعه ، ولهذا فقد ارتأى الإسلام أن الاحترام يرفع في صورة الاضطرار فقط .

الحرمة هنا احترامية ، بل يفهم أنَّ كل ما كان خلاف الاحتشام والوقار والاحترام يكون محرَّماً ، كما في كشف المرأة عورتها أمام المماثل بلا داع عقلائي ، أمّا إذا جاء الداعي العقلائي فلا يكون كشف العورة أمام المماثل محرّماً ؛ لأنّه لا يكون خلاف الاحترام والوقار. ويؤيده أن سعد بن معاذ لمّا حكم على قريضة « كان يكشف عورات المراهقين ، ومن انبت منهم قُتِل ، ومن لم ينبت جُعل في الذراري (1) مع إمكان معرفة البلوغ بغير الكشف.

وعلى هذا فلا يشمل اطلاق التحريم حالة العقم التي فيها هدف عقلائي ، بمعنى أن موضوع الحكم قد انتفى إذا وجد الهدف العقلائي لكشف العورة ، وهذا هو معنى : أنَّ العرف والارتكاز العقلائي لا يرى أن كشف العورة - أمام المماثل إذا كان هناك هدف عقلائي - خلاف الاحترام والاحتشام ، بنكتة الحكم والموضوع.

نعم ، إذا كان كشف العورة - حتى في صورة وجود الهدف العقلائي - خلاف الاحتشام فتشمله أدلّة الحرمة ، ولكنّ هذا غير صحيح عرفاً.

وأمّا بالنسبة لقطع كلية المرأة من قبل امرأة مماثلة فلا إشكال فيها من ناحية حرمة النظر ، كما هو واضح.

وأمّا بالنسبة للقسم الثاني - المعالجة عند الاختلاف - فإنّ الإشكال يتركّز في حرمة النظر إلى عورة المرأة أو جسمها لأجل عملية العقم الدائم من قبل الرجل ، في صورة وجود المرأة الطبيبة أو عدم وجودها ؛ لأنّنا نبحث في صورة كون تنقيص العضو أو العقم الدائم ليس بواجب ، ولكنّه ذو فائدة عقلائية للفرد ، فهل هناك طريق لتجويز هذا النظر المحرّم بالأصل ؟

الجواب : لا طريق لذلك إلاّ في حالة انطباق عنوان الضرورة من عدم وجود الطبيبة ، أو كان الطبيب الموجود لا يفيد لهذا الأمر ، وذلك لوجود الروايات المانعة

ص: 345


1- سنن البيهقي : ج 6 ، ص 58.

من النظر إلى العورة أو إلى جسم المرأة غير الوجه والكفين ، ومن الروايات الدالة على ذلك :

1 - صحيحة أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه ، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له النظر إليها ؟ قال : إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت » (1).

ومفهومها : أنّها إذا لم تضطرّ إليه ووجدت طبيبة تؤدّي نفس الغرض فلا يجوز.

ثمّ إنّ الاضطرار الذي أشارت إليه الرواية هو اضطرار عرفي ، قد يحصل بواسطة كون الطبيب ( اعلم واقدر ، مع أن مرضي يحتاج إليه ) ، أمّا إذا كان الطبيب أعلم وأقدر ولكن مرضي نوع مرض لا يحتاج إليه فلا يعدّ من الاضطرار العرفي.

ثم إنّ كلمة « إن شاءت » التي جاءت في آخر الرواية تشير إلى نكتة أنّ الطبيب لا يجوز له معالجة المرأة إلاّ برضاها ، رغم أنّ المرأة قد أجاز لها الشارع أن يعالجها الطبيب عند الضرورة.

2 - صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر علیه السلام ) قال : « سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه ؟ قال : إذا لم يكن عورة فلا بأس » (2).

وهذه الرواية جوّزت مداواة المرأة للرجل إذا لم يكن فيه كشف لعورته ، فيجوز لها أن تجري عملية جراحية لقطع كلية الرجل ولو لم تكن ضرورة

ص: 346


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح 4.

لذلك. أمّا الرجل فلا يجوز له أن يجري عملية جراحية للمرأة حتى الاستئصال كليتها إلاّ في صورة الضرورة. وبهذا اختلف الحكم بين مداواة الرجل للمرأة إذا استلزم النظر إلى جسمه - خلا العورة - تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك.

هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟

بقي عندنا نفس نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر التي ليس فيها حرمة مسبقة فهل هو جائز بلا كلام ، أو حرام بلا كلام ؟

قد يقال بعدم الجواز ، ودليله هو : أن الإنسان وإن كان متسلّطاً على نفسه إلاّ أنّه ليس له حقّ المثلة بجسمه ، وقطع الإنسان لعضو من اعضائه وإن كان بواسطة الطبيب ورضاه هو مثلة غير جائزة.

ولكن الجواب عن ذلك : أنّ العرف يرى أنّ المثلة تتحقّق عند التعدّي على الإنسان ، وفي صورة ما نحن فيه لا يكون أي تعدٍّ من إنسان على آخر ، بل جاء الإنسان الأول بطوع اختياره وإرادته وطلب من الطبيب نقل عضو من أعضائه إلى أخيه أو صديقه ، أفهل يصدق عرفاً على هذا العمل من الطبيب أنه مثلة ؟!

وقد يقال : « إن التبرع بنقل العضو البشري إنّما يكون فيما يملكه الإنسان ، وإن المالك الحقيقي لجسد الإنسان وروحه هو اللّه تعالى ، أمّا الإنسان فهو أمين على جسده فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه ممّا يهلكه أو يؤذيه استجابة لقوله تعالى : (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ولهذا كانت عقوبة الانتحار هو الخلود في النار ، ... وبناءً على ذلك فإنّ الإنسان الذي لا يملك ذاته ولا يملك أجزاء هذه الذات لا يمكن التبرع بأعضاء جسمه فهي هبة من اللّه للإنسان المؤتمن عليها ، ولا يحقّ له التصرف فيها » (1).

ص: 347


1- ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي في بحث كُتب في مجلة العالم الأسبوعية السنة التاسعة 6 شباط 1993 م 14 شعبان 1413 ه العدد (469) ص 33.

ولكن من حقّ إنسان أن يناقش فيما ذكر كدليل على عدم جواز نقل العضو من إنسان لآخر ، إذ دليل المتكلّم ينحلّ إلى شقّين :

الأول : لا يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في التهلكة ، وهذا أمر لم يختلف فيه اثنان.

الثاني : لا يجوز للإنسان أن يقدم عضواً من اعضائه إلى غيره بدليل أن الإنسان لا يملك هذا العضو ، وأنّ المالك الحقيقي هو اللّه سبحانه وتعالى.

ونحن وإن قبلنا أنّ العضو الذي هو جزء من جسدي ليس ملكاً لي ، إلاّ أنّ قطعه وتقديمه للغير غير متوقّف على ملكيته لي ، بل لنا أن نقول : إنّ الإنسان له نوع ولاية على جسمه واعضائه وقد منع من القاء نفسه في التهلكة بواسطة آيتين قرآنيتين هما (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وآية (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وأمّا إعطاء عضو من الأعضاء إذا لم يكن قتلاً للنفس - كما هو المفروض - فهو جائز للولاية المعطاة للإنسان من قبل اللّه تعالى على أعضائه ، إذ من الواضح أن المتولّي يمكن أن يتصرّف فيما جُعل ولياً عليه وإن لم يكن مالكاً (1).

على أنّنا يمكننا القول - كما قال الإمام الخوئي رحمه اللّه - « بأنّ الاضافة الحاصلة بين المال ومالكه قد تكون اضافة تكوينية ، كالاضافة الكائنة بين الاشخاص وأعمالهم وأنفسهم وذممهم ، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمّته مملوكة له ملكية ذاتية وهو واجد لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ، ودون مرتبة الواجدية الحقيقية التي هي لله جلّ وعلا.

ص: 348


1- وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الأزهر في مصر الشيخ جاد الحقّ علي جاد الحق بشرط « أن يصرّح طبيب مسلم ثقة بأنّ نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضرر بليغ بالشخص المتبرّع ، وإنّما يترتب عليه انقاذ حياة الشخص المتبرّع له أو انقاذه من مرض خطير » وهذا الشرط مفروض في مسألتنا أيضاً.

والمراد من الذاتي هنا ما لا يحتاج تحقّقه إلى أمر خارجي تكويني ، أو اعتباري ، وليس المراد به الذاتي في باب البرهان ، أي ما ينتزع من مقام الذات ، ولا الذاتي في باب الكليات الخمس ، أعني به الجنس والفصل ، وهذا واضح لا ريب فيه.

والمراد من الملكية الذاتية ليس إلاّ سلطنة الشخص على التصرّف في نفسه وشؤونها ، بداهة أن الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية كلّها حاكمة بأنّ كل أحد مسلط على عمله ونفسه ، وما في ذمته بأنّ يؤجر نفسه لغيره أو يبيع ما في ذمته ، ومن البيّن الذي لا ستار عليه أن الشارع المقدّس قد امضى هذه السلطنة ولم يمنع الناس عن التصرفات الراجعة إلى أنفسهم.

ليس المراد من الملكية هنا الملكية الاعتبارية لكي يتوهّم أن عمل الإنسان أو نفسه ليس مملوكاً له بالملكية الاعتبارية » (1).

ثمّ إنّنا يمكننا القول بأنّ العضو بعد فصله من جسم الإنسان تصدق عليه الملكية العرفية ، كملكية الدم بعد سحبه من الجسم ، فإنّ الاضافة هنا بعد فصل العضو بين العضو ونفس الإنسان هي اضافة حقيقية ، لأنّها مال على كل حال حيث يبذل في مقابلها المال وتدّخر لوقت الحاجة ويتنافس عليها العقلاء ، وعلاقتها بالإنسان كعلاقة الكتاب به.

ثم إذا نوقش في هذا الدليل المجوّز لنقل العضو من إنسان لآخر فيكفينا الأصل العملي في المقام القائل بجواز ذلك ، حيث نشكّ في أصل التكليف وفي الحرمة خصوصاً إذا علمنا أن العرف ينظر إلى هذه العملية أنّها إيثار وبرّ وعمل خير وإحسان.

ص: 349


1- مصباح الفقاهة في المعاملات ، تقرير بحث الإمام الخوئي ، بقلم محمد علي التوحيدي : ج 2 ، ص 4 - 5.
هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد آخر ؟

والجواب عن ذلك : بعدم الجواز ، وذلك لما في هذا العمل من ضرر على المولّى عليه ، والوليّ إنّما يصحّ تصرّفه في خصوص مصلحة المولّى عليه ، وليس من مصلحته أن ينقص عضواً من جسمه.

نعم ، قد تحدث في حالة نادرة أنّ أخوين أحدهما قد عُطِّل عضوه ، ويكون بتقديم عضو أخيه له مصلحة مهمة جداً بحيث لو مات أحد الأخوين فإنّ الآخر يكون في طريق الموت ، ففي هذه الحالة الخاصّة يجوز للوليّ أن يقدّم أحد أعضاء المولّى عليه لأخيه الآخر ، ويكون هذا الضرر الذي قام به الوليّ على المولّى عليه لأجل دفع الضرر الأكبر ، وطبيعيّ يجوز دفع الضرر الأكبر بضرر أقلّ ، إلاّ أنّ هذه الحالة نادرة قد لا يكون لها موضوع في الواقع الخارجي.

هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟

قد يقال بعدم الجواز من ناحية أن الإنسان لا يملك اعضائه ، فكيف يجوز له بيعها ؟ مع أن البيع متوقّف على المِلك كما قرّر ذلك الفقهاء.

ولكن لنا أن نقول : إنّ الولاية التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى للإنسان على نفسه وحقّه في الانتفاع بهذه الأعضاء واولويته تجعله قادراً على تنازله عن هذا الحقّ في مقابل المال إن كان نقل العضو جائزاً كما تقدّم ذلك ، وقد افتى جمعٌ منهم السيد الخوئي رحمه اللّه بجواز بيع الدم الذي يؤخذ من جسم إنسان لجسم آخر ، ولعلّه للتنازل عن هذا الحق في مقابل المال ، أو لصدق الملكية الاعتبارية عليه ، بل للملكية الذاتية كما تقدّم ذلك.

ص: 350

هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

وإذا كنّا قد انتهينا إلى جواز نقل العضو من الحي إلى الحي - كما تقدّم - فهل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

والجواب : إذا قبلنا التزاحم الملاكي المتقدم القائل بأنّ قطع العضو من الميت وإن كان حراماً إلاّ أنّ أهميّة الانتفاع بعضو الميت للإنسان الحي وإن لم تكن واجبة إلاّ أنّها ترفع حرمة قطع العضو من الميت ، لأن الحرمة هي في صورة الاعتداء على الميت ، لا لفائدة ، فيكون العمل منافياً لوجوب احترام الميت ، أمّا مع هذه الفائدة الكبيرة فلا يكون قطعُ عضو الميّت مخالفاً لاحترامه ، خصوصاً إذا صرّح هذا الإنسان قبل موته بقطع أعضائه المفيدة للمرضى.

ولكن قد يقال : إنّ حرمة الميت التي ثبت أنّها كحرمة الحي معناها هو عدم جعل الميت العوبةً بيد غيره ، وحينئذ إذا كان هناك اجازة من نفس الميت لقلع عضو من اعضائه بعد الموت للاستفادة منها فلا يعدّ قلع العضو بعد الموت خلافاً لاحترامه حيث أجاز لنا شق جسمه للاستفادة من اعضائه ، أمّا مع عدم الاجازة والاذن منه فقد يصدق عدم الاحترام على أخذ العضو منه حتى وإن كانت مصلحة للغير ، إذ عدم احترامه وهتكه شيء عرفي يفهمه أهل العرف في صورة عدم إجازته. نعم ، إذا كانت مصلحة لنفس الميت كمعرفة قاتله فيجوز تشريحه وقلع الحنجرة والعين ، لعدم عدّ هذا هتكاً له في صورة عود النفع لنفسه.

ثمّ إنّ الطبيب : إذا كان يرى بنفسه أنّ هذا الإنسان قد مات فعلاً وإلى جانبه إنسان يحتاج إلى بعض اعضاء هذا الميت لينقذه من الموت أيضاً ، فيتوجّه إليه خطابان الأول بحرمة قطع اعضاء الميت ، والثاني وجوب انقاذ الآخر فيقع التزاحم ، فيقدّم الأهم على المهم ، ومن الواضح أن الأهمّ هو انقاذ حياة المريض

ص: 351

الثاني ولو كان بواسطة أخذ عضو من الميت لو قلنا بحرمته ، ومثل هذا شق بطن الاُمّ إذا ماتت لأجل انقاذ الجنين (1).

شبهة : قد يقال أنّ أدلّة وجوب دفن القطعة المبانة من الحي تأتي بعد قطع العضو من الجسم الحي أو الميت ، وحينئذٍ لا تصل النوبة ترقيعها في جسم آخر ليستفيد منها.

الجواب : أنّ أدلّة وجوب الدفن لا تأتي في الإبانة لأنّها إبانة بل تأتي في صورة القطع بموت العضو ، أمّا إذا كان العضو بعد قطعه لا يحسب ميتاً ، بل يمكن إلحاقه بجسم إنسان آخر فهو عضو حي ، فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، ولهذا لو فرضنا أن إنساناً قد توقّف قلبه لمدّة قليلة ثم رجعت إليه الحياة فلا يقال بوجوب دفنه ، فما نحن فيه كذلك أو أولى ، لأنّ العضو الذي قطع : إمّا لا يصدق عليه أنّه ميت ، أو صدق عليه الموت مدّة قليلة ثم رجع إلى الحياة باتصاله بجسم آخر فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، بل تنحصر أدلّة وجوب الدفن لما صدق عليه انّه ميت ولم ترجع إليه الحياة.

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :

إنّ تعلم الطب والترقّي فيه إلى حيث حاجة المجتمعات المعاصرة قد يتوقّف على ارتكاب بعض المحرّمات في الشريعة الإسلامية المقدّسة ، فهل يجوز ارتكاب هذه المحرّمات لأجل الوصول إلى تعلم علم الطب ، أو نقول بعدم جواز التعلم وعدم ارتكاب المحرمات في الشريعة الإسلامية ؟

ص: 352


1- وقد افتى الإمام الخوئي رحمه اللّه بجواز أخذ عضو من الميت لزرعه للحي إذا اقتضت ضرورة الحياة ذلك ، وأفتى أيضاً بجواز أن يوصي الإنسان باستئصال بعض اجزاء جسده بعد موته لزرعها في جسم من يحتاج إليها وإن كان كافراً ، ولكن التعيين للفرد المسلم أفضل. راجع منية السائل : ص1. 222.

فمثلاً : أنّ طلاب كلية الطب يحتاج نموّهم وتدرّجهم في معرفة علوم الطب الى تشريح بعض الجثث الذي هو محرم بعنوانه الأولي ، أو قد يحتاج التعلم إلى النظر الى النساء المحرمات ، أو عورة الإنسان الذي هو محرّم من قبل الشارع المقدّس ، فهل نقول بعدم وجوب أو عدم حسن تعلم علم الطب ونفتي بحرمة تعلم الطب المتوقّف على المحرمات ، أو نقول بجواز تعلم علم الطب وجواز ارتكاب هذه المخالفات الشرعية ؟

وللجواب على هذا التساؤل ينبغي التنبيه على أنّ تعلم الطب إذا كان متوقّفاً على عمل محرم ، ويمكن أن يتوقّف على عمل محلّل ، فإنّ الحرام الذي حرمه الشارع لا يمكن أن يكون محللا ، وذلك لعدم وجود المبرّر لحلّيّة المحرم مع فرض أن تعلم الطب يمكن أن يكون عن طريق سلوك الطريق المحلل ، فمثلاً إذا كان للوصول تعلم الطب طريقان :

أحدهما : تشريح جسم حيوان كالارنب أو القرد أو ما شابه ذلك من الحيوانات المحللة تشريحها شرعاً.

والآخر : تشريح جثة إنسان مسلم ، وهو عمل محرم في الشريعة الإسلامية ، ففي هذه الحالة لا يجوز تعلم الطب عن طريق التشريح المحرم ، وهذا واضح ؛ لأنّ حرمة تشريح جسم الإنسان المسلم سواء كانت تعبديةً محضةً أو لأجل احترام المسلم حتى بعد موته لا يجوز مخالفتها إذا لم يكن هناك شيء يمكن أن يكون له مصلحة أهمّ من مفسدة عدم احترام الميت المسلم ، وقد افترضنا أنّ علم الطب يمكن تحصيله عن طريق محلل ( وهو تشريح جسم الحيوان كالأرنب ) فتبقى حرمة التشريح لجسم المسلم خاليةً عن مزاحم أهمّ.

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :

وهنا ننقل البحث إلى هذه الصورة ، وهي : فيما إذا توقّف تعلم الطب على شيء

ص: 353

محرم - كالنظر إلى المرأة المحرمة ، أو النظر إلى العورة ، أو تشريح جسم الإنسان المسلم لمعرفة سبب موته - ولم يمكن توفير سبب محلّل لتعلّم الطب ، فهل يجوز هذا ، أو لا يجوز ؟

الجواب :

أولاً : قد يجاب بجواب معروف وهو : أنّ علم الطب إذا كان واجباً وجوباً كفائياً ولم يوجد من به الكفاية من الأطباء لادارة اُمور مرضى المجتمع فيجوز تعلّم الطب حتى إذا توقّف على أمور محرّمة ؛ وذلك ، لأنّ تعلّم الطب واجب أهم من حرمة النظر إلى المرأة ، أو حرمة التشريح للمؤمن والنظر إلى عورة الإنسان (1).

ولكنّ هذا الجواب لا يلبي طلب المجتمع ، ولا يحل المشكلة ؛ وذلك :

1 - للشك في تشخيص الحاجة الوجوبية لتعلم الطب ، فإنّها حاجة اجتماعية ، وليست حاجة فردية ، فالإنسان في خصوص القضايا الفردية يمكنه أن يقطع بأن الشيء الفلاني هو ماء مثلاً ، أمّا بالنسبة للحاجات الاجتماعية فيصعب عليه التمييز بوجوبها.

ص: 354


1- (1) ولذا فقد افتى الإمام الخوئي رحمه اللّه بجواز فحص المرأة الأجنبية للرجل ، والرجل الأجنبي للمرأة حتى لمنطقة العورة ( القبل والدبر ) إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة عليه ولو في المستقبل ، وهذا الجواز كما يكون للطبيب يكون للطالب الذي يدرس علم الطب ، فقد ورد في منية السائل ص 118 - 119 هذا السؤال والجواب : س : في كليات الطب يتحتم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية ، والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة (القبل والدبر) وهذا الأمر لابد من المرور به بالنسبة إلى طالب الطب أثناء دراسته العامة ولا مفر منه ، هل يجوز لطالب الطب اثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر ؟ وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟ ج : العمل المذكور غير جائز في نفسه ، ولكن إذا توقف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز ، وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب .

2 - إنّ الوجوب الكفائي لتعلم الطب لو كان واضحاً عند الفرد فهناك شبهة اُخرى ، وهي : هل الوجوب الكفائي واجب لوجوب حفظ النفس فقط ، أو الوجوب الكفائي واجب لما يعمّ حفظ النفس ؟

من الواضح أن علم الطب ليس مختصّاً بحفظ النفس ، فقد يقال بأنّ تعلّم الطب واجب بالنسبة لحفظ النفس فقط ، أمّا ما لا يشمل حفظ النفس من الطب فهو ليس بواجب ، ولا يجوز تعلمه إذا توقّف على مقدّمة محرمة.

ثانياً : وقد يقال - كجواب على السؤال المتقدّم - بجواز تعلم الطب وإن توقف على مقدّمة محرمة ، وذلك لعلمنا بأنّ الشريعة الإسلامية لا ترضى بكون المجتمع الإسلامي متخلّفاً عن ركب العالم الحضاري ، فلأبدّ في كل فن وكمال من أن يتعلّم المجتمع الإسلامي ذلك.

وهذا الجواب صحيح ، ولكنّ التساؤل الذي يجب الجواب عليه هو : ما هي حدود ذلك الفن والكمال ؟ وهل يشمل الوجوب كل الكمالات أو بعضها ؟ وبهذا يرجع الاشكال الأول من أن ترجيح الأهم على المهم في هذا المجال الاجتماعي مشكل من ناحية الموضوع والحكم.

ثالثاً : قد يقال بالتمسّك بقاعدة الاشتغال ، فيقال مثلاً : إنّ تعلم الطب واجب بالوجوب الكفائي على المجتمع ، بمعنى أنّ الوجوب متوجّه إلى المجتمع الإسلامي وفي عهدته ، وما دمنا نشك الآن في وجود من به الكفاية من الأطباء فمعنى ذلك نشك في فراغ ذمّة المجتمع من الوجوب الكفائي ، فنتمسّك بقاعدة الاشتغال القائلة : إن الاشتغال بالتكليف اليقيني ( على المجتمع ) يستوجب الفراغ اليقيني عنه ، فما لم نعلم بوجود قدر الكفاية يبقى الوجوب الكفائي بحاله.

وبهذا أثبتنا الوجوب الكفائي في تعلم الطب على المجتمع ، وحينئذ إذا توقّف

ص: 355

هذا الوجوب على عمل محرّم - كالتشريح أو النظر إلى العورة أو الأجنبية - فيقدم الأهم على المهم.

ولكن تقف بوجه هذا الحلّ عدّة أمور :

أ - إنّ معنى الوجوب الكفائي ليس هو توجّه الوجوب إلى المجتمع وفي عهدته ، بل معناه : يجب على كل فرد تعلم الطب على تقدير ترك الآخر ، وعلى هذا المعنى فسوف يكون الشك شكاً في التكليف ، حيث إن من به الكفاية إذا كان موجوداً فلا وجوب على الفرد ، وإلاّ فالوجوب موجود على الفرد ، فإذا شككنا في وجود من به الكفاية فنشك في توجّه التكليف إلى الفرد ، فيكون مورداً لجريان أصالة البراءة ، لا قاعدة الاشتغال.

ب - وحتى لو فرضنا أن الواجب الكفائي قد يفسر بالوجوب المتوجّه المجتمع وفي عهدته فهل يكفي هذا لجريان قاعدة الاشتغال ؟

الجواب : قد يقال : إنّ الفرد يجري قاعدة البراءة بالنسبة إلى ذمّته ، وليس هو مسؤولاً عن المجتمع وذمته.

ج - ثمّ إنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب الذي على المجتمع هو على مستوى أصالة الاشتغال فحينئذ نقدم الأهم على المهم ، فنقدم تعلم الطب على حرمة النظر الأجنبية وحرمة التشريح ، ولكن ما هو مقدار الأهميّة الذي يقدم على حرمة مقدّمات تعلم الطب ؟

رابعاً : قد يتمسّك باستصحاب عدم كفاية الاطباء ، لأنّ الأطباء الموجودين في المجتمع سابقاً غير قادرين على سد الحاجة ، فالآن وقد كثر عدد الأطباء فهل حصلت الكفاية المرجوّة لسدّ حاجة المجتمع ؟

الجواب : نستصحب عدم الكفاية ، وبهذا يثبت موضوع عدم وجود كفاية من الأطباء في المجتمع ، فيتحقّق الوجوب الكفائي في هذا الزمان ، فنقدّم الأهم

ص: 356

على المهم.

ولكنّ الذي يقف في بوجه هذا الجواب : هو أن الحرمة بالنسبة للنظر العورة أو الأجنبية هي حرمة حقيقية نشأت من الأمارة ، بينما الوجوب الكفائي لتعلم الطب قد استند إلى الاستصحاب ، ولا يقدم الاستصحاب على الحرمة الحقيقية. بالاضافة إلى أن الحالة السابقة في بعض المناطق الإسلامية قد تكون هي الكفاية ، فينتج الاستصحاب عدم الوجوب الكفائي.

والخلاصة : إلى هنا لم تكن الحلول الفنية الفقهية كافيةً للقول بوجوب أو جواز تعلم الطب المتوقّف على محرم.

آراء جديدة في حلّ المشكلة :
اشارة

وهناك من الفقهاء (1) من تطرّق لحلّ هذه المشكلة بحلّين جديدين ، هما :

أ - التزاحم الاجتماعي بحاجة إلى حلٍّ اجتماعي :

أي : أنّ الفرد كفرد حينما يلاحظ المسألة ( تعلم الطب المتوقّف على مقدّمة محرمة ) قد لا يكون عنده التزاحم واضحاً ، فهو لا يدرك بصورة واضحة انه لو ترك تعلم الطب يكون قد ترك الواجب الأهم ، فيكون مخلا بالواجب الكفائي ، أمّا الولي الفقيه فهو عندما ينظر إلى القضية من الناحية الاجتماعية يحصل له علم اجمالي بأنّه إذا حصل تهاون في تعلم الطب فيتعذّر الأهم ويختل ، وبهذا يحصل لدى الولي الفقيه تزاحم ( غير التزاحم الذي يحصل عند الفرد ) فيحكم هذا الولي بوجوب تعلم الطب إلى حد معين ، وبهذا يحصل وجوب كفائي محدود.

وبهذا الحكم تحلّ المشكلة القائلة باحتمال وجود من به الكفاية ، أو عدم وجوب حفظ النظام بتعلم الطب ، أو المشكلة القائلة : ما هي حدود الواجب

ص: 357


1- هو آية اللّه السيد كاظم الحائري ( حفظه اللّه ).

الكفائي ، إذ أنّ الولي قد عيّن حدود الوجوب الكفائي ؟

وهذا الحلّ ليس له أي عيب ، سوى عدم وجود ولي أمر مبسوط اليد في بعض المناطق التي يعيش فيها المسلمون.

ب - لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :

وخلاصة هذا الوجه هو : أنّ حرمة التشريح لجسم المسلم ، وحرمة النظر الى الأجنبية المؤمنة ، وحرمة النظر إلى العورة ( من غير شهوة وتلذذ ) - كما في صورة النظر إلى عورة المماثل - إنّما هي حرمات قائمة على أساس احترام المسلمين ، وعلى هذا فحتى لو لم يكن حفظ النفس واجباً ومن مقدّماته تعلم الطب ، إلاّ أن المحرمات في حد نفسها لا اطلاق لها ؛ لفرض ما إذا كان الهدف من النظر إلى العورة أو التشريح أو النظر إلى الأجنبية هو انقاذ المجتمع الإسلامي من المشاكل (1) ، وعلى هذا يكون التحريم غير شامل لفرضنا ، مثل حرمة الغيبة فإنّها لا تشمل ما إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عالية من حصول الغيبة فإنّها لا تكون محرمة وإن لم يوجد تخصيص يستثني هذا المورد من الحرمة ، بل يوجد هنا ارتكاز يقول : إنّ المحرمات الاحترامية لا تأتي فيما إذا كانت مصلحة اسلامية مهمة تترتب على ارتكاب الحرام ، فيكون هذا الارتكاز العرفي في حكم المخصص المتصل.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأحكام الاحترامية - كحرمة التشريح والنظر إلى

ص: 358


1- وهذا هو التزاحم الملاكي الذي تقدّم في قلع عضو الإنسان ، كالكلية وتقديمها لآخر من أجل انقاذ حياته. ليس هو النظر إلى أقوى الملاكين كما قال الآخوند ، وليس هو النظر إلى أقوى «الخطابين » الحكمين كما قال الميرزا ، بل هو في صورة فرضنا أن الملاك لم يصل إلى الحكم، فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر . مثل اعطاء كلية إلى من تعطلت كليتاه، فهنا انقاذ المريض وإن لم يكن واجباً علي لكنه يزاحم حرمة ضرره.

العورة فيما إذا كانا غير راجعين إلى الشهوة - حينما تكون في النظر الاجتماعي مزاحمة لمصلحة اجتماعية مهمّة فالعرف لا يرى محلا لهذا الاحترام ، فيكون دليل الحرمة منصرفاً عن هذه الموارد.

ولنضرب لذلك امثلة حتى يتوضّح المقصود :

1 - لو ادّعي على بنت باكر انّها زانية ، وكان هناك شهود على هذه الدعوى ، ولكن البنت تنكر الزنا ففي هذه الصورة يكون عرضها على الطبيبة مزيلا للمشكلة ، إلاّ أن الفحص والنظر إلى العورة حرام ، وتحمّل الحدّ ليس حراماً ، فلو لم ننظر إلى ما قلناه ( في فرع ب ) فقد يقال : يجب عليها تحمّل الحدّ ، ويحرم النظر عورتها.

ولكنّ الفهم العرفيّ الاجتماعيّ لا يقبل ذلك ، حيث يفهم العرف أن حرمة النظر إلى عورتها من قبل الطبيب ليس إلاّ لاحترامها ، والعرف يرى أنّه لا محلّ لهذا الاحترام هنا حيث زوحم بأمر مهم جداً « رفع التهمة عنها » بواسطة النظر العورة.

ولهذا نقول : إنّ الحكم التحريمي الاحترامي يتخصّص بهذا الارتكاز العرفي ، فلا يكون شاملاً لما نحن فيه ، إذ العرف العقلائي يسفّه الحكم بعدم تعلم الطب ؛ لتوقفه على النظر المحرم أو التشريح المحرم ، والمفروض أنّ الحكم بحرمة النظر والتشريح ليست تعبدية محضة حتى يقال : لا مجال لنظر العرف فيها.

2 - إذا علمت المرأة انها إذا تزوجت فسوف تبتلى بنظر النساء إلى عورتها عند الولادة ، وبما أن أصل الزواج ليس واجباً فهل نحكم الزواج ، أو نقول : إنّ دليل الزواج وجوازه خصَّص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة ؟ (1)

الجواب : أنّنا لا نحكم بحرمة الزواج ، ولا نقول بأنّ دليل جواز الزواج

ص: 359


1- قد يقال هنا بأن الزواج في وقته جائز والنظر إلى العورة عند الولادة مضطرّ إليها في وقتها فتكون حكماً ثانوياً جائزاً لتغيّر الموضوع ، كالتيمم عند فقد الماء ، وكالقصر عند حدوث السفر.

خصص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة. بل يدّعى من الأول أن دليل حرمة النظر إلى العورة لا نظر له إلى فرض ابتلائها بالولادة ، وذلك لأنّ هذه الحرمة الاحترامية قد ابتليت بمصلحة مهمة جداً ، فحتى لو لم تكن المصلحة واجبة لا يمكن عرفاً الالتزام بالمحرم الاحترامي وترك هذه المصلحة المهمة وهي ( التزويج والولادة المتوقفة على النظر من المماثل ) ، وهذا ممّا يجعل أصل الحكم مقيداً بالارتكاز العرفي.

3 - وكذا إذا كانت المرأة في دور الحمل وقد نصحها الاطباء بمراجعة الطبيبة كل شهر مرة واحدة خوفاً من أن يتعرض الحمل أو الاُم إلى مضاعفات في دورة الحمل وكانت الطبيبة تجري الفحص الذي يستلزم النظر إلى العورة في بعض الأحيان فهل يقال بحرمة النظر والفحص لعدم وجوبه عليها ، أو يقال بجواز ذلك لما فيه المصلحة المهمة وان لم تكن واجبه ، ويكون دليل حرمة النظر إلى عورتها منصرفاً عن هذه الصور ؟

وكذا إذا اسقطت المرأة جنينها وسقط ما هو تابع للجنين ولكن فضّل الأطباء إجراء عملية « الكورتاج » لتنظيف الرحم ، فهل نقول هنا بحرمة إجراء العملية لحرمة النظر إلى العورة ، أو نقول بجواز ذلك للمصالح التي تترتب من تفضيل الأطباء إجراء العملية وان لم تكن واجبة ؟

وكذا إذا كانت المرأة لا تنجب الأطفال وكان من المحتمل قوياً الانجاب إذا راجعت المماثل من الأطباء ، وكان ذلك يستلزم إجراء الفحص أو التحليل أو الأشعة على موضع العورة والرحم فهل نقول بحرمة مراجعة الأطباء بسبب أن انجاب الأطفال ليس بواجب ، أو نقول بجواز تلك للمصلحة المهمة المترتبة من المراجعة وان لم يكن الانجاب واجباً ونخصّص دليل حرمة النظر الاحترامي بغير

ص: 360

هذه الصور ؟ وكذا إذا كانت المصلحة من تشريح هذا المسلم الذي مات ولم يعرف سبب موته ، مهمة جداً بحيث ستؤخذ الاحتياطات فيما يأتي لانقاذ كثير من البشر فيما بعد.

الظاهر : إن العرف يخصّص حرمة النظر والتشريح بغير هذه الموارد التي يكون النظر العرفي قائلاً بوجود المصلحة المهمة من مراجعة الطبيب أو فحصه أو تشريحه.

4 - وهناك أمثلة اُخرى في غير موردنا ، وهي : ما إذا توقف ردّ السلام على شخص ، وإجابته توجب منعي عن الزواج دائماً ، وعدم زواجي جائز ولكنّ ردّ السلام واجب ، فهل نقول بوجوب ردّ السلام ومنعي من الزواج ، أو نقول بأنّ وجوب ردّ السلام لا يشمل هذه الصورة ؟

ولعلّ من الأمثلة على ذلك : ما إذا علم الإنسان أنّه إذا ذهب إلى الحجّ الاستحبابيّ فسوف يبتلى في الطواف بلمس المرأة الأجنبية بدون شهوة ، واللمس محرّم ، والحجّ مستحبّ فهل يحرم عليه الذهاب إلى مكة ، أو نقول بأنّ حرمة لمس الأجنبية لا يشمل هذه الصورة ؟

مثلاً : إذا كسرت رجل امرأة وأعلمنا ولدها بالحال وأخبر بأنّه لا يتمكن من المجيء إلاّ بعد أربع ساعات لنقلها إلى المستشفى ولا يوجد مماثل ، ونحن قادرون على حملها ولمسها بدون شهوة فهل نبقي هذه المرأة في الشارع إلى أن يأتي ولدها لأنّ لمسها من دون شهوة حرام ، أو نقول أنّ الحرمة لا تشمل هذه الصورة الجائزة ، وهي نقلها إلى المستشفى من الشارع بسرعة ؟

الظاهر عدم الحرمة في هذه الصورة أيضاً.

5 - إذا توقف زواج أي انسان على فحص حيامنه للتأكد من أنها قادرة على تلقيح البويضة ، وهذه العملية قبل الزواج متوقفة على الاستمناء المحرم ، فهل نقول بحرمة العمل ومنعه من الزواج ، أو نقول : إنَّ الحرمة لا تشمل هذه

ص: 361

الصورة ؟

الجواب : أنّه لا إطلاق لحرمة الاستمناء لهذه الصورة.

تنبيهات :

1 - لو أنّ أحداً شك فيما قلناه فهل الشك في صالح حلية النظر والتشريح أو في حرمتهما ؟

والجواب : أنّ الشك هنا يكون شكاً في مخصّص متصل وهو ( الارتكاز العقلائي ) ، وعلى هذا يشك في وجود الاطلاق فلا تحريم في هذه الموارد.

2 - بالنسبة لخصوص التشريح فإنّه يمكن استيراد جثث من بلاد الكفر لاجراء الأبحاث العلمية للطلاب عليها ، ونحن نعرف أنَّ حرمة التشريح هي لخصوص جسم المسلم ، فهل يجب علينا استيراد الجثث للتشريح من بلاد الكفر ؟

الجواب : أنّ كلامنا المتقدّم في منع الاطلاق عرفاً لا يفرق فيه بين تشريح جسم المسلم والكافر ؛ لأنّ المصلحة المهمة الاجتماعية ( تعلم الطب وحلّ مشاكل الاُمّة ) وان افترضنا أنّها لم توصل الحكم إلى الوجوب لمصلحة التسهيل على العباد في جعل تعلم الطب ليس واجباً إلاّ أنّ هذه المصلحة الاجتماعية تجعل الحرمة الاحترامية غير شاملة لما نحن فيه ، ولكن في خصوص حرمة التشريح فليس عندنا إلاّ تكليف واحد وهو حرمة تشريح جسم المسلم ، أمّا الميت فلا تكليف عليه ، وحينئذ إذا أمكن للدولة الإسلامية استيراد جثث للأطباء يقيمون عليها تجاربهم فيصل المجتمع الإسلامي إلى هدفه من تطوير الطب مع عدم الوقوع حتى في المحرم الاحترامي للمسلم ، فهو ليس ببعيد عن الذوق الفقهي.

وطبيعيّ : أنّ هذا الكلام لا يشمل ما إذا مات المسلم الذي كان تحت اشراف الأطباء ولم يعرف سبب موته ، وبالتشريح يعرف السبب ، فإنّه يجوز تشريحه لما

ص: 362

قلناه سابقاً.

3 - امرأة مريضة وأمامها طبيب وطبيبة فهل يجوز لها أنّ تعرض نفسها على الطبيب مع وجود الطبيبة ؟

فعلى مسلك المشهور القائل بالتزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر لا يكون هنا تزاحم أصلاً إذ يحرم عليها أن تعرض نفسها للنظر ويجب عليها العلاج عند الطبيبة.

نعم ، إذا افترضنا أنه لا يوجد إلاّ الطبيب فهنا يأتي التزاحم الحكمي بين وجوب العلاج وحرمة النظر ، وقد يقال بوجوب تقديم العلاج على حرمة النظر إذا كان وجوب العلاج أهم ، وكذا الأمر إذا كان الطبيب أكثر حذاقةً وعلماً وتجربة من المرأة ، بحيث يصدق أنَّها مضطرة إليه ، كما ذكرت ذلك الروايات كما تقدم ذلك.

أقول : إنّ التزاحم بين المصلحة والمحرم غير موجود هنا ايضاً ، حيث يمكن احترام المرأة بعدم نظر الطبيب لها وعلاجها من قبل الطبيبة ، فلا يجوز في هذه الحالة عرض المرأة نفسها على الطبيب فيما إذا كان الطبيبان في مستوىً واحد من العلم وأمكن الوصول إلى أي واحد منهما ، بحيث لم يصدق عنوان الضرورة مراجعة الطبيب ، كما تقدّم ذلك (1).

ص: 363


1- هذا ولكن من العجب وجود فتوى نُسبت إلى السيد الخوئي رحمه اللّه ذكرت في كتاب منية السائل : ص 119 ظاهرها يُجوّز علاج المؤمنات من قبل الرجل وإن لم تكن ضرورة للمرأة إلى ذلك ، وإليك السؤال والجواب : س : بعض طلبة الطب الفيزيائي يتعلمون مادة التدليك والذي يؤدي إلى أن يمس جسد الأجنبية ولا يُرعى في الجامعة التي هو فيها مسألة الاعتبار الشرعي، بحيث لو رفض قد يؤدي ذلك إلى رسوبه في الامتحان مما يوجب ضرراً عليه، فهل يجوز له القيام بهذا العمل ؟ ج : إذا كان يعلم أو يطمئن بأنه ستؤول مهنته وتكون مصدر علاج المصابات المؤمنات وحفظ حياتهن فلا بأس بما لا يثير له. ( انتهى ) وحسب الظاهر لابدّ من تقييد هذه الفتوى بصورة ضرورة النساء إلى المعالجة عند الرجال ، أو ضرورة معالجة الرجل للمرأة.
التشريح :
اشارة

تقدّم الكلام في حرمة التشريح وحلّيته ، حيث قلنا : إنّه محرم إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للمجتمع ، كتعلم الطب الذي يحتاجه المسلمون ، أو إذا لم تكن هناك مصلحة مهمة للميت نفسه حيث كان مشكوك القتل ويعرف قاتله ، أو سبب موته بواسطة التشريح ففي غير هذه الحالات يكون التشريح محرّماً ؛ للأدلة التي دلت على احترام المسلم حتى بعد موته ، أمّا في هذه الحالات التي يكون في تشريحه فوائد مهمة جداً للمجتمع أوْ له فلا يكون تشريحه محرماً ، لانصراف الأدلّة الدالّة على التحريم في غير هذه الفوائد الجسيمة. وهذا كلّه تقدّم في مبحث تعلم الطب المتوقف على محرم.

أمّا الآن فنريد أن نعرف أنّ هذه الحرمة التي ارتفعت هل ترفع الدية التي أثبتتها الروايات للمشرّح لجسم المسلم الميت ؟

الجواب : أنّ الدية لا ترتفع بارتفاع الحرمة ، وذلك لأنّ الدية تثبت إذا ثبت الجرح لجسم الميت ، فإنّها تثبت لموضوعها وإن كان حلالا ، ولذلك رأينا أن نتعرّض - ولو اجمالاً - للدية التي تكون على المشرح لجسم الميت ، فنقول :

في قطع رأس الميت المسلم الحُر مائة دينار :

وهذا هو المشهور وهو عشر الدية ، وكذا الحكم لو قطعنا ما لو كان حياً لم يعش مثله ، والدليل على ذلك الروايات :

منها : صحيحة حسين بن خالد ، قال : « سألت أبا الحسن علیه السلام فقال : إنّا روينا عن أبي عبد اللّه ( الإمام الصادق علیه السلام ) احب أن اسمعه منك قال علیه السلام : وما

ص: 364

هو ؟ قلت : بلغني أنّه قال في رجل قطع رأس ميت قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه حرّم من المسلم ميتاً ما حرم منه حياً ، فمن فعل بميت ما يكون في ذلك اجتياح نفس الحي فعليه الدية ، فقال : صدق أبو عبد اللّه علیه السلام هكذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . قلت : من قطع رأس رجل ميت أو شق بطنه أو فعل به ما يكون في ذلك الفعل اجتياح نفس الحي فعليه دية النفس كاملة ؟ فقال : لا ، ثم أشار اليَّ بإصبعهِ الخنصر فقال : أليس لهذا دية ؟ قلت : بلى فتراه دية نفس ؟ قلت : لا ، قال : صدقت. قلت : وما دية هذه إذا قطع رأسه وهو ميت ؟ قال : ديته دية الجنين في بطن اُمّه قبل أن ينشأ فيه الروح ، وذلك مائة دينار ، قال : فسكَتُّ وسرّني ما أجابني به. فقال علیه السلام : لم لا تستوف مسألتك ؟ فقلت : ما عندي فيها أكثر ممّا اجبتني به إلاّ أن يكون شيء لا أعرفه. فقال : دية الجنين إذا ضربت اُمّه فسقط من بطنها قبل أن تنشأ فيه الروح مائة دينار ، وهي لورثته ، وإنّ دية هذا إذا قطع رأسه أو شقَّ بطنه فليس هي لورثته ، إنّما هي له دون الورثة ، قلت : فما الفرق بينهما ؟ فقال علیه السلام : إنّ الجنين مستقبل مرجوّ نفعه ، وإنّ هذا قد مضى فذهبت منفعته ، فلمّا مثّل به بعد موته صارت ديته بتلك المثلة له لا لغيره ، يحجُّ بها عنه ، أو يفعل بها من أبواب الخير والبرّ من صدقة أو غيرها » (1).

وهذه الرواية الصحيحة المتقدّمة تفسّر الروايات الصحيحة القائلة : « لأنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً » (2) والقائلة : « إنّ عليه الدية ، لأنّ حرمته ميتاً كحرمته

ص: 365


1- التهذيب : ج 10 ، ص 273 - 274 ، والوسائل : ج 19 ، ب 24 من ديات الأعضاء ، ح 2.
2- المصدر السابق : ح 4.

حياً » (1) فإنّ لسان الصحيحة المتقدّمة هو لسان تفسير.

ومنها : مرسلة محمد بن الصباح - التي يمكن أن تكون مؤيدة لما تقدّم - عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « أتى الربيع أبا جعفر المنصور - وهو خليفة - في الطواف فقال : يا أمير المؤمنين ، مات فلان مولاك البارحة فقطع فلان مولاك رأسه بعد موته. فاستشاط وغضب ، قال : فقال لابن شبرمة وابن أبي ليلى وعدّة من القضاة والفقهاء : ما تقولون في هذا ؟

فكل قال : ما عندنا في هذا شيء ، فجعل يردّد المسألة ويقول : أقتله أم لا ؟

فقالوا : ما عندنا في هذا شيء.

قال : فقال له بعضهم : قد قدم رجل الساعة فإن كان عند أحد شيء فعنده الجواب في هذا ، وهو جعفر بن محمد علیهماالسلام ، وقد دخل المسعى.

فقال للربيع : اذهب إليه وقل له : لولا معرفتنا بشغل ما انت فيه لسألناك أن تأتينا ، ولكن أجبنا في كذا وكذا.

قال : فأتاه الربيع - وهو على المروة - فأبلغة الرسالة.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : قد ترى شغل ما أنا فيه ، وقبلك الفقهاء والعلماء فأسألهم.

قال له : قد سألهم فلم يكن عندهم فيه شيء.

قال : فردّه إليه.

فقال : أسألك إلاّ أجبتنا ، فليس عند القوم في هذا شيء.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : حتى أفرغ ممّا أنا فيه.

فلمّا فرغ جلس في جانب المسجد الحرام فقال للربيع : اذهب إليه فقل له : عليه مائة دينار.

ص: 366


1- المصدر السابق : ح 6.

قال : فأبلَغْه ذلك.

فقالوا له : فاسأله كيف صار عليه مائة دينار ؟

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : في النطفة عشرون ديناراً ، وفي العلقة عشرون ديناراً ، وفي المضغة عشرون ديناراً ، وفي العظم عشرون ديناراً ، وفي اللحم عشرون ديناراً ، ثم أنشاناه خلقاً آخر ، وهذا هو ميت بمنزلته قبل أن ينفخ فيه الروح في بطن اُمّه جنيناً.

قال : فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك.

فقالوا : ارجع إليه وسله الدنانير لمن هي ؟ لورثته أو لا ؟

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ليس لورثته فيها شيء ، إنّما هي شيء صار إليه في بدنه بعد موته ، يُحجُّ بها عنه ، ويُتصدّقُ بها عنه ، أو يصير في سبيل من سبل الخير » (1) الحديث.

قطع الجوارح :

إنّ تنزيل الميت منزلة الجنين يوجب الرجوع إلى دية الجنين وأخذ النسبة منها إذا قطعت جوارح الميت ، وتدل عليه أيضاً صحيحتا عبد اللّه بن سنان وعبد اللّه ابن مسكان المتقدّمتان ، إذ دلّتا على أن حال الميت حال الحي من حيث ثبوت الدية ، وعليه فكما أنّ في قطع يد الحي أو رجله ونحو ذلك من اعضائه دية وكذلك في قطع يد الميت أو رجله أو نحوهما من أعضائه ، وقد فسّرت هاتان الصحيحتان في صحيحة حسين بن خالد المتقدّمة القائلة : إنّ ديّة الميت هي دية الجنين قبل ولوج الروح ، وواضح ثبوت الدية في اعضاء الجنين وجوارحه (2) قبل ولوج الروح.

ص: 367


1- الكافي : ج 7 ، ص 347 - 348 ، والتهذيب : ج 10 ، ص 270 - 271.
2- ففي معتبرة ظريف عن أمير المؤمنين علیه السلام « ... وقضى في ديّة جراح الجنين من حساب المائة على ما يكون من جراح الذكر والاُنثى والرجل والمرأة كاملة » بتقريب : أنّ جعل الدية فيها من حساب المائة لا يكون إلاّ بعد ما كان الجنين تام الخلقة وله اعضاء متمايزة قبل ولوج الروح ، فإنّ ديته عندئذ مائة دينار ، وعليه فدية قطع اعضائه على نسبة مائة دينار. راجع وسائل الشيعة : ج 1. ب 19 من دية الأعضاء ، ح 1.

وأمّا ما ورد من أنّ حرمة الميت أعظم من حرمة الحي كما عن الإمام الصادق علیه السلام حينما سئل عن رجل كسر عظم ميت ، فقال « حرمته اعظم من حرمته وهو حي » فهو لا ينافي أن تكون ديته دية الجنين ؛ لأنّ هذه الرواية هي من الاعتبارات الأدبية لا القانونية ، فيراد منها : أنّ الإنسان لا يقدم على كسر عظم الميت ، بينما يقدم على كسر عظم الحي ، فهي اعتبار أدبي منفّر للعمل الإجرامي في كسر عظم الميت ، ونحن هنا نتكلم عن الدية التي هي اعتبار قانوني.

الجناية إذا لم تكن مقدّرة :

وإذا لم تكن الجناية مقدرة في الروايات فلابدّ من أخذ الأرش ، وكيفيته أن يأخذ نفس الأرش لو كان حياً وينسبه إلى الدية ، ويأخذ النسبة ويخرجها من المائة دينار.

الوارث لا يرث من هذه الدية :

وقد تقدّمت رواية حسين بن خالد الصحيحة ، وقد دلّت على أنّ هذه الدية التي كانت بسبب جرح جسم الميت لا تعطى إلى الورثة ، بل تصرف في وجوه القُرَب ، بل حتى لو كان الميت عبداً فلم يكن لسيده شيء من الدية ، وذلك لزوال ملكه عنه بالموت ، بل حتى إذا كان على الميت دين فلا يخرج منها ؛ لأنّ الدين يخرج من التركة ، وهذه ليست تركة ولذا فهي لا تورث.

ولكن الصحيح قضاء الدين منها إن كان ولم تكن تركة ، أو لم يفِ الوارث

ص: 368

عصياناً ؛ وذلك لبقاء خطاب الوضع في ديته وإن سقط خطاب التكليف.

العلاج التجميلي

اشارة

يمكننا أن نعدّ أمثلةً للعلاج التجميلي لتكون مصاديق لهذا العنوان العام حتى إذا ما حكمنا على هذا العنوان العام بحكم شرعي يكون سارياً في المصاديق التي ذكرناها والتي لم نذكرها ممّا ينطبق عليها العنوان العام. فمن أمثلة العلاج التجميلي :

1 - الوشم : وهو النقش الأخضر أو الأزرق على الجسم بواسطة الإبر ، فيتراءى بياض سائر البدن وصفاؤه أكثر ممّا كان يرى لولا هذا النقش.

2 - الوشر : وهو التحديد والتقصير ، فوشر الأسنان هو تحديدها وتقصيرها.

3 - التفلّج : وهو الانفراج ما بين الأسنان.

4 - ترقيق الحواجب.

5 - تطويل الشعر بواسطة وصل الشعر بالشعر ، أو وضع الشعر على الشعر ( الباروكة ).

6 - صبغ الشيب ، أو صبغ الشعر.

7 - النمص : وهو الحف للمرأة التي تقلع شعر وجهها بواسطة الآلة.

8 - إنبات الشعر على الرأس لازالة القرع ، أو إنبات الشعر على الجسم لازالة أثر الحرق.

والخلاصة : هو كل عمل في جسم الإنسان يُعدّ تجميلا له أو إزالة العيب عنه ، ولابدّ لنا من معرفة الحكم الشرعي للعلاج التجميلي ، وذلك بمعرفة القاعدة الأولية أولاً ، ثم نعقب على ذلك بما ورد من النصوص الشرعية التي يظنّ أنّها

ص: 369

واردة فيه.

القاعدة الأولية لعلاج التجميل :

إنّ علاج التجميل إذا لم يقترن بأمر محرم - مثل نظر الرجل إلى المرأة أو مسها - ولم يكن القصد منه غش الآخرين المحرم الذي يُظهر الأمة - مثلاً - أو المرأة التي يريد أن يخطبها الخاطب بمظهر الكمال عند شرائها أو خطبتها مع عدم وجود كمال فيها فهو حلال جائز ، وذلك أنّ غاية ما يحصل من العلاج التجميلي عند عدم اقترانه مع الحرام هو الزينة واظهار الكمال واخفاء العيب ، وهو أمر جائز ، بل مرغوب فيه.

وحينئذ يكون الألم في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المطلوبة هو أمر جائز إذا لم يصل إلى حد التهلكة في النفس ، وما أكبر ما يحصل عليه الإنسان حينما يزيل الألم النفسي أو يجلب المتعة النفسية التي تحصل من بعض عمليات التجميل.

ومن أمثلة هذا العمل هو أن تفعل الزوجة هذه العلاجات لأجل زوجها ، أو الذهاب إلى حفل نسائي ، فهو وان انطبق عليه عنوان الغش إلاّ أنّه غش حلال كمن يخفي عيوب داره ويخلط السمن الجيد بالردئ لأجل غذائه الخاص.

وأمّا إذا اقترن علاج التجميل بأمر محرم - كنظر الرجل إلى المرأة المحرمة أو مسها أو كان القصد من العلاج هو غش الآخرين المحرم كمن يعمل هذه العلاجات في جاريته ليبيعها بثمن اكبر حيث يظهرها بمظهر الكمال مع عدم وجود الكمال فيها ، أو كانت تعمله المرأة الحرّة لأجل أن توقع الخاطِب في خطبتها - فهو أمر محرّم لحرمة النظر واللمس ، ولانطباق عنوان الغشّ المحرّم على هذه الأفعال ، وقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليس منّا من غشّنا ».

ص: 370

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي :

نقول : إنّ ما ورد من الروايات في منع بعض مصاديق العلاج التجميلي مثل :

1 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الواشمة والمستوشمة ، والواشرة والمستوشرة ».

2 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « المتفلّجات للحسن ، والمغيرات خلق اللّه ».

3 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « النامصة والمنتمصة ».

4 - لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الواصلة والمستوصلة » (1).

تحمل كلّها على اقتران هذه العلاجات بأمر محرّم مثل الغش المحرم أو ما شابه ذلك.

ودليلنا على ذلك : أنّ اللعن الوارد في الروايات ظاهر في الحرمة وليس صريحاً فيها ، حيث إنّ اللعن لغةً من الإبعاد المطلق ، وحينئذ إذا دلّت الأدلّة على جواز أو استحباب تزيين المرأة لزوجها ، أو لأجل الذهاب إلى حفل نسائي مثلاً ، فيكون هذا قرينة على صرف الحرمة الظاهرة في الأحاديث إلى صورة الغش أو اقتران هذه الأعمال ببعض المحرّمات ، أو نقول بكراهة التزيين في غير الموارد التي دلّ الجواز على استحبابها.

والذي دعانا إلى هذا الكلام ولم نقل : « إنّ التزيين إذا كان جائزاً بصورة مطلقة وقد ورد التحريم في بعض أفراده ، فنخصّص الجواز بغير مورد التحريم » هو تذييل اللعن الوارد في المتفلّجات بقوله « المغيِّرات خلق اللّه » ونحن نعلم لما تقدّم : أنّ المراد من خلق اللّه في هذه الرواية هو دين اللّه ، كما جاء في آية النساء (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ

ص: 371


1- راجع وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 19 ممّا يكتسب به ، ح 7 وغيره.

يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (1). وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (2).

إذن المراد بتغيير خلق اللّه هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، وذلك بتحليل الحرام الذي حرمه الشارع المقدّس ، وبما أن الحرام هو الغش وليس التزيين نفهم من الروايات المتقدّمة أن المراد بالمحرم هو الغش ، والمراد باللعن هو خصوص حصول المحرم من هذه الأعمال ، أمّا التزيين الذي يحصل من هذه الأعمال فهو ليس فيه تغيير لدين اللّه ، حيث يكون جائزاً بأدلّته الكثيرة ، فلا يكون مشمولاً للروايات اللاعنة ، كما أن الروايات اللاعنة لا تشمل التزيين.

ولو أصر إنسان على أن المراد من آية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) هو حرمة تغيير ما خلق اللّه من اشياء ، فلازم ذلك أن نحرّم حلق الرأس والشعر من الجسم ، ونحرم فتح الجسور والطرقات وبناء الأسواق وشق الأنهار وما إلى ذلك ، ويلزمنا أن نفتي بحرمة تعديل الشارب ولبس الثياب ؛ لأنّه تغيير لخلق اللّه سبحانه ، وهذا ما لا يقول به أحد.

أضف إلى ذلك الروايات الواردة في تحسين الوجه وصبغ الشيب بالحنّاء والسواد ، والحثّ عليه ، وقد ورد « لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها » ففي رواية سعد الأسكاف قال : « سئل أبو جعفر ( الإمام الباقر علیه السلام ) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلن شعورهن ؟ قال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها ، قال : فقلت بلغنا أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعن الواصلة والمستوصلة ، فقال : ليس هنالك ، إنّما لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الواصلة التي تزني

ص: 372


1- النساء : 119.
2- الروم : 30.

في شبابها ، فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال ، فتلك الواصلة والموصولة » (1).

ثم إنّ هذه الروايات الواردة في اللعن للواشمة والنامصة والواصلة والمفلّجة بين مرسل ومسند لم تثبت حجيته لضعف السند ، وحينئذ نبقى على أصالة الإباحة عند الشك في الحرمة ، وهي التي اقتضتها القاعدة الأوليّة.

أحكام الترقيع :
اشارة

قد يكون من العلاج التجميلي ترقيع جسم الإنسان الحي بجسم إنسان آخر حيٍّ أو ميّت ، وقد يكون العلاج بقطع جزء من جسم وإلحاقه بمكان آخر ، كما يكون بقطع جزء من جسم الحيوان ليرقع به جسم الإنسان ، وهذا الحيوان قد يكون نجس ، وقد يكون طاهر العين.

1 - الترقيع من جسم إنسان حيٍّ لجسم إنسانٍ آخر :

نقول : إنّ كان الجزء المقلوع من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين والكلية واليد والرجل أو ليس كذلك بل من قبيل قطعة جلد أو لحم فإنّ كل هذا هو أمر جائز إذا كان برضاً من صاحب الجسم المقلوع منه ، وأما الضرر المتوجّه إلى الجسم المقلوع منه فهو إنّما يكون حراماً في غير صورة الإضرار بالنفس ، أو في غير هذه الصورة التي فيها نفع لإنسان آخر قد يكون بمستوى انقاذ حياته في بعض الصور ، فيكون حديث « لا ضرر ولا ضرار » منصرفاً لغير هذه الصورة التي فيها ايثار للغير على نفسه.

كما أنّ العضو إذا كان مريضاً وقرّر الأطباء قلعه فيجوز ذلك بلا كلام ، ولا يشمله حديث لا ضرر فكذلك ما نحن فيه إذا كان القلع قد نضر فيه إلى إنقاذ حياة

ص: 373


1- وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 19 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3.

إنسان مسلم أو مساعدته في تدبير اُموره الحياتية مثلاً. ونفس الحكم فيما إذا قُلِعَ جزءٌ من جسمه ليوضع في مكان آخر لنفس الدليل المتقدّم.

وأمّا ما قيل من عدم الجواز لاستلزام أن يكون بجسم المرقع قطعة من الميتة إذا كانت ظاهرة فهي تمنع من صحة الوضوء أو الغسل فهو أمر ضعيف ، لأنّ قطعة الميتة إذا لصقت بجسم الإنسان المرقع فيه فهي تحسب جزءاً من جسمه ، ولا ينطبق عليها عنوان الميتة بعد ذلك.

2 - الترقيع من جسم إنسانٍ ميّتٍ لجسم إنسانٍ حي :

وهذا ينقسم إلى قسمين ، إذ أنّ الأموات مرّةً من المسلمين ومرّةً من غيرهم ، فأمّا الميت المسلم فلا يجوز أخذ قطعة من بدنه لإلحاقها ببدن الحي ، وذلك لأنّ اللّه سبحانه قد جعل للميت حرمة ، وجعل الاعتداء عليه حراماً وله دية ، وهذا الحكم باق حتى إذا انتفع فرد من هذا الاعتداء بالقلع أو القطع.

ولكن قد يقال : إنّ حكم حرمة الميت احترامية ، فإذا حصل من أخذ جزء من جسمه إنقاذ إنسان مسلم على وشك الموت فهل تنصرف أدلّة حرمة الميت عن هذه الحالة ؟

الجواب : ليس من البعيد اختصاص أدلّة حرمة جرح الميت وقطع رأسه وتشريحه بصورة المثلة والتهتك واشباهها ، فمع وجود نفع كبير جداً كإنقاذ نفس مسلمة من الهلاك بأخذ جزء من جسم الميت لا يكون ذلك حراماً ، استناداً التزاحم الملاكي الذي تقدّم ذكره ، وحتى لو كان هذا هو أمر حرام إلاّ أنّه إذا توقّف إنقاذ مسلم على ذلك فيتزاحم الواجب والحرام ، وطبعاً يتقدّم حفظ حياة المسلم على حرمة هتك الميت. ولكن ينبغي أن نلتزم بالدية على القاطع ؛ لعدم المنافاة بين جواز القطع والقلع ووجوب الدية.

وفي هذه الصورة أيضاً تكون العين أو ما شابهها بعد ذلك جزءاً من جسم

ص: 374

الحي.

ثم إنّ الميت يتمكّن أيضاً من أن يوصي بأخذ عينه بعد موته لإلحاقها ببدن الغير ، وفي هذه الصورة لا تثبت الدية على القاطع (1) ، ودليل ذلك هو : أنّ الميّت له حقّ في أن يسقط حقّه في احترامه حيّاً وميّتاً بشرط أن لا يصل إلى ذلّه ومهانته ، وعلى هذا يجوز له أن يوصي بهذه الوصايا التي ترجع عليه بالنفع والثواب.

ونفس الكلام نقوله فيما إذا كان الميت كافراً أو مشكوك الإسلام ، ولكن هنا لا توجد دية على قاطع الجزء منه ، لعدم الاحترام للكافر الميت.

3 - الترقيع بعضو من أعضاء بدن الحيوان :

سواء كان نجس العين أو طاهراً فإنّه جائز ، وتترتب عليه أحكام بدن الحي بعد ذلك لصيرورته جزءاً من بدن الحي. وجواز هذا العمل ينبع من عدم الاحترام للحيوان ، سواء كان نجس العين أو طاهرها ، فإذا ترتبت منفعة على الترقيع به فهو جائز.

العلاج بالرقى ( العلاج الروحي )

إنّ من المعلوم وجود أمراض نفسية يبتلى بها بعض الأفراد ، وهي بحاجة علاج نفسي ، لذا يمكننا أن نقسم الأمراض قسمين :

1 - مرض جسمي يبتلى به العضو نتيجة لعوارض خارجية ، كالميكروب ، أو التعرض للبرد وما شابه.

2 - مرض نفسي تبتلى به النفس الإنسانية ، وقد يؤثر هذا المرض النفسي

ص: 375


1- ذهب إلى ذلك الإمام الخوئي رحمه اللّه ، منهاج الصالحين : ج 1 ، ص 426 « أحكام الترقيع ».

على بعض اعضاء الإنسان فتمرض تبعاً للمرض النفسي الذي حلّ بها ، فهل يجوز في هذين القسمين العلاج بالرقى والتمائم ، أو بما يسمى بالعلاج الروحي والنفسي ؟

الجواب :

1 - إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأمراض النفسية ومن الأرواح « الجن » أو من العين « الحسد » من طريق السحر والاُمور المحرمة الاُخرى فهي غير جائزة ؛ لما تقدّم من حرمة التداوي بالاُمور المحرمة إلاّ في صورة توقف العلاج عليها لنجاة نفس الإنسان من الهلاك والالآم الجسيمة.

2 - إذا كانت الوقاية أو العلاج من الأرواح الشريرة « كالجن » والعين « الحسد » أو من شر المؤذين ، أو كانت الاستعانة منها بقوى إلهية تفوق القوى الطبيعية بتدخل غيبي من الخالق المسيطر عن طريق الدعاء وقراءة القرآن فهو عمل صحيح ولا بأس به.

وتوضيح ذلك : أنّ الحسد والسحر أمران واقعيان موجودان في الخارج ، وقد صرّحت الآيات القرآنية بهما كما في سورة الفلق : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) . وقد دلّت هذه السورة القرآنية على استحباب أن يتعوّذ الإنسان برب الفلق ، وهو اللّه سبحانه من شر الخلق ومن شر الحسّاد ومن شرّ السحر (النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) ، وقد ورد عندنا أن العين حقّ « تُدخِل الرجلَ القبرَ والجمل القِدَر ».

كما أنّ الشياطين والجنّ موجودات واقعية ، ويجوز أن يتعوّذ الإنسان برب الناس من الشيطان الذي يوسوس في صدره ، وقد يكون هذا الشيطان من الجن كما يمكن أن يكون من الناس ، وقد صرّحت سورة الناس بذلك : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) .

ص: 376

ثمّ إنّ الجن على قسمين : الصالحون وغير الصالحين ، قال تعالى في سورة الجن : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) (1).

فإذا كان الإنسان يتعوذ - من الشيطان ومن الجن المفسدين ومن العين الحاسدة ومن السحر - باللّه تعالى وبالدعاء له ، وبقراءة القرآن كان ذلك أمراً جائزاً لا بأس به ، بل قد دلّت آيات الفلق والناس على استحبابه على الأقل ، وقد وردت الروايات على أن ذكر اللّه سبحانه وخصوصاً البسملة يدفع الشيطان عن الإنسان ويبعده.

ولماذا ننظر إلى الأمراض المادية التي تنشأ من التخمة والميكروب ولا ننظر الى الأمراض التي يصاب بها العقل والقلب في المبدأ والمعاد ، وما يتفرّع عليهما من اُصول ومعارف ، وهؤلاء المرضى هم الكافرون والمنافقون ، وبعض من آمن باللّه وبرسوله وشك في معاده ورجوعه إلى الحساب ، قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (2) وقال تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) (3) فالمرض الذي ذكره القرآن هو نوع من الشك والريب الذي يوجب اضطراب النفس الباطنية والميل إلى الباطل واتباع الهوى.

ولهذا نقول : إنّ في قراءة القرآن والأدعية التي وردت عن المعصومين علیهم السلام تُزال أنواع الشكوك والشبهات المعترضة للحقائق والمعارف الحقيقية ، ففي القرآن من المواعظ الكافية الشافية والقصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير وما تنتهي إليه نتائج العلوم الصحيحة والأحكام الحقّة ما يدفع أمراض

ص: 377


1- الجن : 11.
2- الأحزاب : 60.
3- المدّثّر : 31.

القلوب ، وقد صرّح القرآن بنفسه عن ذلك فقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (1). وقال أيضاً : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) (2). وقد ورد في دعاء كميل الذي علمه إيّاه أمير المؤمنين علیه السلام « يا من اسمه دواء وذكره شفاء ».

بل إنّ الإنسان قد يتوسّل باللّه سبحانه لأن يتدخل بيده الغيبية لشفائه من المرض الجسماني ، وقد أكّد هذا الأمر البروفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل في كتابه « الدعاء » الذي ترجمه الدكتور محمد كامل سليمان ، فقال : « إنّ نتائج الشفاء عن طريق الدعاء يستثير اهتمام الناس على مرّ العصور. وحتى يومنا الحاضر وفي الاوساط التي ما زالت تمارس الدعاء وتقوم بالصلاة ، ما زالوا يتحدّثون بإسهاب عن الأشخاص الذين تم شفاؤهم عن طريق التضرعات للباري عزّوجلّ أو لأوليائه الصالحين.

أمّا بالنسبة للأمراض القابلة للشفاء تلقائياً أو بمساعدة الأدوية والعقاقير العادية فإنّه من الصعب أن نعرف العامل الحقيقي الكامن وراء الشفاء.

إنّ المكتب الطبي التابع ل « لورد » أدّى خدمة كبيرة للعلم عندما برهن على أن حقيقة شفاء كثير من الأمراض المستعصية كان بفضل الدعاء وحده ... وهكذا فإنّ للدعوة قوةً سريعةً في الشفاء حتى يمكن تشبيهها بسرعة الانفجار.

هذا وأنّ كثيراً من المرضى تمّ لهم بفضل العاطفة الصادقة وعن طريق الدعاء تمّ لهم الشفاء من أمراض خطيرة مستعصية ، كمرض القِراض الجلديّ في الوجه ، وكالسرطان ، وتعفّن الطحال ، والقرحة ، والتدرّن الرئويّ أو السلّ العظمي ، أو السلّ في الحجاب الحاجز.

ص: 378


1- الأسراء : 82.
2- فصلت : 44.

إنّ ظاهرة الشفاء هذه كانت تحدث تقريباً دائماً بنفس الأسلوب يعاني المريض ألماً شديداً ، ثمّ يعقبه شعور بإمكان الشفاء ، وهكذا خلال بضع ثوان أو بضع ساعات على الأكثر تختفي علامات المرض ، والجروح التشريحية تلتئم لتتمّ معجزة الشفاء بعد ذلك بسرعة هائلة ، تختصر مراحل العلاج العادية بشكل مذهل ، ومن الجدير التنويه به هنا أن هذه السرعة المتناهية في مسيرة الشفاء لم يلاحظها أي أحد من الجرّاحين النطاسيين أو أخصائيي وظائف الأعضاء المشهورين خلال ما أجروا من عمليات لمرضاهم حتى أيامنا الحاضرة.

هذا ، ولكي تتم ظاهرة الشفاء بسبب الدعاء - كما سبق وأشرنا - ليس ضرورياً أن يكون الداعي هو المريض نفسه ، فإنّ هناك أطفالا صغاراً لا يستطيعون الكلام تمّت لهم معجزة الشفاء بالدعاء ، كما أنّ هناك أشخاصاً غير مؤمنين شُفُو من أمراضهم بسبب دعاء غيرهم لهم بالقرب منهم ، هذا وأنّ الدعاء للآخرين يكون دائماً أكثر نتيجةً من الشخص لنفسه (1).

إنّ نتيجة الشفاء بالدعاء وسرعة الاستجابة إنّما يتوقّفان على كثافة الدعاء أو مدى الصدق والإخلاص فيه ...

تلك هي آثار الدعاء في الشفاء التي يوجد عندي معرفة يقينية بها لانّني عايشتها عن كثب ... ولكن ينبغي أن لا يعزب عن بالنا حقيقة أنّ كلّ من يسعى لشيء لا جرم أن يصل إليه ، كما أن كل من طرق الباب يُفتح لاستقباله » (2).

فالنتيجة : أنّ قراءة القرآن والأدعية الواردة عن المعصومين سلام اللّه عليهم ،

ص: 379


1- ورد في الأخبار استحباب أن يدعو الإنسان لغيره في يوم عرفة ، فإنّ له أربعين ملكاً يؤمِّنون على دعائه ...
2- الدعاء ، تأليف البرفسور « الكسيس كارل » الحائز على جائزة نوبل ، ترجمة الدكتور محمد كامل سليمان ، ص 63 - 68.

وقراءتها والدعاء بها للغير تفيد في دفع الأمراض النفسية والجسمية ، كما أن التوسّل إلى اللّه تعالى لدفع الشر والحسد والشياطين والجن غير الصالحين يفيد في دفع المرض الذي ينشأ عن هذه الاُمور.

وحينئذ نقول : إنّ حمل الآيات القرآنية والأدعية على شكل تعويذات للتخلص من كثير من الأمراض أمر مفيد أيضاً ، كما وردت في ذلك الآثار الشرعية من قبل جميع المسلمين ، فممّا ورد في ذلك :

1 - صحيحة داود بن فرقد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ قال علیه السلام : لا بأس : وقال : تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها » (1).

2 - صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ؟ فقال : نعم إذا كان في جلد أو قصبة حديد » (2).

3 - وعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : « أنّ جبريل علیه السلام نزل على النبي صلی اللّه علیه و آله والنبي مصدَع فقال : يا محمد ، عوّذ صداعَك بهذه العوذة يخفّف اللّه عنك ، وقال : يا محمد ، من عوّذ بهذه العوذة سبع مرات على أي وجع يصيبه شفاه اللّه بإذنه ، تمسح بيدك على الموضع وتقول : بسم اللّه ربنا الذي في السماء ، تقدس ذكر ربنا الذي في السماء والأرض ، أمره نافذ ماض ، كما أنَّ أمره في السماء ، اجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا يارب الطيبين الطاهرين ، انزل شفاء من شفائك ورحمةً من رحمتك على فلان بن فلانة وتسمي اسمه » (3).

4 - عن الإمام الباقر علیه السلام عن أبيه علیه السلام قال : « قيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رقى

ص: 380


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 37 من أبواب الحيض ح 1.
2- المصدر السابق : ح 3.
3- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 14 من الاحتضار ، ح 5.

نستشفى بها هل ترد قدراً من اللّه ؟ فقال : إنّها من قدر اللّه » (1).

5 - عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن رقية العقرب والحية والنشرة ، ورقية المجنون والمسحور الذي يعذّب ؟ فقال : يا بن سنان ، لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة إذا كانت من القرآن ، أوليس اللّه يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؟! أليس يقول اللّه جل ثناؤه : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ؟ وسلونا نعلمكم ونوقفكم على قوارع القرآن لكلِّ داء » (2).

6 - وعن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر علیه السلام أنتعوذ بشيء من هذه الرقى ؟ قال : لا ، إلاّ من القرآن ، إنّ علياً علیه السلام كان يقول : إنّ كثيراً من الرقى والتمائم من الإشراك » (3).

7 - وقد ورد في مسند احمد والسنن ، وأخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول اللّه ، أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئاً ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : هي من قدر اللّه » (4).

وغير هذه الروايات الكثيرة ، وواضح أنّ النهي عن التميمة والرقى هو في خصوص ما إذا لم ندرِ ماذا في وسط التميمة أو الرقية إذ لعلّ فيها شركاً وضلالاً ...

ص: 381


1- وسائل الشيعة : ج 2 ، ب 14 من الاحتضار ، ح 12. الرقى مفردها رقية، وهي أن يستعان بها للحصول على أمر بقوى تفوق القوى الطبيعية ، وهو معنى التدخل الغيبي في بعض الأمور الذي قد يحصل نتيجة دعاء أو توسل . التمائم مفردها تميمة، وهي خرزة أو ما يشبهها كان الأعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين ودفع الأرواح الشريرة.
2- وسائل الشيعة : ج 4 ، ب 41 من قراءة القرآن ، ح 1.
3- وسائل الشيعة : ج 4 ، ب 41 من قراءة القرآن ، ح 3.
4- عن القضاء والقدر ، أبو الوفاء محمد درويش ، ص 50 طبعة ثانية 1952 م - 1371 ه.

كما هو الظاهر من تعليق المشركين لها.

من الذي يأذن بالتداوي ومن الذي لا يحتاج إلى الإذن ؟

اشارة

إنّ الإذن الذي نتكلم عنه هنا - سواء اُخذ من المريض نفسه أو اُخذ من وليه أو الحاكم الشرعي - إنّما نقصد به الموافقة على إجراء العملية والتخدير أو التداوي بصورة واعية ومدركة ، فيكون المريض على علم بآثار وأضرار ونتائج العمل الطبي والعلاج ، وذلك يحصل بشرح الطبيب للمريض شرحاً كافياً لذلك.

أمّا توقيع المريض على إجراء العملية من دون علمه بآثارها واضرارها ومدى نجاحها فهو أمر لا يجوز ، ولا يعتبر إذناً للعملية أو العلاج.

وهنا نتعرض في هذا البحث إلى معرفة الشخص الذي يعطي الإذن في التداوي. فنقول :

هناك حالات مختلفة يختلف فيها الفرد الذي يعطي الإذن في التداوي ، وهي :

1 - في الحالات المرضية التي يتعدّى ضررها إلى الآخرين ، مثل الأمراض المعدية والأمراض الجنسية والأمراض الجنونية التي تضر بالآخرين فإنَّ ولي الفقيه - المتمثّل في وزارة الصحة - هو الذي يؤخذ منه الإذن في المداواة والمتابعة وربما الحجر ، وهو الذي يحدد الواجب أو الاجبار في ذلك إنّ لم يطع الفرد الحكم الوجوبي.

2 - في بعض الحالات الجنونية التي يضرُّ المجنون بنفسه لعدم وعيه وادراكه فأيضاً تقوم وزارة الصحة باعطاء الإذن في المعالجة أو اجبار المريض عليها.

3 - في الحالات التي يقتصر فيها الضرر على نفس المريض فقط فلابدّ من

ص: 382

أخذ إذنه في جواز المعالجة بشرط أن يكون بالغاً عاقلا رشيداً واعياً ولا يحتاج حالة إسعاف أولية ، لعدم وجود الخطر المحدق به أو ببعض أعضائه.

4 - في حالة الطوارئ لانقاذ حياة المريض أو انقاذ عضو من اعضائه فيتمكن الطبيب في هذه الحالة من المباشرة والعلاج بدون إذن أحد ، وحتى لو هلك الإنسان أو تلف العضو فلا ضمان على الطبيب ، ولا عقاب إلاّ في صورة خطئه خطاً واضحاً بحيث يعد مفرطاً أو متعدّياً ، فإنّه في هاتين الحالتين يتحمّل الضمان والعقوبة.

5 - المغمى عليه - وقد يكون الاغماء مؤقتاً بدواء أو حادثة أو غير ذلك ، وقد يكون دائماً بسبب مرض معين - لا يحتاج إلى إذن منه ، بل الولي هو الذي يأذن في العلاج مراعياً مصلحة المريض.

6 - المجنون - سواء كان جنونه دائمياً أو أدوارياً حال جنونه - يسقط اذنه في العلاج ويكون الولي هو الذي يؤخَذُ منه الإذن.

7 - القاصر : سواء كان قصره بعدم بلوغه أو عدم رشده ، ومعلوم أن البلوغ الشرعي اكمال خمس عشرة سنةً هلالية ، أو خروج المني من الرجل ، أو الانبات للشعر الخشن على العارضين أو العانة ، وأمّا البلوغ في المرأة فهو إكمال تسع سنين هلالية ، وعادةً ما يكون الإنسان البالغ غير رشيد ، فحينئذ لا اعتبار بإذنه حتى يحصل له الرشد وهو ( معرفة ما ينفعه ممّا يضره في أمور حياته ) ، وعلى كل حال فإنَّ الإذن يؤخذ من الولي.

والدليل على الأمر الرابع : هو وجود وجوب شرعي على الطبيب لانقاذ حياة الإنسان من الهلاك ، كما أن هناك وجوب على الطبيب لانقاذ أي عضو من اعضاء الإنسان عن التعطيل إذا كان على وشك التعطيل والضياع.

وأمّا المغمى عليه والمجنون والقاصر : فقد اتفقت كلمات علماء الإسلام على

ص: 383

أنّهم لا أهلية لهم حتى يُستأذنوا في شيء ممّا يرجع إلى مصلحة أنفسهم ، بل الذي يُستأذن هو الولي. والاذن من الولي يكون معتبراً ولازماً إلاّ في حالة ما إذا علمنا أن الولي يعمل بضرر المغمى عليه أو المجنون أو القاصر ، بحيث يكون عمله هذا مؤدّياً إلى هلاك الفرد ، فهنا يسقط إذن الولي وتصبح الحالة من حالات الطوارئ التي لا تحتاج إلى إذن من أحد.

8 - ولي أمر المرأة عند ولادتها : فقد تدخل المرأة إلى المستشفى لأجل وضع الحمل ، ولكن قد تصاب بعسر الولادة ( حرج الجنين ) ، وهذا الأمر يستدعي إجراء عملية جراحية لانقاذ حياة الطفل ، فهنا هل يعتبر رضا المرأة والزوج مع العلم أن العملية هي لانقاذ الطفل فقط ، وأمّا المرأة فلا خوف عليها ، إذ يمكنها أن تلد طفلا ميتاً أو مصاباً نتيجة تأخره في الرحم ؟

الجواب : أنّ الاطباء إذا شخّصوا أن الطفل على وشك الهلاك إذا لم يسعف باجراءات لإنقاذه فيمكن هنا تطبيق حالة الطوارئ عليه ، وبما أنَّ المرأة لا تهلك بفتح بطنها ولا يمكن انقاذ الطفل إلاّ بذلك فيقع التزاحم بين حفظ الطفل الواجب ، وحرمة شق بطن الاُم إذا مانعت أو مانع زوجها ( الولي ) ، وبما أنَّ وجوب حفظ حياة الطفل أولى من حرمة إجراء عملية للمرأة بدون رضاها فيمكن للطبيب أن يجري العملية لانقاذ حياة الطفل بدون رضا المرأة أو زوجها أو بدون رضاهما معاً.

وقد تحتاج الزوجة إلى إجراء عملية مستعجلة ، ولا يوجد إلاّ طبيب رجل ، فهل من حقّ الزوج أن يرفض إجراء الطبيب الرجل للعملية بحجّة كشف العورة أمام الرجل أو لاي حجّة اُخرى ؟

الجواب : أنّ الضرورة إذا حصلت عرفاً فتجوز للمرأة أن تعرض نفسها أمام الرجل ، ولكن لا يجوز للرجل أن يجري العملية إلاّ برضا المرأة ، وتدل عليه صحيحة أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « سألته عن المرأة المسلمة

ص: 384

يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء أيصلح له النظر إليها ؟ قال علیه السلام أمّا إذا اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت » (1).

ولكن لا بأس بالاشارة إلى أن رضا المرأة معتبر في إجراء العملية لها ما لم يصل الأمر إلى تطبيق حالة الطوارئ ، لكون الجنين أو اُمّه على وشك الهلاك.

علاج الحالات الميؤوس منها :

إنّ تشخيص حالات اليأس من العلاج قد تصدر من نفس المريض الكامل الأهلية ، كما قد تحصل لدى الولي ، كما قد تطمئن قلوب الأطباء من عدم فائدة العلاج لهذا الإنسان الذي يعيش ساعاته الأخيرة ، فهل يحقّ :

1 - للرشيد أن يفهم الحاضرين بأنّه لا يريد إجراء أي نوع معين من التداوي بعد أن يتيقن عدم فائدة العلاج له ؟

2 - وهل يحقّ للمولى أن يقرر ترك التداوي للمولّى عليه ( وهو فاقد الأهلية كالطفل والمجنون والصغير وغير الرشيد ) بحجّة انه قد قطع بعدم فائدة العلاج ؟

3 - وهل يحقّ للأطباء في المستشفيات وغيرها أن يقرروا ترك التداوي بحجّة أنّها حالة ميؤوس منها ؟

ولنعرض هنا بعض الحالات التي قد تكون ميؤوساً منها :

1 - لو فرضنا أن رجلاً كبير السن قد اصيب بانواع من الشلل وجلطة القلب وتعطّلت الكلى عن العمل ، ولا أمل في تحسّن حاله ، فإذا اصيب مثل هذا الشخص بتوقف مفاجئ لضربان قلبه فهل يجوز عدم اسعافه ليلاقي حتفه ، أم لابدّ من استخدام اجهزة القلب أو التنفس الاصطناعي لاعادة عمل القلب مرّةً ثانيةً مع

ص: 385


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، ب 130 من مقدّمات النكاح ، ح 1.

القطع بعدم تحسّنه أصلا ؟

2 - رجل فقد وعيه بسبب من الأسباب ، وهو يعيش عن طريق التغدية الانبوبية عبر المعدة ، ويفرز بوله بواسطة الانابيب ، ومصاب بالتهاب رئويٍّ حادٍّ وجلطة في القلب ، ولا أمل في تحسن حاله في استعادته الوعي ، فإذا حدث له توقف في جهاز القلب فهل يترك من دون اسعاف أو لابدّ من اسعافه لاعادة حالة ضربان القلب ويبقى على الحالة الاُولى ؟

والجواب عن هذه الأسئلة : أنّنا نفرّق بين حالات ثلاثة :

1 - ترك علاجه وهو على قيد الحياة بحجّة أنَّ حالته ميؤوس منها.

2 - ترك الاسعافات الأولية بعد توقف قلبه عن الحركة ، بحجة أن حالته ميؤوس منها.

3 - اعطاء المريض الذي يدّعى أنّ حالته ميؤوس منها بعض الأدوية التي تؤدّي إلى توقف قلبه عن العمل.

أمّا الصورة الاُولى فينطبق عليها عنوان التفريط في حفظ حياة المريض ، وهو أمر محرم حتى إذا طلبه الرشيد الواعي ، بل يعتبر من الاعانة على القتل العمدي والظلم لنفس المريض.

وكذا الصورة الثالثة ، فإنّها عبارة عن قتل عمدي للمريض ، وهو ما يسمّى بقتل الرحمة الايجابي ، وهو أمر محرّم حتى إذا طلبه الرشيد الواعي.

أمّا بالنسبة للصورة الثانية فهو ما يسمّى بقتل الرحمة السلبي ، فهو لا ينطبق عليه الاعانة على القتل لاننا حسب الفرض قمنا بالعلاج حينما كان على قيد الحياة ، ولم نقم بعمل ايجابي يؤدّي إلى قتله وتوقف قلبه ، وإنّما توقف قلبه فجأةً فحصل الموت إلاّ اننا لم نقم بالاسعافات اللازمة لاحتمال عودته إلى الحياة بإرجاع دقات القلب ، فإن كان الأطباء قد قرروا اليأس من العلاج بعد الموت فهو أمر جائز ولا

ص: 386

دليل على حرمته ، وكذا إذا كان الولي أو المريض يعدّ قوله من أهل الخبرة والاختصاص فإنّه لا حرمة في قراره بترك المعالجة إذا توقّف القلب عن الحركة فجأةً لتيقّنه بأنّ العلاج غير مفيد مع كونه من أهل الخبرة.

التزاحم في العلاج

هل يجوز للطبيب أو أي مسؤول في المستشفى أن يرجّح مريضاً على غيره في الاستفادة من الآلات المعدّة للمرضى بحجّة أنّ هذا المريض شاب في مقتبل العمر وأنَّ ذاك شيخ كبير لا يقين بشفائه بخلاف الشاب المريض ؟ أي إذا كانت اجهزة العلاج كأجهزة القلب والتنفس الاصطناعي محدودة يحتاج إليها من ليست حالته مؤدّية إلى اليأس من البرء ، أو يحتاج إليها الشاب والشابة مع الشيخ والشيخة ، كما يحتاج إليها العالم والسياسي والغني مع غير العالم وغير السياسي وغير الغني ، فهل في هذه الحالة نقدّم من كانت حالته غير مؤدّية إلى اليأس من البرء ، أو نقدّم الشاب والشابة ، أو نقدّم العالم والسياسي والغني ونترك من كانت حالته ميؤوس منها أو كان شيخاً أو شيخة أو غير عالم وغير سياسي وغير غني مع تقدمهم في الدخول الى المستشفى واستخدام أجهزة العلاج ؟

الجواب : أنّ هذا أمر غير جائز شرعاً ؛ لما روى عن الإمام الصادق علیه السلام عن النبي صلی اللّه علیه و آله صحيحاً انّه خطب الناس في مسجد الخيف فقال : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها ... إلى أن قال : المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم » (1). وبهذا المعنى روايات اُخر متعدّدة ، وقد روي هذا المعنى من طريق أهل السنة أيضاً.

ص: 387


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 31 من قصاص النفس ، ح 2.

ولو قيل : إنّ هذا الحديث الصحيح المتقدّم لا ينظر إلى هذه الحالة ، بل هو بصدد أن يقول : إنّ شخصاً مهمّاً إذا قتل شخصاً غير مهم فإنّه يقتص منه لأنّ الدماء متكافئة ، فإنّنا نقول كدليل على عدم جواز تقديم الأهم من الرجال على غيرهم : إنّه لا يوجد تزاحم أصلاً ؛ وذلك لأنّ الأسبق إلى المستشفى عندما استعمل جهاز العلاج - والمفروض عدم وجود غيره ، وقد جاء الآخر الأهم - فهنا لا يتوجّه وجوب انقاذه على المسؤول مع عدم وجود جهاز يمكن للمريض الجديد استعماله ، لأنّ الوجوب الجديد إنّما يتوجّه إلى المسؤول إذا كان قادراً على انقاذه من دون أن يؤدّي إلى هلاك شخص آخر ، وهنا المفروض لا قدرة على انقاذه بهذه الصورة فلا تكليف على المسؤول اصلاً.

فإن قيل : إنّ ترك المريض الجديد بهذه الحالة حتى يموت هو قتل له وهو غير جائز.

قلنا : إنّ الأمر يدور بين ترك هذا المريض على حالته حتى يموت - وهو ما يسمّى بالقتل السلبي - وبين أن نأخذ الجهاز من المريض القديم وننقذ حياة المريض الجديد ، فيموت المريض القديم ، وهو ما يسمّى بالقتل الايجابي المستند الى فعل المسؤول الذي سحب الجهاز من المريض القديم ، وهو أكبر جرماً من الأول ، بل نقول : إنّ ترك المريض الجديد من دون جهاز حتى يموت لا يسمى قتلاً ، ولا يستند إلى المسؤول غير القادر على اسعاف المريض.

فعلى هذا أنّ من سبق إلى المستشفى واستعمل ادوات العلاج يكون هو الأولى بها وان كان فقيراً أو غير عالم أو غير ذي منصب حكومي أو كان شيخاً أو غير ذلك ، ولا يجوز تقديم غيره عليه إذا جاء متأخراً بحيث يؤدّي الى عدم علاج الأوّل فيموت ، فإنّ هذا يعتبر من القتل العمدي الذي هو حرام شرعاً.

ص: 388

نعم ، هناك أفراد قلائل يقوم عليهم النظام الاجتماعي ، ويعتبرون المنقذين للاُمّة من خطر الجهل والاستعمار والتخلّف ، فلهم على مجتمعهم الفضل الكبير والعميم بحيث يكون فقدانهم خسارة كبيرة للاُمّة الإسلامية جمعاء ، إنّ مثل هؤلاء لا يبعد جواز تقديمهم على غيرهم عند المزاحمة بالعنوان الثانوي ، فإنّ الأمر حينما يدور بين انقاذ حياة هذا الإنسان العظيم وذلك الشخص البسيط فإنّ الأمر يدور حقيقةً بين تلف شخص واحد أو تلف اُمة بتلف قائدها ، ولا يبعد أن لا يشمل الحديث المتقدّم تكافأ هذين الدمَّين ، بل إنّ أحد الدمَّين يكون دماء متعدّدة بخلاف الدم الآخر فإنّه دم واحد.

ضمان الطبيب

هل يضمن الطبيب ما إذا أتلف المريض أو أتلف العضو الذي عالجه أم لا ؟

والجواب : هو التفصيل باختلاف حالات الطبيب :

الحالة الاُولى : قد يكون الطبيب قاصراً في عمله من حيث عدم تمكّنه من العلاج مطلقاً أو لهذه الحالة المستعصية ، وأقدم على العلاج ، ففي هذه الحالة يكون ضامناً لما يتلف بواسطة علاجه ، إذ يكون في هذه الحالة كالجاهل الذي يقدم على معالجة المرضى ، فهو بالاضافة إلى ضمانه يكون عمله محرماً أيضاً ( أي مستحقاً العقوبة الجزائية والعقوبة في الآخرة ). ودليل الضمان على الطبيب في هذه الصورة هو شمول قاعدة الضمان لكلّ متلف بغير حقّ وإذن ، خصوصاً فيما نحن فيه ( الدماء ) الذي ورد فيها « انه لا يبطل دم امرئ مسلم » (1). والضمان هنا لا فرق فيه بين الإذن من المريض في المعالجة وعدمه ، أَخَذَ الطبيب البراءة من المريض أم لا ، وذلك

ص: 389


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 46 من أبواب القصاص ، ح 2 ، وب 10 دعوى القتل وما يثبت به ، ح 5.

لأنّ في هذه الحالة يوجد نهي شرعي عن الاقدام على التطبيب ، فإذا خالف الطبيب النهي الشرعي يأتي الضمان المستند إلى اتلافه عرفاً وتأتي الحرمة ، لكن الضمان هنا بشرط جهل المريض بقصور الطبيب ، ولا يفرق هنا بين حالة الطوارئ وعدمها في الضمان والحرمة.

نعم ، إذا أذن المريض للطبيب الجاهل القاصر في عمله مع علم المريض بجهله وقصوره يسقط الضمان هنا ، إذ ينسب تلف النفس أو العضو الى نفس المريض ، وهو أقوى من المباشر ، ولكن تبقى الحرمة على الطبيب فيستحق العقوبة من قبل ولي الأمر وفي الآخرة حيث خالف النهي الشرعي عن مزاولة العمل.

الحالة الثانية : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنه عالج طفلا أو مجنوناً بغير إذن الولي وكانت الحالة غير محسوبة من الطوارئ الذي يسقط فيها الإذن ، فهذا الطبيب حتى لو لم يكن قاصراً يكون ضامناً لما يحدث من ضرر على هذا الطفل أو المجنون ؛ وذلك لأنّ الولاية لما لم تكن موجودة للطبيب ، ولم يأت الإذن من الولي فيكون تصرف الطبيب فيما لم يكن له التصرف تعدّياً ، وقد تولّد التلف من هذا التعدي ، فهو ضامن لقاعدة الضمان على كل متلف ، وكذا الحكم لو عالج الطبيب مملوكاً بدون إذن مالكه أو مع ممانعته.

ولا داعي للتنبيه على عقوبة هذا الطبيب ، سواء أصاب في عمله أو أخطأ ، لأنّه غير مأذون في العمل شرعاً ، إلاّ في حالات الطوارئ فإنّ الطبيب إذا كان حاذقاً فهو مأذون شرعاً في المعالجة وإن لم يكن إذن من المريض أو وليه ، فإن حصل في هذه الحالة تلف من دون تعدٍّ أو تفريط فهو غير ضامن أيضاً ، وطبعاً أنّ الذي يقرر أنّ هذا التلف هو بتعدٍّ أو تفريط أو ليس كذلك هو لجنة من الأطباء.

ص: 390

الحالة الثالثة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه قد عالج البالغ العاقل الرشيد من دون إذنه ، أو مع ممانعته ولم تكن حالته محسوبة من الطوارئ ، فالطبيب في هذه الحالة يكون متعدّياً بعمله فيكون ضامناً ، لأنّه من الواضح جداً أن الإنسان أولى بنفسه من غيره ، فقيام الطبيب بعمل على جسم المريض من دون إذنه يكون تعدّياً وظلماً ، فيكون الطبيب ضامناً لما يحدث من ضرر أو تلف ، وحتى مع عدم صورة الضرر والتلف يكون هذا الطبيب مستحقّاً للعقوبة الجزائية وللعقوبة في الآخرة.

الحالة الرابعة : وقد يكون الطبيب حاذقاً ، لكنّه يقصّر في عمله ، فيكون ضامناً لتقصيره الذي يؤول إلى التفريط في العمل ، وكل إنسان أضر غيره بتقصيره بعد أن تعهّد بطبابته فهو ضامن ، حيث ينسب التلف إليه ، وهذا لا ينافي ما سيأتي من تجويزنا للطبيب الحاذق المباشرة للمريض حتى بدون إذن كما في حالة الطوارئ ، فإنّه إحسان محض قد يجب من باب المقدّمة لحفظ النفس المحترمة ، كما في خبر ابان بن تغلب عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « كان المسيح علیه السلام يقول : إنّ التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة ؛ وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً ، فكذلك لا تحدّثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ، ولا تمنوها أهلها فتأثموا ، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعاً لدوائه وإلاّ أمسك » (1).

فهذه الرواية لا تنافي الضمان الذي كان منشؤه هنا هو التقصير ( التفريط ) من الطبيب الذي هو من باب الاسباب ، والمُسَبَّب - وهو الضمان - يتبع سببه كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما ، بل هنا أولى لوجود التفريط.

ص: 391


1- الكافي : ج 8 ، ح 545.

الحالة الخامسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ( حاذقاً ) وقد اذن له المريض في العلاج ولم يقصّر الطبيب في علاجه ، ولكن آل العلاج إلى التلف في النفس أو الطرف ، فهل يضمن الطبيب ؟ يوجد خلاف في هذه الحالة ، قال ابن ادريس : لا يضمن ، حيث نشك في الضمان فالأصل عدمه ، ولأنّ التطبيب صاراً سائغاً فهو لا يستتبع ضماناً.

وقال آخرون بالضمان ، لقاعدة مباشرة الاتلاف ( الضمان على المتلف ) وأمّا الإذن في العلاج فهو ليس إذناً في الإتلاف ، والإذن في العلاج جاء بالجواز الشرعي ، والجواز الشرعي لا ينافي الضمان كما في ضرب الطفل للتأديب ، فإنّه جائز ، ولكن إذا حدث تلف فالضمان موجود على الضارب.

وقد يقال : إنّ الطبيب لم يتلف العضو عمداً ، وهذا صحيح ، إلاّ أنّه يرفع عن الطبيب القصاص فقط مع الحرمة.

وقد وردت بعض الأخبار تؤيّد الضمان ، منها : ما رواه السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن » (1).

بتقريب : أنّ المراد من الولي من له الولاية ، وهو يشمل نفس الأمر أيضاً.

ومنها : ما ورد في تضمين الختّان القاطع لحشفة الغلام ، فقد روى السكوني أيضاً عن جعفر عن أبيه أن علياً علیه السلام : « ضمن ختّاناً قطع حشفة غلام » (2). وهذا داخل في الجرح الشبيه بالعمد ، فيكون الضمان من مال الطبيب ، لقصد الطبيب الفعل دون القتل ، وواضح أنَّ الدية فيه على الجاني.

ص: 392


1- وسائل الشيعة : ج 19 ، ب 24 من موجبات الضمان ، ح 1.
2- المصدر السابق : ح 2.

الحالة السادسة : وقد يكون الطبيب عارفاً ، وقد اُذِنَ له في العلاج من قبل المريض أو وليه ولم يقصّر في علاجه ، وقد أخذ الابراء من التلف قبل العلاج فهل يضمن الطبيب ؟ هنا خلاف على قولين :

الأول : القول بالبراءة من الضمان عند التلف ، ونسب هذا إلى المشهور لرواية السكوني عن الإمام الصادق علیه السلام المتقدّمة ، قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه ، وإلاّ فهو ضامن ».

وهذه الرواية تشير إلى أن عدم الضمان هو من أجل البراءة الذي يوجب سقوط الفعل عن اقتضاء الدية ، وليس معناه اسقاط الدية ليقال : إنّه إسقاط ما لم يجب. فالنتيجة عدم ثبوت الدية في صورة أخذ البراءة ، وثبوتها في صورة عدم أخذ البراءة لأنّ القتل أو التلف مستند إليه ، والإذن هو في الفعل لا في التلف أو القتل ، فلا موجب لسقوط الضمان.

ثمّ إنّ هناك دليلا آخر على عدم الضمان في هذه الحالة ، وهو : أنّ العلاج ممّا تمسّ الحاجة إليه ، فلو لم يشرع الابراء تعذر العلاج ، وإذا شرع الابراء فلا ضمان. مضافاً إلى شمول المعتبرة القائلة : « المسلمون عن شروطهم » لما نحن فيه ، حيث إنّ الطبيب قد اشترط عدم ضمانه إذا حصل التلف.

الثاني : هناك قول ضعيف بعدم براءة الطبيب من الضمان حتى إذا تبرّأ منه ، وذلك لأنّه اسقاط للحقّ قبل ثبوته. وهذا القول باطل ؛ لما تقدّم في القول الأول من أنّ البراءة من الضمان ليس معناه إسقاط الدية حتى يقال : إنّه اسقاط لما لم يجب ، بل معناه أنّ فعل الطبيب يسقط عن اقتضائه للدية.

الحالة السابعة : وقد لا يتولّى الطبيب العلاج بنفسه ، بل يقول : أظنّ أنّ هذا الدواء نافع لهذا الداء ، أو يقول : لو كنت أنا لفلعت كذا ، ونحو ذلك ممّا لم تكن فيه مباشرة منه ، وقد فعل المريض العاقل المختار أو وليه ذلك اعتماداً على القول

ص: 393

المتقدّم ، فالمتّجه هنا عدم الضمان ؛ وذلك لأنّنا نشك في الضمان في هذه الحالة والأصل عدم الضمان ( البراءة ) ، ولأنّنا نحتمل أنّ الموت أو التلف الذي حصل قد حصل بغير العلاج ، وبغير الأخذ بقول الطبيب.

* * *

ص: 394

مرض الإيدز وما يترتب عليه من أحكام فقهية

اشارة

ص: 395

ص: 396

أسباب مرض الإيدز وانتقاله في العالم

اشارة

إنّ سبب المرض وانتقاله في بعض نقاط العالم يختلف عن سببه وانتقاله في نقاط اُخرى منه ؛ وتوضيح ذلك :

أ - في الغرب كان سبب مرض الايدز هو اللواط بنسبة 70 %.

ب - في ألمانيا وفرنسا كان سبب المرض هو نقل الدم بعد فحصه.

ج - في أفريقيا وشرق آسيا كان سبب المرض هو الزنا ، كما اكتُشف في بيوت الدعارة.

د - سبب المرض في الجنين هو انتقال المرض من الحامل الى الجنين بنسبة 10 % في آخر مدة الحمل.

ه - في البلدان الاسلامية ، تقول التقارير والابحاث : إنّ المرض جاء من نقل الدم الذي استورد من بريطانيا وأميركا والدول الغربية ، ثم بعد الاتصال الجنسي بين الزوجين ينتقل المرض الى الآخرين.

و - قد يكون سبب المرض هو تبادل الحقن الملوثة بين الافراد ، وحتى حقن الوشم والحجامة (1).

ص: 397


1- (1) من خصائص فيروس الإيدز : 1 - ضعيف جداً . 2 - لا يقاوم الجفاف . 3 - لا يقاوم ارتفاع درجة الحرارة. 4 - إذا أصيب به انسان فلن يفارقه حتى يدخله القبر . 5 - لم يثبت الفيروس على شكل أو صورة معينة ، فهو يتطور تطوراً سريعاً؛ ولذلك لم يتوصل العلماء الى علاج لهذا المرض. 6 - إذا دخل هذا الفيروس الى البدن فإنه يختفي بسرعة داخل بعض الخلايا (وهذه هي مرحلة الكمون) ويأخذ في التكاثر تدريجاً وفي تدمير هذه الخلايا، فينقص عددها شيئاً فشيئاً، حتى يصل المصاب الى مرحلة لا يتمكن من مقاومة الجراثيم أو الخلايا الضارة (كالخلايا السرطانية) وحينئذ يحدث ما هو معروف من مرض نقص المناعة المكتسب . 7 - إن المرحلة التي يدخل فيها الفيروس الى البدن وحتى ظهور الاعراض المميزة لمرض الايدز تختلف من إنسان لآخر ، ففي الاطفال تكون قصيرة نسبياً (أقل من سنتين)، وفي البالغين تتراوح ما بين (107) سنوات، وهذه المدة تقصر إذا حدثت أمراض أخرى ، أو كانت التغذية سيئة ، أو حصل حمل لدى المرأة ؛ ولذا يكون متوسط المدة في أفريقيا خمس سنوات لما فيها من سوء التغذية وأمراض أخرى كالملاريا) في حين يكون متوسط المدة في الدول المتقدمة عشر سنوات بفضل التغذية الجيدة والعلاج للامراض المرافقة). 8 - يكون الشخص المصاب معدياً طوال هذه المدة التي دخل فيها الفيروس الى البدن . 9 - إنّ هذا الفيروس يموت فوراً اذا تعرض للشمس أو للهواء أو للمطهرات ( كالديتول) وحتى الصابون ، ولكن اذا بقي في الدم وفي بعض الافرازات فيمكن ان يبقى مدة طويلة ، فاذا بقي في مكان مثلج ( تجميد المني مثلاً) فانه يعود ولو بعد عشر سنوات. 10 - وجدت حالة غريبة في اميركا خلاصتها : أنّ طفلةٌ حملت الفيروس من أمها وتُؤكّد من ذلك، وفي السنة الثالثة اختفى الفيروس من دمها تماماً ، وأجري الفحص عدة مرات - وفي أفضل المراكز الطبية - ولكنهم لم يجدوا للفيروس أثراً ، هذه الحالة حيرت الاطباء في كيفية القضاء عليه . ( من مقالة للدكتور محمد علي البار في مجمع الفقه الاسلامي في دورته التاسعة).
طرق حصر العدوى :

لقد حصر العلماء طرق العدوى في ثلاثة اُمور :

أ - طريق الاتصال الجنسي بين افراد الجنس الواحد أو الجنسين ، وهذا يمثِّل

ص: 398

أخطر الطرق وأكثرها شيوعاً ، وتصل نسبة الاصابة عن هذا الطريق الى 80 %.

ب - الدخول الى الدم ، سواء كان بنقله أو بالحقن بالإبر ، وبخاصة المخدرات ، أو الجروح النافذة وزراعة الاعضاء ، وحتى العمليات الجراحية اذا لم تكن الادوات معقمة تعقيماً جيداً.

ج - عن طريق الاُم المصابة الى جنينها ( أمّا أثناء الحمل أو أثناء الولادة ) (1).

ومن حسن الحظ أنّ الطريقين الأخيرين أمكن السيطرة عليهما بعد التعرف على أساليب الكشف عن الفيروس بالطرق السريعة والحديثة. مميزات اُخرى للمرض ومخاطره :

1 - يعتبر مرض الايدز من أخطر الامراض التي أصابت البشرية ، وقد نُعت في بعض التعبيرات بأنّه طاعون القرن العشرين ، وقد اُصيب به أكثر من سبعة عشر مليوناً ، ويتوقع في السنوات الستّ الآتية أن يتصاعد الرقم الى

ص: 399


1- ذكر هذه الطرق الدكتور احمد رجائي الجندي في مقالة ( رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز ) ولكن الدكتور محمد علي البار عندما قرر هذا البحث في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الاسلامي المنعقد في ( ابو ظبي ) - ما بين 1 - 6 من ذي القعدة لسنة 1415 ه.ق - ذكر شيئاً خطيراً إذ قال : لقد ثبت أن انتقال العدوى قد يكون بسوائل الجسم كالعرق ، فالفيروس موجود في جميع الافرازات حتى اللعاب ، وفي سائل النخاع الشوكي ، وفي لبن الاُمّ ، وحتى في الميت عندما يغسّل وهو مصاب بمرض الايدز فتخرج منه افرازات يحتمل انتقال الفيروس منها الى المغسِّل. والذي يحل المسألة هو ما جاء في توصيات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت - ما بين 23-25 من جمادى الآخرة لسنة 1414ه.ق الموافق 6 - 8 كانون الاول 1993 م - وقد جاء فيها : «انما تنتقل العدوى بصورة رئيسة باحدى الطرق التالية » ( وذكر الطرق المتقدمة). وعلى هذا فان القول الصحيح هو عدم حصر طرق العدوى فيما تقدم من الصور ، بل تكون تلك الصور صوراً رئيسة لنقل العدوى ، اما غيرها فكثير ، فقد نقل الدكتور محمد علي البار انتقال المرض من طفل صغير الى أخيه ولا يعرف سبب الانتقال بالضبط .

أربعين مليوناً.

2 - إنّ جميع دول العالم فيها إصابات ، ولا يوجد شعب محصّن ضد هذا المرض.

3 - إنّ أعداد المصابين بهذا المرض في زيادة مستمرة ، ومعظم الحالات هي بين الذكور ، اذ تصل الى نحو 75 %.

4 - إنّ عمر المصابين يتراوح بين 15 - 49 سنة ، وهو عمر الانتاج والعمل.

5 - إنّ هذا المرض أكثر انتشاراً في أفريقيا « التي فيها من الاصابات ما يربو على تسع ملايين إصابة ، توفّي منهم مليونان » وجنوب شرق آسيا « التي فيها من الاصابات نحو مليوني إصابة » والهند حيث يكثر الفقر ويقلّ الوازع الديني ، وتكون الدعارة مصدراً للرزق أو تجارةً يقوم بها تجار الموت.

6 - من مضاعفات الإصابة بمرض الإيدز : انتشار كثير من الامراض التي كان العالم على وشك اعلان التخلّص منها ، مثل حالات السلّ الرئوي.

المشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز

اشارة

كان ما تقدم توطئةً لهذ البحث ، وسنتعرّض الى تساؤلات نشأت عند الفرد والمجتمع يطلب فيها تحديد حكمها الشرعي ، ويمكن تلخيصها بما يأتي :

أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالإيدز ؟

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟

سادساً : ما حكم حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة ؟

ص: 400

سابعاً : ما حكم طلب الطلاق من المرأة اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟

ثامناً : ما حكم اجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ( اللباء وغيره ) ؟

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت (1) ؟

حادي عشر : وقبل هذه المسائل هناك مسألة متقدمة عليها تتلخص في حكم إعلان الطبيب عن الإصابة بمرض الايدز لمن يهمهم أمر المريض ، وخصوصاً زوجته ، فهل يجوز للطبيب أو يجب عليه ان يخبر الزوجات عن أزواجهن أو العكس ، أو لا يجوز ذلك(2) ؟

فقد يقال بعدم جواز إفشاء المرض ، وذلك :

1 - لما قُرر من أنّ الطبيب هو الحافظ لسرّ المريض.

2 - ولمّا كان مرض الايدز قد يحدث غالباً عن طريق المعاشرة الجنسية غير الشرعية فالإعلان عن الإصابة معناه هتك لاعتبار المريض لاتّهامه بمرض يسيء اليه.

ثم إنّ إطلاع الزوجة قد يجرّ الى إطلاع الأقارب والذين يشتغلون مع الفرد المصاب ، وهذا يجرهم الى اجتنابه مما يؤدي الى طرده من المجتمع بصورة غير معلنة. واذا حصل ذلك فقد تحصل للمريض حالات عصبية تجرّه الى الانتقام من المجتمع فيعمد الى نقل المرض الى غيره ( كما حدث ذلك في بعض دول العالم ).

ص: 401


1- إنّ هذه الأسئلة تدور حول المريض الذي اكتشف مرضه ، ولكن لم تظهر عليه أعراض المرض. أمّا الذي ظهرت عليه اعراض المرض فكأنّما حُسب امره مفروغاً عنه.
2- وهذا التساؤل يصح عند طلب المريض من طبيبه أن لا يذيع إصابته بالمرض.

3 - اذا اُذيعت إصابة فرد بمرض الايدز ، وقلنا بوجوب ذلك أو جوازه فإنّ هذا قد يؤدي الى عدم كسب أي معلومات عن المرض ؛ لعدم مراجعة المرضى الى الاطباء خوفاً من إذاعة إصابتهم. وعدم كسب المعلومات عن المرض والمرضى لأخذ الحيطة من المرض يؤدي الى انتشار الفيروس في المجتمع.

4 - يمكن للطبيب أن ينصح المريض باستعمال العازل عند المجامعة مع الزوجة ، وهذا يؤدي الى عدم انتقال المرض اليها ، وهو يدل على عدم ضرورة إطلاع الزوجة على مرض زوجها.

ولكن قد يقال ( في مقابل القول الاول ) بجواز إعلان المرض الى الزوجة أو الى من يهمّهم أمر المريض ، أو وجوبه ؛ وذلك :

أ - لأنّنا وإنْ آمنّا بأنّ الطبيب هو حافظ سرّ المريض الذي يراجعه إلاّ أنّ ذلك الأمر ليس بصورة مطلقة وغير قابلة للتغيير ، بل يمكن ان يقيّد بعدم كون كتمان سرّ المريض يؤدي الى الإضرار بالآخرين ، ذلك الاضرار الذي يوصل الى الموت ، أمّا اذا كان الكتمان يؤدي الى ضرر بالزوجة يصل الى حد الموت فلا يجب كتمان سرّ المريض.

ب - إنّ هتك اعتبار المريض المصاب بالايدز ( إذا اُذيع خبر مرضه ) منوط بالوضع الثقافي والاجتماعي لاُسرة المريض ، وعلى هذا فلا يكون إعلان الإصابة بالمرض للزوجة موجباً لإذهاب اعتبار المريض وهتكه ، خصوصاً اذا اُعلن أنّ هذا المرض قد ينتقل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الحاقنة أو غير ذلك. وبهذا لم يكن المصاب ( عند إعلان إصابته لزوجته مثلاً ) قد طُرد من المجتمع بحيث يقرر الانتقام منه.

ج - ويتفرع على ما تقدم عدم امتناع المريض بمرض الايدز من مراجعة الطبيب لأخذ العلاج مثلاً.

د - إنّ استعمال العازل في الجماع ليس وقاية كاملة من انتقال المرض ، فلا

ص: 402

يمكن أن يكون دليلاً لعدم جواز إذاعة المرض مطلقاً.

ه - إنّ حق السليم من الزوجين في الامتناع عن المعاشرة الجنسية حتى لا ينتقل اليه المرض هو حق مشروع ؛ ويجب على الطبيب ( من باب وجوب حفظ نفوس الآخرين من المرض المهلك ) الاعلام حتى لا يقع الصحيح في المرض المميت.

والآن : ما هو الحكم الشرعي في هذه المشكلة الاجتماعية ؟

الجواب : بما أنّ حفظ نفوس العباد من المرض المهلك المميت واجب فيجب على الطبيب إعلان المرض للزوجة - مثلاً - بحيث تحفظ نفسها من الابتلاء بالمرض ، ولكن يجب أن يكون الإعلان بصورة تُحفظ معها كرامة المصاب ، بحيث لا تخدش منزلته الاجتماعية (1).

ويمكن تصوير إعلان المرض للزوجة مع حفظ كرامة المصاب بأنْ يُقرن الاعلان بتصريح من الطبيب : بأنَّ المرض لا يدل على ارتكاب المريض فاحشةً وفجوراً ، أو يؤكد الطبيب أنّ الانتقال قد حصل عن طريق نقل الدم أو استعمال الإبر الملوثة ، بحيث لا يكون الاعلان مؤدياً الى الانتقاص من شخصية المريض.

ومن الطبيعيّ أن نترك للطبيب تشخيص وضع المجتمع وتقبّله بأنّ المرض قد نشأ من غير طريق المعاشرات الجنسية ، وتشخيص الوضع العائلي للمريض وتفهّمهم لحاله وكيفية الاهتمام به بحيث لا يكون الاعلان موجباً لهتك اعتبار المريض وطرده من المجتمع.

ولنرجع الى بيان حكم المسائل العشر التي ذكرناها سابقاً فنقول :

ص: 403


1- كما لو كان المجتمع قد عرف أنّ هذا المرض أخذ ينتشر بغير طريق المعاشرة الجنسية ، وكان المجتمع يهتم بالمريض بحيث لا يُطرد من المجتمع.
أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالايدز ؟

إن عزل المريض فيه نفع للمجتمع وللمريض معاً. أمّا للمجتمع فيتصور في الوقاية من انتشار المرض ، وأمّا للمريض فيتصور في حفظ المريض من أنْ تسري إليه العدوى بأمراض الآخرين وهو في حالة منهكة ، وتقديم الرعاية المركّزة له.

وبناءً على ما ذكره المتخصّصون من الأطباء في أنّ العدوى بمرض الايدز تنتقل أساساً بثلاث طرق :

1 - الاتصالات الجنسية.

2 - الدم ومشتقاته ( سواء بنقل الدم العلاجي او باستخدام الإبر والمحاقن الملوثة بالفيروس ، ولا سيما في حالة تعاطي المخدرات حقناً ).

ولكن من حسن الحظ قلّت خطورة العدوى بنقل الدم العلاجي بعد التأكد من خلو الدم من الفيروس بوسائل متطوّرة. أمّا انتقاله في حالة تعاطي المخدرات حقناً فلا تزال له خطورة كبيرة.

3 - انتقال العدوى من الام لجنينها وهو في الرحم ، وهذا الانتقال يحصل بنسبة ضئيلة.

وعلى هذا فلا مسوّغ لعزل المريض بالايدز من المجتمع في مصحّات خاصة ، لعدم وجود أي احتمال أساسي لانتقال المرض عن طريق الطعام أو الشراب أو المرافق الصحية أو المسابح أو التنفس أو المقاعد أو أدوات الطعام أو الملابس أو اللمس.

ولكن هنا أمرٌ يتوجه الى المريض نفسه ، وهو : أن يتجنب طرق العدوى للآخرين (1) ممن هو محترم النفس ، لما ثبت من نصوص الشرع الحنيف

ص: 404


1- هناك روايات عن النبي صلی اللّه علیه و آله مضمونها : أن لا عدوى في الاسلام. كما أنّ هناك رواياتٍ - كما ستأتي توجب عدم ورود الممرَض على المصحّ فهل هناك تعارض بينهما ؟ والجواب : أنّ العرب في الجاهلية كانت تزعم وتعتقد أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل اللّه تعالى، فجاء الحديث يردّ هذه المزاعم ، فقال : « لا عدوى » اي لا عدوى بطبعها من دون إذن اللّه تعالى. وأما حديث لا يورد ممرض على مصح فهو إرشاد الى حكم عقلي يبعد الإنسان عن ضرر الآخرين عادةً بفعل اللّه تعالى وقدره، ويحذر الصحيح من الضرر الذي يحصل بفعل اللّه سبحانه وإرادته وقدره.

من حرمة الاضرار وإلقاء الأنفس في التهلكة ؛ لأنّ مصير المريض بالايدز القبر لا محالة.

وإليك النصوص :

1 - « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (1) حسب الحديث المشهور بين المسلمين.

2 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يوردُ ممرضٌ على مُصِحّ » (2).

3 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الطاعون رجز أو عذاب اُرسل على بني إسرائيل أو على مَن قبلكم ، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، واذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه » (3).

فالنهي قد توجه الى الفرد الذي كان في ارض الطاعون ، وليس إلاّ لأجل احتمال إصابته وعدواه للآخرين ، فينتشر المرض في مساحة اكبر من الارض ، وفيه مفسدة للمجتمع أوجبت ذلك النهي (4).

ص: 405


1- تراجع مصادر الحديث في رسالة ( لا ضرر ولا ضرار ) لشيخ الشريعة الاصفهاني ، تحقيق مؤسسة آل البيت : - قم المقدّسة.
2- صحيح مسلم بشرح النووي : ج 7 ، باب لا عدوى ، ح 2221 وما بعده.
3- المصدر السابق : ج 7 ، باب الطاعون والطيرة ، ح 2218.
4- إنّ الروايات الواردة في مرض الطاعون ( الوباء ) وجواز خروج من كان في أرض الطاعون على ثلاثة أقسام : الأول يقول: لا تخرج من أرض الطاعون مطلقاً. الثاني يقول : أخرج من أرض الطاعون مطلقاً . الثالث يقول : أخرج من أرض الطاعون اذا لم تكن في محل الاصابة ، ولا تخرج من ارض الطاعون اذا كنت في محل الاصابة . وهذا القسم هو شاهد جمع بين القسمين الأوّلين ، فما روي في كتاب (معاني الأخبار) عن علي بن جعفر قال : سألت أخي موسى بن جعفر (الامام الكاظم) عليه السلام عن الوباء يقع في ارض هل يصلح للرجل أن يهرب منه ؟ قال عليه السلام : « يهرب منه ما لم يقع في (أهل) مسجده الذي يصلي فيه ، فاذا وقع في اهل مسجده الذي يصلي فيه فلا يصلح الهرب منه » . بحار الأنوار: ج 6 ، ص 122.

وحينئذ نقول بذلك فيما نحن فيه ( مرض الايدز ) بالأولوية ، لأنّ كلامنا في من اُصيب بمرض الايدز قطعاً ، فيجب عليه التحرّز من عدوى الآخرين ، وهذه الأولوية هنا قطعية.

4 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد » (1).

واذا أوجب الشارع الفرار من المجذوم فهل يمكن أن يجوّز للمجذوم أن يعدي الآخرين عن قصد وعمد ؟

والجواب بالنفي ؛ للمنافرة بين افراد الصحيح من المجذوم وجواز عدوى المجذوم لغيره عن عمد وقصد.

وقد يقال في بطلان الاستدلال المتقدم على عدم جواز عدوى المريض للصحيح : بأنّ الروايات المتقدمة - باستثناء الاُولى - غير إلزامية ، بل هي إرشادية الى ما ينبغي أن يفعله المريض أو الصحيح.

والجواب أولاً : أنّنا لا طريق لنا بالقطع بأنّ هذه الأوامر والنواهي غير إلزامية ، بل الآية القرآنية ( ... مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... ) (2) تقول بإلزامية أوامر النبي صلی اللّه علیه و آله ونواهيه في مورد الشك في كونها إلزاميةً أو إرشادية.

ثانياً : اذا لم تكن الادلة المتقدمة إلزامية إلهية فهي من صلاحيات الحاكم

ص: 406


1- صحيح البخاري بحاشية السَنَدي : ج 4 ، باب الجذام ص 12 ، ط دار بيروت. من لا يحضره الفقيه : ج 1. ص 357 ، ط طهران.
2- الحشر : 7.

( على أقل تقدير ) فيجب ان يتجنب المريض بالايدز طرق عدوى الآخرين.

ثالثاً : يكفينا للاستدلال على الحكم الشرعي الإلهي حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) الذي يوجب على المريض عدم الاضرار بالآخرين ، ذلك الإضرار الذي يؤدي الى الموت.

وقد يقال أيضاً : إنّ تجنب المريض طرق العدوى قد يكون واجباً وجوباً الهياً ، ولكن فيما اذا كان احتمال العدوى كبيراً جداً فإنّ المتخصّصين قد ذكروا : « أنّ درجة شدة سراية المرض أو احتمالات العدوى من جماع واحد لا تتعدّى نصفاً بالمائة ( أي مرّةً في كلّ مائتي مرة ) الا اذا كان احد الطرفين مصاباً بمرض تناسلي آخر فتصل نسبة احتمال العدوى الى اثنين بالمائة » (1).

وهذه النسبة لا توجِد وجوباً على المصاب في تجنب المواقعة الجنسية ، لأنّ كلّ مواقعة جنسية يشكّ المصاب في حرمتها عليه لضآلة احتمال الاصابة فتكون العملية بالنسبة له محلّلة.

أقول : صحيح أنّ احتمال الاصابة وإن كان ضئيلاً إلاّ أنّ المصاب يعلم من الاول بتعدد المقاربات الجنسية ، وهذا التعدد يقوّي احتمال الاصابة لا محالة ، فمثلاً اذا قارب هذا المصاب زوجته مائتين مرة في السنة فهناك احتمالات كثيرة :

أولها : أنّ الاصابة وقعت في واحد من المائتين.

وثانيها : أنّها وقعت في اثنين من المائتين ... الى وقوع الاصابة في جميع المائتين ، كما يبقى احتمال أنّ الإصابة لا تقع أصلاً (2).

ونحن يهمنا نفي الاحتمال الأخير حتى تكون الاصابة متيقّنةً من الاتصالات

ص: 407


1- رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الايدز : 17 ، د. احمد رجائي الجندي.
2- وأمّا ما هو اكبر الاحتمالات ؟ فالجواب : أنّ أكبر الاحتمالات هو ما كانت له صور متعددة ممكنة ؛ ولمعرفة ذلك لابدّ من مراجعة نظرية التوزيع ل ( برنولي ) لمعرفة أقوى الاحتمالات ، واذا عرفنا أقوى الاحتمالات فإنّ هذا لا يجعل الاحتمالات الاُخرى صغيرةً بدرجة يمكن إهمالها.

الجنسية المتعددة وإن كان احتمال الاصابة في المرة الاُولى أو في غيرها ضعيفاً.

واذا نفي الاحتمال الأخير - ولو بأن نفرض أنّ المقاربات ستمائة مرّةً في ثلاث سنين - فهل يكفي هذا للقول بحرمة اتصال المريض بزوجته اذا كان يعلم أنّه يقاربها بالقدر المتقدم من المقاربات ، أو يبقى جواز ذلك ، لأنّه في كل مرّة يبقى عنده احتمال الإصابة احتمالاً ضعيفاً لا يعتدّ به ؟

الجواب : اذا نفي الاحتمال الاخير أو أصبح غير عرفي فلابد من القول بحرمة الاتصالات الجنسية ، لأنَّه إلقاء للنفس في التهلكة (1).

وأمّا اذا كان احتمال الإصابة قد قوي بصورة عرفية ، بحيث يكون العرف مهتماً بهذا الاحتمال ( ولم ينتف الاحتمال الاخير ) وكان المحتمل مهماً جداً - كالموت كما في فرضنا - فلا يبعد ان تكون القاعدة هي منع المريض من الاتصال بزوجته ( قبل ان يخبرها بالواقع ) وذلك :

أ - لأنّ أدلة حرمة الاضرار تشكل هذه الصورة عرفاً.

ب - كما أنّ الرواية المروية عن الرسول الاعظم صلی اللّه علیه و آله القائلة : « اذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ، واذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها » تشمل ما نحن فيه ؛ حيث إنّ وقوع الطاعون بأرض وأنا فيها ليس معناه أنّني مصاب بالطاعون قطعاً ، وليس معناه أنّني سوف أنقل مرضي - على تقدير وجوده - للآخرين ، بل يحتمل أن أكون مصاباً ، ويحتمل أن أنقل المرض للآخرين ، وهذا الاحتمال عقلائي ، فَمنَعَ الشارع الشخص الموجود في أرض الطاعون من خروجه منها ، وما نحن فيه أيضاً كذلك ؛ لأنّ احتمال الإصابة اذا كان معتدّاً به فللشارع المقدّس أن يمنع من إيجاد طرق العدوى.

فاذا قلنا : إنّ الطاعون قد ذكر في الرواية كمثال فيكون ما نحن فيه مشمولاً

ص: 408


1- بناءً على منجزية العلم الإجمالي التدريجي.

للمنع ، كما أنّ رواية « لا يورد ممرض على مصحّ » تفيد نفس المعنى المتقدم.

وبعبارة اُخرى : أنّ الشارع قد اهتم بنفسه لسدّ طرق العدوى المحتملة احتمالاً عقلائياً ، فاذا كانت طرق العدوى من الاتصال الجنسي بين الزوج وزوجته محتملةً احتمالاً عقلائياً ، ومع عدم الفرق بين الطاعون ومرض الايدز فالمنع حسب النص هو الصحيح.

كما أنّ أهل الخبرة في الطب قد أمروا بالتحرز من مصاحبة أهل الأمراض المعدية ، ومن طرق نقل العدوى ، وكما يرجع اليهم في تشخيص الدواء فكذلك يرجع اليهم في هذا وأشباهه.

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟

إنّ تعمّد نقل العدوى الى الآخرين عمل محرم ؛ لارتكازية حرمة الإضرار بالآخرين ؛ وبخاصة الأضرار المؤدية الى الموت.

ثمّ إنّ القتل بالاسباب الخفية يوجب القصاص اذا استند القتل اليها ، كالقتل بالاسباب الظاهرة بلا فرق بينهما ؛ وذلك لما دلّ على أنّ إسناد القتل الى شخص مع سبق النية عليه يوجب القصاص ، وبما أنّ العدوى لمرض الايدز مع الاصرار عليها توجب اسناد القتل الى المعدِي - حامل الفيروس - فهي توجب القصاص. واليك التفصيل :

أ - اذا كان قصد المعدي هو قتل مَن يَنقل اليه المرض ، وقد تحقق القتل قبل أن يموت المعدِي فيثبت على المعدِي القود ( القصاص ).

ب - اذا كان قصد المعدي هو قتل المعدى ، وقد تحقق القتل بعد أن مات المعدي فالحكم هو ثبوت الدية في ما تركه المعدي ، وذلك لعدم إمكان القصاص فنتنزّل الى الدية.

ج - اذا كان قصد ناقل المرض هو قتل من ينقل اليه المرض وقد حصلت

ص: 409

العدوى فقط فهنا لا يجوز قتل الناقل ( المصاب ) ؛ وذلك لعدم جواز القصاص قبل وقوع الجناية ( القتل ).

ولا ينطبق على قتل الناقل عنوان الدفاع عن النفس ، ولكن يستحق الناقل للمرض التعزير من قبل الحاكم الشرعي حسب ما يراه مناسباً.

د - إذا كان قصد الناقل للمرض ( أي حامل الفيروس ) هو قتل الآخر ( المنقول اليه المرض ) ولم تحصل الاصابة بالمرض فان توقف الدفاع عن النفس والممانعة عن العدوى على قتله جاز قتله دفاعاً عن النفس ، كما اذا أجبر ( حامل الفيروس ) الآخر السليم على المواقعة الجنسية بقصد تلويثه بالمرض ، أو أجبره على ثقب جسمه بإبرة ملوثة ، أو أراد نقل الدم من بدنه الى بدن السليم بقصد العدوى.

واذا رُفعت دعوى ( قصد المعدي عمداً ) الى الحاكم الشرعي عند عدم حصول العدوى وأقرّ التاقل بها فيستحق التعزير أيضاً.

ه - إذا كان قصد ( حامل الفيروس ) نقل المرض الى المجتمع ( لإشاعة الفساد ) وصرح بذلك ، وتوقف التحفظ عن سراية مرضه الى المجتمع على قتله جاز قتله ، بل وجب ، وذلك دفاعاً عن النفوس التي يجب حفظها عن المرض المهلك.

وأمّا إذا لم يتوقف التحفظ منه على قتله ، كما اذا أمكن سجنه بصورة انفرادية فلا يجوز قتله ، بل يعزّر بالسجن طيلة عمره ، لأنَّ المرض ملازم له حتى الموت حسب قول المتخصصين في هذا الوقت.

و - إذا كان قصد حامل الفيروس نقل المرض لفرد معين واعترف بذلك ولم تحصل الاصابة فينطبق عليه عنوان التجري وحكمه فلا يبعد استحقاقه التعزير بسبب قصده الإيذاء وإيقاع الفساد.

ز - وإذا لم يكن قصد المصاب العدوى - وقد حصلت في الخارج - فيكون

ص: 410

عمله خطأً ، فاذا مات المنقول اليه المرض بسبب العدوى فقد حصل القتل الخطأ فتثبت الدية على العاقلة.

وإذا كانت طريقة نقل المرض محرّمةً بالأصل ( كالزنا واللواط ) وقد استخدمها المعدي بقصد نقل العدوى الى الآخرين فقد تقدم حكمها بتفاصيلها المتقدمة. ولكن لا يخفى أنّ الفعل المحرّم الذي قُصد نقل المرض بسببه له حكمه المستقل من الحدّ أو التعزير.

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟

هل يجوز للمصاب بالايدز أن يتزوج من السليم ؟

والجواب : هناك صورتان :

إحداهما : أن يكون غرض الزوج المريض من الزواج هو إنجاب الاطفال والمعاشرة الجنسية بالصورة الطبيعية والمتعارفة ، مع عدم إعلام الزوجة بواقع الحال ، ففي هذه الصورة لا يكون الزواج جائزاً ، لانه من مصاديق إيقاع النفس المحرّمة في التهلكة والاضرار بها ؛ لأنّ المواقعة الجنسية هي الطريق الأكثر شيوعاً في انتقال المرض كما تقدم. إضافة الى أ نّه تدليس وغش ، وقد شاع قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « مَن غشّنا ليس منّا ».

واذا حصل هذا الزواج المحرّم فيكون باطلاً ، وحينئذ :

أ - فان كان الرجل هو المدلِّس فيجب عليه المهر مع الدخول ، وأما قبله فلا ، ويجوز للمرأة الفسخ اذا علمت بذلك.

ب - وإن كان المدلِّس هو الزوجة وعلم الزوج بذلك فيجوز الفسخ للزوج ، ولا تستحق المرأة مهراً حتى بالدخول ، لأنَّ الفسخ قد حصل بسبب تدليسها.

ج - وإن كان المدلِّس شخصاً ثالثاً ولم يكن التدليس بطلب من الزوجة فهو الذي يتحمل استقرار الخسارة اذا دفع الزوج المهر الى زوجته المريضة

ص: 411

بهذا المرض.

د - وإن كان المدلِّس شخصاً ثالثاً وكان التدليس بطلب من الزوجة فخسارة المهر الذي دفعه الزوج تكون عليه ، ثم هو يرجع على الزوجة التي طلبت منه التدليس.

والاُخرى : أن يكون غرض الزوج المريض هو المعاشرة الجنسية فقط مع استعمال الواقي والعازل ، وأخبر الآخر بذلك وحصلت الموافقة فلا دليل على تحريم هذا الزواج ، لعدم تحقق إيقاع النفس المحترمة في التهلكة والإضرار بها رغم وجود احتمال ضئيل جداً بالعدوى ؛ لأنَّه احتمال غير عقلائي.

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟

اذا كان الرجل والمرأة مصابَين بمرض الايدز فهل يجوز لهما الزواج ؟

والجواب بالايجاب ، سواء اتفقا على الامتناع عن الانجاب - كما في حالة استعمال العازل والواقي من اختلاط السوائل الجنسية - أو لم يمتنعا عن ذلك ، لأنَّ المرض قد حلّ بهما قبل الزواج ، والزواج لا يؤدي إلاّ الى المرض على احتمال معتدٍّ به ، وهو موجود قبل ذلك ، فلا دليل على منعهما منه.

وقد يقال : بأنَّ المرأة والرجل اذا لم يمتنعا عن الانجاب فلا يجوز زواجهما ؛ لأنَّ إصابة الجنين بالمرض تحدث في نسبة غير قليلة.

أقول : إنّ هذا كلام لا دليل عليه ، لأنّ الحمل بعد لم يوجد ، فاذا وجد وهو في بطن اُمه فليست الاُم مسؤولةً عن حياته (1) ، وليست هي المسببة لاصابته إذا اُصيب ، ولم تكن متعمدة لاصابته ، ولهذا فقد يقال بجواز الحمل ، فان ولد سليماً

ص: 412


1- بل هي مكلفة بعدم اسقاطه وعدم التعدي عليه ، وحينئذ فاذا اُصيب مع عدم ارادة الاصابة بل مع التحفظ عن الاصابة لا تكون الاُم هنا متعدية.

فهو ، وان ولد مصاباً فهو كمن ولد معلولاً ومشوّهاً نتيجة معلولية الزوجين أو تشويههما فلا يجوز قتله.

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟

اذا كان أحد الزوجين مصاباً بمرض الايدز فهل لغير المصاب أن يمتنع عن المعاشرة الجنسية ، لأنَّها هي الطريق الرئيس للعدوى ؟

قد يكون الجواب بالايجاب ، لأنَّه يدخل تحت عنوان الدفاع عن النفس من الإصابة بمرض مهلك.

ولكن يوجد لنا طريق للجمع بين حق المصاب والسليم معاً ، وهو : استعمال العازل والواقي من اجتماع السوائل الجنسية ، وبذلك تحصل المعاشرة مع عدم العدوى.

وبما أنّ المعاشرة الجنسية مع الواطئ يُطمئنّ معها بعدم الاصابة فهي طريق الجمع بين الحقّين. فاذا رضي الزوجان بهذه الطريقة فلا تصل النوبة الى امتناع السليم عن حق المعاشرة الزوجية التي اوجبها اللّه تعالى وجعل الممتنع عنها اذا كانت هي الزوجة ناشزاً ، والزوج اذا كان امتناعه اكثر من اربعة أشهر بحلف وقد آلى (1) من زوجته فله احكامه الخاصة ، وبغير حلف يعدّ عاصياً.

سادساً : ما حكم السليم من الزوجين في طلب الفرقة ( فسخ عقدالنكاح ) ؟

اذا كان أحد الزوجين سليماً فهل له الحق في فسخ عقد النكاح ؟

أقول : إذا كان جواز الفسخ قد ورد به النص في جذام أحد الزوجين أو

ص: 413


1- الايلاء : هو الحلف على عدم وطئ الزوجة اكثر من أربعة أشهر ، وله أحكام خاصة ، منها : وجوب الوطئ مع الكفارة أو الطلاق اذا رفعت المرأة امرها الى الحاكم وعيّن لها مدة لهذا الحكم.

برصهما ، وكانت العلّة في جواز الفسخ هي العدوى بهذين المرضين غير المميتين فيكون جواز الفسخ في هذا المرض المعدي المميت أولى. ولكن بما أنّ الأمراض المعدية التي توجب الفسخ قد نصّت عليها الروايات وهي محدودة ( كالجذام والبرص والعمى ... ) ، ومرض الايدز ليس منها ، وقد تنفى الأولوية لاحتمال أن العلة هي العدوى والشكل القبيح الحاصل من الجذام والبرص لذا سوف يكون الافتراق بواسطة الطلاق هو المتَّبع والموافق للاحتياط ، فيما اذا كانت الاصابة في الزوجة ، اما اذا كانت الاصابة في الرجل ولم يوافق على طلاقها ، فان كان الايدز أولى من مرض الجذام لكونه مميتاً قطعاً فليس من البعيد أن يكون حق الفسخ ثابتاً للزوجة للفرار من الخطر المهلك.

سابعاً : ما حكم المرأة في طلب الطلاق اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟
اشارة

اذا كانت الزوجة سليمةً والزوج مصاباً وتوقّف التحفّظ عن العدوى على أخذ طلاقها من زوجها ( كما اذا حلفت على عدم الفسخ لو حدث مرض يوجب الفسخ ) أو كان الفسخ غير ممكن لها ، لعدم تمكنها من إعطاء المهر الى الزوج قبل الدخول أو بعده ، وكان أكثر من مهر المثل جاز لها إجبار الزوج على الطلاق بواسطة الحاكم الشرعي ، أو يطلقها الحاكم الشرعي اذا امتنع الزوج المريض.

كل ذلك للادلة المتقدمة التي توجب على المريض أن يتحفظ من نقل المرض الى الآخرين ، بل سوّغت لغير المريض أنْ يفرّ من المريض بهذا المرض المعدي.

نعم ، اذا رضي الزوج على أن تكون طريقة المجامعة الجنسية بينهما بواسطة العازل من اختلاط السوائل الجنسية ، وتحفظ من الطرق الاخرى التي تسبب نقل المرض فعند ذلك لا يكون للزوجة الحق في إجبار الزوج على الطلاق ؛ لعدم تمامية الأدلة المتقدمة في هذه الحالة.

ص: 414

وجوب الفحص على الزوجين :

إنّ خطر مرض الايدز قد يدعو الحكومات لأخذ الحيطة من انتشاره بين أفرادها ، ومن جملة الاحتياطات أن تفرض الحكومة على كلا الزوجين إجراء الفحوصات للتأكد من خلوهما من مرض الايدز ، ولكلٍّ من الزوجين طلب الفحص من الآخر.

ولكن اذا توقف الفحص على أخذ السوائل المنوية من الرجل وسوائل رحم المرأة فهل يكون إخراج السائل المنوي من الرجل في هذه الحالة بواسطة العادة السرية جائزاً ؟ وهل يجوز سحب السائل من داخل رحم المرأة ؟

فقد يقال : إنَّ الزواج إذا لم يمكن بطريقة اُخرى غير الطريقة المتقدمة ، وكان ترك الزواج حرجياً على الفرد فلا بأس بما يتوقف عليه الزواج من الطرفين ، وذلك لأدلة نفي الحرج في الشريعة المقدسة.

ولكن لنا الحق في التساؤل عن أدلة حرمة إخراج المني ، أو أدلة حرمة إخراج السائل من رحم المرأة هل هي مطلقة لشمول هذه الحالة العقلائية التي فيها غرض مهم يعود للزوجين ؟

أقول : قد ندّعي عدم الإطلاق في أدلة الحرمة لهذه الأغراض المهمة.

ثامناً : ما حكم إجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟

ذكروا : أنّ نسبة انتقال المرض الى الجنين أثناء الحمل ضئيلة لا تتجاوز 10 % ، وحينئذ إذا توصل العلم الى تشخيص إصابة الجنين مبكّراً بهذا المرض فهل يكون هذا مسوِّغاً لإجهاضه إذا لم يوجد علاج لهذا المرض ؟

والجواب : هو عدم جواز قتل الجنين أو إجهاضه ، للعمومات (1) الدالة على

ص: 415


1- ( ... مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً ... ) . المائدة : 32.

حرمة قتل الانسان الذي يصدق على ما في البطن بعد ولوج الروح ، وخصوص الروايات الدالة على وجوب دية الجنين على مَن أسقط جنيناً في بدايات وجوده ( ولو بعد العلوق ) ، ولما ورد من أن « أول ما يُخلق نطفة » (1).

أمّا حرمة إسقاطه اذا تعلّقت به الروح ( اي بعد مائة وعشرين يوماً ) فقد أجمع عليها علماء الاسلام ، إضافةً الى نصّ القرآن القائل : ( ... ومَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... ) .

وأمّا حرمة إسقاط الجنين قبل ذلك - أي بمجرد العلوق - فقد ذهب اليه جمع من علماء الاسلام ، مثل الإمام الغزالي حيث قال : « ... لأنّ الوجود له مراتب : أولها أنْ تقع النطفة في الرحم وتستعد لقبول الحياة ، فإفساد ذلك جناية ، فاذا صارت مضغةً وعلقة ( علقةً ومضغةً ) كانت الجناية أفحش ، وإن نفخ فيه الروح ازدادت الجناية تفاحشاً » (2) ، وذهب الى ما تقدم بعض الأحناف والمالكية.

نعم ، إذا زاحم وجودُ الجنين وجودَ الاُم ، فعندئذ يجوز قتل الجنين ؛ للمحافظة على حياة الاُم ، سواء كان مصاباً بمرض الايدز أو لا ، ودليله هو التزاحم بين حياة الأصل والفرع ، وبما أنّ الأصل أهمّ من الفرع فجوّزوا قتل الجنين للمحافظة على الاُمّ.

ولكن هناك حالة اُخرى ، وهي : ما اذا لم تتعرض حياة الاُم للخطر من وجود الجنين المصاب بالمرض ، ولكنّ الحمل في بطن الام سيقصِّر مدة كمون المرض في المرأة ويُسرّع في قتلها فهل يجوز في هذه الحالة إسقاط الجنين ؟

والجواب : أنّ القطع بالفرض المتقدم ليس عملياً ، لأننا اذا أحسنّا رعاية

ص: 416


1- يراجع وسائل الشيعة : ج 19 ، باب 19 من ابواب ديات الاعضاء ، الأحاديث ، وباب 7 من قصاص النفس ، ح 1 موثقة اسحاق بن عمار « قال قلت لأبي الحسن علیه السلام : المرأة تخاف الحَبَل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : لا. فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال علیه السلام : إنّ أوّل ما يُخلق نطفة ».
2- تحديد النسل للسيوطي نقلاً عن القوانين الفقهية لابن جزي : ص 235.

الاُم من الناحية الصحية فلا نقطع بأنّ الحمل سيكون هو السبب في قصر مدة كمون المرض ، وحتى لو ظهر المرض مبكّراً فلا دخل له في قصر أجل الاُم ، أو - على الأقلّ - لا يكون لنا علم في تأثيره. وعلى هذا فلا يجوز إسقاط الجنين في هذه الصورة الثالثة.

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ؟

أمّا بالنسبة الى الرضاع : فاذا كانت الاُم مصابةً بمرض الايدز واحتمل أن يُصاب الوليد السليم بسبب ارتضاعه من ثديها احتمالاً ضعيفاً جداً ، فهل يسقط وجوب الإرضاع من ثديها ( اللباء ) وغيره ؟

قد يقال في الجواب على ذلك : اذا خيف العذر على الطفل من الإرضاع ، ووجد بديل لإرضاعه لبن اُمّه المصابة فعلى الاُم الامتناع عن إرضاعه.

أقول : ولكن اذا نظرنا الى نقطتين :

أحداهما : أنّ احتمال الإصابة ضعيف جداً ، حيث لم يذكر انتقال فيروس الايدز بواسطة لبن الاُم إلاّ في حالات محدودة جداً في العالم كله حتى الآن ، كما يظن أنّ حدوث تشققات في حلمة الثدي مما يتسبب عنه خروج دم مع اللبن هي التي أوجبت احتمال عدوى الرضيع ، لا الارتضاع من اللبن لوحده.

والاُخرى : أنّ إرضاع الاُم المصابة وليدها اللباء واجب وتمام مدة الإرضاع مستحب أو واجب على الخلاف.

اقول : اذا نظرنا الى النقطتين المتقدمتين أمكننا أن نقول : لا يجوز حرمان الرضيع من حقه لمجرد احتمال ضعيف لضرر يمكن الاحتراز منه اذا حرصت المرضع على تنفيذ وصاية الاطباء بأن تتجنب الارضاع المباشر عند وجود تشققات بحلمة الثدي.

أمّا بالنسبة الى الحضانة فإنّه لم يثبت انتقال العدوى في الاُسر إلاّ بين الزوج

ص: 417

والزوجة ، وعلى هذا فتجوز حضانة الاُم لولدها اذا تحقّق أمران :

الاول : قد قلنا سابقاً : إنّ مرض الايدز ينتقل عن طريق السوائل الجنسية ، ونقل الدم ، والثقب بالإبر المشتركة بصورة رئيسة ، فاذا راعت الاُم عدم ملامسة الاغشية المخاطية للطفل عند اصابتها بجروح أو تلوثت يدها بالسائل الجنسي أو دم الحيض ، ولم تستعمل الابر الثاقبة المشتركة فلن تكون مصدر خطر على الطفل.

الثاني : أنّ حق حضانة الاُم للطفل فيه جهتان :

جهة للطفل من حيث تطوره النفسي ونشأته الطبيعية.

وجهة للاُم كحقٍّ جعله اللّه لها في حضانة الولد من اُنس لها. وعلى كلا الحقين : فلا يجوز أن تُحرم الحاضنة من حقها والطفل من الرعاية الافضل من اجل احتمال ضعيف لضرر يمكن الاحتراز عنه اذا حرصت الاُم على تنفيذ الأمر الاول.

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت ؟
اشارة

إنّ مرض الموت عُرفاً هو : المرض الذي يستشعر فيه الإنسان بدنوّ أجله ، وقد حكم الشارع المقدّس في هذه الحالة بالحجر على تصرفات المريض التي تضرّ بحقوق الدائنين والورثة.

وبما أنَّ مرض الايدز - على ما ذكره الأطباء - يكمن في الجسم - من حين حدوثه الى ان تظهر أعراض المرض المميّزة له - عدة سنوات قد تبلغ عشر سنين أو اكثر يكون فيها المصاب بالمرض عادياً في كل تصرفاته في اكثر هذه المدة ، إذن لا يمكن أن يحكم على المريض بمرض الايدز أنه في حالة مرض الموت.

نعم ، في المراحل المتأخرة من العدوى التي يستفحل فيها المرض وتصاحب المريض تغييرات سلوكية مصحوبة بالخرف ، وتقعده عن ممارسة الحياة اليومية ، وتتصل هذه التغييرات بالموت ففي هذه المراحل يحكم على

ص: 418

المريض بأنّ مرضه مرض الموت ؛ لأنّه في هذه الحالة الشديدة يستشعر بدنوّ أجله ، وبهذا ينطبق عليه عنوان ( مرض الموت ) فتتقيّد تصرفاته المضرّة بحقوق الدُيّان والورثة.

الوقاية من المرض :

بعد أن سُيطر على طريق انتقال العدوى ( بانتقال الدم الملوّث والإبر المشتركة ) بواسطة الكشف السريع والحديث للفيروس منع استعمال الإبر المشتركة بعد أن بيِّن خطرها للافراد ، وبعد أن كان انتقال المرض عن طريق الاُم الى طفلها أثناء الحمل أو الولادة يوجد بنسبة ضعيفة جداً لم يبق أمامنا من طرق العدوى الرئيسة الاّ الجنس ، فهل هناك طرق واقية من هذا المرض المعدي بطريقة الاتصال الجنسي ؟

أقول : إنّ طرق الوقاية من مرض الايدز تتلخّص باتّباع الوسائل الآتية :

1 - يجب توعية أفراد المجتمع بخطورة مرض الايدز ، وكيفية انتقال عدواه وسبل الوقاية منه ، وبهذا يتجنب الفرد الطرق التي من شأنها نقل العدوى اليه.

2 - ينبغي أن يشجّع الشباب على الزواج المبكّر ، كما قال تعالى في حثّهم على الزواج : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).

وقد كان بعض الصحابة ( رضوان اللّه عليهم ) يقول : « من أراد الغنى فليتزوَّج » إشارة الى الآية الكريمة ، ولعلّ الآية قد جعلت الزواج واجباً اجتماعياً تنهض به الدولة أو المجتمع اذا لم يستطع الفرد أن يقوم به (2).

ص: 419


1- النور : 32.
2- ولكن الصحيح : أنّ الأمر هنا قد توجّه الى المجتمع ، وهو ينحلّ الى واجبات متعدّدة بعدد الأفراد.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من تزوَّج فقد أحرز نصف دينه ، فليتق اللّه في النصف الآخر » (2).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « اذا جاءكم مَنْ ترضون خُلُقه ودينه فزوّجوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير » (3).

وبهذا الطريق يقضى على طريق الرذيلة والفساد.

3 - يجب توعية المسلمين وغيرهم ، وحتى إجبارهم على سدّ جميع الطرق التي حرمها الشارع المقدس التي تجرّ الانسان الى الرذيلة ، وعدم الالتزام بالفضائل التي أوجبها الشارع المقدس ، مثل :

أ - تحريم النظر الى ما حرّمه اللّه تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (4). ( قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... ) (5).

ب - حرمة إبداء زينة النساء إلاّ ما ظهر منها ، فقد قال تعالى : ( ... وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ... ) (6). (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ... ) (7).

ص: 420


1- وسائل الشيعة : ج 14 ، باب 1 ، من مقدمات النكاح ح 14 ، وباب 2 ، ح 9.
2- المصدر السابق : ح 11 و 12 ، وتراجع سنن الترمذي وابن ماجة باب النكاح.
3- الوسائل : ج 14 ، باب 28 ، ح 2 ، وراجع أيضاً سنن الترمذي وابن ماجة باب النكاح.
4- النور : 30.
5- النور : 31.
6- النور : 31.
7- الأحزاب : 33.

ج - بل حرّم الشارع كل ما يثير الشهوات ، فقد قال تعالى : ( ... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (1) ، فيعلم منه حرمة حتى صوت الخلخال وحتى التكسّر في المشية مما يوجب لفت نظر الرجال وتحريك شهواتهم.

د - تحريم الخلوة بالأجنبية ، فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يخلونّ رجل بامرأة إلاّ كان ثالثهما الشيطان » (2).

ه - تحريم الغناء الذي فسِّر به لهو الحديث الوارد في الآية القرآنية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (3).

4 - توعية المجتمع على نوع العقوبة الرادعة عن الفحشاء في الدنيا ، وبيان أنّ عذاب اللّه أشدّ في الآخرة ، وتطبيق هذه العقوبة أمام المؤمنين اذا وقعت الفحشاء في المجتمع ؛ ليرتدع الناس عن هذا الإثم ، كما ذكر ذلك القرآن الكريم. فيبيّن للناس حدّ الجلد والرجم والقتل والإلقاء من شاهق والإحراق بالنار ، وما الى ذلك من عقوبات ذكرها المشرّع الحكيم في القرآن والسنة. فمثلاً :

أ - حكم الزاني أو الزانية ( اذا لم يكونا محصنين ) هو الجلد مائة جلدة ، قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4).

ب - حكم الزاني أو الزانية ( اذا كانا محصنين ) هو الرجم.

ص: 421


1- النور : 31.
2- أخرجه الترمذي وأحمد في مسنده : ج 3 ، ص 339.
3- لقمان : 6.
4- النور : 2.

ج - حكم اللائط والملوط به ( سواء كانا محصنين أو غير محصنين ) هو القتل للفاعل والمفعول به ، وطريقة القتل مخيّرة ( كما في الروايات ) بين القتل بالسيف أو الالقاء من شاهق أو الإحراق بالنار.

وبهذه التدابير (1) نكون قد صُنّا الإنسان من الوقوع في الحرام ، واذا وقع في الحرام فقد سددنا الطريق على العدوى بمرض الإيدز.

* * *

ص: 422


1- أنّ التلفاز وما تقوم به فِرَقُه يؤثّر أثراً مهماً ورئيساً في توعية الشعب ، فعلى عاتق المسؤولين عنه تقع هذه المسؤولية الكبيرة أولاً وبالذات.

موجبات الافطار في مجالي التداوي والحالات المرضية

اشارة

ص: 423

ص: 424

قبل الدخول في محوري البحث لابدّ من معرفة ضابط المفطِّر ليكون ميزاننا في معرفة المفطِّرات في مجال التداوي أو الحالات المرضية ، ولهذا نرى أن نذكر مقدّمة لبحثينا وهي ضابط المفطِّرات.

ضابط المفطِّرات

اشارة

إنّ أول مفطِّر أوجب القرآن الكريم الامساك عنه وكذا الروايات هو : ما يصدق عليه عنوان الأكل والشرب ، فقد ذكر القرآن الكريم ذلك بالمفهوم فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1).

فقد أجاز القرآن الكريم الأكل والشرب حتى يطلع الفجر ، ومعناه يحرم جواز الأكل والشرب في النهار الى الليل. وكذا ذكرت الروايات ذلك ، كما في صحيحة محمد بن مسلم قال : « سمعت الإمام الباقر علیه السلام يقول : لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث ( أو أربع ) خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس

ص: 425


1- البقرة : 187.

في الماء » (1).

وقد ذكروا : أنَّ اجتناب الطعام والشراب يراد بهما اجتناب أكل الطعام واجتناب شرب الشراب الذي ذكر في الآية القرآنية ، وهذا الأمر من الوضوح بحيث انعقد عليه اجماع المسلمين (2) وضرورتهم.

إنّما الكلام في اُمور اُخر منها :

1 - ما هو الأكل والشرب ؟

إنّ أكثر اللغويين أوكلوا أمر الأكل والشرب إلى وضوحه ، فقال الراغب (3) في المفردات : الأكل تناول المطعم ، وقال الخليل (4) : الأكل معروف ، وكذا قال الفيومي (5) في المصباح المنير.

نعم ، ذكر الزبيدي في تاج العروس (6) فقال : الأكل إيصال ما يمضغ الى الجوف ممضوغاً ...

وقال الرمّاني : الأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه. قال : فبلعُ الحصاة ليس بأكل حقيقة.

أما الشرب : فقال في مفردات الراغب (7) : تناول كل مائع ماءً كان أو غيره.

وأرى أن الأكل في العرف يشترط فيه أن يكون للمأكول مضغ ويصل الى

ص: 426


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 1 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- راجع الشرح الكبير في هامش المغني : ج 3 ، ص 36.
3- مفردات الراغب : ص 20.
4- معجم مقاييس اللغة : ج 1 ، ص 122.
5- المصباح المنير : ج 1 ، ص 10.
6- تاج العروس : ج 1 ، ص 19.
7- مفردات الراغب : ص 257.

الجوف عن طريق الحلق. أمّا الشرب فهو أيضاً إيصال ما يشرب الى الجوف عن طريق الحلق.

2 - هل الأكل والشرب الذي يكون مفطراً ينحصر في الطريق العادي المتعارف - وهو طريق الفم - أو يشمل ما يكون من غير الطريق العادي ؟

فمثلاً : إذا شرب إنسان الماء من أنفه أو أدخل الطعام الى المعدة من أنفه فهل يكون مفطراً ؟

الجواب : أنّ الأكل والشرب متى صدق صدق عنوان المفطرية ، ولا خصوصية لكون الأكل والشرب من الطريق المتعارف بعد اطلاق الدليل ، وعلى هذا فلا دخل للفم في صدق عنوان الأكل أو الشرب إذا كان دخول الطعام أو الشراب الجوف عن طريق الحلق ، ولذلك لا يحتمل أيّ فقيه جواز شرب الخمر المحرّم من طريق الأنف بدعوى أنّ النهي عن شربه منصرف الى ما كان شربه عن طريق الفم.

3 - هل يكون الأكل والشرب مفطراً إذا كان معتاداً ؟

أمّا إذا كان غير معتاد كالدواء غير المعدِّ للأكل والشرب وكعصارة الأشجار وبعض المساحيق الشبيهة بالتراب والطين فهل يكون مفطراً ؟

والجواب : قد ذكر الإمام الخوئي قدس سره : « أن المرتكز في اذهان عامّة الناس أنّه لا فرق في المأكول والمشروب بين المعتاد منهما كالخبز والماء ، وغير المعتاد كالحصى (1) والتراب والطين ومياه الأنهار وعصارة الأشجار ونحو ذلك ممّا لم يكن

ص: 427


1- أقول : يمكن التشكيك في صدق الأكل على الحصى ، من حيث عدم امكان مضغها ، ولم تمضع وحينئذ يصدق عليها عنوان البلع وحينئذ فإن كان هناك دليل خاص يدلّ على مفطرية بلع الحصى ( كالاجماع من المسلمين ) فهو ، وإلاّ فلا يحصل به الافطار ( إذا قلنا : إنّ الافطار يحصل بالأكل والشرب لا بعنوان أعمّ منهما ) لعدم صدق الأكل العرفي على بلع الحصاة ، وقد تقدّم عن الرماني : بأن بلع الحصاة ليس بأكل حقيقي.

معدّاً للأكل والشرب ، ولم ينسب الخلاف حتى الى المخالفين ما عدا اثنين منهم ، وهما الحسن بن صالح وأبو طلحة الأنصاري » (1).

أقول : وقد ذكر في المغني والشرح الكبير : عدم ثبوت ما نقل عن أبي طلحة الأنصاري (2).

والدليل على هذا الارتكاز عند المسلمين هو اطلاق الآية القرآنية والروايات المفسِّرة لها ، فإنّ المفهوم منهما هو المنع من الأكل والشرب من غير ذكر للمتعلق ، ومن المعلوم - في علم الاُصول - أنّ حذف المتعلق يدلّ على العموم بعد صدق الأكل والشرب ، فلا فرق أصلاً بين الأكل والشرب في المعتاد ، كأن يقول : أكل محمد الخبز وشرب محمد الماء ، أو غير العتاد كأن يقول : أكل محمد الدواء أو التراب أو الطين ، أو شرب محمد الدواء أو السمّ أو عصارة الشجر.

وممّا يؤيّد هذا ما ذكر في مفطرية الغبار الداخل الى الحلق - كما ذكر ذلك النص - مع عدم كون الأكل للغبار متعارفاً.

إذن عُلم من ذلك أن الاعتبار في المنع بالدخول الى الجوف من طريق الحلق سواء كان متعارفاً أم لا إذا صدق عليه عنوان الأكل والشرب.

وما قيل من عدم صدق الطعام والشراب - الوارد في صحيحة محمد بن مسلم (3) عن الإمام الباقر المتقدّمة ) على الدواء وما يدخل الى الجوف إذا كان غير

ص: 428


1- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 92.
2- المغني : ج 3 ، ص 36 ، وهامش المغني ( الشرح الكبير ) : ج 3 ، ص 37.
3- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 1 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.

معتاد فيكون الطعام والشراب حينئذ مختصاً بالمتعارف منهما - يُبطله أنَّ الصحيحة في صدد بيان أن الطعام والشراب مضرٌّ بالصوم بخلاف الأفعال الخارجية من النوم والمشي والعمل وما شابه ذلك ، وأمّا ما هو المراد من الطعام والشراب هل هو مطلق المأكول والمشروب أو خصوص المعتاد منهما ؟ فليست الصحيحة بصدد بيانه حتى تدلّ على حصر المفطر في الطعام والشراب العاديين.

4 - هل العبرة بوصول الطعام أو الشراب الى الجوف أو بدخوله عن طريق الحلق ؟

اقول : تقدم سابقاً أن ما يؤكل ويشرب لو وصل من طريق الأنف وهو طريق غير عادي للوصول الى الجوف ، وقد قلنا : إنّه مضرٌّ بصحة الصوم ، وعليه فلو فرضنا ثقباً تحت الذقن - مثلاً - بحيث يصل المطعوم أو المشروب الى الجوف من طريق الحلق فيكون مضرّاً بصحة الصوم.

ولكن هنا يكون التساؤل عن أمر آخر ، وهو ما إذا فتحنا ثقباً تحت الحلق أو في الصدر لأجل ايصال ما يؤكل أو يشرب الى الجوف فهل يضرّ هذا في صحة الصوم ؟

وقد اجاب على هذا الإمام الخوئي رحمه اللّه فقال : « وعلى أي حال فالمدار على الدخول في الحلق كيفما اتفق ، ومنه نعرف عدم البأس بالدخول في الجوف من غير هذا الطريق إلاّ أن يقوم عليه دليل بالخصوص ، فيقتصر على مورده كما في الاحتقان بالمائع. وأمّا ما عدا ذلك فلا ضير فيه لعدم كونه من الأكل والشرب في شيء كما لو صبَّ دواءً في جرحه أو شيئاً في اُذنه أو إحليله فوصل الى جوفه ... » (1).

ص: 429


1- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 108.

واستدلَّ رحمه اللّه بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصب في اُذنه الدهن ؟ قال علیه السلام : إذا لم يدخل حلقه فلا بأس » (1). وقال في موضع آخر : « فإن العبرة في صدق ذلك ( المفطرية ) بدخول المأكول أو المشروب في الجوف من طريق الحلق » (2).

وقال في موضع آخر : « فحقيقة الأكل والشرب ليس إلاّ ادخال شيء في الجوف من طريق الحلق ... » (3) (4).

ولكن نقول :

1 - إنّ صدق الأكل والشرب وإن كان متوقفاً على مرور المأكول والمشروب عن طريق الحلق - وهو المعنى العرفي لهما - إلاّ أنَّ الآية القرآنية التي منعت بمفهومها عن الأكل والشرب لم تمنع عنهما بما أنّهما فعل من الافعال ، بل منعت عنهما بما أنّهما فعلان يوجبان وصول المأكول والمشروب الى الجوف ، فالمهم هو المنع من وصول الطعام والشراب الى الجوف الذي يكون عادةً بواسطة الأكل ، وعلى هذا فسيكون الأكل والشرب طريقاً مرآتياً لما يصل الى الجوف من الطعام أو الشراب (5) ، ولهذا ذكرت صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة اجتناب الطعام والشراب.

ص: 430


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 24 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 5.
2- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 91.
3- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 93.
4- لا بأس بالتنبيه إلى أن كلام الإمام الخوئي ; هنا يختلف عن فتواه في رسالته العملية ، فإنّه قد استشكل في صحة الصوم حتى فيما إذا وصِلَ المغذّي بالوريد مع عدم صدق الأكل والشرب قطعاً فكيف فيما إذا دخل الطعام الى المعدة لا عن طريق الحلق ؟ فهو أولى بالبطلان عنده من ناحية الاحتياط الوجوبي.
5- أقول : هذا الرأي ليس هو المشهور بين علماء الإمامية ، وليس هو الذي عليه الفتوى الآن وإن وجد مَن يقول به منهم من قدماء الأصحاب.

وعلى هذا فإذا وصل المأكول والمشروب الى الجوف بلا أكل ولا شرب فيصدق عليه أنّه غير مجتنب للطعام والشراب ، وأنّه غير ممسك عنهما حتى يصح منه الصوم الذي هو عبارة عن الامساك عن اشياء أهمّها المأكول والمشروب.

2 - أمّا الرواية التي استدل بها الإمام الخوئي رحمه اللّه فهي بصدد بيان أنَّ الدواء الذي صُبّ في الاُذن ما لم يدخل الى الحلق فهو لا يصل الى الجوف الذي يكون مقرّاً للطعام والشراب ، أو يكون الأكل والشرب مقدمة للوصول إليه ، بل يكون الدواء في الاُذن فلا يصدق عليه الأكل والشرب وهذا متين جداً ، لا بمعنى أن المفطِّر هو مختص بما دخل الطعام أو الشراب عن طريق الحلق.

3 - إنّ الروايات ذكرت صدق الصوم بالاجتناب عن أشياء ، منها الطعام والشراب وحينئذ إذا لم يصدق على الإنسان أنّه اجتنب الطعام والشراب فهو مضرٌّ بالصوم وإن لم يصدق عليه أنّه أكل أو شرب.

توضيح وتتميم :

أنّ الذي يفهم من الروايات في الإضرار بصحة الصوم هو عبارة عمّا يدخل الى الجوف ممّا يكون الأكل والشرب مقدمة له ويصدق عليه أنّه لم يجتنب الطعام والشراب ، وحينئذ يكون الصوم الصحيح بالنسبة لهذا الأمر هو عدم وصول شيء خارجي الى هذا الجوف المعين ، ولا عبرة بخصوصية الأكل والشرب بما أنّه فعل من الأفعال ، ولهذا عدة قرائن هي :

1 - ما رواه سليمان بن حفصَ المروزي قال : « سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمداً أو شمّ رائحةً غليظةً أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك مفطِّر مثل الأكل والشرب والنكاح » (1). ومثلية دخول التراب أو ماء المضمضة أو

ص: 431


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 22 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.

الاستنشاق أو الرائحة الغليظة الحاملة لأجزاء المشموم الى حلقه أو أنفه للأكل هي في صورة الدخول الى الجوف وإن لم تكن أكلا.

2 - صحيحة حماد عن الإمام الصادق علیه السلام : « في الصائم يتوضأ للصلاة فيدخل الماء حلقه ؟ فقال علیه السلام : إن كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس عليه شيء ، وإن كان وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء »(1).

وواضح أنّ دخول ماء الوضوء الى الحلق لا يسمى شرباً(2) ، وإنّما هو عبارة عن دخول قطرة أو أكثر من الماء الى الجوف.

3 - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ( الإمام الكاظم علیه السلام ) قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصبّ في اُذنه الدهن ؟ قال علیه السلام : إذا لم يدخل الى حلقه فلا بأس »(3).

4 - موثّقة سماعة بن مهران قال : « سألته عن الكحل للصائم ؟ فقال علیه السلام : إذا كان كحلاً ليس فيه مسك وليس له طعم في الحلق فلا بأس »(4).

وواضح من هاتين الروايتين أن المانع من الصوم هو دخول الدواء الحلق وصول طعم الكحل الى الحلق ، وهو ممّا لا يسمى أكلا ولا شرباً.

5 - صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ( الإمام الصادق أو الباقر علیهماالسلام ) أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة ؟ فقال علیه السلام : « إذا لم يكن كحلاً تجد له طعماً في حلقها فلا بأس »(5).

وواضح أنَّ الطعم في الحلق هو أول الدخول الى الجوف فلا خصوصية

ص: 432


1- المصدر السابق : ب 23 ، ح 1.
2- الشرب : الكرع بالأفواه ، فشربوا منه أي كرعوا بأفواههم ، مجمع البحرين.
3- الوسائل : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 5.
4- المصدر السابق : ب 25 ، ح 2.
5- المصدر السابق : ب 25 ، ح 5.

للأكل أو الشرب.

6 - ما رواه الصدوق رحمه اللّه بسنده عن منصور بن حازم أنّه قال : « قلت للإمام الصادق علیه السلام الرجل يجعل النواة في فيه وهو صائم ؟ قال : لا. قلت : فيجعل الخاتم ؟ قال علیه السلام : نعم » (1).

وهذه الرواية كالصريحة في أنّ ما يضرّ بالصوم هو وصول شيء الى الجوف وإن لم يصدق عليه أنّه أكل أو شرب.

والخلاصة : أنّ الأدلّة القائمة على المفطِّرية بالنسبة لما يؤكل أو يشرب على قسمين :

1 - أدلّة خاصة تدلّ على اجتناب الأكل والشرب في الصوم ، كما إذا فهمنا من الآية القرآنية المجوّزة للأكل والشرب في الليل المنع منهما في النهار ، وهنا لا مانع من أن يكون الأكل والشرب مختّصاً بوصول الشيء الى الحلق.

2 - أدلّة عامّة دلّت على وجوب اجتناب الطعام والشراب ، وهذا لا يتوقف على أن يكون اجتنابهما عن طريق الحلق ، بل يجب اجتنابهما مطلقاً ، لكن لا بمعنى أن لا ينظر إليهما ولا يمسّهما ولا يبيعهما ونحو ذلك ، بل يجتنبهما بحيث لا يصلا الى مستقرهما - وهو جوف الإنسان ( المعدة ) الذي يكون الطريق المتعارف له هو الحلق - وإن لم يصدق عنوان الأكل والشرب.

وأمّا الحلق الذي اُكِّد عليه في عدم وصول المأكول والمشروب إليه فهو باعتبار أنّه مبدأ الجوف ، ومنتهى العمل الاختياري للإنسان ، وما بعده يحصل بالاضطرار ولا يمكن وقفه أو منعه ، وحينئذ يكون المضرّ هو وصول الطعام والشراب الى الجوف بالاختيار ولا خصوصية للحلق الذي وهو مدخل لجوف

ص: 433


1- المصدر السابق : ب 40 ، ح 3 ، وسند الصدوق الى منصور بن حازم فيه محمد بن علي ماجيلويه ، أمّا منصور فهو ثقة ثبت.

الطعام والشراب ، خصوصاً إذا نظرنا الى الصوم الذي معناه الإمساك والذي يكون دخول الطعام الى مستقرّه بغير الحلق مضراً بصحته عرفاً. ولنا أن نعتبر في المولى الذي يمنع من دخول زيد الى الدار ، وقال : إياكم أن يصل زيد الى باب الدار فهل يكون دخول زيد الى الدار من غير الباب مفوِّتاً لغرض المولى ؟ وبالتأكيد يكون الجواب : نعم ، إنّه مفوّت لغرض المولى.

وحينئذ فما لم يصدق على المكلف أنَّه مجتنب للطعام والشراب فهو غير صائم ، كما إذا فتح له ثقباً الى المعدة بعد الحلق ليصل الطعام والشراب منه إليها ، وكذا إذا دخل الى جوفه الطين والكحل والدواء والدهن ، فإنّ كلّ هذه إذا حصلت لم يصدق عليها عنوان الأكل والشرب ، ولكن يصدق على صاحبها أنّه لم يمتنع من الطعام والشراب فهو مضرّ بصحة الصوم.

ويؤيّد هذا ما ذكره العلماء : « لو بلّ الخيّاط الخيط بريقه أو غيره ثم ردّه الى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بطل صومه ( عند الإمامية وهو قول أكثر الشافعية ) ، إلاّ إذا استُهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه على وجه لا يصدق عليه الرطوبة الخارجية ، وكذا لو استاك وأخرج السواك من فمه وكان عليه رطوبه ثم ردّه الى الفم فإنَّه لو ابتلع ما عليه بطل صومه ، إلاّ مع الاستهلاك على الوجه المذكور » (1).

يبقى شرب السجائر : الذي يكون له طعم في الحلق ويصل الى الجوف فتكون مضرّة في صحة الصوم ، لا من ناحية ادخال الهواء الى الرئتين الذي لا يصدق عليه الشرب الحقيقي ، لأنّ الشرب الحقيقي هو ما يشرب من المائعات ويكون مقرّه المعدة ، ولكنّ الإشكال من ناحية عدم صدق اجتناب الأكل للأجزاء

ص: 434


1- راجع العروة الوثقى للسيد الكاظم الطباطبائي ، كتاب الصوم ، ومستمسك العروة الوثقى : ج 8 ، ص 253.

المتكوّنة من الدخان المسحوب الى الحلق وما بعده التي تمنع من صدق اجتناب الطعام.

ولعلّه لما تقدم فقد استشكل الإمام الحكيم قدس سره على من قال بأنّ المدار صدق الأكل والشرب ، فقال :

« بأنّ الأدلّة لم تختص بالمنع عن الأكل والشرب ، بل مثل الصحيح السابق - المتضمن لوجوب الاجتناب عن الأربع وغيره - دالّ على المنع عمّا هو أعم من الأكل والشرب ... ، مضافاً الى أنّه يستفاد ممّا ورد في المنع عن الاحتقان بالمائع وصبّ الدهن في الاُذن إذا كان يصل الى الحلق ، وما ورد في الاستنشاق إذا كان كذلك ، وما ورد في مفطرية الغبار - أنّ المعتبر في الصوم عدم الايصال الى الجوف مطلقاً ، وحينئذ يشكل صبّ الدواء في الجرح إذا كان يصل الى الجوف ، بل في المختلف استقرب فيه الافطار مستظهراً له من المبسوط ، وكذا تقطير المائع في الاُذن ، وعن أبي الصلاح الجزم بمفطِّريته ... » (1) (2).

وممّا يتفرّع على المفطِّرات في مجال التداوي اُمور :

1 - الحقن بواسطة المستقيم أو الإحليل :

ولا ضرورة لحصر البحث فيهما ، بل لابدّ من البحث فيما يدخل من أحد السبيلين ( القبل والدبر ) كتنظيف الرحم والتحاميل والحقن الشرجية وما شابه ذلك ومما يحتاج الى العلاج والدواء لرفع المرض ، فهل يكون هذا منافياً لصحة الصوم ؟

ص: 435


1- مستمسك العروة الوثقى : ج 8 ، ص 238.
2- أقول : نحن لم نقل بقاعدة المنع ممّا يصل الى الجوف مطلقاً ، ولكن قلنا بالمنع ممّا يصل الى الجوف الذي يكون الأكل والشرب طريقاً عاديّاً إليه ولم يصدق على فاعله اجتناب الطعام والشراب وإن لم يصدق عنوان الأكل والشرب.

الجواب : وردت صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر علیه السلام مصرّحةً بالجواز فقال : « سألته عن الرجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان ؟ قال : لا بأس » (1).

أقول : هذه الرواية جوّزت إدخال الدواء للصائم ، وبما أنَّ ادخال الدواء على نحوين : الأول : ادخال الدواء الجامد في القبل والدبر ، والثاني : ادخال الدواء المائع كذلك فقد يتوهّم بأنّها جوّزت الصور كلها ، ولكن بما أنّه قد وردت الروايات المعتبرة التي تنهى الصائم عن الاحتقان بالمائع ، بل وتجوّز الاحتقان بالجامد ، فقد ذهب جمع من الفقهاء الى التفصيل في أن المنهيّ عنه هو ادخال الدواء المائع في الجسم ، وهو ما يسمى بالاحتقان الذي عُبّر عنه في مجمع البحرين « إيصال الدواء الى باطنه من مخرجه بالمحقنة ».

وبهذا نعرف أنّ المنهيّ عنه في الصوم هو فقط إيصال الدواء المائع الى الباطن من طريق المخرج.

أمّا الحقن بالجامد وهو ما يسمّى التحاميل فلا بأس به في الصوم ، سواء كانت في القبل أو الدبر.

فمن الروايات : صحيحة ابن أبي نصر عن أبي الحسن ( الإمام الرضا علیه السلام ) « انه سأله عن الرجل يحتقن تكون به العلّة في شهر رمضان ؟ فقال علیه السلام : الصائم لا يجوز له أن يحتقن » (2).

بناءً على أنّ معنى الاحتقان منصرف الى ادخال الدواء المائع ، وعلى تقدير الاطلاق وشمول الاحتقان للجامد فهو مقيّد بموثّقة الحسن بن فضال ، قال : « كتبتُ الى الإمام الرضا علیه السلام ما تقول في اللطف يستدخله الإنسان وهو صائم ؟

ص: 436


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 4.

فكتب علیه السلام : لا بأس بالجامد » (1) (2).

ثمّ إنّ هذا المنع للحقن بالمائع هل معناه وجود الحرمة التكليفية للصائم إذا أوجدها من دون عذر ، وعدم الحرمة إذا كانت بعذر ، أو أنّها تبطل الصوم أيضاً ؟

أقول : اختلف الفقهاء على قولين ، ولكنّ الصحيح هو القول الثاني ؛ وذلك لظهور النهي الوارد في باب المركبات الارتباطية في الارشاد الى المانعية ( كما أنَّ الأمر في المركبات ظاهر في الارشاد الى الجزئية أو الشرطية ) فإنّ النهي الذي هو ظاهر في الحرمة ينقلب في باب المركبات الى ظهور ثانوي وهو البطلان والفساد نظير النهي عن لبس جلد ما لا يؤكل لحمه في الصلاة (3).

وعلى هذا فلا فرق في مفطرية الحقنة بين الاختيار والاضطرار لمعالجة مرض ، لاطلاق الدليل ، بل الظاهر من النصّ هو الثاني كما لا يخفى.

وبهذا يعرف حكم ما لو احتقن المريض عن طريق الإحليل ، فانه لا يضرّ بالصوم.

وكذا لا يضرّ بالصوم ادخال الطبيب يده للفحص أو لتنظيف الرحم وما شابه ذلك ، سواء كان ذلك مصاحباً لمائع أم لا ، لعدم صدق الاحتقان الذي يبطل الصوم.

ص: 437


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 2. وهذا الحديث له سند آخر ينقله الشيخ الطوسي قدس سره تكون عبارته أصرح في جواز الجامد إذ قال بدل « اللطف » التلطف من الاشياف.
2- ذهب الأطباء المختصون ( الدكتور محمد علي البار والدكتور حسّان شمسي پاشا ) : الى « أن حقن السوائل الى داخل الامعاء حيث يتم الامتصاص يؤدّي الى الافطار وافساد الصوم » هذا القول ليس مبنياً على ما ذكرناه من الأدلّة الشرعية ، بل انهما يرون أن الجوف هو من الحلق الى الشرج وهذا ماء دخل الجوف فيكون مفطراً.
3- على أن قوله علیه السلام في صحيحة ابن أبي نصر : « الصائم لا يجوز له أن يحتقن » ولا يحتمل فيه حرمة الاحتقان في الصوم المندوب ، لجواز أن يبطله الإنسان بالأكل وغيره من المفطرات إذن لا مناص من دلالة عدم الجواز في الصحيحة على البطلان دون الحرمة التكليفية.

نعم ، وردت موثقّة حنان بن سدير أنّه سأل الإمام الصادق علیه السلام عن الصائم يستنقع في الماء ؟ قال : « لا بأس ، لكن لا ينغمس. والمرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمل الماء بقبلها » (1).

ولكن بما أن التعليل لم يقل أحد من علماء الإمامية بكونه مفطراً ولم يفهم مشهور الفقهاء من النهي الحرمة أيضاً فيحمل النهي على الكراهة.

حكم الاحتقان عند أهل السنة في المستقيم أو الاحليل :

قد ذكر مشهور السنة قاعدة يدخل تحتها الحقن في المستقيم والإحليل ويدخل غيرهما من السوائل الى داخل الجسم ، وهي : « أنّ كل ما دخل الى جوف الإنسان أو تجوّف فيه - كمداواة الجائفة أو المأمومة - فهو مفطّر » وقد استدلّوا على ذلك بقولهم : « لأنّه واصل الى الجوف باختياره فأشبه الأكل ». « ولأن الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف الإنسان » (2).

نعم ، ذهب الإمام مالك الى عدم كون ما يدخل الى الجوف مفطراً إلاّ أن يصل الى الحلق ولا يفطر إذا داوى الجائفة أو المأمومة ، واختلف عنه في الحقنة (3).

أقول : لنا أن نتسائل عن دليل القاعدة التي ذكرها مشهور علماء أهل السنّة ، فإنّ كان ما ذكر « من أن كل ما وصل الى الجوف باختياره يكون شبيهاً بالأكل فيكون مفطّراً » فقد نوقش هذا الدليل بأنّ هذه القاعدة هي من تدقيق الفقهاء التي لا يدلّ عليها كتاب ولا سنة ولا قياس.

وإن كان دليل القاعدة هو ما ذكر « من أنَّ الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن » فقد نوقش أيضاً بعدم صحة هذا الكلام ، فإنّ الواصل الى

ص: 438


1- الكافي : ج 4 ، باب كراهية الارتماس في الماء للصائم ، ح 5.
2- المغني : ج 3 ، ص 37 ، وراجع الشرح الكبير في هامش المغني.
3- المصدر السابق.

الدماغ لا يغذيه ، على أنّ قاعدتهم تعمّ المغذّي وغيره من دخول سلاح الى الجائفة أو المأمومة ممّا لا يعدّ طعاماً ولا شراباً ، ولا ما في معناهما حتى يقاس عليهما (1).

2 - الدهان التي تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية :

وقبل التكلّم في هذه الصورة هناك تساؤلات حول ما قد يصل الى الجسم عبر الجلد - سواء طُعِم في الحلق أم لا - كالحقن في الجلد وفي العضلة وما يوضع من الأدوية التي يمتصها الجسم عبر الجلد ، فهل تكون مضرّة بصحة الصوم ؟

والجواب عن ذلك : أنّ الروايات المتقدّمة حاصرة لصحة الصوم باجتناب الأكل والشرب والنساء والارتماس في الماء ، واضيف إليها ما ثبت إضراره بالصوم كالاحتقان بالمائع كما تقدّم وغيره كالكذب على اللّه ورسوله الذي لم نتعرض له هنا لعدم مناسبته البحث ، أمّا هذه العناوين المتقدّمة فلم يرد فيها ما يدلّ على إضراره بالصوم وحرمته ، ولذا لا يمكن الحكم ببطلان الصوم لذلك. على أن التدهين الذي كان مستعملا في السابق للاوجاع والرضوض التي تحصل للإنسان لم يأت فيه أيّ دليل على كونه مضرّاً بالصوم. كما أنّ الاستنقاع بالماء للرجل الذي يوجب امتصاص الجلد شيئاً من الماء قد ورد فيه النص بالجواز ، ولكن منع من رمس الرأس ، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام كما في صحيحة الحلبي قال : « الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه » (2).

وهناك روايات دلّت على جواز دخول الرجل الحمام على كراهية فيه للضعف الذي ينشأ من ذلك ، ونحن نعلم أن دخول الحمام يوجب امتصاص الجسم شيئاً من الماء لا محالة. فقد ورد في صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « أنّه سأل عن الرجل يدخل الحمام وهو صائم ؟ فقال علیه السلام : لا بأس

ص: 439


1- راجع هامش المغني : ج 3 ، ص 38.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 3 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 7.

ما لم يخش ضعفاً » (1).

ثمّ إنّ بعض الأدهان - كما قيل - تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية ، فهل تكون مضرّةً بالصوم ؟

الجواب : أنّنا إذا فرضنا التعبد بما ورد في الشرع واتّباعه من دون أن يكون لنا دخل في الزيادة أو النقيصة في التشريع فنقول : لم يرد نصّ على أن كل ما طعم في الحلق ولو بواسطة المسام الجلدية فهو مفطّر ، نعم ، ورد مفطّرية الأكل والشرب ممّا وصل طعمه الى الحلق بواسطة وصول الطعام الى الحلق مباشرةً (2).

وأمّا غير ذلك فلا يمكن الحكم بمفطريته للفرق الواسع بين الأكل والشرب وبين ما وصل طعمه الى الحلق بواسطة المسام الجلدية ، إلاّ إذا قلنا : إنّ ملاك إفطار الأكل والشرب هو التغذي وصول طعم الشيء الى الحلق ولو عن طريق المسام الجلدية يكون مغذّياً ، فيكون مفطراً ، إلاّ أنّ هذا بعيد غاية البعد وفي إثباته خرط القتاد.

3 - التطعيم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل مما يصل طعمه الى الحلق :

وقبل أن نتكلم في هذه الصورة هناك تساؤل حول ما يصل الى الجسم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل ولم يصل طعمه الى الحلق ، فإنّ هذه الصورة لا يصدق عليها عنوان المفطِّر لعدم صدق الأكل والشرب ، ولم يدلّ دليل على مفطريتها عند الإمامية. نعم ، تقدم عند مشهور أهل السُنَّة أنَّ هذا يشبه الأكل ، فيكون مفطّراً عندهم ، ولكن تقدم مناقشة ذلك وانه لم يرد فيه قرآن ولا سنة ولا قياس.

ص: 440


1- المصدر السابق : ج 7 ، ب 27 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 1.
2- وعلى ما ذكرنا يكون وصول الطعام والشراب الى الجوف ( المعدة ) مضرّاً بصحة الصوم وإن لم يكن عن طريق الحلق ؛ لعدم صدق الاجتناب عن الطعام والشراب التي ذكرته صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.

وأمّا صورة التطعيم بالأوعية الدموية أو العضل ممّا يصل طعمه الى الحلق - كما نقل - فيتضح حكمه ممّا تقدّم في الادهان ، حيث قلنا : إنّه لم يرد دليل على كون وصول الطعم الى الحلق بدون إطعام مباشرة مضرّاً بالصوم على أنَّ المتخصّصين قد ذكروا بأنَّ الذوق ( الطعم ) إنّما يكون في مؤخرة اللسان لوجود الحليمات الذوقية فيه (1). نعم ، إذا كان ملاك مفطرية الأكل والشرب هو التغذية وكان التطعيم في الأوعية يعدّ غذاءً فهو ممّا يضرّ بالصوم ، إلاّ أنّنا قلنا : أن إثبات ذلك غير ممكن.

وقد يتوهّم أنّ إدخال الدواء أو الدم الى الجسم بواسطة ما يسمى بالحقن يكون مشمولاً لمفطرية الحقنة بالمائع الذي تقدّم دليلها سابقاً.

ولكن نقول : ان معنى الحقنة - كما تقدّم عن أهل اللغة - هو إيصال الدواء الى باطن مخرجه. وأما الحقن الطبي الذي يُطلق على إدخال الدواء في الأوعية الدموية فهو اصطلاح مستحدث ، فهو لا يفيد في توسعه معنى الحقنة تمسكاً بالإطلاق ، على أن الحقنة المانعة للصوم هي ادخال الدواء الى الباطن من الشرج ( المخرج ).

4 - ما يضخ في اللّهوات تسهيلاً للتنفس على المصابين بالربو :

إنّ ما يضخّ في اللّهوات تسهيلا للتنفس وكل ما يمرّ بالحلق الى الجوف يكون على أنحاء ثلاثة :

1 - ما يكون فيه جرم لا يُستهلك حتى يصل الى الحلق ويتعداه الى الجوف (2).

2 - ما يكون فيه جرم يُستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف.

3 - ما لا يكون فيه جرم عرفاً ، كالهواء الذي يحمل ذرّات من الغبار العاديّة.

ص: 441


1- راجع بحث التداوي والمفطّرات للدكتور حسّان شمسي باشا : ص 8.
2- إنّ ما يوضع في اللّهوات قد يصل الى البلعوم الفمي ثم الى المريء ، وكذا الأمر في التبغ فإنّ المواد العالقة تصل الى البلعوم الانفي والفمي والحنجري ثم يصل شيء منها الى المريء.

أمّا النحو الأول كالبخّاخ للربو والغبار الغليظ ودخان السجائر للشارب لها وأمثال ذلك فلا ينبغي الاشكال في كونه مفطّراً ؛ وذلك :

أ - لأنّنا استدللنا سابقاً على أنّ كلّ ما يدخل الجوف ممّا يسمّى أكلا أو شرباً أو يكون الأكل والشرب مقدّمةً له يكون مفطراً ؛ ولا يفرّق فيه بين القليل والكثير ، وذلك للإطلاقات الدالة على وجوب اجتناب الطعام والشراب أو الأكل والشرب ممّا يكون مقدمةً لوصول ما يشرب وما يؤكل الى الجوف.

وما دام الغبار الغليظ هو عبارة عن أجزاء من التراب أو غيره منتشرة في الهواء تدخل جوف الإنسان عن طريق الحلق فيصدق عليها عنوان دخول ما يطعم الى الجوف ممّا يكون الأكل مقدّمةً له ، وكذا البخّاخ الذي يسهّل التنفس على المصابين بالربو إذا كان عبارة عن أجزاء من سائل معيّن فيه ماء ومواد كيميائية عالقة تدخل جوف الإنسان فيصدق عليها عنوان دخول الطعام أو الشراب الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمة له ، وهكذا الكلام أيضاً في السجائر لمن يشربها حيث يكون الدخان قد حمل معه أجزاءً من النيكوتين وغيره قد دخلت الى الجوف عن طريق الحلق ممّا يصدق عليه أنّه لم يجتنب الطعام والشراب فيكون مفطراً.

ب - بالإضافة الى وجود الروايات الواردة في المضمضة (1) والاستنشاق القائلة : إنّ ما دخل منها الجوف ولو اتفاقاً يفطر - فيما عدا وضوء الفريضة - فإنّ من المعلوم أنّ الداخل منها قليل جداً. وما ورد من جواز مصّ الخاتم والنهي عن مصّ النواة (2) ونحو ذلك التي يتّضح منها عدم الفرق بين القليل والكثير فيما إذا صدق عليه عنوان الدخول الى الجوف ممّا يكون الأكل والشرب مقدّمةً له وإن لم يصدق

ص: 442


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 23 ممّا يمسك عنه الصائم ، أحاديث الباب.
2- المصدر السابق : ب 40 ، الأحاديث.

عنوانهما.

ج - الارتكاز الحاصل عند المتشرّعة الذي يفهم من كون الداخل الى الجوف من اجزاء ما يشرب أو يؤكل مضرٌّ بالصوم وأنّه من المسلّمات عندهم.

د - الروايات الخاصة : فقد روى سليمان بن جعفر المروزي ، قال : « سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان ، أو استنشق متعمّداً ، أو شمّ رائحةً غليظةً ، أو كنس بيتاً فدخل في انفه أو حلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح » (1).

وهذه الرواية لا يضرّ إضمارها بعد أن نقلها الشيخ الطوسيّ من كتاب الصفّار لتصريحه في آخر كتاب التهذيب بأنّ كل ما يرويه من رواية فهي منقولة عن كتاب من بدأَ سندها به ، ولا يحتمل أنّ مثل محمد بن الحسن الصفّار يورد في كتابه الموضوع للأحاديث الشريفة حديثاً عن غير المعصوم مضمِراً إياه (2).

ومعنى الرواية - كما نفهم - أنّ الغبار الحاصل من كنس البيت إذا دخل الأنف أو الحلق فيكون مثل الأكل متعمّداً ، لأنّ الأكل متعمّداً غاية ما يوجد إدخال الشيء الذي يؤكل الى الحلق والجوف ، فالغبار الذي يتصاعد من الكنس إذا وصل الى الحلق والجوف فلم يصدق على المكلف الصائم بأنّه اجتنب عن الطعام وإن اجتنب عن الأكل ، ولكن قد قلنا : إنّ الأكل لم يقصد بنفسه ، بل ذكر بما أنّه مقدمة لإيصال المطعوم الى الجوف.

وكذا بالنسبة للتمضمض والاستنشاق تعمّداً وشمّ الرائحة الغليظة فإنَّ هذه الاُمور - بقرينة سائر الأخبار وبمناسبة الحكم والموضوع - إذا استوجبت أن يصل الماء الى الحلق ويتجاوزه أو كانت الرائحة الغليظة بحدٍّ تستوجب أن تصل أجزاء

ص: 443


1- المصدر السابق : ب 22 ، ح 1.
2- راجع ما ذكره السيد الخوئي رحمه اللّه في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 146.

من المشموم الى الحلق ويتجاوزه كما يصل في شم الرائحة الغليظة من القدر المغلي المستوجبة لدخول أجزاء من المشموم الى الجوف فهو مثل الأكل والشرب والنكاح في المفطّرية.

وأمّا النحو الثاني الذي يكون فيه جرم ويستهلك قبل الوصول الى الحلق والجوف - كما في الغبار الذي يتفق كثيراً من إثارة الهواء في فصل الربيع في بعض البلاد ، ويدخل فضاء الفم ويستهلك مع البصاق ، أو الرائحة القليلة أو الماء الذي يصل الى فضاء الفم ويستهلك فيه بحيث لا يعدّ شيئاً خارجياً - فلا يحسب أكلا أو شرباً ، ويعدّ معه الإنسان مجتنباً للطعام أو الشراب ، ولهذا فلا يحسب مفطّراً. ومن هذا القبيل قرص « النيتروغليسيرين » ونحوه الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية إذ لا يصل منه شيء مع الريق الى البلعوم كما اتفق الأطباء على ذلك.

وقد يستشكل « في صورة الاتحاد في الجنس » فيقال : بمنع تحققّ الاستهلاك لأنّ الاستهلاك إنّما يتصور في غير المتجانسين كالغبار والماء بحيث يكون الاستهلاك موجباً لانعدام الغبار وزواله ، أمّا المزج الحاصل بين المتجانسين كالماء الخارجي مع الماء في داخل الفم فهو موجب لزيادة الكميّة والاضافة بواسطة المزج فلا يتصوّر الاستهلاك.

والجواب : أننا إذا لاحظنا نفس الممتزجَين المتّحدين في الجنس والذات - ماء خارجي وماء داخل الفم - فإنّهما من طبيعة واحدة أزاد أحدهما الآخر ، أما إذا نظرنا إلى الوصف الذي يتّصف به احدهُما دون الآخر فلابدّ من الالتزام بالاستهلاك فيه ، كما إذا فرضنا أنّ ماءً معيناً مغصوباً لا يجوز التوضّؤ به ، أخذنا منه قطرةً وألقيناها في حوض ماء غير مغصوب فهنا لا استهلاك بالنسبة الى ذات الماء ، أمّا بالنسبة الى خصوص المغصوب فقد استُهلكت ؛ لأنّها غير باقية بعد الامتزاج إذا كان قطرةً واحدة ، فلا يطلق على ماء الحوض المملوك أنّ فيه ماءً مغصوباً ،

ص: 444

فالماء بما هو ماء ليس مستهلكاً ، ولكن بما هو قطرة مغصوبة فقد استُهلك في ماء الحوض المملوك. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنَّ البلل الخارجي الموجود في الفم نتيجة المضمضة أو الاستنشاق أو شم الرائحة الغليظة التي فيها اجزاء من المشموم إذا استُهلكت مع بصاق الفم على وجه لا يصدق عليها الرطوبة الخارجية فيجوز ابتلاعها ؛ وذلك لانعدام الموضوع الخاصّ إذا كان قليلا بحيث يستهلك مع بصاق الفم.

وتدلّ على ذلك الروايات الواردة في جواز السواك بالمسواك الرطب (1) ، وفي بعضها جواز بلّ المسواك بالماء والسواك به بعد النفض ، إذ من المعلوم أنّه لا ييبس مهما نفض ، بل يبقى عليه شيء من الرطوبة ، ومع ذلك حكم علیه السلام بجواز السواك به ، وليس ذلك إلاّ من أجل استهلاك تلك الرطوبة في ريق الفم.

وقد ورد أيضاً جواز المضمضة (2) والاستياك بنفس الماء على أن يفرغ الماء من فمه ولا شيء عليه ، فإنّه في هذه الصورة تبقى لا محالة أجزاء من الرطوبة المائية في الفم ، إلاّ أنّه من جهة استهلاكها مع الريق لا مانع من ابتلاعها.

وعلى هذه الصورة تحمل موثّقة عمرو بن سعيد عن الإمام الرضا علیه السلام قال : « سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه ؟ فقال علیه السلام : لا بأس به. قال : وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال علیه السلام : لا بأس به » (3).

لأنّ هذه الرواية وإن كانت مطلقةً حتى الصورة كون الدخنة أو الغبار غليظاً ويصل الى الجوف بأجزائه ، إلاّ أنّ هذه الصورة قد تقدم حكم مفطّريتها ،

ص: 445


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 28 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 3 و ح 11.
2- المصدر السابق : ب 28 ، ح 16 ، وب 31 ، ح 1.
3- المصدر السابق : ب 22 ، ح 2.

فلابدّ أن نقيّد هذه الموثّقة بما تقدّم فتختص بصورة الاستهلاك ، كما لو كان الدخان الذي يمرّ أمام وجه الإنسان ويستنشق منه اليسير ، فيُستهلك مع ما في الفم من بصاق.

والظاهر أنّ البخار الذي يكون في الحمامات وإن كان كثيراً إلاّ أنّه لا يدخل إلى الجوف وهو كثير ، بل يُستهلك على بصاق الفم ويدخل الى الجوف ، ولذا لم يقل أحد بمفطريته ولم يتحرز منه أحد ، وهذا يختلف عن استنشاق دخان السجائر والبخّاخ الذي يكون الداخل منه الى الجوف كثيراً ويحمل أجزاءً خارجيةً يصدق معها أنّ الصائم لم يجتنب الطعام أو الشراب.

أمّا النحو الثالث - وهو ما إذا كان الداخل الى الجوف ليس فيه جرم عرفاً كالهواء الذي يحمل ذرات عادية من الغبار - فلا اشكال في عدم كونه مضرّاً بصحة الصوم ، وكذا الاُوكسجين الذي يعطى البعض المرضى.

5 - ما تعالج به الطعَنات الجوائف مما يصل الى مستقر الغذاء :

إنّ الجواب عن هذه الحالة يختلف باختلاف مباني العلماء :

فمن قال بأنَّ المفطِّر هو عنوان الأكل والشرب وأنّه لا يتحقّق إلاّ بأن يمرّ المأكول والمشروب عن طريق الحلق فيرى أنَّ معالجة الطعَنات الجوائف ممّا يصل الى مستقر الغذاء لا يضرّ بالصوم ؛ لعدم تحقّق الأكل والشرب.

أمّا من يرتأي بأنَّ الأكل والشرب قد اُخذ على نحو الطريقية لما يصل الى الجوف ( وهو مستقر الغذاء على الأقل ) وأنّ رواية « لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع » ترى مانعية كلّ ما يصل الى الجوف ممّا يؤكل أو يشرب وإن كان دواءً أو غير مألوف يرى أنّ ما يصل الى الجوف يكون مضراً بالصوم ؛ لأنّه لا يصدق على فاعله الاختياري بأنّه قد اجتنب الطعام أو الشراب ما دام قد وصل الى جوفه بالاختيار.

ص: 446

6 - الحجامة وفصد الدم وسحبه هل يضرّ بالصوم ؟

والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذه العناوين الثلاثة لا تضرُّ بالصوم ، لعدم صدق أي عنوان من العناوين المفطِّرة عليها ، لأنّ هذه العناوين ليست أكلا ولا شرباً ولا يلزم منها ادخال شيء الى الجوف الذي يصل الى مستقر الطعام أو الشراب.

نعم ، قد ينطبق عليها مفهوم ( الضعف ) ، وقد ورد النهي عن تضعيف الصائم نفسه واخراج كلّ دم مضعّف كنزع الضرس ونحوه والحجامة ، فقد ورد في صحيحة الحلبي ، عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « سألته عن الصائم أيحتجم ؟ فقال : إني أتخوّف عليه ، أما يتخوّف ( به ) على نفسه ؟ قلت : ماذا يتخوّف عليه ؟

قال : الغشيان ، أو لأن ثثور به مُرَّة (1). قلت : أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخشَ شيئاً؟ قال : نعم ، إن شاء » (2). وغيرها من الروايات.

وقد ورد عن الإمام الرضا علیه السلام عن أبيه عن آبائه عن عليٍّ علیه السلام « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احتجم وهو صائم محرم » (3).

وقد روى البخاري عن ابن عباس أنَّ النبي احتجم وهو صائم (4).

وقد فسّرت بعض الروايات ما نقل عن النبي صلی اللّه علیه و آله من قوله : « أفطر الحاجم والمحجوم » الذي لا يمكن حمله على الإفطار بسبب الحجامة ، إذ المحجوم إذا كان قد افطر نتيجة اخراج الدم منه ، فما بال الحاجم الذي لم يخرج الدم منه ؟

فقد ذكر في كتاب معاني الأخبار بسنده ، عن عباية بن ربعي - في حديث - قال : « سألت ابن عباس عن الصائم يجوز له أن يحتجم ؟ قال : نعم ، ما لم

ص: 447


1- المُرَّة : خلط من أخلاط البدن غير الدم والجمع مِرارٌ بالكسر ، مجمع البحرين ( مادة مرر ).
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ح 1.
3- المصدر السابق : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 8.
4- المغني لابن قدامة : ج 3 ، ص 36.

يحسّ ضعفاً على نفسه. قلت : فهل تنقض الحجامة صومه ؟ فقال : لا. قلت : ما معنى قول النبي صلی اللّه علیه و آله حين رأى من يحتجم في شهر رمضان : أفطر الحاجم والمحجوم ؟ فقال علیه السلام : إنّما أفطرا لأنّهما تسابّا وكذبا في سبّهما على النبي صلی اللّه علیه و آله لا للحجامة » (1).

وهكذا نفهم أنّ الحجامة بما هي ليست من المفطرات ، ولكن إذا خاف الإنسان منها على نفسه - للضعف الذي ينتابه منها فيغشى عليه - تكون مكروهة ، وكذا سحب الدم منه أو إخراجه أو الفصد ، لنفس الملاك. وكذا الكلام في نقل الدم لإسعاف المريض فإنّه لا يوجب الإفطار ؛ لعدم دليل على ذلك.

ولأهل السنّة في الحجامة أقوال ثلاثة هي :

1 - قول بالمفطّرية : ذهب جماعة منهم محمد بن المنذر ومحمد بن اسحاق واسحاق وعطاء وعبد الرحمن بن مهدي.

2 - قول بالاباحة : ذهب إليه جماعة منهم الإمام مالك والشافعي والثوري ، وكذا ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه.

3 - قول بالكراهة : ذهب إليه الحكم ، حيث قال : احتجم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو صائم فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم (2).

7 - التقطير في العين والأنف والاُذن :

أقول : لقد وردت الروايات المجوّزة لاستعمال الدواء في الاُذن أو العين بشرط عدم وصوله الى الحلق أو الجوف الذي يضرّ بصدق الصوم ، فالميزان إذن في الإضرار بالصوم هو وصول نفس الدواء الى الحلق الذي يكون مصداقاً للأكل

ص: 448


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 26 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 9. وقال الصدوق : فقد قيل في معنى قوله : ( افطر الحاجم والمحجوم ) : أي دخلا في فطرتي وسنتي ؛ لأنّ الحجامة ممّا أمر به صلی اللّه علیه و آله واستعمله.
2- المغني لابن قدامة : ج 3 ، ص 36 و 37.

أو الشرب ، أو عدم صدق الاجتناب عن الطعام أو الشراب ، فما دام لم يصل الدواء الى الحلق أو الجوف الذي هو مستقر الطعام فلا يضرّ بصدق الصوم. وإليك الروايات :

1 - صحيحة حماد قال : « سألت الإمام الصادق علیه السلام عن الصائم يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال علیه السلام : لا بأس به » (1).

2 - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الصائم هل يصلح له أن يصبّ في اُذُنه الدهن ؟ قال : إذا لم يدخل حلقه فلا بأس » (2).

3 - صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادق علیه السلام : « أنّه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة ؟ فقال علیه السلام : إذا لم يكن كحلا تجد له طعماً في حلقها فلا بأس » (3).

4 - رواية محمد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام : « في الصائم يكتحل ؟ قال علیه السلام : لا بأس به ، ليس بطعام ولا شراب » (4).

وهذه الروايات مؤكّدة للروايات القائلة بعدم إضرار الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع ( الأكل والشرب والجماع والارتماس ) وما دلّ على مفطّريته بدليل خاص ، وبما أنّ الدواء في الاُذن والعين بصورة عامّة ليس ممّا يصدق عليه شيء ممّا تقدّم فهو لا يضرّ بالصوم. نعم ، إذا كان بصورة بحيث يدخل الدواء الى الحلق أو يصل طعمه الذي هو عبارة عن وصول اجزاء منه الى الحلق - لا الى اللسان - فهو عبارة عن الأكل والشرب أو الدخول الى الجوف ، فيضرّ بصحة الصوم ، كما ذكرت

ص: 449


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 2.
2- المصدر السابق : ج 7 ، ب 24 ممّا يمسك عنه الصائم ، ح 5.
3- المصدر السابق : ب 25 ، ح 5.
4- المصدر السابق : ب 25 ، ح 1.

ذلك النصوص المتقدّمة.

وممّا يؤيد ما ذهبنا إليه ما ذكره الأطباء المتخصصون في مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته المنقعدة 23 - 28 صفر 1418 ه حيث أكّدوا وجود منفذ وقناة من العين الى الجوف ، وهي القناة الدمعية ، إلاّ أنّهم اختلفوا في وصول شيء منها الى الجوف ، فقال بعض بوصول جزء قليل منها الى الجوف وقال بعض آخر بأنّها تمتصّ ولا تذهب الى الحلقوم ولكنّها تذاق في اللسان. وكذا الكلام في الاُذن فقد يصل ما يوضع فيها إذا خرقت الطبلة.

وأمّا الدواء في الأنف فهو لا يختلف عن الاُذن والعين في كل ما تقدّم.

8 - المغذّي في حالة الإسعاف والتداوي :

والمغذّي الذي يوصل بجسم الإنسان عن طريق الدم هل يكون مضرّاً بصحة الصوم ؟

قلنا سابقاً : إنّ الأدلّة الشرعية دلَّت على مفطرية كل من الأكل والشرب ، وتوسعنا في ذلك الى كل طعام وشراب يدخل الى الجسم فيصل الى الجوف وإن لم يكن عن طريق الحلق لعدم صدق الاجتناب عن الطعام والشراب التي ذكرت الرواية عدم الاضرار بالصوم لو صدق الاجتناب عنهما.

أمّا هذه الحالة وهي وصول ما يسمى بالمغذّي الى الجسم بواسطة الدم فهي ليست أكلا وشرباً وهي ليست طعاماً وشراباً يصل الى الجوف وهو مستقر الطعام والشراب وعليه فلا يكون مضرّاً بصحة الصوم.

ولكن من المحتمل أنّ المضرّ بالصوم هو كل ما يتقوى به الجسم ويكون الأكل والشرب مقدمة له ، فيكون المغذّي ممّا يتغذّى به الجسم بواسطة دخوله الى الدم فيكون مضرّاً بالصوم ، وعليه فلابدّ من الاحتياط في هذه الصورة ، كما لابدّ من الاحتياط في ادخال الدم إذا كان يقوم بتغذية الجسم ، فإنّ ملاك المفطرية - على

ص: 450

وجه الاحتمال - موجود فيها ، خصوصاً في المغذّي الذي يصدق عليه أنّه طعام لمن يحتاج إليه (1).

وقد يقال : إنّ الحكم بمفطرية الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) يعمّ ما كان حقيقةً وحكماً. كما أنّ الزيادة في الفرض المحرّمة تشمل الزيادة الحقيقية والحكمية ، فلاحظ وتأمل.

9 - ما يكون محلّه البطن كادخال المناظير للجوف وأخذ عيّنة من الكبد وغيره :
اشارة

أقول : إنّ ادخال الناظور الى داخل البطن للتشخيص أو لإجراء عملية جراحية ، أو أخذ عينة من الكبد أو غيره ممّا لا يصدق عليه ما تقدّم من المفطرات فلا يكون مضرّاً بالصوم بحدّ ذاته ، لعدم الدليل من القرآن والسُنَّة. ولا يصدق عليه وصول الأكل والشرب الى الجوف المقصود ها هنا وهو الحلق الى المعدة. وإذا حصل الشك في كون ذلك مضرّاً بالصوم فنتمسك بالبراءة من حرمة العمل استناداً الى قبح العقاب بلا بيان ، أو « رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون ».

أمّا صحة الصوم فنستصحبها ، وبهذا يتمّ القول بعدم حرمة العمل وعدم كونه مفطّراً.

ثمّ إنّ إدخال الناظور الى المعدة للتشخيص أو العلاج أيضاً لا يصدق عليه أنّه أكل أو شرب وإن صدق عليه إدخال الناظور الى الجوف. كما لا يصدق على من ضُرب سكيناً في بطنه ووصلت الى معدته أنّه أكل أو شرب ، وحينئذ لا يكون مفطراً.

ص: 451


1- إنّ ميزان الاحتياط الوجوبي هو عدم ترجيح احتمال كون المفطر هو ما يدخل الى المعدة ممّا يؤكل أو يشرب على ما يغذّي الجسم وإن لم يدخل الى المعدة مع إمكانه ، ولعلّ الصواب هو عدم تغذية الجسم وصدق الإمساك.
تنبيه :

1 - إذا كانت هذه العمليات المتقدّمة التي توجب إدخال المناظير أو أخذ العيّنات من الجوف تتمّ بدون مقدمات لها توجب ادخال ماء أو جسم آخر الى المعدة عن طريق الحلق بحيث يصدق عليه الأكل والشرب فالحكم ما تقدم.

أمّا إذا كانت هذه العمليات توجب إدخال شيء من الماء أو أي شيء آخر بحيث يصدق عليه الأكل والشرب ( أو الطعام والشراب ) فالحكم يختلف ويبطل بذلك الصوم استناداً الى عدم اجتناب ما دلّ الدليل على اجتنابه. أمّا الحرمة فهي مرتبطة بعدم كون هذه الأعمال لازمةً في نهار رمضان.

2 - إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كان الإنسان لم يصدق عليه عنوان « المرض الذي يضرّه الصوم » ، أمّا إذا كان مصداقاً لذلك فلا يصح منه الصوم ؛ للأدلّة الدالّة على عدم صحّة صوم المريض الذي يضرّه الصوم.

3 - إنّ ما تقدم يكون صحيحاً إذا كانت العمليات المتقدّمة تتم بدون تخدير تامٍّ للإنسان ، وإلاّ فإنّ من يقول باشتراط الصوم بعدم الإغماء ( إستناداً الى أنّ الجنون لا يصح معه الصوم وقد اُلحق به الاغماء لأنّه يفقد الادراك ) يأتي هنا ، ويكون الصوم باطلاً لعدم الأمر به. إلاّ أن الدليل لم يتم ، للفرق بين الجنون والإغماء.

10 - ما يجعل في المهبل أو الرحم :

بما أنّه لا توجد أي علاقة بين المهبل والرحم وبين جوف الأكل والشرب فما يجعل من الدواء في الرحم أو المهبل وما يُدخل من منظار أو لولب الى الرحم لا يكون مفطّراً ، وكذا إدخال الأصبع من قبل الطبيب أو اليد للفحص أو العلاج ، وكذا إدخال التحاميل ، كل ذلك ليس له أي علاقة بموجب الافطار ؛ لعدم وجود أي ارتباط بالجوف الذي هو محلّ الطعام والشراب ، وعدم وجود دليل آخر يدلّ

ص: 452

على مفطّرية هذه الاُمور.

11 - ما يدخل الدماغ :

إذا حصلت شجة في الدماغ فما يدخل الدماغ من دواء لا يصل منه شيء الى البلعوم والمعدة ، وبهذا لا تكون مداواة المأمومة من جملة المفطّرات ، كما أن نفس المأمومة لا تكون مفطّرةً ؛ لعدم الدليل على ذلك.

نعم ، إذا كانت قاعدة الجمجمة قد كُسرت فقد يصل شيء من الدواء أو شيء من « السائل الدماغي الشوكي » الذي يسيل حول النخاع الشوكي الى البلعوم الفمي ومنه الى المريء ، وهذه الحالة تستدعي الافطار ، كما هو واضح ؛ لصدق الأكل والشرب ووصول المواد الى المعدة عن طريق الحلق الذي هو موجب للإفطار.

ولا بأس بالتنبيه الى عدم وجود إفرازات من الدماغ تصل الى المعدة أو المريء ، فقد اتّفق الأطباء على عدم وجود أي قناة بين الدماغ والمريء ، إلاّ إذا كسرت قاعدة الجمجمة ، وبهذا يتبيّن أنّ الإفرازات التي كان القدماء يظنون أنّها آتيةً من الدماغ ما هي إلاّ افرازات من الجيوب الأنفية ولا علاقة لها بالدماغ.

المفطرات في مجالات الحالات المرضية

الضرر من الصوم رافع لصحّته :

لقد ذكر فقهاء الإمامية شرطية عدم المرض لصحة الصوم ، وهذا أمر ضروري في الجملة قد نطق به القرآن الكريم ، حيث قال سبحانه وتعالى : (فَمَنْ

ص: 453

كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (1) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني. ولا يفرق بين المرض الذي يشتدّ بالصوم أو يطول برؤه ، أو يشتد ألمه أو نحو ذلك.

وقد خصّص الفقهاء الآية القرآنية بالمرض المضرّ بالصوم ؛ لانصرافها إليه ، ولاستفادة ذلك من الروايات الكثيرة التي أحالت تشخيص المرض الذي يجب على صاحبه الافطار الى المكلف نفسه.

وقد أجاب الإمام بألسنة مختلفة مثل قوله علیه السلام في صحيحة محمد بن مسلم : « هو أعلم بنفسه ، إذا قوي فليصم » (2).

وقوله علیه السلام في موثّقة سماعة : « هو مؤتمن عليه مفوض إليه ، فإن وجد ضعفاً فليفطر وإن وجد قوّة فليصم كان المرض ما كان » (3).

وقوله علیه السلام في صحيحة عمر بن اُذينة : « الإنسان على نفسه بصيرة ، ذاك إليه هو أعلم بنفسه » (4).

وعلى ما تقدّم نفهم أنّه ليس كلُّ مرض مانعاً من صحة الصوم ، وإنّما خصوص المرض المضرِّ. أمّا إذا كان المرض لا يضرّه الصوم فيجب الصوم.

وبهذا نستنتج : أنّ العبرة في الإفطار ليست بالمرض بما هو بل بالضرر الذي يحصل من الصوم ، وإنّما ذكرت الآية المريض لأنّه الفرد الغالب ممّن يضرّه الصوم (5).

ص: 454


1- البقرة : 184.
2- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 محل يصح منه الصوم ، ح 3.
3- المصدر السابق : ح 4.
4- المصدر السابق : ح 5.
5- (5) هذا وقد ذهب في المغني الى نفس هذا الرأي فقال : « والمرض لا ضابط له ، فإنّ الأمراض تختلف ، منها ما يضرّ صاحبه ومنها ما لا أثر للصوم فيه ... فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر ، فوجب اعتباره » المغني لابن قدامة : ج 1. ص 86.

فإن فرضنا أنّ فرداً يتضرّر من الصوم وهو ليس بمريض فيجب عليه الافطار ، كما ورد الافطار لمن به رمد في عينه أو صداع شديد في رأسه (1).

والخلاصة : أنّ بين المرض والضرر عموم من وجه ، فقد يكون مريضاً لا يفطر لعدم كون الصوم مضرّاً لمرضه ، وقد يكون الصوم مضراً للمكلف مع عدم كونه مريضاً ، وقد يكون مريضاً ويضره الصوم ، فالافطار يجب في الأخيرين فقط.

ما هو طريق إحراز الضرر ؟

ذهب الأكثر الى أن طريق إحراز الضرر يكون بالخوف الذي يتحقّق بالاحتمال العقلائي المعتدّ به.

وذهب آخرون الى اعتبار اليقين أو الظنّ وعدم كفاية الاحتمال.

والصحيح هو الأول ، وذلك :

1 - لأنّ الغالب عدم إمكان الإحراز.

2 - ولأنّ الخوف طريق عقلائي لإحراز الضرر.

3 - ولصحيحة حريز عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » (2).

فإذا ثبت الاكتفاء بالخوف في الرمَد - وهو عضو واحد في الجسد - ففي المرض المستوعب لتمام البدن يكون الخوف من الضرر أولى بالافطار.

ولموثّقة عمار عن الإمام الصادق علیه السلام في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف

ص: 455


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 ممّا يصحّ عنه الصوم.
2- المصدر السابق : ب 19 ، ح 1.

على نفسه ؟ قال علیه السلام : « يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتى يروى » (1).

ثم إنّ الخوف على نفسه الوارد في الرواية أعمّ من خوف الهلاك فما دونه مثل خوف المرض أو الإغماء ونحوه.

الخوف طريق عقلائي في باب الضرر :

لقد وردت الروايات التي تقرّر أنّ الخوف هو طريق عقلائي في باب الضرر في مقامات عديدة غير الصوم منها :

أ - إذا لزم طلب الماء والفحص عنه في الفلاة ، فقد ذكروا : أنّه يكفّ عن الفحص إذاخاف من اللصِّ أو السبع.

ب - ورد في باب الغسل : أنّه إذا خاف على نفسه من البرد يتيمّم.

والخوف هنا أيضاً أعمّ من خوف الهلاك أو المرض أو نحوهما.

هل المرض الفعلي ( الضرر الفعلي ) مانع من صحة الصوم ؟

لقد ذكر القرآن الكريم والسنة : أن موضوع الإفطار هو المريض ، وظاهره هو المريض الفعلي ( كما في المسافر ) ، فالمحكوم بالافطار هو من كان مريضاً أو مسافراً بالفعل ، وحينئذ هل يوجد دليل على جواز الافطار للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ؟ نقول :

1 - ذكر الإمام الخوئي رحمه اللّه : أنّ الأخبار المتقدّمة التي جوّزت الافطار

ص: 456


1- المصدر السابق : ب 16 ، ح 1. أقول : المراد بالعطاش هنا الذي يخشى منه على نفسه هو من يصيبه العطش أثناء النهار لأمر عارض كشدة الحر ونحوه بحيث يخاف على نفسه فيضطر الى شرب الماء حذراً من الهلاك أو ما في حكمه ، ولذا كان الحكم هو الشرب بقدر الضرورة.

للمريض لم تجوزه لمرضه السابق ، ضرورة عدم تأثير المرض فيما مضى ، إذ لا علاقة ولا ارتباط للصوم أو الافطار الفعليين بالاضافة الى المرض السابق ، وإنّما هو من أجل سببية الصوم وإيجابه للمرض بقاءً بحسب الفهم العرفي ، ولا أثر له في رفع السابق كما هو ظاهر ، إذن لا فرق بين الوجود الثاني للمرض والوجود الأول ( حدوث المرض ) لوحدة المناط فيهما (1).

2 - إنّ صحيحة حريز المتقدّمة الواردة في الرمد تدلّ على عدم صحة الصوم للصحيح الذي يخاف حدوث المرض لو صام ، إذ أن الإمام يقول : « إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر » وحينئذ إذا كان الحكم في الرمد كذلك ففي غيره بالأولوية.

وبما أنّ المرض الذي ذكر في الآية القرآنية لم يكن له خصوصية بما هو مرض ، بل العبرة بالافطار هو الضرر الحاصل من الصوم - كما تقدّم - فحينئذ إذا أضرَّ الإنسان الصوم أفطر وإن لم يكن مريضاً ، كما إذا كان به صداع شديد - مثلاً - يخاف أن يضرَّه الصوم ، وكذا يُعمَّم الحكم لمن به جرح أو قرح يخاف أن يكون الصوم سبباً لعدم اندماله أو طول برئه.

اذن العبرة في الافطار بالضرر سواء كان فعلياً أو مستقبلياً كما إذا خاف من الصوم ضعفاً في عينيه يحصل بعد مدّة نتيجة الصوم فلا يصح منه الصوم. وطريق إحراز الضرر هو الخوف.

ما يوجب الإفطار :

يمكن أن نحصر ما يجب فيه الافطار في اُمور ثلاثة هي :

ص: 457


1- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 457 ، وقد ذكر في المغني لابن قدامة « أنّ الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في اباحة الفطر ؛ لأنّ المريض إنما اُبيح له الفطر خوفاً مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله ... » : ج 1. ص 86.

1 - أن يكون ضرر من الصوم في حالة مرض الإنسان يبلغ حدّ الحرمة الشرعية ، كالإلقاء في التهلكة ، بمعنى أن الصوم يؤدّي الى أن يكون مرضه مهلكاً لو صام ، وحينئذ لا شك في بطلان الصوم حيث يكون الصوم مصداقاً للحرام ، وطبيعي أنَّ الحرام لا يمكن أن يكون واجباً ، ولا يمكن أن يكون المبغوض مقرِّباً.

2 - أن يكون الضرر من الصوم في حالة المرض غير بالغ حدّ الحرمة ، كمن أحرز أنّه لو صام يتضرّر بحمّى يوم أو يومين ، أو يبتلى بصداع في رأسه ، أو ترمد عينه - بناءً على أن مطلق الاضرار بالنفس لا يكون محرماً - وحينئذ لو صام فالمتسالم عليه عند الإمامية بطلان الصوم أيضاً ، وذلك :

أ - لأنّ الخلوّ من المرض هو شرط في الصحة ، بالاضافة الى الوجوب المستفاد من الآية المباركة ( ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام اُخر ) بناءً على ظهور الأمر في الوجوب التعييني.

ب - وجملة من الأخبار ، كموثّقة سماعة التي يسأل فيها الراوي عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه الافطار ؟ فأجاب « فإن وجد ضعفاً فليفطر ، وإن وجد قوة فليصمه » (1).

حيث عبّر بالوجوب ، ونحن نعلم أنّ الضعف من الصوم بمعنى عدم القدرة على الصيام ليس مهلكاً بحيث يصل الى حدّ الحرمة.

3 - ويجب الافطار في كل مورد زاحم الصوم محذور آخر غير المرض ، وكان المحذور الآخر أهمّ من الصوم في نظر الشارع المقدّس ، فحينئذ يدخل ما نحن فيه في مورد التزاحم ، وبما أن المفروض أهميّة الواجب الآخر فيقدم على الصوم ، لأنّ الصوم - كبقية التكاليف - مشروط بالقدرة ، فإذا وجد واجب آخر أهمّ من

ص: 458


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 20 ممن يصح منه الصوم ، ح 4.

الصوم ولم يمكن الجمع بينهما فيتقدّم الأهم ( كما في قاعدة التزاحم ) ومع تقدم الأهم يسقط الأمر بالصوم للعجز عنه في هذا الحال.

ومثاله : كما لو ترتب على ترك الصوم حفظ عرضه أو عرض غيره من تجاوز المتجاوزين.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال محترم يجب حفظه كوديعة أو عارية.

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظ مال كثير جدّاً بحيث علمنا أن الشارع لا يرضى بتلفه ( فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ).

وكما لو ترتب على ترك الصوم حفظه أو حفظ غيره من الغرق أو الحرق.

وكما لو ترتب على ترك الصوم إنقاذ جماعة من الحبس أو القتل وامثالهما.

وكذلك لو هدّده جائر بالقتل لو صام.

ففي كل هذه الصور لا إشكال في سقوط التكليف بالصوم.

الفرق بين الصور الثلاثة المتقدّمة :

إذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف الى حدّ التهلكة ( الصورة الاُولى ).

وإذا كان الصوم مضرّاً بالمكلف لا الى حدّ التهلكة فلم يصل الى حدّ الحرمة ( الصورة الثانية ).

وكان احراز المكلف للأمرين صحيحاً ومطابقاً للواقع ، ومع ذلك فقد خالف وصام فهل يصح صومه ؟

والجواب : عدم صحة الصوم ؛ وذلك لعدم وجود أمر في هذين الفرضين ؛ لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم إحراز الضرر الذي يشمل إحراز التهلكة فما دونها.

وأمّا إذا صام مع وجود المزاحم الأهم ( الصورة الثالثة ) فهل يصحّ صومه ؟

ص: 459

والجواب : اختلف العلماء في ذلك :

فقد ذهب بعضهم الى أن عدم ابتلاء الصوم بالمزاحم الأهم هو من شرائط الصحة كعدم المرض والسفر ، ومعنى ذلك إنكار جريان الترتب (1).

وعلى هذا يحكم ببطلان الصوم لو ترك المكلف الأهم وصام ، لأنّه لا أمر بالصوم فلا يحرز الملاك والمصلحة فيكون الصوم باطلاً ، ولا نحتاج الى دعوى اقتضاء الأمر النهي عن ضده.

ولكن بناءً على التحقيق : ( المختار في الاُصول ) « من صحة الترتب وامكانه بل لزومه ووقوعه وأنّ تصوّره مساوق لتصديقه ... فلا مناص من الحكم بالصحة بمقتضى القاعدة » (2).

وبناءً على هذا التحقيق فلابدّ من القول بأنّ وجوب الصوم مشروط بعدم المزاحمة للأهم ، وليست الصحة مشروطة بذلك.

ما لا يبيح الإفطار من الأمراض ممّا لا يتأثر بالصوم أو يخفّ به :

قلنا فيما تقدّم : إنّ النسبة بين الضرر من الصوم والمرض هي عموم من وجه ، فقد يحصل الضرر من الصوم ولا مرض في البين ، كما في الصوم الذي يؤثر على ضعف العين في المستقبل مع عدم اتصاف المكلف بالمرض ، وقد يحصل المرض ولا ضرر في الصوم ، كما في الأمراض التي تحتاج الى إمساك عن الطعام

ص: 460


1- الترتّب : قاعدة تقول : إنّ المزاحمة بين خطاب صلِّ وخطاب احفظ الوديعة - مثلاً - إذا لم يكن الجمع بينهما هي بين الاطلاقين لا بين ذاتي الخطابين ، وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بأحدهما ( وهو الأهم ) مطلقاً وتعلق الأمر بالآخر ( وهو المهم ) على تقدير عصيان الأمر بالأهم ، وحينئذ يكون الساقط هو اطلاق الأمر بالمهم ( وهو الصوم في مثالنا ) أمّا أصل الأمر بالصوم فهو باق على حاله ، والمعجِّز ليس هو نفس الأمر بالأهم ، بل امتثاله ، فما لم يمتثل الأهم لا يكون عاجزاً عن المهم وحينئذ يكون أمره باقياً.
2- راجع المستند في شرح العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 1 ، ص 462 - 463.

والشراب (1) ، وقد يحصل ضرر من الصوم ومرض ، كما في غالب الأمراض التي يكون الصوم مضرّاً بها عادة.

ولكن قلنا سابقاً : إنّ العبرة بالضرر لا بالمرض ؛ لأن الآية الكريمة والروايات جعلت موضوع الافطار هو المرض لكن من حيث إنَّه مضرٌّ ، وحينئذ يكون موضوع الافطار هو الضرر المحرز ، فإذا أحرزنا وجود مرض لم يضرّه الصوم أو يخفّ بالصوم فلا يجوز الافطار معه ، إذ لا ضرر متصوّر في البين حتى يبطل معه الصوم ، وحينئذ يكون الأمر بالصوم من القرآن والسنّة على حاله.

وعلى ما تقدّم يتّضح عدم صحة ما يقال : « من جواز الافطار من الأمراض من غير ايجاب لكونه يزداد بالصوم أو يتأخر برؤه من غير هلاك أو شديد أذى » ؛ لأنّ المرض إذا كان يضره الصوم فلا يصح ؛ لعدم وجود أمر بالصوم ؛ لأنّ شرط صحة الصوم عدم الضرر ، وإذا كان لا يضره الصوم فيجب صومه.

ومن هنا يتّضح : أن الضعف (2) الذي يعتري الانسان الصائم بعد أن لم يتصف المكلف بالضرر الحالي نتيجة الصوم أو خوف الضرر في المستقبل لا يجوّز الافطار ولا يضرّ بالصوم بمقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة.

نعم : إذا كان الضعف لا يتحمّل عادةً ، بأن بلغ حدّ الحرج على المكلف فلا إشكال في جواز الافطار معه ؛ وذلك لدليل رفع الحرج (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهو المراد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فإنَّ الإطاقة هي إعمال القدرة في أقصى مرتبتها المساوق للحرج الذي يغلب حصوله في الشيخ أو الشيخة ، وهذا ما سنتكلّم عنه الآن.

ص: 461


1- كالتخمة ، وكالامراض التي لا أثر للصوم فيها ، كوجع الضرس ، وجرح في الإصبع والدمّل والجَرَب وأشباه ذلك.
2- الضعف قد يكون كلياً وقد يكون جزئياً خصوصاً إذا صادف شهر رمضان في أيام الصيف الذي يستمر فيه النهار سبع عشرة ساعة وفي بعض البلدان أكثر من عشرين ساعة.
ما يجوّز الإفطار :

وقد اختلف علماء الإمامية في وجود أمثلة لهذا العنوان ، فهناك موارد جوّز بعض العلماء فيها الافطار من غير إيجاب ، وهي :

1 - ما تقدّم قبل قليل من جواز إفطار الشيخ والشيخة اللذين يتمكنان من الصوم بمشقة شديدة تبلغ حدّ الحرج من الصوم. كما يجوز لهما الافطار في حال تعذر الصوم منهما ، وهذا واضح.

ودليله - بالاضافة الى دليل نص الحرج - الآية القرآنية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (1).

وليست الاطاقة في هذه الآية هي القدرة حتى يقال بأنَّ هذه الآية منسوخة بآية (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) باعتبار أن المتمكن من الصيام كان مخيّراً في صدر الاسلام بين الصوم والفداء ، بل الاطاقة هي التمكّن مع المشقّة الشديدة التي تتعقب بالعجز كما فَسّرها به في لسان العرب وغيره ، فالآية تشير الى أن مَنْ يتمكن من الصوم مع المشقة والحرج الشديد يجوز له الافطار مع إعطاء الفدية.

ولكن نقل عن مجمع البيان قوله : إنّ آية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) من الافطار والفدية ، ولذا ذهب صاحب الحدائق قدس سره والسيد اليزدي في العروة الوثقى الى صحة الصوم أيضاً ، وعدم تعين الفداء ، وأنّ الحكم بالفدية والافطار ترخيصيّ لا إلزامي ، حيث أرجعوا (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) متمِّماً لقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .

ولكن هناك جمع من فقهاء الإمامية لم يرتضوا أن يكون الحكم بالفدية والافطار للشيخ والشيخة ترخيصي ، بل هو إلزامي (2).

ص: 462


1- البقرة : 183.
2- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 39 - 41.

2 - مَنْ به داء العطش : قد يقال : إنّ مَنْ به داء العطش يندرج تحت عنوان المريض الذي يجب عليه الافطار والمحكوم بوجوب القضاء بعد البرء ، كما إذا ارتفع داء العطش الناشئ من خلل في كبده بمعالجة أوبمجيء فصل الشتاء.

ولكن المريض الذي تقدّم وجوب افطاره ، وإذا ارتفع مرضه يجب عليه القضاء إنّما هو من يتضرّر بالصوم بحيث يكون الصوم موجباً لازدياد المرض أو طول برئه ، وحينئذ يكون ذو العطاش مخالفاً ؛ حيث إنّه لا يتضرّر من ناحية الصوم ، وإنّما يقع في مشقة شديدة وحرج عظيم فيختلف عن المرض موضوعاً ويشارك الشيخ والشيخة في اندراجه تحت قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... ) . ولهذا فقد جعلت صحيحة محمد بن مسلم ذا العطاش في مقابل المريض ، ومرادفاً للشيخ والشيخة ، فقد « سئل الإمام الباقر علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال علیه السلام : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش ، وسئل عن قوله عزّوجلّ : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) قال : من مرض أو عطاش » (1).

وعلى هذا فسيكون الكلام عن داء العطاش هو بعينه الكلام عن الشيخ والشيخة لوحدة المستند (2).

3 - الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن : ذكر بعض الفقهاء (3) جواز الافطار للحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن ؛ لأنّهما لا تطيقان الصوم ، كما ذكرت ذلك صحيحة محمد بن مسلم قال : « سمعت الإمام الباقر علیه السلام يقول : الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان ؛

ص: 463


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 15 ممّن يصحّ منه الصوم ، ح 3.
2- للتوسع راجع هذا البحث في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 50 - 51.
3- مثل سلاّر وعلي بن بابويه رحمهما اللّه تعالى والمحقّق صاحب الشرائع وغيرهم.

لأنّهما لا تطيقان الصوم » (1).

وهذه الرواية تشعر بدخولهما تحت قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، فتكون الرواية قد جوّزت الافطار لهما في مقابل الفدية.

هذا ولكن هناك جمع آخر من علماء الطائفة الإمامية يذهب الى وجوب الافطار على الشيخ والشيخة وذي العطاش والحامل المقرب التي يضرّ الصوم بها أو بولدها ، والمرضع القليلة اللبن ؛ وذلك لأنّ الآية القرآنية قد قررت أن الذي يتمكن من الصوم بمشقة - وهو معنى الاطاقة - يفطر ويعطي الفدية ، وهذا واجب وعلى نحو العزيمة لا الرخصة ، وأمّا الآية ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فهي ليست راجعةً الى ( عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ... ) بل هي راجعة الى أن من يجب عليه الصوم أو القضاء فهو خيرٌ لكم ونفعه لكم لا الى اللّه سبحانه الذي هو غني على الاطلاق.

وأمّا ذو العطاش فالكلام فيه هو الكلام في الشيخ والشيخة ؛ لأنّ الصوم إذا كان فيه مشقة له فيجب الافطار ، على أنّ قسماً من ذي العطاش الذي يكون مريضاً فله حكمه من الافطار والقضاء عند التمكن حسب الآية التي قالت : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا...فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .

وأمّا الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن فإن كانتا تتمكّنان من الصوم بمشقة فحكمهما ما ذكرته الآية من وجوب الافطار مع الفدية ، وأمّا صحيحة محمد ابن مسلم الواردة في الحامل المقرب فهي أجنبية عن مقامنا ؛ لأنّها ذكرت أنّ الحامل المقرب لا تطيق الصوم ، أي لا تتمكن منه ، وهذا غير الاطاقة الذي معناه القدرة على الصوم مع المشقة.

والنتيجة : أنّ علماء الإمامية اختلفوا في هذه الموارد الخمسة ( الشيخ والشيخة ، وذو العطاش ، والحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللبن ) وكل من تمكن

ص: 464


1- وسائل الشيعة : ج 7 ، ب 17 من أبواب ما يصح منه الصوم ، ح 1.

من الصوم بمشقة شديدة وحرج عظيم هل يجب عليه الافطار عزيمةً ، كما ذكر ذلك الشيخ صاحب الجواهر (1) وجماعة من الفقهاء ( منهم الإمام الخوئي ) (2) ، أو يجوز لهم الافطار رُخصة ، فإذا صاموا صحّ منهم ، كما ذهب الى هذا الرأي الثاني كل من عبّر بورود الرخصة في إفطار جماعة ، ومنهم المحدث صاحب الحدائق وصاحب العروة ؟ (3).

ملاحظة : لا إشكال في أنّ الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن إذا خافت من الصوم على نفسها أو على حملها فهي داخلة تحت عنوان المرض ؛ لأنّها تخاف الضرر من دون حاجة الى نصّ خاص ، وهو الميزان المريض الذي يجب عليه الافطار والقضاء بعد زوال العذر ( كما تقدّم ) ، وأمّا إذا خافت على طفلها فيجب عليها الافطار من باب مزاحمة حفظ النفس المحترمة وتقدمة على وجوب الصوم عند عدم التمكن من الجمع بينهما ، وهذا واضح.

ما هو دور الطبيب إذا قال بضرر الصوم :

إذا أخبرنا الطبيب العارف بوجود الضرر من الصوم فهل يكون قوله حجّةً يجب اتّباعه ؟

الجواب : أنّ الروايات المتقدّمة - التي جعلت المكلف مؤتمناً على الصوم وأنّه على بصيرة من نفسه ، فإذا رأى من نفسه القدرة على الصوم صام ، وإن وجد من نفسه عدم القدرة على الصوم أفطر ، وكذا الرواية القائلة : « إذا خاف على عينيه

ص: 465


1- جواهر الكلام : ج 17 ، ص 150 حيث قال : « ثم لا يخفى عليك أنّ الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج ونحوه مما يقضي برفع التكليف ».
2- مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، 37 - 38.
3- راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج 2 ، ص 39 ، وكتاب الحدائق الناظرة : ج 13 ، ص 421 ، والعروة الوثقى ، كتاب الصوم.

الرمد أفطر » - جعلت الميزان في الافطار : الضرر الذي يحسّه المكلّف أو خوف الضرر.

وحينئذ إذا أوجد تحذير الطبيب من الصوم عند الانسان خوفاً فيجب عليه الافطار ، وأمّا إذا لم يوجد خوفاً من الصوم - كما إذا اطمأن المكلف بخطأ الطبيب أو علم وجداناً بخطئه - فلا يكون لتحذير الطبيب أيّ أثر. كما أن الطبيب إذا أخبر بعدم الضرر من الصوم ولكن المكلّف أحسّ بالضرر أو خاف منه أو ظن به فيجب عليه ترك الصوم ، لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم خوف الضرر ( كما تقدّم ).

والنتيجة : هو عدم حجيّة قول الطبيب إلاّ إذا أوجد خوفاً عند المكلف من الصوم.

* * *

ص: 466

محتويات الكتاب

حدود : عرفات ، مزدلفة ، منى

أولاً : حدود عرفات... 7

شرح الألفاظ :... 9

1 - نَمِرَة :... 9

قرائن على أنّ نَمِرة من عَرَفَات :... 12

2 - عُرَنَة :... 15

إشكال في تعيين صُغرى عَرَفات :... 16

3 - ثَويَّة :... 17

4 - ذو المجاز :... 19

5 - الأراك :... 19

وجوه الجبال المحيطة بعَرَفَات داخلة في الموقف :... 21

ثانياً : حدود المزدلفة... 22

شرح الحدود :... 24

ص: 467

ثالثاً : حدود مِنى... 26

العقبة هل هي من مِنى ؟... 28

مشكلة الذبح :... 28

خلاصة لكلّ البحث :... 29

أدنى الحِلِّ

1 - الحديبية... 37

ضبط الكلمة :... 37

2 - الجعرانة... 38

الجعرانة وموقعها الجغرافي :... 39

3 - التنعيم... 40

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي :... 41

موقع فخ :... 44

1 - جواب التشكيك من الناحية الفقهية :... 46

2 - جواب التشكيك من الناحية الرياضية :... 47

3 - جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :... 48

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟... 49

البيع قبل القبض

1 - أحكام القبض والإقباض... 53

ص: 468

حقيقة القبض :... 54

2 - هل تختلف صور القبض في الأموال المنقولة عن غير المنقولة ؟... 56

3 - هل النهي عن البيع قبل القبض عام ، أو فيه استثناء؟ وما هي آراء الأئمة وأدلّتهم ؟ 57

4 - هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟... 63

5 - هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟... 65

تنبيهات :... 67

6 - هل يقوم الضمان مقام القبض ؟... 74

7 - شحن السلعة في السفن... 75

8 - بيع السمك في النهر أو البركة... 77

9 - بيع الحطب... 80

العقود المستجدة

مقدمة... 83

تعريف العقود المجتمعة... 86

1 - بيع العينة... 87

2 - الإجارة بشرط التمليك... 89

أ - عقد واحد :... 90

ب - عقدان مع وعد بينهما :... 90

ما هو شرط النتيجة ؟... 91

ص: 469

3 - بطاقة الائتمان... 95

4 - المشاركة المتناقصة... 96

5 - عقد التوريد ( عقد مركب )... 98

تنبيهان :... 101

6 - المناقصات ( مثال للعقود المجتمعة )... 102

وأمّا حكم هذه العقود المجتمعة :... 105

ما المقصود من صفقتين في صفقة ( أو بيعتين في بيعة ) ؟... 108

الإمامية :... 110

إذا قبل المشتري أحد الثمنين :... 114

أثر المواعدة ( التفاهم ) السابقة على العقود المجتمعة :... 115

أ - الكتاب الكريم :... 119

ب - السنّة :... 122

الضمان والكفالة :... 125

أما الشرط... 126

المرابحة للآمر بالشراء

المقدّمة... 131

أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار بالثمن وعدمه :... 131

بيع المرابحة :... 131

كراهة المرابحة :... 132

شروط بيع المرابحة :... 132

ص: 470

المرابحة للآمر بالشراء... 135

الصورة الاُولى :... 135

الصورة الثانية للمرابحة للآمر بالشراء :... 154

الصورة الثالثة :... 154

الصورة الرابعة :... 155

الخلاصة :... 155

مشاكل البنوك الاسلامية وادوات حّلها

1 - المضاربة الشرعية... 161

ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلائم مع أحكام المضاربة الشرعية :... 162

هل يتمكّن المضارِب من تداول سهمه في عملية المضاربة ؟... 167

سحب المضارِب لما أودعه في عملية الاستثمار :... 169

هل بامكان البنك أن يضمن للمودِع نسبةً معيّنةً من الربح ؟... 170

2 - الوساطة في الإجارة والضمان... 171

3 - المزارعة... 172

4 - المساقاة... 175

5 - إعادة التأجير لمالك العين المستأجرة أو لغيره وإجارة... 176

خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها... 176

6 - شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها... 181

صيانة العين المستأجرة :... 183

7 - التأمين على الديون... 187

ص: 471

8 - إقتراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدود 191

9 - بيع الدين ( خصم الكمبيالات أو الشيكات )... 192

10 - الأوراق المالية : « اجرتها ، اقراضها ، رهنها »... 195

11 - إذا كانت معاملات الشركة المساهمة ربوية ، فهل يجوز شراء هذه السهام ؟ 201

12 - ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الاسعار... 202

13 - هل يمكن ربط الدين وغيره بمستوى الاسعار ؟... 205

أقسام الضمان :... 206

وجه آخر لضمان القوة الشرائية للنقد :... 211

هل حكم السلطة المزيدة للورق النقدي كالغاصب ؟... 214

14 - هل تتعلّق الزكاة بالنقود الورقية ؟... 215

15 - الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها... 219

التذكية الشرعية وطرقها الحديث

المقدمة... 223

التذكية لغةً :... 223

التذكية شرعاً :... 224

الشروط الشرعية للتذكية... 226

أولاً : اسلام الذابح :... 226

ثانياً : التسمية من الذابح :... 230

ص: 472

ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :... 230

رابعاً : أنّ تكون الآلة من حديد :... 231

إشكال :... 235

الإجماع على لا بدّية الفلزّ الخاص ( الحديد ) :... 236

هل توجد خصوصية للحديد ؟... 237

التذكية بالمكائن الحديثة... 241

الإشكال الأول : انتساب الذبح للآلة :... 241

الإشكال الثاني : عدم تحقّق التسمية :... 242

الإشكال الثالث : عدم تحقّق الاستقبال :... 242

الإشكال الرابع : الذبح بغير الحديد :... 242

الإشكال الخامس : وهو قطع المنحر :... 243

الاجابة عن الإشكالات الخمسة :... 243

تنبيهان :... 244

طرق اُخرى للتذكية :... 248

1 - تدويخ الحيوان قبل الذبح :... 248

2 - الخنق بالطريقة الانجليزية :... 250

تنبيه :... 252

الآداب الشرعية في التذكية :... 253

حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :... 254

تنبيهات :... 258

الأصل العملي :... 261

ص: 473

حكم اللحوم المستوردة :... 263

المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه قد أخذه من يد الكافر :... 265

خلاصة الب حث :... 267

الاستتئام والاستنساخ

توطئة :... 274

أولاً : الاستتئام... 275

أمّا الاستتئام :... 278

وجهة نظر العالِمَيْن في الاستتئام :... 280

الإشكال على ما قاله العالِمَان :... 282

فوائد الاستتئام :... 282

ثانياً : الاستنساخ... 291

تحريم ولي الأمر :... 299

تحفظ من القول بالاباحة بالعنوان الأولي :... 300

هل تنجح عملية الاستنساخ ؟... 300

خلاصة البحث :... 302

اخلاقيات الطبيب (1)

ما المقصود بسرِّ المهنة ؟... 307

متى يستثنى من وجوب كتمان السرّ ؟... 309

الاسرار المتعلقة بالأدوية القاتلة أو الضارّة :... 311

ص: 474

ما هي العقوبات التي تقع على من كشف سرّ مريضه في حالة المنع ؟... 312

اخلاقيات الطبيب (2)

مسؤولية الطبيب... 315

1 - المبادرة إلى علاج المريض :... 315

2 - عدم التمييز بين الغني والفقير :... 316

3 - إقدام الطبيب على ما تخصّص به ( ما يعرف به ) :... 316

4 - بذل الجهد :... 316

5 - الرفق بالمريض ورفع معنوياته :... 317

6 - غض البصر عن المحارم :... 318

7 - العلاج بغير دواء ، أو بالدواء القليل :... 318

مداواة غير المسلم للمسلم ( استطباب غير المسلم )... 319

هل يمكن أن تقوم نقابة الأطبّاء أو شركة التأمين بدور العاقلة ؟... 320

العلاج الطبي

البحث عن التداوي... 325

أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي... 327

أ - جواز التداوي :... 327

ب - الوجوب :... 327

ج - الندب :... 329

د - المكروه :... 329

ص: 475

ه - المحرّم :... 330

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟... 330

القسم الثاني : التداوي بالنجس أو الحرام بغير الأكل والشرب : ... 335

القسم الثالث : هل يجوز التداوي بالنجس إذا استهلك في شيء آخر ؟... 336

دفع توهّم :... 337

هل يجوز تعطيل عضو من اعضاء الإنسان بواسطة الطبيب ؟... 337

هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟... 347

هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد آخر ؟... 350

هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟... 350

هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟... 351

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :... 352

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :... 353

آراء جديدة في حلّ المشكلة :... 357

ب - لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :... 358

تنبيهات :... 362

التشريح :... 364

في قطع رأس الميت المسلم الحُر مائة دينار :... 364

الجناية إذا لم تكن مقدّرة :... 368

ص: 476

الوارث لا يرث من هذه الدية :... 368

العلاج التجميلي... 369

القاعدة الأولية لعلاج التجميل :... 370

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي :... 371

أحكام الترقيع :... 373

1 - الترقيع من جسم إنسان حيٍّ لجسم إنسان آخر :... 373

2 - الترقيع من جسم إنسان ميّت لجسم إنسان حي :... 374

3 - الترقيع بعضو من أعضاء بدن الحيوان :... 375

العلاج بالرقى ( العلاج الروحي )... 375

من الذي يأذن بالتداوي ومن الذي لا يحتاج إلى الإذن ؟... 382

علاج الحالات الميؤوس منها :... 385

التزاحم في العلاج... 387

ضمان الطبيب... 389

مرض الإيدز وما يترتّب عليه من أحكام فقهية

أسباب مرض الإيدز وانتقاله في العالم... 397

طرق حصر العدوى :... 398

مميزات اُخرى للمرض ومخاطره :... 399

المشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز... 400

أولاً : ما هو حكم عزل المصاب بالايدز ؟... 404

ص: 477

ثانياً : ما هو حكم تعمّد نقل العدوى ؟... 409

ثالثاً : ما هي حقوق المصاب وواجباته ؟... 411

رابعاً : ما حكم زواج حاملي فيروس الايدز ؟... 412

خامساً : ما حكم المعاشرة الجنسية بالنسبة للمصاب بمرض الايدز ؟... 413

سادساً : ما حكم السليم من الزوجين في طلب الفرقة ( فسخ عقدالنكاح ) ؟... 413

سابعاً : ما حكم المرأة في طلب الطلاق اذا كان الزوج مصاباً بمرض الايدز ؟... 414

وجوب الفحص على الزوجين :... 415

ثامناً : ما حكم إجهاض الحامل المصابة بمرض الايدز ؟... 415

تاسعاً : ما حكم حضانة الاُم المصابة لوليدها السليم وإرضاعه ؟... 417

عاشراً : ما حكم اعتبار مرض الايدز مرض موت ؟... 418

الوقاية من المرض :... 419

موجبات الافطار في مجالي التداوي والحالات المرضية

ضابط المفطِّرات... 425

1 - ما هو الأكل والشرب ؟... 426

2 - هل الأكل والشرب الذي يكون مفطراً ينحصر في الطريق العادي المتعارف - وهو طريق الفم - أو يشمل ما يكون من غير الطريق العادي ؟... 427

3 - هل يكون الأكل والشرب مفطراً إذا كان معتاداً ؟... 427

ص: 478

4 - هل العبرة بوصول الطعام أو الشراب الى الجوف أو بدخوله عن طريق الحلق ؟ 429

توضيح وتتميم :... 431

1 - الحقن بواسطة المستقيم أو الإحليل :... 435

حكم الاحتقان عند أهل السنة في المستقيم أو الاحليل :... 438

2 - الدهان التي تستطعم في الحلق بواسطة المسام الجلدية :... 439

3 - التطعيم بواسطة الأوعية الدموية أو العضل مما يصل طعمه الى الحلق :... 440

4 - ما يضخ في اللّهوات تسهيلا للتنفس على المصابين بالربو :... 441

5 - ما تعالج به الطعَنات الجوائف مما يصل الى مستقر الغذاء :... 446

6 - الحجامة وفصد الدم وسحبه هل يضرّ بالصوم ؟... 447

7 - التقطير في العين والأنف والاُذن :... 448

8 - المغذّي في حالة الإسعاف والتداوي :... 450

9 - ما يكون محلّه البطن كادخال المناظير للجوف وأخذ عيّنة من الكبد وغيره : 451

تنبيه :... 452

10 - ما يجعل في المهبل أو الرحم :... 452

11 - ما يدخل الدماغ :... 453

المفطرات في مجالات الحالات المرضية... 453

الضرر من الصوم رافع لصحّته :... 453

ما هو طريق إحراز الضرر ؟... 455

ص: 479

الخوف طريق عقلائي في باب الضرر :... 456

هل المرض الفعلي ( الضرر الفعلي ) مانع من صحة الصوم ؟... 456

ما يوجب الإفطار :... 457

الفرق بين الصور الثلاثة المتقدّمة :... 459

ما لا يبيح الإفطار من الأمراض ممّا لا يتأثر بالصوم أو يخفّ به :... 460

ما يجوّز الإفطار :... 462

ما هو دور الطبيب إذا قال بضرر الصوم :... 465

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.