ليطمئن قلبي

هوية الكتاب

ليطمئن قلبي

الجزء الأول

الشيخ ناصر الحائري

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

سنة 1444ه - 2023م

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

سنة 1444ه - 2023م

ص: 2

ليطمئن قلبي الجزء الأول

اشارة

ليطمئن قلبي

الجزء الأول

الشيخ ناصر الحائري

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 4

الصورة

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي عرفنا نفسه وبصرّنا دينه وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، وصلى اللّه على نبينا محمد الرسول الذي اثار فينا دفائن العقول وعلى وصيّه امير المؤمنين علي وقرينته الطهر البتول وعلى الائمة من آلهم خيرة الفروع والأصول واللعنة على اعدائهم إلى يوم الأفول.

وبعدُ

إن مفردة (عقيدة) مشتقة من المصدر (عَقْد) الذي يعني الإحكام والشد والربط، والاعتقاد بالشيء بمعنى الارتباط الوثيق والانشداد به، ومن يعتقد بنظرية ما فذلك يعني أنه شدّ تلك النظرية إلى ذهنه وربطها وأحكم صلتها به.

ثم إن للعقيدة في الحياة دورا بالغ الأهمية، لأن عقائد الإنسان وقناعاته هي الأساس لجميع توجهاته في الحياة الفردية والإجتماعية، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ}((1)) فعقيدة الإنسان هي التي تحدد عقليته

ص: 7


1- الإسراء: 84.

الباطنية وحقيقته الواقعية وهي التي تحفزه إلى العمل وتحدد اتجاهه في الحياة، فإذا كانت عقيدته صائبة مطابقة للواقع كان طريق حياته صائبا كذلك، أما إذا كانت عقيدته فاسدة باطلة فلا يأخذه طريق حياته إلا إلى الضياع، ومن ثمَّ كان أهم بُعد في رسالة الأنبياء (عليهم السلام) هو تصحيح العقيدة قبل أي شيء آخر.

هذا وقد عُدّت العقيدة في الإسلام هي المعيار لتقييم الأعمال، من حيث صحتها وسقمها ومن حيث قبولها وردّها فحتى الأعمال الصالحة رهينة العقيدة الحقة وتُعدّ فاقدة لقيمتها ما لم تنبثق عن عقيدة صحيحة صائبة، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) : «لا ينفع مع الشك والجحود عمل»((1)).

ومن هذا المنطلق أُريدَ لهذا الكتاب الإشارة إلى أوضح الدلائل والأجوبة على أهم المعتقدات التي يفترض بالإنسان المؤمن أن يعتقد بها عن دليل، وبالطبع ليس المقصود التفصيل ولا الغور في مفاهيم أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد بشكل واسع وإنما الإشارة إلى بعض ما يلتزم به المؤمن الشيعي من مبادئ، سواء منها ما يرتبط بأصل الدين أم بخصوص المذهب وذلك ليكون على بصيرة فيما يلتزم به من معتقد لكشف بعض الضبابية مما يختلج في صدره أو مما يسمعه من تساؤلات لدى أشخاص آخرين.

ولهذا أردت هنا الإشارة موجزاً إلى الدليل الواحد والإثنين في المعتقد

ص: 8


1- الكافي، ج2، ص400.

والمسلك دون التفصيل والإطناب ودون الخوض في سجال مع طرف آخر لأن المقصود هنا هو مجرد طرح الدليل المقنع والكاشف عن سبب اِعتقاد المؤمن بهذا المعتقد أو ذاك، وذلك زيادة في الثبات وبصيرة للنفس وإجابة على ما قد يختلج المرء في نفسه عن بعض هذه المعتقدات وهذه المواقف التي قد تختلف مع بعض المذاهب الأخرى ومن ثَمَّ اسميته بما جاء في كتاب اللّه العزيز وعلى لسان النبي ابراهيم (عليه السلام) {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}((1)).

ولذلك أعددت هذا الكتيب في بادئ الامر لاستدل به لنفسي على ما اعتقد ولمراجعة الأدلة والوقوف عليها، ثم تبلورت العزيمة لأن اضع هذه البضاعة المزجاة بين يدي القارىء الكريم من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) رجاء أن يقف على ما يستدل به فيما يعتقد.

فأخاطبه قائلا:

هل تعرف دليل ما تعتقد به؟

فأنت تعتقد:

أن لك ولهذا الكون خالقًا.

وأنه هو اللّه سبحانه وتعالى القادر على كل شيء وهو سميع عليم.

وأنه عز وجل عادل وحكيم وليس بظالم لعباده.

وأنه سبحانه أرسل الأنبياء والمرسلين وجعلهم معصومين منزهين من الذنوب والأخطاء..

ص: 9


1- البقرة: 260.

فهل يا ترى عندك الدليل على ذلك؟

كما انك تعتقد:

أن نبيك هو خاتم الأنبياء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعتقد بضرورة وجود الإمام المعصوم بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فما هو دليلك؟

انك تعتقد أن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وأولاده المعصومين أئمة مجعولون بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما هو دليلك؟

وتعتقد ايضا أن إمامك الحاليّ هو الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) والذي هو غائب عنك، وتعتقد بظهوره (عليه السلام) يوما ما، فيا ترى هل لك من الدليل على كل ذلك؟

ومما تعتقد به:

هو عالم ما بعد الموت (البرزخ) وكثير من الغيبيات كالملائكة والشياطين، كذلك اعتقادك بالمعاد وحشر الناس بين يدي ربهم ثم الحساب الإلهي.

وان هناك الجنة والنار والصراط وغير ذلك مما تعتقد به، فيا ترى هل يحضرك من أدلة على ذلك كله؟؟

تجد الإجابة السلسة والواضحة والمقنعة من خلال مطالعة هذا الكتاب إن شاء اللّه والذي احتوى على فصول خمسة وهي بحوث في اصول الدين والمذهب كما احتوى جزؤه الآخر على اغلب ما يثار من شبهات او تساؤلات حول الشيعة ومذهبهم.

وللعلم أقول إن كثيراً من الفقهاء يرون ضرورةَ أن تكون المعتقدات

ص: 10

مستندة إلى الدليل المقنع لدى أصحابها وليست هي من الأمور التي يصح فيها التقليد والرجوع إلى الغير.

فمن هذا المنطلق أيضا أضع هذا المختصر المتواضع بين يدي القراّء الكرام راجيا من اللّه تعالى المثوبة لما ينفع بإذنه تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون، ومن اللّه التوفيق والحمد للّه رب العالمين.

ص: 11

قبل البدء

اشارة

قبل البدء في بحوث أدلة الاعتقاد على وجود الخالق وأنه هو اللّه تعالى وأن هناك انبياء ورسلا وجنة ونارا وغير ذلك هنالك سؤال نود طرحه..

والسؤال هو لماذا نفكر بمثل هذه المواضيع ونشغل بالنا بهذا الأمر فلماذا لا ندع ذلك ولا نبالي بشيء منه، ايّما يكون عليه الواقع، سواء كان هناك رب وأنبياء و.. اَم لم يكن شيء من هذا القبيل؟ فلنمارس حياتنا الطبيعية دون أن نخوض هذه البحوث ونشغل اذهاننا بذلك.

نقول - قبل الإجابة على ذلك - إن كل مسلك يُسلك لابد وان يكون لفكرة اتخذها صاحب ذلك المسلك، مسلكا له، ولم يُتخذ ذلك القرار - وإن كان باطلا - عن فراغ، بل لأمر ما، فعلى كل الأحوال يحتاج ذلك المسلك إلى اتخاذ قرار ما، حتى وان كان نفس المسلك قائما على اللامبالاة، فإنا نطرح نفس هذا السؤال على من اتخذ نهج اللامبالاة ونقول له لماذا سلكت هذا المنحى؟ فإذا كانت امام الإنسان عدة خيارات واختار واحدة منها فلابد أن يكون ذلك لمرجّح ما، فالترجيح لأمر ما على خيارات أخرى من دون مرجح لذلك هو أمر باطل عقلا، إذن لابد من انك رجحت سلوك اللامبالاة لأمر ما، ولنفترض لممارسة كل ما تحب دون أن تشغلك فكرة الحرام او

ص: 12

العيب أو العقاب وما شاكل ذلك، إذن ليس هناك نهج ومسلك نسلكه إلا لترجيح فكري له، بغض النظر عن صحة هذه الفكرة وهذه النتيجة وعدم صحتها، فهذا اللامبالي هو نفسه أيضا يخوض طريقا ومسلكا اتخذه لأمر ما وهو يقول لغيره لا تهتم ولا تبال ولكنه في الواقع هو سالك مسلكا اسمه (اللامبالاة) يحتاج من يسلكه أن يقتنع باصل هذه الفكرة حتى يسلكه ويتمسك بأن يبالي أن يكون لا اباليا.

اذن على كل الاحوال لابد من التفكر في النهج والمسلك والرؤية التي يراها الانسان لنفسه ولا يصح القول لماذا اشغل بالي بقضية الاعتقاد و... لانك في الواقع أيضا شغلت بالك ولكن بشيء آخر.

وأما الجواب عن السؤال عن ضرورة الخوض في معرفة المعتقد الحق ومعرفة الخالق وما يتبع ذلك فهو باختصار شديد لدواع عقلية، منها:

1- خطة الحياة وطرق النهج

فإن من أسباب خوض هذا البحث هو الوصول إلى الطريقة الصحيحة للعيش اي السير على النهج الصحيح الذي وضعه خالقنا لنا لأن الذي خلقنا بطبيعة الحال هو اعرف بما ينفعنا مما يضرنا وبعد أن نعرف الخالق ناخذ بتعاليمه التي يرسلها لنا عبر انبيائه ورسله.

2- الأمل واليأس

ثم انه لا يشك الإنسان بأنه عاجز عن كثير من الأمور في حياته ويكتشف ذلك من نفسه بعض الاحيان، كما لو تمرّض بمرض عضال أو وقع في ملمّة صعبة كأن يقع في شباك الظالمين، فكم هو الفارق بين من يشعر أن هناك

ص: 13

قدرة خارقة وقادرة على كل شيء بلا استثناء وبامكان تلك القدرة خلاصه مما هو فيه وبين من لا يتوقع ذلك ولا يؤمن بذلك، فهذا قد ينتحر أو يقتله اليأس والاحباط الذي يقع فيه، بينما يبقى الأول يأمل الفرج بعد الكربة.

3- دفع الضرر المحتمل

كما أن مما لاشك فيه أن الإنسان العاقل بل حتى الحيوان يدرك ضرورة دفع الضرر والاذى عن نفسه، ولو أن ذلك على سبيل الاحتمال، فمثلا لو احتمل أن هناك طريقين في سفره واحدهما يحتمل أن يكون ملغما أو فيه قطّاع طرق أو معرضاً للسقوط، وهناك طريق آخر خال من تلك الاحتمالات بل يحتمل فيه الأمان، فماذا يرجّح العقل وإلى اي طريق يشير؟ بل وحتى الحيوان لا يختار طريقا خطرا فتراه يهرب من النار ومن كل شيء يخافه، ومن المؤكد أن طريق اللامبالاة وترك البحث عن الحق وعدم الالتزام بوجود خالق و... فيه احتمالية العذاب والسقوط، فيوجب العقل على صاحبه تجنب هذا الطريق وسلك الطريق الآخر الذي يبحث فيه عن الحقيقة.

ومما ينسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله شعرا:

زعم المنجم والطبيب كلاهما***أن لا معاد فقلت ذاك إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر***أو صح قولي فالوبال عليكما((1))

4- شكر المنعم

ومن أسباب ذلك هو لزوم الشكر للخالق الذي منحنا الوجود فمن

ص: 14


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص87.

المعروف أن شكر المنعم واجب عقلا وهو أمر فطري يتسالم عليه كل ذي عقل فلابد من معرفة الخالق والتعبد له شكرا على منحه ايانا الحياة وسائر النعم.

5- الثبات وتعزيز العقيدة

ومن أسباب خوض هذا العلم - علم العقائد - هو التثبت وتعزيز الاعتقاد والبصيرة عند الفتنة وعدم التزلزل عند وساوس الشيطان أو مد الفكر المنحرف فهو شبيه بالبنيان الثابت والقوي على أسس ركيزة ومحكمة لا تتضعضع عند الهزاهز والزلازل وذلك لمعرفة الإنسان عقيدته عن دليل لا يستطيع العقل تجاوزه وإهماله، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «ان الفتنة تجيئ فتنسف العباد نسفا وينجو العالم منها بعلمه»((1)).

6- الثواب والدرجات والتقرب إلى اللّه

ومن دواعي ذلك - بخصوصنا نحن المؤمنين باللّه تعالى - هو التقرب إلى اللّه تعالى بالمعرفة، فلاشك أن من يعبد اللّه تعالى - بعد معرفته بدليل وجود الخالق وأنه هو اللّه تعالى الذي يعبده - له تقرب ومنزلة خاصة عنده تعالى، ولذلك وردت الأحاديث في تحريض الإنسان على العلم والمعرفة وأنه بذلك يحصل على عظيم الدرجات. فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم»((2)).

ص: 15


1- تذكرة الاخبار، ص162.
2- تذكرة الاخبار، ص162.

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «اقل الناس قيمة اقلهم علما»((1)).

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من سلك طريقا يلتمس علما سلك به طريق الجنة»((2)).

و عنه ايضا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يوزن مداد العلماء ودماء الشهداء يوم القيامة فلا يفضل احدهما على الاخر، ولغدوة في طلب العلم افضل من مائة غزوة، ولا يخرج احد في طلب العلم الا وملك موكل به يبشره بالجنة، ومن مات وميراثه المحابر والاقلام دخل الجنة»((3)).

وبالتأكيد هناك دواع أخرى إلا اننا نكتفي هنا بهذا المقدار فلابد حينئذ على العاقل من خوض بحوث الاعتقاد للوقوف على الحقيقة والفوز بالنهج الصحيح والذي يكون به الفوز أيضا في الخاتمة دنيا وآخرة بلطف اللّه تعالى.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 16


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

الفصل الأوّل: من بحوث التوحيد

اشارة

1- الدليل على وجود الخالق

2-اللّه عز وجل هو الخالق؟

3- هل مع اللّه إلهٌ آخر؟

4- اللّه قادر سميع عليم

ص: 17

ص: 18

كتاب من بحوث التوحيد

(1) الدليل على وجود الخالق

اشارة

قد تذكر عدة ادلة في مظانها على ضرورة وجود خالق لهذا الكون، ولكن من ايسرها واوضحها دلالة على ذلك لدى الإنسان المتأمل والمتعقل هو دليل الخلق اي المخلوقات والوجودات التي نراها ونحسها في كوننا هذا وما فيها من نظم ودقة و... تدلنا على ضرورة موجد لها.

دلالة الخلق على وجود الخالق

فحينما تراجع قناعتك وما تكتنفه مخيلتك وجوانب أفكارك تجد نفسك منساقا لما يفرضه عليك عقلك بضرورة وجود قوّة وراء ما تراه في هذا الكون الرحب والهائل والمتسع الذي لا يزال في اتساع ولا تزال الأرقام والأعداد لا تقف عند حد لتعداد الكواكب والمجرّات العظيمة والمهولة والرهيبة في انظمتها وأحجامها ودقتها.

فمثلا تصور معي ما ذكروا عن هذه الكواكب والمجرات في زاوية من هذا الكون الرحب والمتسع، فهذا هو الكوكب الذي نسكنه (الأرض) الذي قطره ثلاثة عشر الف كيلو متر وذلك هو القمر الزاهر الذي يدور حول كوكبنا وقطره ثلاثة آلاف وخمس مئة كيلو متر وذلك هو المرّيخ والذي قطره ستة

ص: 19

آلاف وثمان مئة كيلو متر وكوكب الزهرة وقطره إثنا عشر ألف كيلو متر وهكذا هذه الكواكب التي في هذه المجموعة تدور معًا حول الشمس التي بها حياتنا ذات قطر قدره مليون واربع مئة ألف كيلو متر وهكذا كواكب أعظم وأعظم، حتى عجزوا عن عدّ احجامها واقطارها بالملايين من الكيلو مترات، بل ولعظم أحجام المجرات صارت تعد وتقاس احجامها بالسنين الضوئية حيث سرعة الثانية منها 300 الف كيلو متر، وقد ذكر في محله أن المجرة التي فيها مجموعتنا الشمسية والتي تسمى مجرة (درب التبانة) يبلغ قطرها مأة الف سنة ضوئية تقريبا.

وقد ظهر لعلماء الفلك مثل هذه المجموعة الشمسية اكثر من مائة مجموعة وكل احدة منها اكبر من مجموعتنا بألوف المرّات بل اكتشف ملايين المجرّات وفي كل مجرّة ملايين الكواكب ومنها المجرة الحلزونية والتي تبعد عنّا ثلاثة عشر مليون سنة ضوئية وغير ذلك كثير مما لا يزال الأمر في انكشاف مستمر((1)).

فاقول: كيف لعقلي وعقلك الذي أيقن أنّ ساعة جدار بيتك ما كانت لتكون على جداره إلاّ بوضع من واضع وأن مصباح الكهرباء لم يكن في ثريّة سقف حجرتك الاّ بوضع واضع وهذه دارك لم تكن لتكون لولا أن تكون لبناته قد تراصّت فوق بعض بيدي البنّاء والعمال العاملين معه وهذه الاشياء الأخرى التي تشاهدها وتلمسها وتعرفها من أصغرها حجما كالإبرة الى أعظمها كالأبراج والسفن والطائرات وحاملاتها، فلمّا تتأمل وتفكر في هذه

ص: 20


1- كتاب موسوعة الأفلاك والأوقات، خليل أحمد بن عبد اللطيف، ص31-39.

الأشياء تيقن بوجود قدرة وإرادة عاقلة وراءها هي من صنعتها وفق موازين مدروسة ومعايير محسوسة وبذلك آمنتَ وأيقنتَ وعرفتَ كيقينك ومعرفتك بوجود وحقيقة هذه الشمس في رابعة النهار، وبعد هذا كيف لشخص ما أن يكابر وينكر أن يكون خالق لهذا الكون وما فيه من كواكب منتظمة وعظيمة بمنتهى العظمة وكيف له أن يزعم ويقول لا اعتقد بوجود خالق ما؟!

لنا أن تتساءل لماذا يكون معاندا ومنكرا لواقع أيقن بمصاديق له صغيرة وبسيطة يشاهدها! فهو نفسه يعتقد بصانع لها ثم ينكر حقيقة خالق هذا الكون الرحب؟!!

ولماذا حينما يذهب هذا المكابر إلى أماكن أثرية فيرى آثاراً لحضارة ما كأهرامات مصر أو سور الصين العظيم الذي بني منذ سبعة قرون قبل الميلاد أو جنائن بابل أو غير ذلك فلا يتردد حينها من ان يذعن ويسلّم بوجود حضارة كانت وقامت على أياد ماهرة هي التي بنت كل تلك الصروح، فلا يشك بذلك! مع أنه لم يشاهد شيئا من ذلك بأمّ عينه، فكيف له أن يصدّق متيقنا بذلك دون اَيّ تردد وتشكيك ثم يشكك في هذا الكون وما فيه من دقّة غير متناهية ثم يثقل عليه الاعتراف والاذعان بحقيقة وجود الخالق؟!

كيف لا يقنعنك عقلك بوجود خالق عظيم أعظم مما تتصور وأنت ترى هذه العظمة في هذه المخلوقات؟ الآن وأنا أكتب هذه المفردات وأدرك دقة هذا الحاسوب وهذا الجهاز اللوحي وهذه البراعة المتفوقة في هذا العصر وهذا العلم ولا يكابرني عقلي أن اعترف أنّ مهندسا عالما ذا دقّة هو من صنع هذا الجهاز ووضعه بمتناول يدي وأناملي فكيف لي أن اتجبّر وأتكبر

ص: 21

وأعرض عن عقلي ووجداني وأرى هذا الكون الرحب والكواكب العظيمة التي تسبح فيه بمنتهى الدقّة والنظم والتي توفر لي نهارا أغدو فيه لعيشي وليلا أسكن فيه لراحتي وضياءً أسلك فيه دربي ثم بعد كل هذا أشكك في خالق الكون وخالقي! فأنى لعقل بعد كل هذا أن يزعم إنّ كل هذه العظمة والدّقة جاءت من عبث وفراغ وتخبّط وأنها حدثت بانفجار حدث للحظة ما، دون إرادة ودون حكمة؟

نظرية حدوث العالم عبر انفجار

نحن نشاهد الانفجارات التي تحدث ونرى تخلفاتها المتناثرة وأجزائها المبعثرة دون انتظام في أشكالها ولا فوائد مرجوّة منها ويسارع عمال البلدية لينتشلوا أنقاضها ليرموها مع المهملات، كما أننا نرى هذا المصباح الكهربائي لما ينفجر أو الإناء لما ينكسر لم تتحول أجزائهما الى مواد منتظمة ومتزّنة بدقة بل يكون الأمر عكس ذلك تماما، فكيف لعقلي وعقلك أن يتعامى عن كل هذه الدّقة اللامتناهية في هذا الخلق ثم يزعم انه حدث كل ذلك بسبب انفجار لصدفة أو من عبث؟

في الواقع إن الإنسان الذي يتأمل ويحكّم عقله بإنصاف في مسألة وجود الخالق بعد أن يصغي لنداء الفطرة والعقل يجد سخفا وسفاهة في القول بان كل هذا الخلق وهذه الدقة هي ليست من صنع صانع ولا من حكمة قادر مقتدر، وإذا كان هناك رأيان: احدهما يقول: إن كل هذا الكون وما فيه من عظمة ودقة حادثة دون قدرة قادر حكيم بل من صدفة أو إنفجار عبثي، ورأي آخر يقول: بل هو من صنع صانع مدبّر حكيم عليم، فإنك تجد عقلك يعتمد

ص: 22

هذا المعتقد الثاني، ولا شك أن عقلك حجّة عليك وحاكم على تصرفاتك لأنك به تجلب الخير لنفسك وتدفع الشر عنها فلابد لك أنت المنصف وعقلك ونفسك أن تقبل هذا الواقع وهذه الحقيقة.

وما عليك بعد ذلك الا ان تعرض بأُذن صماء عمن يكابر ويتجاهل كل ذلك ليخدع نفسه ويعرض عن عقله ليتحلل ويتحرر من كل القيود الإيمانية ليفعل حيث ما تشتهيه رغباته وشهواته زاعما إنها إنما هي الحياة الدنيا وحسب.

نداء الفطرة

مع أنه يسمع نداء الفطرة ودغدغة العقل لاسيما في ساعات العسر والشدة كما لو انقطعت به السبل وانكسرت به السفن أو كادت تسقط به الطائرة، وهذا هو بنفسه دليل آخر على ضرورة وجود الخالق.

فمما يدركه الإنسان في باطنه من قناعة على ذلك هو ايضاً بسبب الفطرة التي فُطر عليها المودعة عند كلّ إنسان وهي ترشده إلى الحق دائما، لأن افراد البشر جميعا يشتركون بالإلتزام بنداء الفطرة فمثلا لا يختلف إثنان على حسن الصدق والأمانة ومساعدة المحتاج وفضيلة العلم وحسن الشجاعة والكرم وأمثال ذلك وهي أمور أطبق على صحتها جميع الناس مما يظهر واقعية وأحقية هذه المعاني، كذلك الشعور بالخالق الذي هو مبدأ خلقنا والقادر على كشف كربنا وتبليغنا أمنياتنا، لذلك نجد نسبة كبيرة جدًا من أفراد البشر يدركون ذلك كالمؤمنين باللّه تعالى من أصحاب الأديان السماوية أو من عبدة الأوثان وعبدة الحيوانات والكواكب وغيرهم، تراهم لا

ص: 23

يختلفون على ضرورة وجود الخالق والمعبود وإنْ اختلفوا في تشخيصه وليس هناك إلا الشاذ النادر الذي يدعى بالملحد الذي يقول بوهم الإله، بل وحتى مثل هذا لو ناقشناه في ما يقول لرأيناه أيضا يعتقد بسبب ومنشىء كان وراء الخلق ونحن نسميه الخالق وهو يسميه بتسمية ما وربما يدرك بعض الأحيان حقيقة ذلك إلا أنه يكابر.

إشارة الإمام الصادق الى نداء الفطرة

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلى هذا الواقع حينما سأله سائل عن اللّه تعالى فقال للسائل: هل ركبت سفينة قط قال: بلى، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، قال: فهل تعلق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: بلى، قال الصادق (عليه السلام) : فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي، وعلى الإغاثة حين لا مغيث((1)).

من وحي الشيطان

ثم هاهنا وسوسة ربما هي من وحي الشيطان حيث يوحيها في بعض الأذهان وهي أن يتساءل بعضهم قائلا: طالما اعتقدت أن الأشياء لابد لها من صانع وخالق فلماذا لا ينسحب ذلك الكلام الى نفس الخالق أيضا سبحانه وتتساءل عن موجد له؟

والجواب: إن الكلام والنقاش في المخلوقات التي افتقرت في وجودها

ص: 24


1- بحار الأنوار، ج64، ص137.

الى موجد ومنها الإنسان الذي يدرك بتمام قواه الادراكية أنه مخلوق وليس بخالق لنفسه، وليس الكلام هنا عن حقيقة الخالق وإذا افترضنا للخالق نفسه خالقا آخر اذن عددناه مخلوقا وليس بخالق.

ثم انه سيأتي الكلام من أن الخالق ليس من صنف المخلوقات فهو ليس بجسم ولا مركب من أجزاء ولا يشغل حيّزا ومكانا وهو كما في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «هو شيء بخلاف الأشياء»((1)).

ولو اعتقدنا أنه سبحانه مثل سائر الأشياء للزم أيضًا افتراض خالق آخر له وذلك الخالق الآخر احتاج الى خالق آخر أيضًا وهكذا نستمر في السلسلة ولا نصل الى نتيجة لان التسلسل أمر باطل ومحال عقلًا فالعقل يوجب أن يكون هناك موجد لهذه السلسلة من الموجودات المحتاجة الى الخالق وذلك الموجد والخالق خارج عن تلك السلسلة وهو كائن بنفسه غني لا يفتقر ولا يحتاج الى شيء مطلقا بحيث لا يرى العقل ضرورة أن يكون له موجد آخر.

وطبعًا للأنبياء والرسل أيضا دور بالغ في إثارة العقول للتفكر والتأمل للوصول إلى هذه النتيجة وهذا من لطف اللّه تعالى على الإنسان حيث زوّده بالعقل حجّة باطنة عنده وأرسل إليه الأنبياء حجة ظاهرة أخرى (يثيروا لهم دفائن العقول) كما في نهج البلاغة((2)).

ص: 25


1- الكافي، ج1، ص83.
2- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
جواب آخر

كما يمكن أن يقال في الجواب أيضا ان مسؤوليتك الملقاة على عهدتك في هذه المرحلة أن تعتقد أنّ لك ولهذا الكون خالقا ستعرف في المرحلة الأخرى أنه هو اللّه تعالى حتى تمتثل أوامره وأما السؤال عن أن هذا الخالق هل له خالق آخر أم لا فلستَ مسؤولاً عنه وإن كانت الإجابة على ذلك ذُكرت في الجواب الأول، وطبعا لا يتناسب هذا المختصر مع توضيح الإجابة المفصلة والتي تذكر في مظانها.

منطق العقل

هذا ويمكن القول أيضا أن يخاطب الإنسان نفسه ويقول:

اولا: انني محكوم بسبب عقلي وما وصلني من رسالة الأنبياء ببراهينهم وادلتهم من أن هناك خالقا لي وعليّ عبادته لتبرأ ذمتي.

ثانيا: ولكي انجوَ من خطر الكفر وما ذكر له من عاقبة العذاب الأليم الشديد لابد من القول بالخالق.

ثالثا: وحتى لو كان هذا الأمر - العقاب الأليم - احتمالا فالعقل يقول بضرورة دفعه.

ثم بعد ذلك لا يضرني لو عرفت أم لم أعرف الإجابة على تلك الوسوسة الشيطانية أو التساؤل (من خلق الخالق؟) والذي قد لا أدرك جوابه العلمي من أنه سبحانه وتعالى منزه عن كل ما يحتاج الى الخلق من المادة والمكان والزمان وانه عز وجل شيء خلاف الأشياء غني بنفسه عن كل شيء.

ص: 26

واخيرا

أختم هذا الكلام ببعض آيات القرآن الكريم وحديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) . قال اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 29 ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ 30 أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَٰتِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ 31 وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بَِٔايَٰتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ}((1)).

ويقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِن مَّاءٖ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٖ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}((2)).

و أيضا نتبرك برواية عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد روي أنه: سئل (عليه السلام) عن إثبات الصانع، فقال: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه

ص: 27


1- لقمان: 29-32.
2- البقرة: 164.

الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟((1))((2)).

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 28


1- بحار الأنوار، ج33، ص55.
2- نسب هذا المعنى أيضا الى أعرابي وقد سئل عن الدليل على الخالق فأجاب بمثل هذا، ومما علّق به الملحدون على هذا الكلام وشبهه أن هذا لا يصح دليلا لأن الاعرابي اساسا يعلم سابقا أن هذه البعرة هي براز للبعير لأنه قد شاهد ذلك مرارا ونحن لم نشهد اللّه يخلق هذا الخلق حتى تدل هذه الآثار على وجوده، والجواب هو أن هذا المثال واشباهه يراد منه القياس عليه بأن كل ما نراه من آثار تدل على مؤثر ما، سابق على ذلك وبصنعه حدث هذا الأثر بغض النظر عن أننا عرفنا المؤثر سابقا على ذلك ام ما عرفناه، والمقصود هو أن هذا الأثر الصغير علمنا له صانعا فكيف يمكن انكار وجود الصانع لمثل الآثار العظيمة كالمجرات، وهي إشارة إلى قضية بديهية عقلية يسلّم بها كل عاقل، وأما من هو المؤثر فذلك يكون الاستدلال عليه في مرحلة لاحقة، حينما يكون الحديث عن عظمة هذه الآثار ودقة نظمها بحيث لا يتعقل أن يكون الخالق لها واحدا من اشباهها وهكذا في مرحلة دلالة الدليل على بعثة الانبياء ودلائل صدقهم واخبارهم عن المرسل لهم والخالق وهو اللّه عز وجل.

(2) اللّه عز وجل هو الخالق؟

اشارة

بعد أن أرشدك عقلك إلى ضرورة وجود خالق لك ولهذا الكون، تتساءل ونفسك يا ترى من هو خالقي وخالق هذا الكون؟

قبل كل شيء تقول وبكل يقين إنك لم تخلق نفسك، هذا واقع تدركه بوجدانك، كما لم يخلقك أبواك، فهما وإن كانا ضمن حلقة مسببات وجودك إلا أنهما مثلك مخلوقان، وكذلك غيرهما من أفراد الإنسان من ملوك أم علماء أم عظماء أم كائنا من كان، فانت تعلم بوجدانك أنهم مثلك لم يكونوا يوما ثم كانوا من أبوين عاجزين عن خلق ولدهما، ولو كان الأبوان هما من يخلقان الولد لما بقي كثير منهم عقيمي الإنجاب ولاختاروا لأنفسهم من الذكور أو الإناث مما ينجبون ولعلموا ما في بطون الأمهات قبل الإنجاب أو عند انعقاد نطفة ولدهم، بل نفس الأب يعلم بيقين وبوجدانه أنه ليس الخالق لولده لأنه لا يعرف شيئا من مستقبل ما ستؤول إليه تلك النطفة بل ويعلم أن تلك الحيامن والحيوانات المنوية هي ليست من صنعه.

ص: 29

وهكذا تقول ونفسك لا يمكن أن تكون بعض هذه المخلوقات التي نراها هي الخالقة لك لأنها بنفسها صنيعة غيرها بل أنت كونك انسانا فلا شك انت أشرف منها وأعظم منها صناعة وخَلقا، فهل تكون هذه الحجارة (الصنم) أم هذا الحيوان (البقر) أو غيرها هو الخالق لك!! مع أنك تراه أشدّ عجزا وفقرًا واحتياجا منك!! كيف يكون خالقك وصانعك! بل قد تكون انت من يصنعه (الصنم) كما أنك من يطعم ذلك الحيوان فكيف لك أن تعتقد أنه ربك أو خالقك؟

ثم إنك لمّا تتأمل هذه الكائنات والكواكب فتجدها عظيمة في أحجامها وهيئتها ولكنك لا تشك أنها أجسام وأحجار وكائنات من الجماد مخلوقة مثلها مثل غيرها لأنها مركبة من أجزاء وذرات وأنها متحركة تسبح في هذا الفضاء فهي بحاجة إلى من يحركها فضلًا من أنها جمادات عديمة العقل والقدرة على الخلق والصنع فكيف تكون خالقة لهذا الإنسان الذي هو مُزوّد بهذه القدرة الجبّارة وهي قوة العقل؟! ومن المعلوم أنها فاقدة لقوة التعقّل وأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف خلقت الإنسان ذا العقل والإرادة وهي عديمة ذلك!! ولعل الى هذا أراد أن يشير النبي ابراهيم (عليه السلام) حينما رأى تلك الكواكب وقال ما قال، كما حكى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ ٱلْأفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَءَا ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ

ص: 30

قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}((1)).

ويقول تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَٰلِقُونَ}((2)).

و في هذه الآية سؤال ينتهي بالانسان الى الإيمان باللّه تعالى حينما يتوقف عنده ويتأمله، والسؤال هو من خلقك؟

هل انت لم تُخلق بعد؟ كيف وانت موجود!

هل انت خُلقت من دون خالق لك؟ كيف ولابد لكل مخلوق من خالق؟

هل انت خلقت نفسك؟ بالتأكيد انت تعلم ليس كذلك بل هو محال، فلا مناص من القول بخالق خلقنا.

ويبقى سؤال واحد بعد الاذعان بضرورة الخالق هو من هو هذا الخالق؟

اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق لا غير

وعلى اَي حال لا يمكن لأي كائن من هذه الكائنات والمخلوقات التي نراها ان تكون هي الموجدة والخالقة لهذا الكون العظيم في رحبه ودقة نظمه كما لا يمكن أن يكون هو الخالق لهذا الإنسان وما فيه من قدرات عظيمة ودقيقة في صنعه وما فيه من قوىً رهيبة مثل قوة البصر واللسان وقوة الذائقة والعقل وقوة التفكر وهذه الجوارح والجوانح في بدنه فهي ليست من صنع إنسان أو نبات أو جماد بل هي من صنع آخر، لاسيما إذا توقفنا عند

ص: 31


1- الأنعام: 76-79.
2- الطور: 35.

المعلومات العظيمة التي تتحدث بشيءٍ من التفصيل عن أرقام مهولة من خلايا واجزاء وتفاصيل باتت جلية لذوي الاختصاصات العلمية في اعضاء هذا الإنسان في خصوصيات جوارحه من عينه وأذنه ودماغه أو أي جزئية من ذلك مما ذكروا في مظانه، كذلك غير الإنسان من هذه المخلوقات العظيمة في دقائقها التي تذكر في محله، فكيف يتصور لها خالقا فاقدا للإرادة والقدرة يكون شأنه شأن واحد من هذه المخلوقات من الجمادات أو الحيوانات أو مما هو بنفسه مفتقر لموجد له من حيث انه لم يكن سابقا وكان لاحقا اي خٌلق بعد أن كان معدما.

فإذن ليس في هذا الكون مما نراه يصلح أن يكون خالقا لك أيها الإنسان أو لغيرك، فمن هو ربي وربك وخالقي وخالقك؟!

دلالة الرسل على الخالق

لقد لطُف بنا الرّب والخالق حيث أرسل إلينا الرسل والأنبياء ومكّنهم من المعاجز والقدرات الهائلة لتكون آيات ودلائل باهرات تدلل على أنهم (عليهم السلام) مرسلون من قِبَله تعالى ليرشدونا إليه عز وجل، إلى ذلك الخالق الذي تنشده العقول، ولما بُعث الانبياء ورأينا كلامهم منسجما مع ما يفتش عنه العقل والفطرة ولاحظنا وحدة دعوتهم في القضية التي بُعثوا فيها، حيث جميعهم من لدن آدم (عليه السلام) والى الخاتم محمد المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما تخلل تلك الفترات الزمنية من آلاف الأنبياء اتحدت دعوتهم إلى عبادة الخالق الواحد الأحد (اللّه عز وجل) المرسِل لهم داعمين رسالتهم بالآيات والمعاجز الدالّة على قدرات خارقة ليست هي إلا من قدرة الخالق مثل

ص: 32

إحياء الموتى وانفلاق البحر وانشقاق القمر مما يستحيل أن تكون من قدرات البشر، كما أنه لا يمكن اتفاقهم جميعا على أن يكذبوا في إدعاء واحد يدّعونه من كون اللّه تعالى هو الخالق مع اختلافهم في فترات ازمنتهم، فدلّ ذلك جميعا على أن الذي أرسلهم هو الخالق الواحد وهو اللّه عز وجل وهو الرب الذي يجب أن يُعبد وليس هناك إله آخر.

وبذلك تحتّم عليك أن تؤمن به لانّ الحجّة تمّت والدليل أُقيم عليّ وعليك، فهذا عقلي وعقلك حجّة وهؤلاء الأنبياء حجج الخالق علينا بما جاؤوا من آيات وعلامات أرشدونا إلى أن اللّه عز وجل هو ربنا وهو خالقنا لأنه هو من أرسلهم وله تكون عبادتنا وليس هناك إله آخر لأن ذلك لا يمكن أن يكون عقلًا - كما سيأتي - فضلا عن انه لم يأتنا رسل وأنبياء آخرون عندهم من الدلائل يدعوننا إلى إله غير اللّه تعالى، وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لولده «واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله»((1)).

وخلاصة القول: بما أن العقل حكم بضرورة وجود خالق وأنه لا يمكن أن يكون هو احداً من هذا الكون المرئي وبما أن الأنبياء بمعاجزهم وآياتهم برهنوا على أنهم مرسلون من عند اللّه عز وجل لزم عليك وعليّ أن نذعن بذلك ونعتقد بان اللّه تعالى هو خالقنا لا غير.

وقفة تأمّل:

كثيرة هي الآيات التي تتحدث عن هذا الكون والخلق العظيم، وهي

ص: 33


1- نهج البلاغة: الكتاب 31.

بذلك تدعو الإنسان للتأمل والتفكر ومراجعة العقل ليكون العقل هو الدليل إلى اللّه تعالى مستعينا بما يذكّره القرآن الكريم به، ففي ختام هذا الفصل نتأمل معا كلام اللّه عز وجل في كتابه الكريم:

قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ}((1)).

تأمّل قوله تعالى: (يُطعِم ولا يُطعَم) فهو عز وجل ليس كهذه المخلوقات الفقيرة والمحتاجة لغيرها وبذلك يتميز الخالق عن المخلوق.

وقال تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ 71 قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٖ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}((2)).

قوله تعالى: (الليل سرمد اً) (النهار سرمداً) سرمداً أي دائماً، إنّ بقاء الليل أبداً ودائماً أو بقاء النهار كذلك يعني توقف دوران الأرض حول نفسها ليبقى طرف منها مواجها للشمس فيكون نهاراً وطرفها الآخر ليلاً، فمن يقدر على هذا التصرف الكوني ليوقف حركة الأرض حول نفسها غير اللّه تعالى، وكأن اللّه سبحانه يدعو الإنسان للتأمل في هذا الكون كيف يتعاقب فيه الليل

ص: 34


1- الأنعام: 14.
2- القصص: 71-72.

والنهار وهل يقدر على إيجاد هذا النظم الدقيق والمتقن في هذه الكواكب العظيمة أحدٌ غير اللّه عز وجل وهل يمكن لأحد وشيء مما يزعمه المنكر للّه تعالى أن يخلق مثل هذا الخلق العظيم وما فيه من تدبير ودقة، فكيف يُتخذ غير اللّه تعالى إلهاً؟؟؟!!!

هذا فضلا عن الآيات القرآنية التي تحدثت عن الكون وما فيه من نظم اذعن له العلماء مما يدّل على صدق رسالة الأنبياء الذين دعوا إلى عبادة اللّه الواحد الأحد((1)).

ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّٖ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ}، حيث بيّن المحققون من علماء الفلك ان للشمس ثلاث حركات واحدة محورية تتمها الشمس حول نفسها، وثانية انتقالية وهي حركتها مع كامل منظومتها بدورة انتقالية حول مركز مجرتنا، وحركة ثالثة تباعدية، حيث ذكروا ان المجرات بما فيها تتباعد بعضها عن بعضها ودُعي ذلك باسم الأتّساع الكوني، ولعلّ إلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَٱلسَّمَاءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيْيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}((2))((3)).

وبهذا التأمّل يطمئن القلب أنّ الخالق هو اللّه تعالى لا غير.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 35


1- يس: 38.
2- الذاريات: 47.
3- يلاحظ كتاب موسوعة الأفلاك والأوقات، خليل أحمد عبد اللطيف، ص43.

(3) هل مع اللّه إلهٌ آخر؟

اشارة

بعد أن دلني عقلي على ضرورة وجود خالق ما وارشدني إلى ضرورة أن لا يكون احد هذه الكائنات لأنها مسبوقة بالعدم وبعد ان جاء الأنبياء والرسل ببراهينهم وآياتهم وارشدوني إلى أن الخالق هو اللّه تعالى الذي أرسلهم ومكّنهم من تلك المعاجز فآمنت به عز وجل خالقا لي بعد تمامية الحجة عليّ بدلالة العقل والنقل، بعد كل ذلك قد يقول قائل:

انا مؤمن بوجود خالق ما ولا امانع أن يكون هو اللّه تعالى ولكن ما المانع أن يكون هناك خالق آخر أيضا وله عباده ومخلوقاته فما هو المانع من ذلك وما هي المشكلة؟

ما هو المانع من وجود إلهٍ آخر
اشارة

هناك إجابات عديدة نذكر هنا بعضها

الأول: لا يكون الإ له محدّدا

هذا جواب بحاجة إلى تفصيل وتوضيح وليس هذا محله ولكننا نذكره بايجاز ومن أراد التعمق فليراجع الكتب المخصصة في ذلك، ونقول في توضيحه:

ص: 36

ان الخالق الذي لم يُخلق لا يٌحدّ بحد وليس هو مركبا من أجزاء والا كان محتاجا إلى أجزاءه وكان كسائر المخلوقات الأخرى المحتاجة إلى خالق لها فإذا فرضنا وجود خالق آخر إضافة إلى الخالق الأول وجب أن يكونا متميزين عن بعضهما حتى تحصل التعددية اذ لا يمكن التمييز بينهما إلا إذا حُدد كل منهما بما يميزه ويفصله عن الاخر وبعد تميزهما لزم ان يكون لكل منهما مكان غير مكان الآخر فبهذا الفرض عٌدّ كل منهما متكونا من اجزاء تحدّه وبذلك لزم أن يكون هناك مكان سابق على وجودهما حتى يحلّ كل منهما بمكانه ولا يمكن فرض هذا المكان السابق عليهما الا ان نفرض خالقا آخر خلق هذا المكان من قبل، فإن كان ذلك الخالق مثل هذين فيلزمه احتياجه الى ما يحدده والى مكان ثالث وهكذا تتكثر الآلهة والامكنة لها بهذه الفرضية لا إلى نهاية، واما إذا لم يكن الخالق السابق مثلهما اي لم يكن محددا ولم يحتج إلى ما يحده ويميزه فهو الخالق اذن وهما مخلوقان له وبذلك عدنا إلى إله واحد.

هذا فضلا عما قلنا أنه لو فرضنا الخالق محدودا ومميزا خرج عن كونه خالقا إلى مخلوق لافتقاره على أقل تقدير إلى ما يميزه عن الخالق الآخر مع أن الفرض في الخالق كونه غير مفتقر إلى شيء قط لأنه لو احتاج الى شيء لزم أن لا يكون قادرا على كل شيء ولزم أن يكون غيره خالقا للشيء المحتاج له وبذلك يتحول هذا المفترض به خالقا الى مخلوق، ومن ثمة تعد العقيدة الحقة أن اللّه تعالى ليس بجسم ولا يحدّه حدّ وليس بحاجة إلى مكان ولا زمان فهو القادر على كل شيء بذاته والغني عن كل شيء وهو

ص: 37

الخالق الذي يَخلق ولا يُخلق.

وقد يقول قائل إن بعض المسلمين يقولون بجسمية الخالق وأنه على العرش وأن له وجها ويدين وغير ذلك وعليه فهو مميز ومحدود ومع ذلك يقولون بوحدانية الخالق؟ فالجواب أنهم أخذوا بظاهر بعض آيات القرآن وتركوا آيات أخرى فتمسكوا بظاهر قوله تعالى: {عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ}((1)). ولم يقفوا متأملين على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}((2)). والذي هو يتفق مع دليل العقل ولو فرضنا له جسما اصبح له مثيل ونظير حاله حال كثير من المخلوقات، مع أنه سبحانه وتعالى نفى أن يكون له مثيل.

هذا كله فضلا عن أن العقيدة بوجود الخالق ووحدانيته دليلها الاساس والاول هو العقل وأما الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة فهي تعد مؤيدة لدلالة العقل.

ومع كل هذا يمكن أيضا لمن يعتقد معتقدهم أن يستدل على وحدانية الخالق عزو جل بالأدلة الاخرى مما يأتي وغيرها.

الثاني: فاقد الشيء لا يعطيه

ان نفترض أن الإله الآخر هو واحد من هذه الكائنات التي يعبدها بعض الناس من الاصنام أو الحيوانات أو الاشياء التي نراها ونلمسها مما نعرف حقيقتها من أنها مصنوعة بيد الإنسان أو أنها فاقدة للوعي والادراك، ونحن

ص: 38


1- طه: 5.
2- الشورى: 11.

ندرك بعقلنا أنها فاقدة للتدبير وفاقدة لما عند الإنسان من قدرات كالعقل والتكامل والتطور، فكيف تكون هي المعطية للإنسان هذه القدرات مع انها فاقدة لها؟ فإن فاقد الشيء لا يستطيع اعطاءه لغيره لأنه هو بنفسه فاقد له، فكيف يكون شيء من هذه المخلوقات التي هي اقل قدرة من قدرة الإنسان العقلية والادراكية هو الخالق لهذا الإنسان؟!

ثم إن هذه الأشياء التي نراها ونحسها مما يزعم أنها هي الخالق عند بعض الاديان كالبقر أو النهر أو الصنم أو أي شيء مرئي محسوس مما يتصور فطالما هي محددة فهي مخلوقة لأنها لا تختلف عن سائر المخلوقات الأخرى، فضلا من أننا نعلم يقينا بمخلوقية بعضها كالحيوانات والاصنام حيث نعلم أنها لم تكن من قبل ثم ولدت بعد ذاك كما أنها سوف تموت أو نعلم أننا نحن من صنعناها او صنعها غيرنا، فكيف تكون هي من خلقتنا؟ وحتى الكواكب والمجرات وما شابه فكذلك دلّت العلوم على أنها لم تكن يوما ما ولو قبل مليارات السنين ثم صارت بعد ذلك اي أنها خُلقت بعد ان كانت معدومة او كانت شيئا آخر.

وكذلك نحن لا نشك أنها فاقدة لمثل قدرة الإنسان العقلية والادراكية، لأنها صحيح أنها عظيمة جدا في احجامها الا انها وبالتالي معدودة من الجمادات لا أكثر فلماذا نعدها إلها ونحن نعلم أننا أشرف منها لما لنا من عقل وارادة وادراك وهي فاقدة لها؟!.

الثالث: اتفاق الأنبياء على إله واحد

إن الأنبياء والرسل جاؤونا بالدلائل والآيات الدالة على أنهم مبعوثون من

ص: 39

قبل إله واحد لا شريك له كما اخبروا ولم تأتنا رسل من إله آخر حتى نفترض ذلك، وبعبارة أخرى أننا قد الزمنا عقلنا بضرورة وجود الخالق واخبرنا الأنبياء بالدلائل انه هو اللّه تعالى وحده لا شريك له وبذلك تمت الحجة علينا ولزمنا قبول ذلك وأما فرضية وجود اله غير اللّه تعالى فلم يدلنا عليه لا عقل ولا نبيّ مرسل، كما مرّ في كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده «و اعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله»((1)).

الرابع: التوافق والاختلاف

لو افترضنا وجود الهين أو أكثر فإما نفترض أنهما يتفقان على خلق كل شيء يخلقانه أو انهما يختلفان في ذلك، وليس هناك احتمال غير هذين الفرضين، فنقول:

اولا: لو فرضنا أنهما قد يختلفان فيما بينهما فهذا لاشك يؤدي إلى الفساد في الخلق على فرض امكانية ذلك، فلو أن أحدهما يريد خلق شيء ما والآخر لا يريد خلق ذلك الشيء فإن تمكن أحدهما مما يريد ولم يتمكن الآخر فهذا دل على أن المتمكن هو الإله وأما الثاني فليس كذلك إذ تبين أنه غير قادر على ما يريد، ولا يمكن فرض تمكن الاثنين معا لأن أحدهما يريد الإيجاد والآخر يريد عدم الإيجاد والوجود وعدمه متناقضان يستحيل جمعهما وتحققهما معا في آن واحد فإما أن يتحقق وجود ذاك الشيء وهو خلاف مراد الآخر واما أن لا يتحقق وجوده بل يبقى معدما وهو خلاف مراد

ص: 40


1- نهج البلاغة: الكتاب 31.

الإله الآخر ولا يمكن وجوده وعدمه في آن واحد، اذن لا يمكن أن يكون الهان مع فرض امكانية تخالفهما ونزاعهما، هذا هو الفرض الأول وهو فرض اختلافهما في الخلق.

ثانيا: لو فرضنا أنهما الهان وخالقان إلا أنهما متفقان على كل شيء ولا يحدث بينهما اي اختلاف فما هو الاشكال في ذلك؟

الجواب على هذا الفرض هو أننا قد افترضنا في ضمن هذا الفرض موافقة كل منهما على مراد الآخر وبذلك قررنا أن كلا منهما محتاج إلى موافقة الآخر في خلقه وهذا الاحتياج بنفسه دليل على فقرهما والمفروض بالخالق أنه غني وقادر على كل شيء ولا تتوقف ارادته في خلق شيء على إرادة أخرى خارجة عن قدرته ونحن بافتراضنا التوافق بين الخالقين عددناهما ملزمين على أن لا يخلق أحدهما شيئا دون موافقة الآخر فهما حالة من حالتين، اما بالفعل ملزمان بذلك فهما اذن يحتاج كل منهما في خلقه لإرادة الآخر أيضا وبذلك خرجا عن القادرية على كل شيء باستقلال منهما، وإما غير ملزمين بالتوافق وهذا يعيدنا إلى الفرض الأول وهو كونهما غير متوافقين ويمكن اختلافهما وبذلك يقع الاشكال السابق من عدم امكانية الجمع بين ارادتيهما معا لأن النقيضين لا يجتمعان كما بينا.

هذا فضلا من أن أحد الخالقين اذا اقتضت حكمته خلق هذه المخلوقات فَقد وُجدت بحكمته وبوجودها لا يمكن للآخر ايجادها من جديد لأنها موجودة بالفعل ولا معنى لإيجادها بعد وجودها وكما قالوا هو تحصيل للحاصل وهو محال، فلا يمكن تصوّرُ خالق آخر غير اللّه تعالى.

ص: 41

قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}((1)).

وقال عز من قائل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}((2)).

الخامس: وحدة الخلق

من الأدلة على أن الإله واحد لا إله غيره هو وحدة الخلق، أي النظم القائم بين هذه المخلوقات في هذا الكون فان السموات والأرض وما فيهما لفي وحدة متناسقة تسبح وتدور في فلك دون أن يحدث فيها ايّ اصطدام أو تخلف عن سيرها وكأنها أجزاء في ماكنة واحدة، أو أعضاء في جسد واحد أو لبنات في بناء متناسق، كل لبنة منه في مكانها الصحيح، وهكذا كل شيء إنما هو بمقدار كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٖ}((3))، فهذا السير المنتظم لهذه الكواكب والذي هو بسبب الجاذبية التي أودعها بارعها في خلقه وهذه الحركات والسبح في الكون بشكل مترابط لهو أدل دليل على أن بارئها وخالقها واحد ليس اكثر فإن خالق الأرض الذي حكم عليها دورانها حول نفسها ليتكون الليل والنهار ويمكن حساب الايام هو نفسه خالق القمر الذي الزمه الدوران حول الأرض لتتكون الأشهر وحسابها وهو نفسه خالقهما وخالق

ص: 42


1- المؤمنون: 91.
2- الأنبياء: 22.
3- القمر: 49.

الشمس الذي قرر دوران الاثنين حولها لتتم الفصول الأربعة ويتحقق حساب السنين، ولو كانت هناك آلهة متعددة لتعددت الإدارة لهذا الخلق وهذا الكون ولوقع تدافع وعصيان بين بعضها وبعض ولذهب كل إله بما يرى كما قال سبحانه: {لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ}((1))، فنظرة متأملة للكتاب الكوني اعني هذه الكواكب والنجوم التي حولنا من شمس وقمر وأرض نحن عليها وما فيها من تناسق وتكامل تجعلك تذعن بوحدانية الخالق كما أن نظرة متأملة لكتاب اللّه في آياته القرآنية تجعلك مذعنا أن منزل هذه الآيات والكلمات هو نفسه خالق تلك الآيات الكونية من سماوات وارضين وما بينهما، قال سبحانه وتعالى في سورة ياسين: {وَءَايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ 37 وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّٖ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ 38 وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلْعُرْجُونِ ٱلْقَدِيمِ 39 لَا ٱلشَّمْسُ يَنۢبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ وَلَا ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٖ يَسْبَحُونَ}((2)).

فعلى كل الأحوال والفروض لا يمكن تصور اكثر من إله واحد خالق قادر على كل شيء غني مستقل بقدرته والا خرج عن كونه إلها وصار مخلوقا.

وبالطبع هناك من الاستدلال على وحدة الخالق عز وجل غير ما ذكر أيضا ولكننا نكتفي بهذا بما يناسب هذا المختصر.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 43


1- المؤمنون: 91.
2- يس: 37-40.

(4) اللّه قادر سميع عليم

اشارة

يعتقد الإنسان المسلم أن اللّه سبحانه وتعالى قادر على كل ما يريد وهو عليم بمخلوقاته وبذلك يكون جلّ وعلا عليما بكل سرائر ومكنونات العبد.

و مما يدل على ذلك أمران:

الأول: الصنع المتقن والعظيم

حينما يتأمل العقل هذا الخلق ويرى أن اللّه عز وجل صنع الأشياء المتقنة، وأبدع المخلوقات الفائقة في عظمتها مما لا يمكن ذلك إلا بقدرة قادر جبار وبعلم عليم ليس كمثله شيء، وحينما تفكّر في هذا الخلق العظيم وهذه المجرات والكواكب التي تسبح في هذا الفضاء الرحب وأحجامها وقدراتها وما يتمخض منها من تأثير ودور في استمرار الكون والحياة أيقن أن اللّه تعالى قادر على كل شيء عظيم في قدرته مما لا يقاس بها قدرة قادر غيره.

وهذا مما يحكم به العقل، فلو انك تأملت داراً جميلة ذات أبعاد متناسقة وأسس محكمة و.. لا تشك ان لها مهندساً خبيراً بالبناء والتخطيط، وكذلك صانع الماكنة الدقيقة المحكمة لا يكون إلا عالماً بكل دقائق وأجزاء ما صنع، فكيف يمكن أن يكون صانع الإنسان بهذا الإتقان المدهش، وبهذه الكيفية الدقيقة وما فيه من الترابط والنسق بين اعضاء بدنه، وهكذا سائر

ص: 44

المصنوعات بهذه الهيئات العجيبة، كيف لا يكون خالقها وصانعها عالما خبيرا وقادرا عظيما؟!.

إن اللّه تعالى هو من خلق القلب والعقل وقوة التفكر والنظر وخلق الجوارح التي بها يفعل الإنسان ما يريد فمن الطبيعي أن يكون اللّه تعالى عالماً بما يحويه هذا المخلوق من أفكار وأفعال وأصوات وأقوال، وحينئذ فإن اللّه عز وجل يسمع ويرى ويعلم بكل ما يفعله الإنسان وكل ما يحدث من حادث في مخلوقاته لأنه هو خالقها وخالق ما فيها، كيف وقد استطاع الإنسان الذي هو صنيعة اللّه أن يصنع شبيها مصغرا من ذلك فكيف برب العباد الذي خلق هذا الإنسان؟! إننا نلاحظ اليوم عقولا صنعت هذه الأجهزة الذكية ووضعت فيها من برامج وتطبيقات مكنّت أصحابها من العلم بحيث لو شاؤوا لعلموا بكل ما يصدر منها من رسائل وأصوات ومقاطع تصويرية وغير ذلك، فكيف بخالق السماوات والأرضين والكواكب وخالق الإنسان والحيوان ألا يمكنه أن يعلم بكل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة لدى مخلوقاته؟!، وكما يقول تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ}((1)).

فلا يمكن للعقل إلاّ الإذعان بذلك والإيمان بأن اللّه تعالى قدير سميع عليم بكل شؤون مخلوقاته.

الثاني: إخبار النبي الصادق الأمين

ومن الدليل على علم اللّه تعالى بأحوالنا وأحوال خلقه هو ما أخبر به

ص: 45


1- الملك: 14.

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك:

فلقد أخبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - والذي وجب تصديقه بسبب ما دلّ على رسالته من أنواع الإعجاز الذي جاء به كما سيأتي - أخبر بكتاب اللّه وبما قاله هو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن اللّه تعالى سميع عليم بكل صغيرة وكبيرة في خلقه وأنه قادر على كل شيء، وبعد الإيمان بنبوته ورسالته لابد من الإيمان بما أخبر به، وقد جاء في القرآن الكريم - معجزته الخالدة - حيث الآيات الصريحة الدالة على ذلك، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}((1)).

وقال تعالى: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ 13 أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ}((2)).

وأيضا: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٖ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٖ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلْأَرْضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ}((3)).

ص: 46


1- المجادلة: 7.
2- الملك: 13-14.
3- يونس: 61.

وقال تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}((1)).

وهكذا صرّحت الآيات النازلة على صدر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على مدى قدرته تعالى المتفوقة القاهرة والداعية للإنسان للتفكر والتأمل بانّ الذي خلق السماوات والأرضين هو الأعظم قدرة وهو القادر على كل شيء، يقول سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحِْۧيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}((2)).

ويقول تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}((3)).

النتيجة

إذن بدلالة العقل الذي تفكّر في هذا الصنع العظيم للّه عز وجل وبدلالة النبي الاكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي اذعن العقل كذلك بصدقه فيما نقل وأخبر عن ربه عز وجلّ لابد من الإيمان بأن اللّه تعالى قادر عليم سميع حكيم.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 47


1- آل عمران: 181.
2- الأحقاف: 33.
3- فاطر: 44.

ص: 48

الفصل الثاني: من بحوث العدل الإلهي

اشارة

1- العدل الإلهي

2- بين الجبر والتفويض

ص: 49

ص: 50

(1) العدل الإلهي

اشارة

قالوا: العدل هو وضع الشيء في محله أو إعطاء كل ذي حق حقه، والمراد من العدل الالهي هو أن اللّه سبحانه وتعالى لا يظلم عباده ولا يجور عليهم ولا يكلفهم ما لا يطيقون كما أنه سبحانه يثيب المطيع منهم وله أن يعاقب المذنب أو يعفو عنه.

و من معاني عدله سبحانه هو وضع القوانين المتناسبة مع موازين الخلق مما في الكون من أمور تكوينية وتشريعية وما يرتبط بالدنيا والاخرة وغير ذلك.

الدليل على ضرورة العدل

يُستدلُ على ضرورة العدل الالهي من خلال لحاظين:

أولا: اللحاظ العقلي، أي أن العقل يحكم بضرورة نسبة العدل إلى اللّه عز وجل وتنزيهه تعالى عن الظلم، ذلك لأننا إذا فتشنا عن أسباب الظلم الذي قد يقع من ظالم نجدها قضايا تُعزى لأسباب يُنزه عنها الخالق وهو مستغنٍ عنها، فمثلاً تُعدّ بعض الأمور من أسباب الظلم ولاشك أن اللّه سبحانه وتعالى منزه عنها.

ص: 51

منها: الجهل كما لو يجهل القاضي بحقيقة مجريات الأمور فيقع منه الظلم جهلا.

ومنها: الخوف، كما لو علم القاضي بواقع الامر إلا أنه يخاف البوح بالحقيقة.

ومنها: الضعف وعدم القدرة، كما لو يضعف الحاكم عن أخذ الحق إلى صاحبه.

ومنها: اتبّاع الرغبة والهوى، كما لو أن الحاكم يعرف الحق وبإمكانه تحقيقه إلا أنّ رغبته وهواه تأباه وذلك لمصالح خاصة تهمه كالقاضي المرتشي وما شابه.

ومنها غير ذلك مما يمكن نسبته لنا نحن البشر الخلق الضعيف العاجز ولكن هذه الأمثال وأشباهها لا يمكن نسبتها إلى اللّه سبحانه العالم القادر على كل شيء والمنزه عن كل نقص من الأحاسيس المادية من رغبة وشهوة وضعف وما شاكل وهو سبحانه الغني عن كل احتياج سواء لمصلحة تخصه أم لأي شيء آخر، وبذلك يتلاشى أي داع من دواعي صدور الظلم عنه عز وجل.

هذا فضلا عن كون الظلم قبيحا عقلا وأنه سبحانه هو الحكيم الذي خلق العقل المقبّح للظلم وأنه هو سبحانه الذي أودع الفطرة عند الإنسان والتي تستقبح الظلم، فلابد حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى منزها عن كل قبيح كما عرفنا ذلك في الفصل السابق حيث اعتقدنا بعلمه وقدرته وحكمته عز وجل.

ثانيا اللحاظ النقلي: نحن نعلم أن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصادق المصدق أخبرنا بما جاءنا من الكتاب العزيز وما فيه من آيات نفت عنه تعالى الظلم

ص: 52

والجور كما نفت عنه ما يخالف الحكمة، وهكذا ما وصلنا من أحاديث شريفة وضّحت ذلك، فإن عقولنا التي صدّقت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) برسالته المدعومة بالبراهين الدالة على أنه رسول منه عز وجل حكمت أيضا بصدقه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما اخبر من عدالة الرب عز وجل وحكمته وتنزيهه عن كل قبيح كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ}((1)).

البلاء وعدالة السماء

و لعلك تتساءل عما ترى من أنواع البلاء والشدائد والظلم الذي ينزل بالعباد والناس وتعزو ذلك الى السماء وتتساءل أين اللّه سبحانه وتعالى عن ذلك؟! ولكنك باعتقادك بعدل اللّه تعالى ومعرفتك ببعض سنن الخلق وحكمته تعرف أن كل سوء إنما يحدث بسبب الخلق أنفسهم كما أن ما يخفى علينا من العلل والأسرار أكثر مما نعرف، فإنني بإيماني بعدالة ربي واعتقادي أنه سبحانه منزه عن الظلم أرى أن سبب ما يصيبني من بلاء ومصائب وكذلك ما يصيب الأمّة هو إما بسبب تقصيري الشخصي أو لإعراض الاُمّة عن تعاليم السماء أو بسبب ظلم ظالم من العباد من الحكّام وغيرهم وها نحن اليوم نعاصر واحدة من المصائب التي حلّت بالعالم كله والبشرية جمعاء حيث انتشر وباء عدّته منظمة الصحة العالمية بالجائحة حيث انتشر فيروس الكورونا (Coved 19) منطلقًا من مدينة ووهان الصينية لينتشر خلال أشهر قليلة في جميع البقاع وبات الناس ملزمين بالمكث في

ص: 53


1- النساء: 40.

المنازل خوفا من العدوى حيث أنه داء ينتشر عبر رذاذ الكحة والعطاس وقابل للمكث على الأسطح لعدة أيام، وسبّب هذا الفيروس شللا عظيما في اقتصاد الدول كما لا يزال الآلاف يموتون يوميا ولا يزال عشرات الآلاف أيضا يصابون به يوميا وإلى هذه الساعة التي فيها أكتب هذه الأسطر من يوم السبت السابع عشر من شهر شعبان عام 1441 من الهجرة والمصادف الحادي عشر من شهر نيسان 2020 بلغ عدد المصابين مليون وثمانمائة ألف إنسان كما بلغ عدد الوفيات مأة وعشرة آلاف إنسان ولا تزال الدول تحاول إحاطة هذا الفيروس والحدّ من انتشاره وتتوقع الدول وفات مئات الآلاف وإصابة الملايين أعاذنا اللّه منه وسلّمنا وجميع المؤمنين، وشاهدي من الحديث عن ذلك أن هذا الوباء الخطير سببه هو الصناعات البايلوجية (علوم الأحياء) واخطاء البشر في ذلك، فللإنسان دور كبير وبالغ فيما يحصل في العالم من كوارث، وصدق اللّه تعالى حيث قال في كتابه: {ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ}((1)).

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}((2)).

وقال سبحانه: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}((3)).

ص: 54


1- الروم: 41.
2- الأعراف: 96.
3- الشورى: 30.

هذا فضلا عن أن ذلك قد يكون غفرانا للذنوب أو رفعا للدرجات وتثبيتا للحسنات أو دفعا لبلاء هو أشد مما هم فيه، أو هو عقاب لفرد أو مجتمع لتماديهم في المعاصي والذنوب والمنكرات، وربما في مثل هذه الصورة أيضا قد تكون لمصلحة المبتلى لأنه يدفع عنه عقابا اشد اعني ما يكون بعد الموت، وفي كل الأحوال ليس هو بظلم من الخالق.

هذا فضلا عن أننا لا نعلم شيئًا عن المستقبل وما يخفى علينا أكثر بكثير مما نعلمه، قال تعالى: {فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَئًْا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}((1)).

و عن امير المؤمنين (عليه السلام) - وقد سُئِل عن التوحيد والعدل - فقال: «التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه»((2)).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أما التوحيد فأن لا تجوّز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه»((3)).

وقال الإمام علي (عليه السلام) وهو يصف عدل اللّه تعالى: «الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه»((4)).

العدل الإلهي والحوادث الكونية

من مصاديق الإعتقاد بالعدل هو الإيمان بأن اللّه سبحانه وتعالى أقام

ص: 55


1- النساء: 19.
2- نهج البلاغة: الحكمة 46.
3- التوحيد للصدوق، الباب 5، ح1.
4- نهج البلاغة: الخطبة 185.

جميع الأمور التكوينية بموازين وحكمة ومصلحة للبشر وإذا ما شاهدنا بعض الكوارث من سيول وزلازل وعواصف وما شابه فقد تكون نذيرا للبشر ومدعاة لرجوع الإنسان إلى ربه كما قال عز وجل: {وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}((1)).

فضلا عن أنها قد تكون بسبب فعل الإنسان نفسه كبناء السدود في مناطق لا تقتضي ذلك أو بإزالة جبال عن مواقعها أو بإنشاء مصانع فيها تبعات مؤثرة سلبا على الحياة البشرية كالمفاعلات النووية وغيرها وقد تسبب أوبئة وكما اشرت إلى ذلك آنفا.

العدل الإلهي في القانون والجزاء

و من الإعتقاد بالعدل الإلهي هو الإيمان بانّ الشريعة والقانون مما شرّعه اللّه تعالى بواسطة أنبياءه خالٍ من أي إجحاف أو ظلم للعباد، وقد لا يستطيع الإنسان حينًا ما معرفة فلسفة ذلك.

كذلك من الإيمان بالعدل الإلهي هو التسليم بالجزاء الذي حددته الشريعة للعصاة في هذه الدار وفي دار الآخرة كما يقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ}((2))، {أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ 35 مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}((3)).

ص: 56


1- الأعراف: 168.
2- ص: 28.
3- القلم: 35-36.

ويقول تعالى أيضا: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}((1)).

فكل ذلك هو نماذج من الإيمان بالعدالة الإلهية، وليعلم الإنسان أن اللّه سبحانه وتعالى لا يريد به إلا خيراً فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان فيما أوحى اللّه عز وجل إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن، وإنما أبتليه لما هو خير له وأعافيه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي فأطاع أمري((2)).

الخلاصة

وخلاصة القول ان اللّه تعالى مُنزهٌ ومُبرأٌ من الظلم، لاستغنائه عن ذلك، وما يصيب العبد من مظالم فأسبابها عائدة الى نفسه او إلى نظام مجتمعه، او بسبب قوانين كونية أُخِلَ بها. وغير ذلك مما يعود الى الخلق وليس الى الخالق، مع انه سبحانه وتعالى يعوّض عبده المهتضم برفع درجاته أخروياً أو مما يعلمه سبحانه له من مصالح أخرى.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 57


1- الأنبياء: 47.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ، الباب 62، ص405، ح13.

(2) بين الجبر والتفويض

اشارة

من محاور وبحوث (العدل الإلهي) هو محور الجبر والتفويض، وفي توضيح ذلك نقول:

قد يجد المرءُ نفسه في شقاء وعناء ومصائب عديدة بينما يرى غيرَه مغموراً بالسعادة والإطمئنان والإستقرار فلا يقول هذا ما جنته يداي ولا يقول ذاك ما كان لسعي الآخر في الحياة، بل يقول هذا ما أراده اللّه لي وذاك ما أراده اللّه للآخر…!! فيا ترى هل هو كذلك؟

وبعبارة أخرى كأنه يقول إنّ ما تخلّفتُ عنه ولم أفعله، وما فعله فلان ولم يتقاعس عنه، كل ذلك من فعل وقدرة اللّه تعالى، والناس منقادون في أفعالهم خيراً أم شراً إلى قدرة فرَضت عليهم هذا الواقع الذي هم فيه.

يا ترى هل هذا حقّا وهل هو كلام صائب؟

إنّ مِن الأبحاث العقدية المهمة والدقيقة والخطيرة في نفس الوقت هو مبحث الجبر والتفويض وضرورة القول بالأمر بين الأمرين كما جاء على لسان أهل البيت (عليهم السلام) ، ولتوضيح ذلك نقول:

ثمة أمور تصيب الإنسان دون إرادة منه كالمصائب والشدائد وما شاكل

ص: 58

من انواع البلاء، كما أن هناك أمورا أخرى بعكس الأُولى تكون باعثة للسرور والنعيم قد ينعم بها الإنسان دون سعي منه ايضا كمن يحصل على إرث عظيم من المال أو منصب رفيع لم يكن يحتمله وما شابه ذلك من القضايا التي قدّرها اللّه تعالى وساقها لبعض عباده، فهذه الأمور وإن لم تكن لتتحقق لولا أن اللّه تعالى شاء ذلك لمناسبة عند هذا الإنسان وعند ذاك ولما يعلم من الحكمة والمصلحة في ذلك، إلا أن الكلام هنا عن الأفعال الاختيارية التي هي باختيار الإنسان ويفعلها بكامل ارادته، فهل هو مجبر عليها بحيث لا دور له في ادائها أم مختار فيها بحيث هي خارجة عن قدرة اللّه تعالى أم لا هذا ولا ذاك؟ لنرى ذلك خلال هذه النقاط:

أولا: ماذا يعني القول بالجبر؟

إنّ طائفة من المسلمين يطلق عليهم (الاشاعرة) ذهبوا إلى أنّ القول بتوحيد الخالق للأفعال يستلزم القول بأن ما يفعله الإنسان هو من فعل ربه وخالقه، لأن اللّه تعالى هو الخالق لكل شيء ولا خالق غيره ولا يمكن إسناد أفعال الإنسان إلا إلى اللّه تعالى، وليس للإنسان دور فيما يصدر منه من أفعال.

وبالطبع أن هذا المعتقد ينسب كل ما يفعله الإنسان من خير أو شر الى اللّه سبحانه وتعالى وبذلك يكون الإنسان مجبرا على أفعاله الصادرة منه، ومما لاشك فيه أن هذا قول باطل لأنه يستلزم امورا محذورة بالبداهة ومنها:

1- يلزم أن يكون الإنسان مجبرا على المعصية من ضرب هذا أو ظلم ذاك أو السرقة وسائر الشرور والمعاصي بأنواعها، أو يكون منقادًا لمعونة

ص: 59

الفقير أو أداء الصلاة والصيام وأعمال الخير كلها، وليس هناك أي دور لإرادة احد منهما لما يقومان به من افعال! وبطلان هذا الامر يدركه الإنسان بداهة لأنه يجد نفسه مختارًا في مدّ يد العون لهذا أو مدّها لضرب ذاك، كما أنه يدرك اختياره لخطواته التي يخطوها إلى دور العبادة والرشاد أو إلى حانات الخمرة والفساد ولا يجد نفسه مجبرا أو منقادا بحيث تأخذه اقدامه دون إرادة منه.

2- ثم إنّ القول بالجبر ينافي الاعتقاد بعدل اللّه سبحانه فإذا كان هو سبحانه من حمل عبده على المعصية دون رغبة العبد وقدرته فكيف يعنفّه عليها ويعاقبه ويدخله النار؟!!.

3- إن هذا ينافي حكمة جعل الثواب والعقاب على أفعال المكلّف، حيث يصح التساؤل عن سبب اثابة المصلي طالما كان مجبرا في صلاته وسبب عقاب شارب الخمر طالما كان مجبرا على ذلك، وبذلك يبطل مفهوم الثواب والعقاب وحكمتهما، والحال لا شبهة في حقيقة ذلك في أصل المعتقد والدين.

ثانيا: ماذا يعني القول بالتفويض

وهناك طائفة أخرى من الناس يطلق عليهم اسم (المعتزلة) ولكي لا يقعوا في إشكالية المجبّرة قالوا بالتفويض بمعنى أن اللّه تعالى لما خلق الإنسان تركه وشأنه وكل ما يصدر منه من أفعال فهو مستقل به وليس للّه تعالى من قدرة في شيء من ذلك من خير أو شر.

وبالطبع هذا المعتقد باطل أيضا، لأنه يجعل الإنسان مستقلا بالقدرة في

ص: 60

افعاله تماما ويعني هذا وجود قدرة ثانية غير قدرة اللّه تعالى خالقة للأفعال وحينئذ تقع إشكالية في عقيدة توحيد الخالق ويكون هذا شبيه بما قالته اليهود (يد اللّه مغلولة) نعوذ باللّه.

معنى آخر للتفويض:

ومن معاني التفويض مما يستفاد من بعض الأحاديث هو الاعتقاد بأن اللّه تعالى فوّض إلى الخلق طاعته ومعصيته، فما يختارونه من فعل يعدّونه طاعة وان كان خلاف ما أمرهم به، وحجتهم في ذلك أنّ اللّه فوّض إليهم أمره وتركهم يفعلون ما يشاؤون وليس له دور في هدايتهم إلى ما يريد ولا حول له في منعهم من المعاصي، وتركه القدرة لهم يعني لهم فعل ما يشاؤون.

من الطبيعي أيضًا بطلان هذا المعتقد لأنه يؤول إلى عجز الخالق عن توفيقهم للطاعة حين يشاء ذلك، وعجزه عن ردعهم عن معصيته حيث يشاء ذلك عصمة منه لهم، هذا فضلا عن أن ذلك خلاف حكمته، فكيف يخلقهم للطاعة والعبادة ويأمرهم بها ثم يفوّض إليهم اختيار أمره وتشخيص مراده طبق ما ترغب به نفوسهم وتشتهيه شهواتهم؟! فإذا كان جبرهم على المعصية ثم معاقبتهم عليها يناقض عدله سبحانه فكذلك تفويض القدرة المستقلة إليهم وتعيين أمور طاعته إلى رغباتهم وشهواتهم وإثابتهم عليها يكون خلاف حكمته أيضا، ونلاحظ هذا المعنى في حديث الإمام الهادي وهو يشرح حديث جده الصادق (عليهما السلام) فيقول سلام اللّه عليه: فأمّا التفويض الذي أبطله الصادق (عليه السلام) وخطّأ مَن دان به وتقلّده فهو قول القائل: إنّ اللّه جل

ص: 61

ذكره فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ... إلخ((1)).

ثالثا: ما معنى الأمر بين الأمرين؟

المعتقد الصحيح في ذلك هو ما وضحّه أهل البيت (عليهم السلام) حيث قالوا: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»((2)).

بمعنى أن اللّه عز وجل لا يسلب قدرة العبد على فعله بحيث يأتي بالمعصية دون إرادة من نفسه ولا يمكّنه من القدرة مستقلّا بحيث لا يكون له عز وجل حول ولا قوة فيما يفعله الإنسان، بل يمكّنه من القدرة على فعل الخير والشر ويترك للإنسان نفسه اختيار أحدهما فاذا اختار الخير أعطاه القدرة على المضي بذلك ويكون اللّه تعالى متفضِّلا عليه حيث هو الذي مدّه بالقدرة التكوينية وأرشده إلى فعل الخير وهو الذي دلّه على ذلك، كما أنه سبحانه وتعالى هو من أمره بذلك فيكون الخير منسوبا إلى اللّه تعالى، ويثيب عبده على فعاله واختياره وطاعته لربه، وأما إذا اختار الشر يدعه اللّه تعالى وما منحه من قدرة في ذلك ليتمّ الامتحان الإلهي للخلق، ولكنه تعالى ينهاه عن ذلك ولا يرشده اليه ويحذره منه فإذا فعل الشر نُسبت المعصية للإنسان نفسه واستحق العقاب لعصيانه خالقه وليس في ذلك شيء من اشكالية في عقيدة توحيد الخالق ولا في عقيدة عدله عز وجل.

وبهذا المعتقد الحق يعرف الإنسان أن ما يفعله من معصية هي منه وهو

ص: 62


1- بحار الأنوار، ج5، ص72.
2- بحار الأنوار، ج5، ص22.

مؤاخذ عليها وأنّ ما أصابه من سوء فهو من نفسه أو بسبب ظلم ظالم من الخلق وأما إذا فعل طاعة فهي بتوفيق من اللّه عز وجل واذا نزل به بلاء وكان لأجل غفران ذنوبه او رفع درجاته عند اللّه تعالى فهو حينئذ خير وليس بسوء وإنْ لم يكن يعرف وجه الحكمة في ذلك، فقد يكون لدفع ملمّة اشدّ مما هو فيه كما في قضية سفينة المساكين التي ثقبها العبد الصالح لئلا ياخذها الملك الظالم كما قال تعالى: {أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}((1)).

ومن ثَمّ تتضح بعض الآيات القرآنية التي تنسب الخير الذي يحلّ بالإنسان إلى اللّه تعالى وتنسب السوء إلى الإنسان نفسه كما في قوله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}((2)).

وكقوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ}((3)).

وأما الآيات التي تشير الى أن ما ينزل بالأمم بصورة مطلقة من خير أو شر مما يفرحون به أو يحزنون وأن كل ذلك من اللّه تعالى فذلك إشارة إلى قدرته سبحانه وتعالى التي هي فوق قدرات الإنسان وأنه بقدرته عز وجل

ص: 63


1- الكهف: 79.
2- سبأ: 50.
3- النساء: 79.

يحصل ما يحصل لأنه سبحانه وتعالى هو من منح القدرات الجزئية والمحدودة لبعض خلقه، فحينما يتشاءم المنافقون بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويقولون كما - يحكي ذلك القران الكريم - : {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ}((1))، يجبيهم اللّه تعالى بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ ٱلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}((2))، وذلك لأن المراد من الحسنة والسيئة في الآية - بقرينة وقوعها في سياق آيات الجهاد - هو النصر في واقعة بدر والهزيمة في واقعة أحد، فأراد المنافقون الإزراء بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بأن الغلبة في واقعة بدر كانت من اللّه سبحانه واما الهزيمة في اُحد فكانت من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسوء قيادته حسب زعمهم، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأن الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في مورد الآية وكثرة الثمار أو الخير كله، والسيئة بقول مطلق كالهزيمة في أحد أو نقص الثمرات وعموم الجدب، كلها من اللّه عز وجل ، إذ لا مؤثر في الوجود إلا هو، ولا خالق غيره، فانّ ما يصيب الإنسان مما يحبّ او يكره كلّ ذلك من اللّه تعالى، فهو خالق الأكوان والحوادث، وأن القدرات كلها تنتهي إليه سبحانه، وبذلك يعلم أن ما ينسب إلى الإنسان من سوءٍ فلأن اللّه مكنّه من الاختيار وارشده الجادّة إلا أنه أبى إلاّ أن يسلك مسلكا آخر وإنْ كانت قدرته على ذلك ممنوحة له من اللّه تعالى وأما ما ينسب إلى اللّه تعالى من الهداية

ص: 64


1- النساء: 78.
2- النساء: 78.

والضلال والخير والسوء معاً مما يصيب الخلق كما في قوله تعالى: {فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}((1)) فذلك لأن القدرات كلها تعود إليه عز وجل وليس لإكراه العبد على شيء من ذلك، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيرا، والقرآن الكريم نفسه يفسّر بعضه بعضا ويوضّح ذلك، ففي قبال هذه الآية آية أخرى تقول: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}((2)).

فما يكون من ضلال وخسارة فهي من الإنسان نفسه ولكن إذا نُسبت للخالق فذلك باعتبار أنّ كل فعل لا يمكن أن يكون إلا بقدرة من اللّه سبحانه وتعالى واذن منه من حيث أنّه عز وجل هو المحيط بكل شيء والقادر على ذلك((3)).

روايات في الأمر بين الأمرين

ونختم هذا الفصل ببعض الروايات في ذلك:

1- عن الحسن بن علي الوشا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت: اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟ فقال: هو أعزّ من ذلك فقلت: أجبرهم على المعاصي؟

قال: اللّه أعدل وأحكم من ذلك، ثم قال: قال اللّه عز وجل: يا بن آدم أنا

ص: 65


1- إبراهيم: 4.
2- سبأ: 50.
3- لمزيد من التفصيل يراجع كتاب الإنسان بين الجبر والتفويض لجعفر السبحاني.

أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملتَ المعاصي بقوتي التي جعلتُها فيك((1)).

2- روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) وقد سأله رجل: أيّكلف اللّه العباد ما لا يطيقون؟ فقال: هو أعدل من ذلك قال: أفيقدرون على كل ما أرادوه قال: هم أعجز من ذلك((2)).

3- عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن اللّه يقول: يا بن آدم بمشيتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنتَ أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويتَ على معصيتي، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديتَ إليّ فرائضي، وأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بذنبك مني... الخ((3)).

4- وروي أن أبا حنيفة دخل يوما على الإمام الصادق (عليه السلام) فرأى بالباب ولده موسى الكاظم (عليهما السلام) وهو يومئذ صبيّ فقال له أبو حنيفة: إني أريد أن أسألك عن مسألة أفتأذن لي في ذلك وتحسن الجواب عنها؟ فقال (عليه السلام) : (سل ما شئت) فقال أبو حنيفة: ممن المعصية؟ فقال الإمام (عليه السلام) : (إن كانت المعصية من اللّه فمنه وقع الفعل، فهو أكرم من أن يؤاخذ عبده بما لا دخل له فيه، وإن كانت منهما كان شريكه، والشريك القوي أولى بإنصاف شريكه الضعيف، وإن كانت المعصية من العبد فمنه وقع الفعل وإليه توجه

ص: 66


1- عيون أخبار الرضا، ج2، ص130.
2- عيون اخبار الرضا، ج2، ص139.
3- بحار الأنوار، ج5، ص94.

الخطاب، وصح له وقوع العقاب والثواب) فقال أبو حنيفة: ذرية بعضها من بعض((1)).

5- روي أنّ بعضهم قال للإمام الرضا (عليه السلام) : روي لنا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، فما معناه؟ قال: من زعم أن اللّه فوض أمر الخلق والرزق إلى عباده فقد قال بالتفويض، قلت: يا ابن رسول اللّه والقائل به مشرك؟ فقال: نعم، ومن قال بالجبر فقد ظلم اللّه تعالى، فقلت: يا ابن رسول اللّه فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه((2)).

أقول يظهر أن مراده (عليه السلام) من السبيل هي المكنة والقدرة التي جعلها اللّه للعبد.

وقال (عليه السلام) وقد قال له رجل: إن اللّه تعالى فوض إلى العباد أفعالهم؟ فقال: هم أضعف من ذلك وأقل، قال: فجبرهم؟ قال: هو أعدل من ذلك وأجل، قال: فكيف تقول؟ قال: نقول: إن اللّه أمرهم ونهاهم وأقدرهم على ما أمرهم به ونهاهم عنه.

وسأله الفضل بن الحسن بن سهل: الخلق مجبورون؟ قال (عليه السلام) : اللّه أعدل من أن يجبر ويعذب، قال: فمطلقون؟ قال: اللّه أحكم أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه((3)).

ص: 67


1- عوالي اللئالي، ج4، ص109.
2- بحار الأنوار، ج75، ص354.
3- بحار الأنوار، ج75، ص354.

6- روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سأله عباية بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : تملكها من دون اللّه أو مع اللّه؟ فسكت عباية بن ربعي، فقال له: قل يا عباية، قال: وما أقول؟ قال: إن قلت: تملكها مع اللّه قتلتك وإن قلت: تملكها من دون اللّه قتلتك، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: تملكها باللّه الذي يملكها من دونك، فإن ملكَّكها كان ذلك من عطائه، وإن سلبَكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملّكك، والمالك لما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: لا حول ولا قوة إلا باللّه؟ فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا حول لنا عن معاصي اللّه إلا بعصمة اللّه، ولا قوة لنا على طاعة اللّه إلا بعون اللّه، قال: فوثب الرجل وقبّل يديه ورجليه((1)).

أقول لعل المراد من قوله (عليه السلام) (مع اللّه) اَي اعتقادك أنه تعالى شريكك في ما تفعله من معاصي، وقوله (من دون اللّه) أي بغنىً منك عن قدرته واستقلالك في قدرتك عنه، وقوله (باللّه) اَي بسبب قدرته عز وجل تمكنت من القدرة والاستطاعة، وهو الصحيح.

ومن حِكم أمير المؤمنين (عليه السلام) : روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطا وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر.

فكتب إليه الحسن البصري: إن أحسن ما انتهى إليّ ما سمعت أمير

ص: 68


1- بحار الأنوار، ج5، ص24.

المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، واللّه بريء من ذاك((1)).

وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : لو كان الزور في الأصل محتوما كان المُزوّر في القصاص مظلوما.

وكتب إليه واصل: أحسن ما سمعت في ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ايدُلّك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟

وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : كل ما استغفرت اللّه منه فهو منك، وكل ما حمدت اللّه عليه فهو منه.

فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية((2)).

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 69


1- القاموس، دهاه: أصابه بداهية، وهي الامر العظيم.
2- بحار الأنوار، ج5، ص59.

ص: 70

الفصل الثالث: من بحوث النبوة

اشارة

1- ضرورة بعثة الأنبياء (عليهم السلام)

2- نبوة نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

3- عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)

ص: 71

ص: 72

(1) ضرورة بعثة الأنبياء (عليهم السلام)

اشارة

مما نعتقده نحن المؤمنين بعد اعتقادنا بوجود الخالق وهو اللّه ربنا عز وجل هو الاعتقاد بالأنبياء والرسل الذين بعثهم اللّه تعالى إلينا ليدعونا إلى معرفته وطاعته وعبادته ولنسلك تعاليمه وقوانينه حتى نسعد في هذه الدنيا وكذلك نفوز في الآخرة بالجنة التي وُعد فيها المؤمنون.

والسؤال هنا:

ما هو الدليل على بعثة الأنبياء والرسل

حينما اعتقدنا أن اللّه سبحانه وتعالى هو خالقنا وأنه تعالى عادل وحكيم، اقتضت عدالته وحكمته أن يلطف سبحانه وتعالى بنا ولا يدع خلقه سدىً دون أن يرسل اليهم من يرشدهم ويدلّهم على ربهم وخالقهم الذي خلقهم والذي يلزم الخضوع والخشوع والتعبد له وحده لا شريك له وكذلك يرشدهم إلى السبيل الذي يرتضيه والذي فيه سعادتهم وذلك لأن للإنسان شهوات ورغبات تميل به نحو الشقاء والفساد لولا أن يكبحها ويتصدى لمقاومتها، فمنح اللّه تعالى الإنسان العقل وأرسل اليه الأنبياء ليبيّنوا له

ص: 73

طريق الهدى والرشاد فيطيعوا ربهم ليسعدوا فكان اللطف الإلهي دليلاً على لزوم بعثة الأنبياء.

وكذلك لكي تتمّ الحجّة الإلهية على الخلق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ}((1)) ولا يكون عذر عند الناس اذا ما حاسبهم على أعمالهم التي اقترفوها فيقولوا معتذرين اننا لم نكن نعلم بكل ذلك - بعث لهم الرسل مبشرين بالسعادة الدنيوية والاخروية لا سيما الخلود في الجنة، وكذلك جعلهم منذرين من الشقاء في الدنيا والعذاب الأليم في الاخرة لا سيما النار التي اعدّها للكافرين، وبهذا التبشير والنذير تتم حجته تعالى البالغة على عباده.

الإعجاز ودلالة صدق الانبياء

ثم إن اللّه سبحانه وتعالى لكي يدّل عباده على أنبياءه مكّن انبياءه من الدلائل من الآيات والمعاجز التي يعجز البشر عن مجاراتها وفعلها لتكون دليلًا للأنبياء على صدقهم في دعواهم النبّوة والرسالة من اللّه تعالى، وبذلك تتم الحجّة بين الخالق وعباده من جهة، حيث يحتج عليهم برسله الذين زوّدهم بقدرات خارقة من قدرته الخاصة به كإحياء الموتى من أن ذلك دليل على أنهم رسله بحق وصدق، ومن جهة أخرى يكون قد جعل لعباده العذر الى ربهم فيما لو اتبعوا نبيًا، فلهم ان يقولوا ربنا إننا آمنا بنبوة هذا المدعي النبّوة لأننا وجدناك قد صدقّته فيما ادعاه من حيث انك مددته

ص: 74


1- الأنفال: 42.

بهذه القدرات والمعاجز الخارقة للعادة.

اختلاف المعجزة عن غيرها

ومن ثَمَ ينبغي ان تكون المعجزة التي يُبعث النبي بها أمرًا لا يمكن لاحد من الناس ان يجاريه فيها ويأتي بمثلها، كما انها تكون كثيرا من الأحيان بطلب من الناس أنفسهم، كما طلب بعضهم من نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ان يشق لهم القمر شقين، وأراد آخرون منه ان يأمر الشجرة لتتقدم نحوه ثم ترجع الى حيث مكانها، وكما اشترط قوم هود على نبيهم النبي صالح (عليه السلام) ان يُخرج لهم ناقة من الجبل ففعل لهم، وهكذا طلب بنو اسرائيل من نبيهم موسى (عليه السلام) ان يشق لهم البحر اثني عشر طريقا فانفلق لهم البحر كذلك، واما عيسى (عليه السلام) فكان يحي الموتى بإذن اللّه، فهذه هي المعاجز والتي لا يمكن ان تكون سحرًا لأن السحر مجرد تصرّف بأبصار الناس بحيث يُّخيّل اليهم وقوع الشيء ثم بعد ذلك يعود الواقع الى أنظار الناس بخلاف المعجزة فانها تبقى كذلك كما بقت ناقة النبي صالح ترعى حتى قتلوها وكما التقفت عصا النبيّ موسى حبال القوم إلى دون رجعة وهكذا، الا إذا أراد النبي ان ترجع الأمور كما كانت فتعود بإذن اللّه تعالى.

وايضا إنما يكون السحر بتعلم الساحر وتدرجه في هذا العلم، لكنما النبي يأتي بالمعجز دون ان تكون له سابقة بتعلم للسحر وما شابه.

إلا نستغني بالعقل عن النبي

قد يُستفهم ويقال: ألم يمنحنا اللّه تعالى العقل وهو حجة علينا؟

الا يمكن أن يستغني الإنسان بعقله ويكون بغنى عن الرسل والأنبياء في

ص: 75

تحقيق ما يأمل من السعادة؟

للإجابة على ذلك نقول: إن الإنسان تكتنفه قوى غريزية ونفس وميول ومصالح خاصة ورغبات تشوش عليه الحقائق وتلبس عليه الواقع فيحكم لما تقتضيه مصلحته وتميل اليه نفسه وربما في بعض الأحيان يريد أن يحكّم عقله ويرجع إلى لبّه ولكن الأمور تلتبس عليه، وها نحن نشهد العالم الذي يزعم التحضر في وضعه للقوانين التي يقننها لأجل تحكيم العدل والسعادة للناس الا اننا نجد الأنظمة تغير باستمرار قوانينها، وذلك بعد وقوفها على الأخطاء الفادحة والفساد المستشري بسبب انظمتها الفاسدة بأسسها، لأنها حينما وضعت القوانين وضعتها ناظرة وملاحظَة فيها رعاية مصالح بعض المستثمرين ممن هم من عليّة القوم واكابرهم.

هذا وفضلا عن ذلك أنىّ للعقل ان يدرك القضايا الغيبية، اعني ما قبل هذه الحياة وما بعدها من قضايا عالم الآخرة والقيامة والحساب والجنة والنار وما في ذلك من ترغيب وترهيب من اجل استقامة الإنسان واعتداله، وكذلك انىّ للعقل أن يعرف كيفية العبادة التي تكون من الإنسان لربّه وما فيها من أسرار تربوية وحقائق غيبية وغير ذلك، فكان لابد من إرسال الرسل لإيقاف الأمم على عبادة ربها وتبيان السبيل الذي يأخذ الإنسان إلى بر الأمان.

هل للناس اختيار الرسل؟

سؤال آخر: لماذا يختار اللّه أنبياءه ورسله ولماذا لا يختار الناس أحدا منهم ليكون نبيا مرشدا لهم إلى ربهم؟

ص: 76

وهذا ما حكى القرآن الكريم عن بعضهم فقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}((1)).

والجواب على ذلك:

اولا: إن الأنبياء هم رسل اللّه إلينا وليس العكس، ومن الطبيعي ان يختار المرسِل رسوله لا أن يختار الآخرون له رسولًا.

ثانيًا: لابد ان تتوفر في النبي خصائص عظيمة وامتيازات كثيرة من الأخلاق الحميدة والنفس الكبيرة والصدق والأمانة التامة والشجاعة البالغة والحزم والصبر و... حتى يكون مؤهلا وصالحا لحمل تلك الرسالة الإلهية إلى العباد.

واهم من كل ذلك هو ضرورة توفر العصمة من الذنب والخطأ حتى يكون الناس على يقين من أن نبيهم قد بلّغهم الحق وأرشدهم إلى ما يريده اللّه تعالى كما ينبغي، وليس ذلك مما يسعه الناس، فلا يستطيعون ان يميّزوا هذا الإنسان البالغ هذه الدرجة مع هذه الخصوصيات حتى يختاروه للرسالة، ولو فرضنا انهم يستطيعون الوقوف على صدقه وأمانته وشجاعته و.. ولكن أنىّ لهم ان يعلموا بعصمته عن الخطأ بحيث لا يخطأ ابدا في تبليغ رسالة الرب وليطمئنوا اليه؟ لا يمكن لهم ذلك فالعصمة امر من اللّه تعالى فهو الذي يعصم رسله، وبذلك تتم الحجة البالغة للّه على الخلق وليس لهم الاّ أن يتبعوا النبي المرسل اليهم الذي اصطفاه اللّه واختاره لهم، قال تعالى:

ص: 77


1- الزخرف: 31.

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِیمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلْأخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}((1)).

الخلاصة

بعد إيماننا باللّه تعالى وبعدله وحكمته لابد من الإيمان بالأنبياء والرسل وكونهم مبعوثين من قبله سبحانه وتعالى بعد أن أتوا بالآيات والمعاجز ما دلّ على صدقهم.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 78


1- البقرة: 130.

(2) نبوة نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

من بحوث العقيدة الإسلامية هو الاعتقاد بنبوة ورسالة النبي محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومما لا شكّ فيه أنه لابد للمؤمن من دلالة ترسّخ عنده الاعتقاد وتوثق لديه القناعة وتقوي وتركّز إيمانه بذلك.

دلائل النبوة

ولكي يبرهن الأنبياء والرسل على نبوتهم ورسالتهم كونها من اللّه تعالى يقومون بأفعال إعجازية بإذن اللّه تعالى وهي أمور خارجة عن قدرة البشر وقد تكون بطلب من الناس أنفسهم لتطمئن قلوبهم بصدق النبي فيما يقول كما عرض بعضهم على النبي عيسى (عليه السلام) أن يسأل اللّه عز وجل لينزل لهم مائدة من السماء وعرضوا على النبي صالح (عليه السلام) أن يخرج لهم ناقة من الجبل وعرضوا على النبي موسى (عليه السلام) ان يشق لهم طرقا للسير بين أمواج البحر.

هذا وقد بُعث نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كسائر الأنبياء يدعو الناس إلى ما دعاهم الأنبياء من قبل إلى عبادة الواحد الأحد، والطاعة له للفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وجاء بدلائل تشيد بصدقه في مدعاه وتعزز في صدق رسالته من اللّه تعالى.

ص: 79

القرآن معجزته العظمى

يقول الشيخ المظفر (رحمه اللّه) في كتابه:

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقت كان فن البلاغة معروفا. وكان البلغاء هم المقدمون عند الناس بحسن بيانهم وسمو فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة أذلهم وأدهشهم وأفهمهم أنهم لا قبل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره. ويدل على عجزهم أنه تحداهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا، ولما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحديه لهم وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان علمنا أن القرآن من نوع المعجز وقد جاء به محمد بن عبد اللّه مقرونا بدعوى الرسالة، فعلمنا أنه رسول اللّه جاء بالحق وصدق به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ((1)).

أقول وإن مما يعزز ايماننا نحن المتأخرين قرونا من الزمن عن فترة بعثة النبي أمرين هما: دليل التواتر الذي على ضوئه نوثق به عقيدتنا بنبّوة نبيّنا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك شهادة ما في القرآن من آيات يستحيل أن تكون من غير اللّه تعالى:

أولا دليل التواتر: وهو النقل المتواتر عن الأجيال المتعاقبة والذي لا يزال إخبارهم مدونًا في التاريخ المتعاقب منذ عهد نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعبر الاجيال حتى نقلت إلينا اهم الأحداث التي باتت متيقنة لا يشك بها وعُدّت معاجز

ص: 80


1- عقائد الامامية، ص53.

أظهرها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس فآمنوا بنبوته لمّا رأوا أنها من صنيع الإله وليست من صنع البشر من أمثال نطق الحصى في يده ومسير الشجرة إليه وانشقاق القمر وإخباره الغيب عن أمور تبين تحققها فيما بعد وغير ذلك كثير جدًا، فضلًا عن معجزته الخالدة وهي (القرآن الكريم) الذي تضمن بلاغة وفصاحة تحدى بها البلغاء والفصحاء في عصره عصر البلاغة والفصاحة وعصر المعلقات الأدبية التي يتنافس بها بُلغاء العرب ويفتخر بنسجها أربابها وأقوامها، وقد سجل التاريخ صورا من انبهار ذوي الذوق البليغ الذي يدرك جمال اللغة وتدغدغه نغمة النسق بين المفردات ومؤداها البلاغي العظيم، وينفعل ويتأثر بوقعها المذهل.

الذهول لعظيم بلاغة القرآن

ومن ذلك ما نقله التأريخ أن الوليد بن المغيرة بعثته رجالات قريش ليستمع للنبي لعله يستطيع تفنيد ما جاء به ولكنه اعترف بعجزه عن ذلك، ومما جاء في ذلك ما ورد في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}((1)) أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب وكان من المستهزئين برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقعد في الحجر ويقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ شعر أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر

ص: 81


1- المدثر: 11.

ولكنه كلام اللّه الذي ارتضاه الملائكة وأنبياؤه ورسله، فقال: أتل علي منه شيئا، فقرأ عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حم السجدة، فلما بلغ قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَٰعِقَةً مِّثْلَ صَٰعِقَةِ عَادٖ وَثَمُودَ}((1)) اقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومر إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمد أما تراه لم يرجع إلينا؟ فعدا أبو جهل إلى الوليد فقال له: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا، وأشمتَّ بنا عدونا، وصبوت إلى دين محمد، قال: ما صبوت إلى دينه، ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود! فقال له أبو جهل: أخطب هي؟ قال: لا، إن الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا، قال: فشعر هو؟ قال: لا، أما إني قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر، قالوا: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه، فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه أخذ بقلوب الناس((2)).

كما روي أنه مرّ بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقرأ حم السجدة، فأتى قومه وقال: قد سمعت من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس والجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى، فقال قريش: صبأ الوليد، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه،

ص: 82


1- فصلت: 13.
2- بحار الأنوار ج9، ص245 عن تفسير علي بن إبراهيم.

فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فناداهم فقال: تزعمون أن محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مجنون فهل رأيتموه يخنق((1)

وتقولون: إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا؟ فقالوا: لا، فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟ ففرحوا به((2)).

فأقول لما ثبت انه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتى قومه بما عجزوا ان يأتوا بمثله وتحداهم في قرآنه وثبتت للجيل الذي عاصره نبوته فهو هذا بنفسه دليل واف لنا أيضا على نبوته وذلك لان النقل المتواتر والكثير الذي لا يمكن فيه الكذب باعث للتصديق كما هو الحال في تصديق اليهود في عصرنا بنبوة موسى (عليه السلام) وتصديق النصارى في عصرنا بعيسى (عليه السلام) وكذلك نصدّق ويحصل لنا اليقين بما أتى به نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن المعلوم ان اليقين حجة مفروضة على صاحبه، ولا يمكنه انكار ما تيقن به.

ثانيا: القرآن يكرّس الإيمان برسالة النبي: من بواعث اطمئنان النفس بصدق نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل وحصول اليقين أيضا هو نفس هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا فهو من اليقين أيضا ذاته ونفسه الذي أتى به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعرضه على أمته ونحن وفي هذا العصر لازلنا تعرض علينا بعض نسخه الشريفة في بعض المكتبات الكبيرة التي تضم من المخطوطات من التراث الإسلامي مثل مكتبة الاستانة في تركيا وأخرى في بريطانيا مما دونت في صدر الإسلام

ص: 83


1- مجنون خنق اي تخنقه الجن أو يخيف الناس ويخنقهم.
2- بحار الأنوار، ج9، ص167.

مما لا يدع مجالا للشك ان هذا القران الكريم هو نفسه الذي اتى به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والمهم اننا نجد في هذا الكتاب العظيم من الآيات التي تتحدث عن أمور تم اكتشافها ووضوحها للإنسان في هذه القرون الأخيرة - كما سنقف عند بعضها - فكيف لرجل نشأ في الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنًا أن يتحدث عن حقائق في قعر البحار أو ما يرتبط بحركة الكواكب أو غير ذلك؟! فهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على صدق ما يدعيه من أن كتابه هذا هو من لدُن الخالق الذي بعثه رسولًا للبشرية جمعاء، وبعد ما ظهرت هذه الاكتشافات المطابقة لآيات القران لعجبٌ عجاب ان يشكك إنسان فطن بوجود اللّه تعالى وبرسالة نبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

القرآن الكريم والحقائق العلمية

ولنذكر نزرًا قليلا مما افصح عنه العلماء في ذلك وقد قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ}((1)).

فآيات اللّه تعالى مستمرة في دلالاتها اليه عز وجل وهي أيضا دالة على صدق نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) برسالته عن اللّه سبحانه وتعالى:

1- يقول تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ 75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}((2)).

ويذكر العلماء أن التقدم العلمي في العلوم الفلكية وضّح لنا أن الأبعاد

ص: 84


1- فصلت: 53.
2- الواقعة: 75-76.

فيما بين النجوم ومواقعها كبيرة جداً لا يتخيلها عقل بشري، وان هذه النجوم قد انبثق ضوؤها قبل زمن غابر طويل فمنها ما يبعد ملايين السنوات الضوئية عن الأرض وما نراه في الحقيقة هو مواقعها التي غادرتها في غابر الأزمان، وهذه الحقيقة بقيت مجهولة حتى مطلع القرن العشرين، حيث بينت المراصد الفلكية بُعد المسافة إلى هذه الأجرام السماوية وكوننا لا نرى سوى مواقعها التي غادرتها نجومها التي تسبح في الفضاء بسرعة كبيرة، فهو قسم عظيم من اللّه تعالى بهذه المواقع التي أنى لنا ان نعلم تفصيل حقائقها.

2- ويقول عز وجل: {مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}((1)).

لقد عبرت الآية (اتخذت) بدل (اتخذ) اي نسبت هذا البيت إلى أنثى العنكبوت كما اشارت إلى وهن هذا البيت وضعفه من إجارة من يلجأ إليه وإذا لاحظنا ما اكتشف عن هذه الشبكة الخطيرة التي ينسجها هذا الكائن تبين لنا أن القرآن يشير إلى اسرار لم يكن ليشير إليها لولا انه كتاب اللّه سبحانه فقد اكتشفت علوم البيولوجيا (الأحياء) أن الذي يقوم ببناء بيت العنكبوت هي أنثى العنكبوت فقط من خلال مغزل خاص موجود في نهاية بطنها، ولا يوجد مثله عند الذكر، وأن بيت العنكبوت هو أبعد ما يكون عن صفة البيت بما يفترض فيه من أمان وسكينة وطمأنينة. فالعنكبوت الأنثى

ص: 85


1- العنكبوت: 41.

هي التي تبني البيت وتغزل خيوطه وهي الحاكمة عليه وهي من تقوم بقتل الذكر بعد أن يلقّحها ثم تأكله، وبعد أن يخرج أبناؤها من بيوضها يبدأ بعضهم يأكل بعضا ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بعد أن يلّقح أنثاه ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها، وتغزل انثى العنكبوت بيتها ليكون فخا وكمينا للحشرات، وكل من يدخل هذا البيت من زوار وضيوف يُقتل ويُلتهم، فهو أوهن البيوت لمن يحاول أن يتخذ منه ملجأ، فسبحان اللّه الذي شبّه الذين يتخذون غيره عزو جل مأوىً لهم فهم يلجؤون إلى مكان خطير لا يحميهم ولا يلجئهم إليه بل يلتهمهم ويتخذهم فريسة له.

3- ويقول سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحْرٖ لُّجِّيّٖ يَغْشَىٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَٰتُۢ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَىٰهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}((1))، وقد كشفت العلوم الحديثة إن في قاع البحار العميقة الكثيرة المياه ظلمات شديدة، حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بلا أدوات بصرية وإنما تعيش مستخدمة حواسها الأخرى كالسمع، وتوجد هذه الظلمات الحالكة في ماء البحر في قاع المحيطات ذات المياه الكثيرة - البحر اللجي على حد التعبير القرآني - كما اكتشف العلماء موجاً بحرياً داخلياً يغشى البحر وهو أطول وأعرض من الموج السطحي، وهذه الامواج لها دور في حجب ضوء الشمس من النفوذ إلى القاع فتعاقبت هذه الظلمات لمرات عديدة، فلنتيجة

ص: 86


1- النور: 40.

البحر العميق اللجي أولاً ثم الموج الداخلي الذي يعكس ضوء الشمس فلا يسمح له بالنفاذ إلى الأسفل ثانياً، والموج السطحي الذي يعكس جزءاً من الأشعة ثالثاً، والسحاب في السماء الذي يحجب كثيراً من أشعة الشمس فلا يسمح لها بالنفاذ إلى الأسفل رابعاً، فهي ظلمات بعضها فوق بعض وأسبابها المنشئة لها بعضها فوق بعض.

والحال لم يكن الناس ليعرفوا سوى أنهُ موج واحد على سطح البحار، بينما الآية أعلاه تقول ان هنالك موجاً آخر في أعماق البحار، نعم لقد اكتشف الغواصون في بداية القرن العشرين حقيقة هذا الموج الآخر الذي يقذف بالغائصين فيهِ كما يقذف بالسابحين عليهِ، كما اكتشف هذا الموج الغواصون الاسكندنافيون، ووُثِّق أول ادعاء حول هذا الموج البحري في نهاية الحرب العالمية الثانية بواسطة الغواصات العسكرية التي كان يستخدمها الحلفاء، إذ كانت تنعكس عندهم موجات أجهزة السونار المستخدم، ثم تبين حقيقتها في نهاية القرن العشرين عبر بحوث حديثة((1)).

4- وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}((2)).

لقد وضح علم التشريح الحديث حقيقةً وهي: أن مراكز الإحساس بالألم

ص: 87


1- يراجع كتاب توحيد الخالق للزنداني وغيره.
2- النساء: 56.

وغيره إنما تتركز بالجلد بكمية كبيرة، حتى أن الإنسان لا يشعر بألم وخز الحقنة (الإبرة) إذا أدخلت في جسمه إلا عند دخولها في منطقة الجلد، وهذه حقيقة يدركها احدنا عند الاحتقان بالإبرة حيث يدرك بألم الوخز في بداية زرق الابرة فقط((1)).

مع أننا نرى القرآن يذكر هذه الحقيقة قبل علماء التشريح في القرن العشرين، فيقول عزّ من قائل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ}((2)). فكأن هذه الجلود حيثما تنضج تفقد الإحساس بالألم والعذاب لان الإحساس يتركز في جلودهم فإذا نضجت استراحوا من عذاب النار، فيبدلهم جلودا غيرها ليبقى احساسهم بأليم عذاب النار نعوذ باللّه منه، فهل كان لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجهزة تشريحية خاصة به دون الناس؟ أم أن هذه آية من آيات اللّه تعالى تشهد أن القرآن كلامه عز وجل وأن من نزلت على صدره هو رسول منه؟

أقول هذا نزر قليل جدًا جدًا لا يقاس بالقضايا الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم مما توضحت معالمها في العصور المتأخرة مثل دوران الأرض حول الشمس ودوران القمر حول الأرض وحركة الشمس في مجموعتها، والآيات التي تحدثت عن جسم الإنسان وما يحويه كمراحل تكوين الجنين وتهيئة اللبن والأسرار الكثيرة التي لا تجعل لأحد مناصا من

ص: 88


1- ينظر: مع الطب في القرآن الكريم عبد الحميد دياب، ص30.
2- النساء: 56.

الإيمان باللّه سبحانه وبرسالة نبيه محمد المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

يكفينا هذا المقدار من الاستدلال في هذا المختصر فإنه كاف جدا لمن له انصاف في قبول الحق.

هذا والحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 89

(3) عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)

اشارة

مما يعتقد به المؤمن الشيعي هو عصمة الأنبياء والرسل والأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) اجمعين فما هو الدليل على ذلك.

بداية نقول إن العصمة لغة: هي المنع كما هو المعنى في الاية المباركة: {قَالَ سََٔاوِي إِلَىٰ جَبَلٖ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَاءِ}((1)).

ولكن المراد منها في بحث العقيدة هو كونها لطفا يفعله اللّه تعالى بالمكلف لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.

ويمكن توضيح المراد من ذلك من خلال لحاظين:

الاول: أن يقال إن المراد من اللطف هو موهبة عالية أو علم جم يورث المكلف مناعة من الإقدام على المعصية مع قدرته على ذلك ويمكن تشبيه ذلك بالمستوى العقلي والادراكي بين الأفراد حيث ذووا المستويات العالية من الفهم والإدراك يترفعون عن أمور يقدم عليها غيرهم لقلة دركهم لواقع

ص: 90


1- هود: 43.

قبح المعصية، ويمكن تمثيل ذلك بحالة الطفل الصغير الذي لا يدرك استهجان وقبح اللعب بالقاذورات فلا يستقذر مس ذلك وقد يضع ذلك في فمه دون اشمئزاز منه، بينما يستقذر ذلك ويمتنع منه أشد الامتناع من يدرك قذارة ذلك، وهكذا يمتنع العاقل العارف بقذارة المعصية بنسبة ما يدرك من هذا المعنى في حين لا يبالي غيره من ممارستها، هذا من لحاظ الإدراك والمعرفة لقذارة المعصية.

الثاني: ومن لحاظ آخر يمتنع أهل التقوى والدين من ممارسة المعصية بنسبة خوفهم وخشيتهم من ربهم ليس لحقارة الذنب في أعينهم وحسب بل لخضوعهم لربهم وحبهم لطاعته والتسليم والامتثال لأوامره، وبالطبع كلما ازدادوا معرفة بعظمة الخالق ازدادوا خضوعا وخشوعا في تعبدهم للّه عز وجل كما ازدادوا عزيمة على طاعته، وحينئذ نعرف اثر اللطف الالهي بمن اصطفى واختار من خلقه وأفاض عليهم من علم لدّني وكمال ومباركة منه تعالى وبذلك يدركون شدّة قبح المعصية وقذارتها حتى تتقزز وتشمئز نفوسهم الطاهرة من أصغر صغائر المعاصي، كما تشمئز نفوسنا من القاذورات والنجاسات فلا تهواها أنفسنا بل لا نفكر يوما باقترافها لمعرفتنا بشدة نتنها، كذلك من عصمه اللّه عز وجل بلطفه الذي غمره به يدرك نتن جيفة المعصية التي نفسها يتلذذ بها أهل الفسق والفجور.

هذا ومن حيثية أخرى عظم الخالق في أنفسهم وقلوبهم فصغر وهان وحقر كل مبغوض للّه عندهم.

اذن فالمعصومون يتجنبون الباطل مع قدرتهم على اقترافه بسبب

ص: 91

استقذارهم ذلك، هذا من جهة ولتعظيمهم خالقهم سبحانه وتعالى واستحقارهم لكل ما يخالفه تعالى من جهة أخرى.

دليل عصمة النبي والامام
اشارة

وفضلا عن ذلك كله هناك من الأدلة العقلية والنقلية على ضرورة عصمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك الامام المجعول من قبله فنذكر ذلك باختصار:

يقع الدليل على ذلك من جهتين عقلية ونقلية ولكل منهما وجوه.

اولاً: الدليل العقلي:

وهو من وجوه نذكر بعضها:

1- إن العلة التي من أجلها بُعث النبي وجُعل الامام هي الهداية للبشرية التي يمكن عليها الخطأ فالعلة رفع الخطأ عن الناس فلو كان النبي والإمام غير معصومين ومعرّضين للخطأ والضلال كسائر البشر لم تتم الغاية من جعل النبيّ او الإمام ولزم احتياجهما الى نبي أو امام آخر عليهما ولابد أن يكونا معصومين وإلا وقع نفس الاشكال، فيحكم العقل بضرورة عصمة النبي والامام عن الخطأ ليتمكنا من تشخيص الخطأ لدى البشرية وهدايتهم الى سبيل الرشاد، وهذا ما يفهم أيضا من قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}((1)).

2- حينما يأمر اللّه تعالى بإتبّاع النبي والامام والطاعة لهما واتخاذهما

ص: 92


1- يونس: 35.

قدوة لابد ان يكونا معصومين وإلا أمكن ان يقودا الأمة الى ما لا يريده اللّه تعالى فلا يكونان أهلاً للاقتداء والطاعة وهذا خلاف الهدف والغاية من ارسال النبي وجعل الامام ويمكن فهم هذا ايضا من قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْأخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا}((1)).

3- لو لم يكن النبي والذي بعثه اللّه تعالى بشريعة وقانون الى خلقه معصوما لأمكن أن يبلّغ شريعة اللّه خلاف واقعها ولحقّ للأُمّة ان تشكك في صحة ما ينقل اليهم من الوحي ولا تطمئن حينها بما يبلّغها من شريعة فلا تكون للنبوة وقعها ودورها وحجيتها في الأمّة، وهكذا لو لم يكن الامام المجعول من قبل اللّه تعالى معصوما والذي عهد اليه حفظ الشريعة لأمكن انحراف الشريعة حيث يفترض انه هو المجعول للإجابة على كل جديد فيها وهو الميزان في صحة المسيرة والنهج الإلهي كما قال تعالى{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}((2)) فهو الهادي للأُمّة وحينئذ كيف يعقل عليه الخطأ والمعصية وقد أُوكلت اليه هذه المهمة؟! فلابد من فرض عصمة النبي والإمام المجعول من قبل اللّه تعالى ليتناسب ذلك مع مهمتهما الرسالية، هذه بعض الوجوه من دلالة العقل.

ثانيا: الدليل النقلي:

هناك آيات قرآنية يمكن الاستدلال بها، ومنها:

ص: 93


1- الأحزاب: 21.
2- الرعد: 7.

1- قال تعالى: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}((1)).

بعد أن جعل اللّه تعالى نبيه ابراهيم (عليه السلام) إماما سأل ربه أن يجعل الامامة في ذريته فأجابه تعالى أن ذلك لا يكون في الظالمين بمعنى أن الامامة في المعصومين من ذريتك دون غيرهم، وذلك لان الذي يقترف الذنب يُعدّ ظالما حيث يجر الضرر لنفسه ويعرضها للإساءة والعذاب وهو نوع من الظلم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}((2)).

فدلت الآية على ضرورة عصمة الإنسان الذي يعهد اللّه تعالى إليه أمر الإمامة بحيث لا يصدق عليه اي عنوان من عناوين الظلم وهذا يلزم عصمته من الذنب.

2- قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}((3)). ذكروا أن مفردة (الرجس) تعني الشي ء القذر، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان أم بحكم العقل أم الشرع، أم جميعها. وما ورد في بعض الأحيان من تفسير (الرجس) بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الإعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، اذ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع ما هو مذموم، وذلك

ص: 94


1- البقرة: 124.
2- فاطر: 32.
3- الأحزاب: 33.

لوجود (الألف واللام) التي وردت في مفردة (الرجس) والتي تسمّى بألف ولام الجنس، الدالة على الشمول لكل مصاديق الرجس((1)).

و واضح أن المراد من التطهير هو إبعادهم عن الرجس وهذا تطهير شامل لكل مصاديق الرجس مما يعني العصمة لهم عن لكل ذنب وخطأ.

ثم إن شأن نزول الآية وإن كان في شأن النبي وابنته وصهره وسبطيه (عليهم السلام) جميعا إلا أنه يمكن شمولها لجميع الائمة (عليهم السلام) لإن الداعي والسبب وراء ذلك التطهير كونهم حجج اللّه تعالى على خلقه وخلفاءه في أرضه.

ويعضد هذا المعنى ما روي بسند الى سليم بن قيس وقد نقل محاججة أمير المؤمنين (عليه السلام) للقوم في حديث طويل ومما جاء فيه «قال سليم: ثم قال علي (عليه السلام) : أيها الناس أتعلمون أن اللّه أنزل في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فجمعني وفاطمة وابني الحسن والحسين ثم ألقى علينا كساء وقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي ولحمتي يؤلمني ما يولهم ويؤذيني ما يؤذيهم ويحرجني ما يحرجهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقالت أم سلمة، وأنا يا رسول اللّه؟ فقال: أنت إلى خير إنما نزلت في وفي ابنتي وفي أخي علي بن أبي طالب وفى أبني وفي تسعة من ولد ابني الحسين خاصة ليس معنا فيها لاحد شرك، فقالوا كلهم: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك فسألنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحدثنا كما حدثتنا أم سلمة»((2)).

ص: 95


1- انظر تفسير الميزان عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ}.
2- فرائد السمطين، ج2، ص312، ح250؛ كتاب سليم بن قيس، تحقيق محمد باقر الانصاري، ج1، ص200.

3- قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ}((1)).

لقد وردت روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) وعن غيرهم مِن أنَّ المراد من الصادقين هم أهل البيت (عليهم السلام) ففي رواية سليم الآنفة أشارت إلى ذلك أيضا فعنه «ثم قال علي (عليه السلام) : أنشدكم اللّه أتعلمون أن اللّه أنزل: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ}((2)) فقال سلمان: يا رسول اللّه عامة هذا أم خاصة؟ قال: أما المؤمنون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة. قالوا: اللّهم نعم»((3)).

وبما أن الآية ناشدت المؤمنين ان يكونوا (مع الصادقين) وليس (منهم) فلقد دلت على ملازمتهم ملازمة مطلقة في كل الحالات ونعتتهم بالصدق الشامل للقول والفعل والفكر والنية وكل مصاديق الصدق فدلّ ذلك على عصمتهم من الخطأ كما دل على وجودهم في كل زمان لوجود المؤمنين المخاطبين في كل زمان، ولقد أشار الرازي الى هذه الحقيقة في تفسيره فقال: إنّ اللّه قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته، وسيكون هذا الأمر في كل زمان، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ((4)).

ص: 96


1- التوبة: 119.
2- التوبة: 119.
3- فرائد السمطين، ج2، ص312، ح250.
4- تفسير الفخر الرازي، ج16، ص220-221.

نعم لقد رأى أن المراد منهم هم مجموع الأُمة لأنها معصومة عنده ولكنه غفل عن أن الخطاب موجه للأُمة نفسها أن يكونوا مع تلك الثلة الصادقة وهم غير المخاطبين فلا محالة أنهم هم أنفسهم الأئمة الذين ارشدت اليهم الأدلّة الكثيرة الاخرى من آيات وروايات ذكرت في محلها.

4- قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)).

لقد أمر اللّه تعالى بطاعة الرسول وولي الأمر (الإمام) إطاعة مطلقة غير مقيدة بحال دون حال فيحكم العقل بضرورة عصمتهما عن الخطأ ولو أمكن عليهما الخطأ لما أمر اللّه الحكيم بطاعتهما طاعة مطلقة بل لقيّد طاعتهما بما لا يخالف الحق كما قيد طاعة الوالدين بذلك فقال سبحانه: {وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}((2)).

هذه أربع آيات نكتفي بها.

الارادة التكوينية والتشريعية

تقدم الكلام في دلالة آية التطهير حيث يقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}((3)).

قد يرد سؤال في خصوص هذه الآية من أنها ذكرت إرادة اللّه تعالى في

ص: 97


1- النساء: 59.
2- العنكبوت: 8.
3- الأحزاب: 33.

تطهيرهم من الرجس فما هو المراد من الإرادة هذه؟ إن أريد منها الإرادة التشريعية فهي إرادة شاملة لجميع المكلفين أن يبتعدوا عن المعاصي وليس الأمر خاصا بأهل البيت (عليهم السلام) ، وان أريد منها الإرادة التكوينية فيعني هذا انعدام إختيارهم ولا يكون لعصمتهم شأن ومكانة لهم؟

لقد ذكر في الجواب على ذلك وجوه عدّة، واكتفي بذكر واحد منها ويمكن لمن يريد التفصيل يراجع ما ذكر في مظانه.

ذكر المرجع الراحل لطف اللّه الصافي (رحمه اللّه) في الجواب عن استاذه المرجع السيد حسين البروجردي (رحمه اللّه) : إن الإرادة على نحوين جدية وأخرى صورية والجدية قد تكون تكوينية وقد تكون تشريعية وتوضيح مراده هو:

1- ان اللّه تعالى اذا أراد وكانت ارادته متعلقة بما هو مسلوب الاختيار فتُعد إرادة جدية تكوينية وتتحقق دون اختيار من أسبابها وعللها كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}((1)).

2- واذا أراد سبحانه وكانت ارادته متعلقة بمن هو مختار كالإنسان فكذلك يتحقق متعلق الإرادة ولكن مع اختيار من المكلف وهذه هي الإرادة الجدية التشريعية

3- وأما بالنسبة للأمر الذي يخاطب به البشر ممن يعصونه فهو أمر صوري وليست هي إرادة جدية وذلك لأنه تعالى عالم بتمرد عبده ومعصيته فكيف يأمره بإرادة جدية وهو يعلم أنه لا يمتثل لأمره ولا يريد اجباره عليه؟!

ص: 98


1- النحل: 40.

وهذا الأمر جار حتى من الانسان نفسه في أوامره لمن هو دونه، فلو فرضنا أن مديراً لمصنع يعلم علم اليقين أن أحد عماله لا ينفّذ ما يطلبه منه فهل يطلب مراده منه بإرادة جدية؟ بالتأكيد لا يفعل ذلك وإنما يطالبه بذلك ويأمره به ليلقي عليه الحجة فيستحق بذلك التأنيب لمخالفته ولا يأمره حقيقة لكي ينفّذ طلبه لأنه على يقين انه لا يمتثل له.

فالأوامر قد تكون جدية وذلك لمن يمتثل ويتحقق الامتثال منه بالفعل مع اختيار من المنفّذ وقد تكون تكوينية اذا كانت متعلقة بما هو مسلوب الاختيار وأخرى أوامر صورية لمن يعلم أنه سوف لا يمتثل وانما يأمره سبحانه ويخاطبه بالتكليف ليلقي عليه الحجة ويستحق العقاب على مخالفته.

اذن تارة تكون الإرادة الجدية تكوينية وأخرى تشريعية، وحينئذ تكون الإرادة في الآية من هذا القبيل اي إرادة جدية تشريعية يتحقق متعلقها وهي العصمة باختيار من المخاطب ايضا وهم أهل البيت (عليهم السلام) فعصمتهم بإرادة جدية من اللّه تعالى مع قدرتهم على المعصية إلا انهم لا يعصون.

وهكذا ينسحب الموضوع إلى سائر العباد فمن يطع اللّه تعالى في أمر من أوامره يتبين أن ارادته سبحانه في ذلك كانت إرادة تشريعية جدية وقد أتى العبد بها باختياره وليس في ذلك إجبار على الطاعة وأما إذا وقعت المعصية فينكشف أن الأمر منه تعالى كان صوريا وإن كان فيه الحجة على العبد واستحق العقاب بتركه الامتثال لذلك الأمر الإلهي. كما قال تعالى: {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ

ص: 99

حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}((1)).

و المهم في الأمر أن آية التطهير ارشدتنا الى عصمتهم (عليهم السلام) لإن الخطاب كان خاصا بهم وأما غيرهم من عباد اللّه الصالحين فلا نعلم بعصمتهم عن كل الذنوب، ولذلك قالوا إن العصمة تكون بإخبار من اللّه تعالى ولا يعرفها الخلق من انفسهم، وبذلك دلت الآية على عصمتهم بإرادة من اللّه تعالى إرادة جدية مع توفر قدرتهم واختيارهم لطاعته على معصيته((2)).

لاشك هناك الأدلة الأخرى الا اننا نكتفي هنا بهذا المقدار.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 100


1- الأنفال: 42.
2- رسالتان حول العصمة (الشيخ الصافي)، ص77، بتصرف.

الفصل الرابع: من بحوث الإمامة

اشارة

1- الاعتقاد بالإمامة

2- إمامة أمير المؤمنين وولديه الحسنين (عليهم السلام)

3- إمامة الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام)

4- الاعتقاد بالحجة المهدي إمام زماننا

5- الأئمة المعصومون وعلمهم بالغيب

ص: 101

ص: 102

(1) الاعتقاد بالإمامة

اشارة

الإمامة بعنوانها العام تطلق على كل رئاسة وقيادة، ويقال لمتقلدها (الإمام) حيث هو من يؤتم ويقتدى به.

وقد تكون إمامة خاصة لإدارة دور ما كما يقال إمامة الصلاة وامامة المسجد حيث يأتم المصلون بإمام لاداء الصلاة جماعة.

ولكن ما يراد من الإمامة التي هي معتقد من معتقدات الامامية الاثني عشرية هي مكانة خاصة بمن أراد اللّه تعالى له أن يكون إماما بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمعنى انه يخلف النبي بجميع مناصبه القيادية والشرعية الدينية والدنيوية الا انه ليس بنبيّ، وان كان كالنبي، بمعنى لابد أن تكون امامته بجعل من اللّه تعالى ويكون معصوما وأفضل أهل زمانه واعلمهم وتكون طاعته مفترضة عليهم بل طاعته طاعة للّه ورسوله كما قال سبحانه وتعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)) كما سيأتي.

الإمامة أصل من أصول الدين

بالطبع يعتقد الامامية أن الإمامة أصل من أصول الدين لأنها شبيهة بمقام

ص: 103


1- النساء: 59.

النبيّ ولابد فيها من توفر العصمة والنص من اللّه تعالى أو من النبي، وعليه هي ليست قضية اجتهادية كالاحكام الشرعية حتى تكون قضية دينية فرعية، بل ليس بوسع الناس اختيار هذا الإمام الذي هو بهذه الخصائص والمواهب الإلهية لاسيما مع شرط عصمته وافضليته على أهل زمانه، وكما مرّ في مبحث النبوة من أن ذلك لا يكون إلا بتعيين الخالق سبحانه لرسوله كذلك هنا لا يمكن ذلك إلا باشارة من النبي على من يخلفه في الأمة ويكون وليا عليها عالما بكل مسائل الدين قادرا على الإجابة لكل سؤال حول الشريعة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا.

هذا فضلا عن ان دليل الإمامة هو دليل عقلي وهو اللطف الإلهي بخلقه - كما سيأتي - وما هو كذلك يدخل في دائرة المعتقدات وجملة اصول الدين، وأما من يذهب إلى أن الإمامة فرع من فروع الدين فلا ينظر إليها هذه النظرة الآنفة بل يعدّها وظيفة يقوم بها احد من المسلمين حالها حال مقام القضاء أو مقام الوالي على منطقة من مناطق البلاد، وقد يشترط فيها توفر بعض الشروط كالعدالة أو التقوى أو منزلة من العلم وما شابه الا ان هذا كله من أحكام الدين وفروعه لا من اصوله.

الدليل على الاعتقاد بالإمامة
اشارة

يُستدل على الإمامة بالعقل والنقل.

1- الدليل العقلي:

وهو دليل اللطف اي لطف الخالق وحكمته، فبما ان الإمامة امتداد للنبوة وان اهم ادوارها هو حفظ الشريعة من الانحراف عن مسارها كان الدليل

ص: 104

عليها عقلا قبل الدليل النقلي هو دليل اللطف الإلهي بعباده وكذلك اقتضاء حكمته سبحانه وتعالى، فكما كان الدليل العقلي على ضرورة بعث الأنبياء والرسل هو لطف اللّه تعالى وارادته هداية الخلق ونجاتهم كذلك الإمامة هي لطف منه تعالى ومقتضى حكمته، وما كان يعدّ من حكمته تعالى يتلطف به على عباده فان العقل الذي يحكم بضرورة أن يكون الخالق كاملا ومنزها من كل نقص يرى أن من كماله تعالى ثبوت اللطف له بعباده، وكما لطف بعباده وبعث لهم الرسل والأنبياء كذلك لطف بهم وجعل الإمامة في أئمة يقومون بحفظ رسالات الأنبياء ويواكبون كل جديد وهم باقون مع بقاء الخلق وذلك لاحتياج البشر إليهم لهدايتهم كما احتاجوا للانبياء، وليس الائمة بانبياء لأنهم يحفظون شريعة الإسلام، ولا ياتيهم وحي بشريعة جديدة كما دل على ذلك خاتمية الرسالات والأنبياء بنبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

2- الدليل النقلي:

وهو تارة من كتاب اللّه عز وجل واخرى من احاديث نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

اولا - دلالة القرآن: اما في آيات كتابه عز وجل: فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}((1)).

ففي الآية دلالة على أمرين:

الأمر الأول: كون الإمامة بجعل منه سبحانه كما انها عهد اللّه، وعليه

ص: 105


1- البقرة: 124.

تكون الإمامة كالنبوة يجعلها اللّه تعالى في إمام كما جعل النبوة في النبي.

الأمر الثاني: كون الإمامة بعيدة عن منال الظالمين، كما قال تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}((1)) وهذا يدل على أن الإمامة لا تكون الا لمعصوم من الذنب، وذلك لأن المذنب يطلق عليه عنوان الظلم فهو ظالم ولو لنفسه فلا يستحق الإمامة لأن اللّه تعالى لا يعطيها لظالم فلا يبقى الا المعصوم من الذنب هو من يستحقها. وهل المعصوم الا الأفضل في قومه، ولا ريب أن الأفضل أحق بالإمامة عقلا.

ومن الآيات قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}((2))، حيث نرى أن اللّه تعالى يخبر نبيه من أن لكل قوم من أقوام البشر هناك هاديا يهديهم الى الحق، ولاشك أن هذا الشخص الهادي إنما يكون هاديا بحق لو كان معصوما من الزلل والذنب والخطأ، والا لا يمكن أن يكون هاديا على الإطلاق وفي كل الحالات بل قد يخطأ فيضل بدل أن يهدي، ولا ضمانة من أن يكون هاديا دائما الا إذا قلنا هو إنسان معصوم وليس هو إلا الإمام المجعول من قبل اللّه تعالى.

وقد قال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَٰتِ...}((3)). ومن يجمع بين الآيتين لا يتردد أن ذلك الهادي هو من

ص: 106


1- البقرة: 124.
2- الرعد: 7.
3- الأنبياء: 73.

هؤلاء الذين جعلهم اللّه يهدون بأمره وهم أئمة.

ونكتفي بهاتين الآيتين الدالتين على ضرورة وجود الإمام وعلى ضرورة عصمته ثم نقول وكيف للناس أن يعرفوا المعصوم ليجعلوه إماما عليهم!! فلا مناص من القول إن الإمام يكون بجعل من اللّه تعالى يرشد الناس إليه في كتابه مباشرة أو عن طريق نبيه وعلى لسانه.

ثانيا: أحاديث النبي: وأما ما دلّ على الإمامة من أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . منها قوله المشهور:

من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية

من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية((1)).

وأيضا الحديث الصحيح عند سائر المسلمين قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»((2)).

هذه الرواية بهذا المضمون وشبهه تعد من الروايات المتواترة، والتواتر يفيد الاطمئنان وهي تدل على وجود أئمة في كل زمان ولهم منزلة عظيمة بحيث من يمت وهو يقدر على معرفة امامه الحق ثم لا يبالي به ولا يتعرف عليه يمت ميتة جاهلية اي غير مسلم.

ومن الواضح لا يمكن أن يراد من هذا الإمام - الذي من يمت وهو لا يعرفه يمت على غير الإسلام - مجرد الحاكم من الملوك والسلاطين والرؤساء في البلاد، فإن اغلب الحكام لم يكونوا على منزلة من الدين والطاعة للّه تعالى حتى يموت المسلم كافرا فيما اذا مات ولم يعرف حاكمه

ص: 107


1- ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، ج2، ص252.
2- مسند أحمد، ح16876.

وسلطانه!!

ومن ذلك قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كتب المسلمين عامة: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش»((1)).

هذا، وأما في مصادرنا عن أهل البيت (عليهم السلام) فقد ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اسماء الأئمة أيضا كما في حديث جابر الذي يأتي في فصل الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهناك من الأحاديث التي أشارت إلى الإمامة في ضمن وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل بيته وضمن ارشاداته إلى المسلمين في لزوم التمسك بعترته مثل حديث الثقلين وحديث السفينة وغير ذلك مما يأتي ان شاء اللّه.

وبالتأكيد أن هناك الكثير جداً من الآيات والروايات التي يستدل بها على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في كتب الفريقين وليس هذا محلها.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 108


1- رواه البخاري، رقم 7222.

(2) إمامة أمير المؤمنين وولديه الحسنين (عليهم السلام)

اشارة

إن من أهم المعتقدات لدى الفرد الشيعي بل هو أساس عنوان تشيعه هو الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، ولذا من الضروري جدّا ان يكون الشيعي على بصيرة في دليل مدعاه هذا.

المراد من إمامتهم (عليهم السلام)

وينبغي التنويه قبل الخوض في الاستدلال أنه ليس المراد من الإمامة هو ضرورة تحقق الحكم والسلطة الفعلية للإمام - كما حدث للإمام امير المؤمنين وولده الإمام الحسن (عليهما السلام) - بل المراد الخلافة لمكانة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمّته، من حيث وجوب إتباعهم وامتثال أوامرهم وجعلهم امتدادًا له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أخذ شريعته، من دون القول بنبوة لهم وينبغي على المؤمنين اتخاذهم (عليهم السلام) حكامًا عليهم فيما اذا أمكنهم ذلك وأما اذا زواهم الآخرون عن ذلك فقد غصبوهم حقهم - كما حدث ذلك - ولكن إمامتهم باقية وحجيتهم على الخلق من اللّه تعالى ثابتة، لأن الإمامة اذا كانت من اللّه عز وجل ومن رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي كالنبوة لا يضيرها قبول الناس ذلك وامتثالهم لهم أم تمردهم فالإمام المجعول من قبل اللّه تعالى يبقى إمامًا

ص: 109

في كل الفروض.

أنواع الأدلة على إمامتهم

والحديث عن الأدلة على ذلك يقع من وجوه عديدة.

1- فمنها ما هو خاص بأمير المؤمنين (عليه السلام) .

2- ومنها ما هو خاص بالإمامين الحسنين (عليهما السلام) . كما سيأتي بعد سطور.

3- ومنها ما هو شامل لسائر الأئمة (عليهم السلام) . كما سيأتي في فصل آخر.

ثم إن الاستدلال قد يكون ناظرا لصميم الموضوع وهي إمامة أئمتنا (عليهم السلام) كاحاديث الإثني عشرة خليفة وأخرى يكون دليلًا عامًا على ضرورة إتباع أهل البيت والتمسك بهم كحديث تشبيهم بسفينة نوح والذي لا مناص معه من القول بإمامتهم وثالثة يكون مؤيدا ومتمما للأدلة الأخرى كالأحداث والمعاجز والكرامات وغيرها في حياة المعصومين (عليهم السلام) مما يجعل المؤمن على قناعة تامة بل على قطع ويقين بما يذهب إليه من القول بإمامة الائمة الإثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) .

ومن الطبيعي ليس هنا محل التفصيل والإحاطة بجميع الأدلة بل نشير باقتضاب واختصار بما يناسب وهذه الفصول في هذا الكتاب ومن يرغب بالمزيد يمكنه مراجعة المصادر المفصلة في ذلك. فنستعين باللّه ونقول:

دليل إمامة امير المؤمنين (عليه السلام)

عادة يستدل على ذلك بنصوص شرعية من آية كريمة أو رواية شريفة كما سنفعل ولكن قبل ذلك يمكن الاستدلال عقلا أيضا وقد يعدّ مؤيدا لما في النصوص ولكنه بنفسه - عند التأمل - له وجه من الدلالة فلنلاحظ ذلك.

ص: 110

وجه عقلي

كما عرفنا في فصل سابق أن الإمامة بنفسها أمر عقلي مطلوب إيجاده من الخالق سبحانه وتعالى من باب اللطف بعباده وتهيئة أسباب نجاتهم وعرفنا أيضا أن من العقل أن لا تُترك الأمة سدى بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبينّا ضرورة وجود إمام معصوم بعد النبي عقلا، بعد ذلك كله نقول ونتساءل ياترى من هو الإمام المعصوم المشار إليه من جهة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ نستطيع القول بضرس قاطع ليس هو الا الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) ، ذلك لأنه لم يدّع هذه الإمامةَ المجعولة أحدٌ غيره ولم تدّع طائفة من المسلمين هكذا إمامة منصوصة عليها لغيره (عليه السلام) ، فيتوجب عقلا أن نقول إن الإمام بمعنى خليفة الرسول هو علي (عليه السلام) وليس غيره، وإلا باتت الاُمّة بلا إمام معصوم وهذا خلاف ما فرض من كون الإمامة واجبة عقلا لقاعدة اللطف وخلاف ما هو متوقع ومفروض من أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشار إلى الخليفة من بعده بجعل من اللّه تعالى فلابد من القول بإمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

دليل النصوص

و أما الدليل على ضوء النصوص فيكفي في هذا المختصر ان نشير الى دليلين أحدهما من القرآن الكريم والآخر من لسان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

1- جاء في شأن نزول الآية المباركة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}((1)) في أشهر

ص: 111


1- المائدة: 55.

التفاسير وأهمها لدى الفريقين ومنها تفسير النيسابوري بالإسناد إلى أبي ذر الغفاري قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله، أما أني صليت مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي راكعا فأومأ بخنصره إليه وكان يتختم بها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، فتضرع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اللّه عز وجل يدعوه، فقال: اللّهم إن أخي موسى سألك {قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي 25 وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي 26 وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي 27 يَفْقَهُواْ قَوْلِي 28 وَٱجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي 29 هَٰرُونَ أَخِي 30 ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي 31 وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي 32 كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا 33 وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا 34 إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} فأوحيتَ إليه {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَٰمُوسَىٰ}((1)) اللّهم وإني عبدك ونبيك، فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري، قال أبو ذر: فواللّه ما استتم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الكلمة حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ 55 وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ}((2)).

قال السيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه اللّه) في كتابه المراجعات مستدلا

ص: 112


1- طه: 25-36.
2- المائدة: 55-56 تفسير النيسابوري.

بهذه الآية: إن الولي هنا إنما هو الأولى بالتصرف كما في قولنا: فلان ولي القاصر، وقد صرح اللغويون بأن كل من ولي أمر واحد فهو وليه، فيكون المعنى إن الذي يلي أموركم فيكون أولى بها منكم، إنما هو اللّه عز وجل ورسوله وعلي، لأنه هو الذي اجتمعت به هذه الصفات، الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، في حال الركوع ونزلت فيه الآية، وقد أثبت اللّه فيها الولاية لنفسه تعالى ولنبيه ولوليه على نسق واحد، وولاية اللّه عز وجل عامة، فولاية النبي والولي مثلها وعلى اسلوبها، ولا يجوز أن يكون (ولي) هنا بمعنى النصير أو المحب أو نحوهما إذ لا يبقى لهذا الحصر وجه كما لا يخفى((1)).

وهناك العديد من الآيات التي استُدل بها على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) مما لا يدع مجالا للشك في إشارتها إلى استخلافه (عليه السلام) بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

2- واما من السيرة وأقوال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك فهو مما لا يخفى على المنصف، ومن اظهرها واشهرها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حقه (عليه السلام) يوم غدير خم في رجوعه من حجة الوداع: «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» بعد ان بين للناس دنوّ أجله وقرابة رحيله.

ومنها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له مرارا «انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي» وهذان الحديثان لا يختلف فيهما اثنان من المسلمين، وأكتفي بذلك لهذا المختصر هنا.

ص: 113


1- المراجعات، لشرف الدين، ج1، ص313.
دليل امامة الامامين الحسنين (عليهما السلام)

أما إمامة السبطين (عليهما السلام) فبغض النظر عن النصوص العامة والقرائن الجلية على إمامة سائر الائمة والتي تسبب التواتر المفيد للقطع - كما سنوضح - ففضلا عن ذلك لقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إمامتهما اكثر من حديث منها:

1- قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»((1)).

وفي لفظ آخر «إن قاما وإن قعدا»((2)).

وفي آخر «ابناي هذان امامان قاما أو قعدا»((3)).

2- إنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لهما: «أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة»((4)).

3- وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول مشيرا لسبطه الحسين (عليه السلام) : «هذا ابني إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم»((5)).

دليل الإعجاز

يعد الإعجاز دليلا آخر من أدلة النبوة والإمامة وذلك لأن فيه تصديقا من اللّه تعالى لما يدعيه النبي من النبوة والامام من الامامة، فالاعجاز يعني الإتيان بفعل يعجز عنه البشر عادة وهذا لا يكون إلا بتمكين اللّه تعالى لعبده وبذلك يكون مصدِّقًا له دعوته لعباده كما حدث ذلك للأنبياء (عليهم السلام)

ص: 114


1- بحار الأنوار، ج44، ص2.
2- الصفوري في نزهة المجالس، ج2، ص184.
3- كفاية الأثر، ص5-6.
4- الاتحاف بحبّ الأشراف، ص129.
5- اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج2، ص233.

كموسى وعيسى (عليهما السلام) فكذلك من يدعي الإمامة يمكّنه اللّه تعالى بإذن منه على فعل ما يعجز الناس عنه.

هذا وقد تواترت الروايات في معاجز فعلها الائمة (عليهم السلام) ودونت الكتب في ذلك ككتاب مدينة المعاجز للبحراني وغيره وقد ظهرت على يد الامام أمير المؤمنين وولديه الحسنين (عليهم السلام) جميعا مما يكون دليلا آخر على امامتهم (عليهم السلام) ((1)).

هذا كله فضلا عن القرائن والأدلة العامة الأخرى التي تعضد الاعتقاد بإمامتهم (عليهم السلام) كما سياتي إن شاء اللّه في الحديث عن الدليل على إمامة سائر الائمة (عليهم السلام) في الفصل الآتي.

والحمد للّه رب العالمين.

ص: 115


1- يلاحظ كتاب اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات وكتاب مدينة المعاجز للبحراني.

(3) إمامة الأئمة الإثني عشر (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

تحدثنا في فصل سابق عن المراد من الإمامة وذكرنا الدليل على إمامة أمير المؤمنين وإمامة الامامين الحسنين (عليهم السلام) ، وفي هذا الفصل نستدل على إمامة سائر الأئمة (عليهم السلام) فنقول:

تثبت الإمامة لائمة أهل البيت (عليهم السلام) من جهات عديدة:

الجهة الأولى: تواتر حديث (الخلفاء اثنا عشر)

تواترت النصوص الكثيرة والمختلفة في ألفاظها وطرقها الدالة على تصريح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن الخلفاء أو الأمراء أو الأوصياء أو النقباء - على تعدد في النصوص - من بعده هم إثنا عشر، وقد تواتر ذلك في كتب المسلمين عامها وخاصها وليس لها تفسير واسقاط على الواقع من المذاهب إلا على القول بإمامتهم (عليهم السلام) ، وذلك لأنهم هم وليس غيرهم من جُمعت فيهم الصفات من العلم والتقى والأخلاق والفضيلة باعتراف سائر ملل المسلمين ومذاهبهم وهم من ادّعى الإمامة المجعولة لهم من اللّه تعالى والنبي ولم يدّعها غيرهم مما يؤكد أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أرادهم بأحاديثه، ولا يمكن ارادة

ص: 116

خلفاء الجور ممن حكموا من بعده، كما أنه ليس هناك من يقول بإمامة اثني عشر إماما وخليفة غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وعليه فليس لهذه الأحاديث مصداق إلا على القول بإمامتهم (عليهم السلام) .

وهذه بعض نصوص هذه الطائفة من الأحاديث النبوية:

1- عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: يكون لهذه الأمة إثنا عشر خليفة»((1)).

2- عن جابر بن سمرة قال: «دخلت مع أبي على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة، ثم تكلم بكلام خفي عليّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: كلهم من قريش»((2)).

3- عن أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصلاة الأولى ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: يا معاشر أصحابي إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حِطّة في بني إسرائيل فتمسكوا باهل بيتي بعدي الأئمة الراشدين من ذريتي فإنكم لن تضلوا أبدا فقيل: يا رسول اللّه كم الأئمة بعدك؟ قال: إثنا عشر من أهل بيتي - أو قال: - من عترتي((3)).

4- في ينابيع المودة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: بعدي إثنا عشر خليفة ثم أخفى صوته فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: كلهم من بني

ص: 117


1- مسند أحمد، ج5، ص106.
2- صحيح مسلم، ج3، ص1452، رقم 5.
3- عبقات الأنوار، ج2، ص264.

هاشم((1)).

5- واخرج السيوطي عن ابن عدي في الكامل وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن عدة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى((2)).

6- وأخرج شارح غاية الاحكام بسنده عن أبي قتادة قال سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: الأئمة بعدي إثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل وحواري عيسى (عليه السلام) ((3)).

7- عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الفجر ثم أقبل علينا فقال: معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال: يا رسول اللّه كم الأئمة من بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل، فقال: كلهم من أهل بيتي تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم((4)).

8- وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأئمة بعدي إثنا عشر أولهم علي ابن أبي طالب وآخرهم القائم فهم خلفائي.. الخ((5)).

اننا نلاحظ هذه الطرق والأسانيد في هذه الروايات بهذا المعنى كثيرة

ص: 118


1- ينابيع المودة، ج3، ص290.
2- الجامع الصغير، ج4، ص91.
3- كشف الأستار، ص74.
4- كفاية الأثر، ص74.
5- جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص152.

فمنها عن جابر بن سمرة وأخرى عن إبن مسعود وثالثة عن أنس بن مالك ورابعة عن أبي سعيد الخدري وخامسة عن جابر الأنصاري وسادسة عن إبن عدي وسابعة عن أبي قتادة وثامنة عن سماك بن حرب وأهم من كل ذلك عن الإمام الصادق عن آبائه عن جده النبي صلى اللّه عليهم أجمعين، ولا ريب أن هذا المقدار يورث الاطمئنان بل اليقين بصدور القدر المتيقن منها من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو اشارته الى وجود اثني عشر خليفة بعده.

وينبغي التنويه أن ما نجده في بعض روايات هذه المجموعة من أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال (خلفاء او نقباء او أمير) فذلك قد يعود لتعدد صدور ذلك منه في مواقف متعددة.

وأما حادثة خفاء صوته أو حصول لغط عند بعض من كانوا حوله بحيث لم يسمعوا قوله (كلهم من قريش) أو (كلهم من بني هاشم) أو (من عترتي) فلا يبعد أن يكون ذلك حدث تعمدًا من بعض الحاضرين للتعتيم على هذا الأمر الذي لا يحلو لهم لاسيما وأن بعض هذه الأحاديث كانت في حجة الوداع((1))، وفي الأيام الأخيرة من حياة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا شبيه بما حدث في يوم رزية الخميس كما أسماها إبن عباس حيث اصطنعوا مزيدا من الضجيج واللغط لئلا يكتب النبي لهم كتابا يقيّد فيه أسماء خلفائه الاثني عشر، حدث ذلك بعد أن قال لهم إيتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لن

ص: 119


1- ذكر الراوي أنه سمع مقالة النبي هذه في (حجة البلاغ أو حجة الوداع) ، وفي الموقف بعرفات راجع: مسند ابن حنبل، ج7، ص418، ح20922 وص424، ح20959 و20960 وص429، ح20991.

تضلوا... .

الجهة الثانية: حديث التمسك بالثقلين

حديث التمسك بالثقلين وهو من الأحاديث الصحيحة عند جميع المسلمين والمعروف بحديث الثقلين وفيه دلالة واضحة على إمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»((1)).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»((2)).

وفي بعض الأحاديث أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أشار في هذا الحديث إلى الأئمة (عليهم السلام) ، حيث ذكر الحمويني الشافعي في فرائد السمطين المناشدة التي ألقاها أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي ضمنها قال (عليه السلام) :

ص: 120


1- أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم وهو الحديث 874 من أحاديث كنز العمال في ص44 من جزئه الأول.
2- أخرجه أحمد من حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين أحدهما في أول صفحة 182، والثاني في آخر صفحة 189 من الجزء الخامس من مسنده. وأخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت أيضا وهو الحديث 873 من أحاديث الكنز ص 44 من جزئه الأول.

أنشدكم اللّه أتعلمون أن رسول اللّه قام خطيبا لم يخطب بعد ذلك وقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لن تضلوا، فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فقام عمر بن الخطاب شبه المغضب فقال: يا رسول اللّه أكل أهل بيتك؟ فقال: لا. ولكن أوصيائي منهم، أولهم أخي ووزيري وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي هو أولهم، ثم إبني الحسن ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحدا بعد واحد حتى يردوا علي الحوض شهداء اللّه في أرضه، وحججه على خلقه، وخزان علمه ومعادن حكمته، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، ومن عصاهم فقد عصى اللّه؟ فقالوا كلهم - اي في جوابهم لعلي (عليه السلام) - نشهد أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال ذلك((1)).

الملاحظ في هذا الحديث هو الإشارة الى أمرين مهمين لهما الدلالة على امامة ائمتنا (عليهم السلام) ، والأمران هما:

1- العصمة لهذه العترة من الانحراف عن الحق وذلك بدلالة اقترانها بالقران الكريم دون مفارقته في شيء فمن الواضح أن كتاب اللّه مصون من الباطل فكذلك العترة التي لا تفارقه وهذا يصدق على ما يقول به مذهب أهل البيت من لزوم عصمة الإمام.

2- بقاء هذه العترة مقارنة للقرآن والحق ما دامت الدنيا إلى قيام الساعة لأن القرآن باق مصون كذلك، وهذا أيضا مما يتلائم مع مذهب أهل البيت الذي حصر الإمامة في هؤلاء الاثني عشر (عليهم السلام) .

ص: 121


1- فرائد السمطين، ابراهيم بن محمد الحمويني، باب 58.
الجهة الثالثة: حديث السفينة

حديث السفينة، وهو حديث مشهور صحيح متواتر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) روي بطرق كثيرة منها:

عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له((1)).

ووجه الدلالة في الحديث على إمامة الأئمة (عليهم السلام) هو تشبيه أهل البيت بسفينة نوح وأن النجاة في اتبّاعهم والتمسك بهم، ومن الواضح ليس للنبي أهل بيت عَدُّوا انفسهم أئمةً وقادة يلزم إتباعهم غير الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، فاذا لم يكونوا هم الذين شُبّهوا بسفينة نوح فمن عسى أن يكون؟! فليس هناك - إثنا عشر رجلا من أهل بيته - غيرهم ممن ادّعى الإمامة ولا من اِتُخِذ إماما غيرهم.

الجهة الرابعة: ذكر أسمائهم (عليهم السلام)

أحاديث نصّ بها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أسمائهم (عليهم السلام) .

فقد وردت روايات كثيرة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمناسبات عديدة ذكر فيها أسماء الأئمة، كذلك صدر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتجاوزت هذه الروايات حد التواتر الإجمالي والمعنوي - وسيأتي معنى التواتر المعنوي والاجمالي - مما لا يحتاج معه ضرورة الوقوف على صحة الأسانيد فيها، لأن تواترها يغني عن

ص: 122


1- الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص168.

ذلك، فمن ذلك:

1- رواية ذكرها الكافي وقد رواها أكابر المحدثين مثل الصدوق والمفيد والطوسي أعلى اللّه مقامهم عن عبد الرحمن بن سالم عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال أبي لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: (إنّ لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها فقال له جابر: أي الأوقات أحببته، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب؟.

فقال جابر: أشهد باللّه أني دخلت على أمك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهنيتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه كتابا أبيض شبه لون الشمس فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه اللّه إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه اسم أبي واسم بعْلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (عليها السلام) فقرأته واستنسخته.

فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما خالف حرف حرفا، فقال جابر: فأشهد باللّه أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا: بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله،

ص: 123

نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين.

عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي، إني أنا اللّه لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديان الدين، إني أنا اللّه لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي، عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، إني لم أبعث نبيا فكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا، وإني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسنا معدن علمي، بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود، محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه أتيحت بعده لموسى فتنة عمياء حندس، لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى، وإن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في علي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة، وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح، إلى جنب شر خلقي، حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه

ص: 124

وخليفته من بعده ووارث علمه فهو معدن علمي وموضع سري وحجتي على خلقي لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي وأميني على وحيي أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن، وأكمل ذلك بابنه (م ح م د) رحمة للعالمين عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب فيذل أوليائي في زمانه وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرنة في نسائهم، أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون).

قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصنه إلا عن أهله((1)).

2- وهذه رواية أخرى رواها محمد بن مسلم ابن أبي الفوارس الرازي في كتاب الأربعين في مناقب أمير المؤمنين عن أبي حفص أحمد بن نافع البصري قال حدثني أبي وكان خادما للامام أبى الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال حدثني الرضا قال حدثني أبي العبد الصالح موسى بن جعفر قال حدثني أبي جعفر الصادق قال حدثني أبي باقر علم الأنبياء محمد بن

ص: 125


1- الكافي، كتاب الحجة، الحديث الثالث؛ وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، ج2، ص48.

علي قال حدثني أبي سيد العابدين علي بن الحسين قال حدثني أبي سيد الشهداء الحسين بن علي قال حدثني أبي سيد الأوصياء علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه أنه قال قال أخي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من أحب أن يلقى اللّه عز وجل هو مقبل عليه غير معرض فليتولك ومن سره أن يلقى اللّه عز وجل وهو راض عنه فليتول ابنك الحسن ومن أحب ان يلقى اللّه عز وجل ولا خوف عليه فليتول ابنك الحسين ومن أحب أن يلقى اللّه وقد تمحص عنه ذنوبه فليتول علي بن الحسين فإنه كما قال اللّه سيماهم في وجوههم من أثر السجود ومن أحب أن يلقى اللّه عز وجل وهو قرير فليتول محمد بن علي ومن أحب أن يلقى اللّه فيعطيه كتابه بيمينه فليتول جعفر بن محمد الصادق ومن أحب أن يلقى اللّه طاهرا مطهرا فليتول موسى ابن جعفر الكاظم ومن أحب أن يلقى اللّه وهو ضاحك فليتول علي بن موسى الرضا ومن أحب ان يلقى اللّه وقد رفعت درجاته وبدلت سيئاته حسنات فليتول ابنه محمدا ومن أحب أن يلقى اللّه عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويدخله جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فليتول ابنه عليا ومن أحب أن يلقى اللّه عز وجل وهو من الفائزين فليتول إبنه الحسن العسكري ومن أحب ان يلقى اللّه عز وجل وقد كمل ايمانه وحسن اسلامه فليتول إبنه المنتظر محمدا صاحب الزمان المهدى فهؤلاء مصابيح الدجى وأئمة الهدى وأعلام التقى فمن أحبهم وتولاهم كنت ضامنا له على اللّه الجنة((1)).

ص: 126


1- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج1، ص58؛ وبهذا المضمون: بحار الأنوار، ج36، ص296.

3- وكذلك ما رواه جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال لما قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)) ، قلت: يا رسول اللّه عرفنا اللّه فأطعناه وعرفناك فأطعناك فمن أولي الأمر الذي أمرنا اللّه بطاعتهم، قال: هم خلفائي يا جابر وأولياء الأمر بعدي: أولهم أخي علي (عليه السلام) ثم من بعده الحسن ولده، ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي، وستدركه يا جابر فإذا أدركته فاقرأه مني السلام، ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي ثم علي محمد ثم الحسن بن علي ثم محمد بن الحسن يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما((2)).

والروايات في ذلك كثيرة عنهم (عليهم السلام) .

الجهة الخامسة: معجزاتهم (عليهم السلام)

الروايات المتواترة في قيامهم (عليهم السلام) بأفعال إعجازية تعزز إمامتهم.

و وجه الاستدلال في ذلك هو أن المعجزة لا تكون إلا بتمكين اللّه تعالى لنبيه أو وليه ليكون تصديقا منه تعالى على المدّعى وتكون المعجزة عادة تحدّيا من النبي أو الإمام لغيره من أن ياتوا بمثله وهي ليست بسحر أو شعبذة أو عملية رياضية وتفنن بل هي أمر يعجز عنها الناس ومن علاماتها انها قد تكون بطلب من الطرف الآخر كما طلبوا من النبي صالح خروج الناقة من

ص: 127


1- النساء: 59.
2- منتخب الأثر الباب الثامن بأكثر من خمسين طريقا.

جوف الجبل ومن عيسى إنزال مائدة وحينما يستجيب اللّه تعالى ويمكّن نبيّه أو وليّه من ذلك فهو تصديق لما يدعيه من نبوة أو إمامة وقد حصل الكثير من ذلك للأئمة (عليهم السلام) ومن ذلك حديث الحجر الأسود لإبن الحنفية بأمر الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وقد استشهد به على محمد ابن الحنفية فشهد له بالإمامة وكانا يومئذ بمكة فقال (عليه السلام) لمحمد: ابدأ فابتهل إلى اللّه واسأله أن ينطق لك فابتهل محمد في الدعاء ثم دعا فلم يجبه فقال (عليه السلام) : أما إنك يا عم لو كنت إماما لأجابك، فقال له محمد: فادع أنت يا ابن أخي، فدعا (عليه السلام) بما أراد ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء لما أخبرتنا بلسان عربي مبين من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي، فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه اللّه بلسان عربي مبين فقال: اللّهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) . فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين (عليهما السلام) ((1)).

وهكذا ظهرت الكرامات والمعاجز بأمرهم (عليهم السلام) في دلائل إمامة كل منهم (عليهم السلام) مما يدل على تصديق اللّه تعالى لهم فيما ادعوا من الإمامة، ويمكن مراجعة المدونات في خصوص ذلك.

الجهة السادسة: التصريح أو التلويح من كل إمام بالإمام الذي بعده

ويُعَدُّ من دلائل الإمامة تصريح كل إمام غالبا باسم الإمام الذي يليه من

ص: 128


1- انظر: بصائر الدرجات، ص522؛ والكافي، ج1، ص5، ح282؛ الإمامة والتبصرة، ص61 و62، ح49.

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا موجود مقرر في كتب الحديث والتاريخ، ولا يُنظر إلى ضعف في سند فيما اذا وُجد لأن هذا التصريح ليس هو الدليل الأول والأخير على إمامة الإمام التالي بل هو واحد من أدلة عديدة وكلها مكتنفة بما يبعث اليقين في صحة إمامة الإمام الآخر، فضلا عن التلويح الذي هو الآخر دليل بنفسه، حيث كان كل إمام يغتنم الفرصة ليلوّح باسم الإمام الذي يليه بالإمامة، ومن ثَم يتوضح ذلك للشيعة المعاصرين لذلك الإمام تدريجيا، فيتبعون الإمام التالي، وربما تظهر لهم حقائق من المعاجز أو العلم والحجة التي تجعلهم يذعنون بذلك فتشيع عندهم إمامته وتستحكم حجته، وهكذا تتسالم الأجيال المؤمنة على إمامة الائمة بسبب ظهور الحجج منهم والدلائل المقنعة على إمامتهم، وينبغي تحليل هذه الجهة من الاستدلال بأن الائمة (عليهم السلام) كانوا مستهدفين من جميع من عاصروا من الحكام الذين لا يروق لهم أن تكون هناك جهة شرعية غيرهم يرجع اليهم بعض الناس ويؤمنون بولايتهم وامامتهم، وذلك واضح في حياتهم (عليهم السلام) ، وكانوا دائما معرّضين للاعتقال والنفي والقتل وكذلك أشياعهم وهذا مما لا يخفى على المتحري عن ذلك وكان هذا من أهم الأسباب التي تحول دون التصريح الواضح من الإمام على الإمام الذي يخلفه، من هنا كانت الشواهد هي الدالة إلى ذلك مثل إيداع الإمام صندوق ودائعه الخاصة الى الامام الذي بعده أو إحالة الجواب في بعض الاسئلة إليه في حضوره ليجيب عنها فتظهر منزلته، وكذلك الإشادة به بتعبير لا يقال غالبا إلا في حق الإمام، كقولهم إنه خير أهل الارض أو أنه خير مولود أو أن الإمام لا يغسله

ص: 129

ولا يصلي عليه إلا الإمام وما شابه ذلك من التلويح إلى إمامته بعد ذلك، نعم ربما كانت تحين فرصة يمكن للإمام أن يصرّح باسمه لخواص أصحابه كما حدث ذلك للإمام الرضا (عليه السلام) حيث صرّح باسم ولده الجواد وبعده الهادي وبعده العسكري ثم الحجة (عليهم السلام) وكان ذلك طبيعيا بعد أن اصبح هو بنفسه وليا للعهد حسب ظاهر حكومة المأمون، ولذلك ليس غريبا أن يقال إن النصوص في هذه المرحلة لم تكن صريحة في كل مراحلها فربما كانت للخواص وربما كانت بالتلويح وربما كان فيها حيثية التقية، ويذكر أن المنصور العباسي لما سمع بشهادة الإمام الصادق (عليه السلام) كتب إلى واليه على المدينة يأمره بقتل من أوصى إليه الإمام فكتب إليه أنه قد أوصى الى خمسة أحدهم أنت والآخر أنا كما أوصى الى زوجته حميدة وإلى ولده موسى((1)).

وهذا ينبأ عن دراية الإمام بنواياهم وتفويت فرصة مكرهم، ومع هذه الأجواء الرهيبة والظروف الصعبة كان التصريح يصدر بصورة سرية أو بتلويح وبذلك كانت الامامة تغدو جلية وواضحة في حجتها عند الشيعة مع تراكم الحجج والدلائل التي لا يبقى معها شك عند أتباع الائمة في إمامة إمامهم ولذلك كان إذا حصل ارباك عند بعضهم بعد رحيل الإمام لم يلبث كثيرا حتى يتبين له الحق فيذعن له مثل الكيساني الذي كان يقول بامامة محمد ابن الحنفية فلا يلبث أن يقر بإمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ويرجع الواقفي الى إمامة الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) وربما لم تنشق جماعة جديدة

ص: 130


1- الكافي، ج1، ص310، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسى (عليه السلام) .

من الشيعة بعد إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) لإنه كان قد صرح جليًا بإمامة الائمة من بعده.

ولابد من القول إن ذلك كله لا يضر بالاستدلال لأن هذه الجهة وان كانت بنفسها حجة إلا أنها مكتنفة بالحجج البالغة والدلائل الواضحة في الجهات الأخرى التي تُذكر والتي لا يبقى معها أدنى شك في صحة القول بإمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

الجهة السابعة: فرضية العصمة في الإمام
اشارة

العصمة المفترضة في الإمام عقلا ونقلا هي الأخرى دليل على إمامتهم (عليهم السلام) .

1- أما عقلا:

فلقد دلّ العقل على ضرورة أن يكون خليفة النبي معصوما من الانحراف والمعصية والخطأ، وذلك لأن الحكيم لا يجعل من يكون ناطقا عنه في كل شيء ثم يأمرنا بطاعته طاعة مطلقة عن أي قيد ثم يكون ذلك المجعول ممن يمكن عليه الخطأ؟! لقد قال تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)) فلو لم يكن الإمام والولي معصوما عن الخطأ لأمكن أن يأمرنا بخلاف طاعة اللّه وهذا ينافي الآية التي دعت الى طاعته المطلقة وفي كل الاحوال، ولا نطيل هنا وقد ذكرنا ذلك في فصل عصمة الأنبياء.

ص: 131


1- النساء: 59.
2- وأما نقلا:

لقد مضى الكلام في قول اللّه تعالى: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}((1)) في فصل سابق مما يدل على ضرورة عصمة من يعهد اللّه له بالإمامة، ومن ثَمّ يكون الاستدلال على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ، وذلك لأن المسلمين أجمعوا على عدم عصمة أحد من الحكام أو الخلفاء بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلابد أن لا يكون واحد منهم هو الإمام المعهود إليه بالامامة من قبل اللّه تعالى، فلا مناص من الاخذ بالقول الآخر وهو القول بعصمة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم هم من عهد اللّه لهم ذلك كما عليه شيعتهم.

الجهة الثامنة: أحاديث اختيار اللّه لهم (عليهم السلام)

ومن ذلك أحاديث اختيار اللّه لهم مثل حديث ما روي عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: إن اللّه اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختارني من الرسل، واختار مني عليا واختار من علي الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء وهم تسعة من ولده ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين((2)).

ص: 132


1- البقرة: 124.
2- منتخب الاثر الباب السادس بأكثر من مائة وأربعين طريقا.
الجهة التاسعة: فضائلهم ومناقبهم العظيمة

وكذلك اتفاق المسلمين على فضائل ومناقب عظيمة تحلّت بها هذه الصفوة كالسماحة والشجاعة والحلم والكرم ومكانتهم العلمية وكونهم لم يأخذوا علومهم من معلمين ومشايخ كسائر العلماء بل ورثوا العلم، وأنهم بلغوا أعلى درجات الكمال من التقوى والزهد والصدق في حياتهم، ولهم خصائص مثل وِراثتهم العلم لدُنيّا لا اكتسابيا كما قال تعالى في العبد الصالح: {وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}((1))، فكانوا (عليهم السلام) أعلم الناس وأفضلهم وأتقاهم وأقضاهم ولم يلكنوا يوما عن الإجابة على أي سؤال وما ذلك كله إلا للإمامة التي جعلها اللّه فيهم.

الجهة العاشرة: النبوغ العلمي المُبكر

ظهور النبوغ والعلم الوافر والإجابة على أعقد المسائل وهم في صغر سنهم كالإمام الجواد والإمام الهادي والحجة المنتظر (عليهم السلام) حيث بلغوا مرحلة الإمامة في سن مبكر وليس في ذلك غرابة بعد أن صرح القرآن بمثل ذلك في حق النبي عيسى (عليه السلام) الذي كلم الناس بالمهد وقال {ءَاتَىٰنِيَ ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}((2)) وكذلك النبي يحيى (عليه السلام) الذي قال تعالى فيه: {وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا}((3)) بل ذلك دليل على أن الإمامة كالنبوة عهد من

ص: 133


1- الكهف: 65.
2- مريم: 30.
3- مريم: 12.

اللّه يؤتيه أهله ويعلمهم من الأحاديث.

الجهة الحادية عشرة: حصول التواتر على إمامتهم

دليل التواتر: والتواتر من التتابع قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}((1)) وتواتر الحديث بنفسه حجة تورث الاطمئنان الى حد اليقين بصدور الحديث لأنه يستبعد جدا أن يكون الرواة المتعددون قد اتفقوا على الكذب في نسبة الحديث الى قائله وبذلك يُعد حجة على العبد. ولتوضيح ذلك نقول: التواتر على أقسام ثلاثة:

1- التواتر اللفظي اي ما كان في لفظ واحد او مرادفه كما في حديث (اني تارك فيكم الثقلين) فقد ذكرت كلمة (الثقلين) في هذا الحديث ونُقل الحديث من طرق متعددة تنتهي أسانيدها الى عدة افراد نقلوا ذلك عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبقي يتناقل عبر الأجيال على صورته المتعددة أي بقي متواترا عند طبقات الأجيال إلى أن وصلنا كذلك من طرق عديدة، فهنا لا نشك بصدور الحديث بلفظ (الثقلين) منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحتى اذا فرضنا ان بعض أسانيد طرق الحديث غير تامة فلا يضر ذلك مع حصول التواتر أي كثرة النقل مما يستبعد عقلا اتفاق الرواة للحديث على الكذب.

2- التواتر المعنوي، أي قد تختلف الأحاديث المنقولة بشكلها الآحادي من حيث اللفظ إلا أنها متواترة من حيث دلالتها على معنى واحد وذلك مثل الأحاديث التي تحدثت عن مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في سوح القتال

ص: 134


1- المؤمنون: 44.

فهي في معناها متفقة على شجاعة وقوة يتحلى بها أمير المؤمنين (عليه السلام) ومع ذلك لا يضر إذا وصلتنا بعض تلك الأحاديث ضعيفة في سندها لأننا بتواتر الأخبار ايقنا بالفعل بشجاعته (عليه السلام) .

3- التواتر الإجمالي وذلك حيث ترد روايات آحاد وأخبار مختلفة في ألفاظها وفي شرائطها ولكن لكثرتها لا يمكن تكذيبها جميعا بل يقطع العقل بصدور بعضها اجمالا وان لم يحدد ذلك البعض ثم يلاحظ القدر المتيقن منها فيكون ذلك حجة يلزم العمل به، فمثلا إننا نرى في يومنا هذا آلافًا من الأحاديث المنسوبة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلو فرضناها آحادا وغير صحيحة السند مع ذلك نقطع بصدور بعضها لا على التعيين فلا يحتمل العقل أن هذه الآلاف كلها وضعت كذبا عليه، ثم تُلاحظ مجموعة من الأحاديث التي تحدثت عن تكليف ما فيؤخذ بالمقدار المتيقن والمذكور تصريحا أو إشارة وجعله واحدا من اجزاء او شرائط الموضوع المراد تنفيذه، ولنضرب مثالا افتراضيا لتوضيح الفكرة فنقول:

لو فرضنا أن رجلا كان مسافرًا ولما رجع سمع بنبأ وفاة أبيه ثم أخبره أحد ما أن اباه كان قد أوصى ببناء مسجد من أمواله، بينما شخص آخر أبلغه أنه رأى أباه قبل موته فأوصى بإحداث مبنىً خيري، وشخص ثالث قال له أوصى والدك بإنشاء مؤسسة فيها مسجد ومكتبة عامة، ورابع أخبره أنه أوصى بأن يعمل له ما ينفعه في آخرته، وخامس أخبره أنه أوصى ببناء مسجد وحسينية، ثم جعل الابن يفكر ونفسه فوجد انه لا يعرف احداً من هولاء المخبرين ولا يدري صدقهم من كذبهم وضبطهم للوصية وعدم ذلك، إلا أنه من خلال

ص: 135

ذلك يحصل له يقين وبلا شك ولا تردد ان أباه بالفعل قد أوصى بوصية، ولكن لا يدري أي واحدة من هذه الأمور كانت وصيته فماذا يفعل؟ يذكر في الجواب أنه لو قام ببناء مسجد يكون قد عمل بالقدر المتيقن مما أراده أبوه وذلك لأن أحدهم ذكر المسجد والآخر قال أي مبنى خيري وهو ينطبق على بناء مسجد والثالث أشار للمسجد مع المكتبة والرابع للمسجد مع الحسينية والخامس أن يعمل ما ينفعه لآخرته، وبناء مسجد ينفعه في آخرته فعلا، فمن خلال أقوالهم تأكد أن بناء المسجد هو القدر المتيقن والمؤكد لأنه به تجتمع كل الوصايا التي بلغته عن أبيه وفي ذلك رضاه ورضا اللّه تعالى، فهو بذلك حصل على مقدار تيقن أنه أمر مطلوب لا محالة، فهذا هو التواتر الاجمالي حيث من هذا الإجمال يعلم مقدار ما هو مطلوب منه.

بعد هذا التوضيح لمعنى التواتر في الأخبار وأقسامها نقول:

لا يضر ضعف بعض الأسناد في بعض الجهات أو الأقوال أو النصوص في بعض روايات جهات الاستدلال لأننا بتواتر الروايات الكثيرة سواء منها اللفظي أم المعنوي أم الاجمالي في مواضيع متعددة وجهات كثيرة في خصوص عترة النبي وأهل بيته من أنهم هم المعنيون بآيات الاصطفاء والاختيار الإلهي وأنهم هم المعنيون بروايات الخلافة والوصاية للنبي وهم الوارثون لعلوم جدهم وعلوم الانبياء وهم المطهرون من الرجس وهم المشار إليهم في أحاديث الثقلين وأحاديث السفينة وأحاديث الفرقة الناجية وأنهم هم أصحاب المعاجز الباهرة بعد كل ذلك نكون مطمئنين بل موقنين بأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرادهم هم في أحاديث الخلافة في إثني عشر إماما بل ذكر

ص: 136

اسماءهم وأنهم هم أئمتنا (عليهم السلام) الذين توفرت فيهم شرائط الإمامة من العصمة وكونهم أعلم الناس وأتقاهم و... الخ وبعد حصول هذا التواتر المتنوع لهذه الاخبار في زمن الصدور وبعد ذلك لدى الأجيال ثم إلينا خلال المصادر الموجودة بعد كل ذلك لا يبقى مجال للشك في امامتهم (عليهم السلام) ولا يتزلزل اعتقادنا بذلك بسبب ضعف بعض الروايات لأن هذا التواتر بانواعه الحاصلة بنفسه مورث للاطمئنان بل اليقين على صحة المعتقد بإمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

أقول هذه بعض الجهات التي يستدل بها على إمامتهم (عليهم السلام) ولم أستقصها جميعا فهناك دلائل أخرى مؤيدة، ولكنني اتصور أن ما ذكر بهذا المختصر من الأدلة كاف لمن ينصف ويريد أن يكون على يقين وقناعة تامة في معتقده هذا.

وقبل أن نختم هذا الفصل الذي هو أهم الفصول في موضوع إمامة أهل البيت (عليهم السلام) نتساءل ممن يرفض ذلك ولا يرى ضرورة الإعتقاد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) ونقول يا ترى كيف تكون إجابتكم على مثل هذه الأسئلة:

1- من هم الأئمة الاثنا عشر الذين أشار لهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

2- من هم الذين يمثلون عترة النبي والذي يفترض أنهم لا يفارقون القرآن الى يوم الساعة كما في حديث الثقلين؟

3- من هو إمام الزمان الذي من مات ولم يعرفه يمت ميتة جاهلية كما ياتي؟

4- كيف يجب إطاعة ولي الأمر بشكل مطلق امتثالاً للآية {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ

ص: 137

وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)) وقد يأمر الحاكم بالمعصية؟

5- من هو الهادي لقومنا في زمننا هذا الذي لا يجوز عليه الخطأ والذي قال القرآن فيه {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}((2))، والذي لا يخطأ والا لم يعد هاديا دائما، فمن هو الهادي بهذا المستوى في الأزمنة والأقوام بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك في زمننا هذا؟

6- إذا لم يكن القائلون بإمامة أهل البيت هم أتباع مذهب عترة النبي فمن هم التابعون للعترة التي أمر النبي بالتمسك بهم؟

وهناك الكثير من الأسئلة التي تبقى دون اجابة، إلا بالإذعان بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) .

اسأل اللّه البصيرة وحسن العاقبة لنا جميعا.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 138


1- النساء: 59.
2- الرعد: 7.

(4) الاعتقاد بالحجة المهدي إمام زماننا

اشارة

من أظهر ما يمتاز به الشيعة من معتقد هو اعتقادهم بإمامة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ، وأنه الإمام الثاني عشر وهو ابن الإمام الحسن العسكري وهو الإمام الحي الغائب عن الأنظار والذي طال عمره وغيبته بما هو لا يعتاده إنسان عادي، حيث ولد سنة 255 من الهجرة وكانت ولادته مكتنفة بالخفاء والحذر وابتدأت غيبته سنة 260 بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن (عليه السلام) مسموما وامتدت إلى سنة 329 هجرية حيث كانت هي غيبته الصغرى، بمعنى كان له فيها نواب أربعة متوالون واحدا بعد وفاة الآخر يلتقونه (عليه السلام) وهم الوسطاء بينه وبين شيعته، ثم بعد وفاة آخرهم بدأت الغيبة الكبرى ولا تزال هي كذلك حتى يشاء اللّه تعالى إظهار أمره فيملأ به الأرض قسطا وعدلا بعد أن تملأ ظلما وجورا، كما ورد ذلك في الروايات.

رأي سائر المسلمين

أجمع المسلمون تقريبا على ضرورة وحقيقة المصلح المنتظر الذي بشّر به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي يظهر في آخر الزمان، وان اختلفوا في ولادته من أنّه هل وُلِدَ ام أنه يولد في آخر الزمان، وهل هو من ذرية الإمام الحسن

ص: 139

المجتبى ام الإمام الحسين الشهيد (عليهما السلام) ، إلا أن الشيعة يعتقدون بولادته كما مرّ وكونه الإمام الثاني عشر وأنه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فهو من أولاد جده الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) .

دليل التواتر على إمامته وقضيته

يُعدّ من أحكم الأدلة قوة وقدرة على إيجاد القناعة بل اليقين عند الفرد بما يرتئيه هو حصول التواتر، وهو - كما مرّ في فصل سابق - ما لا يمكن فيه الكذب في نقل الأخبار والأحداث، وبمعنى وصول الخبر عن طرق كثيرة تختلف في أسانيدها وقد تختلف في أزمانها ومحل صدورها ولكنها تتضمن في محتواها وفحواها شيئا واحدًا أو تشير إليه بنحو ما بحيث يحصل اليقين عند الإنسان بحدوث ذلك الحدث وذلك الخبر، سواء كان تواترا اجماليا أم معنويا كما مر توضيحه، فمثلا يصدّق اليوم الناس كلهم بولادة السيد المسيح (عليه السلام) ومن قبله بشخصية إنسان خرج على فرعون يدعى موسى (عليه السلام) وهناك نبي ظهر بعد موسى وعيسى ودعا للإسلام وانتصر على الجاهليين و.. إلى غير ذلك من أحداث مهمة لا يجرأ أي إنسان على إنكارها.

وبذلك تكوّن هذه الأحداث يقينا يسلّم ولا يشك بها الإنسان مع أنه لم يرها ولم يعاصرها وإنما اعتقد بها وأيقن بحصولها لأن هذه الطريقة في وصول الخبر تفيد اليقين بشكل طبيعي ومعتاد وذلك لعدم إمكانية تكذيب أصل الواقعة والخبر، وها نحن الآن نؤمن بالتاريخ ونتوافق على وجود دول وحكام حكموا، وحقائق حدثت من حروب وأحداث نسلّم بها مع أننا ما رأيناها ولا عاصرنا شيئا منها، وليس ذلك إلا للتاريخ الذي نقل إلينا بشكل

ص: 140

متواتر ومتعدد من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلينا، نعم قد يتضمن التاريخ قضايا مكذوبة وغير حقيقية إلا أنها لا تكون متعددة الأسانيد بحيث ذكرت في طرق عديدة ومن جهات مختلفة لتدل على صدورها بل تذكر من طريق أو طريقين وحينئذ يلاحظ رواة الحدث والحديث والتحقق في ملابسات ذلك لكن ما يصل إلينا عبر آلية التواتر من روايات أو أحاديث تنتهي بنا إلى اليقين بأصل الحدث وإن أمكن أن تكتنفه بعض الجزئيات مما يُختلف فيها إلا أنها تتفق على شيء مما تتضمنها يكون هو المتفق عليه الذي لا يمكن نكرانه لأنه بلغ حد التواتر، فمثلا كلنا يعتقد بحاكم حكم أيام العباسيين اسمه هارون وآخر المأمون وعلى يقين بذلك وهو بسبب تواتر ذلك ولا يضعفه ويضره فيما إذا اختلفت الأخبار في تحديد سنة حكومتهم وتاريخ ولادتهم أو وفاتهم فهذا لا يضر في حصول اليقين في أصل خبر حكومتهم زمنًا ما، كما يستوي أيضا أن يكون هذا الكم الهائل من تواتر الأخبار قد نقلها أناس ثقات نعرفهم أم أناس نجهلهم أم غير موثوقين وذلك لأن كثرة طرق الأخبار جعلتنا نوقن بحقيقة ما وقع وهذا هو (اليقين) والذي هو من أقوى الأدلة في المعتقد والرأي.

حقيقة الإمام المنتظر ودليل التواتر

وبعد هذا التوضيح لمعنى التواتر نقول إن مما وصل إلينا متواترًا بأحاديث رويت عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مصادر المسلمين عامة ومن الأئمة (عليهم السلام) بأعداد هائلة من الأحاديث أكدت في مضامينها على أن الإمام بعد الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام) هو ولده وهو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل

ص: 141

البيت (عليهم السلام) والذي له غيبة طويلة شاءت حكمة اللّه تعالى أن يُطال في عمره الشريف كما أطال في عمر آدم ونوح والخضر (عليهم السلام) كما شاء سبحانه أن تخفى ولادته كما أخفى ولادة ابراهيم وموسى (عليهما السلام) وذلك صونا له من أعداءه الذين خططوا لقتله كما خطط نمرود وفرعون لقتل النبي إبراهيم وموسى (عليهما السلام) .

وجدير أن نذكر أن الأحاديث التي تحدثت عن حقيقة هذا الإمام وما تجري من أمور في ذلك هي أحاديث عن جده المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجداده الأئمة عليهم جميعًا سلام اللّه، أي أنها قبل مولده الشريف بطرق وأسانيد كثيرة ومختلفة ومضامين عديدة في قضايا كثيرة لا يمكن التشكيك في الواقع الذي أشير فيها إلى حادثة ولادة الإمام وغيبته وما يجري بعد حين في آخر الزمان وفي أيام غيبته من أحداث تحدث، وهذا كله يورث الاعتقاد واليقين بمولده الشريف وغيبته الطويلة.

هذا فضلاً عن أننا بعد تلك الأحاديث المتضافرة التي صدرت من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حق ولده المنتظر (عليه السلام) لابد من الإيمان وقبول ذلك لأنه يُعدّ ذلك مما أخبر به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أخبار المستقبل الذي أخبره اللّه تعالى بها، لاسيما ونحن نشاهد اليوم أحداثا كثيرة تشبه ما تحدثوا عن وقوعها في عهد الغيبة من حروب طائفية ومظالم وفساد وغير ذلك.

دليل القرآن والعترة

ثم فضلا عن ذلك كله هناك من الأدلة في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يعزز ذلك.

ص: 142

فمن القرآن قول اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((1)).

قد مضى الحديث عن مفاد هذه الآية على ضرورة عصمة الولي كما مرّ حديث جابر الأنصاري فيها عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ذكره عن المراد من أولي الأمر من أنهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فيذكر اسماءهم حتى يقول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثم سمييّ وكنييّ حجة اللّه في أرضه وبقيته في عباده محمد بن الحسن بن علي (عليهم السلام) ، ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت: يا رسول اللّه فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال: إي والذي بعثني بالنبوة، إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر: هذا من مكنون سر اللّه ومخزون علم اللّه فاكتمه إلا عن أهله، الحديث»((2)).

وأما من أحاديث النبى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الحديث المشهور والصحيح عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حديث عدم افتراق العترة عن القرآن «إني تارك فيكم الثقلين.. وأنهما لن يفترقا..» يدل على ضرورة الإيمان بوجود هذا الإمام (عليه السلام) لانه لن يفترق عن القرآن فبما أن كتاب اللّه موجود بين أيدينا فكذلك الامام موجود بين ظهرانينا إلا أنه غائب عن أنظارنا.

ومنها الحديث المطبق عليه لدى المسلمين عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «من مات ولم

ص: 143


1- النساء: 59.
2- الزام الناصب، ج1، ص178؛ عن اعلام الورى، ص397.

يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»((1)) فهو أيضا يعد دليلًا على وجود الإمام (عليه السلام) ولا يمكن فرض هذه المكانة العظمية لغير خليفة اللّه في إرضه بحيث يكون إيمان المرء رهيناً بمعرفة رجل إلى درجة أنه لو مات دون معرفته بهذا الرجل مات ميتة أهل الجاهلية يعني على غير دين الإسلام، فهذه مكانة سامية معدودة شرطا من شرائط الإيمان لا يمكن أن تكون لكل من حكم في الأرض إلا أن يكون ممن شرط اللّه ولايته على خلقه وذلك هو الإمام المجعول من لدن نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

و من ذلك حديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «الخلفاء أو الأئمة من بعدي إثنا عشر كلهم من قريش» لا يتحقق إلا بالقول بإمامة إمامنا المهدي المنتظر (عليه السلام) ، وهذا الحديث أيضا تضافرت به كتب المسلمين عامة.

هذه بعض الأحاديث المجمع عليها في كتب المسلمين ليس لها تفسير إلا الإيمان بإمامة الأئمة الإثني عشر والذي منهم إمامنا (عليه السلام) وعجل اللّه فرجه.

هذا كله فضلًا عن النصوص التي وردت عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في إشاراته إلى امامة ولده المهدي من بعده ويمكن لمن يحب التفصيل مراجعة كتاب الغيبة للطوسي وغير ذلك.

دليل ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)

مما ورد من الأحاديث الدالة على ولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) ما نقله الشيخ

ص: 144


1- الثاقب في المناقب، ص495.

الكليني عن محمد بن عبد اللّه وكذلك عن محمد بن يحيى كلاهما نقلا له عن عبد اللّه بن جعفر الحميري. ويذكر الفقهاء أن هذا السند يعد في غاية الصحة والوثاقة، فالشيخ الكليني معروف إذا حدث هو مباشرة بكلام يحصل من نقله اليقين، ومحمد بن عبد اللّه هو محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري من الثقات الأجلة والأعاظم، ومحمد بن يحيى العطار هو أستاذ الشيخ الكليني من الأعاظم الأجلة فالشيخ الكليني ينقل عن شيخين من أساتذته الكبار يحدثانه عن عبد اللّه بن جعفر الحميري وهذا الآخر معروف بالوثاقة والجلالة. يقول عبد اللّه بن جعفر الحميري: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (أي السفير الاول ووكيل الإمام الخاص عثمان بن سعيد العمْري السمان) عند أحمد بن إسحاق (أي الأشعري المعروف بوثاقته) فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف (اي الامام الحجة الذي هو خلف أبيه في الامامة)، فقلت له: يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عن شئ وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة.... ولكن أحببت أن أزداد يقينا، فإن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى فقال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، وقد أخبرني أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن - يعني عن الإمام الهادي (عليه السلام) - قال: سألته وقلت: من أعامل؟ وعمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال: (العمري ثقتي، فما أدّى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون) وأخبرني أبو علي (اي أحمد بن اسحاق) أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) - (يعني الإمام العسكري) - عن

ص: 145

مثل ذلك؟ فقال (عليه السلام) : (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان)، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك، قال: فخرّ أبو عمرو ساجدا وبكى ثم قال: سل حاجتك، فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد؟ - يعني من بعد العسكري - فقال: إي واللّه((1)).

ويعد هذا الحديث الصحيح بنفسه دليلًا يورث الاطمئنان بل اليقين مع ضميمة الاحاديث الأخرى إليه وما نقله التاريخ إلينا من مجريات الأحداث في قضية ولادة الإمام (عليه السلام) ، ويعّد هذا الحديث وأمثاله حجّة شرعية على الإنسان المؤمن لأنه مكلف أن يثق بخبر الثقة والعدل ويبني معتقده على ذلك، فما اعتقده ويعتقده الفرد الشيعي بضرورة القول بوجود إمام ثاني عشر وهو الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) حيّا غائبا هو من مستلزمات الأدلة الشرعية والعقلية والتي منها ضرورة تصديق قول العدول الثقات من الناس والإيمان بأخبارهم فضلا عما تواتر منهم.

دلالة التأريخ على ولادته (عليه السلام)

وفضلا عن الأخبار الواردة من النبي وأهل بيته صلى اللّه عليهم أجمعين مما شكلت تواترا في ذلك كما سبق، هناك من الدليل الطبيعي والعرفي والجاري على سائر الأعلام والأعاظم من الناس وهو دليل التاريخ الذي يسجل للمرء تاريخ ولادته ويثبّت وجوده في هذه الحياة، وهذا ما هو

ص: 146


1- الكافي، ج1، ص329، ح1؛ والغيبة للطوسي، ص243، ح209.

حاصل ومدوّن في كتب التاريخ والأخبار بخصوص الامام المنتظر (عليه السلام) من أنه ولد سنة 255 من الهجرة في النصف من شهر شعبان في مدينة سامراء العراق، وللسيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) حديثها المشهور في حضورها ليلة ميلاده في بيت ابن أخيها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والده وكيف أنه طلب منها أن تبيت ليلتها تلك في بيته لتكون راعية لزوجته السيدة نرجس لأنها على وشك وضع وليدها المبارك المنتظر (عليه السلام) ((1)).

كما ذكرت الأخبار لقاء الشيخ العمري (السفير الثاني للإمام الحجة (عليه السلام) ) مع ثلة من المؤمنين بالإمام العسكري وإخباره بامامة ولده من بعده، ففي الرواية عن الشيخ محمد بن عثمان العمري عَرَضَ عَلَيْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَنَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَقَالَ: هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا مَضَتْ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ حَتَّي مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) ((2)).

وهناك الكثير ممن رآه من خاصة الإمام العسكري كما ذكرت المصادر.

ثم إننا اذا رجعنا إلى قول المؤرخين والنسّابين والذين هم أهل الاختصاص في ذكر الأنساب نراهم قد ذكروا ولادة الإمام المهدي وإنه إبن الإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) ، ونشير هنا لبعضهم كما يلي:

1- كتاب الأصول في ذرية البضعة البتول للنسابة الشريف انس الكتبي

ص: 147


1- الكليني في الكافي، ج1، ص331؛ والقندوزي في ينابيع المودة، ج3، ص172.
2- الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة، ص435.

ص98 قال: فقد ولد المهدي بسرّ من رأى في النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين...

2- كتاب سمط النجوم العوالي في أبناء الأوائل والتوالي لعبد الملك الشافعي العصامي المجلد الرابع ص 150 قال في الامام الحسن العسكري: خلّف ولده محمدا وهو الإمام محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري.

3- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والاعلام للذهبي ج6 ص 69 رقم الترجمة 162 ذكر الإمام الحسن العسكري ثم قال: وهو والد منتظر الرافضة... ثم قال: وأما إبنه محمد بن الحسن ولد سنة 258 وقيل 256 عاش بعد أبيه سنتين ثم عُدم... ثم قال: ولم يعلم كيف مات...

4- عمدة الطالب في نسب آل أبي طالب للشريف جمال الدين أحمد بن عنبة المتوفى 828 ص 347 يتحدث عن عقب الإمام الهادي فيقول: أبو محمد الحسن العسكري (رحمه اللّه) كان من الزهد العلم العظيم هو والد الإمام محمد المهدي...

وغير ذلك من المصادر المختصة بالانساب ويعد مؤلفوها من ذوي الاختصاص والخبرة في الولادات والوفيات للمشاهير والأعلام وهم يعدون حجة ودليلا شرعا وعقلا في منحاههم واختصاصهم.

مما يؤكد غيبته (عليه السلام)

ثم من الجدير ذكره أن هؤلاء المؤرخين والنسابة لم يؤرخوا له سنة وفاة ولا ترجمة حياة بل يصرّح بعضهم أنه قد انقطعت اخباره ولا يعرف سنة

ص: 148

وفاته ولا مكانه ولا قبره ((1)).

وهذا يعضد ويؤيد ما نعتقده من غيبته (عليه السلام) فكيف لمثل هذا الإمام والذي هو ابن آبائه الأئمة الطاهرين الذين دونت تواريخهم ومناقبهم وآثارهم ثم ذكروا سني وفاتهم ومحل دفنهم وقبورهم و... ولكن لا يذكر أي شيء من هذا القبيل للإمام الثاني عشر (عليه السلام) ، لا محل سكناه ولا ملتقاه ولا من حكى عنه أو التقاه في منتداه وفي بيته وليس هذا إلا لصدق وحقيقة ما يعتقده الشيعة من غيبته (عليه السلام) عن الانظار بقدرة من اللّه تعالى في ذلك الوقت وعدم ظهوره إلى الملأ العام إلى هذه الساعة.

التشرّف بلقائه (عليه السلام)

ثم إن هناك أيضا من القصص والتاريخ المعتد به الذي أخبر عن تشرف بعض المؤمنين الصالحين برؤية ولقاء إمامنا (عليه السلام) في غيبته وحضي بتفريج كربته مما يعزز وجوده الشريف وإمامته (عليه السلام) .

و من ذلك ما حدّث به الشيخ ابو جعفر الطبري مؤلف كتاب دلائل الإمامة عن رجل خرج هاربا من سطوة حاكم ثم علمّه الإمام صلاة يصليها ليفرّج اللّه عنه كربته فقال في كتابه حدثني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدثني أبو الحسين بن أبي البغل الكاتب، قال: تقلدت عملا من أبي منصور بن الصالحان، وجرى بيني وبينه ما أوجب استتاري، فطلبني وأخافني، فمكثت مستترا خائفا، ثم قصدت مقابر قريش

ص: 149


1- كتاب الأصول في ذرية البضعة البتول، للشريف انس الكتبي، ص98.

ليلة الجمعة (اي مرقد الامامين الكاظمين (عليهما السلام) )، واعتمدت المبيت هناك للدعاء والمسألة، وكانت ليلة ريح ومطر، فسألت ابن جعفر القيم أن يغلق الأبواب وأن يجتهد في خلوة الموضع، لأخلو بما اريده من الدعاء والمسألة، وآمن من دخول إنسان مما لم آمنه، وخفت من لقائي له، ففعل وقفل الأبواب وانتصف الليل، وورد من الريح والمطر ما قطع الناس عن الموضع، ومكثت أدعو وأزور واصلي، فبينما أنا كذلك إذ سمعت وطأة عند مولانا موسى (أي الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) )، وإذا رجل يزور، فسلم على آدم وأولي العزم (عليهم السلام) ، ثم الأئمة واحدا واحدا إلى أن انتهى إلى صاحب الزمان (عليه السلام) فلم يذكره فعجبت من ذلك وقلت: لعله نسي، أو لم يعرف، أو هذا مذهب لهذا الرجل، فلما فرغ من زيارته صلى ركعتين، وأقبل إلى عند مولانا أبي جعفر (اي الامام الجواد (عليه السلام) ) فزار مثل الزيارة وذلك السلام، وصلى ركعتين، وأنا خائف منه، إذ لم أعرفه، ورأيته شابا تاما من الرجال، عليه ثياب بيض، وعمامة محنك بها بذؤابة وردي - ردائه - على كتفه مسبل، فقال لي: «يا أبا الحسين بن أبي البغل، أين أنت عن دعاء الفرج. فقلت: وما هو يا سيدي. فقال: تصلي ركعتين، وتقول: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، يا عظيم المن، يا كريم الصفح، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا منتهى كل نجوى، يا غاية كل شكوى، يا عون كل مستعين، يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها، يا رباه - عشر مرات - يا سيداه - عشر مرات - يا مولياه - عشر مرات - يا غايتاه - عشر مرات - يا منتهى رغبتاه - عشر مرات - أسألك بحق

ص: 150

هذه الأسماء، وبحق محمد وآله الطاهرين (عليه السلام) إلا ما كشفت كربي، ونفست همي، وفرجت عني، وأصلحت حالي وتدعو بعد ذلك بما شئت وتسأل حاجتك، ثم تضع خدك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرة في سجودك: يا محمد يا علي، يا علي يا محمد، أكفياني فإنكما كافياي، وانصراني فإنكما ناصراي، وتضع خدك الأيسر على الأرض، وتقول مائة مرة أدركني وتكررها كثيرا، وتقول: الغوث الغوث حتى ينقطع نفسك، وترفع رأسك، فإن اللّه بكرمه يقض حاجتك إن شاء اللّه تعالى».

فلما شغلت بالصلاة والدعاء خرج، فلما فرغت خرجت لإبن جعفر (أي القيّم على المكان) لأسأله عن الرجل وكيف دخل، فرأيت الأبواب على حالها مغلقة مقفلة، فعجبت من ذلك، وقلت: لعله باب هاهنا ولم أعلم، فأنبهت ابن جعفر القيم، فخرج إلي من بيت الزيت (أي غرفة الزيت) فسألته عن الرجل ودخوله، فقال: الأبواب مقفلة كما ترى ما فتحتها. فحدثته بالحديث فقال: هذا مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه وقد شاهدته دفعات في مثل هذه الليلة عن خلوها من الناس.

فتأسفت على ما فاتني منه، وخرجت عند قرب الفجر، وقصدت الكرخ إلى الموضع الذي كنت مستترا فيه، فما أضحى النهار إلا وأصحاب ابن الصالحان يلتمسون لقائي، ويسألون عني أصدقائي، ومعهم أمان من الوزير، ورقعة بخطه فيها كل جميل، فحضرت مع ثقة من أصدقائي عنده، فقام والتزمني وعاملني بما لم أعهده منه وقال: انتهت بك الحال إلى أن تشكوني إلى صاحب الزمان؟! (صلوات اللّه عليه).

ص: 151

فقلت: قد كان مني دعاء ومسألة. فقال: ويحك، رأيت البارحة مولاي صاحب الزمان صلوات اللّه عليه في النوم - يعني ليلة الجمعة - وهو يأمرني بكل جميل، ويجفو علي في ذلك جفوة خفتها. فقلت: لا إله إلا اللّه، أشهد أنهم الحق ومنتهى الصدق((1)).

الإمامة في العمر المبكر

ربما يعلق بذهن القارىء إستفساران في إمامة صاحب العصر (عليه السلام) .

أحدهما عن تبنّيه الإمامة بسن مبكر، أي وهو في الخامسة من عمره الشريف بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فهل تليق الإمامة بمن هو في هذه السن؟!

اقول من الطبيعي أن يستغرب الإنسان ذلك فيما لو كانت الإمامة منصبا سلطويا دنيويا بحتا يتبّناها المرء، وأما إذا علمنا أن الإمامة عهد إلهي واختيار ربانيّ لحكمة هو سبحانه وتعالى يعلمها فلا مجال للاستغراب، فإن اللّه تعالى الذي جعل عيسى (عليه السلام) نبيا في مهده وآتى يحيى (عليه السلام) الحكم صبيا لا غرابة أن يجعل المهدي (عليه السلام) إماما في ذلك العمر.

وينبغي العلم أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان للابتلاء والامتحان كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ...}((2)) ومن الإختبار لهذا الإنسان أن يبعث إليه نبيا إبن ثلاث

ص: 152


1- دلائل الإمامة، ص 551.
2- محمد: 31.

سنوات ويجعل له إماما ابن خمس سنوات وليس على العبد إلا التسليم لمولاه العليم الحكيم.

العمر الطويل والغيبة الطويلة

وايضا مما قد يُستغرب هو العمر الطويل والغيبة الطويلة للإمام (عليه السلام) ، كيف والمتعارف أن الإنسان إذا أشرف على الثمانين أو التسعين من عمره تضعف قواه بحيث غالبا يعجز عن كثير من وظائفه وغالبا ما لا يتجاوز عمره القرن أو أكثر من ذلك بقليل، فكيف بمن تجاوز عمره الألف سنة ويؤمل أن يظهر ليقود أمة بل يقود العالم ويحكم الأرض؟!

والجواب هو كالجواب السابق وهو أن الخالق القادر على أن يمدّ بعمر نبيه نوح وآدم ويرفع عيسى (عليهم السلام) لقادر أيضا أن يمدّ في عمر إمامنا (عليه السلام) ، وكما أننا لا نشك في تحقق ذلك للنبي نوح لأن القرآن نص على ذلك كذلك لا نشك في طول عمر الحجة المهدي لأن النبي الذي أتى بالقران الكريم هو نفسه أخبر عن غيبة طويلة لولده المهدي (عليه السلام) ((1)).

ص: 153


1- سمعت أحدَ المحاضرين من المدرسة الأخرى يقول إنّ الشيء غير المعتاد كالعمر الطويل لمئات السنوات لا يمكى القبول به إلاّ اذا صرّح به كتاب اللّه تعالى كمثل عمر النبيّ نوح (عليه السلام) ، وقضيّة غيبة الإمام المهدي وهذا العمر الطويل أمرٌ غير معتاد فلا يُقبل طالما لم يذكره القرآن الكريم. أقول: لا فرق بين النص اذا كان في القرآن الكريم أم على لسان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكلاهما ينقلان عن مشيئة اللّه تعالى لا سيّما وقد قال تعالى: {مَا ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر:7) وقد آتانا رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخبر الإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته الطويلة ونحن نأخذ به.

هذا إضافة إلى الدلائل الكثيرة التي مرّت مما توجب التسليم بهذا الواقع لأنها تتماشا مع الآيات والروايات الدالة على إمامة الأئمة الإثني عشر المعصومين (عليهم السلام) .

وخلاصة القول إن الإعتقاد بالإمام المنتظر (عليه السلام) وكونه حيا يرزق ينتظر أمر اللّه تعالى إليه بالظهور والفرج هو معتقد نابع من صميم أحاديث النبي وآله عليهم السلام أجمعين مما لا مناص من الإقرار بذلك والتسليم له.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 154

(5) الأئمة المعصومون وعلمهم بالغيب

اشارة

اتذكر مقطعا شاهدته لاحد المشايخ من السلفيين وقد اتصل به أحد الشيعة يسأله هل من اشكال كوني شيعيا؟ فاجابه هل تعتقد بعلم الغيب لعلي بن أبي طالب؟ قال كيف؟ قال لأن ذلك من الشرك باللّه لأن اللّه تعالى يقول {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ}((1)) فالاية تنفي أن يكون أحد يعلم الغيب ممن هو في السموات والأرض غير اللّه تعالى.

لذلك نقف عند هذه الشبهة ونبين ما نحن عليه من اعتقاد وهل ذلك يؤدي الى الشرك ام لا؟ وبداية نبيّن المعنى المراد من الغيب.

ما معنى الغيب؟

في اللغة الغَيْبُ: كلُّ ما غاب عنك. ومنه اسم الغابة لانها الأَجمة ذاتُ الشجر المُتَكاثف، لأَنها تُغَيِّبُ ما فيها((2)).

ص: 155


1- النمل: 65.
2- أنظر لسان العرب لابن منظور.

وأما الغيب في القرآن فهو في قبال الشهادة والحضور قال تعالى: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ}((1)).

فهناك ما يشاهده الإنسان ويحضره ويدركه عبر حواسه الخمس مما قد وقع أو هو واقع، وهناك ما يغيب عنه مما لم يعلمه سواء مما وقع أم هو واقع في حينه أم لم يقع بعد ويقع بعد حين، فهذا غيب لا يعلم منه شيئا.

هل علم الغيب خاص باللّه تعالى؟

مما لاشك فيه أن الغيب الشامل لكل ما هو يغيب عن الانسان معرفته وما هو شامل لمعرفة اللّه تعالى المطلقة وغير المحدودة هو غيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى، وهو خاص به عز وجل العالم بما كان وما يكون وما هو كائن بما لا حدّ، وذلك واضح جليّ في المعتقد وفق الآيات القرآنية الصريحة مثل الآية الآنفة الذكر ومثل قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}((2))، فهذه الآية والتي قبلها وغير ذلك صريح بنفي معرفة الغيب عن غير اللّه تعالى، وهذا ما يعتقده الشيعة، وهكذا كل صفة من صفاته تعالى التي يستحيل على غيره من خلقه المحدود أن يحيط بها، ولكن هذا لا ينافي أن يُخبر اللّه تعالى رسوله عن أمور مستقبلية أو ماضية لم يكن يعلمها فيعرفها رسوله، وليس ذلك من الشرك لأن هذا علم محدود اعطاه اللّه تعالى لخلفائه في الأرض.

ص: 156


1- التوبة: 105.
2- الأنعام: 59.

ونلاحظ في القرآن آيات كثيرة تتحدث عما أخبر الأنبياء قومهم من الغيب، لقد قال النبي يوسف (عليه السلام) لصاحبيه في السجن {يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا ٱلْأخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}((1)).

و كذلك نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضا عالم بالغيب ولكن ليس كعلم الرب بل بمقدار ما أخبره به ربّه فيكون علمه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالغيب مكتسبا من اللّه تعالى وليس مستقلا وكذلك محدودا بمقدار ما أخبره اللّه عز وجل حسب الحكمة التي يراها سبحانه في ذلك، وإلى هذا أشارت آيات قرآنية أخرى، قال تعالى: {عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ...}((2)).

فهو سبحانه يظهر غيبه على من يرتضيه من رسول، ولاشك أن نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أفضل من ارتضاه اللّه تعالى فليس من بُدّ أن يكون اللّه تعالى أظهره على الغيب.

وكذلك يقول تعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}((3)) فما أخبر سبحانه وتعالى نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أحداث الماضين من الأنبياء وغيرهم يعدّ كله من الغيب.

اذن من خلال الجمع بين الآيات نفهم أن الغيب من خصوصيات الخالق عز وجل بالأصل والاستقلال وما يخبر به ممن ارتضاه هو غيب أيضا ولكن

ص: 157


1- يوسف: 41.
2- الجن: 26-27.
3- آل عمران: 44؛ يوسف: 102.

بمقدار وإخبار منه تعالى.

وهذا واقع في القرآن الكريم، وفي أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي التاريخ أيضا.

يقول تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}((1)).

و أخبر النبي قومه أنهم سوف يدخلون مكة المكرمة فاتحين لها حاجين بيت اللّه تعالى وقد تحقق ذلك، فهو غيب قد علمه، ومن الطبيعي أن لا يستغرب ذلك أحد من المؤمنين لأن نبيهم يخبر عن الغيب بما أخبره اللّه تعالى فلا غرابة في ذلك، بل ذلك من دلائل نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ومما أخبر به النبي من الغيب مما سيحدث في مستقبل زمانه كثير، ومنه ما اتفق عليه المسلمون جميعا قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعائشة لَيْتَ شِعْري أيَّتُكُنَّ صاحِبَةُ الجَمَلِ الأدبَبِ تَنبَحُها كِلابُ الحَوأبِ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِها وَشِمالِها قَتلى كَثيرَةٌ كُلُّهُمْ في النّارِ، وَتَنْجُو بَعْدَ ما كادَتْ؟!((2)).

وقد وقع ما أخبر به مما لا يخفى.

و قال للزبير حينما رآه مع الإمام علي (عليه السلام) : اتحبّه يا زبير؟ قال وما يمنعني؟! فقال له النبي فكيف بك اذا قاتلته وانت ظالم له؟!((3)).

وقد وقع ذلك أيضا في حرب الجمل وكانت النتيجة أن أمير

ص: 158


1- الفتح: 27.
2- البداية والنهاية، ج6، ص212.
3- البداية والنهاية، ابن كثير، ج7، ص269.

المؤمنين (عليه السلام) ذكّر الزبير بقول رسول اللّه فاعتزل الحرب بعد أن قادها مع طلحة وعائشة.

وأما حديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واخباره عن استشهاد سبطه الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء وحديث تربته التي اعطاه اياها جبريل وأودعها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند أم سلمة هو الآخر حديث مشهور عند المسلمين وقد تحقق ما أخبر به دون شك((1)).

ولعلك تسأل كيف كل ذلك والآية صريحة على لسان النبيّ أنه لا يعلم الغيب كما قالت الآية: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ}((2)) حيث ظاهر الآية نفي وجود علم للغيب عند رسول اللّه لدلالة حرف (لو) التي تفيد معنى (امتناع لامتناع) فيكون مفاد الآية امتناع دفع الأذى والسوء كالمرض وماشابه لامتناع حصول الغيب، وبالتالي تفيد معنى عدم تحقق علم الغيب عند النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟!.

والجواب واضح بعد أن بينت أن هذا نفي للغيب المستقل وبمعناه الشامل وبدون اخبار اللّه تعالى، وهو كذلك فلو لم يخبر اللّه تعالى رسوله عن هذه الأمور وامثالها لم يكن النبي ليعلمها.

هل لأمير المؤمنين علم من الغيب؟

بعد أن اتضح ما تقدم لا يستغرب ما يدّعى من علم بالغيب لأمير

ص: 159


1- البداية والنهاية، ابن كثير، ج6، ص257.
2- الأعراف: 188.

المؤمنين علي (عليه السلام) ، لأن ذلك بإخبار رسول اللّه إياه بما أخبره الوحي، وإذا عُرف السبب بطل العجب، وهناك من الوقائع والحقائق التي أخبر بها الإمام علي (عليه السلام) وقد تحققت، قال (عليه السلام) : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه - ولن تقتلوه - ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرءوا مني، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج: والاشبه عندي أنه عنى معاوية، لانه كان موصوفا بالنهم وكثرة الأكل، وكان بطينا، يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه.. الخ((1)).

وصحيح أن معاوية كان معاصرا لأمير المؤمنين إلا أن ظهوره وغلبته وقبضته على الحكم في البلاد كان بعد إستشهاد الإمام (عليه السلام) ، ففي الواقع هو إخبار بالغيب.

كذلك أخبر عن غزو المغول للبلاد ولبغداد الذي وقع في القرن السابع من الهجرة وبه تلاشت الدولة العباسية.

فقال يصفهم: كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المِجَانُّ المُطَرِّقة، يلبسون السَّرَقَ والديباج، ويَعْتَقِبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرارُ قتل، حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المُفلت أقلَّ من المأسور! فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك وقال

ص: 160


1- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج4، ص54.

للرجل وكان كلبياً: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلمٌ من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده اللّه سبحانه بقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُۢ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ}((1))، فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا اللّه، وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمَهُ اللّه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيَه صدري، وتَضْطَمَّ عليه جوانحي.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه:

المِجَانّ: جمع مِجَن بكسر الميم وهو الترس لأنه يستتر به. والجُنة: السترة والجمع جُنن، يقال استجن بجُنة أي استتر بسترة. والمُطَرَّقة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة. والسَّرَق: شقق الحرير.

ثم قال: واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر عنه (عليه السلام) قد رأيناه نحن عياناً ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق، حتى وردت خيلهم العراق والشام.. إلى آخر كلامه((2)).

وكما ذكرت لا غرابة في ذلك بعد أن كان كل ذلك من اخبار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إياه وقد قال هو (عليه السلام) ما يفيد ذلك، ومنه ما ورد في خطابه في

ص: 161


1- لقمان: 34.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج8، ص215.

المدائن: يا أيها الناس إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسرَّ إليَّ ألف حديث في كل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت اللّه جل جلاله يقول: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، وإني أقسم لكم باللّه ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يُدعَون بإمامهم وهو ضبٌّ، ولو شئت أن أسميهم لفعلت، ثم حدق نظره إلى ثمانية نفر من المنافقين، كانوا في مجلس خمر، وقد صادوا ضباً حياً فبايعوه سخريةً بأمير المؤمنين (عليه السلام) ((1)).

علم الغيب عند سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ؟

طالما تبيّن أن الأمر ممكنا وليس محالا وكونه يعود إلى إخبار اللّه تعالى نبيّه فلا غرابة ولا منع من أن يكون الأئمة الذين ورثوا علم جدهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخباره أن يكون لهم من ذلك العلم أيضا لاسيما والأخبار والوقائع دلت على ذلك، فعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما من أرض مخصّبة ولا مجدبة، ولا فئة تضلّ مأة وتهدي مأة إلاّ أنا أعلمها، وقد علَّمتها أهل بيتي((2)).

كما ورد هذا المعنى عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب من نفى عنهم الغيب متذرّعًا بأنّ الغيب لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى، قال (عليه السلام) : أوليس اللّه يقول: {عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}((3))؟ فرسول اللّه عند اللّه مرتضى، ونحن ورثة ذلك

ص: 162


1- بصائر الدرجات، ص326.
2- بصائر الدرجات، للصفار، ص317.
3- الجن: 26-27.

الرسول الذي أطلعه اللّه على ما شاء من غيبه، فعلّمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة((1)).

حكمة علم النبي أو الإمام بالغيب

لعل واحدة من الحكم في ذلك هو كونه دلالة على النبوة والإمامة، فإن من يخبر عن قضايا عادة خارجة عن العلم الطبيعي يدلّ على كرامة له عند اللّه تعالى، ولا سيما اذا كان ذلك على سبيل التحدي فيكون من الإعجاز، كما قال اللّه تعالى في كتابه عن قول عيسى (عليه السلام) لبني إسرائيل وقد بُعث لهم: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَئَْةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}((2)).

فانباؤه لهم بما يأكلون ويدّخرون في بيوتهم هو إخبار بالغيب وهو آية من آيات نبوّته (عليه السلام) ، كذلك يعدّ ذلك آية على صدق دعوى الأئمة فيما يدّعون من امامة.

هذا وأخبارهم (عليهم السلام) بما يغيب عن الناس عادة لكثير ومن ذلك هذه الرواية:

عن هارون بن رئاب قال: كان لي أخ جارودي فدخلت على أبي عبد اللّه

ص: 163


1- بحار الأنوار، ج49، ص75.
2- آل عمران: 49.

- اي الامام الصادق (عليه السلام) - فقال لي: ما فعل أخوك الجارودي؟ قلت: صالح هو مرضي عند القاضي والجيران في الحالات غير أنه لا يقر بولايتكم، فقال: ما يمنعه من ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع، قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟! فقدمت على أخي فقلت له ثكلتك أمك، دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وسألني عنك، وأخبرته أنه مرضي عند الجيران في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم فقال: ما يمنعه ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع، قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟! فقال: أخبرك أبو عبد اللّه بهذا؟ قلت: نعم قال: أشهد أنه حجة رب العالمين، قلت: أخبرني عن قصتك قال: أقبلت من وراء نهر بلخ فصحبني رجل معه وصيفة فارهة، فقال: إما أن تقتبس لنا نارا فأحفظ عليك، وإما أن أقتبس نارا فتحفظ علي قلت: اذهب واقتبس، وأحفظ عليك، فلما ذهب قمت إلى الوصيفة وكان مني إليها ما كان، واللّه ما أفشت ولا أفشيت لاحد، ولم يعلم إلا اللّه، فخرجت من السنة الثانية وهو معي فأدخلته على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فما خرج من عنده حتى قال بإمامته((1)).

نستخلص مما تقدم أن الغيب تمامه عند اللّه تعالى ولا يكون عند أحد ما إلا بما يوحيه سبحانه فيكون ما عند غير اللّه تعالى محدودا وغير مستقل وإنما تبعا لما يخبره به سبحانه وتعالى.

سؤالان عن علم الأئمة بالغيب.

اولا: هل يعلم الإمام ساعة موته؟

ص: 164


1- بحار الانوار، ج47، ص157.

يأتي هذا السؤال غريبا بعد تصريح القرآن بالنفي الصريح عن علم أي أحد بذلك كما قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُۢ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ}((1)).

وقد ذكروا أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهنا (نفس) نكرة وقبلها (ما تعلم) نفي، وظاهر ذلك أن ايّ نفس كانت فهي لا تدري باي أرض تموت.

هذا وقد ذكرت بعض الروايات ما يوافق هذا الظاهر القرآني أيضا كما في حديث أمير المؤمنين السابق، وقال رجل للامام موسى بن جعفر (عليه السلام) إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك كم بقي من عمري؟ فرفعت يدك اليمنى وفتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي، فلم أعلم خمس سنين، أم خمسة أشهر، أم خمسة أيام؟ فقال: ولا واحدة منهن، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر اللّه تعالى بها في قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسُۢ بِأَيِّ أَرْضٖ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ}((2)).

الجواب: وذلك من جهات عديدة:

1- لقد نفت الآية وجود العلم بالغيب بنفسه ولم تنف امكانية تعليم

ص: 165


1- لقمان: 34.
2- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد، ج8، ص217.

ذلك، وقد تبين أن الأئمة يعلمون تلك الحقائق بتعليم اللّه لهم عن طريق ما ورثوه من جدهم أو عن طريق الإلهام أو غير ذلك فلا منافاة في ذلك.

2- إن الآية وإن كانت صريحة في هذا المعنى وكذلك بعض الروايات ولكن هذا لا يمنع من جمع ذلك مع آيات وروايات أخرى ومع الواقع التاريخي الذي يفيد امكانية علمهم حتى بموتهم، فلو قرنت الآية مع مثل قوله تعالى {إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}((1)) وقرنتها بما جاء في الروايات من اخبار الأئمة بدنو آجالهم ومحل استشهادهم علمت أن الآية لا تنفي هذا المقدار من الغيب، لاحظ كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) قبيل فجر اليوم الذي اغتيل فيه وقبيل خروجه الى المسجد وهو يكثر النظر إلى السماء ويقول: واللّه ما كذبت ولا كُذبِت، وإنها الليلة التي وعدت فيها((2)).

كذلك ما أخبره الإمام الحسين (عليه السلام) عن استشهاده في كربلاء في روايات وخطب عديدة منها قوله (عليه السلام) : خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم، خط بالقلم، رضا اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين((3)).

ص: 166


1- الجن: 27.
2- بحار الأنوار، ج24، ص226.
3- كشف الغمة، ج2، ص29.

وكما ذكرت أن علم المعصوم بذلك من آيات امامته ولا غرابة، وفي الحديث كان المفضل عند الامام الصادق (عليه السلام) فقال المفضل: جعلت فداك يفرض اللّه طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء - أي هل يمكن أن اللّه تعالى يوجب على العبد طاعة الإمام ويكون اللّه تعالى قد حجب عن الإمام أخبار السماء أي اخبار الغيب - ؟ قال: لا، اللّه أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساء((1)).

ثانيا: السؤال الثاني. الغيب والالقاء إلى التهلكة.

إذا كان الإمام يعلم بوقت موته فكيف يقدم على الخروج من البيت أو أكل طعام يودي بحياته أو غير ذلك مما يعلم أنه سيؤدي إلى هلاكه وقد قال تعالى {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ}((2)

الجواب:

أولا: وردت بعض الروايات مفادها أنهم قد لا يعلمون ببعض الغيب مثل قول الإمام الكاظم (عليه السلام) ، لَمّا سأله رجُلٌ مِنْ أهْلِ فارِسَ: أتَعْلَمُونَ الغَيْبَ؟ فقال: «يُبْسَطُ لَنا العِلْمُ فَنَعْلَمُ، وَيُقْبَضُ عَنّا فَلاَ نَعْلَمُ»((3)).

ووردت روايات أنهم (عليهم السلام) حين تناولهم طعاما يكون سبب استشهادهم يلقى عليهم النسيان.

ص: 167


1- الكافي، للكليني، ج1، ص261.
2- البقرة: 195.
3- الكافي، ج1، ص256.

قيل للامام الرضا (عليه السلام) : الإمام يعلم إذا مات؟ قال: نعم يعلم بالتعليم حتى يتقدم في الأمر، قال الراوي قلت: علم أبو الحسن (عليه السلام) - اي الامام الكاظم - بالرطب والريحان المسمومين اللذين بعث إليه يحيى بن خالد؟ قال: نعم، قلت: فأكله وهو يعلم؟ قال: أنساه لينفذ فيه الحكم((1)).

ثانيا: إنّ إقدامهم على ما فيه من ازهاق لارواحهم الطاهرة لأجل بقاء الدين وحفظ شريعة سيد المرسلين لا يعدّ القاءً للنفس بالتهلكة، فإنّ الإنسان لابد وأن يأتيه الموت لا محالة فموته بتسليمه لقضاء اللّه تعالى وامتثالا لطاعته عز وجل لما في ذلك من حكمة يعلمها اللّه تعالى سواء كانت حفظا للشريعة أم درجات عاليات في الجنة أم ابتلاءً عظيما كذبح اسماعيل (عليه السلام) كل ذلك لهو حسن كما قال تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ}((2))، فالشهادة في سبيل دين اللّه تعالى هو إحدى الحُسنين.

والحق أن في ذلك الاقدام لهو أعظم التسليم للخالق، وفي الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما يشير إلى علمهم (عليهم السلام) بمآل الأمر من استشهادهم ولكنه طاعة وتسليم للّه تعالى حيث قال (عليه السلام) : أترون أن اللّه تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟! فقال له حمران:

ص: 168


1- بحار الأنوار، ج27، ص285.
2- التوبة: 52.

جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين اللّه عز ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قُتلوا وغُلبوا؟ فقال (عليه السلام) : يا حمران إن اللّه تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه فبتقدم علم إليهم من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وبعلم صمت من صمت منا... إلى أن قال: وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا اللّه فيها ولكن لمنازل وكرامة من اللّه، أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم. انتهى((1)).

هذا كله فضلا عن أنهم بأبي وأُمي غالبا كانوا يُكرهون على تناول الطعام المسموم.

ثالثا: الغيب والأخذ بظاهر الأمور

ينبغي التفريق بين العلم بواقع الأمور وبين الأخذ بظاهر الأمور، فهم (عليهم السلام) يعلمون حقائق غيبية زوّدهم اللّه تعالى بها لمكانة خلافتهم وامامتهم ليكونوا على أشد درجات الإيمان ولتكون لهم مما يستدل به على امامتهم، فذلك يعدّ من علامات الإمامة وفي الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة للّه على خلقه»((2)).

ص: 169


1- الكافي، ج2، ص261.
2- الكافي، ج1، ص258.

ولكن سلوكهم وتعاملهم مع الأمور كان اعتمادا على ظواهرها، وهذا قانون وسنّة في حمل الأمور على دلالاتها الظاهرية، وهذا الشيء يبدو جليا في سلوك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي علاقاته مع الآخرين ولا سيما في قضائه وحكمه، فإنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان يتمكن من العلم بواقع الشيء ويحكم على ضوئه وفق الغيب الذي يعلمه، وبذلك يستغني عن البينّة والقسم والإقرار، ولكنه كان يقضي بين الناس بالبيّنات وإحضار الشهود وأداء الأيمان، وذلك لأن الظاهر هو المعتمد ولانه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأُسوة، ولو كان فعاله مبتنيا على علمه بالغيب لرفع قانون استنان الناس واقتداءهم بالنبي وأهل بيته وكان لكل أحد أن يعتذر عن الاقتداء بهم محتجا أنه لا يعرف السر الذي بسببه بادر النبيّ إلى فعل ما، مثلا يمكن للإنسان القول إنني لا اتبع النبي في جهاده ومنازلة الأقران لانه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نازلهم وهو يعلم غيبا بانتصاره ولو كان يعلم الهزيمة لما نازلهم وأما انا فلا علم لي بذلك، أو يقول انا لا أنهى عن المنكر، ولو قلت له إن النبي فعل ذلك وعليك أن تقتدي به كان له أن يجيب أن النبي كان يعلم أنه يؤثر بذلك النهي وأما انا فلا علم لي، وهكذا، ولكن لو قلنا إن النبي والامام عموما يعتمدان ظواهر الأمور ولا يعتمدان الغيب في ذلك لبقي قانون الاستنان والاقتداء فاعلا.

و من ثمة نرى أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيش جيشه في محاربة معاوية في الوقت الذي يعلم غيبا عن غلبة معاوية في نهاية المطاف وذلك لانه يعمل وفق وظيفته الشرعية الظاهرية وليس وفق الغيب الذي يعلمه.

وعليه فالإمام وان كان يعرف من خلال علمه بالغيب أن هذا الطعام

ص: 170

مسموم إلا أن تصرفه الظاهري يفترض ان يكون وفق ظواهر الأمور من أنه يتناول الطعام على ظاهره الخالي من السُم والدسائس فلا يكون مصداقا للالقاء بالتهلكة.

الخلاصة

بعد أن تبين الفرق بين الغيب المطلق الشامل عند اللّه تعالى والغيب المحدود بالإخبار عنه عز وجل فلا شرك في ادعاء الغيب بمعناه الثاني للأئمة (عليهم السلام) ولا ينافي ذلك ظاهر بعض الآيات بعد ملاحظتها مقرونة مع آيات أخرى وروايات ووقائع تاريخية ثابتة.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 171

ص: 172

الفصل الخامس: من بحوث المعاد

اشارة

1- الإيمان بالمعاد

2- عالم البرزخ

3- الاعتقاد بالغيب

ص: 173

ص: 174

(1) الإيمان بالمعاد

اشارة

يُعد الاعتقاد بالمعاد من أصول الدين الإسلامي بل من أصول الأديان السماوية والمراد من المعاد هو عود الناس ونشرهم وإحياؤهم بعد موتهم ليوم الحساب والذي منه يفترقون إلى فرقتين فرقة إلى الجنة والنعيم وأخرى إلى النار والجحيم.

ثم إن موضوع الاعتقاد بالمعاد يتناول الإيمان بمجموعة من الأحداث التي لابد من وقوعها كالنفخ في الصور مرتين وشفاعة الشافعين والمعاد الجسماني والجنة والنار وما فيهما من لذة ونعيم وعذاب شديد.

الدليل على المعاد:

يستدل على صحة الاعتقاد بالمعاد بأمرين رئيسيين:

الأول: العقل، ومن عدة وجوه، منها:

1- اللغوية وعدم الفائدة من الخلق فيما لو فرضنا النهاية الأبدية للإنسان بمجرد موته وفنائه في هذه الدنيا دون فرض واقع المعاد، وذلك لأن الخالق العادل الحكيم لا يخلق هذا الخلق وما فيه لأجل هذا الإنسان ثم يقضي عليه بالموت ويعدمه لا إلى رجعة!! فهذا أمر ينافي الحكمة، وقد توضح لنا

ص: 175

أن اللّه سبحانه وتعالى عادل وحكيم.

2- إنّ العدل الإلهي يقتضي معاقبة الإنسان العاصي والظالم وقد لا تتسع هذه الدنيا لعقاب ذلك الظالم لكثير ظلمه وعظيم جرمه، فيا ترى هل يكفي مجازاة القاتل للآلاف والمرتكب للعظيم من المجازر مما فعله ويفعله طغاة الارض بقتلة واحدة ويكون حاله حال من قتل شخصا واحدا مثلا؟! أم لابد أن يحاسب ويقتص منه بمقدار وحجم ظلمه؟!! فلابد إذن من حياة أخرى يكون لإجراء العدالة والعقاب فيها مكنة ومتسع من الزمان والمكان.

3- ومن جهة أخرى، لقد وعد اللّه تعالى المؤمنين المطيعين له بالثواب والمضاعفة الكثيرة لما فعلوا من خير ومن طاعات ومن الواضح لا يمكن ذلك إلا في حياة أخرى مديدة لا نهاية لها وهي الحياة في النعيم الأكبر في جنة الخلد، ولاشك أن اللّه تعالى صادق في وعده فلابد من وجود المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب لتحقيق ذلك، قال تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ ٱللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}((1)).

الثاني: النقل
اشارة

لقد أخبرنا اللّه تعالى في كتابه المعجز وعلى لسان أنبيائه ورسله بضرورة

ص: 176


1- يونس: 4.

المعاد والحساب ووعد عباده الصالحين بالجنة كما توعد الكفار والمشركين بالنار، ومن الطبيعي أن إيماننا المسبق باللّه تعالى وعدله وصدقه وإيماننا برسله وكتبه يستتبع تصديقنا لما جاءت به الرسل والكتب التي بُعثوا بها حيث أنها شُحنت بالحديث عن المعاد وقيام القيامة والجنة والنار والعذاب والنعيم والثواب والعقاب بصريح الآيات وصريح الأحاديث النبوية فلا مجال لتشكيك المؤمن بضرورة المعاد الذي لابد منه، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}((1)).

وقال أيضا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ تُبْعَثُونَ}((2)).

ومن خلال القرآن والأحاديث الشريفة لابد من الإيمان والاعتقاد بكل ما ذكر ولاسيما بالجنة والنار والصراط والحساب والكتاب وغير ذلك مما هو مسلّم من الاعتقادات المرتبطة بالمعاد.

النفخ في الصور

و مما يتناوله موضوع الاعتقاد بالمعاد هو الإيمان بالنفخ في الصور مرتين مرة يموت بها كل ما بقي من الخلائق إلا من شاء اللّه كما يقول تعالى: {وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ ٱللَّهُ}((3))، ثم بعد ذلك تكون النفخة الأخرى التي تعود الحياة فيها الى

ص: 177


1- مؤمنون: 115.
2- مؤمنون: 16.
3- الزمر: 68.

الأموات ليحشرهم اللّه تعالى ليوم الحساب كما قال سبحانه: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}((1)) وقال ايضا: {وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}((2)).

ولتقريب وتوضيح معنى (الصور) ذكروا أنه بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفا عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة القوافل أو الجيوش وتوقفها، وطبعا هناك تفاوت بين النفخة للحركة والنفخة للتوقف.

وأما حقيقة هذا الأمر فليس لدينا من الوضوح في ذلك إلا بمقدار ما ورد في الروايات، ومن ذلك ما ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض» قال: «فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلّا صعق ومات إلّا إسرافيل، قال: فيقول اللّه لإسرافيل: يا إسرافيل، مت، فيموت إسرافيل»((3)).

وتنحصر الدلالة على الإعتقاد بأمثال هذه الحوادث بما جاء في الذكر الحكيم وما ورد من أخبار المعصومين (عليهم السلام) وكفى بهما دلالة مكرسة للإيمان

ص: 178


1- الزمر: 68.
2- يس: 51.
3- تفسير علي بن ابراهيم القمي في تفسير قوله تعالى ونفخ في الصور.

بعد تصديقنا باللّه تعالى وكتابه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وأما أنه كيف يتم ذلك فيجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة، فهي معلومات عامة لا أكثر، إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم، كما لا يمكننا المقارنة والقياس بين عالمنا الذي نحن فيه وعالم الغيب الذي تحكمه قوانين أخرى تتناسب وذلك العالم.

الصيحة والناقور

وعلى غرار حدث الصور هناك حدث (الصيحة والناقور) قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ 8 فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٖ يَوْمٌ عَسِيرٌ}((1)) وقال أيضًا: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}((2)) وصيحة أخرى يكون فيها بعثهم كما قال سبحانه: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}((3)) وكل منها حقائق ممهدة لقيام الساعة أو مقارنة لها نؤمن بكل ذلك تصديقا بالنبي الصادق الأمين.

و بالطبع ليس فيها ما هو مستحيل عقلا بل ونحن في عصور متقدمة جدًا وما نراه ونسمعه في عصرنا هذا يقرّب لنا كثيرًا إمكانية وقوع كل ذلك بلا غرابة.

ص: 179


1- المدثر: 8-9.
2- يس: 49.
3- يس: 53.

قال في تفسير الأمثل في اثر النفخ في الصور والصيحة:

أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين، فإنّ كان هذا الأمر عجيبا في السابق، فإنه غير عجيب اليوم، لأننا سمعنا كثيرا بأن الأمواج الانفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم، ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم، وتسببت في تدمير البيوت أيضا، كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة بمعنى (إختراق حاجز الصوت) يولّد صوتا مرعبا وأمواجا مدمّرة، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من الأبراج والبيوت، فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير، فما بالك بالآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة((1)).

المعاد الجسماني

ومن مفردات عقيدة المعاد هو الاعتقاد بأن حشر الناس سيكون بأجسامهم وليس منحصرا بأرواحهم فإن اللّه تعالى قادر على ذلك وقد أخبر به فقال عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ 1 وَلَا أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ 2 أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ 3 بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}((2)).

ولا مجال للتشكيك في إمكانية ذلك لا سيما بعد أن بات هذا الانسان الضعيف الذي لم يؤت من العلم الا قليلًا قادرا على استنساخ الحيوان من

ص: 180


1- تفسير الأمثل في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلْأَرْضِ} الزمر: 68.
2- القيامة: 1-4.

فتات بقايا ذرات جسده ورفاته فكيف بالخالق القادر المطلق الذي يقول للشيء كن فيكون، كما قال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَ ٱلْإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن نُّطْفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ 77 وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ ٱلْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ 78 قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}((1)).

ثمرة الاعتقاد بالمعاد

و أخيرا نقول لاشك أن لهذا الاعتقاد أثراً بالغاً في تقويم سلوك الإنسان في حياته وتصحيح مسيرته وكلما ازداد المرء يقينا بمعتقده هذا كلما زهد في زخارف الدنيا واستخف بها وكانت خطواته دقيقة ونظرته بعيدة يعدّ إلى الآخرة باعماله الصالحة فهي مبتغاه وفيها يرجو الحياة الحقيقية كما قال سبحانه: {وَمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْأخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}((2)).

وبذلك يكون البون شاسعا بين سلوك المؤمن المعتقد بلقاء ربه ووقوفه بين يديه للحساب وسلوك المنكر لهذه الحقيقة والذي لا يأمل جنة ولا يخاف العقاب، وهذا أمر جلي وواضح للعيان.

وقفة تأمل

وفي ختام هذا الفصل نتأمل حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «عجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموتى، وعجبت لمن أنكر النشأة

ص: 181


1- يس: 77-79.
2- العنكبوت: 64.

الأخرى وهو يرى النشأة الأولى»((1)).

حقًا كيف يمكن للمنصف أن ينكر وقوع المعاد والذي هو إعادة الحياة لمن مات بعد أن كان حيا والحال هو يرى هذه الحياة التي خلقها اللّه تعالى من عدم! فإن اللّه عز وجل القادر ان يخلق من العدم لقادر ان يخلق ويعيد الحياة لمن سبق ان خُلق ووجدت فيه الحياة، فالخلق من شيء (وهي الآخرة) أهون من الخلق من لا شيء (وهي الدنيا)!! وإن كانت الأمور عنده تعالى سواء.

قال تعالى في سورة مريم: {وَيَقُولُ ٱلْإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا 66 أَوَ لَا يَذْكُرُ ٱلْإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَئًْا}((2)).

و قال تعالى في سورة يس: {أَوَ لَيْسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّٰقُ ٱلْعَلِيمُ 81 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَئًْا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٖ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}((3)).

ومن أجلى ما يدل على المعاد الجسماني قوله تعالى حكاية عن بعض من يحشر {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}((4)).

ص: 182


1- نهج البلاغة، الحكمة 121.
2- مريم: 66-67.
3- يس: 81-83.
4- فصلت: 21.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «حتى إذا تصرمت الأمور، وتقضت الدهور، وأزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور، وأوكار الطيور، وأوجرة السباع، ومطارح المهالك، سراعا إلى أمره، مهطعين إلى معاده، رعيلا صموتا، قياما صفوفا، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، عليهم لبوس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة، قد ضلت الحيل، وانقطع الأمل، وهوت الأفئدة كاظمة، وخشعت الأصوات مهيمنة، وألجم العرق، وعظم الشفق، وأرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب، ومقايضة الجزاء، ونكال العقاب، ونوال الثواب»((1)).

هذا ونكتفي بهذا ونسأل اللّه تعالى حسن العاقبة.

والحمد للّه رب العالمين

ص: 183


1- نهج البلاغة، خطبة 83.

(2) عالم البرزخ

اشارة

من الاعتقادات الحقة هو الاعتقاد بالبرزخ وهو عالم ما بعد الموت وقبل يوم القيامة والذي يسمى بعالم البرزخ.

البرزخ لغة: هو الحاجز بين شيئيْن.

وهو ما بين الموت والبعث، فمن مات فقد دَخَل البرزخ، قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}((1))، بمعنى أن الإنسان بعد موته سيلاقي البرزخ، وكلمة (وراءهم) يراد منها أمامهم كما يقال للعاصي لا تعص اللّه وراءك حساب اي ستحاسب، والبرزخ هو حاجز اي بعد الموت سيواجه الانسان حاجزا يمنعه من الرجوع إلى الدنيا بل يبقى في عالم جديد وهو عالم آخر ليس هو بعالم الماديات التي تُرى بالعين وتدرك بالسماع ولا هو عالم القيامة والمعاد الذي ينتهي به الحساب، بل هو عالم ضمن هذا الكون لكنه عالم الأرواح دون الأجساد المقبورة بل هي أرواح في أجسام أخرى عُبّر عنها بالاجسام المثالية وشُبِّه ذلك بما يراه النائم من رؤى وأحلام

ص: 184


1- المؤمنون: 100.

ومنامات قد يسعد بها ويرجو بقاءها وقد يشقى بها ويذعر منها مع فارق بين الموت والرؤيا هو أن النائم لايزال جسمه حيا ينبض قلبه ويدرك سمعه وينتبه إذا نُبِّه الا أن الميت قد فارقت روحه جسده ونزعته واودعته التراب فاضحى جسده قطعة من تراب الأرض فيما أن روحه اتخذت جسما آخر يناسب ذلك العالم، ويمكن لتلك الروح بمشيئة اللّه تعالى أن تحلّق فيما يؤذن لها لتكون سببا لسعادة صاحبها أو شقائه نعوذ باللّه.

بالطبع مما لا شك به أن هذا المعتقد مبتن أساسًا على الإيمان بالغيب والتصديق بما جاء في الكتاب العزيز وما أخبر به الصادق المصدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما هو أيضا مما يقتضيه ويتبناه العقل وسنرى ذلك إن شاء اللّه.

الدليل على البرزخ
اشارة

اذن هي أمور ثلاثة دلّت على حقيقة عالم البرزخ.

أولا: الدليل القرآني

و ذلك في آيات عديدة نقف بإيجاز على بعضها:

1- قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}((1)).

لقد صرحت الآية بوجود فاصل وحاجز يحول دون رجوع الميت إلى هذه الحياة التي خرج منها بل سيلبث في هذا البرزخ حتى تحين ساعة القيامة،

ص: 185


1- المؤمنون: 99-100.

ليبعث ويحشر للحساب.

2- وقال سبحانه: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ}((1)).

وذلك لأن الإماتة في قولهم (أمتّنا) تكون بعد الحياة فالإماتة الأُولى هي بعد هذه الحياة حيث يموت الإنسان، وطالما هناك إماتة ثانية فيلزم أن تكون هناك حياة أخرى قبل الإماتة الثانية وهي الحياة البرزخية بعد الموت الأول كما أن الإحياءين هما إحياء بعد الموت الأول الذي به تكون الحياة البرزخية وإحياء ليوم البعث بعد الإماتة الثانية التي هي موت للحياة البرزخية ولو كان الإنسان إذ يموت بعد هذه الحياة ثم لا يحيى إلا حين البعث للزم أن تكون إماتة واحدة، فيتوضح من خلال ذلك وجود عالم برزخي بين عالمنا هذا وعالم القيامة والحساب الذي هو العالم الأخروي النهائي.

3- ومن الآيات الدالة على ذلك هي الآيات المخبرة عن حياة الشهداء بعد استشهادهم كما في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتَۢا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}((2)).

وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتُۢ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}((3)).

ص: 186


1- غافر: 11.
2- آل عمران: 169.
3- البقرة: 154.

ففي الآيتين دلالة واضحة على وجود الحياة لهذه الصفوة مباشرة بعد القتل في سبيل اللّه، وذلك كرامة لهم وجزاء لتضحيتهم ولعلّهم عُدّوا ممّن مُحّضوا بالإيمان فكانوا ممن ينعم بالحياة البرزخية كما سيأتي.

4- ومن الآيات قوله تعالى: {مِّمَّا خَطِئَٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارًا}((1)) وهم قوم النبي نوح (عليه السلام) فإنهم بمجرد أن التقفتهم أمواج الماء وأُغرقوا أُدخلوا نارا، اي نار البرزخ غير النار التي تكون بعد يوم القيامة وذلك بدلالة الفاء في (فأُدخلوا) الدالة على التعقيب الفوري لموتهم بالاغراق ولعدم قيام الساعة إلى يومنا كما هو معلوم.

5- وهناك آيات أخرى تدلّ على تعذيب الكفار والعصاة من جهة وإسعاد الصالحين بانواع النعيم من جهة أخرى مع الأخذ بعين الإعتبار وجود حقيقة السماوات والأرض أو تحقق ظاهرة الليل والنهار مما يعني أن ذلك قبل قيام القيامة، لأن ظاهرة الليل والنهار ووجود السماء والأرض هي من حقائق ومظاهر عالم الدنيا وأما عند قيام الساعة ووقوع عالم الآخرة فلا وجود لا للسماء ولا للأرض كما يقول تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلْأَرْضُ غَيْرَ ٱلْأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ}((2))، فعند قيام القيامة تُبدل الأرض، والسماوات، فما في الآيات من ليل ونهار وسماء وأرض بعد الموت فهي إشارة إلى عالم البرزخ كما في قوله تعالى في فرعون وقومه: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ

ص: 187


1- نوح: 25.
2- إبراهيم: 48.

عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ}((1))، وواضح أن الغدوّ والعشيّ من لوازم وجود هذه الكائنات وهي لا تكون بعد قيام الساعة وان دخولهم أشد العذاب بعد أن تقوم الساعة دلّ على اَنّ النار التي كانوا يعرضون عليها هي نار البرزخ بعد موتهم وقبل قيام الساعة.

وعليه تكون لتلك الآيات دلالتها على عالم البرزخ.

وهذه الحقيقة أشير إليها في الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) الواردة في تفسير علي بن إبراهيم، جاء فيها: «وأما الرد على من أنكر الثواب والعقاب فقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ 105 فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ 106 خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ 107 وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٖ}((2)) فإذا قامت القيامة تُبّدل السماوات والأرض، وقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}((3))، فأما الغدوّ والعشيّ إنما يكونان في الدنيا في دار المشركين، وأما في القيامة فلا يكون غدوّ ولا عشي، وقوله تعالى: {لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}((4))، يعني في جنان الدنيا التي ينقل إليها أرواح المؤمنين، فأما في جنات الخلد فلا يكون غدوّ

ص: 188


1- غافر: 46.
2- هود: 105-108.
3- غافر: 46.
4- مريم: 62.

ولا عشيّ.... الخ»((1)).

ثانيا: الدليل الروائي

هناك روايات عديدة أكدت على حقيقة عالم البرزخ نشير إلى بعضها:

1- عن الإمام موسى بن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا اُدخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي اللّه ومحمد نبيي والاسلام ديني فيفسحان له في قبره مدّ بصره ويأتيانه بالطعام من الجنة ويدخلان عليه الروح والريحان، وذلك قوله عز وجل: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ 88 فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}((2))، يعني في قبره {وَجَنَّتُ نَعِيمٖ}((3)) يعني في الآخرة، ثم قال (عليه السلام) : إذا مات الكافر شيّعه سبعون ألفا من الزبانية إلى قبره، وإنه ليناشد حامليه بصوت يسمعه كل شئ إلا الثقلان ويقول: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ}((4))، ويقول: {ٱرْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}((5))، فتجيبه الزبانية، كلا إنها كلمة أنت قائلها، ويناديهم ملك: لو رُدّ لعاد لما نهي عنه، فإذا اُدخل قبره وفارقه الناس أتاه منكر ونكير في

ص: 189


1- بحار الأنوار، ج6، ص218؛ ويلاحظ: الرجعة بين الظهور والمعاد، الشيخ محمد السند، ج2، ص336.
2- الواقعة: 88-89.
3- الواقعة: 89.
4- الزمر: 58.
5- المؤمنون: 99-100.

أهول صورة فيقيمانه ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيتلجلج لسانه ولا يقدر على الجواب، فيضربانه ضربة من عذاب اللّه يذعر لها كل شئ، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: لا دريت ولا هديت ولا أفلحت، ثم يفتحان له بابا إلى النار وينزلان إليه من الحميم من جهنم، وذلك قول اللّه عز وجل: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّالِّينَ 92 فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٖ} يعني في القبر {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}((1))، يعني في الآخرة. انتهى((2)).

2- وروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه وقف على بئر بدر فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد ألقوا في القليب: لقد كنتم جيران سوء لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال له عمر: يا رسول اللّه ما خطابك لهام قد صديت؟ فقال له: مه يا بن الخطاب، فواللّه ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم((3)).

3- وكما عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنه بعد انتصاره في واقعة الجمل صار يتخلل بين الصفوف حتى مرّ على كعب بن سورة - وكان هذا قاضي البصرة ولاه إياها عمر بن الخطاب فأقام بها قاضيًا بين أهلها زمن عمر وعثمان، فلما وقعت الفتنة بالبصرة علق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده

ص: 190


1- الواقعة: 92-94.
2- أمالي الصدوق، ص174.
3- بحار الأنوار، ج6، ص254-255، الباب 8.

يقاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقتلوا بأجمعهم - فوقف عليه أمير المؤمنين وهو صريع بين القتلى فقال: أجلسوا كعب بن سورة فاجلس بين نفسين، فقال: يا كعب بن سورة قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا كعبا، وسار قليلًا فمرّ بطلحة بن عبد اللّه صريعا فقال: أجلسوا طلحة فأجلسوه فقال: يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقًا فهل وجدت ما وعدك ربك حقًا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال: يا رجل فواللّه لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ((1)).

4- ومن الأحاديث ما دلّ على تعارف الأرواح وتلاقيها مع الروح القادمة إليها من الدنيا فهي أيضًا لها دلالتها على حياة البرزخ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : حيث ذكرت أرواح المؤمنين عنده فقال: يلتقون، قلت: يلتقون؟! قال: نعم ويتساءلون ويتعارفون، حتى إذا رأيته قلت: فلان؟!((2)).

و عنه (عليه السلام) : «أرواح المؤمنين في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويتزاورون فيها ويقولون: ربنا أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا»((3)).

نلاحظ في الرواية أنهم يقولون (ربنا أقم لنا الساعة..) مما يعني أن ماهم فيه هو قبل قيام الساعة، أي أنهم في عالم البرزخ.

ص: 191


1- النهاية، ج4، ص98.
2- بحار الأنوار، ج6، ص234.
3- المحاسن، للبرقي، ج1، ص238.
ثالثا: الدليل العقلي

إنّ افتراض عالم البرزخ عقلا أمر ليس بمستحيل لا سيما ونحن نعلم أن حقيقة السعادة والشقاء والفرح والترح إنما هي أمور تعرض الروح وتدركها الأرواح وإنما تكون الأجسام في حالة حياتها وسيلة لإيصال اللذة أو الألم إلى الروح، فلذّة الغذاء الطيب والمنظر الجميل والصوت الحسن تدركها روح الإنسان كما أن ألم الضرب وقزازة الصوت القبيح او المنظر الفجيع مما تحسها الروح أيضًا، ولذا ليس غريبًا اذا تصورنا الثواب والعقاب والسعادة والشقاء للميت في عالم ما بعد الموت أي في عالم البرزخ طالما أمكن بقاء روحه في جسم مثالي، وأما كوننا لا نرى على الميت شيئا من ذلك فلأننا لا نرى غير جسده الذي نزعته روحه ولا نرى روحه التي كتب لها أن تكون في عالم البرزخ في جسم مثالي لا يدرك بالحواس.

اختلاف حال الميت في البرزخ

أشارت بعض الأحاديث إلى إختلاف حالات الأموات بعد موتهم في عالم البرزخ نتيجة منزلتهم المعرفية والإيمانية فبعضهم يعيش الهناء والسعادة وآخر يعيش العذاب والشقاء وثالث يُلهى عنه ويعرض عنه وكأنه يغطّ في نوم عميق أو إغماء شامل فلا يدرك شيئًا حتى تقوم الساعة وهذا أشير إليه في الروايات وهو يتناسب مع الآيات القرآنية.

ففي القرآن ما يدلّ على أن بعضهم بمجرد موته يدخل الجنة وواضح ان المراد منها غير الجنة التي تكون بعد يوم القيامة، وبعضهم بعد موته يعرض على النار وبعد يوم الحساب يعذب أشد العذاب، بينما بعضهم حين يبعثون

ص: 192

من قبورهم يُسألون كم لبثتم - أي خلال فترة ما بعد الموت إلى حين البعث - فيجيبون أنهم لم يلبثوا سوى أيام أو ساعات، مما يبدو أنهم لم يدركوا هذه الفترة الطويلة لأنهم كانوا في سبات عميق ولم يشعروا بشيء من الزمن حالهم حال المغمى عليه.

رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سُئل عمّن مات في هذه الدار أين تكون روحه؟ فقال: «من مات وهو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة، فإذا بعث اللّه من في القبور أنشأ جسمه ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه أعماله. فالمؤمن تنتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنات من جنان اللّه يتنعم فيها إلى يوم المآب، والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة، وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: {قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 26 بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي}((1))، وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ}((2))، فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد اُدخل الجنة: يا ليت قومي يعلمون، وأخبر أن كافرا يُعذّب بعد موته غدوّا وعشيّا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار. والضرب الآخر من يلهى عنه وتُعدم نفسه

ص: 193


1- يس: 26-27.
2- غافر: 46.

عند فساد جسمه فلا يشعر بشئ حتى يُبعث، وهو من لم يمحض الإيمان محضا، ولا الكفر محضا، وقد بين اللّه تعالى ذلك عند قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}((1))، فبيّن أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا، ويظن بعضهم أن ذلك كان يوما، وليس يجوز أن يكون ذلك من وصف من عُذّب إلى بعثه ونُعّم إلى بعثه، لأن من لم يزل منعّما أو معذّبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به، ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته»((2)).

و عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لا يُسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا، أو محض الكفر محضا، فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يُلهى عنهم»((3)).

حكمة البرزخ

إن من دواعي وجود عالم البرزخ وفوائده هو تكامل الثواب وتصفير الذنوب للمؤمنين وذلك بسبب الآثار التي يتركها الميت في الدنيا من أولاد صالحين أو صدقات جارية وما شابه، كما انه قد يعاقب ببعض الضنك والمعاناة والعذاب مما يتسبب بتصفية الحساب ليلقى ربه يوم القيامة مؤهلًا لدخول الجنة وهذا ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) :

ص: 194


1- طه: 104.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، تحقيق حسين درگاهي، ص88. يلاحظ أن بعض المفردات في الحديث قد تكون من كلام الشيخ المفيد نفسه.
3- بحار الأنوار، ج6، ص235.

ففي أمالي الصدوق: عن الإمام الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مر عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب، ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذب؟ فأوحى اللّه عز وجل إليه: يا روح اللّه إنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا وآوى يتيما فغفرت له بما عمل ابنه»((1)).

أقول: وهذه الرواية تبين أن الولد ينفع أباه بعد موته بعمله الصالح مع أن صريح القرآن الكريم يقول: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}((2))، فيتبين من ذلك إن نفعه هذا في عالم البرزخ وليس في عالم القيامة وبذلك لا يقع تناف بين الآية والرواية.

كما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٖ لَّا يُسَْٔلُ عَن ذَنۢبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ}((3)) إن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب في الدنيا عذب عليه في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يُسأل عنه((4)).

نكتفي بهذا المقدار ونسأل اللّه تعالى حسن العاقبة.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 195


1- امالي، الصدوق، ص306.
2- الشعراء: 88.
3- الرحمن: 39.
4- بحار الأنوار، ج7، ص81.

(3) الاعتقاد بالغيب

اشارة

قال سبحانه وتعالى: {ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}((1)).

ما هو المراد من الغيب

الغيب هو كل ما يكون غائبا عن الحواس الخمس لدى الانسان، وهو في قبال المشاهدة ومقابل ما يدرك بالحواس قال تعالى: {عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}((2)).

وهناك الكثير من المصاديق التي تنضوي تحت هذا العنوان كالملائكة والشياطين والأرواح بعد فناء الاجساد والثواب والعقاب والجنة والنار وأمثال ذلك من المعتقدات.

وكذلك الإيمان بالآثار الإيجابية الغيبية للأعمال الصالحة كما هو

ص: 196


1- البقرة: 3.
2- التغابن: 18.

الإيمان بالآثار السلبية الغيبية للأفعال الطالحة فكل ذلك هو معدود من الإيمان بعالم الغيب وما وراء الحس، ويقال عن عالم ما وراء المحسوسات (غيب) لخفائه عن حواسنا.

ثمرة الإيمان بالغيب

إن المؤمنين بالغيب يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وأن الخالق جلّت قدرته غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنه سبحانه وتعالى قد قرن الى جانب الأسباب المادية التي بها ينعم الانسان في حياة سعيدة أسبابا أخرى غيبية كأمثال الدعاء والصدقة والتوسل بأولياء اللّه الى اللّه تعالى والاستغفار والذكر وخدمة المؤمنين وبر الوالدين وغير ذلك، جعلها سبحانه طريقا آخر لوصول العبد إلى بغيته، فمن يؤمن بهذه الأمور الغيبية تجده مندفعا للأعمال الحسنة والأفعال الصالحة املاً بتحسّن حاله الدنيوي من رزق أو صحة أو توفيق وما شابه، فتراه ساعيا في مرضاة والديه بارّا بهما أملا منه بما أعدّه اللّه تعالى له من الثواب الأخروي والغنى والتوفيق وطول العمر وغير ذلك من الآثار الوضعية لبرّ الوالدين، وهكذا تراه خاشعا لربه في دعاءه وعبادته لإيمانه بأثر ذلك في دنياه قبل آخرته بسبب تصديقه لما دلّت عليه الأخبار والروايات عن النبي وآله (عليهم السلام) في حديثهم عن برّ الوالدين مثلا وآثار ذلك، وهكذا عن اثر الدعاء، وكذا ما ورد من أذكار نافعة لدفع بلاء أو مرض أو خوف أو لجلب منفعة من رزق وما شابه، فان العمل بكل ذلك هي ثمار الإيمان بالغيب، وكذلك اجتناب عقوق الوالدين وقطع الارحام وترك بعض الأعمال البذيئة هي من

ص: 197

الإيمان بالعذاب الإلهي والآثار الوضعية السلبية المترتبة على ذلك، فللإيمان بالغيب آثار تربوية عظيمة في سلوك الإنسان.

و مما لا شك فيه لا يراد من ذلك الاستغناء عن الأسباب الطبيعية المادية في الحياة، بل لا مناص من الأخذ بها أيضا، فالمريض الذي يدعو اللّه لشفائه ويتصدق لدفع البلاء عنه ملزم ايضا بمراجعة الطبيب، والفقير الذي يستغفر اللّه ويبرّ والديه لطلب الرزق يلزمه كذلك السعي والكدّ، وهكذا الأمور الأخرى.

و قد تسأل اذا كان ولابد من الأخذ بالأسباب المادية فما فائدة الإيمان بالغيب وما يأتي من جرّاء ذلك؟ الجواب: إن تسديد تلك الأمور ونجاحها وفشلها وكونها تأتي ثمارها إنما هي كلها بيد اللّه تعالى، وذلك لأن الطبيب قد يخطأ في تشخيص المرض وأن الدواء قد يكون مستنفدًا فائدته وأن المراجعة لهذا الطبيب او ذاك قد يخطؤها الإنسان و... فهذه كلها قد تكون، ولكن ذلك الدعاء وتلك الصدقة وذلك العمل الصالح كلها بمشيئة اللّه تعالى تكون اسبابا لإصابة الأمور وإتيانها ثمارها بالشكل المطلوب.

ثم إن هذا الاعتقاد يغمر الانسان شعورا واحساسا بالألطاف الإلهية وتكون آماله مرجوّة باعثة فيه الطمأنينة والرضا والاستقرار ولا يتسرب اليه الروع واليأس والقلق والاضطراب النفسي، ولا ينظر إلى الحياة نظرة سوداوية قاتمة موصدة بائسة وعلى ضوء ذلك لا يلجأ إلى الجريمة بل ولا يفكر بها، كل ذلك إيمانًا منه باليد الغيبية القادرة على تفريج كربته وتحقيق

ص: 198

أمنيته، ومن جهة أخرى إذعانا منه أيضا بالأجر الذي يدخره له ربّه عز وجل لينعكس عليه حينا ما، فهذه كلها ثمار جليلة وعظيمة يعود بها الإيمان بالغيب، وعكس ذلك قد يتخبط الانسان المنكر للغيب اذا ما وجد بعض ابواب الحياة موصدة بوجهه وربما تغلّب عليه اليأس وأودى به إلى حيث ما لا ينبغي، ولربما أهوى به إلى جناية كبرى في حق نفسه أو الغير، واليوم لا تخفى الأعداد الكثيرة جدا من المنتحرين او الذين يقدمون على ذلك من أولئك البعيدين عن المفاهيم الغيبية.

دليل الاعتقاد بالغيب
اشارة

الدليل على الإيمان بالغيب من جهتين:

الجهة الأولى: القرآن والسنة

هذه الجهة هي الفصل والأصل في ذلك وهي الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي أخبرت بذلك، فقد تحدثت الآيات عن الملائكة والانبياء وكتبهم وما حدث للنبي آدم وحواء (عليهما السلام) ووسوسة الشيطان اليهما في خصوص الشجرة وما حدث لنوح وإبراهيم وعيسى وموسى (عليهم السلام) ، فان هذه الأمور كلها تعدّ من أحاديث الغيب وإنما آمنّا بها تصديقا بما جاء في القرآن الكريم من آيات الملائكة والجنة والنار وغير ذلك وتصديقا بما أخبرنا به نبينا الصادق الأمين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومعنى إيماننا باللّه تعالى ورسوله وكتابه هو تصديقنا بكل ذلك.

جاء في تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في قوله عز وجل: {ٱلَّذِينَ

ص: 199

يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ}((1))، يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الايمان بها، كالبعث والحساب والجنة والنار، وتوحيد اللّه وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يعرف بدلائل قد نصبها اللّه عز وجل عليها كآدم، وحواء، وإدريس، ونوح، وإبراهيم والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بهم، وبحجج اللّه تعالى وإن لم يشاهدوهم ويؤمنون بالغيب وهم من الساعة مشفقون((2)).

و في قوله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}((3))، قال (عليه السلام) : ثم وصف بعد هؤلاء الذين يقيمون الصلاة فقال: {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} (يا محمد) {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} (على الأنبياء الماضين، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب اللّه المنزلة على أنبيائه، بأنه حق وصدق من عند رب عزيز، صادق حكيم) {وَبِٱلْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} بالدار الآخرة بعد هذه الدنيا، لا يشكّون فيها بأنها الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه، وعقاب الأعمال بمثل ما كسبوه((4)).

فالدليل الأول على إيماننا بالغيب هو اعتقادنا برسالة نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصدقه بما جاء به من قران كريم وما اخبرنا به بأحاديثه وأحاديث الطاهرين من

ص: 200


1- البقرة: 3.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري، ج1، ص67.
3- البقرة: 4.
4- تفسير الإمام العسكري، ج1، ص88.

عترته (عليهم السلام) اجمعين.

الجهة الثانية: ما يدرك بالوجدان.
اشارة

إن الانسان يدرك بنفسه بعض الأحيان ادراكا وجدانيا الآثار الغيبية التي يلمسها ويحسّها مما لا يشوبه شك من أنها أمور تبلورت وتحققت إثر قضايا متعلقة بالغيب، ولذلك مصاديق وشواهد كثيرة، ونذكر هنا بعضها مما لها دلالة على وجود الغيب، منها:

1- الأذكار:

قد يواجه الإنسان مشكلة عويصة صعبة شديدة تكاد تكون بداية لشقاء طويل لكنه يقرأ بعض الأذكار أو الآيات فيرى الفرج بعد الشدة والانكشاف بعد الكرب بشكل غير متوقع مما يدرك أن هذه الانكشافة جاءت إثر الذكر الذي تمتم به وقرأه، وربما كثير من الناس قد جرّب ذلك، وهذا هو حقيقة وواقع الغيب الذي هو خارج عن نطاق المساعي المادية والطبيعية، وقد وردت تعاليم كثيرة نُسبت إلى ائمة أهل البيت (عليهم السلام) تشير إلى أن الالتزام بقراءة بعض الآيات القرآنية تترك أثرا خاصا في قضية خاصة، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا دخلت مدخلا تخافه فاقرأ هذه الآية: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٖ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٖ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا}((1))، فإذا عاينت الذي تخافه فاقرأ آية الكرسي((2)).

ص: 201


1- الإسراء: 80.
2- بحار الأنوار، ج89، ص267.

و عن داود الرقي قال: دخلت على أبي عبد اللّه (الإمام الصادق) (عليه السلام) ، فقال لي: يا داود، ألَا أُعلِّمكَ كلماتٍ إنْ أنتَ قُلتهُنَّ كُلَّ يومٍ صباحاً ومَساءً ثلاثَ مراتٍ آمَنَكَ اللّه مِمّا تَخافُ؟

قلت: نعم يا ابن رسول اللّه.

قال: «قُلْ أَصْبَحْتُ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَمِ رُسُلِهِ وَذِمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسلّم وَذِمَمِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلامُ آمَنْتُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَأَشْهَدُ أَنَّهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ كَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ»((1)).

قال داود: «فَمَا دَعَوْتُ إِلَّا فَلَجْتُ((2))

عَلَى حَاجَتِي»((3)).

وامثال ذلك كثير جدا وهي من المجربات عند المؤمنين.

2- الدعاء

كثير منا يدرك في خلجاته أن تجاوزه لمرحلة صعبة وخلاصه من شدة إنما كان بسبب دعاء دعاه هو بنفسه أو دعا له أبوه أو أمه أو أحد الصالحين، ولولا الإطناب الذي لا نريده لذكرنا نماذج كثيرة وشواهد على ذلك.

فاستجابة الدعاء من اللّه تعالى وتحقق المطلوب بعد الدعاء دليل على وجود الغيب وعلى صدق ما أتى به الأنبياء (عليهم السلام) .

ص: 202


1- بحار الأنوار، ج83، ص338.
2- فلجت: ظفرت بما طلبت.
3- بحار الانوار، ج83، ص338.
3- التصدّق بما هو خير

إن مما لا ينكر عند المؤمنين الآثار الجلية للصدقات التي يتصدق بها المرء على الآخرين من معونة لفقير وانفاق على محتاج وإعالة ليتيم وما شابه من الاعمال الصالحة، وكم سمعنا من قصص من أناس لمسوا هذا بانفسهم أو حكوه عن آخرين كاد الموت أن يخطفهم لولا تصدقهم بقليل من المال، وعلموا أن نجاتهم كانت بسبب تلك الصدقة التي فعلوها، وهنا أيضا حقائق لمسناها من قريب لا نشير لها رعاية للاختصار، والمهم دلالتها على القدرة الغيبية التي دفعت عنهم البلاء بسبب ما فعلوه من أعمال خيرية

4- الرؤى الصادقة

إن الرؤى والمنامات قد تكون اضغاث أحلام ليس وراءها معنى مراد، أو تكون نتيجة انشغال فكر الإنسان وما يختلج عليه في نفسه واهتماماته، ولكنها قد تكون أيضا ذات معنى وتفسير من بشارة أو إنذار أو معنى خطير أو سبب هداية، وهي بذلك تكون مصداقا واضحًا مِن المصاديق الدالة على وجود الغيب، فما معنى أن يرى الإنسان مناما ثم يرى تحققه بعد حين في اليقضة؟، وماذا يعني أن يرى في الرؤيا أباه الذي مات منذ عهد يخبره عن أمانة لفلان عليه أن يوصلها إليه ولما يستيقض ويتحقق من الأمر يجد له واقعية وحقيقة؟، واذكر يوما حوارا سمعته من إحدى القنوات ولايزال موجودا على اليوتيوب في برنامج (العلم والحياة) وهو سؤال وُجّه للدكتور الأديب مصطفى محمود المصري المعروف عن سبب تحوله من الإلحاد إلى الإيمان باللّه تعالى فحكى أن سبب ذلك هي رؤيا رآها وهو نائم في

ص: 203

صبيحة يوم وكان قد سهر ليلتها فرأى صديقا له إسمه جلال العشري وهو ناقد معروف يمشي مع صديقه الآخر إسمه شوقي عبد الحميد رآهما يمشيان في شارع سليمان باشه في القاهرة وهما يتحدثان في موضوع خاص وبعد نصف ساعة وقد استيقظ من منامه فوجئ بأن ما رآه كان حقيقة، حيث يقول اتصلت بجلال العشري واخبرته أنني رأيته في الرؤيا وهو مع فلان في شارع كذا وكان الحديث الدائر بينكما هو في كذا موضوع! يقول فتعجب كثيرا من كلامي وكأن سماعة الهاتف سقطت من يده وأخبرني أنه بالفعل قبل نصف ساعة كان مع شوقي في شارع سليمان باشه وبالفعل كان حديثهما هو ذلك، قال فلما أكد لي ذلك بُهتُّ، ثم بدأت أفكر كيف رأيت من غير عين وسمعت من غير أذن ثم علمت ان تلك هي حجة اللّه عليّ، وأن الرؤيا ضرب من الوحي فكيف يمكن تكذيب ما يدعيه الانبياء من الوحي والغيب فآمنت((1)).

نعم هذه بعض التجليات والمصاديق الغيبية بمعنى أنها هي بنفسها ضرب من الغيب خارجة عن دائرة المحسوسات المادية تزيدنا اعتقادا وإيمانا بالغيب الذي أخبر اللّه تعالى عنه في كتابه العزيز وأخبر به رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

من الغيب إمام زماننا (عليه السلام)

وفي ختام هذا الفصل نتبرك بذكر امامنا الحجة (عليه السلام) ونتأمل هذا

ص: 204


1- برنامج العلم والحياة على قناة اليوتيوب.

الحديث:

عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ 2 ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ} قال: من أقرّ بقيام القائم أنه حق((1)).

نعم من مصاديق الإيمان بالغيب هو الإيمان بقيام إمامنا المهدي المنتظر (عليه السلام) وظهوره ليملأ الارض قسطا وعدلا كما وعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن بحاجة لتوثيق هذا الإيمان سيّما ونحن نعيش أيام إمامته فهو وليّ أمرنا نسأل اللّه تعالى التعجيل في ظهوره والتوفيق لمرضاته صلوات اللّه وسلامه عليه.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 205


1- بحار الأنوار، ج52، ص124.

الخاتمة

في ختام هذا الجزء الاول نحمد اللّه تعالى فلقد وقفنا بإيجاز على اهم المعتقدات التي يعتقد بها الفرد المؤمن واشرنا الى بعض ادلتها الواضحة زيادة في الثبات والبصيرة ويتبع ذلك الجزء الثاني والذي نناقش فيه اغلب ما تطرح من الشبهات وبعض الفروقات بين المذهب الشيعي وغيره من المذاهب الأخرى ونسأل اللّه تعالى القبول والتوفيق لما يحب والحمد للّه رب العالمين.

ص: 206

ليطمئن قلبي الجزء الثاني

اشارة

ليطمئن قلبي

الجزء الثاني

الشيخ ناصر الحائري

ص: 207

ص: 208

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 209

ص: 210

المقدمة

الحمد للّه الذي أنذر وأعذر، وصلواته على نبيه محمد خيرة البشر وعلى آله الكرام الطهر البرر ولعنته على اعداءهم شرِّ الزُمَر.

وبعدُ:

مع أن الرسالة التي بعث بها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسالة واحدة وأن الكتاب الذي عزز هذه الرسالة ورسم خطوطها كتاب واحد وهو القرآن الكريم، ومع تأكيد شخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه ترك لهذه الأمة ما به سبب نجاتهم وهدايتهم وتوحيد كلمتهم وضمان عدم ضلالتهم الى يوم القيامة شريطة التمسك بما ترك وهو كتاب اللّه وعترته أهل بيته (عليهم السلام) كما في حديثه المجمع على صحته لدى جميع المسلمين((1)) مع كل ذلك تعددت مذاهب المسلمين واختلفت قليلا في بعض ما يعدّ من العقيدة كما اختلفت كذلك في الفروع من الأحكام الشرعية في العبادات وشرائطها والمعاملات في صحتها وفسادها

ص: 211


1- قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما»، سنن الترمذي، ج5، 329، ط دار الفكر، بيروت؛ وصحيح مسلم، ج7، ص123، دار الفكر، بيروت.

وغير ذلك من الحلال والحرام والطاهر والنجس وما شابه.

ثم ان من يتصفح التاريخ يجد كثرة المذاهب وتعددها سواء منها المذاهب الكلامية وما فيها من خلاف في شؤون العقيدة في قضايا التوحيد والعدل وغيرها ام المذاهب الفقهية وما فيها من خلاف في قضايا الأحكام الشرعية في ما يجوز وما لا يجوز.

ثم ان تلك المذاهب انحسرت شيئا فشيئا أو تداخلت واختزلت أو اندثرت أو حوربت من الأنظمة وغير ذلك من عوامل مما ادّى إلى انحصارها فيما نحن عليه اليوم، حيث تصنف مذاهب المسلمين في زمننا هذا في ثمانية مذاهب تقريبا هي الأشهر من غيرها والتي لها اتباعها بين كثرة وقلة، منها المذاهب الأربعة المعروفة (المالكية والحنبلية والحنفية والشافعية) ومنها المذهب الجعفري وهم الشيعة الاثنا عشرية ومنها الزيدية والاباضية والاسماعيلية، ولبعض منها طوائف وجماعات قد يختلفون في أمور جزئية وان كانوا ينسبون إلى نفس المذهب.

ومن المعلوم ان الأعمّ الأغلب من المسلمين ينتسبون إلى ما ينتمون إليه من مذاهب بسبب انتمائهم إلى آبائهم وعشائرهم ومجتمعاتهم التي ولدوا ونشأوا وترعرعوا فيها، وقليل نادر جدا من يكون انتمائه إلى مذهبه بسبب تحققه في الأمر واختياره لمذهبه بعناية وقناعة وتحقيق، وذلك لأن الناس غالبا في انشغال عن هذا الأمر.

ومن الواضح أيضا ان غالب الناس من المتدينين يراجعون علماء الدين في خصوص أحكامهم الدينية، ولا يتأملون أدلّة ما يعتقدون، ويندر ان

ص: 212

تنقدح بعض التساؤلات في ذهن الواحد منهم وتشغل باله ليراجع ويحقق ليقف على الدليل بنفسه ويكون على بصيرة من أمره، ولاشك أن هذا الأمر لمحبّذ ومطلوب ليزداد المسلم نورا وثباتا وتعزيزا وتوثيقا لما يعتقد، وهذا على فارق كبير مع من لا يبالي بشيء من ذلك، وقد قال اللّه تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}((1)).

من ثَمّ كان من الضروري للمسلم أن يتأمل معتقداته ليقف على دليل ما يعتقد به ليتوثق من ذلك ويزداد بصيرة وعلما، وبالتأكيد يزداد قربا وخشوعا إلى ربه عزّ وجل ايضا.

ولابأس أن أشير هنا من أن الخلاف اذا كان بسبب فهم التلقي من الدليل اعني من نصوص القرآن وسنة وسيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكن معذِّرا لصاحبه بين يدي اللّه تعالى فيما اذا كان بكامل شروط الاستنباط، فلا ينبغي ان يكون هذا الخلاف عاملا من عوامل التفرقة والتنابذ والتشاحن والضغينة، لاسيما وأن المسلمين لا يختلفون في أصول الإسلام من التوحيد والنبوة والمعاد كما لا يختلفون اجمالا في أهم وأظهر شعائره من الصلاة والصيام والحج والزكاة، وأنهم جميعا يتفقون بأن القرآن الذي هو موجود بين أيديهم هو كتاب اللّه تعالى وأن الكعبة الشريفة هي قبلتهم، فإن عوامل توافق المسلمين واجتماعهم لأكثر بكثير من بعض ما يختلفون فيه.

وأما الاختلاف في مكانة بعض الشخصيات والرجال المعاصرة

ص: 213


1- الملك: 22.

للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صدر الدعوة الاسلامية والذي على ضوئه قد يحصل شيء من الامتعاض بين بعض أبناء المذاهب المختلفة فهو ليس شرطا في صحة الإسلام، وذلك عند جميع المسلمين، اذ لم يشترط الدين الإسلامي في عنوان أصل الإسلام غير الشهادتين للّه تعالى بالوحدانية ولمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة والنبوة والايمان بالحياة الأخرى بعد الموت وما عدا ذلك فهي من شرائط المذاهب، وحتى المذهب الشيعي الذي نقرأ في مبادئه أن كمال الإيمان يكون بالاعتقاد بولاية الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) يعد المذاهب الأخرى جميعا مذاهب إسلامية مصونة أنفسهم وأموالهم، طاهرة ابدانهم، يجوز التزاوج معهم بل حتى اذا اعتنق أحدهم المذهب الشيعي لا يقال له أعد صلاتك أو صومك ولا حجك، ولا شيئا من عباداته، والغريب أن يرمي بعضهم الشيعي بدينه مع أنه يسلّم بكامل أصول الدين ويأتي بجميع شعائر الإسلام؟! وأما ما يراه من رأي تجاه بعض الصحابة فذلك ليس من أسس الدين ولا من شعائره، كيف يكون كذلك ونفس الصحابة بعضهم لا يرى للآخر مكانة دينية بل يسبّه ويلعنه ولم يقل أحد أنه خرج بذلك من الدين ما لم يكن ناصبياً يكنّ العداوة لرسول اللّه وآله الأطهار عليه وعليهم السلام. وما اشد المسلمين اليوم حاجة إلى التآلف فيما بينهم ونبذ الاحتقان والضغينة.

والذي أريده من القول إن ما نبيّنه من نقاط خلاف من أحكام أو طقوس أو أفعال لدى الشيعة إنما هو للدليل الذي وقفوا عليه والذي اتمّ الحجة عليهم شرعا واعذروا إلى اللّه تعالى في ذلك، وليس بعد ذلك تأخذهم في

ص: 214

اللّه لومة لائم كما انه امر قائم بين اغلب المذاهب الاخرى.

ونحن اليوم وان لم نعش فترة الحكومات الاستبدادية في العقيدة والفكر كما كان الحال زمن الأمويين والعباسيين أو العثمانيين والتي اضطهدت الشيعة وغيرهم ممن يخالفها في بعض المعتقد ايما اضطهاد، بل قد أصبحنا والحمد للّه في عالم مبتن على حرية الدين والمعتقد، إلا انّ هناك من يتأثر بتوجيه وتجييش الإرهاب الفكري القاضي بتكفير من يخالفه بعض آراءه ولا يرتدع من النيل منه بل لا يرتدع من التصعيد والارهاب إلى مرحلة القتل والسلب كما شاهدنا ذلك في عصرنا هذا، فلابد من توضيح بعض بواعث الاختلاف في بعض الأمور وبيان الحجة في ذلك تعزيزا للحق وزيادة في الثبات وإلزاما للخصم.

هذا واني اضع هذا المختصر بين يدي القرّاء الأعزاء من الخاصة والعامة ليكون الشيعي على بصيرة ودليل بما هو عليه وليعلم الآخرون أن اخوتهم الشيعة إنما يعتقدون بما يعتقدون ويؤدون فرائضهم بالشكل الذي يؤدون ويباشرون من الشعائر ما يباشرون وغير ذلك إنما هو للدليل والحجة التي الزمتهم بذلك.

هذا وأصل هذا الكتاب - كما نوهت في مقدمة الجزء الأول منه - هو لمراجعتي نفسي فيما تعتقد من معتقدات وعرضها على بعض ادلتها زيادة ثبات وطمأنة للحق الذي نعتقد به، وفي هذا الجزء الثاني أردت إتمام هذه المراجعة في أهم المعتقدات المذهبية الخاصة أو الفوارق الفقهية في بعض الأجزاء العبادية أو بعض الطقوس والشعائر عند الشيعة إتماما للفائدة،

ص: 215

وكذلك رأيت أن اضع هذا الجهد المتواضع بين يدي أحبتي القرّاء من أهل ملتي وبه أخاطب المؤمن الشيعي من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وأقول له:

إنك تؤمن وتعتقد بعدة من المعتقدات التي تخص المذهب الذي أنت عليه فهل اعتقادك هذا عن دليل وقناعة؟

بداية أقول لماذا انت شيعي؟ هل لديك من الدليل الذي يرجّح لك أن تكون شيعيا؟

ثم ان هناك من المبادئ في مذهبك مثل البداء والتقية والرجعة كما هناك رؤى خاصة للشيعي تجاه بعض زوجات النبي وصحابته فهل لك الدليل على كل ذلك؟

هناك بعض الاحكام يمتاز بها مذهبك كالخمس وتقليد المراجع والجمع بين الصلاتين وغير ذلك فما دليلك على ذلك؟

وأيضا إنك تصلي الصلوات الخمس في ثلاثة أوقات!!

وتصلي على التربة لا على السجاد!!

ومرسلا يديك غير متكتف!!

ولا تقول آمين بعد سورة الحمد!!

فهل تعرف لماذا كل ذلك؟

وقبل ذلك انك تمسح قدمك في وضوئك ولا تغسلها!!

وإذا رفعت الأذان قلت (أشهد ان عليًا وليُّ اللّه)

وتقول بعد حي على الفلاح: (حيّ على خير العمل)

مع أن أكثر المسلمين لا يفعل ذلك!!

ص: 216

يا ترى اتعلم لماذا ذلك كله؟

وإن كنت تعيش في بلاد يكثر فيه أهل السنة تدرك بعض الفوارق العبادية بينك وبينهم، ومنها انك لا تفطر من صيامك مع افطارهم بل بعد ذلك بدقائق فهل تعلم سرّ ذلك؟ كما ان هنالك بعض المعلومات التي تحتاج إليها في تعزيز معتقداتك الخاصة.

ستجد الدليل المختصر المفيد على ذلك كله وعلى غيره مما تفعل خلال هذه الصفحات ان شاء اللّه.

اسأل اللّه أن يثبتّنا على الحق ويوفقنا لما يحب إنه ولي التوفيق والحمد للّه رب العالمين.

ص: 217

قبل البدء

ما معنى التشيع ولماذا أنا شيعي؟

التشيع لغة من المشايعة والمتابعة وفي القرآن العزيز: {فَٱسْتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}((1)) أي استغاث بموسى (عليه السلام) رجل من أشياعه وأتباعه.

ويطلق عنوان الشيعة على أولئك الذين يتبعون أهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويعتقدون بإمامة الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) وأنهم حجج اللّه تعالى وخلفاء رسوله وأوصياؤه الذين اختارهم اللّه تعالى على لسان نبيه وأوجب متابعتهم وطاعتهم وقد عصمهم من الزلل وطهرهم عن الرجس تطهيراً.

محاور ثلاثة

وأما لماذا أعتقد هذا المعتقد؟

فهذا لما اجد قناعة في نفسي وهي نتاج أمور ثلاثة:

أولا: لتأملي وتفكري بعقلي في حكمة اللّه تعالى وما لابد منه.

ثانياً: لما قرأته في كتاب اللّه تعالى مما يدل على ذلك.

ص: 218


1- القصص: 15.

وثالثا: لما وجدته من نصوص ووصايا على لسان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أولا: التأمل والتفكر: لقد تأملت الإنسان هذا الخلق المبارك الذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى وقال فيه: {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ}((1))، هذا الإنسان الذي أمر اللّه ملائكته أن يقعوا له ساجدين وسخّر كل ما في هذا الكون لأجله وأرسل إليه آلاف الأنبياء والمرسلين عبر آلاف السنين من أجل هدايته، وقد عان الأنبياء ما عانوا وتحملوا ما تحملوا وكم قُتلوا وعُذبوا واُوذوا أشد الأذى ليأخذوا البشرية إلى بر الأمان، فبعد كل ذلك العناء والجهد العظيم الذي بذله الأنبياء حتى بعث اليهم خاتمهم وجرى ما جرى على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى الذين نصروه وعزروه وبذلوا كل غال ونفيس لنصرته ونصرة دينه فهل يعقل بعد كل ذلك أن يترك هذه الأمة سدى دون أن يرشدهم إلى خليفته عليهم ليواصل مسيرة نبيه؟!

وهل يعقل بعد أن أخبر اللّه تعالى نبيه بوجود منافقين يتربصون به الدوائر وينتظرون موته لينقلبوا عليه وعلى دينه، كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ}((2)) فهل يُعقل مع كل ذلك أن يرحل عنهم دون أن يعين لهم من يخلفه في قيادتهم؟!!

ص: 219


1- المؤمنون: 14.
2- آل عمران: 144.

ثم كيف يصح من الذين حكموا بعده إلى قرون وقرون من السنين ان يعينوا لأنفسهم خلفاء وأولياء عهد يخلفونهم ولا يتركون الأمر دون تعيين لمن يخلفهم؟ بل عاصرنا بعضهم وقد عيّن وليّ عهد ثان يخلف ولي عهده الأول، وحتى يومنا هذا فهؤلاء الملوك والحكام دأبوا على ذلك بل حتى الدول التي يحكمها حكامها عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع حتى إذا انتهت ولاية الرئيس أو مات فلا يترك الأمر سدى بل هناك قانون ودستور قد أُعد من قبل لمعالجة الفراغ الحاصل، ولا يمكن أبدا أن نتصور عاقلًا وحكيمًا يحكم أمة ثم يرحل دون أن يعيّن خليفة له أو يكتب لهم كتابا ودستورا يقنن لهم طريقة اتخاذهم القائد والحاكم عليهم!!

في الواقع أنا شيعي لأنني مع من يقول أن النبي عيّن خليفة ودعا الامة لاتّباعه، ولست مقتنعا أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحل دون أن يوصي بالخلافة لأحد ما، وإذا قيل لي إنه ترك الأمر للناس ليختاروا لأنفسهم حاكما أقول إن ما أجده في القرآن الكريم وفي نصوص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخالف ذلك، ولو قلنا جدلا أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ترك الأمر دون بيان لهذا الامر الخطير ولم يجعل لهم من يخلفه عليهم، فلماذا لم يأخذوا هم بسيرته ويدعوا امر الخلافة للرعية؟ ولماذا صار أحدهم يوصي للآخر ولم يفعلوا كما فعل؟! هل هم أكثر منه دراية وعقلًا وايمانا وتقوى؟! فأبو بكر أوصى إلى عمر وعمر كذلك عيّن الأمر في واحد من ستة وإذا انقسموا إلى ثلاثة وثلاثة فإلى مَن يعيّنه عبد الرحمن بن عوف، وهذا في الواقع هو تعيين ولَم يترك الأمر إليهم، وثم لما ابتز معاوية الخلافة جعلها في ولده يزيد وهكذا استمرت الأمور، فلو لم أكن شيعيا لزمني القبول

ص: 220

أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مضى ولم ينص على خليفة ولم يكتب قانونا في ذلك، مع أنه لم يمت فجأة بل مرض وعلم بدنوّ أجله وهذا أمر لا يناسب أقل الناس عقلا وحكمة فكيف بالنبي الحكيم والقائد العظيم وأفضل الخلق أجمعين.

نعم هذا عقلي يرشدني بكل وضوح إلى ضرورة تصديق ما سيتبين أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصى وارشد وأعلن مرارا وكرارا، بل جمع بعض قومه ليدّون لهم ما أعلنه مرارا إلا أنهم اختاروا لأنفسهم الضلال بعد أن رموه بالهجر في القول وقال قائلهم دعوه فإن الرجل يهجر كما نصت على ذلك الصحاح في حديث رزية الخميس كما سيأتي.

أهل البيت أقرب إلى النبي

ثم إني لما رأيت المسلمين قد ذهبوا إلى مذاهب عدة نشأت بعد أكثر من قرن من رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتمدتها مصدرًا في دينهم وتعبدهم في صلاتهم وصومهم وحجهم رأيت إتباع أهل بيت النبي احجى واتقى وأقرب لرضا ربي، فلقد نزل القرآن في بيوتهم وكان ابوهم علي بن ابي طالب (عليه السلام) أقرب الناس إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونشأ ولداه الحسنان وترعرعا في حجره فهم أعرف بكتاب اللّه وبدين جدهم ومنهجه، ولا شك أنهم الأقرب للحق، فكيف أعرض عن منهلهم العذب الخالص من الشوائب وكيف لا أُصلي بصلاتهم ولا أتبّع فقههم وكيف ترضى لي نفسي أن آخذ ديني ممن خالفوهم في وضوئهم وصلاتهم وصومهم وحجهم وكثير مما نقلوه عن دين جدهم.

لقد تأملت ذلك وغيره فما كان لي إلا أن اختار مذهبهم وبذلك كنت

ص: 221

شيعيا.

ثانيا: التأمل في القرآن الكريم: وأنا شيعي لما وجدته في كتاب اللّه عزّ وجل، حينما توّضح لي في آيات عديدة أن الخلافة والإمامة إنما تكون بجعل منه سبحانه ولم تكن باختيار الأمّة، وهي آيات كثيرة جدًا تدل على هذا المعنى، وهي وإن كان أغلبها في موضوع جعل الأنبياء إلا أن مفرداتها ومحورها قضية الخلافة والإمامة وهي شاملة لمن يخلف النبي في قيادة الأمة.

فلاحظ معي بعض تلك الآيات.

قال تعالى: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ}((1)).

وقال عزّ وجل: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَٰتِ}((2)).

وأيضا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً}((3)).

وهكذا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}((4)).

وقال تعالى على لسان نبيه موسى (عليه السلام) : {وَٱجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي 29

ص: 222


1- ص: 26.
2- الأنبياء: 73.
3- البقرة: 30.
4- فاطر: 32.

هَٰرُونَ أَخِي}((1)).

نلاحظ في هذه الآيات مفردات الجعل والاصطفاء الإلهي للخليفة في الأرض.

و تعال معي إلى قوله تعالى: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّٰلِمِينَ}((2)) فإذا تأملنا هذه الآية وجدناها تنفي إمكانية استخلاف اللّه تعالى لاحد من الظالمين وهذا يعني ليس أحد غير الذي يختاره اللّه مؤهلًا للخلافة لأنه على أقل تقدير هو ظالم لنفسه بسبب ما يرتكبه من ذنب ما ولو لمرة واحدة، حيث يكون بذلك قد ظلم نفسه أو غيره وقد نفت الآية أن تكون الإمامة وهي عهد اللّه من نصيب أحد من الظالمين بصورة مطلقة وشاملة لأي نوع من أنواع الظلم.

كما نلاحظ أن موسى (عليه السلام) هو من يعين هارون خليفة له في قوله {ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} فهي صريحة في الخلافة للنبي في إدارة الامّة بعد غياب النبي.

نعم هذا ما يحدثنا القرآن عن النبي موسى (عليه السلام) حيث ترك أخاه خليفة على قومه لغيابه عنهم أربعين ليلة فقال تعالى عنه: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ

ص: 223


1- طه: 29-30.
2- البقرة: 124.

ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ}((1)) فكيف لخاتم الأنبياء أن يفارق أمته ويرحل عنها دون أن يستخلف عليهم خليفة؟!!!

ثالثًا: وصايا النبي بالخلافة: انا شيعي لأنني وجدت في نصوص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما لا تدع عذرًا لمن له أدنى درجة من الإنصاف في لزوم أن أكون شيعيا، فاستمع بحياد وإنصاف إلى بعض وصاياه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك ثم انصف نفسك وانصف الحق في ذلك:

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني أوشك أن أُدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي»((2)).

وايضاً: «إني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض»((3)).

وقال ايضاً: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له»((4)).

وأما حديث الغدير فصريح في وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) بالخلافة من بعده وهو مما اتفق عليه الشيعة والسنة من أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في يوم الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة

ص: 224


1- الأعراف: 142.
2- مسند أحمد، ح11131.
3- كنز العمال، ج1، ص18.
4- كفاية الطالب، للكنجي الشافعي، ص378.

حينما رجع من مكة وفي غدير خم دعا المتقدمين والمتأخرين ثم صعد على أقتاب الإبل وخطب خطبة طويلة وأسهب فيها في مدح علي (عليه السلام) ، وسرد كثيرا من الآيات الواردة فيه، معرفا إياهم مقامه السامي عند اللّه تعالى، ثم قال: معاشر الناس ألست أولى بكم من أنفسكم فأجابوا: بلى فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وعندها رفع يديه ودعا: اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة، وأمر عليا (عليه السلام) أن يجلس فيها وأمر الجميع أن يدخلوا عليه ويبايعوه بالخلافة والإمامة والامارة، وأخبرهم بأنه مأمور من اللّه تعالى أن يأخذ البيعة لعلي (عليه السلام) ، وأول من بايعه ذلك اليوم عمر وأبو بكر ثم عثمان ثم طلحة ثم الزبير، وبقوا مستمرين في البيعة ثلاثة أيام متوالية رجالا ونساء حتى زوجات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أخرج وأثبت ذلك أجل علماء العامة من السنة والجماعة والشيعة، منهم أحمد بن حجر المكي في الصواعق((1)).

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) كرارا: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي» و«الا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى»((2)).

إشارة إلى قول اللّه تعالى في كتابه {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخْلُفْنِي فِي

ص: 225


1- الصواعق لابن حجر، ص25، الباب الأول، وقد قال إنه حديث صحيح.
2- ابن ابي الحديد في شرح النهج ومصادر كثيرة منها صحيح مسلم، ح2404.

قَوْمِي}((1)).

و من البديهيات لمن يريد الإنصاف أن يقرّ بأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أراد قبل رحيله لأربعة أيام ان يدوّن وصيته في ضمن كتاب بخطه وبيده المباركة، كما عن عبد اللّه بن عباس أنه قال: لما اشتد برسول اللّه الوجع قال: آتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقال عمر بن الخطاب: إن النبي قد غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس وهو يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين كتابه((2)).

وأكثر المحدثين رووا أن الرّاد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال إن النبي ليهجر((3))

(نعوذ باللّه) أي إنه يتكلم دون وعي وإدراك من شدة الوجع والألم الذي فيه.

أقول وبعد كل هذا وبعد ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ستفترق أمتي إلى اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»((4)).

هل بعد هذا كله لا أكون شيعيا ولا أكون من هذه الفرقة التي اختارت مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على المذاهب الأخرى فلا شك ولا ريب أن فقه الائمة الصادق والباقر والحسن والحسين وأبيهما أمير المؤمنين (عليهم السلام) جميعًا

ص: 226


1- الأعراف: 142.
2- صحيح البخاري، ج1، ص27 و30.
3- صحيح مسلم، باب ترك الوصية، ج5، ص76.
4- سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، ج2، رقم الحديث 3993؛ مسند أحمد، ج3، ص120؛ والترمذي.

أقرب إلى دين اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غيرهم.

نعم لذلك كله وللكثير من الأدلة مما لا تتأتى وهذا المختصر أنني كنت مسلما شيعيا أرجو اللّه تعالى ربي أن يسددنا في مشايعة محمد وآل محمد ويرزقنا شفاعتهم صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 227

ص: 228

الفصل الأوّل: رؤية خاصة لشخصيات حول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

اشارة

1- صحابة الرسول

2- زوجات الرسول

ص: 229

ص: 230

(1) موقف الشيعة من الصحابة

الصحابة تعريفهم ومنزلتهم:

(الصحابة) اصطلاح يراد به أولئك النفر الذين عاصروا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ممن كانوا يحومون حوله في مكة والمدينة في حضره وسفره أو خروجه لمهة من حرب أو غزوة وما شاكل، وبعضهم عرّف الصحابة بمن شاهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو سمع مقالته من سائر الناس، مما يجعل دائرة ذلك أوسع بكثير وشاملة لكل من رأى رسول اللّه أو سمع منه ولو لمرة واحدة، فعدّوا ذلك من الصحابة أيضا((1)).

وبالتأكيد أن مثل ذلك لا يعدّ صحابيا عرفا لأن صاحب المرء من يصحبه عادة ويلتقيه كثيرا أو بين حين وآخر ولا يعد عرفا مجرد من يرى

ص: 231


1- قال ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة: الصحابي من لقي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مؤمنا به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه ممن طالت مجالسته له أو قصرت، وممن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى. الاصابة في تمييز الصحابة، ج1، ص158.

شخصا بعض الأحيان أو يستمع له كذلك من أصحابه وأصدقائه، وعلى أي حال سواء أريد من الصحابة خصوص من حام حول النبي ولازمه في حلّه وترحاله أم من كان يحضر حلقات محاضراته ويلتقيه بعض الأحيان أم كان ممن رآه أو سمعه يوما ما.

أقول على كل الفروض ليس بالضرورة أن تكون للفرد رؤية خاصة وتصور خاص عن الصحابة بما هم صحابة ولا عن أخبارهم وحالاتهم وما شابه لأن الإنسان مسؤول عن نفسه وسلوكه ومعتقداته، وليس عنوان (الصحابة) من أصول المعتقد لدى المسلمين ليلزم على كل مسلم توفر رأي ومعتقد عنده تجاههم، إذ لا يندرج هذا البحث ضمن مسائل أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، كما أن الصحابة ليسوا من صنف الأنبياء أو أوصياء الأنبياء حتى يتحتم على الفرد المؤمن أن يعرف حقائقهم ومكانتهم ليجعل لهم مكانة ما سلبا أو إيجابا، وأيضا ليس لعنوان واصطلاح (الصحبة) بنفسه قدسية خاصة تستوجب العناية الخاصة، فلو تأملنا القرآن الكريم وجدناه يسوق هذه المفردة في سياقات عديدة أغلبها سلبية لا يشم منها أي رائحة من مدح وثناء، وربما كان العكس ولا غرابة، نلاحظ معا مفردة الصحبة في بعض الآيات:

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلًا}((1)).

ص: 232


1- الكهف: 37.

{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ}((1)).

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}((2)).

{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ}((3)).

{فَلَمَّا تَرَٰءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}((4)).

بل نلاحظ في هذه الآيات الثلاث الاخيرة أن هؤلاء الأصحاب هم أصحاب الأنبياء (أصحاب نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحاب النبي يوسف وأصحاب النبي موسى (عليهما السلام) ) والآيات في سياق ذمهم وليس المدح!!!!

ونستنتج من ذلك أن الواقع المراد من هذه المفردة (الصاحب والمصاحبة) هو مجرد مصاحبة شيء لشيء آخر وكون وجوده قرينا للآخر وليس فيها اشارة الى مدح وقدح للصاحب، ومن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}((5)).

في الآية إشارة لوجود شخص كان مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الغار ولم يكن لوحده وليس في الآية أي ثناء أو مدح لذلك المصاحب، بل قد يتساءل هنا

ص: 233


1- القمر: 29.
2- الأعراف: 184.
3- يوسف: 39.
4- الشعراء: 61.
5- التوبة: 40.

بسؤال يستبعد معه أي مديح لهذا المصاحب، والسؤال هو لماذا نزلت السكينة على النبي فقط ولم تشمل صاحبه الذي بجنبه؟! مع أنه في آية أخرى في نفس السورة وقبيل هذه الآية أنزل اللّه تعالى السكينة على رسوله وعلى المؤمنين الذين كانوا معه كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ ٱلْكَٰفِرِينَ}((1)).

وهذا تساؤل يستدعي التوقف والتأمل بالفعل، فلماذا استثنت الآية نزول السكينة على صاحبه الذي كان معه في الغار؟! ولذا قيل إن الذي كان مع النبي هو الدليل عبد اللّه بن اريقط الذي صحبه النبي من البداية لمعرفة الطريق وهو رجل كافر بعد وليس بمؤمن لتشمله السكينة كما شملت المؤمنين((2)).

وبعد كل ذلك لا ننكر رجحان التعرف على تاريخ الصحابة ومعرفة مواقفهم من الإسلام ومن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليعطى لكلٍ منزلته المناسبة له وليكون الإنسان على بصيرة مما نسب إليهم وما وصلنا منهم ومن ثمة لتكون له رؤية إيجابية أو سلبية أو لا هذه ولا تلك لبعضهم ولا سيما ذلك فيما يخص مشاهيرهم والأعلام منهم.

ص: 234


1- التوبة: 26.
2- ذكر في كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون لموسى بن راشد أنه لم يكن اسلم.
منزلة الصحابة لدى الشيعة:

تضع الشيعة المنزلة الجليلة للصحابة الذين ثبتوا في إيمانهم وينظرون إليهم بإكبار وتقدير نظرا لجهودهم وسبقهم في الإسلام وكذلك لنصرتهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولآل بيته (عليهم السلام) ولاسيما إذا وردت فيهم نصوص من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل أبي ذر الغفاري الذي قال فيه رسول اللّه «ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أصدق ذي لهجة من أبي ذر»((1)).

ومثل عمار بن ياسر الذي قال فيه «تقتلك الفئة الباغية»((2)).

وتلك المكانة لم تكن لمجرد عنوان الصحبة إذ لا يرى الشيعة لمن عاشر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدسية ومنزلة خاصة لمجرد اطلاق عنوان الصحبة عليهم، بل إن منزلة الفرد منهم إنما تكون بحسب إيمانه وصدقه ووفائه للنبي والإسلام، أما مجرد كونه ممن رأى النبي وسمع حديثه أو حتى من كان ممن يلازمه فهذا كله لا يزيد صاحبه خصوصية تضفي عليه قدسية بحيث تكون له حصانة لا يمكن معها نقده ولا يتوقع الانحراف منه عن الجادة الحقة أو بحيث لزوم التسليم واستحسان كل مقاله وفعاله وحمل ذلك كله على الصحة، وذلك لما هو واضح من أن الصحابة هم أناس كسائر الناس يعتريهم ما يعتري الآخرين من أخطاء ونزول للرغبات والشهوات والسقوط ولم تنزل آية من آيات القرآن لتنفي عنهم كل خطأ وتضفي عليهم العصمة لنقول فيهم ما نقوله في حق النبي وآله الاطهار (عليهم السلام) الذين عصمهم اللّه من الرجس.

ص: 235


1- مسند أحمد، ج2، ص163.
2- صحيح مسلم، ج8، ص186.
الصحابة في القرآن:

وقد يقول قائل كيف يكون ذلك وقد قال اللّه تعالى فيهم مما يوحي نزاهتهم وعلوَّ منزلتهم من أمثال قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}((1))، {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}((2))، {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}((3))، {وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}((4))، {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}((5))، {لِلْفُقَرَاءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ}((6)) وغير ذلك من الآيات والتي مفادها المنزلة الكبيرة لهؤلاء الذين نصروا نبيهم وشاطروه الأعمال الجسام حتى قام الدين واستقام بجهودهم وثباتهم ونصرهم؟!

والجواب، اولا: إن كثيرا من هذه الآيات وردت في شأن خاص لفرد أو أفراد معدودين.

وثانيا: لم تطلق الآيات المدح والثناء عليهم في كل الأحوال وإلى نهاية

ص: 236


1- آل عمران: 110.
2- البقرة: 143.
3- الفتح: 18.
4- التوبة: 100.
5- الأنفال: 64.
6- الحشر: 8.

المطاف، بل قيّدت ذلك بعدم النكث كما في قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}((1)).

مما يبين امكانية النكث والرجوع عن الإيمان وسوء العاقبة((2)).

ثم إن هذه الآيات وامثالها اثنت على من جاهد ونصح للدين من الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، وهذا لا ينكر، ولكن هؤلاء حصلوا على هذه المنزلة بجهادهم وثباتهم لا لمجرد اندراجهم تحت عنوان الصحابة، فهناك آيات أخرى كثيرة وبّخت الكثير ممن كانوا حول النبي ممن خذلوا وتهاونوا وتبعوا النبي لمصالحهم وطمعا في تحقيق رغباتهم، نلاحظ مثلا هذه الآيات في قوله تعالى:

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ ٱلْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ 4 وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}((3)).

{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}((4)).

ص: 237


1- الفتح: 10.
2- كما حدث ذاك لأبي الغادية الذي كان من أصحاب هذه البيعة إلاّ أنّه كانت عاقبته من أهل النار لأنه هو القاتل لعمّار بن ياسر وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (قاتل عمّار وسالبه في النار) يراجع كتاب الفِصَل لابن حزم، ج4، ص161.
3- الحجرات: 4-5.
4- آل عمران: 155.

{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ}((1)).

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ}((2)).

{يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}((3)).

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ}((4)).

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ}((5)).

ص: 238


1- الجمعة: 11.
2- الحديد: 16.
3- المائدة: 54.
4- التوبة: 47.
5- آل عمران: 144.

{يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}((1)).

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلْإِسْلَٰمِ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ}((2)).

{وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ 75 فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}((3)).

وهكذا آيات أخرى كثيرة ولاسيما في سورة التوبة تنال ممن خذلوا النبي ولم يثبتوا وتقاعسوا عن الجهاد بل هربوا في سوح القتال أو شككوا في أصل رسالة النبي، وهم مع ذلك معدودون من الصحابة لأنهم كانوا مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبناءً على ذلك لا يمكن التمسك ببعض الآيات القرآنية والتغافل عن آيات أخرى، بل الصحيح الوقوف على هذه الآيات لمعرفة شأن نزولها وأنها مدحت من؟ ووبّخت من؟ وليس هذا المختصر محلا لمناقشة كل تلك الآيات ولكن من يقف عندها ويرى تفسيرها وتأويلها يعلم علم اليقين أن في الصحابة من كان يستحق المدح ومنهم من كان يستحق الذم ومنهم من وُعد بالمغفرة والجنة ومنهم من استثنوا عن ذلك، ويكفي التأمل

ص: 239


1- التوبة: 38.
2- الصف: 7.
3- التوبة: 75-76.

في الآية الأخيرة من سورة الفتح حيث يقول سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَْٔهُ فََٔازَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَۢا}((1))، حيث نجد التبعيض المستفاد من قوله تعالى: (منهم) لوجود (من التبعيضية) والدالة على أن بعضهم هو من وُعد بالمغفرة والأجر العظيم وليس كلهم وذلك أمر واضح لأن عواقب الأمور هي من تحدد المغفرة والأجر العظيم.

بعض الصحابة سيّئون

ثم إن من يراجع التاريخ ومجريات الأمور والأحداث لا يشكك أن الصحابة لم يكونوا كلهم عدولا صالحين اتقياء بحيث لا يمكن النيل منهم وبحيث يلزم تنزيههم وتعظيمهم جميعا بل كان هناك من آذى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته أو بعد رحيله، آذاه في تغيير سننه أو في أهل بيته (عليهم السلام) وغير ذلك ولا يخفى ذلك على من ينصف الحق والحقيقة

وثمة دلائل كثيرة على هذا الواقع وأكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها.

اولا: الآيات القرآنية الكثيرة ومنها ما أشرت آنفا، فآية وصفت بعضهم (لا يعقلون) وثانية (استزلهم الشيطان) وثالثة (تركوك قائما) حيث هرعوا

ص: 240


1- الفتح: 29.

لتجارتهم وتركوا النبي قائما في خطابه، ورابعة (ألم يان.. أن تخشع قلوبهم) فقد وبّختهم أنهم بعد زمن مديد من إسلامهم لم تزل قلوبهم لم تخشع لذكر اللّه، وخامسة هددتهم بنعتهم بالارتداد فيما لو خذلوا النبي وقالت (من يرتد منكم فسوف..) وسادسة وضحت أن بعضهم سمّاعون للفتنة (وفيكم سماعون لهم) وسابعة أشارت إلى تخاذلهم وتقاعسهم فقالت (اثاقلتم إلى الأرض) وهكذا آية أخرى بينت انقلابهم على الدين وذلك يوم نادى الشيطان بأن محمدا قد قتل فقال تعالى (انقلبتم على أعقابكم).

وربما يتصور بعضهم أن هذه الآيات وأمثالها خصّت المنافقين الذين مردوا على النفاق ولا علاقة لها بالصحابة، والحال ينبغي التنبه إلى أن المنافقين هم من أظهر الاسلام والإيمان والصلاة خلف النبي وكان حالهم حال سائر من هو بين يدي النبي إلا من كُشف حاله مثل عبد اللّه بن اُبي والآخر بن سلول، وهل يعقل أن يكون هذا الزخم من الآيات في سورة التوبة أو سورة المنافقون وغير ذلك كلها في رجلين فقط؟!! مع أن كثيرا من هذه الآيات ذكر لها شأن نزولها ولا علاقة لها بهما! فضلا من أننا ربما وجدنا في عبارة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يعد حتى عبد اللّه بن أُبي المنافق المعروف يعدّه من اصحابه، حيث جاء في صحيح البخاري: أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار((1))، فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية؟

ص: 241


1- كسع فلانا: ضرب دُبُره بيده او بصدر قدمه: معجم الوسيط.

قالوا: يا رسول اللّه كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد اللّه بن أبي فقال: فعلوها أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقام عمر فقال: يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه((1)).

يقول التيجاني معلقا على هذا الحديث في كتابه: وهذا الحديث صريح في أن المنافقين كانوا من الصحابة، فقد أقرّ رسول اللّه قول عمر بأنه منافق ولكن منعه من قتله حتى لا يقال بأن محمدا يقتل أصحابه، ولعل الرسول كان يعلم بأن أكثر أصحابه منافقون((2)).

ثانيا: هناك من الحقائق الواضحة وقد صرح بها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، نشير إلى بعضها باختصار:

1- روي عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «إني فرَطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي»((3)).

و من يتمعن في هذا الحديث وما جاء في معناه من أحاديث عديدة مما

ص: 242


1- صحيح البخاري، ج6، ص65.
2- فاسألوا أهل الذكر، ص127.
3- صحيح البخاري، ج4، ص94 الى 99 وص156؛ وج3، ص32؛ صحيح مسلم، ج7، ص66.

أخرجها علماء أهل السنة في صحاحهم لا يتطرق إليه الشك في أن المراد ممن بدّل هم من الصحابة ولا يمكن بأي حال من الأحوال حمل هذه الأحاديث على المنافقين لأن النص يقول: فأقول أصحابي... ولأن المنافق لو بدّل بعد ذلك لأصبح بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مؤمنا فكان حريّا ان يشرب من الحوض لا ان يردّ عنه.

2- عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول اللّه، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟»((1)).

ورد هذا الحديث بمضامين متعددة وهو يشير بصراحة إلى تمرد بعضهم على الدين وإيذائهم للنبي وتخلفهم عن تعاليمه كما فعل اليهود والنصارى مع نبيهم ودينهم، فكيف يمكن مع هذا القول بنزاهة جميع الصحابة؟! وقد ظهرت مصاديق عديدة في زمن النبي وعند مرضه وبعد رحيله ما أكد هذا المعنى، ألم يعترضوا عليه صلحه يوم الحديبية؟!((2))

ص: 243


1- صحيح البخاري، ج9، ص315، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب لتتبعن من كان قبلكم.
2- اعترض عمر بن الخطاب على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما توافق مع سهيل بن عمرو يوم الحديبية على الصلح فجاء للنبي فقال: ألست نبي اللّه حقا؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إني رسول اللّه ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. راجع هذه القصة لدى أصحاب السير والتواريخ وممن أخرجها البخاري في صحيحه في باب الشروط في الجهاد ج2، ص122، كذلك صحيح مسلم في باب صلح الحديبية، ج2.

ألم يتخلفوا عن تجهيز جيش أسامة لما أمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك وشدد عليهم اللحوق به؟!!((1))

ألم ينسبوا إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الهجران والخرف نعوذ باللّه يوم الرزية كما سماه ابن عباس حينما أمرهم أن يأتوا إليه بقلم وكتف ليكتب لهم وصيته المهمة؟!!((2))

وغير ذلك كثير لمن تأمل مجريات الاحداث لاسيما في الأيام الأخيرة من حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 244


1- مجمل هذه القصة كما ذكرها المؤرخون: أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، جهز جيشا لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وأمّر على هذه السرية أسامة بن زيد بن حارثة وعمره ثمانية عشر عاما، وقد عبأ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه السرية وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم منهم في تأمير أسامة، وقالوا: كيف يؤمَر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد، حتى غضب (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غضبا شديدا مما سمع من طعنهم وانتقادهم، فخرج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصب الرأس محموما، يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض لشدة ما به من أذى وألم، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله، وأيم اللّه إنه كان خليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها...» طبقات ابن سعد، ج2، ص190؛ تاريخ ابن الأثير، ج2، ص317.
2- كما مرّ قبل هذا الفصل.

ثالثا: ومن الدلائل ما صرح به الصحابة أنفسهم، ومنها ما هو مكشوف للعيان لمن كان له قلب وإنصاف، ومن ذلك:

1- شهادتهم على أنفسهم بتغيير سنة النبي. فعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بحثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني((1)) فارتفع فخطب قبل أن يصلي فقلت له غيرتم واللّه فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم واللّه خير مما لا أعلم، فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة((2)).

2- تصريح بعضهم بأن منهم من آذى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . كما حدّث به الأعمش قال سمعت شقيقا يقول قال عبد اللّه: قسم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار واللّه إنها لقسمة ما أريد بها وجه اللّه، قلت أما أني لأقولن للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتيته وهو في أصحابه فساورته فشق ذلك على النبي وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته ثم قال: قد أوذي

ص: 245


1- جبذ الشيء جذبه، معجم الوسيط.
2- صحيح البخاري، ج1، ص122، من كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.

موسى بأكثر من ذلك فصبر((1)).

3- البغض الواضح من بعضهم في أقواله وافعاله لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) مع أن النبي صرّح أن بغضه نفاق. فعن أبي بريدة قال: «بعث النبي عليا إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض عليا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت له فقال: يا بريدة، أتبغض عليا؟ فقلت: نعم، قال: لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك»((2)).

ولو اردنا أن نخوض الحديث فيمن أبغض عليا (عليه السلام) وأن ذلك من علامات النفاق لقول النبي «حب علي إيمان وبغضه نفاق»((3)

ولو اردنا الخوض فيمن رصد لعلي القتال والحرب وأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال فيه «حربك حربي»((4))

فلو خضنا في هذه الامور لتوضح لنا جليا نفاق الكثير ممن عُدوا من الصحابة ممن اشترك في حروب الجمل وصفين والنهروان مثل معاوية بن أبي سفيان وآل أمية ومروان بن الحكم وآل مروان وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وغيرهم وغيرهم.

ص: 246


1- البخاري في صحيحه، ج4، ص47، في باب الصبر على الأذى وقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم}.
2- صحيح البخاري، ج5، ص447، كتاب المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن.
3- صحيح مسلم، ج1، ص61 صحيح.
4- قال ابن أبي الحديد في أمير المؤمنين (عليه السلام) وحكمه حكم رسول اللّه، لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: «علي مع الحق، والحق مع علي، يدور حيثما دار» وقال له غير مرة: «حربك حربي وسلمك سلمي». شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج2، ص297.

وبمواقفهم هذه يعلم بطلان ما زُوّر من أقاويل نسبوها للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»((1)) وأشباه ذلك مما يوحي نزاهة الجميع، والحال قد قاتل بعضهم بعضا وسبّ بعضهم بعضا وسفكت دماء ما يقرب من مأة وأربعين ألفا من المسلمين في الحروب التي أججوها ووقع ما وقع من جور وظلم على آل الرسول من بعض اولئك ممن عُدّوا من الصحابة.

زبدة القول في الصحابة:

وفي ختام هذا الفصل نقول إن الرؤية الشيعية للصحابة تعوّل على حسن عاقبة الصحابي وحسن عاقبته مرتهنة بأعماله الصالحة وثباته على دينه وإيمانه كما أنها رهينة لموقفه من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن أولئك الذين عدّهم النبي عِدلا للقرآن الكريم وهم أهل بيته (عليهم السلام) وقد حصر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك الهداية وبعدمه الضلال، كما في حديث الثقلين المشهور وممن رواه الترمذي((2)).

كما حصر النجاة بركوب سفينتهم حيث قال «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق»((3)).

ص: 247


1- لقد عدّ هذا الحديث وما في معناه ضعيفا او موضوعا لاحظ كتاب سلسلة الاحاديث الموضوعة للألباني، ج1، ص145.
2- رواه الترمذي، وقال حديث حسن، ج5، ص663.
3- وقد قال ابن حجر وهو من علماء أهل السنة والجماعة في شرح هذا الحديث بعد أن صححه: ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغيان. الصواعق المحرقة، لابن حجر الشافعي، ص151.

وعلى ضوء هذين الحديثين الصحيحين لدى كافة المسلمين تأسست رؤية الفرد المسلم الشيعي للصحابة فمن خلص في إيمانه وثبت على ولائه للنبي وآله فهو من الصحابة الكرام عليهم رضوان اللّه وأما من تمرد على سنة النبي ونصب العداء لآل بيته أو خذلهم فهو ممن ضلّ ونافق ولم يتمسك بالعترة ولم ينجُ لعدم ركوبه سفينة النجاة، والأمر واضح بدون أي تلبيس.

نسأل اللّه تعالى حسن العاقبة.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 248

(2) موقف الشيعة من زوجات النبي

اشارة

للشيعة تحفظ بخصوص بعض زوجات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تزوج بحكم خاص به من اللّه تعالى بإحدى عشرة زوجة او ثلاث عشرة زوجة على ما سيأتي في الخلاف في بعضهن كونها زوجة له أم جاريته، وتدرجت مكانة هذه الزوجات عند اللّه ورسوله وفق درجات إيمانهن وطاعتهن لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فبلغت السيدة خديجة بنت خويلد اولى زوجاته أعلى مكانة وأسمى مرتبة وحظيت باحترام كبير وجليل لدى المسلمين لاسيما عند الشيعة، وتلتها أم سلمة، وفي المقابل كانت عائشة ثم حفصة أشد الزوجات اللائي شملهن النقد والشجب لدى الشيعة لما جاء في القرآن الكريم من صريح الآيات التي وبّخت تظاهرهما وتعاضدهما في عصيان النبي وإيذائه كما سنبين.

زوجات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالترتيب

وقبل أن نبين ما يعزى من أسباب وراء اختلاف وجهة نظر الشيعة لهذه الزوجات نذكر بإيجاز أسمائهن وتاريخ الزواج منهن حسب الترتيب الزمني لذلك.

ص: 249

الأولى: خديجة بنت خويلد وكان قد تزوج بها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل البعثة بطلب منها، حيث انها كانت تتاجر بأموالها ولما خرج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) متاجرا لها ورأت الخير والبركة في ذلك كما علمت منه الصدق والأمانة عرضت اليه ان يرسل عمه أبا طالب ليخطبها له فتزوجت منه بكرا وعمرها ثمان وعشرون سنة على ما حقق في محله - خلافا لما هو مشهور من أنها كانت ثيبا وان عمرها حين زواجها كان أربعين سنة وكونها تزوجت قبل ذلك من زوجين - وقد أنجبت له فاطمة (عليها السلام) والقاسم وعبد اللّه وهو الطاهر والطيب، واما زينب ورقية وأم كلثوم فقيل انهن بنات هالة أخت خديجة كفلتهن خديجة وربّين في حجر رسول اللّه فنسبن له لكونهن ربائبه((1)).

ثم إنها كانت الزوجة الوحيدة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى قبضها اللّه تعالى بعد أيام من الحصار الذي ضرب على النبي والمؤمنين في شعب أبي طالب في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات في العاشر من شهر رمضان، بمعنى أنها عاشت مع النبي خمسا وعشرين سنة ولم يتزوج عليها حتى توفيت رضوان اللّه عليها.

الثانية: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، تزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد خديجة وقبل عائشة وانفردت بصحبته سنين لا يشاركها فيه امرأة وذكروا أنها توفيت في خلافة عمر بن الخطاب((2)).

وقال في تفسير القرطبي: أسلمت قديما وبايعت، وكانت عند أبن عم لها

ص: 250


1- راجع كتاب بنات النبي أم ربائبه للسيد جعفر مرتضى العاملي.
2- الوافي بالوفيات، ج16، ص25.

يقال له السكران بن عمرو، وأسلم أيضا، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: مات بالحبشة، فلما حلت خطبها رسول اللّه فتزوجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، ... وتوفيت في المدينة في شوال سنة أربع وخمسين((1)).

ويذكر أنها أبت السفر للحج والعمرة بعد حجتها مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكانت تقول أمرني ربي أن اقرّ في بيتي((2)).

الثالثة: عائشة بنت أبي بكر.

تزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة بعد ثلاث سنين من رحيل السيدة خديجة أي في بداية استقراره في المدينة وكانت وفاتها في شهر رمضان أيام حكم معاوية سنة ثمان وخمسين وعمرها حينئذ ست وستون سنة ودفنت في البقيع، وسيأتي بعض الكلام عنها.

الرابعة: أُمّ سلمة.

كنيتها أُمّ سلمة، واسمها هند بنت حُذيفة، وهي بنت عم خالد بن الوليد وبنت عم أبي جهل تزوّجها عبداللّه بن عبد الأسد، وكانت ممن أسلم قديماً هي وزوجها، وهاجر بها إلى أرض الحبشة، ولدت زينب وسلمة وعمر ودرّة، وتوفي زوجها على أثر جراحة جرح بها في معركة أُحُد، وكان زواج النبي منها سنة أربع من الهجرة ورحلت من الدنيا سنة إحدى وستين بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ولها من العمر أربع وثمانون سنة ودفنت في البقيع.

ص: 251


1- تفسير القرطبي، ج14، ص164.
2- الطبقات الكبرى، ج7، ص55.

الخامسة حفصة بنت عمر.

تزوجها خُنيس بن حُذافة من بني سهم، وأسلم زوجها وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر مع حفصة إلى المدينة، وشهد زوجها بدراً وأحُداً، فأصابته بأُحد جراحة فمات منها، فتزوجها رسول اللّه كرامة لزوجها الشهيد، بعد أن عرضها أبوها على أبي بكر وعثمان فرفضا ذلك، وقد طلقها النبي مرتين وارجعها وتوفيت سنة خمس وأربعين وصلى عليها مروان ودفنت في البقيع.

السادسة زينب بنت خزيمة.

تزوجها عبد اللّه بن جحش وأسلما قديماً وهاجرا إلى المدينة، واستشهد زوجها يوم أحد، ثم تزوجها النبيّ وكان دخوله بها بعد دخوله على حفصة في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة، فمكثت عنده شهرين أو ثلاثة حتى توفيت، وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر وصلّى عليها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودفنها بالبقيع وكان سنّها يوم ماتت ثلاثين سنة.

السابعة زينب بنت جحش.

وكان اسمها برّة فسمّاها النبيّ زينب، وكانت من المهاجرات الأُول، وكان عمرها حينما هاجرت ثلاث وثلاثين سنة، تزوجها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد أن طلقها زيد ربيبه وقد كان في زواجه منها اختبار للمؤمنين وبيان لحكم من أحكام الإسلام، قالت زينب بنت جحش: خطبني عِدّة من قريش فأرسلت أختي حمنة إلى رسول اللّه أستشيره فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أين هي ممن يعلمها كتاب ربّها وسنّة نبيها؟ قالت: ومن هو يا رسول اللّه؟ قال: زيد بن حارثة - وكان زيد

ص: 252

غلاما وربيبا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فغضبت حمنة غضباً شديداً، وقالت: يا رسول اللّه تُزوِّج بنت عمّتك مولاك؟!، فغضب رسول اللّه أشدّ من غضبها، فأنزل اللّه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا}((1)). قالت زينب: فأرسلتُ إلى رسول اللّه فقلت: إنّي أستغفر اللّه وأطيع اللّه ورسوله، افعل ما رأيت فزوِّجني زيداً. فتزوجها زيد إلا أنه لم يلبث أن طلقها بعد فترة، وكأنّ اللّه تعالى أراد لها أن تكون زوجة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان ذلك أمراً ربّانياً يراد منه اختبار المسلمين، خلافاً لما تعارف عند الناس من أن زوجة الربيب هي كزوجة الابن لا يمكن لوالده الزواج منها، وكان زيد ربيب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويُدعى ابن محمد، فتكلّم في ذلك المنافقون وقالوا: حرّم محمد نساء الولد، وقد تزوّج امرأة ابنه؟! فأنزل اللّه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمْ}((2))، وقال أيضاً: {ٱدْعُوهُمْ لِأبَائِهِمْ}((3))، فدُعي من يومئذِ زيد بن حارثة، ولما طلقها زيد وانقضت عدّتها زوّجها اللّه تعالى نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنصّ كتابه المجيد، فكانت تفخر بذلك على زوجات النبي، وتقول: زوّجكُنّ أهاليكنّ، وزوّجني اللّه من فوق عرشه.

وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّ اللّه سبحانه لم يتول من التزويج

ص: 253


1- الأحزاب: 36.
2- الأحزاب: 40.
3- الأحزاب: 5.

بنفسه إلاّ ثلاثة: تزويج آدم من حوّاء وتزويج محمد من زينب - وهي زوجة زيد - وتزويج عليّ من فاطمة»((1)).

توفيّت سنة عشرين وعمرها ثلاث وخمسون سنة ودفنت بالبقيع، وما تركت زينب بنت جحش درهماً ولا ديناراً، فكانت تتصدّق بكل ما قدرت عليه، وكانت مأوى المساكين وكان يقال لها أم المساكين وهي أوّل نساء النبيّ وفاة بعده.

الثامنة: أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان.

ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وتزوجها عبيد اللّه بن جحش فولدت له حبيبة فكنيت بها، تزوجت داود بن عروة بن مسعود الثقفي إلا أنه تنصر وهو في الحبشة فخطبها وتزوجها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك بعد زينب بنت خزيمة الهلالية سنة ست وقيل سنة سبع وعمرها يومئذ بضع وثلاثون سنة، وتوفيت سنة 44.

التاسعة: جُوَيرية بنت الحارث الخزاعية.

كانت قد سبيت ضمن سبايا غزوة بني المصطلق وأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بالإبل ليفدي ابنته ولكنه نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من الشعاب في منطقة تدعى بالعقيق ثم أتى النبي، فقال: يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، فواللّه ما أطلع على ذلك إلا اللّه

ص: 254


1- عيون اخبار الرضا، ج2، ص72.

تعالى، فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان وأرسل إلى البعيرين فجيء بهما فدفع بهما إلى النبي ودفعت إليه ابنته جويرية، ثم أسلمت وخطبها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أبيها فزوجه إياها((1)).

وكان لها زوج وقد قتل يوم المريسيع سنة ست وتوفيت جويرية سنة ست وخمسين((2)

وروي أنها عاشت خمسا وستين سنة((3)).

العاشرة صفية بنت حُيي بن أخطب.

وهي من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران، وكان قد تزوّجها سلاّم بن مشكم القرظي ثم فارقها، فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري فقتل عنها يوم خيبر، ولما غزا رسول اللّه خيبر سبيت صفية بنت حُييّ وبنت عم لها، فكان لرسول اللّه أن يختار ويصطفي من كلّ غنيمة، فكانت صفية مما اصطفى واختار يوم خيبر، وعرض عليها النبيّ أن يعتقها إن اختارت اللّه ورسوله، فقالت: أختار اللّه ورسوله وأسلمت فأعتقها وتزوّجها وجعل عتقها مهرها.

وذكروا أن عمرها يوم سبيت سبع عشرة سنة، وعرفت بالجمال والعقل والمودة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابنته فاطمة (عليها السلام) ، وروي أنها ماتت سنة خمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت في البقيع((4)).

ص: 255


1- سيرة ابن هشام، ج2، ص646.
2- الإستيعاب، ج4، ص261.
3- الإصابة، ج4، ص266
4- كتاب من هن زوجات الرسول المصطفى.

الحادية عشرة: ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية.

تزوّجها أولاً مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام ففارقها، وتزوجها أبو رهم بن عبد العزّى فمات.

وكانت ميمونة تتمنى أن تكون زوجة لرسول اللّه وأفضت إلى شقيقتها أم الفضل زوجة العباس بن عبدالمطلب عم النبي بما يهفو إليه قلبها، فاخبرت اختها زوجها العباس بذلك، ولم يتردد زوجها في حمل رسالة كهذه إلى النبي فمضى مسرعا إلى ابن أخيه النبي وعرض عليه أن يتزوجها، واستجاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لذلك، فميمونة هي التي وهبت نفسها للنبي وفيها نزل قوله تعالى: {وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، وقيل ان الواهبة غيرها، وقيل إنهنّ تعدّدن((1)).

وكانت ميمونة آخر امرأة تزوجها النبيّ، هذا اذا عددنا غيرهن من جواري النبي لا من زوجاته.

وتوفيت سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ثلاث وستين عام الحرة، وصلّى عليها ابن عباس، ودفنت في موضع القبّة التي بنى بها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ...((2)).

الثانية عشرة: مارية القبطية

والقبطية نسبة إلى القبط جيل بمصر، وقد ارسلها المقوقس ضمن هدايا للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأسلمت ودخل عليها بملك اليمين وأنجبت له ولده إبراهيم فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (أعتقها ولدها) إلا أنه لم يعش كثيرا فمات بعد سنة وستة أشهر،

ص: 256


1- كتاب من هن زوجات الرسول المصطفى.
2- نفس المصدر.

وتوفيت مارية أُم إبراهيم في المحرم سنة ست عشرة من الهجرة، ودفنت في البقيع.

الثالثة عشرة: ريحانة بنت زيد.

وكانت متزوجة برجل من بني قريظة يقال له الحكم، لذلك نسبها بعض الرواة إلى قريظة((1)).

وذكروا أنها كانت مما أفاء اللّه على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فلما قتل زوجها وقعت في السبي، فكانت صفي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بني قريظة، فخيرها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين الإسلام وبين دينها فاختارت الإسلام فأعتقها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتزوجها وكان ذلك في المحرم سنة ست من الهجرة((2)).

وقال صاحب الإصابة: ماتت قبل وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بستة عشر. (أي يوما) وقيل لما رجع من حجة الوداع((3)).

هذا موجز عن النساء اللائي تزوج بهن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث عشرة زوجة أو إحدى عشرة وجاريتين وقد توفيت اثنتان منهن في حياته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورحل عن هذه الدنيا تاركا تسع زوجات وذلك هو المشهور وفي رواية هنّ خمس عشرة امرأة ((4)).

ص: 257


1- الطبقات الكبرى، ج8، ص129.
2- الطبقات الكبرى، ج8، ص130.
3- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ج8، ص88.
4- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: تزوّج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة ودَخلَ بثلاث عشرة منهن وقبض عن تسع، فأَمّا اللّتان لم يدخُل بهما فعَمَرة والسَنَى... الخ. الخصال للصدوق، ص419.
اختلاف مكانة هذه الزوجات

سؤال: هل تساوت النظرة الشيعية لسائر زوجات النبي؟

الجواب: بالطبع لا يمكن ذلك أبدا، فالاختلاف واضح من خلال ما جاء في مواقف هذه الزيجات من الإسلام ومن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن آله الذين كانوا هم الميزان دائما في تقييم الآخرين، وسنرى بعض الشيء عما كان عليه بعض هذه الزوجات من ذلك مما أدى إلى فقدان مكانتهن وإن نعتن بأمهات المؤمنين.

لقب أمهات المؤمنين

ولعل سائلا يقول كيف يمكن النيل من واحدة منهن بعد ان تشرفن بالزواج من النبي وعدن عرضه وشرفه، فضلا عن أن القرآن الكريم عدهن أمهات للمؤمنين فقال {وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ}((1)) كما ميزهن عن سائر النساء بقوله تعالى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَاءِ}((2)

يقال في الجواب باختصار:

أولا: لا تصان المرأة بحيث تكون خطا احمر لا يمكن تجاوزه لمجرد كونها زوجة للنبي، وهذا ما نلاحظه في كتاب اللّه تعالى حيث عدّ زوجتي النبي نوح والنبي لوط (عليهما السلام) مثلا للكافرين فقال سبحانه: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا

ص: 258


1- الأحزاب: 6.
2- الأحزاب: 32.

صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَئًْا وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ}((1)).

فالآية صريحة في توبيخ زوجتين لنبيين وعدّهما من أهل النار ولم ينفعهما كونهما تحت عبدين صالحين وهما نبيا اللّه نوح ولوط (عليهما السلام) ، والسر في ذلك هو أن الميزان الإلهي في مكانة الإنسان عند اللّه تعالى هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}((2)).

فلا يقولن قائل إن الشيعة ينالون من عرض رسول اللّه ومن شرفه!! فهذا كلام اللّه تعالى يندد بزوجتين من زوجات الانبياء وينعتهما بالخيانة، ولسنا هنا بصدد تبيين معنى الخيانة، فهي وإن لم تكن خيانة في الفراش لكنها خيانة للنبوة والتمرد على توجيهات الرسالة كما قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}((3)).

هذا ومن الواضح لا تكون الكرامة والمكانة الشخص عند اللّه تعالى وعند المؤمنين على اساس مجرد القرابة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا أبو لهب عمُّ النبيّ يكون من أهل النار ولا تشفعه قرابته، لأن الملاك في تقييم الفرد هو ايمانه وليس

ص: 259


1- التحريم: 10.
2- الحجرات: 14.
3- الأنفال: 27.

قرابته، والنيل الموجه من الشيعة لبعض زوجات النبي هو من هذا القبيل.

ثانيا: وأما كونهن أمهات للمؤمنين كما بين ذلك اللّه تعالى في كتابه، فهذا أمر لا خلاف فيه، ولكن هل هذا الأمر يضفي عليهن خصوصية وصيانة تمنع عن امكانية الضلال والانحراف؟ الأمر ليس كذلك بل هو مجرد حكم شرعي في تحريم الزواج منهن بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما يحرم الزواج من زوجة الأب وبما أنّ رسول اللّه كان أباً لهذه الأُمّة من حيث المكانة اكتسبت أزواجه منزلة الأُمّ من حيث حرمة التزوج بها فقال تعالى: {ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ}((1)).

فهو تشبيه لهنّ بالأُمهات في بعض الأحكام، كتحريم نكاحهنّ، كما قال تعالى: {وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَٰجَهُ مِنۢ بَعْدِهِ أَبَدًا}((2)).

وهذه الخصوصية كرامة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كي لا يتزوج الرجال من بعده واحدة منهن واما هنّ فيما وراء هذه الخصوصية بمنزلة الأجنبيات كسائر النساء، ولذلك حينما قالت امرأة لإحدى أُمهات المؤمنين: يا أُمّ، قالت: لسنا أُمّهات النساء((3))، تعني أنهنّ أُمّهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أُمهاتهم، والدليل على ذلك أنّ هذا التحريم لم يتعدّ إلى بناتهن، فكان يمكن للآخرين بالزواج من بناتهم وكذا لم يثبت لهن سائر أحكام الأُمهات كالتوريث مثلاً، وإنّما المراد به يعود إلى حرمة العقد عليهنّ لا غير.

ص: 260


1- الأحزاب: 6.
2- الأحزاب: 53.
3- تفسير بن زمنين، لمحمد بن زمنين، ج3، ص387.

ولم يقل أحد من الشيعة بجواز الزواج من واحدة منهن ولم يسلب هذا العنوان (كون أزواجه أمهاتهم) من واحدة منهن فكل واحدة منهن بمثابة أم للمؤمنين لا يجوز لأحد منهم الزواج منها كما لا يجوز لأي ولد الزواج من أمه، ولكن هذا بنفسه لا يمنع الاستنكار والشجب لما صدر من أفعال من بعضهن مما فيه خروج على تعاليم القرآن ووصايا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاسيما ما فيه من الضرر العظيم على هذه الامّة.

هذا فضلا عن الميزة التي جُعلت لزواجات النبي قد اشترطت بالتقوى كما قال تعالى: (إن اتقيتن) وكما هي القاعدة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}((1))، والمنصف في التقييم يلاحظ تقوى اللّه فيفضّل من اتقى اللّه منهن، وليس أنه يلاحظ كونها زوجة من؟ وبنت من؟ فيقدّمها على تقوى اللّه ويفضلها مع عصيانها للّه ورسوله.

الشيعة ومكانة عائشة وحفصة

لا غرابة لو قلنا إن كل ما سلف في هذا المقال كان بمثابة المقدمة للإجابة على هذا السؤال، وهو لماذا لا يكنّ الشيعة مكانة إجلال لزوجتي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب؟!

والجواب يتضح مما سلف من كلام وما يأتي مما نسب التاريخ لهاتين الزوجتين في حياة النبي وبعد رحيله، ونحن نشير إلى بعض ذلك باختصار أيضا.

ص: 261


1- الحجرات: 13.

أولا: موقف عائشة من النبي في حياته.

حينما يتأمل الإنسان المحايد الذي لم يختلط فكره بعد بنظرة سلبية ولا ايجابية تجاه هذه المرأة ويقف على سلوكها سيجد نقاطا سوداء لا يمكن التغافل عنها، فيجد مثلا:

1- انها لم تكن تمتنع من كلام يشوبه التشكيك بمكانة النبي بل برسالته، فلقد خاطبته مرة وهي تقول له: تكلم أنت ولا تقل إلا حقا...((1)).

فيا ترى هل يقول النبي غير الحق وهل هذا منها قول معروف كما أمرها اللّه تعالى بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}((2))؟!

ومرة أخرى قالت له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك رسول اللّه...!((3)).

ومرة غضبت عنده فقالت له: اعدل.. وكان أبوها حاضرا فضربها حتى سال دمها((4)).

فكأنها غير مؤمنة بعدالته، ولو كانت تؤمن بعدالته لما خرجت خلفه في جوف الليل تراقب ذهابه إلى البقيع وايابه كما في صحيح مسلم((5)).

2- كما يلاحظ أنها لم تكن تحترم زوجها رسول اللّه وتخشع له بل

ص: 262


1- أخرجه الطبراني في الأوسط والخطيب في التاريخ من حديث عائشة.
2- الأحزاب: 32.
3- أخرجه أبو يعلى في مسنده وأبو الشيخ في كتاب الأمثال.
4- كنز العمال، ج7، ص116.
5- صحيح مسلم، ج3، ص64، باب ما يقال عند دخول القبور.

كانت تسيء الأدب في صراخها عليه، وكما ذكروا أن ابا بكر جاء يستأذن على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأذن له فدخل فقال: أترفعين صوتك على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟! قال: فحال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بينه وبينها.. الحديث((1)).

ومن سوء أدبها معه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه كان يصلي وهي باسطة رجليها بين يديه فإذا سجد غمزها فقبضت رجليها وإذا قام أعادت ببسطها في قبلته((2)).

3- وكذلك يلاحظ أن من سوء فعالها غيرتها المفرطة من زوجات النبي وايذائها إياهن وإيذاء رسول اللّه لذلك، ومن ذلك ما نقل عن صفية أنها قالت: بلغني عن حفصة وعائشة قولهما: نحن أكرم على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه، فدخل عليَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فذكرت ذلك له، فقال: ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى((3)).

وهي أيضا من قالت: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك اللّه خيرا منها، فغضب، ثم قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولادا إذ

ص: 263


1- مسند أحمد، ج4، ص272.
2- صحيح البخاري، ج1، ص101، باب الصلاة على الفراش.
3- رواه الترمذي، بسند صحيح، التاج الجامع، ج3، ص385.

حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدا((1)).

وهكذا مرة أخرى بعثت إحدى زوجات النبي بإناء فيه طعام كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشتهيه، فكسرت الإناء بطعامه بمحضر من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ((2)).

4- ومن بالغ سوء خلقها هو تعمدها الكذب على رسول اللّه وعلى غيره أيضا، فقد تآمرت مع حفصة على الكذب على رسول اللّه من أنهما يشمّان من فمه الطيّب رائحة كريهة، فروى عنها البخاري في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ}((3))، أنها قالت: إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير((4))

أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش ولن أعود له، فنزلت: {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى {إِن تَتُوبَا إِلَى ٱللَّهِ} عائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ}((5)) بقوله: بل شربت عسلا((6)).

ص: 264


1- الزوائد، ج9، ص224؛ وابن عبد البر في الاستيعاب، ج4، ص287.
2- صحيح البخاري، ج6، ص157، في باب الغيرة.
3- التحريم: 1.
4- المغافير واحدها مغفور، صمغ حلو كريه الرائحة ينضح من شجر العرفط. انظر النهاية، ج3، ص373.
5- التحريم: 3.
6- البخاري، ج3، ص271، كتاب الطلاق باب لم تحرم ما أحل اللّه لك.

وهكذا كذبت على أسماء بنت النعمان لما زفت عروسا للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالت لها: إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له أعوذ باللّه منك، وارادت من وراء ذلك تطليق المرأة البريئة الساذجة والتي طلقها النبي بسبب هذه المقالة((1)).

وانظر ماذا فعلت وماذا قالت حتى غضب (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال لأبي بكر: يا أبا بكر، ألا تعذرني من عائشة؟!((2))، بل لذلك كله وغيره احست أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليرجو موتها، حيث قالت يوما: وا رأساه! فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة: واثكلياه، واللّه إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك لظلت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك((3)).

هذا وقد وردت روايات ينتهي سندها اليها تمتدح فيها مكانتها عند رسول اللّه وبعضها مما يشمئز الطبع منها مثل «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على باقي الطعام»((4)).

ولا ادري كيف يطمئن الى رواياتها مع ثبوت كذبها على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى غيره؟!

بغضها لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)

وأما سلوكها السلبي بعد رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيتجلى بأظهر صوره في

ص: 265


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج8، ص145؛ الإصابة لابن حجر، ج4، ص233.
2- طبقات الصحابة، ج8، ص56.
3- صحيح البخاري، ج7، ص8 من كتاب المرضى والطب.
4- مسند أحمد، ج3، ص264 وج6، ص159.

بغضها للإمام علي (عليه السلام) والذي قال فيه رسول اللّه: (حبه إيمان وبغضه نفاق)((1))، كما قال فيه (حربك حربي)((2))، فلقد ابغضته الى درجة خرجت لقتاله وحربه، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان وقد حذرها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تكون هي من تنبحها كلاب الحوأب، وقد نبحتها بالفعل وما ارتدعت ومضت إلى البصرة واججّت حربا سقط فيها قرابة خمسة وعشرين ألفا من المسلمين في واقعة الجمل.

نقل إبن أبي الحديد عن أبي مخنف قال: قال أبو مخنف: جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها: يا بنت أبي أمية، انت أول مهاجرة من أزواج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنت كبيرة امهات المؤمنين، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقسم لنا من بيتك، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك، فقالت أم سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة، فقالت عائشة: إن عبد اللّه أخبرني أن القوم استتابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة، فاخرجي معنا، لعل اللّه أن يصلح هذا الأمر على أيدينا، فقالت أم سلمة: إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان، وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأذكرك؟ قالت: نعم، قالت: أتذكرين يوم أقبل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن معه،

ص: 266


1- لاحظ مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص95.
2- مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب، ج3، ص18 وغيره.

حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال، خلا بعلي يناجيه، فأطال، فأردت أن تهجمي عليهما، فنهيتك فعصيتني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلت: ما شأنك؟ فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي: ليس لي من رسول اللّه إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا بن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليّ وهو غضبان محمر الوجه، فقال: ارجعي وراءك، واللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الايمان، فرجعت نادمة ساقطة! قالت عائشة: نعم أذكر ذلك، قالت: وأذكرك أيضا، كنت أنا وأنت مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنت تغسلين رأسه، وأنا أحيس له حيسا((1)

وكان الحيس يعجبه، فرفع رأسه، وقال: «يا ليت شعري، أيتكن صاحبة الجمل الأذنب - في رواية الأدبب بمعنى كثير الشعر - تنبحها كلاب الحوأب، فتكون ناكبة عن الصراط! فرفعت يدي من الحيس، فقلت: أعوذ باللّه وبرسوله من ذلك، ثم ضرب على ظهرك، وقال: (إياك أن تكونيها) قالت عائشة: نعم، أذكر هذا((2)).

وهكذا بقت مبغضة لأمير المؤمنين بعد ذلك أيضا وفرحت بمقتله حتى روى الطبري: لما انتهى إلى عائشة قتل علي بن أبي طالب قالت:

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عينا بالإياب المسافر

ص: 267


1- الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن ويدلك حتى تمتزج ثم يندر نواه
2- شرح النهج البلاغة لابن ابي الحديد، ج6، ص217.

ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد فقالت:

فإن يك بك نائيا فلقد نعاه*** غلام ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب ابنة أبي سلمة: العليٍّ تقولين هذا؟ فقالت: إني أنسى فإذا نسيت فذكروني((1)).

هذا وقد آزرتها حفصة وأظهرت هي الأخرى ما تكنّ لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) من الأضغان، قال إبن أبي الحديد: ولما نزل علي (عليه السلام) ذا قار، كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر، أما بعد فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر، فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف، فأمرتهن أن يقلن في غنائهن ما الخبر ما الخبر، علي في السفر، كالفرس الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر.

وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة، ويجتمعن لسماع ذلك الغناء، فبلغ أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) ، فلبست جلابيبها، ودخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها حفصة خجلت، واسترجعت، فقالت أم كلثوم لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتما على أخيه من قبل، فأنزل اللّه فيكما ما أنزل. انتهى((2)).

أقول والمراد من (أخيه) في كلام أم كلثوم هو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه قد

ص: 268


1- تاريخ الطبري، ج4، ص115.
2- شرح النهج، لأبن أبي الحديد، ج14، ص13.

آخى عليا (عليه السلام) يوم المؤاخاة.

والحديث في هذا الموضوع مرٌّ يوجع القلب لا يتناوله منصف إلا بالتأفف والتأسف لما حلّ بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك ما حلّ من بعده بحبيبه علي (عليه السلام) من خذلان وفتن، وليس هذا مظان تفصيل ذلك.

السيدة خديجة بنت خويلد

وأما ما تكنّه الشيعة للسيدة خديجة من مكانة واجلال فذلك لما لها من مكانة في قلب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وذاك بسبب جهادها في اموالها لنصرة النبي والاسلام وهذا أيضا مما لا يخفى، وجاءت الروايات في فضلها وقدم إيمانها وإسلامها وتصديقها لرسول اللّه.

وروي عن عفيف الكندي قال: جئت في الجاهلية إلى مكة وأنا أريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها. فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فأنا عنده وأنا أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس فارتفعت إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة فرفع رأسه إلى السماء فنظر ثم استقبل الكعبة قائما مستقبلها، إذ جاء غلام حتى قام عن يمينه، ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما ثم ركع الشاب فركع الغلام وركعت المرأة. ثم رفع الشاب رأسه ورفع الغلام رأسه ورفعت المرأة رأسها ثم خر الشاب ساجدا وخر الغلام ساجدا وخرت المرأة، قال فقلت: يا عباس إني أرى أمرا عظيما. فقال العباس: أمر عظيم، هل تدري من هذا الشاب؟ قلت: ما أدري قال: هذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ابن أخي. هل تدري من هذا الغلام؟ قلت: لا ما أدري قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن أخي،

ص: 269

قال: هل تدري من هذه المرأة؟ قلت: لا ما أدري قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة إبن أخي هذا، إن ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه فهو عليه ولا واللّه ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: فتمنيت بعد أني كنت رابعهم((1)).

ولم تزل وفيّة مجاهدة متحملة لأعباء ما نزل على بعلها حتى رحلت الى ربها بعد حصار المشركين لها في شعب أبي طالب، ولمنزلتها السامية نزل جبرئيل (عليه السلام) ليبلغها منزلتها في الجنة، وروي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: قال لي جبريل بشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب((2))((3)).

وفي رواية عندما بلّغها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السلام من ربها جلّ وعلا ومن جبريل قالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته((4)).

وختاما

وفي ختام هذا الفصل أقول: ليس للشيعة قرابة لواحدة من نساء

ص: 270


1- الهيثمي في الزوائد، ج9، ص223.
2- قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله ثقات، الزوائد، ج9، ص224.
3- قال صاحب التاج الجامع للأصول: القصب / اللؤلؤ المجوف المنظوم بالدر والياقوت، والصخب / الصياح، والنصب / الهم والتعب. التاج الجامع، ج3، ص378.
4- كتاب فتح الباري لابن حجر، ج7، ص105.

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتفضل بعضهن على بعض وإنما هي المودة لمن ودّت النبي وآله والتحفظ على من بان من سلوكها تمرد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصاياه في حق أهل بيته (عليهم السلام) .

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 271

ص: 272

الفصل الثاني: معتقدات ورؤى شيعية

اشارة

1- الرجعة

2- التقية

3- البداء

ص: 273

ص: 274

(1) عقيدة الرجعة لدى الشيعة

اشارة

من العقائد الواردة في نصوص معتقدات الشيعة هي عقيدة الرجعة - سياتي توضيحها - فبناء على هذه النصوص المُبيِّنة لمعاني بعض الآيات القرآنية تكون الرجعة عقيدة من عقائد المذهب ولكن هل هي ضرورة من ضروريات المذهب بحيث يكون المتحفظّ فيها والساكت عنها خارجا من عنوان التشيع؟ قد لا تكون كذلك فهي ليست كالاعتقاد باصل الإمامة للائمة الاثني عشر والعصمة لهم وانما هي من باب التسليم لما ورد من المعصومين (عليهم السلام) لمن صح عنده صدور تلك الروايات ودلالاتها على ذلك وكذلك ما جاء من آيات منسجمة مع ذلك.

الممكن والمحال

ثم من الضروري قبل بيان معنى الرجعة أن نميز بين المحال عقلا والذي لا ينبغي الخوض فيه من الاساس كاجتماع الوجود والعدم لشيء واحد وفي نفس الآن كما لو يفرض كون هذا الشيء موجودا ومعدوما في نفس الوقت، وبين ما هو ممكن وليس مستحيلا عقلا إلا أنه لا يقع عادة إلا نادرا، ومثاله

ص: 275

الانسان نفسه من حيث الطيران وعدمه فهو لا يطير ولكن ليس بمحال أن يصنع له جناحين ومحركا لهما فيستطيع الطيران كما هو واقع الان، والانسان يسافر على هذه المعمورة طولا وعرضا ويسيح في شرق الأرض وغربها مشيا أو ركوبا ولكنه لا يسافر ارتفاعا فيها أي لا يسافر إلى الفضاء عادة ولا يذهب إلى الكواكب الأخرى ولكن ذلك ليس بمحال فليس من المستحيل أن يكون من رجال الفضاء ويركب سفينة فضائية تحطه على القمر كما حدث، مع ان هذا الأمر كان ضربا من المستحيل ثم عاد نادرا جدا واليوم أصبح الحديث عن ترتيب رحلات للفضاء يخوضها بعض أرباب المليارات، ولاشك أن هذا الموضوع لم يكن ليخطر على قلب بشر ولو خاضه احدهم من قبل لرمي بالسخرية وسخف القول ليس لدليل إلا لغرابة ذلك على نفوس الناس ولأنهم لا يميزون كثيرا بين ما هو محال حدوثه وبين ما هو ممكن الوقوع ولو نادراً، ولأنهم غالبا يرفضون ما يجهلون مما يستغربون ومما لا يألفون، وبالطبع ليس لهذا الرد قيمة علمية طالما يكون مبتنيا على مجرد استغراب النفس واستبعادها ذلك، وسنرى أن تحقق الرجعة ليس من الأمر المستحيل عقلا بل هو أمر ممكن فلا ينبغي ان يكون استغراب ذلك في النفوس وعدم توقع ذلك بنفسه دليلا على إنكار الرجعة وردع ذلك بل لابد من التأمل فيما ورد من أدلة ثم قبول الحق فيما لو صح صدور ذلك عن المعصومين (عليهم السلام) كما هو الحال في كثير من الأمور الغيبية التي بني الاعتقاد بها على اساس أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وآله المعصومين (عليهم السلام) وحتى لو فرضنا التشكيك في تلك النصوص فلا مناص من قبول احتمالية

ص: 276

ذلك طالما هي أمور ممكنة الوقوع بل هي مما وقعت كما تشهد لها الآيات القرآنية كما سيأتي.

ماهي الرجعة

بعد هذه المقدمة نقول ان المراد من الاعتقاد بالرجعة هو القول إن طائفة وجماعة ممن ماتوا وفارقوا الحياة ولو في غابر الزمان من صلحاء المؤمنين ممن بلغوا درجة راقية من الإيمان وطائفة أخرى من أعداء الدين ممن اسرفوا في الكفر والعناد سيعيدهم اللّه تعالى ويردهم إلى هذه الحياة الدنيا في زمن من آخر الأزمان الذي يحكمه الصالحون وبذلك يتحقق نصر اللّه تعالى للمؤمنين على أولئك المعاندين في هذه الحياة الدنيا كما وعد اللّه تعالى عباده الصالحين بذلك كما في الآية {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ}((1)) ويزامن ذلك ايام ظهور الإمام المهدي الموعود (عليه السلام) ، فتكون لهم رجعة لهذه الحياة بإذن اللّه تعالى.

لا شك ان هذه الرؤية المستقبلية من احياء بعض الاموات قد لا تألفها الأنفس والاذواق لما هو المطبوع في الاذهان من أن الإنسان إذا مات فقد انقطع عن هذه الدنيا لا إلى رجعة وليس له حشر إلا يوم القيامة، لاسيما وأن القرآن يصرّح بأن البرزخ يكون إلى يوم القيامة كما في قوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا

ص: 277


1- القصص: 5.

إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}((1)).

ولكن هذا لا يكون سبيلا لردّ ما جاءت به النصوص والروايات المفسرة لبعض الآيات والمصدَقة ببعض الحقائق الواقعة في التاريخ الذي صرّحت به الآيات القرآنية فلا مناص بعد توفر الدليل النقلي من الاعتقاد بذلك، ولا ينافي ذلك ما جاء في الآية الانفة من أن البرزخ مستمر إلى يوم البعث إلى القيامة، لأن الرجعة خاصة لبعض الاموات وليس لجميعهم فهي حالة خاصة واستثنائية لأمر ولحكمة ما وأما عامة الاموات فلا رجعة لهم للدنيا فبالجمع بين الآية والروايات يكون المعنى أنّ البرزخ مستمر للأموات الا بعضهم فانهم سيعودون للدنيا فترة الرجعة، وعلى أي حال فإن ما أخبر اللّه به في كتابه هو مما جاء به نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما يقوله النبي وآله هو أيضا من أمر السماء فيلزم الجمع بين الآيات والروايات من اهل البيت لانهم عندهم تفسير القران وتأويله وليس للمؤمن الا اعتماد ذلك كما هو الحال في كثير من الحقائق التي يؤمن بها المسلم وليس له من الدليل عليها سوى النصوص الواردة من اهل بيت العصمة مما يتعلق بالغيب ومما هو آت كالحياة الأخروية والجنة والنار وغير ذلك، نعم لاشك أن درجات اليقين تختلف باختلاف الأدلة واعتضادها بكثرة ما يؤازرها أو بقلة ذلك.

وعلى أي حال لقد ذكرت في محله روايات كثيرة حقيقة وقوع الرجعة وكثير منها جاءت مفسِرة أو مؤوِلة لبعض الآيات القرآنية مما أدى أن يقول

ص: 278


1- المؤمنون: 99-100.

اغلب علماء الشيعة بوقوع الرجعة بعد ظهور الإمام الحجة (عليه السلام) واعادة الحياة الدنيوية لطائفة من المؤمنين الذين خلصوا في إيمانهم كما هي لطائفة من الطرف المقابل ممن محضوا في كفرهم طبقا لما ورد في الأحاديث كما سنرى ذلك.

حقائق قرآنية تؤيد مدلول الرجعة

هناك وقائع تاريخية تعرّض لها القرآن الكريم تؤيد امكانية وقوع الرجعة نذكر بعضها لما في ذلك تمهيد للنفس ورفع لاستغراب الأمر فيما لو كان، فنشير هنا إلى بعضها وعلى سبيل المثال منها:

1- ما فعله اللّه تعالى بمثل النبي عزير قالَ تعالى: {أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَٱنظُرْ إِلَى ٱلْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}((1)). والملاحظ في الآية أن ارجاعه إلى الحياة الدنيا كان بعد مرور مأة عام من مماته ثم انه عاش بعد ذلك قرابة عشرين سنة كما في الاحاديث((2)) فهذا يعد مثالا يحقق للرجعة بكامل مدلولها.

ص: 279


1- البقرة: 259.
2- بحار الأنوار، ج14، ص378.

2- قصة اصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم قرونا من الزمن ثم احياهم اللّه تعالى وعادوا للحياة كما قال تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا}((1)).

وعن الإمام الصّادق (عليه السلام) قال: «وَ قَدْ رَجَعَ إِلَى الدُّنْيَا مِمَّا مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ وتِسْعَةً ثُمَّ بَعَثَهُمْ فِي زَمَانِ قَوْمٍ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِيَقْطَعَ حُجَّتَهُمْ ولِيُرِيَهُمْ قُدْرَتَهُ ولِيَعْلَمُوا أَنَّ الْبَعْثَ حَق»((2)).

3 - الألوف الذين خرجوا حذر الموت قالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}((3)).

ومما سأله الراوي من الامام الباقر (عليه السلام) قال: «قلتُ لهُ حدّثني عَن قولِ اللّهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ}، قلتُ: أحياهُم حتّى نظرَ النّاسُ إليهم ثمَّ أماتَهُم مِن يومِهم، أو ردَّهُم إلى الدّنيا حتّى سكنوا الدّورَ وأكلوا الطّعامَ ونكحُوا النّساءَ؟، قالَ (عليه السلام) : بَل ردَّهُم اللّهُ حتّى سكنوا الدّورَ وأكلوا الطّعامَ ونكحوا النّساءَ، ولبثوا بذلكَ ما شاءَ اللّه ثمَّ ماتُوا بآجالِهم»((4)).

ص: 280


1- الكهف: 25.
2- تفسير نور الثقلين، ج8، ص458.
3- البقرة: 243.
4- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج1، ص130.

وذكر الطبري في تاريخه عن السّدّي في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} قالَ: كانَت قرية يقالُ لها داوردان (قيلَ واسِط)، وقعَ بها الطّاعونُ، فهربَ عامّةُ أهلِها، فنزلوا ناحيةً منها، فهلكَ أكثرُ مَن بقيَ في القريةِ وسلمَ الآخرونَ، فلَم يمُت منهُم كثيرٌ، فلمّا إرتفعَ الطّاعونُ رجعُوا سالمينَ، فقالَ الذينَ بقوا: أصحابُنا هؤلاءِ كانُوا أحزمَ منّا، لو صنعنا كما صنعُوا بقينا، ولئِن وقعَ الطّاعونُ ثانيةً لنخرجنَّ معهُم! فوقعَ في قابلٍ فهربوا، وهُم بضعةٌ وثلاثونَ ألفاً، حتّى نزلوا ذلكَ المكانَ، وهوَ وادٍ أفيحُ، فناداهُم ملكٌ مِن أسفلِ الوادي، وآخرُ مِن أعلاهُ: أن موتوا! فماتوا، حتّى إذا هلكوا وبليَت أجسادُهم، مرَّ بهم نبيٌّ يُقالُ لهُ حزقيل، فلمّا رآهُم وقفَ عليهم، فجعلَ يتفكّرُ فيهم، ويلوي شدقيهِ وأصابعَهُ، فأوحى اللّهُ إليهِ: يا حزقيل، أتريدُ أن أريكَ فيهم كيفَ أحييهم؟ - قالَ: وإنّما كانَ تفكّرهُ أنّهُ تعجّبَ مِن قُدرةِ اللّهِ عليهم، - فقالَ: نعَم، فقيلَ لهُ: نادِ فنادى: يا أيّتُها العظامُ إنَّ اللّهَ يأمرُكِ أن تجتمعِي فجعلَت تطيرُ العظامُ بعضُها إلى بعضٍ حتّى كانَت أجساداً مِن عظامٍ، ثمَّ أوحى اللّهُ إليهِ أن نادِ يا أيّتُها العظامُ، إنَّ اللّهَ يأمرُكِ أن تكتَسي لحماً! فاكتسَت لحماً ودماً وثيابَها التي ماتَت فيها وهيَ عليها، ثمَّ قيلَ له: نادِ! فنادى: يا أيّتُها الأجسادُ إنَّ اللّهَ يأمرُكِ أن تقومي، فقاموا)((1)).

وكذلك غير هؤلاء مثل أصحاب موسى (عليه السلام) الذين امرهم اللّه تعالى أن يقتلوا أنفسهم ثم اعادهم جميعا إلى هذه الحياة الدنيا بعد موتهم فعاشوا

ص: 281


1- تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج1، ص323.

حتى جاءهم الموت ثانيا قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ 54 وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ 55 ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّنۢ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}((1)). وكذلك احياء من مات في غابر الزمان كما كان يفعله عيسى (عليه السلام) من احياء الموتى بإذن اللّه تعالى، فهذه حقائق لا يشك بها مؤمن باللّه ورسوله كلها تدل على امكانية الرجعة، فليس للعقل هنا أن يرفض امكانية ذلك بعد تحققه من قبل بل لابد له من التسليم لقول المعصوم (عليه السلام) بعد فرض صحته.

الدليل على الرجعة

بالتأكيد لا يسعنا أن نذكر كل ما جاء في هذا المجال من دلائل بل نكتفي اختصارا ببعض ذلك، ولا يكون الدليل إلا نقليا وأما العقل فيكفي أنه لا ينكر امكانية تحقق كل ما هو ليس بمستحيل ومن الواضح لا يعد احياء الموتى مستحيلا عند اللّه تعالى بعد أن خلق الموت والحياة وكما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ ٱلْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ 78 قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ}((2))، بل لاشك من وقوع ذلك وتحققه فان أدل دليل على امكانية الشيء هو وقوعه وتحققه في الواقع الخارجي، ولا يخفى

ص: 282


1- البقرة: 54-56.
2- يس: 78-79.

على المؤمن الحقائق القرآنية التي حكت وقوع مثل ذلك كما مرّ آنفا، وبناء على ذلك ينحصر الدليل على عقيدة الرجعة بالآيات القرآنية المفسَرة بتفسير أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك بالروايات المنفردة في ذلك وسنشير الى بعضها.

اولا: الرجعة في القرآن الكريم بضميمة تفسير اهل البيت (عليهم السلام) :

1- قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ}((1))، بناءً على ان المقصود من الحشر هنا ليس الحشر المعهود وهو حشر يومِ القيامةِ، بل هو حشر لفوج من الناس فالآيةُ هُنا صريحٌة لا تحتاجُ إلى إعمالِ جُهدٍ ونظرٍ، فكيفَ يكونُ المقصودُ حشر يومِ القيامةِ والآيةُ صريحةٌ في قولِها: {مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوْجًا} و(من) هنا تفيد التبعيض، أي هو حشر خاص لبعض الجماعات من الأمم، وهذا بخلافِ حشرِ يومِ القيامةِ الذي يقولُ فيه تعالى: {وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}((2)) حيث هو حشر للجميع دون استثناء، وذلك حشر محدود، وقد بيّنت ذلك روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «وَ أَمَّا الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الرَّجْعَةَ فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، أَي إِلَى الدُّنْيَا»((3)).

ص: 283


1- النمل: 83.
2- الكهف: 47.
3- بحار الأنوار، ج53، ص118؛ تفسير القمي، ج1، ص24.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ}؟ فقال: ما يقول الناس فيها؟ قلت يقولون إنها في القيامة. فقال: يحشر اللّه في القيامة من كل أمة فوجاً ويترك الباقين؟! إنما ذلك في الرجعة، فأما آية القيامة فهذه: {وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} الى قوله: {مَّوْعِدًا}((1)).

2- قوله تعالى: {وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}((2)).

ذكر ان هذه الآية تدل على رجعة بعض الناس للدنيا قبل الحشر، وذلك لأن الآية نفت امكانية رجوع قوم أهلكم اللّه، فلابد أن المراد من النفي هونفي رجوعهم للدنيا وليس رجوعهم لحشر الآخرة، لأن من البداهة أن اللّه تعالى يرجع الجميع إلى الحشر يوم القيامة فالنفي لرجوع مثل هؤلاء إلى الدنيا دل على امكانية رجوع آخرين الى هذه الدنيا ممن لم يهلكم اللّه تعالى في دنياهم التي ماتوا فيها، وقد روى علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «كلُّ قرية أهلك اللّه أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرجعة، وأمّا في القيامة فيرجعون، ومن محض الإيمان محضاً وغيرهم ممّن لم يهلكوا بالعذاب، ومحضوا الكفر محضاً يرجعون»((3)).

3- قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ

ص: 284


1- بحار الأنوار، ج53، ص51.
2- الأنبياء: 95.
3- بحار الأنوار، ج53، ص60.

يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ}((1)).

لقد استدل بهذه الآية على الرجعة من حيث انها صرّحت أن اللّه تعالى وعد بنصرة رسله في الحياة الدنيا، مع ان تأريخ الأنبياء يشهد أن أكثرهم غُلبوا على امرهم ومضوا شهداء، ولابد لذلك الوعد الإلهي أن يتحقق لأنه تعالى لا يخلف الميعاد فلابد من رجعة لهذه الدنيا ليتحقق ذلك الوعد، وهذا المعنى ذكرته الروايات ومنها ما رواه الراوي عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: قول اللّه عز وجل {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ} قال (عليه السلام) : ذلك واللّه في الرجعة أما علمت أن [في] أنبياء اللّه كثيرا لم يُنصَروا في الدنيا وقتلوا وأئمة قد قتلوا ولم ينصروا فذلك في الرجعة((2)).

4- قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ}((3)).

هذه آية أخرى استدل بها بضميمة تفسير اهل البيت (عليهم السلام) انها تدل على وقوع الرجعة، وذلك لأنها تتحدث عن الكفار وهم يقرّون للّه تعالى بقولهم {أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ} بمعنى أن هؤلاء ممن ارجعهم اللّه تعالى إلى الدنيا ثم اماتهم مرة اخرى فهم يسألون اللّه تعالى أن يرجعوا مرة ثالثة

ص: 285


1- غافر: 51.
2- بحار الأنوار، ج53، ص65.
3- غافر: 11.

ليصلحوا ويتوبوا فيما لو رُدّوا مرة ثالثة وبذلك يعلنون ندمهم على ما فاتهم في تلك الفرصتين من الحياة، فعن الإمام الصّادق (عليه السلام) في الآية {رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ... مِّن سَبِيلٖ} قَالَ (عليه السلام) ذَلِك فِي الرَّجْعَة((1)).

وهكذا جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) وقد سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ {أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ...} قَالَ واللَّهِ مَا هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِي الْكَرَّةِ. والمراد من الكرّة هي الرجعة((2)).

هذه اربع آيات وهناك أخرى فُسرت بما يستدل بها على الرجعة ويمكن لمن يريد التفصيل مراجعة كتاب الشيعة والرجعة للطبسي((3)).

ثانيا: الرجعة في الروايات:

وبغض النظر عن الروايات التي جاءت مفسرة لآيات قرآنية بما يستدل بها على الرجعة هناك الكثير من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تحدثت عن هذه الحقيقة بانفراد عن الآيات، واذكر هنا بعض ذلك:

1- ورد أن المأمون العباسي قال للامام الرضا (عليه السلام) : يا أبا الحسن، ما تقول في الرجعة؟

فقال (عليه السلام) : إنّها الحقّ، قد كانت في الاُمم السالفة ونطق بها القرآن، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يكون في هذه الاُمّة كل ما كان في الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا خرج المهدي من ولدي نزل

ص: 286


1- بحارالأنوار، ج53، ص56؛ تفسير القمي، ج2، ص255، نور الثقلين.
2- بحارالأنوار، ج53، ص144.
3- كتاب الشيعة والرجعة لمحمد رضا الطبسي النجفي.

عيسى بن مريم (عليه السلام) فصلى خلفه، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنَّ الاِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول اللّه، ثم يكون ماذا؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ثم يرجع الحقّ إلى أهله((1)).

2- جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الرجعة ليست بعامة وهي خاصة لا يرجع إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الشرك محضاً»((2)).

3- ووردت أحاديث في رجوع النبي والائمة وفيها عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي (عليه السلام) »((3)).

4- عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا آن قيام القائم مطر الناس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب مطرا لا ترى الخلائق مثله، فينبت اللّه به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، وكأني أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة وهي قبيلة ينفضون شعورهم من التراب»((4)).

وروي أيضا عنه (عليه السلام) قال: «يخرج مع القائم من ظهر الكوفة سبع وعشرون رجلا، خمسة عشر من قوم موسى (عليه السلام) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسليمان - وفي نسخة - سلمان وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر فيكونون بين يديه

ص: 287


1- بحار الأنوار، ج53، ص59.
2- بحار الأنوار، ج53، ص62.
3- بحار الأنوار، ج53، ص62.
4- السيد عبد اللّه شبر حق اليقين في معرفة أصول الدين، ج2، ص305 إلى 313.

أنصارا وحكاما»((1)).

هذا ومن أراد التفصيل يمكن مراجعة كتاب الشيعة والرجعة للطبسي((2)).

ونحن نقرأ في زيارة الجامعة المروية عن الإمام الهادي (عليه السلام) «فثبتني اللَّه أبداً ما حييت على موالاتكم... وجعلني ممن يقتصّ آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهداكم ويحشر في زمرتكم ويكرّ في رجعتكم»((3)).

كما نقرأ في زيارة الامام الحسين (عليه السلام) في زيارة وارث: «أشهدكم أني بكم مؤمن وبإيابكم موقن»((4)).

والخلاصة ان القول بالرجعة لبعض ممن محضوا الإيمان وبعض ممن محضوا الكفر لهو معتقد مبني على روايات كثيرة لا يمكن تجاوزها وبذلك يكون هذا المعتقد من خصائص المذهب الشيعي، ولا ينبغي تهويل الامر والارباك فيه فان الاعتقاد بالرجعة لا يخدش بأية صغيرة أو كبيرة من اصل المعتقدات الإسلامية فليس في ذلك تناف مع معتقد التوحيد أو العدل أو النبوة أو المعاد بل هي زيادة في الاعتقاد بالقدرة الإلهية وإظهار لعدله تعالى في هذه الدنيا قبل الآخرة كما أنّ فيها تحقيقا لبعض الحِكَم وانسجاما مع بعض الآيات القرآنية.

ص: 288


1- السيد عبد اللّه شبر حق اليقين في معرفة أصول الدين، ج2، ص305 إلى 313.
2- كتاب الشيعة والرجعة لمحمد رض الطبسي النجفي، ط2، 1975م، المطبعة الحيدرية النجف الاشرف.
3- مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي.
4- مفاتيح الجنان.

هذا وفي ختام هذا الفصل أدعو اللّه تعالى بما جاء في دعاء العهد الذي يقرأ في زيارة امامنا المهدي المنتظر (عليه السلام) والذي بظهوره تبدأ عملية الرجعة فأقول: اللّهم إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرّداً قناتي ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي.

هذا والحمد للّه ربّ العالمين

ص: 289

(2) الشيعة والتقيّة

اشارة

لغة: التقيّة مصدر (اتقى يتقي) بمعنى الحذر، أو (وقى يقي) بمعنى الصيانة والحفظ، فقد نقول اتقيت شر فلان، بمعنى حذرته ودفعته عني، وقد نقول وقيت نفسي حيث لم أخرج من داري ايام الجائحة والوباء أي صنتها وحفظتها من عدوى الوباء.

ذلك لغة، وأمّا ما نريده هنا من التقيّة هو دفع شرّ الآخر وصون النفس أو العرض من الاَذى.

وبما أن (التقيّة) مفردة ينفر بعضهم منها ويرمي بها الشيعة ناعتا إياهم بالنفاق متذرعا بتفسيره الناقم من أنهم يخفون معتقداتهم حين مواجهة الآخرين خوفا أو طمعا وبذلك يرميهم بالنفاق، وقد يلتبس بالفعل ذلك على بعض الناس فمن ثمة ولمعرفة الحقيقة نستعرض ونتأمل قليلاً حقيقة التقيّة ومفهومها الصحيح من خلال عدة محاور.

المحور الأول: ما هو مفهوم التقيّة في الدين؟
اشارة

بعبارة جلية نقول إن المراد من التقيّة دفع ظلم ظالم بإخفاء حقيقة عنه أو

ص: 290

إظهار ما يريد، صونا للنفس أو المال أو العرض أو غير ذلك ما لم يسبب ذلك ضررا بالآخرين، ويتضح هذا من خلال بعض الشواهد القرآنية والتاريخية على ذلك:

قال سبحانه وتعالى: {مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}((1)).

ذكر المفسّرون أنّها نزلت في جماعة أكرهوا على النيل من نبي الاسلام ودينه وهم (عمار وأبوه ياسر وأمّه سميّة وصهيب وبلال وخبّاب) حتى عُذّبوا وقُتل والدَي عمار بينما أبدى لهم عمار بلسانه ما أرادوه منه، ثمّ انبأ اللّه سبحانه ذلك رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال قوم: كفر عمّار، إلا أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: كلا، إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه..

وجاء عمّار باكيا إلى رسول اللّه، فقال النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما وراءك؟ فقال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»((2)).

نلاحظ الآية كيف استثنت عمارا من الكفر بل وصفته بمليّ الإيمان مع أنه قد اتقى شرهم بالنيل من النبيّ لينقذ نفسه من القتل، وهكذا طمأنه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال له إن عادوا لك فعد.

ص: 291


1- النحل: 106.
2- القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى (الا من اكره...).
من أحكام التقيّة

لابد من التنويه إلى أنّ حكم التقيّة يختلف باختلاف الظروف، فقد تكون واجبة، وقد تكون حراما، وقد تكون مباحة.

فتجب التقيّة حيثما تتعرّض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر. وأمّا إذا كانت التقيّة سببا في ترويج الباطل وضلال الناس وإسناد الظالم فقد تحرم، كما قد تكون مباحة يخيّر فيها بين البوح بالحقيقة وتحمّل تبعات ذلك وبين التقيّة دفعا للضرر المتوجه، ويحكى أن مسيلمة الكذاب - الذي ادعىّ النبوّة لنفسه مع تصديقه بنبوّة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول اللّه؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال له: أفتشهد أن محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم، فقال له: أفتشهد أني رسول اللّه؟ قال: إني أصمّ، قالها ثلاثا، كل ذلك تقية فضرب عنقه فبلغ ذلك (اي لما بلغ ذلك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضلها فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة اللّه، فلا تبعة عليه)((1))، مما يعني أن التقيّة هنا رخصة وإجازة يجوز الأخذ بها ولا تبعة عليه وغير مأثوم بها، كما يجوز عدم الأخذ بها والتصريح بالواقع ويمضي بذلك إلى ربه شهيدا.

المحور الثاني: ما هو الدليل على مشروعية التقيّة؟
اشارة

يستدل على مشروعية التقيّة من خلال الكتاب والسنة والعقل:

ص: 292


1- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص274.
1- التقيّة في القرآن.

فمن القرآن - فضلا عن الآية الآنفة الذكر - قال اللّه تعالى: {لَّا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ}((1)).

حيث تشير الآية المباركة إلى حالة اضطرار تؤدي الى التقيّة ومجاملة الكافرين (إلا أن تتقوا منهم تقاة) أي يجوز للمؤمن أن يظهر الولاء والصداقة للكافر لو انحصر دفع شره بذلك.

ونلاحظ ذلك في آية أخرى حكت سلوك أصحاب الكهف الذين تكتّموا على إيمانهم مع من يخافون شره حيث قال قائلهم {فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٖ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}((2))، فنلاحظ الدقة في {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} كيف تشير الى التكتم والتقيّة من خلال التعامل بلطف لئلا يقع نزاع وينكشف أمرهم.

وكذلك قوله سبحانه في مؤمن آل فرعون {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ...}((3))، نلاحظ الآية صريحة بأنه يكتم إيمانه، وآية أخرى تتحدث عن خروج النبيّ موسى (عليه السلام)

ص: 293


1- آل عمران: 28.
2- الكهف: 19.
3- غافر: 28.

من مصر وهو يترقب {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}((1)).

والحق أن الرجل لم يكتم إيمانه ولم يخرج موسى (عليه السلام) حذرا يترقب لولا أن ذلك مما يستدعيه الدين والحكمة وما هو الا التقيّة بذاتها.

2- التقيّة في السنة:

ومن الدليل ما ورد من نصوص تعد مصدرا للتشريع يمكن الإستناد إليها في تشريع قانون التقيّة مثل قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»((2)).

وواضح أن فقرتي (ما أُكرهوا عليه وما اُضطروا إليه) ترخّصان المؤمن للاستفادة من التقيّة لدرء ظلم الظالم.

كذلك قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - في قضية سمرة بن جندب والرجل الأنصاري - حيث كانت لسمرة نخلة في بستان لا يكون الطريق إليها إلا من داخل بيت الأنصاري فكان يدخل بيته دون استئذان فشكاه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعرض عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يبيعه النخلة أو يستبدلها بأخرى أو حتى يضمن له نخلة في الجنة أو أن يستأذن في الدخول فرفض جميع تلك المقترحات البديلة، فاذن النبي للانصاري أن يقلع النخلة ويرميها إليه مصرحا بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا

ص: 294


1- القصص: 21.
2- الخصال، للصدوق، ص417، ح9.

ضرر ولا ضرار». وقد نقلت القصة في كتب الفريقين((1)).

وقد استفاد الفقهاء من ذلك قاعدة تنشىءُ حكما ثانويا لرفع أي ضرر يمكن أن يصيب الإنسان من جهة التشريع، بمعنى ليس في الشرع قانون يوجب ضررا على المكلف.

وعلى هذا الحكم يمكن للمؤمن حينما يواجه إكراها أو ضررا بالغا أن يعمد إلى التقيّة لدرء ذلك الضرر، لأن الحكم الأول - وهو التصريح بما يعتقد مثلا - يفترض به ضرر عليه فينتقل إلى حكم ثانوي آخر وهو التقيّة، شبيه بذلك حينما ينتقل المريض من حكم الوضوء إلى حكم التيمم لدفع الضرر المحتمل.

هذا وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله اللّه له»((2)).

وذكر الفقهاء أن الضرورات تقدر بقدرها وهناك ضوابط وحدود، منها أن لا تسبب التقيّة إلى سفك دم وقتل مؤمن، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية»((3)).

فمثلا ليس لمن يريد دفع ضرر الحاكم الظالم أن يقرّ على مظلوم آخر بما يؤدي إلى قتله أو أن يمتثل لأوامر ظالم في قتله شخصا مظلوما.

ص: 295


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، ج4، ص78.
2- الكليني، أصول الكافي، ج2، ص220.
3- المصدر السابق، ص220.
3- التقيّة ودليل العقل:

يا ترى لو تتساءل وعقلك، حينما تواجه طائفة متزمّتة من الناس لا يرون لمن يخالفهم رأيا، يسفهّون معتقدك بل لا يبالون بسفك دمك وانتهاك حرمتك بمجرد معرفتهم بمذهبك، وهم زمرة غلاظ شداد وكونك بينهم وحيدا غريبا لا تقدر على مقارعتهم، فهل من العقل أن تصرّح لهم بما يغيظهم عليك وتعرّض نفسك لهمج لا يخافون اللّه فيك بل ربما يتقرب منهم الى اللّه في قتلك، والتمثيل بك، فهل هذا إلا التهوّر؟؟!!

نعم قد يكون الامر كلمة حق عند سلطان جائر وموقفا بطوليا يترتب عليه أثر أبلغ وأهم من التقيّة والكتمان، فقد يتحول الأمر إلى عنوان الجهاد في سبيل اللّه تعالى أو يكون للموقف صدى ينعكس على الدين والمذهب بالقوة والثبات، فثمة يكون للعقل رأي آخر يرجّح لصاحبه الشهادة والبوح بما فيه الحق، والتاريخ يزهر بنجوم في سماء البطولة من أمثال حجر بن عدي وصيفي بن فسيل وابن السكيت من أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) الذين قالوا كلمة الحق ولم يرهبهم رعيد الظالمين مع أنه قد رخص لهم مجاملة الظالمين ردءا لظلمهم وصونا لأنفسهم إلاّ أنهم رجّحوا الاستشهاد على يد اخسأ خلق اللّه.

وللمؤمن تشخيص الحالة والموقف الذي يفترض اتخاذه، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «التقيّة في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به»((1)).

ص: 296


1- الكليني، أصول الكافي، ج2، ص219.
التقية وثلاث ملاحظات:
اشارة

من الضروري التنويه على أمور ثلاثة توّضح بعض الأسباب التي بلورت موضوع التقيّة وتصحح المنظور الفكري لمن يلحظها من منظور سلبي كما توّضح له نظائر طبيعية في مسيرة العقلاء، فلنلاحظ ذلك في هذه النقاط:

1- التقيّة نضال وتكتيك جهادي.

قد يتوهم أن التقيّة جُبن وخنوع ولا ينبغي للمؤمن المجاهد أن يتخذها سلوكا ومنهجا لأن ذلك ينافي العزة والكرامة والشجاعة.

نقول ليس الأمر كذلك فيما إذا كان هناك هدف أسمى وغاية أهم، فمع فرض الحفاظ على الدين أو النفس أو المؤمنين والمجاهدين الآخرين فلا ضير في ذلك، فالإيمان والشرع والعقل كل ذلك يدعو لتقديم الأهم على المهم، بل قد يكون في التقيّة سلوك وتكتيك جهادي، ففي تاريخ النضال الديني والسياسي محطات لو أعلن فيها المدافعون عن الحقّ نضالهم علانية لأُبيدوا عن بكرة أبيهم ووئدت مبادئهم، كالمواقف التي مرّ بها الشيعة على عهد بني أميّة، ففي مثل ذلك يكون السبيل الأقوم والمعقول هو أن لا يبدّدوا قواهم، وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر وفي الخفاء.

التقيّة في مثل هذه الحالات أشبه بتغيير أسلوب النضال الذي يجنّبهم الخسائر الفادحة ويحقّق لهم النصر في الكفاح، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «التقيّة ترس المؤمن، ولا ايمان لمن لا تقيّة له»((1))، أي هي درع وحصان له.

ص: 297


1- قرب الاسناد، ج1، ص35.

هذا ونجد التقيّة نهجا جليا في سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلقد كانت دعوته لسنوات سرية غير معلنة، كما أن تاريخ أئمتنا مليء بمواقف وقفوها وأقوال صدرت عنهم تقية لدفع بطش الظالمين ليس خوفا من قتل، فهم أهل بيت الشهادة، وإنما لأجل الإبقاء على الحق والثلة الباقية من اتباعهم (عليهم السلام) .

ورد في تاريخ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أبي هاشم الجعفري، عن داود ابن الأسود خادم الامام قال: دعاني سيدي فدفع إليّ خشبة كأنها رِجل باب مدورة طويلة ملء الكف، فقال: صر بهذه الخشبة إلى العَمْرى - وهو وكيل الإمام - فمضيت، فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سقاء معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقاء ضح عن البغل - يريد إفساح الطريق - فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت بها البغل فانشقت، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب، فبادرت سريعا فرددت الخشبة إلى كمي، فجعل السقاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي، فلما دنوت من الدار راجعا استقبلني عيسى الخادم عند الباب فقال: يقول لك مولاي أعزه اللّه: لم ضربت البغل وكسرت رِجل الباب؟ فقلت له - ويظهر أن جوابه لشخص الامام (عليه السلام) : يا سيدي لم أعلم بما في رجل الباب، فقال: ولم احتجت أن تعمل عملا وتحتاج أن تعتذر منه، إياك بعدها أن تعود إلى مثلها وإذا سمعت لنا شاتما فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا أو تعرّفه من أنت فإنا ببلد سوء ومصر سوء وامض في طريقك، فإن أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك((1)).

ص: 298


1- مناقب آل أبي طالب، ج4، ص427.

يتضح من ذلك أن التقيّة ليست انزواءً أو خنوعا وجبنا بل ولا يلغى بها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، بل يتغير عمل الفرد والجماعة التي ترى الفساد السياسي والفكري ولا تستطيع الإعلان عن مواجهته ويتحول العمل عندها إلى عمل سري، وإعداد على أساس منهج القرآن والسنة، بعيدا عن عيون المتسلطين من أنظمة الجور.

2- ملاحظة ظروف التقيّة:

إن من يرم المؤمنين بالنفاق لمعتقدهم بالتقية حرّي به أن يتأمل الظرف الذي عايشوا به الآخرين الذين عشعشت الأحقاد في قلوبهم بسبب الفكر الأُحادي الجاف العنيف والخالي من المرونة والمتحامل على الشيعة خلال التاريخ الجائر لاسيما فترة الأمويين والعباسيين والعثمانيين، ولينظر ما عاناه ائمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم من اضطهاد وقمع وظلم حتى صاروا يوصون أتباعهم بالتقية حفاظا على أنفسهم.

هذا علي بن إبراهيم أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وهو يصف جانبا من تلك المعاناة بقوله: «اجتمعنا بالعسكر - موضع سكن الإمام - وترصدنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه - أي كتابه لنا - : ألا لا يسلمّنَ عليّ أحد، ولا يشر إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم»((1)).

وعن محمد بن عبد العزيز البلخي قال: «أصبحت يوماً فجلست في

ص: 299


1- بحار الأنوار، المجلسي، ج48، ص165.

شارع الغنم فإذا بأبي محمّد - أي الامام الحسن العسكري - أقبل من منزله يريد دار العامّة فقلت في نفسي: ترى إن صحتُ: أيّها الناس هذا حجة اللّه عليكم فاعرفوه، يقتلوني؟ فلمّا دنا منّي أومأ بإصبعه السبّابة على فيه: أن اسكت، ورأيته تلك الليلة يقول: إنما هو الكتمان أو القتل فاتّق اللّه على نفسك»((1)).

هذا في دولة بني العباس.

وصورة أخرى من هذا القمع في دولة بني أمية وبني مروان، حيث ورد في كتاب عبد الملك بن مروان والذي ولىّ فيه خالد بن عبد اللّه القسري يحذر من التكتم على المجاهد سعيد بن جبير: أما بعد، فإني وليت عليكم خالد بن عبد اللّه القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلا، فإنما هو القتل لا غير، وقد بُرئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير، والسلام، ثم التفت إليهم خالد بنفسه وقال: «والذي نحلف به، ونحج إليه، لا أجده في دار أحد إلا قتلته، وهدمت داره ودار كل من جاوره، واستبحت حرمته، وقد أجلت لكم فيه ثلاثة أيام...»((2)).

وها نحن الآن ومازلنا في عصر العولمة والحرية والرأي الحر نرى ونسمع من التحشيد والتجييش والضخ لقمع مبدأ الحوار والفكر الحر وشاهدنا قتل الأبرياء والتمثيل بهم لأنهم شيعة لآل البيت (عليهم السلام) ومحبّوهم.

فحريّ بالحُر من ذوي المروءة والعقل أن يوجه نقده وتسخيفه لأولئك الذين يرفضون حرية المعتقد ولا يحترمون الرأي الآخر وجلّ همهم التفرقة

ص: 300


1- الخرائج والجرائح، ج1، ص447، ح32؛ وعنه في كشف الغمة، ج3، ص212-213.
2- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، ج1، ص185.

والفتنة بين طوائف المسلمين فلتكن اللائمة على أولئك علّهم أن يرجعوا عن غيّهم وينتهوا عن باطلهم.

3- التقيّة مسار الجميع.

إن اتقاء شر الظالمين بمجاملتهم أحيانا أو بإخفاء الرأي والسكوت وما شابه هو أمر طبيعي يمارسه أغلب الناس لما يجدون من حكمة وضرورة تستدعي ذلك حيث يحتملون ضررا بالإفصاح عن آرائهم ومعتقداتهم وليست القضية خاصة عند الشيعة أو المسلمين بل ذلك من دواعي العقل والحكمة وكل إنسان منصف لا يكابر بذلك وربما لو راجع نفسه لأقرّ بصدور ذلك منه في حدث ما، لا سيما مع رجال المخابرات في المطارات، وأذكر هنا طريفة نقلها أحد رجال الدين وقد كان في طائرة حلقت به من دمشق الى لندن وكان بجواره رجل دين آخر من طائفة مسلمة أخرى وكان كلاهما مدعوان إلى مؤتمر إسلامي في لندن، فقال الآخر لصاحبنا إن مشكلتكم الشيعة أنكم تقولون بالتقية و.. الخ ثم لما نزلنا في مطار لندن وعند ختم الجواز سأله الضابط عن غايته من المجيء إلى لندن فأجاب بجواب ما ولَم يصرّح له أنه مدعو لمؤتمر إسلامي أقامته احدى الدول الإسلامية في لندن، ثم لما تجاوز تلك المرحلة قلت له شيخنا هذه هي التقيّة، لماذا اخفيت على الضابط سبب مجيئك؟ لأنك احتملت تبعات اظهار الحقيقة، ولو سارت الأمور دون هذه المحاذير لما اضطررت إلى ذلك وما حُدت عن بيان الواقع.

وختاما اقول: اتصور بعد ملاحظة ادلة هذا المبحث من القران الكريم

ص: 301

والسنة الشريفة والعقل وبعد التأمل في الدواعي الى ذلك والظرف الذي عاشه ويعيشه ابناء الشيعة لا يبقى الا الاذعان بمبدأ التقية وكونه ضرورة من ضرورات السلوك الديني والعقلي والعرفي وليس لنا الا ان ندعوا ونسأل اللّه تعالى التعجيل في ظهور إمام زماننا (عليه السلام) ليبلغ الناس من الحق والمعرفة حتى لا تبقى ضرورة لواقع التقيّة.

اللّهم صل على محمد وآل محمد وعجّل لوليك المهدي المنتظر الفرج والعافية والنصر واكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 302

(3) الشيعة ومبدأ البداء

اشارة

البداء مبدأ ومعتقد لدى الشيعة أُسيء فهمه أو اُريد له أن يكون تشنيعا عليهم مع انه من صميم العقيدة ومن أُسس العدل الالهي وهو باب من أوسع أبواب الرحمة الإلهية وأمل كبير لعباد اللّه تعالى لاسيما من يريد الإنابة إلى رضوان اللّه عزّ وجل ومغفرته، وسترى ذلك موجزا في هذا الفصل ان شاء اللّه.

فما هو البداء وما هو الواقع المراد منه الذي تراه الشيعة وما هو التشنيع الذي رُموا به؟

ما هو البداء

البداء لغة هو الظهور بعد الخفاء، جاء في المعجم الوسيط: بَدَا بُدُوًّا، وبَداءً: ظهر، بَدَا له في الأمر كذا: جَدَّ له فيه رأْي. يقال: فعَلَ كذا ثم بَدَا له. وفي المثَل: ما عدا ممَّا بَدَا.

والمراد من هذا المعنى واضح، فالإنسان مثلا قد يريد فعل شيء إلا أنه يبدو له أن ذلك غير صحيح وغير لائق فيقدم على فعال غيره بما يراه مناسبا، فقد بدا له خطأ ما رامه وتوضح له أمر آخر فاستجد له رأي جديد، وبالطبع

ص: 303

ليس في هذا بأس ما وإنما البأس اذا نسب هذا البداء بهذا المعنى إلى الخالق سبحانه فهو بالتأكيد أمر لا يصح لأن من بديهيات الاعتقاد أن اللّه تعالى عالم بما كان وما يكون وكل قضاءه وقدره وحكمه عزّ وجل قائم على الحكمة التي يعلمها تعالى فلا يتصور ظهور شيء للّه عزّ وجل كان مخفيا عليه ليحصل البداء بهذا المعنى.

وللأسف زُعم أن الشيعة تقول بذلك، والعجب أن مثل الرازي صاحب التفسير الكبير ان ينسب ذلك الى الشيعة في تفسيره عند البحث عن آية المحو والإثبات، ويقول: قالت الرافضة: البداء جائز على اللّه تعالى، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}((1)).

ثم قال: إن هذا باطل، لأن علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه باطلا.

وصحيح ما قال فان البداء بما تصوره من معنى هو أمر باطل كما قال، ويبدو أن الرازي وغيره ممن نسب ذلك للشيعة لم يدركوا المراد من بعض أحاديث البداء أو لم يريدوا فهم ذلك، وسنرى ان الواقع المراد من البداء هو خلاف ما توهموا.

ولتوضيح الأمر نقول بداية هناك أسئلة ينبغي لمن يرم الشيعة بهذا المعنى أن يقف عندها ويتأملها ثم يلاحظ الإجابة الصحيحة على ذلك وعندئذ يتضح له المراد مما تقوله الشيعة في البداء.

ص: 304


1- تفسير الرازي، ج4، ص216، تفسير سورة الرعد، ص431.

1- يذكر القرآن الكريم ان النبي ابراهيم (عليه السلام) اخذ ولده اسماعيل وطرحه ارضا وتلّه للجبين حتى يذبحه امتثالا لأمر اللّه تعالى ولكن الأمر الإلهي تبدل من ذبح اسماعيل (عليه السلام) إلى افتدائه بذبح عظيم فهل بدا للّه تعالى - نعوذ باللّه - تغيير الرأي الذي رءاه سابقا؟!

2- كما يتطرق القرآن الكريم إلى أن النبي يونس (عليه السلام) قد أخبر قومه أن العذاب آتيهم ثم تركهم وركب السفينة الا أنهم بعد ذلك تداركوا الأمر وتابوا إلى اللّه تعالى لما رأوا آيات ذلك فكشف اللّه عز وجل عنهم العذاب، يقول تعالى {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَٰنُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٖ}((1)) فهل أن النبي يونس (عليه السلام) قد أخبرهم بالعذاب من نفسه أم من عند اللّه تعالى - بالطبع لا على سبيل الحتم - فلماذا تغيرت النتيجة وتبدل الواقع فهل - نعوذ باللّه - أن اللّه تعالى بدا له أن يغيّر رأيه في الأمر؟!

3- لقد أخبر النبي موسى (عليه السلام) قومه أنه ذاهب إلى الميقات وأنه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة كما أخبره اللّه تعالى الا انه تم إتمام المدة بعشر ليال أخرى، وحدث ما حدث خلال هذه العشرة الأخيرة حيث اخرج السامري لهم عجلا فعبدوه، فلماذا هذا التبديل في المدة يا ترى؟ هل لأنه - نعوذ باللّه - بدا للّه سبحانه أن يغير رأيه في ذلك؟!

نعوذ باللّه من اي نسبة جهل أو ظهور شيء للّه سبحانه مما كان قد خفي

ص: 305


1- يونس: 98.

عليه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

وإنما توضيح هذه الأمور وامثالها هو أن الخفاء والظهور والبداء الذي يحصل هو للأنبياء وللخلق وليس للّه تعالى واما ما يفعله اللّه تعالى هو الإبداء والاظهار لما خفي على الخلق، فإنه تعالى بيّن بعد أن سلّم إبراهيم واسماعيل (عليهما السلام) امرهما إلى قضاء اللّه أنه عزّ وجل أراد ابتلاءهما بذلك وقد وقع ما أراد، قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ 103 وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰإِبْرَٰهِيمُ 104 قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ 105 إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلَٰؤُاْ ٱلْمُبِينُ 106 وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٖ}((1)).

كما أراد اللّه عزّ وجل إظهار سقوط بني إسرائيل بذلك الامتحان لما غاب عنهم النبي موسى (عليه السلام) عشر ليال أخرى، وهكذا أظهر سبحانه ليونس وقومه أن العذاب كان مشروطا بتماديهم في ضلالهم وعدم توبتهم فلما تضرعوا إلى اللّه تعالى كشف عنهم العذاب ولم يقع ما كان متوقعا.

وهذا هو المعنى المراد من قوله عزّ وجل: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}((2))، حيث ذكروا في محلّه أن هناك كتابين ولوحين اللوح المحفوظ والذي كتب فيه النهاية المحتمة والمثبّتة على فرض حصول الواقع النهائي والذي يعلمه اللّه تعالى ولا يعلمه غيره وهناك الكتاب الآخر وهو لوح المحو والاثبات مما يمكن محو ما فيه وإثبات تقدير آخر اي إن فيه تقديرا

ص: 306


1- الصافات: 103-107.
2- الرعد: 39.

معلقا حصوله على شروط ان تحققت والا فيُغيّر ويُمحى((1))، وقد يُخبر النبي أو الإمام والوليّ بما في هذا الكتاب من تقادير مما قد تتحقق وقد لا تتحقق لعدم حصول الشرط، فمثلا قد يكون مما اثبت في هذا الكتاب أن زيدا من الناس يموت في زلزال يقع في فلان تاريخ، ولكن الذي اثبت وقُدّر في اللوح المحفوظ أنه لا يموت بذلك الزلزال لأنه يتصدق بصدقة قبل ذلك، وقد اقتضت حكمة اللّه تعالى أن يخفى شرط تصدق زيد هذا على ذلك النبي الذي أخبر بما في كتاب المحو والإثبات على نحو قد يقع وقد لا يقع لا على نحو الحتم، وأما اذا أخبر اللّه تعالى نبيّه على سبيل الحتم فلا يتغير لأن اللّه تعالى لا يكذب نفسه كما في الأحاديث، ومن ذلك ما روي عن الامام الباقر (عليه السلام) يقول: من الامور امور محتومة كائنة لا محالة ومن الامور امور موقوفة عند اللّه يقدم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يُطلع على ذلك احدا يعني الموقوفة فاما ماجاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته((2)).

والمهم، إن الذي يحدث هو إبداء اللّه تعالى لأمر مخفي وليس بداءً له سبحانه، وأنه عزّ وجل يقدّر تقديرا آخر مع علمه السابق بما يقدر لعلمه بما سيفعله عبده من دعاء أو صدقة مما تستوجب الحكمة تغيير مقدرات العبد فهو سبحانه وتعالى يمحو ما يشاء ويثبت ويده سبحانه مبسوطة وليست بمغلولة يفعل ما يشاء دون تغير في علمه سبحانه وإنما حكمته عزّ وجل

ص: 307


1- لاحظ كتاب التوحيد عند مذهب اهل البيت (عليهم السلام) لعلاء الحسون، ج1، ص279.
2- تفسير العياشي، ج2، ص217، ح65.

جعلت المحو والاثبات بعد حصول شرائط ذلك لتغيّر حال ونفس العبد كما قال تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}((1))، وفي الواقع إن البداء في التكوين مثل النسخ الذي يكون في الأحكام وهو مما حصل وتوافق الجميع على حصوله في شريعة الإسلام، فالبداء نسخ أيضا الا انه في التكوين، ومثال ذلك كما لو يكون التقدير أن تكون فلانة عقيما إلا أن ذلك مشروط بعدم تضرعها إلى اللّه تعالى فإذا تضرعت إلى اللّه يُمحى ذلك ويكتب تقدير آخر وهو أن ترزق اطفالا بعد ذلك.

وبذلك تتم فائدة الدعاء والتصدق والتوبة وبرّ الوالدين وغير ذلك مما يذكر من أعمال تعد اسبابا في دفع البلاء واطالة العمر وانزال الرزق وما شابه، وعكس ذلك صحيح ايضا مما يتسبب بنزول العذاب وتعجيل الهلاك وما شابه، وهذا المعنى لا يستهجنه أو يستنكره عاقل بل هو قائم على اساس العدل الإلهي الذي فسح للإنسان اختيار مصيره من سعادة وشقاء من خلال القدرة والارادة التي منحها اللّه تعالى عباده، ولولا ذلك لما دعا اللّه تعالى عباده العاصين للتوبة والانابة بل لما نفعهم ذلك ابدا، ولولا ذلك لما قال اللّه تعالى {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}((2))، حيث بين أن الآجال على نحوين نحو منها مسمىّ عنده ونحو منها مشترطة بفعل العبد كما قال تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَٰبٍ}((3))، وكيف

ص: 308


1- الرعد: 11.
2- الأنعام: 2.
3- فاطر: 11.

ينقص من عمره لولا أن اللّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وأنّ لأفعال العبد دورا في ذلك، وبهذا يكون المعنى المراد من البداء هنا هو التغيير للمصير والتقدير بسبب ما جعله اللّه تعالى من أسباب لذلك كمثل الدعاء والتوبة والصدقة والامتحان وغير ذلك، وليس المعنى أن يبدو للّه سبحانه شيء كان قد خفي عليه فيغيّر لذلك قضاءه وقدره، نعوذ باللّه من نسبة الجهل إليه وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

البداء في القرآن الكريم

ثم إننا نقرأ في القرآن الكريم آيات عديدة تدل على التغيير للتقدير القائم على الخلق وهو المراد من البداء

قال تعالى: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}((1)).

وقال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}((2)).

وقال سبحانه: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا 10 يُرْسِلِ ٱلسَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا 11 وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا 12}((3)).

ومن ذلك: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ

ص: 309


1- الرعد: 39.
2- الرعد: 11.
3- نوح: 10-12.

يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ 65 ٱلَْٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ}((1)).

حيث بيّن اللّه تعالى في الآية الأولى أن المؤمنين على طاقة قوية من القتال بحيث أن الواحد منهم يواجه عشرة من الأعداء ولكن وبسبب الضعف الذي حلّ بهم أصبح الواحد منهم يجابه الاثنين منهم فقط كما جاء ذلك في الآية الثانية، والشاهد في الآية أن التقدير الثاني اختلف عن الأول بسبب الضعف الذي علمه اللّه فيهم، ولاشك أن علمه سبحانه بذلك كان ازليا وليس علما مستحدثا وإنما أظهر اللّه تعالى ذلك لهم بعد أن امرهم بالقتال حتى وان كان العدو يعد عشرة أضعاف عدد المؤمنين.

البداء في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)

وهذا المعنى أيضا في أحاديث النبي وأهل بيته (عليهم السلام) .

فعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الصدقة باليد تدفع ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعًا من أنواع البلاء»((2)).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أكثروا الاستغفار، تجلبوا الرزق»((3)).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الدعاء يردّ القضاء وإن المؤمن ليذنب

ص: 310


1- الأنفال: 65-66.
2- الكافي، ج4، ص3.
3- بحار الأنوار، ج90، ص278.

فيحرم بذنبه الرزق»((1)).

وعنه ايضا (عليه السلام) في تفسير قوله: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}((2)).

قال: «فكل أمر يريده اللّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن اللّه لا يبدو له من جهل»((3)).

وقال (عليه السلام) : «من زعم أن اللّه عزّ وجل يبدو له من شيء لم يعلمه أمس، فابرأوا منه»((4)).

وايضا عنه (عليه السلام) : «إن للّه علمين: علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، ونحن نعلمه»((5)).

وروي عن ائمة اهل البيت الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) ، في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}((6)) أي: يقدر اللّه كل أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد

ص: 311


1- المصدر السابق، ص288.
2- الرعد: 39.
3- بحار الأنوار، ج4، ص111، باب البداء، ح30.
4- بحار الأنوار، ج4، ص111، باب البداء، ح30.
5- بصائر الدرجات، ص129، ح2.
6- الدخان: 4.

فيها ما يشاء وينقص ما يشاء((1)).

وهناك من الأحاديث عن ائمتنا (عليهم السلام) من أنهم لولا آية المحو والاثبات لأمكنهم التحدث عن مجريات الأمور إلى يوم القيامة كما عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «قال أبو عبد اللّه وأبو جعفر، وعلي بن الحسين، والحسين بن علي، والحسن بن علي، وعلي بن أبي طالب (عليهم السلام) : واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}((2))»((3)).

وفي الحديث إشارة إلى ان المعصوم (عليه السلام) قد يطلعه اللّه تعالى على مقدرات الأمور إلا أنها قد تمحى أو يثبت غيرها طبقا لمشيئة اللّه تعالى، نعم انه تعالى اذا اخبر نبيّه على سبيل الحتم فلابد من حدوث ذلك لأنه عزّ وجل لا يكذب نفسه كما مرّ آنفا ولا غرابة في ذلك بعد أن توضح معنى البداء.

واخيرا نقول إن هناك كثيرا من المفردات التي لا يستسيغ العقل أو الذوق نسبتها إلى اللّه تعالى وذلك لحملها على ظاهرها ولكنها لو حملت على معناها المراد منها لما جوبهت بالترديد والتأمل، خذ مثلا مفردة المخادعة أو المكر أو الإضلال كيف ينسبها القرآن الكريم إلى اللّه تعالى في آيات عديدة، قال تعالى:

ص: 312


1- الإحتجاج، ص258.
2- الرعد: 39.
3- قرب الإسناد، ص132.

{إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ}((1)).

{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ}((2)).

{قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}((3)).

ولاشك أنه لم يرد لهذه المفردات معانيها الظاهرية في نسبتها إلى اللّه تعالى، فمكره عزّوجل هنا هو افشال مكر المنافقين وخططهم، وخداعه لهم هو سقوطهم فيما ظنوا من مخادعة، وهكذا غير ذلك من أمثال هذه المفردات، وفي رواية سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) عن قوله عزّ وجل: {سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ}((4)) وقوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ}((5))، وعن قوله عزّ وجل: {يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ}((6)) فقال: «إنّ اللّه عزّ وجل لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنّه عزّ وجل يجازيهم جزاء السخريّة وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيرا»((7)).

هذا وأما بالنسبة لمفردة البداء بذاتها فقد وردت حتى في كتب غير الشيعة، ومن ذلك ما رواه البخاري أن أبا هريرة سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول:

ص: 313


1- النساء: 142.
2- آل عمران: 54.
3- الرعد: 27.
4- التوبة: 79.
5- آل عمران: 54.
6- النساء: 142.
7- التوحيد، للصدوق، ج1، ص163.

«إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا للّه عزّ وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص... الخ»((1)).

وعن ابن عباس: «لا ينفع الحذر من القدر، ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر»((2)).

وخلاصة القول إن ما يذهب إليه الشيعة من البداء للّه معناه هو ما حكاه اللّه تعالى بقوله {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}((3)) دون أن يكون ذلك لجهل سابق عنده سبحانه أو تغيير في علمه بل ان ما يحدث من أمر وتغيير فهو عزّ وجل على علم سابق بكل ذلك فهو العالم القادر.

وأختم هذا الفصل بالدعاء الذي يقرأ في ليلة القدر وأقول:

اللّهُمَّ امْدُد لي في عمري، وأوسِعْ لي في رزْقي، وأصِحَّ لي جسْمي، وبلِّغني أمَلي، وإنْ كُنْتُ منَ الأشقياء، فامحني من الأشقياء، واكتُبني من السعداء، فإنَّكَ قلتَ في كتابِكَ المنزَل على نبيِّكَ المرسَلِ صلَواتُكَ عليه وآله: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 314


1- صحيح البخاري، ج4، ص208، ح3277؛ ج4، ص146، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
2- فتح القدير، محمد الشوكاني، ج3، ص89.
3- الرعد: 39.

الفصل الثالث: شبهات ضبابية

اشارة

1- القسم بغير اللّه تعالى

2- النذر لغير اللّه تعالى

3- زيارة مراقد الأئمة (عليهم السلام)

والتوسل بهم

4- زواج المتعة

ص: 315

ص: 316

(1) القسم بغير اللّه عزّ وجل

اشارة

مما يُثار من كلام عن الشيعة أنهم يقسمون بغير اللّه تعالى وأن ذلك مما لا يجوز بل يعدّ من الشرك باللّه عز وجل!؟

لنقف عند هذا الادّعاء ونرى حقيقة الأمر وما فيه من شبهات.

انواع الأقسام والأيمان
اشارة

في البداية ينبغي التوضيح أن القَسَم تارة يبحث من حيث أثره الشرعي وأخرى من حيث جوازه وعدم جوازه

1- القَسَم الشرعي ذو الأثر

هناك قَسَم شرعي يكون في باب القضاء وفك الخصومات حينما يحلف أحد الخصمين أو يحلف أحد الشهود على صدق مدّعاه فلابد أن تكون هذه الأيمان باللّه تعالى دون غيره، كذلك قسم شرعي آخر وهو ما يلزم الوفاء به وهو الشبيه بالنذر من حيث أنه لا ينعقد شرعا إلا اذا كان القسم باللّه تعالى لا بغيره وأن يكون المقسم عليه راجحا مما فيه رضا اللّه وطاعته، ومعنى أنه ينعقد يعني يجب الوفاء بما أقسم عليه والا لزمته كفارة القسم فلو قال مثلا

ص: 317

واللّه لأتصدقن على الفقير بدينار يلزمه ذلك ان كان متمكنا منه، واما لو اقسم بغير اللّه أيا كان ذلك فلا أثر له، فمثلا لو اقسم بروح ابيه وأمّه أو بالإمام (عليه السلام) فلا ينعقد القسم أي لا يجب العمل بما اقسم عليه ولا تجب عليه الكفارة.

و كما قال الشيخ المفيد: «ولا يمين عند آل محمد (عليهم السلام) إلا باللّه عزّ وجل وبأسمائه الحسنى، ومن حلف بغير اسم من أسماء اللّه تعالى فقد خالف السنة، ويمينه باطلة لا توجب حنثاً ولا كفارة، ولا يمين باللّه تعالى في معصية اللّه، فمن حلف باللّه أن يعصيه فقد أثم وكفارة يمينه ترك الفعل لما حلف عليه والاستغفار من يمينه في الباطل»((1)).

2- القسم غير الشرعي
اشارة

هناك من القَسم غير الشرعي واَعني به ما لا اثر له شرعا كالذي هو (لغو) بحسب تعبير القرآن الكريم كالحلف باللّه تعالى لكن لا على نحو الجدية في الكلام بل على نحو اللقلقة والجريان على اللسان كالحلف على الامتناع من أكل غذاء مجاملة وما شابه كما يقول احدهم: لا واللّه، وبلى واللّه، فهذا لا حرج فيه لأنه من باب اللغو، كما قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ}((2)).

واللغو: هو الكلام الخالي القصد والهدف، والذي لا يعتد به؛ لأنه يصدر

ص: 318


1- كتاب المقنعة، ص54، باب الأيمان والأقسام.
2- المائدة: 89.

دون عقد القلب عليه، وكما عن الصادق (عليه السلام) : «اللغو قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه ولا يعقد على شيء»((1)).

وقد ورد في الحديث عن ابي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) «في قول اللّه عزّ وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ} قال: هو لا واللّه وبلى واللّه»((2)

فهو حلف باللّه تعالى ولكنه غير مؤاخذ عليه لأنه لم يعقد عليه قلبه.

وقسم آخر غير شرعي ايضا وهو ما لا يكون باسم اللّه تعالى ولا بواحد من اسماءه الحسنى، واَعني بعدم الشرعية أنه لا يترتب عليه أثر شرعي فلو خالف قسمه ولم يف بما أقسم عليه لا تجب عليه الكفارة.

إلى هنا لا إشكالية ولا خلاف بين القوم ولكن ماذا لو اقسم بغير اللّه تعالى فهل في نفس هذا الأمر مشكلة فقهية أم عقدية، نعم لاشك أنه يمارس حراما فيما لو اقسم كاذبا أو حلف على معصية يريد تأكيدها في قسمه ذلك، ولكن الكلام ليس من هذه الجهة بل ان البحث المثار هو نفس هذا العمل (القسم بغير اللّه) حيث عدّه بعضهم مما لا يجوز بل قد ذهب بعضهم بعيدا فرمى صاحبه بالشرك بسبب ذلك.

فنقول في واقع الأمر أن ذلك عند الشيعة أمر مباح لا حرمة فيه فضلا عن كون مؤداه الشرك باللّه وما شابه، بمعنى ليس هناك ضير لا من الناحية الفقهية ولا من حيث الاعتقاد.

ص: 319


1- الكافي، ج7، ص443، باب اللغو، حديث 1.
2- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص361.
1- اما من الجهة الفقهية:
اشارة

فلقد ذكرنا ذلك مرارا أن فقهاء الشيعة إنما ينتهون إلى الحكم الشرعي بعد بذلهم الجهد الجهيد في مراجعة النصوص من الكتاب والسنة وإجراء القواعد والمباني الفقهية المسلّمة عليها حتى يكونوا معذورين امام الشارع المقدس فيما ينتهي بهم الاستنتاج والاستنباط، وأما سائر الناس فيكفي اتباعهم للفقهاء باعتبارهم أهل الاختصاص وقد أُمروا بالرجوع إلى أهل الذكر والعلم في ذلك كما قال اللّه تعالى {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}((1))، فلا إشكالية حينئذ ولا حرج بالحلف بغير اسم اللّه تعالى طالما صرح الفقهاء بجواز ذلك.

نعم لا ريب أنه أمر غير محبذ إلا لضرورة ما، وذلك للنهي الذي ورد في بعض النصوص والذي حُمل على الكراهة فيما إذا لم يشب الأمر حرمة من جهة أخرى وليست هناك ضرورة ترفع الكراهة.

روي عن الإمام الصادق عن آبائه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث المناهي أنه نهى أن يحلف الرجل بغير اللّه، وقال: «من حلف بغير اللّه فليس من اللّه في شيء. ونهى أن يقول الرجل للرجل: «لا وحياتك وحياة فلان»((2)).

فقد حُمل هذا الحديث وأمثاله على الكراهة لوجود النصوص الدالة على جواز ذلك.

ص: 320


1- النحل: 43.
2- أمالي، الصدوق، ص347
الدليل على جواز القسم بغير اللّه

ومن الدليل على ذلك باختصار:

أولا: القران الكريم: ففي كتاب اللّه تعالى يقسم ربنا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}((1))، وهو قسم بعمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما اقسم تعالى بمخلوقاته حيث قال عزّ وجل: {وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ 1 وَطُورِ سِينِينَ 2 وَهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ}((2))، وكذلك قوله تعالى: {وَٱلْفَجْرِ 1 وَلَيَالٍ عَشْرٖ 2 وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ 3 وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}((3))، كذلك قوله عزّ وجل: {وَٱلطُّورِ 1 وَكِتَٰبٖ مَّسْطُورٖ 2 فِي رَقّٖ مَّنشُورٖ 3 وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ 4 وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ 5 وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ}((4))، وغير ذلك كثير فكل هذه الآيات المباركة تصرح بالقسم بغير اللّه تعالى.

وربما قال بعضهم ان ذلك جائز للّه تعالى ولا يجوز على غيره، ولكنه كلام خال من الدليل وعار عن الصحة لاسيما ونحن نرى أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك وكذلك أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كما سنرى.

ثانيا: السنة المطهرة: حيث ورد ذلك في احاديث النبي واهل بيته (عليهم السلام) فمثلا من السنة النبوية ومن كتب القوم انفسهم يذكر مسلم في صحيحه:

ص: 321


1- الحجر: 72.
2- التين: 1-3.
3- الفجر: 1-4.
4- الطور: 1-6.

«عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا... الخ»((1)).

ونلاحظ ذلك ايضا في أحاديث الائمة (عليهم السلام) فقد يقسمون بغير اللّه تعالى تأكيدا لما يريدون كما في كلام الإمام الرضا (عليه السلام) حيث ينقل الراوي عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائما على رأس الرضا (عليه السلام) بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: «يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب»((2))، وقسم الامام هذا واشباهه يدل على ان القسم بغير اللّه بعض الاحيان يعدّ محبّذا لضرورة ما.

2- وأما من الناحية العقدية

توّهمَ بعضهم ان ذلك شرك وتعظيم لغير اللّه تعالى، إذ أن الإنسان إذا حلف بشيء فمعنى ذلك تعظيمه لذلك الشيء إلى درجة أنه يقسم به كما يعظم خالقه حينما يقسم به.

ص: 322


1- صحيح مسلم، ج2، ص716، ح93 و1032.
2- الكافي، ج1، ص187.

فنقول لابد من الانتباه والتأمل إلى أن أصل التعظيم أمر مشترك بين الخالق والمخلوق مثله كمثل كثير من الأمور كالمحبة والطاعة والشكر وغير ذلك فكما يصح شكر اللّه تعالى وطاعته يصح شكر الوالدين وطاعتهما وكذلك تعظيمهما ولكن الشيء الذي يؤدي للشرك هو تعظيم المخلوق إلى مستوى العبودية له، ومما لا ريب فيه انه ليس احد من الناس يريد من القسم بابيه أو أمه أو أحد من الخلق إظهار عظمته إلى حيث التعبد له حتى يكون قد أشرك باللّه نعوذ باللّه، ولابد للآخر أن يحمل المؤمنين على محمل حسن دائما ولا يرميهم بالشرك والكفر دون الوقوف على نواياهم القلبية والتي لا ينبغي اساسا تفتيشها فضلا عن رميها بما لا يعلم.

ماذا عن الروايات الناهية عن ذلك
في الختام

قد يقول الآخر ان هناك الكثير ايضا من الروايات التي نهت وبشدة عن القسم بغير اللّه وفي بعضها تلويح بل تصريح بالشرك فكيف الغض عنها؟

نقول ذكروا في الجواب عدة أمور منها:

1- قد لا يكون للرواية سند تام وصحيح فهي ساقطة من الأساس.

2- قد يكون الغرض منها هو القسم الشرعي الذي ذكرناه آنفا وهو مما لابد فيه من ذكر اسم اللّه تعالى ولا يصح قسم بغير ذلك.

3- بعد فرض صحتها فهناك من الروايات والآيات المعارضة لها، وللفقهاء دورهم في تمييز الروايات وإعطاء كل منها موردها الصحيح، وبذلك يتم الجمع بالمراد منها، ولا يمكن أخذها وطرح الروايات الأخرى

ص: 323

المقابلة لها ولاسيما كونها هي الموافقة للقرآن الكريم.

4- كما قد يكون المراد من النهي هو عدم تأثيرها اي كونها غير اَيمان شرعية كما نوهنا عليه في القسم الثاني من الأقسام فلا تثبت بها الكفارة ولا تنفك بها الخصومة في باب القضاء.

5- يمكن ان يراد من الشرك الوارد في رواية ما من كان يذهب في تعظيم من يحلف به إلى مستوى تعظيم الرب فيجعله بمثابة اللّه تعالى، وقلنا عادة لا يقسم احد من المؤمنين بغير اللّه مع هذه النية.

6- واخيراً لا يمكن الالتزام بظهور رواية في الشرك والحرمة بسبب السيرة المتشرعة المستمرة من العلماء والمؤمنين المتدينين من الناس من القَسَم بغير اللّه تعالى فلو كان القسم بغير اللّه شركا ومحرما لحذر منه جميع الفقهاء ولعُدّ من شديد المنكرات لاسيما وأن كثيرا من الناس يمارسون ذلك في أقوالهم وأيْمانهم العادية.

هذا ونسأل اللّه تعالى التوفيق للمّ الشمل ورأب الصدع وحسن النوايا بين المسلمين عموما.

والحمد للّه رب العالمين

ص: 324

(2) النذر عند الشيعة

اشارة

قال اللّه تعالى: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}((1)).

من الأحكام الشرعية الثابتة لدى جميع المسلمين انطلاقا من الآية المتقدمة ومن خلال الروايات لزوم الوفاء بالنذر إذا توفرت شرائطه، ولكن ثمة استفسار حريّ جدا الوقوف على مناقشته لخطورة ما يترتب عليه، وهو: هل النذر لغير اللّه تعالى يوجب الشرك باللّه؟!!!

ولشديد الاسف هناك اتهام كبير وإشكالية خطيرة يُرمى بها الشيعة من بعض متطرفي المذاهب ويتوعدونهم بتبعات ذلك من خروج من ملة الإسلام واستحقاق عنوان الشرك وثم ما يترتب عليه من القطيعة والضغينة إلى حدّ الفتيا بالقتل وانتهاك الحرمات، متذرعين بالقول: إن النذر عبادة من العبادات الإسلامية كالصلاة والصيام ولا يجوز أن تكون لغير اللّه وان كل من يفعل واحدة من هذه العبادات لغير اللّه فهو مشرك، والنتيجة أن الشيعة ينذرون لغير اللّه اذن هم يعبدون غير اللّه اذن هم مشركون!!!

ص: 325


1- الحج: 29.

في الجواب على هذه الشبهة نقول لابد من الترّوي والتحري قبل رمي الآخر بالشرك ثم اباحة ماله وعرضه والافتاء بسفك دمه.

فههنا تعريف وتوضيح لمفهوم النذر وثمة ملاحظات نتأملها:

ما هو النذر
اشارة

النذر لغة هو الوعد، وأما المعنى الشرعي فهو أنْ يجعلَ الشخصُ للّه على ذمتِه فعلَ شيءٍ أو تركَه. مع اشتراط كون النذر للّه أي ان يذكر في صيغة انشاء النذر أنه للّه فيقول (للّه عليّ) وأن يكون متعلق النذر أمرا مقدورا عليه راجحا اي مما فيه طاعة للّه تعالى، فيقول مثلا للّه علي إذا شفيت من مرضي أن أصوم ثلاثة أيام أو أن اعطي الفقير دينارا أو غير ذلك مما فيه طاعة للّه تعالى((1)).

وبالطبع لو كان متعلق النذر من العبادات كالصلاة فلابد أن يؤديها قربة إلى اللّه تعالى وأما إذا لم يكن من العبادات كإعطاء الفقير دينارا فعليه أداء ذلك ولا يشترط في اعطاءه القربة، بل بمجرد اعطاءه الدينار فقد وفى بالنذر، نعم ان نوى القربة للّه تعالى في غير العبادات فله أجر مضاعف، هكذا قال اغلب فقهاء الشيعة.

وههنا محاور لابد من ملاحظتها وثم الإنصاف قبل رمي الآخرين بالشرك.

المحور الاول: الخلاف علمي وفقهي

قد يقع الخلاف في مسألة شرعية أو عقدية بسبب الاختلاف في مبنى

ص: 326


1- يلاحظ كتب الأفتاء لمراجع الدين مثل منهاج الصالحين والعروة الوثقى.

تلك المسألة عند الأطراف، فيكون الاختلاف فقهيا واجتهاديا لا يمكن أن يرمى قائله ولا فاعله بالشرك إذا كان مبتنيا على مقدمات صحيحة عنده شرعا.

وفي الواقع أن النذر مما وقع فيه الخلاف العلمي من أنه حكم عبادي كالصلاة بحيث لا يجوز فعله لغير اللّه تعالى أم هو حكم من صنف آخر؟

حيث يرى بعضهم أنه عبادة كالصلاة ولا يجوز فعله الا للّه تعالى لأن الناذر في عملية النذر يدعو اللّه تعالى ويسأله حاجته أو يؤدي شكر نعماءه بما ينذره وهذا مما لا يجوز لغير اللّه تعالى وربما عُدّ من ينذر لغير اللّه مشركا خارجا من الملّة، بينما يرى آخرون أن النذر لا ينعقد اساسا إذا كان لغير اللّه تعالى ومن يفعله فهو خطأ لا يوجب حرمة ولا شركا لان فاعله لا يقصد عبادة غير اللّه تعالى ولا يمكن رميه بالشرك طالما أنه يستند فيما يراه إلى مصادر التشريع الإسلامي من الكتاب والسنة، ومثل هذا لا يرمى في نواياه حتى لو فرض انه لم يصب الرأي فقد يكون أخطأ اجتهادا مما يعذر على ذلك.

المحور الثاني: هل النذر عبادة

عند مراجعة آراء فقهاء الشيعة لاسيما المعاصرين منهم لا تراهم يعدّون النذر عبادة كالصلاة والصيام بل هو حكم شرعي قائم على التزام العبد على نفسه للّه بفعل شيء أو تركه لأمر راجح... .

نعم قد نرى في الكتب الفقهية العلمية الصناعية بحوثا في النذر تتضمن النقاش عن شرطية نية القربة وعدمها استنادا إلى الروايات في ذلك ولكن لو

ص: 327

رجعنا إلى كتب الافتاء لدى اغلب علماء الشيعة المعاصرين والتي فيها ما خلص من الرأي لدى الفقيه لرأينا كتاب النذر صُنّف ضمن قسم الأحكام ولم يصنف ضمن قسم العبادات وإذا دققنا تعريفهم للنذر شرعا لم نجد فيه شرط القربة كما هي شرط في صحة الصلاة والصيام بل الاكتفاء بالتلفظ باسم اللّه تعالى (للّه عليّ) فلو لم يأت باسم اللّه لم يصح النذر ولم يترتب عليه شيء من الالزام ولا الكفارة. جاء في كتاب منهاج الصالحين والذي هو يشتمل على مسائل شرعية لعدة من الفقهاء: النذر هو (أن يجعل الشخص للّه على ذمّته فعل شيء أو تركه)((1)).

وهذا فارق كبير بين النذر وبين العبادة التي تبطل بمجرد النية لغير اللّه تعالى، فلو أن أحدا صلى رياءً بطلت صلاته حتى لو قال حين شروعه بالصلاة (اصلي قربة إلى اللّه) لأن القربة له سبحانه حقيقتها النية في القلب، بينما نجد شرط انعقاد النذر هو التلفظ بكلمة (للّه عليّ) قاصدا الزام نفسه تجاه ربه أن يأتي بالمنذور، سواء يفعل ذلك قربة إلى اللّه تعالى أم لأمر آخر. نعم إذا كان المتعلق من صنف العبادات لزمت نية القربة في أداء متعلق نذره فلو نذر للّه ان يصلي النافلة فلا شك ينوي القربة حين أداء النذر بمعنى حين اتيانه بالصلاة وأما غير المتعلق العبادي فليس كذلك.

وللتوضيح نقول لو أراد شخص أن يعطي مالا لفقير رياء امام الناس ليُمتدح وليفخر فقال للّه علي أن اعطي هذا الفقير الف دينار إن كان صادقا في مسألته، فلو كان الفقير صادقا في ذلك وجب على الناذر أن يدفع له،

ص: 328


1- منهاج الصالحين، مسألة رقم 1243.

وهذا يفيد تحقق النذر وإن كان مرائيا ولم يقصد القربة، وذلك لأن شرط النذر هو القول والتلفظ ب (للّه عليّ) وقد نطق بها، وأين هذا من أمثال عبادة الصلاة والصيام.

فالنذر حكم بالإلزام لمن يجعل على نفسه الزاما للّه عز وجل تلفظا وقولا بأمر راجح مطلوب عند اللّه تعالى وإذا لم يف بما الزم به نفسه حينئذ عليه أن يعطي كفارة ذلك بأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، فالقصد لا يُعدّ النذر عبادة من العبادات ليقال أن من نذر لغير اللّه فقد أشرك باللّه لأنه عبد غير اللّه.

المحور الثالث: النذر ومتعلق النذر

ولابد من التوضيح فيما قد يرى ويسمع من ان فلانا نذر لامام من الائمة (عليهم السلام) او غيره فينبغي التنويه على الفرق الموجود بين النذر للمعصوم (عليه السلام) وبين جعله متعلقا لنذره، وفرق بين النذر وبين متعلق النذر، فمثلا نحن ننذر للّه عز وجل ان نتصدق على الفقير لو قضيت حاجتنا فنفس النذر يكون للّه ولكن الفعل اعني التصدق يكون للفقير وهذا هو متعلق النذر أي ما وقع عليه النذر، وفي الواقع ما يفعله المحبّ والموالي لاهل البيت (عليهم السلام) هو جعلهم متعلقا لتحقيق نذره مثل اهداءهم الهدايا المادية كأن يعطي مبلغا لشراء فراش لمرقد المعصوم ام المعنوية كأن يصلي على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذا مرّة فيما اذا قضيت حاجته فحقيقة نذره للائمة (عليهم السلام) في واقع الحال هو جعلهم متعلقا للنذر سواء كان عالما بعدم صحة النذر بدون ذكر اللّه تعالى أم جاهلا بذلك، فلو قال نذرت للإمام الحسين (عليه السلام) ان قضُيت حاجتي ازره كل

ص: 329

سنة مرة، فالغالب لما يقصده أنه جعل الإمام الحسين متعلق نذره اي يهديه هدية بأن يزوره مثلا، وذلك لما يعتقد من كون زيارة الامام الحسين (عليه السلام) طاعة للّه تعالى وأن له منزلة عظيمة عند اللّه تعالى وأنه عزّ وجل لكرامة الإمام عنده سوف يقضي حاجته، فمن هذه الجهة يجعل هديته في نذره للإمام (عليه السلام) ، وفي الواقع كأنه يجعل الإمام الحسين وسيلة إلى اللّه تعالى فإذا قضيت حاجته يتقرب إلى اللّه بهذه الهدية إلى حبيب اللّه تعالى أعني الإمام الحسين (عليه السلام) ، ولأوضح ذلك بمثال ولا مناقشة في الأمثال:

حينما تكون لك حاجة عند شخص ما وتعلم أن له محبوبا يريد له الخير والسرور فيمكن ان تتقرب وتتودد اليه بإدخالك السرور على محبوبه فإذا علم منك ذلك لم يتوان في قضاء حاجتك وهكذا هم بعض الناس لما ينذر للمعصوم يريد هذا المعنى اي كأنه يقول يا رب انك تريد رفع درجات حبيبك المصطفى فإذا قضيت حاجتي سوف اصلي عليه مائة مرة فيقضي اللّه تعالى له حاجته، وقد يقول الناذر - بعد أن قضيت حاجته - حينها قولا ظاهره يوهم كونه نذرا خاصا للنبي فيقول لقد نذرت للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسبحة من الصلوات فقضيت حاجتي، أو يقول لآخر إذا كانت لك حاجة فانذر لرسول اللّه تقضى حاجتك، والحال أن نذره كان للّه وان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان متعلق نذره.

وهكذا لا يميّز اغلب الناس متعلق النذر عن النذر نفسه ولا يفرز بين هذه المفاهيم، ولكن الواقع هو ما عرفت فمن يقول نذرت لأبي الفضل العباس (عليه السلام) خروفا أو لمرقده سجادا فالقصد جعله متعلقا للنذر.

وخلاصة الأمر أن المؤمنين الذين يأخذون الهدايا إلى الائمة وإلى

ص: 330

قبورهم إما يعرفون صيغة النذر فينذرون النذر الملزم والصحيح شرعا ويقول الواحد منهم للّه علي أن أزور الإمام الحسين (عليه السلام) كل خميس او ان قضيت حاجتي اذبح خروفا لزواره فهذا نذر شرعي يلزمه الوفاء ان قضيت حاجته، وقسم آخر منهم لا يعرفون صيغة النذر فيقولون ذلك بدون ذكر اللّه وبأي صيغة كانت ولما تقضى حوائجهم يؤدوا ذلك وفي كلا الصورتين أن الإمام هو متعلق ما نووه سواء نذرا صحيحا ام خطأ اي لم يُعد الإمام منذورا له في الحالتين بل متعلقا للنذر، أما في النذر الشرعي والصحيح فذلك واضح وأما في النذر غير الصحيح ففضلا عن كونه ليس نذرا شرعيا وان الجاهل معذور في فعاله فضلا عن كل ذلك ففي حقيقة الأمر هو لم يقل للإمام عليّ أن أفعل ذلك كما يقول الناذر للّه عليّ كذا بل هو يجعل الإمام متعلقا لما نذره أو لما تعهد به أو لما الزم به نفسه وما شئت فعبّر والأمر واضح.

ولو انصفنا الحقيقة وانصفنا هؤلاء قلنا بضرس قاطع ليس أحد منهم يريد أن يجعل امامه ندا وشريكا لربه، نعوذ باللّه ونستجير به من هذا الافتراء بل حقيقة الأمر أنهم علموا بمنزلة المعصومين عند ربّهم فصاروا يتقربون بهم الى مرضاة ربّهم، فمن ينفق شيئا باسم الإمام (عليه السلام) - وربما اسماه نذرا غفلة عن حقيقة النذر - إنما يريد التودد إلى من أمَر اللّه بمودتهم وبذلك الوصول إلى بغيته وقضاء حاجته بمنزلتهم عند اللّه تعالى واين هذا من المعصية أو الشرك بالعبادة.

المحور الرابع: هل يصح التقرب لغير اللّه

وعلى فرضية أن النذر يتضمن معنى التقرب ولابد أن لا يكون التقرب

ص: 331

لغير اللّه تعالى نقول:

إذا كان التقرب لأشخاص أمَر اللّه عزّ وجل بالتقرب إليهم فهو في حقيقته تقرب له تعالى، ومثاله الواضح هو احترام الوالدين ومودتهما فإن في ذلك مرضاة للّه وتقربا له تعالى، وإنما الإشكال في التقرب لغيره عزّ وجل على نحو العبادة وهذا ما لا يقول به الامامية واعتقادهم ذلك مبتن على الكتاب وسنة النبي وآله (عليهم السلام) .

وأما التقرب بالأعمال لغير اللّه لا على سبيل العبادة فلا يقولون بعدم جوازه أو عدم صحته، فضلا عن تكفير فاعل ذلك واخراجه من الملة، كما لا يفرق ذلك التقرب والتودد لمن هم موجودون أم ممن مضوا إلى ربهم عزّ وجل، فكما يصح التقرّب لعباد اللّه الصالحين واوليائه ونصرتهم والتودد إليهم وهم احياء يمشون على البسيطة كذلك يصح التقرّب للنبي وآله الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون بإظهار مودتهّم لنيل دعائهم وشفاعتهم وليس في ذلك شرك بل هو محض الإيمان باللّه تعالى وطاعة له لأنه هو سبحانه وتعالى من جعل هؤلاء الطاهرين وسائل إلى مرضاته والفوز بجنته، فحريّ بمن يحترم آراء الآخرين وعقائدهم لاسيما من لهم الدليل على معتقداتهم من الشرع المقدس أن لا يصفهم بالكفر والشرك لمجرد خلاف مبتن دليله على مصادر التشريع من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.

الخلاصة

بعد تصريح فقهاء الشيعة من أن النذر لا ينعقد الا بذكر اسم اللّه تعالى وأن النذر لغير اللّه نذر باطل وبعد توضيح ما يقصده المؤمنون مما

ص: 332

يتصورون من نذر للأولياء من أنهم في الواقع يريدون اهداء هداياهم للمعصومين اذ جعلوهم وسائل إلى اللّه تعالى في قضاء حوائجهم فلا مجال للمنصف من رميهم بالحرمة أو الشرك نعوذ باللّه.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 333

(3) زيارة المعصومين والتوسل بهم والتفاعل مع مصائبهم (عليهم السلام)

اشارة

ظاهرة التفاعل والانفعال الولائي مما يلاحظ عادة من الشيعة تجاه الائمة المعصومين (عليهم السلام) من مظاهر الحزن في ذكرى استشهادهم والتوافد إلى زيارة مراقدهم، كذلك الدعاء والتوسل بهم إلى اللّه تعالى سواء عند قبورهم أم حيثما كانوا في قضاء الحوائج ولاسيما ذلك خلال زياراتهم الخاصة، كل ذلك مثار للتساؤل عن مدى صحة ذلك وشرعيته.

فهل إلى ذلك من دواع صحيحة وهل فيها من اشكالات شرعية؟

نلاحظ ذلك ضمن هذا النقاش خلال عدة محاور إن شاء اللّه.

المحور الأول: زيارة مراقدهم: ماهي الدواعي والأهداف؟
اشارة

نقول في الجواب: هناك دواع عّدة تحفزّنا لزيارة هذه المراقد المقدسة وقراءة الزيارات والأدعية المنصوصة الدينية عند مراقدهم نذكر هاهنا بعضها:

ص: 334

أولا: المودة لذي القربى

لقد أمرنا نحن المسلمين بمودة آل البيت (عليهم السلام) كما في آية القربى، حيث قال اللّه تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ}((1)) ومن مظاهر هذه المودة هو الذهاب إلى قبورهم وزيارتهم عندها، وهذا أمر وجداني، يدركه كلّ محب لهم كما هو ديدن كلّ حبيب يتردد إلى حبيبه ويشتاق إلى لقاءه، ألا يذهب أحدنا إلى قبر أبيه وأمه أو من يحب ليعّبر له عن حّبه وموّدته؟ وليقرأ عنده القرآن ويهدي ذلك إلى روحه؟ بل ويأنس نفسيا بالجلوس عند قبر محبوبه؟

فذهابنا لمراقد الأئمة (عليهم السلام) هو إشعار عن حبنا ومودتنا لهم (عليهم السلام) ولجِّدهم المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ثانيا: الافاضات الروحانية

اننا نذهب لزيارتهم (عليهم السلام) لما نرى في ذلك من الروحانية والمعنوية ونحن بجوار قبورهم فنعبد اللّه تعالى ونصلي وندعوا ربنا فتنهمر دموعنا ونستشعر تقربا إلى اللّه عزّ وجل وخشوعا في العبادة في تلك الأجواء المغمورة بالمعنوية والإيمانية، وهذا أمر وجداني يدركه الزائرون المحبون لمحمد وآله صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

ثالثا: الثبات في العقيدة والسلوك

لقد تضمنت نصوص الزيارات الواردة عنهم (عليهم السلام) مضامين دقيقة

ص: 335


1- الشورى: 23.

ومدروسة توحي لقارئها المعاناة التي تحملها المعصومون والمصائب والشدائد التي حلّت بهم نتيجة ثباتهم على النهج والدين الذي أراده اللّه تعالى حتى كانوا عمادا للدين وقوامه فبهم أقيمت الصلاة واوتيت الزكاة وشيّد الحج وبولائهم تحفظ الشريعة، وغير ذلك من النصوص التي تذكّر الزائر بالحق الذي جاهد من أجله الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) والباطل الذي ينبغي التنكّر له والحذر منه، ولهذا تجد نصوص الزيارات محشوة ببيان مكانتهم (عليهم السلام) عند اللّه تعالى وكونهم سفن النجاة، ومبينة لضلال أعدائهم المستوجبين للعنة الخالق ولعنة اللاعنين.

وهذا من أهم الأسباب في انشداد الشيعة إلى الأئمة (عليهم السلام) وإبقاء شعلة هذا المذهب وقّادة وضّاءة نيّرة حيّة طريّة ولعلّ لذلك بيّن المعصومون (عليهم السلام) عظيم الثواب في الوفود إلى زيارتهم ولا سيما زيارة أبي الاحرار سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) .

هذا فضلا عن الآثار المعنوية الغيبية التي ذكرت في الأحاديث عن الثواب الإلهي كغفران الذنوب والشفاعة من جهة والنفع العائد على الزائر في الدنيا من جهة أخرى كالرزق وطول العمر والبركة في الأهل والأولاد وغير ذلك.

المحور الثاني: التوسل بهم (عليهم السلام) والدعاء عند قبورهم.
اشارة

موضوع التوسل بالأولياء إلى اللّه تعالى من المواضيع المثارة في ضمن ما أخذوه على الشيعة، ورماهم بعض بالشرك والخروج من الملّة وربما ذلك للإلتباس الحاصل عنده من أن مطلق اللجوء إلى غير اللّه تعالى في

ص: 336

طلب الحاجة هو شرك باللّه تعالى.

ومن ثمّ كان لابد أن نوضح الأمر شيئا ما لنكون على بصيرة من الأمر ويكون اللبس قد زال عن الآخر ان شاء اللّه.

لقد أُثيرت عدة شبهات في موضوع التوسل بالنبي وآله (عليهم السلام) ، أشير إلى بعضها:

1- شبهة الاستعانة بغير اللّه تعالى
اشارة

مما أثير هو أن التوسل هذا يعدّ استعانة بغير اللّه تعالى وهو شرك باللّه عزّ وجل حيث لا ينبغي طلب الحاجة من غير اللّه تعالى وقد قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}((1)) والآية تفيد الحصر فلا ينبغي الاستعانة بغير اللّه عزّ وجل.

والجواب باختصار من لحاظين:

اولا: ضرورة الجمع بين الآيات والروايات
اشارة

حينما يكون الاستدلال مبتنيا على الشرع لابد من ملاحظة الآيات والروايات والربط بينها وجمعها، فقد يكون بعضها مبيّنا لبعض ثم بعد ذلك نلاحظ مؤداها الاخير، لا أن يكتفى بظاهر آية واحدة، فلو رجعنا إلى آيات أخرى وإلى الروايات لرأينا امكانية الاستعانة بغير اللّه تعالى ولكن لا على سبيل الاستقلالية - سأوضح ذلك في اللحاظ الآتي - يقول تعالى {يَٰأَيُّهَا

ص: 337


1- الفاتحة: 5.

ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ}((1))، نلاحظ ظاهر الآية أنها تدعو إلى الاستعانة بالصلاة، ويقول تعالى {ٱبْتَغُواْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ}((2))، وظاهرها هناك وسيلة إلى اللّه تعالى ينبغي ابتغاؤها، وربما من يقول أن الصلاة هي عبادة والمعنى الاستعانة باللّه تعالى وأن الوسيلة هي العبادة كالصلاة والكلام نفس الكلام أي توسلوا باللّه بسبب الصلاة وتقربوا بها إليه.

فنقول حتى لو نسلّم بذلك جدلا فماذا نقول في مثل قوله سبحانه {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ}((3))؟ حيث الآية تدعو المؤمنين أن يعين بعضهم بعضا وهذا يعني أن أحدهم يستعين بالآخر والآخر يعينه، ويقول عزّ وجل حكاية عمّن استعان بموسى (عليه السلام) {فَٱسْتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}((4)) ولم ينكر عليه النبي موسى ولا القرآن استغاثته تلك بموسى (عليه السلام) .

ولعل من يقول هذه استغاثة بإنسان حي له قدرة ولكنكم تتوسلون بمن هم موتى لا يسمعون ولا يقدرون على شيء؟!

نقول اذا كان الإشكال هو أصل الاستعانة بغير اللّه تعالى، فما الفرق بين

ص: 338


1- البقرة: 153.
2- المائده: 35.
3- المائده: 2.
4- القصص: 15.

حياة المستعان به ومماته طالما هو لا يقدر على شيء إلا بإذن اللّه تعالى، وإن قلتم إن الأحياء قادرون على الإعانة بدون قدرة اللّه فذلك نعوذ باللّه هو الشرك، لأنه لا حول ولا قوة الا باللّه، وإن قلتم إنهم قادرون بقدرة اللّه تعالى فكذلك الميت الوجيه عند اللّه تعالى لاسيما الشهداء الذين صرّح القرآن أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فما يمنع أن يُسمعهم اللّه تعالى كلام المتوسّل بهم ليشفعوا له عنده سبحانه في قضاء حوائجه فيمنّ اللّه عزّ وجل بالإجابة كرامة لأوليائه.

توسل المكفوف بالنبي

وفي الرواية كما في كتب القوم عن عثمان بن حنيف: أنَّ رجلاً ضرير البصر أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: أدع اللّه أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك، قال: فأدعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك، نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللّهم فشفّعه فيَّ»((1)).

وقد رد الألباني في كتابه (التوسل) على ذلك بأنه مجرد دعاء وليس توسلا بشخص النبي ولا بجاهه، مستدلا بلفظ (ادع لي) ولم يُشر إلى قوله (يا محمد إني توجهت بك إلى ربي) الذي ظاهره توسل بشخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبجاهه الى اللّه تعالى.

ص: 339


1- صحيح الجامع الصغير، ح1279.

وقد يقول قائل هذا توسل بالنبيّ في حياته وليس بعد وفاته؟ والجواب وإن مرّ من قبل، وفضلا عن أن الانبياء والاولياء لهم مكانتهم عند اللّه تعالى في حياتهم وبعد موتهم وأن اللّه يشفعّهم لمكانتهم لا لأشخاصهم، أقول إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاطب القتلى يوم بدر وبيّن أنهم اسمع من الأحياء، فإذا كان مثل أولئك يسمعون الخطاب فكيف بمن هم أحياء عند اللّه تعالى لعظيم مكانتهم عنده.

ثانيا: الاستعانة بمن أمر اللّه تعالى الإستعانة به

اللحاظ الثاني نقول إن الاستعانة بغير اللّه تعالى مرة تفرض مع الاعتقاد باستقلالية قدرة المعين عن قدرته تعالى، بمعنى أن يستعين بآخر وهو يعتقد أن هذا المستعان به له قدرة مستقلة عن قدرة اللّه عزّ وجل، فيجعل لكائن ما امكانية الاقتدار على شيء بدون قدرة الخالق، ونعوذ باللّه من ذلك وليس احد من المؤمنين يتوسل بأحد من المعصومين وهو يعتقد ذلك.

ومرة تكون الاستعانة بالآخر مع فرض أن قدرته في الإعانة هي من قدرة اللّه تعالى ولا حول ولا قوة له إلا من اللّه تعالى فالاستعانة بهذا وطلب المدد منه إنما هي استعانة بقدرة اللّه تعالى لأنه يعتقد أن ما عند هذا من قدرة إنما هي من اللّه تعالى.

فنقول إن ما يفعله الشيعة من التوسل بالنبي وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين انما هو لاعتقادهم أن اللّه عزّ وجل أعطاهم الجاه والشفاعة والمكنة بقدرته تعالى.

وبذلك هذه الاستعانة في واقعها وحقيقتها هي استعانة به تعالى لأن

ص: 340

القدرات كلها تعود إلى قدرته عزّ وجل فلا تنافي هذه الاستعانة مع هذه الملاحظة قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

ومثاله الواضح هو ذهاب المريض إلى الطبيب واستعماله ما يكتب له من دواء أملاً بالشفاء من اللّه تعالى لعلمه إنما الطبيب وغيره اسباب جعلها اللّه تعالى لإجراء الأمور والمقدرات، كما في الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شئ سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما، وجعل لكل علم بابا ناطقا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحن»((1))

فما يفعله الشيعة من التوسل بالنبي وآله ليس هو إلا سببا من الأسباب التي جعلت في طريق انجاز الأمور وتحققها، ولا يعتقد أحد منهم أن بإمكان أي شخص حيا كان أو ميتا أن يقضي أي حاجة كانت من جلب نفع أو دفع ضرر إلا بإذن اللّه تعالى، وإنما يطلب ذلك منهم (عليهم السلام) لما يعتقد أنّه سبحانه منّ عليهم ومكّنهم من القدرات الخاصة، وبالتالي لا أحد يعتقد أنهم يفعلون ذلك بقدرة مستقلة عن قدرته تعالى.

وحينئذ فما المانع من ذلك؟ وهذا القرآن الكريم يحدثنا عن خروقات ومعاجز عظيمة فعلها أنبياء اللّه كإحياء الموتى وشفاء المرضى وكلها بإذن اللّه تعالى، وطبعا لا فرق بين حياة هؤلاء ومماتهم طالما هم أحياء عند ربهم يرزقون وطالما أن القدرات كلها بإذن اللّه تعالى القادر على كل شيء،

ص: 341


1- الكافي، ج1، ص183.

ونحن لا نستكثر ذلك عليهم وهم أفضل عباد اللّه وقد ورد في الحديث القدسي: عبدي أطعني أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون((1)).

وفي الحديث: أحببني أجعلك مثلي((2)

فإذا أمكن للعبد أن يبلغ ما يبلغ بطاعته للّه تعالى فكيف بمثل النبي وآله (عليهم السلام) ؟! وهم العباد المكرمون الذين لا يعصون اللّه ما امرهم.

وخلاصة الكلام أن مقصودنا الأول والأخير هو ربنا اللّه تعالى وإنما نأتيه من الباب الذي فتحه لعباده وهو باب مودة محمد وآل محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين التي أمرنا بها ولذلك نردد في الزيارة الجامعة بالقول: «من اتاكم نجا ومَن لم يأتكم هلك، إلى اللّه تدعون وعليه تدّلون» فالاستغاثة بالنبي وآله هي عينها طلب واستغاثة الى اللّه تعالى لإنها في نهاية الأمر رجاء من اللّه تعالى واستغاثة به، ومن مصاديق ذلك ما ورد في تفريج الكربة في: (صلاة الغياث) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا كانت لأحدكم استغاثة إلى اللّه تعالى فليصلّ ركعتين ثم يسجد ويقول: (يا محمد يا رسول اللّه، يا علي يا سيد المؤمنين والمؤمنات بكما أستغيث إلى اللّه تعالى، يا محمد يا علي أستغيث بكما يا غوثاه باللّه وبمحمد وعلي وفاطمة - وتعد الأئمة - بكم أتوسل إلى اللّه تعالى، فإنك تغاث من ساعتك إن شاء اللّه تعالى((3)).

ص: 342


1- عدة الداعي، لابن فهد الحلي؛ مشارق أنوار اليقين للبرسي، إرشاد القلوب للديلمي.
2- جامع الاسرار، ص204، ح393.
3- مكارم الأخلاق، للطبرسي، ص330.
2- شبهة عبادة غير اللّه
اشارة

هناك من يقول إن الكفار والمشركين كانوا يعظّمون الأصنام ويزعمون التقرب بها إلى اللّه كما قال سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰ}((1))، وانتم تأتون قبور ائمتكم وتعظمونها وتقولون نريد التوسل بهم لقضاء الحوائج والتقرب بهم إلى اللّه تعالى فمثالكم مثال أولئك الكفار؟

الجواب: نقول أيضا هناك لحاظان ينبغي الإنتباه لهما:

اولا: النية شرط في العبادة

إنّ من أهم شرائط تحقق العبادة هو توفر النية في ذلك، فلا يتحقق عنوان عبادة ما إلا اذا خلصت النية بالعبادة، وهذه العبادات بين أيدينا كالصلاة والصوم والحج وغيرها، يا ترى هل يمكن أن يطلق عليها عنوان العبادة مع خلوّها من نية ذلك؟ فلو ركع الفرد لأجل إجراء تمرين رياضي، أو سعى بين الصفا والمروة لأجل تمارين الجري، أو امتنع عن الأكل لأجل تنحيف البدن فلا يُعدّ ذلك ركوعا أوسعيا أوصياما ولا يُعنون كل ذلك بعنوان العبادة ابدا، وما ذلك إلا لدور النية في ذلك، وفي الحديث المشهور عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنما الأعمال بالنيات»((2)).

ولا أدري هل يحتمل عاقل أن أحدا من هؤلاء الوافدين لزيارة

ص: 343


1- الزمر: 3.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج67، ص212.

المعصومين ينوي العبادة لهم في هذه الافعال؟!!

إن الواحد منّا ربما يضع يده على صدره في تحيته للآخر بل ربما يحني له رأسه بل قد ينحني له مظهرا فائق احترامه، ولا يتطرق لإحد ما ادنى شك من أنه يريد عبادته، وذلك لأننا نعلم أنه لا يريد ولا ينوي بذلك الفعال عبادته البته، فلا نتهم قوما بالعبادة لغير اللّه بسبب بعض الأفعال ونحن لا نعلم نواياهم، نعم لا يجوز السجود والركوع لغير اللّه تعالى حتى وإن لم تكن نيّة العبادة.

ثم إن أقصى ما يمكن قوله إن هذا لا يجوز عند بعض الآراء أو المذاهب، فنقول تلك قضية اجتهادية، يعذر فيها الفقيه المجتهد عند اللّه تعالى فيما لو استدل على ما يجوز وما لا يجوز بالكتاب والسنة وبأدلة الاجتهاد والاستنباط، فلا يصح رميه ورمي متابعيه بالشرك وهدر دمهم ومالهم وعرضهم واحداث الفتن والحروب بسبب ذلك.

ثانيا: صراحة الآية بعبادة القوم للأصنام

اللحاظ الثاني هو أن الجواب في نفس الآية حيث قوله تعالى عنهم: {ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا}((1))، فهم يزعمون التقرب إلى اللّه بالعبادة للأصنام، اي أنهم بالفعل يعبدون الأصنام وأنهم اتخذوها آلهة، أي عندهم آلهة غير اللّه - نعوذ باللّه - فكيف تشبهون الشيعة بأولئك ومآذن الشيعة تصدح بالتوحيد (أشهد أن لا إله إلا اللّه)؟ فضلا عن أن اللّه

ص: 344


1- الزمر: 3.

تعالى هو من أذن بل أمر بالتوسل بالنبي وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإتيان قبورهم والتوسل بهم عين طاعة اللّه وعبادته لأنهم يطيعونه تعالى بذلك بعد أن أوجب مودتهم (عليهم السلام) فقال عز من قائل: {ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}((1)).

وورد في التفسير أن المراد من القربى هم أهل بيت النبي صلوات اللّه عليه وعليهم، كما عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن اللّه خلق الأنبياء من شجر شتى وخلقني وعلياً من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ هوى، ولو أن عابدا عبد اللّه ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام ثم لم يدرك محبتنا أهل البيت أكبه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى»((2)).

بالطبع الحديث يتوعد المعاندين لأهل البيت وليس القاصرين في معرفة هذه الحقائق.

ونستنتج من كل ذلك أن ذهابنا إلى مراقد المعصومين وملاذنا بهم هو عين ذهابنا إلى المساجد والصلاة فيها طلبا للأجر ففي كلا المكانين كما أخبرتنا أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) يكون التقرب إلى اللّه تعالى وزيادة في

ص: 345


1- الشورى: 23.
2- شواهد التنزيل، ج1، ص554.

الأجر والثواب.

المحور الثالث الشعائر الحسينية

وامّا ما يقوم به الشيعة من التفاعل مع قضية الإمام الحسين والأئمة (عليهم السلام) من عقد مجالس العزاء في ذكرى مرور مناسبات سنوية على استشهاد الأئمة (عليهم السلام) وكذلك خروج مواكب العزاء ولبس السواد وما شابه، ذلك كله مما يطلق عليه الشعائر الحسينية أو شعائر العزاء على أهل البيت (عليهم السلام) .

فقد اتضح جليا سبب ذلك من خلال ما تقدم في المحورين السابقين، ففي ذلك دواع عدة نشير إلى بعضها باختصار جدّا:

1- تعدّ هذه الشعائر مظهرا من مظاهر المودة التي أمرنا بها للنبي ولآله (عليهم السلام) ، ومواساتهم فيما جرى عليهم من أذى ومصائب، ولاسيّما ما جرى على سبطه سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) ونحن ببكائنا وحزننا على مصائب سيد الشهداء حبيب رسول اللّه نستن بما فعله النبي نفسه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك نرجوا الأجر من اللّه تعالى.

2- لا يخفى ما تكتنفه هذه الشعائر من فوائد جمة وذات قيمة للأجيال حيث المواعظ التربوية وتركيز العقائد الصحيحة وتعزيزها وبيان فلسفتها وشد الناس إلى طاعة اللّه تعالى وحثهم على الأخلاق والفضيلة ومراعاة الحقوق المتبادلة، و... والكثير من المناهج التربوية.

3- كما أن هذه الشعائر تتضمن برامج روحانية معنوية تشد الإنسان إلى دينه وإيمانه وتذكره بنعم اللّه تعالى وإفضاله عليه فتعود عليه بنعمة اطمئنان النفس واستقرار الروح واستشعار الرضا والقناعة وكم في ذلك من سعادة

ص: 346

نفسية.

4- ولا شك أن هذه الشعائر توحي لمقيميها الاعتزاز والكرامة والاباء والخلوص والصفاء، وكم تمخّض من هذه الأجواء الإيمانية شباب صالحون ورجال مؤمنون مخلصون في عبادتهم لربهم وعلاقاتهم الصادقة مع أنفسهم ومجتمعهم.

5- ومن أبرز الفوائد التي تعود على الإنسان في هذه الشعائر هو القرب من أهل بيت النبيّ واللزوم لتعاليمهم وتوثيق وتعزيز العلاقة بهم حتى يكون مصداقا للعمل بوصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعترته كما في حديثه المشهور في كتب المسلمين عامة: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما»((1)).

نحن نريد أن لا ننسى أهل البيت الذين طالما ذكرنّا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم كما في صحيح مسلم، حيث الحديث عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به فحث على كتاب اللّه ورغّب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي...»((2)).

ص: 347


1- سنن الترمذي، ج5، ص329، ط دار الفكر - بيروت؛ ومسند أحمد، ج3، ص14؛ وج4، ص17.
2- صحيح مسلم، ج7، ص123، دار الفكر، بيروت.

وخلاصة الأمر أن ما نقوم به نحن الشيعة من زيارة لمراقد أئمتنا (عليهم السلام) والتوسّل بهم إلى اللّه تعالى وإظهار الحزن على مصائبهم كلّ ذلك مستند إلى القرآن الكريم الذي أمرنا بمودة النبي وقرباه ومستند إلى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي أوصانا بعترته وكل ذلك منسجم أيضا مع الفطرة والأحاسيس الصحيحة لدى البشر.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 348

(4) الشيعة وزواج المتعة

اشارة

من اللغط المتداول على لسان بعض المتحاملين على الشيعة والتشيع هو رميهم بالفساد الأخلاقي واتهامهم إياهم بوضع قانون لممارسة الدعارة بين الجنسين بحجة زواج المتعة القائم أساسا على اتفاق لبضع ساعات بين الرجل والمرأة ليقضي فيها الرجل وطره مقابل مبلغ يبذله للمرأة.

لا شك أن موضوع المتعة موضوع حساس وأنه مثار للتساؤل لاسيما وقد أثيرت فيه من الشبهات ما يستدعي الوقوف عنده ليكون المؤمن على بصيرة وتثبّت من دينه وفقهه وليعزّز إيمانه وثقته بتشيعه.

فنقول ما هو زواج المتعة وبماذا يفترق عن الزواج الطبيعي أي الدائم وهل ثمة دليل شرعي أو عقلي على ذلك وهل المتعة حالة مستنكرة أم هي سُنة ملغاة من سنن الإسلام؟

ما هو زواج المتعة؟

زواج المتعة: هو عقد نكاح بين الرجل والمرأة، بمهر معين يتفقان عليه ويذكر في متن العقد، إلى أجل معين كشهر أو شهرين أو سنة أو أقل من ذلك أو أكثر، وعند حلول الأجل تنحل عقدة النكاح دون حاجة إلى إيقاع

ص: 349

طلاق ولا إجراء صيغته بل بحلول الأجل المتفق عليه ينتهي كل شيء، ويمكن للزوج قبل انتهاء المدة أن يهب ما بقي من الوقت للزوجة فيقول وهبتك المدة وبذلك تنفصل عنه أيضا.

وصيغة هذا الزواج أن تقول المرأة مخاطبة الرجل: زوجتك، أو أنكحتك أو متّعتك نفسي بمهر قدره كذا لمدة كذا وتذكر المهر والمدة فيقول لها الرجل: قبلتُ التمتّع على المهر المعلوم في المدّة المعلومة، ويمكن أن توكل آخر ليكون وكيلا عنها في إجراء صيغة العقد كما يمكن للرجل ذلك، ثم بقراءة العقد تتم الزوجية إلى انتهاء المدة التي حُددِّت، أو إلى أن يهبها باقي المدة.

وعند انتهاء المدة تعتدّ المرأة بحيضتين، بمعنى تبقى غير قادرة على الزواج من غيره حتى تحيض ثم تطهر ثم تدخل في حيضة أخرى، ذلك إن كانت ممن تحيض، أو تعتدّ بخمسة وأربعين يوما إن كانت لا تحيض، مع كونها في سن من تحيض، أي بعد لم تبلغ سن اليأس أي الخمسين من العمر، وعدة الحامل، والمتوفى عنها زوجها كعدة الزوجة الدائمة((1)).

وطبعا لابدّ أن يتوفر في عقد هذا النكاح جميع الشرائط الشرعية التي ينبغي توفرها في أي زواج طبيعي آخر، من البلوغ والعقل بالنسبة للعاقد، والاختيار ورضى الطرفين ورضا أب أو جد البنت من أبيها إن كانت بكرا وضرورة رشدها إن كانت ثيّبا وهكذا سائر الشرائط المقررة في الكتب الفقهية.

ص: 350


1- لاحظ كتب الرسائل العملية لمراجع الدين.

ثم إن المولود بهذا الزواج يلحق بأبيه وأمه، ويرثهما، كسائر المولودين من الزواج الدائم.

ويتضح من ذلك الفرق الأساس بين الزواج المؤقت (المتعة) والزواج الطبيعي (الدائم) وهو توقيته بمدة معينة بها تنتهي عقدة النكاح دون احتياج إلى إجراء طلاق.

نعم ثمة عدة فوارق أخرى ولكنّ هذا هو الفارق الأساس والأهم الذي به عُدّ هذا الزواج زواج متعة ويُعَنونُ أيضا بالمؤقت والمنقطع، وأما الفوارق الأخرى فهي في ظلال ذلك ومن أبرزها ما يلي:

1- عدم توارث الزوجين فيما لو مات أحدهما خلال فترة هذا الزواج.

2- عدم وجوب تكفل الزوج نفقة زوجته من مأكل وملبس ومسكن وما شابه.

3- لا يجب على الزوج أن يبيت ليلة من أربع ليال عند زوجته هذه، كذلك ليس للمتمتع بها حق المطالبة بالمضاجعة والمواقعة ولو لمرة خلال فترة أربعة أشهر، الحق الذي جُعل للزوجة الدائمة حيث يحق لها مطالبة زوجها ذلك ولو لمرة واحدة خلال تلك الفترة.

4- بعد انتهاء المدة ودخول الزوجة في العدة لا يتمكن الرجل من ارجاعها الى عهدة الزوجية إلا بعقد جديد وبرضا منها.

5- تستحق المتمتع بها المهر كاملا إذا انقضت مدتها، ولو لم يدخل بها زوجها، بينما لا تستحق الزوجة الدائمة سوى نصف المهر فيما لو طُلّقت قبل الدخول بها.

ص: 351

6- يحق للزوج أن يعزل ماءه تجنّبا من إنعقاد النطفة وبذلك يملك قرار عدم الحمل لدى زوجته المتمتع بها، كما لها أيضا رفض إفراغ ماءه في رحمها تجنبا من الحمل.

هذه هي أهم الفوارق بين الزواج الدائم والمنقطع، وينبغي التنويه هنا على أمر هو غاية في الأهمية وهو أنه بإمكان الزوجة المتمتع بها فرض شروط خاصة تقلل من هذه الفوارق خلال متن العقد، كما لو تشترط عدم الدخول أو عدم العزل بعد فرض الدخول أو لزوم المبيت أو حصول الإرث فيما لو مات الزوج خلال فترة الزواج أو لزوم الإنفاق في بعض الموارد أو غير ذلك مما يجوّزه الفقهاء، وبذلك لا يُبتزّ منها أي حق يفرض خلال العقد بالاتفاق والتراضي من الطرفين.

الدليل على جواز نكاح المتعة.

لاشك أن الاعتراف بهذا الزواج لم يكن من فراغ بل استدل عليه بالكتاب والسنة مثله مثل سائر الأحكام المهمة في الاسلام وإليكم الدليل:

قال اللّه تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِنۢ بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}((1)).

لقد نصت الآية قبل هذه الآية على حرمة زواج الرجال من عدة أصناف

ص: 352


1- النساء: 24.

من النساء مثل الأمهات والأخوات والبنات وبنات الأخ وبنات الأخت وغير ذلك، ثم أعقبت في هذه الآية حرمة ذلك من النساء المحصنات أي المتزوجات وبعد ذلك اباحت الزواج من غير ذلك وأشارت إلى هذا النوع من الزواج المؤقت والذي يراد منه المتعة والاستمتاع فقالت: {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}((1))، أي أنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي يستمتعون بهنّ، وهذا القسم من الآية إشارة إلى مسألة الزواج المؤقت، كما ذكر ذلك المفسرون تبعا لتفسير أهل البيت (عليهم السلام) كما لم ينكر بعض مفسري العامة قول عمر بن الخطاب الدال على ذلك كما سيأتي.

استدلال أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك:

قال في تفسير الأمثل: اتفق أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهم أعلم الناس بأسرار الوحي على تفسير الآية المذكورة بهذا المعنى (أي بالزواج المؤقت) وقد وردت في هذا الصعيد روايات كثيرة منها:

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول اللّه»((2)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال في جواب سؤال أبي بصير حول المتعة: «نزلت في القرآن {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}»((3)).

ص: 353


1- النساء: 24.
2- نور الثقلين، ج1، ص467؛ وتفسير البرهان، ج1، ص360.
3- نور الثقلين، ج1، ص467؛ وتفسير البرهان، ج1، ص360.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضا أنّه قال في جواب عبد اللّه بن عمير الليثي الذي سأل عن المتعة: «أحلّها اللّه في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إلى يوم القيامة»((1))

إنتهى((2)).

ورغم أنه يكفي الفرد الشيعي دليلا ما يراه ويعتمده أهل البيت (عليهم السلام) من القرآن فإنهم أدرى بما نزل في بيوتهم، إلا أن زيادة في التثبت نقول:

إن حكم إباحة زواج المتعة يُعدّ من ضروريات الدين حيث لا يختلف المسلمون في أصل حدوث ذلك وإقراره في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفي ذلك شواهد كثيرة منها مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج»((3)).

وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه حيث قال: «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي»((4)).

وفي أحاديث أهل البيت كما عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: «وكان علي (عليه السلام) يقول لولا ما سبقني ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي»((5)).

وايضا في تفسير الأمثل عن كتاب (المحاضرات) للراغب أنّ رجلا من

ص: 354


1- تفسير البرهان ذيل الآية.
2- تفسير الامثل ناصر مكارم الشيرازي في نقاشه للأية.
3- الرازي والقرطبي في تفسيريهما، ويذكر تفسير الأمثل عن كنز العرفان، ج2، ص158، عبارته (وانا احرمهما).
4- مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص181، ح21618، ط مؤسسة قرطبة.
5- جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص5.

المسلمين كان يفعلها (أي المتعة) فقيل له: عمّن أخذت حلّها؟ فقال: عن عمر، فقالوا: كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال لقوله: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما أقبل نهيه من قبل نفسه((1)).

وفيه أيضا عن كتاب (بداية المجتهد تأليف ابن رشد الأندلسي) أنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان يقول: تمتعنا على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثمّ نهى عنها عمر الناس((2)).

وأيضا عن كتاب الراغب أن عبد اللّه بن الزبير عيّر عبد اللّه بن عباس بتحليله المتعة فقال له ابن عباس: سل أمك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك؟ فسألها، فقالت: ما ولدتك إلا في المتعة((3)).

وعليه لا يكابر أحد من المسلمين وينكر حقيقة وجود زواج المتعة في الإسلام وأنه من المسلّمات الثابتة في صدر الإسلام.

نعم هناك من قال بنسخ هذا الحكم وانتهاء مفعوله كما ذهب إلى ذلك الرازي في تفسيره بعد أن نقل قول عمر بن الخطاب (متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما...) ثم قال ولابد أن يكون منسوخا منذ زمن

ص: 355


1- تفسير الأمثل عن كنز العرفان، ج2، ص159.
2- بداية المجتهد كتاب الصلاة، ويمكن ملاحظة ذلك في أحاديث متعددة في صحيح مسلم، ج4، ص131، كتاب النكاح.
3- المحاضرات للراغب، ج2، ص234.

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلا لزم تكفير عمر وتكفير من سمع ذلك منه ولم يستنكر عليه وهذا لا يمكن - كما في مضمون كلامه((1))- والغريب أن نفس هذه المقولة تُعزى لشخص عمر، حيث قال (أنا أنهى عنهما) بمعنى ان هذا الأمر كان في زمن النبي ولم يكن منهيا عنه.

نعم ليس من الانصاف ان يعد ذلك نسخا بعد مقولة عمر وأحاديث الصحابة الصريحة في كون هذا الزواج كان في زمن النبي وشطرا من زمن أبي بكر، ولا يمكن أن يقع نسخ لحكم اللّه إلا في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن قِبله (عليه السلام) ، وأما إذا جاز لغير النبي وبعد زمنه أن ينسخ حكم اللّه تعالى فلا يبقى من الإسلام شيء إذ يستطيع كل حاكم أو غيره أن يبادر لحذف قانون من قوانين الإسلام متذرعا بما يراه من الذرائع، هذا فضلا عن الحديث المشهور عن الامام الصادق (عليه السلام) «حلال محمد حلال ابدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة»((2)).

التأمل العقلي وضرورة زواج المتعة:

إذا تأملنا قليلا نجد أن هذا القانون يعالج معضلة تعانيها مجتمعات كثيرة وينقذ كثيرا من الشباب والنساء الذين لا يجدون طريقا الى الزواج الدائم لسبب ما، ولا يخفى ما للغريزة الجنسية من ضغوط على الشباب والفتيات بحيث لو لم تلبّ بالطرق المشروعة لأمكن الوغول في مستنقعات المجون

ص: 356


1- تفسير الرازي، ج10، ص50.
2- الكافي، ج1، ص58، والمتفق على مضمونه بين علماء المسلمين قاطبة من دون استثناء.

والفساد وممارسة البغاء بل واللواط لإشباع هذه الغريزة الطاغية.

لقد خلق اللّه الإنسان وأودعه هذه الغريزة لضرورة التلاقي بين الجنسين لمواصلة النسل وديمومة الحياة ودعاه للزواج المبكر لضبط ذلك وكبح شهوته واباح له الزواج من أربع نساء بصورة دائمة، إلا أن الحالات المستثناة كانت ولازالت موجودة فالكثير من الناس ليس بوسعه الزواج الدائم من أربع بل بعضهم لا يسعه حتى الزواج من واحدة، فيا ترى ما هو الحل لإشباع تلك الغريزة الهائجة من جهة وكيف الإبقاء على الصون والاستعفاف من جهة أخرى، ولقد صدق أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي» كما مرّ، مما يعني أن لهذا الزواج دورا فاعلا في الصدّ عن الزنا والبغاء ولا شك في ذلك.

في الواقع أن زواج المتعة غالبا ناظر إلى الحالات والظروف الاستثنائية التي يمر بها الرجل أو المرأة، فلو تصورنا امرأة أرملة أو مطلقة وأخرى ممن فاتها قطار الزواج وبلغت من السن بحيث لا ترجو الزواج الدائم وأخرى لا يمكنها الإنجاب مثلا أو من لا يُرغب بها للزواج الدائم لأي سبب كان، فمثل هذه تكون بين خيارات وبدائل لا تحسد عليها..

فإما أن تعيش العزلة والحرمان عن العواطف والمشاعر التي تحتاجها كل أنثى وهي سنة الخلق ومصحة للبدن وسلامة للنفس وسعادة للروح وهي بذلك تعرّض نفسها لمضض العيش وهو جهد وجهاد عظيم بالنسبة لها

وإما أن تهبط إلى مستوى الساقطات وتمارس الرذيلة والحرام وبذلك تكون مبتذلة رخيصة ساقطة قد خسرت سعادة الدنيا والآخرة لما في ذاك من

ص: 357

عار في الدنيا ونار في الاخرة نعوذ باللّه.

وإما أن توافق على الزواج من رجل لفترة طويلة أم قصيرة تلبي فيها بعض رغبتها وتستر نفسها شرعا وتستغني بالحلال.

وحتى لو فُرض أن زوجها المؤقت يريدها لبعض الأحيان وفي بعض الحالات كما لو كان يسافر إليها بعض الوقت أو غير ذلك فإن الحلال المعتمد على الشروط المتبادلة والتوافقات أفضل بكثير من لا شيء أو من الوقوع في الحرام والفساد والعار والفقر والاستغلال ممن لا حريجة له في الدين.

نعم إنه زواج قائم على شروط وعقد واتفاق شرعي ويمكن أن يكون قانونيا مسجلا يحتفظ فيه الطرفان على كامل ما يتفقان عليه من حقوق، فيمكن للمرأة أن تشترط على الرجل في العقد أمورا وتلزمه بما تريد فإن وافق وإلا رفضت الزواج منه.

هذا كله من حيث هي وأما من جهة الرجل فإذا ما فرضنا عدم تمكنه من الزواج الدائم كما هو الحال في زمننا هذا، حيث الشاب لا يجد فرص العمل ولا يتمكن من توفير السكن فلا يجد لنفسه سبيلا للزواج الدائم في ظل مثل هذه الظروف، فيا ترى ما هو الحل وكيف يستجيب لضغوط غرائزه العاطفية والجنسية، فهل يحاول خداع هذه وتلك ليصل الى مراده باللعب بمشاعر الفتيات والتحايل عليهن أم يخطط للجريمة والاغتصاب أم يقع فريسة شهواته الجامحة ليمارس غايته مع أمثاله فيكون لائطا مثليا أم يعيش الضغوط النفسية ويتحمل تبعات ذلك من العُقد والامراض النفسية؟!!.

ص: 358

وإذا القينا نظرة على واقع الحال في مجتمعاتنا لم نكن مكابرين لو قلنا أن الكثير بل الأغلب من الشباب والفتيات يتواصلون فيما بينهم لاسيما بعد توفر الاجهزة الذكية ومواقع التواصل في الانترنت ويتلاقون ويجري ما يجري بينهم مما لا يرضاه اللّه ولا الدين ولا العقل ويأباه ذووا العفة والشرف وما ذلك إلا لعدم التمكن من الزواج الدائم أو لا أقل هو السبب البارز والرئيس في ذلك.

فصحّ أن يكون البديل وأفضل الحلول لمثل هذه الحالات هو الزواج لفترة مؤقتة دون تكفل للنفقة والسكن الأمرين المثقلين لكاهل الرجل مع إمكان عدم الإنجاب حيث يجوز للمتزوج متعة أن يمتنع عن الإنجاب، كما لا يحول دون تحقق هذا الزواج عدم توفر بعض التوقعات والشرائط عند الطرفين، فليس هو بالزواج الدائم لتحول الشرائط الكثيرة لكل منهما عن تحققه بل هو لقاء لفترة يمكن فيه التغاضي عن كثير من التوقعات والرغبات الخاصة عند الطرفين، هذا كله فضلا عن موضوع الدِّين والأخلاق والتقوى والحلال والحرام فإن من الواضح أن الدين يحرّم العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة بمعنى الصداقة والمرح وتبادل الكلمات المثيرة والمعبرة عن التودد وما شابه إلا بعقد شرعي، كذلك التواجد في أماكن الخلوة والمغلقة بين الطرفين، والحل الأمثل شرعا لمثل هذه الأمور هو العقد الشرعي ولو لفترة مؤقتة.

سؤالان:

الأول: قد تسأل طالما أنه زواج شرعي وضروري فلماذا تأنف المرأة أو

ص: 359

الرجل أن يقال هذا يتزوج متعة أو تلك تتمتع؟

الجواب: إن الهالة الحادثة حول موضوع الزواج المؤقت والترفع الحاصل منها ما هي إلا بسبب الارتكازات العالقة في أذهان الكثير من مجتمعاتنا المتأثرة بشجب الآخرين ونظرتهم السلبية إلى ذلك ومكابرتهم برميهم هذه الطائفة بالفساد من هذه الجهة وهو ادّعاء باطل بعد ما تبين من الدليل الشرعي جواز ذلك من غير ضرورة فضلا عن الحالات النادرة والضرورية التي يكون زواج المتعة فيها راجحا وعلاجا ناجعا وبه يصان الخدر وتحفظ الكرامة وينتشل كثير من شباب اليوم ونساءه من مستنقع الرذيلة والفساد الذي طفح وظهر للعلن ولا مكابرة من هذا الادعاء بعد المجاهرة بذلك ولذلك عدّ أهل البيت (عليهم السلام) في بعض كلماتهم نكاح المتعة من الرحمة التي فتحها اللّه تعالى للناس فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٖ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}((1))، قال (عليه السلام) منه المتعة((2)). أي أن إباحة جواز نكاح المتعة مما فتح اللّه تعالى من الرحمة الإلهية للعباد.

الثاني: ما هو الفرق بين هذا اللقاء المؤقت على مبلغ ترتضيه المرأة مع دور البغاء والفاحشة؟ هكذا قد يتسارع البعض ويقيس هذا الزواج بما تقوم به المومسات من تجارة البغاء ويقول ما الفرق في ذلك فإنما هي تجارة من أجل كسب المال من جهة وإشاعة الدعارة من جهة أخرى؟!

ص: 360


1- فاطر: 2.
2- جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص7، ح 23.

ولكن الحق ان هذا قد غفل عن أن المتعة نكاح يتضمن عقدا وشروطا، وليس الأمر دائما يكون على أساس المال، وإنما هو مهر كالمهر في الزواج الدائم، وبعض الأحيان لا يكون المهر مالا صرفا بل يكون شيئا يرمز إلى المهر كمبلغ متواضع أو قطعة قماش أو قارورة عطر أو ما شابه اذ قد يكون الهدف من ذلك كما قلت هو طلب العفة والاكتفاء بما أحله اللّه تعالى، ثم إن في هذا اللقاء شروطا مهمة مثل العدة لئلا تختلط المياه وله القدسية حيث تصان المرأة بهذا الزواج وتصبح محصنة لا يحق لها العلاقة غير المشروعة مع غير زوجها ولا يحق لأحد النيل من شرفها فهي متزوجة بكل معنى الكلمة، ولها أن تشترط الانجاب، وأما كونها بعد انتهاء فترة العقد لها أن تقبل المتعة مع شخص آخر فهي كالمطلقة والأرملة التي تتزوج بعد طلاقها أو بعد وفاة زوجها، وعلى أي حال هو وهي كل منهما شخص وإنسان له مشاعره واحتياجاته المشروعة بل والضرورية فما الضير من ذلك طالما هو في الدائرة المشروعة.

سؤال محرج:

ومما يشكل البعض على زواج المتعة بقوله جدلا مثيرا لحفيظة من يناقش في ذلك: (هل تحب ان يفعل ذلك مع أختك أو بنتك أو..؟؟

والجواب على مثل هذا واضح بعد أن تبين أن أصل إباحة نكاح المتعة إنما هو لمن يريد التعفف من الوقوع في الحرام حيث هاجت به شهوته ولا زوجة له أو هي الأخرى هاجت بها شهوتها ولا زوج لها وليس هو أو هي ممن يقدر على كبح الشهوة، مع إن الأمر قد يختلف عند كثير من أهل

ص: 361

الإيمان والتقى ممن يكونوا مستغنين ومستعففين من حيث الزواج أو كانوا منزهين أنفسهم عن تلبية شهواتهم.

ثم إن هناك الكثير من المباحات التي لا يفعلها الناس لما يرون فيها ما لا يليق وشانهم ومكانتهم، وهكذا هي الأمور تختلف مستوياتها وايجابياتها وسلبياتها عند مختلف طبقات الناس فقد يليق الشيء للبعض ولا يليق بالآخر ليس لكونه محرما بل لعدم مناسبة ذلك وشأنه وهذا ما يعرف بملاحظة المروءة، فمثلا الجري مفيد للإنسان ونافع لصحته وعضلاته ويعد رياضة له ولكن هل يحسن بعالِم القوم وكبيرهم ومعلمهم أو الشيخ الكبير والوقور أن يجري ويركض أمام الناس؟!! مع أن ذلك لا يستقبح من الصبية والشباب، وكذلك مثال الأكل ماشيا وسط السوق وأمام المارّة، فضلا من أن الحوار العلمي لابد وأن يكون طبق الأسس العلمية لا على أساس (هل نفسك ترغب بهذا وأنت تفعل هذا أم لا)، ولذلك نرى في الرواية الآتية أن الإمام الباقر (عليه السلام) أعرض عن جواب من سأله ذلك السؤال بعد حوار علمي، فإنه (عليه السلام) قد عرض عليه دليل القرآن والسُنّة وحكم اللّه تعالى في الإباحة وإذا بالآخر يسأله هل تحب ذلك لأهلك؟! غير واع ومميز بأن الدليل على إباحة الحكم شيء والعمل بذلك وعدمه شيء آخر، نلاحظ ذلك في هذه الرواية التي يرويها زرارة:

قال جاء عبد اللّه بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (الإمام الباقر) (عليه السلام) فقال له ما تقول في متعة النساء فقال أحلها اللّه في كتابه على لسان نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي حلال إلى يوم القيامة فقال - أي السائل - أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد

ص: 362

حرمها عمر ونهى عنها؟!! فقال (عليه السلام) وإن كان فعل، قال إني أعيذك باللّه من ذلك تحلّ شيئا حرّمه عمر؟! قال فقال له فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهلم اُلاعنك أن القول ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن الباطل ما قال صاحبك، قال فأقبل عبد اللّه بن عمير فقال يسرّك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض عنه أبو جعفر (عليه السلام) حين ذكر نساءه وبنات عمه((1)).

ولا يخفى أن الحرب الشعواء التي شنت على الشيعة والتشنيع عليهم وواستنكار ذلك عبر القرون والأجيال كان من اهم الأسباب التي دعت إلى تجنب هذا الزواج وترك الاشهار به والتكتم في ممارسته وعدّه معيبا، وأما لو ترك هذا الحكم كسائر أحكام الدين التي باشرها المؤمنون لما تحرج من ممارسته سائر المسلمين سيما من اضطر إليه، ومن هنا ينبغي اخذ الملاحظة الآتية مدّ الاعتبار وهي:

ملاحظة اخيرة

فلابد من التنويه هنا لما ينبغي فيما يرتبط بهذا الزواج، فأقول - مع جواز وصحة ذلك شرعا بل وحصول الثواب على هذا الزواج مع ذلك كله - ينبغي للمؤمن العاقل الصائن نفسه عن الحرام (كالمتزوج) أن يتجنب ذلك إلا للضرورة، وذلك مراعاة ومداراة للنظرة المرتكزة عند الأغلب من الناس وأيضا لئلا يكون جلّ اهتمامه إشباع رغبته الجنسية، فإن المؤمن لمشغول

ص: 363


1- جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص5.

عن ذلك كما هو مشغول عن شهوة اشباع البطن بأنواع لذائذ الطعام وإن حلّ له ذلك ومشغول عن كثير من الشهوات المباحة لأنه حريص على ملء وقته بما يبني له مستقبلا نافعا لدنياه وكذلك لآخرته، ولعل من أجل هذا جاءت بعض التوصيات من بعض الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم من تجنب المتعة فقد روي.. عن الفتح بن يزيد قال سألت أبا الحسن (الإمام الرضا) (عليه السلام) عن المتعة فقال هي حلال مباح مطلق لمن لم يغنه اللّه بالتزويج فليستعفف بالمتعة فإن استغنى عنها بالتزويج فهي مباح له إذا غاب عنها((1)).

ورواية اخرى كتب أبو الحسن (عليه السلام) إلى بعض مواليه: لا تلحّوا على المتعة إنما عليكم إقامة السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم وحرائركم...((2)).

وخلاصة القول نفهم من ذلك كله أن هذا الزواج إنما كان زيادة في العفة لمن لا يجد الزواج الدائم وهو من الرحمة الإلهية لصون النفس عن الحرام وفي نفس الوقت هو قائم على شرائط وقيود ترتكز على حفظ الكرامة والستر فهو مباح بشكل عام كما أنه علاج ناجع عند الضرورة لصون النفس عن الحرام.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 364


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، ابواب المتعة، الباب الخامس، الحديث الرابع.
2- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، ابواب المتعة، الباب الخامس، الحديث الثاني.

الفصل الرابع: مفارقات في فريضة الصلاة

اشارة

1- الاختلاف في الوضوء

2- اجزاء الاذان

3- فوارق اربعة

4- السجود على التربة

5- الجمع بين الصلاتين

ص: 365

ص: 366

(1) الاختلاف في الوضوء

اشارة

لماذا يختلف الوضوء عند الشيعة عن الوضوء المتعارف عند المذاهب الأخرى من المسلمين.

نعلم أن المسلمين من أبناء العامة والمسلمين من الشيعة يختلفون في طريقة أداء وضوئهم للصلاة حيث أن الوضوء عند المذهب الجعفري هو غسل الوجه مرة واحدة وجوبا وأخرى استحبابا ولا ثالثة في البين ثم يغسلون اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع غسلة واحدة والثانية مستحبة ولا ثالثة ملتزمين بالشروع من المرفق إلى الأصابع وليس العكس حيث يريقون الماء من فوق مرفق اليد ثم يمررونه إلى رؤوس الاصابع، ثم يمسحون مقدم الرأس بالبلل الباقي بالكف وبعد ذلك يمسحون ظاهر القدمين بنفس البلل المتبقي مرة واحدة لا أكثر بينما غيرهم من غالب طوائف المسلمين يغسلون الوجه ثلاثا واليدين ثلاثا شارعين بالغسل من الأكف وأطراف الأصابع ثم يرفعون أيديهم لينزل ماء الوضوء من عند الكف الى حيث مرفق اليد وبعد ذلك يمسحون أغلب الرأس ثم يغسلون القدمين ثلاث مرات.

فلك أن تتساءل عن سبب هذا الاختلاف.

ص: 367

إذن لنقف باختصار في توضيح دواعي الاختلاف في طريقة الوضوء. والكلام تارة يكون عن غسل اليدين وأخرى عن مسح القدمين وهكذا تارة بملاحظة آية الوضوء ومناقشة ذلك وأخرى بملاحظة الأحاديث التي وردت عن الشريعة ولنبدأ أولًا بملاحظة الآية المباركة في موضوع غسل اليدين وثم مسح القدمين.

الجهة الأولى ملاحظة الآية:

قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ}((1)).

(غسل اليدين)

أما غسل اليدين إلى المرافق فيذكر فقهاء ومفسروا الشيعة استنادا إلى ظاهر الآية وإلى الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) إن المراد من الآية تحديد موضع الغسل من سائر اليد وليس لجهة تعيين بداية الغسل ونهايته، بل ذلك أمر مسكوت عنه وهو عائد إلى الحالة الطبيعية في غسل اليد، وذلك لأن اليد تطلق على الكف والساعد والعضد حتى الكتف ولأن المتعارف لمن يؤمر بغسل يده أن يبادر إلى غسل كفيه إلى الزند عادة ويكتفي بذلك، فحددت الآية محل الغسل وهو من المرفق وإلى أطراف الأصابع حتى لا يُكتفى بغسل الكفين فقط ولا يتوهم وجوب غسل اليد

ص: 368


1- المائدة: 6.

كلها إلى حيث الكتف، وأما من أين يبدأ بصب الماء هل من المرفق أم من جهة الأصابع؟ فهذا أمر لم تشر له الآية.

وليس في كلمة (إلى) في الآية إشارة إلى ضرورة إبتداء غسل اليد من رؤوس الأصابع وانتهائه بالمرفق سواء أفادت معنى انتهاء الغاية أم افادت معنى المعية كما في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ}((1))، لأنها في كلا الحالين تحدد الموضع الذي يراد غسله، كما ذكروا ذلك في مظانه، وأما من أين يُشرع في صب الماء على اليد ومن أين تُغسل فقد كفلت ذلك الروايات وبينت ضرورة أن يبدأ الغسل من الأعلى بإتجاه الأسفل أي من المرفق وليتيقن غسله للمرفق ايضا يبدأ من أعلاه قليلا ثم تغسل اليد نكسا ونزولا إلى أطراف الأصابع وهي الطريقة المتعارفة.

ومثال ذلك أنك لو أتيت بصباغ لدارك وقلت له أريدك أن تصبغ الجدار من الأرض إلى إرتفاع مترين، فانك تريد تحديد الموضع الذي ينبغي أن يطليه بالصبغ وليس أنك تريد ان يبدأ بالطلاء من الأسفل إلى الأعلى، بل ذلك مخالف للطريقة المتعارفة، وهكذا نلاحظ الإنسان حينما يغسل كامل يده في الحالة الطبيعية فهو يغسلها مبتدأ من الجهة العليا، ولهذا أجمعت الأُمّة على صحة غسل اليد في الوضوء مبتدأ مِن المرفق كما يفعله الشيعة، وهذا هو ظاهر الآية كما يذكره المفسرون((2)).

ص: 369


1- النساء: 2.
2- يراجع تفسير الميزان وتفسيرالأمثل وغيرهما.

وسنذكر إن شاء اللّه ما ورد من نص في كيفية وضوء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي هو أصل السُنة وأساس الشريعة.

وأما غير الشيعة فيرى بعضهم أن (إلى) في الآية تشير الى أولوية البدء بالغسل من أطراف الأصابع ثم الانتهاء به إلى المرفق باعتبار افادتها معنى انتهاء الغاية كما سياتي.

مسح القدمين
اشارة

وأما مسح القدمين، فذلك لجهتين، واحدة لظاهر القرآن الكريم وثانية لما ورد في الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) وعن غيرهم أيضا في كيفية وضوء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما سيتضح.

اولاً: ظاهر الآية:

نلاحظ أن الآية المباركة ذكرت (وأرجلكم) بعد (امسحوا برؤوسكم) وهو عطف واضح معروف في لغة العرب يستوجب مسح بعض الرأس لأن الباء في (برؤوسكم) للتبعيض فلابد من مسح بعض القدم كما يمسح بعض الرأس، ولا يضر بذلك وجود قراءتين مشهورتين لكلمة (أرجلكم) في الآية، واحدة بالنصب (أرجلَكم) وأخرى بالجر (أرجلِكم) فلا ضير في ذلك حيث لابد في كلا القراءتين من إرادة العطف على (رؤوسكم) إما عطفا على لفظها في حالة جر (أرجلِكم) أو عطفا على محلها في حالة نصب (أرجلَكم) لأن محل (رؤوسِكم) منصوب بقوله (امسحوا) وإنما جُرّت لأجل حرف الجر (الباء)، وحينئذ يكون حكم القدمين كحكم الرأس في

ص: 370

وجوب المسح، وهذا ما ناقشه الرازي في تفسيره الكبير فليراجع((1)).

وأما من يدع ذلك ويعطف (أرجلكم) على (وجوهكم وايديكم) حتى يعطيها حكم الغسل أيضا فهو أمر شاذ وغريب بل قبيح في اللغة العربية - كما ذكره أهل الاختصاص - وذلك لوجود فاصل في الكلام بحكم آخر بين المعطوف والمعطوف عليه وهو ما يُستهجن، فتصور لو قال لك قائل: (اذا رجعت إلى الدار من محل عملك فاغسل يديك ووجهك وتعطَّر بثوبك ونحرك) فهل يعقل أن يحمل كلامه على أنه يقصد اغسل نحرك أيضا بمعنى

ص: 371


1- تفسير الرازي، ج11، ص161. هذا ما أورده الرازي في (تفسيره) حيث استطرد قائلا: حجة من قال بوجوب المسح مبنية على القراءتين المشهورتين في (وأرجلكم) فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب. فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس كذلك وجب في الأرجل... وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضا: إنها توجب المسح وذلك لأن قوله: (وامسحوا برؤوسكم) فرؤوسكم في محل النصب ولكنها مجرورة بالباء فإذا عطفت (الأرجل) على (الرؤوس) جاء في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس والجر عطفا على الظاهر وهذا مذهب مشهور للنحاة. إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله: (وأرجلكم) هو قوله: (وامسحوا) ويجوز أن يكون هو قوله: (فاغسلوا) لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى فوجب أن يكون عامل النصب في قوله (وأرجلكم) هو قوله: (وامسحوا) فثبت أن قراءة (وأرجلكم) بنصب اللام توجب المسح أيضا. فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ثم قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. انتهى كلام الرازي.

عطف كلمة نحرك على يديك ووجهك؟!! قالوا إنّ هذا أمر معيب في اللغة بل كان يفترض لو أراد ذلك أن يقول: (فاغسل يديك ووجهك ونحرك وتعطر بثوبك)، وحينئذ لو أرادت الآية غسل القدم أيضا كان يفترض أن تكون العبارة بهذا الشكل (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم) حتى يكون عطف الأرجل على الوجوه والأيدي بلا فاصل بحكم آخر، وهذا امر متفق عليه عند أهل اللغة((1)).

ثانيا: روايات أهل البيت (عليهم السلام)

الجهة الثانية: وهي ملاحظة ذلك من حيث السُنة والأحاديث:

من الواضح أن الفقه الشيعي يعتمد تفسير أهل البيت (عليهم السلام) في توضيح وشرح آية الوضوء، فبعد ان جاءت الروايات الصحاح عنهم في كيفية وضوء جدهم المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع موافقة ذلك لظاهر الآية فلا مناص حينئذ للمؤمن إلا الإمعان وقبول ذلك دون ترديد.

ص: 372


1- ذكر في البحر المحيط: «فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض بل هي منشئة حكما... قال الأستاذ أبو الحسن ابن عصفور وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل. فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب اللّه عن هذا التخريج» البحر المحيط، ج3، ص438. وقال الحلبي: «لامتناع العطف على وجوهكم، للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وامسحوا برؤوسكم) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة. ولم نسمع في الفصيح: ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف عمرا على زيد». غنية المتملي، ص16، يلاحظ كتاب حكم الأرجل في الوضوء للسيد الميلاني.

لقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث أجمع عليه المسلمون في عبارات متعددة في مضمون قوله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا»((1)). وقد جاءت عن أهل بيته (عليهم السلام) الروايات صريحة في بيان كيفية الوضوء الصحيح.

منها عن الامام الباقر (عليه السلام) بعد أن سأله زرارة: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال (عليه السلام) : يا زرارة قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجل، لأن اللّه عزّ وجل قال: (فاغسلوا وجوهكم) فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل. ثم قال: (وأيديكم إلى المرافق) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: (وامسحوا برؤوسكم) فعرفنا حين قال: (برؤوسكم) أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: (وأرجلكم إلى الكعبين) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما. ثم فسر ذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس فضيعوه((2)).

وهذه رواية أخرى صحيحة من ضمن مجموعة روايات جاءت لبيان كيفية وضوء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

في الكافي بسند صحيح عن زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب - أي قدح - فيه شيء من ماء ثم وضعه بين يديه ثم حسر عن ذراعيه ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة، ثم غرف فملأها ماءً فوضعها على جبينه ثم قال:

ص: 373


1- صحيح مسلم، ج7، ص123، دار الفكر بيروت.
2- وسائل الشيعة، ج1، ص290-291.

بسم اللّه وسدله على أطراف لحيته ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرّة واحدة ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى وأمرَّ كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ومسح مقدَّم رأسه وظهر قدميه ببلِّة يساره وبقية بلِّة يمناه، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام) : إنّ اللّه وتر يحب الوتر فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من بلِّة يمينك ظهر قدمك اليمنى وتمسح ببلِّة يسارك ظهر قدمك اليسرى((1)).

من مصادر العامة:

وللعلم ورد ذلك أيضا في بعض مصادر أهل السنة:

1- في كنز العمال عن علي (عليه السلام) قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مسح على ظاهرهما»((2)).

2- عن رفاعة بن رافع أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال للمسيء صلاته: «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه، يغسل وجهه ويديه إلى

ص: 374


1- الكافي، ج3، ص25، باب صفة الوضوء الحديث الرابع.
2- كنز العمال، للمتقي الهندي، ج9، ص605، رقم 27609.

المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين»((1)).

وغير ذلك من الأحاديث التي يظهر منها فعل مسح القدمين لا غسلهما.

منشأ الاختلاف

تبين مما تقدم أن صورة الوضوء هي إحدى حالتين:

إما غسلتان ومسحتان غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وظاهر القدمين كما هو عند الشيعة.

وإما ثلاث غسلات ومسحة، غسل الوجه واليدين والقدمين ومسح الرأس فقط كما هو عند غير الشيعة.

وقد يتصور من خلال ما تقدم أن منشأ ذلك هو مجرد الفهم الخاص للآية والروايات المبيّنة لكيفية ذلك لاسيما وأن لمن يقول بالغسلات الثلاث روايات تعضد ما يقول.

ولكن للحق والإنصاف ليس أصل المنشأ هو ذلك بل هناك من عمد إلى تأصيل الصورة الثانية وخلق صورة نزاع وخلاف في الأمر وجهد لوضع أسانيد متعددة تنتهي إليه يحكي فيها عن الغسلات الثلاث وزعم أنه رأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتوضأ بذلك الشكل وذلك هو عثمان بن عفان وبعض من آزره على تركيز ذلك بعد عقدين من رحيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن الغريب أن يقع ذلك الخلاف بعد عقدين من الزمن، والحال لازال الكثير ممن عاصر النبي ورأى وضوئه خلال ثلاثة عقود من حين الهجرة وإلى سنيّ حكومة

ص: 375


1- السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص262.

عثمان بن عفان ولم يطرح ذلك الخلاف، فكيف فجأة طرح الخليفة وآزره بعض مواليه من أن الوضوء الصحيح هو ما رآه هو وليس كما يقوله الآخرون؟!!!

لكننا لا نخوض ذلك هنا لان الغرض هو بيان دليل الشيعة على وضوئهم باختصار وليس الخوض في نقاش واسع ومن أحبّ الوقوف على التفصيل عليه مراجعة كتاب (وضوء النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) للسيد علي الشهرستاني.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 376

(2) الشيعة وأذان الصلاة

اشارة

الأذان لغة: الإعلان عن الشيء قال تعالى: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ}((1)) اَي أخبرهم وأعلن لهم موضوع الحج.

وما نريد الخوض في ملابساته هو الأذان الذي يُرفع في الإعلان عند دخول أوقات الصلوات اليومية وما فيه من مفارقات بين الأذان الذي يرفع في مساجد ومنتديات الشيعة عن غيره لدى أبناء العامة.

لا يخفى أن هناك اختلافا في كيفية الأذان والإقامة للصلاة وعدد فصولهما لدى المسلمين الشيعة عن الأذان والإقامة عند ابناء العامة، إذ يعلن الشيعة في اذانهم الشهادة بالولاية للامام علي (عليه السلام) بعد الشهادة للنبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) برسالته وأنهم يقولون (حيّ على خير العمل) بعد قولهم (حيّ على الفلاح) كما انهم لا يقولون في أذان صلاة الفجر (الصلاة خير من النوم) بينما يقول ذلك غيرهم.

الاختلاف علمي فقهي

بما أن المسألة مستنتجة من النصوص والروايات المعتمد عليها لدى

ص: 377


1- الحج: 27.

الطرفين فيعد الاختلاف مبنيا على مصادر التشريع عند المدرستين، ومن الطبيعي أن يكون الأذان عند الشيعة حسب النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) واجتهاد فقهاء الشيعة في ذلك.

الأذان عند أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لما هبط جبرئيل (عليه السلام) بالأذان على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان رأسه في حجر علي (عليه السلام) فأذن جبرئيل (عليه السلام) وأقام فلما انتبه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: يا علي سمعت؟ قال: نعم، قال: حفظت؟ قال: نعم قال: ادع بلالا فعلمه، فدعا علي (عليه السلام) بلالا فعلّمه»((1)).

يتضح من ذلك أن فصول الأذان هي مما نزل بها جبرائيل (عليه السلام) وحياً من اللّه تعالى على صدر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

لقد بينت بعض الروايات مقاطع وفصول هذا الأذان، فعن المعلّى بن خنيس قال: سمعت أبا عبد اللّه (الصادق) (عليه السلام) يؤذن فقال: «اللّه أكبر اللّه أكبر، اللّه أكبر اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمدا رسول اللّه أشهد أن محمدا رسول اللّه، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل، اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه لا إله إلا اللّه»((2)).

اذن طبق هذه الرواية فإن فصول الأذان هي ثمانية عشر فصلا ونلاحظ فيه

ص: 378


1- الكافي، ج3، ص302.
2- وسائل الشيعة، ج5، ص416.

خلوه عن ذكر الشهادة الثالثة بالولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وهو ما يقوله الشيعة اليوم في اذانهم وخلوه عن القول (الصلاة خير من النوم) والذي يقوله أهل السنة في أذان صلاة الفجر، ولكنه يشتمل على (حي على خير العمل) الفصل الذي لا يذكره أهل السنة في أذانهم.

وبالتاكيد تبادر إلى هذنك سؤال باستغراب وهو: كيف ولماذا إذن يشتمل اليوم أذان الشيعة على قول: (أشهد أن عليا ولي اللّه)؟ سيأتي الجواب بعد أسطر ان شاء اللّه.

اذن هناك فوارق ثلاثة في أذان الشيعة عن أذان أبناء العامة، وهي (الشهادة الثالثة) وقول (حي على خير العمل) وعدم قول (الصلاة خير من النوم)، فلنقف عندها موضحين سبب ذلك إن شاء اللّه.

اولا: الشهادة الثالثة:
اشارة

عرفنا ان هذه الشهادة لم تكن في فصول أذان الإمام الصادق (عليه السلام) فمن أين يذكرها الشيعة اليوم في اذانهم وهل يجوز ذلك؟

قالوا في جواب ذلك:

1- اولاً قد يؤتى ببعض المقاطع من الكلام لا على انه جزء منصوص عليه من أجزاء الأذان بل لأنه كلام مناسب وفي محله، يشبه ذلك قول المؤذن (جل جلاله وعزّ شأنه) بعد قوله (اللّه أكبر اللّه أكبر) فهو ذكر من الأذكار.

وحتى لو عُدّ أمثال ذلك كلاما خارجا وزائدا فلم يقل فقهاء الاسلام عموما بعدم جواز الكلام خلال الأذان أو أن ذلك يبطله مالم يكثر من

ص: 379

الكلام بحيث تنقطع المولاة بين فصوله((1)

فإذا ذكر المؤذن في ضمن فصول الأذان شهادة منه أن عليا (عليه السلام) ولي اللّه كما هو يعتقد وجدلا قلنا انه كلام خارج عن فصول الأذان فلا ضير في ذلك طالما لا يعده جزءا من أجزاء الأذان، فالأذان بما هو أذان قد وقع وحصل وفي الضمن كانت شهادة ثالثة صحيحة لم تُعد من أجزاء الأذان.

فلو أشكل احدٌ وقال كيف ذلك والأذان عمل عبادي توقيفي يقال في جوابه نعم ولكن لم تقصد الجزئية له في تلك المفردات من الكلام ولم يضف شيء إلى الأذان على أنه جزء من الأذان وإنما مجرد كلام تخلل الأذان مع مناسبة ما، والاذان بنفسه تحقق في الواقع وتأدّى، وبذلك تمّ فعل ما هو المطلوب شرعا.

2- ثانيا لم تأت هذه الشهادة الثالثة عن فراغ بل هي أمر محبوب عند اللّه تعالى، ونعتقد أن قول ذلك بنفسه فيه الثواب من اللّه تعالى والشيء الذي يثاب عليه الإنسان لاشك أنه أمر محبوب ومحبذ ومطلوب، وذلك من لحاظين:

اللحاظ الأول: كون ذكر علي (عليه السلام) - بذاته - عبادة بنفسها، كما ورد ذلك في الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بطرق متعددة منها ينتهي الى عائشة، قالت: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ذكر علي عبادة((2)).

ص: 380


1- لاحظ كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري حيث يفهم منه القول بجواز الكلام في الأذان. فتح الباري، أبواب الأذان، الكلام في الأذان، ص60.
2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ج27، ص408، ح 907.

اللحاظ الثاني: لورود روايات تحبذ القِران والجمع بين ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذكر الإمام علي (عليه السلام) بحيث إذا ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يذكر أيضا أمير المؤمنين (عليه السلام) .

من ذلك ما رواه شاذان بن جبريل في كتابه الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من قال لا إله إلا اللّه فتحت له أبواب السماء ومن تلاها بمحمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تهلل وجه الحق سبحانه وتعالى فاستبشر بذلك ومن تلاها بعلي ولي اللّه غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت بعدد المطر((1)).

ونقل السيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) ذلك في كتابه شرح إحقاق الحق عن مصادر أهل السنة ايضا((2)).

وفي كتاب الاحتجاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ وجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، ولما خلق اللّه عزّ وجل الماء كتب في مجراه: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، ولما خلق اللّه عزّ وجل الكرسي كتب على قوائمه: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين، ولما خلق اللّه عزّ وجل اللوح كتب فيه: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين... إلى أن قال (عليه السلام) : فإذا قال أحدكم لا إله إلا اللّه، محمد

ص: 381


1- كتاب الروضة في فضائل امير المؤمنين، شاذان بن جبرئيل القمي، ص23.
2- شرح إحقاق الحق، ج6، ص442، عن مصادرهم، قال ومنهم العلامة ابن حسنويه في «در بحر المناقب، ص2 مخطوط» من علماء العامة ذكر الحديث بلفظ «ولو كانت بعدد قطر المطر».

رسول اللّه فليقل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) »((1)).

وما يفعله الشيعة من ذكر علي (عليه السلام) في الأذان هو مصداق من مصاديق هذه الأحاديث، ومن ثمّ عدّ كثير من فقهاء الشيعة الشهادة الثالثة في الأذان على هذا النحو ومن هذه الجهة كما سيأتي.

التسامح في أدلة السنن

قد يقال هل هذه الروايات على درجة من الصحة والوثاقة بحيث يمكن اعتمادها دليلا على ذلك؟

ذكر الفقهاء في الجواب عن ذلك وعن بعض أدلة الأعمال المندوبة وقالوا لا يضر أن لا تكون هذه الروايات وامثالها الدالة على حسن بعض الأعمال صحيحة الصدور بشكل تام وموثوق بل يمكن أن تكون بأسانيد ضعيفة، وذلك للتسامح في أدلة السنن حيث وردت روايات كثيرة ومنها صحيحة من أهل البيت (عليهم السلام) بيّنت أن من سمع بعمل مسنون منسوب الى الشريعة ثم أتى به طلبا للثواب فإنه يؤجر عليه وإن لم يكن ذلك الفعل مسنونا حقيقة، وكثير من الفقهاء عدّ ما يفعل من تلك الأعمال مستحبة وبعضهم عدّها اعمالا يؤجر فاعلها عليها وإن لم يعدها مستحبة في نفسها وذلك عملا بتلك الروايات الكثيرة التي استنبط الفقهاء منها قاعدة أسموها (قاعدة التسامح في أدلة السنن)، فإذا وردت الأحاديث وأخبرت بحصول الثواب بذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) منفردا أو ذكره بعد ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكون فعل

ص: 382


1- الاحتجاج، للطبرسي، ج1، ص230.

ذلك في الأذان عملا مرجوا عليه حصول الأجر والثواب وقد يقال باستحبابه. وبناءً على ذلك يكون ذكر الشهادة الثالثة في الأذان مما يرجى عليه الأجر والثواب وقد يعدّه بعضهم مستحبا حسب مبناه الفقهي.

روايتان في كون الشهادة الثالثة من الأذان.

هذا كله فضلا عما ورد من روايات صريحة في كون الشهادة الثالثة فصلا من فصول الاذان وبذلك تكون جزءا من الأذان.

لقد نقل صاحب كتاب مستدرك سفينة البحار، عن كتاب رسالة الهداية للشيخ محمد حسين آل طاهر عن كتاب السلافة للشيخ عبد اللّه المراغي المصري: أن سلمان الفارسي ذكر في الأذان والإقامة الشهادة بالولاية لعلي بعد الشهادة بالرسالة في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فدخل رجل على رسول اللّه فقال: سمعت أمرا لم أسمع قبل ذلك، فقال: ما هو؟ فقال: سلمان قد يشهد في أذانه بعد الشهادة بالرسالة، الشهادة بالولاية لعلي، فقال: سمعتم خيرا((1)).

وفيه رواية أخرى أن أبا ذر يذكر في الأذان بعد الشهادة بالرسالة ذلك، ويقول: أشهد أن عليا ولي اللّه، فأخبر بذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: كذلك أو نسيتم قولي في غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ الخ((2)).

ولكن للعلم أن أكثر الفقهاء لم يعتمد هاتين الروايتين بحيث يجزم بجزئية الشهادة الثالثة من الأذان، وذلك لأن كتاب السلافة والذي نُسب إليه

ص: 383


1- الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، ج6، ص85.
2- نفس المصدر.

ذلك غير متوفر ولم يُطلّع عليه إلا أنه يبدو أن بعض الفقهاء اعتمد ذلك وقال بجزئية ذلك من الأذان ربما اعتمادا على ما نقله صاحب كتاب الهداية وما نقله عنه صاحب مستدرك السفينة لكن أكثر فقهاء الشيعة لم يعدّوا الشهادة الثالثة جزءا من أجزاء الأذان التي لابد من ذكرها ليتم الأذان بصورته المشروعة بل صرحوا أن ذلك من المستحبات المطلقة في الأذان وغيره ولا ضير في إتيانها ضمن الأذان لا على أنها جزء منه بل لما ورد من فضل في ذكر الامام علي (عليه السلام) بعد ذكر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما مرّ((1)).

ثانيا: حي على خير العمل

لماذا نقول في الأذان (حي على خير العمل)؟

ص: 384


1- قال الغالب من الفقهاء في منهاج الصالحين وهو كتاب أحكام الشرع كتبه السيد محسن الحكيم ثم جاره في ذلك أكثر الفقهاء المتاخرين والمعاصرين، قالوا: (وتستحب الصلاة على محمد وآل محمد عند ذكر اسمه الشريف، وإكمال الشهادتين بالشهادة لعلي (عليه السلام) بالولاية وإمرة المؤمنين في الأذان وغيره. كتاب منهاج الصالحين. ويقول المرجع الراحل السيد سعيد الحكيم (رحمه اللّه) في منهاج الصالحين، في المسألة 123: ورد في بعض الأخبار أن من أجزاء الأذان الشهادة لعلي (عليه السلام) بالولاية وإمرة المؤمنين، إلا أنه حيث لم تثبت حجية الأخبار المذكورة فلا مجال للاتيان بها بنية أنها من أجزاء الأذان. نعم يحسن الاتيان بها لا بنية ذلك، بل برجاء ورود ذلك، وبما أنها شهادة حق جعلها اللّه من الفرائض التي بني عليها الاسلام، ولقوله (عليه السلام) في خبر الاحتجاج: (إذا قال أحدكم لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فليقل علي أمير المؤمنين) وعلى ذلك جرت الشيعة حتى صار شعارا لهم ورمزا للايمان. من دون أن يدعي أحد منهم أن ذلك جزء من الأذان أو الإقامة، فالتزامهم بها كالتزامهم بالصلاة على النبي وعلى آله (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) عند ذكر اسمه الشريف راجح من دون أن يكون جزءا من الأذان.

لا شك أن هذا القول يعدّ من فصول الأذان وأجزائه المنصوص عليها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كما مرّ آنفا، ولا ريب أنّ ترك هذا القول هو حذف لفصل من فصول الأذان الذي كان على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أذعن لذلك كثير منهم:

1- التفتازاني حيث ذكر أن (حي على خير العمل) كان ثابتا على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن عمر هو الذي أصر أن يكف الناس عن ذلك مخافة أن يتقاعس الناس عن الجهاد ويتّكلوا على الصلاة((1)).

2- نقل العلامة الاميني أن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: (ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل((2)).

ثالثا: الصلاة خير من النوم

وأخيرا لماذا لا نقول بما يسمّى بالتثويب((3)) أي قولهم في أذان الفجر

ص: 385


1- الشيخ احمد الوائلي في هوية التشيع، ص47، نقلا عن سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضدي على مختصر الأصول لابن الحاجب.
2- الأميني، في الغدير، ج6، ص223، نقلا عن كتاب السيرة الحلبية، ج2، ص110، باب بدء الأذان ومشروعيته. وعن كتاب شرح التجريد، القوشجي، أواخر مبحث الإمامة وهو من أئمة الأشاعرة.
3- التثويب في الأذان هو قول: الصلاة خير من النوم. قيل: إنما سمي التثويب من ثاب يثوب إذا رجع فان المؤذن إذا قال: حي على الصلاة فقد دعاهم إليها وإذا قال بعدها: الصلاة خير من النوم فقد رجع إلى كلامه).

(الصلاة خير من النوم)؟

اذا لاحظنا فصول الأذان التي وردت في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) نجدها خالية من ذكر (التثويب) كما يسمونه.

بل جاء في الحديث الصريح نفي كونه من أجزاء الأذان، فعن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن التثويب في الأذان والإقامة، فقال: ما نعرفه((1)).

وقد ورد أن هذا القول مما استحسنه عمر بن الخطاب أن يقال في أذان الفجر وذلك كما حكوا أنه قد جاءه المؤذن فوجده نائما فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح، هكذا ذكره مالك في كتابه الموطأ((2)).

وعلى أي حال نرى أن هذه الفوارق في الأذان ناتجة تارة من النصوص الدالة على اجزاء الاذان وفصوله وأخرى بسبب ما هو مسموح به شرعا وثالثة حدثت نتيجة الاستحسان والقول بالرأي.

نكتفي بهذا المقدار مما يناسب هذا المختصر من هذا الفصل هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 386


1- الكافي، ج3، ص302.
2- الموطأ، ص58، ح 151، ط بيروت.

(3) الشيعة وفوارق أربعة في الصلاة

اشارة

يتفق فقهاء المسلمين من أن العبادة ولاسيما الصلاة أمر توقيفي على ما يسنّه الشرع فلا ينبغي الزيادة أو النقيصة فيها إلا بما أذن الشارع كمثل الدعاء وتلاوة القرآن وغير ذلك.

وللّه الحمد لا تختلف قوام وأصل صورة الصلاة في أركانها الأساسية عند جميع طوائف المسلمين، فصورة الركعة عندهم جميعا واحدة وهي القيام في قراءة الحمد والسورة ثم الركوع والاعتدال منه ثم سجود سجدتين بينهما جلسة ثم القيام للإتيان بركعة أخرى مثلها ثم التشهد والتسليم.

ولكن هناك بعض الفوارق الجزئية من أفعال وأقوال لا تغير أصل صورة الصلاة ولكنها لظهورها جلية كانت مثارا للسؤال عن اسباب هذا الاختلاف ودواعيه لدى من يؤديها ومن يغفلها.

ومن ثَمّ كان من المناسب أن نناقشها هنا بما يتناسب مع هذا المختصر.

الفوارق البارزة والمهمة في الصلاة بالنسبة للجزئيات الصغيرة التي غير مثيرة للتساؤل هي أربعة كالآتي:

1- الجهر بالبسملة في كل الصلوات - الجهرية والاخفاتية - وهو ما

ص: 387

يفعله الشيعة ويجهر الشافعية بها في صلاة الجهر فقط ولا يفعله المذاهب الأخرى.

2- التكتف: وهو وضع اليد اليمنى على الأخرى حال القيام في القراءة وهو ما لا يفعله الشيعة ولا المالكية ويفعله بقية المذاهب.

3- القنوت وهو الدعاء قبل الركوع في الركعة الثانية وهو ما يفعله الشيعة ولا يفعله أتباع المذاهب الأخرى قاطبة.

4- التأمين وهو قول آمين بعد قراءة الحمد وهو ما لا يفعله الشيعة ويفعله غيرهم من المذاهب الأخرى.

وقبل الخوض في ذلك نقدّم مقدّمة.

الفقه والاستنباط المعذِّر

من الطبيعي جدا أن يقع الاختلاف في المسائل الفقهية بين الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام وفق مبان سلموّا بها أنها من ادلتها الصحيحة عندهم ويكون الفقيه معذورا عند اللّه تعالى لو كان عارفا بجميع ما يحتاجه الفقيه من ادواة وسبل استنباط الأحكام واستعمل ما يحتاج منها في استنباط حكم شرعي واستخراجه من الكتاب وسنة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو من المباني المسلّم بها أنها أدلة شرعية، فيكون ذلك الحكم حجة منجِزة عليه وعذرا بينه وبين الشارع المقدس.

وبما أن المباني والأسس والأدلة الفقهية قد تختلف عند الفقهاء فينتج من ذلك اختلاف في صدور الحكم وقبوله ورده، فمثلا لو فرضنا رواية تشير إلى فعل فعله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الصلاة وعدت رواية صحيحة السند عند فقيه

ص: 388

فعمل بها واعتمدها دليلا ومصدرا للحكم المستفاد منها ولكن فقيها آخر لم يثبت عنده وثاقة احد رواة تلك الرواية فلم يعتمدها لعدم وثوقه بالراوي ولم يتفق مع الفقيه الأول على ذلك الحكم وحينئذ يظهر هذا الخلاف على فتوى وافعال هذين الفقيهين وأتباعهما، وليس ذلك من المعيب طالما استند كل منهما إلى الأدلة الشرعية، والكلام في ذلك مفصّل وليس هذا محله.

فما نريده هو القول إن هذه الاختلافات طبيعية لدى الفقهاء وليس على سائر الناس أن يعرفوا أسبابها العلمية، وإنما نناقش هذه الأمور الأربعة هنا لمجرد أن يعرف المؤمن الشيعي سبب هذه الفوارق لكونها فوارق ظاهرة ومثارة للسؤال، فلنقف قليلا لنرى الدواعي وراء ذلك.

الجهر بالبسملة

اولاً: البسملة: أي قول (بسم اللّه الرحمن الرحيم) وهي عند المذهب الجعفري من أهم الآيات القرآنية، حتى تعد بركتها وآثارها عظيمة ووردت أحاديث كثيرة في بيان منزلتها وأنها أقرب إلى الاسم الأعظم، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها»((1)).

وقد أوجبها فقهاء الشيعة في الصلاة باعتبارها آية من سورة الحمد وعدّها بعضهم آية في كل السور القرآنية عدا سورة (براءة) كما هو المشهور عندهم، وتدوينها بداية كل سورة منذ عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كتاب اللّه يشير

ص: 389


1- وسائل الشيعة، ج6، ص57.

إلى ذلك فلابد من قراءتها وجوبا جهرًا في الصلوات الجهرية وأما الصلوات الاخفاتية فيستحب الجهر فيها كما يجوز الإخفات بها، وبما أنها آية كسائر الآيات القرآنية وبما أن نصوصا دلّت على وجوب الإتيان بها فإن التعمد في تركها في الصلاة أو تعمد عدم الجهر بها في الصلاة الجهرية يعد مبطلا للصلاة.

واستند فقهاء الشيعة إلى نصوص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن ذلك:

1- عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد اللّه الإمام الصادق (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟ قال نعم قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم من السبع؟ قال نعم هي أفضلهن((1)).

نلاحظ أن الإمام (عليه السلام) عدّها أفضل آية في سورة الحمد فضلًا عن أنها جزء منها.

2- عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إذا قمت للصلاة أقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم في فاتحة القرآن؟ قال: (نعم) قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال: نعم((2)).

3- عن الإمام الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: والاجهار ببسم اللّه الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سُنّة((3)).

ص: 390


1- وسائل الشيعة، ج6، ص57.
2- الكليني، الكافي، ج3، ص312؛ وفي كتاب عيون الأخبار، للشيخ الصدوق، عن الفضل بن شاذان.
3- كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، ج2، ص123.

4- عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حديث مشهور لدى المؤمنين من الشيعة يعدّ فيه الجهر بالبسملة من علامات المؤمن، فروي عنه (عليه السلام) أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم((1)).

ومن المؤكد أن حديث أهل البيت أقرب إلى القلب من حديث غيرهم، هذا لدى المذهب الشيعي.

وأما المذاهب الأخرى فمنهم من عدّها آية في سورة الحمد فقط ومنهم من عدها آية في كل السور ومنهم من أسقطها حتى من سورة الحمد ومنهم من فضّل الإخفات بها، ويمكن مراجعة ذلك في مظانه لمن أراد التفصيل.

المهم الذي أجمع عليه المسلمون أنه لا ضير في قراءتها في الصلاة، وبذلك يكون ما يفعله الشيعة من قراءة البسملة في الصلاة هو أمر لا خلاف في صحته عند جميع المذاهب الإسلامية.

التكتف في الصلاة

ثانياً: التكتف، وهو وضع إحدى اليدين على الأخرى حين قيام المصلي في الصلاة فهذا مما لا يفعله الشيعة في صلاتهم ويعدّ ذلك عندهم فعلا زائدا لم يثبت أن فعله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل هو فعل قد نُهي عنه، كما في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وهم أعرف بصلاة جدهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذه بعض الروايات:

1- عن الإمام علي (عليه السلام) قال: «لا يجمع المسلم يديه في الصلاة وهو قائم

ص: 391


1- بحار الانوار، ج98، ص329.

بين يدي اللّه عزّ وجل يتشبه بأهل الكفر يعني المجوس»((1)).

2- وروى محمد بن مسلم عن أحدهما - الصادق أو الباقر (عليهما السلام) - قال: «قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة وحكى اليمنى على اليسرى، فقال: ذلك التكفير لا يفعل»((2)).

وأما فقهاء العامة واتباعهم باستثناء المالكية يفعلون ذلك لروايات عندهم لم تثبت صحتها عند علماء الشيعة بل وعند بعض العامة أيضا ومن ثمة التكتف مكروه عند المالكية في الفرائض.

وعلى أي حال ما يفعله الشيعة من إسبال اليدين في الصلاة وعدم التكتف هو مما أجمع المسلمون على جوازه وصحته أيضًا.

التأمين

ثالثًا: قول آمين، وهي بالتخفيف من دون شدة على الميم فهي ليست (آميّن) كما يلفظها البعض خطأ، لان هذه معناها جمع لفعل (أمّ يؤمُّ) ومنه قوله تعالى (آمّين البيت) اي قاصديه - وهي كلمة يقولها ابناء العامة بعد قراءة الحمد في صلواتهم بينما يتجنبها الشيعة ويستحب عندهم قول (الحمد للّه رب العالمين) فما هو وجه الخلاف؟

لقد ذكروا أن هذه الكلمة اذا عُدّت جزءا من الصلاة فهي زيادة لم تكن في تشريع الصلاة وكل زيادة مبطلة الاّ ما استثني من الدعاء وقراءة القران والذكر

ص: 392


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 15.
2- وسائل الشيعة، ج5، ص266، ح1، باب 15، من أبواب قواطع الصلاة.

وما شابه، وليست هي قرآنا ولا تسبيحا أو تهليلًا ولا حتى دعاءً لأنها في اللغة اسم فعل بمعنى (استجب) اي إن كلمة استجب بنفسها فعل طلب الاجابة فيمكن ان تقع دعاءً ولكن (آمين) هو اسم لذلك الفعل وليس بنفسه دعاء.

قال الزمخشري: هو صوت سُمّي به الفعل الذي هو استجبْ، كما أنّ (رويد، وحيّهل، وهلمّ) هي أصوات سُمّيت بها الأفعال التي هي (أمهل وأسرع وأقبل)((1)).

هذا فضلًا عن أن الشيعة يتبعون أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي مصادر أحاديث أئمتهم روايات صريحة في النهي عن ذلك، من ذلك:

1- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قرائتها فقل أنت الحمد للّه رب العالمين ولا تقل آمين»((2)).

وهي رواية معتبرة عند الفقهاء، وهناك نصوص أخرى في ذلك.

وعلى ضوء هذا النهي الصريح من إمامهم اعتُبر هذا القول محرمّا في الصلاة بل عدّه كثير منهم أنه مبطل للصلاة أيضا.

وأما أهل العامة فجوزوا ذلك ولم يعدّوه من الواجب، وعليه فان ما يفعله الشيعة من ترك قول آمين بعد سورة الحمد هو صحيح ولم يخدش بصحة الصلاة باجماع المسلمين.

القنوت

رابعًا: القُنوت: - بضم القاف - تعني حرفيا الطاعة بالتواضع، قال تعالى:

ص: 393


1- الزمخشري، الكشاف، ج1، ص17.
2- الاستبصار، للشيخ الطوسي، ص318.

{أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَاءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ ٱلْأخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ}((1))((2)).

وهو في الصلاة الدعاء الذي يدعو به المصلي في ركعته الثانية بعد قراءة السورة قبل الركوع وهو عمل مستحب مؤكد لدى فقهاء الشيعة وليس بواجب، وذلك طبقا للروايات المعتبرة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك هي سنة في الصلاة من سنن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومما ورد في ذلك:

1- عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: «القنوت في كل صلاة في الركعة الثانية قبل الركوع»((3)).

2- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «القنوت في الفريضة الدعاء وفي الوتر الاستغفار»((4)).

ومما يدل على أن ذلك سنة من سنن النبي في الصلاة ما رواه زرارة قال: قلت لأبي جعفر أي الامام الباقر (عليه السلام) : «رجل نسي القنوت فذكره وهو في بعض الطريق فقال: يستقبل القبلة ثم ليقله، ثم قال: إني لاكره للرجل أن يرغب عن سنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو يدعها»((5)).

هذا وللعلم ذكر الفقهاء أنه لا ضير بالدعاء في الصلاة سواء في القنوت

ص: 394


1- الزمر: 9.
2- و(قانت) من مادة (قنوت) بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.
3- الكافي، ج3، ص340.
4- نفس المصدر، والوتر يعني ركعة الوتر في صلاة الليل.
5- الكافي، ج3، ص340.

أم الركوع أم السجود، كذلك قال أصحاب المذاهب الأخرى في أصل الدعاء في الصلاة وربما أضاف بعضهم له مواطن خاصة كالدعاء بعد تكبيرة الإحرام وفي التشهد، ولا شك أن القنوت دعاء والدعاء في الصلاة مما لا خلاف فيه.

إذن هذه أربعة فوارق يختلف بها المؤمن الشيعي في صلاته عن صلاة المذاهب الأخرى وقد توضّحت أسبابها.

وبذلك يتضح أن ما يفعله الشيعة من جهر بالبسملة وقنوت بعد السورة من الركعة الثانية وكذلك ما يتركه الشيعة من التكتف والتكفير في الصلاة وقول آمين بعد سورة الحمد انما هي افعال كلها مما لا خلاف في صحتها عند جميع المسلمين.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 395

(4) الشيعة والسجود على التربة؟

اشارة

ربما يوفق الواحد منا لحجّ بيت اللّه الحرام ويحضر صلوات الجماعة في المسجد النبوي والمسجد الحرام وغير ذلك فيرى بعض الشيعة ممن يحمل معه قطعة حجرية أو طينة يابسة تسمى بالتربة أو يفتش عن مكان غير مفروش ليسجد عليه في صلاته بينما يرى الأعم الأغلب من المصلين لا يبالون بهذا الأمر حيث يسجد الواحد منهم حيثما كان على سجاد أم غير ذلك مما فرش به المسجد.

وقد تتسائل عن سبب ذلك؟

والجواب هو الجواب نفسه عن كثير من هذه المفارقات التي تؤول إلى عملية الإجتهاد وفهم الدين لدى أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، إذ تراهم يصرّحون بضرورة أن يكون السجود في الصلاة على الأرض نفسها أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يلبس، ولا يصح عندهم السجود على السجاد لأنه ليس من الأرض بينما يصح على الخوص والحصير وما شابه لأنه من الارض ولكنه ليس مما يؤكل أو يلبس.

وهذا التقيّد إنما يكون في خصوص مسجد الجبهة من المصلي ووضعها

ص: 396

على الأرض وحسب ولا يتعداه إلى سائر مساجده السبعة، فلا ضير أن يضع كفيه وركبتيه وطرفي إبهامي قدميه على الفراش وغيره حين سجوده في صلاته، فهذا لا تختلف فيه مذاهب المسلمين والحمد للّه.

وأما حكاية الحجر والتربة أو السجدة كما يسميها البعض والتي يعهدها الشيعي للسجود عليها فهذا لاضطرار منه إلى ذلك غالبا، وذلك لأن الأرض التي يصلي عليها عادة تكون مفروشة بالسجاد وما شابه سواء في دار أم مسجد من مواطن الصلاة؟ والحال أن السجاد هذا مصنوع من صوف او قطن او مواد مستخرجة من اللدائن (البلاستك) وغير ذلك وهي إما ليست من الارض وإما منها ولكنها مما يلبس مما لا يجوز السجود عليها في شريعة أهل بيت النبي صلوات اللّه عليه وآله، وحينئذ كيف يصنع المصلون من الشيعة ممن يرجعون في أحكام دينهم إلى أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) ، فهل يرفع أحدهم الفراش ليضع جبهته على الأرض ذاتها؟! أم يصلي في الطرق؟! فضلًا عن لزوم طهارة ونظافة محل سجوده، فحينئذ ولكي يتيسر السجود على المكان الصحيح يصنع الشيعة قِطَعًا صغيرة من الطين الجاف أو الحجر ليتسنى لهم السجود عليها في صلاتهم في البيت أو المسجد، ثم يمكنهم حملها معهم في أسفارهم أو وضعها في المكان الخاص دون الاضطرار إلى رفع السجاد من على الأرض حين ارادة الصلاة.

دليل السجود على الارض

كما هو واضح يرجع فقهاء الشيعة في استنباطهم في الأحكام إلى كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله وأهل بيته عليهم جميعا صلوات اللّه وسلامه، فمن

ص: 397

المؤكد أن التزامهم هذا بالسجود على الأرض آت من نصوص شرعية ملزمة، ولما نحن فيه من اختصار اكتفي بذكر رواية هنا عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذلك.

روي أن هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (عليه السلام) قائلا: أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ فأجاب الإمام (عليه السلام) قائلا: السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: لان السجود خضوع للّه عز وجل فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عز وجل فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع للّه عزّ وجل((1)).

تعد هذه الرواية نصا من نصوص كثيرة في هذا المعنى ويؤيد ذلك ما جاء في طريقة صلاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن كان معه من المصلين وقد اشتهر عنه قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «صلوا كما رأيتموني اصلي»((2))

حيث كانوا يسجدون على أرض المسجد أو على الحصى المفروش في داخل المسجد، حتى قد ذكرت الروايات انّ احدهم كان يأخذ الحصباء قليلا في ثوبه قبيل الصلاة لتبرد قبل أن يسجد عليها، وهذا ما رواه أنس بن مالك قال: كنا نصلي مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شدة الحر، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه

ص: 398


1- الشيخ الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه، ج1، ص272.
2- كتاب تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي، ج3، ص141؛ والبخاري، ج1، ص162.

وسجد عليه((1)).

ومن ثمة يكون السجود على الحجر أو الطينة الجافة (التربة) مما لا خلاف في صحته وجوازه بل افضليته عند جميع الأمة لإجماع المسلمين على قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»((2)).

اذن ما يفعله الشيعة في سجودهم على الأرض هو للإلزام الشرعي عندهم وللخيار الأفضل الذي دلَّ عليه الشرع عند سائر المسلمين.

لماذا السجود على التربة الحسينية

بقي سؤال: لماذا يحرص المؤمن الشيعي أن يكون سجوده على تربة مقتطعة من أرض مدينة كربلاء حيث مرقد الامام الحسين (عليه السلام) ومما يقرب من طين قبره (عليه السلام) ؟

والجواب: نقول بداية مما لاشك أن هناك احجارا كريمة مباركة لها ميزاتها الخاصة بها، فمن منا لا يودّ أن يتبارك بالحجر الأسود بجنب الكعبة الشريفة وإذا طاف بالبيت تمنى لو يأتيه ليقبله ويتمسح به، وهكذا جدار الكعبة، إيمانا منه بان اللّه تعالى جعل هذه البقاع مباركة، كذلك جعلت هذه المباركة للتربة التي تضرجت بدماء سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) حبيب جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودماء أهل بيته والصفوة الذين استشهدوا معه، هذه التربة التي شمّها وقبّلها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا أتاه بها جبرئيل (عليه السلام) وأخبره عن

ص: 399


1- السنن الكبرى، ج2، ص106.
2- وسائل الشيعة، ج2، ص970؛ والبخاري، ح 419.

مصرع ولده الحسين (عليه السلام) وأنه سيكون على هذه التربة، وذلك في حديث ام المؤمنين أُم سلمة الذي تسالم عليه المحدثون وطالما اخبرت عن ذلك.

رسول اللّه وتربة ولده الحسين

حيث روت السيدة أم سلمة قالت: إن رسول اللّه اضطجع ذات ليلة للنوم فاستيقظ وهو خاثر (اَي مضطرب)، ثم اضطجع فاستيقظ وهو خاثر دون ما رأيت به المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ، وفي يده تربة حمراء وهو يقبلها فقلت له: ما هذه التربة يا رسول اللّه؟ قال أخبرني جبرئيل إن هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرض العراق فقلت لجبرئيل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربته((1)).

فهذه تربة عزيزة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث يشمها ويقبلها وبالتأكيد تكون مفضّلة على غيرها.

آثار السجود على التربة الحسينية

وايضا لما جاء في هذه التربة من روايات بيّنت اعظام هذه التربة حتى اتخذها محبوا أهل البيت مسجدا في صلاتهم قربة إلى اللّه تعالى ومودة إلى رسوله وآله عليهم جميعا صلوات اللّه ورغبة في الثواب الذي وُعدوا عليه، وكان ذلك دأب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم القدوة بعد جدهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكانوا قد احتفظوا بشيء من تلك التربة الطاهرة للسجود عليها في صلواتهم.

روى معاوية بن عمار قال كان لأبي عبد اللّه - اَي الإمام الصادق (عليه السلام) -

ص: 400


1- مستدرك الحاكم النيسابوري، ج4، ص398.

خريطة - أي قطعة قماش - ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد اللّه (عليه السلام) - أي تربة قبر الامام الحسين - فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه ثم قال (عليه السلام) إن السجود على تربة أبي عبد اللّه (عليه السلام) يخرق الحجب السبع((1)).

ولا غرابة أن تكون لهذه التربة الزكية التي تبركت بدماء سيد الشهداء الآثار البالغة التي جعلها اللّه تعالى فيها كرامة لأبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) ، كما ليس يغيب عن ذهن المحبّ لهذه الصفوة الطاهرة مكانة سيد شهدائهم وعزته (عليه السلام) عند اللّه عزّ وجل فلا يستغرب ذلك ابدا.

في ختام هذا الفصل لا أرى حاجة للردّ على سخف قول جاهل، أم معاند يزعم أن السجود على التربة هي بدعة أو عبادة الحجر أو شرك!!!

بل أقول هدانا اللّه واياه إلى الحق الذي لا يكون إلا عند نبيه وآله الكرام صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين.

ثم بعد هذا المختصر لا أظن أحدا ممن لديه أدنى درجات الانصاف والبصيرة من الحق إلا وحبّذ ما يفعله الشيعة من السجود على التربة في صلواتهم، فلا ريب في صحة ذلك بل رجحانه فقها عند سائر المذاهب الاسلامية.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 401


1- جامع أحاديث الشيعة، ج5، ص262.

(5) الشيعة والجمع بين الصلاتين

اشارة

لقد تعارف عند المسلمين الشيعة أنهم اذا صلوا صلاة الظهر بعد أذان الظهر اردفوها بصلاة العصر مع فاصل قليل للدعاء أو بلا فاصل، وكذلك يفعلون بالنسبة لصلاة المغرب والعشاء، ويصطلح على هذا الفعال بالجمع بين الصلاتين، وغالبا ما يتخلل بين الصلاتين تعقيب للصلاة من التسبيحات والدعاء أو النافلة مما يستغرق وقتا يفصل بين الصلاتين، فما هو المبرر لذلك والحال أننا نسمي الصلوات باسم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، مما يعني لقائل أن يقول ينبغي أن تصلى صلاة العصر في وقت العصر أي بعد وقت الظهر بساعات عديدة، وهكذا العشاء، فلماذا هذا التقديم؟

وفي الجواب على ذلك نقول: قبل الاستدلال على جواز ذلك نقدم مقدمة لتوضيح الجواب ثم نطرح ما استدل به من خلال القرآن والسُنّة.

العناوين الشرعية للأوقات اليومية

من الواضح أن العبادات أمور توقيفية أي أنها تتوقف طريقتها وأداؤها على ما يقنّنه الشارع المقدس، وليس للمكلف دور في تحديد شروط صحتها وفسادها وإنما ذلك كله متروك للشرع الذي شرّع تلك العبادة.

ص: 402

ومن العبادات هي الصلوات والفرائض اليومية، ومما قننّه الشارع فيها وفي غيرها هو التوقيت الذي يكون ظرفا لأدائها فيه وقد يكون وقتا خاصا وقد لا يكون، فمثلا صلاة القضاء يؤديها من فاتته الصلاة عن وقتها متى ما شاء، وصلاة الطواف يؤتى بها بعد الطواف متى ما طيف بالبيت، وأما الصلوات الخمس اليومية فقد حُدّد لها أوقاتها والذي حدّد ذلك هو الشرع فلابد - ولا شك - من الالتزام بتوقيت الشارع المقدس لها.

ولكن هنا ملاحظة دقيقة، وهي قد تختلف عناوين الأزمان العرفية مع عناوينها الشرعية، فمثلا قد يكون الوقت فجرا وصباحا في عنوان الوقت المحلي ولكنه لا يعدّ فجرا لدى العنوان الشرعي، فمثلا في الوقت المحلي بعد الساعة الثانية عشرة ليلا، يبدأ وقت يوم ثان وجديد حيث يقال بعد ساعة من ذلك في نظام الوقت السائد: الآن الساعة الواحدة فجرًا من يوم كذا، إلا أن الشرع لا يعدّ ذلك يوما جديدا بعد، ولا يعدّه فجرا ولا صباحا، ومن يصلي في ذلك الوقت لا تعد صلاته صلاة الفجر وإنما يكون ذلك بعد الفجر الحقيقي والشرعي، وكذلك فرض الشارع لصلاة الفجر فترة ساعة ونصف تقريبا إلى حين طلوع الشمس مع أن حدوث الفجر وانكشافه قد يتم في نصف الساعة الأُولى أو أقل، ولو ترك توقيت الفجر للمكلف نفسه للزم أن يصلي صلاة الفجر في الدقائق الأُولى من انبثاق الفجر لأنها تلك الدقائق هي وقت انكشاف الفجر لا أكثر، ولو عنونت صلاة الفجر بعنوان صلاة الصبح بما هو زمن وفترة الصبح ولم يحدد الشارع لها وقتا لجاز أن يصليها العبد حتى الساعة العاشرة صباحا لانطباق واسقاط عنوان الصبح

ص: 403

على ذلك كله. وهكذا بعد الساعة الثانية عشرة ظهرا يحلّ في الوقت العرفي أو المحلي وقت الظهر ويقال الان الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهرا، ولكن قد يتأخر الزوال الشرعي في تلك البلاد إلى بعد الواحدة ظهرا.

فما أريد قوله هو أن العنوان الشرعي لوقت الصلاة قد يختلف عن العنوان المحلي والعرفي فقد يبدأ وقت الظهر عرفا بساعة قبل وقت أذان صلاة الظهر (الوقت الشرعي للظهر) وقد يكون العكس بالنسبة للعصر بأن يبدأ وقت صلاة العصر قبل العصر العرفي لدى الناس، وقد يستغرب بعض أنه كيف يصلي الشيعي صلاة العصر في وقت الظهر وقبل دخول زمان العصر، وأذكر مرة كنت في سفر في حافلة ركاب (الباص) في تركيا فنزلنا ظهرا للصلاة فصليت الظهر وثم العصر فأظهر أحد الاخوة من أبناء العامة استغرابه وقال الآن نحن في وقت الظهر وصلاة العصر اسمها (صلاة العصر) كيف تصلى قبل وقتها؟؟ وهذا في الحقيقة استغراب في محله إذا لم يكن الشارع حدد وقتا خاصا لصلاة العصر غير زمن العصر المتعارف عليه، وللزم أداء صلاة العصر في فترة زمنية تسمّى ب(العصر) عرفا، لكن سيتبين أن الشارع بالفعل حدد أوقات الفرائض اليومية وفق ازمنة دائرتها اوسع من العناوين العرفية للأوقات وإن سميت تلك الصلوات بصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء كما سنرى ذلك كله على ضوء الكتاب والسنة.

أوقات الصلاة في القرآن الكريم

عُدّت اوقات الصلاة في كتاب اللّه تعالى في ثلاثة أوقات فقط.

قال تعالى: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ

ص: 404

ٱلسَّئَِّاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ}((1)).

وقال سبحانه وتعالى: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}((2)).

نلاحظ ان الآيتين المباركتين اشارتا بصورة مجملة الى أوقات الصلوات الخمس لكنها جعلت لذلك أوقاتًا ثلاثة، فالآية الأولى أشارت إلى وقتين هما الطرف الأول من النهار والطرف الآخر منه وقيل يراد فيهما الإشارة إلى صلاة الصبح والمغرب وما بينهما من الظهر والعصر ثم وقت ثالث وهو الزلفى من الليل أي القرب منه وهي صلاة العشاء.

كما أشارت الآية الثانية في الأوقات الثلاثة الى جميع الصلوات اليومية، فبالنسبة لصلاتي الظهر والعصر هو دلوك الشمس وبالنسبة لصلاتي المغرب والعشاء هو غسق الليل وأما صلاة الصبح فوقتها هو الفجر، والمراد من الدلوك هو دلك الإنسان عينه بسبب النظر للشمس أو النظر لضوئها أو بمعنى الميل، باعتبار أن الشمس تميل حينها نحو طرف نصف النهار الآخر، وذلك عند منتصف الوقت بين طلوعها وغروبها كما أن المراد من غسق الليل هو ظلمة الليل وهو عند أول الليل او منتصفه وأما قرآن الفجر فهو إشارة إلى ما يُقرأ من القرآن في صلاة الفجر، وعلى ذلك فمن وقت الظهر الشرعي (دلوك الشمس) إلى منتصف الليل (غسق الليل) هو وقت

ص: 405


1- هود: 114.
2- الإسراء: 78.

لأربع صلوات بصورة مجملة، وإنما الروايات فصلت تحديد وقتها، وحينئذ وعلى ضوء الآيتين هناك ثلاث أوقات لأداء خمس فرائض وهي وقت للظهرين (دلوك الشمس) ووقت للعشائين (غسق الليل) ووقت للفجر (قرآن الفجر) والصلوات التي يصليها المسلم الشيعي في الواقع هي في خلال هذه الأوقات.

أوقات الصلوات في الروايات

كما هو الحال في كثير من الأحكام يكون أصلها في كتاب اللّه عزّ وجل وتفاصيلها في أحاديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) فقد بينّت سنّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيفية الصلاة واوقاتها وكذلك جاءت الروايات في بيان الوقت المحدد للصلوات، حيث سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الآية الآنفة فقال: إن اللّه افترض أربع صلوات أول وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس، إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه((1)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة»((2)).

وبما أن الشيعة يتبعون أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في أحكام دينهم، فمن

ص: 406


1- وسائل الشيعة، ج3، ص115.
2- وسائل الشيعة، ج3، ص101.

الطبيعي أن يجوّزوا الشروع بصلاة العصر بعد صلاة الظهر وبصلاة العشاء بعد صلاة المغرب لأن الثانية داخلة في الوقت الا انها بعد الأولى ترتيبا كما قال (عليه السلام) «إلا أن هذه قبل هذه».

إذن من خلال الكتاب والحديث تبيّن أن وقت صلاة العصر يبدأ بعد الظهر مباشرة لا أنه يبدأ في وقت العصر العرفي عند الناس وكذلك وقت صلاة العشاء يبدأ بعد صلاة المغرب مباشرة وليس بعد ذلك بساعة أو ساعتين، وذلك بناءً على ما بينّه أهل البيت (عليهم السلام) من كتاب اللّه عزّ وجل وهم أعرف به من غيرهم.

هل كان النبي يجمع بين الصلاتين

هناك عدة محاور للسؤال والحديث

1- مرة يقال هل فعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك؟

2- ومرة يقال هل يجوز الجمع بين الصلاتين ومعنى الجمع يعني صلاة العصر بعد الظهر مباشرة والمغرب بعد العشاء مباشرة؟

3- وثالثة يقال أيهما أفضل التفريق بين الصلوات لساعات عديدة أم جمعها وتقريبها من بعض؟

الجواب: أما أوّلا، نعم لقد جمع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين هذه الصلوات كما في روايات العامة والخاصة.

منها عن ابن عباس قال: صلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعا بالمدينة من غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟

ص: 407

قال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته((1)).

ومنها عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: صلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علة في جماعة وإنما فعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتسع الوقت على أمته((2)).

وأما ثانيا: (هل يجوز الجمع؟) فجوابه بعد تلك الأحاديث واضح إذ أن فعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه يدل على الجواز كيف والأحاديث صرّحت بذلك، بل ينبغي السؤال من الطرف الآخر كيف لا يجوّز ذلك وبعض الأحاديث صريحة بأن النبي جمع بين الصلوات لا لضرورة.

وأما ثالثا: وهو أيهما أفضل الجمع أم التفريق؟

بالنسبة للإجابة على هذا السؤال لابد من معرفة أمور قبل ذلك: الأمر الأول: هناك من الأعمال المستحبة التي يؤتى بها بعد الصلاة كالأدعية والتسبيحات ومن ذلك صلاة النافلة لكل فريضة، فمثلا لصلاة العصر نافلة وهي ثمان ركعات يؤتى بها قبل صلاة فريضة العصر، فتلك التسبيحات والادعية التي تستحب بعد صلاة الظهر مع هذه الركعات الثمان التي يستحب الإتيان بها قبل صلاة العصر جميعا قد تستغرق ساعة أو أقل من ذلك، وجميع ذلك مستحب وليس بواجب.

ص: 408


1- صحيح مسلم، ج2، ص152، باب الجمع بين الصلاتين.
2- الكافي، ج3، ص286، هذا والأحاديث في ذلك كثيرة عند كتب المسلمين جميعا.

الأمر الثاني: ورد في بعض الأحاديث أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى جمعا لا لضرورة وأراد بذلك التوسعة والتسهيل على الأمة، وعُبّر عن ذلك تارة أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اراد السعة للأمّة اي الفسحة والرخصة، وتارة أراد رفع الحرج، أي هو لطف من اللّه تعالى في رفع العسر وللتخفيف على الناس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وردت أحاديث تبين أن اللّه تعالى كما يحب أن يعمل العباد بالفرائض والواجبات كذلك يحب أن يأخذوا بتلك المندوحات الإلهية والتيسير والرخص منه عزّ وجل ويحب تقبّل العباد وتلقيهم ذلك اللطف الإلهي كما هو من الآداب أن يتقبل الإنسان الهدية من الآخر، وسياتي ذكر بعض الروايات في ذلك.

الأمر الثالث: هناك للفرائض أوقات تسمى أوقات الفضيلة اي من الأفضل أن يصلي العبد صلاته في هذه الأوقات للثواب الجزيل ولئلا يُعدّ من المستخفين بالصلاة بسبب تأخيرها وإن كان أصل وقت الفريضة ممتدا إلى اكثر من ذلك، ويبدأ وقت الفضيلة من أوّل الوقت لكل صلاة وينتهي إلى حيث ما حُدّد في الروايات فمثلا صلاة العصر أول وقتها كما في الأحاديث هو أول الزوال اي نفس وقت صلاة الظهر ولكن لابد من الاتيان بها بعد صلاة الظهر وانتهاء وقتها عند غروب الشمس ولكن وقت فضيلة الاتيان بها هو من اول وقتها الى ما يقارب الساعتين والنصف تقريبا، مع اختلاف ذلك حسب فصول السنة، وهكذا صلاة العشاء أول وقتها هو نفس وقت صلاة المغرب ولكن لابد من الاتيان بها بعد صلاة المغرب ويستمر وقتها إلى منتصف الليل أو إلى الفجر للمضطر ولكن وقت الفضيلة لها من

ص: 409

اول الوقت إلى الثلث الأول من الليل فلو فرضنا أن الليل كان عشر ساعات حتى الفجر حينئذ ينتهي وقت فضيلة العشاء بعد ثلاث ساعات وعشرين دقيقة من اول وقت المغرب.

الآن وبعد أن عرفت هذه الأمور يقال في جواب السؤال المطروح وهو أيهما أفضل، هل الجمع بين الصلاتين أم التفريق بينهما بفترة زمنية متسعة:

بما أن وقت الفضيلة للصلاة الثانية (العصر أم العشاء) يبدأ بعد الإتيان بالصلاة السابقة عليها (الظهر أم المغرب) ويمتد ليس كثيرا ثلاث ساعات تقريبا فلاشك من الأفضل أن يأتي بالثانية قبل انتهاء وقت فضيلتها وكلما كانت أقرب إلى الأولى كانت أفضل لأن ذلك مسارعة إلى المغفرة واستباق للخير كما قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ}((1)) وقال {فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ}((2))، إلا اذا أراد المصلي الإتيان بالتعقيبات للصلاة السابقة والنافلة للصلاة اللاحقة فسوف يقع فاصل بين الصلاتين نصف ساعة إلى ساعة فيؤخر الثانية بهذا المقدار، وعلى أي حال حتى لو أراد تأخير الثانية فلابد أن لا يخرجها عن وقت فضيلتها ولا ينبغي أن يكون الفصل عن الأولى بأكثر من ثلاث ساعات تقريبا لخروجها عن وقت فضيلتها.

الا نفرّق بين الصلوات كما فعل النبيّ؟

سؤال اخير: من خلال لفظ الأحاديث عن صلاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبدو أنه لم

ص: 410


1- آل عمران: 133.
2- البقرة: 148.

يكن يجمع بين صلاتين بشكل غالب، نعم بعض الأحيان كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفعل ذلك لبيان جواز ذلك ولإرادة التيسير للأمة، فكيف يمكن أفضلية التفريق مع هكذا تصور من فعال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

الجواب: إن ما اتصوره أن المراد من لفظ الأحاديث أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع في صلاة كذا وكذا مما يبين انه لم يفعل ذلك دائما وإنما بعض الأحيان فأتصور وأعتقد أن المراد من جمعه هذا هو أداء الصلاة الثانية بعد الأولى بدون تعقيبات للصلاة الأولى من دعاء وما شابه أو تعقيب سريع وخفيف بخلاف غالب صلواته التي لا تعد جمعا وهي ما يقع بين الصلاتين فاصل كثير يسع التعقيبات الكثيرة والنوافل وأداء خطبة للوعظ والارشاد حيث كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غالبا يخطب الناس بعد الصلاة فكان يقع الفصل الطويل بين الصلاتين بصورة طبيعية ومع ذلك لم يكن الوقت ليخرج عن وقت فضيلة الثانية اي العصر بالنسبة للظهر والعشاء بالنسبة للمغرب وربما كان يتخلل ذلك ان يقوم بعضهم ليذهب ويرجع بعد ذلك أو شخص النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقوم ليباشر عملا ما من قضاء أو مشاورة لكثرة المهام الملقاة على عاتقه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو غير ذلك، ولا يخطر على البال أن التفريق كان كمثل اليوم في الصلوات بحيث إذا انتهت صلاة الظهر ينتهي بها كل شيء ويذهب كل لحاله ثم بعد ثلاث او اربع ساعات تقام صلاة أخرى تماما، واقول اعتقد أيضا لم يكن الأمر كما يفعله الشيعة اليوم من اقامة صلاتين خلال نصف ساعة او ساعة، ولكن كما تبين إذا لم تكن هناك نوافل وتعقيبات وخطب وما شابه فينبغي الإسراع بالثانية لأن وقتها قد دخل وفق أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وما كان يقع في صلاة

ص: 411

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تفريق بين الصلاتين فيبدو أنه لا يتجاوز هذه الأوقات لأنه خروج عن وقت الفضيلة كما في بيان الأحاديث لأوقات الفضيلة للصلوات.

وعلي اي حال من أراد العمل بالروايات من حيث الصلاة في وقت فضيلتها وتقبّل المندوحة من اللّه تعالى والتوسعة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسارعة إلى مغفرة اللّه تعالى وكذلك لأنه لا يعلم بحياته إلى ساعات آتية - كما في الحديث((1))- فعليه أن يصلي الثانية بعد الأولى مباشرة إن لم يرد الإتيان بتعقيبات الصلوات ونوافلها وهو الجمع بين الصلاتين، ومن أراد الإتيان بالأعمال المستحبة بين الصلاتين فليؤخر الثانية إلى حيث ما ينتهي من تلك الأعمال دون فوات وقت الفضيلة وهذا ما يفعله اغلب المؤمنين الشيعة في صلواتهم وهذا في الواقع تفريق بنسبة من التفريق بين الصلاتين حسب أوقاتها التي بُيّنت في الأحاديث وإن عدّه الآخرون جمعا أيضا، وأما التفريق بين الصلوات بفاصل كثير يخرج الثانية عن وقت الفضيلة دون اشتغال بالعبادات والذكر و.. فليس هو الأفضل بلا شك، نعم هو أمر جائز أيضا، وفي رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) يقول: «الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع فاذا كان بينهما تطوّع فلا جمع»((2)).

روايات في استحسان الجمع

بعد أن تبين المراد من الجمع والتفريق بين الصلاتين وأن وقت الثانية

ص: 412


1- تهذيب الاحكام، للطوسي، ج2، ص272.
2- الكليني في الكافي، ج3، ص287.

مبتدأ من حين وقت الاُولى وهناك وقت للفضيلة ينبغي تداركه وهناك حالات واستثناءات كرفع الحرج والتيسير على الأمة وغير ذلك لا نستغرب من روايات ارشدت إلى الجمع مع تلك الملاحظات.

ليوّسع النبي على أمّته

عن أَبي عبد اللَّه الصادق (عليه السلام) قال: «إِنَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلَّى الظُّهْر والعصرَ في مكان واحدٍ من غير علَّةٍ ولا سببٍ. فقال لهُ عمرُ - وكان أَجْرَأَ الْقَوْمِ عليه - أَحدث في الصَّلاةِ شيءٌ؟ قال: لا، ولكنْ أَردتُ أَن أُوسِّعَ على أُمَّتِي»((1)).

ولكي لا يحرج اُمتّه

وسبقت رواية عن ابن عباس لما سئل لماذا جمع النبي في الصلاة فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.

اقول ولعلّ المراد من التوسعة ورفع الحرج هو اعطاء فسحة اكثر لطلب الرزق كما في الرواية الآتية.

الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق

عن عباس الناقد قال: «تفرق ما كان في يدي فشكوت، ذلك إلى أبي محمد (عليه السلام) فقال لي: اجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ترى ما تحب»((2)).

ص: 413


1- وسائل الشيعة، ج4، ص221.
2- وسائل الشيعة، ج4، ص218.

وعن الإمام علي (عليه السلام) : «الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق»((1)).

الأخذ بالرخصة والتيسير

عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»((2)).

وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ايضا: «إن اللّه تعالى يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته»((3)).

وهذان الحديثان يشيران إلى مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ}((4)) وإلى مثل قوله تعالى أيضا {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}((5)).

هذا كله فضلًا عن أن الإنسان لا يعلم من شأن نفسه هل سينشغل بعد حين أم أساسًا هل سيبقى حيًا؟

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «يا فلان إذا دخل الوقت عليك فصلها فإنك لا تدري ما يكون»((6)).

ص: 414


1- بحار الأنوار، ج79، ص333.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص1060.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1060.
4- البقرة: 185.
5- الحج: 78.
6- تهذيب الاحكام للطوسي، ج2، ص272.

بناءً على كل ما سبق يكون المؤمن مخيّرًا بين أن يجمع بين الصلاتين في وقتين متتاليين أم يفرق بينهما بفاصل معتد لأداء ما ينبغي من التعقيبات والأعمال المستحبة، وهو على أي حال أعلم بحاله وبذلك لا اشكال في صحة ما تفعله الشيعة من الجمع بين الصلاتين كما هو صحيح ايضا التفريق بينهما.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 415

ص: 416

الفصل الخامس

الفصل الخامس: التزامات شرعية خاصة

اشارة

1- تقليد المراجع

2- الخمس

3- صلاة التراويح

4- الوقت لصلاة المغرب

والافطار

ص: 417

ص: 418

(1) الشيعة وتقليدهم لمراجع الدين

اشارة

من الأحكام الشرعية التي يلتزم بها الشيعة هو ضرورة تقليد الفرد المكلف شرعا لمرجع من مراجع الدين والالتزام بفتاواه الشرعية فيما يخص فروع الدين من العبادات والمعاملات وسائر الأحكام.

فيا ترى ما هو التقليد وما هو الدليل على ضرورة ذلك؟.

ما معنى التقليد

للتقليد معانٍ عديدة، فمن معانيه المعهودة لدى أذهان الناس هو الإتيان بفعل يشابه فعل الآخر فيقال قلده في مشيته أو طريقة خطبته وهذه هي المحاكاة كما يقلد الفرد فعال الآخر أي يحاكي فعله.

ومن معاني التقليد هو الاتباع للآخر من غير نظر وتأمل فيقال هذا يقلد فلانًا أي أنه يقول ويفعل ما يقوله ويفعله فلان دون أن يميز صحيح ذلك من فاسده وصوابه من خطأه.

ومن معانيه هو التفويض فيقال قلّد الحاكم فلانًا إدارة البلاد أو منصبا ما، حينما يوليه ويفوّض إليه مهمّة ما.

ص: 419

وللتقليد معان أخرى تعرف من سياق الكلام.

ولا شك أن ما يراد هنا ليس هو واحدا من هذه المعاني، فان تقليد المراجع والفقهاء يراد به الرجوع إليهم لاستبيان الأحكام الشرعية والأخذ بها ومن ثَمّ العمل بالوظيفة الشرعية فان مراجعة الفرد لمرجع التقليد إنما تكون لأخذ الحكم الشرعي الفرعي منه أي من أجل معرفة أحكام العبادات مثل أحكام الصلاة والصوم والحج وما شابه ومعرفة الأحكام من الحلال والحرام ومعرفة صحة المعاملات من فسادها كصحة طريقة البيع والإيجار والقرض وغيرها، وكذلك معرفة صحة العقود كعقد الزواج وكيفية إيقاع الطلاق وما شابه، وهكذا سائر الأحكام الشرعية.

ولا ينبغي التقليد بخصوص أصول الدين والعقيدة والفكر اذ لابد من الإعتقاد بأصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد وما يرتبط بذلك بسبب إعمال الفكر والتأمل والعقل لتحصل القناعة العقلية بتلكم العقائد لأنها من الأمور التي يلزم أن يؤمن بها الفرد بقناعته الخاصة من خلال استدلاله على ذلك بمقدار ما يعرف من الدليل الذي يقتنع به.

نعم قد يرجع للعالم لمعرفة ادّلة ذلك وقد يقتنع بما يستمع له من دليل ولكن ليس يلزمه قبول ذلك بل له أن يستدل بطريقة أخرى نتاجها الإيمان بالعقيدة الحقة.

وأما بالنسبة للأحكام الشرعية فليس له رفض ذلك بعد أن توجّب عليه تقليد مرجع من مراجع التقليد، نعم يمكنه العدول عن ذلك المرجع وأخذ أحكام دينه من مرجع آخر فيما لو ثبت عنده أعلمية الآخر وعدم كفاءة

ص: 420

الأول، ولهذا الموضوع تفصيل يذكره الفقهاء في باب التقليد.

ماهي ضرورة تقليد المراجع؟

تتحتم ضرورة المراجعة لمراجع الدين حينما لا يستطيع الفرد نفسه أن يصل إلى ما يريد بنفسه من أحكام شرعية وهي ضرورة عرفية وعقلية قبل أن تكون شرعية لان هذه المراجعة هي من باب مراجعة ذوي الاختصاص في القضايا التي لا يطّلع عليها غالبا سائر الناس، وهو أمر عقلي وعرفي عند الناس عامة، فمن يريد بناء الدار يستدعي مهندسا في البناء، ومن يشكو مرضًا يراجع طبيبا مختصا وهكذا نرجع للحداد والكهربائي والنجار وغير ذلك، وإنما نرجع إليهم لقناعتنا واعتقادنا بضرورة رجوع الجاهل فيما يجهل للعالم عموما في حياته ليأخذ منه ما ينقله له مما تعلّمه، فنراجع الطبيب مثلا ليكتب لنا العلاج الذي اعتمده من خلال دراسته، ونراجع المحامي ليرشدنا إلى منفذ قانوني يمكن اتباعه لإحقاق حقنا كما يرجع الأعمى للبصير ليأخذ بيده ويدلّه الطريق، وفي الواقع رجوعنا للشخص ليس لشخصه بل لما ينقل إلينا من الحكمة والطريق والعلاج الناجع مما تعلمه وفهمه من دراسته، فرجوعنا في الحقيقة هو للعلم والمعرفة، وهذا أمر مهم جدا تسالم عليه الناس وتعاهدوه في سيرتهم العرفية والعقلائية.

ومن ثَمّ يرجع عامة المؤمنين الى مراجع الدين من الفقهاء الذين تدارسوا العلم لسنين طوال حتى تخصصوا في علم استخراج الحكم الشرعي من مصادره وأمكنهم بذل ذلك وبيانه للناس لمعرفة الحكم الشرعي والوظيفة الشرعية في كل قضية شرعية، وهذا أمر طبيعي في حياة الإنسان، يقول اللّه

ص: 421

تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}((1)).

وبما أنه لا يمكن لسائر الناس أن يتفرغوا لدراسة الفقه وعلوم الأحكام الشرعية وما فيها من دراسات متنوعة وشاملة من علوم الحديث ورجاله والقرآن وتفسيره والسُنة والسيرة واللغة وقواعد الفقه وأصول الفقه ووو.. إلى غير ذلك مما يحتاجونه للوقوف بأنفسهم على أحكام دينهم ومعرفة الشرائط المصححة للأعمال والعبادات ويقفوا عليها جميعها ليعرفوا أي الأشياء تبطل الصلاة وأيّها يلزم فعله كواجب وأيّها يؤتى به استحبابا وأي منها لو فعله لصحّح الخطأ الذي بدر منه؟، وهكذا بالنسبة للصيام والزكاة والحج وغيرها من العبادات، وكذلك بالنسبة للمعاملات من بيع وإيجار و... فأيّ المعاملات والعقود تكون صحيحة أو تقع فاسدة وباطلة وأي منها تعد محرمة يعاقب عليها الشرع؟.. وهكذا أمور كثيرة جدًا جدا، مما ليس بوسع الأنسان فيها إلا من أمرين:

إمّا أن يتخصّص هو بنفسه في دراسة الفقه والحديث واللغة والبلاغة والتفسير ومعرفة رجال سند الحديث وقواعد ذلك كله حتى يبلغ مبلغًا من العلم والقدرة على استنباط الحكم فيكون بنفسه فقيهًا مجتهدًا يستغني بذلك عن التقليد للفقيه.

وإمّا أن يثق بالمكانة العلمية والتقوى للفقيه الفلاني فيتخذه مرجعا له يرجع إليه في السؤال عن هذه الأحكام التي يحتاجها في عباداته ومعاملاته

ص: 422


1- الأنبياء: 7.

اليومية من تجارة وإجارة وغير ذلك، وبالطبع أن غالب الناس هم من الصنف الثاني، لانشغالهم بحياتهم ومعاشهم، فلابُدّ حينئذ من الرجوع للفقهاء، لإخذ الأحكام الدينية، وذلك هو ما يصطلح عليه بالتقليد.

خطورة التقليد الأعمى

وينبغي التنويه هنا إلى موضوع هام في غاية الأهمية، وهو أنه ليس المراد من التقليد هو الأخذ برأي الفقيه الفلاني لمجرد أنه هو من ارتأى رأيا واعتمده، فليس رجوعه إليه لشخصه، ولا يتبنى منهجه لمجرد كونه هو القائل به أو أنه هو من اعتمد هذا الرأي، فإنّ معنى ذلك أنه عدّ شخص الفقيه كيانا مقدسًا لا يحتمل صدور الخطأ منه أبدأ، وهذه صنمية وتبعية خطيرة وهذا تقليد أعمى خطير يشبه انقياد الفرد لشيخ قبيلته لمجرد أنه شيخه فيتبعه بما يأمر وينهى ويخطأ ويصيب عصبية منه له دون رويّة وبصيرة، وهذا يشبه إتباع وتقليد الآباء لمجرد كونهم آباءً وهو ما استنكره القرآن الكريم ووصف اتباع هذا المسلك أنهم اتباع قوم لا يعقلون، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}((1)).

ضرورة تقليد العلماء العاملين بالحق

وورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يحذر عامة الناس من الرجوع والأخذ من أي كان من الفقهاء دون ملاحظة تقواهم واتباعهم للأئمة

ص: 423


1- البقرة: 170.

الطاهرين (عليهم السلام) وذلك في كلامه (عليه السلام) عند قول اللّه تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ}((1)) حينما سأله السائل قائلا: إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا، يقلدون علماءهم... الخ.

فقال (عليه السلام) : بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أما من حيث الاستواء فإن اللّه ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما ذم عوامهم، وأما من حيث افترقوا فإن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطروا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على اللّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه، فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم اللّه بالتقليد لفسقة علمائهم فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها

ص: 424


1- البقرة: 170.

لقلة معرفتهم وآخرون يتعمدون الكذب علينا((1)).

إنّ هذا الحديث ينذر بخطورة التقليد الأعمى لا سيّما إذا كان في الفكر والعقيدة ويحذر من المتابعة العمياء لمن ليسوا أهلا للتقليد.

إذن لا ينبغي التقديس المفرط لأي إنسان كان بحيث يتبعه أتباعا مطلقًا وفي كل شيء بما يراه وما يقول.

نعم إنما يصح التقليد المطلق والشامل بالنسبة لمن أوجب اللّه علينا طاعتهم المطلقة وهم الأنبياء والائمة المعصومون عليهم جميعًا سلام اللّه فهم الذين عصمهم اللّه تعالى من الخطأ ودعانا إلى طاعتهم بصورة مطلقة وبلا قيد كما قال تعالى: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}((2)).

اذن المراد من التقليد هو أخذ الحكم الشرعي المفروض علينا من اللّه تعالى من فقيه اجتمعت فيه شرائط التقليد من القدرة العلمية على استخراج الحكم من خلال النصوص القرآنية وأحاديث النبيّ وآله المعصومين (عليهم السلام) ، وفي الواقع إن المرجع الفقيه ليس إلا واسطة نقل للحكم الشرعي الذي توصل إليه، ونحن نأخذ الحكم من اللّه ورسوله وخلفائه المعصومين (عليهم السلام) بواسطة هذا الفقيه الذي نرجع اليه.

نعم لا شك ولا ريب ينبغي أن يٌكنّ للفقيه مكانة عظيمة وجليلة من الاحترام والتوقير لمكانته العلمية ولتقواه واجتهاده وأتعابه التي كابدها ويتحملها في مواصلة دوره فانه لا يخفى ما لحملة العلم من مكانة جليلة

ص: 425


1- وسائل الشيعة، ج8، ص94، كتاب القضاء، باب 10.
2- النساء: 59.

وعظيمة.

هذا وأمّا إذا عُلم أن الرأي الذي اعتمده وتبناه هذا المرجع إنما هو لمجرد قناعة شخصية غير مستندة إلى دليل شرعي فلا يصح اتباعه في ذلك.

الدليل الشرعي على تقليد المراجع

إن ما ذُكر آنفا من ضرورة التقليد للمراجع يُعّد دليلًا من الأدلة العقلية على ذلك وأما لو أردنا الاستدلال الشرعي في ذلك فلابد من الإستناد إلى بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، ونشير هنا إلى بعض ذلك:

1- منها ما أشير إليه آنفًا وهو قول الإمام الصادق (عليه السلام) : «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»((1)).

2- ومنها ما جاء عن إمام زماننا (عليه السلام) في كتابه لسفيره ونائبه الخاص محمد بن عثمان العمري، حيث ورد فيه قوله (عليه السلام) : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه»((2)).

دعانا امامنا (عليه السلام) للرجوع إلى رواة احاديثهم (عليهم السلام) ، ومن المؤكد إنما يراد من رواة حديثهم هم الفقهاء وليس كل من يروي حديثا عنهم، لأنه قد يروي غير الفقيه عنهم فلا يدرك مرتبة فهم الحكم الشرعي من كلامهم (عليهم السلام) ، كما قد يروي عنهم من لا يوثق بروايته، فمن الواضح أن كلامه (عليه السلام) أمر بالرجوع

ص: 426


1- وسائل الشيعة، ج27، ص131.
2- وسائل الشيعة، ج27، ص140.

لحملة فقه أهل البيت (عليهم السلام) وهم الفقهاء العدول الذين أوقفوا أنفسهم لاستنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم وسنة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة (عليهم السلام) ، وبذلك يكون الفقهاء المراجع الذين استكملوا شرائط الاستنباط للأحكام والفتوى حُجّة على الناس كما أن النبي وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين حُجج على الفقهاء وعلى سائر الناس.

نسأل اللّه تعالى أن يمنّ على هذه الأُمّة بظهور صاحب العصر والزمان (عليه السلام) ليرجع المؤمنون جميعا لشخصه المبارك ومن يعيّن من وكلاء عنه ان شاء اللّه.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 427

(2) حكم الخمس عند الشيعة

اشارة

من الأحكام الشرعية التي يتميز بها الفقه الجعفري هو وجوب اخراج خمس الاموال التي يربحها او يحصلها الإنسان وصرفها في موارد خاصة سوف نذكرها وهو حكم شبيه بالزكاة على الاموال ولكنه بنسبة 20% من الربح، وقد اتخذ بعضهم من مخالفي طريقة أهل البيت (عليهم السلام) هذا الأمر تشنيعا على الشيعة والتشيع وزعموا ان ذلك من تدليس الفقهاء وانحرافهم عن الحق، فلزم على المؤمن أن يكون على بصيرة في أحكام الدين لاسيما فيما يكون مثارا للشبهات، ومن ثمة نقف عند هذا الحكم باختصار كما هو الشأن.

ما معنى الخمس

اصل الخمس فريضة من الفرائض الدينية على المال كالزكاة وهو من الواجبات التي لا يشك فيه مسلم لصراحة القران الكريم فيه، نعم تختلف المذاهب في سعة دائرته في موارده التي عليها الخمس ومصارفه التي يصرف فيها، وأما أصل فريضة الخمس فهي من الضرورات الدينية كالصلاة والزكاة وقد يعد المنكر لها كافرا فيما لو انتبه أن ذلك يؤول إلى تكذيب

ص: 428

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وذلك لأن أصل حكمه ورد في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ}((1)).

بمعنى أن المسلم اذا حصل على غنيمة فعليه أن يعطي خمسها 20% إلى الجهات المقررة كما سنبين.

وقد تسأل اذا كان ذلك بهذه الصراحة في كتاب اللّه فلماذا لا تلتزم المذاهب الأخرى كما يلتزم به المذهب الشيعي ولم نسمع عند أهل السنة تخميس أرباح أموالهم؟

يقال في الجواب: لقد وقع الخلاف الفقهي من جهتين من جهات الخمس:

1- جهة موارد الخمس

فعند المذاهب الأخرى أن الخمس المراد في الآية هو خمس الغنيمة الحربية، بمعنى إذا ما وقعت حرب بين المسلمين والكفار وغنم المسلمون منهم الغنائم فينبغي إخراج خمس الغنائم واعطاءها حيث ما أمر اللّه تعالى، وأما غير ذلك فقال بعضهم بلزوم خمس الكنز والمعدن والغوص أيضا وذلك لروايات وردت عندهم.

2- جهة صرف أموال الخمس

والجهة الأخرى هي جهة صرف أموال الخمس، فقد ذكرت الآية ست

ص: 429


1- الأنفال: 41.

جهات لصرف الخمس (اللّه ورسوله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) والاخير هو المسافر الذي فُقدت او سرقت امواله ولا مال له يرّده إلى أهله، وفي زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت إدارة هذا الأمر بيده ولكن بعد زمنه رأى ابو بكر وعمر أن يكون صرفها للحاكم يصرفها في شؤون الثغور وإدارة الحرب في سهم اللّه تعالى وسهم رسوله وأما سهم ذوي القربى فذكروا ان الآية نُسخت في هذا الخصوص فلا يجعلون نسبة من الخمس لبني هاشم الذين هم ذوو القربى هذا كله عند المذاهب الأخرى((1)).

وأما عند المذهب الجعفري فهناك اختلاف بالرأي في تلك الجهتين:

1- أما الجهة الأولى أي مورد الخمس فلا يعد محصورا بالغنيمة الحربية بل استنادا إلى الآية واللغة والأحاديث المروية عن أهل بيت النبي صلوات اللّه عليه وعليهم يرى المذهب الشيعي ان موارد الخمس إضافة إلى غنيمة الحرب هي الكنز والمعدن والغوص والحلال المختلط بالحرام وارباح المكاسب، وذلك للدليل الموجب لذلك كما سيأتي.

2- واما الجهة الأخرى التي يختلف فيها المذهب معهم وهي جهة صرف الخمس فذلك لعدّه الخمس من الفرائض التي جعلها اللّه تعالى لمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذريّته عوضاً عن الزكاة إكراماً لهم لان الزكاة تعد من الصدقات، ولا يأخذ النبي الصدقة ولا أهل بيته صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين، وعن الصادق (عليه السلام) : «إن اللّه لا إله الاّ هو حيث حرّم علينا الصدقة انزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا

ص: 430


1- المغني لابن قدامة، المقدسي، موفق الدين، ج6، ص458.

حلال»((1)).

فموارد صرف الخمس تخصهم (عليهم السلام) حيث سهم اللّه وسهم رسوله وسهم ذوي القربى كلها لهم لأنهم هم ذووا القربى ولأن الامام المعصوم يمثل النبي وخليفة اللّه في أرضه فله السهمان الآخران وكذلك يراد من الأيتام والمساكين وذي السبيل الذين هم من بني هاشم وليس من سائر الناس.

ثم ان ابرز ثمرة في هذا الخلاف هو وجوب اخراج الخمس من الأرباح التي يجنيها المرء بسبب عمله السنوي، وللتوضيح نشرح الحكم.

ظاهرة تخميس الأموال لدى الشيعة

يجب في المذهب الجعفري استقطاع خمس ارباح المال الذي حصل عليها صاحب المال وصرفها في الموارد التي ذكرت وذلك اذا مرّ عليها سنة من حين حصولها، فمثلا حينما يبدأ الإنسان بعمل ما وينجزه ثم ياخذ أجرته على ذلك أو يتاجر في شيء فيحصل على ربح من المال فمن ذلك التاريخ إلى سنة أخرى ان كان بقي عنده ذلك الربح أو تلك الأجرة التي كسبها او شيء مما ربحه او كسبه خلال تلك السنة ولم ينفقها في شؤونه فعليه أن يعطي خمسها بعد تمام السنة، فإذا كان ما حصل عليه مأة دينار ولايزال المبلغ متوفرا عنده فعليه أن يعطي عشرين دينارا منه لحكم الخمس وأما إذا صرفه في شؤونه ونفقته الطبيعية في الحياة من مأكل وملبس وانفاق على أهله من سائر الاحتياجات ولم يبق منه شيء فلا خمس عليه ولو بقي

ص: 431


1- وسائل الشيعة، ج9، ص483.

منه بعضه فعليه خمس ما بقي.

وايضا يمكن لصاحب الربح ان يخمّس الربح متى ما حصل عليه ولا ينتظر مرور سنة على ذلك ولكن ليس ذلك بواجب عليه، بل هناك رخصة له من الشارع المقدس أن يدع ذلك إلى نهاية السنة علّه ينفق ما حصل عليه في ضمن احتياجاته اليومية فلا يجب بعد ذلك فيه الخمس، وورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) : «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام»((1)).

الدليل بخصوص خمس الأرباح

قلنا إن أصل وجوب الخمس أمر لا خلاف فيه اذ الدليل عليه هو قوله تعالى: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}((2))، فهمت منها المذاهب الأخرى خصوص الغنيمة التي تغنم في الحروب الا ان للمذهب الشيعي فهما اوسع من ذلك فيكون القران الكريم دليلا على ذلك كما ان الروايات والسنة دليل آخر كما سياتي.

الدليل القرآني:

1- الدليل الاول: النص القرآني المطلق، يرى فقهاء المذهب الشيعي ان الآية اطلقت وجوب الخمس في حصول الغنيمة ولم تخصص ذلك في

ص: 432


1- وسائل الشيعة، ج9، ص502.
2- الأنفال: 41.

غنائم الحرب، والغنيمة تشمل كل ما يغنمه الإنسان ومما يغنم هو أرباح العمل والتجارات وما شابه، وحتى لو فرضنا أن الآية نزلت بعد معركة بدر فلا تدل على ذلك لما ذكر في محله أن المورد لا يخصص الوارد، بمعنى أن الآية وإن فرضنا وردت في حال حصول غنائم الحرب لكن مجرد ورودها كذلك لا يدل انها أرادت خصوص هذا المورد الحربي بل يمكن ارادة موارد أخرى فيها غنيمة مثل التجارة وما شاكل، وفي القرآن نماذج كثيرة من ذلك، مثل أن تنزل آية في حكم بسبب حدوث حادثة ما ولكن ينسحب الحكم على موارد أخرى لإن أسباب النزول ليست في حقيقتها وواقعها سوى مناسبات استدعت نزول الآية في وقتٍ ما وظرفٍ خاص بينما الآية في واقعها تريد بيان حكم من الأحكام، وهذا يعني أن النازل من القران في تلك المناسبات لا يختص بذلك المورد أو تلك المناسبة، فإن شأن النزول لا يلعب دوراً في تخصيص ما نزل من الحكم.

وفي رواية عن الامام الباقر (عليه السلام) يقول: «إن القران حي لا يموت، وإن الآية حية لا تموت فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية لمات القران ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين»((1)).

هذا واذا رجعنا إلى مفردة (الغنيمة) في اللغة وجدناها دالة على عموم ما يحصله الإنسان من فائدة وليست خاصة بغنيمة الحرب.

جاء في معجم المعاني الجامع: غنِم الشّيءَ: فاز به، ربحه، ناله بلا

ص: 433


1- بحار الأنوار، المجلسي، ج35، ص403.

مشقَّة، عكسه غرِم، وفي لسان العرب: غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته.

فظاهر الآية لغة ارادة مطلق معنى الغنيمة الشامل للأرباح التي يحصلها الانسان بسبب عمله وتجارته وما شاكل.

الدليل الروائي

2- من الواضح أن فقهاء الشيعة يستندون في استدلالاتهم إلى أحاديث الائمة المعصومين كما يستندون إلى أحاديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأن حديثهم حديث جدهم ولأنهم هم العترة التي أُمرنا بالتمسك بهم.

وقد وردت روايات كثيرة عنهم (عليهم السلام) صريحة في وجوب الخمس على مطلق الفائدة التي يجنيها الإنسان الا بعض ما استثنوا كمهر النساء والارث وغيرها ومن ذلك:

رواية عبد اللّه بن سنان قال: قال: ابو عبد اللّه (عليه السلام) : «على كل أمرئ غنم أو اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة (عليها السلام) ولمن يلي أمرها من بعد من ذريّتها الحجج على الناس فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤوا وحرّم عليهم الصدقة حتى الخّياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق»((1)

وفي اللغة الدانق عملة نقدية تقدر سدس الدرهم((2)).

ومنها عن سماعة قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) (الامام موسى بن جعفر) عن الخمس؟ فقال: في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير»((3)).

ص: 434


1- وسائل الشيعة، الشيخ حرّ العاملي، ج9، ص503.
2- معجم الرائد.
3- نفس المصدر.

والروايات بكثرة حتى قيل انها متواترة.

لماذا يعطى الخمس إلى الفقهاء

ثم من المتعارف عند الشيعة المؤمنين اذا أخرجوا الخمس من أموالهم سلموه إلى أحد المراجع او إلى وكيله ليوصله إليه، أو يصرفوا قسما منه كسهم السادة بانفسهم إلى فقراء السادة من أبناء رسول اللّه أو صرفوا قسما آخر منه وهو سهم الامام (عليه السلام) في بناء المؤسسات من المساجد والحسينيات والمدارس وغير ذلك مما ينفع وكل ذلك بإذن مراجع الدين.

بالطبع أن هذا الفعال آت من الالتزام بالحكم الشرعي المفروض في صرف مبالغ الخمس والذي يمكن استفادته مما جاء عن الامام الصادق (عليه السلام) بقوله: «العلماء ورثة الأنبياء»((1)) فالعلماء كما يرثونهم في العلم كذلك في قيادة الأمة وادارة ما يرتبط بالدين فهم الأولى والأعرف في توزيع الخمس في موارده المقررة، وكذلك مما يدل على لزوم الرجوع اليهم هو الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما»((2)).

حيث استفاد الفقهاء من ذلك دلالة على لزوم اعطاء الخمس في زمننا زمن غيبة امامنا عجل اللّه فرجه إلى الفقيه لأنه هو الذي ينظر في الحلال

ص: 435


1- الكافي، ج1، ص32
2- الكافي، ج7، ص412

والحرام ويعرف الأحكام فهو الأولى في صرف هذا المال إلى أهله، وكذلك استفادوا من قوله (عليه السلام) (جعلته عليكم حاكما) أنهم الأولى في الحكم مع غياب الامام (عليه السلام) ، وبما أن اموال الخمس ينبغي اعطاؤها إلى صاحب الأمر والزمان وهو (عليه السلام) غائب عن الانظار فيلزم اعطاؤها إلى من جعله الامام حاكما على المؤمنين وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفقاهة والتقليد.

هل اخذ رسول اللّه خمس الارباح

بالطبع ليس من الضرورة أن كل الأحكام التي نقرأها عن الإسلام أن نجد لها تطبيقات عملية في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكثير منها لم يدوّن وكثير لم يصلنا لاسيما مما كان فيه نصرة لأهل البيت (عليهم السلام) ، لأن التاريخ والسلطة والاعلام وغيرها كلها كانت بيد أعدائهم وقد حرّفوا وجابهوا كل ما كان يصبّ في نفعهم (عليهم السلام) .

ومن هنا قد يتساءل بعض ويقول لماذا لم نسمع بفريضة خمس الأرباح في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك في حكومة الإمام علي (عليه السلام) ، كيف ذلك مع أن الخمس من الفرائض؟

فيمكن توجيه وبيان ذلك من خلال جوانب عديدة فنقول باختصار:

1- إن للنبي والإمام المعصوم الغض عن تطبيق حكم لفترة ما ولأسباب قد نجهلها، فمقام النبوة والامامة مقام مُفوَّض إليه صلاحيات كهذه وغيرها.

2- إن هذا الحكم يتعلق بشأنهم الخاص فيمكن أن يتنازل المرء عن حقه لفترة ما لهدف أهم.

3- كما يمكن القول إن فترة حكم النبي كثرت فيها الغزوات وكان فيها

ص: 436

المغنم الذي يأتي النبي منه الخمس والذي به تبسط يداه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مما يغنيه عن المطالبة بخمس أرباح المكاسب، هذا فضلا عما كان يأتيه من الفيء اي الأراضي وغيرها التي كان يصالح عليها أهلها من دون حرب كأرض فدك وغيرها.

4- وهكذا يمكن القول إن المسلمين في زمن النبي غالبا كانت معيشتهم متواضعة جدا فلم يطالبهم الخمس توسيعا عليهم.

5- ثم إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان هو المعني وقرباه بقانون الخمس وقد لا يكون يريد مطالبة القوم بما هو محسوب على الأموال مما هو من مظاهر الدنيا والحرص عليها.

6- ولعله لم يفعل ذلك لأنه من الصعوبة أن يدعو الآخرين إلى الإسلام ثم يطالبهم مباشرة باعطاء 20% من ارباحهم لشخصه الكريم وأهل بيته وقرابته، فقد يظن الناس، أنه إنما يدعوهم لمصالحه الخاصة باسم الإسلام والدين.

هذا كله فضلا عما ثبت أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد كتب إلى بعض الأطراف أن يؤدوا الفرائض ومنها الخمس، من ذلك ما ورد في كتابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قبيلة من قبائل العرب: «إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها على أن تؤدوا الخمس»((1)) وأما فترة حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) فلقد غض عن بعض القوانين والسنن مما لم يلتزم بها من

ص: 437


1- مكاتيب الرسول، الأحمدي، الميانجي، ج3، ص226؛ وكنز العمال ج13، ص502.

حكم خلال فترة خمس وعشرين سنة قبله، وكان من الصعب إرجاع المسلمين إلى القوانين والسنن التي كانت على عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد ورد أنه لما نصح الناس بترك صلاة التراويح جماعة لأنها بدعة خالفوه واحدثوا شغبا ونادوا واعمراه((1)) فتركهم وشأنهم فكيف مع ذلك يطالبهم بدفع خمس تجاراتهم لشخصه وقرباه وهم الذين شبّوا وشابوا على سنن الشيوخ قبله والذين عدّوا الخمس في غنائم الحروب لا في الارباح الخاصة، بينما هو زهد بأبسط حقوقه المالية وقال في ارض فدك التي استولت عليها السلطة قبل ذلك بعد تمكنه من ارجاعها «وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانها في غد جدث - اي القبر - تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها»((2)) فالشأن بعدم الزامهم بخمس الارباح مع ما ذكرنا واضح جدا.

وأما فيما بعد ذلك في زمن الائمة (عليهم السلام) بعد أن ضيّق عليهم حكام الجور والضلالة وعلى ذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق لهم (عليهم السلام) ان يذكّروا المؤمنين بذلك الواجب المنسي والذي هو كان ولايزال لهم ولكن الظالمين قد دفعوه عنهم وذلك ليستعينوا به على انفسهم وعيالاتهم ومعونة الكرام من ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين يحرم عليهم الاستعانة بصدقات الناس ولكي يستفيدوا من ذلك المال أيضا في نصرة الدين والمذهب ومعونة انصارهم وتبسط أيديهم في ذلك.

ص: 438


1- تهذيب الأحكام، ج3، ص70، ح227
2- نهج البلاغة كتاب 45.

اتصور بهذا التحليل ومن هذه الزاويا العديدة يتضح جليا لماذا خفي موضوع الخمس خلال القرن الأول تقريبا وظهر بأحاديث كثيرة بعد ذلك.

روايات تحث على الخمس

وفي ختام هذا الفصل اذكّر احبتي ونفسي بضرورة الالتزام بهذه الفريضة ولا نكون والعياذ باللّه واحدا ممن يغصب أهل البيت وذراريهم حقوقهم ولا نحرم أنفسنا من الطاف ودعاء الائمة لنا، ويظهر من بعض الأحاديث أن الامتناع عن اعطاء الخمس إلى حقه يؤدي إلى حرمان الإنسان نفسه من دعاء مولاه الامام (عليه السلام) فاختم كلامي بهذه الروايات:

1- كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الأذن في الخمس - أي ان يسمح له بعدم اعطائه ذلك -، فكتب إليه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، إن اللّه واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهم، لا يحل مال إلا من وجه أحله اللّه، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى أموالنا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا، ولا تحرموا انفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فان إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم، وما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي للّه بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب، والسلام((1)).

بحق انه كلام خطير ووعيد لمن يمتنع عن اعطاء الخمس بالشقاء كما

ص: 439


1- وسائل الشيعة، ج9، ص538.

هو وعد لمن يسلم للّه بهذا الحكم بالرزق والدعاء من الامام المعصوم بحقه وهل حبوة وهدية اعظم من دعاء المعصوم (عليه السلام) لمحبه ومواليه.

2- عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره اللّه، اشترى ما لا يحل له»((1)).

3- عن ابي بصير قال: قلت لا بي جعفر (عليه السلام) : «ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال (عليه السلام) من أكل من مال اليتيم درهما ونحن اليتيم».

اكتفي بهذه الروايات الثلاث تناسبا مع هذا المختصر وأسأل اللّه تعالى لي ولك ايها القارئ الكريم بالتوفيق لما يحب ويرضى لاسيما فيما تثقل النفوس بالعمل به.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 440


1- وسائل الشيعة، ج9، ص540.

(3) الشيعة وصلاة التراويح

اشارة

هناك صلوات يؤديها كثير من المسلمين في ليالي شهر رمضان المبارك بعد صلاة العشاء تسمى بصلاة التراويح يقيمها المسلمون من أبناء العامة صلاة جماعة إلا أن المسلمين الشيعة لا يقيمونها بشكلها المعهود عند أبناء العامة، فما هي هذه الصلوات ولماذا هذا الاختلاف؟

ما معنى التراويح؟

التراويح جمع ترويحة أي الراحة والاستراحة، قال في لسان العرب:

الترويحة في شهر رمضان، سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات، وفي الحديث: صلاة التراويح، لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين((1)).

نعم هي صلاة نافلة أي ليست بفريضة وإنما أصل حقيقتها من الصلوات المستحبة التي تقرب العبد إلى ربه مثلها مثل كل صلاة مشروعة.

وقد رواها المسلمون جميعا عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه كان يصلي النوافل في

ص: 441


1- لسان العرب، ج2، ص462.

ليالي شهر رمضان أكثر من غيره من الشهور.

ومن روايات غير الشيعة: أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «لرمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»((1)).

ومما روي في مصادر الشيعة هي رواية الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «مما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصنع في شهر رمضان كان يتنفل في كل ليلة ويزيد على صلاته التي كان يصليها قبل ذلك منذ أول ليلة...»((2)).

ماهي كيفية هذه الصلاة وكم عدد ركعاتها؟

تختلف طوائف المسلمين في كيفية هذه الصلاة وعدد ركعاتها، فبعضهم افترضها إحدى وعشرين ركعة وبعضهم ثلاث وعشرين أو أكثر حتى عدّها بعضهم إلى قرابة الأربعين، وهي بتسليمة في كل ركعتين، إلا أن الأغلب عدها عشرين ركعة في كل ليلة من شهر رمضان.

وأما عند الشيعة: فالمشهور - برغم اختلاف الروايات - أنها عشرون ركعة في كل ليلة إلى عشرين ليلة، ثم ثلاثون في كل ليلة من العشر الأواخر مع زيادة مائة ركعة في كل من ليالي القدر، ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، فتتم في المجموع ألف ركعة خلال الشهر المبارك كله.

ص: 442


1- البخاري، ج1، ص343.
2- التهذيب، ج3، ص62، ح6.

وفي رواية عن أحمد بن مطهر أنه كتب إلى الامام الجواد أبي محمد (عليه السلام) يخبره بما جاءت به الرواية أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما كان يصلي في شهر رمضان وغيره من الليل سوى ثلاث عشر ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، فكتب (عليه السلام) : «فض اللّه فاه، صلى من شهر رمضان في عشرين ليلة، كل ليلة عشرين ركعة ثماني بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، واغتسل ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، وصلى فيهما ثلاثين ركعة اثنتي عشرة ركعة بعد المغرب وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة، وصلى فيهما مائة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب و{قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرات، وصلى إلى آخر الشهر كل ليلة ثلاثين ركعة كل على ما فسرت لك»((1)).

كما لا خلاف ولا إشكال في الندب إلى الصلاة في تلك الليالي المباركة فإن الصلاة قربان كل تقي ومعراج المؤمن، وإنما الخلاف الذي ألزم الشيعة بعدم إقامة صلاة التراويح هو الإشكال في أداءها جماعة وأما أداؤها فرادى فهو مما أجمع المسلمون جميعا على صحتها بلا خلاف.

لماذا لا يصليها الشيعة جماعة؟

يرى المسلمون الشيعة تبعا لروايات عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا جماعة في صلاة مندوبة إلا في بعض ما استثني كصلاة العيدين في زمن غيبة الإمام (عليه السلام) ، وأن هذه النوافل في ليالي شهر رمضان هي صلوات مندوبة لا

ص: 443


1- وسائل الشيعة، ج8، ص35.

تجوز فيها الجماعة ودليلهم على ذلك هي الروايات لدى الفريقين.

فمما روي في كتاب وسائل الشيعة عن عدة رواة سألوا الإمام الصادق وبعده الإمام الكاظم وثم الإمام الرضا (عليهم السلام) ، فأجابوا جميعا: إنه لما دخلت أول ليلة من شهر رمضان صلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المغرب، ثم صلى أربع ركعات التي كان يصليهن بعد المغرب في كل ليلة، ثم صلى ثماني ركعات، فلما صلى العشاء الآخرة وصلى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد العشاء الآخرة وهو جالس في كل ليلة قام فصلى اثنتي عشرة ركعة، ثم دخل بيته فلما رأى ذلك الناس ونظروا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد زاد في الصلاة حين دخل شهر رمضان سألوه عن ذلك؟ فأخبرهم أن هذه الصلاة صليتها لفضل شهر رمضان عن الشهور، فلما كان من الليل قام يصلي فاصطف الناس خلفه فانصرف إليهم فقال: أيها الناس إن هذه الصلاة نافلة ولن تجتمع للنافلة، فليصل كل رجل منكم وحده، وليقل ما علمه اللّه من كتابه، واعلموا أنه لا جماعة في نافلة، فافترق الناس فصلى كل واحد منهم على حياله لنفسه((1)).

كما روى البخاري: «عن زيد بن ثابت أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتخذ حُجرة قال حسبت أنه قال من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة

ص: 444


1- وسائل الشيعة، ج8، ص64، في باب استحباب زيادة ألف ركعة في شهر رمضان والرواية مفصلة.

المرء في بيته إلا المكتوبة»، أي الواجبة((1)).

وقد تستغرب وتسأل إذن كيف تقام هذه الصلوات جماعة في مساجد المسلمين في ليالي شهر رمضان؟!

دور عمر بن الخطاب والتراويح

الجواب هو ما جاء في كتب الفريقين: بأن المسلمين كانوا يصلونها فرادى في عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعهد أبي بكر وشطرا من عهد عمر بن الخطاب إلا أن الرجل ارتأى يوما أن يصليها المسلمون جماعة لأنها - فيما يراه - أوقع في النفوس، ذكر البخاري في باب صلاة التراويح يقول: عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله((2)).

وعن الطبري وابن الأثير: إن ذلك كان في شهر رمضان سنة أربع عشر، وجعل للناس بالمدينة قارئين، قارئا يصلي بالرجال، وقارئا يصلي بالنساء((3)).

ص: 445


1- البخاري، ج1، ص78.
2- البخاري، ج2، ص252.
3- تاريخ الطبري، ج5، ص22؛ الكامل لابن الأثير، ج2، ص41.

كما أنهم صرحوا أنها لم تكن جماعة وأن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يُصلّ صلاة التراويح بالمسلمين جماعةً خوفاً من أن تُفرض عليهم هذه الصّلاة فيشقّ عليهم القيام بها، وهو الأمر الوارد في الحديث عندهم كما رواه الالباني: «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ - وآله - وسلَّمَ صلَّى في المسجدِ فصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ ثمَّ صلَّى منَ القابلةِ فَكثُرَ النَّاسُ ثمَّ اجتمَعوا منَ اللَّيلةِ الثَّالثةِ فلم يخرُج إليْهم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ - وآله - وسلَّمَ فلمَّا أصبحَ قالَ قد رأيتُ الَّذي صنعتُم فلم يمنعني منَ الخروجِ إليْكم إلَّا أنِّي خشيتُ أن تُفرَضَ عليْكم وذلِكَ في رمضانَ»((1)).

أمير المؤمنين ينهى عن إقامتها جماعة

وورد في التاريخ والأخبار المروية أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) سعى في منع ذلك حين آلت اليه الأمور إلا أن الناس كانوا قد اعتادوا تلك الصلاة جماعة فامتنعوا عن إجابته إلى ذلك فتركهم وشأنهم درءا للفتنة، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي (عليه السلام) أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي (عليه السلام) بما أمره به أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي (عليه السلام) صاحوا: واعمراه، واعمراه، فلما رجع الحسن (عليه السلام) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه، فقال أمير

ص: 446


1- رواه الألباني في صحيح سنن أبي داود، الرقم 1373.

المؤمنين (عليه السلام) : قل لهم صلوا((1)).

وأيضا في الكافي عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم صلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال:.. واللّه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري، ممن يقاتل معي: يا أهل الاسلام غُيّرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري((2)).

وفي بعض الأحاديث صرّح (عليه السلام) لهم ببدعة ما هم فيه وأنهم اتخذوا سبيل الغي فعن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) : «لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماما يؤمّنا في رمضان، فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: إبكوا رمضان، وا رمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أناس، فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك. قال: فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصل بهم من شاؤوا، ثم قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}((3))»((4)).

هذا وقبل الختام انوّه بأن هناك من المسلمين من غير الشيعة يرجّح أن

ص: 447


1- تهذيب الأحكام، ج3، ص70، ح 227.
2- الكافي، ج8، ص62.
3- النساء: 115.
4- وسائل الشيعة، ج8، ص47، باب 10، ح 5.

تؤدى هذه الصلاة فرادى وفي البيت على ادائها جماعة كما قال بذلك مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم((1)).

هذا ما أردنا الإشارة إليه وهو مجرد الإجابة على سؤال قد يتبادر إلى الأذهان عن موقف الشيعة تجاه صلاة التراويح، وليس المراد مناقشة ما استدل عليه القوم من دليل وتبرير في جواز ذلك فإن الإنسان على نفسه بصيرة مجتهدًا كان أم عاميا ودليله العلمي القائم على الموازين الصحيحة هو حجته إلى اللّه تعالى. نسأل اللّه تعالى أن يؤلف بين المسلمين ويوفقهم للمّ الشمل والتعايش السليم.

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 448


1- لاحظ كتاب صلاة التراويح بين السنة والبدعة، ص54 عن إرشاد الساري، ج4، ص659-661.

(4) وقت أذان المغرب ووقت الإفطار

اشارة

من الفوارق الملاحظة عند غالب الشيعة عن غيرهم من المسلمين هو وقت افطارهم في شهر رمضان حيث يفطرون بعد أهل العامة بدقائق معدودة - من عشر إلى خمس عشرة دقيقة - فما هو السبب والداعي إلى ذلك؟

من الواضح أن وقت الإفطار من الصيام هو نفسه وقت اداء صلاة المغرب، بمعنى أن الأمر يتعلق بدخول وقت المغرب شرعا الذي به يجوز الإفطار وبه يكون الأذان لصلاة المغرب ولا يثار هذا الفارق في طيلة ايام السنة لان عامة المسلمين غالبا يصلون المغرب بوقت واحد مع الشيعة لحصول التأخير عمليا قليلا عن غياب قرص الشمس ولكن في شهر رمضان ولأجل الافطار من الصيام يسارع المسلمون من غير الشيعة الى الافطار لأنه قد حل عندهم وقت المغرب فيتجلى هذا الفارق الزمني بين افطار الشيعة وافطار غيرهم من غالبية المسلمين.

رأيان اَساسيان

وهناك رأيان فقهيان اساسيان في خصوص هذا الوقت.

الاول: - وهو المشهور عند غالب المسلمين - وهو ان وقت تحقق

ص: 449

المغرب شرعا هو مجرد سقوط واستتار قرص الشمس عن الأفق تماما حتى وإن بقي آثار نورها واضحا في عنان السماء لاسيما اذا كان ذلك في الصحراء أو على سطح البحر حيث يمكن للإنسان أن يبصر بنفسه ميلان الشمس نحو الغروب وسقوطها تدريجيا بحيث تغيب عن الأفق وعن الرؤية على السطح تماما فبذلك يدخل وقت المغرب الشرعي بناء على أن وقته هو مجرد استتار قرص الشمس.

وهذا هو الرأي الغالب عند فقهاء العامة وكذلك عند بعض فقهاء الشيعة قديما وحديثا.

وهناك من الروايات الدالة على ذلك مما يمكن اعتمادها دليلا ضمن الادلة على ذلك ومنها هذه الرواية:

رواية عبد اللّه بن سنان: عن أبي عبد اللّه (الامام الصادق) (عليه السلام) أنه قال: وقت المغرب من حين تغيب الشمس إلى أن تشتبك النجوم((1)).

حيث ان الرواية واضحة بصراحتها أن بداية وقت تحقق المغرب الشرعي هو مجرد غيبوبة قرص الشمس، وهذا هو الرأي السائد عند فقهاء العامة وعند بعض فقهاء الشيعة.

الثاني: وهو الرأي السائد عند أغلب فقهاء الشيعة لاسيما في القرون المتأخرة إلى يومنا هذا وهو ضرورة الانتظار حتى تذهب الحمرة المشرقية من الأفق ولا يكتفى بغيبوبة قرص الشمس عن الأنظار، وذلك يكون بعد بضع دقائق قد تكون حوالي عشر دقائق تقريبا وذلك استنادا إلى روايات

ص: 450


1- وسائل الشيعة، ج4، ص182، الباب 16، من أبواب المواقيت، ح26.

عدّت وقت دخول المغرب الشرعي هو زوال هذه الحمرة، والتي تعلو في الأفق طرف المشرق عند شروع قرص الشمس في الغيبوبة وإلى دقائق ثم تزول وبزوالها يبدو الليل جليا وغالبا في الأفق، وكما ذكرت يتم ذلك غالبا بعد الحالة الأولى بعشر دقائق تقريبا، وبناء على ذلك فان من ذهب من الفقهاء بضرورة الانتظار حتى زوال هذه الحمرة ليحلّ وقت صلاة المغرب يتوجب أيضا أن لا يسارع الصائم إلى الإفطار بمجرد غياب قرص الشمس بل ينتظر هذه الدقائق أيضا، وبما أن اغلب فقهاء الشيعة اليوم يقولون بذلك إما افتاء - اي ان الفقيه قد حصل على قناعة تامة بالحكم وان تحقق الغروب شرعا هو ذهاب تلك الحمرة - وإما يقولون بذلك احتياطا - اي ان الفقيه لم يتوصل إلى درجة من اليقين في احد طرفي الحكم وان المغرب الشرعي هل هو بسقوط القرص فقط اَم بذهاب الحمرة عن الافق، فيوجب على مقلديه أن يحتاطوا في دينهم فينتظروا حتى تزول تلك الحمرة، وبما ان الشيعة غالبا يتبعون فقهاءهم فتراهم ينتظرون قليلا في افطارهم او صلاتهم المغرب حتى تذهب تلك الحمرة المشرقية عن الأفق وبذلك يحدث هذا الفارق الزمني مع غيرهم ممن يكتفي بغياب قرص الشمس عن الأنظار فقط.

وبالطبع هنا أيضا روايات يستدل بها على مثل هذا الرأي ومن ذلك هذه الرواية:

رواية بن وضاح: قال: كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) : يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً وتستر عنا الشمس، وترتفع فوق الليل

ص: 451

حمرة، ويؤذن عندنا المؤذِّنون، افأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً أو أنتظر حتى تذهب الحمرة إلى فوق الليل؟ فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائط لدينك((1)).

المراد من (العبد الصالح) في الرواية هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) والقصد من الاخذ بالحائط لدينك هو الاحتياط والتثبت من تحقق الغروب بشكل تام وكامل فإن ذلك من الدين.

ثم إن للفقهاء تجاه هذه الروايات التي ذكرت قضية الحمرة المشرقية رأيين اساسيين بسبب رؤيتين مختلفتين:

الرؤية الأولى: هناك من الفقهاء من يرى أن هذه الروايات أرادت الإشارة إلى تمامية العلامة على حصول الغروب للشمس بمعنى ان ذهاب الحمرة إنما هو طريق للاطمئنان واليقين بغياب قرص الشمس تماما وحقيقة عن سطح الافق إلى جهة المغرب لاسيما في البلاد التي تحيطها الجبال أو البنايات العالية والأبراج وما شابه حيث لا يمكن ملاحظة ذلك بالعين مباشرة، ولم تكن حينها تلك الحسابات الفلكية الدقيقة لحركة الأرض ودورانها وحدوث ظاهرة غيبوبة الشمس فكان لابد من الانتظار لذهاب تلك الحمرة، ومثل هذا الفقيه لا يرى لمن ايقن بغروب الشمس وغيابها عن الافق ضرورة الانتظار لصلاة المغرب أو الإفطار من الصوم الى ذهاب تلك الحمرة إلا من باب الأفضلية والاحتياط الاستحبابي ويجيز بالصلاة

ص: 452


1- وسائل الشيعة، ج4، ص176-177، الباب 16، من أبواب المواقيت، ح14.

والافطار بعد غياب قرص الشمس مباشرة.

الرؤية الثانية: ولكن هناك من الفقهاء من يرى أن لتلك الروايات موضوعية وليس مقتضى ذهاب الحمرة هو مجرد علامة لحدوث الغيبوبة الظاهرية للشمس بل ان دخول الليل والوقت الشرعي لصلاة المغرب والافطار هو بالفعل عند تحقق ذهاب تلك الحمرة فمثل هذا الفقيه قد يفتي بلزوم ذهاب الحمرة المشرقية حتى يحين وقت الإفطار والصلاة أو لا أقل انه يرى الاحتياط الوجوبي في لزوم الانتظار إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة.

وعلى أي حال توضح من خلال ما مرّ السر وراء هذا الفارق الزمني القليل الذي يكون لصلاة المغرب وللإفطار من الصيام عند اغلب المسلمين الشيعة، فليس هو إلا للأدلة والنصوص التي قد تبدو متضاربة إلا أن للفقهاء قناعاتهم المبتنية على الأسس ومبانيهم العلمية.

واخيرا أقول بالتأكيد لا يكون هذا الفارق الزمني فارقا بين المسلمين طالما أن ذلك مستند للفهم العلمي من النصوص الشرعية.

هذا والحمد للّه رب العالمين.

ص: 453

ص: 454

قبل الختام التصديق بعد التلاوة

اشارة

ص: 455

ص: 456

التصديق بعد التلاوة

اشارة

المراد من التصديق هو قول القارئ للقران الكريم بعد اتمام تلاوته (صدق اللّه العلي العظيم، او صدق اللّه العظيم)، والكلام عن اصل هذا النص فهل له من اصل يثبت به فضل هذا الطريقة في الاختتام للتلاوة وما هو الفرق بين العبارتين المعهودتين عند عامة المسلمين وعند المسلمين الشيعة، ولكن قبل ذلك لنقدم مقدمة في بعض الآراء في اصل هذه العبارة.

هل التصديق من آداب التلاوة؟

هناك آداب تذكر في تلاوة القران الكريم مثل الاستعاذة باللّه تعالى من الشيطان الرجيم عند بدء التلاوة والاستعاذة به تعالى من العذاب إذا ما مرّ بآية فيها عذاب، كذلك من آداب التلاوة إذا مرّ بآية فيها رحمة ونعيم أن يسأل اللّه تعالى من تلك الرحمة وذلك النعيم، وهكذا آداب أخرى، فهل يعد التصديق بعد الانتهاء من التلاوة من ذلك ايضا، يعني هل يفضل ما يفعله قرّاء القران من قولهم صدق اللّه العظيم او صدق اللّه العلي العظيم؟ أم ان هذا شيء مستحدث لا يعد من آداب التلاوة؟

يذهب بعض علماء المسلمين من اتباع المدرسة الوهابية الى عدم صحة ذلك بل يعده بدعة اذ لم يعهده في صدر الاسلام كما يقول، ويمكن ملاحظة

ص: 457

الاستفتاءات على مواقعهم الالكترونية((1))

بينما يذهب اكثر المسلمين من العامة بصحة ذلك وجوازه لأنه نوع من الثناء على اللّه تعالى ومن الذكر ولا مانع من القول به ويستدلون بكلام لبعض علمائهم ومفسريهم ومن ذلك ما نقلوه عن القرطبي في تفسيره ينقل عن الحكيم الترمذي - كما يسميه - انه يعدّ من حُرمة القران ان التالي له يقول بعد التلاوة صدق اللّه العظيم وبلّغ رسوله الكريم((2)) وغير القرطبي ايضا، ومما استدلوا به قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما اتاه الحسنان (عليهما السلام) يعثران ويقومان وهو يخطب على المنبر فنزل اليهما ورفعهما وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (صدق اللّه، انما اموالكم واولادكم فتنة)((3)) وغير ذلك من الادلة التي ذكروها ردا على من عدّها بدعة.

واما عند فقهاء الشيعة فلا يرون بأسا في ذلك وان لم يعدّوا ذلك من المستحبات كما هو ملاحظ في اجوبة الاستفتاءات الموجهة اليهم من المؤمنين، نعم لا يجوّزون ذلك في الصلاة لان التصديق هو كلام الانسان نفسه بمعنى أن المصلي لما يقول صدق اللّه العظيم ام العلي العظيم وهو في الصلاة فهو يتكلم عن نفسه من ان اللّه تعالى صدق بهذه الآيات، وهو وان كان كلاما صادقا صحيحا لكنه كلام الانسان نفسه ولا يجوز التكلم في الصلاة، نعم له ان يدعو اللّه تعالى بدعاء ما او يقرأ القرآن او يذكر اللّه تعالى((4)).

ص: 458


1- الموقع الالكتروني لابن عثيمين وابن باز وغيرهما.
2- تفسير القرطبي، ج1، ص27.
3- ممن روى الحديث ابو داود في صحيحه تحت رقم 1109.
4- يراجع كتب الاستفتاء او مواقع الاستفتاء لعلماء الشيعة.

بعد هذه المقدمة نقول مما يؤسف له أن مثل هذا القول عُدّ مثارا وظاهرة من مظاهر الفوارق بين أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وبين أتباع المذاهب الأخرى الذين يجتنبون ذكر (العليّ) في تصديقهم عند ختمهم للتلاوة ويكتفون بقولهم (صدق اللّه العظيم).

فيا ترى هل ذلك خلاف ومثار للجدل وهل يستحق نقاشا؟!

في الواقع ليس هو بخلاف ولا يُنكر أحد الطرفين ذلك على الآخر، وإنما نخوض هذا النقاش وهذا الموضوع لمجرد التوضيح بأن ما يقوله الشيعة في ختم التلاوة لم يأت من فراغ، فلا يظنّ ظانّ من أن الشيعة إنما يذكرون (العليّ) تيمّنا وولاءً منهم للإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لأن اسمه (عليّ) على اسم (العليّ جلّ وعلا).

بالطبع ليس الأمر كذلك، لان (العليّ) إسم من أسماء اللّه الحسنى مثله مثل (المتعال والجبار والعظيم) وغير ذلك من الأسماء المباركة له سبحانه وتعالى، ومما يُستبعد جدا في عالمنا اليوم المكشوف بعضه على بعض، حيث تسمع التلاوات الشيعية كل مكان أن يتصور أحد أن الشيعة يقصدون من مفردة (العليّ) هو الإمام علي (عليه السلام) .

وعلى أي حال عدّت طريقة ختم القران من الميزات والفوارق التي يتمسك كل من الطرفين بها، وبات ينعت بالتشيع كل من يختم تلاوته بقوله (صدق اللّه العلي العظيم) كما ويوصف بالسُني كل من يكتفي بقوله (صدق اللّه العظيم).

مع أن ذلك وإن كان حقيقة وظاهرة مشهودة إلا أنها ليست ضرورة من

ص: 459

الضرورات المذهبية لأي من الطرفين فلا ينبغي أن تكون مدعاة للخلاف، فلقد صدق اللّه تعالى في كتابه الكريم وهو العلي العظيم والغفور الرحيم ورب العرش العظيم والسميع العليم و... إلى كل صفاته سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى، وليس في ذلك ضير.

لماذا التقيّد ب (العلي العظيم)

ذكرت أن ختم التلاوة بعبارة (صدق اللّه العليّ العظيم) وبهذه الكيفية لم تأت من فراغ، بل يمكن الانتصار لذلك من القرآن الكريم ومن حديث أهل البيت (عليهم السلام) وذلك كما يلي:

أولا: القرآن الكريم.

عندما نتلو كتاب اللّه الكريم نتأمل أمرين فيما يخص موضوعنا هذا:

الأمر الأول: أن كلام اللّه تعالى قد جمع بين هذين الإسمين المباركين في آيتين من كتابه:

قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَلَا ئَُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ}((1)).

وقال عزّ وجل: {لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلْأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ}((2)).

نلاحظ هاتين الآيتين المباركتين قد قرنت بين صفة (العليّ) وصفة

ص: 460


1- البقرة: 255.
2- الشورى: 4.

(العظيم)، ولا شك أن كلام اللّه تعالى مبني على أرقى مستويات معاني البلاغة وإرادة أفضل التعابير الدالة على المعنى المناسب والمراد بيانه، وحينئذ يكون لاستعارة هذا القِران بين هاتين الصفتين في كلام البشر رجحان وإستحسان بيّن لأنه مشابه لما جاء في الذكر الحكيم.

الأمر الثاني: إننا لو تأملنا خواتيم الآيات التي ذكرت لفظ الجلالة (اللّه) أو ذكرت ضميرا يعود إليه جل وعلا لاحظناها قد أردفت بوصفين متناسبين أو اسمين من أسماء اللّه تعالى، وقلّما انفردت باسم واحد ولم تجمعه مع اسم آخر من أسمائه عزّ وجل.

مثال ذلك بعد لفظ الجلالة كقوله تعالى: (اللّه الرحمن الرحيم) (اللّه العزيز الحكيم) (اللّه العزيز الحميد) (اللّه ذو الفضل العظيم)، ومثال ذلك بعد ضمير يعود لذكره عزّ وجل كقوله تعالى: (هو السميع العليم) (هو السميع البصير) (هو الغفور الرحيم) (هو العزيز الحكيم) (هو القوي العزيز) (هو العزيز الغفار) (هو العزيز الرحيم) (هو الغفور الودود) (هو العلي العظيم) وغير ذلك.

نعم يمكن للطرف الآخر أن يقول وردت آية تنعته سبحانه بوصف واحد بعد لفظ الجلالة مثل قوله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ}((1))، كما وردت أكثر من آية في غير لفظ الجلالة مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى}((2))

ص: 461


1- الحاقة: 33.
2- الأعلى: 1.

{فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ}((1)) وغير ذلك.

ولكن من الواضح أن الغالب بعد لفظ الجلالة هو مجيء اسمين من أسمائه الحسنى وصفاته جل وعلا مثل (اللّه سميع عليم) (اللّه غفور رحيم) (اللّه عزيز حكيم) وهكذا أكثر من مأة آية مما يكون التعبير (صدق اللّه العلي العظيم) هو الأقرب للصورة القرآنية.

وعلى أي حال لابد من الإنصاف والقول حينئذ أن ما ذكر من استناد إلى القرآن الكريم في هذا الأمر لا يعدّ دليلا على رجحان هذا القول على غيره، نعم قد يكون مؤيدا - ليس أكثر - لما سيأتي في الاستناد الثاني أي الروائي الذي هو الأوضح والأقوى في مفاد ذلك، كما سنرى.

ثانيا: الحديث الشريف:

هناك روايتان يمكن الاستناد اليهما في ترجيح التعبير بطريقة (صدق اللّه العلي العظيم). واحدة تروى عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

الرواية الأولى: عن ابن عباس أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرسل كتابا إلى يهود خيبر وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام فجاءه عبد اللّه بن سلام وكان ممن قرأ في التوراة أخبار نبي آخر الزمان وطرح على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسئلة استخرجها من التوراة ليطمئن إلى صدق دعوة النبي، فكان مما سأل أنه قال: «فَأَخْبِرْنِي مَا ابْتِدَاءُ الْقُرْآنِ ومَا خَتْمُهُ؟ فقَالَ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا ابْنَ سَلَامٍ ابْتِدَاؤُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ

ص: 462


1- الواقعة: 74 و96؛ الحاقة: 52.

الرَّحِيمِ وخَتْمُهُ صَدَقَ اللَّهُ العلي الْعَظِيمُ، قَالَ صَدَقْتَ يا مُحَمَّد»((1)).

الرواية الثانية: وهو الدعاء الذي روته أم داود عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد دعت به للفرج عن ولدها داود السجين في بعض سجون المنصور العباسي، ويتضمن الدعاء تلاوة لسور من القرآن الكريم، ثم يقول الإمام (عليه السلام) مخاطبا إياها:

«فإذا فرغتِ من ذلك - أي من تلاوة تلك السور والآيات القرآنية - وأنت مستقبل القبلة فقولي: بسم اللّه الرحمن الرحيم صدق اللّه العلي العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، الرحمن الرحيم الحليم الكريم، الذي ليس كمثله شئ وهو السميع العليم البصير الخبير... الخ»((2)).

نلاحظ الرواية وقد إشارت الى هذا التعبير (صدق اللّه العلي العظيم) بعد قراءة تلك السور، مما يبين أن من آداب التلاوة أن يقال ذلك عند ختم القران الكريم.

وربما لهذا الحديث ذكر صاحب كتاب جامع السعادات أن من آداب التلاوة ذلك، حيث قال في كتابه وهو يذكر بعض تلك الآداب: وافتتاح القراءة بقوله: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأن يقول عند الفراغ من كل سورة: «صدق اللّه العلي العظيم وبلّغ رسوله الكريم، اللّهم انفعنا به وبارك لنا فيه، والحمد للّه رب العالمين»((3)).

ص: 463


1- بحار الأنوار، ج57، ص241.
2- بحار الأنوار، ج95، ص400.
3- جامع السعادات، ج3، ص294.

هذا ولكنّ الشيخ الطوسي في كتابه المصباح أورد أعمال أُمّ داود((1))

وأتى بلفظ (صدق اللّه العظيم) خال من ذكر (العليّ)((2))

ولذلك لم يثبت استحباب قول هذه العبارة عند اغلب فقهاء الشيعة وان كانت هي صحيحة ومشتملة على الثناء على قول اللّه تعالى.

وأخيرا أقول قد يستحسن للمؤمن ذكر (العليّ) في عبارة الختم والتصديق لما في ذلك من أمور:

1- ذكرتُ أنّ في القرآن الكريم أكثر من مأة آية اعقبت لفظ الجلالة باسمين من أسماء اللّه عزّ وجل ويناسب ذلك أن يكون التصديق في الختام كذلك.

2- التناسب مع الشروع بالتلاوة، حيث شرع باسم اللّه (الرحمن الرحيم) فليكن الختام كذلك باسمين بعد لفظ الجلالة صدق اللّه (العلي العظيم).

3- إن الكلام المشتمل على الأكثر عددا من الاسماء الحسنى لاشك أنه أكثر ثوابا مما هو اقل.

4- جدير بالمؤمن أن يظهر ولاءه لآل البيت (عليهم السلام) بعد أن أصبحت هذه

ص: 464


1- وأم داود هي أم ولد جارية الحسن المثنى إبن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وقد أرضعت الإمام الصادق (عليه السلام) بلبن داود وبناء على هذا فهي أمه بالرضاعة ويكون داود أخاه بالرضاعة وابن عمه بالنسب وهي من الصالحات وقد استجاب اللّه دعاءها في الفرج عن ولدها داود وكان محبوسا في سجن من سجون المنصور، وقصة الإفراج عنه بدعائها قصة جميلة. يراجع البحار بداية حديث دعاء ام داود.
2- مصباح المتهجّد، ص559.

العبارة من شعائر الإيمان والتشيّع.

وبالطبع اكرر ثانيا منوّها في ختام هذا الفصل أن هذا التصديق لكلام اللّه تعالى سواء بهذه الصورة أم بتلك الصورة ليس ضرورة من ضرورات الدين ولا المذهب ولا ينبغي أن يكون مثارا للجدل والخلاف بين المسلمين، وإنما تناولته هنا ليكون المؤمن على دراية مما ذكر في ذلك، كما يمكنه عدّ ذلك القول من الآداب المقربة للّه تعالى برجاء طلب ذلك.

وفي الختام

انوّه ان هناك من الادعية المنسوبة للإمام زين العابدين والامام الصادق (عليهما السلام) تقرأ بعد ختم التلاوة للقران الكريم كله او لمطلق التلاوة وقد يكون فيها شيء من التفصيل ولكن ما يظهر مما ينسب الى امير المؤمنين علي (عليه السلام) انه بعد كل قراءة فيمكن ان يدعى به بعد كل تلاوة مع التصديق الآنف او بدونه ويرجى فيه الثواب ان شاء اللّه ففي الرواية انه قد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ختم القرآن الكريم قال «اللّهم اشرح بالقرآن صدري واستعمل بالقرآن بدني، ونوّر بالقرآن بصري، وأطلق بالقرآن لساني، وأعنّي عليه ما أبقيتني فإنّه لا حول ولا قوّة إلا بك»((1)).

هذا والحمد للّه رب العالمين

ص: 465


1- مستدرك الوسائل، ج16، ص17.

ص: 466

خاتمة الكتاب

اشارة

ص: 467

ص: 468

الخاتمة

اشكر اللّه تعالى واحمده ان انتهيت الى خاتمة هذه الفصول التي شرعت في تدوين بعضها في فترات الحجر الصحي في الجائحة العالمية (كورونا) ثم عدت الى اتمامها في فترات اخرى متقطعة وكذلك راجعتها بعد حين منقحا لبعض ما جاء فيها حتى آن الاوان لتخرج في هذه الحلة ضمن جزأين تضمنا بمجموعيهما اهم ما يعتقده الفرد المسلم الشيعي وما يمارسه من طقوس وشعائر وكذلك احتويا على بعض المفارقات المذهبية من فقهية وغيرها في فريضة الصلاة وغير ذلك من الاستفهامات التي قد تطرأ على الذهن، وكما نوهت سابقا ان هذا الجهد المتواضع لم يكن ليناقش هذه المواضيع من جميع جوانبها ولا ليردّ جميع ما يشكله الآخرون وانما الهدف منه هو تذكير النفس وايقافها على ما يلقيه الدليل من عقل ونقل على اهم هذه المعتقدات التي اعتقدها ويعتقدها المسلم الشيعي ومن هنا ضمنت العنوان عبارة (أدلتي على عقيدتي) وبذلك يتم العنوان العام للكتاب (ليطمئن قلبي) المستوحى من قوله تعالى على لسان نبيه ابراهيم (عليه السلام) في قوله عزّ وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِیمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...}((1))، لما في الاستدلال على العقيدة زيادة

ص: 469


1- البقرة: 260.

اطمئنان للنفس وثبات وبصيرة.

وعلى اي حال جاءت هذه الفصول مختصرة لبيان أهم البحوث في المعتقد مما يخطر على الأذهان ومما يثير تساؤلا وليس لكل ما يندرج في بحوث العقائد، وبذلك التمس العذر من القارئ الكريم فيما اذا لم اتطرق في هذه المباحث المختصرة الى بعض بغيته واحيله الى مراجعة المراجع المفصلة الأخرى فان مبنى هذا الجهد على اهم التساؤلات العقدية وبصورة مختصرة لا اكثر، هذا واسأل اللّه تعالى بنبيّه الكريم وآله الكرام صلوات اللّه عليه وعليهم اجمعين ان يمنّ عليّ بالقبول لهذه البضاعة المزجاة ويجعلها مما ينتفع بها ويوفقني واخواني المؤمنين للمزيد انه ولي التوفيق والحمد للّه رب العالمين.

شعبان المعظم عام 1444 من الهجرة

ناصر الحائري

ص: 470

فهرس المصادر

وكانت المصادر التي استعنت بها من بعد كتاب اللّه المنزل (القرآن الكريم) كالتالي:

نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، جمع الشريف محمد بن الحسين الرضي، ت406ه .

1. الاتحاف بحبّ الأشراف، عبد اللّه جمال الدين الشبراوي، دار الكتاب الاسلامي.

2. اثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، الحر العاملي، ت1104ه .

3. الاحتجاج، احمد بن علي الطبرسي، ت548ه .

4. ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري، شهاب الدين القسطلاني، ت923ه .

5. إرشاد القلوب، للحسن بن محمد الديلمي، من علماء القرن الثامن الهجري.

6. الاستبصار في ما اختلف من الاخبار، للشيخ ابي جعفر الطوسي، ت460ه .

7. الاستيعاب في معرفة الاصحاب، يوسف بن عبد اللّه ابن عبد البر،

ص: 471

ت463ه .

8. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، ت852ه .

9. الأصول في ذرية البضعة البتول، للشريف انس الكتبي الحسني.

10. إعلام الورى بأعلام الهدى، الفضل بن الحسن الطبرسي من اعلام القرن السادس الهجري .

11. الإقبال بالأعمال الحسنة، السيد علي بن موسى ابن طاووس ت664ه .

12. أمالي الصدوق، للشيخ ابن بابويه القمي، ت381ه .

13. الإمامة والتبصرة من الحيرة، علي بن الحسين بن موسى القمي، ت329ه .

14. الإمامة والسياسة، عبد اللّه بن مسلم ابن قتيبة الدينوري، ت889ه .

15. الامثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، ناصر مكارم الشيرازي (معاصر).

16. الإنسان بين الجبر والتفويض، للشيخ جعفر السبحاني.

17. بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي، ت1111ه .

18. البحر المحيط في التفسير، محمد بن يوسف الاندلسي، ت745ه .

19. بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن احمد ابن حزم الشهير بابن رشد، ت595ه .

20. البداية والنهاية، اسماعيل بن عمر الدمشقي الحافظ ابن كثير، ت774ه .

21. برنامج العلم والحياة على قناة اليوتيوب.

ص: 472

22. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ت1107ه .

23. بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد، محمد بن حسن ابن فروخ الصفار القمي، ت290ه .

24. بنات النبي أم ربائبه للسيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الاسلامي للدراسات 2002م.

25. التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول، الشيخ منصور علي ناصف، دار الفكر 1997م.

26. تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، ت310ه .

27. تاريخ بغداد للعلامة أحمد بن علي البغدادي ت463ه .

28. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ت571ه .

29. تذكرة الاخبار في تلخيص ربيع الابرار، السيد محمد الحسيني الشيرازي، ت1422ه .

30. تذكرة الفقهاء، للعلامة الحسن بن يوسف الحلي، ت726ه .

31. تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، ت413ه .

32. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ت320ه .

33. تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي، ت307ه .

34. التفسير الكبير مفاتيح الغيب، محمد الفخر الرازي، ت604ه .

35. تفسير الكشاف، محمود بن عمر الزمخشري، ت538ه .

36. التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري، تحقيق مؤسسة الامام

ص: 473

المهدي، قم المقدسة.

37. تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، حسن بن محمد النيسابوري، دار الكتب العلمية.

38. تفسير مجمع البيان، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، ت548ه .

39. تفسير نور الثقلين، عبد علي الحويزي، ت1112ه .

40. تفسيرالقرآن العزيز، لمحمد بن أبي زمنين، ت399ه ، تحقيق حسين بن عكاشة، دار العاصمة الرياض.

41. تهذيب الاحكام، محمد بن الحسن الطوسي، ت460ه .

42. توحيد الخالق، عبد المجيد بن عزيز الزنداني.

43. التوحيد عند مذهب اهل البيت، لعلاء الحسون.

44. الثاقب في المناقب، نصير الدين محمد بن علي الطوسي، ت560ه .

45. جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين البروجردي، ت1380ه .

46. جامع الاسرار في شرح المنار للنسفي، المؤلف محمد الكاكي الحنفي، ت749ه .

47. جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ت1309ه ، مؤسسة الاعلمي.

48. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، لجلال الدين السيوطي، ت911ه .

49. الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، محمد الأنصاري القرطبي، ت671ه .

ص: 474

50. حاشية سعد الدين التفتازاني على شرح القاضي عضد الملة على مختصر الأصول لابن الحاجب. ت791ه .

51. حق اليقين في معرفة أصول الدين، السيد عبد اللّه شبر، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

52. حكم الأرجل في الوضوء للسيد علي الميلاني.

53. الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، ت573ه .

54. الخصال، محمد بن علي الصدوق، ت381ه .

55. الدر المنثور في التفسير المأثور، عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ت911ه .

56. دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري الشيعي، من علماء القرن الخامس الهجري.

57. الرائد معجم لغوي عصري، جبران مسعود، دار العلم للملايين.

58. الرجعة بين الظهور والمعاد، الشيخ محمد السند البحراني، معاصر.

59. رسالتان حول العصمة، الشيخ لطف اللّه الصافي، ت1443ه .

60. الروضة في فضائل امير المؤمنين، شاذان بن جبرئيل القمي، ت660ه .

61. الزام الناصب في اثبات الحجة الغائب، علي اليزدي الحائري، ت1333ه .

62. سلسلة الاحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الألباني، ت1420ه .

ص: 475

63. سنن ابن ماجة، لأبي عبد اللّه محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، ت272ه .

64. السنن الكبرى، احمد بن الحسين البيهقي، ت458ه .

65. السيرة الحلبية، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، علي بن برهان الدين الحلبي، ت1044ه .

66. سيرة النبي، محمد بن عبد الملك ابن هشام، ت183ه .

67. شرح إحقاق الحق، شهاب الدين المرعشي النجفي، ت1411ه .

68. شرح التجريد، القوشجي، ت879ه .

69. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد ابن هبة اللّه الشهير بابن ابي الحديد المعتزلي، ت656ه .

70. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، عبيد اللّه بن أحمد الحاكم الحسكاني، ت490ه .

71. الشيعة والرجعة لمحمد رضا الطبسي النجفي.

72. صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري، ت256ه .

73. صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، ت1420ه .

74. صحيح سنن أبي داود، محمد ناصر الالباني، ت1420ه .

75. صحيح سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، ت279ه ، ط دار الفكر - بيروت.

ص: 476

76. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت261ه ، دار الفكر بيروت.

77. صلاة التراويح بين السنة والبدعة، الشيخ نجم الدين الطبسي، ت1343ه .

78. الصواعق المحرقة على اهل الرفض والضلال والزندقة، احمد بن محمد ابن حجر الهيثمي الشافعي، ت947ه .

79. الطبقات الكبرى، لابن سعد، محمد بن سعد ابن منيع الزهري البغدادي، ت230ه .

80. عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار، سيد حامد حسين الهندي 1306ه .

81. عدة الداعي ونجاح الساعي، أحمد ابن فهد الحلي، ت841ه .

82. عقائد الامامية، محمد رضا المظفر، ت1383ه .

83. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن ابي جمهور الاحسائي، ت910ه .

84. عيون أخبار الرضا للشيخ محمد بن علي الصدوق، ت381ه .

85. الغدير في الكتاب والسنة والأدب، الشيخ عبد الحسين الأميني، ت1390ه .

86. غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالحلبي الكبير، ابراهيم بن محمد الحلبي، ت965ه .

ص: 477

87. الغيبة، محمد بن الحسن الطوسي، ت460ه .

88. فاسألوا أهل الذكر، محمد التيجاني.

89. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، احمد بن علي ابن حجر العسقلاني، ت852ه .

90. فتح القدير، محمد علي الشوكاني، ت1250ه .

91. فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، ابراهيم بن محمد الحمويني، ت722ه .

92. الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد ابن حزم، ت456ه .

93. القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي، ت817ه .

94. قرب الاسناد، عبد اللّه بن جعفر الحميري، من اعلام القرن الثالث الهجري.

95. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ت329ه .

96. الكامل في التاريخ، علي بن ابي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري، ت630ه .

97. كتاب الأمثال في الحديث النبوي، عبد اللّه بن محمد المعروف بابي الشيخ الاصبهاني، ت369ه .

98. كتاب التوحيد، الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق، ت381ه ، مكتبة الصدوق طهران.

99. كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري، تحقيق محمد باقر الانصاري،

ص: 478

ت76ه .

100. كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار، حسين النوري الطبرسي، ت1320ه .

101. كشف الغمة في معرفة الإئمة، بهاء الدين علي بن عيسى الإربلي، ت692ه .

102. كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر، علي بن محمد القمي الرازي، ت400ه .

103. كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، ت658ه .

104. كمال الدين وتمام النعمة، محمد بن علي الصدوق، ت381ه .

105. كنز العرفان في فقه القرآن، جمال الدين المقداد ابن عبد اللّه السيوري، ت826ه .

106. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علي بن حسام الدين المتقي الهندي، ت975ه .

107. كنز المطالب و بحر المناقب في فضائل علي بن ابي طالب، السيد ولي بن نعمة اللّه الحسيني الحائري من اعلام القرن العاشر الهجري.

108. لسان العرب لابن منظور.

109. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، ت807ه .

110. المحاسن، أحمد بن محمد البرقي، ت280ه .

ص: 479

111. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، ابو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الاصفهاني، ت502ه .

112. مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر ودلائل الحجج على البشر، السيد هاشم البحراني، ت1107ه .

113. المراجعات، عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي، 1377ه .

114. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي، ت1320ه .

115. مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي، ت1405ه .

116. المستدرك على الصحيحين، الحافظ ابو عبد اللّه الحاكم النيسابوري، ت405ه .

117. مسند أبي يعلى، احمد بن علي أبو يعلى الموصلي ت307ه . دار المعرفة.

118. المسند، احمد بن محمد بن حنبل، ت241ه ، ط مؤسسة قرطبة.

119. مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين، الحافظ رجب البرسي.

120. مصباح المتهجّد، محمد بن الحسن الطوسي، ت460ه .

121. مع الطب في القرآن الكريم، د.عبد الحميد دياب و د. احمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن.

122. المعجم الاوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه .

123. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، ت360ه .

ص: 480

124. المغني، موفق الدين ابو محمد عبد اللّه بن احمد ابن قدامة المقدسي الدمشقي، ت620ه .

125. مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي.

126. المقنعة، محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، ت413ه .

127. مكاتيب الرسول، الشيخ علي بن الحسين الأحمدي الميانجي.

128. مكارم الأخلاق، الحسن ابن الفضل الطبرسي، ت548ه .

129. من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمد بن علي القمي الصدوق، ت381ه .

130. من هن زوجات الرسول المصطفى، محمد رضا عبد الأمير الأنصاري ط 2017م.

131. مناقب آل ابي طالب، للعلامة محمد بن علي ابن شهر آشوب، ت588ه .

132. منتخب الاثر في الإمام الثاني عشر، لطف اللّه الصافي، ت1443ه .

133. موسوعة الأفلاك والأوقات، خليل أحمد عبد اللطيف، ط 2010م.

134. الموطأ، مالك بن أنس، ت179ه ، ط بيروت.

135. ميزان الحكمة، المحمدي ريشهري.

136. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ت1402ه .

137. نزهة المجالس ومنتخب النفائس، عبد الرحمن بن عبد السلام الصفوري، ت894ه .

ص: 481

138. هوية التشيع، الشيخ احمد الوائلي، ت1423ه ، دار الصفوة.

139. الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، ت764ه .

140. وسائل الشيعة، الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، ت1104ه .

141. ينابيع المودة، سليمان بن ابراهيم القندوزي، ت1294ه .

ص: 482

الفهرس

الجزء الأوّل

المقدمة... 7

قبل البدء... 12

الفصل الأوّل: من بحوث التوحيد... 17

(1) الدليل على وجود الخالق... 19

(2) اللّه عز وجل هو الخالق؟... 29

(3) هل مع اللّه إلهٌ آخر؟... 36

(4) اللّه قادر سميع عليم... 44

الفصل الثاني: من بحوث العدل الإلهي... 49

(1) العدل الإلهي... 51

(2) بين الجبر والتفويض... 58

الفصل الثالث: من بحوث النبوة... 71

(1) ضرورة بعثة الأنبياء (عليهم السلام) ... 73

ص: 483

(2) نبوة نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 79

(3) عصمة الأنبياء والأئمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 90

الفصل الرابع: من بحوث الإمامة... 101

(1) الاعتقاد بالإمامة... 103

(2) إمامة أمير المؤمنين وولديه الحسنين (عليهم السلام) ... 109

(3) إمامة الأئمة الإثني عشر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 116

(4) الاعتقاد بالحجة المهدي إمام زماننا... 139

(5) الأئمة المعصومون وعلمهم بالغيب... 155

الفصل الخامس: من بحوث المعاد... 173

(1) الإيمان بالمعاد... 175

(2) عالم البرزخ... 184

(3) الاعتقاد بالغيب... 196

الخاتمة... 206

الجزء الثاني

المقدمة... 211

قبل البدء... 218

الفصل الأوّل: رؤية خاصة لشخصيات حول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 229

(1) موقف الشيعة من الصحابة... 231

ص: 484

(2) موقف الشيعة من زوجات النبي... 249

الفصل الثاني: معتقدات ورؤى شيعية... 273

(1) عقيدة الرجعة لدى الشيعة... 275

(2) الشيعة والتقيّة... 290

(3) الشيعة ومبدأ البداء... 303

الفصل الثالث: شبهات ضبابية... 315

(1) القسم بغير اللّه عزّ وجل... 317

(2) النذر عند الشيعة... 325

(3) زيارة المعصومين والتوسل بهم والتفاعل مع مصائبهم (عليهم السلام) 334

(4) الشيعة وزواج المتعة... 349

الفصل الرابع: مفارقات في فريضة الصلاة... 365

(1) الاختلاف في الوضوء... 367

(2) الشيعة وأذان الصلاة... 377

(3) الشيعة وفوارق أربعة في الصلاة... 387

(4) الشيعة والسجود على التربة؟... 396

(5) الشيعة والجمع بين الصلاتين... 402

الفصل الخامس: التزامات شرعية خاصة... 417

(1) الشيعة وتقليدهم لمراجع الدين... 419

ص: 485

(2) حكم الخمس عند الشيعة... 428

(3) الشيعة وصلاة التراويح... 441

(4) وقت أذان المغرب ووقت الإفطار... 449

قبل الختام: التصديق بعد التلاوة... 455

التصديق بعد التلاوة... 457

خاتمة الكتاب... 467

الخاتمة... 469

فهرس المصادر... 471

الفهرس... 483

ص: 486

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.