رسالة في التقيّة

هویة الکتاب

رسالة في التقيّة

تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى الحاج الشّيخ شمس الدّين الواعظي دام ظله

تأليف : السّيّد مجتبى السويج

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد طبعت هذه الرسالة الشريفة من ثلث المرحوم المغفور ل-ه خادم الإمام الحسين(ع) الحاج محمد جواد كريمي زاده (تغمده الله برحمته الواسعة واسكنه فسيح جنته بمحمّد وآله الطيبين الطاهرين).

ص: 1

اشارة

هوية الكتاب

اسم الكتاب: رسالة في التقيّة

المؤلف: السيّد مجتبى السويج

الناشر: مكتب آية الله العظمى الشيخ شمس الدين الواعظي

المطبعة: أمير

التنضيد والإخراج الفني: كامبيوتر المجتبى(ع) - جعفر الوائلي

الفيلم و الألواح الحسّاسة: ليتوغرافى سيّد الشهداء(ع)

الطبعة: الأُولى 1418ه-

الكمية: 1000 نسخة

تقريض الأستاذ المدقق

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه واشرف بريته محمّد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم ومنكري فضائلهم أجمعين....!

وبعد: فقد لاحظت هذه الابحاث في التقية التي ضبطها فضيلة العلامة حجة الأسلام السيد مجتبى السويج تقريراً لابحاثنا الفقهية

ص: 2

التي القيناها في الشهر المبارك شهر رمضان على ثلة من فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة فرأيتها في غاية الضبط والمتانة وحسن التعبير وافياً كافياً وقد أعجبني إحاطته بدقائقها واستيعابه لحقائقها ببيان رائع وجميل نافع وهو في عنفوان شبابه فللّه دره و عليه اجره فانه حفظه الله ممن اصاب ظنّي في المقدرة العلمية وكفاءته الفكرية واني استحمد الله أن اتعابي قد اثمرت وستثمر اكثر بوجود امثاله من العلماء والفضلاء من طلابي واتت اكلها كل حين و نسأله تعالى ان يمد في توفيقاته لتكون قدوة للافاضل ويوفقه اكثر للجد في عمله والاستمرار في نشاطاته العلمية لينتفع بوجوده طلبة العلوم الدينية وهو الموفق والمسدد والحمد لله رب العالمين.

10 ذي الحجة الحرام سنة 1417ه- شمس الدين

ص: 3

إهدائي

الى المدفون بالغري

الى المولى وأمير المؤمنين علي

فهو شوقي واشتياقي

وأملي ومنيتي و رجائي

أقدم بضاعتي المزجاة

سائلاً منه القبول والرضى

ولدك المشتاق

مجتبى السويج

ص: 4

«رسالة الرسالة»

اشارة

(إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ)

وله الحمد على ما أنعم وسدّد والصلاة والسلام على خير الأنام الأمجد سيدنا و نبينا محمّد(ص) وآله الذين اصطفى ومن شايعهم وتابعهم إلى الأبد.

أيّها المؤمنون في كلّ مكان وزمان السلام عليكم تحية الايمان و التقوى ورحمة العدل والهدى.

أمّا بعد فقد قال العظيم في محكم كتابه الكريم: (لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ).

إنّ الدين الحقيقي هو الذي يستطيع أن يلبّي كلَّ الحاجات المعتدلة لبني آدم أنّا وكيفما كان، بل ولغيره أيضاً، كما هو الذي يقوم بتصحيح المسار لحركة الفرد والمجتمع، وهو الضامن الوحيد لسعادة الدارين. ومن هذه الحيثيات والجهات وغيرها نحن نرى الاسلام العزيز فهو الدين الوحيد الذي استطاع - عبر خط التأريخ الطويل - ولازال و سيبقى القادر على تنظيم كلّ شؤونات و متطلّبات الفرد والمجتمع على طول الخط وفي كلِّ مسألة، صَغُرت أم كبُرت وجُدت أو ستوجد، وأنَّ من جملة المسائل الهامة التي يحتاجها الانسان

ص: 5

وخصوصاً الرسالي صاحب الهدف المقدس في إيصال صوت الدين، والنهوض بالاُمة بالمستوى الذي يرتضيه الله عزّ وجلّ لها، هي مسألة التقية والحذر من المخاطر والمخاوف، سواءً أكانت آفاقية أم أنفسية، وسواء من فرد عن فرد أو عن مجتمع، فبالنسبة للحذر والتحفّظ والوقاية من الاُمور الكونية فإنَّ الله سبحانه و تعالى أوجد في الانسان بل حتى في غيره جانباً من قوّة الابداع العقلي وكذا البدني في التصدي العلمي والعملي الى موجات الأخطار، ولغيره الجانب الغريزي، كما جهّز تبارك و تعالى الكون بمسائل دقيقة للغاية في ردع الأخطار، أجل ربط بعضها بسلوك الانسان، سواء فرداً كان أو مجتمعات، ذلك لأننا عدلية، فلاجبر ولاتفويض بل أمر بين أمرين، كما يقول زعيم مذهبنا الامام الهمام الصادق جعفر بن محمّد(ع)، فإذا ما استقام واعتدل فإنَّ الأخطار المحدقة به ستضمحل بل تزول.

وقد بسطنا الكلام في أطراف هذه النظرية الدقيقة في عدة كتب منها: نظرات في علم السلوك، ومنها: خارطة الزواج الاسلامي، ومنها: رسالتنا الأولى في الربا المطبوعة أخيراً.

ولأجل عدم التعليق أدعوك في رسالتي هذه الى التدبّر في بعض الآيات من كتاب ربنا سبحانه لكي يتضح لك المقصد أو شيئاً منه إن شاء الله تعالى، فمنها قوله جلّت قدرته: (وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا

ص: 6

فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

ومنها قوله تعالى: (فَدَعَا رَبّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) و(فَلَمّا نَسُوا مَاذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْ ءٍ حَتّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ) و...

وبالنسبة إلى التقية - محل البحث في هذه الرسالة - فلمّا كانت ممارستها حالة يومية، إذ يحتاجها الانسان في أكثر من قضية من قضاياه الحياتية بل الاُخروية - على تفصيل سيأتي بيانه - نصَّ الشارع المقدّس عليها، فجوزّها بل جعلها تسعة أعشار الدين بل دين الله عزّوجلّ...، كما سيأتي بيان ذلك في مطاوي الحديث.

وعلى هذا الأساس فستبقى هذه المسألة قائمة مع قيام بني آدم في الحياة المكدَّرة، ولكنها ربّما تختلف صورها بحسب الزمان والمكان، ومن حيث القوة والضعف، بل من حيث الشخص أو المجتمع ومكانته، فتارة تكون واجبة كما في مواطن القسر والأجبار، واُخرى تكون مندوبة محبوبة كما في مواطن المجاملة والمداراة، ولكنها في طرف ثالث قد تحرم، بل نقول: إن مفهومها ينعكس في هذه الحالة من كونها خوفاً وحذراً على النفس أو المال أو العرض إلى كونها خوفاً وحذراً على اضمحلال الدين وزوال شوكته إن سكت

ص: 7

المؤمن عندما يتعرض الدين الحنيف إلى هجمة ونكبة ربما تؤدي الى زواله، والمحافظة على الغير نفساً وعرضاً إنّما هو حفاظ على المطبقين لتعاليم الدين، فهنا تحرم التقية لأجل حفظ النفس وتابعيّها، بل يجب بذل الجميع في سبيل إعزاز الدين، فالاتقاء يكون حينئذٍ على الدين لبقائه، وهنا لابقاء له إلاّ ببذل كلّ غال ونفيس وما قيمته تجاه المنقذ كما أشرنا في حقيقته، فإنّها أمرنا هنا بالبذل كما أمرنا هناك بالحفظ.

وبهذا نستطيع أن نجمل التفسير لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) فإنَّ من التهلكة تضييع الدين في صورة الخوف عليه وعدم الدفاع عنه، فحينئذ نَهلك ونُهِلك، كما ورد في تفسيرها بالتقية.

وبهذا أيضاً نستطيع أن نجمل القول في النهضة الحسينية المقدّسة، وعليه فلايمكن أن تكون التقية بمعناها الأعم من مخلّفات العصور البائدة كما يحلو ذلك للبعض أن يقول فيها ذلك؛ لأنّ الأمر الذي ينص عليه الكتاب الشريف والسنّة الكريمة والمنهج المبارك لآل محمّد(ص) لا يمكن أن يتخلَّف بعد اعتقادنا بأنَّ الكتاب الكريم إنّما جاء للتطبيق، وكذا سيرة الرسول وآله(ص) باعتبارهم القدوة والاُسوة الحسنة، ولذا لو قرأنا مسألة التقية في التأريخ لوجدنا أنَّ التطبيقات للمفردات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و.... موجودة حتى اليوم، لكن قد تختلف الصور كما ذكرنا مع اتحاد المحور والجوهر،

ص: 8

فلغة الحذر والتحفّظ لغة قد يعتبرها بعض المتعصرنين اليوم أنّها لغة المخابرات العالمية والسياسات الدولية، مع أنَّ هذا المنطق والتطبيق إنّما هو منطق الرساليين وأصحاب الحركة الدينية كما سيتجلى لك الأمر في مواقف التقية عبر التأريخ، ولذلك استطاع قادة حركات التحرر الاسلامية عبر المدّ التأريخي أن يتحركوا ضمن هذه المسألة الشرعية وحتى الأنتصار، بل أثّروا حتى في أعدائهم من خلالها، أجل لايمكن استخدام منهج التقية بالمعنى السلبي - من الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) بل غيرهم من القادة الصالحين - في التخلّي عن أساس العقيدة الحقة كالتوحيد والنبوة والامامة والمعاد، بل هم هنا يستخدمون التقية بمعناها الايجابي عند المذبح والمنحر لأجل الحفاظ على الدين كما أكدنا، ثم يبقى تفسير الممارسات لهذه المسألة من نتاج دراسة تأريخها بدقة ورويّة.

ثمة شيء بقي لابد هنا من ذكره وهو اننا كباحثين اسلامين وكشيعة موالين لايمكننا أن نتخلّى عن المفردة التي نطق بها الكتاب الشريف والسنّة المباركة، وهي هنا لفظة التقية، فلايمكن في المبحث الديني البحث أن نعبّر عنها بالوسائل أو المقاص أو الغاية تبرر الوسلية. هذه وغيرها اُمور سنأتي عليها مفصّلاً مع الدليل في ثنايا البحث وأطرافه إن شاء الله سبحانه، ونسأل الله العلي القدير القبول والاقبال إنّه سميع مجيب. والسلام عليكم بدءً وختاماً ورحمة الله

ص: 9

وبركاته.

«قصة التأليف لهذه الرسالة»

وأمّا قصتي مع هذا التأليف فهي: انّي لما اقترب شهر الله سبحانه - شهر رمضان المبارك - وبحكم الوظيفة المقدسة للوعظ والارشاد دعاني سماحة أستاذنا وشيخنا المدقق آية الله شمس الدين الواعظي «دام ظله الوارف» وأخوة الايمان والعقيدة في مجمع الامام الحسين(ع)، لأجل إلقاء المحاضرات الدينية والمجالس الحسينية الشريفة على جمع من المؤمنين، وعلى الاخص الشباب الذين هم أمل المستقبل، وكان الوقت بعد الأفطار بحوالي ساعتين، وحينما أخبرني شيخنا المحقق «دامت إفاضاته» بأنَّ هناك درساً قبل المجلس الكريم ولّما سألته - حفظه الله عن عنوان الدرس وموضوعه أخبرني أنّه ينوي البحث في موضوع دقيق وحساس من مواضيع الفقه والتاريخ الإسلامي، وهو بحث في التقية، ففرحت بذلك ووعدت جنابه بملازمة الحضور، في مجلس درسه، ومع كثرة مشاغلي وعلائقي وفّقت ولله الحمد للحضور، فكنت أستمع إليه بكلّ إصغاء وهو يدلي بالموضوع ودليله، ويشكل عليه ويردٌّ الاشكال بتدقيق رائع وبيان وافٍ، فأعجبني الموضوع جداً لما له من مساس ليس فقط في صميم مجتمعاتنا الاسلامية، بل لما له من ربط دقيق في معاملاتنا مع كلّ البشرية، سواءً في الحالة الاجتماعية أو السياسية الدينية منها

ص: 10

والدنيوية، وذلك لأنّ هذا البحث - وكذا كلّ البحوث الاسلامية - تمتلك الدقة كما المرونة في التعامل الاسلامي من الفرد المسلم للمسلم ولغيره أيضاً.

فالتقية حالة رسالية يستطيع المؤمنون من خلالها أن يوصلوا الدين ويبلغوا رسالته بحركة فاعلة لاتثير الحقد والغلّ في الصدور، وهذا ما كان - بما سترى - ما يشير إليه الاستاذ من قريب أو بعيد على المسألة، خصوصاً عند جهتها المداراتية، فكان لي الأمل الكبير أن أكتب هذا البحث وأنقح جهد المستطاع - الشارد منه والوارد - وأعالج القريب منه والبعيد على ضوء فكرة الأستاذ ثم أعرضه عليه.

وهكذا كان حيث استجيبت الدعوة بعد وقوع العمل وحصل ما كان يُؤمل، ومن أكثر قرع الباب وطرقه يوشك أن يفتح له.

وبصراحة أقول: إنَّ المسألة تبقى بعد توفيق المنّان سبحانه بحاجة إلى جهد وعناء، وعلى كلّ حال كتبت ما تسنّى لي وعرضته - كما هي العادة الجارية - على اُستاذ المادة، فلمّا وقع بصره عليه «دام ظله» أعجبه التصنيف وبارك الجهد ودعا بمزيد من التوفيق والتسديد، فله منّي ألف شكر وتقدير، وأسال الله بنور محمّد وآله(ص) أن يحفظه ويرعاه أباً عطوفاً على أولاده، ورسالياً أوقف نفسه في خدمة الدين وأهله، وكما لايفوتني أن أشكر كلَّ الأعلام والأصحاب الذين أطلعوا على هذا النتاج وغيره، فباركوا وشجّعوا جزاهم الله خيرالجزاء،

ص: 11

وأثلث هذا الشكر أيضاً إلى كلّ من ساهم في طبع الكتاب وتصحيحه، وأسأل الله سبحانه أن يزيد في توفيقنا جميعاً إنّه سميع مجيب.

«تنبيهات في الصميم»

ثمّ إنَّ ممّا ينبغي واُخرى يلزم التنبيه عليه في مقدمة الرسالة عدة اُمور هامة وهي كما يلي:

الأوّل: حاولنا في هذه الرسالة نقل أغلب الروايات المتعلقة بهذا البحث، وذلك ما تقتضيه خصوصيته ومنهجيته، وثم ينفعنا هذا النقل بالأضافة إلى هذا بعدة أمور منها:

أ - إنّنا من خلال المعايشة للروايات محل البحث سوف يحدث عندنا جوّ عام يصوِّر لنا الحركة الاجتماعية التي عولجت من جانب المسألة الشرعية، وليس هذا يعني تحكيم سلطان الحركة الاجتماعية على مفاد الحكم الشرعي، بل لما كانت خصوصية الظرف قائمة في هذه الجنبة جاء الحكم الشرعي عليها بياناً وتخفيفاً وتسهيلاً من الله سبحانه على عباده، ولولا هذا التسهيل الوارد في موارد الاضطرار والعسر والحرج لانصرف الكثير من الناس عن الدين حتى في غير هذه الموارد. وهذه نكتة هامة ودقيقة أتخذت في جانب الحكم الشرعي، ولمّا كان المقام لايسع هنا الى التفصيل تركناه في كتابين لنا هما: آيات الصيام دراسة وتحليل، وآداب التلاوة بحث واستدلال،

ص: 12

فالاشارة هنا كما التفصيل هناك بحول الله وقوّته.

ب - أنَّ نقل آراء وروايات الطرفين بل الأطراف تلزم الانسان الباحث أن ينحو في الحديث والبحث منحى الاعتدال وعدم التعصّب لرأي من الآراء إلاّ بعد تحقيق القول فيه، وحينئذٍ سيكون ذات النقل مثبتاً للمسألة وردّاً على من كذّبها وشنَّع بها على أصحاب الحق، وعليه فستكون هذه الرسالة بمشيئة الله تبارك وتعالى إحدى حلقات السلسلة للردّ على الاتهامات الباطلة والانتقادات السقيمة التي وجهت إلى الطائفة الحقة المحقة، ويترتّب على هذا الأمر اسقاط التكليف في دفع المنكر، وبعدها فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها.

ج - إنّنا بالنقل للحدث والحديث نثبت ما أشرنا إليه من أنَّ التقية ممارسة يومية، فإنَّ نفس كثرة الأخبار وكثرة الحديث بها، وثُمَّ الأحداث التي يحفل بها التأريخ لهي دليل واضح وبرهان ساطع، على أنّها كانت ممارسة واقعية في المجتمع الاسلامي، وعلى هذا فستبقى مع وجود الظروف وعواصف الأحداث، وليست هذه المسألة حتى من الجانب الأثري والتراثي من مختصات الشيعة، بل أنَّ السنّة كما غيرهم من بقية الملل والنحل أيضاً عملوا بها، كما سيتجلى الأمر في ملفّ الرسالة ووثائقها.

الثاني: أنَّ التقية كمبحث فقهي وتأريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي و... وإن كتب عنه الكثير إلاّ أننا لاحظنا حاجة المكتبة

ص: 13

الاسلامية إلى كتاب مستقل يمارس عملية الاستنباط لأصل المسألة وجذورها وفروعها، وأنَّ الفقهاء وإن بحثوا مسائلها ولكنهم على الأعم الأغلب جعلوها طيّاً في كتبهم الاستدلالية التفصيلية أو التفسيرية الموسعة، فكان البحث فيها موزعاً على أرجاء الأبواب الفقهية غير مضبوط في مفهرسة واحدة، ولذا جاء هذا الكتاب أوّلاً وبالذات كمحاولة متواضعة لجمع وتنقيح وتوضيح شتات المسألة خدمة لطلاب العلم في السلك الحوزوي، ومع ذلك فهو بمجموعه كأحداث ورؤى وأسئلة وإجابات يمكن أن يكون - وكما هو طموحنا دائماً فيما نكتب - عامّاً لكلّ الطبقات وعلى مختلف المستويات، وسعينا في عملية الدمج هو الخدمة للجميع إن شاء الله تعالى. وكلّنا أمل أن نُحرِّك عنصر الانفتاح أكثر على المجتمع الاسلامي الذي يحب الدين وأهله، بل الانساني الذي يتعشّق الى المعرفة، وأنَّ من العناصر الاساسية لذلك هو مرونة الطرح وتوضيحه قدر الإمكان لكي تتضح نبرة مباحث الاستدلال إلى المطالع الذي يرغب بثقافة الدين بنحو عميق لاسطحي. ولعلّنا نصل من خلال هذا الأمر الى عقد أواصر الارتباط أكثر بين الحركة الدينية والحركة الثقافية لكي ينطلق الجميع الى التغذي الحقيقي من معالم ديننا العزيز وعلى كافة المستويات باذن الله تعالى، ولسنا في مقام التدليل على صحة الفكرة وواقعيتها إلاّ بالوجدان الحاكم بذلك والتفصيل في غير هذا الكتاب.

ص: 14

الثالث: نلفت النظر أنّنا لانعني بالممارسة اليومية للتقية الأنزواء عن مرافقة الأحداث ومتابعة المسائل الدائرة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وعدم بحث التطوّرات العلمية والتقنية، بل على العكس تماماً، فإنّ بوسعنا أن نقول: إنَّ لممارسة التقية نكتة دقيقة لغلبة جانب الحق على جانب الباطل، فإنَّ أعدائنا يحاولون بكلِّ جدٍّ للسيطرة على الشعوب الاسلامية، بل لجعلها أسيرة تابعة لهم بما تُقدِّم، فتأتي الممارسة كعملية دقيقة جداً للسيطرة على كلَِّ الأمور بكامل الهدوء والاتزان إلى حين الوصول إلى الهدف المقدّس، وهو نصرة الدين وأهله وإعلاء كلمته، وفي هذا الصدد يقول رسول الله(ص): «استعينوا على الحوائج بالكتمان لها». وهذا يمكن أن يأتي مع الحرب الحارة فضلاً عن الباردة، وقد أكدنا على هذه النقطة في كتابنا «وصايا رسالية الى القادة والقاعدة لحركات التحرر الأسلامي» وفي كتاب «نظرة من واقع الانتفاضة» وبهذا الموضوع وردت روايات كثيرة جداً تؤكد عليه، ونتبرك ببعضها هنا، وعلينا النقل وعليك التأمّل فيها.

فمنها: ما عن الصادق(ع) قوله: «من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا».

وقوله(ع): «ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطاءٍ، ولكن قتلنا قتل عمد».

ص: 15

ويقول(ع) أيضاً في قوله تعالى: «ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق...، والله ما قتلوهم بأيديهم ولاضربوهم بأسيافهم، ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا».

ومن وصاياه(ع) لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول: «يابن النعمان إنَّ العالم لايقدر أن يخبرك بكلّ ما يعلم، لأنّه أعلم به منكم.

ومنها: عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن حديث كثير، فقال: هل كتمت عليَّ شيئاً قط؟ فبقيت أتذكّر، فلمّا رأى ما بي قال: «أمّا ما حدّثت به أصحابك فلابأس، إنّما الاذاعة أن تحدّث به غير أصحابك» و...

الرابع: ينبغي إلفات النظر أنَّ الأشخاص قد يختلفون في الحكم بها كلّ من حيث شخصيته وزمانه ومكانه، لكن تشخيص الموضوع الكلي والعام أمر يحتاج إلى رأي ذوي الخبرة، وأمّا تشخيص الموضوع للحكم فإذا لم يحدد الشارع موضوعاً فمداره العرف، وفي موضوع الضرورة صاحبها أعلم بها.

الخامس: إنّنا نريد بكتابنا هذا بيان الرأي الشرعي والتأريخي - كما أشرنا لهذه المسألة - وبعد هذا وذاك كلٌّ يأخذ بتصوّره حول كيفية التقية عند أهل البيتE، فنحن هنا نقلنا الروايات لأنّنا نرى أنَّ الحديث في أساليبهمE حديث بعيد الغور لاتستطيع جملة من الأوراق أن تجمع أطرافه أو تحدد النكتة الواحدة في مجمل الاُمور،

ص: 16

فالروايةكما عمل المعصوم(ع) هو الحجة في المقام، والذي يمكن قوله بايجاز مختصر جداً هو أنَّ قائد الدين يستطيع أن يُمرّن الحكم المتحرك بحسب طاقات الأشخاص وظروفهم، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

السادس: ثم إنّ التفكير والمباحثة للمسألة الشرعية التي نصَّ عليها الكتاب الشريف والروايات توصّلنا عند تحريك الحديث بها على الأقل إلى أجواء معرفة بقية الأحكام و نفس الحكم المبحوث أوّلاً، ففي دراسة التقية نتعرّف على كثير من الروايات التي استخدمت هذا المنهج في منثور الفقه الاسلامي، ثم إنّها ستكون إحدى العلاجات عند تعارض الأخبار حين وجوده، وأنَّ هذه المعالجة تحتاج إلى تثبيت جذورها الشرعية أوّلاً لكي تستند بقية المسائل إليها، وحينئذٍ لامبرر، بل لا إلتزام بما يقوله موسى الموسوي في كتابه «الشيعة والتصحيح» لأنّه هو وكتابه ومن على شاكلته يحتاج الى تصحيح عندما يقول في اعوجاجه: «إنّني اعتقد جازماً أنّه لاتوجد اُمة في العالم أذلّت نفسها وأهانتها بقدر ما أذلت الشيعة نفسها في قبولها لفكرة التقية والعمل بها، وهنا أنا أدعوا الله مخلصاً وأتطلّع إلى ذلك اليوم الذي تربأ الشيعة حتى عن التفكير بالتقية ناهيك عن العمل بها»!!

فإنّنا أيّها الدكتور فكّرنا بها بل وعملنا كما سترى في رسالتنا،وما

ص: 17

اختيار العنوان إلاّ للتأكيد أكثر على مشروعية الحكم وموضوعه، ومن أخطائك أيّها الدكتور وعدم تدبّرك أنّك لم تعلم أنَّ التقية موجودة عند جميع الأديان مطلقاً، كما أنّها عند العامة والخاصة من المسلمين، وأنّنا إنّما كتبنا هذه الجملة لارداً على زعمك، إذ الردّ سيأتي تفصيلاً، ولكن إنّما كتبنا لكي يستيقظ الشباب المؤمن الصالح الذي نأمل منه أن لاينخدع بهذه المهاترات التي تصدر بين الحين والآخر، مع التفخيمات والتضخيمات، ونرجو من الله الهداية للجميع الى طريق الحق والصواب، وإنّنا لنرى أنَّ التقية حركة فقهية مباركة تؤول نتائجها إلى صالح الفئة المؤمنة، ولنا في شباب أهل الكهف خير دليل، وأنّها لمن الأساليب والممارسات الفنية الرائعة لنجاح العمل الديني، ومساعدة العقل لهذه المسألة إنّما هو من آثار التعبد الشرعي للحكيم سبحانه الذي أمضاها.

السابع: مما يلزم إلفات النظر إليه هو ما نبّهنا عنه في رسالة الربا من أنّنا إذا قلنا أستاذنا الأعظم فالمعني به هو آية الله العظمى السيد الخوئيR، وإذا قلنا اُستاذنا المحقق فالمراد به هو آية الله العظمى السيد البجنورديR، وهما من أساتذة اُستاذنا - دام ظله -.

الثامن: قد تلاحظ نحواً من التكرار في بعض أطراف الحديث فتلك من خصوصيات البحث والاستدلال على المسألة محل الطرح فيجري عليها البحث بما تمتلك من خصوصية دقيقة ولذا فقد يطالها

ص: 18

البحث عدة مرات.

التاسع: وهو الأخير ولعلنا أطلنا عليك الحديث ولكنني رأيت الوظيفة فيه -: إنَّ الهدف الأساسي في هذا الكتاب وكلّ كتبنا هو خدمة الدين والمذهب الحق ان شاء الله تعالى، كما وعلى الأخص خدمة الحوزة العلمية المباركة كما ذكرنا، ولذا فطلبي من أصحاب السماحة والفضيلة أن يسعفوني بملاحظاتهم البنّاءة القيّمة، ويرشدونني إلى مواطن الضعف والخلل، فجلَّ من لايشتبه، وسبحان من كتب الكمال لنفسه، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد واله الأطيبين الأطهرين.

وأنا أحقر خدّام آل محمّد(ص)

والراجي شفاعتهم

والمتشرف بنسبهم

مجتبى بن السيد صالح بن السيد مهدي بن السيد محمد المعروف بالسويج

1416ه-

لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأول

بجوار كريمة آل الرسول(ص)

فاطمة المعصومةI بقم المصونة

ص: 19

رسالة في التقية

اشارة

ص: 20

الكلام في التقية ويقع فيه عدة جهات من البحث

الجهة الاُولى: في معناها اللغوي والاصطلاحي.

فهي لغة: مأخوذة من تقى يتقي، أو إتقى يتقي.

والاتقاء هو: الأمتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه، والتقوى هي طاعة الله سبحانه وعبادته وخشيته وهيبته.

وفي الاصطلاح: هي إظهار خلاف الواقع في الأمور الدينية بفعلٍ أو قولٍ خوفاً وحذراً على نفسه أو على نفوس مؤمنة، أو المال، أو العرض، أو تودداً وتحبباً وألفة، وهي لاتختص بعصرٍ دون عصر.

قال اُستاذنا المحققR تبعاً للشيخ الانصاريR بأنّها اسم مصدر، كما ورد ذلك عن غير واحد من أهل اللغة.

وقال المحقق الفيروزآبادي في قاموسه: إتقيت الشيء وتقيته - إلى أن قال: - الاسم التقوى.

وفي حديثٍ عن أمير المؤمنين: «يا حسن أحسن ما بحضرتكم من الزاد التقوى والعمل الصالح».

تحقيق الفرق بين المصدر واسم المصدر:

ولايخفى أنّ هناك فرقاً بين المصدر واسم المصدر، فإنّ المصدر عبارة عن الفعل كغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، واسم المصدر عبارة عن النتيجة الحاصلة من الفعل وهي الطهارة

ص: 21

المعنوية، وعليه فقد يكون الشيء الواحد باعتبارٍ مصدراً وباعتبار آخر اسم مصدر، وباعتبار ثالث يكون شرطاً متقدماً، وباعتبارٍ رابع شرطاً مقارناً وباعتبار خامس جزءاً، كما ورد في الحديث عن الامام الهمام أبي عبدالله الصادق(ع): «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود».

فالوضوء - بالضم - قد يكون مصدراً، وقد يكون بمعنى اسم مصدر، كما يقال: هل أنت على وضوء؟ ومن هنا ظهر ما ذكره ابن الاعرابي بأنّ التقاة والتقية والاتقاء كله واحد.

فذلكة البحث: أنّ الفرق بين المصدر واسمه هو أنّ اسم المصدر ما هو الحاصل من المصدر ونتيجته، وبعبارة اُخرى فإنّ اسم المصدر يكون ذات ما يصدر عن الفاعل من دون ملاحظة جهة اصداره وانتسابه إلى فاعلٍ ما، أمّا من جهة لحاظة من حيث صدوره وانتسابه إلى فاعلٍ ما، فإنّه بهذا الاعتبار يكون مفاد المصدر، ولذا «لاتبع وقت النداء» أنّ البيع إذا تعلّق به النهي بمعنى الاسم المصدري يكون دالاً على فساد المعاملة، لأنّه بذلك المعنى يكون عبارة عن نفس النقل والانتقال، والصادر من البائع من دون ملاحظة جهة اصداره، فإذا كان النقل والانتقال مبغوضاً ومنفوراً من قبل الشارع فلا يتعلّق به الامضاء؛ لتنافي النهي مع الامضاء، فإنّ النهي يكشف عن المفسدة في هذا البيع في هذا الوقت، والأمر إذا وقع

ص: 22

عليه - مثلاً - عبارة عن وجود المصلحة فيه في نفس ذلك الوقت، فستجتمع المصلحة والمفسدة في شيء واحد، وهذا لايمكن. وأمّا إذا تعلق به النهي بالمعنى المصدري فلايدلّ على الفساد، لأنّ مبغوضية جهة إصدار الشيء غير مبغوضية ذات الصادر، ولا منافاة بين ورود النهي من جهة الاصدار وإمضاء الصادر.

الجهة الثانية: في أقسام التقية

ثمّ لايخفى بأنّ التقيّة تنقسم إلى عدة أقسام:

القسم الأوّل: فالتقية تارة تكون بالمعنى التكويني، وهو التحفظ عمّا يُخاف ضرره كالتحفظ عن المرض بسبب شرب الدواء. واُخرى تكون بالمعنى الأعم، وهو التقية مع غير المسلمين من أهل الملل والنحل بل حتى من لم ينتحل ديناً، كما اتقى عمار بن ياسرS مع المشركين. وثالثاً بالمعنى الأخص، وهي التقية مع العامة، وسيأتي الدليل على حجية هذه الموارد باذن الله سبحانه.

القسم الثاني: أنَّ الفقهاء قسّموا التقية بانقسام الأحكام الخمسة:

الأوّل: في الدماء، والمشهور أنّه لاتقية فيها، ففي كلّ موردٍ يستلزم اباحة دم من لايجوز قتله لاتجوز التقية فيه، وذلك لأنّ أصل مشروعية التقية - كما سيأتي تحقيق هذا الأمر - إنّما هو لأجل حقن الدماء، فلاتكون سبباً في إباحتها.

والثاني: الواجب، وهو الذي فيه خوف الضرر وتأتي التقية لدفع

ص: 23

الضرر المتوجه إليه على النفس أو العرض.

والثالث: المندوب، وهو ما إذا أتى بالعمل الواقعي ثمّ أعاد العمل معهم مع عدم ترتّب ضرر على عدم الاعادة، أو كما قال الشيخ الأنصاريR هو بمعنى أن يكون تركه مفضياً إلى الضرر تدريجاً كترك المداراة مع العامة.

والرابع: المكروه، وهو ترك ذلك إذا قلنا بأنّ ترك المندوب مكروه، وقد استشكل الاستاذ المحقق في الأخير بأنّ ترك المستحب ليس بمكروه، مع أنَّ نقيضه أفضل، فلو كانت الحركة من بلدٍ أفضل من الوقوف فيه فهذا لايلازم كون الوقوف مكروهاً، فالأولى التمثيل بما ذكره الشهيدR وهو التقية باتيان ما هو مستحب عندهم مع عدم خوف الضرر لاعاجلاً ولا آجلاً إذا كان ذلك الشيء مكروهاً واقعاً، وإلاّ لو كان حراماً فالتقية باتيانه لموافقتهم حرام.

والخامس: المباح، وهو إظهار كلمة الكفر، فإنّه يباح الأمران، أي إظهار كلمة الكفر وعدمه استدلالاً بقضية عمار وأبويه (رحمهم الله)، فإنّ النبي(ص) صوّب الفعلين معاً، والظاهر من قوله تعالى: (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ) هو الرخصة في التكلّم بكلام الكفر، منّةً منه سبحانه وتعالى على العباد، وحفظاً لأنفسهم وأموالهم واعراضهم، وحيث كان حديثنا في أقسام التقية من حيث الأحكام التكليفية، فلابأس ببيان ما ذكره الشيخ الأنصاريR وتقسيمه التقية

ص: 24

إلى خمسة أقسام مع تمثيله الى الموارد.

قالR: «التقية تنقسم إلى الأحكام الخمسة، فالواجب منها ما كان لدفع الضرر الواجب فعلاً وأمثلته كثيرة، والمستحب ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر بأن يكون تركه مفضياً تدريجاً إلى حصول الضرر، كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم، فإنّه ينجر غالباً إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم.

والمباح ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساوياً في نظر الشارع كالتقية في اظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع من الأصحاب، ويدلّ عليه الخبر الوارد: في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين(ع). والمكروه ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله كما ذكر ذلك بعضهم في اظهار كلمة الكفر، وأنّ الأولى تركها ممن يقتدي به الناس اعلاءً لكلمة الاسلام، والمراد بالمكروه حينئذٍ ما يكون ضده أفضل. والمحرم منه ما كان في الدماء» انتهى كلامهR.

اذن: إذا كان الكفر بالله تبارك وتعالى جاء فيه الترخيص حين الاضطرار والاكراه، فالكفر بالنبي(ص) وأئمة الهدىE أو البراءة منهمE فإنّه يكون بطريق أولى جائز، كما سنبين ذلك بالنسبة إلى البراءة من مولانا أمير المؤمنين(ع)، اذ هي على تفصيل سيأتي ذكره بمشيئة الله سبحانه.

ص: 25

القسم الثالث: وقد تقسّم التقية بقسم آخر كالتقية الاجبارية والاكراهية، كعمل الشخص المجبور من قبل الجائر إكراهاً وجبراً لحفظ نفسه أو عرضه أو ماله أو حفظ الآخرين من ذوي النفوس المحترمة وأموالهم، ويسمى هذا القسم «بالتقية الخوفية» كالعمل على فتوى أهل السنة كما هو ديدن الأقلية في اُمور معاشهم مع الأكثرية لحفظ أنفسهم. وقد تكون بمعنى «التقية الكتمانية» وهي كتمان العقيدة والمذهب والمسلك من جهة الوصول إلى الهدف في المستقبل، حينما يكون ضعيفاً بالفعل ولم يكن الوقت مناسباً لنشر مذهبه. وقد تكون بمعنى «التقية المداراتية أو المجاملية» وذلك لأجل كسب التحبّب والتودد والمداراة، ولو لم يكن هناك خوف في البين وشرّعت لزوال المنافرة، بل لأجل التآلف والتحابب بين المسلمين. وقد وردت روايات بالنسبة إلى هذا القسم من التقية فيها تفصيلات وتنويعات سوف نأتي على فلسفة نكاتها إن شاء الله تعالى، فاليك هنا ما يسع الحديث في بدايته، وسنوافيك بالباقي في ثنايا البحث وأطرافه بمشيئة الله تعالى.

وقبل: أن نذكرها نقول: إنّه قد اُستشكل في المقام بأنّها ترجع إلى الخوف، وأنّه لو لم يعمل بالتقية بعد ما كانت المداراة سبباً للتحبب ووحدة الكلمة يُخاف على التفرقة بين المسلمين، أو يُخاف على نفس المتقي، أو على بيضة الاسلام وتسلّط الكفار.ولكن الحق أنّ نفس التحبب والتآلف يكون مطلوباً ولو لم يترتب

ص: 26

عليه أي ضررٍ من التفرقة والعداوة.

وأمّا روايات التقية المداراتية: ففي رسالة الامام أبي عبدالله الصادق(ع) إلى أصحابه قال: «وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحملوا الضيم منهم، وايّاكم ومماظتهم، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم ...» الحديث.

ومنها: عن سفيان بن سعيد قال: «سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق(ع) يقول: عليك بالتقية فإنّها سنّة ابراهيم الخليل(ع) - إلى أن قال: - وإنّ رسول الله(ص) كان إذا أراد سفراً دارى بعيره، وقال(ص): أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني باقامة الفرائض، ولقد أدبه الله عزّ وجلّ بالتقية فقال: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلاّ الذين صبروا ... الآية، يا سفيان من استعمل التقية في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من القرآن، وأنّ عزَّ المؤمن في حفظ لسانه، ومن لم يملك لسانه ندم...» الحديث.

ومنها أيضاً قوله(ص): «عليكم بالتقية فإنّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره».

وعن عمار بن أبي الاحوص قال: (قلت لأبي عبدالله(ع) - إلىأن قال: - إن امامتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقية وحسن الخلطة

ص: 27

والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه).

وعن حماد بن عثمان عن أبي عبدالله(ع) أنّه قاله: (من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله(ص) في الصف الأوّل).

وعن اسحاق بن عمار قال: قال لي أبو عبدالله(ع): يا اسحاق أتصلّي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: صل معهم، فإنّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله.

وعن عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: )اُوصيكم بتقوى الله عزّوجلّ، ولاتحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إنّ الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: وقولوا للناس حسناً، ثمّ قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم(.

وعن زيد الشحام عن أبي عبدالله(ع) أيضاً أنّه قال: )يازيد خالق الناس باخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه(.وعن عبدالله بن سنان عنه(ع) أنّه قال: )ما من عبدٍ يصلّي في

ص: 28

الوقت ويفرق ثمّ يأتيهم ويصلّي معهم وهو على وضوء إلاّ كتب الله له خمساً وعشرين درجة( و... . وكما أكدنا آنفاً إنّنا سنشير إلى جملة من التفسير للآيات الواردة في المقام كما في الروايات، فارتقب ولن يطول انتظارك باذن الله سبحانه وتعالى.

أدلّة وجوب التقية:

اشارة

وأمّا الاستدلال على أصل وجوب التقية فقد استدلوا على الجواز بالمعنى الأعم بوجوه:

الأول: الاجماع

ولايخفى كما ذكرنا في الأصول بأنّ أمثال هذه الاجماعات لّما كانت محتملة المدركية فهي اذن ليست بحجة، مضافاً إلى أنّها اجماعات منقولة.

الثاني: الكتاب الشريف

والآيات فيه كثيرة فمنها:

أولاً: قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَلكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) اي من اُكره واُجبر على التظاهر بالكفر والجحود بالله سبحانه و تعالى مع كون قلبه مطمئناً بالايمان بالعلي الأعلى تبارك وتعالى، وهذه الآية الكريمة كما تعلمون نزلت في صدرالاسلام حينما كان المسلمون مستضعفين يعانون أشد المعاناة من

ص: 29

الكفار والمشركين، ويُعذبون منهم أشد التعذيب، إلاّ أنّ قسماً من هولاء كفر بالله تعالى بعد ايمانه ممن أسلم من أهل مكة فقد فتنوا وارتدوا عن الاسلام طوعاً. وبعضهم أعطاهم بلسانه فقط كلمة الكفر وبقي مطمئن القلب ثابت الجنان، كعمار بن ياسر أبي اليقظان، وقد نجى منهم عندما أعطاهم ما أرادوا. فدلّت الآية المباركة على جواز التقية للقسم الثاني دون الأوّل.

ولايخفى بأنّ كلمة الكفر لو خليت وطبعها لكانت كاشفة عن الجحود والارتداد، ولذا فهم حينما سمعوا من عمار ذلك أخلّوا سبيله، كما أنَّ كلمة الايمان تكون كاشفة عن ايمانه العميق واعتقاده الراسخ، وإنّما كان المراد من الكفر هو كلمته والتلفظ به فقط دون الاعتقاد به بقرينة الاستثناء الوارد في نفس الآية: (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ).

وخلاصة الكلام: في معنى الآية الشريفة: _ مَن كَفَرَ بِاللّهِ _ إمّا أن يكون مكرهاً عليه بواسطة التعذيب والتهديد بالقتل فيعطيهم بشفتيه ما لايعطيهم بقلبه، وإمّا أن يكون منشرح الصدر والفؤاد، إذ يكون فرحاً مسروراً بما يعطي، كما حصل ذلك لجماعة من مسلمة مكة حيث ارتدوا عن الاسلام طوعاً واختياراً كما تقدم، وبعضهم كالقسم الأوّل اُجبروا واضطروا كما وقع ذلك لعمار وبلال الحبشي وصهيبالرومي وخباب بن الأرت وياسر وسمية وغيرهم. فأمّا ياسر وزوجته

ص: 30

فقد صمدا وثبتا ولم يعطيا إلى مشركي مكة ما أرادوا، فسمية ربطت بين بعيرين ووجيء في قلبها بحربة، وقيل: بل ضرب في موضع عفّتها، وقيل لها: إنّكِ أسلمت طلباً للرجال، فقتلت ومضت أوّل شهيدة في الاسلام، وقتل ياسر معها، وصمد آخرون ممن ذكرنا واستطاعوا الخلاص من عذاب قريش، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه فنجى، ثمّ اُخبر رسول الله(ص) بذلك فقال قوم من المسلمين: إن عماراً كفر، فقال النبي(ص): كلاّ أنّ عماراً ملئ ايماناً من قرنه الى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله(ص) وهو يبكي فجعل رسول الله(ص) يمسح عينيه ويقول: مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت. وفي نص آخر: قال له النبي(ص): كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان، قال(ص): إن عادوا فعد لهم بما قلت.

وأمّا القسم الثالث: فهم الذين يخوضون مع الخائضين يتلفظون بها - أي بكلمة الاسلام - لهواً ولعباً، وأشار كتاب الله عزّ وجلّ إلى القسمين الأوّلين بقول: _ من كفر _ وهذا معنى عام شامل للثلاثة _ إلاّ من اكره _ خرج منه الأوّل _ ولكن من شرح بالكفر صدراً _ هو القسم الثاني، وداخلاً تحت العموم وهو من كفر بالله، ولم تشر الآية الشريفة إلى القسم الثالث لا من جهة البيان ولا من جهة الحكم، لأنه من آثار النفاق. وهذا أحد الردود على من زعم أنّ التقية قسم منأقسام النفاق، وتشير عليهم الآية المباركة: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا

ص: 31

كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ) وقوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).

اذن الذي يظهر من آية البحث الكريمة هو الرخصة بكلمة الكفر كما مر وهل التقية أفضل أم الثبات؟ قيل: الثاني أفضل كما فعل أبوا عمار؛ لأنّ في ترك التقية يكون اعزازاً للدين وتشييداً له، كما عن عوالي اللآلئ: روي أنّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من المسلمين وقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، فقال: وما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاّه، وقال للآخر: ما تقول في محمّد؟ فقال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه الأوّل، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله(ص) فقال(ص): أمّا الأوّل فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له.

لكن الحق أنّ التقية دين الله عزّوجلّ فمن تركها فكأنّما قتل نفساً معصومة، ويؤيّد ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) . وأمّا عن الرواية فيمكن حملها على عدم علم الرجل الثاني بالتقية، ويحتمل أنّ أبوي عمار كانا لايعرفانها أيضاً.

هذا، ويمكن الاستفادة من هذه الآية الشريفة التعدي الى غير الكفار والمشركين الذين لهم السعي لحرف المؤمنين عن دينهمومعتقدهم، من جهة وحدة الملاك والمناط، والرخصة في الموردين

ص: 32

إنّما هي منّة من الله تبارك و تعالى لحفظ النفس، كما جوّز سبحانه أكل الميتة في صورة الاضطرار لأجل حفظ النفس وبقائها كما في قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ثانياً: قوله تعالى: (لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) فقد نهت هذه الآية بأن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لهم بحيث يأتمرون بأوامرهم وينتهون بنواهيهم بعد ما كان الله سبحانه ولي المؤمنين، حيث يخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطغاة يخرجون من في ولايتهم من النور إلى الظلمات.

اذن لا يمكن اجتماع ولايتين على شخصٍ واحدٍ (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) والظاهر من هذا الاستثناء هو الرخصة في الدخول في ولايتهم حقناً لدمائهم وابقاء على أنفسهم وأموالهم.

وقال الطبري في تفسيره: (إلاّ أن تتقوا منهم تقاة) إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، تظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة.

واحتج الفقيه السرخسي الحنفي بهذه الآية على جواز التقية، ونقل قول الحسن البصري: انّ التقية جائزة إلى يوم القيامة فالدخولفي ولايتهم لابد وأن يكون عند حصول الاضطرار والاكراه، أمّا مع

ص: 33

الاختيار فلا يجوز (ويحذركم الله نفسه) إذا خرجوا من ولايته سبحانه ودخلوا في ولاية الكفار.

وببيان آخر: أي إذا جعلوا الكافرين أولياء أمرهم من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فالله بريء منهم، وليسوا في ولاية الله ورعايته، إلاّ أن تتقوا منهم تقاة أي تتقون ضررهم وسوء العاقبة، لا بأس أن يُظهروا مودتهم، ويحذركم الله نفسه، أي ينبهكم ويخوفكم مغبة توليكم، وهذا العمل يكون موجباً لسخط الله بعد ما كان وليَّ المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.

اذن: لايمكن اجتمع الولايتين على شخصٍ واحدٍ، كما عبّر سبحانه وتعالى في آية اُخرى بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

وهناك آيات اُخرى يظهر منها جواز التقية كقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ). وقوله تعالى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).

قال في مجمع البيان في ذيل هذه الآية: (أي فرأت أخاها موسىعن جنب أي بعد عن مجاهد، وقيل: عن جانب تنظر إليه كأنّها

ص: 34

لاتريده عن قتادة، وتقديره عن مكان جنب (وهم لايشعرون) أي وآل فرعون لايشعرون أنّها اُخته عن قتادة، وقيل: معناه (وهم لايشعرون) أنّها جاءت متعرفة عن خبره، ويمكن أن يكون سبحانه كرر هذا القول تنبيهاً على أنّ فرعون لو كان إلهاً لكان يشعر بهذه الاُمور).

كما أنّ هناك آيات كثيرة أشارت إلى دلالة التقية فيها جملة من الروايات، فإليك منها قوله تعالى: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) ففي حسنة هشام بن سالم وغيره عن أبي عبدالله(ع) في قول الله عزّوجلّ - المتقدم - قال(ع): (بما صبروا( على التقية (ويدرؤون بالحسنة السيئة)، قال(ع): (الحسنة التقية، والسيئة الاذاعة).

وعنه(ع) في قول الله عزّوجلّ: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسّيّئَةُ)، قال(ع): الحسنة التقيّة، والسيئة الاذاعة، وقوله

عزّوجلّ: (ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال(ع): التي هي أحسن التقية (فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم).

وعن أبي الحسن(ع) في قول الله عزّوجلّ: (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ) قال: أشدكم تقية.

وعن حذيفة عن أبي عبدالله(ع) قال: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) قال: هذا في التقية.

ومنها: قوله تعالى: (تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (فَمَا اسْطَاعُوا أَنيَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) هو التقية، كما في خبر جابر عن

ص: 35

أبي عبدالله(ع).

ومنها: قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ) قال: رفع التقية عند الكشف فانتقم من أعداء الله.

وفي قوله تعالى: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) قال: التقية، (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سداً لا يستطيعون له نقباً.

وفي قوله تعالى: (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) روي عن أبي عبدالله(ع) بأنّه قال: قال رسول الله(ص): لاكذب على مصلح، ثمّ تلا: (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب، ثمّ تلا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) ثمّ قال: والله ما فعلوه وما كذب.

وروي عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبدالله(ع): إنّا قد روينا عن أبي جعفر(ع) في قول يوسف(ع): (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب، فقال أبو عبدالله(ع): إنّ الله أحب اثنين وأبغض اثنين، أحب الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الاصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الاصلاح، أنّ ابراهيم(ع) قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا) إرادةالاصلاح، ودلالة على أنّهم لايفعلون، وقال يوسف(ع): ارادة

ص: 36

الاصلاح.

وقد ورد في قوله: (فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ) قال أبو عبدالله: والله ما كان سقيماً وما كذب وإنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً... .

وتشير بعض الروايات الاُخرى عن الصادق(ع) في قول يوسف(ع): إنّما عنى سرقتهم يوسف من أبيه.

وبالنسبة إلى قول ابراهيم(ع): (إِنّي سَقِيمٌ) فقد قال في مجمع البحرين: أي سأسقم، ويقال: هو من معاريض الكلام، وإنّما نوى به من كان آخره الموت سقيم، وقيل: استدلال بالنظر في النجوم على وقت حمى كانت تأتيه، وكان زمانه زمان نجوم، وقيل: إنّ ملكهم أرسل إليهم إنّ غداً عيدنا أخرج معنا، فأراد التخلف عنهم، فنظر إلى نجم فقال: هذا النجم لم يطلع إلاّ أسقم، وقيل: أراد (إِنّي سَقِيمٌ)برؤية عبادتكم غير الله، وفي الدعاء _ أعوذ بك من السقم _ وحيث أراد الواقع وتكلّم بما هو الظاهر.

فالحق: إنّ كلّ هذه المعاني تشير إلى التقية.

الثالث: السنّة:

وقد دلّت الروايات الكثيرة جداً على الرخصة في التقية، وقد تقدم جزء هام منها، وإليك جزءً آخر.

فمنها: عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي قال: )قال ليأبو عبدالله(ع): يا أبا عمر إنَّ تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين

ص: 37

لمن لا تقية له(.

ومنها عن معمر بن خلاّد قال: )سألت أبالحسن(ع) عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر(ع): التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له(.

وعن محمّد بن مروان عن أبي عبدالله(ع) قال: )كان أبي(ع) يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية، انّ التقية جنة المؤمن(.

وعن عبدالله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: )التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له(.

وبنفس السند قال(ع): )اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنّه لا ايمان لمن لا تقية له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبداً كان على ولايتنا(.

وعن حبيب بن بشير قال: قال ابو عبدالله(ع): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليّ من التقية، يا حبيب انّه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله، يا حبيب إنّ الناس إنّما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا.وروى الصدوق باسناده عن أبي عبدالله(ع) قال: (قال رسول

ص: 38

الله(ص): رفع عن اُمتي تسعة : الخطأ، النسيان، وما أكرهوا عليه، وما لايطيقون، وما لايعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).

ولايخفى أنّ مورد التقية أحد المصاديق لما أضطروا إليه. هذا وغيره من طرقنا.

وأمّا من طرق القوم فيكفي أن نروي عنهم بعض الروايات كما سيأتي البعض الآخر منها في مضانّ البحث إن شاء الله تعالى.

فمنها: عن اُم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنّها سمعت رسول الله(ص) يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً).

ومن هذا يظهر صحة ما قاله السيد محمّد بن عقيل العلوي بقوله: اتفق أصحابنا على جواز الكذب عند الضرورة بل وللمصلحة، وهو عين التقية، لكن إن عبّرتَ عنه بلفظ التقية منعه كثير منهم؛ لكونه من تعبيرات الشيعة، فالخلاف فيما يظهر لفظي والله أعلم.

وعن رسول الله(ص): (رفع عن اُمتي النسيان، والخطأ، وما اضطروا عليه، وما استكرهوا عليه).

وعنه(ص): (اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فمن قال: لا إله إلاّ الله فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابهعلى الله).

ص: 39

وروى السيوطي عن النبي(ص) قال: (بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتاب).

وأخرج المحدثون عن علي(ع) وابن عباس ومعاذ بن جبل وعمر بن الخطاب عن النبي(ص) أنّه قال: (استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).

وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله(ص): (إنّا نكشر في وجوه القوم وقلوبنا تلعنهم) ويلخص البخاري: («ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس).

وللتفصيل أكثر نرجعك إلى مسند أحمد بن حنبل، والحلبي في السيرة، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والجصاص في أحكام القرآن، وسيأتي بأذن الله سبحانه تفصيل الكلام لبعض من ذكرنا ومن لم نذكر فانتظر فالحديث أمامك.

الرابع: العقل:

وهناك قاعدة تقول: _ إذا دار الأمر بين الأهم والمهم يؤخذ بالأهم _ وهي من المستقلاّت العقلية، ففي باب التزاحم بين الصلاة في المسجد وازالة النجاسة منه تقدم الازالة على الصلاة؛ لأنّها أهم إن قلنا بأنّ الصلاة أهم؛ لأنّها عمود الدين.

قلنا: المراد بالأهم هو الفورية، وقد فصّل هذا البحث في الاُصولفي باب التزاحم فراجع، ومثلاً لو فرض أنّ في الصدق هلاك المؤمن

ص: 40

أو الأمام فهنا يجب الكذب وترك الصدق، هلاك المؤمن أو الامام فهنا يجب الكذب وترك الصدق، كما هو في كلّ صورةٍ من صور المزاحمة يؤخذ بالأهم ويترك المهم، فقد عمل بالتقية الامام الصادق(ع) بالنسبة إلى زرارة لحفظ نفسه، وقصته(ع) معه كالتالي:

فعن حمدويه بن نصير عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبدالرحمن عن عبدالله بن زرارة ومحمد بن قولويه والحسين بن الحسن عن سعد بن عبدالله عن هارون بن الحسن بن محبوب عن محمد بن عبدالله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين عن عبدالله بن زرارة قال: (قال لي أبو عبدالله(ع) اقرأ منّي على والدك السلام وقل ل-ه: إنّي إنّما أعيبك دفاعاً منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كلّ من قربناه وحمدنا مكانه بادخال الأذى فيمن نحبّه ونقرّبه، ويذمونه لمحبتنا له، وقربه ودنوه منّا، ويرون ادخال الأذى عليه وقتله، يحمدون كلّ من عبناه نحن، وأن يحمد أمره وإنّما أعيبك لأنّك قد اشتهرت بنا ولميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس، محمود الأثر بمودّتك لنا، فأحببت أن اُعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ونكون بذلك منّا دافع شرهم عنك، يقول الله عزّوجلّ: أَمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون فِي البحر فاردت ان اعيبها وكان وراءهم ملكٌ يأْخذ كلّ سفينة - صالحة - غصباً، هذا التنزيل من عنداللهصالحة، لا والله ما عابها إلاّ لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على

ص: 41

يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنّك والله أحب الناس إليّ، وأحبّ أصحاب أبي(ع) حياً وميتاً، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وأنّه من وراءك ملكاً ظلوماً غصوباً، يرقب عبور كلّ سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثمّ يغصبها وأهلها، فرحمة الله عليك حياً ورضوان الله عليك ميتاً).

ومن صورها ما رواه علي بن أسباط عن الحسين بن زرارة قال: (قلت لأبي عبدالله(ع): إنّ أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك: جعلني الله فداك، أنّه لايزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران أنّك ذكرتني وقلت فيَّ، فقال(ع): إقرأ أباك السلام وقل له: أنا والله أحبّ لك الخير في الدنيا، وأحب لك الخير في الآخرة، وأنا والله عنك راض، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا).

ومنها عن عبدالرحمن بن الحجاج عن حمزة قال: قلت لأبي عبدالله(ع): بلغني أنّك برئت من عمي - يعني زرارة - قال: فقال: أنا لم أتبرا من زرارة، لكنهم يجيئون ويذكرون ويروون عنه، فلو سكت عنه ألزموني فأقول من قال هذا، فأنا إلى الله منه بريء.

ومنها عن الهيثم بن حفص العطار قال: (سمعت حمزة بن حمران يقول حينما قدم من اليمن لقيت أبا عبدالله(ع) فقلت له: بلغنيأنّك لعنت عمي زرارة، فقال: فرفع يده حتى صك بها صدره، ثمّ قال:

ص: 42

لا والله ما قلت ولكنهم يأتون عنه بالفتيا فأقول من قال هذا فأنا منه بريء) الحديث ولا يخفى أنّ هذه الفكرة - أعني فكرة التقية - ليس من مختصات الطائفة الامامية كما ادعى ذلك البعض، بل كلّ ذي مبدأ وعقيدة إذا لم يجد مبرراً لنشر عقيدته، بل يرى الضرر حيث ليس الوقت وقت الابراز، فلايظهر عقيدته بل يداريهم بالقول ومع عدم الكفاية فبالفعل أيضاً.

وإذا كان نشر العقيدة والعمل على خلاف التقية ليس فيه أي ثمرة، بل على العكس يعرض نفسه أو ماله أو بقية المؤمنين للخطر، فإذا عمل والحال هذه يكون عمله مخالفاً للعقل، وعليه فمع وجود الثمرة ولو لاظهار كلمة الحق فَلِمَ عمل الامام بالتقية عندما سُئل.

نعم التضحية والفداء تكونان من الاُمور الحسنة عند العقل إذا حصل على النتيجة ووصل إلى الهدف، وأمّا بدون ذلك فلاشك أنّ الأمر يكون إلقاءً للنفس في التهلكة.

نعم لو كان الدين في خطر فلا معنى للتقية، ولا معنى للسكوت، كما وقع ذلك بالنسبة لأبي الأحرار وسيد الشهداء(ع).

هذا وقد نسب صاحب التفسير الجديد إلى شيخ الأعلام والأعاظم الشيخ الطوسيR بالنسبة إلى قتال الحسين(ع) وحده. أنّ أمره يحتمل وجهين: أحدهما أنّه(ع) ظن أنّهم لايقاتلونه لمكانه من رسولالله(ص)، والآخر: أنّه غلب على ظنه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون

ص: 43

ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمه مسلماً، فكان القتل مع عز النفس وجهاد الظالم أهون عليه... .

أمّا قوله رحمه الله: (أنّه ظن أنّهم لايقاتلونه) فغير مقبول؛ لأنّ الامام(ع) كان عالماً بأنّه سوف يقتل مع أنّ الرسول(ص) أخبره بقتله في المنام، بل كان عالماً بمحل قتله (وكأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) بل أنّه لو كان ينتظر أمر الحج لقتله بنو اُمية، ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة كما ورد عن لسانه(ص)، فمن راجع المصادر يقطع بأنّه كان عالماً بمقتله.

وأمّا ما قاله من (أنّه غلب على ظنه أنّهم لايقاتلونه لمكانه من رسول الله(ص)) فانه على العكس، إذ كان قاطعاً بأنّ القوم يقتلونه كما ذكرنا.

اذن: الحق ما قاله الحجّة السبزواري على كلام الشيخ، فقد قال: لكن مقالتنا في نهضته _ أرواحنا فداه _ أنّ قضيته أمر سماوي، وعقيدتنا أنّه مفترض الطاعة عالماً بما كان و يكون وما هو كائن بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وتعلّمه منه عزّوجلّ فهو أعلم بما فعل، والكلام حول نهضته خارج عن وظيفتنا هنا، ولا سيما مع شتات الروايات و مختلف الأقوال، فتفويض الأمر وعلمه إليهم(علیهم السلام) أحسن.

وما جرى من الامام زين العابدين(ع) في عدم تقيته في خطبهبالكوفة والشام، وكذا ما صنعه عبدالله بن عفيف الازديS في رده

ص: 44

على ابن زياد، وقبله ما جرى على ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهم.

إن قلت: لماذا لم يستعمل هؤلاء التقية، مع أنّ التقية تكون سبباً لحفظ أنفسهم - وما لايتعلق بهم - من الهلاك والفناء؟

قلنا: عدم التقية أرجح، واختيار القتل أولى من حفظ النفس في هذه الموارد، حيث رأوا أعداء الدين كبني اُمية، يريدون أن يضمحل الدين، ويشير إلى أرجحية عدم التقية ما قاله رسول الله(ص) لعمار بن ياسر: لكن أبويك قد سبقاك إلى الجنة، بعد تحسينه فعل عمار في سبه إياه.

وهذا الذي ذكرناه يجري في كلّ زمان ومكان بالنسبة إلى كلّ من بيده زمام الأمور ومجاريها كفقهائنا العظام.

ص: 45

إشكالات وشبهات على التقية والاجابة عليها:

اشارة

هذا وقد حاول البعض أن يشكل على جواز التقية بالمعنى الأعم بعدة إشكالات وأثار حولها عدة شبهات، ونحن هنا بمشيئة الله سبحانه سننقل ايراداتهم وشكوكهم، ونجيب عليها بما يتسع المقام، وفي ما تقدم كانت هناك عدة اجابات في ضمن البحث.

الاشكال الأوّل: احتجاج بعض القساوسة حول التقية.

فقد احتج بعضهم بأنّ التقية تكون ضداً أو نقيضاً لكلام الله تعالى، ولا يخفى أنّ مراده من كلامه سبحانه الوارد في التوراة والأنجيل.

وللجواب عليه نقول: إنّنا حينما ننظر إلى الكتابين - بغض النظر عن حالة التحريف التي تعرضا لها - نرى أنّ هناك جمعاً من الأنبياء(علیهم السلام) كانوا يمارسون التقية، وقد وردت الممارسة لها في الكتابين معاً، ففي باب(12) من سفر التكوين: «حينما أراد ابراهيم(ع) أن يقرب إلى مصر قال لزوجته سارة: أنتِ تعلمين بأنّكِ امرأة جميلة المنظر ويحتمل أنّ المصريين حينما ينظرون إليك يقولون هذه زوجته فيقتلونني وتبقين أنتِ حية، ألتمس منك بأن تقولي هذا أخي وأنا اُخته».

وقال ابراهيم(ع) في نفس الباب: «ففي الواقع هي اُختي وابنة والدي لكن ليست من اُمي وزوجتي» مع أنّ التوراة تحكم بحرمة

ص: 46

الزواج من الأخت.

اذن: لايكون هذا القول منه(ع) إلاّ تقية.

وفي باب 26 من أبواب التكوين: «أنّ اسحاق(ع) تعب وسأل الناس في ذلك المكان عن زوجته، قال: إنّها اُختي خوفاً منهم إذا قال زوجتي يقتلوه؛ لأنّ زوجته كانت صبيح المنظر».

وفي باب 9 من انجيل متى: «انّ عيسى لما شفى الشخصين من العمى ففتحوا، قال عيسى مؤكداً عليهما بالكتمان مخافة من اليهود. وغيرها من الموارد الكثيرة فإن أحببت التفصيل فعليك بكتاب «أنيس الأعلام في نصرة الاسلام» لمؤلّفه السيد عبدالرحيم الخلخالي (ج1 ص113 و114).

والنتيجة على ما يظهر من حال القسيس المستشكل ومن على شاكلته أنّه لاعلم له حتى بكتبه المقدسة، أو اللهم إلاّ مجادلة بالباطل.

الأشكال الثاني: احتجاج المخالف في كونها نفاقاً:

فقد احتج المخالف بأنّ العمل بالتقية نفاق، فكما أنّ النفاق إنّما هو إبطان الأمر واظهار خلافه فكذا التقية.

ولكن الجواب: هناك فرق واضح وبيّن لمن كان له أدنى تأمل، ولمن يراجع كتب اللغة بين المقيس والمقيس عليه فإنّ النفاق إنّما هو ابطان الكفر واعتقاده، أو ستر الكفر بالقلب واظهار الايمان باللسان،

ص: 47

وهو حرام بل كفر كما هو معلوم، وعلى العكس تماماً في التقية فانّما هي ابطان الايمان واعتقاده، أو اظهار الكفر واخفاء الايمان وستره بالقلب، وهو قد يكون واجباً كما تقدم، هذا ولو كانت التقية نفاقاً كما زعم المستشكل فلماذا أمر سيد المرسلين(ص) عماراً بقوله(ص): «فإن عادوا لك فعدلهم بما قلت» وكيف يقرر(ص) النفاق إن هو إلاّ تخرص وأفك مفترى؟!

وبعد هذا وذاك فإنّ أصل تشريع التقية مما اتفق عليه السنّة والشيعة، وإليك هنا حديثاً من جملة من أعلامهم كما وعدناك أن نأتيك به فيما سبق.

فقد روى السيوطي في دره المنثور عند تفسيره قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا...) فالتقية باللسان من حُمِل على أمر يتكلّم به، وهو معصية لله، فيتكلّم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالايمان، فإنّ ذلك لايضره إنّما التقية باللسان. وأخرج عبدالحميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه البيقهي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا...) قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان، ولابسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنّه لاعذر له، واخرج ابن عبدالحميد عن الحسن، قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة.

ص: 48

وقال أحمد مصطفى المراغي في تفسيره عند الآية المتقدمة ما نصه: أي إن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كلّ حال إلاّ في حال الخوف من الشيء تتقونه منهم، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية «أنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، واذاً فلامانع من أنّ تحالف دولة اسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أنّ تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولاتختص هذه الموالاة بحال الضعف بل هي جائزة في كلّ وقت. وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقّي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال، فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالايمان لايكون كافراً بل يُعذر، كما فعل عمار بن ياسر فأكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مليء بالايمان - إلى أن قال: - ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة واِلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولايعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله(ص): ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة، وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله(ص) وأنا عنده فقالرسول

ص: 49

الله(ص): بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة، ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلتَ ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة: إنَّ من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه، رواه البخاري.

وروي قوله (ص): إنّا لنكشر - نبتسم - في وجوه قوم، وأنّ قلوبنا لتقليهم أي تبغضهم.

انظر إلى هذين التفسيرين لترى أنّ التقية ليست مختصة مع الكفار، وكما عرفت من مقولة الدر قول الحسن. وعن المراغي حيث يؤكد بقوله: «ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة» وعدم تخصيصها بالكفرة فقط، واطلاق الرواية التي رواها عن النبي(ص): «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» فهي باطلاقها شاملة لكلّ معاني التقية، وكذا إذا نظرنا إلى رواية عائشة حيث اتقى(ص) عن هذا الرجل المسلم حيث يقول: «بئس ابن العشيرة» ثمّ الان له القول ولمّا أشكلت عليه عائشة أجابها بما تقدم من القول.

فاذن: التقية واجبة مع كلّ فاسق وفاجر زيادة على الكافر.

وقال الجصاص - وهو من ائمة الاحناف - في قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً): يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم باظهار الموالاة من غير إعتقاد لها.

ونقل الرازي في تفسيره مقولة الحسن البصري المتقدمة: التقية

ص: 50

جائزة إلى يوم القيامة، إلاّ في قتل النفس التي حرّمها الله.

وعن الشافعي أنّه أجاز التقية وعممها للمسلم إذا خاف من المسلم، لما بينهما من الاختلاف فيما يعود إلى مسائل الدين.

وقال القرطبي: أجمع أهل العلم على أنّه من اُكره على الكفر حتى خشي على نفسه من القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان.

وقال جمال الدين القاسمي في تفسيره في قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) استنبط الأئمة التقية عند الخوف، وقد نقل الاجماع على جوازها: عند الامام مرتضى اليماني.

وقد ظهر من إطلاق قول القاسمي أنّ التقية على الاطلاق مشروعة بالإجماع. فاذن: التقية ليست بنفاق كما زعم من لاعلم له بمعناها لغةً واصطلاحاً.

وقال الرازي - في تفسير قوله تعالى: (إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) - : ظاهر الآية أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين إلاّ أنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محامةً عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز؛ لقوله(ص): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقوله (ص): «من قتل دون ماله فهو شهيد».

ص: 51

وقال محمّد رشيد رضا في تفسير المنار عند الآية المتقدمة ما نصه: من نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك لاشارحاً للكفر صدره ولا مستحباً للدنيا على الآخرة لايكون كافراً، بل يُعذر كما عُذر عمار بن ياسر.

وقال الشيخ مصطفى الزرقاوي في كتابه الفقه الاسلامي: التهديد بالقتل للاكراه عن الكفر يبيح للشخص التظاهر به مع اطمئنان قلبه بالايمان وغيرها من الأقوال كثير، فإن أحببت التفصيل أكثر راجع كتاب التقية عند أهل البيت(علیهم السلام) لمصطفى قصير العاملي، وكتاب التقية في الفكر الاسلامي الشيعي لتفحية مصطفى عطوي، وكتاب بحوث مع أهل السنة والسلفية للسيد مهدي الحسيني الروحاني، وكتاب الشيعة بين الحقائق والأوهام للسيد محسن الأمينS، وأيضاً كتاب واقع التقية عند المذاهب والفرق الاسلامية من غير الشيعة الامامية للاستاذ ثامر هاشم حبيب العميدي.

الاشكال الثالث: لماذا لم يستعمل الأنبياء التقية؟

قالوا: لو كانت التقية جائزة لجاز ذلك للأنبياء(علیهم السلام) أن يظهروا كلمة الكفر تقية، ولما كان اللازم باطل فكذا اللزوم.

ولكن الجواب بأنّه خارج بالضرورة من الدين؛ لأنّه لو جاز ذلك للأنبياء (علیهم السلام) لانعدم الدين بالمرة، ولو جاز لجاز أول ابتداء الدعوة مع كثرة العدو وشيوع المنكر. نعم قد مرَّ جواز التقية منهم (علیهم السلام) في

ص: 52

غيرالكفر.

الاشكال الرابع: دعوى أنّ التقية من المداهنة.

وادعى بعضهم بأنّ التقية نوع من أنواع المداهنة.

ولا يخفى أنّ التقية لاتعد إطلاقاً من أقسام المداهنة، لأنّ المداهنة معصية. وقال علي(ع): «أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة».

وقال(ع) أيضاً: «لاتدهنوا في الحق إذا ورد عليكم وعرفتموه فتخسروا خسراناً مبيناً».

ومنهي عنها كما في قوله تعالى: (وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ومعنى المداهنة هو المصانعة معهم لكي يصانعوك بمسايرتك وبتصديقك ظاهراً، ولكن ينافقون في اظهار التصديق ويضمرون العداوة والتكذيب لك. وعلى العكس تماماً التقية فهي مأمور بها كما تجلى لك الأمر فيما تقدم.

والفرق بينهما أن الشخص حينما يُداهن كما إذا أثنى على ظالم ونصب أعماله التي كلها ظلمٌ وأفرغها في قالب العدل وميزان القسط، ويصوّرها بتلك الصورة، كما إذا كان هناك مبتدع يصوّر بدعته بصورة الحق. أمّا التقية فهي أن يعمل عملهم مثلاً يصلّي بصلاتهم ويتوضأ بوضوئهم خوفاً على نفسه أو ماله أو عرضه غير معتقد بها، ثمّ إنّ المداهنة كما أسلفنا منهي عنها، وكما ورد في الحديثعن

ص: 53

الامام الباقر(ع) حيث قال: «أوصى الله تعالى إلى شعيب النبي أنّي معذبٌ من قومك مئة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم، فقال: «يا ربَّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار، قال الله تبارك و تعالى: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي» ومنه حديث الحق تعالى أيضاً لعيسى(ع): «قل لمن تمرّد عليّ بالعصيان وعمل بالأدهان ليتوقع عقوبتي» مع أنّ التقية ورد فيها المدح في الكتاب والسنّة، ولا أقل الامضاء من جهة الجواز.

الاشكال الخامس: دعوى أنّ التقية تسبّب الفرقة.

فقد إدعى بعض مَن في قلبه مرض وحقد بأنّ التقية تكون سبباً للفرقة وعدم التجاوب بين المسلمين.

ولكن على العكس تماماً، فالتقية سبب رئيسي للألفة والمحبة، ويتضح هذا الأمر في التقية المداراتية على الخصوص حيث يأمرنا أئمتنا(علیهم السلام) بالحضور معهم في الصلاة جماعة، وتشييع موتاهم، وعيادة مرضاهم، وعدم سبّهم كما ورد في الحديث «إنّي اكره لكم أن تكونوا سبّابين».

وقد تقدمت جملة من الروايات التي دلّت على هذا المعنى بما لاغبار عليه، وللمزيد إليك هذا الحديث المروي عن أبي علي قال: قلت لأبي عبدالله(ع): إنّ لنا إماماً مخالفاً وهو يبغض أصحابنا كلهم، فقال: ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقاً لأنت أحق بالمسجد

ص: 54

منه، فكن أوّل داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس وقل خيراً.

ومع هذا كله فهل يجوز أن يُنسب إليها إرادة التفريق بين المسلمين، فهل التقية تكون سبباً للفرقة بين المسلمين أم ما يفعله البعض منهم تبعاً لأوامر أوليائه وأسياده من الدول الاستكبارية، لبثّ التفرقة بين أمة محمّد(ص)؟ وهل يا ترى في الوقت الحاضر الحرب القائمة على قدم وساق في أفغانستان دائرة بين السنّة والشيعة؟ أم بين السنّة أنفسهم أولاً وبالذات؟ وكذا الحرب التي كانت قائمة في اليمن حتى آلت النتائج إلى تقسيم هذا البلد إلى قسمين، فهل هذه الحرب كانت بين الشيعة والسنّة أم بين السنّة أنفسهم؟ وهكذا الحرب بين العراق والكويت، وهكذا وهكذا فمالكم كيف تحكمون؟!

إذن: لابد للمسلمين أن يكونوا دائماً وابداً على جانب كبير من الحذر واليقظة ويسعون للألفة والمحبة والاتحاد، ووحدة الصف، ولمّ الشمل، وتوحيد القوى، لكي يكونوا على بنيان مرصوص بصف واحد أمام العدو المشترك، ونسأل الله سبحانه التوفيق لجميع المسلمين في العالم.

رد دعوى من زعم أن التقية أصل من اصول الدين

ثمّ إنّ البعض ادعى أنّ التقية من أصل الدين مستدلاً بقول الأمام(ع): «التقية ديني ودين آبائي، ولادين لمن لاتقية له» كما مرّ الحديث، وقوله(ع): «لاخير فيمن لاتقية له، ولا ايمان لمن لاتقية

ص: 55

له».

ولا يخفى أنّ الدين يأتي على معانٍ في اللغة، وكذا في التفاسير كما في قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.

وفي الحديث القدسي: «ابن آدم كن كيف شئت كما تدين تدان، أي كما تجازي تُجازى، وبفعلك وبحسب ما عملت قال الطريحي في مجمعه: سمي الأوّل جزاءً للازدواج. والثاني: لكم كفركم بالله ولي ديني التوحيد والاخلاص. والثالث: الدين الجزاء، لكم جزاؤكم ولي جزائي.

قال الشاعر:

ودنّاهم مثل ما يقرضون *** اذا ما لقونا لقيناهم

قال تعالى: (مالِكِ يَوْمِ الدّينِ) ومالكيته تعالى للأشياء ليس كمالكية المُلاّك لأملاكهم، ولا كمالكية الملوك لممالكهم، ولا كمالكية النفوس لأعضائها، بل كمالكية النفوس لقواها وصورها العلمية الحاصلة الحاضرة عندها، يفني ما شاء منها، ويوجد ما شاء، ويمحو ويثبت، وتخصيص مالكيته تعالى بيوم الدين للاشارة إلى الارتقاء الذي ذكرنا، فإنّ الانسان ما بقي في عالم الطبع والبشرية لم يظهر عليه مالكيته تعالى، وإذا ارتقى إلى أول عالم الجزاء وهو عالم المثال ظهر عليه أنّه تعالى مالك للأشياء كمالكيته لصوره العلمية وقواه

ص: 56

النفسية، فالمعنى ظاهر مالكيته يوم الدين، سواء كان المراد ظاهر مالكيته للأشياء أو لنفس يوم الدين، ولما كان الواصل إلى يوم الجزاء حاضراً بوجهٍ عند مالكه قال تعالى بطريق التعليم: (إِيّاكَ نَعْبُدُ).

ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله تعالى: (لاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ) أي حكمه الذي حكم به على الزاني. ويأتي أيضاً بمعنى القهر والاستعلاء كما يأتي بمعنى يوم القيامة والطاعة والعادة.

قال المثقب العبدي - وهو يذكر ناقته -:

تقول إذا درأت لها وضينى *** أهذا دينه ابداً وديني

وفي حديث عن أمير المؤمنين(ع): «محبة العالم دين يدان به» .

ومعنى قوله(ع): التقية ديني و دين آبائي، يعني ديدني وديدن آبائي، أو عادتي وعادة آبائي.

وقوله(ع): «لا إيمان لمن لاتقية له» فنحن إذا اردنا ان نبين معنى الايمان وحقيقته والفرق بينه وبين الاسلام فهذا يحتاج إلى مبحث كلامي دقيق، وخصوصاً إذا أردنا أن نبيّن مراتب ودرجات الايمان حيث تأتي على مراتب مختلفة، فالأحسن أن نذكر الرواية الواردة عن أمير المؤمنين(ع) لكي يعرف مَن لا اطلاع له بالكتب العقائدية معنى وحقيقة الايمان، وليس معنى عدم الايمان الكفر، كماورد بالنسبة إلى الصلاة حيث يقول جابر بن عبدالله الانصاري: قال

ص: 57

رسول الله(ص): «ما بين الكفر والايمان إلاّ ترك الصلاة». وقوله(ع) في حديث زرارة عن أبي جعفر(ع): «إنّ تارك الفريضة كافر» وفي حديث آخر عنه(ع): «فإنّ من تركها متعمداً فقد برئت منه ذمة الاسلام» وغيرها من الأخبار بالنسبة إلى بعض العبادات، حيث ورد في بعضها أنّ من تركها يموت إمّا يهودياً أو نصرانياً كترك الحج، فهل من ترك هذه الفروع ولو متعمداً يصبح كافراً حقيقياً أم لابد من تأويل هذه الروايات؟ فتدبر.

وأمّا الرواية فقد سئل أمير المؤمنين(ع) عن الايمان فقال(ع): «إنّ الله تبارك وتعالى جعل الايمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق والاشفاق والزهد والترقّب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات. واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة ومعرفة العبرة وسنّة الأوّلين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنّة، ومن عرف السنّة فكأنّما كان مع الأولين، واهتدى للتي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجى، وإلى من هلك بما هلك، فأنّما أهلك الله من أهلك بمعصيته، وأنجىمن أنجى بطاعته. والعدل على أربع شعب: غامض الفهم وغمر

ص: 58

العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسَّر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرِّط في أمره وعاش في الناس حميداً. والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهر المؤمن، ومن عفى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين غضب لله، ومن غضب لله غضب الله تعالى له فذلك الايمان ودعائمه وشعبه».

وقد ورد في الحديث أيضاً: «أنّه لا إيمان لمن لا أمانة له».

ومن المعلوم أنّ من يخون الأمانة ليس بكافر، ولايراد من كلمة «لا إيمان» الحقيقة، وإنّما يقصد بها الزجر والردع ونفي الفضيلة دون الحقيقة في رفع الايمان وإبطاله، كما ورد في الحديث: «لاصلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده».

اذن: أين معنى لا إيمان أنّه كافر.

وإذا كانت التقية خلاف الايمان والكفر، فكيف أمر بها النبي(ص) وأقرها بقوله لعمار وقد تقدم؟! وإذا كانت كفراً فكيف أمر بذلك أئمة المسلمين من السنة والشيعة؟! وقد ذكرنا قسطاً لابأس به من أقوال أئمة السنّة فراجع وللمزيد نقول: إنّ الشاطبي أنكر علىالخوارج قولهم: إنّ التقية لاتجوز في قولٍ ولا فعل على الاطلاق

ص: 59

والعموم، ووصف ذلك بأنّه مخالف لكليات الشريعة أصلية وعملية.

وقد اتقى الشعبي عندما أنكر على أحد القصاصين في الشام فضربوه حتى قال برأي شيخهم نجاة لنفسه. واتقى أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن؛ لأنّه يعتقد بقدمه، وكان ذلك في مجلس المأمون العباسي.

وقال ابن كثير في تفسيره للتقية: «إلاّ من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، وسنوافيك بالمزيد في ضمن الحديث.

وأمّا نحن الطائفة فإنّ المنكرين إنّما وصمونا بها وجعلوها شعارنا ودثارنا، وانّا لنفتخر أن نمضي على كتاب الله سبحانه وسنّة نبيه(ص) وسيرة آل محمّد(ص)، ومن والاهم وتبعهم باحسان الى يوم الدين.

وفي هذا الصدد يقول السيد الطباطبائي في الميزان: وبالجملة الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها بالجملة والاعتبار العقلي يؤيّده، إذ لابغية للدين ولا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحق وحياته، وربما يترتّب على التقية، والمجاراة مع اعداء الدين ومخالفي الحق حفظ مصلحة الدين، وحياة الحق ما لايترتّب على تركها، وانكار ذلك مكابرة وتعسف.وقال الجنابذي في تفسيره: فإن التقية المشروعة المأمور بها أن

ص: 60

تكون على خوف من معاشرك إن اطلع على ما في قلبك فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما في قلبك، ولا اختصاص بها بالكافر، فإنّه ذكر في حديث أنّه ذكر التقية عند علي بن الحسين(ع) فقال: لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لكفره.

ويقول شيخنا الطبرسي: التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال اصحابنا: انها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز في الافعال في قتل المؤمن ولافيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين.

سؤال: هل التقية لازمة في كلّ عصر ومصر أم لا؟

فنقول: بأنّ الحكم تابع للموضوع فمتى وجد الموضوع فالحكم يأتي، فلاموضوع للتقية في عصرنا هذا ولاموجب للعمل بها بعد أن ولّى عهد الخوف والاضطهاد في العصر الحاضر، ونؤكد القول بأنّه لو حصل ووُجِد الموضوع في عصرنا أو في غيره فلاشك أنّ الحكم يأتي. نعم التقية المداراتية موجودة، ولابد من العمل بها كما أمرنا أئمتنا(علیهم السلام) بذلك.

قد يُقال: إنّه لابد من الاستمرار في التقية ويستدل بالروايات الواردة عن الأئمة(علیهم السلام) حيث استفادوا منها عدم القيام، ولو استبيحتبيضة الدين بقيام العدو لإستئصاله وتفرق شمل المسلمين، بل يقول

ص: 61

البعض: لابد من الصبر وعدم القيام في وجه العدو إلى ظهور الحجة(عج)، فلابد من إخفاء الحق إلى قيام القائم(عج) فيأخذون أمثال هذه الروايات التي نذكرها وذكرنا بعضها ذريعة للفرار من المسؤولية، حتى أن قسماً منهم يقول: لابد أن يُخلَّى الناس سبيلهم حتى يكثر الفساد ليظهر الامام(عج)، وقسم آخر يجعلها سبباً للراحة أو ابقاءً لسلطته، فاليك بعض الروايات التي استدلوا بها على مزاعمهم.

فعن الا مام علي بن موسى الرضا(ع) أنّه قال: «لادين لمن لاورع له، ولا ايمان لمن لاتقية له، وأنّ أكرمكم عندالله أعملكم بالتقية، قيل: يابن رسول الله إلى متى؟

قال: إلى قيام القائم(عج)، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا».

وعن حبيب بن بشير قال: «قال أبو عبدالله(ع): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب اليّ من التقية، يا حبيب إنّه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم يكن لن تقية وضعه الله ...» الخ، وقد مر الحديث وغيرهما من الروايات.

وفي الواقع أنّ هؤلاء لم يفهموا حقيقة التقية؛ لأنّهم لم يتدبّروا جميع الأخبار الواردة في هذا الباب، ولم يرعوا الزمان والمكان، حيثبيّنا أنّ الحكم تابع للموضوع، ففي عصرنا حيث لاخوف فلامعنى

ص: 62

للتقية. نعم إن وُجِد الموضوع في أي لحظة وجد حكمه، كما يمكن أن يريد(ع) بالتقية المداراتية وهي موجودة كما ذكرنا.

ثم إنّه كيف يمكن ترك الواجب العظيم «ونخلّي سبيلهم» وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف يقبل ذلك العقل السليم؟ ولذا نرى الأمام(ع) يقول: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فاذا بلغ الدم فليس تقية».

وفي حديث: انّ الرضا(ع) جفى جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال (ع): بدعواكم أنّكم شيعة أمير المؤمنين(ع) وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصّرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق أخوانكم في الله، وتتقون حيث لاتجب التقية، وتتركون التقية حيث لابد من التقية.

فالذي يظهر من هذا الحديث أنّه لاتجب التقية في كلّ عصر ومصر، بل حيث يقول الامام(ع): «تتقون حيث لاتجب التقية، وتتركون حيث لابد من التقية» فمعرفة موضوع التقية مهم جداً، ولذا فالعمل بالتقية حيث لامورد لها قد يكون سبباً لتضييع الحكم، وعلى العكس تماماً قد يكون تركها سبباً لهلاك النفس، ولكن كما ذكرنا أنّه قد تحرم التقية إذاكان هناك شيء أهم من حفظ النفس وهو حفظبيضة الاسلام، وبما أنّ الأمر يدور بين الأخذ بالأهم أو المهم فالعقل

ص: 63

حاكم بتقديم الأهم والأخذ به والعمل على ضوئه وهو الدفاع عن بيضة الدين، وترك المهم وهو التقية، كما أنّ العقل يحكم بالأخذ بالتقية التي هي أهم من الكذب؛ لأنّها تكون سبباً لحفظ النفس بواسطة العمل بالكذب المحرم الذي هو المهم. نعم العمل بالقاعدة «دوران الأمر بين الأهم والمهم» إنّما يمكن الأخذ بها إذا كان الأهم من الأمور الخطيرة، وهو حفظ الدين ومضافاً إلى ذلك فإنّه يظهر في كثير من الأحاديث وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فعن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) قالا: «ويل لقوم لايدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

وعن محمد بن عرفة قال أبو الحسن الرضا(ع): «لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملَنَّ عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلايستجاب لهم».

وبالاسناد عن الرضا(ع) أنّه - أي الراوي - سمعه يقول: «كان رسول الله(ص) يقول: إذا أُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاعٍ من الله».

وعن أبي جعفر(ع) أنّه قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهم قوم مراؤون - إلى أن قال: ولو أنّ الصلاة أضرت بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوا كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، أنّالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تُقام

ص: 64

الفرائض، هناك يتم غضب الله عزّوجلّ عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومناهجٍ الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب وتحلُّ المكاسب، وتُردُّ المظالم، وتُعمَّرُ الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر».

وعن حسن قال: «خطب أمير المؤمنين(ع) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث عملوا بالمعاصي ولم ينهاهم الربانيون والأحبار في ذلك، وانّهم لمّا تمادّوا في المعاصي ولم ينهاهم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً».

اذن: كيف نخلّي سبيلهم مع أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى؟ ونؤكّد القول أنّ التقية تحرم إذا كانت سبباً لزوال الدين، فإذا كان أصل الدين في خطر هناك لاتجوز التقية، كما أكدنا أنّه متى توفر موضوعها وجبت.

وخلاصة البحث: لاشكّ ولاشبهة في وجوب التقية على الاطلاق، ولكن كما ذكرنا من تبعة الحكم للموضوع، فهي تجب في حالاتالشدة والضرورة والخطر على النفس كما كانت موجودة مع الضرورة

ص: 65

في العصور الماضية، خصوصاً أبّان الخلافة الأموية والعباسية الذين كانوا يتبعون الشيعة تحت كلّ حجر ومدر، وكذلك في بعض فترات عصرنا الحاضر باختلاف في بعض الأساليب، لا لشيء إلاّ لأنّهم يمثلون الاسلام المحمدي الأصيل، ويدعون الأمة إلى الأصالة الاسلامية، ويتبعون ما أمرهم به الرسول(ص) من اتباع الكتاب الشريف وآل البيتE الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ومن أجل رفضهم لكلّ أنواع الظلم والاستعباد، ولم يتبعوا غيرهم من المسلمين الذين داهنوا الظلمة مع الأسف، إتباعاً منهم للقرآن الحكيم وخوفاً من النار، فقال جل وعلا: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ) ولم يقولوا: لكلّ فاسق وفاجر أمير المؤمنين، بل إمرة المؤمنين عندهم لائقة لشخص اتبع الحق وحذى حذو الرسول(ص) وعمل بما أمره(ص) به وانتهى عما نهاه عنه.

وحينما نقول: بعدم وجود التقية في عصرنا هذا لا لأنَّ التقية مختصة بعصر دون عصر، بل لعدم وجود الموضوع وهو الخوف والاضطهاد، ولأنّه ما عُرفت الشيعة في الماضي بأنّهم يمثلون أكبر عدد من المسلمين، ولايخفى أنّه إذا تحقق الموضوع تحقق الحكم كما ذكرنا.

أو حينما نقول بأنّه لاتجوز التقية إنّما هو فيما إذا كان هناكشيء أهم من حفظ النفس وهو حفظ بيضة الدين، وعندما كانت في

ص: 66

خطر وخوف الاضمحلال والاندثار كان لابد من التضحية والفداء والدفاع عنها ببذل كل غال ونفيس ولذا نرى أنّ كثيراً من رجالات الطائفة قدّموا كلّ شيء حتى نفوسهم الطاهرة قرابين للحق، كسيد الشهداء(ع) حينما رأى أنّ الحق لايعمل به، وأنّ الباطل لايتناهي عنه، وأنّ الدين إذا بقيت الأمور على شاكلتها يضمحل فقال: ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ولذا قدّم كل ما لديه لوجه الله عزّ وجلّ، وكذا بقية رجالاتنا، فمنهم حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وغيرهم من ممن سلك مسلكهم رضوان الله عليهم أجمعين.

وإنّ للامام الخمينيR كلاماً في المقام ننقله بنصه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة، وربما تحرم لمصالح عالية، قالR: تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة والرد على الاسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذاهب ويطابق الألحاد وغيرها من عظائم المحرمات، ولاتعمها أدلّة التقية ولا الاضطرار ولا الاكراه. وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لايؤدي الى الفساد في الدين فإنّه جائز»، ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرماتتقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه،

ص: 67

كما لو أكره على شرب المسكر والزنا - مثلاً - فأنّ جواز التقية في مثله متمسكاً بحكومة دليل الرفع وأدلة التقية مشكل بل ممنوع. وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، وفيه ما لو كان أصل من أصول الاسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من اُصول الأحكام فضلاً عن اُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لأقامة الدين وأصوله، فاذا بلغ الأمر إلى هدمها، فلاتجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة.

وأمّا ما ورد عن الامام(ع): «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فاذا بلغت الدم فلاتقية» وقوله(ع): «أيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لانفعل انما نتقى» فقد أشرنا أنّ التقية موجودة عند كلّ ثوري يريد أن يحرر بلاده، ففي ابتداء حركته يعمل بالتقية إذا رأى أنّه لانتيجة للأظهار عندما يكون أعداء الثورة كثيرين، ويصبح فاشلاً لو لم يعمل بالتقية.

إذن: اصل التقية أمر عقلائي، نعم لايجوز الافراط فيه كما يتمسك البعض بالروايات التي ذكرنا قسماً منها ويجعلها ذريعة للفرارمن الوظيفة، وليس استعمالهم لها إلاّ للنفاق أو الرياء أو التخلي عن

ص: 68

الوظيفة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالفرار من النضال والكفاح أو الجهاد ضد الكفار والظلمة، بل ولو أنّ الشيعة تستعمل التقية ولكننا نراها قامت بثورات عظيمة حينما رأت الوظيفة وخصوصاً في عصر الغيبة بعد ورود الحكم من الفقهاء ضد الجور والظلم أو طرد الكفار عن بلادهم، ونراهم صمدوا وقاوموا بكل بسالة ووقفوا في وجه العدو كالبنيان المرصوص، ولازالت الشيعة في كلّ مكان أصلب عوداً ضد هؤلاء، وهم الذين يساندون اخوانهم في كلّ مكان، وهم الذين يكونون دعاة لتقريب المذاهب ويجعلون شعارهم؛ لقوله تعالى: (إِنّ هذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً).

وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ) وقوله (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وغيرها من الآيات التي تحثّ المسلمين على التآلف والتحابب والوحدة، وما أحوج المسلمون اليوم إلى وحدة الكلمة وكلمة الوحدة، خصوصاً في هذا العصر حيث نرى الكفار يغزون البلاد الاسلامية بمرأى ومسمع من المسلمين وغيرهم ويهتكون الأعراض ويقتلون الصغار والكبار، ومن ليس له القدرة على الدفاع عن نفسه ويسلبون الخيرات، بل على العكس هناك طائفة من المسلمين يبثون الفرقة بين المسلمين، وتكون النتيجة التضاربوالأحقاد فيما بينهم وتضعيف القوى، مع أنّه لايمكن دفع الغزاة إلاّ

ص: 69

بالوقوف أمامهم مع وحدة الصف وصف الوحدة كالبنيان المرصوص، ولذا فقد أصرّت آية الطاعة لله ورسوله على ضرورة عدم التنازع ووجوب الاتحاد والوقوف أمام العدو لبقاء الصولة والقوة للمسلمين وانتصارهم وحفظ بلادهم.

سؤال: لماذا نسبت التقية إلى الشيعة؟

إن قلت: إن كانت التقية واجبة بالأدلّة الأربعة عند المسلمين كافة فلماذا نسبت إلى الشيعة فقط؟ ولماذا جاء التشنيع من بعض علماء السنّة على الشيعة ونسبوهم إلى البدع؟

قلنا: إنّ التقية غير مختصة بالشيعة، بل هي غير مختصة بالمسلمين أيضاً، فهي موجودة عند جميع الأديان والمذاهب كما اسلفنا، وأنّ التشنيع من البعض قد يكون من جهة الجهل بعقائد الشيعة وعدم المعرفة بها، كما أنّهم كانوا ولا زالوا ينسبون إلى الشيعة من الامور العقائدية الفاسدة ما هم منها براء، ويتهمونهم بكثير من الاتهامات، وهذا واضح لمن راجع كتبهم الأصولية وغيرها، ولاشك أنّهم يريدون بهذه النسبة إليهم إهانتهم والتنكيل بهم. واما نسبتهم التقية الى الشيعة فقط لأنّ الشيعة كانوا مضطرين للعمل بها أكثر من غيرهم، خصوصاً في العصرين الأموي والعباسي بعد اضطهاد أئمتهم(علیهم السلام).ولذا نرى أنّ نفس الامام(ع) يعمل بالتقية لحفظ نفس زرارة حيث

ص: 70

يذمه ويلعنه مع أنّه من خلّص أصحابه وأصحاب أبيه(ع) فيقول: «كذب عليّ، لعن الله زرارة» مع إنّنا نرى بأنّه ورد عنه(ع) بسند صحيح في عدة موارد أنّه (ع) يمدحه ويشير إلى الناس بالرجوع إليه والى غيره من الثقات في المسائل بقوله: أوتاد الأرض وأعلام أربعة: محمد بن مسلم بريد بن معاوية ليث البحتري المرادي، وزرارة بن أعين. وفي رواية اُخرى: بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي وأبو بصير ليث بن البحتري المرادي، ومحمد بن مسلم وزرارة، أربعة نجباء اُمناء الله على حلاله وحرامه، ولولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست، وغيرها من الروايات. وقد تقدمت الرواية في مدح زرارة.

مزاعم باطلة

وقال بعض من لم يدرك معنى التقية ومواردها ويحمل حملة شديدة على من يعمل بها بقوله: كيف تدّعي الشيعة بأنّها من أنصار الامام الحسين سيد الشهداء وامام الثائرين وهي تعمل بالتقية ويعتقدون بها وترثيها لنفسها، ثمّ قال: لست أدري ما هذا التناقض الغريب في معتقدات الشيعة وحسب الصورة التي رسمتها لهم زعاماتهم عبر القرون.

ولم يفهم بأنّ التقية غير جائزة عند محوالدين، والامام السبطالشهيد(ع) إنّما قام حينما رأى الدين سيضمحل بقوله (ع): «ألا ترون

ص: 71

إلى الحق لايعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة - وفي نص آخر إلاّ شهادة - والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

اذن: أي تضاد بين أقوال الشيعة، قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاءS في هذا الصدد: من الأمور التي يشّنع بها بعض الناس على الشيعة ويزدري عليهم بها قولهم (بالتقية) جهلاً منهم أيضاً بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها، ولو تثبتوا في الأمر وتريثوا في الحكم وصبروا وتصبّروا لعرفوا أنّ التقية التي تقول بها الشيعة لاتختص بهم ولم ينفردوا بها، بل هو أمر قضت به ضرورة العقول، وعليه جبلت الطباع وغرائز البشر وشريعة الاسلام في اُسس أحكامها وجوهريات مشروعياتها تماشي العقل والعلم جنباً إلى جنب، ومن ضرورة العقول وغرائز النفوس أنّ كل إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه والمحافظة على حياته وهي أعزّ الاشياء عليه وأحبها إليه، وقصة عمار وأبويه، وتعذيب المشركين لجماعة من الصحابة وحملهم لهم على الشر وإظهارهم الكفر مشهورة، والعمل بالتقية له أحكامه الثلاث. فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة. واُخرى يكون رخصة كما لو تركها، والتظاهر بالحق نوع تقوية له، فله أن يضحّي بنفسه، وله أن يحافظ عليها. وثالثة يحرم العملبها، كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل، واضمحلال الحق، واحياء

ص: 72

الظلم والجور، ومن هنا تنصاع لك شمس الحقيقة وتعرف أنّ اللوم والتعبير بالتقية ليس على الشيعة، بل على من سلبهم موهبة الحرية، وألجأهم إلى العمل بالتقية.

وقال الآخر «السالوس»: غالوا في قيمة التقية، مع أنّها رخصة لايقدم عليها المؤمن إلاّ اضطراراً، وهذا شيء عجيب منه بعد قوله بأنّ التقية تارة تجب كما إذا كان تركها يوجب تلف النفس من غير فائدة. واُخرى رخصة كما لو كان في تركها، والتظاهر بالحق نوع تقوية. وثالثة يحرم العمل بها، كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل واذلال الحق واحياء الظلم والجور، وهو مع ذلك يؤكد أنّ هذا القول لاتنفرد به الامامية، فلماذا اذن اختصوا بهذا المبدأ وهوجموا من أجله، أرى أنّ ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية انّهم غالوا في قيمة التقية مع أنّها رخصة لايقدم عليها المؤمن إلاّ اضطراراً .... الخ.

فكيف يتأتى منه هذا القول، وتعليقاً على ذلك نذكر ما أورده العلامة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية، إنّ الشعية قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها؛ لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أي اُمة اُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة كله، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولاجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم،ولما كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من

ص: 73

الاعتقادات في اُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهية، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وحزازة في النفس، وقد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه، أو أخراج الأعز منهما الاذل كما يتلوه علينا التاريخ وتصدّقه التجارب، لذلك أصبحت شيعة الائمة من آل البيت(علیهم السلام) تضطر في أكثر الاحيان إلى الكتمان والمحافظة على الوداد والاُخوة مع سائر اخوانهم المسلمين لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكيلا يحسّ الكفار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسعوا الخلاف بين الأمة المحمدية، لهذه الغايات النزيهة كان الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاُخرى، متبعة في ذلك سيرة الائمة من آل محمّد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل «التقية ديني و دين آبائي» إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلت على ذلك آيات من القرآن العظيم. وروي عن صادق آل البيت(علیهم السلام) في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي» و«من لاتقية له لادين له» وعن اتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم وما زالت سمة تعرف بها الامامية دون غيرها من الطوائف والاُمم، وكلّ انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لابد أنيتكتم ويتقي مواضع الخطر، وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول. ومن

ص: 74

المعلوم أنّ الامامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أيّة طائفة أو اُمة اُخرى فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم وترك مظاهرتهم وستر عقائدهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا، ولهذا امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم، وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية.

موارد الاستثناء من التقية:

المورد الأوّل: لايخفى إنّما تشرع التقية إذا كان فيها ابقاء للنفوس والأعراض والأموال، ويكون ابقاء هذه الاُمور ابقاءً للدين ببقاء أهله، ولكن لو فرض أنّ الدين يضمحل ولو تدريجاً فلاتجوز التقية هنا، خصوصاً على من بيده زمام أمر المسلمين، كما قال أبو الشهداء الامام الحسين(ع): «إمّا بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وأنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبقى منها إلاّ صبابة كصبابة الأناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لايعمل به وإلى الباطل لايتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فانّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً».وإذا كان بقاء الانسان ذلة وحقارة عند المؤمن وينزل من شرفه

ص: 75

ومقامه كما تقول الآية الشريفة: (وَللّهِ ِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) وقال الامام الحسين(ع): «ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركّز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت وطهرت، وانوف حمية ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وأني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر» اذن: لابد للمؤمن أن يستبدل هذه الحياة الحقيرة الدنيئة والفانية في ظل عرش الظالمين إلى الحياة الأفضل ولو بتعريض نفسه وماله للقتل، ويمكن أن نحمل خروج زيد بن علي على هذا المحمل وقصته مع هشام بن الحكم معروفة.

المورد الثاني: ما إذا اُكره على قتل نفس محترمة، وهذا في هذه الحالة محرم؛ لأنّه كما مرّ وبيّنا أنّ أصل مشروعية التقية إنّما هو لأجل حقن الدماء.

اذن: لايمكن أن تكون سبباً لاباحتها، مضافاً إلى ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم المتقدمة عن أبي جعفر(ع) قال: إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية، وصحيحة أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبدالله(ع): «لم تبقى الأرض إلاّ وفيها منّا عالم، يعرف الحق من الباطل، قال: إنّما جعلت التقية ليحقن بهاالدم، فإذا بلغت التقية الدم فلاتقية.

ص: 76

وهناك موارد اُخرى مستثناة من التقية سيأتي ذكرها في طي الكلام بأذن الله تعالى.

موارد التقية

لايخفى أنّ التقية إمّا أن تكون في الفتوى أو في العمل أو في كليهما، والتقية تارة تكون في اتقاء المفتي نفسه، كما ورد في دعائم الاسلام: وقد روينا عن علي بن الحسين(ع) أنّه سُئل عن المسح على الخفين، فسكت حتى مرَّ بموضع فيه ماء والسائل معه، فنزل وتوضأ ومسح على خفيه وعلى عمامته، وقال: هذا وضوء مَن لم يحدث.

واُخرى تكون على نفس المستفتي كما في قضية علي بن يقطين، فقد روي أنّه كتب إلى الامام الكاظم(ع) يسأله عن الوضوء فكتب إليه أبو الحسن(ع): «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر اذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً، ولاتخالف ذلك إلى غيره، فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجَّب مما رسم له أبو الحسن(ع) مما جميع العصابة على خلافه. ثم قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا امتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد، ويخالف ما عليه جميعالشيعة إمتثالاً لأمر أبي الحسن(ع)، وسعي بعلي بن يقطين إلى

ص: 77

الرشيد، وقيل: إنّه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث لايشعر، فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة، وصلحت حاله عنده. وورد عليه كتاب أبي الحسن(ع) ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين وتوضأ كما أمرك الله تعالى، اغسل وجهك مرة فريضة، واُخرى اسباغاً، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدّم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك والسلام».

وعن داود الرقي قال: «دخلت على أبي عبدالله(ع) فقلت له: جعلت فداك كم عدّة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله(ص) واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي فسأله عن عدّة الطهارة، فقال له: ثلاثاً ثلاثاً، مَن نقص عنه فلاصلاة له، قال: فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان، فأبصر أبو عبدالله(ع) إليه وقد تغير لوني فقال: اسكن يا داود، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي الى جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد القي الى أبي جعفر أمر داود بن زربي، وأنّه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمّد، فقال أبو جعفر المنصور: إنّي مطلع إلى طهارته، فإن هو توضأ وضوء جعفر بنمحمّد - فإنّي لأعرف طهارته - حققت عليه القول وقتلته، فاطلع وداود

ص: 78

يتهيأ للصلاة من حيث لايراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبدالله(ع)، فما تمَّ وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه، قال داود: فلمّا إن دخلت عليه رحّب بي وقال: يا داود قيل فيك شيء باطل، وما أنت كذلك قد اطلعت على طهارتك، وليس طهارتك طهارة الرافضة، فاجعلني في حلّ، وأمر له بمائة ألف درهم، قال: فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبدالله(ع)، فقال داود بن زربي: جعلت فداك حقنت دمائنا في دار الدنيا ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة، فقال أبو عبدالله(ع): فعل الله ذلك بك وباخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبدالله لداود بن زربي: حدّث داود الرقي بما مرّ عليكم حتى تسكن روعته، فقال: حدثته بالأمر كله، قال: فقال أبو عبداله(ع): لهذا أفتيته، لأنّه كان قد أشرف على القتل من يد هذا العدو، ثمّ قال يا داود بن زربي: توضأ مثنى مثنى، ولاتزدنّ عليه، فانّك إن زدت عليه فلاصلاة لك».

وروى عن سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبدالله(ع): إنّ رجلاً مات وأوصى إليَّ بتركته وترك ابنته، قال: فقال لي: اعطها النصف، قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: اتقاك، إنّما المال لها، قال: فدخلت عليه بعد فقلت: أصلحك الله انّ أصحابنا زعموا أنّك اتقيتني،فقال: لا والله ما اتقيتك، ولكني اتقيت عليك أن تضمن، فهل علم بذلك أحد؟ قلت: لا، قال: فاعطها ما بقي.

ص: 79

وثالثاً: أن يكون الاتقاء على شخص ثالث أو لكليهما من المؤمنين أو المسلمين، وقد يكون الشخص الذي يعمل معه التقية من الأشخاص العاديين، وقد يكون من الرؤساء أو من يعتقد خلاف المذهب من امراء وسلاطين، بل إذا كان من قضاتهم، وقد يكون مع الامراء والسلاطين ولو كانوا من الشيعة ظاهراً ولكنهم لم يعملوا بأحكام الشيعة، والعمل الذي لابد من التقية فيه قد يكون في فعل الحرام وقد يكون في ترك الواجب، ودلالة الروايات عليه بكثرة وسيأتي قسم منها مع البحث مفصلاً كما قد تقدم قسم منها أيضاً.

اشتراط وجود المندوحة وعدمه:

وهل يعتبر عدم المندوحة شرط في مورد التقية أم لا؟

فقد ذكر استاذنا الأعظمR في المنهاج: «يعتبر عدم المندوحة في مكان التقية على الأقوى، فلو أمكنه ترك التقية وإراءة المخالف عدم المخالفة لم تشرع التقية».

والمراد من المندوحة هو أن يتمكن الانسان بالفرض التام للأجزاء والشرائط الفاقد للموانع، وهذا يتصور كما ذكره الاستاذ المحقق في ثلاث موارد: الأول: في الواجب الموسع ويسمى بالمندوحة الطولية، الثاني: امكان الاتيان بالصلاة في مكان آخر، الثالث: أن يصلّيمعهم شكلاً، ويسميان بالمندوحة العرضية أو الطولية.

والأقوال في المسألة كما يلي: قول بعدم الاعتبار مطلقاً نسب

ص: 80

ذلك الى الشهيدين في البيان والروضة، وقول بالاعتبار مطلقاً وقد نقل ذلك عن صاحب المدارك وهو الظاهر من كلام الفاضلين، وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الفعل الذي يُتقى به مأذوناً بالخصوص كالصلاة معهم أو الوضوء مع المسح على الخفين وأمثال ذلك فقال بالأعتبار، وبين مالم يأذن الشارع فيه بالخصوص فقال بعدم الأعتبار.

والحق: عدم الدليل على اشتراط المندوحة بعدما كانت الأدلة مطلقة كما في الحديث «التقية ديني و دين آبائي» بعد ما صدق عليه عنوان التقية، بأن يخاف على نفسه أو ماله أو عرضه، إلاّ أن يقال: مع وجود المندوحة لايصدق عليه التقية عرفاً، ولكن كما ذكرنا الحق هو الجواز تبعاً لاستاذنا المحقق. فظهر مما ذكرنا أنّ القول الأوّل وهو عدم اعتبار عدم المندوحة مطلقاً - الذي ذهب إليه الشهيدان في البيان والروض - هو الصحيح وهو المشهور ولو تمكن من الأتيان في آخر الوقت تام الأجزاء والشرائط، كما ورد عن العياشي بسنده عن صفوان عن أبي الحسن الرضا(ع): في غسل اليدين، قلت له: يردُّ الشعر وهو كناية عن الوضوء المنكوس؟ قال: اذا كان عنده آخر فعل، وإلاّ فلا».وهذه الرواية آبية عن الحمل على عدم وجود المندوحة، ولم يظهر منها بأنّه إذا لم يمكنه التستر منهم أو التأخير إلى زمان آخر،

ص: 81

ثمّ إنّ شرط عدم وجود المندوحة لايلائم الروايات المداراتية، كما في حثهم (علیهم السلام) في الحضور معهم وفي جماعاتهم وشهود جنائزهم و... كما مرَّ في رواية حماد وغيرها.

ولكن مقابل هذه الأخبار أخبار تدل بأنّ وجود المندوحة شرط، ومع أنّ التقية إنّما شُرِّعت منّة للعباد، وللتسهيل أي تسهيل الأمر على الشيعة فهي منافية لعدم الجواز إلاّ في مورد الضرورة، ومع ذلك فقد نقل عن الفاضلين اعتبار المندوحة في ذلك، وانه لو امكنه التأخير، وان كان الاتيان بالواقع في آخر الوقت يجب. وبما أنّ دليلهم في جواز التقية هو أدلة الحرج، كما هو المنسوب إلى المدارك حيث تمسك بانتفاء الضرر مع المندوحة مع امكان الاتيان التام في وقت آخر. اذن: يزول المقتضي.

ولكن لايخفى: أنّ ما نسب الى المدارك انما يتم لو كان المدرك منحصراً في أدلة نفي الضرر، وإلاّ لو كان كذلك فيجب التأخير، لأنّه لابد أن يكون الاضطرار في تمام الوقت، فلو فرض أنّه لاخوف ولااضطرار في آخر الوقت يجب التأخير، ولكن قد عرفت ان الدليل غير منحصر بها.

اذن: الحق عدم اعتبار المندوحة، حتى بالنسبة إلى التقيةالعرضية، أي امكان التستر عنهم، ولو بأن يصلّي في مكان خالٍ منهم.

ص: 82

اذن: لاينحصر في صورة التمكن من التستر منهم، بل يجوز العمل معهم ولو تمكن من الاتيان بالواقع في مكان آخر لما دلَّ من الأدلة الكثيرة من أنّه لو ترك التقية ولم يأتِ بالعبادة معهم، بل عدم اظهارها موجب لحصول العداوة والبغضاء ورميهم بترك الصلاة والخروج من الدين، كما إذا كان جاراً لمسجدهم وخرج حين وقت الفريضة، وكما قلنا مع عدم الحضور لجمعتهم وجماعتهم وللعيدين ربما يؤدي إلى التشنيع الشديد على من يفعل ذلك، بل ربما على المذهب، وتكون النتجية هي الضرر الشديد عليه أو على الشيعة، وهذه كلها منافية لحكمة التقية وأصل وضعها، ولكن مع ذلك هناك روايات تدل على اشتراط عدم المندوحة، ومع الاضطرار يصلّي معهم شكلاً.

منها: عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن ابراهيم بن شيبة قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(ع) اسألك عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين(ع) وهو يرى المسح على الخفين أو خلف من يحرّم المسح وهو يمسح؟ فكتب(ع): انّ جامعك واياهم موضع فلم تجد بداً من الصلاة فأذّن بنفسك وأقم، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح».

وعن بكير بن أعين قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن الناصبيؤمنّا ما تقول في الصلاة معه؟ فقال: أمّا إذا جهر فأنصت للقراءة واسمع ثم اركع واسجد أنت لنفسك.

ص: 83

وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن(ع) قال: «قلت له: إنّي ادخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني إلى ما أن أؤذن واُقيم ولا أقرأ إلاّ الحمد حتى يركع أيجزيني ذلك؟ قال: نعم تجزيك الحمد وحدها».

وعن أبي بصير - يعني ليث المرادي - قال: «قلت لأبي جعفر(ع): مَن لا اقتدي به في الصلاة، قال: افرغ قبل أن يفرغ فأنّك في حصار، فإن فرغ قبلك فاقطع القراءة واركع معهم. وغيرها من الروايات.

ولكن لايخفى: أنّ بعض هذه الروايات خارجة عن مورد التقية، أمّا الرواية الأولى فهي تكون في صورة الاقتداء بالشيعي الذي يعمل عمل السني، كما يشير قوله: «اسأله عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين(ع) » وأدلة التقية لاتشمل هذا المورد. والثانية - تعني الاقتداء بالناصبي - وحكمه حكم الكافر، فلايجوز الاقتداء به أصلاً. وكذا الثالث، فيمكن أن يحمل على الاقتداء بالشيعي الفاسق. وروايات أحمد بن أبي نصر لايمكن الأخذ بها؛ لضعف سندها بابن هلال. وخبر ليث المرادي يمكن حمل «لاأقتدي به» بمن كان شيعياً فاسقاً.اذن: لايظهر من هذه الروايات اشتراط عدم المندوحة.

وخلاصة البحث: يظهر من الطائفة الاُولى جواز الاقتداء بهم

ص: 84

مطلقاً، وتحسب الصلاة الناقصة صلاة تامة؛ لأنّ الشارع وسّع في أمر التقية ما لم يوسّع في غيره، بل مفادها الترغيب في الصلاة معهم ولو لم يكن هناك تقية بمعنى الاكراه، ولو كانت هناك مندوحة. ومن الروايات الأخيرة «مع التنزل والقول بتمامية دلالتها وسندها» عدم جواز الاقتداء بهم، واشتراط صحة التقية في عدم وجود المندوحة.

اذن: تعارضتا وتساقطتا، والنتيجة أنّ الرجوع يكون إلى القاعدة الأولية، ووجوب الاتيان بالمأمور به الأوّل، وعدم كفاية الناقص عن التام، ولكن مع تقدّم تلك الطائفة وهو جواز التقية مع وجود المندوحة يبدو منه اهتمام الشارع في أمر التقية، وبعد ما تبيّن مما يترتّب على التقية على نحو الأطلاق نتائج منها:

أوّلاً: كونها موجبة للتحابب والتآلف.

وثانياً: موجبة لحفظ النفس والمال والعرض وعدم التشنيع وعدم البغضاء، بل ما يترتّب على العمل بها على نحو الاطلاق من الثواب العظيم، فإذا قلنا: إنّ التقية مشروط عدم جوازها بعدم المندوحة مطلقاً يكون منافياً لما ذكرناه، مضافاً إلى امكان حمل تلك الروايات المشيرة إلى عدم المندوحة - مع خدش للسند في بعضها - على محامل، كماذكرنا وذكر الاستاذ المحقق لقوله(ع): أذّن لنفسك واقم كما ورد في رواية أحمد بن أبي نصر، وصلّوا في بيوتكم كما في دعائم الاسلام وأمثال ذلك على الاستحباب.

ص: 85

أو يجمع بين الطائفتين فنقول: إنّ عدم الجواز إنّما هو ما إذا لم ينافي المداراة، ولا يترتّب على عمله هذا ضرر لا على نفسه ولا على غيره من المؤمنين بالفعل ولا في المستقبل، كما إذا تمكن من أن يأتي بالواجب الواقعي موافقاً لهم بحيث يلتبس الأمر عليهم، ويوهم بعمله هذا أنّه يفعل فعلهم ولو كان لايفعل فعلهم في الواقع. ولكن هذه في الحقيقة مستثناة من الاقسام الثلاثة من المندوحة الطولية والعرضية، كما ذكره الشيخ الانصاريR لانصراف أدلة التقية إلى غير هذه الموارد.

أمّا في القسمين الأوّلين فهو ما إذا كانت بالنسبة إلى بعض الوقت دون تمامه، أو الضرورة إلى مكان خاص دون جميع الأمكنة، كما أنّه في أوّل الوقت لايمكنه إلاّ أن يصلّي ناقصاً، أمّا في آخر الوقت يمكنه أن يصلّي تاماً، أو في مكان خاص كالمسجد النبوي أو المسجد الحرام، فإنّه لايقدر على ترك التقية، أمّا في غيرهما كداره فيمكنه أن يأتي بالعمل التام، ففي هاتين الصورتين لايشترط عدم المندوحة، ويكون عمله صحيحاً.

تنبيه:لايخفى أنّ الموضوع إذا لم يحدده الشارع كالفرسخ والكر فأمره موكول إلى ما هو المتعارف، ويشير إلى ذلك ما ورد عن أبي جعفر(ع): «التقية في كلّ ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به».

ص: 86

ولكن الأحوط بأنّ جواز التقية مشروط بعدم الامكان للاتيان بالواجب الواقعي، وإلاّ فلو فرض امكان ذلك فلايجوز له التقية، فلو فرض امكان الوضوء الواقعي كما إذا صب الماء من الكف إلى المرفق كما عُبّر عنه بالرواية ترّد الشعر ثمّ نوى غسل اليدين عندما يرجع الماء من المرفق فيجب عليه ذلك، ولايجوز التقية؛ لأنّه لا موضوع لها، واطلاقات الأدلة منصرفة عنه.

ولكن مع ذلك هذا الاشتراط إنّما هو في صورة الالتفات، وامكان التخلّص على وجه يقع العمل فيه على طبق الواقع، أمّا إذا لم يكن هناك التفات أو خاف من أن يعمل الحيلة فالتقية حينئذٍ واجبة.

وهاهنا مسائل:

المسألة الأولى: ثمّ إنّه لو وقع في التقية وحوصر فهل له أن يبذل المال لموضع التقية كما أنّه يجب حين الاضطرار أم لا؟

الحق عدم الوجوب هنا بخلافه هناك، أمّا هنا فالتقية تدور مدار الضرورة العرفية، وهي تتحقق حتى في صورة التمكن من رفعها ببذل المال.المسألة الثانية: ثمّ إنّه لايخفى هل التقية ترفع جميع الآثار؟ فمثلاً لو توضأ بالنبيذ تقية إذا قلنا بجوازه عندهم فهل إستعماله يكون سبباً لرفع تنجيسه أم لا؟

الحق: أنّه لا؛ لأنّ التقيّة لاترفع الأثر الوضعي على هذا العمل،

ص: 87

فاذا لاقى البدن النبيذ فيصبح البدن متنجساً ولا يرفع التنجيس بواسطة التقية ولو كان شربه جائزاً حالها، وهل يرفع الحد حينئذٍ أم لا؟

الظاهر: رفع الحد؛ لأنّه يختص بالعمد والاختيار والعلم، فاذا شربه جاهلاً أو نسياناً فلاحدَّ، وكذا لو شربه عن اكراه بل اضطرار.

نعم لو كان موضوع الحد هو صدور هذا العمل منه بأي وجه اتفق - سواءً كان عامداً أم غير عامد جاهلاً أم غير جاهل مضطراً أم غير مضطر - فيترتّب عليه الحد، أمّا إذا قلنا بأنّ موضوعه العلم والاختيار فلايترتّب عليه، كما أنّه لو أكل في نهار شهر رمضان مكرهاً يبطل صومه؛ لأنّ موضوعه هو تعمد الأكل، سواء حصل منه باختيار أم لا، بل ولو أتي به على نحو الاضطرار.

المسألة الثالثة: لو أتى بالعمل الصحيح عندهم تقية فأنّه مجزٍ؛ لأنّه أتى بالعمل الواقعي، وهو مجزٍ عن الاتيان بالعمل الواقعي الأولي لو أتى بالعمل الثانوي، كما لو صلّى مع المسح على الخفين أو متكتّفاً أو مع المسح على العمامة أو غسل الرجلين. أما إذا لميأتِ بعمل كما لو ترك المأمور به لم يقع منه اتيان أي عمل ولو بالعنوان الثانوي، كما إذا أفطر في نهار شهر رمضان فانّه ترك المأمور به فقط ولم يأت بعمل فيجب عليه القضاء، فعمل الامام(ع) مع العباسي في الحيرة كان من هذا القبيل، والرواية كالتالي: عن داود بن الحصين عن رجل عن أبي عبدالله(ع) قال: «دخلت على

ص: 88

أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبدالله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله أنّه من يوم شهر رمضان، فكان افطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يعبد الله» ولعلّه لأجل ذلك قال: «فكان افطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولايعبد الله».

اذن: وجوب القضاء هنا غير الأوّل، ويكون طبقاً للقاعدة؛ لأنّه لم يأتِ بعمل حتى يقع مجزئاً عن الواقع وبدلاً عنه، بل هنا يكون مجرد ترك العمل، فهذا لايدلّ بأنّ التقية ليست بمجزئة، وكذا الحكم لو أفطر قبل المغرب معهم فلابد من القضاء، إلاّ أن يقال: إنّه أتى بالعمل الواقعي عندهم ولو لم يكن واقعياً عندنا فحينئذٍ لايجب القضاء.

ثم إنّه ذكر اُستاذنا الأعظمR بقوله: ومما ينبغي أن يُنبه عليه في المقام هو: أنّ الصلاة معهم ليست كالصلاة خلف الامام العادل،وإنّما هي - على ما يستفاد من الروايات - صورة يحسبها العامة صلاة وائتمامنا بهم. ومن هنا لم يرد في الروايات عنوان الاقتداء بهم، بل ورد عنوان الصلاة معهم، فهو يدخل في الصلاة معهم ويؤذن ويقيم ويقرأ لنفسه على نحو لايسمع همسه فضلاً عن صوته، ولا دلالة في شيء من الروايات على أنّها صلاة حقيقة، وقد ورد في بعضها ما

ص: 89

هم عنده(ع) إلاّ بمنزلة الجدار.

ولكن لايخفى: أنّ كلمة الصلاة معهم في الروايات كثيرة، وهي تدلّ على الاقتداء، وأنّه لافرق بين القول بالصلاة معهم أو الاقتداء بهم.

فعن علي بن جعفر أنّه سال أخاه موسى بن جعفر(ع) عن امام كان في الظهر فقامت إمرأة بحياله تصلّي معه وهي تحسب أنّها العصر هل يفسد ذلك على القوم؟ وما حال المرأة في صلاتها معهم وقد كانت صلت الظهر؟ قال: لايفسد ذلك على القوم وتعيد المرأة صلاتها.

وعن سماعة عن أبي بصير قال: سألته عن رجل صلّى مع قوم وهو يرى أنّها الأولى وكانت العصر؟ قال: فليجعلها وليصلِ معهم.

وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: إذا صلّى المسافر خلف قوم حضور فليتمّ صلاته ركعتين وليسلّم، وإن صلّى معهمالظهر فليجعل الأولتين الظهر والأخيرتين العصر.

إذن: ولو لم يرد في الروايات عنوان الاقتداء بهم ولكن معنى «الصلاة معهم» هو بمعنى الاقتداء بهم، ثمّ لو فرض أنّهم كانوا بمنزلة الجدار، فلايحتاج ذكر بعض الأبحاث كالبحث عن المندوحة وعدمها، وكذا البحث بما لو أتى بالعمل في مقام التقية بخلاف مذهبه هل يكون عمله باطلاً أم لا؟ وغيرها من الأبحاث، مع أنّ

ص: 90

رواية زرارة ضعيفة السند بمحمّد بن حجّال، ولم يُذكر في الرجال، وأيضاً بثعلبة فإنّه مردد بين أشخاص، وهل هو ثعلبة بن زيد أو بريد، مع أنّه قد وردت روايات كرواية المصلّي معهم كالمصلي خلف رسول الله(ص)، وكرواية كالشاهر سيفه في سبيل الله، وقد تقدمتا فراجع. وكرواية سماعة قال: سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم؟ فقال: هذا أمر شديد لم تستطيع ذلك، وقد أنكح رسول الله(ص) وصلّى علي وراؤهم. فهل كانت صلاة علي(ع) صورة الصلاة، وكذا نكاح رسول الله(ص)؟!

إذن: بعد ما ظهر من روايات التقية بأنّها من الأمور الامتنانية كبقية الأمور الامتنانية تستفاد منها الصحة، وعدم الاعادة والقضاء مع أنّه لم يرد ما يدل على أنّهم (علیهم السلام) أعادوا الصلاة، بعدما صلّوا خلفهم، وأمّا قضية وجوب اعادة الصوم فقد مرَّ ذكرها. وقد يُتمسك بوجوب القضاء بقاعدة الاشتغال. وفيها أنّها محكومة بالاطلاقات.وأمّا رواية أبي العباس فمضافاً الى قصور سندها - مع أنّه كما ذكرنا هنا أنّه ترك العمل ومعناه أنّه لم يأتِ بشيء - لأنّ الراوي مجهول، كما ورد في السند بقوله عن رجل، فأنّه لم يرد من بقية الروايات التي ذكر فيها عمل الامام(ع) مع العباسي ذكر القضاء.

وقد يستدل بما ورد عن عمر بن يزيد عن أبي عبدالله(ع): «ما منكم أحدٌ يصلّي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة تقية

ص: 91

وهو متوضئ إلاّ كتب الله له بها خمس وعشرين درجة» بعدم الأجزاء.

ولكن لايخفى أنّه ورد أمثال هذه الروايات بالنسبة إلى الامام العادل أيضاً، فمنها ما ورد عن عمار قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن الرجل يصلّي الفريضة، ثمّ يجد قوماً يصلّون جماعة أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال: نعم وهو أفضل، قلت: فإن لم يفعل؟

قال: ليس به بأس».

وعن أبي بصير قلت لأبي عبدالله(ع)، أصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صلّيت؟ قال: صلِّ معهم يختار الله أحبهما إليّه. وغيرها من الروايات.

فإنّ هذه الأخبار تكون في مقام الترغيب والمواظبة على الجماعة دائماً مع الامام العادل، وبالنسبة إلى حضور الجماعة معهم يكونلأجل الألفة والتحابب وعدم اندراس المذهب الجعفري في الجملة.

وأمّا ما ورد من الروايات مما يمكن الاستدلال بها بأنّها صورة

الاقتداء كصحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن(ع) عن الرجل يصلّي خلف من لايقتدى بصلاته والامام يجهر بالقراءة؟ قال: اقرأ لنفسك وإن لم تسمع نفسك فلابأس.

وكذا بما مضى من رواية ابراهيم بن شيبة حيث يسأل عن الصلاة خلف من يتولّى أمير المؤمنين(ع) وهو يرى المسح على الخفين أو خلف من يحرم المسح ويمسح فانّه يظهر منها أنّ الامام

ص: 92

شيعي يعمل عمل الجماعة، ومن الواضح أنّ الاقتداء به غير صحيح. وأمّا رواية علي بن مسعد فهي وردت في الناصب، والناصب كالكافر لاتجوز الصلاة خلفه وقد مضت الرواية، وحسنة الحلبي: «إذا صليت خلف امام لايُقتدى به» فمعناه أنّه شيعي غير جامع للشرائط، وغيرها من الروايات.

ولم يرد في رواية أنّه أمر الامام بالأعادة، خصوصاً لمن لايمكنه أن يأتي بالصلاة على نحو صحيح.

اذن: الاتيان بالصلاة خلفهم مجزٍ، ولايحتاج إلى الاعادة، وما ورد من الرواية بأنّ التقية من دين الله عزّوجلّ، كما عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(ع): التقية دين الله عزّوجلّ، قلت: من دين الله؟ قال: فقال أي والله من دين الله، لقد قال يوسف(ع): «أيتها العيرأنّكم لسارقون، والله ما كانوا قد سرقوا شيئاً، ولقد قال ابراهيم: «انّي سقيم» والله ما كان سقيماً.

اذن: مع فرض أنّ العمل مع التقية دين الله فلاوجه للاعادة والقضاء لما هو دين الله، وأنّها تسعة أعشار الدين، وأنّها دين الأئمة(علیهم السلام) كما ورد في الروايات التي تقدمت كرواية أبي عمار ورواية معمر بن خلاّد. فوجوب الاعادة والقضاء يحتاج إلى الدليل مع كون كثير من هذه الروايات تكون في مقام البيان.

المسألة الرابعة: مع أنّ الدليل موجود على الأجزاء كما ذكرنا

ص: 93

لابد في مورد التقية أن يكون عندهم صحيحاً، أمّا لو عَمِل بما هو باطل حتى عندهم فالظاهر عدم شمول أدلّة التقية لهكذا عمل؛ لأنّه لايكون عمله هذا من دين الله في شيء حتى في نظرهم، ويظهر من أدلّة التقية أنه لابد أن يكون له تماس بدين الله ولوفي الجملة، فلو فعل التقية والحال هذه فلايكون عمله موجباً لسقوط الاعادة والقضاء.

وأمّا لو شك في صحة صلاتهم فمقتضى حمل قاعدة فعل المسلم على الصحة هو جواز التقية؛ لأنّه حينئذٍ يتحقق موضوعها.

المسألة الخامسة: إذا كانت المسألة محل خلاف عندهم - أي يجب عند بعض العامة دون الآخرين - فلا تجب التقية حينئذٍ، بل هي هنا غير صحيحة، ولو كانت عند من يوجب التكتف وبطريق أولى إذا كان عند من لايوجب ذلك فلو كان هناك عند بعض العامةالتسبيل جائز فلايجوز التكتف حينئذٍ، نعم لو كان عمله هذا موجباً للتقية فتجب حينئذٍ ولو كانت عند من لايقول بوجوبه.

وخلاصة البحث: أن المدار في الحكم هو حصول الموضوع، وهو الخوف، فمتى حصل يجب للاطلاقات والعمومات، كما أنّه لافرق في وجوبها ولو لم تكن في أرضهم بل كانت في أرضنا.

ثمّ لايخفى أنّ التقية ليست مختصة بالمذاهب الأربعة، بل لكلّ مخالف لشمول الاطلاقات والعمومات، فقد ورد في بعض الأخبار «وعليكم بمجاملة أهل الباطل» وقد مرَّ الحديث في روايات التقية

ص: 94

المداراتية، فهي تعم كلّ ظالم وجائر، الاّ أن يقال: إنّ المراد من أهل الباطل المخالف للعقيدة بل كل جائر وظالم، مضافاً إلى العمومات، كحديث رفع الاضطرار وقد تقدم أيضاً.

وما دلّ على أنّه ما من محرم إلاّ وقد أحلّه الله لمن أضطر إليه، وحديث «لاضرر ولاضرار» عن عقبة بن خالد عن أبي عبدالله(ع) قال: «قضى رسول الله(ص) بالشفعة بين الشركاء في الأرض والمساكن، وقال: لاضرر ولاضرار».

وهذه الروايات وغيرها التي مضت كموثقة أبي بصير «التقية دين الله» تدل باطلاقها أنّه لاتختص بالعامة بل مع كلّ ظالم، ولا يختص الأمر بزمان دون زمان كما صنع يوسف وابراهيم(ع)، كما أنّه لايفرق بين العمل الذي لابد فيه من التقية أن يكون ثابتاً فيصدر الاسلام أو حصل مؤخراً في زمان الأئمة(علیهم السلام)، كالقياس الذي عمل به أبو حنيفة وهو باطل عندنا ومنهي عنه.

المسألة السادسة: لو ترك التقية في حال وجودها وأتى بالعمل الواقعي فهل يبطل هذا العمل أو لا كما إذا مسح على البشرة دون الخفين؟ قد يقال بالبطلان؛ لأنّ التكليف الواقعي حال التقية يكون بالاتيان بالعمل مقيّداً بصورة عمل التقية، فان المسح على البشرة ليس مأموراً به ولا جزءً للموضوع، بل المأمور به في هذه الحالة هو المسح على الخفين، أو غسل الرجلين الذي هو الحكم الواقعي الثانوي

ص: 95

في هذا الحال وحال من ترك التقية مع وجودها حال من ترك المسح على البشرة في حالة عدم التقية، وانّما يأتي البطلان في كلا الحالتين من جهة مخالفة المأمور به للمأتي به، فحينئذٍ يبطل الوضوء في حال التقية إذا مسح على البشرة ولم يمسح على الخفين.

وبعبارة اُخرى التقية وعدمها موضوعان مختلفان من الموضوعات الخارجية كالمسافر والحاضر والصحيح والمريض ونحوهما، وبما أنّه خالف التقية وهو منهي عن المخالفة، والنهي عن الأمر العبادي موجب للبطلان، ولكن قد اُجيب عن هذا بأنّ التبدل هل كان خطاباً فقط أو خطاباً وملاكاً؟

فإنّ كان هو الأوّل فحينئذٍ يبقى الملاك على حاله، وبما أنّ الأوامر ثابتة للملاكات سعة وضيقاً وشككنا في أنّه هل ارتفعالخطاب فقط أو الخطاب والملاك فنستصحب بقاء الملاك، فتكون النتيجة ارتفاع الخطاب فقط، وكذا النهي في العبادة يمكن أن يكون بالنسبة إلى فعلية الخطاب فقط لا باعتبار أصل الملاك.

اذن: لو أتى بذلك بداعي الملاك وإن عصى الخطاب فعبادته صحيحة، نعم لو أتى باعتبار الخطاب تكون باطلة.

ولكن يرد على هذا الجواب: أنّه من أين لنا اثبات أصل بقاء الملاك مع وجود رفع الخطاب؟ بل نفهم الملاك دائماً من دليل الإن أي بعد وجود الأمر، والاستصحاب مع الشكّ في أصل بقاء

ص: 96

الموضوع لايجري؛ لأنّ الموضوع لابد أن يكون موجوداً في كلتا الحالتين، كما ذكر ذلك مفصّلاً في باب شروط الاستصحاب. ويمكن أن يقال بأنّ في حال التقية انقلب الحكم الواقعي فيسقط الحكم ملاكاً وخطاباً، كما في قول الصادق(ع) في صحيحة ابن سالم: «ويدرؤون بالحسنة السيئة، قال: الحسنة التقية، والسيئة الاذاعة»، كما مر الحديث.

وعنه (ع) أيضاً: «لا دين لمن لاتقية له»، «ولا ايمان لمن لاتقية له» وقد مرّ.

وعن حريز عمن أخبره عن أبي عبدالله(ع) في قوله عزّوجلّ: «لاتستوي الحسنة ولا السيئة، قال: الحسنة التقية، والسيئة الاذاعة».

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله(ع) قال: «لاخير فيمن لا تقيةله، ولا ايمان لمن لاتقية له».

وخلاصة البحث: الأقسام المتصورة هنا ثلاثة:

أوّلاً: بقاء الخطاب والملاك، وهنا يتحقق الحكم الأولي.

ثانياً: أنّ المسح على البشرة يكون منهياً عنه، ولا فرق في بطلان العبادة بين أن يرد النهي على نفس العبادة أو جزءها أو شرطها.

ثالثاً: أنّ المورد يكون بنفسه منهي عنه، لا من جهة أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، فإنّ التقية كما تكون سبباً لوجوب ما لا يجب لولاه كالمسح على الخف أو غسل الرجلين، كان سبباً

ص: 97

لحرمة ما لا تحرم لولاها، مثل المسح على البشرة. اذن نفس العمل يكون منهياً عنه.

وقد جزم بالبطلان صاحب الجواهر، والمحقق الهمداني.

فقد قال صاحب الجواهر: وإذ قد عرفت أنّ الشارع في مقام التقية أقام المسح على الخف - مثلاً - مقام المسح على البشرة، ظهر أنّه لو خالف مقتضى التقية فجاء بالتكليف الأصلي لم يكن مجزئاً لكونه ليس مأموراً به في ذلك الحال، بل منهياً عنه فكيف يقع به امتثال.

وقال صاحب المصباح: وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لو ترك غسل الرجلين حال التقية مع الامكان وكذا مسح الخفين لو لم تتأوّل التقية إلاّ به لم يصح وضوؤه؛ لأنّ ظاهر الأوامر بدلية الفعل المأتي به تقية عن المسح الواقعي، فيفسد الوضوء بتركه، سواءً مسح بشرة القدمحينئذٍ أم لا؛ لأنّ مسح البشرة لأجل تعلّق النهي الفعلي لايكون جزءً من العبادة، فيكون كتارك الجزء الذاتي كما هو ظاهر.

ولكن قد يرد على الوجه الأوّل بأنّ الوضوء المشتمل على غسل الرجلين والمسح على الخفين ليس هو المأمور به في حال التقية كالصلاة ركعتين للمسافر والمنع عن استفادة تقييد الواقع بما يوافق التقية، فإنّ الأمر ولو تعلق بغسل الرجلين، أو المسح على الخفين في حال الوضوء ولكن ليس معناه تقييد الوضوء في حال التقية بوجوده، بل الواقع باقٍ على حاله وعلى ما هو عليه، إلاّ أنّ المكلف

ص: 98

حيث لايتمكن من الاتيان به، وأن الوصول إلى المصلحة والملاك الواقعي منه يحقق الضرر، فحينئذٍ لو أتى بالوضوء الواقعي فقد أتى بما هو واجد للمصلحة، ولكن لو تركه كان مرخصاً في تركه مع أنّ إتيانه يكون موجباً للضرر.

اذن المسح على الخفين أو غسل الرجلين في حال التقية لايكون جزء من الوضوء ولو في حال وجوبهما.

قد يقال: لو لم يكن كذلك - أيّ جزءً للوضوء - فقد يصح تركه مع الترك على البشرة، ولابد أن لايكون الوضوء باطلاً؛ لأنّ المسح على البشرة غير ممكن له، والمسح على الخفين غير واجب؛ لأنّه ليس جزءً من الوضوء.

قلنا: إنّ البطلان إنّما هو من جهة ترك المسح في ذلك الوضوءبما أنّه مرتبة من المسح الواجب كما كان كذلك عند سائر الضرورات. ويدل عليه خبر عبدالأعلى: «امسح على المرارة» وقوله(ع): «يعرف هذا وأمثاله من كتاب الله، ما جعل عليكم في الدين من حرج».

والخلاصة: أنّ الوظيفة بالنسبة إلى المسح الواجب تنقسم إلى قسمين:

أوّلاً: بالمسح على البشرة بمباشرة الماسح مع الممسوح، فاذا سقط القيد - وهو المباشرة للحرج كما في مورد الخبر أو الضرر كما في

ص: 99

مورد التقية - يبقى وجوب أصل المسح وهو الثاني، ولكن الحق بعدما قلنا بأنّ النهي على الجزء أو الشرط أو على تمام العبادة فكيف يمكن أن يقال بجواز الاتيان بالواقع والمسح على البشرة بعد ما عرفت بأنّ الأمر عبادي والنهي في العبادة موجب للفساد ولو ورد على الجزء؟! ومن أين تعرف بأنّ النهي ورد على الخطاب وسقوط الأمر ولكن الملاك والمصلحة موجودتان في الواقع؟ نعم لو كان العمل ليس جزءً من العبادة بل يكون من قبيل الجزء التشريعي المحرم كالتكتف فإنّ النهي بما أنّه ورد على الأمر الخارج عن العبادة فلو ترك التقية وأتى بالعبادة على وجهها فلاموجب للبطلان؛ لأنه أتى بالمأمور به والاجزاء عقلي ولو أثم في تركه التقية.

وقد يستشكل على الثاني بأنّ المسح على البشرة لايكون ضداًللمسح على الخفين أو غسل الرجلين؛ لامكان الجمع، ثمّ على الفرض فإنّ الأمر بالشيء لايقتضي النهي عن ضده الخاص لو فرض أنّ هناك مضادة بينهما ولو فرض الاقتضاء، ولكن إنّما هو في الواجب المضيّق، والواجب في التقية يكون من قبيل الواجب الموسع.

ولكن الحق هما من قبيل الضدين، أي المسح على البشرة والمسح على الخفين أو غسل الرجلين، والمقام ليس من قبيل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، بل من قبيل النهي عن العبادة، ولو

ص: 100

أنّ النهي ورد على الجزء لقوله(ع) «من لاتقية له لادين له» أي من مسح على البشرة فهو بمنزلة من لا دين له.

اذن نفس المسح منهي عنه، ويكون باطلاً، ولو فرضنا بأنّ الأمر بالشيء لايقتضي النهي عن ضده أو هنا ليس من صغريات تلك المسألة.

أمّا الثالث: بأنّه لو لم يمكن الايراد عليه لكن لايصح على اطلاقه، بل إنّما يقتضي بطلان العمل الذي لم يعمل به ولم يأت به على نحو التقية إذا أتى بما يحرم عليه في هذه الحال، أي مسح على البشرة أو صلى على التربة الحسينية. أمّا إذا لم يأت بالمحرم وانّما ترك التقية بترك ما كان واجباً عليه حال التقية - كترك التكتف في الصلاة والحال أنّ التكتف كان واجباً عليه - فإنّه لا موجب للقولببطلان الصلاة، وهذا الكلام صحيح، لأن التكتف ليس جزءً من الصلاة، بل هو عمل تشريعي محرم في الصلاة، وليس من أعضاء الصلاة.

اذن لو تركه فإنّه أتى بالصلاة تامة الأجزاء والشرائط، وانّما ترك التقية في شيء كان خارجاً عنها، ثمّ إنّه لو ترك التقية ومسح على البشرة ولكن مع ذلك تدارك ومسح على الخفين أيضاً فالظاهر هو الصحة؛ لأنّه أتى بالمأمور به الواقعي الثانوي والواجب عليه في حال التقية، أي أتى بشيء زائداً معه وهو المسح على البشرة، فلو مسح

ص: 101

على الخفين بعد أن مسح على البشرة وبعد مراعاة بقية الشروط يكون وضوؤه صحيحاً.

المسألة السابعة: إذا ترك المسح على البشرة جهلاً أو سهواً أو نسياناً فهل يكون عمله صحيحاً أم لا؟

لايخفى لو قلنا بأنّ المقام مثل المسافر والحاضر، فلو صلّى في السفر أربع ركعات فتكون صلاته باطلة ولو صدر منه العمل نسياناً أو جهلاً أو بلا اختيار، كما لو اعتقد التقية فمسح على الخفين ثمّ ظهر أنّه لم يكن في موضع التقية.

اذن لابد من شرح هذه المسألة فنقول: إنّ الصحة وعدمها هل تدور مدار أنّ الاعتقاد له موضوعية أم لا؟ فإن قلنا بأنّ الاعتقاد له موضوعية فالعمل يكون صحيحاً، أمّا لو قلنا بأنّ الاعتقاد له طريقيةإلى الواقع وليس موضوع الحكم إلاّ الواقعي فقط، ومع التخلف فليس بصحيح؛ لعدم وجود موضوع الحكم فحينئذٍ يحكم بالبطلان، ولكن مع الشك في شمول الاطلاقات والعموم لذلك يكفي عدم الشمول له. نعم لو كان الموضوع هو الخوف فيكون العمل صحيحاً، بلافرق بين أن يكون هو اعتقاد الخوف أو الخوف الواقعي، اذن يمكن التفصيل في المسألة فنقول بالبطلان اذا اعتقد التقية وظهر بعد ذلك عدم الموجب لها واقعاً، وصحة العمل عند حصول الخوف ولو تبين عدم موافقته للواقع.

ص: 102

المسألة الثامنة: لو أتى بالعمل في مقام التقية بخلاف مذهبه كما إذا غسل وكان مذهبه المسح على الخفين فهل يكون عمله باطلاً أم لا؟

فنقول: إذا كان المراد من التقية هو الترخيص في مخالفة الواقع فيكون عمله صحيحاً. وبعبارة اخرى فالذي يظهر من روايات التقية هو تخيّل من يُتقى منه بأنّه ليس بجعفري حتى يأمن من ضرره وهنا فعل ذلك، وإن لم يأت بما هو مذهب من يتقي أو أتى بالعمل وشك في أنه مطابق لمذهبه أم لا. أمّا لو قلنا بأنّ ما أتى به لابد وان يكون بدلاً عنه فالقدر المتيقن من التقية هو ذلك، أي أن يكون عمله مطابقاً لمذهب من يتقي.

ولا يخفى لو ترك المسح والغسل بالمرة وكان عمله مخالفاً لمذهبمن يتقي ففي هذه الصورة لايصح ما أتى به، اما إذا كان مطابقاً لمذهب من يتقي وأتى بالعمل تقية على الاطلاق فهنا محلّ الكلام من أنّه موافقاً لمذهب من يتقي. اذن كان عمله على طبق التقية ويكون صحيحاً، ومن أنّه لم يظهر من عمله هذا بدلية من أدلّة التقية وأدلّة الضرر. اذن ففي الصحة اشكال.

المسألة التاسعة: هل التقية واجبة في مورد الخوف الشخصي أم تشمل الخوف النوعي أيضاً؟

أمّا بالنسبة إلى الأوّل - كما إذا خاف على نفسه أو عرضه أو

ص: 103

ماله أو يخاف من ذلك على شخص له علقة به أو شخص آخر لاعلقة معه وقد يكون بالنسبة إلى أشخاص غير معينين ولو في مستقبل الزمان - فلا شك ولا شبهة في وجوبها، وهو من أبرز مصاديق التقية. وما ورد من الروايات بأنّها جنة أو ترس دالة ومؤيّدة على ما قلناه، وفي عدة من الروايات ورد التصريح بهذا القسم من التقية.

منها: رواية الأعمش عن جعفر بن محمّد(ع) في حديث شرائع الدين قال: «ولايحلُّ قتل أحد من الكفار والنُصاب في التقية إلاّ قاتل أو ساعٍ في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك، واستعمال التقية في دار التقية واجب».

ومنها: وعن المنصوري عن عم أبيه عن الامام علي بنمحمّد(ع) عن آبائه(علیهم السلام) قال: قال الصادق(ع): «ليس منا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعية».

ومنها: قول أمير المؤمنين(ع): «التقية من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين، وقضاء حقوق الأخوان أشرف أعمال المتقين، يستجلب مودة الملائكة المقربين، وشوق الحور العين».

ويظهر من هذه الرواية أنّها من الحقوق الواجبة على المؤمن تجاه أخيه. فاذن مراعاة التقية داخلة في حقوق الاخوان حيث إنّها

ص: 104

تكون سبباً لحفظهم، ولذا ترى في كثير من الأخبار قرن بين التقية وحقوق المؤمن، كما ورد في الحديث قال علي بن الحسين(ع): «يغفر الله للمؤمن كلّ ذنب، ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الاخوان».

وفي حديث آخر قال محمّد بن علي(ع): «أشرف اخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقية، وأخذ النفس بحقوق الاخوان».

بل يمكن أن يقال: هي نفس حقوق الأخوان واحدى مصاديقه، كما ورد في حديث عن الامام الحسن بن علي(ع) قال: «إنّ التقية يصلح الله بها اُمة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمة تاركها شريك من أهلكهم، وأنّ معرفة حقوق الاخوان يحبب إلى الرحمن ويعظم الزلفى لدى الملك الديان، وأنّ ترك قضائها بمقت الىالرحمن، ويصغر الرتبة عن الكريم المنان». وغيرها من الروايات.

وكذا يجب القسم الثاني من التقية، وهو الخوف العقلائي، وأنّه لو تركها يسبب الضرر على النوع، كما إذا كان هناك الأقلّية من الشيعة في بلاد يكون المتعصبون من السنّة أكثر فإنّه إذا لم يُعمل بالتقية هنا فبتركه التقية يسبب الضرر عليهم. فالظاهر وجوب ذلك، وأنّ عمومات أدلّة التقية تشمل المورد، كما مضى الحديث بقوله(ع): «فإن تركها أهلك اُمة تاركها شريك من أهلكهم، وكما مر من قول أمير المؤمنين(ع): «التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه

ص: 105

واخوانه عن الفاجرين».

وهل تجب التقية عند الخوف على نفس غير محترمة أم لا؟ الظاهر أنّها لاتجب، بل تختص مشروعية التقية بصورة خوف الضرر على نفسه أو ماله أو نفس محترمة أو مال غيره أو التودد والتحبب كما بيّنا؛ لأنّ النفس المحترمة هي التي لها الحفاظ والبقاء، أمّا غيرها فليس لها حفاظ ولا بقاء.

المسألة العاشرة: هل الأثر المترتّب على العمل الذي أتي على نحو التقية هو أثر دائمي أم لا؟ فإذا توضأ وضوء تقية فهل يجوز له أن يأتي بالأعمال التي هي غير مشروطة بالتقية بعد زوال التقية أم لا؟ سواء كان عبادياً أو معاملياً أم لا؟ وبعبارة اُخرى أنّ الوضوء إذا اُتي به تقية فهل هو مبيح ما دامت عوامل التقية موجودة أو مبيحمستمر فلايحتاج الى إعادة الوضوء بالنسبة إلى الأعمال الاُخرى إلاّ إذا أحدث؟ اذن لافرق في جواز العمل به بين العمل الذي توضأ له أو غيره وبعبارة اُخرى هل يكون المقام كالمتيمم فما دام العذر - وهو فقدان الماء - مستمر فيمكن أن يعمل بهذا التيمم أمّا اذا زال العذر فلابد من الوضوء؟

قد يقال: بأنّه إذا أتى بالوضوء الذي رافعيته لأمر خاص - وهو الوضوء حال التقية - فامتثاله دليل على وجود أن المؤثر يكون واقعياً اذن تستمر اباحته، ويترتّب عليه جميع الآثار، ولو بعد زوال التقية،

ص: 106

ولذا حيثما ننظر إلى الأخبار العامة الدالة على جواز التقية أو وجوبها فإنّها تدلّ على الجواز مطلقاً، وكذا الروايات الدالة على جواز البيع هي بمعنى صحته وترتّب الملك عليه، وكذا بالنسبة إلى الطلاق.

وأمّا ما قيل بأنّ المراد من الجواز هنا الجواز التكليفي لا الوضعي ففيه أنّ الجواز وضعي كما مرَّ، ويكون من قبيل القصر والأتمام، ومن باب تبدل الموضوع.

نعم إذا قلنا بأنّ التقية أمر امضائي لأنّها ثابتة ببناء العقلاء وقبل ورود الشرع فالعقلاء لايعملون بعد رفع الموضوع - وهو التقية - معاملة بقاء عوامل التقية، فبعد ارتفاع الموضوع فلايرجعون إلى أسبابها الواقعية.اذن بناءً على هذا فإنّ التقية ليست بأمر مستمر، ولابد عند زوالها من تجديد الوضوء بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة، وكذا بقية الأعمال غير الوضوء اذا اتي بها تقية، ولا يمكن ترتّب جميع الآثار على العمل الذي اتي به تقية بعد زوالها.

المسألة الحادية عشر: لو علم بعد دخول الوقت أنّه لو أخّر الوضوء والصلاة يضطر إلى المسح على الخف من جهة التقية، فلايجب عليه المبادرة، بل يجوز له الابطاء في الوقت فضلاً عن قبل الوقت، وان كان الاحوط هو المبادرة.

ص: 107

وهناك فرق بين الاضطرار بالتقية والاضطرار بغيرها، أمّا الاضطرار بالتقية فبعدما عرفت من ظاهر أدلتها التوسعة في أمرها زائداً على غيرها من الضرورات، وأنّ وجود المصلحة فيها يتدارك بها مصلحة الواقع، وأنّ الفرد المأتي به على طبق التقية لابد وأن يكون محصلاً لجميع ما هو الملاك بالصلاة الواقعية الاختيارية بحيث لو أتى به تقية لايفوته شيء من الملاك. اذن مع هذا يجوز التأخير بعد الوقت فضلاً عن قبله ولو علم بأنّه مع التأخير تحصل الضرورة من جهة التقية.

هذا إذا قلنا بحصول تمامية الملاك في الفرد المأتي به تقية؛ لأنّه يمكن القول بالسعة لاعلى نحو الاطلاق، بل إنّما هي لأجل مصلحة التسهيل لا لأحراز تمامية الملاك، فلو شككنا في ذلك فالأحوط هوالمبادرة وعدم الابطال للوضوء. أما إذا حصل الاضطرار بالمسح على الحائل من غير تقية فهنا يجب عليه المبادرة في الوضوء، ولايجوز له التأخير؛ لأنّه في حال الاختيار الملاك الكامل في الصلاة موجود بعد تحقق ما هو شرط في الملاك الكامل، والوضوء الاضطراري لايكون واجداً لتمام الملاك، وإلاّ لحصل التخيير بينه وبين الوضوء الاختياري، اذن يجب الاتيان بالوضوء الاختياري ولو كان متوضئاً، فلايجوز ابطاله لعلمه بأنّه لو أبطله يضطر إلى المسح على الحائل، لأنّ تفويت المصلحة الفعلية الممكنة التحصيل حرام،

ص: 108

ولكن مع ذلك لو أخّر أو أبطل الوضوء فعل الحرام، ولو مسح على الحائل صح الوضوء؛ لاتفاقهم على صحة التكاليف الاضطرارية ولو كان الاضطرار قد حصل بسوء الاختيار. هذا إذا كان بعد الوقت.

أمّا إذا كان قبيل الوقت فتارة نقول بأنّ الوقت دخيل في تحصيل الملاك لاتماميته ففي هذه الصورة لابد من المبادرة بحكم العقل. وبعبارة اُخرى تارة نقول بأنّ الصلاة الاختيارية تكون واجدة لتمام الملاك قبل الوقت، والانتظار إلى الوقت إنّما للعجز عن تحصيل دخول الوقت إلاّ بالانتظار للدخول في تحصيل الملاك لاتماميته، فحينئذٍ يكون حال الوقت حال سائرالشرائط كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة. اذن لابد من المبادرة إلى الوضوء، ولايجوز ابطاله إذا كان متوضئاً.أمّا إذا قلنا بأنّ الوقت دخيل في صيرورة الصلاة ذات ملاك فلا تجب المبادرة، ويجوز إبطال وضوئه، كما يظهر من الرواية عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولاصلاة إلاّ بطهور».

المسألة الثانية عشر: إذا اعتقد التقية أو تحققت احدى الضرورات الاُخر فمسح على الحائل ثمّ بان بإن لم يكن موضع تقية أو ضرروة ففي صحة وضوئه إشكال.

فنقول: تارة أخذت التقية على نحو الموضوعية واُخرى على نحو

ص: 109

الطريقية - كما مر - وهذه تكون تارة على نحو الاطلاق واُخرى على نحو التفصيل بين اعتقاد الضرر ولو لم يكن هناك خوف، وبين تحقق خوف الضرر ولو لم يكن هناك اعتقاد، فيصح في الثاني دون الأول، فاذا قلنا بالطريقية بمعنى أنّ الاعتقاد له طريقية مطلقاً.

اذن يكون موضوع الحكم هو الواقع فقط، ومع التخلف لاموضوع له أصلاً، ويبطل العمل قهراً، فلابد من الاعادة والقضاء عند عدم الاتيان بالواجب وما أتى به سراب يحسبه الضمآن ماء، أمّا لو قلنا بأنّ الاعتقاد له موضوعية فتشمله الاطلاقات والعمومات فحينئذٍ نقول بالصحة، فالصحيح هو القول بالتفصيل وهو الصحة عند حصول الخوف ولو لم يكن هناك اعتقاد، والبطلان عند الاعتقاد المنفك عن الخوف؛ لأنّ الحكم في مورد اعتقاد الضرر يكون طريقياً، أمّا فيمورد الخوف فيكون موضوعياً، بلا فرق بين أن يكون الخوف أو اعتقاد الضرر جاء من قبل التقية أو بقية الضرورات. ويمكن الاستدلال على ذلك بروايات:

منها: صحيحة أبي نصر عن الامام الرضا(ع): «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه البرد، فقال: لايغتسل، يتيمم».

وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله(ع): «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جروح أو (قروح) أو يخاف نفسه من البرد، فقال:

ص: 110

لايغتسل، ويتيمم».

وهناك روايات تعضد هاتين الروايتين:

أولاهما: عن داود الرقي، قال: «قلت لأبي عبدالله(ع): أكون في السفر فتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال: إنّ الماء قريب منّا، أفأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لاتطلب الماء ولكن تيمم، فانّي أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع».

وثانيهما: خبر يعقوب بن سالم قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن رجل لايكون معه ماء والماء عن يمين أو يسار غلوتين أو نحو ذلك، قال: لا آمره أن يضرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع».

ولكن مقابل هذه الروايات رواية قد يقال بأنها تدلّ على أنّ مطلقالخوف لايكفي، فاذا صلّيت لابد من الاعادة، وهي رواية عبدالله بن سنان: «أنّه سأل أبا عبدالله(ع) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ويخاف على نفسه التلف إن اغتسل؟ فقال: يتيمم ويصلّي، فاذا آمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة».

ولكن إذا تعمقنا في النظر نرى أجنبية هذه الرواية عن محل البحث، بل هي دالّة على وجوب الأعادة عند ارتفاع الضرر، ولكن ثبت في محله بالاجماع والنص أنهما يدلاّن على الأجزاء وعدم وجوب الاعادة.

وقد يقال بالتساوي بين اعتقاد الضرر ولو لم يكن هناك خوف،

ص: 111

وخوفه ولو لم يكن هناك اعتقاد - كما مر - بأن الحكم في كليهما موضوعي، بل لو فرض عدم وجوب الاعادة مع الخوف فبطريق أولى لاتجب الاعادة مع الاعتقاد، فكما أنّ العقل يحكم بوجوب التحرز في الضرر الدنيوي المقطوع والمضمون والمحتمل إذا كان احتماله عقلائياً. وهذا الحكم منه في الكلّ يكون بملاك واحد، وهو الحكم بقبح الاقدام على ما لا يؤمن فيه من الضرر في الموارد الثلاثة - أعني القطع والظن والاحتمال - إذا كان دنيوياً، وإذا كان الحكم شرعياً ومستكشفاً منه في الموارد الثلاثة أيضاً بملاك واحد، وهو عين ذات الملاك.

اذن يكون مقطوع الضرر ومظنونه ومحتملة حراماً شرعيا، وهذهالحرمة - كما ذكرنا - تستكشف من حكم العقل، بلا فرق بين أن يكون مصادفاً للواقع أم لا، وعلى هذا ظهر ما ذكره المحقق في المعتبر من أنّه لو تيمم تيمماً مشروعاً وصلّى صلاة المأمور بها فتكون مجزئة. ولكن الحق هو ما ذكرنا من التفصيل بين اعتقاد الضرر وخوفه بالاجزاء بالثاني دون الأوّل، وأنّ الحكم بحرمة الاقتحام عند خوف الضرر يكون موضوعياً، حيث إنّ ارتكاب الخوف في نفسه حرج ومشقة لاتتحمل عادة، وحكم العقل بقبح اعتقاد الضرر الاعتقادي لايكون ذا حكم واحد في مورد قطعه وظنه واحتماله كما قيل، بل هو إنّما يحكم بقبح ارتكاب الضرر الواقعي بملاك كونه ضرراً، وبحرمة

ص: 112

ارتكاب مظنونه ومحتمله بملاك أنّه لايؤمن من ارتكابه عن الوقوع في الضرر.

اذن هو ذو حكمين: حكم نفسي وهو في موضع الضرر نفسه، وحكم طريقي وهو فيما لايؤمن فيه من الضرر حذار أن يقع فيه فالحق هو التفصيل كما ذكرنا سابقاً.

المسألة الثالثة عشر: لافرق في جواز المسح على الحائل في حال الضرورة بين الوضوء الواجب والمندوب؛ لأطلاق صحيحة أبي الورد: «قلت لأبي جعفر(ع): إنّ أبا ضبيان حدثني أنّه رأى علياً(ع) أراق الماء ثم مسح على الخفين، فقال: كذب أبو ضبيان: أما بلغك قول علي(ع) فيكم سبق الكتاب الخفين، فقلت: فهل فيهما رخصة؟فقال: لا، إلاّ من عدوٍ تتقيه، أو ثلج على رجليك».

قد يقال: يمكن التمسك بأدلّة النفي والحرج. وفيه أنّ هذه الأدلّة مختصة بموارد الأحكام الالزامية، ولاتجري في غيرها.

المسألة الرابعة عشر: هل يثبت الهلال بحكم الحاكم مطلقاً سواءً كان موافقاً معنا في الاعتقاد أم لا؟

المشهور ثبوت ذلك بالنسبة إلى الحاكم العدل، ولكن أنكر البعض ذلك من جهة عدم وجود الدليل، واستدل على ثبوت ذلك بصحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر(ع) قال: «إذا شهد عند الامام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الامام بالافطار

ص: 113

ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر بأفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم».

فدلت هذه الصحيحة بأنّ الافطار يثبت بحكم الحاكم، سواء إن ثبت الهلال عنده قبل الزوال أو بعده.

ولكن قد ردَّ استاذنا الأعظمR بأنّ هذه الصحيحة أجنبية عن محل الكلام بالكلية، وإنّما هي ناظرة الى وجوب طاعة الامام، وأنّه متى أمر بالافطار وجب لكونه مفترض الطاعة بمقتضى قوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) من غير حاجة إلى صدور حكم منه الذي هو انشاء خاص لعدم فرضه في الحديث،وانّما المفروض فيه مجرد قيام الشهود لديه وصدور الأمر منه الذي هو غير الحكم بالضرورة.

ولكن هذا الكلام إنّما يتم منهR لو قلنا بأنّ الولاية مختصة لغير الفقيه، ولكن الحق كما يظهر من مرسل رفاعة بقوله: ذلك الى الامام في قضية الأمام الصادق(ع) مع أبي العباس بالحيرة وقد تقدمت، فراجع. وجاء كلامه(ع) مطابقاً للواقع بأنّ الامام حينما حكم وجب اتباعه، ولكن تطبيق هذا الكلي على أبي العباس كان تقيةً. اذن إن أفطرت أفطرنا، كان منه(ع) تقيةً، أمّا ذلك إلى الامام فلا، وأصالة جهة الصدور تقتضي العمل على بيان الواقع.

ثمّ يظهر من بيان الامام(ع) «ذلك إلى الامام» كان هذا من

ص: 114

الأمور المسلّمة عندهم أي ثبوت الهلال بحكم القاضي، ونرى أنّ الامام مالك يرى أنّ أهل الحرمين إذا بايعوه لزمت البيعة أهل الاسلام.

واعتبر الشافعي والحنبلي طاعة الامام وإطاعة حكمه واجبة بأي طريق كان تولي الحكم للخلافة، وبأي وجه كان الاقرار، وبأي وجه كان الرضا والغلبة، ولذلك فعلى المسلم أن يسكت ولايخرج عن حكم الحاكم مهما كان ظالماً؛ لأنّ خروجه يشق عصا الجماعة، فإن مات عليه الخارج مات ميتة الجاهلية.

اذن: فلا اشكال في أنّ اثبات الهلال من وظيفة قضاتهم كما هوالآن كذلك في الصوم والافطار، ولعلّ الذي يشير إلى ذلك خبر أبي الجارود: «الفطر يوم يفطر الناس والاضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس».

ويمكن استفادة ذلك أيضاً من مقبولة عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلُّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فانّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فانّما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، قلت: فكيف يصنعان؟ قال:

ص: 115

ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفَّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حد الشرك بالله» الحديث حيث أرجع الامام (ع) في الحضور إلى الحاكم العدل الذي هو منصوب من قبله المسمى بالقاضي المغصوب، ونحن لايمكننا أن نقول بالفصل، وأنّ حكمه مختص بالترافع، بل إذا ثبت حكمه بالترافع أو التخاصم ثبت في غيره أيضاً بعدما كانت وظيفة القضاة غير مختصة بالمرافعات إلى عصرنا هذا بل يرجعون إلى الفقهاء في اثباتالهلال، لذا هوR كان يحكم بثبوت الهلال، فقيل له: إنّ بحكم الحاكم لايثبت الهلال ولايرجع الواقع عما هو عليه، فكان يقول: إنّ حكمي نافذ بالنسبة إلى غير مقلدي عمن يقول بثبوت الهلال بحكم الحاكم، فتأمل.

اذن الرجوع إلى الحاكم بالنسبة إلى الهلال ثابت عندنا وعندهم، وكان من الأمور المسلَّمة عند الفريقين. ومن الروايات التي يمكن ان تشير الى ذلك التوقيع الذي رواه الصدوق في كتاب اكمال الدين واتمام النعمة عن محمّد بن عصام عن محمد بن يعقوب قال: «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان(ع): أمّا ما

ص: 116

سألت عنه أرشدك الله وثبتك - الى أن قال: - وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأمّا محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنّه ثقتي وكتابه كتابي».

وقد أورد الاستاذ عليه بأنّ الحوادث مجملة، فيحتمل أن تكون من الأمور التي تتفق خارجاً ولم يعلم حكمها، كما لو مات زيد وله ثياب أو مصاحف عديدة ولم يعلم أنّ الحبوة هل تختص بواحدٍ منها أو تشمل الكلّ، ونحو ذلك من الشبهات الحكمية التي تتضمنها الحوادثالواقعة، وقد أمر(ع) بالرجوع فيها - الظاهر في السؤال عن حكمها - إلى رواة الحديث، فتكون حينئذٍ من أدلة حجية الخبر لو كان المراد هو الرواة، أو من أدلّة حجية الفتوى لو كان المراد بالرواة هم العلماء، وعلى التقديرين تكون أجنبية عن محل الكلام.

ولكن الحق أنّنا إذا نظرنا إلى صدر الرواية حيث قال: «أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اُشكلت عليّ» أنّ الرواية أجنبية عن حجية خبر الواحد، فيمكن الأخذ باطلاق الحوادث، سواء كانت المسائل من الشبهات الحكمية أو الموضوعية بعدما أثبتنا بأنّ رواة الأحاديث هم الفقهاء، وأنّهم الحجة على الناس بحكم الامام(ع) بقول: «فانهم حجتي عليكم» ومنصب الفقيه أو القاضي هو بيان الفتوى وصدور الحكم، اذن أنّ الرواية يمكن أن تصبح دليلاً على

ص: 117

محل الكلام بعد الأخذ باطلاق الحديث.

وأمّا قولهR: وممّا يؤيّد ارادة أحد الأمرين الأرجاع إلى الرواة بصيغة العموم لا إلى شخص معيّن، فإنّ هذا هو حكم الجاهل بالمسألة الذي لايعرف حكمها فيرجع إلى العالم، إمّا أنّه راوٍ أو لأنّه مجتهد.

فنجيب عليه أنّ الارجاع إلى الرواة بنحو العموم بعدما قلنا بأنّ المراد منهم المجتهدين، فلاينافي ما ذكرناه؛ لأنّه يمكن أن يكون هناك في عصر واحد مجتهدون يرجع إليهم في الحوادث ومن جملتها الحكمبثبوت الهلال، ولذا نرى الامام الصادق(ع) كان يرجع الناس إلى جملة من تلامذته بعد أن رأى فيهم الكفاية في الفتوى لانقل الأحكام فقط.

وبعدما ذكرنا بأنّ الارجاع إلى القضاة والمجتهدين كان أمراً مسلّماً عند الفريقين يكون الحكم حجة، وتشير الى ذلك رواية رفاعة المتقدمة، ورواية خلاّد بن عمارة: «ما صومي إلاّ بصومك، وما افطاري إلاّ بافطارك» ورواية أبي الجارود المتقدمة، ويظهر من هذه الرواية أنّ حكم الحاكم يثبت الموضوعات، وأنّه حجة فيها، وأيضاً قوله(ع) عن منصور أنّه قال: «كنت عند أبي عبدالله (ع) في اليوم الذي يشك فيه الناس، فقال: يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معاً» ويمكن استفادة

ص: 118

التقية المداراتية من هذه الرواية، كما أنّه يمكن استفادة حجية مطلق حكم الحاكم بالنسبة الى الأضحى والفطر والصوم.

المسألة الخامسة عشر: لو فرض أنّه ليس هناك خوف ولاضرر ولا يتحقق التآلف والمودة كما هو كذلك بالنسبة إلى بعض البلدان الاسلامية، فلاتجوز التقية، حيث أنّ موضوعها بكلا قسميه غير موجود، إلاّ إذا اعتقد بأنّه ستحصل المودة فيما بعد.

المسألة السادسة عشر: هل تجب التقية حتى في شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج أم لا؟ولايخفى أنّه حسب القاعدة متى وجد الموضوع - وهو الخوف - وجبت التقية بعد ما قلنا بأنّها موافقة للعقل والشرع، نعم وردت في بعض الروايات أنّه لاتقية في النبيذ والمسح على الخفين، والرواية هكذا عن أبي عمر الاعجمي عن أبي عبدالله(ع) في حديث إنّه قال: «لادين لمن لاتقية له، والتقية في كلّ شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفين» ولكن الرواية ضعيفة ب- «أبي عمر الأعجمي» حيث لم يوثق.

وقد يتخيل أنّه لاتجوز التقية في ثلاثة أشياء ثالثهما متعة الحج، والرواية عن حريز عن زرارة قال: «قلت له: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحد: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج، قال زرارة ولم يقل الواجب عليكم أن لاتتقوا فيهن أحد».

إذن: يظهر من الرواية أنّها من مختصات الامام(ع) حيث قال:

ص: 119

«لا أتقي» ويظهر لك من قضية الامام الهادي(ع) مع المتوكل، وأنّه لما أجلسه إلى جانبه وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال (ع): «والله ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني فاعفاه...» الخ.

المسألة السابعة عشر: هل تجب التكبيرات الخمس في صلاة الجنازة مطلقاً أو تجزئ الأربعة تقية؟

لايخفى بأنّ الأصل في الصلاة على الميت هو الاتيان بخمس تكبيرات، وأنّ هذه التكبيرات تكون من مقوّمات هذه الصلاة وأجزائهاوليست بخارجة عنها، وإذا نقصت منها ولو تكبيرة فلايحصل الامتثال بواجب؛ لأنّ المركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه، وإلاّ لم يكن الجزء جزءً، نعم في مورد التقية يجوز الاتيان بالأقل، كما تكون التقية عذراً في غير صلاة الميت تكون فيها.

وإذا رفعت التقية وبعد لم يدفن الميت فهل يجب الاتيان بالتكبيرة الخامسة إذا لم تفت الموالاة، أو إعادة الصلاة إذا فاتت أو لابد من إعادة الصلاة ولو على القبر إذا رفعت التقية بعد الدفن؟ الظاهر لا، بناءً على القول بأنّه - أي الاتيان بهذه الصورة - حكم واقعي حال التقية، كما أنّه يكتفى بأربع تكبيرات في الصلاة على الميت المخالف أو المنافق إن قلنا بجوازها عليه أو وجوبها بقاعدة الالزام، وللروايات الواردة بأنّه يؤتى بأربع تكبيرات على المنافق.

منها: صحيحة اسماعيل بن سعد الأشعري أنّه سأل الرضا(ع)

ص: 120

عن الصلاة على الميت، فقال: «أمّا المؤمن فخمس تكبيرات، وأمّا المنافق فأربع تكبيرات، ولا سلام فيها».

وقال الصادق(ع) في صحيح هشام بن سالم: كان رسول الله(ص) يُكبِّر على قوم خمساً، وعلى قوم آخرين أربعة، فإذا كبَّر على رجل أربعاً أتهم» وغيرها من الأخبار فراجع.

المسألة الثامنة عشر: قال صاحب العروة في مسألة حكم التكفير في الصلاة: بل لو تركه حالها - أي التقية - اشكلت الصحة،وان كانت أقوى.

لايخفى بأنّ التكفير سواء قلنا حرام أو مكروه أو جائز حال الصلاة إذا لم يكن بقصد الجزئية أو الخضوع؛ لأنّه إذا كان بقصدها فانّه موجب لبطلان الصلاة للزيادة العمدية، وحرمة العمل للتشريع، وأمّا إذا كان بقصد الخضوع فأنّه لاشك في حرمته. أمّا بطلان الصلاة فلا؛ لأنّه عمل خارج عنها، ومثاله مثال من يصلّي وينظر إلى الأجنبية، فعلى أيٍ لو ترك التكفير حال التقية فهل تكون صلاته باطلة أم لا؟

قد ذكر اُستاذنا الأعظمR بياناً فلابأس بنقل كلامه الشريف بقوله: «فإنّ احتمال البطلان في المقام يبتني إمّا على دعوى أنّ العمل المخالف للتقية منهيٌ عنه أو على أنّه غير مأمور به على الأقل، فتفسد العبادة لفقد الأمر وشيء منهما لايتم. أمّا الدعوى

ص: 121

الثانية فلوضوح عدم اقتضاء أوامر التقية تقييداً في موضوع الأوامر الأوّلية، فالصلاة مع التكفير وإن وجبت بالعنوان الثانوي إلاّ أن مصلحة الصلاة بعنوانها الأولي باقية على حالها من غير تصرف في موضوعها. اذن: فالأتيان بها بلاتكفير موافق لأمرها، فتصح بطبيعة الحال، سيما وأنّ المنسوب إلى العامة أنّهم لايرون جزئية التكفير ولا شرطيته، وإنّما هو مستحب ظرفه الصلاة، فإنّ الأمر حينئذٍ أوضح. وأمّا الدعوى الاُولى فتندفع أوّلاً بأنّ الثابت بحسب الأدلّة إنّما هووجوب التقية لاحرمة مخالفتها، إذن فالعمل المخالف لم يتعلّق به نهي، إلاّ بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، وهو في حيز المنع ...» .

ولكن الحق أنّ أدلّة التقية توجب انقلاب الواقع خطاباً وملاكاً، وأنّه يظهر من أدلّتها حرمة مخالفتها، كما ورد في الحديث «لادين لمن لاتقية له» وغيره من الأحاديث.

اذن: لاوجه للقول بالصحة فإنّ العمل المخالف للتقية يكون منهياً عنه كما في الحديث، بل يمكن أن يقال بأنّه غير مأمور به، وإذا لم يكن في هذه الحالة أمر فمن أين نكشف بقاء المصلحة الواقعية مع عدم وجود الأمر بل مع النهي؟!

نعم يمكن أن يقال بالصحة؛ لأنّ النهي ورد على نفس التكفير، وأنّه ليس جزء من الصلاة، إذ المحرّم هو ترك التكفير لا أصل

ص: 122

الصلاة.

اذن: لم يتعلّق بالصلاة نهي، فأمرها الواقعي الأولي باقٍ، بل تعلّق النهي بما هو خارج عنها، فتبقى الصلاة على صحتها بعدما كان الواقع باقٍ على حاله بدون حصول انقلاب هنا، فلا مقتضي لفسادها.

المسألة التاسعة عشر: ما هو الحكم في الوقوف بعرفة متابعة لهم؟لايخفى بأنّه إذا حكم حاكمهم بثبوت الهلال فلا إشكال في وجوب الوقوف معهم تقية، والكلام تارة يقع من جهة احتمال المطابقة أي مطابقة حكمه للواقع، واُخرى من جهة العلم بالمخالفة.

أمّا في الصورة الاُولى فتارة نتكلّم فيها من جهة الحكم التكليفي واُخرى من جهة الحكم الوضعي، أمّا من الجهة الاُولى فإنّه لا اشكال في وجوب المتابعة وحرمة المخالفة للأخبار الكثيرة، كقوله(ع): «لادين لمن لاتقية له» وقوله(ع): «التقية ديني ودين آبائي» وقوله(ع): «إن تسعة اعشار الدين في التقية» وقوله(ع): «ما عبدالله بشيء أحب إليه من الخبأ، قلت: وما الخبأ؟ قال: التقية». وهل يُحكم بصحة ما اُتي به تقية أم لا؟

الأقوى: هو الصحة، وأنّ أدلة التقية متكفّلة للحكمين التكليفي والوضعي، خصوصاً إذا لم يكن من الموارد النادرة، بل الوقوف معهم

ص: 123

مما كثر الابتلاء به، ولم نعهد من أحدهمE ورود القول بعدم الاجزاء.

قد يقال: عدم الورود منهمE لعلّه كان لعدم التمكن من الوقوف في اليوم الثامن، ولكنه غير قابل للقبول؛ لأنّه يمكن الوقوف برهة من الزمن بعنوان جعله طريقاً له أو بعنوان البحث عن الشيء، وهذه سيرة كافية في إثبات الصحة، ولامجال حينئذٍ باستصحاب عدم دخول يوم عرفة. ويؤيد ذلك رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر(ع) إنّاشككنا في سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلمّا دخلت على أبي جعفر(ع) وكان بعض أصحابنا يُضحّي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يُضحّي الناس، والصوم يوم يصوم الناس» فإنّها ظاهرة دلالة على الحكم الوضعي، والرواية موثقة، فإنّ أبا الجارود ثقة، ولو كان فاسد العقيدة؛ لتوثيق الشيخ المفيد له.

ثمّ إنّه لو أتى بالوقوف في اليوم الثاني - احتياطاً فإذا كان وقوفه هذا مخالفاً للتقية فهو محرّم وباطل، ولكن لاتسري حرمته إلى الوقوف الأوّل، فيكون حجه صحيحاً. أمّا لو أتى به ولم يكن مخالفاً للتقية - كما إذا جعل طريقه عليه أو ذهب بعنوان البحث عن الشيء - فهو حسن؛ لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال. أمّا لو لم يقف معهم في اليوم الأول فإنّ لم يتمكن معه من الوقوف في اليوم الثاني فلا إشكال في بطلان حجه، أمّأ لو وقف في اليوم الثاني فإن كان وقوفه

ص: 124

هذا مخالفاً للتقية فهو محرم، فهو كمن لم يأتِ بالوقوف أصلاً.

أمّا إذا لم يكن خلاف التقية وتمكن مقداراً من الوقوف فهل يكفي ذلك ويمكن القول بصحة حجه؟ الظاهر لا؛ لأنّ التقية هنا تثبت الحكم التكليفي والوضعي ففي اليوم الثاني لادليل عليه، إلاّ استصحاب عدم دخول اليوم التاسع، ولكن لايترتّب الحكم الشرعي عليه بعد ما كان الواجب من الوقوف هو يوم أضحى الناس.أمّا في صورة العلم بالمخالفة فإنّه لادليل على الاكتفاء بالوقوف، وأنّ أدلة التقية ولو قلنا بأنها شاملة للحكم الوضعي أيضاً لكنها منصرفة إلى صورة الشك، ولا تشمل مورد القطع بالخلاف نعم يظهر من رواية أبي الجارود الحكم الوضعي إن لم نخدش في صحة سند الرواية.

اذن: في صورة العلم بالمخالفة لابد من الوقوف في اليوم الثاني مع الامكان، وإلاّ ففي صحة حجه إشكال.

المسألة العشرون: قد يقال بأنّ الوضوء تقية ليس بطهارة واقعاً، بل هو مبيح فقط. ولكن هذا الكلام غير صحيح، بل عروض عنوان التقية يوجب فردية الوضوء المأتي به للمكلّف، وأنّه رافع للحدث.

المسألة الواحدة والعشرون: لايخفى أنّه لم يرد تحديد من الشارع في بيان مورد التقية، بل يكون بنظر العرف متى يصدق عليه الخوف، والضرورة تجب التقية كما مرّ في موثقة زرارة عن أبي

ص: 125

جعفر(ع) قال: «التقية في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها ...» الخ وعن محمد بن مسلم وزرارة قالا: سمعنا أبا جعفر يقول: «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ...» الخ.

المسألة الثانية والعشرون: إن التقية جارية في كلّ مورد فيه الخوف والضرر والألفة لاطلاق الأدلّة، وغير مختصة بالموارد التي ورد النص بالخصوص فيها كالمسح على الخفين وافطار شهررمضان وغيرها.

المسألة الثالثة والعشرون: لايخفى أنّ التقية موردها هو ماله نوع مساس بالدين، بلافرق بين أنّ ما ينسب إلى الدين يكون على نحو التأسيس أو الأمضاء حكماً كان أو موضوعاً، ولا تختص بباب دون باب من الفقه، بل يشمل الحج كالوقوف بعرفة والوضوء وحكم الحكام في أول الشهر وآخره وغيرها.

المسألة الرابعة والعشرون: لو شك في صحة عملهم عندهم يحكم على الصحة بمقتضى حمل فعل المسلم على الصحة، نعم لو علم بالبطلان عندهم كصلاة الوليد - عليه اللعنة - فإنّه لاتشملها التقية؛ لأنّه ليس من الدين أصلاً، ولو صلى خوفاً فلا تكون مسقطة للاعادة ولا القضاء.

المسألة الخامسة والعشرون: بعدما ذكرنا بأنّ التقية أمر محبوب ومرغوب عند الله ففيها الثواب العظيم كما ورد في الحديث

ص: 126

عن علي(ع): «التقية من أفضل أعمال المؤمن...» وعن الحسن بن علي(ع): «انّ التقية يُصلح الله بها اُمة لصحابها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك اُمة تاركها شريك من أهلهم....» وقال علي بن الحسين(ع): «يغفر الله للمؤمن كلّ ذنب ويطهّره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين ترك التقية، وتضييع حقوق الأخوان».

المسألة السادسة والعشرون: انّ التقية واجبة في كلّ مورد أومكان حصلت التقية، بلافرق بين بلد المتقي والمخالف أو بلد غيرهما لاطلاق أدلّتها.

المسألة السابعة والعشرون: لايخفى بأن التقية إنما شرعت لحفظ الأموال والأعراض والنفوس، ولكن إذا كان هناك شيء أعظم من هذه الأمور وهو هدم الدين أو تسلط الكفار على المسلمين، بل لو كان أصل من أصول الأسلام أو المذهب في معرض الزوال كما لو أراد الوضاعون والمنحرفون تغيير مسائل الأرث أو الحدود وأمثال ذلك فأن التقية في مثل ذلك محرمة.

المسألة الثامنة والعشرون: إن التقية بعد ما كانت أصل قرآني مدعم بالأخبار والأحاديث كما في قضية عمار فالمتقي ليس بمنافق، وليست بمعنى التشكيلات السرية لغاية التخريب والهدم والتفرقة بل جائت لأجل حفظ العقيدة وصون النفس والمال من الخطر، والألفة أيضاً، وإلاّ لو أريد منها غير هذه الأمور لكانت مرفوضة من قبل

ص: 127

المسلمين والشيعة على الأخص.

المسألة التاسعة والعشرون: كما مر في مسألة عدم اشتراط وجود المندوحة للأطلاقات والعمومات روايات الباب بعضها آبية عن التقييد، ولو فرض أن الصلاة وقعت في أول الوقت وهو متمكن من الأتيان بها في جزء آخر على طبق الواقع، الحق هو الجواز. وقد نقل عن الشيخ الأكبر بعدم البعد عن كونه وفاقياً، وفي باب الوضوءمن كتاب الطهارة قال: قد يشعر من كلام جامع المقاصد بكونه من المسلمات.

المسألة الثلاثون: كما مرّ لو اعتقد بان المورد من موارد التقية، وعمل على طبقها ثم انكشف الخلاف فهل عمله يكون صحيحاً فلا يحتاج الى الاعادة أو القضاء أم لا؟

فهذا يرجع بأن الاعتقاد بالتقية أو الخوف هل اُخذ على نحو الموضوعية أو الطريقية فان قلنا بالأول فلايحتاج إلى الأتيان بالعمل ثانياً أو خارج الوقت، وإن كان طريقياً فلابد من الأعادة.

الحق هو البطلان. فتجب الأعادة حينئذٍ.

المسألة الواحدة والثلاثون: لو كان هناك شكلين من التقية في عمل واحد كغسل الرجلين والمسح على الحائل فهل هناك تخيير بين الغسل والمسح أو يتعين أحدهما؟

هناك أقوال فالمشهور هو التعيين وهو الحق، وفي المدارك قطع

ص: 128

الأصحاب بجواز المسح على الحائل للتقية إذا لم يتأدّ بالغسل.

وحكى بتعينه عن التذكرة والروض والبيان لا من حجة أقربية الغسل الى مراد الشارع بقولهم بأن في الغسل إيصال الماء إلى البشرة، وإن الرجل من اعضاء الوضوء دون الخف، لأنا لانعرف مناطات وملاكات الأحكام ولايمكن تقييد المطلقات بهذه التعليلات، ويمكن استفادة الأقربية من خبر الكلبي النسابة عن الصادق(ع) فيحديث قال قلت له ما تقول في المسح على الخفين فتبسم ثم قال: إذا كان يوم القيامة وردَّ الله كل شيء الى شيئه وردَّ الجلد الى الغنم، فترى اصحاب المسح أين يذهب وضوئهم.

وروي عن عائشة عن النبي (ص) إنه قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره.

المسألة الثانية والثلاثون: قد ذكرنا أن المسألة المخالفة لمذهبنا حيث تجب التقية في العمل بها لافرق بين أن تكون ثابتة في زمان الخلافة أو حصلت لعلمائهم فيما بعد كما في العمل بالقياس والأستحسان.

المسألة الثالثة والثلاثون: إذا تمكن من رفع التقية بالمال فهل يجب عليه أم لا؟ الظاهر عدم الوجوب للأطلاقات، وحملها على صورة القدرة يحتاج الى دليل، ولايمكن القياس على شراء الماء للوضوء ولو باضعاف قيمته مع التمكن للدليل، فعن صفوان قال:

ص: 129

سألت أبا الحسن(ع) عن رجل احتاج الى الوضوء للصلاة وهو لايقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها، يشتري ويتوضا أو يتيمم؟ قال: لا، بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت وتوضأت ما يسرني بذلك مال كثير.

المسألة الرابعة والثلاثون: الظاهر كما أن التقية ولو ورد في بعض النصوص الظاهر منها المخالفين، ولكن الحق شمولها لكلمن يتقى منه كما يمكن الاستفادة من بعض الأخبار بقوله(ع): في رسالته الى اصحابه قال: وعليكم بمجاملة «أهل الباطل»، تحملوا الضيم منهم، وإياكم ومماظتهم، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم ... .

اذن: أن التقية تكون أعم من سائر الضرورات على الاطلاق.

اذن: لافرق بين من يُتقى منه أن يكون من احد المذاهب الاربعة أو غيرها من سائر المذاهب، بل إذا كان من أحد المذاهب الشيعية غير الاثنى عشرية إذا وجد الموضوع.

المسألة الخامسة والثلاثون: لابد ممن يريد التقية أن يعمل حسبما يعتقده المخالف فلو كان هناك صنفان، صنف يمسح على الخف والثاني يغسل الرجل فلابد عند الصنف الأول إذا اتفق وضوئه عندهم أن يمسح على الخف وعند الثاني أن يغسل رجله إذا اتفق

ص: 130

عندهم، كما ذكرنا.

المسألة السادسة والثلاثون: لو كان هناك المخالف يعمل بشيئين أي قسم يسبل وآخر يتكتف، وهو يصلي معهم جماعة فلاتجوز له التقية حتى المداراتية كما في الجماعة في مكة المكرمة.

وقلنا ان التقية انما شرعت من جهة الخوف والأمن من الضرر أو لرفع الاختلاف وتحقق ولو لم يكره بالفعل، أما اذا لم تتحقق هذهالأمور أصلاً فلاموضوع حينئذٍ للتقية كما في بعض البلاد الأسلامية بعد ما عرفوا المذهب. كما مر.

المسألة السابعة والثلاثون: لابد أن يكون عملهم عندهم صحيحاً وبالأصل فلذا لو شك في صحة عملهم عندهم وعدمها فمقتضى قاعدة الصحة أي فعل المسلم هو الحمل عليها، نعم لو علم ببطلان عملهم حتى عندهم فلامعنى للتقية لأنه ليس من دين الله في شيء، وقد ذكرنا ان موردها لابد ان يكون له مساس بالدين، ولو عمل والحال هذه يكون عمله باطلاً، فلاتسقط الأعادة ولا القضاء ولو كان هناك خوف فلابد من العمل وقد ذكرنا شيئاً من هذا الموضوع فيما سبق.

المسألة الثامنة والثلاثون: لافرق في وجوب التقية بين أن يكون العمل مستحباً أو واجباً فلو كان الوضوء مستحباً ولم يعمل التقية بطل وضوءه بناء على أن العمل وهوخلاف التقية يكون محرماً.

ص: 131

المسألة التاسعة والثلاثون: قد ذكرنا أنه لو علم بعد دخول الوقت أنه يضطر الى المسح على الحائل لو أخر فالظاهر عدم وجوب المبادرة بل إذا كان على الطهارة يجوز له إبطال طهارته، فعدم وجوب المبادرة وجواز الأبطال بعد الوقت فضلاً عن إذا كان قبله لما عرفت من السعة في أمر التقية من ظهور أدلتها - زائد على غيرها من الضروريات - الكاشفة من كون مصلحتها يتدارك بهامصلحة الواقع، أي أن الفرد المأتي به على طبق التقية يكون محصلاً لجميع ما هو الملاك للصلاة حال الأختيار، ولايفوت مع اتيانه تقية شيء من الملاك، ولازمه جواز التأخير ولو علم بحصول الضرورة في ارتكاب التقية، وليست التقية كبقية الأعذار، حيث أنه يجب المبادرة الى العمل لو علم أنه لو أخر الوضوء والصلاة لأضطر الى المسح على الحائل لأن الملاك تام والشرط الذي يتحقق به الملاك التام موجود، والوضوء الأضطراري لايكون واجداً لتمام الملاك وإلاّ من الأول الحكم هو التخيير بينه وبين وضوء المختار.

اذن لابد من المبادرة والأتيان في أول الوقت، وفي تأخيره يكون تفويتاً للملاك الواجب ويكون حراماً، ولو أن العمل يكون صحيحاً لو ترك المبادرة واضطر الى المسح على الجبيرة لأنه حينئذٍ يكون بدلاً ولأطلاق دليل بدلية المضطر كما في سائر الأعذار العقلية، التي تصدر من المكلف باختياره، ولكن الحق بما أن الملاك هنا تام فلا

ص: 132

تجب المبادرة لأنه لايمكن أن نفكك بين هذا الفرد وسائر صور وجود المندوحة.

وهناك فروع لابد من بيانها:

الفرع الأوّل: لايخفى ولو ورد في بعض الروايات وبيّن موضوع التقية وحصرها بالضرورة كما في قوله(ع): «التقية في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها» وقوله: «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابنآدم فقد أحلّه الله له» كما مرّ، ولكن هذا لاينافي التقية المداراتية حيث حثَّ الامام على مجاملتهم والمداراة لهم، وهذه الروايات المداراتية آبية عن التقييد.

الفرع الثاني: إنّ الضرورة أو الخوف الواردين في الأخبار لم يحددهما الشارع، فحينئذٍ لابد عند التحديد من الرجوع إلى العرف، وكذا المداراة والمجاملة، بعدما كانتا مختلفاً فيهما من جهة الأشخاص والأزمنة والأمكنة.

الفرع الثالث: هل التقية شاملة لكلّ الأحكام أم أنّها مختصة بموارد ورد فيها النص على الخصوص؟

الظاهر أنّها عامة للأطلاقات، وكلّما ينسب إلى الشارع تجري فيه التقية لاطلاق قولهمE: «التقية دين الله» وغيرها من الروايات، إلاّ في موارد ورد الدليل على المنع، كما ورد بالنسبة الى شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج بقوله(ع): «ثلاثة لا أتقي فيهن أحد:

ص: 133

شرب المسكر، ومسح على الخفين، ومتعة الحج ...» الخ كما قيل في مسح الخفين، وكذا في الدماء بقوله(ع): «إنّما جمعت التقية ليحقن بها الدم، فاذا بلغ الدم فلاتقية ...» الخ.

الفرع الرابع: لايخفى بأنّ موضوع التقية إنّما يتحقق إذا كان العمل له مساس بالدين ولو في الجملة عند الفاعل كما سبق.

إذن: لو شك في صحة عملهم عندهم تجري أصالة الصحة فيفعل المسلم، فيتحقق موضوع التقية، أمّا مع العلم ببطلان عملهم ولو تجب التقية فيه مع الخوف ولكن هذا العمل لايجزئ، ولا يكون مسقطاً للاعادة والقضاء.

الفرع الخامس: انّ التقية تارة تكون في مورد فقد الجزء أو الوصف عن الشيء ونُزِّلا منزلة الواجد، وواجد المانع بمنزلة الفاقد، والمعدوم منزلة الموجود بعد ما كانت التقية تشمل الكلّ لاطلاق أدلّتها.

إذن: ما ورد في بعض النصوص واختصت بالأفعال الوجودية فقط كالصلاة خلفهم وحضور جنائزهم وعيادة مرضاهم و .... إنّما يكون من باب المثال أو الغلبة، ويشهد لما ذكرنا موثقة أبي بصير قال: «قال أبو عبدالله(ع): التقية من دين الله، قلت: من دين الله؟ قال: أي والله من دين الله، لقد قال يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون) والله ما كانوا سرقوا شيئاً، ولقد قال ابراهيم: (إني سقيم) وما

ص: 134

كان سقيماً».

الفرع السادس: قد مرّ منا بأنّه لاموجب للتقية في عصرنا، بل لابد من إبراز العقيدة؛ لعدم وجود الموضوع هنا وهو الخوف.

اذن: ما ورد من الرضا(ع) بقوله: «لادين لمن لاورع له، ولا ايمان لمن لاتقية له، وإنّ أكرمكم عندالله أعملكم بالتقية، قيل: يا بن رسول الله إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروجقائمنا فليس منا» حيث حدّد الاتيان بالتقية إلى قيام القائم انّما تحمل فيما إذا كان الموضوع موجوداً. وأمّا إذا لم يكن الموضوع موجوداً - وهو الخوف - فلا معنى للقول بوجوب التقية، وفي زماننا لاخوف ولا القاء في التهلكة، أي التقية بعد انتشار المذهب ووجوده وعدم وجود الخوف، أو نحمل أمر الإمام على التقية المداراتية.

الفرع السابع: هل يجوز تسمية المهدي (عجّل الله فرجه) باسمه الشريف الخاص؟

قال استاذنا أعظم: لاتعم تلك لزماننا هذا.

لايخفى أنّ الاقوال في المسألة خمسة:

الأوّل: عدم الجواز مطلقاً كما هو المشهور، وهو المحكي عن مذهب شيخنا المفيد والشيخ الطبرسي قدس الله روحيهما، وجماعة من المتأخرّين.

الثاني: ما دلّ على عدم الجواز الى القيام كما هو المحكي عن

ص: 135

مذهب السيد الداماد وغيره، قال السيد: شرعة الدين وسبيل المذهب أنّه لايحل لأحد من الناس في زماننا هذا، وأعني به زمن الغيبة إلى أن يحين الفرج، ويأذن الله سبحانه لوليه وحجته على خلقه القائم بأمره والراصد لحكمه بصطوع الظهور وشروع المخرج أن يسميه ويكنّيه صلوات الله عليه في محفل ومجمع مجاهراً باسمه الكريم معالناً بكنيته الكريمة.الثالث: أنّه - أيّ المنع - مختص بزمان الغيبة الصغرى، كما عليه أستاذنا الأعظم.

الرابع، أنّ حرمتها تدور مدار التقية والخوف، فإذا لم يكن هناك خوف فهو جائز لبعض الأخبار.

الخامس: هو جوازه مطلقاً، وقد نسب إلى جملة من المتأخرين كصاحب كشف الغمة، وخواجه نصير الدين الطوسي، والشيخ البهائي.

اذن: لابد أوّلاً من ذكر الأحاديث، لأنّها متعارضة بحسب الظاهر، ولابد من الفحص فيها.

أمّا القول الأوّل - أي المنع مطلقاً - ففيها أخبار:

فمنها ما رواه الكليني عن ابن رئاب، عن أبي عبدالله(ع) قال: «صاحب هذا الأمر لايسميه باسمه إلاّ كافر».

وعن الريان بن الصلت قال: «سمعت أبا الحسن الرضا(ع) وسئل

ص: 136

عن القائم(ع)؟ فقال: لايرى جسمه ولايسمى اسمه».

وعن داود بن القاسم الجعفري قال: «سمعت أبا الحسن العسكري(ع) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ قلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ قال: لأنّكم لاترون شخصه، ولايحل لكم ذكره باسمه، قلت: كيف نذكره؟ قال: قولوا الحجة من آل محمّد».وعن صفوان بن مهران عن الصادق(ع) أنّه قيل له: «من المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه، ولايحل لكم تسميته».

وعن علي بن الحسين الدقاق وابراهيم بن محمد قالا: «سمعنا علي بن عاصم الكوفي يقول: خرج في توقيعات صاحب الزمان(ع): ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس».

وعن عبدالعظيم الحسني عن محمد بن علي بن موسى(ع) في ذكر القائم(ع) قال: «يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، وتحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله(ص) وكنيته» الحديث. إلى غيرها من الأخبار الواردة في هذا المعنى.

القول الثاني: ما ورد في التصريح بترك التسمية إلى ظهوره (عجّل الله فرجه).

فعن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري عن أبي جعفر(ع) في

ص: 137

حديث الخضر(ع) أنّه قال: «واشهد على رجل من ولد الحسن لايسمى ولايكنّى حتى يظهر أمره فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، إنّه القائم بأمر الحسن بن علي(ع) ». وشبيهة لها رواية سهل بن زياد باختلاف يسير.

وعن عبدالعظيم الحسني عن سيدنا علي بن محمد(ع) أنّه عرض عليه اعتقاده وإقراره بالأئمةG - إلى أن قال: - «ثمّ أنت يا مولاي، فقالله(ع): ومن بعدي ابني الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّه لايرى شخصه، ولايحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً - الى أن قال: - فقال(ع): هذا ديني ودين آبائي» وشبيهة لها رواية محمد بن زياد الأزدي عن موسى بن جعفر(ع) وهناك روايات اُخرى، ويمكن القول بأنّها - أي الطائفة الثانية - تقيّد الاُولى؛ لأنّها مطلقة.

وأما القول الثالث: فمع أنّ هناك روايات كثيرة كما رأيت بعضها وسترى بعضاً آخر منها تدلّ على عدم الجواز مطلقاً أو مقيّداً إلى زمان الظهور، فلايمكن الأخذ به.

وأما القول الرابع: المعلّل بأنّ عدم التسمية تدور مدار الخوف، فلنذكر قبل المناقشة بعضاً من الأخبار.

فمنها: ما رواه الكليني بسنده عن علي بن محمد عن أبي عبدالله الصالحي قال: «سألني بعض أصحابنا بعد مضي أبي محمد(ع) أن

ص: 138

أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: إن دللتم على الاسم أذاعوه، وإن عرفوا المكان دلّوا عليه».

وما رواه الصدوق في اكمال الدين عن علي بن عاصم الكوفي يقول: «خرج في توقيعات صاحب الزمان: ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس».

ومنها ما رواه في البحار عن أبي خالد الكابلي قال: «لما مضىعلي بن الحسين(ع) دخلت على محمّد بن علي الباقر(ع)، فقلت: جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وانسي به ووحشتي من الناس، قال: صدقت يا أبا خالد تريد ماذا؟ قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطرق لأخذت بيده، قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟ قال: اُريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه، فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني بأمر لو كنت محدثاً به أحداً لحدّثتك، ولقد سألتني عن أمر لو أنّ بني فاطمة عرفوه حرصوا على أن يقطعوه بضعة». وإلى غيرها من الأخبار.

أمّا الأخذ بأخبار التقية فلايمكن لاُمور:

الأوّل: أنّه يظهر من ظاهر الروايات الكثيرة بأنّ الغاية من المنع ظهوره (عجّل الله فرجه)، بلافرق بين أن يكون هناك خوف أولا.

الثاني: لو كان خفاء الاسم للتقية فأيّ فرق بين اسمه وكنيته

ص: 139

وألقابه، ولذا حرّم السيد الداماد ذكر كنيته الخاصة أيضاً، خصوصاً المشهورة منها والشائعة كالمهدي، وكأنّه أصبح اسماً له، وخصوصاً وجوده في الأخبار من الشيعة والسنّة التي ورد فيها البشارة بلفظ المهدي وظهوره في آخر الزمان، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وفي بعضها ورد هكذا «اسمه اسمي».

اذن أنّ الراوي يعرف اسمه.فعن دعائم الاسلام عن رسول الله(ص): «أنّه نهى عن أربع كنى: عن أبي عيص وأبي الحكم وعن أبي مالك وعن أبي القاسم، إذا كان الاسم محمد(ص)، ونهى عن ذلك سائر الناس، ورخّص فيه لعلي(ع)، وقال: المهدي من ولدي يضاهي اسمه اسمي وكنيته كنيتي». وثالثاً لو كان من جهة الخوف وأنّ الظلمة وحكام الجور لمّا عرفوا من الأخبار بأنّ زوال ملكهم يكون بيده، فيجدّون في معرفته والقبض عليه ثم قتله.

إذن: فكما أنّ ذكر الاسم خلاف التقية يكون لقبه الشريف أيضاً كذلك، فلابد أن لايذكر، مع أنّه لم يقل به أحد.

وأمّا القول الخامس: فاليك منه بعض الروايات.

منها: ما رواه الصدوق في اكمال الدين عن محمد بن القاسم الكوفي أنّ أبا محمد الحسن العسكري(ع) بعث إلى بعض من سمّاه شاة مذبوحة، وقال: «هذه من عقيقة ابني محمد».

ص: 140

وما رواه عن أبي غانم الخادم قال: «ولد لأبي محمد مولود فسمّاه محمداً وعرضه على أصحابه - يوم الثالث - وقال: هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم». وغيرها من الروايات.

وأمّا هذه الروايات أيضاً لايمكن الأخذ بها، مع معارضتها لتلك الروايات الكثيرة المتواترة في المنع من ذكر اسمه مطلقاً، أو إلى زمانالظهور، مع مساندتها بقول المشهور بعدم الجواز.

ثمّ إنّ هناك فروعاً لابد من ذكرها:

الفرع الأول: لايخفى حينما نقول أو يقال بعدم جواز ذكر اسمه او كنيته أو لقبه كما هو مختار الداماد في شرعته - كما مرَّ - هو أنّ عدم الجواز بذكر لقبه المشهور الذي صار بمنزلة الاسم، أمّا قولنا سمي رسول الله أو أبي القاسم أو التاسع من ولد الحسين(ع) أو الخامس من ولد السابع فيجوز؛ لأنّه ليس ذكراً للاسم واللقب والكنية المشهورتين. وعلى ذلك روايات إليك منها:

فعن محمد بن عثمان العمري - في حديث - أنّه قال له: «أنت رأيت الخلف؟ قال: أي والله - إلى أن قال: - قلت: فالاسم، قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ...» الخ .

ومنها: عن صفوان عن الصادق(ع) أنّه قيل له: «من المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولايحلّ لكم تسميته».

ص: 141

وعن عبدالعظيم الحسني عن محمد بن علي بن موسىG في ذكر القائم(ع) قال: «يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، وتحرم عليهم تسميته، وهو سميُّ رسول الله(ص) وكنيته ...» الخ .

الفرع الثاني: حينما نقول بعدم الجواز إنّما هو في صورة النطقبهما، وأمّا كتابتهما فلامانع من ذلك؛ لأنّه - كما قال السيد الداماد - لايعد تسمية وتكنية، لابحسب العرف ولابحسب اللغة، ولذلك أتى بذلك بعض العلماء في بعض المصنفات في اُصول الاعتقادات للتعيين والتعليم.

الفرع الثالث: أيضاً حينما نقول بعدم جواز ذكر الاسم إنّما كان ذلك إذا ذكر بحروف متصلة، وأمّا ذكره بحروف منفصلة كما هو ديدن بعض الفقهاء حيث يذكرونه ب- «م ح م د» فلامانع؛ لأنّه لايعدُّ إسماً، وإنّما هو كناية عن اسمه الشريف، وفي طريق رئيس المحدثين أبي جعفر الكلينيS في كتابه الكافي تصريح بصريح الاسم، ولكن مكتوباً بحروف مقطّعة تنبيهاً على عدم الأجهار به في القراءة والرواية، إلاّ بالرمز والكناية أو بحروف منفصلة متقاطعة في القراءة أيضاً كما في الكتابة.

والطريق هاهو ذا: محمد بن يحيي ومحمد بن عبدالله عن عبدالله بن جعفر عن الحسن بن ظريف وعلي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن بكر بن صالح عن عبدالرحمن بن سالم، عن أبي بصير

ص: 142

عن أبي عبدالله(ع) قال: «قال أبي لجابر بن عبدالله الانصاري: إنّ لي إليك حاجة فمتى يخفُّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها، فقال له جابر: أيُّ الأوقات أحببته فخلا به في بعض الأيام، فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد اُمي فاطمةI بنت رسولالله(ص) وما أخبرتك به اُمي أنّه في ذلك اللوح مكتوب، فقال جابر: أشهد بالله أنّي دخلت على اُمك فاطمةI في حياة رسول الله(ص) فهنّيتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحاً أخضر ظننت أنّه زمرّد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي واُمي يا بنت رسول الله(ص) ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله إلى رسوله(ص) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنيَّ واسم الأوصياء من ولدي وأعطانيه أبي ليبشّرني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه اُمك فاطمةI فقرأته واستنسخته، فقال أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق، فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ [أنا] عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما خالف حرف حرفاً، فقال جابر: فأشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمّد نبيّه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظّم يا محمّد أسمائي واشكر نعمائي ولاتجحد آلائي، إنّي

ص: 143

أنا الله لا إله إلاّ أنا قاصم الجبارين ومديل الظالمين ودّيان الدين، إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي عذّبته عذاباً لا اُعذّبه أحداً من العالمين فإياي فاعبد وعليّ فتوكّل، إنّي لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلاّ جعلت له وصياً، وإنّيفضّلتك على الأنبياء وفضّلت وصيّك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته اُثيب واعاقب، أوّلهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الماضيين، وابنه شبه جده المحمود محمد الباقر علمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر الرادُّ عليه كالرادُّ عليّ، حق القول لأكرمنَّ مثوى جعفر، ولأسرَّنه في اشياعه وانصاره وأوليائه انتحت بعده موسى فتنة حندس؛ لأنَّ خيط فرضي لاينقطع وحجتي لاتخفى، وأنّ أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غيّر آية من كتابي فقد افترى عليّ، ويل للمفترين الجاحدين بعد انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في عليّ وليّي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة وامتحنه بالاضطلاع بها يقتله عفريت مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي حق القول

ص: 144

مني، لأسرّنه بمحمدٍ ابنه وخليفته من بعده ووارثاً علمه، فهو معدن علمي وموضع سرّي وحجتي على خلقي، لايؤمن عبد به إلاّ جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه عليّ وليّي وناصري والشاهد في خلقي وأمينيعلى وصيي، اخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن بن علي واكمّل له ذلك بابنه «م ح م د» رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب، فيذلَّ أوليائي في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم فيُقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشوا الويل والرّنة في نسائهم اُولئك أوليائي حقاً، بهم ادفع كلّ فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، واُولئك هم المهتدون.

قال عبدالرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا الحديث لكفاك، فصنه إلاّ عن أهله».

وحيث ختم هذا السفر الجليل بشرعة التسمية للاسم الشريف يلزمنا الأدب أن نذكر الدعاء الوارد في عصر الغيبة له عجل الله فرجه وسهّل مخرجه، ونص دعاء الفرج هو هذا.

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وعلى ابنته وعلى ابنيهما، وأسألك بهم أن تعينني على طاعتك ورضوانك وأن تُبلّغني

ص: 145

بهم أفضل ما بلَّغت أحداً من أوليائك إنّك جواد كريم، اللهم إنّي أسألك بحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) إلاّ انتقمت به ممن ظلمني وغشمني وآذاني وانطوى على ذلك وكفيتني به مؤنة كلّ أحد يا أرحم الراحمين، اللهم إنّي أسألك بحق وليّك علي بنالحسين(ع) إلاّ كفيتني به مؤنة كلّ شيطان مريدٍ وسلطانٍ عنيد فيقوى عليَّ ببطشه وينتصر عليَّ بجنده إنّك جواد كريم يا وَهّاب، اللهم إنّي أسألك بحق وليّك محمد بن علي و جعفر بن محمّدٍG إلاّ أعنتني بهما على أمر آخرتي بطاعتك ورضوانك وبلّغتني بهما ما يرضيك إنّك فعال لما تريد، اللهم إنّي أسألك بحق وليِّك موسى بن جعفر(ع) إلاّ عافيتني به في جميع جوارحي ما ظهر منها وما بطن يا جواد يا كريم، اللهم إنّي أسألك بحق وليّك الرضا علي بن موسى(ع) إلأّ سلّمتني به في جميع أسفاري في البراري والبحار والجبال والقفار والأودية والغياض من جميع ما أخافه وأحذره إنّك رؤوف رحيم، اللهم إنّي أسألك بحق وليّك محمد بن علي(ع) إلاّ جدت به عليّ من فضلك وتفضّلت به عليّ من وسعك ووسّعت عليّ من رزقك وأغنيتني عمّن سواك وجعلت حاجتي إليك وقضاها عليك إنّك لما تشاء قدير، اللهم إنّي أسألك بحق وليِّك علي ابن محمد (ع) إلاّ أعنتني به على تأدية فروضك وبرِّ اخواني المؤمنين وسهِّل ذلك لي واقرنه بالخير وأعنِّي على طاعتك بفضلك يا رحيم، اللهم إنّي أسألك بحق وليِّك

ص: 146

الحسن بن علي(ع) إلاّ أعنتني به على أمر آخرتي بطاعتك ورضوانك وسررتني في منقلبي ومثواي برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنّي أسألك بحق وليّك وحجتك صاحب الزمان(ع) إلاّ أعنتني به على جميع اُموري وكفيتني به مؤنة كلّ مؤذٍ وطاغٍ وباغٍ وأعنتني بهفقد بلغ مجهودي وكفيتني به كلّ عدوّ وهمٍّ وغمٍّ ودينٍ وعنِّي وعن ولدي وجميع أهلي واخواني ومن يعنيني أمره وخاصّتي آمين رب العالمين.

اللهمّ كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.

وكان الفراغ من كتابة هذه الرسالة مع خالص شكري لكل من اعتنى بها في يومه (عج) يوم الجمعة من جمادي الأولى وفي ذكرى شهادة اُمه الزهراء فاطمةI وبجوار فاطمة بنت موسى بن جعفرG في قم المقدسة عش آل محمّد(ص) اللهم ارزقنا شفاعتهم.

وأسأل الله الكريم الوهاب أن يجعله وكل الصالحات ذخراً ليوم المئاب، وأن يتفضل عليَّ وعلى شيعة مولانا أمير المؤمنين(ع) بفضله العميم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به وسائر المؤمنين إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين،

ص: 147

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمّد وآله ما اختلف الملوان وتعاقب العصران وكرَّ الجديدان واستقبل الفرقدان وبلِّغ روحه وأرواح أهل بيته مني التحية والسّلام.

وأنا أقل خدّام آل محمّد(ص)الراجي شفاعتهم المتمسك بحبل ولائهم

مجتبى السويج

1417ه-

على مهاجرها وآله آلاف الصّلاة والسّلام

ص: 148

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.