بطاقة تعريف: کنگره بین المللی بزرگداشت ثقةالاسلام کلینی(ره) (1388 : شهرری)
عنوان المؤلف واسمه: مجموعة مقالات المؤتمر الدولي للشيخ ثقة الإسلام الكليني/ ویراستار حسین پورشریف.
تفاصيل النشر: قم: موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث، سازمان چاپ و نشر: سازمان اوقاف و امور خیریه، اداره کل اوقاف و امور خیریه استان قم، 1387.
مشخصات ظاهری : 5ج.
فروست : پژوهشکده علوم و معارف حدیث؛ 192.
مجموعه آثار کنگره بین المللی بزرگداشت ثقه الاسلام کلینی؛ 40، 41، 42، 43، 44.
شابک : 64000 ریال
یادداشت : کتابنامه.
مندرجات : ج.1. مباحث کلی.- ج.2. مباحث کلی.- ج.3. مصادر و اسناد کافی.- ج.4. مباحث فقه الحدیثی.- ج.5. مباحث فقه الحدیثی.
موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. -- کنگره ها
موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. -- نقد و تفسیر
موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر
موضوع : محدثان شیعه -- ایران -- کنگره ها
معرف المضافة: پورشریف، حسین، 1354 -، ویراستار
تصنيف الكونجرس: BP129 /ک8ک2057 1388
تصنيف ديوي: 297/212
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1 8 8 5 5 3 6
مذكّرة أمين اللجنة العلمية للمؤمر
كتاب الكافي الشريف، لمؤّفه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله ، هو أهم وأفضل مؤلّفات الشيعة، ونظرا لما يتمتّع به من ميزات وخصائص جعلت منه كتابا لا نظير له، فقد صار محوراً لظهور وإنتاج قسم واسع من التراث الشيعي، وحظي على مرّ التاريخ باهتمام علماء الشيعة وقدّمت له شروح وتعليقات وترجمات كثيرة.
وقد قامت روضة السيّد عبدالعظيم الحسني ومؤسة دار الحديث العلمية الثقافية بعقد المؤتمر الثالث من مؤتمراتها التي تدور حول محور «تكريم شخصيات مدينة الري وعلمائها» لتكريم ثقة الإسلام الكليني.
والأهداف المتوخّاة من هذا التكريم هي:
1 . التعريف بالشخصية العلمية والمعنوية لثقة الإسلام الكليني.
2. نشر المعارف الحديثية لأهل البيت عليهم السلام.
3. تحقيق ودراسة تراث ثقة الإسلام الكليني.
4. معرفة منزلة وتأثير كتاب الكافي.
وقد بدأت لجنة المؤمر العلمية التخطيطَ العملي لهذا المؤمر بعد إقامة مؤمر تكريم أبي الفتوح الرازي في خريف 1427ق، وخطّطت للبرامج التالية:
1 . تصحيح وتحقيق المخطوطات المتعلّقة بكتاب الكافي، سواء كانت ترجمات أو شروح أو تعليقات أو غيرها.
2. فتح آفاق بحثية جديدة في مجال الكافي.
3. تجزئة وتحليل الانتقادات والأسئلة المتعلّقة بالكافي.
4. تقديم الطبعة المحقّقة من كتاب الكافي.
5. تنظيم المعلومات والآثار المكتوبة المتعلقة بالكليني والكافي وتقديمها في قالب أقراص DVD (الأقراص النورية المتعدّدة الأغراض).
والذي توصّلت إليه اللجنة العلمية خلال سنتين ونيف من السعي هو نشر ما يلي تزامناً مع إقامة المؤمر:
ص: 1
أولاً: نسخة الكافي المحقّقة.
ثانياً: شروح الكافي والتعليقات عليه.
ثالثاً: مجموعة الآثار التي أنتجها المؤمر.
رابعاً: الأعداد الخاصّة من المجلاّت.
خامساً: نشرة أخبار المؤمر.
سادساً: أقراص ال-DVD (الأقراص النورية المتعدّدة الأغراض).
وسنلقي فيما يلي نظرة عابرة إلى هذه العناوين الستّة:
أولاً: الكافي
سيتمّ طبع الكافي طبعة جديدة بعد مقابلته مع المخطوطات القديمة والموثوق بها وبعد التشكيل بالحركات أيضاً، مع تعليقات بهدف رفع الإشكال عن بعض الإسنادات، وبعض الإيضاحات ذات
العلاقة بفقه الحديث.
ثانياً: شروح الكافي وتعليقاته
كتب الكثير من الشروح والتعليقات على كتاب الكافي ولم يطبع منها سوى القليل، وقد سعت اللجنة العلمية لأن تحدّد هذه الشروح والتعليقات، وأن تأخذ على عاتقها تحقيقها وعرضها، وسيتمّ تحقيق الكتب التالية وطباعتها وإعدادها لإقامة المؤمر:
1. الشافي في شرح الكافي، الملاّ خليل بن غازي القزويني، (ت 1089ق) مجلّدان.
2. صافى در شرح كافى (الصافي في شرح الكافي) الملاّ خليل بن غازي القزويني (ت 1089ق) مجلّدان.
3. الحاشية على اُصول الكافي، الملاّ محمد أمين الاسترآبادي (ت 1036ق) مجلّد واحد.
4. الحاشية على اُصول الكافي، السيّد أحمد العلوي العاملي (كان حيّا سنة 1050ق) مجلّد واحد.
5. الحاشية على اُصول الكافي، السيّد بدر الدين الحسيني العاملي (كان حيّا سنة 1060ق) مجلّد واحد.
6. الكشف الوافي في شرح اُصول الكافي، محمد هادي بن محمد معين الدين آصف الشيرازي (ت 1081ق) مجلّد واحد.
7. الحاشية على اُصول الكافي، الميرزا رفيعا (ت 1082ق) مجلّد واحد.
8. الهدايا لشيعة أئمة الهدى (شرح اُصول الكافي) ، الميرزا محمّد مجذوب التبريزي (ت 1093 ق) مجلّدان.
ص: 2
9. الذريعة إلى حافظ الشريعة (شرح اُصول الكافي) ، رفيع الدين محمد بن محمد مؤن الگيلاني (القرن 11ق) مجلّدان
10 و 11. الدرّ المنظوم، الشيخ علي الكبير (ت 1104ق) والحاشية على اُصول الكافي، الشيخ علي الصغير (القرن 12ق) مجلّد واحد.
12. تحفة الأولياء (ترجمة اُصول الكافي) ، محمد علي بن محمد حسن الفاضل النحوي الأردكاني (كان
حياً في 1237ق) 4 مجلّدات.
13. شرح فروع الكافي، محمد هادي بن محمد صالح المازندراني (ت 1120ق) 5 مجلّدات.
14. البضاعة المزجاة (شرح روضة الكافي) ، محمد حسين بن القارياغدي (ت 1089ق) مجلّدان.
15. منهج اليقين (شرح وصية الإمام الصادق للشيعة) ، السيّد علاء الدين محمد گلستانة (ت 1110ق) مجلّد واحد.
16. مجموعة الرسائل في شرح أحاديث الكافي، مجلّدان.
ثالثاً: مجموعة الآثار التي أنتجها المؤمر
المراد من هذا العنوان الآثار التي أنتجتها اللجنة العلمية، وسيتمّ تقديم الآثار التالية في هذا المجال:
1. حياة الشيخ الكليني، ثامر العميدي، مجلّد واحد.
2. توضيح الأسناد المشكلة في الكتب الأربعة أسناد الكافي ، السيّد محمد جواد الشبيري ، مجلّدان .
3. العنعنة من صيغ الأداء للحديث الشريف في الكافي، السيّد محمد رضا الحسيني الجلالي، مجلّد واحد.
4. كافى پژوهى در عرصه نسخه هاى خطى (دراسات في الكافي وفق النسخ الخطيّة) ، علي صدرائي الخوئي، السيّد صادق الأشكوري، مجلّد واحد.
5. كتاب شناسى كلينى و كتاب الكافي (ببلوغرافيا الكليني وكتابه الكافي) ، محمد قنبري ،
مجلّد واحد .
6. شناخت نامه كلينى والكافي (معلومات متناثرة حول الكليني والكافي) ، محمد قنبري ،
4 مجلّدات .
7. كافى پژوهى (تقرير عن الأطروحات ورسائل التخرج المتعلقة بالكليني والكافي) ، السيّد محمد
علي أيازي، مجلّد واحد.
8 . مجموعه مقالات همايش (مجموعة مقالات المؤتمر) مجموعة من الباحثين، 7 مجلّدات.
9 . مصاحبه ها و ميزگردها (الحوارات) ، مجلّد واحد.
ص: 3
رابعاً: الأعداد الخاصة من المجلاّت
سوف تصدر كلّ من مجلّة آينه پژوهش، سفينه، علوم الحديث والبعض الآخر من النشريات، أعداداً خاصة تزامناً مع إقامة المؤمر.
خامسا: نشرة أخبار المؤتمر
سيتمّ طبع أربعة أعداد من نشرة أخبار المؤمر التي تقوم بمهمّة الإعلام قبل المؤمر حتى زمان انعقاده.
سادساً. أقراص ال- DVD
سوف يتمّ تقديم البرنامج الألكتروني لمجموعة آثار المؤمر، مع بعض مخطوطات الكافي، وكذلك الشروح والتعليقات والترجمات المطبوعة لكتاب الكافي في قالب أقراص DVD.
مجموعة المقالات العربية
إحدى نتائج المؤتمر العلمية هو تدوين المقالات المفيدة باللغة العربية عن الكليني والكافي .
وبعد الإعلان العام وصلت مقالات كثيرة للأمانة العامة للمؤتمر . وبعد التقييم العلمي انتخبت 22 مقالة ، واعدت للنشر في مجموعة مقالات المؤتمر . وقد نشرت هذه المقالات في مجلدين .
1 - المجلّد الأول : ويضم 13 مقالة ؛
2 - المجلّد الثاني : ويضم 9 مقالات .
والجدير بالذكر إنّ المقالات الفارسية قد طبعت في خمسة مجلدات .
وفي الختام نقدم شكرنا إلى جميع المثقّفين والمفكّرين، والمنظّمات والمؤّسات العلمية البحثية، التي أسهمت في تحقيق النتائج المرجوّة من هذا المؤتمر، خاصة: سادن روضة السيّد عبدالعظيم عليه السلام
ورئيس مؤسة دار الحديث العلمية الثقافية، سماحة آية اللّه محمد الرَّيشَهري، اللجنة العليا لتعيين أهداف المؤمر، اللجنة العلمية للمؤمر، لجنة العلاقات الدولية، اللجنة التنفيذية، مؤسة البحوث الإسلامية التابعة للروضة الرضوية المقدسة، مركز البحوث الكومبيوترية للعلوم الإسلامية، المدراء العامّين في روضة السيّد عبد العظيم عليه السلام، المدراء والباحثين في مؤسسة علوم الحديث ومعارفه، المسؤولين، الأساتذة والطلاب في كلية علوم الحديث، المسؤلين والعاملين في دار النشر التابعة لدار الحديث.
مهدي المهريزي
الأمين العام للجنة العلمية
1429 ق
ص: 4
مذكّرة أمين اللجنة العلمية للمؤتمر.......... 3
حياة الشيخ الكليني.......... 7
السيّد ثامر العميدي
المحدّث الكليني وأثره الخالد.......... 87
الشيخ جعفر السبحاني
منهجية الكليني في الكافي.......... 101
علي محمود البعاج
عِدّاتُ الكليني ومشايخه.......... 127
الشيخ طه الكافي / بمساعدة السيّد مجتبى صحفي
الراويات النساء من كتاب الكافي للكليني.......... 195
سلمى حسين علوان الموسوي
إحداثيات الفكر الاثني عشري بين الكليني والصدوق ، دراسة فلسفية - كلامية.......... 221
د. علي حسين الجابري
نظرية المعرفة عند الإمامية ، مرويات الكافي مستندا.......... 243
د . عبد الأمير كاظم زاهد
القرآن الكريم كما تصوّره روايات أُصول الكافي.......... 263
الشيخ محمّد علي التسخيري
ص: 1
موقف الكليني من القول بتحريف القرآن في كتاب الكافي.......... 273
د . مديحة خضير كاظم
«صيانة القرآن» بين الخفاء والجلاء.......... 297
حيدر المسجدي
منهج تفسير القرآن بالقرآن في مرويات الكافي للشيخ الكليني.......... 367
د . سيروان عبد الزهرة هاشم
الأثر التفسيري في روايات «الكافي» ، كتاب الزكاة أُنموذجا.......... 407
عدي جواد الحجّار
إشارات إلى تفسير الإمام الصادق عليه السلام في أُصول الكافي ، قراءة تحليلية موازنة.......... 435
د . حميد الفتلي
ص: 2
سخن دبير كنگره
ص: 3
سخن دبير كنگره
ص: 4
سخن دبير كنگره
ص: 5
سخن دبير كنگره
ص: 6
حياة الشيخ الكليني
السيّد ثامر العميدي(1)
عاش الكليني قدس سره في حقبة حاسمة من تاريخ العصر العبّاسي الثاني (232 - 334 ه ) امتدّت من أوائل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وحتّى نهاية الربع الأوّل من القرن الرابع الهجري وزاد عليها بقليل؛ وذلك في مكانين مختلفين، أوّلهما: موطنه الأساس (الريّ)، وثانيهما: عاصمة الدولة العبّاسية (بغداد)، حيث أقام بها زهاء عشرين سنة، الأمر الذي يعني ضرورة تسليط الضوء على أهمّ الجوانب السياسية والفكرية في هاتين الحاضرتين دون غيرهما من الحواضر العلمية الأُخرى المنتشرة في ذلك الزمان والتي وصل الكليني إلى بعضها، ونقل الحديث عن جملة من مشايخها.
وإذا ما علمنا أنّ الكليني قدس سره قد عاش ثلثي عمره تقريبا في الريّ، والثلث الأخير في بغداد، وعلمنا أيضا موقع الريّ الريادي في المشرق الإسلامي يومذاك، وموقع بغداد بالذات، وثقلها السياسي والفكري كعاصمة للدولة، اتّضح أنّ الحديث عنهما بأيّ صعيد كان، هو الحديث عن غيرهما بذلك الصعيد نفسه، ووجود بعض الفوارق الطفيفة لا يبرّر تناولها في عصره السياسي والفكري، سيّما بعد حصر منابع ثقافته
ص: 7
وتطلّعاته في موطنه ومكان إقامته، وانطلاق شهرته إلى العالم الإسلامي منهما لا غير.
وبما أنّ الحياة السياسية والفكرية لأي عصر مرتبطة بماضيها، فسيكون طرح مرتكزاتها من الحسابات الفكرية وإهمال جذورها التاريخيّة وخيما على نتائج دراساتها، ما لم يتمّ الكشف فيها عن نوع ذلك الارتباط، وهو ما لوحظ باختصار في دراسة عصر الكليني سياسيا وفكريا في مبحثين:
تُعدّ الريّ من أوّل المدن التي بُنيت في زمان الأكاسرة بعد مدينة جيومَرْت. ولمّا طال عليها الأمد جدّد بناءها الملك فيروز، وسمّاها (رام فيروز)(1)، ولكنّها تعرّضت - بعد الفتح الإسلامي - للهدم والبناء والتجديد.
ومن المعارك الحاسمة في تاريخها قبل الفتح الإسلامي المعركة التي دارت بين ولدي يزدجرد بالريّ: فيروز وهرمز(2). وتعرّضت لأوّل غزو من العرب قبل الإسلام على يد عمرو بن معديكرب، ثمّ انصرف منها ومات في كرمنشاه(3).
هذا قبل فتحها إسلاميا، وأمّا بعد فتحها فقد اختلف المؤرّخون في تاريخ دخول الإسلام بلاد الريّ، تبعا لاختلافهم في تاريخ فتحها. والمتحصّل من جميع الأقوال أنّ تاريخ فتح الريّ مردّد ما بين الفترة من سنة ثمان عشرة وحتّى سنة ثلاث وعشرين.
وقد شهد قاضي الريّ يحيى بن الضرّيس بن يسار البجلي أبو زكريا الرازي (ت / 203 ه ) على انتفاض الري في زماني عمر وعثمان مرات عديدة(4). ولا شكّ أنّ انتفاضها وتمرّد أهلها خمس مرّات متعاقبة في أقلّ من عشر سنين! يشير بوضوح
ص: 8
إلى سوء تصرّف الفاتحين، كتخريبهم المدينة وهدمها. ولعلّ ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام يشير إلى هذه الحقيقة، إذ أوقف زحف الجيوش الإسلامية ريثما يستتبّ إصلاح الأُمّة من الداخل.
ولم يُؤْثَر عن أهل الريّ طيلة مدّة خلافة أمير المؤمنين الفعلية وخلافة الحسن السبط عليهماالسلام أي انفصال أو انتفاض أو تمرّد يذكر، بخلاف ما كان عليه حالهم في زماني عمر وعثمان.
وحينما ظهرت دولة الطلقاء من بني أُمية امتدّ نفوذها إلى الريّ، وَوَلِيَها لمعاوية كثير بن شهاب الحارثي(1).
ومن الحوادث السياسية المهمّة التي شهدتها الري في أوائل حكم الأمويين قوّة الخوارج المتنامية، حيث اتّخذها من أرتثّ من الخوارج يوم النهروان موطنا كحيّان بن ظبيان السلمي وجماعته، الذين شكّلوا فيما بعد حزبا سياسيّا قويّا تبادل النصر والهزيمة في معارك طاحنة مع الأمويين.
كما تعرّضت الري في أواخر العهد الأموي إلى ثورات الطالبيين، فظهر عليها سنة (127 ه ) عبداللّه بن معاوية بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب وسيطر عليها(2).
وكان آخر ولاة الأمويين على الريّ حبيب بن بديل النهشلي الذي خرج من الري ومن معه من أهل الشام خشية من جيوش العبّاسيين بقيادة الحسن بن قحطبة بن شبيب.
وانتهت فترة حكم الأمويين على بلاد الري قبل قيام الدولة العبّاسية بسنة واحدة، ولم يكن حال الري سياسيا في ظلّ الدولة العبّاسية التي نشأت سنة (132 ه ) بأحسن ممّا كانت عليه في دوله الأمويين؛ إذ سرعان ما انفصلت الري عن دولتهم بعيد
ص: 9
نشأتها، وذلك بعد قيام المنصور العبّاسي بقتل داعية العبّاسيين أبي مسلم الخراساني سنة (137 ه ).
ثمّ نالت الريّ بعد ذلك اهتمام بني العبّاس ورعايتهم، نظرا لموقعها الجغرافي المميّز.
ولتعسّف السلطة العبّاسية، تفجّرت الثورات العلوية في أماكن شتّى، واستجاب أهل الري لتلك الثورات، وأسهموا فيها بشكل كبير. فأنشأ الحسن بن زيد العلوي الدولة العلوية في طبرستان في زمان المستعين (248 - 252 ه )، وسرعان ما امتدّ نفوذها إلى الري. ولم يدم الأمر هكذا، إذ تمكن قوّاد المعتزّ (252 - 255 ه-) من الترك في أواخر عهده من السيطرة على الري في سنة (255 ه ). وخضعت الري إلى سلطة الأتراك وتعاقب ولاتهم عليها.
ولم يلبث حال الري عرضة للأطراف المتنازعة عليها إلى أن تمكّن أبو علي ابن محمّد بن المظفّر صاحب جيوش خراسان للسامانيين من دخول الري سنة (329 ه ). ولم يستتب أمر الري بيد البويهيين ، إذ نازعهم عليها الخراسانيون من السامانيين، إلى أن تمكّن البويهيون بقيادة ركن الدولة البويهي من الري فانتزعوها من أيدي السامانيين في سنة (335 ه )(1)، أي بعد ستّ سنين على وفاة ثقة الإسلام الكليني ببغداد.
وبهذا نكون قد توفّرنا على الإطار السياسي الواضح الذي كان يلفّ الري منذ فتحها الإسلامي وإلى نهاية عصر الكليني الذي احتضن ثقة الإسلام زمانا ومكانا.
امتازت الري عن غيرها من بلاد فارس بموقعها الجغرافي، وأهميّتها الاقتصادية، فهي كثيرة الخيرات وافرة الغلاّت، عذبة الماء، نقيّة الهواء، مع بعدها عن مركز الخلافة
ص: 10
العبّاسية ببغداد، زيادة على كونها بوّابة للشرق في حركات الفتح الإسلامي، ومتجرا مهمّا في ذلك الحين.
ولشهرة الري وموقعها، قصدها بعض الصحابة(1)، وكبار التابعين وتابعيهم، كسعيد بن جبير، حيث كانت له رحلة شملت مدينة الري، والتقى به الضحّاك (ت 105 ه ) وكتب عنه التفسير في الري(2). ووصل الشعبي (ت 103 ه ) إلى الري ليدخل على الحجّاج يوم كان عاملاً لطاغية عصره عبدالملك بن مروان علي الري(3). كما دخلها سفيان الثوري (ت 161 ه )(4).
ومات في الري الكثير من الأعلام والفقهاء والمحدّثين والأدباء والشعراء والقوّاد، كمحمّد بن الحسن الشيباني، والكسائي النحوي، والحجّاج بن أرطاة، وغيرهم. وكان للشعراء والأُدباء حضور بارز في تلك المدينة.
ضمّت الري في تاريخها الإسلامي خليطا من المذاهب والفرق والتيّارات الفكرية المتعدّدة، وكانت جذور هذا الخليط الواسع ممتدّة في تاريخ الري، ممّا نجم عن ذلك ثقل ما وصل إلى زمان الكليني رحمه الله من التراث بكلّ مخلّفاته، والذي ابتعد في كثير منه عن الإسلام روحا ومعنىً، ومعرفة كلّ هذا يفسّر لنا سبب طول الزمان الذي استغرقه ثقة الإسلام في تأليف الكافي الذي تقصّى فيه الحقائق، ودرس الآراء السائدة في مجتمعه، واستوعب اتّجاهاتها، ومحّصها بدقّة، حتّى جاء بالإجابة الشافية على جميع ما كان يحمله تراث الري من تساؤلات.
وفيما يأتي استعراض سريع لما شهدته الري من مذاهب وفرق وآراء، وهي:
ص: 11
كان الطابع العامّ لمجتمع الري بعد فتحها الإسلامي، هو الدخول التدريجي في الدين الجديد بمعناه الإسلامي العريض؛ إذ لم تكن هناك مذاهب وفرق، وإنّما انحصر الأمر في اعتناق الإسلام بإعلان الشهادتين، ولا يمنع هذا من الميل إلى بعض الاتّجاهات الفكرية المتطرّفة. ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ قرب العهد بالدين الجديد مع اختلاط أوراقه بين نظريتين، جعل إسلام الرازيين - في ذلك الحين - غضّا طريا قابلاً لأن يتأثّر بأيّ اتجاه ويصطبغ بلونه، ومن هنا كانت لبقيّة الخوارج الذين ارتثوا في معركة النهروان صوت يسمع في بلاد الري، حيث اتّخذوها موطناً، ومنها خرجت أنصارهم في معاركهم العديدة مع الأمويين.
انتقل النصب - وهو عداوة أهل البيت عليهم السلام - إلى الريّ منذ إن وطأت أقدام الأمويين السلطة بعد صلح الإمام الحسن السبط عليه السلام سنة (41 ه )، حيث سنّ معاوية بدعته في سبّ أمير المؤمنين عليه السلام على منابر المسلمين، وكان منبر الري واحدا منها!
ولا شكّ في أنّ بقاء بدعة سب الوصي عليه السلام زهاء ستّين عاما كافية لأنّ تنشأ عليها أجيال لا تعرف من إسلامها شيئا إلاّ من عصم اللّه.
ونتيجة لوجود الهوى الأموي السفياني بين أهل الري، فقد انتشرت في أوساطهم عقيدة الإرجاء واستمرّ وجودها إلى زمان ثقة الإسلام الكليني، تلك العقيدة الخبيثة التي شجّعتها الأموية لتكون غطاء شرعيّا لعبثها في السلطة، ومبرّرا لاستهتارها بمقدّرات الأمّة.
تأثّرت الري كغيرها من مدن الإسلام بآراء المدرستين الآتيتين، وهما:
ص: 12
1 - المدرسة السلفية، وهي المدرسة التي كانت تهدف إلى إحياء المفاهيم السلفية الموروثة عن السلف وتحكيمها في مناحي الحياة، ورفض المناظرة والجدل، ويمثّل هذه المدرسة الفقهاء والمحدّثون من العامّة، وقد بسطت هذه المدرسة نفوذها على مجمل الحركة الفكرية في بلاد الإسلام، إلاّ في فترات محصورة ومحدودة ترجّحت فيها كفة المدرسة الثانية.
2 - المدرسة العقلية، وهي المدرسة التي استخدمت المنهج العقلي في فهم وتحليل جملة من النصوص التي تستدعي التوفيق بين أحكام الشرع وأحكام العقل، وكان روّاد هذه المدرسة الشيعة والمعتزلة، حيث اعتمدوا المنهج العقلي في تفسير ما لم يرد فيه أثر صحيح.
وكان الصراع بين المدرستين يشتدّ تارة ويخفّ أو يتلاشى أُخرى، بحسب مواقف السلطة ومبتنياتها الفكرية، ولهذا نجد انتعاش المدرسة العقلية في عهد المأمون (198 - 218 ه ) ؛ لميله إليها، وحتّى عهد الواثق (227 - 232 ه )، ولمّا جاء المتوكّل (232 - 247 ه ) أظهر ميله إلى المدرسة السلفية، وأرغم الناس على التسليم والتقليد، ونهاهم عن المناظرة والجدل ، وعمّم ذلك علي جميع بلاد الإسلام(1). وسار على نهجه المعتمد والمعتضد(2).
وممّن عرف من رجال المدرسة السلفية في بلاد الري، الفضل بن غانم الخزاعي. ومن أنصار المعتزلة في الري قاضيها جعفر بن عيسى بن عبداللّه بن الحسن بن أبي الحسن البصري (ت 219 ه )، حيث كان يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن أيّام المحنة ببغداد.
كان للزيديّة وجود في بلاد الري، ويدلّ عليه دخول جماعة من أهل الري على
ص: 13
الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام ببغداد، وكان فيهم رجل زيدي وجماعته لا يعلمون مذهبه، فكشف لهم الإمام عليه السلام عن مذهبه(1)، ومن المستبعد أن يكون هو الزيدي الوحيد في تلك البلاد، كما أنّ في قادة الدولة العلوية في طبرستان من أعلام الزيديّة الكثير.
وهم أتباع الحسين بن محمّد النجّار ، وقد افترقت بناحية الري إلى فرق كثيرة يكفّر بعضها بعضا(2)، وقد عدّ المصنّفون في المقالات فرق النجّارية من الجبرية(3) في حين أنّهم وافقوا المعتزلة في كثير من المسائل.
وذكر الاسفراييني أنّ فرق النجارية في الري أكثر من عشر فرق ، إلاّ أنّه اكتفى بذكر أشهرها، ومثله فعل الشهرستاني في الملل، إذ ذكرا ثلاث فرق فقط هي : البرغوثية ، والزعفرانية ، والمستدركة.
انحصر وجود المذاهب العامّية بالري في مذهبين، وهما: المذهب الحنفي، والشافعي. وأمّا المذهب المالكي فقد كان امتداده في المغرب الإسلامي بفضل تلامذة مالك بن أنس، ولم يمتدّ إلى المشرق الإسلامي كثيرا، وأمّا عن مذهب أحمد بن حنبل، فهو أقلّ المذاهب الأربعة أتباعا، وآخرها نشأة، ولم تكن له تلك القدرة العلمية الكافية التي تسمح له بالامتداد خارج محيطه بغداد في عصر نشأته، سيّما وأن أحمد بن حنبل لم يكن فقيها، بل كان محدّثا؛ ولهذا أهمله الطبري - المعاصر لثقة الإسلام الكليني - في كتابه الشهير اختلاف الفقهاء. الأمر الذي يفسّر لنا عدم امتداد
ص: 14
فكر أتباعه في عصر الكليني إلى الريّ على الرغم من وقوف السلطة العبّاسية إلى جانب الحنابلة بكلّ قوة.
ومهما يكن فإنّ أغلب أهل الري كانوا من الحنفية والشافعية، وأكثرهم من الأحناف، كما صرّح به الحموي(1). ثم انحسر الوجود العامّي في الري بعد سنة (275 ه ).
ونتيجة لهذا الخليط الواسع في الري، من نواصب وزيدية ومعتزلة وجبرية وأحناف وشافعية، فقد ظهر الكذّابون والمتروكون في تلك البلاد. كما كثر المنجّمون في تلك البلاد بصورة واسعة.
إنّ اتّفاق جميع من كتب في المقالات والفرق على أسبقيّة التشيّع على سائر المذاهب والفرق التي نشأت في الإسلام، لهو دليل كافٍ على صدق ما تدّعيه الشيعة من عراقة مذهبها، وكونه المعبّر الواقعي عن مضمون رسالة الإسلام، ومن هنا حمل التشيّع عناصر البقاء وأسباب الخلود على رغم العواصف العاتية التي وقفت حائلاً بوجه امتداده.
وهكذا كان للضغط السياسي المتواصل على الشيعة دورا في امتداد التشّيع خارج رقعته الجغرافية، بحيث استطاع في الشرق أنّ يمصِّرَ مدنا ويبني دولة في الطالقان، وأن يؤسّس في الغرب الإسلامي دولة كبرى لا زال أزهر مصر يشهد على فضلها وآثارها.
وبعد هذه المقدّمة الخاطفة لنرى كيف استطاع التشيّع أن يشقّ طريقه إلى الري بعد أن عرفنا نصبها وعداوتها لأهل البيت عليهم السلام، فضلاً عمّا كان فيها من اتّجاهات مذهبية وطوائف مختلفة، مضافاً لموقف السلطة المساند لهذا الاتّجاه أو ذاك ما خلا
ص: 15
الشيعة؟
كانت الصفة الغالبة على أهل الري قبل عصر الكليني هي الأموية السفيانية الناصبة، مع تفشّي الآراء المتطرّفة والأفكار المنحرفة، والفرق الكثيرة التي لا تدين بمذهب آل محمّد صلى الله عليه و آله . لكن لم يعدم الوجود الشيعي في الري، وإنّما كان هناك بعض الشيعة من الرازيين الذين اعتنقوا التشيّع تأثّرا بمبادئه، وساعدهم على ذلك وجود بعض الموالي الشيعة من الفرس في الكوفة في زمان أمير المؤمنين عليه السلام ، مضافاً لمن سكن الري من شيعة العراق، ومن استوطنها من أبناء وأحفاد أهل البيت عليهم السلامالذين جاؤوها هربا من تعسّف السلطات. ويظهر من خلال بعض النصوص أنّ الشيعة فيها كانوا في تقيّة تامّة، حتّى بلغ الأمر أنّ السيد الجليل عبدالعظيم الحسني الذي سكن الري وكان من أجلاّء أصحاب الإمامين الهادي والعسكري عليهماالسلام ، لم يعرفه أحد من شيعة الري إلى حين وفاته، حيث وجدوا في جيبه - وهو على المغتسل - رقعة يذكر فيها اسمه ونسبه!
امتاز العصر العبّاسي الأوّل (132 - 232 ه ) بسيطرة العبّاسيين على زمام الأُمور سيطرة محكمة، وإدارة شؤون الدولة بحزم وقوّة، بخلاف العصر العبّاسي الثاني الذي ابتدأ بمجيء المتوكّل إلى السلطة وانتهى بدخول البويهيين إلى بغداد سنة (344 ه ) حيث تدهورت فيه الأوضاع السياسية كثيرا لاسيّما في الفترة الأخيرة منه، وهي التي عاشها الكليني ببغداد، فلابدّ من إعطاء صورة واضحة للمؤثّرات السياسية والفكرية التي أسهمت في تكوين رؤية الكليني للمجتمع الجديد وتساؤلاته التي حاول الإجابة عليها في كتابه الكافي، فنقول:
يرجع تدهور الحياة السياسية ببغداد في عصر الكليني إلى أسباب كثيرة أدّت إلى
ص: 16
سقوط هيبة الدولة من أعين الناس، إليك أهمّها :
وهو نظام سياسي عقيم، وخلاصته: أن يعهد (الخليفة) بالخلافة لمن يأتي بعده مع أخذ البيعة له من الأُمّة كرها في حياته، وهو بهذه الصورة يمثّل قمّة الاستبداد وإلغاء دور الأُمّة وغمط الحقوق السياسية لجميع أفرادها .
وممّا زاد الطين بلّة إعطاء ولاية العهد لثلاثة، وهو ما فعله المتوكّل الذي قسّم الدولة على ثلاثة من أولاده، وهم: المنتصر، والمعتزّ، والمؤيّد(1)، ممّا فسح - بهذا - المجال أمامهم للتنافس ومحاولة كلّ واحد عزل الآخر من خلال جمع الأعوان والأنصار، بحيث أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى معارك طاحنة كما حصل بين الأمين والمأمون.
وانتهى هذا النظام بعد قتل المتوكّل، إلاّ أنّ البديل كان أشدّ عقما؛ إذ صار أمر تعيين (الخليفة) منوطا بيد الأتراك، مع التزامهم بعدم خروج السلطة عن سلالة العبّاسيين .
مما أدّى إلى تفاقم الأوضاع في هذا العصر، انشغال الخلفاء العبّاسيين بالعبث واللهو، إلى حدّ الاستهتار بارتكاب المحرّمات علنا بلا حريجة من دين أو واعز من ضمير.
وقد عُرِفَ عبثهم ومجونهم منذ عصرهم الأوّل، فالمنصور العبّاسي (136 - 158 ه-) مثلاً كان في معاقرته الخمر يحتجب عن ندمائه؛ صونا لمركزه، في حين أعلن ولده المهدي (158 - 169 ه-) ذلك، وأبى الاحتجاب عن الندماء.
وقد بلغ الأمر في العصر العبّاسي الأوّل أن ظهر من البيت الحاكم نفسه رجال ونساء عرفوا بالخلاعة والمجون والطرب والغناء. حتّى إذا ما أشرف عصرهم الأوّل على نهايته بالواثق تفشّى الغناء والطرب والمجون بين أرباب الدولة.
ص: 17
من آفات هذا العصر التي أدّت إلى انتكاسات سياسية خطيرة، مجيء الصبيان إلى السلطة ، حتّى صاروا ألعوبة بيد النساء والأتراك والوزراء والجند وغيرهم من رجال الدولة، نظير المقتدر باللّه (295 - 320 ه ) الذي كان عمره يوم وُلي الخلافة ثلاث عشرة سنة(1)؛ ولهذا استصباه الوزير العبّاس بن الحسن، حتّى صار ألعوبة بيده. وكان صبيّا سفيها، فرّق خزينة الدولة على حظاياه وأصحابه حتّى أنفدها(2).
يرجع تاريخ تدخّل النساء في شؤون الدولة العبّاسية إلى عصرها الأوّل، وتحديدا إلى زمان الخيزران زوجة المهدي العبّاسي التي تدخّلت في شؤون دولته، واستولت على زمام الأُمور في عهد ابنه الهادي (169 - 170 ه )(3)، وكذلك في هذا العصر حيث تدخّلت قبيحة أمّ المعتزّ في شؤون الدولة(4).
واستفحل أمر النساء والخدم في عهد المقتدر ، قال ابن الطقطقي:
كانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم، وهو مشغول بلذّته، فخربت
الدنيا في أيّامه، وخلت بيوت الأموال(5).
وذكر مسكويه ما كان لقهرمانات البلاط العبّاسي من دور كبير في رسم سياسة الدولة(6).
من الأُمور البارزة في تاريخ هذا العصر، ظهور العنصر التركي وسيطرته على مقاليد
ص: 18
الأُمور، الأمر الذي يعبّر لنا عن ضعف السلطة المركزية وتدهورها؛ لانشغالهم بلهوهم ومجونهم، مما تسبّب في سيطرة الأتراك على الدولة وتدخّلهم المباشر في رسم سياستها، ويرجع تاريخ تدخّلهم في ذلك إلى عهد المعتصم (218 - 227 ه )؛ لأنّه أوّل من جلبهم إلى الديوان، ثمّ صار جلّ اعتماده عليهم في توطيد حكمه، فانخرطوا في صفوف الجيش، وترقّوا إلى الرتب والمناصب العالية، فقويت شوكتهم إلى أن تفرّدوا بالأمر ، غير تاركين لسادتهم الخلفاء سوى سلطة اسمية، وأصبح الخليفة كالأسير بيد حرسه.
وعانى بنو العبّاس من العنصر التركي وبال ماجنته أيديهم، وذاقوا منهم الأمرين، حتّى صار أمر البلاد بأيديهم يقتلون ويعزلون وينصبون من شاؤوا.
وفي عهد المستعين باللّه، غَلَب أوتامش ابن اُخت بغا الكبير على التدبير والأمر والنهي(1)، وكان المستعين أُلعوبة بيد وصيف وبغا الكبير، ثمّ خلعوه وبايعوا المعتزّ، ثمّ بدا لهم قتل المستعين فذبحوه كما تذبح الشاة، وحملوا رأسه إلى المعتزّ(2). وكذا المعتزّ فقد غُلِب على أمره، وتفرّد بالتدبير صالح بن وصيف(3).
وأمّا المهتدي (255 - 256 ه ) فقد خلعه الأتراك، وهجموا على عسكره فأسروه وقتلوه . وأمّا المقتدر فقد بايعه الأتراك وعزلوه ، ثمّ أعادوه أكثر من مرّة.
وأمّا القاهر باللّه (320 - 322 ه ) فسرعان ما خلعوه من السلطة، وسملوا عينيه بمسمار محمي حتّى سالتا على خدّيه. وكذا الراضي (322 - 329 ه ) ومن جاء بعده كالمتّقي (329 - 333 ه-)، والمستكفي (333 - 334 ه-) الذي دخل البويهيون في زمانه إلى بغداد، حيث سملت أعينهم جميعاً.
ص: 19
مرّت الوزارة في ظلّ الدولة العبّاسية في هذا العصر بتجارب قاسية، وثبت فشلها في عصر الكليني ببغداد، إذ أخفق الوزراء في أعمالهم، ولم يحسنوا القيام بأعباء وزاراتهم، وكان همّهم الاستحواذ على أكبر قدر من الأموال، غير آبهين بشؤون الدولة وأمن الناس، بل كانوا إلبا مع الأتراك في معظم ما حصل من عزل وتنصيب! ويكفي مثالاً على ما وصلت إليه الوزارة في زمان ثقة الإسلام ببغداد ما ذكره الصابي بشأن وزراء المقتدر كأبي الحسن بن الفرات الذي ولي الوزارة ثلاث دفعات ، وكان يُعزل بعد كلّ مرّة ويُهان ويحبس ويؤتى بوزير جديد، ثمّ يعزل الوزير الجديد ويهان ويحبس، ويعاد ابن الفرات للوزارة، وهكذا حتّى قُتل بعد عزله للمرّة الثالثة وقطعوا رأسه ورأس ولده المحسن(1).
بما أنّ الحديث عن هذه الثورات والتي أحاطت بالدولة من كلّ مكان يخرجنا عن أصل الموضوع، نشير إلى أهمّها كالآتي:
1 - الثورات العلوية: وهي كثيرة ، لا سيّما في مطلع ذلك العصر التي امتدّت من الطالقان شرقا، في حدود سنة (250 ه )، وإلى الدولة الفاطمية غربا في سنة (296 ه )(2).
2 - حركة الزنج: التي فتَّت عضد الدولة العبّاسية كثيرا وراح ضحيّتها أُلوف الناس(3).
3 - حركة القرامطة: وهي من أعنف الحركات وأكثرها خطورة لا على الحكومة العبّاسية فحسب، بل على الإسلام ومثله العليا أيضا، ولهذا تجرّد ثقة الإسلام
ص: 20
الكليني رحمه الله للردّ على هذه الحركة(1).
4 - ظهور الخوارج المارقة في الموصل(2).
بسبب ضعف السلطة المركزية ببغداد وتدهورها شهدت الدولة الإسلامية في عصر الكليني انفصالاً واسعا لبعض الأقاليم، واستقلالاً كليّا لجملة من الأطراف، كما هو حال الدولة الأموية في الأندلس والفاطمية في شمال أفريقيا وغيرها.
وصفوة القول: إنّ العصر العبّاسي الثاني الذي عاش الكليني أواخره ببغداد، كان عصرا مليئا بالمشاكل السياسية للأسباب المذكورة، وكان من نتائج ذلك أنْ عمّ الفساد، وانتشرت الرشوة، وضاعت الأموال، وابتعد الناس عن الإسلام ، لا سيّما (خلفاء المسلمين) وقادتهم ووزرائهم، وهذا ما دفع حماة الشريعة إلى ذكر فضائحهم وعتوّهم كلّما سنحت لهم الفرصة، كما فعل الكليني رحمه الله الذي بيّن في كتاب القضاء من الكافي تهافت أُصول نظريّات الحكم الدخيلة على الفكر الإسلامي، فضلاً عمّا بيّنه في كتاب الحجّة وغيره من كتب الكافي من انحراف القائمين على تلك النظريات الفاسدة بأقوى دليل، وأمتن حجّة، وأصدق برهان.
استمرّت الحياة الثقافية والفكرية في عصر الكليني ببغداد بسرعة حركتها أكثر بكثير ممّا كانت عليه في العصر العبّاسي الأوّل ، وقد ساعد على ذلك ما امتازت به بغداد على غيرها من الحواضر العلمية، بتوفّر عوامل النهضة الثقافية والفكرية فيها أكثر من غيرها بكثير؛ فهي عاصمة لأكبر دولة في عصر الكليني، وتمثّل دار الخلافة وبيت
ص: 21
الوزارة والإمارة، ومعسكر الجند، ورئاسة القضاء، وديوان الكتابة، وفيها بيت المال، وإليها يجبى الخراج. وأمّا موقعها الجغرافي فليس له نظير، فأهمّ الأقاليم الإسلامية يومذاك أربعة: بلاد فارس، والحجاز، ومصر، والشام ، وهي أشبه ما تكون بنقاط متناسبة البعد وموزّعة على محيط دائرة إسلامية مركزها بغداد.
كما ضمّت قبري الإمامين موسى بن جعفر، ومحمّد بن عليّ الجواد عليهماالسلام، ومن هنا فهي مهبط روحي للشيعة، وعامل جذب للعلماء من كلّ مذهب، فلا تكاد تجد فقيها أو مفسّرا أو محدّثا أو أديبا من سائر المسلمين إلاّ وقد شدّ ركابه إليها.
ثانياً : أوجه النشاط الثقافي والفكري والمذهبي ببغداد
الملاحظ في ذلك العصر هو اجتماع جميع المذاهب الإسلامية ببغداد، من الشيعة الإمامية، والزيدية، والواقفة، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والظاهرية، والطبرية، والمعتزلة، مع بروز عدد كبير من فقهاء كلّ مذهب، حتّى تألّق الفقة الإسلامي تألّقا كبيرا في هذا العصر، وممّن برز في هذا العصر جملة من أعلام وفقهاء سائر المذاهب الإسلامية .
فمن المالكية: إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو الفرج عمر بن محمّد المالكي .
ومن الأحناف: عبدالحميد بن عبدالعزيز، وأحمد بن محمّد بن سلمة.
ومن الشافعية: محمّد بن عبداللّه الصيرفي، ومحمّد بن أحمد بن إبراهيم الشافعي.
ومن الحنابلة الحشوية والمجسّمة: ابن الحربي، وعبداللّه بن أحمد بن حنبل.
ومن الظاهرية: محمّد بن علي بن داوود، وابن المغلّس أبو الحسن عبداللّه بن أحمد.
ومن الطبرية: مؤسّس المذهب الطبري محمّد بن جرير المفسّر.
ومن الشيعة الزيدية: عبدالعزيز بن إسحاق، أبو القاسم الزيدي المعروف بابن البقّال.
ص: 22
ومن الواقفة: محمّد بن الحسن بن شمّون، أبو جعفر البغدادي.
ومن المعتزلة: الجبائي المعتزلي، وكان رأسا في الاعتزال.
وأمّا الحديث عن فقهاء وعلماء الشيعة الإمامية ببغداد فسيأتي في مكان لاحق.
كما ازدهرت علوم اللغة العربية، وبرز عدد كبير من النحاة، والأدباء، والكتّاب، والشعراء من البغداديين أو الذين وصلوا إليها وأملوا علومهم على تلامذتها، من أمثال المبرد، وثعلب، والزجّاج، وابن السرّاج. ومن الشعراء: البحتري ، وابن الرومي وغيرهما. كما شهد النثر نقلة جديدة في تاريخه في هذا العصر ببغداد، وهو ما يعرف بالنثر الفنّي .
ومن خصائص هذا العصر التطوّر الكبير الذي شهده الخطّ العربي، حيث استُبدِل الخطّ الكوفي المعقّد بخطّ النسخ الرشيق السهل. ممّا ساعد على سرعة الكتابة والاستنساخ. كما نشط المؤلّفون في هذا العصر في علوم الشريعة الإسلامية وغيرها كالتفسير، والتاريخ، والجغرافية، والطبّ، والهندسة، والرياضيّات، والفلك، والفلسفة.
ومن معالم النشاط الثقافي في هذا العصر ببغداد الاندفاع نحو ترجمة الكتب النفيسة من السريانية، واليونانية، والفارسية إلى اللغة العربية.
ونتيجة منطقية لهذه الحركة الواسعة من التأليف والترجمة طفحت حوانيت الورّاقين بالكتب، وما أكثر الورّاقين ببغداد في ذلك العصر. وبلغ شغف العلماء بالكتب في عصر الكليني درجة تفوق الوصف، بحيث أنّ قسما منها كان يُكتب بماء الذهب، وكانت مكتبة سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي التي أنشأها بالكرخ من بغداد سنة (381 ه ) تضمّ الآلاف من تلك الكتب القيّمة. ولكن الطائفية البغيضة جنت على حضارة الأُمّة، فأحرقت بهمجيّتها تراثها العتيد.
ص: 23
هناك الكثير من الأُمور الغامضة في الحياة الشخصية لعباقرة الشيعة، لم تزل طرق البحث موصدة أمام اكتشافها؛ لعدم وجود ما يدلّ على تفاصيل تلك الحياة، خصوصا بعد حرق مكتبات الشيعة في القرن الخامس الهجري. ولا يفيدنا علم الرجال إلاّ شذرات من هنا وهناك. وأمّا علم التراجم، فعلى الرغم من تأخّر نشأته، وضياع أُصوله الاُولى، لا زال إلى اليوم يفتقر إلى الأُسس الموضوعية التي لابدّ من مراعاتها، ولا يكفي وصول بعض مؤلّفاتهم أو كلّها لإزالة ذلك الغموض؛ لاختصاص كلّ كتاب بموضوعه؛ فكتب الحديث مثلاً لا تدلّنا على أصل مؤلّفيها، ولا توقفنا على عمود نسبهم ولا تاريخ ولاداتهم أو نشأتهم، وهكذا في أُمور كثيرة أُخرى تتّصل بهويّتهم، وإن أفادت كثيرا في معرفة ثقافتهم وفكرهم وتوجّههم. وانطلاقا من هذه الحقائق المرّة سنحاول دراسة الهوية الشخصية للكليني بتوظيف كلّ ما من شأنه أن يصوِّر لنا جانبا من تلك الهوية، لنأتي بعد ذلك على دراسة شخصيته العلمية وبيان ركائزها الأساسية، كالآتي:
هو محمّد بن يعقوب بن إسحاق، بلا خلاف بين سائر مترجميه، إلاّ من شذّ منهم من علماء العامّة، كالوارد في الكامل في التاريخ في حوادث سنة (328 ه ) حيث قال:
وفيها تُوفّي محمّد بن يعقوب، وقُتِل محمّد بن علي أبو جعفر الكليني، وهو من أئمّة الإمامية، وعلمائهم(1).
ولعلّ من الطريف أنّي لم أجد من اسمه (محمّد بن علي بن إسحاق، أبو جعفر
ص: 24
الكليني) في جميع كتب الرجال لدى الفريقين، لا في عصر الكليني، ولا في غيره. ومنه يتبيّن غلط ابن عساكر وابن الأثير، وفي المثل: «أهل مكّة أعرف بشعابها».
يكنّى الكليني رحمه الله بأبي جعفر، بالاتّفاق، ولعلّ من المناسب أن نشير هنا إلى أنّ مؤلفي أهمّ كتب الحديث عند الإمامية وهم المحمّدون الثلاثة، كلّهم يُكنّى بأبي جعفر.
عُرِف قدس سره بألقاب كثيرة يمكن تصنيفها - بحسب ما دلّت عليه - إلى صنفين، هما:
وهي أربعة ألقاب، دلّ الأوّل والثاني منها على المكان الذي ولد فيه ونشأ وتربّى وأخذ العلم في ربوعه، بينما دلّ الثالث والرابع على المكان الذي استقرَّ فيه إلى أن وافاه الأجل:
هو نسبة إلى «كُلَيْن»، قرية من قرى الريّ. وهذا اللقب من أشهر ألقابه المكانية قاطبة، ومن شهرته أنّه غلب على اسمه، ولا ينصرف إلى أحد - عند الإطلاق - إلاّ إليه، على الرغم ممّن تلقّبوا به قبله أو بعده.
جدير بالذكر أنّ قرية كلين اختلف العلماء في ضبطها كثيرا، كما اختلفوا في تحديد موقعها الجغرافي أيضا، الأمر الذي لابدّ من تناوله فنقول:
تقع قرية كُلَيْن جنوب مدينة الريّ التابعة لطهران، وهي تابعة - حسب التقسيم الإداري حالياً - إلى مدينة حسن آباد الواقعة على طريق (طهران - قمّ) على يسار القادم من طهران، ويبعد مدخلها عن طهران بمسافة (35) كيلومتراً، وعن قمّ (91) كيلومتراً. ومن مدخل المدينة إلى رأس هذا الشارع مسافة (4) كيلومترات.
ص: 25
هو نسبة إلى الريّ، المعروفة حاليا باسم (شهر ري) أي مدينة الري، وهي من الأحياء الكبيرة في جنوب العاصمة طهران، وحرف (الزاي) من زيادات النسب.
وسبب تلقيب الكليني رحمه الله بالرازي إنّما هو على أساس تبعية قرية كلين لمدينة الري، مع أنّ الكليني قد سمع الحديث من مشايخ الري، وروى عنهم كثيرا جدّا في الكافي، ممّا يشير إلى انتقاله إلى الري في بداية حياته العلمية، وبقائه فيها إلى أن بلغ ذروة شهرته، حتّى قال النجاشي في ترجمته: «شيخ أصحابنا في وقته بالري، ووجههم»(1).
وهو نسبة إلى بغداد عاصمة الدولة العبّاسية، وهذا اللقب والذي يليه هما من ألقابه المكانية المعبّرة عن تحوّله من الري إلى بغداد، حيث بقي فيها زهاء عشرين عاما إلى أن وافاه أجله المحتوم.
عرف الكليني رحمه الله بلقب (السلسلي) نسبة إلى درب السلسلة ببغداد، حيث نزل في هذا الدرب واتّخد له مسكنا هناك، ويقع هذا الدرب في منطقة باب الكوفة ؛ أحد أبواب بغداد الأربعة، وتقع في الجانب الشرقي من بغداد في محلّة الكرخ.
هي الألقاب التي عبّرت عن شخصيّة الكليني العلميّة، ويمكن تقسيمها إلى قسمين، هما:
ص: 26
وُصِفَ الكليني على لسان الكثير من علماء العامّة بأوصاف علمية لا تقلّ عمّا وصفه به علماء الإمامية، ومن تلك الألقاب الكثيرة لقب (المجدّد) يعني: مجدّد المذهب الإمامي على رأس المئة الثالثة.
لمّا كان الكليني رحمه الله «. .. في العلم، والفقه، والحديث، والثقة، والورع، وجلالة الشأن، وعظم القدر، وعلوّ المنزلة، وسموّ الرتبة، أشهر من أن يحيط به قلم، ويستو فيه رقم»(1) فلا غرو في أن يوصف بما يليق بشأنه، ولكثرة تداول بعض تلك الأوصاف صارت علما له مثل: (رئيس المحدّثين)، إلاّ أنّ شهرة الشيخ الصدوق بهذا اللقب جعلته ينصرف إليه عند الإطلاق، خصوصا مع قلّة استعماله بحقّ الكليني في الكتابات المعاصرة، وغلبة لقب (ثِقة الإسلام) الذي صار علما للكليني رحمه الله دون من سواه.
وسنبحثها من جهتين، وهما:
1 - تاريخها: لم يؤرّخ أحد ولادة الشيخ الكليني، ولهذا يتعذّر علينا معرفة مدّة عمره بالضبط . نعم يمكن تلمّس القرائن التي تفيدنا - على نحو التقريب - في تقدير عمره، ومن تلك القرائن:
أ - إنّه وُصِفَ من المجدّدين على رأس المئة الثالثة، والمجدّد لا يكون مجدّدا دون سنّ الأربعين عادةً، وهذه القرينة تعني أنّ ولادته كانت في حدود سنة (260 ه ).
ب - إنّه حدّث في الكافي عن بعض المشايخ الذين ماتوا قبل سنة (300 ه )،
ص: 27
كالصفّار (ت 290 ه )، والهاشمي (ت 291 ه )، والأشعري الذي مات قبل الصفّار، وسهل بن زياد الذي مات قبل الأشعري(1)، وهذه القرينة تساعد التقريب المذكور.
ج - إنّه كان ألمع شخصية إمامية في بلاد الري قبل رحلته إلى بغداد ، كما يدلّ عليه قول النجاشي ، مع كثرة علماء الشيعة بالري في عصر الكليني، وإذا علمنا أنّه غادر الري إلى العراق قبل سنة (310 ه )، أمكن تقدير عمره يوم مغادرته بنحو خمسين عاما أو أقلّ منه بقليل، وهو العمر الذي يؤهّله لزعامة الإمامية في بلاد الري.
د - إنّ غرض الكليني من تأليف الكافي هو أن يكون مرجعا للشيعة في معرفة أُصول العقيدة وفروعها وآدابها، بناءً على طلب قُدِّم له في هذا الخصوص ، كما هو ظاهر من خطبة الكافي، ومثل هذا الطلب لا يوجّه إلاّ لمن صَلُبَ عوده في العلم، وعرفت كفاءته، وصار قطبا يعتمد عليه في مثل هذا الأمر الخطير. وعليه، فإن قلنا بأنّ سنة (290 ه ) هي بداية الشروع في تأليف الكافي بناءً على وفاة بعض مشايخه حدود هذا التاريخ، فلا أقلّ من أن يكون عمره وقت التأليف ثلاثين عاما إن لم يكن أكثر من ذلك، وهذا يؤيّد التقدير المذكور.
2 - مكانها: الظاهر أنّ مكان ولادة الشيخ الكليني رحمه الله هو قرية كُلَين، وهناك جملة من القرائن القوية الدالّة على ذلك، هي:
أ . النسبة إلى كلين، بلحاظ أنّ الرحلة لا تكون إلى القرى عادةً، بل غالبا ما تكون من القرى إلى حواضر العلم والدين المشهورة، وعليه فنسبته إلى تلك القرية يشير إلى ولادته فيها، ونشأته الاُولى بين ربوعها .
ب . إنّ قبر والده الشيخ يعقوب لا زال قائما إلى اليوم في قرية كلين.
ج . أخو الشيخ الكليني منسوب إلى كلين، وهو من مشايخ ثقة الإسلام الكليني.
د . أُمّ الشيخ الكليني وأخوها وأبوها وعمّها وجدّها من أهل تلك القرية ، كما
ص: 28
سيأتي في بيان نشأته وأسرته.
ه- . مشايخه الأوائل الذين تلقّى العلم عنهم كانوا من كلين.
وكلّ هذا ينفي القول بولادته في مكان آخر، ومنه يتبيّن خطأ الأستاذ عبدالواحد الأنصاري بقوله: «ولد الكليني ببغداد»(1) ولعلّه اشتبه بوفاته في بغداد.
نشأ في قرية كُلَين الصغيرة وانتسب إليها، فكان أشهر أعلامها في تاريخها القديم والمعاصر. وعاش طفولته في بيت جليل أبا وأُمّا وإخوة وأخوالاً، وتلقّى علومه الأُولى من رجالات العلم والدين من أهل تلك القرية، لا سيّما من أُسرته.
ويبدو أنّ لتلك القرية ثقلاً علميا معروفا في ذلك الحين؛ إذ خرّجت عددا من الأعلام لا زال ذكرهم يتردّد في كتب الحديث والرجال، كإبراهيم بن عثمان الكليني، وأبي رجاء الكليني، وغيرهما.
وإذا ما وقفنا على من برز من أُسرة الكليني وأخواله، علمنا أنّه لم يفتح عينيه على محيط مغمور ثقافيا، وإنّما توفّرت له في محيطه وأُسرته الأسباب الكافية لأن تكون له نشأة صالحة أهّلته في أوان شبابه لأن يتفوّق على أقرانه. فأبوه الشيخ يعقوب بن إسحاق الكليني رحمه الله من رجالات تلك القرية المشار لهم بالبنان(2). وأمّا أُمّه فهي امرأة جليلة فاضلة؛ حيث تلقّت تربية حسنة، وعاشت حياتها قبل زواجها في بيت من البيوتات المعروفة في تلك القرية، وهو البيت المشهور ببيت علاّن.
وبمناسبة الحديث عن الأُسرة التي احتضنت ثقة الإسلام، نودّ التذكير بأمرين:
أحدهما: سؤالنا القديم الذي مضى على طرحه زهاء عشرين عاما: «هل للكليني ولد»؟ ولم يزل إلى الآن بلا جواب محكم، حيث لم أجد - رغم التتبّع الطويل
ص: 29
الواسع - ما يشير إلى النفي أو الإثبات بشكل قاطع.
والآخر: في خصوص أصل الكليني، إذ لا دليل على انحداره من أُصول فارسية، خصوصا وأنّ اسم جدّه الأعلى ليس من أسماء الفرس، فاسم جدّ البخاري صاحب الصحيح مثلاً هو بردزبه، وهو من أسماء المجوسية، ولا يكفي الانتساب إلى كلين والولادة فيها على تثبيت الأصل الفارسي. كما لا دليل على انحدار ثقة الإسلام من أُصول عربية أيضا، وربّما قد يُستفاد من الكافي نفسه ما يشير عن بعد إلى عدم فارسيّته، فقد روى بسنده عن محمّد بن الفيض، عن الإمام الصادق عليه السلام بأنّ «النرجس من ريحان الأعاجم» ، ثمّ قال معقّبا: «وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الأعاجم كانت تشمّه إن صاموا، وقالوا: إنّه يمسك الجوع»(1)، حيث إنّه لو كان من الأعاجم أصلاً لما احتاج إلى الرواية بنسبة شمّ الريحان إليهم، بل يؤكّده بنفسه؛ لعدم خفاء ذلك على من انحدر منهم، ولكنّه دليل ضعيف.
اختلف العلماء في ضبط تاريخ وفاته على قولين، هما:
الأوّل : تحديد تاريخ الوفاة بسنة (328 ه )، قال الشيخ الطوسي في الفهرست:
توفّي محمّد بن يعقوب سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة ببغداد، ودُفن بباب الكوفة في مقبرتها(2).
وتابعه على ذلك السيّد ابن طاووس(3)، واختاره من العامّة ابن ماكولا(4)، وابن عساكر الدمشقي(5)، وغيرهما .
ص: 30
الثاني : تحديد تاريخ الوفاة بسنة (329 ه )، وهو القول الثاني للشيخ الطوسي، قال في الرجال:
مات سنة تسع وعشرين وثلاثمئة في شعبان ببغداد، ودفن بباب الكوفة(1).
واختاره النجاشي، قال:
ومات أبو جعفر الكليني رحمه الله ببغداد، سنة تسع وعشرين وثلاثمئة سنة تناثر النجوم، وصلّى عليه محمّد بن جعفر الحسني أبو قيراط(2).
وذهب إلى هذا القول من العامّة أبو الفداء(3)، وإسماعيل باشا البغدادي(4).
وهذا القول هو الراجح ؛ لجملة من الأُمور، هي:
أ . إنّ أسبق مصادر القول الأوّل الذي حدّد وفاة الكليني رحمه الله بسنة (328 ه ) هو فهرست الشيخ الطوسي، ولا يبعد أن يكون هو المصدر الأساس لبقيّة الكتب التي حدّدت الوفاة بتلك السنة سواءً كانت شيعيّة، أو غيرها.
ب . المشهور هو أنّ الشيخ الطوسي ألّف كتاب الفهرست قبل كتاب الرجال، وهذا يعني أنّ قوله في الرجال الموافق لقول النجاشي بمثابة الرجوع عن قوله السابق.
ج . توفّر القرينة الدالّة على صحّة سنة (329 ه )، وهي ذكر شهر الوفاة، وهو شهر شعبان كما مرّ في كلام الشيخ الطوسي في رجاله، في حين تفتقر سنة (328 ه ) إلى مثل هذا التحديد.
جدير بالذكر إنّ شهر شعبان من سنة (329 ه ) يصادف شهر مايس من سنة 941 م، وشهر أرديبهشت من سنة 322 ه . ش .
اتّفق الكلّ على أنّ وفاته كانت ببغداد، ولم أجد المخالف في هذا إلاّ ما كان من
ص: 31
أحمد أمين المصري (ت 1373 ه ) الذي زعم أنّ وفاة الكليني بالكوفة(1). والمعروف عن أحمد أمين أنّه لم يطّلع على كتب الشيعة في خصوص معرفة عقائدهم وأعلامهم.
وخرجت جموع الشيعة ببغداد في ذلك اليوم الحزين لتلقي نظرة الوداع الأخيرة على جثمان عالمها وفقيهها ومحدّثها الشيخ الكليني رحمه الله ، واحتشدت بخشوع ليؤمّها
في الصلاة نقيب الطالبيين ببغداد السيّد محمّد بن جعفر الحسني المعروف بأبي قيراط، ثمّ نقلته بعد ذلك إلى مثواه الأخير.
جدير بالذكر، أنّه قد شهدت بغداد وغيرها في سنة (329 ه ) وفيات عدد من أقطاب الإمامية، كالشيخ الصدوق الأوّل، والسفير الرابع الشيخ علي بن محمّد السَّمُري، كما مات فيها عدد جمّ من علماء الطوائف والمذاهب الأُخرى من فقهاء ومتكلّمين ومحدّثين، حتّى سمّيت تلك السنة بسنة موت العلماء، وحصل في تلك السنة من الأحداث ما لم يعهد مثله، كتناثر النجوم فيما قاله النجاشي، مع مطر عظيم، ورعد هائل، وبرق شديد فيما قاله الخطيب البغدادي(2)، ممّا يدلّ على شؤم تلك السنة.
يُعلم ممّا تقدّم أنّ مكان قبر الكليني في الجانب الغربي من بغداد؛ لتصريح الشيخ الطوسي وغيره بأنّه دُفن ببغداد في مقبرة باب الكوفة، قرب صراة الطائي، وقد رأى الشيخ أحمد بن عبدالواحد المعروف بابن عبدون قبر الشيخ الكليني في صراة الطائي وعليه لوح مكتوب فيه اسمه واسم أبيه.
وصراة الطائي اسم لنهرين ببغداد وكلاهما في الجانب الغربي من بغداد ؛
ص: 32
أحدهما: يُسمّى الصراة العظمى، أو الصراة العليا. والآخر: يُسمّى الصراة الصغرى، أو الصراة السفلى، ومنبعهما من نهر عيسى الأعظم الذي يأخذ ماءه من جنوب بغداد، وتحديدا من المنطقة المسمّاة حاليا بجزيرة بغداد.
ولكنّ القبر المنسوب إلى الشيخ الكليني رحمه الله يقع اليوم في منطقة الرصافة على الضفّة الشرقية لنهر دجلة، وبالضبط في جامع الصفوية سابقا، والآصفية حاليا ، جنب المدرسة المستنصرية على يمين العابر من الكرخ إلى الرصافة على جسر المأمون الحالي، ولا يفصل هذا الجامع عن نهر دجلة إلاّ بضعة أمتار، وإلى جانبه قبر آخر في الجامع نفسه.
وقد تعرّض القبر المذكور إلى محاولة هدمه في زمان العثمانيين، وحُفر القبر في زمانهم فوجدوا الشيخ بكفنه وكأنّه دُفِن قبل ساعات، ثمّ شُيِّد القبر وبُنيت عليه قبّة عالية. وتعرّض للهدم أيضا في عهد الاحتلال الانجليزي للعراق، فانتفض الشيعة تجاه تلك المحاولة الخسيسة.
بذل الشيخ الكليني رحمه الله جهدا مميّزا في تأليف كتاب الكافي وتصنيفه بعد عملية جمع وغربلة واسعة لما روي عن أهل البيت عليهم السلام في أُصول الشريعة وأحكامها وآدابها، كما يشهد بذلك تلوّن الثقافة الإسلامية الواسعة المحتشدة في كتاب الكافي (أُصولاً، وفروعا، وروضة)، ومن الواضح أنّه ليس بوسع (كُلَيْن) تلك القرية الصغيرة تلبية حاجة الكليني لتلك المهمّة الخطيرة، ومن هنا تابع رحلته وعزم على سفر طويل لطلب العلم، خصوصا وأنّه لابدّ من الرحلة في ذلك الوقت كما يقول ابن خلدون(1)،
ص: 33
ولهذا لم يكتف أحد من علماء الحديث وأقطابه في حدود مدينته.
ولهذا طاف الكليني في الكثير من حواضر العلم والدين في بلاد الإسلام، وسمع الحديث من شيوخ البلدان التي رحل إليها. فبعد أن استوعب ما عند مشايخ كُلَيْن من أحاديث أهل البيت عليهم السلام، اتّجه إلى الريّ لقُربها من كُلَيْن، فاتّصل بمشايخها الرازيّين، وحدّث عنهم. ولا يبعد أن تكون الري منطلقَه إلى المراكز العلمية المعروفة في بلاد العجم ومن ثَمَّ العودة إلى الريّ؛ إذ التقى بمشايخ من مدنٍ شتّى وحدّث عنهم؛ فمن مشايخ قمّ الذين حدّث عنهم: أحمد بن إدريس ، وسعد بن عبداللّه بن أبي خَلَف الأشعري وغيرهما. كما حدّث عن بعض مشايخ سمرقند كمحمّد بن علي الجعفري ، ونيسابور كمحمّد بن إسماعيل النيسابوري ، وهمدان ، كمحمّد بن علي بن إبراهيم الهمداني .
وبعد أن طاف الكليني في المراكز العلمية في إيران رحل إلى العراق واتّخذ من بغداد قاعدة للانطلاق إلى المراكز العلمية الأُخرى، إلى أن وافاه أجله المحتوم فيها. فقد حدّث بعد ارتحاله من بغداد إلى الكوفة عن كبار مشايخها، كأبي العبّاس الرزّاز الكوفي، وحميد بن زياد الكوفي، كما رحل إلى الشام بعد أن وقف على منابع الحديث ومشايخه في العراق ، وحدّث ببعلبك ، كما صرّح بهذا ابن عساكر الدمشقي في ترجمة ثقة الإسلام(1).
لم تكن هجرة الكليني قدس سره من الري إلى بغداد هجرة مجهولة السبب(2)، ولا تأثّرا بالمنهج العقلي الذي عُرِفت به المدرسة البغدادية ، كما لم تكن هجرة الكليني إلى بغداد بدوافع سياسية من قبل البويهيين، كما توهّمه صاحب كتاب الكليني
ص: 34
والكافي(1) ، بل كانت لاعتبارات علمية محضة، فبغداد مركز الحضارة، وملتقى علماء المذاهب من شتّى الأمصار، ومستوطن السفراء الأربعة رضوان اللّه تعالى عليهم.
ومن ثمّ فقد غادر الري بعد تجوال طويل في بلاد إيران، فكان عليه الانتقال إلى بغداد؛ لتكون منطلقه إلى مدن العراق والبلاد المجاورة كالشام والحجاز، خصوصا وأنّ العراق يمثّل مركز الثقل الأعظم لتراث أهل البيت عليهم السلام.
وأمّا عن ادّعاء التأثّر بالمنهج العقلي، والإيحاء بأنّه السبب المباشر في هجرة الكليني إلى بغداد دون قمّ فهو زعم باطل من وجوه عديدة، نشير لها باختصار:
الوجه الأوّل: إنّه لو أُجري مَسْحٌ شامل لأحاديث الكافي وتمّ إرجاعها إلى مشايخ الكليني المباشرين ، لوجدت أكثر من ثلثي الكافي يرجع إلى مشايخه القمّيين دون غيرهم.
الوجه الثاني: المعروف أنّ الكليني يحدّث عن سهل بتوسّط (العدّة) غالبا، وبدونها أحيانا، وإذا عُدنا إلى رجال عدّة الكافي عن سهل لا نجد فيهم بغداديا واحدا، بل كلّهم من بلاد الريّ، وما رواه عنه من غير توسّط العدّة فجميعه عن القمّيين.
الوجه الثالث: روايات الكافي وإن تناولت الكثير من المباحث العقلية ، إلاّ أنّها مسندة إلى أهل البيت عليهم السلام، واختيارها لا يكوّن علامةً فارقةً في التأثّر بالمنهج العقلي، ولتأثّر مدرسة قمّ وقادتها بتلك الروايات أكثر من الكليني عدّة مرّات .
الوجه الرابع: ما ورد في ديباجة الكافي يشهد على بُطلان الزعم المذكور ؛ إذ بيّن الكليني أنّه سيتبع المنهج الروائي في تحصيل الأحاديث الشريفة، بل صرّح بعجز العقل عن إدراك جميع الأحكام، وأنّ المُدْرَك منها ما هو إلاّ أقلّها.
الوجه الخامس: إنّ سهل بن زياد نفسه كان من مشهوري الرواة، ومنهجه روائي بحت، وليست له آراء عقلية في مرويّاته، حتّى يُدعى تأثّره بالمنهج العقلي، كما أنّ
ص: 35
مرويّاته في الكافي لم تنحصر بأُصوله التي ردّت على الأفكار والاتّجاهات السائدة في ذلك العصر، وإنّما كان جلّها في الأحكام الشرعية الفرعيّة التي لا تختلف بين روّاد مدرستي قمّ وبغداد.
تتلمذ الشيخ الكليني رحمه الله على مشاهير الشيعة في شرق البلاد الإسلامية وغربها ، وروى الحديث عن أعلام الأُمّة في الكافي وغيره من كتبه، وهم:
قال النجاشي:
أحمد بن إدريس بن أحمد أبو علي الأشعري القمّي، كان ثقةً، فقيهاً في أصحابنا، كثير الحديث، صحيح الرواية، له كتاب النوادر...(1).
وهو من مشايخ ابن قولويه، ومحمّد بن الحسن بن الوليد، والصدوق الأوّل، ومن أشهر ثلامذته ثقة الإسلام الكليني رحمه الله ، فقد اعتمده في روايات كثيرة في الكافي، قد تزيد على خمسمئة رواية، مصرّحا باسمه تارةً، وبكنيته أُخرى، وهو من رجال عِدَّة الكافي الذين روى عنهم الكليني عن الأشعري.
هو أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، حفيد أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وروى عنه. وهو من مشايخ ثقة الإسلام الكليني ، روى عنه في الكافي في عدّة موارد مصرّحاً باسمه(2)، بل هو من رجال عِدّة الكليني الذين يروي
ص: 36
عنهم عن البرقي ، كما ذكره العلاّمة الحلّي في الخلاصة.
قال النجاشي:
هذا رجل جليل في أصحاب الحديث، مشهور بالحفظ، وكان كوفيا زيديا جاروديا على ذلك حتّى مات، وذكره أصحابنا لاختلاطه بهم، ومداخلته إياهم، وعظم محلّه، وثقته، وأمانته(1).
وقال الشيخ:
وأمره في الثقة والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر (2) .
ووصفه الذهبي بأنه نادرة الزمان، وقال:
طلب الحديث سنة بضع وستين ومئتين وكتَبَ منه ما لا يحد ولا يوصف عن خلق كثير بالكوفة وبغداد ومكة(3).
ومات سنة (333 ه )، وله في الكافي عِدّة روايات.
روى له الكليني في كتاب الصيام من فروع الكافي حديثا واحدا(1)، وهو مشترك بين جماعة بهذا الاسم. وأحمد هذا ثقة معروف، قال النجاشي:
وكان أبو الحسن أحمد بن محمّد ثقة في الحديث(2).
أبو جعفر الأشعري القمّي، من مشاهير الفقهاء والمحدّثين الأجلاّء، اتّفق الكلّ على جلالته ووثاقته، قال النجاشي :
شيخ القمّيين، ووجههم، وفقيههم غير مدافع، وكان أيضاً الرئيس الذي يلقى
السلطان، ولقي الرضا عليه السلام ، وله كتب، ولقي أبا جعفر الثاني، وأبا الحسن العسكري عليهماالسلام...(3) .
روى الكليني عنه ما يقرب من ألف حديث في الكافي ، وأكثرها عن محمّد بن يحيى، عنه، ثمّ عن عدّة من أصحابنا، عنه، كما روى عنه بوسائط أُخرى في موارد قليلة. نعم ربّما يبدأ إسناد الكافي أحيانا بأحمد بن محمّد بن عيسى من باب تعليق الإسناد على سابقه، ولكن وقع في موردين(4) من الكافي في بداية الإسناد ، ولا تعليق في المقام، وحمله على التعليق خلاف المصطلح.
أحد مشايخ الكليني المعتمدين لديه، روى عنه اثنين وخمسين حديثا(5)، واختلف المتأخّرون في حاله، والصحيح وثاقته، بل جلالته، وإكثار ثقة الإسلام من الرواية
ص: 38
المباشرة عنه مع الترحّم عليه(1)، قرينتان قويّتان على ذلك، ولا يمكن اغفالهما بحال .
هو أحد مشايخ الكليني، روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن الشيخ المفيد وابن الغضائري وغيرهما معبّرا عنهم بلفظ (جماعة)، عن جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزُّرَاري وغيرهما، عن محمّد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب(2).
روى له الكليني حديثا واحدا في روضة الكافي(3)، والحديث مرسل، ويحتمل
إرساله من الكليني إلى إسماعيل بن عبداللّه القرشي ؛ لوجود بعض الرواة من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام بهذا الاسم وهم من قريش ، وعلى هذا لا يكون الرجل من مشايخه.
روى له حديثين في الكافي ، وهو من مشايخ الصدوق الأوّل علي بن بابويه القمّي رضى الله عنه.
روى الكليني عن الحسن بن خفيف، عن أبيه خبرا واحدا في خصوص بعث الإمام الحجّة عليه السلام بخادمين إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله . والحسن هذا إمامي كما يظهر من روايته، إلاّ أنّه مجهول الحال عند بعضهم.
ص: 39
هذا السيّد من مشايخ الصدوق الأوّل المعاصر للكليني، فقد روى عنه كتاب زكّار بن يحيى كما في الفهرست(1). ولم يقع بهذا العنوان في جميع أسانيد الكافي، ولم يروِ أحد عن الكليني عنه بهذا العنوان أيضا، وإنّما وقع بعنوان (الحسن بن علي العلوي) تارةً، و(الحسين بن علي العلوي تارةً أُخرى. والجميع واحد كما نبّه عليه غير واحد من علماء الرجال(2).
من مشايخ الكليني، وله جملة يسيرة من الروايات في الكافي ، رواها عن محمّد
بن الحسين ومحمّد بن عيسى ومحمّد بن عيسى بن عبيد ومحمّد بن موسى، وعنه في الجميع الكليني رحمه الله (3).
«الحسين بن أحمد بن هلال»(1). وهو مقبول الرواية حسن، وليس بمجهول بعد اتّفاق الشيخين على روايته.
من مشايخه وقد ذكره ابتداءً في سبعة أحاديث فقط من أحاديث الكافي(2).
من أجلاّء مشايخ الكليني، روى عنه أكثر من أربعمئة حديث في الكافي، ووقع في كثير من أسانيد روايات الكتب الأربعة، وقد بلغت بإحصاء السيّد الخوئي ثمانمئة وتسعة وخمسين موردا(3). وجاء اسمه في أسانيد الكافي تارةً بعنوان: «الحسين بن محمّد»، وأُخرى «الحسين بن محمّد الأشعري»، وثالثة «الحسين بن محمّد بن عامر»، ورابعة «أبو عبداللّه الأشعري».
وقد ترجم له ابن حجر قائلاً:
الحسين بن أحمد بن عامر الأشعري، ذكره علي بن الحكم في شيوخ الشيعة، وقال:
كان من شيوخ أبي جعفر الكليني صاحب كتاب الكافي، وصنّف الحسين كتاب طبّ أهل البيت، وهو من خير الكتب المصنّفة في هذا الفنّ(4).
روى عنه الكليني أكثر من ثلاثمئة حديث توزّعت على جميع أجزاء الكافي . قال النجاشي:
ص: 41
حُمَيْد بن زياد بن حمّاد بن حمّاد هوار الدِهْقان، أبو القاسم، كوفي سكن سورا وانتقل إلى نينوى ... كان ثقة، واقفا، وجها فيهم، سمع الكتب، وصنّف كتاب الجامع في أنواع الشرائع، كتاب الخمس، كتاب الدعاء، كتاب الرجال - إلى أن قال : - ومات حُمَيْد سنة عشر وثلاثمئة(1).
ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن عيسى الأشعري عند ذكر كتابه النوادر(2). وترجم له في مكانٍ لاحق قائلاً:
داوود بن كُوْرَة أبو سليمان القمّي، وهو الذي بوّب كتاب النوادر لأحمد بن محمّد بن عيسى، وكتاب المشيخة للحسن بن محبوب السرَّاد على معاني الفقه، له كتاب الرحمة في الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج ...(3).
وهو من رجال عِدّة الكافي الذين يروي الكليني بتوسّطهم عن أحمد بن محمّد بن عيسى، وبهذا صرّح النجاشي في ترجمة الكليني(4) .
قال النجاشي:
سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمّي أبو القاسم، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها، كان سمع من حديث العامّة شيئاً كثيراً، وسافر في طلب الحديث. لقي من وجوههم الحسن بن عَرَفة، ومحمّد بن عبد الملك الدقيقي، وأبا حاتم الرازي، وعبّاس الترقُفي. ولقي مولانا أبا محمّد عليه السلام ، ورأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقاءه لأبي محمّد عليه السلام ، ويقولون: هذه حكاية موضوعة عليه، واللّه أعلم... وصنّف سعد كتباً كثيرة - إلى أن قال - تُوفّي سعد رحمه اللّه سنة إحدى وثلاثمئة، وقيل: سنة
ص: 42
تسع وتسعين ومئتين(1).
من مشايخ الكليني، روى عنه في الكافي أحاديث كثيرة مباشرة وبلا تعليق، والقول بتلمذة الكليني على يديه خلاف المشهور، نظرا لروايته عن سهل أكثر من ألف حديث بواسطة علي بن محمّد، أو محمّد بن الحسن، أو كلاهما عنه، وكذلك بواسطة عِدّة من أصحابنا عنه.
وهذا لا يمنع من الرواية عنه بلا واسطة، خصوصا وأنّ إمكان اللقاء به في الريّ أو بغداد ممكن، ومن ثم فإنّ الالتزام بعدم اللقاء يعني التدليس ، إذ لا تعليق في جميع الأسانيد التي سنذكرها على أسانيد سابقه في الكافي، والتدليس منتفي عن ثقة الإسلام بالإجماع . هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ منهج الكليني أنْ يبتدئ في الإسناد بذكر أحد من مشايخه، ومَن وقع فيه ابتداءً ولم يعاصره الكليني فإنّما هو للإشعار بأخذ الحديث من كتابه والطريق إليه معلوم من سابقه.
هو من أعاظم ثقات القمّيين ومشاهيرهم، بل من الأجلاّء المعروفين بلا خلاف، قال النجاشي في ترجمته: «شيخ القمّيين ووجههم...»(2).
روى عنه الكليني أكثر من أربعة آلاف حديث في كتاب الكافي، فضلاً عن اشتراكه
مع غيره في الرواية عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري بلفظ «عدّة من أصحابنا».
ص: 43
قال النجاشي:
علي بن إبراهيم بن هاشم أبو الحسن القمي، ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح
المذهب(1).
ولعلي بن إبراهيم رضى الله عنه مرقد مشهور في مدينة قمّ المشرفة لا زال شاخصاً إلى الآن يؤمّه العارفون لحقّه من كلّ حدبٍ وصوب.
محدّث، جليل، نسّابة، ثقة، روى له الكليني في الكافي أربعة أحاديث فقط، اثنين منها مباشرة(2)، واثنين بالواسطة(3).
قال النجاشي:
علي بن إبراهيم بن محمّد بن الحسن ... أبو الحسن الجواني، ثقة، صحيح الحديث،
له كتاب أخبار صاحب فخ، وكتاب أخبار يحيى بن عبداللّه بن حسن(4).
هو من مشايخ الكليني، ذكره الشيخ في رجاله، قائلاً:
يروي عنه الكليني رحمه الله ، وروى عنه الزُّرَاري رحمه الله ، وكان معلّمه(5).
كما ذكره الزُّرَاري في رسالته في آل أعين مصرّحاً بأنّه مؤدّبه(6).
من مشايخ الكليني، لم يروِ عنه في الكافي، ومن وقع في إسناده بهذا الاسم فهو
ص: 44
غيره .
قال الشيخ الصدوق:
حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام رضى الله عنه، قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب، قال: حدّثنا علي بن محمّد بن سليمان ...(1).
ورواية الشيخ الصدوق المذكورة لم يروها الكليني في الكافي ، نعم وقع في الكافي علي بن محمّد بن سليمان النوفلي في حدود ستّ روايات، وهو يروي عنه بواسطتين تارةً ، وبثلاث وسائط أُخرى. ويظهر أنّ المذكور في إسناد الشيخ الصدوق يختلف عمّن وقع بهذا الاسم في أسانيد الكافي ؛ لجملة من القرائن.
هو من مشايخ الكليني، روى عنه في الكافي كثيراً جدّاً، فضلاً عمّا رواه عنه في ضمن رجال عِدَّته عن البرقي، وقد يعبّر عنه بلفظ علي بن محمّد بن بُنْدار.
قال النجاشي:
علي [بن محمّد(2)] بن أبي القاسم، عبد اللّه بن عمران البرقي، المعروف أبوه بماجيلويه، يُكنّى أبا الحسن، ثقة، فاضل فقيه، أديب، رأى أحمد بن محمّد البرقي، وتأدّب عليه، وهو ابن بنته(3).
هو أحد مشايخ الكليني، ويُلقّب بالكليني الرازي ، ويُعرف بعَلاّن. وهو خال الكليني وأُستاذه، ومن رجال عِدّة الكافي الذين روى عنهم عن سهل بن زياد ، وقد وثقّه جميع من ترجم له؛ قال النجاشي:
ص: 45
علي بن محمّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، المعروف بعَلاّن، يكنى
أباالحسن، ثقة، عين، له أخبار القائم عليه السلام (1).
من مشايخ العِدّة الّذين يروي عنهم الكليني ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمّي . وقد روى الكليني سائر كتب أحمد بن عيسى الأشعري عن الكُمنداني وجماعته عنه(2).
روى الكليني عنه مضموما إلى العِدّة، عن أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري أحاديث كثيرة قد تزيد على سبعمئة حديث موزّعة على جميع أجزاء الكافي، كما روى عنه منفردا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى(3).
من أهل آذربيجان، ولد سنة (187 ه ) وتوفّي سنة (304 ه ) ، فقد بصره رضى الله عنه بعد الثمانين ثمّ رُدَّت له عيناه قبل وفاته بسبعة أيّام ، وهو من مشايخ الكليني الثقات الأجلاّء، روى عنه في الكافي في موردين ، وكنّاه بأبي محمّد مع الترحّم عليه في
أوّلهما(4).
وعدّه الشيخ الصدوق والعلاّمة الطبرسي ممّن شاهد مولانا الإمام الحجّة عليه السلام من الوكلاء من أهل آذربيجان(5).
من محدّثي العامّة ورواتهم، روى عنه الشيخ الكليني رحمه الله ، وليس له في الكافي أيّ
ص: 46
حديث. قال ابن عساكر في ترجمة الكليني:
قدم دمشق، وحدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمّد بن علي الجعفري السمرقندي، ومحمّد بن أحمد الخفّاف النيسابوري ...(1).
من مشايخ الكليني، حدّث عنه ببغداد كما في لسان الميزان(2)، وهو غير محمّد بن
أحمد بن عبد الجبّار المعروف بمحمّد بن أبي الصهبان القمّي الذي حدّث عنه الكليني بالواسطة في جملة من أحاديث الكافي . وليس لمحمّد هذا رواية في الكافي .
من مشايخ ثقة الإسلام، روى عنه في روضة الكافي(3) ، ومن مشايخ الصدوق الأوّل أيضاً.
من مشايخ الكليني قدس سره، وقد تردّد بعضهم في تشخيص محمّد بن إسماعيل هذا المبدوء به في أوائل أسانيد الكافي أُصولاً وفروعا وروضةً ، وبصورة كثيرة تدلّ على اعتماد ثقة الإسلام على ما يرويه ، وسبب التردّد المذكور، هو اشتراك جماعة من الرواة بهذا الاسم، أشهرهم ثلاثة، هم: «محمّد بن إسماعيل النيسابوري» «محمّد بن إسماعيل البرمكي» «محمّد بن إسماعيل بن بزيع».
وانتهت كلمة المحقّقين من علمائنا إلى قولٍ واحد ، خلاصته : إنّ المبدوء به في أوائل أسانيد الكافي بهذا العنوان المطلق «محمّد بن إسماعيل» هو النيسابوري لا غير(4).
ص: 47
قال النجاشي:
محمّد بن جعفر بن محمّد بن عون الأسدي، أبو الحسين الكوفي، ساكن الري، يقال له: محمّد بن أبي عبد اللّه، كان ثقة، صحيح الحديث، إلاّ أنّه روى عن الضعفاء، وكان يقول بالجبر والتشبيه - وكان أبوه وجهاً...(1).
وقال الشيخ في آخر التوقيعات الواردة على أقوام ثقات:
ومات الأسدي على ظاهر العدالة، لم يتغيّر، ولم يطعن عليه، في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمئة(2).
وترضّى عليه الشيخ الصدوق، وقدّم مايرويه على غيره في صورة التعارض.
هو محمّد بن جعفر بن محمّد بن الحسن، أبو العبّاس، القرشي، الرزّاز، ثقة جليل، من أجلاّء ومشاهير مشايخ الكليني. وذكر أبو غالب الزُّرَاري في رسالته الشهيرة ما يدلّ بكلّ وضوح على جلالة الرزّاز، وسموّ قدره، ومنزلته بين صفوف الشيعة في عصره(3).
وقد وقع في أسانيد الكافي بعدّة عناوين، هي: أبو العبّاس الرزّاز، وأبو العبّاس الرزّاز محمّد بن جعفر، ومحمّد بن جعفر أبو العبّاس الكوفي، ومحمّد بن جعفر الرزّاز، ومحمّد بن جعفر الرزّاز الكوفي، ومحمّد بن جعفر، وأبو العبّاس الكوفي . والمقصود من جميعها واحد ، إلاّ في الأخيرين ؛ لكونهما من المشتركات ما لم تكن قرينة دالّة على إرادة الرزّاز.
ص: 48
قال النجاشي:
محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار ... أبو جعفر الأعرج ، كان وجهاً في أصحابنا القمّيين، ثقة، عظيم القدر، راجحاً، قليل السقط في الرواية - إلى أن قال : - توفّي محمّد بن الحسن الصفّار بقمّ، سنة تسعين ومئتين رحمه اللّه (1).
وعَدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام العسكري عليه السلام ، قائلاً:
له إليه عليه السلام مسائل، يلقّب: ممولة(2).
وقد أكثر الصدوق من الرواية عنه بتوسّط شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد في كتابه كتاب من لا يحضره الفقيه .
من مشايخ الكليني، وليس له في الكافي رواية - بهذا العنوان - ، ولا في غيره من كتب الحديث. نعم روى الكليني كتب علي بن العبّاس الجراذيني الرازي بواسطته(3). ولهذا عدّه الشيخ آقا بزرك من مشايخ ثقة الإسلام الكليني(4).
روى عنه ثقة الإسلام حديثا واحدا فقط(5) ، وهو مهمل لم يذكره أحد ، وليس له في الكتب الأربعة سوى هذا الحديث.
من أجلاّء مشايخ الكليني قدس سره، قال النجاشي:
ص: 49
كان ثقة وجهاً، كاتب صاحب الأمر عليه السلام ، وسأله مسائل في أبواب الشريعة(1).
وهو من مشايخ ابن قولويه أيضاً. وهو من رجال عِدّة الكافي الذين يروي الكليني
عنهم، عن البرقي.
من مشايخ ثقة الإسلام(2)، روى عنه في فروع الكافي(3)، وهو من رجال عِدّة الكافي الذين يروي بتوسّطهم عن سهل بن زياد، كما صرّح بهذا العلاّمة الحلّي.
من شيوخ الكليني، حدّث عنه ببعلبك، قال ابن عساكر في ترجمة الكليني:
قدم دمشق، وحدّث ببعلبك، عن أبي الحسين محمّد بن علي الجعفري السمرقندي...(4).
وليس له ذكر في الكافي، ولم يقع في إسناد الحديث الشيعي، ولم يذكره سوى ابن عساكر.
المفضل الشيباني(1)، كما روى عنه فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي صاحب التفسير(2).
من مشايخ الكليني رضى الله عنه، روى عنه خطبة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بعد موت النبيّ صلى الله عليه و آله بسبعة أيّام، وذلك حين فرغ من جمع القرآن الكريم، كما في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق(3). وليس له رواية في الكافي .
من مشايخ الكليني، روى عنه في الكافي حديثا واحدا، بلفظ: «حدّثني» ؛ فقال بعد نقله حديثاً: «وحدّثني به محمّد بن محمود، أبو عبداللّه القزويني»(4). وليس لمحمّد هذا غير هذا الحديث، كما ليس له ذكر في كتب الرجال.
من أجلاّء مشايخ الكليني، قال النجاشي:
محمّد بن يحيى، أبو جعفر العطّار القمّي ، شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث ...(5).
وأشهر تلامذة محمّد بن يحيى ثلاثة، هم: ثقة الإسلام الكليني ، وقد أكثر من الرواية عنه في جميع أبواب الكافي ، والصدوق الأوّل، ومحمّد بن الحسن بن الوليد القمّيين.
ص: 51
وهو من رجال عِدّة الكافي الذين روى عنهم الكليني عن الأشعري والبرقي.
من مشايخ الكليني، روى عنه في الكافي حديثا واحدا. ولم يذكره أحد من الرجاليين.
هو أحمد بن إبراهيم أبو حامد المراغي، من مشايخ الكليني، قال الطبري الصغير في دلائل الإمامة:
وعنه (يعني: أبا المفضّل الشيباني) قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني قدّس
سرّه، قال: حدّثني أبو حامد المراغي(1).
وروى الكشّي بسنده عن أبي جعفر محمّد بن أحمد بن جعفر القمّي العطّار توقيعا شريفا للإمام الحجّة عليه السلام يدلّ على جلالة وعلوّ منزلة أبي حامد المراغي(2).
من مشايخ الكليني، ذكره في أوائل أسانيد الكافي، مبتدئا به ثمان مرّات مستقلاًّ ، كما اشترك في ستّة موارد أُخرى مع (عِدّة الكافي) في النقل عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد.
روى الكليني في الكافي عن مجموعة من مشايخه، معبّرا عنهم بلفظ «عِدّة من أصحابنا»، روايات كثيرة بلغت - بإحصائنا - ثلاثة آلاف وحديثين. ويمكن تقسيم هذه العِدّة - بلحاظ من روت عنه - إلى طائفتين، هما:
ص: 52
ورجال هذه العِدّة خمسة، وكلّهم من القمّيين، وهم بحسب الترتيب:
أ . أحمد بن إدريس، أبو علي الأشعري القمّي .
ب . داوود بن كُورة القمّي .
ج . علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي .
د . علي بن موسى الكُمنداني - بالنون والدال المهملة - القمّي .
ه- . محمّد بن يحيى العطّار القمّي .
ورجال هذه العِدّة سبعة، ستّة من أهل قمّ، وواحد مشترك بين كوفِيَّيْن، وهم:
أ . أحمد بن عبداللّه القمّي .
ب . علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي .
ج . علي بن الحسين السعدآبادي، أبو الحسن القمّي .
د . علي بن محمّد بن عبداللّه القمّي، يُعرف بماجيلويه، وهو ابن بنت البرقي، ويقال له: محمّد بن علي بن بُندار.
ه- . محمّد بن جعفر، وهو مشترك بين أبي الحسين الأسدي الكوفي ساكن الري، وبين أبي العبّاس الرزّاز الكوفي، خال أبي غالب الزُّرَاري الثقة المشهور .
و . محمّد بن عبداللّه بن جعفر الحِميَري القمّي .
ز . محمّد بن يحيى العطّار القمّي .
ورجال هذه العِدّة أربعة، فيهم قمّي، وكلينيّان رازيان، وكوفي ساكن الريّ، وهم:
ص: 53
أ . علي بن محمّد بن علاّن الكليني الرازي.
ب . محمّد بن أبي عبداللّه (وهو محمّد بن جعفر الأسدي الكوفي نزيل الري).
ج . محمّد بن الحسن الصفّار القمّي.
د . محمّد بن عقيل الكليني الرازي.
وهي سبع عِدَدٍ فقط، وقعت في إسناد ثمانية أحاديث، كالآتي:
1 - «عِدّة من أصحابنا، عن عبداللّه بن البزاز»(1).
2 - «عِدّة من أصحابنا، عن جعفر بن محمّد»(2).
3 - «عِدّة من أصحابنا، عن سعد بن عبداللّه»(3).
4 - «عِدّة من أصحابنا، عن الحسين بن الحسن بن يزيد»(4).
5 - «عِدّة من أصحابنا، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر»(5).
6 - «عِدّة من أصحابنا، عن صالح بن أبي حمّاد»(6).
7 - «عِدّة من أصحابنا، عن محمّد بن عيسى»(7).
هذه هي الطائفة الثانية من عِدَد الكافي، ولم أجد فيه - بعد الفحص والتحرّي الدقيق - بعض العِدَد التي ذكرها صاحب الكليني والكافي ونسبها للكافي، كعدّته عن علي بن الحسن بن فضّال، وعِدّته عن محمّد بن عبداللّه ماجيلويه(8).
ص: 54
تتلمذ على يد الشيخ الكليني رحمه الله عدد كثير من أعلام الشيعة وغيرهم، وقد أحصينا أكثر من ثلاثين رجلاً منهم، هم:
من مشاهير تلاميذ الكليني، وأجازه رواية ما سمعه منه من مصنّفات وأحاديث(1)، وعدّه ابن عساكر في تاريخ دمشق من جملة من روى عن الكليني(2)، ومثله ابن ماكولا(3).
من تلاميذ الكليني، ومن جملة رواة الكافي عنه، قال النجاشي في ترجمة الكليني:
كنت أتردّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي، وهو مسجد نفطويه النحوي أقرأ القرآن على صاحب المسجد، وجماعة من أصحابنا يقرأون كتاب الكافي على أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب، حدّثكم محمّد بن يعقوب الكليني. ورأيت أبا الحسن العقراني يرويه عنه(4).
من تلاميذ الكليني(5)، نقل السيّد هاشم البحراني من كتاب عيون المعجزات ما يدلّ على كون صاحب العنوان من تلامذة الكليني؛ إذ قال ما هذا لفظه:
السيد المرتضى في عيون المعجزات، قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن الحسين
ص: 55
العطار، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن يعقوب صاحب كتاب الكافي...(1).
قال الشيخ في بيان طرقه إلى كتب ثقة الإسلام الكليني:
وأخبرنا السيّد الأجل المرتضى رضى الله عنه، عن أبي الحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي، عن الكليني(2).
من معاصري الشيخ الصدوق وابن قولويه، وأساتذة الشيخ المفيد، وابن الغضائري، وابن عبدون، ومن تلاميذ الكليني رحمهم اللّه. قال الكراجكي في الاستنصار :
أخبرنا الشيخ المفيد أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان، قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وأبو الحسن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد جميعا؛ عن محمّد بن يعقوب ...(3).
وبهذا يظهر اتّحاد صاحب العنوان مع أبي الحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي.
من تلاميذ الكليني، ومن رواة كتاب الكافي عن مصنّفه، صرّح بهذا النجاشي في ترجمته قائلاً:
إسحاق بن الحسن بن بكران العقرائي التمّار، كثير السماع، ضعيف في مذهبه، رأيته بالكوفة وهو مجاور، وكان يروي كتاب الكليني عنه، وكان في هذا الوقت علوّا فلم أسمع منه شيئا(1).
وقال في ترجمة الكليني عند ذكر الكافي:
ورأيت أبا الحسن العقراني يرويه عنه(2).
من أجلاّء تلامذة الكليني، روى عنه كثيرا في كتابه المشهور (كامل الزيارات)(3).
وقد تتلمذ الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه رضى الله عنه على مجموعة من المشايخ الأجلاّء ويأتي في مقدّمتهم: أبوه الثقة الجليل الشيخ محمّد بن قولويه، والشيخ ثقة الإسلام الكليني، ومحمّد بن عبداللّه بن جعفر الحِميَري، وغيرهم(4). ومات رحمه الله ببغداد، ودُفن في مقابر قريش إلى جوار مرقد الإمام الكاظم عليه السلام .
من مشايخ الصدوق وتلاميذ الكليني، ويدلّ عليه ما رواه الصدوق عن خمسة من
ص: 57
مشايخه ، وكان أبو محمّد الحسن بن أحمد المؤدّب من جملتهم، قالوا: «حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني»(1). وروى أيضا عن مجموعة من مشايخه - وفيهم المؤدّب هذا - قالوا: «حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله »(2).
من مشايخ الصدوق وتلاميذ الكليني ، كما يظهر من قول الشيخ الصدوق:
حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام الكليني، وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران
الدقّاق، وعلي بن عبداللّه الورّاق، والحسن ابن أحمد المؤدّب، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدّب رضي اللّه عنهم؛ قالوا: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني(3).
قال الشيخ الطوسي في أماليه:
أخبرنا الحسين بن عبيداللّه ... حدّثنا الحسين بن صالح بن شعيب الجوهري، قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني ...(4).
ذكره ابن عساكر في ترجمة الكليني قائلاً:
روى عنه : أبو سعد الكوفي ... وعبداللّه بن محمّد بن ذكوان(5).
وليس لعبداللّه هذا أيّ حديث في كتبنا، ولم يذكره أحد من علماء الإمامية، وإنّما هو من رجال العامّة.
ص: 58
هو أحد رواة الكافي عن مصنّفه، وكان مع الكليني ببغداد وأخذ منه جميع مصنّفاته وأحاديثه سماعا وإجازة سنة (327 ه ).
وذكره الشيخ الطوسي في بيان طريقه إلى ما رواه عن الكليني من مشيخة التهذيب(1).
عدّه الشيخ الطهراني من مشايخ الصدوق وتلامذة الكليني، ونقل عن إكمال الدين قول الشيخ الصدوق:
حدّثنا علي بن أحمد الرازي، قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب ...(2).
من مشايخ الشيخ الصدوق، روى عنه، عن ثقة الإسلام الكليني(3).
ويظهر من رواياته في كتب الصدوق أنّه يروي عن مجموعة من المشايخ منهم الكليني، وحمزة بن القاسم العلوي، وأبي العبّاس أحمد بن يحيى بن زكريا القطّان، وغيرهم.
عدّه جماعة من العلماء من تلامذة الكليني(4)، وهو من مشايخ الشيخ الصدوق.
ص: 59
عدّه الشيخ أقا بزرك الطهراني رحمه الله من تلامذة الكليني، بل من رواة كتاب الكافي عن مصنّفه(1). وهو من مشايخ الشيخ الصدوق، وروى عنه في سائر كتبه . ويظهر من بعض رواياته عكوفه الطويل على الحديث الشريف وروايته.
ليس له رواية في كتب الحديث الشيعي إلاّ رواية واحدة فقط، وهو من رجال العامّة ورواتهم ، ذكره ابن عساكر في ترجمة الكليني قائلاً:
روى عنه أبو سعد الكوفي ... وأبو القاسم علي بن محمّد بن عبدوس الكوفي(2).
هو من تلامذة الكليني ومن المقرّبين إليه، ومن جملة من استنسخ الكافي عن
نسخة مؤلّفه. وله رحلة واسعة في طلب الحديث، وهو من كبار محدّثي الشيعة الإمامية بلا خلاف، ومن تراثه الخالد: كتاب الغيبة، وحدّث فيه عن شيخه الكليني كثيرا.
من تلاميذ ثقة الإسلام الكليني وأحد رواة كتاب الكافي(3)، ذكره الشيخ في الفهرست قائلاً:
محمّد بن إبراهيم بن يوسف الكاتب، يكنّى أبا الحسن، وقال أحمد بن عبدون: هو أبو بكر الشافعي، مولده سنة إحدى وثمانين ومئتين بالحسينية، وكان يتفقّه على
ص: 60
مذهب الشافعي في الظاهر، ويرى رأي الشيعة الإمامية في الباطن، وكان فقيها على المذهبين، وله على المذهبين كتب ...(1).
قال السيّد ابن طاووس قدس سره:
حدّث أبو نصر محمّد بن أحمد بن حمدون الواسطي، قال: حدّثنا: محمّد بن يعقوب الكليني ...(2).
وأورده العلاّمة المجلسي في البحار عن فتح الأبواب، وفيه : «أحمد بن
أحمد بن علي بن سعيد الكوفي» بين الواسطي المذكور وبين الكليني(3)، ولعلّه هو الصحيح.
هو من تلاميذ الكليني، ويشهد لذلك ما رواه أبو القاسم علي بن محمّد الخزّاز القمّي بقوله:
...حدّثنا محمّد بن الحسين البزوفري بهذا الحديث ، يعني حديث زيد الشهيد في مشهد مولانا الحسين بن علي عليهماالسلام، قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني...(1).
عدّه العلاّمة الطهراني من تلاميذ ثقة الإسلام الكليني(2)، ولم أجد له رواية عن ثقة الإسلام في كتب الحديث. كما لم أجد من ترجم له من علماء الرجال، بل لم أجد له ذكرا إلاّ عند الكراجكي، مع وقوع الاختلاف في ضبط اسم الرجل وكنيته في الموارد التي نقل فيها عنه.
رئيس المحدّثين، وشيخ الإمامية وفقيههم ومحدّثهم ومتكلّمهم في زمانه، ويكفي في وصفه ما ورد من كلمات بحقّه على لسان علماء العامّة، قال الذهبي :
ابن بابويه، رأس الإمامية، أبو جعفر، محمّد بن العلاّمة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، صاحب التصانيف السائدة بين الرافضة، يضرب بحفظه المثل، يقال : له ثلاث مئة مصنّف ... وكان أبوه من كبارهم ومصنّفيهم(3).
قال الشيخ المفيد قدس سره:
أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه، وأبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه جميعا؛ عن محمّد بن يعقوب الكليني ...(4).
ص: 62
وفي مزار ابن المشهدي خبرٌ يدلّ على ذلك أيضا، رواه العلاّمة النوري في مستدرك
الوسائل في باب استحباب الصلاة يوم عاشوراء وكيفيّها(1).
وبهذا يتبيّن اشتباه العلاّمة النوري في قوله بعدم رواية الشيخ الصدوق عن الكليني.
هو مشترك بين راويين، وكلاهما من مشايخ الصدوق ، هما:
الأوّل: محمّد بن علي بن محمّد بن أبي القاسم
ويدلّ عليه طريق النجاشي إلى رواية كتب «محمّد بن أبي القاسم»، حيث رواها عن أبيه علي بن أحمد، عن الشيخ الصدوق، عن محمّد بن علي ماجيلويه، عن أبيه علي بن محمّد، عن أبيه محمّد بن أبي القاسم(2).
الثاني: محمّد بن علي بن أبي القاسم
ويدلّ عليه طريق الشيخ الصدوق في مشيخة الفقيه(3).
هذا، وقد روى الشيخ الصدوق في الخصال، عن محمّد بن علي ماجيلويه، عن محمّد بن يعقوب الكليني(4). فهو إذن من تلامذة ثقة الإسلام، ولكنّه مشترك بين اثنين كما عرفت.
من رجالات الري، وأعلام كُلين، وهو من مشايخ الشيخ الصدوق ومن تلامذة الشيخ الكليني ، قال في مشيخة الفقيه :
ص: 63
وما كان فيه عن محمّد بن يعقوب الكليني رحمه اللّه، فقد رويته عن محمّد بن محمّد بن عصام الكليني وعلي بن أحمد بن موسى، ومحمّد بن أحمد السناني رضي اللّه عنهم، عن محمّد بن يعقوب الكليني. وكذلك جميع كتاب الكافي، فقد رويته عنهم، عنه(1).
من مشايخ الصدوق وتلاميذ الكليني، وقد أكثر الشيخ الصدوق من الرواية عنه في جميع كتبه ، ونقل المتوكّل إلى الشيخ الصدوق بعض الأحاديث التي سمعها من الكليني قدس سره(2).
من أعاظم المحدّثين وثقاتهم المشهورين، وله جلالة وذكر جميل بين علماء الرجال. روى كتاب الكافي عن الكليني كما في مشيخة التهذيب، والاستبصار، والفهرست(3) وروى عنه في غيرها أيضا(4).
روى عنه كبار علماء الإمامية ، كابن قولويه، والنعماني، والشيخ المفيد، والنجاشي.
روى عن ثقة الإسلام الكليني، قال السيّد ابن طاووس رضى الله عنه :
... ما روينا بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر الطبري، قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني ...(5).
ص: 64
وهو من معاصري الكليني، ثقة، جليل القدر، له كتاب المسترشد في الإمامة، ويُعرف
بالطبري الكبير ؛ تمييزا له عن الطبري الصغير.
من تلاميذ الكليني، ذكره النجاشي عند ذكر مصنّفات أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، قائلاً:
وقال لي أبو العبّاس أحمد بن علي بن نوح: أخبرنا بها أبو الحسن بن داوود، عن محمّد بن اليعقوب...(1).
وقال في ترجمته:
شيخ هذه الطائفة وعالمها، وشيخ القمّيين في وقته، وفقيههم، حكى أبو عبداللّه
الحسين بن عبيداللّه أنّه لم يرَ أحدا أحفظ منه، ولا أفقه ولا أعرف بالحديث(2).
ويظهر من كلام النجاشي في ترجمته أنّه حدّث عن الكليني ببغداد؛ لأنّه قدمها واستقرّ بها إلى أن وافاه أجله ودفن بمقابر قريش (منطقة الكاظمية ببغداد حاليّا).
قال ابن عساكر في ترجمة الكليني:
قدم دمشق، وحدَّث ببعلبك ... روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضى
أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي...(3).
هو الشيخ أحمد بن محمّد بن محمّد بن أبي طاهر سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين ابن سنسن، وُلِد سنة (285 ه )، ومات سنة (368 ه ).
ص: 65
عدّه العلاّمة النوري ممّن تلقّوا كتاب الكافي عن مصنّفه، ورووه عنه واستنسخوه ونشروه، وإلى نسخهم تنتهي نسخته(1) ، ويؤيّده ما قاله أبو غالب الزُّرَاري نفسه(2).
من مشاهير تلامذة الكليني والراوين كتاب الكافي عنه(3).
كان الكليني رحمه الله قليل التأليف - إذا ما قورن بغيره من علماء الإمامية كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي - بسبب ما استغرقه الكافي من وقت طويل ، وممّا يؤسف له حقّا هو ضياع مؤلفّات الكليني ومصنّفاته سوى كتابه الكافي على الرغم من وصول بعضها إلى أزمانٍ متأخّرة.
المراد بالرؤيا، ما يراه النائم في نومه، أو الذي خمدت حواسّه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه(4)، وهي على ثلاثة أقسام: صادقة لا تحتاج إلى عناء أو جهد في التأويل، كرؤيا الأنبياء عليهم السلام. وصادقة أيضا ولكنّها بحاجة إلى تأويل. وكاذبة، وهي أضغاث أحلام.
وكتاب تعبير الرؤيا ذكره النجاشي من جملة كتب الكليني(5)، وسمّاه الشيخ الطوسي «كتاب تفسير الرؤيا»(6).
وممّا يكشف عن علم الكليني بتعبير الرؤيا وصحّة نسبة هذا الكتاب إليه، أنّه قد
ص: 66
روى أحاديث كثيرة في خصوص تعبير الرؤيا في روضة الكافي(1).
نشأت حركة القرامطة بعد منتصف القرن الثالث الهجري، وظهرت في الكوفة سنة (278 ه ) ثمّ سنة (286 ه )، وقد راح ضحيّة هجماتهم المتكرّرة على مدن العراق والحجاز ودمشق آلاف الضحايا الأبرياء، وبلغت قوّتهم في عصر الكليني رحمه الله أنّه لم يقدر على الوقوف بوجههم جيش مقاتل، ولم تصمد أمامهم مدينة محاربة. ومن جرائمهم الكبرى أنّهم اعتدوا على حرمة الكعبة المشرّفة سنة (317 ه ) ، فدخلوا الحرم المكّي الشريف، وقتلوا الحاج أثناء الطواف، وطرحوا القتلى في بئر زمزم، وعرّوا الكعبة المشرّفة من كسوتها، وقلعوا بابها، كما اقتلعوا الحجر الأسود وبقي عندهم أكثر من عشرين سنة في عاصمتهم هجر إلى أن رُدّ إلى مكانه بفضل الدولة الفاطمية بمصر.
وكانت للقرامطة آراء وعقائد فاسدة كثيرة، والكثير منها دال على كفرهم ومروقهم من الدين ، كما نصّ على هذا أصحاب المقالات والفرق ، كالأشعري والنوبختي وغيرهم(2).
كلّ هذا حمل علماء الإمامية للتصدّي إلى تلك الحركة قبل ظهورها بالكوفة ، كما يظهر من كتاب الفضل بن شاذان (ت 260 ه ) المعنون بكتاب الردّ على الباطنية
ص: 67
والقرامطة(1) ، والكليني المعاصر لتلك الحركة في تأليفه هذا الكتاب الذي نسبه إليه النجاشي(2) والشيخ الطوسي(3).
ذكره النجاشي في مؤلّفات الكليني(4)، وسمّاه الشيخ الطوسي بكتاب الرسائل(5) ، وصُحِّف في معالم العلماء إلى كتاب (الوسائل)(6).
وهذا الكتاب من الكتب المفقودة أيضا، وهو كما يبدو من اسمه خُصّص لجمع رسائل الأئمّة إلى أصحابهم أو أبنائهم عليهم السلام.
ونقل السيد ابن طاووس (ت 664 ه ) طرفا من هذا الكتاب مشيرا إليه صراحة حيثما ورد النقل منه. ويبدو أنّ السيد ابن طاووس كان متأثّرا بهذا الكتاب مفضّلاً له على ما كتب بهذا المجال .
والظاهر من كلام صدر المتألّهين الشيرازي (ت 1050 ه ) في شرح أُصول الكافي وصول الكتاب إلى عصره، حيث قال:
روى محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله في كتاب الرسائل بإسناده عن سنان بن طريف عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يكتب هذه الخطبة إلى أكابر الصحابة وفيها كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله .. .(7).
وهو صريح في وصول كتاب الرسائل إلى عصره، ووقوفه عليه مع النقل المباشر
ص: 68
منه.
نسب النجاشي(1) والشيخ الطوسي(2) وسائر المتأخّرين هذا الكتاب إلى الكليني رحمه الله ، وهو من كتبه المفقودة أيضا، وهو علامة واضحة في معرفة الكليني قدس سرهبأحوال الرواة، وطبقاتهم، والتى يمكن تلمّس آثارها في مواقع كثيرة من الكافي نفسه .
من جملة من عدّ هذا الكتاب للكليني، هو النجاشي(3) وكفى بذلك إثباتا لصحّة نسبته إليه. وهذا الكتاب المفقود أيضا يشير بوضوح إلى عناية الكليني بالأدب العربي، وتلوّن ثقافته، ولو قُدِّر لهذا الكتاب البقاء لوقفنا على أسماء شعراء أهل البيت عليهم السلام، ولاطّلعنا من خلاله على غرر القصائد الشعرية التي قيلت في مدحهم عليهم السلام .
وهذا الكتاب لم تثبت - عندي - نسبته إلى الكليني رحمه الله ، ولم يذكر تلك النسبة أحد قط إلاّ السيّد عبدالعزيز الطباطبائي رحمه الله ، الذي ذكر هذا الكتاب وعدّه من مؤلّفات الكليني(4)، وأغلب الظن أنّه استنبطه من مكانٍ آخر وإن لم يُفصح عنه.
ومهما يكن فإنّ جميع ما ذكرناه من كتب الكليني مفقود، وقد اتّصل النقل المباشر من بعض تلك الكتب المفقودة إلى أزمان متأخّرة ، كرسائل الأئمّة عليهم السلام الذي بقي موجودا إلى القرن الحادي عشر الهجري، ثمّ فُقِد بعد ذلك، وربّما يكون في زوايا بعض المكتبات .
ص: 69
وهو الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من مؤلّفات ثقة الإسلام، وهو موسوعة حديثية، فيه إلى جانب ما يلبّي حاجة الفقيه، والمحدّث، دقائق فريدة تتعلّق بشؤون العقيدة، وتهذيب السلوك، ومكارم الأخلاق. وقد رُزق هذا الكتاب فضيلة الشهرة في حياة مؤلّفه، فلا نظير له في بابه .
والمنهج المتّبع في الكافي للوصول إلى أُصول الشريعة وفروعها وآدابها وأخلاقها، إنّما هو بالاعتماد على حَمَلَة آثار النبوّة من نقلة حديث الآل عليهم السلام، الذي هو حديث الرسول صلى الله عليه و آله ، إذ صرّح أهل البيت عليهم السلام بأنّهم لا يحدّثون الناس إلاّ بما هو ثابت عندهم من أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله ، وأنّهم كانوا يكنزونها كما يكنز الناس ذهبهم وورقهم، وأنّها كلّها تنتهي إلى مصدر واحد، وبإسناد واحد(1).
ومن ثمرات هذا التضييق في رواية السنّة المطهّرة في الكافي، وحصرها بذلك النمط من حملة الآثار، أنّك لا تجد بينهم للاُمويين وأذنابهم وأنصارهم وزنا ولا اعتبارا، ولا للخوارج والنواصب ورواتهم ذِكرا، ولا لمن لم يحفظ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في أهل بيته عليهم السلام(2) عينا ولا أثرا(3). كما لا تجد فيه لمن نافق ممّن تسمّى بالصحابة ولصق بهم خبرا(4).
وهذا المنهج وإن كان هو المنهج العامّ عند محدّثي العترة، إلاّ أنّ شدّة التزام الكليني به مع ميزات كتابه الأُخرى هي التي حملت الشيخ المفيد قدس سره على القول: «بأنّ
ص: 70
الكافي من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة»(1)، كما حملت غيره على الإعجاب بكتاب الكافي والثناء على مؤلفه(2).
ومن هنا بذل علماء الشيعة - قديما وحديثا - جهودا علمية مضنية حول الكافي، فاستنسخوه كثيرا(3)، وشرحوا أحاديثه، وبيّنوا مشتركاته، ووضّحوا مسائله، واختصروه، وحقّقوا أسانيده، ورتّبوا أحاديثه، وصنّفوها على ضوء المصطلح الجديد، وترجموه إلى عدّة لغات، بحيث وصلت جهودهم حول الكافي إلى أكثر من مئتي كتاب. ومع كلّ هذه الجهود لم يقل أحد منهم بوجوب الاعتقاد والعمل بجميع ما بين دفّتيه، ولا ادُّعي إجماع على صحّة جميع ما فيه .
كما أنّ إعراض الفقهاء عن بعض مرويّات الكافي، لا يدلّ على عدم صحّتها عندهم، ولا ينافي كون الكافي من أجلّ كتبهم، إذ ربّ صحيح لم يُعمل به لمخالفته المشهور، وقد يكون وجه الإعراض لدليل آخر وعلّة أُخرى لا تقدح بصحّة الخبر.
قد تجد في الأوان الأخير من يخالف سيرة علماء الشيعة، ويتشبّث بحكاية عرض الكافي على الإمام المهدي عليه السلام ، ويستنصر لمقولة : «الكافي كافٍ لشيعتنا» بعد تلطيفها! وينسب للكليني رحمه الله على أثر ذلك أشياء لا دليل عليها، فتراه يجزم تارةً بأنّ للكليني صلاتٍ وتردّدا مع السفراء الأربعة رضي اللّه تعالى عنهم، ويؤكّد تارةً أخرى على أنّ كبار علماء الشيعة كانوا يأتون إلى الكليني ويسألونه وهو في مجالس سفراء الإمام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، وثالثة يتساءل: كيف لم يطلب أحد السفراء
ص: 71
من الكليني كتابه لعرضه على الإمام عليه السلام ؟
وجميع هذا الكلام باطل؛ أمّا عن الصِّلات والترّدد، فاعلم أنّه لا توجد للكليني رواية واحدة في الكافي عن أيٍّ من السفراء الأربعة (رضي اللّه تعالى عنهم) بلا واسطة، مع أنّه استقرّ ببغداد قبل سنة (310 ه )، وحدّث عن بعض مشايخ بغداد كما مرّ في مشايخه.
كما أنّ ثقة الإسلام لم يُكثر من الرواية عنهم بالواسطة، بل إنّ مروياتهم في الكتب الأربعة نادرة جدّا ، ولعلّها لا تزيد على عشرة أحاديث، منها حديثان فقط أخرجهما الكليني(1).
ولا ننسى في المقام دور أهل البيت عليهم السلام في كيفيّة توجيه رواة الحديث إلى الطرق الكفيلة بمعرفة الحديث الصحيح وتمييزه عن غيره بقواعد رصينة سار عليها علماء الشيعة إلى اليوم.
وأمّا ما ذُكر في المقام من دأب السفراء الأربعة (رضي اللّه عنهم) على متابعة الكتب والتأكّد من سلامتها! فهو كذب عليهم، مع المبالغة الظاهرة.
وأمّا عن الاستدلال على حكاية العرض، بالتوقيع الخارج من الناحية المقدّسة إلى الصدوق الأوّل (ت 329 ه )(2)، كما في الكليني والكافي(3) فلا ينبغي لأحد أن يصدّقه دليلاً، أو يتوهّمه شاهدا على صحّة احتمال عرض الكافي أو بعضه على الإمام المهدي عليه السلام بتوسّط أحد السفراء رضي اللّه عنهم؛ لاختلاف الموضوع بينهما اختلافا جذريا بحيث لا يمكن أن يُقاس أحدهما بالآخر.
ومما تقدّم يعلم أنّ الاغترار بحكاية «الكافي كافٍ لشيعتنا» وتصحيحها أو تلطيفها لا يستند إلى أيّ دليل علمي، بل جميع الأدلّة المتقدّمة قاضية ببطلان تلك الحكاية
ص: 72
التي لم يعرفها أحد ولا سمع بها أحد في أكثر من سبعة قرون بعد وفاة الكليني. ولا يستبعد أن يكون أصل الحكاية من اشتباهات بعض المشايخ المغمورين في زمان رواج المنهج الإخباري بحديث الشيخ الصدوق الذي أسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى «كهيعص» وأنّه قال عليه السلام : «الكاف: كاف لشيعتنا...»(1)، فانصرف ذهن المشتبه إلى كتاب الكافى¨، ثمّ نسب هذا للإمام المهدي عليه السلام بلحاظ أنّ الكليني لم يدرك
الإمام الصادق عليه السلام .
لعلماء الشيعة - قديما وحديثا - إزاء أحاديث الكافي ثلاثة مواقف، هي:
الموقف الأوّل: النظر إلى روايات الكافي سندا ودلالةً، والتعامل معها على أساس معطيات علمي الرجال والحديث دراية ورواية، وهذا هو رأي الأصوليين وأكثر العلماء والفقهاء والمحقّقين.
الموقف الثاني: الاطمئنان والوثوق بصحّة أحاديث الكافي ، بالمعنى المتعارف
عليه قبل تقسيم الأخبار إلى صحيح وحسن موثّق وضعيف، وهذا هو قول: الأخباريين الذي يمثل جانب الاعتدال بالقياس إلى الموقف الثالث .
الموقف الثالث: الحكم بقطعيّة صدور أحاديث الكافي عن المعصومين عليهم السلام، وهو قول الأسترآبادي، والخليل بن غازي القزويني، ومن وافقهم من الأخباريين، وهو شبيه بقول العامّة بشأن أحاديث البخاري ومسلم، ولا دليل عليه إلاّ بعض القرائن التي صرّح المحدّث النوري بأنّها لا تنهض بذلك.
اختلف المنهج السندي في كتاب الكافي اختلافا كلّيا عن المنهج السندي في كتاب
ص: 73
من لا يحضره الفقيه وكتابي التهذيب والاستبصار، إذْ سَلَكَ كلّ من المحمّدين الثلاثة طريقا يختلف عن الآخر في إسناد الأحاديث.
فحذف الصدوق أسانيد الأحاديث التي أخرجها في الفقيه للاختصار، ولم يُسند في متن الكتاب غير تسعة أحاديث فقط(1) بحسب ما استقرأناه. وقد استدرك على ما رواه بصورة التعليق بمشيخة في آخر الكتاب أوصل بها طرقه إلى أغلب مَنْ روى عنهم .
وأما الشيخ الطوسي فقد سلك في التهذيب والاستبصار تارةً مسلك الشيخ الكليني، واُخرى مسلك الشيخ الصدوق في الفقيه وذلك بحذف صدر السند والابتداء بمن نقل من كتابه أو أصله، مع الاستدراك في آخر الكتابين بمشيخةٍ.
وأما الكليني: فقد سلك في الكافي منهجا سنديا ينمُّ عن قابليّة نادرة وتتبّع واسع وعلمٍ غزير في متابعة طرق الروايات وتفصيل أسانيدها، إذْ التزم بذكر سلسلة سند الحديث إلاّ ما نَدَرَ، مع ملاحظة اُمور كثيرة في الإسناد.
منها: اختلاف طرق الرواية، فكثيرا ما تجده يروي الرواية الواحدة بأكثر من إسنادٍ . وقد يعدل أحيانا عن هذا المنهج عند توافر أكثر من طريق للرواية وذلك بذكر سند الطريق الأوّل ثمّ يعقبه بعد هذا بالطريق الثاني ذاكرا في نهايته عبارة «مثله» إشارة منه
إلى تطابق المتن في كلا الطريقين.
ومن الأُمور التي تلاحظ على منهجه السندي أنّه كثيراً ما يرد في أسانيد الكافي ذكر كُنى الرواة وبلدانهم وقبائلهم وحِرَفِهم .
وهناك مفردات أُخرى في المنهج السندي في كتاب الكافي نشير إلى بعضها اختصارا:
ص: 74
منها: الالتزام بالعنعنة في الإسناد كبديل مختصر عن صيغ الأداء الأُخرى.
ومنها: الأمانة العلميّة في التزام نقل ألفاظ مشايخ السند، ومن ذلك نقله لتردّد الرواة في التحديث عن مشايخهم بلفظ (حدّثني فلان، أو روى فلان)(1).
ومنها: اختصار سلسلة السند المتكرّر بعبارة: (وبهذا الاسناد)(2)، أو حذف تمام السند المتكرّر والاكتفاء بالعبارة المذكورة(3).
ومنها: تنوّع مصادر السند في الكافي، بحيث يمكن تصنيفها على طائفتين رئيسيّتين، هما: الرجال، والنساء الراويات، والرجال إلى معصومين وغيرهم، وهذا الغير إلى صحابة وتابعين وغيرهم، وقد جاءت مرويّاتهم لتتميم الفائدة، وبعضها الآخر لبيان وجه المقارنة بينها وبين مروياته الأُخرى. وأمّا النساء الراويات فقد بلغن ستّا وعشرين امرأة فيما تتبّعناه.
وهُناك بعض المصادر المجهولة في أسانيد الكافي(4).
ومنها: وجود الأحاديث الموقوفة(5)، والمرسلة(6)، والمجهولة ، وهي التي في إسنادها راوٍ لم يُسَمّ، وتسمّى المبهمة، وحكمها جميعا الإرسال، كما توجد فيه الأحاديث المضمرة(7)، مع توفّر بعض الأصناف الأُخرى لخبر الواحد المسند، كلّ صنف بلحاظ
ص: 75
عدد رواته تارةً - وهو ما ذكرناه آنفا - أو باعتبار حال رواته، أو بلحاظ اشتراك خبر الواحد المسند مع غيره كالمعنعن - كما مرّ - والمسلسل(1)، والمشترك(2)، والعالي، والنازل(3)، والمعلّق بشرط معرفة المحذوف.
ومنها: تعبير الكليني عن مجموعة من مشايخه بلفظ: «عدّة من أصحابنا» أو «جماعة من أصحابنا» والأوّل مطّرد، والآخر نادر.
يمكن تلخيص منهج الكليني في رواية متون الكافي بجملة من الأُمور، نذكر أهمّها:
1 - الإكثار من المتون الموشّحة بالآيات القرآنية، خصوصا آيات الأحكام، ولو استلّت تلك الروايات من الكافي لألّفَتْ تفسيرا رائعا لأهل البيت عليهم السلام في أحكام القرآن الكريم.
2 - اشتمال بعض متون الكافي على توضيحات من الكليني(4).
3 - بيان موقفه أحيانا من تعارض مرويّاته(5) وربّما نبّه إلى ما خالف الإجماع على الرغم من صحّته بطريق الرواية(6).
4 - رواية ما زاد على المتن من ألفاظ الرواة؛ لفرط أمانته في نقل الخبر ، وهذا ما
ص: 76
يُسمّى اصطلاحا بمدرج المتن(1).
5 - الاقتباس والرواية من الكتب كالأُصول الأربعمئة وغيرها.
6 - ترك الكثير من الأخبار التي لم يرها قابلةً للرواية.
7 - تصنيف الأحاديث في الأبواب بحسب الصحّة والوضوح، ولذلك فإنّ أحاديث أواخر الأبواب - كما قاله بعض المحقّقين - لا تخلو من إجمال وخفاء(2).
8 - رواية القواعد الأساسيّة في دراية الحديث وروايته وتقديمها في اُصول الكافي .
10 - لا يورد الأخبار المتعارضة، بل يقتصر على ما يدلّ على الباب الّذي عنونه، وربّما دلّ ذلك على ترجيحه لما ذكر(3).
11 - اهتمامه البالغ في رواية المشهور والمتواتر ، خصوصا في أُصول الكافي
وفروعه.
12 - العناية الفائقة برواية ما يتّصل بمكانة أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم وعلمهم وإمامتهم والنصّ عليهم.
13 - إخضاع متون الكافي أُصولاً وفروعا إلى تبويب واحد، دون روضة الكافي .
لتصنيف الأحايث الشريفة وتبويبها وترتيبها طريقتان مشهورتان، هما:
1 - طريقة الأبواب: وفيها يتمّ توزيع الأحاديث على مجموعة من الكتب،
ص: 77
والكتب على مجموعة من الأبواب، والأبواب على عدد من الأحاديث، بشرط أن تكون الأحاديث مناسبةً لأبوابها، والأبواب لكتبها. وقد سبق الشيعةُ غيرَهم إلى استخدام هذه الطريقة.
2 - طريقة المسانيد: التصنيف بموجب هذه الطريقة له صور متعدّدة؛ الجامع بينها هو أن يكون المحور في الترتيب هو الرواة أو المروي عنه .
وقد استخدم الكليني قدس سره الطريقة الأُولى في تصنيف كتابه الكافي، لتلبيتها غرضه في أن يكون كتابه مرجعا للعالِم والمتعلّم. وقد حقّق ثقة الإسلام هذا المطلب على أحسن ما يُرام، إذْ قسّم كتابه الكافي على ثلاثة أقسام رئيسيّة، هي: اُصول الكافي، وفروع الكافي، وروضة الكافي .
ثمّ قسّم أُصول الكافي على ثمانية كتب اشتملت على (499) بابا ، وتجد هذا التصنيف نفسه في فروع الكافي أيضا، إذ اشتملت على (26) كتابا، فيها (1744) بابا. أمّا روضة الكافي فلم يخضعه إلى هذا المنهج من التصنيف، بل ساق أحاديثه تباعا من غير كتب أو أبواب.
هذا وقد أثار الخليل بن غازي القزويني - في المحكي عنه - شبهة حول نسبة الروضة للكليني، فقال في رياض العلماء في ترجمته: «ومن أغرب أقواله: ... وأنّ الروضة ليس من تأليف الكليني رحمه الله ، بل هو من تأليف ابن إدريس»(1).
وجوابها هو أنّ الملحوظ على كتاب الروضة جملة أُمور ، منها:
1 - أُسلوب عرض المرويّات فيه هو الأُسلوب بذاته في أُصول وفروع الكافي ، إذ يبدأ أوّلاً بذكر سلسلة السند كاملة إلاّ ما ندر ، ومن ثمّ اتّباع أُسلوب البحث عن طرق
أُخرى مكمّلة للرواية وترتيب هذه الطرق بحسب جودتها، وهذا هو ما عُمل في أُصول وفروع الكافي .
ص: 78
2 - لغة الروضة من حيث العنعنة السائدة، والاصطلاح المتداول في نظام الإحالة على إسناد سابق، واختصار الأسانيد، والمتابعات والشواهد ، هي بعينها في أُصول الكافي وفروعه.
3 - رجال أوّل السند من مشايخ الكليني إلاّ القليل النادر منهم حيث أخذ مرويّاتهم من كتبهم المتداولة في عصره والمعروفة الانتساب إلى أصحابها الثقات .
4 - طرق روايات الأُصول والفروع إلى أصحاب الأئمّة عليهم السلام هي طرق روايات الروضة أيضا.
5 - روايات العِدَّة التي يروي بتوسّطها عن ثلاثة من المشايخ المعروفين توزّعت على الأُصول والفروع والروضة ، وليس لهذه العِدّة أثر في كتب الحديث الأُخرى .
6 - هناك جملة وافرة من مرويّات الروضة مرتبطة بعناوين بعض كتبه المفقودة، كروايات تعبير الرؤيا المرتبطة بكتاب تعبير الرؤيا المفقود، وروايات رسائل الأئمّة عليهم السلامالمرتبطة بكتاب الرسائل المفقود أيضا. وهذا ما يقرب من احتمال نقلها من كتبه المذكورة إلى كتاب الروضة، لاسيّما وأنّ الكافي آخر مؤلفّات الكليني(1).
مع تصريح المتقدّمين بأنّ الروضة من كتب الكافي ، فقال النجاشي في ترجمة الكليني:
صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يسمى الكافي في عشرين سنة، شرح كتبه: كتاب العقل، كتاب فضل العلم - إلى أن قال - كتاب الروضة(2).
ونظير ذلك ما قاله الشيخ(3).
ص: 79
هذا وقد ذكر الشيخ الكليني في الروضة أمورا شتّى من خطب الأئمّة عليهم السلام ورسائلهم وحكمهم ومواعظهم، مع تفسير عدد كبير من الآيات القرآنية الكريمة، كما تضمّن نتفا من الأحداث التاريخية المهمّة، وسير بعض الصحابة وكيفيّة إسلامهم.
ويبدو للباحث أنّ هذا الجزء الحافل بمختلف الأخبار من عقائد وتفسير وأخلاق وقصص وتاريخ وجغرافية وطبّ وفلك ، جاء اسما على مسمّاه، فهو كالروضة الندية حقّاً .
ما قاله العلماء من كلمات الثناء العاطر على شخصيّة الكليني ودوره العلمي والثقافي تدلّ على مكانته المرموقة التي قلّما وصل إليها الأفذاذ، ولم ينحصر هذا الثناء بعلماء الشيعة، بل أطراه علماء العامّة، بل والمستشرقون أيضاً . إليك فيما يلي بعضها:
1 - تلميذه الشيخ الصدوق (ت 381 ه ) قال:
حدّثنا الشيخ الفقيه محمّد بن يعقوب رضي اللّه عنه(1).
2 - النجاشي (ت 450 ه ) قال في ترجمته:
شيخ أصحابنا في وقته بالريّ ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث، وأثبتهم ...(2).
3 - الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) قال في الفهرست :
ثقة، عارف بالأخبار(3).
ص: 80
وقال في الرجال :
جليل القدر، عالم بالأخبار(1).
4 - العلاّمة الطبرسي (ت 548 ه ) قال في ذكر الدلالة على إمامة الحسن بن علي عليه السلام :
فمن ذلك: ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني وهو من أجلّ رواة الشيعة وثقاتها(2).
5 - السيّد ابن طاووس الحلّي الحسني (ت 664 ه ) قال في فرج المهموم :
الشيخ المتّفق على عدالته وفضله وأمانته محمّد بن يعقوب الكليني(3).
6 - العلاّمة الحلّي (ت 726 ه ) قال :
شيخ أصحابنا في وقته بالريّ ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم(4).
7 - المحقّق الكركي (ت 940 ه ) قال في إجازته للشيخ أحمد بن أبي جامع:
وأعظم الأشياخ في تلك الطبقة الشيخ الأجلّ جامع أحاديث أهل البيت
عليهم السلام صاحب كتاب الكافي في الحديث، الذي لم يعمل الأصحاب مثله(5).
8 - الشهيد الثاني (ت 966 ه ) قال في إجازته للسيّد علي بن الصائغ الحسيني الموسوي:
عن الشيخ السعيد الجليل رئيس المذهب أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني، عن
رجاله المتضمّنة لكتابه الكافي ، الذي لا يوجد في الدنيا مثله جمعا للأحاديث وتهذيبا للأبواب، وترتيبا، صنّفه في عشرين سنة، شكر اللّه تعالى سعيه، وأجزل أجره، عن رجاله المودعة بكتابه وأسانيده، المثبتة فيه بشرطه المعتبر عند أهل دراية الأثر(6).
9 - الشيخ حسين بن عبدالصمد (ت 984 ه ) قال في وصول الأخيار :
ص: 81
أمّا كتاب الكافى¨، فهو للشيخ أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني رحمه اللّه شيخ عصره في وقته، ووجه العلماء والنبلاء، وكان أوثق الناس في الحديث، وأنقدهم له، وأعرفهم به، صنّف الكافي وهذّبه وبوّبه في عشرين سنة، وهو يشتمل على ثلاثين كتابا يحتوي على ما لا يحتوي غيره(1).
10 - الشهيد الثالث القاضي نور اللّه التستري (ت 1019 ه ) قال في مجالس المؤمنين :
ثقة الإسلام، وواحد الأعلام خصوصا في الحديث، فإنّه جهينة الأخبار، وسابق هذا المضمار، الذي لا يُشقّ له غبار، ولا يُعثر له على عِثار(2).
11 - المحقّق الداماد (ت 1041 ه ): قال في الرواشح:
وإن كتاب الكافي لشيخ الدين، وأمين الإسلام، نبيه الفرقة، ووجيه الطائفة، رئيس المحدّثين، حجّة الفقه والعلم والحقّ واليقين، أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني رفع اللّه درجته في الصديقين، وألحقه بنبيّه وأئمّته الطاهرين(3).
12 - صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (ت 1050 ه ) قال في شرح أُصول الكافي :
أمين الإسلام، وثقة الأنام، الشيخ العالم الكامل، والمجتهد البارع، الفاضل محمّد بن يعقوب الكليني، أعلى اللّه قدره، وأنار في سماء العلم بدره(4).
13 - العلاّمة المجلسي (ت 1111 ه ) قال في مرآة العقول :
وابتدأت بكتاب الكافي للشيخ الصدوق، ثقة الإسلام، مقبول طوائف الأنام، ممدوح الخاصّ والعامّ، محمّد بن يعقوب الكليني، حشره اللّه مع الأئمّة الكرام؛ لأنّه كان أضبط الأُصول وأجمعها، وأحسن مؤلّفات الفرقة الناجية وأعظمها(5).
14 - السيّد بحر العلوم (ت 1212 ه ) قال :
ص: 82
محمّد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، ثقة الإسلام، وشيخ المشايخ الأعلام، ومروّج المذهب في غيبة الإمام عليه السلام ذكره أصحابنا والمخالفون، واتّفقوا على فضله، وعظم منزلته(1).
15 - السيّد محمّد باقر الخوانساري (ت 1313 ه ) قال بعد بيان مَن مدحه من علماء العامّة - :
وبالجملة فشأن الرجل أجلّ وأعظم من أن يختفي على أعيان الفريقين، أو يكتسي ثوب الإجمال لدى ذي عينين، أو ينتفي أثر إشراقه يوما بعد البين؛ إذ هو في الحقيقة أمين الإسلام، وفي الطريقة دليل الأعلام، وفي الشريعة جليل قدّام، ليس في وثاقته لأحد كلام، ولا في مكانته عند أئمّة الأنام، وحسب الدلالة على اختصاصه بمزيد الفضل، وإتقان الأمر، اتّفاق الطائفة على كونه أوثق المحمّدين الثلاثة الذين هم أصحاب الكتب الأربعة، ورؤساء هذه الشرعة المتَّبَعَة(2).
16 - المحدّث النوري (ت 1320 ه ) قال في خاتمة المستدرك :
فخر الشيعة، وتاج الشريعة، ثقة الإسلام، وكهف العلماء الأعلام، أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني... الرازي، الشيخ الجليل، العظيم، الكافل لأيتام آل محمّد عليهم السلام بكتابه الكافي(3).
17 - الشيخ عبّاس القمّي (ت 1359 ه ) قال:
الشيخ الأجل، الأوثق، الأثبت، أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي، كهف العلماء الأعلام، ومفتي طوائف الإسلام، ومروِّج المذهب في غيبة الإمام عليه السلام ثقة الإسلام، صاحب كتاب الكافي(4).
18 - الإمام الخميني قدس سره (ت 1409 ه ) وصف الكليني رحمه الله بأوصاف منها :
أفضل المحدّثين ، إمامهم ، ثقة الإسلام والمسلمين ، حجّة الفرقة ، رئيس الأُمّة،
ص: 83
ركن الإسلام وثقته، سلطان المحدّثين، شيخ المحدّثين وأفضلهم ، عماد الإسلام
والمسلمين، فخر الطائفة الحقّة ومقدّمهم(1).
1 - أبو السعادات مبارك بن محمّد بن الأثير الجزري (ت 606 ه ): قال في جامع الأُصول :
أبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي الفقيه الإمام على مذهب أهل البيت [عليهم السلام]، عالم في مذهبهم، كبير، فاضل عندهم، مشهور(2).
كما ذكر حديث المجدّدين، وجعل الكليني قدس سرهمن المجدّدين على رأس المئة الثالثة، فقال:
ومن خواصّ الشيعة أنّ لهم على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد مذهبهم ، وكان مجدّده على رأس المئتين علي بن موسى الرضا[ عليهماالسلام] وعلى المئة الثالثة محمّد بن يعقوب(3).
2 - الذهبي، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد (ت 748 ه ): قال:
محمّد بن يعقوب الكليني، من رؤوس فضلاء الشيعة في أيّام المقتدر(4).
وقال في تاريخ الإسلام :
محمّد بن يعقوب، أبو جعفر الكليني الرازي: شيخ، فاضلٌ، شهيرٌ، من رؤوس الشيعة وفقهائهم المصنّفين(5).
3 - ابن ناصر الدين محمّد بن عبداللّه بن محمّد القيسي (ت 842 ه ) نقل كلام الذهبي في المشتبه في خصوص الإطراء على الكليني ووافقه(6).
ص: 84
4 - ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852 ه ) قال في التبصير :
وأبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني الرازي، من فقهاء الشيعة، ومصنّفيهم، يُعرف
بالسلسلي ؛ لنزوله درب السلسلة ببغداد(1).
5 - الزَّبِيدي الحنفي (ت 1205 ه ) قال في تاج العروس في مادّة (كلان) :
كلين... بلدة بالري، منها: أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني، من فقهاء الشيعة، ورؤوس فضلائهم في أيّام المقتدر، ويُعرف أيضا بالسلسلي؛ لنزوله درب السلسلة ببغداد(2).
6 - الزركلي الوهابي (ت 1396 ه ) قال:
محمّد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، فقيه إمامي، من أهل كلين بالريّ، كان شيخ الشيعة ببغداد وتوفّي فيها(3).
7 - عمر رضا كحالة قال في معجم المؤلّفين:
محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكليني الرازي، السلسلي، البغدادي، أبو جعفر، من فقهاء الشيعة، عارف بالأخبار، والحديث، سكن بغداد بباب الكوفة، وتوفّي ببغداد(4).
8 - المستشار عبدالحليم الجندي قال عند كلامه عن الأُصول الأربعمئة في الحديث:
وخير ما جمع منها كتب أربعة، هي مرجع الإمامية في أُصولهم وفروعهم إلى اليوم، وهي: الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار . والكافي للكليني أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه ) أعظمها، وأقومها، وأحسنها، وأتقنها، فيه: 16190 حديثا، ألّفه الكليني في عشرين سنة(5).
ص: 85
1 - قال Donaldisin Dawyt.M عن المحمّدين الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة (الكليني، والصدوق، والطوسي رضي اللّه تعالى عنهم):
وأوّل هؤلاء المحمّدين، وأعلاهم منزلة هو محمّد بن يعقوب الكليني الذي ألَّف كتاب الكافي في علم الدين(1).
2 - قال Karil Prokilman:
وفي أوائل القرن الرابع الهجري كان مجدّد فقه الإمامية هو أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكوليني [كذا] الرازي(2).
ص: 86
المحدّث الكليني وأثره الخالد
الشيخ جعفر السبحاني
محمّد بن يعقوب بن إسحاق ، ثقة الإسلام وشيخ المحدّثين أبو جعفر الكليني الرازي ، البغدادي ، صاحب كتاب الكافي أحد الكتب الأربعة عند الشيعة الإمامية.
ولد بعد منتصف القرن الثالث ، أي بعد عام 250 ه ، وتوفّي عام 329 ه .
إنّ للأُسرة الّتي يترعرع فيها الإنسان تأثيرا في تكوين شخصيته ونموّ سجاياه ورسم مؤهّلاته ، وقد ولد الشيخ الكليني في أُسرة علمية عريقة ، وتربّى في أحضانٍ فاضلة شريفة .
فوالده هو أحد علماء الري ، وقد انتقل إلى موطنه (كُلين) وبقي فيها إلى أن تُوفّي ، وقبره هناك معروف يُزار .
وأخوه إسحاق بن يعقوب أحد من يروي عنه الكليني على ما في غيبة الشيخ الطوسي، بإسناده عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن إسحاق بن يعقوب ، قال :
سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فوقع التوقيع بخطّ مولانا صاحب الدار عليه السلام : «أمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه تعالى وثبّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا...»، وجاء في آخره : «والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب ، وعلى من اتّبع الهدى»(1) .
ص: 87
وأمّا أُمّه فهي أيضا من بيت عريق في العلم والحديث ، وكانت عالمة فاضلة ، تربّت في هذا البيت الّذي أنجب العديد من المحدّثين والعلماء .
فوالدها هو الشيخ محمّد بن إبراهيم بن أبان ، وصفه الشيخ الطوسي بقوله :
محمّد بن إبراهيم معروف بعلاّن الكليني ، خيّر(1) .
وعمّها هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبان ، يعرّفه الشيخ الطوسي بقوله : أحمد بن إبراهيم المعروف بعلاّن الكليني ، خيّر ، فاضل من أهل الري(2) .
وأخوها هو الشيخ علي بن محمّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني ، يعرّفه النجاشي بقوله :
علي بن محمّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلاّن ، يُكنّى أبا الحسن ، ثقة ، عين ، له كتاب أخبار القائم عليه السلام (3) .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ «علاّن» لقب للعائلة ، حيث إنّ الجدّ والأب والخال يُطلق عليهم علاّن ، وخال الكليني هذا من مشايخه .
ويظهر من العلاّمة المامقاني أنّ ابن الخال محمّد بن علي وحفيده القاسم من محمّد كانا من علماء عصرهما(4) .
وهذا يدلّ على أنّ العلم قد ضرب بجرانه في هذه الأُسرة قبل الكليني وبعده ، وأنّه نشأ بين ظهرانيهم وتألّق نجمه عندهم ، فصار من أكابر المحدّثين وأعظم المجتهدين في عصره ، على وجهٍ أطلق لسان كلّ موافق ومخالف للثناء عليه وإطرائه .
إنّ البيئة الّتي عاش فيها الكليني كان يغلب عليها التشيّع ، فقد كانت الري وقمّ من
ص: 88
معاقل الشيعة ومراكز تجمّعهم.
ولكنّ الأفكار السائدة في العالم الإسلامي آنذاك ، كانت تميل إلى التجسيم والتشبيه وإثبات الجهة للّه سبحانه والقول بالجبر والقدر ، إلى غير ذلك ممّا طفحت به
كتب المحدّثين في ذلك العصر ، وذلك بعد أن مات المأمون والمعتصم اللذان كانا يؤيّدان التيّار العقلي ويحاربان تيّار المحدّثين الذين طغى عليهم الجمود ، ولمّا جاء المتوكّل ومن خَلَفه ، انقلبت سياسة البيت العبّاسي إلى تقريب أهل الحديث المتشدّدين وإقصاء أهل العقل والكلام ، وبهذا راجت الروايات المدسوسة من قبل مسلمة أهل الكتاب حول ما ذكرنا من أفكار وآراء .
كما ظهرت طوائف مختلفة ، فمن محدّث يحمل لواء التشبيه والتجسيم ويضمّ في جرابه كلّ غثّ وسمين لا يبالي عمّن أخذ وما أخذ ، إلى خارجي يكفّر جميع طوائف المسلمين بمل ء فمه ، ويحبّ الشيخين ويبغض الصهرين ، إلى دُخلاء في الإسلام يتظاهرون به صونا لدمائهم ويوجّهون سهام غدرهم إلى ظهور المسلمين ، إلى غير ذلك من الطوائف والأفكار المنحرفة الّتي نشأت بعد إقصاء العقل والعقليّين .
ويكفيك أنّ محمّد بن أبي إسحاق بن حُزَيمة (ت 311 ه ) ، كان من ثمرات ذلك العصر ، وقد ألّف كتابا أسماه التوحيد في إثبات صفات ربّ العالمين، وهو في الحقيقة كتاب شرك ، وقد قال عنه الرازي :
إنّه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل(1) .
وليس ابن حُزَيمة هو الوحيد في نشر التجسيم والتشبيه ، فقد سبقه في ذلك خُشَيش بن أصرَم (ت 525 ه ) مصنّف كتاب الاستقامة ، والّذي عرّفه الذهبي بأنّه : «يردّ فيه على أهل البدع»(2) . ويريد الذهبي ب «أهل البدع» أهل التنزيه الذين لا يُثبتون
ص: 89
للّه سبحانه خصائص الموجود الإمكاني وينزهّونه عن الجسم والجسمانية .
ولحقه أحمد بن محمّد السِّجِستاني السَّجزِي ، وقد اعتمد عليه الذهبي قائلاً :
بلغني أنّ ابن خزيمة حسن الرأي فيه ، وكفى بهذا فخرا(1) .
وكان لتلك الأفكار انتشار وصدى في الحواضر الإسلامية ، ولأجل نقد هذه المسائل ، عقد شيخنا الكليني في أُصول الكافي أبوابا وفصولاً عديدة لردّها وإبطالها.(2)
وكان أبو الحسن الأشعري (المعاصر للكليني) في أوّل أمره معتزليا رافعا لواء العقل والتفكير ، إلاّ أنّه رجع في عام 305 ه عن ذلك المنهج ، والتحق بمنهج الإمام أحمد مناديا بأعلى صوته في الجامع الكبير في البصرة : «من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت قلتُ بخلق القرآن ، وأنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ، وأنّ أفعال الشرّ أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للردّ على
المعتزلة»(3) .
وهذا يشير إلى أنّ الجوّ العامّ في ذلك العصر لم يكن لصالح الداعين إلى التحرّر من الجمود والتقليد ، وإعمال الفكر والنظر .
لم يكن الشيخ الكليني متمكّنا من فنّ الحديث فحسب ، بل كان مع براعته فيه ، ملمّا بثقافة عصره ، مشاركا أو متخصّصا في أكثر من فرع من فروعها ، يظهر ذلك ممّا جاد به قلمه في كتبه العديدة .
فأدبه الراقي تبدو ملامحه من خلال مقدّمة الكافي وكذا من ثنايا هذا الكتاب ، كقوله :
ص: 90
الحمد للّه المحمود لنعمته ، المعبود لقدرته ، المطاع في سلطانه ، المرهوب لجلاله ، المرغوب إليه فيما عنده ، النافذ أمره في جميع خلقه ، علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كلّ منظر ، الّذي لا بدء لأوّليته ، ولا غاية لأزليته(1) .
ومن ملامح أدبه - أيضا - أنّه أفرد كتابا فيما قيل في الأئمّة عليهم السلام من الشعر .
أمّا معرفته بالرجال فتبرز واضحة في الكافي ، حيث إنّ الأسانيد الّتي يسوقها قبل الرواية تعرب عن اطّلاعه الواسع على المشايخ والتلاميذ وطبقاتهم ، مضافا إلى أنّ له كتابا خاصّا في علم الرجال ، ذكره مترجموه ، إلاّ أنّه - للأسف - مفقود ، ولو وصلنا هذا الكتاب لنفعنا كثيرا .
هذا ولم تقتصر معرفة الكليني بالأدب والرجال ، وإنّما شملت علم الكلام أيضا ، حيث ذكر بعض آرائه الكلامية في ثنايا الأحاديث ، خصوصا في الجزء الأوّل .
أضف إلى أنّه ألّف كتابا في ردّ القرامطة أصحاب النحلة الفاسدة المنشقّة من الإسماعيلية .
إنّ أهمّ أثر تركه شيخنا المحدّث هو الكافي ، الّذي أمضى في تأليفه عشرين عاما من عمره الشريف ، ولذلك أصبح الكتاب من أوثق الكتب الحديثية ، وقد وصفه الشيخ المفيد بأنّه من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة(2) .
ويقول الشهيد في إجازته لابن الخازن :
كتاب الكافي في حديث ، الّذي لم يعمل الإمامية مثله(3) .
والمشهور أنّه يحتوي على 16199 حديثا ، وهو يزيد على ما في الصحاح الستّة من الأحاديث بعد حذف المكرّرات منها .
ص: 91
قد سمعت كلمة المفيد والشهيد في حقّ شيخنا المترجم ، وإليك كلمات أُخرى لعلماء الفريقين ، وسنقتصر على القليل بدل الكثير :
1 - قال النجاشي :
محمّد بن يعقوب بن إسحاق ، أبو جعفر الكليني ، شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ، صنّف الكتاب الكبير المعروف الّذي يُسمّى الكافي في عشرين سنة(1) . ثمّ ذكر كتبه .
2 - وقال الشيخ الطوسي :
محمّد بن يعقوب الكليني يُكنّى أبا جعفر ، جليل القدر ، عالم بالأخبار ، وله مصنّفات يشتمل عليها الكتاب المعروف بالكافي(2) .
3 - وقال في الفهرست :
محمّد بن يعقوب الكليني ، يُكنّى أبا جعفر ، ثقة ، عارف بالأخبار ، له كتب، منها كتاب الكافي يشتمل على ثلاثين كتابا(3) .
هذا بعض ما قاله علماء الشيعة في حقّه ، وإليك بعض النصوص من علماء السنّة ، وقد ذكروه بإجلال من دون أيّ غمز فيه .
4 - ذكره مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد المعروف بابن الأثير (ت 606 ه ) في جامع الأُصول في تفسير ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أنّه قال :
«إنّ اللّه يبعث الأُمّة على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها دينها» - وقال : أخرجه أبو داوود(4) .
ثمّ ذكر أنّ العلماء تكلّموا في تأويل هذا الحديث كلّ واحد في زمانه ، ثمّ قال :
ص: 92
ونحن نذكر الآن المذاهب المشهورة في الإسلام التي عليها مدار المسلمين في
أقطار الأرض ، وهي : مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، ومذهب الإمامية ، ومن كان المشار إليه من هؤلاء على رأس كلّ مئة سنة .
ثمّ ذكر أنّ الإمام الباقر هو مجدّد مذهب الإمامية على رأس المئة الأُولى ، والإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام على رأس المئة الثانية . ثمّ قال :
وأمّا من كان على رأس المئة الثالثة... أبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي من الإمامية(1) .
5 - وذكره عزّ الدين أبو الحسن علي بن محمّد المعروف بابن الأثير (ت 630 ه ) في حوادث عام 328 ه ، وقال :
وفيها توفّي محمّد بن يعقوب ، (وقُتل محمّد بن علي) أبو جعفر الكليني وهو من أئمّة الإمامية وعلمائهم(2) .
6 - وقال عنه ابن حجر :
محمّد بن يعقوب بن إسحاق ، أبو جعفر الكليني ، سكن بغداد وحدّث بها عن محمّد بن أحمد (بن عبد الجبّار) وعلي بن إبراهيم بن هشام ، كان من فقهاء الشيعة والمصنّفين على مذهبهم ، توفّي سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة ببغداد(3) .
إلى غير ذلك من الكلمات الّتي لا مجال لنقلها .
إنّ التاريخ لم يسجّل رحلات الكليني في أخذ الحديث وعرضه ، إذ لا شكّ أنّه كانت له رحلات في أخذ الحديث وعرض كتابه ، فإنّ أكثر مشايخه وإن كانوا متواجدين
ص: 93
في قمّ والري ، ولكنّ قسما منهم كانوا في خارج ذينك البلدين ، حتّى أنّ بعض مشايخه كان من منطقة آذربايجان ، وبما أنّ الكليني كان ملتزما بأخذ الحديث من الراوي شفهيا ، فلابدّ من أن تكون له رحلات إلى بعض المناطق الّتي يتواجد فيها أئمّة الحديث وكتبهم .
والّذي ذكره التاريخ هو رحلته إلى بغداد عام 327 ه ، ولكنّه لم يقتصر على هذه الرحلة ، بل إنّه قصد دمشق وبعلبك ، وهذا ما يذكره الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر ، حيث يقول :
محمّد بن يعقوب من شيخ الرافضة ، قدم دمشق وحدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمّد بن علي الجعفري السمرقندي ، ومحمّد بن أحمد الخفّاف النيسابوري ، وعلي بن إبراهيم بن هاشم .
روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي ، وأبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم (بياض في الأصل) ، وأبو القاسم علي بن محمّد بن عبدوس الكوفي ، وعبد اللّه بن محمّد .
أنبأنا أبو الحسن... (بياض في الأصل) بن جعفر ، قالا : أنبأنا جعفر بن أحمد بن حسين بن السرّاج ، أنبأنا أبو القاسم المحسن حمّزة... الورّاق بتنيس ، أنبأنا أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الديبلي بتنيس في المحرّم سنة خمس وتسعين وثلاثمئة ، أنبأنا أبو القاسم علي بن محمّد بن عبدوس الكوفي ، أخبرني محمّد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن موسى بن إبراهيم المحاربي ، عن الحسن بن موسى ، عن موسى بن عبد اللّه ، عن جعفر بن محمّد ، قال : قال أمير المؤمنين : إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله .
أخبرنا أبو محمّد بن حمزة - بقراءتي عليه - عن أبي زكريا عبد الرحيم بن أحمد . وأخبرنا أبو القاسم بن السوسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن يونس ، أنبأنا أبو زكريا . وأخبرنا أبو الحسين أحمد بن سلامة بن يحيى ، أنبانأ سهل بن بشر ، أنبأنا رشأ بن نظيف ، قالا : حدّثنا عبد الغني بن سعيد قال : فأمّا الكُليني - بضمّ الكاف والنون بعد الياء - : فمحمّد بن يعقوب الكُليني ، من الشيعة المصنّفين ، مصنّف على
ص: 94
مذاهب أهل البيت .
قرأت على أبي محمّد بن حمزة ، عن أبي نصر بن ماكولا ، قال(1) :
وأمّا الكُليني - بضمّ الكاف ، وإمالة اللاّم ، وقبل الياء نون - فهو : أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكُليني الرازي ، من فقهاء الشيعة المصنّفين في مذهبهم ، روى عنه أبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم الصيمري وغيره ، وكان ينزل بباب الكوفة في درب السلسلة ببغداد ، وتوفّي فيها سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة ، ودُفن بباب الكوفة في مقبرتها. قال الأمير ابن ماكولا : ورأيت أنا قبره بالقرب من صراة الطائي عليه لوح مكتوب فيه : هذا قبر محمّد بن يعقوب الرازي الكُليني الفقيه(2) .
حظيَ كتاب الكافي منذ أن ظهر إلى النور باهتمام العلماء والمحدّثين ، قراءةً واستنساخا ونشرا ، ثمّ تعليقا وشرحا ودراسةً. وإليك بعض ما يدلّ على ذلك :
قال النجاشي (ت 450 ه ) في ترجمته للكليني :
كنت أتردّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي ، وهو مسجد نفطويه النحوي ، أقرأ القرآن على صاحب المسجد ، وجماعة من أصحابنا يقرأون كتاب الكافي ، على ابن الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب ، (حدّثكم) محمّد بن يعقوب الكليني ، ورأيت أبا الحسن العقرائي ، يرويه عنه(3) .
وهذا يعني أن الشيخ العقرائي يروي الكافي عن مؤلّفه بلا واسطة ، وهو صريح قول النجاشي : «يرويه عنه» .
ويقول في ترجمة العقرائي :
إسحاق بن الحسن بكران أبو الحسين العقرائي (وقد مرّ في ترجمة الكليني أنّه أبو الحسن) كثير السماع ضعيف في مذهبه ، رأيته في الكوفة وهو مجاور ، وكان يروي
ص: 95
كتاب الكليني عنه ، وكان في هذا الوقت علوّا ، فلم أسمع منه شيئا . وفي النسخ المطبوعة (غلوّا) ، والظاهر أنّه تصحيف (علوّا) ، والمراد به : أنّه كان طاعنا في السنّ وعلوّا في الإسناد ، حيث ينقل عن المؤلّف بلا واسطة .(1)
والشاهد على ما ذكرنا أنّ النجاشي ذكر ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الواحد المعروف بابن عبدون ، قال : ولقد لقي أبا الحسن علي بن أحمد القرشي المعروف بابن الزبير ، وكان علوّا في الوقت (أي عمّر مئة سنة ، ومات ابن الزبير سنة 348 ه )(2) .
وممّن روى كتاب الكافي عن المؤلّف المحدّث الشريف جعفر بن محمّد بن قولويه صاحب كامل الزيارات (ت 369 ه ) ، ويدلّ على ذلك ما ذكره النجاشي في سنده إلى الكافي ، يقول :
عن جماعة شيوخنا ، محمّد بن محمّد (بن النعمان المفيد) ، والحسين بن عبيد اللّه (الغضائري) ، وأحمد بن علي بن نوح (السيرافي) ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه ، عنه(3) .
ولأبي غالب أحمد بن محمّد الزراري (ت 368 ه ) عناية خاصّة بهذا الكتاب ، يكشف عنها قوله في رسالته إلى حفيده في ذكر آل أعين :
وجميع كتاب الكافي تصنيف أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني : روايتي عنه ، بعضه قِراءةً ، بعضه إجازةً، وقد نسخت منه كتاب الصلاة والصوم في نسخة ، وكتاب الحجّ في نسخة ، وكتاب الطهر والحيض في جزءٍ ، والجميع مجلّد ، وعزمي أن أنسخ بقية الكتاب إن شاء اللّه في جزء واحد ، ورق طلحي(4) .
وفي هذا المجال يأتي قول العلاّمة الحلّي (ت 726 ه ) في إجازته للسيّد ابن مُهنّا :
وأمّا الكافي للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني ، فرويت أحاديثه المذكورة المتّصلة
ص: 96
بالأئمّة عليهم السلام عنّي وعن والدي والشيخ أبي القاسم جعفر بن سعيد وجمال الدين أحمد بن طاووس وغيرهم ، بإسنادهم المذكور إلى الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه ، عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن رجاله المذكورة في كلّ حديث عن الأئمّة عليهم السلام(1) .
أمّا التعليقات والشروح والدراسات ، فلا نرى حاجة للحديث عنها ؛ لكثرتها وانتشار عدد كبير منها .
اتُّهم الشيخ الكليني بالقول بتحريف القرآن أكثر من الآخرين ؛ وما ذلك إلاّ لأنّه أورد في كتابه روايات ربّما يستظهر منها المخالف - من دون دراسة السند والمتن - القول بالتحريف ، وقد قام غير واحد من المحقّقين بالإجابة عن هذه الروايات ببيان ضعف إسنادها وعدم دلالتها على ما يرومه الخصم ، والّذي يهمّنا هو ما ربّما يوجد في بعض النسخ عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال :
إنّ القرآن الّذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلى الله عليه و آله سبعة عشر ألف آية(2) .
وهذه رواية شاذّة لا تفيد علما ولا عملاً ، ولا يقبله العقل السليم ، مضافا إلى أنّ نسخ الكافي مختلفة ، فهذا هو المحدّث الكبير الفيض الكاشاني نقلها عن الكافي على لفظ سبعة آلاف آية(3) .
يقول المحقّق الشعراني :
إنّ لفظ (عشر) من زيادة النسّاخ أو الرواة ، والأصل هو سبعة آلاف ، فإنّ لفظة (سبعة آلاف) هي القريبة من الواقع الموجود بأيدينا ، وظاهر الحديث أنّه ليس بصدد إحصاء عدد الآيات ، بل الغاية من ذلك إطلاق العدد التامّ المتناسب مع الواقع بعد
ص: 97
حذف الكسور أو تتميمها ، كما هي العادة والمتعارف في الاستعمال(1) .
والعجب أنّ خصوم الكليني بين من ينقله عنه بلفظ سبعة عشر ألف آية ، كالآلوسي(2) ، وبين من ينقله بلفظ سبعة آلاف آية ، كموسى جار اللّه (3) .
غير أنّ أحد خصومه كأبي الحسن الندوي ، لم يرتض كلا العددين ، فنقله في رسالته(4) بصورة : سبعين ألف آية .
والّذي أقترحه على اللجنة المشرفة على تصحيح الكافي دراسة الموضوع ،
وملاحظة النسخ قديمها وحديثها حتّى يتجلّى الحقّ بأظهر صوره .
1 - التعليق على المواضيع الّتي روي فيها الحديث معلّقا أو الإسناد محوّلاً ، أو نقل بلفظ «بهذا الإسناد» ، أو «بالإسناد» ، فيجب توضيح هذه الموارد في كلّ صفحة ورد فيها دون أن يقتصر على موردٍ واحد ، وعطف عليه سائر الموارد .
2 - تفسير المفردات المشكلة في النثر والنظم الواردين في الكتاب .
3 - التعليق على الأحاديث الشاذّة الّتي لا تتّفق مع ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة ، أو ما اتّفقت عليه الإمامية .
4 - نشر الكتب الّتي نقل عنها الكليني بواسطة أو بلا واسطة ، كبصائر الدرجات والمحاسن للبرقي ، والنوادر لأحمد بن محمّد بن عيسى ، إلى غير ذلك ممّا يمكن أن نصل إليه في المكتبات .
5 - إنّ للشيخ الكليني كتابا - كما ذكرنا - باسم رسائل الأئمّة عليهم السلام وكان هذا الكتاب موجودا عند ولد الفيض ، حيث ينقل عنه في كتابه : مكاتيب الأئمّة عليهم السلام» بلا واسطة ،
ص: 98
فيجدر بأصحاب هذا الشأن البحث عنه في مكتباتنا ، فربّما يكون موجودا فيها .
6 - البحث عن «روضة الكافي» والتوفّر على دراسته ؛ للتأكّد هل هو من تأليفه أو لا؟ وعلى الأوّل ، فهل هو جزء من الكافي ، أو كتاب مستقلّ؟
7 - الفحص عن قبره في بغداد والاهتمام به ، فقد اتّفق المترجمون على أنّه دُفن في باب الكوفة ببغداد ، وقيل : إنّ قبره في درب السلسلة ببغداد بالقرب من صراة الطائي(1) .
8 - التحقيق والفحص عن قبور نوّاب الإمام المهدي عليه السلام الأربعة رحمهم الله .
هذا ما سنح به الوقت لأن نقدّمه إلى الأُخوة الكرام المشاركين في المؤتمر العالمي لثقة الإسلام الكليني رحمه الله ، عسى أن نشاركهم في هذا الثواب الجزيل ، وأن يكون خدمة متواضعة لروح هذا المحدّث الكبير الّذي لم يزل يشعّ نور كتابه على العالم الإسلامي أجمع .
وفي الختام ، نتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى الأُخوة المحقّقين والمشرفين في مؤسّسة «دار الحديث» العامرة . والحمد للّه ربّ العالمين .
ص: 99
ص: 100
منهجية الكليني في «الكافي»
علي محمود البعاج
«وَ مَآ ءَاتَائَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَلاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ»(1)
حمدا لك اللّهمّ وصلاةً وتسليما على عباده الذين اصطفى: محمّد وآله الهداة المهديّين «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» ، وعلى صحبه الأبرار المنتجبين «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُو أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ» ، والشهداء والصدّيقين والعلماء الربّانيّين «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُاْ».
وبعد ، فقد قيّضت المشيئة الإلهيّة والإمدادات الغيبية للحديث الشريف حفظة ، تداولوه بالدرس والتدريس ، وتعاهدوه بالإبانة والتوضيح ، ولم تثنهم عن ذلك طوارق الحدثان ، وذهبوا في ذلك مذاهب شتّى ، ولا ضير ، فإنّ الوصول إلى اللّه «بعدد أنفاس الخلائق»، والحديث المطهّر الامتداد الطبيعي للذكر الحكيم «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى» ، وهو أعرف من أن يُعرّف وأقدس من أن يُحرّف .
وأمّا الكليني فهو وريث المتكلّمين، من أئمّة المحدّثين ، والرعيل الأوّل في الفقهاء الروحانيين من عمد الدين وأركان المذهب ، هو الذي ارتحل من كلين - الري ، وما أدريك ما الري؟ ولودة المحدّثين ، وليطلب الرواية ويدعو الناس إلى الاعتصام
ص: 101
بذمام السنّة الشريفة ، وغاص في عالم من المعرفة فسيح لينظم «الكافي» كافيا شافيا ، أُنموذجا موثقا يرقى بين عنوانات المحدّثين إلى جنب صحيح البخاري ومسند أحمد وموطّأ مالك، وخلاصة «الأُصول الأربعمئة» عند الإمامية وكفاه.
وأما أنا - وأعوذ باللّه من «أنا» - «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُم بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى» ، فالقصور يمشي على قدمين ليدلف إلى أروقة المؤمر العتيد ، والتقصير مجسّداً في اثنتين :
فيّ وفي هذه الوريقات ، وما عساي إلاّ أن تنال رضا مصدّر الكافي الأعظم «محمّد» الأُسوة الحسنة والرحمة المهداة ، وأن تنعم بقبول الأساتذة المشرفين لترى النور.
واللّه أدعو ببركة الكافي أن يكفينا المهمّ كلّه.
واللّه أسأل ببركة «الكليني» أن لا يكلنا إلى أنفسنا - كلّنا - طرفة عين أبدا، فإنّه الكافي لا كافي سواه ، ومنه تعالى نستمدّ الاعتصام.
من النهج ، وهو الطريق ، وطريق نهج ؛ أي بيّن وواضح(1)، والمنهاج : الطريق الواضح ، ونهج الطريق : سلكه(2) ، وفي القرآن الكريم: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا».(3)
والمنهج هو ترجمة المفردة الفرنسية (Methode) ، وتقابلها في الإنكليزية (Method) ؛ بمعنى الطريقة.
أجمع التعاريف وأمنعها هو :
ص: 102
الطريق المؤّي إلى الكشف عن الحقيقة والعلوم بواسطة طائفة من القواعد العامّة التي تهيمن على سير العقل وتحديد عملياته حتّى يصل إلى النتيجة المعلومة.(1)
والمنهج منهجان: المنهج التلقائي ، والمنهج التأمّلي .
والثاني ينقسم إلى فرعين رئيسيين:
1 - المنهج العامّ : وتُدعى المناهج المنطقية.
2 - المنهج الخاصّ : ويُطلق عليها المناهج الفنّية.(2)
القسمعدد الأجزاء1 - الأُصول22 - الفروع53
- الروضة1
وعليه ، فإنّ مجموع الأجزاء يصبح ثمانية بحسب الطبعات الأخيرة.
الريادة في تبويب الأحاديث من ميزات الكافي التي تُذكر ، وعموما فإنّه قسّم الأُصول منه إلى كتب ، والكتب إلى أبواب ، ولم يكن هذا التبويب متّسقا مبرمجا ، فقد تباينت عدد الأحاديث من بابٍ لآخر ، كما أنّ تصنيف الكتب إلى أبواب غير منسق، وهو ما يتّضح لدينا في المخطّط أدناه:
ص: 103
الجزء الكتاب عدد الأبواب عدد الأحاديث الأُصول الأوّل
1 - العقل والجهل 2 - فضل العلم 3 - التوحيد 4 - الحجّة بلا 23 36
132341762121015الثاني 1 - الإيمان والكفر 2 - الدعاء 3 - فضل القرآن 4 - العشرة
209 60 14 311609409124204الإجمالي جزءان 8 كتب 505 أبواب3783 حديثا
نَهجَ شيخنا الكليني في تبويبه للأحاديث في الفروع طريقة المصنّفات والجوامع عند المذاهب الأُخرى ، فقد عمد إلى ترتيبها وفق أبواب الفقه المتعارف عليها. وهذا لا يُقصد منه إدراج الكليني والصدوق مثلاً في قائمة المحدّثين فقط ، بل انضمّوا إلى جانب روايتهم للحديث إلى الفقهاء ذوي الفتوى ، وكانت فتاواهم - الفقهاء - بعد الكليني نصوص أحاديث مع إسقاط الإسناد وبعض الألفاظ في بعض الحالات.(1)
إنّ أعمال المكلّفين بحسب الإمامية إمّا أن يكون فيها نيّة التقرّب إلى اللّه ، أو لا ، والأوّل هي العبادة ، وعلى الثاني إمّا أن يكون منه من طرفين أو من طرفٍ واحد، وعلى الأوّل: عقود ، وعلى الثاني: إيقاعات ، وإلاّ فهو سياسة.(2)
ص: 104
وقد حصدت «الفروع» الأجزاء: «3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7» من كتاب الكافي ، وعليه يمكن أن نرصد بعضا من التداخل بين العقود والإيقاعات.
ت الكتابت الكتاب1
الطهارة14
الصيد2
الحيض15
الذبائح3
الجنائز16
الأطعمة4
الصلاة17
الأشربة5
الزكاة18
الزي والتجمّل والمروءة6 الصيام19
الدواجن
الحجّ20 الوصايا
8
الجهاد21
المواريث9
المعيشة22
الحدود10
النكاح23
الديّات11
العقيقة24
الشهادات12
الطلاق25
القضاء والأحكام13 العتق والتدبير والكتابة26 الأيمان والنذور والكفّارات1776 باباً10911 حديثاً
شغلت الروضة الجزء الثامن من الكافي، وهذه الروضة على مسمّاها تجد فيها الجمّ الغفير من الأخبار والمرويات ممّا لا يمكن إدراجه تحت عنوان ، أو يمكن ذلك .
فمن القراءات إلى التفسير ، ومن قصص الأنبياء إلى خطب الأئمّة ورسائلهم
ص: 105
ومواعظهم ، إلى أشتاتٍ من الأخلاق والآداب والتاريخ ، وليس بالمستغرب أن تجد فيها من الطبّ شيئا، كتداوي الأمراض والحجامة، وحتّى الفلك والجغرافيا.
إلى هذا ، فإنّ المنهجية في التبويب تختلف عن توأميها (الأُصول والفروع) ، حيث لم تقسّم هنا إلى كتبٍ وأبواب ، ويرى البحث أنّ تصنيف أحاديث الروضة وتقسيماتها ضمن عنوانات متميّزة لهو من ضرورات المنهج العلمي للحديث.
دأب الفقهاء الإماميون القدامى منهم وليس المحدّثين(1) في مفتتح مدوّناتهم الفقهية على كتابة رسالة عقائدية في إثبات الصانع ، وهم قد سلكوا منهجية الكافي في ذلك، حيث مباحث التوحيد وأُصول الدين في الأُصول من الكافي ، وهي تحمل السمة الكلامية ، أُطلق عليها «الفقه الأكبر» من لدن بعض الفقهاء.
وتلك - فيما يرى البحث - منهجية منطقية ، إذ إنّ الدين الإسلامي (العقائد، الفقه، الأخلاق) منظومة ترابطية وحلقات متكاملة ، فمهما صحّت المقدّمات صحّت النتائج.
وللكليني مديات أرحب في هذا المجال العقائدي ، فهو يكمل نظريات ضخمة وآراء كلامية بحكم البيئة المعاشة ، إنْ في الري أو في بغداد ، وبحكم العصر وأدواته ،والتي شهدت ازدهار الحركة العقلية في الفكر الإسلامي ، حيث تبلورت فيها مناهج كلامية امتدّت تأثيراتها حتّى إلى الصعيد الفقهي والفتاوى الشرعية ، فأصبح لكلّ
ص: 106
منهج ومدرسة - إلى جنب التمذهب الفقهي - نموذج كلامي عقيدي: أشعري، معتزلي، إمامي، مرجئي أو خارجي .
ونعني بها علوما غير علوم الحديث والتي عالجها الكليني في مواطن متفرّقة من كتابه، أُصولاً وفروعا وروضةً .
له إلمام واسع وباع طويل في معرفة الحوادث التاريخية واستقراء النصوص التاريخية بما يعينه على إيضاح مروياته ، وليس ذلك بكثير على الكليني ، إذ علمنا من خلال آثاره أنّ له كتابا في الرجال وإن يكُ مفقودا، وفي الروضة والأُصول تجد كمّا هائلاً من اللفتات التاريخية، بل حتّى في الفروع ، إذ يذكر قصّة حفر بئر زمزم في الفروع - الحجّ - وكتاب الحجّة من أُصوله غني بهكذا موضوعات ، إذ تطرّق إلى ولادات الأئمّة ووفياتهم . وفي باب مولد الإمام الرضا قال:
ولد أبو الحسن الرضا عليه السلام سنة ثمان وأربعين ومئة ، وقُبض عليه السلام في صفر من سنة ثلاث ومئتين وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقد اختُلف في تاريخه ، إلاّ إنّ هذا التاريخ أقصد إن شاء اللّه .(1)
مع الالماع إلى مناقبهم.
تحدّثنا في مبحث غير هذا أنّ الدين منظومة ترابطية بين العقائد والفقه والأخلاق ، وعليه ، فإنّ الأخلاق ثالثة ثلاث يكتمل بها الاعتبار الإيماني ، ولم يغفل الكليني عن هذه التفاصيل ، فتطرّق لها ضمن الأُصول من كافيه ، وكانت أبواباً عديدة تحمل
ص: 107
البصمات العرفانية من كتاب الإيمان والكفر:
في أُصول الكفر وأركانه ، باب اختتال الدنيا بالدين ، باب الطمع ، باب سوء الخلق ، باب السعة . ونورد هنا نموذجا من باب الفخر والكبر تيمّنا بهذه الأحاديث الشريفة.
علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : آفة الحسب الافتخار والعُجب.(1)
ولعلّه من تتمّات هذه الأحاديث النورانية: إنّ السيّد الخميني استقى مصادر أحاديثه في الأربعون حديثا وبعضا من أحاديثه في أسرار الصلاة والآداب المعنوية للصلاة من أُصول الكافي .(2)
حينما صدّر الكليني كتابه بالمقدّمات الاعتقادية التي تتمحور حول أُصول الدين والجبر والاختيار والقدم والحدوث والبعث والنشور وما إلى ذلك، فإنّه عالجها بحكمة المتكلّمين ومنهج العقائديين، ألا ترى أنّ لديه إرثا ضخماً من مدرسة الري ، ثمّ صقلتها مدرسة بغداد ، وكان شديد الغيرة على العقائد الإسلامية ، يتجلّى ذلك في كتابه الردّ على القرامطة ، ولعلّك بمنتهى اليسر تعثر على هذه المباحث من خلال كتاب التوحيد وكتاب الحجّة من أُصول الكافي .
إنّ انتقائيته لهذه الروايات (نبوية أم إمامية) ، ينمّ عن مقدرة كبيرة في هذا المتّجه .
عن إسحاق بن عبد العزيز بن أبي السَّفاتِج ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: سمعته يقول: إنّ اللّه اتّخذ إبراهيم عليه السلام عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا ، واتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولاً ، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماما ، فمن عظمها في عين إبراهيم ، قال: يا ربّ ومن ذرّيتي ، قال: لا ينال عهدي
ص: 108
الظالمين.(1)
بغية التحقّق من عدم التسامح في تحمّل الحديث ونقله ، وتلافيا لمشكلة الوضع والوضّاعين، وأنّ حلقات هذه السلسلة تنتهي غالبا بأحد الصادقين عليهماالسلام أو بأحد المعصومين ، وبطبيعة الحال فإنّ حديث الإمام هو حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك من المسلّمات عند الإمامية لحديث ثامن الأئمّة الرضا عليه السلام المعروف بحديث السلسلة
الذهبية، وهو ما لمسه البحث في كلّ أبواب الكافي :
محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن داوود بن النعمان ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال: من تعصّب أو تُعصِّب له ، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه.(2)
كثيرة هي المصنّفات الرجالية ، وقد شهدنا من صنّف على ترتيب السنين ومنهم على حسب البلدان، فيذكر فضائل البلد المؤّخ لعلمائه ، ومن سكنه من الصحابة أو مرّوا به ، ثمّ علماء ذلك البلد ومن دخله من أهل العلم ، ومنهم من رتّبها على حروف المعجم، ومن تلكم الكتب:
1 - كتب الصحابة ، منها: أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري .
2 - كتب الطبقات ، وهي التي تشتمل على ذكر الشيوخ وأحوالهم ومروياتهم،
ص: 109
طبقة بعد طبقة وعصرا بعد عصر إلى زمن المؤّف، وإنّما نُظّمت على الطبقات لتسهيل التمييز بين الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، فيُميّز الحديث المرسل أو المنقطع، ومن أشهرها: الطبقات لابن سعد.
3 - كتب الجرح والتعديل.
4 - كتب الأسماء والكُنى والألقاب.
5 - كتب الأنساب.(1)
إنّ الفروع من الكافي على وجه الخصوص تثبت بجلاء أنّ الكليني على معرفة تفصيلية برجال سنده . إنّ التوصيف جاء هنا بعدّة صور يسرد البحث بعضا منها:
1 - ذكر المهنة: «عن أبي محمّد مؤن علي بن يقطين» ج 6 ، الزي والتجمّل والمروءة.
2 - ذكر اللقب: النوفلي، السكوني، أو «عن أبي جعفر البغدادي» ج 4، الزكاة.
3 - ذكر العلامات الفارقة: «عن حارث الأعور» ج 6، الأطعمة.
4 - ذكر البلد: «عن رجلٍ من أهل اليمامة كان مع أبي الحسن» ج 6، الزي والتجمّل والمروءة.
5 - ذكر الكُنية: «عن الهيثم أبي روح» ج 5، الجهاد.
6 - ذكر الحرفة: «عن زيد الشحّام» أو «عن يزيد الصائغ» ج 7، المواريث. و ج 3، الجنائز.
7 - ذكر الأقارب: «عن الحسين بن حازم الكليني ابن أُخت هشام بن سالم» ج 7، الوصايا.
8 - ذكر النسبة: «عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين» ج 5، المعيشة.
ص: 110
قد يلجأ الكليني في سنده أن يروي عن أكثر من واحدٍ في طبقة من طبقات رواته أيّا كانت.
إنّ المعالجة العلمية الحديثية لهذا الأمر تكمن في تلافي «الجرح» وتأكيد «التعديل» في السلسلة السندية، فقد تكون حلقات في السلسلة مجهولة ، مثل: «عمّن حدّثه» أو «عمّن رواه» ، أو يكون هناك رواة ضعاف أو مضعّفون أو يكون مفاد الرواية هامّا ، أو غير ذلك ، فيتجاوز الكليني بكفايته المعهودة في علم الرجال بالإكثار من رجال طبقاته . وعلى أيّة حال ، فإنّ التعدّدية في الرواة تأتي على ضروبٍ عدّة :
عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن ابن محبوب وعلي بن
الحكم ، عن معاوية بن وهب ، قال: ... .(1)
عن محمّد بن جعفر الرزّاز ، عن أيّوب بن نوح وأبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان وحميد بن زياد... .(2)
وبهذه الصيغ في التعامل مع الإسناد يضفي الكليني عليها قوّة ودعما ، ويظهر تحرّجه في الأداء.
1 - الطريق الواحد للرواية: وهذا ما لاحظه البحث في الأعمّ الأغلب من أحاديث الكافي .
ص: 111
2 - الرواية بطريقين: ومثال ذلك أسناده:
علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن سلام بن عبد اللّه
ومحمّد بن الحسن وعلي بن محمّد ، عن سهل بن زياد وأبو علي الأشعري ، عن محمّد بن حسّان ، جميعاً عن محمّد بن علي ، عن علي بن أسباط ، عن سلام بن عبد اللّه الهاشمي ... .(1)
3 - الرواية بثلاث طرق: ومثال ذلك أسناده:
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، جميعاً عن
عمرو بن عثمان ، عن عثمان محمّد بن عبد اللّه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وعدّة من أصحابنا أيضاً عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن سالم عن مفضّل بن عمر ، قال: قلت لأبي عبد اللّه... .(2)
نهج في ذلك الكليني البغدادي صيغاً شتّى ، منها:
1 - ذكر عدّته :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن الحسين بن أبي العلا ، قال: قلت لأبي عبد اللّه ... .(3)
أو بذكر أحيانا : «بعض أصحابنا» .
2 - الإحالة على أسانيد روايات أُخَر بصيغة «وبهذا الإسناد» :
وبهذا الإسناد قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ... .(4)
3 - العلوّ في السند، والعلوّ : «هو قلّة عدد الرواة مع اتّصال السند»،(5) فيتوخّى الشيخ
ص: 112
الاختصار قدر ما أمكنه من الصحابة والشيوخ وصولاً إلى الإمام عليه السلام .
عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه... .(1)
من منهجية الكليني في معالجات السند الروائي هو استقطابهِ لطيفٍ واسع من المصادر، ولعلّك واجد مصادر استثنائية كما يتّضح في ثنايا بحثنا هذا.
أ . المعصومون عليهم السلام .
ب . صحابة الرسول صلى الله عليه و آله ، ومنهم عمر بن الخطّاب،(2) وجابر بن عبد اللّه الأنصاري .
ج . التابعون وتابعوهم.
د . من المذاهب الإسلامية الأُخرى ، كروايته عن سفيان بن عيينة،(3) وابن البختري والأوزاعي، والزهري،(4) إذ يعدّ من التابعين ، ولكن أدرجناه هنا لأنّه على غير مذهب الإمامية .
أ . النساء ، وتشمل:
أوّلاً : أُمّهات المؤنين ونساء صدر الرسالة ، مثلما روي عن عائشة وأُمّ هانئ وفاطمة بنت أسد .(5)
ص: 113
ثانياً : نساء عامّة المسلمين ، مثل جويرة أُمّ عثمان ، وعمّة الحسن بن مسلم.(1)
ب . من المخالفين:
أوّلاً : عن الفطحية ، مثل الحسن بن علي بن فضال ، وعلي بن أسباط.(2)
ثانياً : عن الواقفية ، مثل عثمان بن عيسى الرواسي، شيخ الواقفة.(3)
ج . مصادر غير معرّفة: بصيغة «عمّن رواه» و «عمّن حدّثه» ، وتكمن معالجته لهذه الأحاديث المبهمة بروايتها عن طريقٍ آخر .
المتن سنّة ، والسنّة لغةً : الطريقة ، حسنة كانت أم سيّئة، ومنه قوله صلى الله عليه و آله :
من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
والسنّة اصطلاحا : أقوال النبيّ صلى الله عليه و آله - وعند الإمامية المعصوم(4) - وأفعاله وتقريراته،وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسيره ومغازيه ، سواء كانت قبل البعثة أم بعدها.(5) فأقواله مثل قوله صلى الله عليه و آله : «إنّما الأعمال بالنيات» ، وأفعاله مثل إدائه الصلاة ومناسك الحجّ لقوله صلى الله عليه و آله : «خذوا عنّي مناسككم»، وتقريراته هي ما أقرّ الرسول أفعالاً قام بها بعض صحابته بسكوتٍ منه مع الرضا ، أو بإظهار استحسان لتلك الأفعال في حضوره أو غيبته وعَلِمَ به.
ص: 114
ويلاحظ أنّ كلمة السنّة عند الإمامية تشمل أقوال المعصومين من أئمّتهم وهم الاثنا عشر،(1) فأقوالهم سنّة متبعة لا محالة.(2)
أمّا حجّية السنّة المطهّرة فإنّها من الضروريات لدى المسلمين ، واستقلالها بتشريع الحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلاّ من لا حظّ له في دين الإسلام.(3)
التقديم لأحاديثه ومروياته بغية الإحاطة التامّة بأجواء النصّ ومكنونه ، فإنّه في حالات معيّنة افترضت منهجيته ذلك بأن يقدم من عندياته ما يدعم الفكرة ويوصل المفهوم:
إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل الفرائض على أربعة أصناف ، وجعل مخارجها من ستّة أسهم.(4)
فيما سبق بيّنا أنّه لغرض التوسعة في المعنى فإنّ الكليني يقدّم لبعض أحاديثه ، أمّا هنا فالحال مختلف منهجا، فهو يردف أحاديثه بما يعين على فهم النصّ، إنّه يتعقّب بعض المفردات القرآنية التي هي ذات مدلول وأثر من خلال أحكامها التكليفية ، فيوضح: الخمس، الغنائم، الفيء ، والكلالة.
إنّ تعرّضه لهكذا مفردات كان في الفروع أكثر ممّا هي في الأُصول ؛ لطبيعة أبوابها، كما أنّ التداخل حاصل بين هذه المواضيع ، فالفقه نشأ في أحضان الحديث - كما يعبرون - وكان الفقهاء أخباريّين، أي أنّهم اعتمدوا الحديث أكثر%
ص: 115
من اعتمادهم في استنباط الأحكام على مصادر التشريع الأُخرى، إضافة إلى ملحوظتين أجد مهمّا ذكرهما ، ألا وهما:
1 - إنّ هذه المرويات - نبويّة كانت أم إمامية - تعدّ من (فقه السنّة).
2 - إيراد هذه الأحاديث ، وهي تتضمّن شروحات لنصوص قرآنية نعتبره تفسير ال-(آيات الأحكام)، أو ملمّحا مهمّا من ملامحه على أدنى مستوى ذلك التفسير الذي اعتمد المأثور من السنّة المطهّرة ، الذي اصطلح عليه «التفسير الروائي» أو «التفسير الأثري» أو «التفسير النقلي» ، وهي تفاسير محورية ضمن منظومة التفاسير الواسعة الطيف ، وقد شهدنا في الإمامية الكثير منها، فعلى سبيل الاستشهاد :
تفسير فرات الكوفي.
تفسير العيّاشي.
تفسير النعماني.
تفسير البرهان.
تفسير نور الثقلين.
ومن المذاهب الأُخرى:
تفسير الدرّ المنثور.
تفسير ابن كثير.
تفسير جامع البيان.(1)
عود على بدء حول المصطلحات القرآنية، فمن النمذجة لذلك يوضّح الكليني معنى «الكلالة» بقوله:
وهم الأُخوة والأخوات إذا لم يكن ولد ولا الوالدان ، وإن كان للميت ولد ووالدان أو واحد منهم لم تكن الأُخوة والأخوات كلالة ؛ لقوله عزّ وجلّ ... .(2)
ص: 116
قلنا فيما سبق إنّ هذه المرويات تشكّل أساسات تفسيرية لمنهج التفسير الروائي، وفي الوقت ذاته (فقه سنّة).
إلى ذلك ركّز الكليني على إيضاح المطالب متى رأى الأمر مستوجبا ، مثل: «نكاح الشغار»، «الإيلاء»، و«الظهار» إذ يعقّب على رواية زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام بقوله - أي الكليني - :
يقول الرجل لامرأته وهي طاهر من غير جماع: أنتِ عليَّ حرام مثل ظهر أُمّي أو أُختي ، وهو يريد بذلك الظهار.(1)
الكليني البغدادي أجاد العربية إجادة مكّنته من فهم النصّ ، ولا ريب أنّ الفقهاء أحذق في استفادة المعنى من اللغويين ، كما أنّ المحدّث الكليني أخذ بأطراف علوم الحديث الشريف وأولوياته وخبر لغة الحديث. والمتتبّع جدّ عليم بما انطوت عليه ثقافة الكليني من سعةٍ وعمومية وارتكاز ، نرى ذلك في تقسيماته للجراحات :
«أوّلهما تسمّى الحارصة ، وهي التي تخدش ولا تجري الدم، ثمّ الدامية ...» ثمّ ذكر بقيّة الجراحات.(2)
إجادة الكليني للعربية وإحاطته الواسعة بها كما سلف اتّخذت صورا شتّى ، من ذلك : تذوّقه للنصوص الشعرية واستيعابه لها ، وقد رصد البحث ضمن مؤّفاته أنّه دوّن كتابا عمّا قيل في الأئمّة من الشعر، وما يهمّنا هنا هو تضلّعه بالعربية ، ومنها شواهده الأدبية ، فهناك أبيات لأبي طالب رضى الله عنه في أكثر من موقع ، وقد يورد بعض الشواهد
ص: 117
لتعزيز معاني الآيات أو إيضاح المبهم منها، إذ ذكر في خلال معنى الصمد:(1)
علوته بحسامٍ ثمّ قلت له *** خذها حُذيف فأنت السيّد الصمد(2)
إنّ السنّة المطهّرة مرّت بأربع مراحل كما يقسّمها أصحاب علوم الحديث ، وهي ذات الأدوار التاريخية لتطوّر التفسير الروائي:
أوّلاً : مرحلة النبي صلى الله عليه و آله .
ثانياً : مرحلة الأئمّة عليهم السلام .
ثالثاً : مرحلة الصحابة والتابعين وتابعيهم.
رابعاً : مرحلة التدوين الروائي.(3)
يرى الشيعة أنّ الصحيفة الاُولى المدوّنة هي صحيفة الإمام علي عليه السلام ، كان يقوم بكتابة كلّ ما يمليه عليه الرسول صلى الله عليه و آله بخطّه ، فسمّاها بعضهم ب-«الجامعة» أو «الصحيفة» ، أو «كتاب علي» ، وذهب بعضهم إلى أنّها تحتوي على كلّ شيء من الأحكام حتّى أرش الخدش ، لكن لم يستيقن البعض من شموليتها،(4) وقد ورد أنّ الإمام الثامن الرضا عليه السلام قد كتب على ظهر العهد الذي عهده إليه المأمون العبّاسي بخصوص ولاية العهد ما يشير إلى وجود تلك الصحيفة عنده.(5)
ومن المفارقات اللافتة للتأمّل أنّ البخاري في صحيحه اعتمد على روايات تلك
ص: 118
الصحيفة في كتاب: «الجهاد»، «الديات»، «الحجّ» «الجزية»، وبعض الأبواب الأُخرى.(1) إضافة إلى الصحاح والمسانيد الأُخرى ، كصحيح مسلم ومسند أحمد والقرطبي والبغدادي .(2)
وكذلك كانت مدوّنة عبد اللّه بن عبّاس حبر الأُمّة الذي كان مغرما بالكتابة ، ومن تلاميذه التابعي الجليل الشهيد سعيد بن جبير رضى الله عنه .
وأوّل من دوّن الأحاديث بعد الإمام علي هو أبو رافع القبطي مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، الذي شهد مع النبيّ مشاهده ثمّ لازم بعده عليّا وصار صاحب بيت ماله في الكوفة ، وقد رتّب أبو رافع الحديث على الأبواب ، فاشتُهر بكتابه في السنن والأحكام والقضايا.
ثمّ كانت أبرز المدوّنات الكتاب المنسوب إلى الصحابي الجليل سلمان المحمّدي الفارسي (ت 37 ه )، والمسمّى بحديث الجاثليق،(3) وكتاب ميثم التمّار ، وهو من خواصّ الإمام عليّ وتابعيه، وكتاب سليم بن قيس الهلالي، قيل إنّ الإمام علي بن الحسين قال بعد أن قرأ الكتاب بتمامه: «هذه أحاديثنا صحيحة» .
ثمّ كتب علي بن أبي رافع القبطي وهو من التابعين جملة من الأحاديث المتّصلة بالوضوء والصلاة وغيرهما من أبواب الفقه ، وجمعها على شكل كتاب.(4)
صنّفت الإمامية من عهد أمير المؤنين عليه السلام إلى عصر أبي محمّد الحسن العسكري عليه السلام أربعمئة كتاب تُسمّى بالأُصول.(5)
ص: 119
وسُمّيت بعد ذلك ب-«الأُصول الأربعمئة»، وذلك خلافا لبقية المدوّنات ؛ لأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها قد سُمعت مباشرةً وشفاها من الإمام ، أو كان لها طريق واحد فقط بين الراوي والإمام.(1)
وحيث إنّ هذه الأُصول الأربعمئة لم تخضع للمنهجة والبرمجة ولم يكن لها ترتيب أو تنسيق خاصّ ؛ لأنّ جلّها من إملاءات المجالس وجوابات المسائل النازلة المختلفة ، فقد عمد وبعد تنامي الحركة العلمية ونشاطها عدد من أقطاب الإمامية إلى تأليف بعض المجاميع الحديثية القائمة على أساس منهجي مبوّب على أن تكون مادّتها الرئيسية الأُصول الأربعمئة ،(2) فكانت الكتب الأربعة وعلى رأسها وفي مقدّمتها وريادتها الكافي ، وهنّ : الكافي ، من لا يحضره الفقيه لأبي جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت 381 ه ) ، كتابا التهذيب والاستبصار ، وكلاهما لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي(ت460ه ).(3)
وأصبحت هذه الأربعة في قبالة الصحاح الستّة عند أهل السنّة.
الكليني كان أثرا من آثار عصره ، ونتاجاً من نتاجات بيئته، فبيئته (كلين - الري) مدرسة حديثية النزعة ، وعصره - القرن الهجري الرابع - عصر تمايز العلوم واستقلاليتها ، وما بين ذين كان الكافي مدوّنة موسوعية حديثية جمعت بين مزايا مدرسة الري ومدرسة بغداد في الحديث، وألقى القرن الرابع الهجري بظلاله على الكليني فأضحى (التدوين).
قضى حياته مهاجرا بين الأمصار ومنتقلاً بين الأقطار ؛ بحثا عن حديثٍ أو رواية ،
ص: 120
واستقرّ به المقام في بغداد ، وهي يومذاك مركز العالم الإسلامي وحاضرته العلمية والسياسية ، نشأت بها المدارس ودور العلم ، وازدهرت مجالس النظر والجدل ، وكانت مثابة العلماء وملتقى المتكلّمين ومنتدى الأُدباء . والعصر الذهبي للعلوم كان قرن الكليني «فقد رغب الأحداث في التأدّب والشيوخ في التأديب ، وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة».(1)
لقد نشطت الحركة العلمية واتّسعت المعارف والعلوم العقلية والنقلية ، فعلى النقيض من الحياة السياسية المضطربة الهوجاء ، كانت الحياة الفكرية والعهد العلمي في أخصب فترة وأزهى مرحلة ، حينها انبرى الكليني في الشروع بتدوين كافيه ، وقد كان أوّل فقيه إمامي محدّث يصل إلينا كتابه في الحديث - كموسوعة - بعد عصر النصّ ، أي الغيبة الصغرى عند الإمامية ؛ لأنّ الفقهاء كانوا يستمدّون نصوصهم التشريعية من الطبقة التالية لعصر الأئمّة.
إنّ الكافي من بين آثاره - وكلّها مفقودة - الأشهر ذيوعا والأكثر صيتا والأوثق نقلاً، حتّى لقد عُرف به ، فقيل : كتاب الكليني «صنّف كتابه الكبير المعروف بالكليني ، يُسمّى الكافي».(2)
لولا تصدّي هؤاء المحدّثين والشيوخ من أقطاب مدرسة آل البيت ومنهم شيخنا الكليني إلى جمع وتدوين الأحاديث الشريفة ، لاندرست ثروتنا التشريعية أو معظمها ، ولآل أمرها إلى الضياع.
وبلغ الأمر من عنايتهم بهذه الموسوعة الحديثية - أي الفقهاء والعلماء والمحدّثون - أن تعاهدوها بالاستنساخ والطبع والترجمة والشروحات وتعليقات الحواشي عليها ، ومن اهتمامهم الفائق بها أن درسوا بعضا من أُمورها وأبوابها وكذلك اختصروا بعض أحاديثها، فما أعهد المصنّفات الحديثية في مختلف الأدوار بعده إلاّ
ص: 121
واعتمدته ، نورد بعضا منها أُنموذجا :
الصدوق (ت 381 ه ) في كتاب من لا يحضره الفقيه .
الطوسي (ت 460 ه ) في التهذيب والاستبصار .
الفيض الكاشاني (ت 1091 ه ) في الوافي .
الحرّ العاملي (ت 1042 ه ) في وسائل الشيعة .
المجلسي (ت 1111 ه ) في بحار الأنوار .
عبد اللّه الكاظمي في جامع الأحكام .
وما يصدق على كتب الحديث يصدق على الفقه والفقهاء ، فقد أورد الطوسي والحرّ العاملي نفس نصّ الكافي في الحديث الآتي :
روى عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الصادق عليه السلام ، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر . ولا يقسّمها بينهم بالسوية ، وإنّما يقسّمها على قدر من يحضر منهم وما يرى ، وليس في ذلك شيء مؤّت.(1)
وكذا الشيخ المفيد في معرض تحريمه نقل الأموال الزكوية من بلدانٍ أُخر مع وجود المستحقّين لها في البلد المنقول عنه.(2)
للكافي منهجيتان: منهجية عامّة فيما يتعلّق بتبويب الكتاب وبعض ملامحه العامّة ، ومنهجية خاصّة (فنّية) في التعامل مع الحديث سندا ومتنا .
كان رائد التبويب الحديثي ،فقد كانت الفروع من الكافي بحسب أبواب الفقه، وقد حذا حذوه الفقهاء من بعده، ومن أبرزهم الشيخ المفيد في مقنعته.
مباحث (الفقه الأكبر) العقائدية كانت في بدايات الموسوعة.
ص: 122
ثقافة الكليني موسوعية،وقد عالج موضوعات فيها من التاريخ وعلم الأخلاق وعلم الكلام والعربية وآدابها.
للكليني معالجات محدّدة سندا ومتنا ، غايته فيها التحرّج بتحمّل الحديث والأمانة في الأداء والتثبّت في النقل.
تعدّدية الرواة في طبقة واحدة من أسناده ، وتعدّدية الطرق ذاتها ، أهمّ سمتين لتلافي (الجرح) وتأكيد (التعديل) في مروياته.
الانفتاحية وكذا النأي عن التعصّب المقيت ، كانت الصفة الغالبة في نتاجه الكافي ، منها روايته عن رموز المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وأروع من ذلك روايته عن المخالفين ، مثل: الأفطحية والواقفة.
للعنصر النسائي حضور متميّز في هذه الموسوعة ، فقد روى عن عائشة ونساء صدر الرسالة ونساء عامّة المسلمين.
سنّة المعصوم عليه السلام كسنّة النبي صلى الله عليه و آله ، وسند الحديث المنتهي إلى الإمام يعدّ سندا منتهيا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله .
تفاعل الكليني مع المتن بروحية الأديب ورهافة حسّه ، وله من الشواهد الشعرية ما ينبئ عن تمكّنه من العربية.
من معالجاته في المتن التقديم والتعقيب وتوضيح المصطلحات لرواياته.
في الفروع من الكافي : روايات الكليني (فقه سنّة) ، وما كان لتوضيح آية يعدّ تفسيرا روائيا لآيات الأحكام.
دُوّن الكافي بمنهجية علمية وبأُسلوب مبرمج للأُصول الأربعمئة.
تأثير الكليني فيمن خلفه من المحدّثين والفقهاء جليا ومؤّراً .
تنوّعت مصادر إسناده ، فضمّت حتّى الضعفاء والمناوئين، فالحكمة ضالّة المؤن ، وهو ينهج بذلك مبدأ: أنا والآخر.
انطلق الشيخ الكليني أثر ذلك إلى مديات أرحب في الدعوة الإسلامية لتحقيق أُممية الإسلام وعالمية الدعوة.
ص: 123
1. القرآن الكريم
2. الأربعون حديثا ، روح اللّه الخمينى ، دار الكتاب الإسلامي ، تعريب : محمّد الغروي ، الطبعة الخامسة .
3. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ في علم الأُصول ، محمّد بن علي الشوكاني ، مصر : مطبعة البابلي الحلبي ، 1937م .
4. أُصول البحث ، عبدالهادي الفضلي ، قمّ : مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي .
5. أُصول الحديث (علومه و مصطلحه) ، محمّد عجاج الخطيب ، بيروت : دار الفكر ، الطبعة الثانية ، 1971م .
6. أضواء على السنّة المحمّدية ، محمود أبو رية .
7. أعيان الشيعة ، محسن الأمين العاملي ، بيروت : مطبعة الإتقان والإنصاف .
8. باب مدينة علم الفقه ، علي كاشف الغطاء ، بيروت : مطبعة الزهراء ، الطبعة الاُولى ،
1985 م .
9. بحوث في تاريخ السنّة المشرّفة ، أكرم العمري ، بغداد : مطبعة الإرشاد ، الطبعة الثانية ، 1972 م .
10. تجارب الأُمم ، أبو علي ابن مسكويه ، مصر : مطبعة شركة التمدن ، 1914م .
11. التهذيب ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، تحقيق : حسن الموسوي الخرسان ،
النجف الأشرف : مطبعة النعمان ، الطبعة الثانية ، 1962م .
12. دروس في المناهج والاتّجاهات التفسيرية للقرآن ، محمّد علي الرضائي الإصفهاني ، قمّ : المركز العالمي للدراسات الإسلامية .
ص: 124
13. رجال النجاشي ، أبو العبّاس النجاشي ، الهند - بمباي ، 1317 ه .
14. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، محمّد بن مكي العاملي (الشهيد الثاني) ، تحقيق : جامعة النجف الدينية ، الطبعة الاُولى ، 1386 ه .
15. الشافي في شرح أُصول الكافي ، المظفّر ، النجف : مطبعة الغري الحديثة ، 1958م .
16. علوم الحديث الشريف ضمن كتاب حضارة العراق ، مجموعة من الباحثين العراقيين ، 1980م .
17. علوم الحديث ونصوص من الأثر ، قحطان عبدالرحمن الدوري و رشدي عليان وكاظم
الراوى ، بغداد : مطبعة جامعة بغداد ، 1980م .
18. الفتاوى الواضحة ، الشهيد محمّد باقر الصدر .
19. لسان العرب ، ابن منظور جمال الدين بن مكرم ، بيروت : دار صادر ، 1956م .
20. محاضرات في أُصول الفقه الجعفري ، محمّد أبو زهرة ، مصر : دار الثقافة العربية للطباعة ، 1377 ه .
21. مختار الصحاح ، الرازي ، بيروت : دار صادر ، 1976م .
22. مشروعية تدوين الحديث ، محمود المظفّر ، بحث في مجلّة كلّية الفقه النجف الأشرف ، العدد الأوّل ، 1979م .
23. معالم العلماء ، رشيد أبو جعفر ابن شهر آشوب ، بيروت : دار المعرفة ، الطبعة الثانية ،
1975م .
24. المقالات والفرق ، سعد بن عبداللّه الأشعري ، طهران : مطبعة حيدر ، 1963م .
25. المقنعة في الفقه ، الشيخ المفيد ، مصورة مخطوطة .
26. مناهج البحث العلمى ، عبدالرحمن بدوي ، الكويت : وكالة المطبوعات ، الطبعة الثالثة ،
1977 م .
27. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، 1388 ه .
ص: 125
ص: 126
هو فخر الشيعة، وتاج الشريعة، ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني(2) الرازي، الشيخ الجليل القدر، العارف بالأخبار، أوثق الناس بالحديث وأثبتهم، الكافل لأيتام آل محمّد عليهم السلام بكتابه الكافي ، الذي صنّفه في عشرين سنة، المجدّد لمذهب الإمامية على رأس المئة الثالثة. وله غير كتاب الكافي كتب أُخرى ، منها : رسائل الأئمّة ، ينقل عنه السيّد رضي الدين بن طاووس في كشف المحجّة .
مات رحمه الله ببغداد سنة تسع وعشرين وثلاثمئة، سنة تناثر النجوم، وصلّى عليه محمّد بن جعفر الحسيني أبو قيراط، ودُفن بباب الكوفة، قبره إلى الآن مزار معروف وعليه قبّة عظيمة.
ص: 127
مشايخ الكليني قدس سره المذكورون في أوّل أسانيده المحكي في تنقيح المقال(1) عن المحقّق البهائي في بعض فوائده ، عدّة :
الأوّل : محمّد بن يحيى العطّار (أبو جعفر العطّار القمّي) .
الثانى : أحمد بن إدريس (أبو علي الأشعري) .
الثالث : محمّد بن إسماعيل (قال المامقاني : هو البرمكي كما حقّقناه) .
الرابع : حسين بن محمّد الأشعري (أبو عبد اللّه ، وجدّه عمران بن أبي بكر الأشعري القمّي) .
الخامس : علي بن إبراهيم بن هاشم (أبو الحسن القمّي ، سيُذكر حاله إن شاءاللّه) .
السادس : داوود بن كورة (وهو أبو سليمان القمّي، سيأتي شرح حاله إن شاءاللّه) .
السابع : علي بن محمّد بن عبد اللّه .
الثامن : الحسين بن الحسن العلوي .
التاسع : أحمد بن محمّد الكوفي .
العاشر : حميد بن زياد .
الحادي عشر : محمّد بن جعفر الكوفي .
الثاني عشر : علي بن موسى الكميداني .
الثالث عشر : أحمد بن عبد اللّه بن أُمَية .
الرابع عشر : أحمد بن محمّد .
لمّا كان استنباط الأحكام الإلهيّة الشرعية التي بها ينتظم أمر العباد في الدين والدنيا والمعاش والمعاد، يتوقّف على الأخبار الواردة في بيانها من صاحب الشريعة، النبيّ
ص: 128
الأكرم أحمد المُختار صلى الله عليه و آله وسلم وأوصيائه المرضيين عليهم صلوات اللّه أجمعين؛ لأنّها أحد الأدلّة بل أعظمها، فلذا يجب على الفقيه المُتصدّي لاستنباطها الاعتناء التامّ والتوجّه الكامل إلى فهم معانيها ودرك مقاصدها، برعاية القرائن المتّصلة والمنفصلة المغيّرة للمعنى الحقيقي، والنظر إلى معارضتها وترجيح ذي المزيّة منها على غيرها، بالمرجّحات الواردة في مظانّها وغيرهما من الأُمور الدخيلة في فهم المعنى .
وهذا أمر صعب يحتاج إلى ممارسة كثيرة وتتبّع بليغ وذوق سليم، لاسيّما في الأخير منها، فإنّه من أعظم ما أنعم اللّه على بعض عباده، رزقنا اللّه وإيّاكم بمنّه وكرمه، ولابدّ قبل هذا من معرفة أحوال رجال السند من حيث الوثوق بهم وعدمه، فإنّ هذا أهمّ من الأوّل ؛ لأنّه بمنزلة الأصل للبناء، فيجب رعاية استحكامه أكثر ، وإلاّ يسقط الخبر عن الاعتبار ولا يصلح أن يكون مدركاً للفتوى.
ولو كان في سلسلة الطريق مذموم أو مجهول، فلابدّ من مراجعة كتب الرجال والنظر إلى ما ذكره علماؤها في حقّهم من الجرح والتعديل.
ثمّ إنّه لمّا كان أصحّ الأُصول التي بأيدينا (الكتب الأربعة : الكافي ، وكتاب من لايحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار) للمشايخ الثلاثة : أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني، وأبي جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي، وأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، رضوان اللّه وغفرانه عليهم أجمعين، سيّما كتاب الكافي الذي صرف مؤلّفه الخبير الصدوق غاية جهده مدّة عشرين سنة ، في جمع أخباره وتهذيبها، حتّى يُقال إنّه قال الإمام المنتظر المهدي - روحي وأرواح العالمين له الفداء - في حقّه : «الكافي كافٍ لشيعتنا» .
ولذا فقد اهتمّ كثير من أكابر علماء الإمامية - قُدّس سرّهم - من السابقين واللاحقين على صيانة أحاديثها وقراءتها على المشايخ الذين يتّصلون بأسانيدهم بصاحب الأصل ، وهو متّصل إلى المعصوم سماعاً ، وتحقيق معانيها وشرح معضلاتها، حتّى وضعوا لها شروحاً مفصّلة متقنة، ونقّحوا مصادرها وبيّنوا أحوال
ص: 129
رجالها، فنحن بحمد اللّه مغنون من بركات وجود هذه المشايخ، ومنوّرون من مصابيح أفكار هذه المفاخر، فلا نحتاج إلى إتعاب النفس وصرف الهمّة زيادة على ذلك، خصوصاً في معرفة رجالها .
ولكنّني لمّا رأيت كثيرا ما نحتاج في المسائل الفقهية إلى الاستناد بالأخبار التي دوّن فيها معظم الأُمور والأحكام ، فلا نزال نضطرّ إلى معرفة مشايخ أصحابها ورجال أسانيدها، فجمعت في هذه الوجيزة ما يرتبط بها ، تذكرةً لنفسي ولأكون أحفظ لأحوالهم ؛ لأنّ أثر الكتابة في الحفظ أكثر من القراءة، ومن اللّه التوفيق وعليه التكلان.
ذكر العلاّمة رحمه الله في الفائدة الثالثة من كتابه المسمّى بخلاصة الأقوال في معرفة الرجال، ما هذا لفظه :
قال الشيخ الصدوق محمّد بن يعقوب الكليني في كتابه الكافي في أخبار كثيرة : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، قال : والمراد بقولي : (عدّة من أصحابنا) : محمّد بن يحيى، وعلي بن موسى الكمنداني، وداوود بن كورة، وأحمد بن إدريس، وعلي بن إبراهيم بن هاشم.
وقال : كلّما ذكرته في كتابي المشار إليه عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، فهم : علي بن إبراهيم، وعلي بن محمّد بن عبد اللّه بن أُذينة، وأحمد بن عبد اللّه بن أُميّة، وعلي بن الحسن.
قال : وكلّما ذكرته في كتابي المشار إليه، عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، فهم : علي بن محمّد بن علاّن ، ومحمّد بن أبي عبد اللّه ، ومحمّد بن الحسن ، ومحمّد بن عقيل الكليني(1) .
هذا كلام العلاّمة قدس سره في تلك الفائدة ، ولكن قال المامقاني رحمه الله في التنقيح : روى الكليني عن بعض الثلاثة ؛ أي سهل بن زياد، وأحمد بن محمّد بن عيسى، وأحمد بن
ص: 130
محمّد بن خالد البرقي ، بتوسّط العدّة(1) ، وصرّح بأسمائهم، تخالف ما نقلناه عن الخلاصة.
ففي كتاب العتق هكذا :
عدّة من أصحابنا، علي بن إبراهيم ، ومحمّد بن جعفر أبو الحسن الأسدي ، ومحمّد بن يحيى، وعلي بن محمّد وهو المعروف بماجيلوية بن عبد اللّه القمّي، وأحمد بن عبد اللّه هو ابن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، وعلي بن الحسين السعدآبادي، جميعاً عن أحمد بن محمّد بن خالد .
وأيضاً روى بواسطة العدّة عن غير هذه الثلاثة، منه جعفر بن محمّد في باب «النهي عن الاسم من الأُصول»، ومنه سعدبن عبد اللّه في باب «الغيبة» بعد الباب السابق، ومنه الحسين بن الحسن بن يزيد في باب «إنّه ليس شيء من الحقّ في أيدي الناس إلاّ ما خرج من عند الأئمّة عليهم السلام» ، ومنه علي بن إبراهيم على ما حكي عن ثلاث نسخ من الكافي في باب «البطّيخ» من كتاب الأطعمة ، وليس في بعضها الآخر ذلك، بل نقلها بلا واسطة كما هو دأبه.
وربّما اتّفق ذكر العدّة في وسط السنة في باب «من اضطرّ إلى الخمر للدواء» في كتاب الأشربة، ولم ينقل عنه ولا عن غيره المراد بهم، فتقف الرواية ؛ لعدم اليقين.
ثمّ إنّه ذكر في موضع من كتابه: إنّ الكليني رحمه الله ربّما يعبّر في أوّل السند بلفظ «جماعة» ، وقد أكثر منه في كتاب الصلاة عن أحمد بن محمّد مطلقا أو مقيّداً بابن عيسى ، بل قيل : إنّه أكثر من أن يُحصى ، واستظهر بعض أساتيد الفنّ كون المراد بالجماعة هم المراد بالعدّة ، وأنّ أشخاصها أشخاص العدّة ، سواء كان عن ابن عيسى أو عن البرقي أو عن سهل بن زياد ، وإن كان في الأكثر عن الأوّل ، ولعلّه لذا لم يبيّنهم. وأمّا إن روى الجماعة عن غير هذه الثلاثة ، فهم غير معلومين.
وذكر أيضاً في الكتاب المشار إليه أنّه ورد في أسانيد الكافي وغيره الحسن بن
ص: 131
محمّد بن سماعة ، عن غير واحدٍ ، عن أبان . وقد ورد في عدّة أسانيد التصريح بأسماء المقصودين بقوله : غير واحدٍ ، وهم : جعفر بن محمّد بن سماعة ، والميثمي ، والحسن بن حمّاد ، كما في التهذيب في باب الغرر والمجازفة وغيره.
أقول: ذِكْرُ العدّة والرواية بتوسّطها عن بعض الثلاثة والتصريح بأسماء مغايرة لما في الخلاصة، لا يوجب التنافي بين الكلامين ، ولا احتمال كون أفراد العدّة إذا ذُكرت مجرّدةً غير ما نقل عنه العلاّمة ؛ لأنّه قال :
كلّما ذكرته عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد ... إلخ .
فيظهر من قوله : «كلّما» أنّه في مقام إعطاء ميزان كلّي في الموارد التي لم يذكر أسماءهم بالتفصيل ، واقتصر بقوله : «عدّة» وحده ، وهذا لا ينافي أن يروي بتوسّط عدّة أُخرى تغاير أسماؤهم لأسماء هؤلاء عمّن روى عنه بتوسّط العدّة المذكورة مع التصريح بأسمائهم ، مثلما أتى به شاهداً . نعم إن قال في موضعٍ : كلّما ذكرته من؟ عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد مثلاً ، فهم علي بن إبراهيم ، إلى آخر ما ذكره في كتاب العتق، فلا محالة ينجرّ إلى التنافي بين الكلامين. فظهر أنّ المقصود من العدّة إذا ذُكرت مجرّدة هي ما نقل عنه العلاّمة رحمه الله بلا ريب، بخلاف ما اذا فصّل أسماءهم ، فنتّبع ما ذكره .
ص: 132
العِدّة الاُولى(1)
والمراد به محمّد بن يحيى أبو جعفر العطّار ، كما قال الشهيد الثاني رحمه الله في الباب الرابع من كتابه الدراية ، في النوع المتّفق والمفترق (أي المتّفق في الاسم والمفترق في الشخص) :
وكروايتهم عن محمّد بن يحيى مطلقا ، فإنّه أيضاً مشترك بين جماعة، منهم : محمّد بن يحيى العطّار القمّي ، ومنهم : محمّد بن يحيى الخزّاز (بالخاء المعجمة والزاء قبل الألف وبعدها) ، ومحمّد بن يحيى بن سليمان الخثعمي الكوفي، والثلاثة ثقات ، وتميّزهم بالطبقة ، فإنّ محمّد بن يحيى العطّار في طبقة مشايخ أبي جعفر الكليني ، فهو المراد عند إطلاقه في أوّل السند محمّد بن يحيى، والآخران رويا عن الصادق ، فيُعرفان بذلك(2) .
قال النجاشي رحمه الله :
محمّد بن يحيى أبو جعفر العطّار القمّي ، شيخ أصحابنا في زمانه ، ثقة عين ، كثير الحديث ، له كتب ، منها : كتاب مقتل الحسين عليه السلام ، وكتاب النوادر ، أخبرني عدّة من أصحابنا ، عن ابنه أحمد ، عن أبيه بكتبه(3).
ص: 133
وقال المامقاني في التنقيح:
بل وثّقه كلّ من ذكره من الفقهاء رضوان اللّه عليهم ، وميّزه في المشتركات برواية ابنه أحمد والكليني ومحمّد بن الحسن بن الوليد عنه(1).
اختلفوا في ضبط هذه الكلمة ومعناها، قال في التنقيح :
اسم لبلدة قمّ الطيّبة في أيّام الفرس (بضمّ الكاف وفتح الميم وسكون النون) ، فلمّا فتحها المسلمون اختصروا فسمّوها قمّاً .
وقال النجاشي في ترجمة موسى بن جعفر الكميذاني : «إنّها قرية من قرى قمّ(2).
وقال التفرشي :
إنّها اليوم مشهورة بالياء بدل النون ... .(3) إلخ.
وكيف كان ، فلاحاجة لنا في معرفة هذا الاسم لفظه ومعناه ، والتطويل بلا طائل ، وإنّما المهمّ معرفة حاله، فأقول : من الأسف أنّه لم يتعرّض الرجاليون لبيان حاله فيما رأينا من المصادر المعروفة ، فلا نعلم منه أكثر من أنّه كان من العدّة التي روى الكليني رحمه الله عنهم عن أحمد بن محمّد بن عيسى .
وروى عنه أيضا أحمد بن أبي زاهر في باب جهات علوم الأئمّة من كتاب الحجّة من المجلّد الأوّل من أُصول الكافي ، والسند هذا :
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن أبي زاهر ، عن علي بن موسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبد اللّه ... إلخ(4) .
وأيضاً روى عنه الكليني في الأُصول في كتاب الحجّة، باب أنّ الأئمّة عليهم السلامولاة أمر اللّه ، والرواية هذه :
ص: 134
علي بن موسى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد البرقي ، عن النضر بن سويد رفعه ، عن سدير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: قلت له : جُعلت فداك ، ما أنتم ؟ قال : نحن خزّان علم اللّه ، ونحن تراجمة وحي اللّه ، ونحن الحجّة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض(1) .
وأيضاً قال في جامع الرواة:
روى الصدوق في الفقيه عن أبيه ، عنه .(2)
هذا ولكنّ رواية هؤلاء المشايخ لا يكفي في توثيقه، بل لابدّ ممّا يدلّ عليه صريحاً أو بالالتزام القطعي، ومع عدمه لاتُقبل روايته على حسب القاعدة، وإن روى عنه عدل ثقة معتمد عليه. ولا يصغى إلى ما ذكره في التنقيح من أنّه شيخ الإجازة ، وهو غنيّ عن التوثيق .
وإنّ هذا مبنيّ على ما قرّره في الفائدة الرابعة في أوّل الكتاب من تصريح بعض الأجلاّء من هذا الفنّ بعدم الحاجة إلى مراجعة كتب الرجال في معرفة المشايخ الثلاثة وأمثالهم .
واستشهد له بكلام الشهيد الثاني في شرح الدراية من أنّه قال :
تُعرف العدالة الغريزية في الراوي بتنصيص عدلين عليها، وبالاستفاضة بأن تشتهر عدالته بين أهل النقل وغيرهم من أهل العلم ، كمشايخنا السالفين من عهد الشيخ محمّدبن يعقوب الكليني وما بعده إلى زماننا هذا ، لا يحتاج أحد من هؤلاء المشايخ إلى تنصيصٍ على تزكية ، ولا تنبيهٍ على عدالة ؛ لما اشتهر - في كلّ عصر - من ثقتهم وضبطهم وورعهم زيادة على العدالة ، وإنّما يتوقّف على التزكية غير هؤلاء الرواة من الذين لم يشتهروا بذلك ، ككثيرٍ ممّن سبق على هؤلاء، وهم طرق الأحاديث المدوّنة في الكتب غالباً(3) .
ص: 135
هذه عبارته نقلناها من كتاب شرح الدراية .
وفيه : إنّ هذا الكلام لا يدلّ على ما رامه من عدم الحاجة في توثيق المشايخ الثلاثة إلى نصٍّ بالتوثيق من أصحابه، بل يظهر منه أنّه من كان من المشايخ من زمن الكليني رحمه الله عدالته مشهورة مستفيضة بين الأصحاب ، فلا يحتاج إلى نصٍّ على التزكية.
وحاصله : إنّ معرفة وثاقة الراوي لا يختصّ بتنصيص عدلين، بل ... عدالته بحيث استفاض بين الأصحاب يكفي في ثبوته، والسرّ في ذلك هو أنّ الاشتهار بهذا الحدّ ممّا يوجب الاطمئنان والوثوق بوثاقته، وإلاّ فصرف الاشتهار بدون حصول الاطمئنان لا يكفي في ذلك ، وهذه الشهرة مفقودة في حقّ بعض المشايخ ، مثلما نحن فيه ، فإنّ علي بن موسى الكمنداني لم يشتهر بين الأصحاب وثاقته بحيث يطمئنّ النفس بذلك .
وأيضاً الظاهر أنّ المراد بقوله :
من عهد الشيخ محمّد بن يعقوب» ، أنّ أوّلهم الكليني ، فمن بعده حتّى ينتهي إلى زمانه ، وليس المراد ما يشمل مشايخ الكليني أيضاً . ويؤيّده قوله :
وإنّما يتوقّف على التزكية غير هؤلاء من الذين لم يشتهروا بذلك ، ككثير ممّن سبق على هؤلاء ، وهم طرق الأحاديث المدوّنة في الكتب غالباً .(1)
ثمّ نقل كلام ولده صاحب المعالم قدس سره من المنتقى ، وهو على ما رأينا فيه هذا :
الفائدة التاسعة : يروي المتقدّمون من علمائنا رضي اللّه عنهم ، عن جماعة من مشايخهم الذين يظهر من حالهم الاعتناء بشأنهم ، وليس لهم ذكر في كتب الرجال ، والبناء على الظاهر يقتضي إدخالهم في قسم المجهولين . ويشكل بأنّ قرائن الأحوال شاهدة ببعد اتّخاذ أُولئك الأجلاّء - الرجل الضعيف أو المجهول - شيخاً يكثرون الرواية عنه ويظهرون الاعتناء به ، ورأيت لوالدي رحمه الله كلاماً في شأن بعض مشايخ الصدوق رحمه الله قريباً ممّا قلناه ، وربّما يتوهّم أنّ في ترك التعرّض لذكرهم في
ص: 136
كتب الرجال إشعاراً بعدم الاعتماد عليهم ، وليس بشيء ، فإنّ الأسباب في مثله كثيرة ، وأظهرها أنّه لا تصنيف لهم ، وأكثر الكتب المصنّفة في الرجال لمتقدّمي الأصحاب ، اقتصروا فيها على ذكر المصنفّين ، وبيان الطرق إلى رواية كتبهم ، ومن الشواهد على ما قلناه ، أنّك تراهم في كتب الرجال يذكرون عن جمع من الأعيان أنّهم كانوا يروون عن الضعفاء ، وذلك على سبيل الإنكار عليهم ، وإن كانوا لا يعدّونه طعناً فيهم ، فلو لم تكن الرواية عن الضعفاء من خصوصيات من ذكرت عنه ، لم يكن للإنكار وجه ... إلخ .(1)
ولا يخفى عليك ما فيه ؛ لأنّه إن كان المقصود إثبات عدالتهم بذلك، ففيه : إنّ مجرّد الاستبعاد من اتّخاذ هؤلاء الأجلاّء - الرجل المجهول أو الضعيف - شيخاً لا يجعله معلوم الحال ولا يثبت عدالته ووثاقته، فلا يجوز لنا الحكم بصحّة الرواية من طريقه ما لم يحرز عدله بالبيّنة أو العلم . نعم ، إن علمنا أنّ من دأبه عدم الرواية إلاّ من الثقة أو تعهّد نفسه بذلك ، فلا إشكال حينئذٍ من ثبوت العدالة بمجرّد نقله عنه ، كما صرّح بذلك في محكي كلام الرواشح ، حيث قال:
رواية الثقة الثبت عن رجل سمّاه ، تعديل أم لا؟ قال في شرح العضدي : إنّ فيه مذاهب ، أوّلها : تعديل ؛ إذ الظاهر أنّه لا يروي إلاّ عن عدل . الثاني : ليس بتعديل ؛ إذ كثيرا نرى من يروي ولا يذكر ممّن يروي . وثالثها - وهو المختار - : إنّه إن علم من عادته أنّه لا يروي إلاّ عن عدل فهو تعديل ، وإلاّ فلا(2) .
انتهى ما أردناه .
ولكن لم يتحقّق هذا المعنى في حقّ المشايخ الثلاثة ، وإن كان المراد أنّ حديثه معتبر وإن لم يكن عادلاً ، وأنّه صادق القول محلّ الاطمئنان والوثوق من جهة نقله،
ص: 137
ففيه أيضاً أنّه لا يكون دليلاً عليه؛ لإمكان أن يكون قبول الرواية بواسطة القرائن الموجودة عندهم المختفية علينا ، وإكثار الرواية عنه وإن كان يوجب الظنّ بذلك ، ولكن أوّلاً يحصل معه الاطمئنان غالباً، (والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً) .
ثمّ إنّا لا نتوهّم أنّ عدم التعرّض لأحوالهم مشعر بعدم الاعتماد عليهم ، بل السبب في ذلك أنّهم لا يعرفونهم ، وإلاّ إن كان حالهم معلوماً عندهم بالضعف أو الوثوق لذكروهم كما ذكروا غيرهم ، ولا موجب لعدم التعرّض لذكرهم . وتوهّم كون ذلك من جهة أنّهم غير مصنّفين وأنّ أكثر الكتب المصنّفة في الرجال اقتُصر فيها على ذكر أصحاب الكتب، مدفوع بأنّ بعض الكتب وُضِع لذكر أحوال الرجال من غير النظر إلى أنّهم أصحاب تصنيف أم لا ، كرجال شيخ الطائفة رحمه الله (1) وأبوالعبّاس ،(2) وإن كان كثيرا ما يذكر المصنّفين ، ولكن ربما يتعرّض لشرح حال غيرهم من الرواة، فلو كانوا معروفين عندهم لضبطوا حالهم كما ضبطوا غيرهم .
وأمّا ما ذكره شاهداً ، ففيه أوّلاً : إنّ إنكار الرجاليين على بعض الأعيان(3) لا يوجب اختصاصهم بالرواية عن الضعيف ؛ لأنّهم ليسوا في مقام الحصر . وثانياً : إنّهم أنكروا على من كان يروي عن الضعفاء ، لا من يروي عمّن هو مجهول(4) عندهم ، إذ لعلّه كان من العدول عنده.
وهاهنا كلام للمحقّق البهائي نقله في التنقيح ، قال فيه: قال الشيخ البهائي رحمه الله في محكيّ مشرق الشمسين :
قد يدخل في أسانيد بعض الأحاديث من ليس له ذكر في كتب الجرح والتعديل بمدحٍ ولا قدح، غير أنّ أعاظم علمائنا المتقدّمين قدّس اللّه أرواحهم قد اعتنوا
ص: 138
بشأنه وأكثروا الرواية عنه، وأعيان مشايخنا المتأخّرين طاب ثراهم قد حكموا بصحّة روايات هو في سندها، والظاهر أنّ هذا القدر كافٍ في حصول الظنّ بعدالته(1) .
ثمّ ذكر أنّ من ذلك أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد ، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن أبان ، وأبو الحسين علي بن أبي جيد. قال :
فهؤلاء وأمثالهم من مشايخ الأصحاب ، لنا ظنّ بحسن حالهم وعدالتهم ، وقد عددت حديثهم في الحبل المتين وفي هذا الكتاب ، جرياً على منوال مشايخنا المتأخّرين ، ونرجو من اللّه سبحانه أن يكون اعتقادنا فيهم مطابقاً للواقع .(2)
قلت: كلامه رحمه الله في غاية الجودة والمتانة من حيث حصول الظنّ بحسن حالهم وعدالتهم ، مع تصحيح بعض المشايخ روايات وقعوا في سندها ، ولكنّ الحكم بصحّة(3) هذه الروايات بمجرّد حصول الظنّ بعدالتهم مبنيّ على إثبات أنّ الظنّ بالعدالة يكفي في التوثيق ولا طريق إلى إثباته ؛ ولأنّه لا يغني من الحقّ شيئاً.
والعجب من المحقّق الداماد حيث اكتفى في ثبوت التوثيق بمجرّد الترضية عنهم، حيث قال في الرواشح السماوية على ما حكى عنه صاحب التنقيح :
إنّ للصدوق أشياخاً كلّما سمّى واحداً منهم في سند الفقيه، قال : رضي اللّه عنه ، كجعفر بن محمّد بن مسرور، فهؤلاء أثبات أجلاّء، والحديث من جهتهم صحيح ، نصّ عليهم بالتوثيق أو لم ينصّ(4) .
مع إنّه لم نرَ أحداً من علماء هذا الفنّ أن يقول مجرّد الترضية عن رجلٍ إذا صدر عن الثقة: توثيق.
إن قلت: لا مناص من توثيق رجال الصدوق الذين وقعوا في أسناد روايات كتاب من لا يحضره الفقيه وتصحيح رواياته ؛ لأنّه قال في ضمن خطبة الكتاب:
ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي
ص: 139
به، وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي - تقدّس ذكره وتعالت قدرته - ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل وإليها المرجع(1) .
وهذا - أيّ العمل بهذه الروايات - توثيق لرجاله ، فكما أنّه إن قال : «فلان ثقة» حكمنا بعدالته ، فكذا إن رتّب آثار الصحّة على روايته، فهذا توثيق فعلي بمنزلة التوثيق القولي .
قلت: مجرّد العمل بروايته لا يدلّ على توثيق رجال سنده ؛ لأنّه يحتمل أن يكون قبوله للخبر وترتيب آثار الصحّة عليه بواسطة وجود قرائن عنده مفقودة عندنا .
وكذا إن قلت: قال الكليني في خطبة كتاب الكافي في جواب من طلب منه كتاباً كافّاً يجمع (فيه) من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام :
قد يسّر اللّه - وله الحمد - تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت .(2)
فهذا الجواب يدلّ على كون روايات الكتاب صحيحة عنهما، وهذا مستلزم لتوثيق رجاله عملاً.
قلت: الجواب: والحاصل إنّا إن لم نقل بأنّ ثبوت العدالة يحتاج إلى تخصيص العدلين، لا نقول بحصول التوثيق بمجرّد رواية الثقة عنه، نعم قبول رواياته واندراجه في الصحيح حكماً بواسطة وجود بعض القرائن ، مثل استشهاد القدماء بها في الحكم، وغير ذلك ممّا يوجب الاطمئنان بصدوره، أمرٌ آخر.
هو الذي بوّب كتاب النوادر لأحمد بن عيسى ، وكتاب المشيخة للحسن بن محبوب السرّاد على معاني الفقه ، له كتاب الرحمة في الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحجّ(1) .
وعدّه الشيخ في رجاله ممّن لم يروِ عنهم ،(2) وكذا في الفهرست ،(3) بزيادة قوله :
وله كتاب الرحمة مثل كتاب سعد بن عبد اللّه ، على ما نقل في التنقيح» .
وقال المامقاني فيه (أي تنقيح المقال) :
لا شبهة في كونه إمامياً، وكونه من مشايخ الكليني ، مدح ، معتدّ به . ثمّ قال: فهو إن لم يكن ثقة فلا أقلّ في أعلى درجات الحسن، فتعجّب من عدّه في الحاوي في قسم الضعفاء ومن إهمال ذكره في الوجيزة .
أقول: لم أجد ذكره في الخلاصة أيضاً ، لا في القسم الأوّل ولا في القسم الثاني، وعبارة «مَن ذَكَره» ، خالية عن مدحٍ أو توثيقٍ كما ترى، ومجرّد كونه إماميا لا يدخله في الممدوحين ما لم يصرّحوا عليه بالمدح، خصوصاً مع ما رأيت من إهمال ذكره في الوجيزة والخلاصة وعدّه من الضعفاء في الحاوي ، فالأقوى التوقّف فيه وإلحاق حديثه بالموثّق على أحد معنييه؛(4) لأنّه غير ممدوح ولا مذموم ، إذ لا يمكن الركون في ذمّه بمجرّد عدّه في قسم الضعفاء مع عدم نقل ما يوجبه من الشيخ والنجاشي قدّس سرّهما.
هو ثقة ، جليل القدر، فقيه في أصحابنا، كثير الحديث. قال النجاشي:
أحمد بن إدريس بن أحمد، أبو علي الأشعري القمّي، كان ثقة ، فقيهاً في أصحابنا،
ص: 141
كثير الحديث، صحيح الرواية، له كتاب نوادر ، أخبرني عدّة من أصحابنا إجازة عن أحمد بن جعفر بن سفيان عنه . ومات أحمد بن إدريس بالقرعاء سنة ستّ وثلاثمئة من طريق مكّة على طريق الكوفة(1).
وفي التنقيح :
قال في الفهرست: كان ثقةً في أصحابنا، فقيهاً، كثير الحديث ، صحيح الرواية ، وله كتاب النوادر، كتاب كثير الفوائد، عدّه الشيخ في رجاله تارةً من أصحاب العسكري عليه السلام ، واصفاً له بالمعلّم ، وقال : لحقه - يعني العسكري عليه السلام - ولم يروِ عنه . وأُخرى في باب من لم يروِ عنهم بقوله : أحمد بن إدريس القمّي الأشعري ، يُكنّى أبا علي ، وكان من القوّاد، روى عنه التلَّعُكبري ، قال : سمعت منه أحاديث يسيرة في دار ابن همام ، وليس لي منه إجازة ، وميّزه في مشتركات الطريحي والكاظمي برواية أحمد بن جعفر بن سفيان البَزَوفَري والتلَّعُكبري عنه ، وزاد في الثاني التمييز برواية محمّد بن يعقوب الكليني ، والحسن بن حمزة العلوي عنه ، وبروايته عن محمّد بن عبد الجبّار ومحمّد بن أحمد بن يحيى ومحمّد بن الحسن بن الوليد .(2)
وقال العلاّمة بعد توثيقه والثناء عليه : «أعتمد على روايته» .
ثقة في الحديث ، معتمد عليه . قال النجاشي بعد عنوانه بما ذكرنا بزيادة القمّي بعد أبو الحسن:
ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر ، وصنّف كتباً وأضرّ في وسط عمره . وله : 1 - كتاب التفسير ، 2 - كتاب الناسخ والمنسوخ ، 3 - كتاب قرب الإسناد ، 4 - كتاب الشرائع ، 5 - كتاب الحيض ، 6 - كتاب التوحيد والشرك ، 7 -كتاب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، 8 - كتاب المغازي ، 9 - كتاب الأنبياء ، 10 - رسالة
في معنى هشام ويونس ، 11 - جوابات مسائل سأله عنها محمّد بن بلال، كتاب
ص: 142
يعرف بالمشذّر ، واللّه أعلم ، أنّه مضاف إليه . أخبرنا محمّد بن محمّد وغيره عن الحسن بن حمزة بن علي بن عبيد اللّه ، قال : كتب إليّ علي بن إبراهيم بإجازة سائر حديثه وكتبه .(1)
وفي التنقيح:
ووثّقه في الوجيزة والبلغة والمشتركاتين وغيرها أيضا . وعن إعلام الورى : إنّه من أجلّ رواة أصحابنا . وقال في الفهرست: علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، له كتب ، منها كتاب التفسير ، وكتاب في الناسخ والمنسوخ ، وكتاب المغازي ، وكتاب الشرائع ، وكتاب قرب الإسناد ، وزاد ابن النديم كتاب المناقب وكتاب اختيار القرآن ، أخبرنا بجميعها جماعة ، عن أبي محمّد الحسن بن الحمزة العلوي الطبرسي ، عن علي بن إبراهيم ، وأخبرنا محمّد بن محمّد بن النعمان ، عن محمّد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ومحمّد بن الحسين وحمزة بن محمّد العلوي ومحمّد بن علي ماجيلويه ، عن علي بن إبراهيم ، إلاّ حديثاً واحداً ، استثناءً من كتاب الشرائع في تحريم لحم البعير ، وقال : لا أرويه .
وروى أيضاً حديث تزويج المأمون أُمّ الفضل من محمّد بن علي عليهماالسلام ، ورويناه بالإسناد الأوّل، وقال فيه: لم أقف على تاريخ وفاته ، ويُستفاد ممّا مرّ نقله في العيون في ترجمة حمزة بن القاسم من ولد أبي الفضل عليه السلام من روايته عن علي هذا سنة سبع وثلاثمئة ، هو حياته في ذلك الوقت وموته بعده. ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره السيّد صدر الدين في تعليقته على منتهى المقال من درك الرجل الرضا عليه السلام اشتباه ؛ لأنّه توفّي سنة اثنتين ومئتين ، ولا تقضي العادة ببقاء عليّ هذا من ذلك الزمان مع بلوغه أقلاًّ إلى التاريخ المزبور، مع أنّا لم نقف على رواية واحدة عن الرضا .(2)
وأمّا الذي روى عنه هذه العدّة فهو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمّي؛
قال النجاشي رحمه الله :
أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن سعد بن مالك بن الأحوص(3) بن السائب بن
ص: 143
مالك بن عامر الأشعري ، من بني ذُخْران(1) بن عوف بن الجُماهِر(2) بن الأشعر ، يُكنّى أبا جعفر، وأوّل من سكن قمّ من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص، وكان السائب بن مالك وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وأسلم ، وهاجر إلى الكوفة وأقام بها، وذكر بعض أصحاب النسب أنّ في أنساب الأشاعرة أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن سعد بن مالك بن هاني بن عامر بن أبي عامر الأشعري، واسمه عبيد وأبوعامر ، له صحبة، وقد روي أنّه لمّا هزم هوازن يوم حنين عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلملأبي عامر الأشعري على خيل فقُتل، فدعا له ، فقال: اللّهمّ أعط عبدك عبيدا أبا عامر ، واجعله في الأكبرين يوم القيامة .
قال الكشّي عن نصر بن الصبّاح: ما كان أحمد بن محمّد بن عيسى يروي عن ابن محبوب ؛ من أجل أنّ أصحابنا يتّهمون ابن محبوب في روايته عن أبي حمزة الثمالي، ثمّ تاب ورجع عن هذا القول .
قال ابن نوح: وما روى أحمد عن ابن المغيرة ولا عن الحسن بن خرزاذ . وأبو جعفر رحمه الله شيخ القمّيين ووجههم وفقيههم غير مدافع، وكان أيضا الرئيس الذي يلقي السلطان ، ولقي الرضا عليه السلام ، وله كتب، ولقي أبا جعفر الثاني عليه السلام ، ولقي أبا الحسن العسكري عليه السلام ، فمنها : 1 - كتاب التوحيد، 2 - كتاب فضل النبي صلى الله عليه و آله وسلم، 3 - كتاب المتعة، 4 - كتاب النوادر، وكان غير مبوّب فبوّبه داوود بن كورة، 5 - كتاب الناسخ والمنسوخ، 6 - كتاب الأظلّة، 7 - كتاب المسوخ، 8 - كتاب فضائل العرب .
قال ابن نوح : ورأيت له عند الديبلي كتاباً في الحجّ ، أخبرنا بكتبه الشيخ أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه ، و أبو عبد اللّه بن شاذان، قالا: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه عنه، وقال لي أبو العبّاس أحمد بن علي بن نوح: أخبرنا بها أبو الحسن بن داوود ، عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ومحمّد بن
ص: 144
يحيى وعلي بن موسى بن جعفر وداوود بن كورة وأحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى بكتبه(1) .
وقال الطوسيفي الفهرست بعد ترجمته:
وأبو جعفر ، شيخ قمّ ووجهها وفقيهها غير مدافع، وكان أيضا الرئيس الذى يلقي السلطان بها ، ولقي أبا الحسن الرضا عليه السلام . وذكر جملة من كتبه ، ثمّ قال: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدّة من أصحابنا ، منهم الحسين بن عبيد اللّه ، وابن أبي جيد ، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، عن أبيه ، وسعد بن عبد اللّه عنه، وأخبرنا عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد ، عن أبيه ، عن محمّد بن الحسن الصفّار وسعد جميعاً ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، وروى ابن الوليد المبوّبة ، عن محمّد بن يحيى والحسن بن محمّد بن إسماعيل ، عن أحمد بن محمّد .(2)
وقال في رجاله في ذكر أصحاب الرضا عليه السلام :
أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمّي ، ثقة، له كتب . وذكره في أصحاب أبي جعفر الثاني محمّد بن علي الجواد عليه السلام قائلاً : أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري ، من أصحاب الرضا عليه السلام (3) .
وقال العلاّمة رحمه الله في محكي الخلاصة بعد توصيفه بما في الفهرست(4) :
... وأبا جعفر الثاني وأبا الحسن العسكري عليهماالسلام: وكان ثقة، وله كتب ذكرناها في الكتاب الكبير .(5)
وفي التنقيح :
وعن الصدوق في كتاب الفقيه مدحه ووصفه إيّاه بالفضل والجلالة، وقد وثّقه الشهيد
ص: 145
الثاني رحمه الله في الدراية ، وولده الشيخ حسن في محكي المنتقى ، فذكر توثيق عدّة من الرجاليّين ، ثمّ قال : وفي الحاوي مع أنّ ديدنه التشكيك غالباً، أنّ عبارة النجاشي والفهرست يفيدان بظاهرهما التوثيق، مضافاً إلى توثيق الشيخ رحمه الله في كتاب الرجال ، ووصف العلاّمة رحمه الله حديثه بالصحّة .(1)
فتلخّص: إنّ هذه العدّة وإن كان حال بعض أفرادها غير معلوم ، ولكنّ أكثرهم من الثقات الأخيار والأعيان الأطياب ، الذين لم يشكّ في جلالة قدرهم وعظم شأنهم أحد، وكذا حال المرويّ عنه ابن عيسى رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين. فلا ريب ولا إشكال في صحّة السند إلى أحمد بن محمّد بن عيسى ، فلينظر حال من كان قبله في الثقة والضعف.
ص: 146
أشخاصها أربعة . قال السيّد الطباطبائي:
وعدّة البرقي وهو أحمد *** علي بن الحسن وأحمد
وبعد ذين بن أُذينة علي *** وابن لإبراهيم واسمه علي
وهو المذكور في العِدّة الاُولى ؛ وهو علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي ، على الظاهر القوي، بل لا يحتمل خلافه ؛ لأنّه لم يذكر في طبقة مشايخ الكليني على ما نقلنا عن المحقّق البهائي . ويظهر من صاحب عين الغزال(1) غيره ، مع أنّه عدّ من مشايخه الذين روى عنهم بلا واسطة ، وأُجيز منهم في قراءة الحديث خمساً وثلاثين رجلاً ليس فيهم ابن إبراهيم إلاّ علي بن إبراهيم بن هاشم ، ومن البعيد غايته أن يكون في طبقة مشايخه ابن إبراهيم آخر لم يطّلع عليه هؤلاء، مع أنّهم بصدد جمع مشايخه ، بل وخفي على جميع الرجاليّين ؛ لأنّه إن ذكر في أصل رجالي لنقل إلينا بواسطة الذين جمعوا الأقوال ، مع أنّه لم يذكر هذا الاسم في الرجال إلاّ موصوفاً بصفة غالباً بها يمتاز عمّن عداه ، ومع ذلك بعضهم لم يكونوا في عصره ، مثل: علي بن إبراهيم الجواني وغيره، وأيضا لم يذكروا وقوع من كان بهذا الاسم في إسناد كتاب الكافي ، فضلاً عن أن يكون في طبقة مشايخه، مع أنّهم تفحّصوا إسناد الروايات كلّها ، ولو كان لذكروا كما ذكروا الذين وقعوا في طريق مشايخ أُخر غير الكليني .
نعم ، قال في التنقيح في ترجمة علي بن إبراهيم الجعفري :
ص: 147
لم أقف فيه إلاّ على رواية الكليني ، عن محمّد بن يحيى عنه ، في مواضعٍ من الكافي، منها باب الخلّ من كتاب الأشربة ، وروى في باب الصلاة على المصلوب من الكافي عن الرضا عليه السلام ، ولم يظهر حاله .(1)
ولكن هذا لا يوجب اشتباه الرجل بغيره ؛ لأنّه لا يكون في طبقة مشايخه، مع أنّ الكليني لم يذكره مجرّداً حتّى يلتبس بغيره، بل موصوفاً بالجعفري ، ومع ذلك كلّه أنّا لم نجد في باب الصلاة على المصلوب من الكافي من علي بن إبراهيم الجعفري عيناً ولا أثراً ؛ لأنّ في هذا الباب ثلاث روايات ، ولا يكون في سند واحد منها هذا الرجل، بل وقع في سند الثانية منها أبو هاشم الجعفري هكذا:
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي هاشم الجعفري .
وليس في أكثر النسخ كلمة عن أبيه على ما في الحاشية ، ومع ذلك لا يحتمل كون علي بن إبراهيم الواقع في أوّل السند هو الجعفري؛ لأنّه قال: يروي عنه بواسطة محمّد بن يحيى، ولا واسطة بينه وبين علي بن إبراهيم في هذا السند، فيكون هو ابن هاشم القمّي الذي وقع في أوّل أكثر أحاديث الكافي، ولا أدري كيف وقع منه هذا الاشتباه البيّن، فمثل هذا يوجب وهن الاعتقاد بالنقليات ، وإلزام النفس بمراجعة المصادر ، عصمنا اللّه من الزلل في القول والفعل .
والمتحصّل من جميع ذلك أنّه هو ابن الهاشم القمّي الثقة ، الذي أسلفنا ترجمته ، فلا نُطيل بإعادتها .
والظاهر أنّه هو علي بن محمّد بن عبد اللّه القمّي ، ويشهد بذلك ما وقع من الكليني في الباب التاسع من كتاب العتق من تفسير العِدّة التي روى بواسطتهم الحديث المذكور في هذا الباب ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، فإنّه قال على ما في خاتمة
ص: 148
المستدرك:
عدّة من أصحابنا؛ علي بن إبراهيم ومحمّد بن جعفر ومحمّد بن يحيى وعلي بن محمّد بن عبد اللّه القمّي وأحمد بن عبد اللّه وعلي بن الحسن جميعاً ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ... إلخ(1) .
وكيف كان ، فالرجل غير معروف عندهم ، قال في التنقيح:
لم أقف فيه إلاّ على رواية الكليني رحمه الله ، عنه عن أحمد بن محمّد بن خالد ، وعنه عن
أبيه ، عن محمّد بن عيسى، وعنه عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد البرقي وإبراهيم بن إسحاق الأحمر والسيّاري ، وحاله مجهول .(2)
وقال في محكيّ توضيح المقال عند ذكر عدّة الكليني:
وبقي شخصان آخران من عدّة البرقي ، أحدهما : أحمد بن عبد اللّه بن أُميّة ، وثانيهما : علي بن عبد اللّه بن أُذينة ، ولم نجدهما في كتب الرجال .(3)
إن قلت : قد نقلتم من التنقيح في أوّل الرسالة ما يدلّ على أنّ عليّ بن محمّد بن أُذينة الذي وقع في عدّة البرقي هو ابن بنته ، أي علي بن محمّد المعروف بماجيلوية ، الذي صرّح العلاّمة بأنّه ثقة، فاضل ، فقيه، أديب، حيث نقل عن الكليني في كتاب العتق من الكافي تفسير العدّة التي رويت عن ابن خالد هكذا:
عدّة من أصحابنا، علي بن إبراهيم ، ومحمّد بن جعفر أبو الحسن الأسدي ، ومحمّد بن يحيى ، وعلي بن محمّد وهو المعروف بماجيلوية بن عبد اللّه القمّي ، وأحمد بن عبد اللّه هو ابن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي ، وعلي بن الحسين السعدآبادي جميعا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد .
مضافاً إلى أنّه لا يكون في طبقة مشايخه علي بن محمّد بن عبد اللّه متعدّداً وينطبق عليه .
ص: 149
قلت: لا أدري من أين أخذ هذا التفسير، مع أنّه لم أرَ منه أثر في هذا الكتاب على ما لاحظت نسختين من الكافي، ففي أحدهما ذكر السند هكذا:
عدّة من أصحابنا، عن علي بن إبراهيم ، ومحمّد بن جعفر ، ومحمّد بن يحيى ، وعلي بن محمّد بن عبد اللّه القمّي ، وأحمد بن عبد اللّه ، وعلي بن الحسين جميعاً ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة .
فإنّ الظاهر منه كما ترى أنّه رحمه الله نقل عن عدّة من أصحابه الذين لا نعرفهم ، عن هؤلاء المذكورين في السند ، ولم يفسّر أسماء العدّة. سلّمنا أنّ كلمة «عن» غلط وقع من النسّاخ ، وأنّ السند مطابق لما نقلنا عن المستدرك في الصفحة السابقة ، وأنّ هذا تفسير منه للعدّة، ولكن لم يذكر أنّ علي بن محمّد بن عبد اللّه هو ابن ماجيلوية المعروف، فلعلّ تفسيره هذا الرجل بابن ماجيلوية، تفسير على حسب ظنّه، وفي الثاني أسقط التفسير رأسا ولم يذكر أسماءهم، بل يكون مثل سائر الأسناد؛ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد.
والحاصل ، إنّي لم أتحصّل عاجلاً ما يشخّص الرجل ويعيّنه وما يعطي الوثوق والاطمئنان بحاله، فهو غير معروف ، ونرجو أن يظهر لنا حاله آجلاً، وأن يقوّى في النظر، أن يكون هو ابن بنت محمّد بن خالد؛ لما ذكرنا أنّه لم يكن متعدّداً من كان بهذا الاسم في طبقة مشايخه.
والحاصل ، إنّ كون اسم هذا الرجل أحمد بن عبد اللّه مسلّم لا إشكال فيه ، إنّما الاختلاف في اسم جدّه ، فما نقله في خاتمة المستدرك في تفسير العدّة عنها مكان هذا الشخص، علي بن محمّد بن عبد اللّه ، غلط صريح لا مأخذ له، وكيف كان ، فهو غير معروف بين أصحاب الرجال ، فلم يتعرّض النجاشي ولا العلاّمة لحاله ، بل لا يوجد في كتب الرجال منه أثر كما سمعت من محكي توضيح المقال .
إن قلت: لعلّه ابن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي ، كما نقل في التنقيح تفسيره الكليني بذلك في كتاب الطلاق.
قلت: قد عرفت أنّ هذا التفسير غير موجود في هذا الكتاب، مضافاً إلى أنّه قد سقط في بعض النسخ أسماء العدّة أيضاً، مع أنّ هذا الشخص المفسّر به أيضا غير مذكور فيما رأينا.
والحاصل : إنّ الرجل مجهول الحال ، فتقف الرواية به، ما لم ينضمّ إليه ثقة في درجته.
قال في محكيّ توضيح المقال في مقام عدّ عدّة البرقي:
والثاني : علي بن الحسن، على ما وجد في بعض نسخ الخلاصة ، وهو بهذا العنوان مشترك بين ثقات ومجاهيل، ولا شاهد على كون المعدود من العدّة أحد الثقات أو المجاهيل ، بل الظاهر إباء طبقة الجميع عن طبقة العدّة، ومن هنا قال بعض أجلاّء العصر: لا يبعد أن يكون ذلك من تصرّف النسّاخ ، وأنّه علي بن الحسين مصغّراً ، يعني علي بن الحسين السعدآبادي(1) .
قلت: والظاهر أنّه كذلك ، وسيأتي ما يرتبط بعلي بن الحسين السعدآبادي فانتظره.
هذا ما تيسّر لنا في شرح أحوال العدّة الثانية، والخبر صحيح من جهتهم ؛ لوجود
ص: 151
علي بن إبراهيم فيها وهو الثقة.
وأمّا الّذي روى عنه هذه العدّة فهو أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، ثقة في نفسه، إلاّ أنّه يروي عن الضعفاء .
قال النجاشي:
أحمد بن محمّد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمّد بن علي البرقي، أبو جعفر، أصله كوفي ، وكان جدّه محمّد بن علي حبسه يوسف بن عمر بعد قتل زيد عليه السلام ، ثمّ قتله ، وكان خالد صغير السنّ ، فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلى برق روذ ، وكان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء ، واعتمد المراسيل، وصنّف كتباً، منها: المحاسن وغيرها ، فعدّ ما يشتمل عليها من الكتب الكثيرة . ثمّ قال : هذا الفهرست الذي ذكره محمّد بن جعفر بن بطّة من كتب المحاسن .
وذكر بعض أصحابنا أنّ له كتباً أُخر ، منها : كتاب التهاني، كتاب التعازي، كتاب أخبار الأُمم. أخبرنا بجميع كتبه الحسين بن عبيد اللّه، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد أبو غالب الزراري، قال: حدّثنا مؤدّبي علي بن الحسين السعدآبادي أبو الحسن القمّي ، قال : حدّثنا أحمد بن أبي عبد اللّه بها .
وقال أحمد بن الحسين رحمه الله في تاريخه: توفّي أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي في سنة أربع وسبعين ومئتين. وقال علي بن محمّد ماجيلوية: توفّي سنة ثمانين ومئتين(1) .
وقال الشيخ في ضمن ترجمته:
وكان ثقة في نفسه، غير أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل، وصنّف كتباً كثيرة. ثمّ قال بعد سرد كتبه: أخبرنا بهذه الكتب كلّها وبجميع رواياته عدّة من أصحابنا، منهم: الشيخ أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد ، وأبو عبد اللّه
الحسين بن عبيد اللّه، وأحمد بن عبدون ، وغيرهم ؛ عن أحمد بن محمّد بن سليمان الرازي ، قال : حدّثنا مؤدّبي علي بن الحسين السعدآبادي أبو الحسن القمّي، قال : حدّثنا أحمد بن عبد اللّه ابن بنت البرقي، قال : حدّثنا جدّي أحمد بن محمّد،
ص: 152
وأخبرنا هؤلاء إلاّ الشيخ أبا عبد اللّه ، وغيرهم ، عن أبي المفضّل الشيباني ، عن محمّد بن جعفر بن بطّة، عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، بجميع كتبه ورواياته، وأخبرنا بها ابن أبي جيد ، عن محمّد بن الحسن بن الوليد ، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، بجميع كتبه ورواياته(1) .«
وقال العلاّمة بعد عنوانه بمثل ما عنونه النجاشي :
منسوب إلى برقة قمّ ، جعفر، أصله كوفي ، ثقة ، غير أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل.
قال ابن الغضائري: طعن عليه القمّيون وليس الطعن فيه ، وإنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ، على طريقة أهل الأخبار . وكان أحمد بن محمّد بن عيسى أبعده عن قمّ ثمّ أعاده إليها واعتذر إليه. وقال: وجدت كتاباً فيه وساطة بين أحمد بن محمّد بن عيسى وأحمد بن محمّد بن خالد، ولمّا توفّي مشى أحمد بن محمّد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً ؛ ليبرئ نفسه ممّا قذفه به. وعندي أنّ روايته مقبولة(2) .
وقال في التنقيح، بعد ذكر توثيق النجاشي والشيخ والعلاّمة:
ووثّقه ابن داوود والمجلسي في الوجيزة ، والبحراني في البلغة ، والطريحي والكاظمي المشتركاتين، وهو المحكي عن مشرق الشمسين ، ومجمع المولى عناية اللّه ، ومجمع الفائدة للأردبيلي ، وغيرها، وهو ظاهر الحاوي ، حيث ذكره في الفصل الأوّل المعدّ لعدّ الثقات ، ونقل كلمات النجاشي والشيخ والعلاّمة ولم يلحقها بغمزٍ أو تأمّل، كما هي عادته في كثير من الثقات .(3)
والحاصل ، إنّ الناظر بعين الإنصاف في كلمات مهرة الفنّ لا يتأمّل في وثاقته وجلالته، خصوصاً مع ما صنع به أحمد بن محمّد بن عيسى من الاعتذار والمشي فى جنازته حافياً حاسراً ؛ لجبران ما صدر منه ودفع ما يتوهّم في حقّه بسبب ذلك . نعم ، لابد من التأمّل في حقّ من يروي عنه ؛ لأنّه اشتهر بعدم المبالاة فيمن يأخذ عنهم
ص: 153
الحديث، فحينئذٍ لا يعتني بما يوهم كونه موهناً لروايته وضعفاً فى نفسه، وهو أُمور ذُكر عمدتها في التنقيح .
الأوّل: روايته عن الضعفاء واعتماده المراسيل .
وفيه: إنّ هذا لايضرّ بعدالته ووثاقته ؛ لأنّ صرف الرواية عن الضعيف مع ذكر اسم المروي عنه لا يوجب فسقاً ؛ لعدم التدليس والغرور، وأمّا الاعتماد على المراسيل، فلعلّه اطّلع على قرائن يوجب الاطمئنان بصدورها ، فكان يعتمد عليها، وإن كانت مرسلةً، وأمّا توصيف النجاشي والشيخ بما ذكر ، فلايؤذن بقدحٍ فيه، بل لأجل أن لا يحسن أحد الظنّ بواسطة وثاقة الرجل بالمروي عنه ، فيترك الفحص عن حاله ، فيقبل الخبر اعتماداً عليه ، كما يتّفق في بعض الرواة ، مثل ابن أبي عمير وأمثاله.
الثاني : طعنُ القمّيين فيه .
وفيه : إنّه إن كان سبب ذلك إخراج أحمد بن محمّد بن عيسى إيّاه عن قمّ، فقد عرفت أنّه أصبح على ما فعل من النادمين، وإن كان غير ذلك فلابدّ من بيانه ؛ لأنّه ربّما يكون شيء سبباً للطعن عندهم ، مع أنّه لا يوجب قدحاً عند آخرين.
الثالث : إنّ الشيخ البهائي رحمه الله قال في سند رواية فيه أحمد بن محمّد بن خالد؛ بتوجّه الطعن من جهة قول النجاشي، إنّ البرقي ضعيف .
وفيه : إنّ كلام النجاشي كما رأيت خال عن ذلك، بل مشتمل على توثيقه ، ولعلّه اشتبه على أحمد هذا بأبيه محمّد بن خالد ، فإنّه ضعيف كما صرّح به النجاشي.
الرابع: إنّه قد وقع(1) في المختلف في غير موضع، إنّ في أحمد قولاً بالقدح والضعف ، وجعل ذلك طعناً في الأخبار التي هو في طريقها .
وفيه: إنّ هذا مخالف لما ذكره في الخلاصة من توثيقه وقبول روايته ، ويمكن أن يكون طعنه في هذه الأخبار من جهة من يروي عنهم أحمد بن محمّد ، لا من جهة نفسه ، وإن كان ينافي قوله: إنّ في أحمد قولاً بالقدح .
ص: 154
والحاصل ، إنّ نصّه بالتوثيق وقبول روايته في الخلاصة التي أعدّها لبيان أحوال الرجال مقدّم على ما يظهر منه في المختلف من عدم قبول روايته.
الخامس: قال في التنقيح :
إنّ الشهيد الثاني رحمه الله في بحث الإرث بالنكاح المنقطع من المسالك قد طعن في صحيحة سعيد بن يسار الوارد بعدم الإرث مطلقا، باشتمالها على البرقي مطلقا ، ويحتمل كونه محمّداً وابنه أحمد . ثمّ قال : ولكنّ النجاشي ضعّف محمّداً . وقال ابن الغضائري : حديثه يُعرف ويُنكر ، ويروي عن الضعفاء ، ويعتمد على المراسيل، وإذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح مقدّم .
وظاهر حال النجاشي أنّه أضبط الجماعة وأعرفهم بحال الرجل ، وأمّا ابنه أحمد فقد طعن عليه أيضا ، وقال ابن الغضائري: كان لا يبالي عمّن أخذ ، وإخراج أحمد بن محمّد بن عيسى له من قمّ لذلك ولغيره .(1)
فأجاب عنه بقوله : وهو من مثله لغريب، فإنّك قد سمعت قول ابن الغضائري وأنّه ردّ الطاعنين ، لا أنّه طعن هو، فنسبة الطعن إليه نفسه لم تقع في محلّه، كتوقّف العمل بحديث الرجل بعد توثيق جماعة كثيرة له .
أقول : ونسبة الطعن إلى النجاشي أيضا غريب ؛ لما رأيت من خلوّ عبارته عمّا يدلّ على الطعن فيه.
السادس: قال فيه أيضا :
إنّ الكليني رحمه الله في باب ما جاء في الأئمّة الاثني عشر نقل حديثاً ناطقاً بأنّ الخضر حضر عند أمير المؤمنين عليه السلام وشهد بإمامة الأئمّة الاثني عشر واحداً بعد واحد ، يسمّيهم بأسمائهم ، حتّى انتهى إلى الخلف الحجّة عليهم السلام . قال الكليني رحمه الله : وحدّثني محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن أبي هاشم مثله، قال محمّد بن يحيى : فقلت لمحمّد بن الحسن: يا أبا جعفر ، وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير أحمد بن أبي عبد اللّه، قال: فقال: لقد حدّثني قبل الحيرة
ص: 155
بعشر سنين . انتهى ما في الكافي .
وقد حكي عن مجمع المقال للمولى عناية اللّه ، أنّه قال بعد ذكر الخبر: إنّ فيه دلالة على أنّ أحمد بن أبي عبد اللّه ، صار متحيّراً أو وقف . انتهى .
وعن الفاضل الأسترآبادي ، مشيراً إلى أنّ هذا يدلّ على أنّ في قلب محمّد بن يحيى بن أحمد بن أبي عبد اللّه شيئاً .(1)
أقول: قال المحدّث المجلسي في مرآة العقول :
ويظهر من هذا الخبر أنّ محمّد بن يحيى كان في نفسه شيءٌ على البرقي ، والصفّار أثبت له حيرة، وظاهره التحيّر في المذهب، ويمكن أن يكون المراد بَهْته وخرافته في آخر عمره ، أو تحيّره فى الأرض بعد إخراج أحمد بن محمّد بن عيسى إيّاه من قمّ . وقيل : معناه قبل الغيبة أو قبل وفاة العسكري عليه السلام . وقيل: نقل هذا الكلام من محمّد بن يحيى وقع بعد إبعاده من قمّ وقبل إعادته ، وهو زمان حيرة البرقي بزعم جمع ، أو زمان تردّده في مواضع خارجة من قمّ حيرانا ؛ وذلك لأنّه كان حينئذٍ متّهماً بما قُذف به ، ولم يظهر بعد كذب ذلك القذف . انتهى . وبالجملة ، لا يقدح مثل ذلك في مثله .(2)
ولا يخفى عليك أنّ الاحتمال الأوّل بعيد لا يليق بالرجل ، وكذا احتمال تحيّره في أمر الإمامة قبل العسكري عليه السلام أو القائم عجّل اللّه تعالى فرجه ؛ لأنّه إن تحقّق فيه ما يشعر بذلك لما ندم أحمد بن محمّد بن عيسى من إخراجه ، حيث إنّه أعاده إلى قمّ واعتذر إليه ، ولا زال كان بصدد إبراء نفسه ممّا قذفه به، حتّى أنّه مشى في جنازته حافياً حاسراً ، وذلك يكشف عن استقامته في العقيدة وكونه جليل القدر عظيم المنزلة عنده.
وأمّا احتمال خرافته في آخر عمره ، بحيث يوجب تشويش الفكر ويسقط كلامه عن الاعتبار فبعيد أيضا ؛ لأنّه لم يتفوّه أحد من الرجاليين بذلك ، وحيث إنّه رجل
ص: 156
معروف كثير الرواية، كان أصحاب الحديث بصدد بيان حاله ومرامه ، ولو كان فيه ذلك لذكروها حتماً .
وأضعف من ذلك ما احتمله صاحب التنقيح من أنّ غرض محمّد بن يحيى لم يكن تمنّي كون الراوي للخبر واحداً آخر غير البرقي حتّى يكون قدحاً فيه، بل غرضه - واللّه العالم - تمنّي أن يكون قد جاء هذا الحديث من غير جهة البرقي أيضاً، يعني بسندٍ ثان وثالث ، بحيث يبلغ حدّ التواتر أو الاستفاضة ليرغم به أنف المنكرين . وغرض محمّد بن الحسن في جوابه - واللّه العالم - أنّ الحديث قد تضمّن ذكر الغيبة ، وقد حُدّثت بها قبل وقوعها ، بما يغني ظهور الإعجاز فيها ، وهو الإعلام بما وقع قبل أن يقع عن الاستفاضة ، وحينئذٍ فيتعيّن أن يكون المراد بالحيرة زمن الغيبة - التي هي رأس كلّ بليّة وحيرة - ومن لاحظ الكتب المصنّفة في الغيبة ظهر له أنّ إطلاق لفظ الحيرة على زمن الغيبة شائع ذائع فى لسان الأخبار والمحدّثين .(1) انتهى .
لأنّ هذا الاحتمال مبنيّ على جواز ذكر اللفظ وإرادة خلاف معناه بدون قرينة، وإلاّ فالعبارة لا تحتمل هذا المعنى ؛ لأنّه يصرّح بأنّه يجب أن يكون الراوي غيره ، وهذا ظاهر في كراهية نقل الخبر من طريق البرقي، وإلاّ إن كان مراده تكثير طريق الرواية، لا يعبّر بهذه العبارة ، بل ينبغي أن يقول : «وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير أحمد بن أبي عبد اللّه أيضاً» ، مع أنّ هذه العبارة أيضا لا تكون صريحةً في هذا المعنى .
والحاصل : إنّ هذا الاحتمال ممّا لا يرضى به الذوق السليم بل يأباه . والّذي يحتمل قوياً هو أنّه لمّا زعم أحمد بن محمّد بن عيسى فيه ما يوجب عدم الوثوق إليه من فساد العقيدة والتحيّر في أمر الإمامة ، أو غير ذلك من الأُمور التي خفيت علينا فقذفه به وأبعده من قمّ، صار ذلك شائعاً ذائعا بين الرواة وحملة الحديث ، فكدّر عقائدهم الصافية بالنسبة إليه وحدث في نفوسهم من أمره شيءٌ ، فكانوا يزعمون فيه فساد العقيدة ، فحينئذٍ يمكن أن يكون حديث الصفّار لمحمّد بن يحيى ذلك في هذا
ص: 157
الزمان ، فقال له ما قال ، فأجابه الصفّار بأنّ هذا الحديث سمع منه قبل الحيرة ليطمئنّ خاطره، وهذا موافق للاحتمال السادس الذي ذكره المحدّث المجلسي .
وبالجملة ، لا يمكن رفع إليه عن هذه التوثيقات الصريحة المغيّرة بواسطة الخبر المزبور، مع أنّه لايدلّ على ما يكون قدحاً فيه، ولقد أجاد الوحيد في محكي كلامه حيث قال: «إنّ التوثيق ثابت من العدول ، والقدح غير معلوم بل ولا ظاهر» .
فتحصّل من جميع ما ذكرنا في شرح هذه العدّة أنّ الرواية من طريقهم صحيحة بعلي بن إبراهيم بن هاشم ، وإن لم يظهر حال باقي أشخاصها، والمروي عنه أيضاً صحيح كما عرفت، فينبغي أن يلاحظ من كان قبل أحمد بن محمّد البرقي.
ص: 158
أشخاصها أربعة، قال السيّد الطباطبائي:
وإنّ عدّة التي عن سهل *** من كان فيه الأمر غير سهل
ابن عقيل وابن عون الأسدي *** كذا علي بعد مع محمّد
قال النجاشي رحمه الله بعد عنوانه بما ذكرنا:
يكنّى أبا الحسن، ثقة عين، له كتاب أخبار القائم، أخبرنا محمّد ، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد ، قال: حدّثنا علي بن محمّد، وقُتل علاّن بطريق مكّة ، وكان استأذن الصاحب عليه السلام في الحجّ فخرج : توقّف عنه في هذه السنة، فخالف(1) .
وقال العلاّمة رحمه الله في الخلاصة بعد عنوانه بما ذكرنا:
يُكنّى أبا الحسن، ثقة عين، إلاّ أنّ فيها الكلبي مكان الكليني، ولا يبعد أن يكون من أغلاط الطبع(2) .
وقال في التنقيح بعد ذكر كلام النجاشي والعلاّمة وغيرهما:
ووثّقه في الوجيزة والبلغة وغيرهما ، وهو الذي يروي عنه الكليني بغير واسطة كثيراً، وهو داخل في العدّة ، يروي بتوسّطهم عن سهل بن زياد. وقال غير واحد : إنّه أُستاد الكليني وخاله(3) .
هذا حاله في الوثاقة والاعتبار بشهادة أهل الفنّ ، ولكن في النفس شيءٌ من جهة مخالفته للقائم عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف بإتيانه الحجّ ، وهل هذا يضرّ بعدالته؟ إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأمر بالتوقّف أمر إرشادي ليس على وجه إعمال المولوية ، فلا
ص: 159
تضرّ مخالفته بوثاقته، وأيضا يمكن أنّه تخيّل أنّ المانع شيءٌ خاصّ، فلمّا ارتفع ذهب إلى الحجّ، وعلى تقدير كون الأمر مولوياً لا تضرّ مخالفته بها لأنّها معصية صغيرة ، وعلى فرض كونها من الكبائر وعدم ندامته بعده، تسقط روايته عن الصحّة بعد المخالفة ؛ لأنّه قبل ذلك كان عادلاً .
والحاصل ، إنّه لا يمكن رفع إليه بسبب هذه المخالفة التي لها احتمالات لا تضرّ بعدالته، ولا تنافيها عن التوثيقات المصرّحة بها في كلام القوم لها.
الظاهر أنّه هو محمّد بن جعفر بن محمّد بن عون الأسدي الكوفي ، الساكن في الري ، ولذا يُنسب إليه؛ لأنّه يطلق على الأسدي المذكور أنّه أبي عبد اللّه بشهادة النجاشي في كلامه الآتي، وأنّه لا يكون في طبقة مشايخ الكليني من كان بهذا الاسم غيره على الظاهر ممّن جمع مشايخه، ونقل في التنقيح احتمال الميرزا والتفرشي كون الرجل هو محمّد بن جعفر الأسدي ، وأيضاً نقل جزم المجلسي في مرآة العقول، والمولى صالح بذلك .
وبالجملة ، يحصل للمراجع المتتبّع ظنّ قوي، بل وثوق بأنّ المراد بابن أبي عبد اللّه هو الأسدي المذكور، وأمّا استبعاد بعضهم كونه الأسدي فمنشأه قلّة التأمّل في كلام النجاشي ، فلا نطيل الكلام بذكره، فمن أراد الاطّلاع عليه فليراجع إلى كتاب عين الغزال . فاللازم حينئذٍ بيان حال محمّد بن جعفر الأسدي ، فنقول:
قال النجاشي:
محمّد بن جعفر بن محمّد بن عون الأسدي، أبو الحسين الكوفي، ساكن الري ، يقال له محمّد بن أبي عبد اللّه، كان ثقة، صحيح الحديث، إلاّ أنّه روى عن الضعفاء ، وكان يقول بالجبر والتشبيه ، وكان أبوه وجهاً، روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى ، له كتاب الجبر والاستطاعة، أخبرنا أبو العبّاس بن نوح ، قال: حدّثنا الحسن بن حمزة ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفر الأسدي بجميع كتبه ، قال: ومات أبو الحسين
ص: 160
محمّد بن جعفر ليلة الخميس لعشرٍ خلون من جمادى الأُولى سنة اثنتي عشرة
وثلاثمئة، وقال ابن نوح: حدّثنا الحسن بن داوود، قال: حدّثنا أحمد بن حمدان القزويني عنه بجميع كتبه(1) .
وقال الشيخ في الفهرست:
محمّد بن جعفر الأسدي ، يُكنّى أبا الحسين، له كتاب الردّ على أهل الاستطاعة ، أخبرنا به جماعة ، عن التلّعُكبري، عن الأسدي . وقد عدّه في محكي رجاله ممّن لم يروِ عنهم، وقال أيضا: كان أحد الأبواب .(2)
وعنونه العلاّمة في الخلاصة بمثل ما عنونه النجاشي ، إلاّ أنّ فيها كلمة «سكن» مكان «ساكن» . ثمّ قال في ترجمته بعين ما قال فيه النجاشي إلى آخر قوله . روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى، إلاّ أنّه فرّع على قوله : «وكان يقول بالجبر والتشبيه»، قوله :
«فأنا في حديثه من المتوقّفين»(3)، فيعلم من ذلك أنّ السبب في توقّفه في حديثه هو هذه العقيدة .
ونقل في التنقيح عن الشيخ أنّه قال فى كتاب الغيبة:
وكان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ، ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل ، منهم أبو الحسين بن محمّد بن جعفر الأسدي رحمه الله . أخبرنا أبو الحسين بن أبي جيد القمّي ، عن محمّد بن الحسن بن الوليد ، عن محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن صالح بن أبي صالح، قال: سألني بعض الناس في سنة تسعين ومئتين قبض شيءٌ فامتنعت من ذلك، وكتبت أستطلع الرأي ، فأتاني الجواب : بالري محمّد بن جعفر العربي فليدفع إليه ؛ فإنّه من ثقاتنا .(4) ونقل حكايات أُخر تدلّ على جلالة شأنه وعظم قدره ، من شاء فليراجع .(5)
ص: 161
هذا حال الرجل كما ترى أنّه ثقة صحيح الحديث، ولكنّ الذى يوجب التردّد في الحكم بذلك ابتداءً هو ما ذكره النجاشي في حقّه من أنّه يقول بالجبر والتشبيه ، ولهذا توقّف العلاّمة في حديثه، ولكن التأمّل القليل في حاله ترفع هذه الشبهة؛ لأنّ الجبر والتشبيه ليسا بظاهرهما مراداً حتماً ؛ لأنّ الاعتقاد بذلك يستلزم الخروج عن المذهب بل عن الدين ، لا عن العدالة والوثاقة .
فكيف يصرّح النجاشي الذي هو أضبط الجماعة بوثاقته مع أنّه جبري قائل بالتشبيه ؛ لأنّ القول بالجبر بمعنى مجبورية العباد في أفعالهم وأعمالهم، وأنّ كلّ ما يفعلونه هو فعل اللّه ومخلوقه - كما هو معتقد الأشاعرة - من أجلى المميّزات بين الشيعة وأهل السنّة ، وهو الذي يصرّ الأئمّة عليهم السلام على إبطاله بقولهم : لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ بين الأمرين . ويعبّرون عن معتقديه بمجوسي هذه الأُمّة ، وكذا الاعتقاد بأنّه شبيه بالمخلوقات ضلالة محضة ، وبُعد عن مذهب أهل الحقّ ، فاللازم على هذا تأويل كلامه بما لا ينافي توثيقه ، مضافا إلى أنّه لم يجيء في كلام غيره من العظام أنّه قائل بالجبر والتشبيه .
وكيف يشتبه هذا على الكليني الذي روى عنه كثيراً، بل يقال إنّه أُستاذه مع غاية رعايته ودقّته في ضبط الأحاديث، ولو علم منه ذلك لنبّه عليه حتماً ، مضافاً إلى أنّه أحد الأبواب الذي صرّح القائم عجّل اللّه تعالى فرجه بوثاقته ، كما رأيت في التوقيع الخاصّ، فإن تمّ سنده لا نحتاج إلى شيء بعده .
فالحقّ أنّه ثقة صحيح الحديث ، تُقبل روايته ، فلا وجه لتوقّف العلاّمة في حديثه أصلاً، اللّهمّ إلاّ أن يقال : لم يثبت عنده كون الرجل هو محمّد بن جعفر الأسدي، وهو غريب جدّاً ، كما قال في التنقيح على ما مرّ .(1)
ص: 162
قال في عين الغزال في ترجمة محمّد بن الحسن الصفّار:
هو أحد العدّة عن سهل بن زياد، كما نصّ عليه الكاظمي ، وقد صرّح الكليني رحمه الله بالوصف في بعض رواياته عنه تارةً بواسطة محمّد بن يحيى، وأُخرى بلا واسطة، ومنها يظهر ضعف ما احتمل بعض من أنّ محمّد بن الحسن الذي هو أحد العدّة هو محمّد بن الحسن الوليد - أو ابن الحسن البرناني - فما أدري ماله أعرضَ عمّا هو المشهور وتمسّك بقول المزدر! إنّ هذا إلاّ غرور!(1) .
قال النجاشي:
محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار ، مولى عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد اللّه بن السايب بن مالك بن عامر الأشعري، أبو جعفر الأعرج ، كان وجهاً في أصحابنا القمّيين، ثقة ، عظيم القدر، راجحاً، قليل السقط في الرواية، له كتب . ثمّ عدّ من كتبه خمسة وثلاثين منها .
ثمّ قال: أخبرنا بكتبه كلّها - ما خلا بصائر الدرجات - أبو الحسين علي بن أحمد بن محمّد بن طاهر الأشعري القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن أبيه ، عنه ، بجميع كتبه وببصائر الدرجات، توفّي محمّد بن الحسن الصفّار بقمّ سنة تسعين ومئتين رحمه الله (2).
قال في التنقيح:
قد عدّ الشيخ رحمه الله الرجل من أصحاب العسكري عليه السلام ، قائلاً : محمّد بن الحسن الصفّار إليه - يعني إلى العسكري عليه السلام - مسائل، يلقّب بمموله .(3)
وقال في الفهرست:
محمّد بن الحسن الصفّار ، قمّي، له كتب ، مثل كتب الحسين بن سعيد ، وزيادة كتاب بصائر الدرجات وغيره، وله مسائل كتب بها إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليهماالسلام،
ص: 163
أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ابن أبي جيد ، عن محمّد بن الحسن بن الوليد ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، إلاّ كتاب بصائر الدرجات، فإنّه لم يروه عنه محمّد بن الحسن بن الوليد، وأخبرنا الحسين بن عبيد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن أبيه، عنه(1) .
وعنونه في الخلاصة في القسم الأوّل ، وقال فيه بمثل ما قاله النجاشي(2). والحقّ أنّ ما عنونه الشيخ متّحد مع ما عنون النجاشي ؛ لأنّهما نسبا إليه كتاب بصائر الدرجات ورويا عنه جميع كتبه بواسطة أحمد بن محمّد بن يحيى ، فلا وجه لما توهّم ابن داوود من افتراق الرجلين، فاختلف كلامه في وصفهما ، فعنونه تارةً بمثل ما عنونه النجاشي ووثّقه، وتارةً بمثل ما عنونه الشيخ ولم يوثّقه . ثمّ إن كان المراد بمحمّد بن الحسن الذي وقع في العدّة هو محمّد بن الحسن الصفّار ، فحاله معلوم، وإن كان المراد به محمّد بن الحسن بن الوليد ، فهو أيضا من الكبار الأجلاّء. فلعلّه ستطلع على ما قاله الرجاليون فيه من التوثيق والتبجيل والتعظيم إن شاء اللّه .
وأمّا إن كان المراد به محمّد بن الحسن البرناني ، فحاله غير معلوم عندنا، وحيث إنّ بعض أفراد العدّة من الثقات ، فلا يهمّنا البحث والفحص في تشخيص الرجل، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الاسم وقع في غير العدّة أيضاً ، فمعرفته لازم نافع . فنقول : لعلّ اللّه يسّر لنا تحقيق شخصه وحاله فيما يأتي من الزمان.
قال في عين الغزال:
وهو أحد العدّة عن سهل ، ولم أرَ من تعرّض له من الأصحاب بمدحٍ ولا قدح(3) .
ص: 164
قلت: فحينئذٍ إن وقع الرجل في السند في غير العدّة يوجب انقطاعه ، إن لم تكن في طبقته ثقة روى من طريقه أيضاً، الاّ على رأي من يقول بوثاقة مشايخ الإجازة بدون التوثيق.
وأمّا المرويّ عنه لهذه العدّة، فهو سهل بن زياد الأَدَمي الرازي ، أبو سعيد
قال النجاشي:
سهل بن زياد ، أبو علي الأَدَمي الرازي ، كان ضعيفاً في الحديث ، غير معتمد فيه ، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب ، وأخرجه من قمّ إلى الري، وكان يسكنها ، وقد كاتب أبا محمّد العسكري عليه السلام على يد محمّد بن عبد الحميد العطّار للنصف من شهر ربيع الآخر سنة خمسة وخمسين ومئتين، ذكر ذلك أحمد بن علي بن نوح وأحمد بن الحسين رحمهماالله ، له كتاب التوحيد ، رواه أبو الحسن العبّاس بن أحمد بن الفضل بن محمّد الهاشمي الصالحي ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الأَدَمي ، وله كتاب النوادر، أخبرناه محمّد بن محمّد، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب ، قال: حدّثنا علي بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، ورواه عنه جماعة(1) .
وقال الشيخ رحمه الله في الفهرست:
سهل بن زياد الرازي أبو سعيد الأَدَمي، ضعيف ، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد ، عن محمّد بن الحسن ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عنه ، ورواه محمّد بن الحسن بن الوليد عن سعد، والحميري عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عنه(2) .
وقال في التنقيح:
عدّه الشيخ رحمه الله - يعني سهل - في رجاله تارةً من أصحاب الجواد عليه السلام ، قائلاً : سهل بن زياد الأَدَمي ، يُكنّى أبا سعيد ، من أهل الري، وأُخرى من أصحاب الهادي عليه السلام ،
ص: 165
قائلاً: سهل بن زياد الأَدَمي يُكنّى أبا سعيد ثقة رازي ، وثالثةً من أصحاب العسكري عليه السلام ، قائلاً: سهل بن زياد ، يُكنّى أبا سعيد الأَدَمي الرازي .(1)
ثمّ نقل عبارة الفهرست، وقال :
وعن موضع من الاستبصار، أنّ أبا سعيد الأَدَمي ضعيف جدّاً عند نقّاد الأخبار ، وقد استثناه أبو جعفر بن بابويه من كتاب نوادر الحكمة، وقال أيضاً: قال ابن الغضائري: سهل بن زياد أبو سعيد الأَدَمي ، كان ضعيفاً جدّا، فاسد الرواية والدين، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري أخرجه من قمّ وأظهر البراءة منه ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل ، وذكر فيه أيضا نقلاً عن الكشّي، ما سمع علي بن محمّد القتيبي فضل بن شاذان، من أنّه يقول : هو أحمق، يعني سهل بن زياد، ثمّ نقل رأي عمدة من الفقهاء والرجاليّين في حقّه، من أنّه ضعيف، ثمّ قال: بل هو المشهور بين الفقهاء وأصحاب الحديث وعلماء الرجال .
وقال بعضهم بوثاقته ؛ لقول الشيخ في الرجال أنّه ثقة، وأجابوا عن جميع ما يكون قدحاً فيه، أمّا طعن ابن الغضائري فلا يعبأ به ؛ لأنّه كان كثير الجرح . وأمّا تضعيف الشيخ في الفهرست فمنقوض بتوثيقه في رجاله المتأخّر عنه .
وأمّا تضعيف النجاشي فهو متوجّه إلى حديثه لا إلى نفسه، فلم يضعّف الرجل بل ضعّف حديثه .
وأمّا إخراج أحمد بن محمّد بن عيسى فهو أيضا غير قادح ؛ لأنّه كان يخرج بعض الرواة لأسباب واهية لا تضرّ بعد التهم .
وأمّا قول ابن شاذان فهو يدلّ على أنّه بليد ، لا أنّه مدخول في دينه وتقواه ، ولعلّ وجه رميه بالغلوّ كثرة نقله الأخبار الدالّة على خلاصة الغلاة(2) .
أقول : سلّمنا صحّة الأجوبة المذكورة ، ولكنّ النفس لا يطمئنّ بوثاقته بمجرّد تصريح الشيخ في موضعٍ من رجاله بأنّه ثقة مع تضعيفه سائر الرجاليين، بل المشهور
ص: 166
بينهم وبين الفقهاء ضعفه ، فلا يكون الركون عليه والحكم بصحّة حديثه بمجرّد ذلك ، فعلى هذا لا يحكم بصحّة الرواية عن العدّة الثالثة ؛ لجهالة المروي عنه بل ضعفه.
تمّ بعون اللّه الملك العلاّم ما أردنا إيراده في هذه الرسالة الموسومة بعدّات الكليني ، بعد بروز الموانع وظهور العوائق عن تتميمه ، ونأمل ونرجوا من اللّه العزيز المتعال أن يوفّقنا لإلحاق أحوال سائر مشايخه العظام، منه نستمدّ وعليه التكلان ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً من الآن إلى يوم الدين.
ص: 167
الحمد للّه الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه، فأظهر فرائضه وبيّن سنَنَه ، فسعد رجالٌ باتّباعها وشقي آخرون بجحودها وإضاعتها، محمّد المصطفى بشير رحمته ونذير نقمته، عليه صلواته وصلوات ملائكته وصلوات الخلق أجمعين ، وعلى آله الذين هم مصابيح الدجى وأعلام التّقى والعروة الوثقى، سيّما ابن عمّه ووارث علمه إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين.
أمّا بعد، فإنّي قد كنت أرجو منذ أتممت رسالة العدّة أن أنظر في أحوال مشايخ الكليني وأجمعها في أوراق على نسق العدّة ، ولكن الاشتغال بالتحصيل وبروز بعض الموانع حال بيني وبين مأمولي ، حتّى انتهت الأيّام إلى تعطيلات عرفة وعيد الأضحى فساعدنا المجال، فحصلت لي فرصة ما، فاغتنمتها وشرعت في ضبطها من الكتب المعتبرة وتحقيق ما قاله أصحاب الرجال في حقّهم، من الصحّة والسقم، تذكرة لنا عند الاحتياج على ترتيب حروف التهجّي لسهولة الرجوع ، واللّه الموفّق وعنده حسن المآب.
أبو علي الأشعري القمّي؛ تقدّمت ترجمته في العدّة من أنّه : ثقة ، جليل القدر ، فقيه في أصحابنا ، كثير الحديث .
قد ذكرنا في العدّة أنّه لم يتعرّض الرجاليّون لحاله ، وهو مجهول عندنا.
مولى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس السبيعي الهمداني، هكذا عنونه النجاشي ، فقال:
ص: 168
هذا رجل جليل في أصحاب الحديث، مشهور بالحفظ والحكايات ، تختلف عنه في الحفظ وعظمه، وكان كوفيّا زيديا جاروديا على ذلك حتّى مات، وذكره أصحابنا لاختلاطه بهم ومداخلته إيّاهم وعظم محلّه وثقته وأمانته . له كتب ، منها: 1 - كتاب التاريخ وذكر من روى الحديث، 2 - كتاب السنن، 3 - كتاب من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام ، 4 - كتاب من روى عن الحسن والحسين عليهماالسلام، 5 - كتاب من روى عن علي بن الحسين عليه السلام ، 6 - كتاب من روى عن أبي جعفر عليه السلام ، 7 - كتاب من روى عن زيد بن علي، 8 - كتاب الرجال وهو كتاب من روى عن جعفر بن محمّد عليه السلام ، 9 - كتاب الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، 10 - كتاب أخبار أبي حنيفة ومسنده، 11 - كتاب الولاية ومن روى غدير خم، 12 - كتاب فضل الكوفة، 13 - كتاب من روى عن علي عليه السلام قسيم النار، 14 - كتاب الطائر، مسند عبد اللّه بن بكر بن أعين حديث الراية، 15 - كتاب الشورى، ذكر النبي صلى الله عليه و آله والصخرة والراهب وطرق ذلك، 16 - كتاب الآداب ، وسمعت أصحابنا يصفون هذا الكتاب، 17 - كتاب طريق تفسير قوله تعالى : «إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»، طرق حديث النبي صلى الله عليه و آله وسلمأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، عن سعد بن أبي وقّاص، تسميته من شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام حروبه، 18 - كتاب الشيعة من أصحاب الحديث، 19 - كتاب صلح الحسن ومعاوية .
هذه الكتب التي ذكرها أصحابنا وغيرهم ممّن حدّثنا عنه، ورأيت له كتاب تفسير القرآن وهو كتاب حسن كبير ، وما رأيت أحداً ممّن حدّثنا عنه ذكره ، وقد لقيت جماعة ممّن لقيه وسمع منه وأجازه منهم من أصحابنا ومن العامّة ومن الزيدية، ومات العبّاس بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة .(1)
وعنونه الشيخ رحمه الله في محكي الفهرست بمثل ما عنونه النجاشي ، إلاّ أنّ فيه : «عبيد اللّه مصغّراً» مكان «عبد اللّه مكبّرا»، ولعلّه من أغلاط النسّاخ . وزاد بعد ذكر نسبه :
«المعروف بابن عقدة الحافظ» ، فقال :
ص: 169
أخبرنا بنسبه أحمد بن عبدون ، عن محمّد بن أحمد بن الجنيد . وأمره في الثقة والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر ، وكان زيدياً جارودياً وعلى ذلك مات .
وإنّما ذكرناه في جملة أصحابنا ؛ لكثرة روايته عنهم وخلطته بهم وتصنيفه لهم ، وله كتب كثيرة، ثمّ عدّها بمثل ما في النجاشي ، إلاّ أنّه زاد له كتاب من روى عن فاطمة عليهاالسلام من أولادها ، وكتاب يحيى بن حسين بن زيد وأخباره ، ولكنّه لم يذكر كتاب تفسير القرآن وكتاب صلح الحسن ومعاوية . ثمّ قال : أخبرنا بجميع رواياته وكتبه أبو الحسن أحمد بن محمّد بن موسى الأهوازي ، وكان معه خطّ أبي العبّاس - يعنى ابن عقدة - بإجازته وشرح رواياته وكتبه عن أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد، ومات أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد هذا بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة(1) .
وقال الخطيب في تاريخ بغداد:
أحمد بن محمّد بن سعيد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن زياد بن عبد اللّه بن عجلان ، أبو العبّاس الكوفي المعروف بابن عقدة. ثمّ ذكر قدومه بغداد أوّلاً وسماعه من المشايخ ، مثل محمّد بن عبد اللّه المناوي ، وقدومه ثانياً في آخر عمره وحديثه عن هؤلاء وعن غيرهم وذكر أسمائهم فيه . إلى أن قال : وكان حافظا عالماً مكثرا ، جمع التراجم والآداب والمشيخة ، وأكثر الرواية وانتشر حديثه، وروى عنه الحفّاظ والأكابر ، مثل أبي بكر الجعابي .
وذكر أسماء عدّة أُخر ، إلى أن قال بعد صفحة ونصف: أخبرني محمّد بن علي المقرئي، أخبرنا محمّد بن عبد اللّه أحمد النيسابوري ، قال: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما رأيت أحداً أحفظ لحديث الكوفيّين من أبي العبّاس بن عقدة، حدّثني محمّد بن علي الصوري بلفظه ، قال : سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ يقول: سمعت أبا الفضل الوزير يقول: سمعت علي بن عمر، وهو الدارقطني يقول: أجمع أهل الكوفة أنّه لم يُرَ من زمن عبد اللّه بن مسعود إلى زمن أبي العبّاس ابن عقدة أحفظ منه .
ص: 170
ثمّ أطال الكلام في قوّة حفظه للحديث ودقّته ، ونقل في ذلك حكايات ، وذكر ما جرى بينه وبين ابن صاعد ببغداد ، إلى أن قال : أخبرني محمّد بن علي المقرئي ، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه أبو عبد اللّه النيسابوري ، قال: قلت لأبي علي الحافظ: إنّ
بعض الناس يقولون في أبي العبّاس ، قال: في ماذا ؟ قلت: في تفرّده بهذه المقحمات عن هؤلاء المجهولين ، فقال: لا تشتغل بمثل هذا، أبو العبّاس إمام حافظ ، محلّه محلّ من يسأل عن التابعين وأتباعهم .(1)
ثمّ نقل عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل يقول:
منذ نشأ هذا الغلام أفسد حديث الكوفة، يعني أبا العبّاس بن عقدة، ثمّ قال: حدّثني محمّد بن علي الصوري قال: قال لي أبو الحسين زيد بن جعفر العلوي ، قال لنا أبو الحسن علي بن محمّد التمّار، قال لنا أبو العبّاس ابن سعيد: كان قد أتى كتاب فيه نحو خمسمئة حديث ، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي ، لا أعرف له طريقاً .
قال أبو الحسن: فلمّا كان يوم من الأيّام قال لبعض ورّاقيه: قمّ بنا إلى بجيلة موضع المغنّيات، فقلت: إيش نعمل؟ فقال: بلى تعال، فإنّها فائدة لك ، قال: فامتنعت عليه، فغلبني على المجيء . قال: فجئنا جميعاً إلى الموضع، فقال لي : سل عن قصيعة المخنّث، قال : فقلت: اللّه اللّه يا سيّدي أبا العبّاس ، ذا فضيحة لا تفضحنا! قال: فحملني الغيظ فدخلت ، فسألت عن قصيعة ، فخرج إليّ رجل في عنقه طبل مخضّبٌ بالحناء ، فجئت به إليه فقلت: هذا قصيعة، فقال: يا هذا ، امض فاطرح عليك والبس . وعاد فمضى ولبس قميصه وعاد ، فقال له : ما اسمك؟ فقال: قصيعة ، قال: دع هذا عنك ؛ هذا شيءٌ لقّبك به هؤلاء، ما اسمك على الحقيقة؟ قال: محمّد ، قال: صدقت، ابن من؟ قال: ابن علي، قال: صدقت، ابن من؟ قال: حمزة، قال: صدقت، ابن من؟ قال: لا أدري واللّه يا أُستاذي! قال: أنت محمّد بن علي بن حمزة بن فلان بن فلان بن حبيب بن أبي ثابت الأسدي . قال: فأخرج من كُمّه الجزء فدفعه إليه ، فقال له : امسك هذا، فأخذه ثمّ قال : ادفعه إليَّ، ثمّ قال لي: قمّ انصرف، ثمّ جعل أبو
العبّاس يقول، دفع إليَّ فلان بن فلان بن فلان بن حبيب بن أبي ثابت كتاب جدّه ،
ص: 171
فكان فيه كذا وكذا .
فقال الخطيب: قلت: وسمعت من يذكر أنّ الحفّاظ كانوا اذا أخذوا في المذاكرة شرطوا أن يعدلوا عن حديث أبي العبّاس بن عقدة لاتساعد ، وكونه ممّا لا ينضبط .
ثمّ ذكر ما يكون طعنا فيه ، إلى أن نقل عن أبي بكر بن أبي غالب أنّه يقول : ابن عقدة لا يتديّن بالحديث ؛ لأنّه كان يحمل شيوخاً بالكوفة على الكذب ، يسوّي لهم نسخة ويأمرهم أن يردّوها ، كيف يتديّن بالحديث ويعلم أنّ هذه النسخ هو دفعها إليهم ثمّ يرويها عنهم، وقد بيّنا ذلك منه غير شيخ بالكوفة .
ثمّ ذكر بطرق عديدة ما يدلّ على عدم مبالاته في جمع الحديث . ثمّ قال : حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن أحمد بن محمّد القصري ، قال: سمعت أبا الحسن محمّد بن أحمد بن سفيان الحافظ يقول: وُجّهَ إلى أبي العبّاس بن عقدة من خراسان بمال وأمر أن يعطيه إلى بعض الضعفاء ، وكان على باب جاره صخرة عظيمة، فقال لابنه: ارفع هذه الصخرة ، فلم يستطع رفعها ؛ لعظمها وثقلها ، فقال له: أراك ضعيفاً ، فخذ هذا المال وادفعه إليه ... وقال بعد ذلك : حدّثنا أبو طاهر حمزة بن محمّد بن طاهر الدقّاق ، قال: سُئل أبو الحسن الدارقطني - وأنا أسمع - عن أبي العبّاس بن عقدة ، فقال: رجل سوء ... ونقل عن أبي الحسن بن سفيان الحافظ أنّ وفاته سنة اثنين وثلاثين وثلاثمئة . وذكر أنّه ولد ليلة النصف من المحرّم سنة تسعة وأربعين ومئتين .(1)
وعنونه العلاّمة في القسم الثاني من الخلاصة بمثل ما عنونه النجاشي زائداً بعد الهمداني:
الكوفي المعروف بابن عقدة ، يُكنّى أبا العبّاس، جليل القدر، عظيم المنزلة ، وكان زيدياً جارودياً وعلى ذلك مات . ثمّ قال: قال الشيخ رحمه الله : سمعت جماعة يحكون عنه أنّه قال: أحفظُ مئة وعشرين ألف حديثاً بأسانيدها وأُذاكر ثلاثمئة ألف حديث(2) .
ص: 172
والظاهر من عدّه في القسم الثاني أنّه تارك لحديث أبي العبّاس ، أو متوقّف في قبوله لما قاله في أوّل الكتاب ، واعترض عليه صاحب التنقيح بأنّه لا معنى لعدّه في القسم الثاني بعد توثيقهم له ، ونقل اعتراض صاحب النقد عليه أيضا ، بأنّ الأولى توثيقه وعدّه في القسم الأوّل كما ذكر فيه من هو أدنى منه كثيراً، مثل محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ومحمّد بن عبد الرحمن السهمي وغيرهم، مع أنّ المدح الذي نقل في شأن هذين منقول عن ابن عقدة . ثمّ نقل عنه أنّه قال : وكذا فعل ابن داوود . انتهى المنقول من النقد .(1)
فوجّه اعتراضه عليه وزاد بأنّه قد عدّ في القسم الأوّل جماعة كان مذهبهم على خلاف الحقّ ، كالفطحية بمحض شهادة أصحابنا بأنّهم ثقات ، فعدّه له في القسم الأوّل كان أولى .
أقول : اعتراضهما غير وارد عليه ، نشأ من عدم التتبّع ، إذ لعلّه اطّلع على ما نقله الخطيب وغيره ممّا يدلّ على عدم مبالاته في حفظ الحديث وتدليسه في جعل الطريق وغيره ممّا يضرّ بعدالته ، فأوجب ذلك أن لا يعمل بتوثيق الشيخ والنجاشي له ، ويترك حديثه ؛ لكونه مجروحاً مطعوناً ، والجرح مقدّم على التعديل ، وإن كان المعدّل متعدّداً والجارح واحداً ، سيّما إذا كان سبب الجرح معلوماً.
قال الشهيد الثاني في الدراية:
ولو اجتمع في واحد جرح وتعديل ، فالجرح مقدّم على التعديل ، وإن تعدّد المعدّل وزاد على عدد الجارح على القول الأصحّ؛ لأنّ المعدّل مخبر عمّا ظهر عن حاله، والجارح يشتمل على زيادة الاطّلاع ؛ لأنّه يخبر عن باطن خفي على المعدّل ، فإنّه لا يعتبر فيه ملازمته في جميع الأحوال ، فلعلّه ارتكب الموجب للجرح في بعض الأحوال التي فارقه فيها، هذا إذا أمكن الجمع بين الجرح والتعديل ... إلخ .(2)
ص: 173
نَعَم ، لمّا كان المعدّل إمامي ثقة ، والجارح غير إمامي مجهول الحال (مجهول عندي) لا يمكن الحكم بفسقه وضعفه وتقديم قول الجارح ، ولكن يوجب ذلك سلب الاطمئنان عنه وعدم قبول روايته ، ولعلّ العلاّمة أيضاً من المتوقّفين في حديثه لذلك .
والحاصل ، إنّ الحقّ مع العلاّمة ابن داوود ، واعتراض هذين غير وارد ؛ إذ الأقوال فيه مختلفة لا يمكن الركون إلى أحد الطرفين لما ذكرنا، فالرجل مجهول الحال إن لم نقل بأنّه ضعيف ؛ لما يؤيّد قول الجارحين من أن الإكثار في الرواية يستلزم طبعاً عدم المراعاة والدقّة في ضبطها.
وأمّا اعتراض صاحب النقد على العلاّمة بأنّه نقل المدح في شأن الرجلين عن ابن عقدة ، ففيه : إنّه قدس سره صرّح بأنّه لا يريد بما رواه في مدحهما تعديلاً للرجلين، مع أنّه متضمّن للتوثيق بل جعله من المرجّحات ، وهذا دليل على عدم وثوقه به وأنّه لا يكون عنده من الثقات ، وإلاّ فلا معنى لعدم قبول ما نقله من التوثيق ، فتأمّل . وأمّا ما ذكره صاحب التنقيح بأنّه ذكر في القسم الأوّل من كان مذهبه على خلاف الحقّ بمجرّد توثيق الأصحاب، ففيه : إنّ التوثيق فيهم غير معارض بالجرح ، بخلاف ما نحن فيه، ولا إشكال في قبول رواية الغير الإمامي إذا كان موثّقاً؛ لأنّ الملاك في قبول الخبر هو الاطمئنان والوثوق بصدوره عن المعصوم ، سواء كان الحديث صحيحاً أو موثّقاً .
وهو ابن أخي أبي الحسن علي بن عاصم المحدّث ، يقال له : العاصمي .
هكذا عنونه النجاشي فقال:
كان ثقة في الحديث سالماً خيّرا، أصله كوفي وسكن بغداد، روى عن الشيوخ الكوفيّين، له كتب ، منها : كتاب النجوم وكتاب مواليد الأئمّة وأعمارهم ، أخبرنا أحمد بن علي بن نوح ، قال : حدّثنا الحسين بن علي سفيان عن العاصمي(1) .
ص: 174
وذكره الشيخ في محكي الفهرست هكذا، إلاّ أنّه أسقط ما بين محمّد وعاصم ، وقال :
ثقة في الحديث سالم الجنبة، أصله الكوفة سكن ببغداد، روى عن شيوخ الكوفيّين ، وله كتب ، منها: كتاب النجوم ، أخبرنا الشيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان وأحمد بن عبدون ، عن محمّد بن أحمد بن الجنيد أبي علي، قال : حدّثنا العاصمي(1).
وذكره العلاّمة في القسم الأوّل ، إلاّ أنّه أسقط اسم جدّه الأدنى أحمد، ووثّقه بمثل ما ذكره الشيخ إلى قوله : وله كتب ، إلاّ أنّه قال :
روى عن جميع شيوخ الكوفيّين، فهو بعدما سمعت من التوثيق في حقّه إمامي ثقة(2) .
أضف إلى ذلك ما في عين الغزال حيث قال :
قال العلاّمة المجلسي والمحقّق البحراني بعد ترجمته : إنّه أُستاذ الكليني .
وفي منتهى المقال :
إنّ العاصمي من الوكلاء الذين رأووا الصاحب ووقفوا على معجزته .
وقال في خاتمة رجال الكبير عند ذكر وكلائه :
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله : حدّثنا محمّد بن محمّد الخزاعي عن أبي علي الأسدي ، عن أبيه محمّد بن عبد اللّه الكوفي ، أنّه ذكر عدد من انتهى إليه ممّن وقف على معجزات صاحب الزمان (عج)، ورآه من الوكلاء ببغداد العمري وابنه وحاجز والبلالي والعطاء ، ومن الكوفة العاصمي(3) .
لم يذكره النجاشي ، ولكن عنونه العلاّمة في القسم الثاني من الخلاصة ، حيث قال:
أحمد بن مهران، روى عنه في كتاب الكافي، قال ابن الغضائري: إنّه ضعيف .(4)
ص: 175
ونقل في التنقيح مناقشة المحقّق الوحيد رحمه الله في التعليقة بأنّ الكليني رحمه الله ترحّم عليه في الكافي في باب مولد الكاظم عليه السلام ، وفي باب مولد الزهراء عليهاالسلام ، وفي باب نكت التنزيل في الولاية مكرّراً ، وغير ذلك من المواضع ، وهو يكثر من الرواية عنه، وهو عن عبد العظيم الحسني الجليل النبيل، وخالي رحمه الله وصفه بأُستاذ الكليني رحمه الله وضعّفه، وفي التضعيف ضعف ؛ لكونه من ابن الغضائري مع مصادمته لما ذكر ، فتأمّل . انتهى(1).
أقول: إكثار الرواية عنه والترحّم عليه من الكليني وكونه أُستاذه ، لا توجب التوثيق مع معارضته التضعيف المزبور ، وعدّه العلاّمة في قسم الضعفاء وتضعيف المجلسي ، والأصل أنّ الرجل لا يُركن إليه ، ولعلّ وجه التأمّل في كلام الوحيد ذلك.
قال في التنقيح:
قال الشيخ رحمه الله في محكي كتاب الغيبة: أخبرني جماعة عن جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري ، عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن إسحاق بن يعقوب ، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري - رضي اللّه عنه - ، أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الدار عليه السلام : أمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه تعالى وثبّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا، فاعلم إنّه ليس بين اللّه عزّ وجلّ وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح، وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه السلام . إلى أن كتب عليه السلام : وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب ، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النّجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا باب السؤال عمّا لا يعنيكم ، ولا تتكلّفوا علم ما قد كُفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج ؛
فإنّ ذاك فرجكم، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتّبع الهدى .
قال بعد ذلك : ويُستفاد من توقيعه عليه السلام هذا جلالة الرجل وعلوّ رتبته، وكونه هو
ص: 176
الراوي غير ضائر بعد تسالم المشايخ على نقله(1) .
أقول: لا يمكن إثبات الوثاقة بشهادة الإنسان لنفسه أو نقله ما يدلّ على ذلك ، ما لم يسبقها معاشرة كاشفة عن صلاحه أو شهادة عدل آخر مطّلع مع حاله أقلاًّ، إلاّ أن يحصل الاطمئنان من قوله ابتداءً ، وهو كما ترى ، فلا يجوز إثبات وثاقة الرجل بالتوقيع المزبور المروي من طريقه، ونقله المشايخ أعمّ من ذلك .
روى عنه الكليني في باب حدّ النباش من أبواب الحدود ، وهو غير مذكور في كتب الرجال أصلاً على ما في عين الغزال .
قال في عين الغزال : «روى عنه حديثاً في باب مولد الصاحب» ، ويظهر منه أنّ أباه من وكلائه عليه السلام ، وهما غير مذكورين في كتب الرجال.
لم يتعرّض علماء الرجال لحاله على ما قاله صاحب التنقيح في رجاله ، ولكن نقل الكليني رحمه الله في باب مولد الصاحب روحي وروح العالمين له الفداء عنه ما يدلّ على أنّه رأى القائم عجّل اللّه تعالى فرجه، وقوفه على معجزته ، حيث قال:
الحسن بن الفضل بن زيد اليماني، قال: كتب أبي بخطّه كتاباً فورد جوابه ، ثمّ كتبت بخطّي فورد جوابه ، ثمّ كتب بخطّه رجل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه ، فنظرنا فكانت العلّة أنّ الرجل تحوّل قرمطيّاً،(2) قال الحسن بن الفضل: فزرت العراق
ص: 177
ووردت طوس وعزمت أن لا أخرج إلاّ عن بيّنة من أمري ونجاح من حوائجي ، ولو احتجت أن أُقيم بها حتّى أتصدّق ، قال: وفي خلال ذلك يضيق صدري بالمقام وأخاف أن يفوتني الحجّ، قال: فجئت يوماً إلى محمّد بن أحمد أتقاضاه، فقال لي: صر إلى مسجد كذا وكذا ، وأنّه يلقاك رجلٌ. قال: فصرت إليه فدخل عليّ رجلٌ ، فلمّا نظر إليَّ ضحك وقال : لا تغتمّ ؛ فإنّك ستحجّ في هذه السنة وتنصرف إلى أهلك وولدك سالماً، قال: فاطمأننت وسكن قلبي وأقول: ذا مصداق ذلك والحمد للّه .
قال: ثمّ وردت العسكر فخرجت إليَّ صرّة فيها دنانير وثوب، فاغتممت وقلت في نفسي: جزائي عند القوم هذا ، واستعملت الجهل، فرددتها وكتبت رقعة ولم يشر الذي قبضها منّي عليَّ بشيء ولم يتكلّم فيها بحرف، ثمّ ندمت بعد ذلك ندامة شديدة وقلت في نفسي: كفرت بردّي على مولاي وكتبت رقعة أعتذر من فعلي وأبوء بالإثم وأستغفر من ذلك ، وأنفذتها وقمت أتمسّح، أي لا شيء معي، فأنا في ذلك أُفكّر في نفسي وأقول: إن ردّت عليَّ الدنانير لم أحلل صرارها ولم أُحدث فيها حتّى أحملها إلى أبي ؛ فإنّه أعلم منّي ليعمل فيها بما شاء . فخرج إليَّ الرسول الذي حمل إليَّ الصرّة ، فقال لي: أسأت إذ لم تعلم الرجل إنّا ربّما فعلنا ذلك بموالينا ، وربّما سألونا ذلك يتبرّكون به . وخرج إليَّ : أخطأت في ردّك برّنا فاستغفرت اللّه، فاللّه يغفر لك ، فأمّا إذا كانت عزيمتك وعقد نيّتك ألاّ تحدث فيها حدثاً ولا تنفقها في طريقك، فقد صرفناها عنك ، فأمّا الثوب فلابدّ منه لتحرم فيه .
قال: وكتبت في معنيين ، وأردت أن أكتب في الثالث وامتنعت منه ؛ مخافة أن يكره ذلك ، فورد جواب المعنيين والثالث الذي طويت مفسّرا والحمد للّه .
قال: وكنت وافقت جعفر بن إبراهيم النيسابوري بنيسابور على أن أركب معه وأُزامله ، فلمّا وافيت بغداد بدا لي فاستقلته ، وذهبت أطلب عديلاً، فلقيني ابن الوجناء بعد أن كنت صرت إليه أن يكتري لي، فوجدتة كارهاً، فقال لي : أنا في طلبك ، وقد قيل لي إنّه يصحبك ، فأحسن معاشرته واطلب له عديلاً واكتر له .(1)
ص: 178
أقول: هذه الحكاية تدلّ على جلالة قدره وخلوصه في التشيّع ، حتّى نال هذه المرتبة وصار مورداً لعناية الإمام عليه السلام ، ولكن لمّا كان الراوي شخصه ، فلا يمكن إثبات وثاقته بهذه الحكاية ، فيكون مجهول الحال.
قال في عين الغزال:
لم يذكره أصحاب الرجال في عداد مشايخه ، وروى عنه في بعض المواضع ، منها: في باب الإشارة والنصّ على الحسن بن علي ، وباب مولد أبي الحسن علي بن محمّد التقي ، وباب مولد الصاحب عليهم السلام .
قال الشيخ بسندٍ يأتي في عبد اللّه بن العبّاس العلوي، أنّه قال: دخلت على أبي محمّد عليه السلام بسرّ من رأى ، فهنّيته بسيّدنا صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه لمّا ولد(1).
قال في التنقيح:
روى عنه الكليني في مولد الحجّة عليه السلام ، وفي كتاب المعيشة وكتاب المكاسب بعنوان الحسين بن الحسن الهاشمي .
قال في عين الغزال:
روى عنه في باب مولد الصاحب عجّل اللّه فرجه ولم أرَ ذكراً منه في كتب الرجال»(2) .
عنونه النجاشي بهذا ، فقال:
ثقة ، له كتاب النوادر، أخبرناه محمّد بن محمّد ، عن أبي غالب الزراري ، عن محمّد بن يعقوب عنه .(3)
ص: 179
وقال العلاّمة في القسم الأوّل تحت الرقم 24:
الحسين الأشعري القمّي ، أبو عبد اللّه ، ثقة(1) .
وقال في التنقيح بعد ذكر كلام النجاشي والعلاّمة:
وعن المحققّ الداماد أنّه أحد أجلاّء مشايخ الكليني رحمه الله ، وقد أكثر الرواية عنه في الكافي ، وقد صرّح باسم جدّه عامر الأشعري في مواضع عديدة، ووثّقه المولى صالح المازندراني .(2)
وقال الشيخ البهائي في حواشي الحبل:
إنّ الحسين بن محمّد هو شيخ الكليني ، ثقة ، من أكابر القمّيين الأشعريين .
ووثّقه في الوجيزة ومشتركات الكاظمي وغيرهما أيضاً(3).
الثالث عشر: حميد(4) بن زياد بن حمّاد بن حمّاد بن زياد هَوَاز الدهقان أبو القاسم
عنونه النجاشي بهذا ، فقال:
كوفي ، سكن سوراء وانتقل إلى نينوى، قرية على العلقمي إلى جنب الحائر على صاحبه السلام، كان ثقة ، واقفاً ، وجهاً فيهم، سمع الكتب وصنّف كتاب الجامع في أنواع الشرائع - إلى أن قال - : ومات حميد سنة عشر وثلاثمئة(5) .
وعدّه الشيخ في محكي رجاله ممّن لم يروِ عنهم عليهم السلام قائلاً :
حميد بن زياد ، من أهل نينوى ؛ قرية بجنب الحائر على ساكنه السلام ، عالم جليل ، واسع العلم ، كثير التصانيف ، قد ذكرنا طرفاً من كتبه في الفهرست .(6)
ص: 180
وقال في محكي الفهرست بعد ذكر اسمه ومحلّه:
ثقة ، كثير التصانيف ، روى الأُصول أكثرها، له كتب كثيرة على عدد كتب الأُصول(1).
قال في التنقيح:
إنّ بين كلام الشيخ والنجاشي تنافياً ؛ لأنّ إطلاق الشيخ يدلّ على كونه إمامياً ، ولكن قال النجاشي : إنّه واقفي(2) .
وذكره العلاّمة في القسم الأوّل من رجاله ، فقال بعد نقل كلام الشيخ والنجاشي في ترجمته:
فالوجه عندي قبول روايته إذا خلت عن المعارض(3) .
أقول: حديثه ليس بصحيح وإن كان ثقة ؛ لأنّه ليس إمامياً ، فيلحق بالموثّق فيقبل قوله ما لم يعارضه قول إمامي ثقة، فالوجه ما ذكره العلاّمة ، وأمّا الذين رووا عنه ففي
محكي المشتركات :
ابن زياد الثقة ، الواقفي ، عنه أبو طالب الأنباري وأبوالمفضّل الشيباني وأحمد بن جعفر بن سفيان والكليني .
تقدّم ذكره في العدّة الأُولى، وأنّ الأقوى التوقّف في حديثه.
قال النجاشي بعد عنوانه بهذا زائدا :
القمّي ، أبو القاسم، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها، كان سمع من حديث العامّة شيئاً كثيراً ، وسافر في طلب الحديث ، لقي من وجوههم الحسن بن عرفة ، ومحمّد بن عبد الملك الدقيقي ، وأبا حاتم الرازي وعبّاس الترقفي(4) ، ولقي مولانا
ص: 181
أبا محمّد عليه السلام ، ورأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقاءه لأبي محمّد عليه السلام ، ويقولون هذه حكاية موضوعة عليه ، واللّه أعلم، وكان أبوه عبد اللّه بن أبي خلف قليل الحديث، روى عن الحكم بن مسكين ، وروى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى ، وصنّف سعد كتباً كثيرة، وقع إلينا منها كتاب الرحمة .
ثمّ سرد كتبه ممّا وصل إليه - إلى أن قال - : أخبرنا محمّد بن محمّد والحسين بن عبيد اللّه والحسين بن موسى ، قالوا: حدّثنا جعفر بن محمّد ، قال: حدّثنا أبي وأخي ، قالا: حدّثنا سعد بكتبه كلّها ، قال الحسين بن عبيد اللّه رحمه الله : جئت بالمنتخبات (من كتب سعد) إلى أبي القاسم بن قولويه رحمه الله أقرأها عليه ، فقلت: حدّثك سعد؟ فقال : لا، بل حدّثني أبي وأخي عنه ، وأنا لم أسمع من سعد إلاّ حديثين . توفّي سعد رحمه الله سنة إحدى وثلاثمئة وقيل : سنة تسع وتسعين ومئتين .(1)
وفي التنقيح: قال الشيخ في رجاله في أصحاب العسكري عليه السلام :
سعد بن عبد اللّه القمّي عاصره - يعني العسكري - ولم أعلم أنّه روى عنه .(2)
وقال في باب من لم يروِ عنهم عليهم السلام:
سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف القمّي ، جليل القدر ، صاحب تصانيف ، ذكرناها في الفهرست، روى عنه ابن الوليد وغيره ، روى ابن قولويه عن أبيه عنه .(3)
وقال في الفهرست:
سعد بن عبد اللّه القمّي ، يُكنّى أبا القاسم، جليل القدر ، واسع الأخبار ، كثير التصانيف ، ثقة. ثمّ عدّ بعض كتبه(4) .
وذكر فيه أيضاً توثيق جمله من الرجاليين إيّاه ، ثمّ قال:
بل ادّعى ابن طاووس فى الإقبال الاتّفاق عليه ، حيث قال: أخبرنا جماعة بإسنادهم إلى سعد بن عبد اللّه من كتاب فضل الدعاء، المتّفق على ثقته وفضله
ص: 182
وعدالته .(1)
وقال العلاّمة في القسم الأوّل :
سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمّي، يُكنّى أبا القاسم، جليل القدر ، واسع الأخبار ، كثير التصانيف ، ثقة، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، ولقي مولانا أبا محمّد العسكري عليه السلام . ثمّ نقل ما ذكره النجاشي من تضعيف بعض الأصحاب لقاءه لأبي محمّد عليه السلام ، ونقل عنه أيضا القولين في سنة وفاته . فقال : وقيل: مات رحمه الله يوم
الأربعاء لسبع وعشرين من شوّال سنة ثلاثمئة في ولاية رستم .(2)
ونقل في التنقيح :
إنّ ابن داوود ذكره في القسم الأوّل من كتابه ، ونقل خلاصة كلام النجاشي، ثمّ عدّه في القسم الثاني المعدّ للضعفاء الذين لا اعتماد عليهم ؛ لكونهم مجروحين أو مجهولين، ونسب إلى الكشّي كونه من أصحاب العسكري عليه السلام . ثمّ نقل عن النجاشي تضعيف بعض الأصحاب لقاءه أبا محمّد ، ويقول : هذه حكاية موضوعة ، فاستغرب عن كلام ابن داوود غاية الاستغراب مع كون الرجل ممّن لا خلاف ولا ريب بين أرباب الفنّ وثاقته وعدالته ، وهو كذلك .
ثمّ قال: إن كان سبب عدّ الرجل في الضعفاء تضعيف بعض الأصحاب لقاءه العسكري عليه السلام فأغرب، ضرورة عدم اللقاء ، مع أنّهما في بلدين متباعدين، لا يوجب قدحاً ، ثمّ استحسن ما علّقه الشهيد الثاني على كلام ابن داوود بما يقرب ممّا قاله(3) .
والحاصل ، إنّ الرجل موثّق بشهادة المعتمدين من أصحاب الفنّ ، فلا يُلتفت إلى خلافه ما لم يعضده دليل.
ينبغي أن نتكلّم في ترجمة الرجل في جهاتٍ ثلاثة :
ص: 183
الجهة الاُولى: إنّ أبا داوود الذي روى عنه الكليني بلا واسطة تارةً مثلما رواه في الفروع في باب الحبلى ترى الدم ، عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد وأبي داوود جميعاً ، عن الحسين بن سعيد . وفي باب النفساء أيضا : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد وأبي داوود ، عن الحسين بن سعيد ، وغير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبّع، هل هو سليمان بن سفيان المسترقّ المكنّى بأبي داوود الذي روى عنه في بعض الموارد بواسطة، وفي بعضٍ بواسطتين مصرّحاً بلقبه تارةً، وتاركاً أُخرى؟ مثلما رواه في باب طهور الماء ، الحديث الثالث (هذا الباب أوّل أبواب الطهارة): محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن أبي داوود المنشد ، عن جعفر بن محمّد ، عن يونس ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام . وما رواه في باب مقدار الماء الذي يجزي للوضوء وللغسل ، هكذا: عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد وأبي داوود ، جميعاً عن الحسين بن سعيد . وما رواه في الباب 139 كراهية الرهبانية وترك الباه من أبواب النكاح ، الحديث الرابع : الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن أبي داوود المسترقّ ، عن بعض رجاله ، فيه قولان :
الأوّل : ما نقله المامقاني في فصل الكُنى في آخر رجاله عن الميرزا رحمه الله ، حيث قال:
روى محمّد بن يعقوب ، عن أبي داوود ، عن الحسين بن سعيد ، وليس بالمسترقّ ،
وإلى الآن لم يتبيّن لي من هو ، فتدبّر .(1)
وفي هامش نسخة مصحّحة من المنهج زيادة قوله، إذ ليس بالمسترقّ قطعاً ؛ لأنّه لا يحتمله تاريخه ، ولم أجد من أصحابنا من يحتمله، نعم يحتمله أبو داوود، سليمان بن أشعث السِّجِستاني ، فإنّه ولد سنة اثنتين ومئتين وبقي إلى شوّال سنة خمس وسبعين ومئتين، وهو من أكابر أئمّة الحديث منهم . انتهى .
الثاني : القول بأنّهما واحد، وهو المنقول عن السيّد الداماد والعلاّمة المجلسي
ص: 184
على ما نقله صاحب التنقيح عن الوحيد ، حيث قال في ذلك الباب بعدما نقله عن الميرزا:
ولكنّ المولى الوحيد رحمه الله نقل عن السيّد الداماد القطع بكون أبي داوود في طريق الكليني هو المسترقّ، ونقل عن جدّه المجلسي استظهار ذلك ، وأنّه قال: كان له كتاب يروي الكليني عن كتابه ، ويروي عنه بواسطة الصفّار وغيره، ويروي أيضا بواسطتين عنه ، ولمّا كان الكتاب معلوماً عنده يقول: روى أبو داوود ، فالحديث ليس بمرسل . انتهى (يعنى كلام جدّه) .
وقال في موضعٍ آخر - يعني جدّه - :
اعلم إنّه كثيرا ما يروي الكليني رحمه الله عن أبي داوود المنشد أو المسترقّ ، ويظهر منه أنّه رآه، والظاهر أنّه لم يره ، وقال أيضا : واعلم إنّه كثيرا ما يروي الكليني عن أبي داوود ، عن الحسين بن سعيد، والمسموع من المشايخ أنّه المسترقّ .
ثمّ قال الوحيد رحمه الله :
ويؤيّد ما ذكرا رواية الكليني بواسطة العدّة عنه مع مشاركة أحمد بن محمّد في بعض المواضع، منها ما رواه في باب ما يستحبّ للنفساء هكذا: محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد وأبي داوود ، عن الحسين بن سعيد ؛ لأنّ طبقة أحمد طبقة المسترقّ ، وأحمد لقي الرضا عليه السلام والجواد عليه السلام والعسكري عليه السلام وابتداء إمامة العسكري عليه السلام بعد عشرين ومئتين ، والمسترقّ توفّي سنة إحدى وثلاثين ومئتين ، وعاش سبعين سنة، فتولّد سنة تسع وخمسين ومئة ، وهو زمان الكاظم عليه السلام . ورواية الكليني عنه في بعض المواضع بلا واسطة، الظاهر أنّها باب التعليق كما هو دَيْدَنُه إلى كثير من الروايات فتأمّل .(1)
انتهى كلام الوحيد رحمه الله وعليك بالتدبّر فيه . انتهى المنقول عن التنقيح .
أقول: إدراك الكليني زمان أبي داوود المسترقّ وسماعه منه الحديث ، في غاية البعد والغرابة ، إلاّ أن يقال إنّه عاش مئة وعشرين سنة، فيكون سنّه حين وفاة
ص: 185
المسترقّ اثنتان وعشرون ، وهذا أغرب منه ؛ لأنّه وإن لم ترَ من تعرّض لمدّة حياته ، بل اقتصروا على ذكر سنة وفاته ، ولكن إن عُمِّرَ رحمه الله هذا المقدار لصار ذائعا شائعاً وليس ممّا يخفى على أصحاب الرجال .
لابدّ من الالتزام بأحد هذين على سبيل منع الخلوّ، إمّا القول بأنّ أبا داوود الذي روى عنه بلا واسطة غير المسترقّ، أو أنّه هو المسترقّ ، ولكن روى عن كتابه لوثوقه بالكتاب، قد يقوى في النظر أنّه هو المسترقّ وأنّ الكليني نقل عن كتابه ؛ لما ذكر المجلسي والسيّد الداماد من أنّ طبقته لا يحتمله ، والمسموع من المشايخ اتّحادهما، ولكن التأمّل يؤتي خلافه ؛ لأنّ عدم اتّحاد الطبقة لا يقتضي أكثر من أنّ الذي روى عنه غيرُ المسترقّ ، ولكن اتّحادهما لا يثبت بذلك، وكذا صِرف السماع من المشايخ ما لم يذكر منهم دليل عليه ولم يوجب الاطمئنان والوثوق الشخصي لا يمكن الركون إليه، فلعلّ ما ذكره المشايخ مبنيّة على اجتهاداتهم ، وهي ليست حجّة لنا، مع أنّا لم نجد قرينة تدلّ على ذلك في كتاب الكافي .
إن قلت: إنّه قد صرّح في بعض المواضع بلقبه بقوله : «أبو داوود المسترقّ» ، كما مرّ فاكتفى بذلك عن ذكره في سائر الموارد ، فيكشف عنه أنّه هو .
قلت: إنّ الموارد التي ذكره ملقّبا يكون فيما نقل عنه بواسطتين على ما رأينا، فيكشف عنه أنّه إن وقع الرجل في إسناده وتقدّم عليه بطبقة أو طبقتين عليه، يحكم بأنّه هو المسترقّ، بخلاف ما إذا نقل عنه بلا واسطة فلا دليل عليه، فلا يحكم باتّحادهما . وأمّا ما يظهر ممّا ذكره المجلسي رحمه الله في قوله المتقدّم : «اعلم إنّه كثيرا ما يروي الكليني عن أبي داوود المنشد أو المسترقّ» من أنّ الكليني رحمه الله صرّح بلقب أبي داوود فيما روى عنه بلا واسطة أيضاً، فهو مبنيّ على استنباطه بأنّه هو المنشد ، وإلاّ إن صرّح رحمه الله بذلك كان قرينة قوية على أنّهما واحد وأنّه رحمه الله أخذ من كتابه لاختلاف الطبقة،
فحينئذٍ لا معنى للاختلاف بين الرجاليّين.
والحاصل : إنّ النفس كلّما تريد أن تذهب إلى القول بكونهما متّحدَيْن الدليل، فلم
ص: 186
أجزم بعد بذلك، فلا نحكم بصحّة الرواية ما لم يضمّ إليه ثقة في طبقته ؛ لجهالته.
الجهة الثانية : في ترجمته وأعلام أصحاب الرجال فيه . قال النجاشي رحمه الله :
سليمان بن سفيان أبو داوود المسترقّ المنشد ، مولى كندة، ثمّ بني عدي منهم، روى عن سفيان بن مصعب ، عن جعفر بن محمّد عليه السلام ، وعن الزبال(1)، وعمّر إلى سنة إحدى وثلاثين ومئتين .
قال أبو الفرج محمّد بن موسى بن علي القزويني رحمه الله : حدّثنا إسماعيل بن علي الدعبلي ، قال : حدّثنا أبي ، قال: رأيت أبا داوود المسترقّ - وإنّما سُمّي المسترقّ لأنّه كان يسترقّ الناس بشعر السيّد في سنة خمس وعشرين ومئتين - يحدّث عن سفيان بن مصعب ، عن جعفر بن محمّد عليه السلام ، ومات سليمان سنة إحدى وثلاثين ومئتين .(2)
وقال الشيخ في الفهرست في باب الكُنى:
أبو داوود المسترقّ ، له كتاب ، أخبرنا به أحمد بن عبدون ، عن ابن الزبير ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي داوود، وأخبرنا به ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن الصفّار ، عن محمّد بن الحسين ، عن أبي داوود، ورواه عبد الرحمن بن أبي نجران عنه(3) .
وقال الكشّي في رجاله - فيما روى في أبي داوود المسترقّ - :
قال محمّد بن مسعود: سألت علي بن الحسن بن علي بن فضّال ، عن أبي داوود المسترقّ ، قال : اسمه سليمان بن سفيان المسترقّ ، وهو المنشد ، وهو ثقة (وفي بعض النسخ : وكان ثقة على ما نقل)، قال حمدويه : وهو سليمان بن سفيان بن السمط المسترقّ، كوفي ، يروي عنه الفضل بن شاذان ، أبو داوود المسترقّ مشدّدة، مولى بني أعين من كندة ، وإنّما سُمّي المسترقّ ؛ لأنّه كان راوية لشعر السيّد ، وكان يستخفّه الناس لإنشاده، يسترقّ أي يرقّ على أفئدتهم ، وكان يُسمّى المنشد،
ص: 187
وعاش تسعين سنة ومات سنة ثلاثين ومئة (وفي بعض النسخ : تسعين مكان سبعين على المنقول) .(1)
وذكره العلاّمة في القسم الأوّل من الخلاصة بقوله:
سليمان بن سفيان المسترقّ ؛ أبو داوود ، وهو المنشد ، وكان ثقة .(2)
ثمّ نقل بعض كلام حمدويه .
وقد نقل في التنقيح عن التحرير الطاووسي أنّ صاحب المعالم رحمه الله علّق على :
قوله (كان ثقة) ما لفظه : قلت: قوله (كان ثقة) من جملة كلام علي بن فضّال ، وربّما أوهمت عبارة هذا الكتاب أنّه من كلام الكشّي ، وليس كذلك ، وقد وقع التوهّم منها بالفعل في الخلاصة ، فجزم بتوثيقه ، ولا مأخذ له بحسب الظاهر إلاّ هذا .
فقال : غرضه بذلك أنّ الحسن بن علي بن فضّال ليس ثقة ؛ لكونه فطحياً ، فأجابه بأُمور : الأوّل: إنّا قد حقّقنا في ترجمته كون الرجل ثقة عدلاً إماميّا ، وأنّه إنّما كان فطحياً في بدو أمره ، وقضى أغلب عمره بالقول بإمامة الرضا عليه السلام ، فتوثيقه حجّة، واعتماد العلاّمة عليه وبناء توثيقه على توثيقه وجيه، سيّما وقد عدّه رحمه الله الخلاصة في القسم الأوّل ووثّقه، فلا اعتراض عليه في بناء توثيقه على توثيقه . وثانياً ... إلخ.(3)
أقول: لا يخفى عليك ما وقع له من الاشتباه بين الأب - أعني حسن بن علي بن فضّال - وابنه وهو علي بن حسن بن علي بن فضّال ؛ لأنّك قد عرفت أنّ المذكور في رجال الكشّي، هو علي بن الحسن بن علي بن فضّال . وهكذا ما نقله من صاحب المعالم ، ومع ذلك زعم أنّ التوثيق كان من الحسن بن علي بن فضّال ، الذي كان فطحيّا ورجع حين الموت ، على ما نقله النجاشي .
والحاصل ، أنّ الّذي وقع منه التوثيق، هو علي بن الحسن ، وهو كان فطحياً في جميع عمره ، ولم ينقل أنّه رجع من مذهبه ، ولكن كان فقيه الشيعة ووجههم وثقتهم،
ص: 188
ولهذا لا يضرّ انحرافه في المذهب بتوثيقه ، فيطمئنّ الإنسان من هذه الصفات بصدقه .
قال النجاشي:
علي بن الحسن بن علي بن فضّال بن عمر بن أيمن، مولى عكرمة بن ربعي الفيّاض،
أبو الحسن، كان فقيه أصحابنا بالكوفة ، ووجههم وثقتهم ، وعارفهم بالحديث، والمسموع قوله فيه، سمع منه شيئاً كثيراً ، ولم يعثر له على زلّة فيه ولا يشينه ، وقلّما روى عن ضعيف ، وكان فطحياً ... إلخ .(1)
وأمّا الناقل لهذا التوثيق أعني محمّد بن مسعود ، فهو أيضا ثقة، قال النجاشي:
محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي، أبو النضر المعروف بالعيّاشي، ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة ، وكان يروي عن الضعفاء كثيراً ، وكان في أوّل أمره عامّي المذهب ، وسمع حديث العامّة فأكثر منه ، ثمّ تبصّر وعاد إلينا وكان حديث السنّ ... . إلى آخر ما ذكره فيه .(2)
والحاصل ، أنّ التوثيق المزبور معتمد عليه ، وبناء العلاّمة توثيقه على توثيق ابن فضّال في محلّه ، وما سمعت من النجاشي في حقّه من أنّه: «لم يعثر له على زلّة فيه ولا يشينه ، وقلّما روى عن ضعيف» ، يدلّ على عظم شأنه وعلوّ درجته، فمن كان هذا شأنه فكيف يتردّد الإنسان في توثيقه ولا يضرّ كونه غير إمامي؛ لأنّ التّوثيق ليس من باب الشهادة حتّى يشترط فيه الإيمان والعدالة . ويؤيّد وثاقة الرجل أنّ الكشّي وحمدويه لم يلحقا كلام ابن فضّال بغمزٍ أو ردّ، فهذا مشعر برضائهما بتوثيقه.
فتلخّص: إنّ الرجل ثقة عدل، بشهادة علي بن الحسن بن علي بن فضّال، فلا مجال للتأمّل في ذلك كما وقع لصاحب المعالم . وقد نقل في التنقيح توثيق المجلسي رحمه الله في الوجيزة والبحراني في البلغة أيضا(3).
ص: 189
الجهة الثالثة : في سنة وفاته، وقد اختُلف فيه ، فقال النجاشي: «إنّه مات سنة إحدى وثلاثين ومئتين» ، وصرّح بذلك في موضعين من كلامه .
ويؤيّد ذلك أيضا ما ذُكر من أنّ أبا داوود كان يسترقّ الناس سنة خمس وعشرين ومئتين، هذا وقد ذكر حمدويه فيما تقدّم من أنّ أبا داوود مات سنة ثلاثين ومئة، فالتفاوت بينهما إحدى ومئة سنة ، ولكنّ الحقّ ما ذكره أبو العبّاس رحمه الله ؛ لأنّه يلزم على قول حمدويه أن يكون الرجل زمان الإمام الصادق عليه السلام ؛ لأنّه استشهد سنة ثمان وأربعون ومئة ، مع أنّه لم يروِ عنه عليه السلام إلاّ بواسطة سفيان بن مصعب العبدي وغيره، وأيضاً يبعد ذلك أنّه لم يعدّه الشيخ ولا غيره من الرجاليّين من أصحاب الصادق عليه السلام ، ويؤيّد ما ذكره النجاشي أنّ الرواة عنه كالدعبلي والفضل بن شاذان وعلي بن مهزيار وغيرهم من أصحاب أبي جعفر الثاني عليه السلام ، وبعضهم من أصحاب الرضا عليه السلام ، كابن أبي نجران وغيره ، فكيف يكون وفاته سنة ثلاثين ومئة وقد استشهد الرضا عليه السلام سنة ثلاث ومئتين ؟(1)
ص: 190
1 . الفوائد الرجالية (فوائد الوحيد البهبهاني) ، الوحيد البهبهاني الحائري (ت 1205 ه ) .
2 . الهداية في الأُصول والفروع ، الشيخ الصدوق (ت 381 ه ) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام ، قمّ ، الطبعة الاُولى ، 1418 ه .
3 . الرواشح السماوية ، الميرداماد محمّد باقر الأسترآبادي (ت 1041 ه ) ، تحقيق : غلام حسين قيصريه ها ، قمّ : مؤسّسة دار الحديث ، الطبعة الاُولى ، 1422 ه .
4 . الرعاية في علم الدراية ، الشهيد الثاني (ت 965 ه ) ، تحقيق : عبد الحسين بقّال ، قمّ : مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، الطبعة الثانية ، 1408 ه .
5 . مجمع البحرين ، فخر الدين الطريحي (ت 1085 ه ) ، تحقيق : السيّد أحمد الحسيني ، قمّ : مكتبة الثقافة الإسلامية ، الطبعة الثانية ، 1408 ه .
6 . وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، الشيخ الحرّ العاملي (ت 1104 ه ) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قمّ ، الطبعة الثانية ، 1414 ه .
7 . الكليني والكافي ، عبد الرسول الغفّار (معاصر) ، طبع و نشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قمّ ، الطبعة الاُولى ، 1416 ه .
8 . تعليقة على منهج المقال ، الوحيد البهبهاني (ت 1205 ه ) .
9 . الغيبة ، الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) ، تحقيق : عباد اللّه الطهراني ، قمّ : مؤسّسة المعارف الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 1411 ه .
10 . أعيان الشيعة ، السيد محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه ) ، تحقيق : حسن الأمين ،
بيروت : دار التعارف للمطبوعات ، 1403 ه .
11 . اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي) ، الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) ، تحقيق : مهدي الرجائي ، قمّ : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث .
ص: 191
12 . خاتمة مستدرك الوسائل ، الميرزا حسين النوري الطبرسي (ت 1320 ه ) ، تحقيق و نشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلاملإحياء التراث ، قمّ ، الطبعة الاُولى ، 1415 ه .
13 . مستدركات علم رجال الحديث ، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت 1405 ه ) ، طهران : شفق ، الطبعة الاُولى ، 1412 ه .
14 . عين الغزال في فهرس أسماء الرجال (رجال الميرزا فضل اللّه) ، الميرزا فضل اللّه حكيم إلهي اللواساني الطهراني (ت 1353 ه ) ، الطبعة الحجريّة بضميمة كتاب فروع الكافي ، طهران ، 1315 ه .
15 . مشرق الشمسين ، البهائي العاملي (ت 1031 ه ) ، قمّ : منشورات مكتبة بصيرتي ، يحتوي
على عدّة كتب ، وهي طبعة حجرية .
16 . أعيان الشيعة ، محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه ) ، تحقيق : حسن الأمين ، بيروت :
دار التعارف للمطبوعات .
17 . كتاب من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق (ت 381 ه ) ، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفّاري ، قمّ : مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية .
18 . الكافي ، الشيخ الكليني (ت 329 ه ) ، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري ، طهران : دار الكتب الإسلامية ، الطبعة الخامسة ، 1363 ش .
19 . رجال النجاشي ، الشيخ النجاشي (ت 450 ه ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ،
قمّ ، الطبعة الخامسة ، 1416 ه .
20 . رجال الطوسي ، الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) ، تحقيق : جواد القيّومي ، قمّ : مؤسّسة النشر
الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 1415 ه .
21 . الفهرست للطوسي ، الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) ، تحقيق : جواد القيّومي ، قمّ : مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 1417 ه .
22 . سماء المقال في علم الرجال ، أبو الهدى الكلباسي (ت 1356 ه ) ، تحقيق : السيّد محمّد الحسيني القزويني ، قمّ : مؤسّسة ولي العصر للدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 1419 ه .
23 . لسان العرب ، ابن منظور (ت 711 ه ) ، قمّ : أدب الحوزة ، 1405 ه .
ص: 192
24 . رسائل في دراية الحديث ، أبو الفضل حافظيان (معاصر) ، نشر وطبع : مؤسّسة دار الحديث ، الطبعة الاُولى ، 1424 ه .
25 . خلاصة الأقوال في معرفة الرجال ، العلاّمة الحلّي (ت 726 ه ) ، تحقيق : جواد القيّومي ، قمّ : مؤسّسة النشر الإسلامي ومؤسّسة نشر الفقاهة ، الطبعة الاُولى ، 1417 ه .
26 . منتقى الجمان ، الشيخ حسن صاحب المعالم (ت 1011 ه ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ،
قمّ : مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1406 ه .
27 . تنقيح المقال في علم الرجال ، الشيخ عبد اللّه المامقاني (ت 1351 ه ) ، تحقيق : محيي الدين المامقاني ، قمّ : نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام ، الطبعة الاُولى ، 1424 ه . والطبعة الحجرية القديمة ، طهران : انتشارات جهان ، بوذر جمهري .
28 . توضيح المقال في علم الرجال ، الملاّ علي كني (ت 1306 ه ) ، تحقيق : محمّد حسين مولوي ، قمّ : نشر وطباعة دار الحديث ، الطبعة الاُولى ، 1421 ه .
29 . مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول عليهم السلام ، العلاّمة المجلسي (ت 1111 ه ) ، تحقيق :
رسولي المحلاّتي وآخرون ، طهران : دار الكتب الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 1370 ش .
30 . بصائر الدرجات ، محمّد بن الحسن الصفّار (ت 290 ه ) ، تحقيق : حسن كوچه باغي ، منشورات الأعلمي ، طهران ، الطبعة الاُولى ، 1404 ه .
31 . تاريخ بغداد (مدينة السلام) ، الخطيب البغدادي (ت 463 ه ) ، تحقيق : مصطفى عبد القادر
عطا ، بيروت : دار الكتب العلمية ، الطبعة الاُولى ، 1417 ه .
32 . طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال ، السيّد علي البروجردي (ت 1313 ه ) ، تحقيق : مهدي الرجائي ، قمّ : نشر مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي ، الطبعة الاُولى ، 1410 ه .
33 . هداية المحدّثين إلى طريق المحمّدين (مشتركات الكاظمي) ، محمّد أمين الكاظمي (القرن الحادي عشر الهجري) .
ص: 193
ص: 194
الراويات النساء من كتاب «الكافي» للكليني
سلمى حسين علوان الموسوي
صنّف الكليني رحمه الله كتاب الكافي في الأُصول والفقه ، فجمع فنون الأحاديث ، وأوعى ضروب الأخبار ، مرتّبا على أقسام المعرفة وأبواب التشريع وأنواع الأحكام ، نهض في تأليفه عشرين سنة في شأن تصنيف الكافي ، ولا يخفى أنّ تلك المدّة طويلة جدّا ، فلو كان الموضوع في التاريخ أو الآداب أو اللغة أو الأُصول ، لما احتاج إلى هذا الزمن المديد .
ولمّا كان تصنيفه في الحديث - وهذا يستوجب معرفة الراوي وكتبه وسيرته وتقلّب أحواله ومعرفة الرجال حال التحميل وحال الأداء ، إلى غير ذلك من الجرح والتعديل - فلا غرابة للشيخ أن يستهلك تلك المدّة لأجل تصنيف الكافي ، حيث كان يتحرّى الدقّة والضبط في الرجال والأسانيد والمتون والطرق ، وهذا بدوره يستلزم الإحاطة الكاملة بفنّ علم الرجال .
وشيخنا من خلال كتابه يكشف لنا مدى تضلّعه بهذا الوقف ، ودقّته في نقل الأسانيد والطرق المتعدّدة من غير خلط أو التباس ، بهذا أصبح المرجع الأوّل للطائفة . وحقّا أنّه لم يُصنّف مثله ، والذين جاؤوا بعده فهم عيال عليه .
ولأهمّية الكتاب حرص العلماء المعاصرون للمصنّف أن يقرؤونه عليه ، ويروونه عنه سماعا وإجازةً ، ومن لم يدركه أو لم يسعفه الحظّ أن يقرأه على الشيخ ، فقد قرأه
ص: 195
على تلميذه أبي الحسين أحمد الكوفي الكاتب الخاصّ له . وقد رواه جملة من أكابر علماء الشيعة عن شيوخ الطائفة وحملة فقه العترة الطاهرة ، كالنجاشي ، والصدوق ، وابن قولويه ، والسيّد المرتضى علم الهدى ، والشيخ المفيد ، وشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ، وهارون بن موسى التّلعُكبري ، وأبي غالب الزُّراري ، وغيرهم .
وهو - كما نعلم - حديثي كبير نفيس ، استقرأ السنن النبويّة والأحكام الشرعية والمأثور من علم أهل البيت عليهم السلام ، فأصاب الغرض وأتقن التأليف وأحاط بالأقطار الأثر ، ووفي تفاصيل الدين . ولمّا أكمل الكليني كتابه ، وأتمّ ردّ موادّه إلى فصولها ، بقيت زيادات كثيرة من خطب أهل البيت عليهم السلام ، ورسائل الأئمّة ، وآداب الصالحين ، وطرائف الحكم ، وأبواب العلم ممّا لا ينبغي تركه ، فألّف هذا المجموع الآنف وسمّاه «الروضة» ؛ لأنّ الروضة منبت أنواع الثمر ، ومعدن ألوان الزهر .
والروضة - على كلّ حال - مرجع قيّم ، وأصل شريف ، يعدّ من ذخائر الكتب ونفائس الأسفار ، وفيه من الرسائل والكتب والوصايا ونوادر العلم وجواهر المعارف ، ما يعاد على الدهور فيفضي إلى معادن السلامة ، ويبري العليل ويشفي الغليل ، وينوّر القلب ويهدي الصراط .
لقد أُحصيت الأحاديث للراويات النساء في كتاب الكافي (الأُصول والفروع والروضة) ، وكانت هي كما يلي :
الحديث الأوّل :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 133 ، رقم 3 :
محمّد بن يحيى ، عن الحسين بن رزق اللّه أبو عبد اللّه ، قال : حدّثني موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر ، قال : حدّثتني حكيمة ابنة محمّد بن
ص: 196
علي عليه السلام - وهي عمّة أبيه - أنّها رأته ليلة مولده وبعد ذلك .
الحديث الثاني :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 123 ، رقم 6 :
علي بن محمّد ، عن محمّد بن شاذان بن نعيم ، عن خادمٍ لإبراهيم بن عبدة
النيسابوري ، أنّها قالت : كنت واقفة مع إبراهيم على الصفا ، فجاء عليه السلام حتّى وقف على إبراهيم وقبض على كتاب مناسكه وحدّثه بأشياء .
الحديث الثالث :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 141 ، رقم 22 :
علي بن محمّد ، عن جعفر بن محمّد ، عن موسى بن جعفر البغدادي ، عن وهب بن شاذان ، عن الحسن بن أبي الربيع ، عن محمّد بن إسحاق ، عن أُمّ هاني ، قالت : سألتُ أبا جعفر محمّد بن علي عليه السلام عن قول اللّه تعالى : «فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ» ؟ قالت : فقال : إمام يخنس سنة ستّين ومئتين ، ثمّ يظهر كالشهاب يتوقّد في الليلة الظلماء ، فإن أدركتِ زمانه قرّت عينكِ .
الحديث الرابع :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 142 ، رقم 23 :
عدّة من أصحابنا ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن الحسن ، عن عمر بن يزيد ، عن الحسن بن الربيع الهمداني ، قال : حدّثنا محمّد بن إسحاق ، عن أسيد بن ثعلبة ، عن أُمّ هاني ، قالت : لقيت أبا جعفر محمّد بن علي عليه السلام ، فسألته عن هذه الآية : «فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ» ؟ قال : الخُنّس ، إمام يخنس في زمانه عند انقطاعٍ من علمه عند الناس سنة ستّين ومئتين ، ثمّ يبدو كالشهاب الواقد في ظلمة الليل ، فإن أدركتِ ذلك قرّت عينكِ .
الحديث الخامس :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 151 ، رقم 3 :
ص: 197
علي بن محمّد ، عن علي بن محمّد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر ، عن أحمد بن القاسم العجلي ، عن أحمد بن يحيى المعروف بكُردٍ ، عن عبد الكريم بن عمرو الخَثعَمي ، عن حَبابة الوالبيّة ، قالت : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام في شُرطة الخميس ومعه دِرّة لها سَبابتان ؛ يضرب بها بيّاعي الجرّي والمارماهي والزِّمّار ، ويقول لهم : يا بيّاعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان ! فقام إليه فرات بن أحنف فقال : يا أمير المؤمنين ، وما جند بني مروان ؟ قال : فقال له : أقوام حلقوا اللحي وفتلوا الشوارب فمُسخوا . فلم أر ناطقا أحسن منه .
ثمّ اتّبعته ، فلم أزل أقفوا أثره حتّى قعد في رحبة المسجد ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ، ما دلالة الإمامة يرحمك اللّه ؟ قالت : فقال : ائتيني بتلك الحصاة ، وأشار بيده إلى حصاة ، فأتيته بها ، فطبع لي فيها بخاتمه ، ثمّ قال لي : يا حبابة ، إذا ادّعى مُدّعٍ الإمامةَ فقدر أن يطبع كما رأيت ، فاعلمي إنّه إمام مفترض الطاعة ، والإمام لا يعزب عنه شيء يريده .
قالت : ثمّ انصرفتُ حتّى قُبض أمير المؤمنين عليه السلام ، فجئت إلى الحسن عليه السلام وهو في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام والناس يسألونه ، فقال : يا حبابة الوالبية! فقلت : نعم يا مولاي ، فقال : هاتي ما معك . قالت : فأعطيته ، فطبع فيه كما طبع أمير المؤمنين عليه السلام .
قالت : ثمّ أتيتُ الحسين عليه السلام وهو في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقرّب ورحّب ، ثمّ قال لي : إنّ في الدلالة دليلاً على ما تريدين ، أفتريدين دلالة الإمامة ؟ فقلت : نعم يا سيّدي ؛ فقال : هاتي ما معك . فناولته الحصاة ، فطبع لي فيها .
قالت : ثمّ أتيت عليّ بن الحسين عليه السلام وقد بلغ بي الكبر إلى أن أُرعشت وأنا أعدّ يومئذٍ مئة وثلاث عشرة سنة ، فرأيته راكعا وساجدا ومشغولاً بالعبادة ، فيئست من الدلالة ، فأومأ إليّ بالسبابة ، فعاد إليّ شبابي ، قالت : فقلت : يا سيّدي ، كم مضى من الدنيا وكم بقي ؟ فقال : أمّا ما مضى فنعم ، وأمّا ما بقي فلا . قالت : ثمّ قال لي : هاتي ما معكِ . فأعطيته الحصاة ، فطبع لي فيها .
ثمّ أتيت أبا جعفر عليه السلام ، فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت أبا عبد اللّه عليه السلام ، فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت
ص: 198
أبا الحسن موسى عليه السلام ، فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت الرضا عليه السلام فطبع لي فيها .
وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر على ما ذكره محمّد بن هشام .
الحديث السادس :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 168 ، رقم 15 :
علي بن محمّد ، عن بعض أصحابنا - ذكر اسمه - ، قال : حدّثنا محمّد بن إبراهيم ، قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل بن عبد اللّه بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب ، قال :
حدّثني جعفر بن زيد بن موسى ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام ، قالوا : جاءت أُمّ أسلم يوما إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وهو في منزل أُمّ سلمة ، فسألتها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقالت : خرج في بعض الحوائج الساعة يجيء . فانتظرته عند أُمّ سلمة حتّى جاء صلى الله عليه و آله ، فقالت أُمّ أسلم : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه ، أنّي قد قرأت الكتب وعلمت كلّ نبيّ ووصيّ ، فموسى كان له وصيّ في حياته ووصيّ بعد موته ، وكذلك عيسى ، فمن وصيّك يا رسول اللّه ؟ فقال لها : يا أُمّ أسلم ، وصيّي في حياتي وبعد مماتي واحد . ثمّ قال : يا أُمّ أسلم ، من فَعَل فعلي هذا فهو وصيّي . ثمّ ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بإصبعه فجعلها شبه الدقيق ، ثمّ طبعها بخاتمه ، ثمّ قال : من فَعَل فعلي هذا فهو وصيّي في حياتي وبعد مماتي .
فخرجتُ من عنده ، فأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : بأبي أنت وأُمّي ، أنت وصيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ قال : نعم يا أُمّ أسلم . ثمّ ضرب بيده إلى الحصاة ففركها فجعلها كهيئة الدقيق ، ثمّ عجنها وختمها بخاتمه ، ثمّ قال : يا أُمّ أسلم ، من فَعَل فعلي هذا فهو وصيّي .
فأتيت الحسن عليه السلام وهو غلام فقلت له : يا سيّدي ، أنت وصيّ أبيك ؟ فقال : نعم يا أُمّ أسلم . وضرب بيده وأخذ حصاة ففعل بها كفعليهما . فخرجت من عنده فأتيت الحسين عليه السلام - وأنّي لمستصغرة لسنّه - فقلت له : بأبي أنت وأُمّي ، أنت وصيّ أخيك ؟ فقال : نعم يا أُمّ أسلم ، ائتيني بحصاة . ثمّ فعل كفعلهم .
فعمّرت أُمّ أسلم حتّى لحقت بعليّ بن الحسين عليه السلام في منصرفة ، فسألته : أنت وصيّ أبيك ؟ فقال : نعم ، ثمّ فعل كفعلهم صلوات اللّه عليهم أجمعين .
ص: 199
الحديث السابع :
ورد في الجزء الثاني ، الصفحة 244 ، رقم 5 :
علي بن محمّد ومحمّد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عمّن ذكره ، عن محمّد بن حجرش ، قال : حدّثتني حكيمة بنت موسى عليه السلام ، قالت : رأيت الرضا عليه السلام واقفا على باب بيت الحطب وهو يناجي ولستُ أرى أحدا ، فقال : هذا عامر الزَّهرائي أتاني يسألني ويشكو إليّ . فقلت : يا سيّدي ، أحبّ أن أسمع كلامه ، فقال لي : إنّك إن سمعتِ به حُممت سنة ، فقلت : يا سيّدي ، أحبّ أن أسمعه ، فقال لي : اسمعي . فاستمعت شبه الصفير ، وركبتني الحُمّى فحُممت سنة .
الحديث الثامن :
ورد في الجزء الرابع ، الصفحة 338 ، رقم 2 :
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن ثابت ، عن أسماء ، قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من أصابه همّ أو غمّ أوكرب أو بلاء أو لأواء ، فليقل : اللّه ربّي ولا أشرك به شيئا ، توكّلت على الحيّ الذي لا يموت .
الحديث التاسع :
ورد في الجزء الأوّل ، الصفحة 452 :
الحسين بن محمّد ، عن محمّد بن يحيى الفارسي ، عن أبي حنيفة محمّد بن يحيى ، عن الوليد بن أبان ، عن محمّد بن عبد اللّه بن مُسكان ، عن أبيه ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّ فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ صلى الله عليه و آله ، فقال أبو طالب : اصبري سَبتا ، أُبشّرك بمثله إلاّ النبوّة . وقال : السبت ثلاثون سنة ، وكان بين
رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام ثلاثون سنة .
وقد ورد ذكرها في حديث آخر هو :
علي بن محمّد بن عبد اللّه ، عن السابري ، عن محمّد بن جمهور ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إنّ فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين كانت أوّل
ص: 200
امرأة هاجرت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله من مكّة إلى المدينة على قدميها ، وكانت من أبرّ الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فسمعت رسول اللّه وهو يقول : إنّ الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت : واسوأتاه ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : فإنّي أسأل اللّه أن يبعثك كاسية .
الحديث العاشر :
ورد في الجزء الأوّل ، الصفحة 341 ، رقم 6 :
محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين وأحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : إنّ الحسين بن علي عليه السلام لمّا حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليه السلام ، فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين عليه السلام مبطونا معهم لا يرون إلاّ أنّه لِما به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين عليه السلام ، ثمّ صار واللّه ذلك الكتاب إلينا يا زياد . قال : قلت : ما في ذلك الكتاب جعلني اللّه فداك ؟ قال : فيه ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق اللّه آدم إلى أن تفنى الدنيا ، واللّه أنّ فيه الحدود ، حتّى أنّ فيه إرش الخدش .
الحديث الحادي عشر :
ورد في الجزء الأوّل ، الصفحة 358 ، رقم 17 :
بعض أصحابنا ، عن محمّد بن حسّان ، عن محمّد بن رنجويه ، عن عبد اللّه بن الحكم الأرمني ، عن عبد اللّه بن إبراهيم بن محمّد الجعفري ، قال : أتينا خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام نعزّيها بابن بنتها ، فوجدنا عندها موسى بن عبد اللّه بن الحسن ، فإذا هي في ناحية قريبا من النساء ، فعزّيناهم ، ثمّ أقبلنا عليه ، فإذا هو يقول لابنة أبي يشكر الراثية : قولي (أي انشدي مرثية) ، فقالت :
اعدُد على رسول اللّه *** أسد الإله وثالثاً عبّاسا
واعدُد عليَّ الخير واعدُد جعفرا *** واعدُد عقيلاً بعده الرُّوَّاسا
ص: 201
فقال : أحسنتِ وأطربتني ، زيديني . فاندفعت تقول : ... إلخ .
الحديث الأوّل :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 198 ، رقم 4 :
أبو علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان بن يحيى ، عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قالت عائشة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ أهل بريرة
اشترطوا ولاءها ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الولاء لمن أَعتَقَ .
الحديث الثاني :
ورد في الجزء الثالث ، الصفحة 42 ، رقم 6 :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن موسى ، عن أُمّه وأُمّ أحمد بنت موسى ، قالتا : كنّا مع أبي الحسين عليه السلام بالبادية ونحن نريد بغداد ، فقال لنا يوم الخميس : اغتسلا اليوم لغدٍ الجمعة ؛ فإنّ الماء غدا قليل . فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة .
الحديث الثالث :
ورد في الجزء الثالث ، الصفحة 181 ، رقم 3 :
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمّد بن مهاجر ، عن أُمّه أُمّ سلمة ، قالت : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا صلّى على ميّت كبّر وتشهّد ، ثمّ كبّر ثمّ صلّى على الأنبياء ودعا ، ثمّ كبّر ودعا للمؤمنين ، ثمّ كبّر الرابعة
ودعا للميّت ، ثمّ كبّر وانصرف ، فلمّا نهاه اللّه عزّوجلّ عن الصلاة على المنافقين ، كبّر وتشهّد ثمّ كبّر وصلّى على النبيّين صلّى اللّه عليهم ، ثمّ كبّر ودعا للمؤمنين ، ثمّ كبّر الرابعة وانصرف ، ولم يدعُ للميّت .
ص: 202
الحديث الرابع :
ورد في الجزء الثالث ، الصفحة 179 ، رقم 1 :
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن علي بن فضّال ، عن علي بن عقبة ، عن امرأة الحسن الصيقل ، عن الحسن الصيقل ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سُئل : كيف تصلّي النساء على الجنازة إذا لم يكن معهنّ رجل ؟ قال : يَصفُفن جميعا ولا تتقدمهنّ امرأةٌ .
وورد اسمها في رواية أُخرى من الجزء الثالث ، الصفحة 225 ، رقم 8 :
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن علي ، عن عليّ بن عقبة، عن امرأة الحسن الصيقل ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : لا ينبغي الصياح على الميّت ولا شقّ الثياب .
الحديث الخامس :
ورد في الجزء الخامس ، الصفحة 311 ، رقم 32 :
أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي زهرة ، عن أُمّ الحسن ، قالت : مرّ بي أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أيّ شيء تصنعين يا أُمّ الحسن ؟ قلت : أغزل ، فقال : أما أنّه أحلّ الكسب - أو من أحلّ الكسب .
الحديث السادس :
ورد في الجزء الخامس ، الصفحة 381 ، رقم 9 :
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد اللّه الكاهلي ، قال : حدّثتني حَمّادة بنت أُخت أبي عُبيدة الحذّاء ، قالت : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ تزوّج امرأةً وشرط لها أن لا يتزوّج عليها ورضيت ، إنّ ذلك مهرها ؟ قالت : فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : هذا شرط فاسد ، لا يكون النكاح إلاّ على درهمٍ أو درهمين .
الحديث السابع :
ورد في الجزء الخامس ، الصفحة 526 ، رقم 3 :
علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن سالم ، عن بعض أصحابه ، عن الحكم بن مِسكين ، قال : حدّثتني سعيدة ومِنّة أُختا محمّد بن أبي عمير بيّاع السابري ، قالتا : دخلنا
ص: 203
على أبي عبد اللّه عليه السلام فقلنا : تعود المرأة أخاها ؟ قال : نعم ، قلنا : تصافحه ؟ قال : من وراء الثوب . قالت إحداهما : إنّ أُختي هذه تعود إخوتها ، قال : إذا عدت إخوتك فلا تلبسي المُصَبّغة .
وورد رواية أُخرى في الجزء الخامس ، الصفحة 555 ، رقم 4 :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن يونس بن يعقوب ، عن سعيدة ، قالت : بعثني أبو الحسن عليه السلام إلى امرأة من آل زبير ؛ لأنظر إليها أراد أن يتزوّجها ، فلمّا دخلت عليها حدّثتني هُنيئةً ثمّ قالت : أَدني المِصباح ، فأدنيته لها ، قالت سعيدة : فنظرت إليها وكان مع سعيدة غيرها ، فقالت : أرضيتنّ ؟ قال : فتزوّجها أبوالحسن عليه السلام ، فكانت عنده حتّى مات عنها ، فلمّا بلغ ذلك جواريه جعلن يأخذن بأردانه وثيابه ، وهو ساكت يضحك ولا يقول لهنّ شيئا ، فذُكِرَ أنّه قال : ما شيءٌ مثلَ الحرائر .
الحديث الثامن :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 40 ، رقم 2 :
محمّد بن يحيى ، عن سلمة بن الخطّاب ، عن محمّد بن موسى ، عن محمّد بن
العبّاس بن الوليد ، عن أبيه ، عن أُمّه أُمّ إسحاق بنت سليمان ، قالت : نظر إليّ أبو عبد اللّه عليه السلام وأنا أُرضع أحد بني محمّد أو إسحاق ، فقال : يا أُمّ إسحاق ، لا ترضعيه من ثديٍ واحد ، وارضعيه من كليهما ، يكون أحدهما طعاما والآخر شرابا .
الحديث التاسع :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 369 - 370 ، رقم 1 :
محمّد بن يحيى ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن فاطمة بنت علي ، عن أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأُمّها زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قالت : أتاني أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في شهر رمضان ، فأُتِي بعشاءٍ وتمرٍ وكَمأةٍ ، فأكل عليه السلام وكان يحبّ الكمأة .
ص: 204
الحديث العاشر :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 384 ، رقم 3 :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن عمٍّ لعمر بن يزيد ، عن بنت عمر بن يزيد ، عن أبيها ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إذا شرب أحدكم الماء فقال : بسم اللّه ثمّ شرب ، ثمّ قطعه فقال : الحمد للّه ، ثمّ شرب فقال :
بسم اللّه ، ثمّ قطعه فقال : الحمد للّه ، ثمّ شرب فقال : بسم اللّه ، ثمّ قطعه فقال : الحمد للّه ، سبّح ذلك الماء له مادام في بطنه إلى أن يخرج .
الحديث الحادي عشر :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 199 ، رقم 4 :
بكر بن محمّد ، عن جويرة ، قالت : مرّ بي أبو عبد اللّه عليه السلام وأنا في المسجد الحرام أنتظر مولىً لنا ، فقال : يا أُمّ عثمان ، ما يقيمك هاهنا ؟ فقلت : أنتظر مولىً لنا ، فقال :
أعتقتموه ؟ فقلت : لا ، فقال : أعتقتم أباه ؟ قلت : لا ، أعتقنا جدّه ، فقال : ليس هذا
مولاكم ، بل هذا أخوكم .
الحديث الثاني عشر :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 198 ، رقم 1 ، حديث آخر عنها ، هو :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن سليم الفرّاء ، عن الحسن بن مسلم ، قال : حدّثتني عمّتي ، قالت : إنّي جالسة بفناء الكعبة إذ أقبل أبو عبد اللّه عليه السلام ، فلمّا رآني مال إليّ فسلّم عليَّ فقال : ما يجلسك هاهنا ؟ فقلت : أنتظر مولىً لنا . قالت : فقال لي : أعتقتموه ؟ قالت : لا ولكن أعتقنا أباه ، فقال : ليس ذلك
مولاكم ، هذا أخوكم وابن عمّكم ، إنّما المولى الذي جرت عليه النعمة ، فإذا جرت على أبيه وجدّه فهو ابن عمّك وأخوك .
الحديث الثالث عشر :
ورد في الجزء السادس ، الصفحة 413 ، رقم 1 :
ص: 205
محمّد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن إبراهيم بن خالد ، عن عبد اللّه بن وضّاح ، عن أبي بصير ، قال : دخلت أُمّ خالد العبدية على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده ، فقالت : جُعلت فداك ، إنّه يعتريني قَراقر في بطني ، وقد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسَّويق ، وقد وقفت وعرفت كراهتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك . فقال لها : وما يمنعك عن شربه ؟ قالت : قد قلّدتك ديني ، فألقى اللّه عزّوجلّ حين ألقاه فأخبره أنّ جعفر بن محمّد عليه السلام أمرني ونهاني . فقال : يا أبا محمّد ، ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل ؟ لا واللّه لا آذن لكِ في قطرةٍ منه ، ولا تذوقي منه قطرة ، فإنّما تندمين
إذا بلغت نفسك هاهنا - وأومأ بيده إلى حنجرته يقولها ثلاثا - أفهمت ؟ قالت : نعم . ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : ما يَبُلّ الميلَ يُنَجِّسُ حُبّا من ماءٍ - يقولها ثلاثا - .
الحديث الرابع عشر :
ورد في الجزء السابع ، الصفحة 55 ، رقم 10 :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن
صالح ، عن هشام بن أحمر وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد جميعا ، عن سالمة مولاة أبي عبد اللّه عليه السلام ، قالت : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام حين حضرته الوفاة ، فأُغمي عليه ، فلمّا أفاق قال : أُعطوا الحسن بن علي بن الحسين - وهو الأفطس - سبعين دينارا ، وأُعطوا فلانا كذا وكذا ، وفلانا كذا وكذا . فقلت : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ؟ فقال : ويحكِ! أما تقرئين القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : أما سمعتِ قول اللّه عزّوجلّ : «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِى أَن يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» ؟
قال ابن محبوب في حديثه : "حمل عليك بالشفرة" ، يريد أن يقتلك . فقال : أتريدين على أن لا أكون من الذين قال اللّه تبارك وتعالى : «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِى أَن يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» ، نعم يا سالمة ، أنّ اللّه
خلق الجنّة وطيّبها ، وطيّب ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام ، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحم .
ص: 206
وللكليني في منهجه بسند الحديث ومتنه أُمور ، منها :
إنّه روى عن النساء كما ذكرنا سابقا . ومن منهجه أنّه يجتزئ الحديث ويذكر ما اجتزأ منه في بابٍ آخر ؛ لتوفّر المناسبة بين البابين ، كالحديث في كتاب الحجّة في باب الغيبة :
عن الحسن بن أبي الربيع ، عن محمّد بن إسحاق ، عن أُمّ هاني(1) .(2)
ومن منهجه تعدّد رواة الطبقة الواحدة ، أي يروي عن أكثر من راوٍ واحد في أيّ طبقة من طبقات السند التي يؤدّي إليها علمه ، وأكثر ما يكون هذا التعدّد في طبقة شيوخه أو الطبقة التي تروي عن الإمام من أهل البيت ، وفي هذا دليل على كثرة سماعه من الشيخ ومصاحبته لهم ، كروايته :
عن محمّد بن الحسن ، قال : دخلت أُمّ خالد العبدية على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده ... إلخ .(3)
ومن فوائد هذا المنهج في السند هو تلافي ضعف الرواية الناشئ من السند لأسبابٍ مختلفة ، كضعف أحد رواتها ، أو وجود عبارات مجهولة في السند ، مثل «عمّن حدّثه» أو «عمّن رواه» ، أو وجود مجهول لم تذكره كتب الرجال ، وغير ذلك من أسباب التضعيف الناشئ من السند . وعليه ، فإنّ الإكثار من طرق الرواية يجبر مثل هذا الضعف في أحاديث الفروع .
وللكليني معرفة واسعة بأسماء الرجال وبلدانهم وألقابهم وكُناهم ، ولا غرابة في ذلك إذا كان من بين مؤلّفاته كتاب سمّاه «الرجال» ، وتظهر هذه المعرفة جلية واضحة فيما ذكره عن رجال سنده في أحاديث الفروع من الكافي ، حيث لم يقتصر فيها على
ص: 207
أسمائهم ، بل يضيف لهذه الأسماء ما يُعرف بها من كُنية أو نسب أو لقب ، نسبة إلى مدينة أو قبيلة أو صنعة أو حرفة . ومن أمثلة ما ذكره من الاسم والكُنية قوله :
حدّثتني حمادة بنت الحسن أُخت أبي عُبيدة الحذّاء .(1)
وقد يتوسّع في ذكر نسب الراوية ، وقد يحذف الاسم مكتفيا بما يدلّ عليه من كُنية أو لقب وغير ذلك ، كقوله في حديث «زينب العطّارة الحولاء» .(2)
وكثير ما يذكر حرفة الراوية وصنعتها التي اشتهرت بها ، كقوله «العطّارة» .(3)
أو ما يبيعه الراوي ، فقد حفي باهتمام الكليني ، فيذكره مع الاسم ، كقوله : «بيّاع السابري» ، ويذكر العاهة أيضا «الحولاء» ، وأحيانا يذكر اسم الراوية مضيفا له أحد رسمه ، كأن يكون أخاه ، كقوله : «عن إسماعيل الأرقط وأُمّه أُمّ سلمة أُخت أبي عبد اللّه» .
وقد يذكر الكليني الراوية مع شيء عن أحوالها ، كقوله : «خادم لإبراهيم بن عبدة النيسابوري» .(4) وربّما يكتفي بتعيين بلد الرواة بدلاً عن أسمائهم ، كقوله في مولد أمير المؤمنين عليه السلام : «عن الحسين بن محمّد ، عن محمّد بن عجب الفارسي» .(5)
ويبدو من خلال تسمية رجال السند أنّ الحركة الفكرية لذلك العصر لم تكن حكرا على طبقة معيّنة من الناس ، بل اشتركت عدّة فئات من المجتمع في تطويرها ، وليس أدلّ عليه من أصحاب الحرف والصناعات والتجّار في تعاطي الحديث وروايته .(6)
ص: 208
ومن تتبّع أسانيد الفروع تظهر أمانة الكليني في نقل الحديث وروايته ، وذلك بالتزامه بألفاظ مشايخ السند واحدا عن آخر ونقلها كما هي ، كروايته عن «حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام »(1) .
ويبدو أنّ الكليني لم يغفل مثل هذا الإسناد الضعيف للرواية ، فحاول تقوية الروايات التي وقع في طريقها مثل هذا التردّد أو الظنّ ، وذلك بروايته بطرق أُخرى موصولة إلى إمامٍ ، يظهر ذلك من متابعة مواقع الروايات المذكورة وما رواه قبلها أو بعدها من الباب نفسه بأدنى تأمّل . ومن أمثلته ما قوّى به روايته مثلاً .
ومن منهجه في السند هو اختصاره خشية الإطالة ، لاسيّما عند تكرار نفس الموادّ في أحاديث الباب الواحد ، وكثيرا ما يعبّر عن بعض الرواة بلفظ «العدّة» ، أو «الجماعة» ، قائلاً : «عدّة من أصحابنا» ، وهو يريد بهذا التعبير مجموعة من الرواة بأعيانهم أُطلق عليهم هذا اللفظ بدلاً من التنصيص على اسم كلّ واحدٍ منهم ، غايته بذلك الاختصار .
ومنهجه في اختصار السند لم يجرِ بصورة منتظمة بجميع أجزاء الفروع ، ونراه في حديث بنت عمر بن يزيد ،(2) وذكر المفيد أنّها(3) مجهولة . وتعقيبا نقول ، إنّ المصادر المجهولة التي وقع في إسنادها اسم «عدّة من أصحابنا» وهو ما يسمّى في الحديث «الحديث المبهم» ، وأنّ الكليني روى عن «بنت عمر بن يزيد» وهي مجهولة ، ولكنّ الكليني رواها بطريق موصول عن أبيها ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام .
فنجده تارةً يختصر السند المكرّر برجاله في السند اللاّحق ، وأُخرى يذكره بتمامه ، وهو نوع من تكرار الأسانيد ، كما لم يرتّب الأسانيد المتماثلة ترتيبا متسلسلاً
ص: 209
حتّى يمكن اختصارها بعبارته : «وبهذا الإسناد» ، فقد يحصل لديه أن يتكرّر السند نفسه بتمام رجاله في روايةٍ لاحقة ، وعندئذٍ يمكن اختصاره ، ولكنّه قد يتكرّر هذا السند في الرواية الخامسة أو السادسة من الباب نفسه ، وحينئذٍ يضطرّ إلى ذكره كاملاً .
ومن منهجه هو انقطاع أسانيد الكافي وإرسالها ، وربّما يعمّم هذا القول فيشمل سائر محدّثي الإمامية الاثني عشرية عند بعض المسلمين ، ومرجع هذا الاشتباه هو الجهالة بسند الحديث المنتهي إلى الإمام من غير اتّصاله ظاهرا بالرسول الكريم صلى الله عليه و آله ، هل هو من قبيل المتّصل أو من قبيل المرسل أو المنقطع ؟ كالأحاديث التي ينتهي سندها إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام في كتب الأُصول الأربعة لدينا .
والحقيقة التي تؤخذ - بهذا الموضوع - من كلام الأئمّة أنفسهم بشأن أحاديثهم أنّها موصولة السند برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، حيث أعطوا قاعدة عامّة لسندهم في الحديث ، فقد روى الكليني بسنده :
عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيره ، قالوا : سمعنا أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحديث رسول اللّه قول اللّه عز و جل .(1)
وعليه ، فإنّ ما ثبت صدوره من متون الروايات عن الإمام لم يصرّح برفعها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فهي ليست من باب المنقطعة أو المرسلة كما تقدّم ، وإنّما تعتبر موصولة السند من هذه الناحية .
ويرى الكليني أنّ الروايات المأخوذة عن النبيّ صلى الله عليه و آله لا باعتبار سند الإمام في الحديث ، وإنّما باعتبار آخر يقوم على أساس ما ثبت لديهم من حجّية سند أهل البيت لعصمتهم .
ص: 210
وبهذا نرى أنّه استطاع بمهارته أن يوفّر - بكثرة - الأبواب ، يريد بهذا لمن أراد الاطّلاع على معرفة حكمٍ ما من أحاديث أهل البيت بسهولة ويسر ، وذلك لاستنباط عناوين هذه الأبواب من مضامين أحاديثها ، بل إنّ كثيرا من أبواب الفروع مشعرة بنوعية الحكم الموجودة في تلك الأحاديث ، وقد يكرّر الكليني الأحاديث في فروع الكافي كثيرا ، ولم يسلك طريقة واحدة إزاء ما كرّره من متون الأحاديث ، فهو يختصر المتن المكرّر لديه بسندٍ واحد ، كما في حديث جويرة الذي جاء عن طريق :
بكر بن محمّد بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدي الغامدي ، أبو محمّد ، وجه في هذه الطائفة من بيتٍ جليل بالكوفة ... وكان ثقة ، وعمّر عمرا طويلاً ، له كتاب .(1)
وبهذا يستدعي مراعاة تسلسل الأحاديث وترتيبها في الباب الواحد. وعدّه البرقي من أصحاب موسى بن جعفر الذين أدركو الإمام الصادق(2) ، وعدّه الطوسي من
أصحاب الصادق ، وأُخرى من أصحاب الكاظم ، وثالثةً من أصحاب الرضا ، ورابعةً ممّن لم يروِ عن الأئمّة ،(3) وهذا سهو من قلمه .
ويتّضح من ترجمته أنّه بعيد عن زمن الكليني ، ممّا يرجع روايته عن أصله المذكور سابقا ، وهو حديث جويرة بنت الحارث بن مالك بن جزيمة ، وجزيمة هو المصطلق من خُزاعة ، تزوّجها مُسافع بن صفوان فقُتل يوم المريسيع .(4)
في هذا المبحث تطرّقت إلى معرفة أسماء الراويات النساء وأحوالهنّ العامّة والخاصّة ، حتّى نصل إلى عدالتهنّ ومقدار تمكّنهنّ من ضبط رواية الحديث . ولذلك ينبغي أن يُراعى بالطبقات عنصر الزمان أوّلاً ، وكانت السابقة إلى الإسلام نقطة
ص: 211
الانطلاق الزماني ، وفي أهل البيت عليهم السلام ، وفي الإمام علي عليه السلام الذي أعاد إلى الأذهان أحاديث نبويّة تبرز حقّه بالخلافة بلا منازع .
ومثلما ظهر هناك من وضوح وتركيز في استعراض حقّه خاصّة ، يظهر هنا في شأن أهل البيت ، ففي خطبة الإمام :
انظروا أهل بيت نبيّكم ، فالزموا سمتهم ، واتبعوا إثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى ... فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ... ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا .(1)
من تلك النصوص النبويّة الثابتة ، وخلاصتها في نصّ الثقلين ونصّ الغدير والاثني عشر خليفة ، أصبحت الإمامة في أهل البيت تعيّنا في عليّ عليه السلام بعد الرسول الكريم صلى الله عليه و آله مباشرةً .
لذلك كان الكليني كغيره من علماء الإمامية يعتبر الروايات المأخوذة عن أئمّة أهل البيت هي كالروايات المأخوذة عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، لا باعتبار سند الإمام في الحديث ، وإنّما باعتبارٍ آخر يقوم على أساسٍ ثابت لديهم من حجّية سنّة أهل البيت لعصمتهم ، ومعنى هذا عندهم أنّ بيان الإمام لأيّ حكمٍ شرعي لا يمكن أن يكون غير مطابق للواقع ، وهو لا يختلف عن بيان أبيه .
والمهمّ أن نعلم أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال :
خير القرون قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم .(2)
ثمّ ذكر الكليني أحاديث عن الصحابيات ثمّ التابعات . ورواياته ليست أحادية المذهب ، وهذا يدلّ على الروعة العلمية في عصره ، من حيث اتّساع رواية الحديث بتعدّد المصادر ، وأصحابها جميعا من الثقات . فلا موجب للتوقّف إزاءها .
ص: 212
أمّا طبقات الراويات في كتاب «الكافي» وفروعه فهي :
من أهل البيت الراويات :
أُمّ الحسن ، قالت : مرّ بي أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أيّ شيء تصنعين يا أُمّ الحسن ؟
قلت : أغزل ، فقال : أما أنّه أحلّ الكسب ... إلخ .(1)
وحديث آخر جاء برواية أُمّ الحسين بن موسى وأُمّ أحمد بنت موسى ، قالتا :
كنّا مع أبي الحسن عليه السلام بالبادية ونحن نريد بغداد ، فقال لنا يوم الخميس : اغتسلا ليوم غدٍ يوم الجمعة ؛ فإنّ الماء غدا قليل . فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة .(2)
وراوية حديث حكيمة ابنة محمّد بن علي عليه السلام ، وهي عمّة موسى بن محمّد ابن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر عليه السلام ، قالت : «إنّها رأته ليلة مولده وبعد ذلك» .(3)
وراوية أُخرى من أهل البيت عن محمّد بن حجرش ، قال :
حدّثتني حكيمة بنت موسى عليه السلام ، قالت : رأيت الرضا عليه السلام واقفا على بيت الحطب وهو يناجي ، ولستُ أرى أحدا ... إلخ .
باب أنّ الجنّ يأتيهم فيسألون عن معالم دينهم ويتوجّهون في أُمورهم .
أمّا الصحابيات اللاّئي تحدّثن فهنّ كثيرات في كتاب الكليني ؛ إنّ الصحابي من :
صحب النبيّ صلى الله عليه و آله مؤمنا ومات على ذلك ، وطريقة معرفته التواتر ، والشهرة ، والاستقامة ، وإخباره ثقة .(4)
وأكثر العلماء : الواجب في ذلك حمله على أنّ الصحابي من محبّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال قوم : يجوز كونه راويا عن غيره ، والأظهر هو القول الأوّل . وكذلك قول الصحابي :
حدّث أو أخبر أو قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله » ، فهو بمثابة قوله : «سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمر
ص: 213
بكذا أو ينهي عن كذا» .(1)
ومن راوياته التابعيات ، وهنّ من لقي الصحابيات ، ثمّ الراويات والمروي عنهنّ إن استويا في السنّ أو في اللقاء ، فهو النوع الذي يقال له : رواية الأقران .(2)
إذا كان الكليني متبعا من سبقه في طريقة تصنيف الكتاب ، فإنّه استطاع بمهارته أن يوفّر - بكثرة الأبواب - مزيد الجهد لمن أراد الاطّلاع على معرفة حكمٍ ما من أحاديث أهل البيت عليهم السلام بسهولة ويسر ، وذلك لاستنباط عناوين هذه الأبواب مضامين أحاديثها . إنّ الكثير من أبواب الفروع مشعرة بنوعية الحكم الموجودة في تلك الأحاديث ، وقد استخدم الكليني لتصنيف الحديث طريقتين مشهورتين عند العلماء :
الأُولى : طريقة الأبواب ، وكيفيتها أن يقوم بتقسيم الكتاب على مجموعة كتب ، كلّ منها يحتوي على عدد من الأبواب التي يضع ما لديه من الأحاديث موزّعة عليها ، وقد تمّت دراسة الراويات النساء في كتاب الأُصول ، وكانت كما يلي :
في كتاب الحجّة باب «تسمية من رآه عليه السلام » ، برواية حكيمة بنت محمّد بن عليّ عليه السلام .(3)
في كتاب الحجّة باب «تسمية من رآه عليه السلام أيضا» ، برواية خادم لإبراهيم بن عبدة النيسابوري .(4)
في كتاب الحجّة باب «في الغيبة» ، ورد حديثان برواية أُمّ هاني .(5)
ص: 214
في كتاب الحجّة باب «ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» ، برواية أُمّ أسلم(1) ، قالوا : «جاءت أُمّ أسلم يوما إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وهو في منزل أُمّ سلمة(2) ، فسألتها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ...» إلخ .
في كتاب الحجّة باب «أنّ الجنّ يأتيهم فيسألون عن معالم دينهم ويتوجّهون في أُمورهم» ، برواية حكيمة بنت موسى عليه السلام .(3)
في كتاب الحجّة باب «في الغيبة» ، برواية حبابة الوالبية .(4)
في كتاب الدعاء باب «الدعاء للكرب والهمّ والحزن والخوف» ، برواية أسماء .(5)
في كتاب الدعاء باب «الإشارة والنصّ على عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما» ، برواية فاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام .(6)
كتاب الحجّة باب «ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» ، برواية خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .(7)
أمّا فروع الكافي ، فإنّ السمة البارزة فيه هي سمة فقهية ملازمة لها في جميع أبوابها وأحاديثها ، إلاّ في القليل النادر منها ، ولا يخفى أنّ هذا التبويب والترتيب لهذه المجموعة الكثيرة من الأحاديث جاء نتيجة لنظرة الكليني الفقهية باعتباره فقيهاً
ص: 215
مجدّداً في عصره ، مضافاً إلى تأثّره بمن سبق من أعلام المحدّثين بهذه الطريقة من التصنيف .
أمّا ما ورد من الراويات النساء في فروع الكافي فهنّ كالتالي :
في كتاب العتق والتدبير والكتابة باب «الولاء لمن أعتق» ، برواية عائشة زوج الرسول صلى الله عليه و آله .(1)
في كتاب الجنائز باب «علّة تكبير الخمس على الجنائز» ، برواية أُمّ محمّد بن مهاجر أُمّ سلمة .(2)
في كتاب الطهارة باب «وجوب الغسل يوم الجمعة» ، برواية أُمّ الحسين بن موسى وأُمّ أحمد بنت موسى .(3)
في كتاب الجنائز باب «صلاة النساء على الجنازة» برواية امرأة الحسن الصيقل .(4)
في كتاب المعيشة باب «النوادر» برواية أُمّ الحسن عليهاالسلام .(5)
في كتاب النكاح باب «نوادر في المهر» ، برواية حَمّادة بنت الحسن أُخت أبي عبيدة الحذّاء .(6)
في كتاب النكاح باب «مصافحة النساء» ، برواية سعيدة ومِنّة أُختا محمّد بن أبي عمير بيّاع السابري .(7)
وبهذا نرى أنّ الروايات في فروع الكافي آراء واجتهادات كثيرة ، هي غالبا ما تكون
ص: 216
لرواة مشهورين من أصحاب الأئمّة ، وتأتي هذه التعقيبات توضيحا لمرامي النصّ وأهدافه ، أو بيان موقفه من تعارض مروياته ، أو التماس وجها آخر للرواية المخالفة حكمها للإجماع ، وغير ذلك .
إنّ تحميل الرواية جاء أكثرها عن طريق شيوخه ، وهم :
1 - محمّد بن يحيى أبو جعفر العطّار القمّي ، قال النجاشي :
هو شيخ أصحابنا في زمانه ، ثقة عين ، كثير الحديث ، له كتب .(1)
وهو من شيوخ الكليني وروى عنه(2) ، ومن رجال عدّته الذين يروي بتوسّطهم عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، وقد أكثر الرواية في (2778) موردا ، منها ثلاثة موارد بعنوان محمّد بن يحيى العطّار ، وفي جميع موارده من النساء والتي جاءت تحت عنوان محمّد بن يحيى ، هي :
قال عنه : حدّثتني حَمّادة بنت الحسن أُخت أبي عُبيدة الحذّاء» في كتاب فروع الكافي : ج 5 ، ص 381 ، ح 9 .
وقال عنه : «حدّثتني أُمّ إسحاق بنت سليمان في ... إلخ» : ج 6 ، ص 40 ، ح 2 .
وقال عنه : «حدّثتني فاطمة بنت أبي العاص بن الربيع وأُمّها زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ج 6 ، ص 369 - 370 .
وقال : «حدّثتني حكيمة ابنة محمّد بن عليّ عليه السلام » : ج 2 ، ص 122 ، ح 3 .
2 - علي بن إبراهيم بن هاشم أبو الحسن القمّي ، وثّقه النجاشي(3) قائلاً : ... ثقة في الحديث ، ثبت معتمد ، صحيح المذهب ، سمع فأكثر ، وصنّف كتبا . وهو من أهمّ شيوخ الكليني(4) ومن رجال عدّته التي تروي عنه . وقد جاءت في رواية : عن ابن
ص: 217
أبي عمير ، عن إسحاق بن عبد العزيز ، عن زرارة ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : جاءت فاطمة عليهاالسلام تشكو إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعض أمرها ، فأعطاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله كُرَيسةً وقال : تعلّمي ما فيها . فإذا فيها : مَن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ، ومن يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو يسكت .(1)
بعد هذا التطواف مع راويات الكليني ال (26) ، لابدّ من وضع خاتمة نوضّح فيها ما شهدته الحضارة الإسلامية في جميع أشواطها ، أسماء لامعة برزت فيها النساء في مختلف المجالات ، التي تطرّق لها الكليني في كتابه الكافي ، ويمكن إرجاع سبب اتّخاذه المرأة كمحدّثة واعتماد روايتها ، يعود إلى البيئة السياسية التي عاشها الكليني رغم الاضطرابات في الحكم ، إلاّ أنّها لم تؤثّر على شخصيته العلمية ، وأظهر أنّ المذاهب الإسلامية في حقيقتها وحدة متراصّة وأنّ الاختلاف لا يفسد من الودّ قضية ، فهو اختلاف في الرأي والمنهج ، وأنّ الجميع تكاتف لمصلحة الإسلام .
وكذلك كان الكليني الذي تناول راويات من مختلف المذاهب والأقطار والأزمان ، وكان شيوخه ليس جميعا من الثقات والمعروفين ، لكنّ حكمه عليهم جميعا بالصحيحين ؛ لأنّ مرويّاتهم صدورها عن الأئمّة من آل البيت عليهم السلام ، لذا يقضي إعادة النظر في تصنيف الأحاديث في السند والرواية ، وخاصّة عند تبنّيه الإكثار من طرق الرواية واختصار السند .
استطاع الكليني إبراز الراويات الرائدات مسلمات زاولن ضروبا متنوّعة من المعرفة الإسلامية في الرواية ، بمثال عملي عن إمكانية المرأة المسلمة وأهليتها للارتقاء في درجات العلم دون حدود .
ص: 218
1 . أُسد الغابة في معرفة الصحابة ، عزّ الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير (ت 630 ه )، القاهرة ، 1286 ه .
2 . أُصول الكافي لثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ، عبد الحسين عبد اللّه المظفّر ، شرح وتصحيح وتعليق وتنقيح : مطبعة النعمان ، النجف الأشرف : 1956 م .
3 . أحاديث أُمّ المؤمنين عائشة ، السيّد مرتضى العسكري ، إيران : التوحيد للنشر ، 1994 م .
4 . بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار ، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت 1110 ه ) ، بيروت : مؤسّسة الوفاء ، 1983 م .
5 . رجال ابن داوود ، الحسن بن علي الحلّي (ت 737 ه ) ، طهران ، 1342 ه .
6 . رجال البرقي ، أحمد بن محمّد البرقي الكوفي (ت 274 ه ) ، طهران : جامعة طهران ،
الطبعة الأولى ، 1342 ش .
7 . رجال الطوسيّ ، أبو جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (ت 460 ه ) ،
النجف الأشرف : 1961 م .
8 . رسائل في رواية الحديث ، أبو الفضل حافظيان البابلي ، قمّ : دار الحديث ، 1424 ه .
9 . روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات ، محمّد باقر الموسوي الخوانساري ، بيروت : دار الكتاب العربي ، 1390 ه .
10 . الإصابة في معرفة الصحابة ، شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المعروف بابن حجر (ت 822 ه ) ، القاهرة : شركة مطبعة ومكتبة مصطفى محمّد البابي وأولاده ، 1939 م .
11 . فجر الإسلام ، أحمد أمين ، القاهرة : مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، 1955 م .
ص: 219
12 . الكافي ، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 329 ه ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، ثمانية أجزاء ، طهران : دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .
13 . كتاب الكفاية في علم الرواية ، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 ه ) ، تحقيق : محمّد عمر هاشم ، بيروت : دار الكتاب العربي ، 1985 م .
14 . معالم العلماء ، أبو جعفر رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (ت 588 ه ) ، النجف الأشرف : 1961 م .
15 . المفيد من معجم رجال الحديث ، محمّد الجواهري ، قمّ : مكتبة محلاّتي ، 1424 ه .
16 . الموجز في علوم الحديث ، مساعد مسلم آل جعفر ، بغداد : دار الرسالة للطباعة ، 1978 م .
17 . نهج البلاغة ، ما اختاره أبو الحسن الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي من كلام الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام (ت 406 ه ) ، شرح : محمّد عبده ، قمّ : دار الذخائر ، 1412 ه .
18 . الوافي بالوفيات ، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (764 ه ) ، بيروت : جمعية المستشرقين الألمانية ، دار صادر ، 1969 م .
ص: 220
إحداثيات الفكر الاثني عشري بين الكليني والصدوق
دراسة فلسفية - كلامية
د. علي حسين الجابري
لا تُعرف مواقع المدن على الأرض، ولا مواقع النظرية الكلامية والفلسفية والعلمية على خارطة الأفكار، إلاّ بمعرفة الإحداثيات، بعدّها مفهوماً افتراضياً له علاقة بعلم تحديد المكان والحدث والجماعة ، هكذا نظر الباحث إلى أهمّية الشيخ الكليني والشيخ الصدوق ، في الفكر الاثنا عشري قبل أحد عشر قرناً ، ولاسيّما خلال فترة الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر(عج) ومابعدها ، على صعيد الفكر والحضارة والعقيدة، بعد دراسات له امتدّت طوال أربعة عقود ونيّف في دائرتي الزمان والمكان والفلسفة، ولاسيّما - وهذا هو المهمّ - أنّ الأعلام المبحوثين، قد توزّعوا على أنشطة مدرسة قمّ الحديثية، ومدرسة بغداد المجدّدة، من خلال تشعّب مباحث ذات صلة بحياة الناس وعقائدهم، كان من بين علاماتها الفارقة - على صعيد الفلسفة - الفارابي (ت 339 ه ) ، وإخوان الصفا (المدرسة البصرية) المعروفة في الفترة ذاتها ، وما مهّد لذلك من أنشطة ذات شأن كبير لدولة طبرستان العلوية وامتداداتها في الدولة الزيدية (اليمن) و(المهدية - الفاطمية) في الشمال الأفريقي، ووصول بني بويه إلى مركز القوّة والتأثير في بغداد (الدولة العبّاسية) للمدّة من 334 ه - 447 ه ، وماتركته جميع هذه
ص: 221
المتغيّرات من آثار على سيرورة العقيدة الاثنا عشرية .
إنّ الحديث عن ظروف الاثنا عشرية خلال الغيبة الصغرى لوحده - وهو ميدان حركة الكليني - كافٍ للدلالة على صخب الأحداث وخطر السياسة على رجال هذا الفكر الذي جاء عصر الصدوق؛ الميدان البديل على صعيد حركة الدولة - إلى حدٍّ ما - ، بما وفّر قدراً من الحرّية استقطب أنشطة رجال هذه المدرسة، فكان الشيخ المفيد (ت 413ه ) واحداً من أكبر أعلام الاثنا عشرية في بغداد ، يعدّ رأس المثلّث لزاويتي المثلّث الاُولى الشيخ الكليني ، والثانية الشيخ الصدوق ، وعلى هذا المثلّث استقام البناء الكلامي والفلسفي والعقيدي عند الاثنا عشرية .
حاول الباحث التوسّل بالمصادر وهو يلملم مادّة هذه الدراسة ؛ ليستكمل بها حلقات البحث الاثنا عشري (شخصيات - مدارس - اتّجاهات) ، ويسهم مع الباحثين الآخرين في الوفاء بصاحب الذكرى وهو يمهّد في حفظ موارد العقيدة في عصرٍ عاصف لا يثبت فيه إلاّ المتمسّك بالأثر، والمحافظ على الخبر والعارف بمسالك طريق الأئمّة عليهم السلام الموصل إلى المنبع الأوّل (النبيّ صلى الله عليه و آله ) الذي أخذ الإسلام من خالق كلّ شيء عزّ وجلّ .
وليس أجمل من ذكرى مفكّر سار على هديه آخرون، واستدلّ بدربه السائرون إلى يوم الدين ، فذلك هو الوهج العقيدي والكلامي الذي كان ومازال وسوف يبقى، متألّقاً في الآفاق ... فالجميع يعلم أنّ الشيخ الكليني قد مهّد بالكافي وهو في الحقبة الاُولى (الغيبة الصغرى) لما سيكون عليه الحال في الحقبة الثانية (الغيبة الكبرى) ، التي حاول الصدوق فيها أن يكمل مشروع الكليني كما يكمل دور مدرسة قمّ فيها دور مدرسة بغداد الحديثية في كتاب من لا يحضره الفقيه .
فنحن إذا نتحدّث عن شخصيات فكرية شمولية لها شيوخ ولهم تلاميذ حملوا لواء الكلمة المكتوبة والتشبّث بها، استجابةً لوصايا الأئمّة عليهم السلام بعدّهم حلقات مترابطة تعود إلى عصر الرسالة (الحلقة النبويّة) ، وهي تترجم نداء الوحي الإلهي إلى الناس
ص: 222
كافّة ، وتُوضّح مراميه وتُفرّع أُصوله، بفضل السنّة النبويّة وما استودعه الشارع عند (العترة الطاهرة) خلفاً عن سلف لسلسلة متماسكة الحلقات معروفة الرواة ، وصولاُ بها إلى صاحب الزمان عَجّل اللّه فرجه .
لهذا نقول : إنّ الحقبة الاُولى غير الحقبة الثانية، مختلفتان في الجوانب الفلسفية والاجتماعية والحضارية، مع ذلك استدرك الصدوق على ما فات الكليني ، وكلاهما سارا على الأثر بالفكر الاثنا عشري بين إيقاعين محافظ ومجدّد، وما دمنا نتحدّث عن حقبة انتقالية في المسيرة الإمامية الكلامية ، فبماذا سنخرج من سياحتنا في خارطة الفكر الاثنا عشري بين عصر الكليني وعصر الصدوق ؟ سؤل سنحاول الإجابة عليه في هذا البحث المتواضع. ومن اللّه التوفيق والسداد.
عُرف الكليني باتّجاهه السلفي (المحافظ)، أو كما سُمّي بالأخباري، والأخبارية بالمعنى المخصّص الذي أُطلق على أتباع الاتّجاه الحديثي المحافظ داخل الفكر الإمامي الاثنا عشري الذي يعود إلى عصرهم - الأئمّة الاثنا عشر - فهم تبع لهم في علومهم، عن الكتاب والسنّة وأخبار السلف.
وإذا كان مفهوم السلف عام تفاوت فيه وحوله الرأي عند عموم المسلمين، فإنّه عند الإمامية الاثنا عشرية محدّد بالأئمّة عليهم السلام إلى يوم الدين، وإن هو انحصر - زماناً ومكاناً - في القرون الثلاثة الاُولى من الهجرة النبويّة الشريفة.
وإذا ما أردنا تحديد هذه الحقبة الزمانية بالجغرافية (المكان) قلنا : إنّ مثلث (المدينة المنوّرة - الكوفة - قمّ) هي المراكز التي استقطبت النشاط الإمامي الحديثي، وصولاً به إلى بغداد وسامراء ! بعدّها تجليّات لمدرسة الصادق عليه السلام (ت 148 ه ) التي بلغت مدياتها القرون والأماكن إلى يوم الناس هذا.(1)
ص: 223
والأخباريون، جماعة اعتمدوا على موارد حديثية موزّعة على مئات الكتب، استخلصها الكليني في الكافي وروضته،(1) والصدوق (ت 381 ه ) في كتابه كتاب من لايحضره الفقيه، والشيخ أبو جعفر الطوسي (ت 460 ه ) في كتابيه، التهذيب والاستبصار، التي استغنى فيها عن التوثيق التفصيلي عن الرواة كافّة، منوّهاً بالمجروحين.(2)
إنّ منهج المحدّثين والأخباريّين، كما يقول الغريفي، يتمسّك بالأخبار المحفوفة بتلك القرائن ، ولأجله صحّح الكليني والصدوق حجّية الأخبار التي في كتابيهما (الكافي والفقيه) ، وإن كان فيها الضعاف بلحاظ السنّة قائلاً عن الكليني : ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهماالسلام .(3)
ونقل الفيض الكاشاني عن الصدوق قوله في مقدّمة الوافي :
بل قصدت إلى ، ايراد ما أفتي وأحكم بصحّته وأعتقد به أنّه حجّة فيما بيني و(بين) ربّي .
لذلك علّق عليه الفيض قائلاً :
فقد جرى صاحبا كتابي (الكافي والفقيه) على ما تعارف عليه المتقدّمون في إطلاق الصحيح، على ما يركن إليه ... فحكما بصحّة جميع ما أورداه في كتابيهما من الأحاديث، وإن لم يكن كثير منه صحيحاً على مصطلح المتأخّرين(4) .
ولخّص لنا الأعلمي في موسوعته حقيقة الموقف المحافظ لمدرسة الأئمّة عليهم السلام ، حتّى عدّ أربعة آلاف رجل روى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، كما وجده عند ابن عقدة في رجاله، وهناك من روى عن الإمام علي عليه السلام والحسن والحسين ، صعوداً إلى الحجّة (عج) ، حتّى تجمّع ما سمّي بالأُصول الأربعمئة من تلامذة نجباء ثقاة، كلّها
ص: 224
بسندٍ ينتهي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ، وهكذا صعداً إلى المهدي فالسفراء الأربعة، إلى أن وصل إلى أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني، محيي طريقة أهل البيت عليهم السلام على رأس المئة الثالثة ، ويقصد الرابعة في مؤّفه الكافي ، وقيل إنّه عُرض على الحجّة (عج) ، فقال : «كافٍ لشيعتنا» .
وإنّ من طريقته وضع الأحاديث المخرّجة على أبواب على الترتيب بحسب الصحّة والوضوح... ووقع في الأواخر ما كان مجملاً(1) سمّاه باب النوادر .
وإذا كنّا قد أرجأنا الحديث عن مجريات الأحداث وملابساتها في القرن الثالث الهجري (زمن الغيبة الصغرى) إلى الصفحات اللاّحقة ، ووقفنا هنا عند النشاط الحديثي في القرن الرابع الهجري (الزمن المشترك بين الشيخين، الكليني والصدوق) ، يلفت نظرنا ذلك الجهد الكثيف لوفرة ما تيسّر له من الرواة واجتمع له من الكتب ، فما أخرجه الكليني من الأحاديث في الكافي وما تبعه به الآخرون ، دليل على إثرائها .
في الوقت الذي انبرى فيه جماعة من الإمامية لنقد الحديث، قام به رجال مثل أبي عبد اللّه محمّد بن خالد البرقي، ومحمّد بن أحمد بن داوود القمّي، وأحمد بن محمّد بن سعيد المعروف بابن عقدة ، وغيرهم ممّن نوّهوا بالمذمومين من الرواة والممدوحين ،(2) لقد شهد العصر البويهي - مقابل سدّ باب الاجتهاد عند أهل السنّة - نشاطاً ملحوظاً، بفضل فتح بعض فقهاء الإمامية هذا الباب، مستغلّين وفاة السفير الرابع ودخول الاثنا عشرية عصر الغيبة الكبرى، بعد عام (329 ه ) وصل حدّ المبالغة في المراسيم الشيعية باختراع الجديد منها .(3) لكنّ الواضح على خارطة الفكر الاثنا
ص: 225
عشري من المعالم المعرفية المحافظة، مدرستان: الاُولى محافظة، والثانية مجدّدة للأصالة ، هما :
مدرسة قمّ الحديثية وامتداداتها في بغداد وصولاً بها إلى أيّام الشيخ المفيد (ت 413 ه ) ومحاولاته في فكّ التداخل مع الفكر المعتزلي. والثانية: مثلها في بغداد بعد نشاط (الصدوق) كلّ من الشيخ المفيد، والشريف المرتضى، وصولاً إلى الشيخ الطوسي (ت 460 ه ) وكتبه الحديثية، المنوّه بها سابقاً، ممّا تقع في معظمها خارج حدود هذه الدراسة، إلاّ على سبيل الإشارة. وتكاد الاُولى تكون جماع الموقفين (المحافظ والمجدّد) بعد أن احتوت نشاط كلّ من الكليني والصدوق.
أمّا ممهّدات الغيبة الصغرى الفكرية والسياسية التي كانت وراء (منعطفات عقيدية) كبرى ، فلا مجال للإفاضة فيها هنا ، نوجز بعضها:
أوّلاً : قيام ثورة الكوفة (249 - 250 ه /863 - 864م) ، والتي انتهت بهروب الثوّار إلى مشارق الدولة الإسلامية وجنوبها ، كما حصل لآل الحسن بن علي عليه السلام وأبناء الشهيد زيد بن علي بن الحسين عليه السلام المنطلقين أصلاً من عقيدة لاتعترف بالمهادنة مع سلطة الاستبداد، ولاتقرّ إلاّ بإمامة القائم بالسيف، نتج عنها مايأتي :
1 - قيام الدولة العلوية في طبرستان (317 - 271ه ) التي تركت آثارها السياسية والعقيدية على مساحة واسعة من خارطة الإمبراطورية الإسلامية(1) ، كان من أهمّها :
أ . قيام الدولة الزيدية في اليمن عام (287 ه /900م).
ب . قيام الدولة الفاطمية في تونس (المهدية) عام (298 ه ) ، وفي الشمال الأفريقي وصولاً إلى (مصر) وبلاد الشام .
2 - بفضل الأنشطة العقيدية لرجال الدولة العلوية، ولاسيّما الجهود الفكرية التي
ص: 226
بذلها الحسن الناصر الكبير (ت 304 ه ) بدخول أكثر من مليون مواطن إلى دائرة الإسلام، كان من بينهم أولاد بويه الذين سيكون لهم دور مشهود في القرن الرابع الهجري ، حين مدّوا نفوذهم إلى بلاد خراسان وصولاً إلى بغداد ، ليفتحوا بذلك عصراً جديداً أمام الاثنا عشرية (امتدّ من 334 - 447 ه /945 - 1053م) . كانت أنشطة الصدوق تجري في ظلالها ، أو مستفيدة منها بشكلٍ من الأشكال، وهو يتنقّل بين مدرسة قمّ وبغداد .
ثانياً : إنّ شدّة المتغيّرات التي رافقت الأحداث المذكورة ، ولاسيما مطلع القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ، قد :
1 - انعكست على العديد من سياسات الخلفاء العبّاسيين في أواخر الحقبة التركية ، في تشديدهم على الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم ، ولاسيّما في بغداد وسامراء والكوفة، فكان ما كان من وقائع انتهت باستتار الإمام الثاني عشر (عج) في غيبته الصغرى.
2 - صاحب ذلك اضطراب الأوضاع في البحرين والبصرة ؛ بسبب تزايد حركات القرامطة (من الإسماعيلية) وحركة الزنج ، ممّا عصف بهيبة الدولة العبّاسية، ووضع المجتمع على كفّ عفريت ؛ بسبب عدم معرفة القادم من الآثار المدمّرة لهذه الحركات ، على الرغم من الطابع الاجتماعي الذي يسودها، حتّى أفرزت لنا المرحلة مدرسة فكرية سرّية في الربع الأوّل من القرن الهجري الرابع في البصرة (إخوان الصفا)، عبر رسائل فلسفية بلغت (51) رسالة .
وهي ذات الأجواء التي غادر بسببها الفارابي بغداد عام 329 ه-/940م إلى حلب حيث الدولة الحمدانية ؛ ليستكمل مشروعه الإصلاحي هناك في كتابه المدينة الفاضلة ، إلى حين وفاته عام 339 ه-/950م.
إنّها أواخر الحقبة التي فقد فيها العنصر التركي سطوته على الخلافة العبّاسية في بغداد، وتعقّدت الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية، بعد أن شهد مدخل القرن
ص: 227
الرابع الهجري (301 - 309ه- /913 - 921م) أطول محاكمة في تاريخ الدولة الإسلامية ، انتهت بإعدام الحلاّج بالطريقة المعروفة، التي حملت عنوان مأساة الحلاّج،(1) لأسباب سياسية تحت ذرائع دينية.
وفلسفياً يمكن ملاحظة الأنشطة المكثّفة لإقامة مجتمع (فلسفي - روحي) ينأى بالناس فوق أخطاء السياسة وغلواء المتطرّفين والمتعسّفين من شتّى الأسماء المعروفة. وإذا كانت ممهّدات الغيبة الصغرى وتداعياتها في بيت الحكمة قد بسطتها يراع الكندي (ت 252 ه- ) وصولاً إلى أبي بكر محمّد بن زكريا الرازي (ت 320ه ) والفارابي، لكنّ البحث الكلامي عند الإمامية (الجعفرية - الاثنا عشرية) حافظ على التزامه بخطّ الأئمّة عليهم السلام السلفي إلاّ ما ندر .
ويبقى الحدث الأكبر الذي قلب الحسابات جميعاً مع بداية الغيبة الكبرى هو انتهاء العصر التركي وبدء حقبة جديدة من السياسة جاءت لصالح الفكر الاثنا عشري، الذي سبق ونافح الكليني عنه وبقية الرهط المحافظ من رجال الاثنا عشرية ، ولاسيّما في قمّ المقدّسة ، لتقود سلسلة المتغيّرات في ظلّ تمكّن آل بويه من زمام الأُمور في المشرق وبغداد ، كناتج تاريخي لما حقّقته دولة طبرستان العلوية التي بقي تأثيرها في بلاد الديلم والجيل حتّى منتصف القرن الرابع الهجري ، إلى جانب دورها في قيام الدولة الزيدية في اليمن والدولة الفاطمية والمهدية في الشمال الأفريقي ، وصولاً إلى القاهرة وقيام الجامع الأزهر ، كما نوّهنا بذلك في السطور السالفة.
جميع هذه المتغيّرات في مشرق الدولة الإسلامية ومغربها وجنوبها، هي ثمرة لجهود الثوّار الذين غادروا العراق(2) باتّجاه الشرق ، والتي توّجت بعيد وفاة الكليني
ص: 228
عام 329ه-/940م ببدء العهد البويهي.
لقد وجد الخضري أنّ الشيعة الإمامية الاثنا عشرية قد تنفّسوا الصعداء مع المرحلة الجديدة للمرّة الاُولى بعد سلسلة من الظروف القاسية التي عاشوها ، ولاسيّما في العراق والتي يعرفها الجميع ، وقبيل بلوغ هذه المرحلة كان الكليني واحداً من أبرز الرجال الذين خدموا هذا الفكر ، ولاسيّما من خلال علاقته بالسفراء الأربعة الذين لم يكونوا بعيدين عن روح التململ الاثنا عشري انتظاراً للظرف الجديد، على الصعد الكلامية والفلسفية.(1)
لقد أتاح الجوّ السياسي في هذه المرحلة (بين عصري الكليني والصدوق) نوع من الحرّية للاثنا عشرية ، تحدّث عنها أكثر من مفكّر(2) بعد أن لوحظ تشجيع البويهي للشعراء الذين وجدوا الفرصة مناسبة لإطلاق العنان لعواطفهم الدينية، بعد قرون من الكبت والاضطهاد والمطاردة والحجر على العقيدة.(3) إنّ جملة المتغيّرات - بعد الغيبة الصغرى - قد تمخّض عنها سلسلة من الحقائق العلمية والكلامية ، من بينها:
1 - ازدهار البحث العلمي، ووضوح الموقف الإمامي، بفضل تمايز العلوم والفنون وعدم التداخل بين مسائلها ووضوح المذاهب الإسلامية، بما كتب في أُصول العقائد فيها .(4)
2 - تخطّى المجتمع البغدادي خطر الانفجار و(الحرب الطائفية) أو الانهيار، من جراء الوضع الجديد على قاعدة من القناعة بتداولية الحكم العبّاسي بين الطائفتين، يقول الدكتور عبد الرزّاق محي الدين : فليرض أهل السنّة بتنفّس الإمامية الصعداء مادام ذلك يبقي لهم مذاهبهم ومراكزهم في الفتيا والقضاء، وليقنع الإمامية الاثنا
ص: 229
عشرية بهذا المكسب الناقص عن بلوغ دعوتهم، فإنه خير لهم على كلّ حال من العصور السابقة .(1)
وإن لم يدم مثل هذا التوافق سوى ربع قرن على الحقبة البويهية، ولاسيما في السنة 349ه-، مهّدت - بعد قرن من الزمن - لبدء الدور السلجوقي التركي في بغداد(2) ، لسنا في معرض الإفاضة عن حوادثه ومجرياته ، لكنّنا سنتأمّل فلسفياً وكلامياً أدوار كلّ من الكليني في الحقبة الاُولى، والصدوق ومدرسة قمّ في الحقبة الثانية ؛ لكي نخرج من دائرة العموم إلى خصوص البحث، ولكي تكتمل إحداثيات خارطة الفكر الاثنا عشري زماناً ومكاناً ومدارس وشخصيات وحوادث وأحداث، وهو أمر يدخل في غاية الباحث وطبيعة المناسبة التي نحتفي من خلالها بالشيخ الكليني ومنهجه الكلامي ومنظوره الفكري على سبيل التكامل.
ثالثاً : الدور الفكري للكليني في زمن السفراء الأربعة .
دأب السفراء الأربعة - على التوالي - تنظيم علاقة العلماء الأعلام من الاثنا عشرية بالإمام المستتر (عج) لأسباب قاهرة ، حيث غلب منطق التمسّك بالأثر، بعدّةٍ منجاة من كلّ خلل ، ودليل استقامة في العقيدة، والوثوق بموارد الحقيقة الشرعية إن كان على الصعيد الكلامي أو الفقهي - العملي ، هكذا استقام الحال في بغداد وسامراء والكوفة منذ عام (260 - 329 ه- / 873 - 940م) ، وفي مثل هذه الأجواء نشأ الكليني واستقام عوده وتكاملت ثقافته وتصوّراته وقناعاته ، ليخرج على الطالبين ب- :
أ - كلام يستظّل بظلّ النصّ والحديث النبويّ الشريف والخبر المعصومي الموثوق.
ص: 230
ب - قضايا عملية تتّصل بفروع الدين وتطبيقات الشريعة ، كما وردت عن السلسلة المعصومية.
ذلك هو الخطّ الذي تبنّاه الكليني، سمته النظر إلى النصّ المقدّس من خلال الأثر ، حيث عرف الاثنا عشرية بطريقة تفسير النصّ بالأثر(1) الوارد من مدرسة الأئمّة عليهم السلام في المدينة المنوّرة، منذ زمن السجّاد والباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام ... وامتداداتها في العراق ، وصولاً إلى مدرسة قمّ الحديثية ، موضوع المبحث الثاني، في بلاد المشرق وفارس(2) ، بفضل ظروف إيجابية صاحبت المتغيّرات السياسية المذكورة، إن كانت في دولة طبرستان حيث جهود الحسن الناصر الأطروشي الكبير (ت 304 ه ) ، أو جهود الكليني في بغداد، التي أثمرت حلولاً إيجابية تستجيب لمشيئة الاثنا عشرية، ورغبة البويهيين لاحقاً ، حيث ازدهر خلالها خطّ محافظ حرص أصحابه على التواصل مع روح العقيدة الإسلامية غير الرسمية ذات المنابع المستقلّة عن سطوة السياسة والسلطة والحكم ، تعزّزت بعد انتهاء حقبة سفارة السفير الرابع عام 329ه- /940م ، بعده العامّ الأكثر أهمّية في تاريخ الفكر الاثنا عشري اللاحق ، فما هي طبيعة المنهج الذي تبنّاه الكليني في هذه الحقبة؟ أعني في مؤّفاته ، ولاسيما كتاب الكافي ، الذي عدّ واحداً من أهمّ موارد الاثنا عشرية ؛ لثقتهم بصاحبه وصلته المباشرة بسفراء الإمام الثاني عشر (عج) ، كما يقول ابن طاووس.(3)
ونوّهنا قبل قليل بما وجده الشيخ الخضري(4) بعد وصول سلطة البويهيين إلى بغداد من أثر إيجابي على مجمل الاتّجاه الفكري والعقيدي للاثنا عشرية ، لا بسبب شيعية البويهيين ، بل بفضل الجهود التي بذلها الحسن الناصر الكبير في دولة
ص: 231
طبرستان من أثر ، التي كان طابعها الظاهري زيدي، مع آل الحسن الفارّين إلى هناك، بعد فشل ثورة الكوفة عام 250ه- /864م ؛ خوفاً من بطش صاحب شرطة بغداد البساسيري، الذي شتّت جموع الثوّار عند واسط ، فلم يجدوا أمامهم من ملاذ غير بلاد الجيل والديلم ، ليقيموا دولتهم هناك عام 271ه-/884م ومابعدها، والتي امتدّ أثرها إلى اليمن والشمال الأفريقي، وصولاً إلى عهد الناصر الكبير في (301 - 304ه- /913 - 916م) الذي حكم الدولة العلوية(1) هناك بعد كلّ من الحسن بن زيد ومحمّد بن زيد، وصولاً إلى الحسن بن القاسم (ت 316ه- ) والذي انتهت سيادة هذه الدولة بمقتله ، وتراجع النشاط الشيعي في هذه الربوع.
ولعلّ الكليني قد زامن أحداث بغداد التي توّجت عام (309ه- /921م) بإعدام الحلاّج لذرائع عقيدية لا تخلو من دوافع سياسية تتعلّق بإسماعيلية الحلاّج!
نقول هذا من غير أن نهمل البراءة التي أعلنها ابن الهمّام في بغداد عام 312ه-/924م على لسان السفير الرابع الحسين بن روح مع تكفير الصمغاني، قارنا إلحاده بما أُشيع عن الحلاّج من عقائد تتقاطع مع العقيدة الإمامية(2) - الاثناعشرية. عضّد ذلك الموقف (التحوّطي) للاثنا عشرية، في مثل ظروف بغداد تحت ظلّ السيطرة الأشعرية، ماكتبه الشيخ المفيد (ت 413 ه ) من رسالة في الردّ على أصحاب الحلاّج(3) ، وذلك في عام (393ه-/1003م) بما يلفت نظرنا عن سبب طرد القمّيين للحلاّج حين زار المدينة بتأثير ابن بابويه القمّي الذي كان وثيق الصلة ببغداد وسامراء ، أي مع الكليني وسفراء المهدي (عج) ، وقام بضرب الحلاّج في قمّ ومنعه من الترويج لخزعبلاته، بعد أن قدّم نفسه لأهل قمّ باعتباره وكيل صاحب الزمان (عج) ، كذلك أخفق في استمالة كبير الإمامية الاثنا عشرية أبا سهل إسماعيل بن
ص: 232
نوبخت(1) ، وجميع ذلك كان يعرفه الشيخ الكليني وهو يؤّخ لحقبة الغيبة الصغرى :
1 - إنّ الخطّ المحافظ - السلفي - اتّخذ مجراه الواضح ممثّلاً بنشاط المحدّثين والمشتغلين بالرواية، وكان على رأس هؤاء الشيخ الكليني(2) الذي كان معاصراً لفترة الوكلاء الأربعة للمهدي (عج) ، وهم : عثمان بن سعيد العمري، وولده أبو جعفر محمّد، وأبو القاسم الحسين بن روح، وعلي بن محمّد السمري (الخلاّني) ، وكانت صلتهم به بمثابة تزكية له وتوثيق مع أخبار وصلت عن اتّصاله بالمهدي .(3)
تلمّذ لأبي علي أحمد بن إدريس بن أحمد الأشعري القمّي(4) (ت 306 ه ) ، وخير ما قدّمه الكليني لخدمة الفكر السلفي، هو كتابه الكافي في الحديث ، الذي جرى فيه على طريقة السلف الصالحين، من ذكر جميع السند غالباً .(5)
2 - إنّ كتاب الكافي في علوم الدين، يتناول جميع العقائد الإمامية ومذاهبها، ويعدّ أحد الكتب الأربعة الكبرى الشيعية (الاثنا عشرية) وأوّلها ، ويشتمل على أكثر من (16) ألف حديث ، وعليه شروح كثيرة(6) ، كما له تلخيص يحمل عنوان (روضة الكافي) بقلم الكليني نفسه.
3 - سار على خطّ الشيخ الكليني، تلامذته من رجال مدرسة بغداد ، مثل:
أ . ابن عقدة (ت 333 ه ) ؛ أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي المشهور بابن عقدة الشيعي ، الذي قيل عنه إنّه من أصحاب الحديث(7) ، ساهم في نقد الرواة .
ص: 233
ب . ابن زينب النعماني ؛ (محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن جعفر النعماني(1) ، وهو أحد تلامذة الكليني المشهورين(2). صنّف عام (342 ه / 953 م) كتاب الغيبة، والفرائض ، والردّ على الإسماعيلية وتفسير الإمام جعفر الصادق عليه السلام وكتاب الدلائل(3).
ج . العمّاني ؛ (أبو علي الحسن بن علي بن أبي عقيل)، وقيل (أبو محمّد العمّاني والحذّاء)، ويقال له أيضاً: ابن أبي معروف العمّاني، ترك كتباً في الفقه والكلام حتّى وصفه البعض بأنّه : «أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الأُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى»(4)، وإن خالف العمّاني المنهج السلفي للكليني، لكنّه كان واحداً من ظاهرة التجديد في تلك الحقبة، أكمل جهود جماعة من الإمامية، مارسوا نقد الحديث لإزالة كلّ شكّ من جهة (وسائط) الأئمّة عليهم السلام، ولتكون مادّة موثوقة الاستعمال، مثل أبي عبد اللّه محمّد بن خالد البرقي ومحمّد بن أحمد بن داوود القمّي وغيرهم ممّن تحدّث عن المذمومين والممدوحين من الرواة(5)، ونوّهنا ببعضهم سابقاً.
وطوّر الخطّ النقدي للحديث والرواة في هذه الحقبة أبو حنيفة الشيعة (محمّد بن النعمان بن منصور التميمي القاضي) (ت 365ه / 975 م) الذي لم يطق البقاء في العراق، لذلك التحق معزّ الدولة الفاطمي(6) في مصر سنة 363 ه / 974 م، وبقيّ
ص: 234
هنالك إلى حين وفاته سنة 365 ه / 976 م . هكذا تشكّلت الحقبة الممتدّة من الغيبة الصغرى داخل العراق وخارجه، وصولاً إلى عصر الصدوق الذي يشكّل لنا الركيزة الثانية في الفكر الاثنا عشري خلال المرحلة القادمة.
إنّ الخطّ المحافظ الذي مثّله الكليني(1) وتلامذته وجد بوادر (تحرّرية) للخروج على ثوابته، سنترك لغيرنا البحث فيه وتتبّع مساره وصولاً إلى المشروع الأُصولي الاثنا عشري.
الحقبة الثانية : الشيخ الصدوق بين المحافظة والتجديد.
إنّ الشيخ الصدوق نتاج مدرسة كلامية - فقهية لها حضورها الرائع في تاريخ الفكر الاثنا عشري، وقبل أن نتحدّث عن دور الصدوق في هذا الميدان، لا بد أن نقف أوّلاً عند هذه المدرسة، لننتقل بعدها إلى الشخصية المدروسة، بعدّها مكملة لجهود الشيخ الكليني، على الرغم من اختلاف ظروف الشخصين والمدرستين.
أوّلاً : مدرسة قمّ الحديثية:
1 - ثبت في كتاب البلدان أن قمّ
مدينة افتتحها أبو موسى الاشعري سنة 23ه-/643م، ومصرّها طلحة بن الاخوص الاشعري في ايام الحجاج سنة 83ه-/702م، وصف اهلها بأنهم شيعة أمامية، والذي نقل التشيع اليها من الكوفة عبد اللّه بن سعد الاشعري(2).
2 - لقد اعتمد جلّ الذين تابعوا الأثر الاثنا عشري الذي وضع الكليني أساسه القويّ في الكافي على وفق المنطق (النقلي) ، النصّ المقدّس، والاعتماد على المأثور
ص: 235
من الحديث النبويّ الشريف وأخبار الأئمّة، ولم يجتمع الخطّ الإمامي إلى التفسير (بالرأي) إلاّ في قرون لاحقة على زمن الغيبة.
ومثل ذلك وجدناه في عصر الأئمّة(1) ماثلاً في تفسيرات:
أ . سعيد بن جبير التابعي (ت 64 ه- / 683 م).
ب . إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي (ت 127 ه- / 744 م).
ج . جابر بن يزيد الجعفي (ت 127 ه- / 744 م)، وغيرهم. فما توجّهات هذه المدرسة؟
عند العودة إلى اتّجاهات مدرسة قمّ الحديثية، نجد التوجّه المحافظ على تتبّع أثر الأئمّة، من قبل رجال هذه المدرسة، ولاسيما في حقبة الغيبة الصغرى وعصر الشيخ الكليني، حتّى عُدّ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار الأعرج (ت 290 ه- / 919 م) هو المؤّس الحقيقي لفقه الإمامية في إيران عموماً، وفي قمّ على وجه الخصوص، وكتابه بصائر الدرجات في علوم آل محمّد خير دليل على منهج مدرسة قمّ ؛ لأنّه ينطوي على مجموعة للحديث ربّما سبق بها الكليني في الكافي(2).
عُدتّ مدرسة قمّ بمثابة المركز السلفي العامّ في الفكر الاثني عشري في هذه الفترة بعد أن وصلت بنشاط رجالها إلى الذروة، وهم يمثّلون نقاء العقيدة المستمدّة من نبعها الصافي الرقراق، رافضين الأفكار المتأخّرة، كالغلوّ والغلاة، حتّى ذكر لنا النجاشي في رجاله جملة مَن طردهم القمّيون من قمّ لغلوّهم(3).
إلى جانب تنويهنا في الصفحات السابقة عن موقف القمّيين من الحلاّج ودعاواه في سفارته للمهدي عليه السلام (4)، وكان موقف المدرسة في مسألة نفي السهو على
ص: 236
النبيّ صلى الله عليه و آله (1) معروفاً من القائلين به.
وبعد تعداد كتب الرجال لعشرات من القمّيين نقف عند أشهرهم ممّن شكّل مورداً للصدوق:
1 - أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار الأعرج (السابق) الذي عدّ المؤّس الحقيقي - كما قلنا - وأكثر من ذلك، فلقد زار العراق، ولقيّ السفراء، والشيخ الكليني وسواهما(2).
2 - شيخ الطائفة بقمّ؛ أبو الحسن علي بن الحسن بن بابويه القمّي (ت 329 ه- / 940 م) والد الصدوق، الذي عُدّ أوّل من ابتكر طرح الأسانيد عن الأخبار، وجمع بين النظائر وأتى بالخبر مع قرينته، ولا سيّما في رسالته إلى ابنه الصدوق (ت 381 ه- / 991 م).
وجميع من تأخّر عنه، يحمد طريقته بها، ويعوّل عليها في مسائل لا يجد النصّ عليها؛ لثقته وأمانته، وموضوعيته في الدين والعلم(3).
كما اجتمع ابن بابويه في العراق مع السفير الثالث، أبي القاسم الحسين بن روح، وسأله مسائل ثمّ كاتبه بعد ذلك على يد علي بن جعفر المتوفّى سنة تناثر النجوم(4).
ولتلك الصلة أهمّية كبيرة لمن يتّبع سلاسل الاتّصال المعرفي بين مدرسة قمّ الحديثية، ومدرستي بغداد والكوفة، مع مركز الإشعاع العلمي المنطلق من (سامراء) بواسطة ثقاة عدول، حافظوا على العلاقة بين الإمام الثاني عشر في غيبته الصغرى، ورجال الإمامية الاثني عشرية، حتّى فاضت بهم كتب المؤرّخين والرجاليين والمتكلّمين(5).
ص: 237
ثانياً : الشيخ الصدوق (381 ه- / 991 م) شيخ الطائفة(1) في خراسان، ورد بغداد سنة 355 ه- / 965 م.
وكان له فضل التأثير في توجيه سياسة البويهيين حين صحب ركن الدولة بن بويه الذي استعان بتعاليمه في الإمامة على تدبير السياسة(2)، ولعلّه ذات الدور الذي سوف يمارسه العلاّمة الحلّي في البلاط الإيلخاني بعد أربعة قرون مع خدابنده(3)، ويقاربه دور الشيخ علي بن العالي الكركي، زمن طهماسب الصفوي بعد خمسة قرون(4).
وصفته الكتب الرجالية، بأنّه كان بصيراً بالأخبار، ناقداً لها، عالماً بالرجال(5).
كان رئيساً للمحدّثين، الذين زاد عددهم في زمن أبيه (المتوفّى عام 329 ه- / 940 م)، وفي مدينة قمّ بالذات، عن مئتي ألف محدّث، حتّى استفاد من علمه كلّ من لا يحضره الفقيه(6).
امتدحه المحافظون اللاحقون؛ لالتزامه بالأثر، ولا سيّما ابن طاووس(7) ومحمّد أمين الإسترآبادي، الذي نقل عن مقدّمة كتاب من لا يحضره الفقيه ما يلي :
هو على غرار من لا يحضره الطبيب لمحمّد بن زكريا الرازي وهو في الفقه والحلال
والحرام والشرائع والاحكام .
وأردف قائلاً :
ص: 238
وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل واليها المرجع(1).
فنحن نتكلّم إذاً عن الصدوق الذي أنجز المرجع الثاني للاثني عشرية السلفية (كتاب من لا يحضره الفقيه)، لضرورات أملتها عليه طبيعة المرحلة اللاحقة لانقضاء فترة الغيبة الصغرى، وفي أجواء سياسية إيجابية، ولا سيّما زمن الوزير البويهي ركن الدولة(2).
إنّ منهجية كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق الذي أكمل مشروع الكليني المحافظ ممّا دفع بالسيّد نعمة اللّه الجزائري (ت 1112 ه- / 1700 م) إلى القول :
إنّ الكليني والصدوق، صرّحا بصحّة ما أودعاه في كتابيهما من الأخبار (المعصومية)، وذلك أنّ الصحيح عند القدماء ما ثبتت صحّته وأفاد العلم(3).
وإن علّق على كتابه هذا الشيخ مفلح بن الحسن الصيمري (ت 933 ه- / 1526 م) بتأليف سمّاه : التنبيه على غرائب من لا يحضره الفقيه(4)، ولاسيّما فيما يتعلّق بالإسهاء(5) على النبي صلى الله عليه و آله ، فلقد كان الصدوق حرباً على الغلاة ممّن حاول رفع الأئمّة عليهم السلام فوق إنسانيتهم الكاملة(6)، لذلك جعل النصوص التي تتحدّث عن ذلك السهو، إسهاء من اللّه للنبيّ صلى الله عليه و آله (7)، وإن صوّب له كلّ من الشيخ المفيد والشريف المرتضى(8) وصولاً إلى
ص: 239
الشيخ الطوسي (ت 460 ه- / 1067 ه) الذي اكتملت بكتابيه، التهذيب والاستبصار الكتب الأربعة للاثني عشرية في الأخبار المعصومية.
إنّ سلفية الصدوق - التي هي حلقة في سلسلة - الفكر الاثني عشري، كشفت عن نفسها في التمسّك بالظاهر من النصوص ممّا لا يستبعد معه بحث هذا المفكّر لإشكالية الآيات التي تتحدّث في ظاهرها عن صغائر. نعم، فالصدوق يقول بجواز الصغيرة على الأنبياء، في ضوء تأويل ظاهر القرآن، وبخاصّة مايتعلّق منها بعصمة آدم عليه السلام التي كانت (صغيرته) في الجنّة، قبل النبوّة على الأرض، قائلاً :
وكان ذلك من آدم قبل النبوّة، ولم يكن ذلك بذنبٍ كبير يستحقّ به دخول النار، وإنّما كان من الصغائر الموهوبه التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمّا اجتباه اللّه وجعله نبيّاً كان معصوماً، لا بذنب صغيرة ولا كبيرة(1).
وليس ذلك بجديد على الفكر الاثني عشري المحافظ، فلقد تحدّث قبل الصدوق الكليني، لكنّ الصدوق حاول في هذا المبحث الاعتماد على أخبار الرضا عليه السلام لصرف
الكثير من الآيات عن ظاهرها الذي يدلّ على وقوع (معصية صغيرة) إلى حيث التنزيه، الذي يمرّ من النبوّة إلى الولاية نقول : إنّ موقف الصدوق هذا وقبله إشارة الكليني حول النظر إلى ظاهر الآيات المخصوصة بهذا الموضوع، لم يمرّ دون نقد من قبل الاتّجاه الاجتهادي (العقلي) تحت دعاوى أنّ الصدوق قد عوّل على أخبار آحاد أو أخبار غير موثوقة(2)، بخلاف ما دأب عليه سلفية الاثني عشرية من الوثوق بما ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه(3) فالصدوق من قدماء الأخبارية علماً ومنهجاً، كما كان الكليني من قبل(4)، ما دام مصدره يعود إلى النبوّة . «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ
ص: 240
يُوحَى»(1)، وبذلك استقامت المسيرة المعصومية للفكر الاثني عشري على هاتين الركيزتين، ممثّلة بكتابيهما إلى جانب الكتب اللاحقة، فهل هناك ثمّة فضل للكليني بعد أحد عشر قرناً أكثر من ذلك؟
تلك سياحة فكرية ذات ثوابت جغرافية وتاريخية وعقيدية، معروفة الزمان والأشخاص والأدوار، وقعت لشخصيّتين كبيرتين، في مسيرة الفكر الاثني عشري، وأقصد بهما الكليني والصدوق، في حقبة هي الأخطر بين جميع الحقب؛ لتعلّقها بما قبل الغيبة وما بعدها، وما انبنى على هذه الغيبة من تداعيات سياسية وكلامية وفلسفية، رافقت الفكر الاثنا عشري بخاصّة، والفكر الإسلامي بعامّة، والفكر الإنساني بوجهٍ أعمّ، وما زالت وسوف تبقى إلى ما شاء اللّه، وأعني بها مسألة (الولاية) التي ستصاحب الناس إلى حين يأذن اللّه بأمره ليعيد الحقّ إلى نصابه ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
هذا هو ملخّص المشروع العقيدي والفلسفي الذي ندب له السلف الاثنا عشري، الذي كان حلقة وصل بين الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم، وبين عصر الأئمّة والعصور اللاحقة!
فهل هناك أهمّية في الأدوار كتلك التي اطّلع بها رجال الاثني عشرية في الكوفة وبغداد وقم وسواها من المراكز الاثني عشرية، تكمل مسيرة الفكر الإمامي في دولة طبرستان العلوية، وزيدية اليمن، وفاطمية الشمال الأفريقي، ومصر، وصولاً إلى الانفتاح السياسي في بغداد في ظلّ ركن الدولة البويهي، إنّه جهد مشترك تجمع عليه العقلية الإمامية لتختزل في الخطّ الاثني عشري (المعتدل)، وها نحن نستذكره بعد أحد عشر قرناً على وفاة الكليني وعلى حافّاته وفاة ابن بابويه القمّي وولده الصدوق، فعسانا وفّقنا في مشروعنا هذا، ومن اللّه التوفيق والسداد.
ص: 241
ص: 242
لا يختلف اثنان في أنّ الإنسان خُلق كائنا مفكّرا عاقلاً يتطلّع إلى اكتشاف المجهول النوعي والمجهول الشخصي بدوافع غريزية فطرية ، حتّى تحوّل توصيف جهده الاكتشافي من تطلّع فطري إلى واجب ديني أو واجب فلسفي ، عند الكثير من المذاهب الاجتماعية الكبرى والأديان السماوية العظمى .
ولقد نشأت من جراء هذا التوافر الفطري والفكري والقانوني نظرية فكرية تعنى بالمعرفة من حيث ضرورتها وغائياتها ومرجعياتها ومسالكها وقضاياها ، وتعدّ نظرية المعرفة من بين القضايا الأكثر حيوية في الفكر الإسلامي ، ولا نبالغ أذا قلنا إنّها قسيم العلوم الأساسية كالكلام والفلسفة ، وإنّ أيّ نقاش فكرى لن يكون ذا قيمة ما لم تحسم المعرفة الإنسانية منحاها واتّجاهاتها وقيمها ، وهي أبرز أركان نظرية المعرفة عامّة .
ورغم أهمّية مثل هذه التوصيفات ، لم تجد نظرية المعرفة عناية فائقة ومستقلّة قي أبحاثنا الإسلامية بعامّة ، وفي الأبحاث الحديثية بخاصّة ، لجهة أنّ علم الرواية ينأي بنفسه عن العلوم العقلية والفلسفية .
ص: 243
والحقّ أنّ المعين الذي تستقي منه الإلهيّات والفلسفة والحكمة وعلم الكلام الإسلامي قديمه وجديده ، هو إشراقات النصّ المعجز (القرآن الكريم) ، وتجلّيات الحديث النبويّ ، والرواية عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، كما أنّ هذه الأُصول المطهّرة تقع أساساً للتفكير العلمي عند المسلمين .
لذلك صار من الضروري طرح نظرية المعرفة في الفكر الإسلامي ، ولكن من منابعها الرئيسة ، وهي القرآن ومرويات الأئمّة ، التي يعدّ ثقة الإسلام الكليني من أوائل من جمعها وبوّبها وصنّفها طبقا لمعيار موضوعي ، ولأنّ فكر الشيعة الإمامية مستند إلى ما صدر عن الإئمّة من آل البيت عليهم السلام ، فإنّه يعبّر عن مقاربة أكثر يقينية عن رؤية الإسلام كمنظومة فكرية كبرى .
لذلك صار إمكان التعرّف على نظرية المعرفة من خلال مرويات الكليني هي هدف هذا البحث وفرضيته العامّة .
ومن الواضح أنّ العلاقة بين الدين والمعرفة علاقة جدلية ، فالدين الصحيح هو الذي ترجّحه أدوات المعرفة اليقينية من بين الأديان الكبرى في العالم ، فالتقليد في الأُصول الاعتقادية إحدى عيوب التديّن ، وهذه إحدى أبرز قواعد المنطق الديني بل المنطق الفكري بعامّة .
هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى فإنّه حينما يُراد من الدين أن يحقّق للناس تنمية حضارية ، فسيتحوّل الدين إلى دافع لاتّساع المعرفة ، فهو يترجّح من خلال المعرفة ، وهو في ذات الوقت يؤسّس لمعرفة ، إلى جانب أنّ لكلّ دين رؤية كونية ، ومعيناً للإجابة عن الأسئلة الأزلية ، فلا بدّ للدين من أن يجيب عن تساؤلات الإنسان الاُولى والبديهية ، وينقل العقل الإنساني من المجهول إلى المعلوم ، لا سيّما في قضايا أو مضامين تلك الأسئلة الأساسية عن الوجود والموجد ، والغاية من الوجود ، ودور الإنسان ومدى حرّيته في الفعل الكوني ، وحجم مسؤوليته إزاء أفعاله ، وصلته بالطبيعة ، والدور التاريخي له ، ومعنى الزمن الذي يمارسه .
ص: 244
لقد عرّف الدارسون - على كثرتهم - المعرفة تعريفات كثيرة ، أبرزها : «إنّ المعرفة : ثمرة التقابل بين ذاتٍ مدركة وموضوع مدرك» ، وتطلق نظرية المعرفة (egdelwonk fo yroeht) على البحث في إمكان تحصيل المعرفة البشرية ، ومصادر المعرفة ، والطرق الموصلة إليها ، والغاية منها .
ويعدّ موضوع المعرفة قديما قدم الفكر البشري ، فقد نُقل عن أفلاطون أنّ المعرفة : «هي اعتقاد صادق مسوغ» ، أي أنّ له ما يسوغه أو يقوم عليه برهان(1) .
وقد ظهر موضوع المعرفة عند الفلاسفة المسلمين ومتكلّميهم(2) ، وانتقل إلى مفكّري الغرب ، فكان جون لوك(1690 م) يعالجه في مبحث الفهم الإنساني في كتابه مقالة في التفكيرالإنساني(3) ، ورَبَطه «كانت» (1724 - 1804) بالوجود ، لعبارته المشهورة: «أنا أُفكّر ، إذن أنا موجود»(4) .
وإزاء البحث في إمكان الحصول على المعرفة ، نواجه مشكلة الشكّ وضرورة التفريق بين المعرفة الأوّلية (قبل التجربة) ، والمعرفة المكتسبة أي المعرفة البعدية .
وتُدرس الشروط التي تجعل الأحكام على الأشياء والأفكار ممكنة ، وتسوغ وصفها بالصدق ، كما تُبحث في الأدوات التي تمكّن من العلم وتحدّد مسالك المعرفة ومنابعها .
وقد ظهر متأخّرا مصطلح الابستمولوجيا(ygolometsipe) ، ويترجم حرفياً نظرية العلم أو فلسفة العلوم ، كما يقول «لالاند» ، أي الدراسة النقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها(5) .
ص: 245
ومنذ القدم انقسم المفكّرون إلى أصحاب النزعة التوكيدية الذاهبين إلى أنّ العقل يمكن أن يوصل إلى اليقين ، وأصحاب النزعة الشكلية الذين يشكّون في إمكان تحصيل الحقيقة العلمية ، وقد حوّل المتأخّرون الشكّ إلى منهج ، وهو (خطوة على طريق البحث عن المعرفة الصحيحة) .
وانقسموا من حيثية ثانية إلى أربعة شرائح : العقليّون الذاهبون إلى أنّ العقل يستقلّ بالإدراك دون مقدّمات تجريبية ، وتجريبيون ذاهبون إلى أنّ الخبرة الحسّية هي مصدر المعرفة ، وحدسيون قائلون بوجود ملكة أُخرى للمعرفة (التجربة الوجدانية) سمّوها الحدس (noitiutni) ، وبرجماتيون (msitamgarp) يذهبون إلى أنّ صحّة الفكر تعتمد على ما يؤدّي إليه من نتائج عملية ناجحة .
ممّا تقدّم يتبيّن أنّنا نريد أن نحدّد ملامح نظرية المعرفة بالاستناد إلى مرجعية معيارية مخزونة في كتاب الكافي لثقة الإسلام الكليني ، التي تنقل الرواية عن آل البيت عليهم السلام ، ليصحّ القول إنّها نظرية المعرفة عند الإمامية .
إذا كان البخاري قد افتتح جامعه بحديث : «إنّما الأعمال بالنيّات» ، فإنّ الكليني ابتدأ كتابه بحديث (خلق العقل) ، فقد روى عن الباقر عليهم السلام إنّ العقل هو المخاطب بالتكاليف، وعليه المدار في الجزاء، وجاء فيه :
أمَا إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وإياك أُعاقب وإياك أُثيب(1) .
وعن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الإمام الباقر عليهم السلام ، قال :
إنّما يُداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا(2) .
ص: 246
وطبقاً لنصّ حديث الأصبغ بن نباتة: «إنّ الحياء والدين أُمِرا أن يكونا مع العقل»(1)، بما يؤسّس إلى أنّ النظم المعرفية الأخلاقية الكشفية أو المعرفة عن طريق الوحي ، لا يتضادّان مع العقل المجرّد(2) ، وتصحّ مرويات الكافي:
إنّ اللّه لم يبعث نبيّا ولا رسولاً حتّى يستكمل رجحان العقل ، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أُمّته(3) .
ومنه نعلم أنّ أُنموذج المعلّم أو الحكيم الملهم أو العقل المدبّر، مفاهيم تصلح مقدّمات تأسيسية لمصطلح العصمة في الفكر الديني للأنبياء ، وربّما الأساس الفلسفي لمفهوم العصمة عند الشيعة الإمامية ، أي أنّها استكمال المقدرة دائما على فعل الأصلح.
ومن هنا ، يمكن استخلاص هذا الجزء من نظرية المعرفة، وأبرزها :
1 - لا تقاطع فعلي بين العقل والحدس والوحي ، فهي طرق موصلة إلى العلم ، سواء في مجال الظنّ المعتبر أو اليقين القطعي .
2 - إنّ إقرار العقل كمقدّمة للاعتقاد واعتباره مناطاً للتكليف (المسؤولية - الحرّية) ، يعطيه رتبة متقدّمة على المسائل الأُخرى .
3 - إنّ كمال العقل تفسير مقبول لماهية العصمة ، وهو المؤهِّل الربّاني للقادة الإلهيّين بما يجعلهم القادرين على اكتشاف الأصلح دائما وفعله ، واعتبار ذلك مقدّمة للمعرفة لطريقة اتّباع الأُنموذج .
ومن المهمّ جدّا أن نشير إلى أنّ حديث الإمام الكاظم عليه السلام فيما يرويه هشام بن الحكم وحده، يصلح إذا قمنا بتحليل مضمونه الفكري، ويعدّ المُسوّغ الروائي في تفضيل الرؤية الإسلامية للعقل. فهو من جهة يقرّر الحقائق ويستند إلى آيات الكتاب
ص: 247
العزيز ، ويجعل البرهان والبيان والوجدان ثلاثة مسالك للوصول إلى الحقيقة(1)، فهو عليه السلام يقول :
يا هشام، إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ، ونصر النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلّة(2) .
ثمّ ساق معها الإمام عليه السلام الآيتين 163 و 164 من سورة البقرة ، وقد جعل الإمام عليه السلام العقل بمصاف الرسل، فجعله الحجّة الباطنة ، أي قسيم الحجّة الظاهرة وهي الأنبياء والرسل والمعجزات .
من أوائل ما يطرحه العقل من أسئلة أساسية : هل المعرفة متاحة؟ وهل بإمكان العقل البشري حيازة المعرفة ؟ وهل يمكن فهم التحوّلات من المجهول إلى المعلوم . . . ؟ هذه المباحث يجمعها عنوان (إمكان المعرفة) .
بدءا لابدّ من التفريق بين الإمكان الكلّي والإمكان النسبي ، فالإمكان الكلّي ؛ أي التصوّر بأنّ الإنسان بإمكانه أن يحيط بالعلم بما يمكنه التوصّل إلى الحقيقية المطلقة .
والإمكان النسبي ؛ هو قدرة الإنسان على إدراك ما يمكن إدراكه بحسب القدرات والمستوى المتاح من المعرفة مع اعتبار قيد الزمان والمكان ، وبالعبور السريع على هذا الخلاف - لعدم حاجة البحث له - نقول : إنّ الإمكان بالمعنى الأعمّ هو رأي العلماء جميعا .
فطالما أنّ المعرفة ممكنة ، فهل الإنسان المسلم مخيّر بين اكتسابها ، أو عدم اكتساب المعرفة من جهة الحكم التكليفي ؟ وبالمتابعة نجد أنّ موقف الإسلام ، بل موقف مذهب أهل البيت عليهم السلام ، أنّ العلم فرض ، والفرض إمّا فرض اجتماعي (يأخذ
ص: 248
صفة كفائية) ، أو فرض على الأفراد بحيث الكلّ مطالبون باكتساب المعرفة ، (بما يُعرف بالوجوب العيني) ، ومن اعتبار قاعدة أن «لا تكليف إلاّ بمستطاع» ، فإنّ مجرّد التكليف يقتضي القول بأنّ المعرفة متاحة ، وأنّ العقل البشري يمكنه حيازتها وفهم تحوّلاتها .
فالإمام الصادق عليه السلام يروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(1) ، وعنه عليه السلام : «طلب العلم فريضة» ، والحديثان ليس فيهما دلالة على الوجوب الكفائي ، بل الدلالة ناطقة بالأعمّ ، لكن بالاستعانة بما رواه يونس بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه أنّ الإمام الكاظم عليه السلام سُئل : «هل يَسَع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه ؟ قال عليه السلام : لا » ، فإنّ ذلك يكشف وجوب المتابعة، بل وجوب المقدّمة تبعاً لذيّها .
إذن، فعدم السعة (الحظر) يرد على الإعراض عن معرفة نحتاجها أفرادا ، أو مجتمعات، فلابدّ من اكتسابها ، لذلك يمكن القول إنّ ما يحتاجه الفرد من أحكام فقهية وأحكام التعاملات الخاصّة بمهنته وأحكام العلاقة بينه وبين الدولة حقوقه وواجباته، كلّها في دائرة الفرض على أضيق نطاق ، ولأجله حكم الفقهاء أنّ ما يلزم أن يُعرف من فقه التكليف يعدّ من جنس الواجب .
وقد ألحقت به قضية التفقّه بالدين ، لتضيّق النطاق (نطاق طلب المعرفة) من مجال المعرفة العامّة إلى المعرفة الدينية بالمعنى الأخصّ ، والدليل على ذلك أنّ الرواية ربطت بين العلم وبين استخدام العلم، بحيث اعتُبر جهله مضرّا وعلمه نافعا(2)، فيرد الحديث :
إنّ العلم آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سُنّة قائمة ، وما خلاهنّ فهو فضل .
ولعلّك تفهم من مصطلح «آية محكمة» بناءً على أنّ لفظ آية يرد بمعنى البرهان
ص: 249
والدليل ويراد به (القوانين التكوينية)، ويُفهم من «فريضة عادلة» مجموعة الأحكام القانونية المنظّمة للحياة الاجتماعية ، ويُفهم من «سنّة قائمة» أي المندوبات التحسينية التي تيسّر الحياة، فإنّ هذه المتطلّبات الثلاثة هي نقطة الشروع فيما يجب أن يعرف ، ولأجل الوصول إلى المعرفة فإنّ حثّ الرواية على السؤال كاشف عن أنّ المقدّمة تأخذ حكم ما بعدها، فقد قال أبو عبد اللّه عليه السلام لحمران بن أعين : «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون»(1)، ثمّ يؤسّس بقوله : «لا يسع الناس حتّى يسألو»(2) درءاً للهلاك .
وتجد في خزانة الحكمة (المرويات عن أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) أخبارا أنّ اللّه تعالى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم(3) . وهذا تكليف للعلماء ؛ لقوله عليه السلام «زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه . . .» .
ممّا تقدّم يتقرّر :
1 - إنّ المعرفة في الأصل التكويني الفطري فرصة متاحة للإنسان من حيث ماهية المعرفة ، ومن حيث القابلية البشرية على حيازة المعرفة .
2 - إنّ المعرفة نسبية بالقدر الذي تحقّقه الاستطاعة الإنسانية ، فيما عدا المعصوم عند الشيعة الإمامية .
3 - إنّ العالِم مكلّف بنشر علمه ، واستخدامه للتقدّم الإنساني .
4 - إنّ الإنسان مكلّف بأن يتعلّم الحدّ الأدنى ممّا يحتاجه من العلم ، ومعيار (الحاجة) معيار حركي نامي، ويتّسع باتّساع الحاجة .
5 - إنّ النصوص تربط العلم بالمصلحة (النفع - الضرر) ، ولأنّ الحياة الإنسانية مرتبطة تمام الارتباط بالمصالح (النفع) والمفاسد (الضرر)، فإنّ المعرفة للحياة ضرورية ضرورة قصوى، وذات صلة جوهرية بوجود الإنسان . فضلاً عمّا يلحق
ص: 250
بالوجود الإنساني من أفكار وسلوكيات ، وحاجيات وتحسينات .
في الحديث عن غاية المعرفة هناك مسالك واتّجاهات ، منها : الغاية الذاتية على مسلك المعرفة لأجل المعرفة ، الغاية المثالية ، الغاية التعدّدية الخالصة ، الغاية البرجماتية .
فما هي الغاية في فكر الشيعة الإمامية ؟
تهدف المعرفة في التصوّر الإسلامي (خطّ أهل البيت عليهم السلام) إلى تحقيق نوعين من الغايات ، الغايات الوسائلية ، والغاية النهائية .
فالغايات الوسائلية هي :
1 - إنّ المعرفة إحدى أهمّ الخصائص التي تسهم في تكامل الإنسان ، وبذلك تحقّق أحد أهداف الشريعة (الوحي) الذي يهدف إلى أن يرتفع بالإنسان من المستويات الأدنى إلى مستوى التكامل .
يقول الإمام الكاظم عليه السلام :
يا هشام ، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابةً أحسنهم معرفةً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً(1) .
2 - إنّ الإسلام رسم العلاقة بين الإنسان المستخلف في الأرض وبين الطبيعة على أنّها علاقة تضامن وتكامل ، فاللّه تعالى سخّر الطبيعة وأوجد ممكناتها لصالح الإنسان ، وهو عزّ وجلّ زوّد الإنسان بقوّة العمل وبالمعرفة ، للتعامل من خلالهما مع الطبيعة لخلق مستلزمات الحياة الكريمة التي تؤدّى فيها عبادة اللّه أداءً ميسّرا .
فقد روى الصادق عن جدّه أمير المؤمنين عليهماالسلام :
إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به(2) .
ص: 251
أمّا الغاية النهائية ؛ فمن غاية كمال الإنسان وسموّ المرتبة التي يصل إليها وفق حياة كريمة يعيشها، يتحقّق مفهوم عبادة اللّه، وهي غاية الخلق ونهاية مقاصد الخليقة والتكوين؛ لقوله تعالى : «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) .
بينما غاية المعرفة في التصوّر الغربي الحديث أنّ المعرفة وسيلة لتحقيق مفهوم القوّة والغلبة ، بمعزل عن القيم الموجّهة لهذه القوّة وقهر الطبيعة، وكأنّ العلاقة الموسومة بين الإنسان والطبيعة علاقة صراع ، وتتأسّس غائيات المعرفة في الفكر الغربي على تسيّد الإنسان على الكون ، حيث تهدف إلى جعل مركزية الإنسان محورا للفعاليات الطبيعية والاجتماعية، وهذا النمط من التصوّر يسبّب مأزقا في الذات الحضارية للتصوّر الغربي .
في حين أنّ التصوّر الإسلامي يقرّر أنّ اللّه هو سيّد الكون، والإنسان خليفة ذلك السيّد الأوحد الأحد المطلق ، فالإنسان ليس سيّد الكون ، إنّما السيّد في الكون هو اللّه، والمنظومة التوحيدية تقوم على وضوح المركز القانوني لكلّ من اللّه والإنسان ، فاللّه الموحي والمفيض للمعرفة ، والإنسان هو الذي يتلقّى الوحي أو يسترشد به .
فقد روى الإمام الكاظم عن جدّه أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليهما قوله :
ما عُبِد اللّه بشيءٍ أفضل من العقل(2) .
ومنه يُستفاد أنّ استخدام العقلانية ليس في مجال ضبط المعرفيات فقط ، إنّما في عموم التعامل مع الأشياء ، والأفكار تعدّ عبادة ثمينة ونفيسة .
يعدّ هذا المفصل من أكثر مفاصل نظرية المعرفة تعقيداً ؛ ذلك لأنّ ماهية المعرفة ومسالكها تحدّدها مصادرها ومرجعياتها، فكيف نحدّد مرجعية المعرفة في التصوّر
ص: 252
الإسلامي استناداً إلى مرويات أهل البيت عليهم السلام في الكافي .
لقد تقدّم أنّ نزاعا قديما حول مراجع المعرفة ومصادرها . . . هل العقل أو الحسّ (الملاحظة والتجربة)، أم الحدس والكشف ، وقد خضع هذا النزاع لمقتضى تقدّم المناهج العلمية وتطوّر نظريات نقد المعرفة، فسلّم جمعٌ من العلماء بأنّ القدر المتيقّن من المعقولات تعمل في مجال المعرفة الأوّلية التي تسبق التجربة ، وسلّم العقليّون أنّ المعارف التي يتمّ اكتسابها عن طريق التجربة (معرفة بعدية)، وهي الأُخرى تحتاج للعقل لكي يطبّق عليها الاستقراء والقياس.
لكنّ الموقف النقدي الراجح نظرية حتمية المرجعية الواحدة للمعرفة(1) ، كما هو اختيار مرحلة قرون النهضة الأورپّية (البيكونية) التي حصرت المعرفة بالتجربة(2) ، ويرفض ما ظهر في حضارة الهند وما بنت عليه المسيحية ما سُمّي بمفهوم الاعتقاد [htiaf]، (وهو فعل أو عزم يعقد المرء النيّة على أن يقبله كشيء صادق) .
أمّا منهج العترة من آل البيت عليهم السلام في مراجع المعرفة ، فإنّهم يصرّون أنّ أوّل المرجعيات وأكثرها اتّساعا وحي اللّه تعالى للبشر، ثمّ إنارة المعصومين ، ثمّ الحجّة الباطنة (العقل) ، ولا مانع من أن تكون الملاحظة والتجريب رافدا من روافد المعرفة ، ومن نعم اللّه علينا أنّ العلم مرتبط بمعيار مهمّ، وهو ألاّ يصطدم الفكر مع حقيقة نقلية ، أو قاعدة عقلية قاطعة .
والوحي في التوصيف الإسلامي مرجعا معرفيا يتميّز عن البقية من مراجع أو مصادر المعرفة بأنّه يحتوى على إدراك الحقيقة المطلقة، أي أنّه يعلم الأشياء على حقيقتها، فإنّه «لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنم بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِى»(3)، وإنّه يقدّم معارف متنوّعة ، فهو قادر على أن يقدّم المعرفة منفردا عن كلّ المصادر . وأخيرا ، فإنّه يحوى الأخبار
ص: 253
عن الغيب أو الشهود ، وإدراك جوهر القوانين الكونية والسنن الحاكمة على الوجود برمته .
إنّنا هنا مضطرّون لإثارة قضية حصل فيها التباس تاريخي ، وهي ظهور موجة حسّية في مطلع القرن الحادي عشر الهجري على يد الإسترآبادي ، فقد قلّل من دور المنطق المعياري ، وتوقّف على مداليل الأخبار المتغيّرة بتغيّر العقل الذي يتعاطاها، فضلاً عن معايير صحّة السند ومتانة المضمون ، لكنّ الإسترآبادي يقطع بصحّتهما معاً قبل تطرّق الاحتمال إلى البحث .
إنّ اتّهام التفكير الأخباري بأنّه يتبنّى اتّجاهاً حسّياً في المعرفة، أمر يحتاج إلى وقفة ؛ ذلك لأنّهم يعتقدون أنّ الإنسان مزوّد بمعرفة إلهامية نابعة من صميمه ، ممّا نتج
عنها معرفة ذات طابع إشرافي لم تُسبق بمعرفة قبلية ، إنّها من صنع اللّه . لذلك يقول الإسترآبادي :
إنّ التصديقات الصادقة فائضة على القلوب من اللّه تعالى بلا واسطة . . .(1) .
وينتقد عدد من الباحثين ، أنّ هذا التفكير يستبطن تناقضاً، كونه قد شجب العقل من ناحية ليخلو ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلّ متمسّكاً به لإثبات الصانع(2) .
عن أبن الطيّار، عن الصادق عليه السلام ، قال :
إنّ اللّه احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم(3) .
عن محمّد بن حكيم، قال :
قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : المعرفة . . . مِن صنع مَن هي ؟ قال عليه السلام : مِن صنع اللّه ، ليس للعباد فيها شيء .
ص: 254
وإذا كان القرآن الكريم هو الوحي الموحَى والنصّ الربّاني المدوّن، فإنّ المنهج العلوي يقرّر أنّه لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله هو مبلّغه والقيّم على تأويله؛ لأنّه سيّد الراسخين في العلم ، وأنّ عليّا عليه السلام - كما روى الصادق عليه السلام - «كان قسيم القرآن»(1) .
لذلك فإنّ (القدوة العالمة المجسّدة المعصومة المطاعة التي لا تتضارب مع نصٍّ موحى أو قاعدة عقلٍ قاطعة) هي المرجعية الثانية .
قال الصادق عليه السلام :
لمّا جمَعَ اللّه لإبراهيم أن اتّخذه عبدا قبل النبوّة، ونبيّا قبل الرسالة ، ورسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وخليلاً قبل أن يجعله إماما . . . فلمّا جمع ذلك كلّه قال: «قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»(2) .(3)
وقد أوجز الإمام الباقر عليه السلام في خطابه لأبي حمزة، قال :
يا أبا حمزة، يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً . . . وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلاً(4) .
وجاء عن الصادق عليه السلام :
إنّه لا يسع الناس إلاّ معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا(5) .
وجاء عن الصادِقَين عليهماالسلام :
نحن خزنة علم اللّه ، ونحن تراجمة وحيه(6) .
فإذا تحدّدت المرجعية الأساس (كتاب اللّه وكلام العصمة) من أنّهما ميزان العلم
ص: 255
ومعيار المعرفة ، فإنّ العقل هو الوعاء الذي يتلقّى عنهما، ولا يشقى بالشكّ، فإنّ اليقين الإجمالي حاصل لا محالة، ذلك الوصف الربّاني للحقيقة بالصدق المطلق المؤيّد بالدليل الأزلي والبرهان التامّ .
لذلك يمكننا القول : إنّ مرجعيات المعرفة في التصوّر الإسلامي يكمّل بعضها، لا تنافر فيها ولا قطيعة بين أجزائها ، فهناك تكامل بين الوجود والوحي، وبين النظر والملاحظة الدقيقة التجريبية ، وبين معرفة الشهود ومعرفة الغيب ، كلّ ذلك نابع من تجلّيات مبدأ التوحيد وأثره في إدراك وحدة الحقيقة .
في حين أنّ التجربة الحضارية الاُوربية تفصل - بل تتعارض في مرجعياتها - المعرفة الدينوية مع معرفة الغيب ، والمعرفة العقلية مع الحسّية .
لقد استخدم بيكون ديكارت كلمة منهج (dohtem) بمعناها الأوّلى، أي (قواعد للسلوك تفضي بلا هوادة إلى المزيد من المعرفة)، وبذلك يكمن ثمّة تناقض بين نقد بيكون للفلسفة العقلية، وبين اعتقاده بقوّة المنهج(1) .
واستخلاصاً من الأُصول المروية في الكافي يتّضح أنّ لمرجعيات المعرفة في التصوّر الإسلامي خصيصتين :
الاُولى : إنّها مركّبة ووظيفية من جهة، وإنّ لها تراتيبة قهرية من جهة أُخرى ، فكونها مركّبة فمن الوحي (التأمّل والنظر والعقل)، ومركّبة كذلك من عدم استبعاد الإلهام والحدس والكشف، وعدم التقليل من قيمة الملاحظة والتجربة في اكتشاف
المجهول .
ومع فصل مصدر المعرفة عن حجّيتها، فالحدس والإلهام والكشف من مصادر المعرفة ، وقد عرف الصوفية مسلك الحدس في اكتشاف الحقائق، فهم يرون أنّ
ص: 256
المعرفة العقلية وإن كانت أكثر رسوخا أذا ما قورنت بالمعرفة الحسّية ، إلاّ أنّ العقل له مجالاً محدوداً لا يتجاوزه ، وبيّن دور الحدس في مدى إيضاح اختراقه لما وراء العقل .
الثانية : مرتّبة تنازلياً من حيث إنّ الوحي هو الأساس والرؤية، ومنه تنتزع مشروعية المصادر المعرفية الأُخرى، ونلحظ أنّ الإيمان بالوحي لا يتمّ إلاّ بمقدّمات عقلية ومبرهنات نظرية . . . ودليل عقلي قطعي، سواء بواسطة المعجزة ليتحقّق الإيمان بالتوحيد وأُصول الرسالة، أو بالآليات الأُخرى العقلية للتعامل مع النصّ ، ثمّ آليات عقلية لما سكت عنه النصّ ، ثمّ إنّ الإقرار بنتائج التجربة الحدسية وعدم استبعاد (الكشف)، فإنّما لما له من مؤيّدات عقلية .
عن المعلّى بن خنيس قال :
قال أبو عبد اللّه عليه السلام : ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال(1) .
ورواية الصادق عن جدّه أمير المؤمنين عليهماالسلام أنّه قال :
ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق لكم ، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينهم ، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون(2) .
ويلاحظ أنّ عشرات الأحاديث عن المعصومين أكّدت خصيصة الموافقة مع كتاب اللّه، وهي سمة من سمات الصحّة(3) .
إنّ قضية المرجعيات المركّبة من جهة ، والمترتّبة تراتبية خاصّة من جهة أُخرى ، تفكّك إشكالية يقينية المعرفة التي لا تزال دون حلّ في الغرب ، فهناك اختلاف في مدى المعرفة، فمنهم من يقول إنّ العقل يدرك المعرفة ويصل إلى اليقين، ومنهم
ص: 257
من يصرّ على أنّ المعرفة كلّها احتمالية، إلى جانب من يرى معرفة العالم مستحيلة .
وعليه ووفق التراتبية ، لا مجال لاعتماد مرجعية محدّدة أو محدودة للمعرفة في التصوّر الإسلامي .
وبذلك ندرك من جهة تاريخ الفكر عند المسلمين أنّ اعتبار أحد المصادر هو الأساس أو المسلك الرئيس ، وإغفال أهمّية ودور المصادر الأُخرى قد انتهى إلى التصدّع ، فلقد تصدّع الحدسيون الإسلاميون بالدرجة التي تصدّع المغالون في الاعتماد على العقلانية المجرّدة من تساند المسالك الأُخرى .
زخرت أحاديث الكافي بما يشكّل كتلة معرفية يكوّن مجموعها مسالك المعرفة، ومن تلك المسالك :
1 - إشاعة ثقافة السؤال والتساؤل : فبين النصّ والتساؤل مسلك للبيان . فقد ورد عن أصحاب الصادق عنه عليه السلام أنّه قال لحمران :
إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون(1) .
وورد عنه عليه السلام :
إنّ هذا العلم عليه قفل، ومفتاحه المسألة(2) .
وعنه عليه السلام قال :
لا يسع الناس حتّى يسألوا(3) .
2 - التعايش الدائم مع المعرفة ؛ وهو مسلك اعتبار هاجس المعرفة (قلق) دائم يسعى إليه الناس للاستزادة الدائمة، قال الإمام الباقر عليه السلام :
ص: 258
رحم اللّه عبدا أحيا العلم . قلت : وما إحياؤه ؟ قال عليه السلام : أن يُذاكر به(1) .
3 - تدرّج الإدراك ؛ وهو المسلك الذي يبدأ من السماع، فالاستماع، فالتفهّم، فالتدبّر . . . عن الصادق عليه السلام قال :
ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر .
وعنه عليه السلام قال :
جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : يا رسول اللّه ، ما العلم ؟ قال : الإنصات ، قال : ثمّ ؟ قال صلى الله عليه و آله : الاستماع ، قال : ثمّ ؟ قال صلى الله عليه و آله : الحفظ ، قال : ثمّ ؟ قال صلى الله عليه و آله : العمل به ، قال : ثمّ ؟ قال صلى الله عليه و آله : نشره(2) .
4 - الحوار والمحاججة : وأنموذجها حديث الإمام الكاظم عليه السلام لهشام المارّ ذكره .
5 - الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة ؛ فقد روى الزهري عن الباقر عليه السلام هذا المسلك بنصّه، وأضاف :
وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه(3) .
وعن الصادق عليه السلام قوله :
لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت .
6 - التدوين : قال الصادق عليه السلام :
اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا(4) .
7 - التدقيق في أنّ القياس على إطلاقه لا ينتج عنه علما ، عن الصادق عليه السلام :
إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بعدا ، وإن دين اللّه لا يُصاب بالمقاييس .
وعنه عليه السلام قال :
ص: 259
إنّ السنّة لا تُقاس . . . يا أبان، إنّ السنّة إذا قيست محق الدين(1) .
8 - قانون التراجح المنهجي ؛ لا بدّ من حلّ حاسم لما يتشابه من الموارد، فالنظرية المعرفية الأكثر رصانة تبني عنواناتها الأوّلية أوّلاً ، ثمّ تعالج الطارئ بعنوان معرفي منهجي ثانوي ، نطلق عليه قانون الترجيح ، فعن عمر بن حنظلة (روايته التي تُسمّى مقبولة) وضع قانون الأرجحية المكوّن من :
أ . الأخذ بما حكم به الأعدل بين الفقيهين .
ب . الأخذ بما حكم به الأعدل والأفقه .
ج . الأخذ بما حكم به الأعدل والأفقه والأصدق والأورع .
د . الأخذ بما حظي بإجماع الأصحاب، ويُترك الشاذّ الذي ليس بمشهور .
ه- . فإذا كانا مشهورين رواهما الثقات، فيُلاحظ ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة(2) .
من خلال الرواية التي في سندها علي بن إبراهيم، وسماع سفيان بن عيينة عن الصادق عليه السلام ، قال :
وجدت علم الناس كلّه في أربع : أوّلها أن تعرف ربّك ، والثاني أن تعرف ما صنع بك ، والثالث أن تعرف ما أراد منك ، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دنياك(3) .
وممّا تقدّم يظهر أنّ الرواية أعلاه تؤكّد على أنّ من أهمّ قضايا المعرفة :
1 - الإلهيّات وقضايا الوجود .
2 - معرفة خلق اللّه ؛ أي دراسة علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية .
ص: 260
3 - معرفة المنظومة الحقوقية الأرفع التي تسهم في الاحتراز من أن يقع الناس في المشكلات والنزاعات ، وتعطي ذي حقّ حقّه .
4 - معرفة (الضارّ التكويني) والاجتماعي في العلوم الصرفة والإنسانية .
ممّا تقدّم يظهر أنّ مرويات الكليني في الكافي يمكن أن يُصاغ منها نظرية متقدّمة للمعرفة الإنسانية ، قابلة لكي تُعرض بوصفها (النظرية الإسلامية للمعرفة) .
ولعلّ هذا البحث يشكّل منطلقاً أوّلياً ، قد يفتح آفاقاً للاستزادة والاستقصاء لتكوين رؤية الإسلام الشيعي للمعرفة ، كإحدى أبرز قضايا الحوار في العالم المعاصر .
ص: 261
ص: 262
القرآن الكريم كما تصوّره
روايات أُصول الكافي
الشيخ محمّد علي التسخيري(1)
تتكوّن الشخصية الإنسانية من منظومة عقدية وتركيبة نفسية عاطفية، تؤدّي عند تصاعدها إلى تكوين إرادة وعزم يحرّك السلوك الواعي المحقّق للهدف .
ويعمل الإسلام بمقتضى واقعيته وفطريته على الاهتمام بكلّ هذه الأبعاد؛ ليضمن انسجام الإنسان مع السيرة الّتي تحقّق له أهداف خلقته كما أرادها اللّه سبحانه لها .
وهذا هو ما نشهده في النصوص القرآنية الكريمة والسنّة النبويّة الشريفة ، يقول الإمام عليه السلام :
العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء(2) .
ولمّا كانت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إنّما تعبّر عن القرآن والسنّة النبويّة أروع تعبير - كما يبدو من استعراضها أوّلاً ، ومن تأكيدهم بكلّ وضوح في أحاديثهم الثابتة عن ذلك(3) ثانياً - فإنّنا نجدهم عليهم السلام يركّزون على تلك الأبعاد وصياغتها الصياغة المطلوبة . وقد اخترنا أن نركّز في مقالنا على كتاب الكافي؛ باعتباره من أقدم المصادر
ص: 263
الحديثية، إذ يعود تأليفه إلى القرن الرابع الهجري ، ومن أهمّها لدى الإماميّة؛ لما يشتمل عليه من روايات كثيرة هي محطّ اهتمامهم واعتمادهم .
ورغم أنّا لا نؤمن بصحّة كلّ ما رواه المرحوم الكليني قدس سره، فإنّنا سنفترض هنا الاعتماد على هذه الروايات؛ لأنّه قدس سره صرّح في مقدّمته بأنّه نقلها عمّن يثق بعلمه استجابةً للسائل ، وإن كان ذكر بعضها في النوادر ، وأكّد على لزوم الأخذ بالمجمع عليه دون الشاذّ النادر ، كما جاء في الرواية . وسنشير في الخاتمة إلى هذا الأمر ، ونحن بصدد الوصول إلى الصورة الّتي تتكوّن من اتّباع هذه الروايات عن القرآن الكريم في خلد المسلم العامل به .
ولعلّ أهمّ ما في أُصول الكافي مشيراً إلى هذه الصورة، جاء في بابين، هما :
1 - باب الدعاء ، وبالخصوص الدعاء عند قراءة القرآن وحفظه(1) .
2 - باب فضل القرآن(2) .
فهما إذن محطّ إشارتنا . وسنشير هنا وفق ثلاثة خطوط كما يلي :
وهنا تركّز الروايات أروع صورة عقدية خالصة عن أُصول العقيدة، وأهمّها التوحيد ، وما يتبعه من تصوّر للصفات الإلهيّة ، فتؤكّد أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يدعو عند قراءة كتاب اللّه عزّ وجلّ قائلاً :
اللّهمّ ربّنا لك الحمد ، أنت المتوحّد بالقدرة والسلطان المتين ، ولك الحمد أنت المتعالي بالعزّ والكبرياء ، وفوق السماوات والعرش العظيم ، ربّنا ولك الحمد يا منزل الآيات والذكر العظيم ، ربّنا فلك الحمد بما علّمتنا من الحكمة والقرآن العظيم المبين . اللّهمّ أنت علّمتناه قبل رغبتنا في تعليمه ، واختصصتنا به قبل رغبتنا بنفعه .
ص: 264
اللّهمّ فإذا كان ذلك منّاً منك وفضلاً وجوداً ولطفاً بنا ورحمةً لنا وامتناناً علينا من غير حولنا ولا حيلتنا ولا قوّتنا . اللّهمّ فحبّب إلينا حسن تلاوته ، وحفظ آياته ، وإيماناً بمتشابهه ، وعملاً بمحكمه ، وسبباً في تأويله ، وهدىً في تدبيره، وبصيرةً بنوره . اللّهمّ وكما أنزلته شفاءً لأوليائك ، وشقاءً على أعدائك ، وعمىً على أهل معصيتك ، ونوراً لأهل طاعتك ، اللّهمّ فاجعله لنا حصناً من عذابك ، وحرزاً من غضبك ، وحاجزاً عن معصيتك ، وعصمةً من سخطك ، ودليلاً على طاعتك ، ونوراً يوم نلقاك نستضيء به في خلقك ، ونجوز به على صراطك ، ونهتدي به إلى جنّتك(1) .
وواضح التركيز العقائدي على :
التوحيد بمعانيه ، والصفات الإلهيّة الحسنى ، من: الحياة، والقدرة، والعلم والغنى، والحكمة، واللطف، والرحمة وغيرها ، والتركيز على الإيمان بالرسالة عبر إنزال القرآن ، وعبر التمسّك به واستمداد الهدى منه، واللجوء إليه استعداداً للآخرة، والجواز على الصراط، والتنعّم بالجنّة .
ومن هذا المنطلق العقائدي الرصين تتدفّق المعاني والتوجيهات الكثيرة، ومنها :
1 - إنّ القرآن يفتح آفاق العلم والمعرفة ، حيث تأتي الاستعاذة من الشقاء في حملِهِ، والعمى عن علمه، والجور عن حكمه والعلوّ عن قصده ، والتقصير دون حقّه(2) .
ويستمرّ الدعاء على هذا النحو :
اللّهمّ اجعل لقلوبنا ذكاءً عند عجائبه الّتي لا تنقضي ، ولذاذةً عند ترديده، وعبرةً عبر ترجيعه، ونفعاً بيّناً عند استفهامه . . . اللّهمّ اجعله لنا زاداً تقوّينا به في الموقف بين يديك ، وطريقاً واضحاً نسلك به إليك ، وعلماً نافعاً نشكر به نعماءك(3) .
ص: 265
وتقول الرواية في موضعٍ آخر :
فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافعٌ مشفَّعٌ ، وماحلٌ مصدَّقٌ ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ الإنسان على خير سبيل، وهو كتابٌ فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تُحصى عجائبه ، ولا تُبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجلُ جالٍ بصرَه ، وليبلغ الصفةَ نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ، فإنّ التفكّر حياة البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص(1) .
ويقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام :
آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر فيها(2) .
2 - القرآن هو الحجّة المنجزة والمَعذرة ومعيار الحقّ .
والروايات كلّها تشعّ بهذا الأمر، منها قوله عليه السلام :
فإنّك اتّخذت به علينا حجّة قطعت به عذرنا ، واصطنعت به عندنا نعمةً قَصَر عنها شكرنا . اللّهمّ اجعله لنا شافعاً يوم اللّقاء ، وسلاحاً يوم الارتقاء ، وحجيجاً يوم القضاء(3) .
3 - وهو الصورة الأسمى للإنسان الكامل، حيث تذكر الروايات أنّ القرآن سيتمثّل بشكلٍ مجسّد يوم القيامة، فيظنّه المسلمون والشهداء والنبيّون والملائكة أنّه رجل منهم(4) .
ص: 266
4 - وهو معيار دقيق للفهم التاريخي السليم(1) ، فمن خلال ما يشير إليه من سنن يمكن اكتشاف الحقائق التاريخية .
5 - القرآن جامع لتعاليم الأنبياء، ومهيمن على الكتب السابقة(2) .
إلى ما هنالك من تصوّرات تؤكّدها النصوص .
والنصوص في هذا المورد حافلة بالمعاني متنوّعة الأساليب إلى حدٍّ معجز ، تعمّق القرآن في المشاعر ، وتربط التأثّرات بالمعاني أروع ربط، وتؤكّد على قراءته وحفظه والتفاعل مع معانيه . فلنتابع بعض هذه النصوص بكلّ تأمّل ووعي .
في دعاء الإمام الصادق عليه السلام عند قراءة القرآن، نلاحظ هذا المقطع :
اللّهمّ ارزقنا حلاوةً في تلاوته ، ونشاطاً في قيامه، ووجلاً في ترتيله ، وقوّةً في استعماله في آناء اللّيل وأطراف النهار . اللّهمّ واشفنا من النوم باليسير ، وأيقظنا في ساعة الليل من رُقاد الراقدين ، ونبّهنا عند الأحايين الّتي يُستجاب فيها الدعاء من سِنة الوَسنانين(3) .
وبعد أنواع عظيمة من القسم بأسماء اللّه، يسأل الداعي ربّه قائلاً :
أسألك أن تصلّي على محمّدٍ وآل محمّد، وأن ترزقني حفظ القرآن وأصناف العلم ، وأن تثبّتها في قلبي وسمعي وبصري ، وأن تخالط بها لحمي ودمي وعظامي ومخّي ، وتستعمل بها ليلي ونهاري، برحمتك وقدرتك(4) .
وفي دعاءٍ آخر :
وألزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتني ، وارزقني أن أتلوه على النحو الّذي يرضيك
ص: 267
عنّي . اللّهمّ نوّر بكتابك بصري ، واشرح به صدري ، وفرّح به قلبي ، وأطلق به لساني ، واستعمل به بدني(1) .
وفي الرواية، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :
تعلّموا القرآن ؛ فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللّون، فيقول له القرآن : أنا الّذي كنتُ قد أسهرتُ ليلَك وأظمأتُ هواجرَك وأجففتُ ريقَك وأسلتُ دمعتَك ، أؤول معك حيثما أُلتَ(2) .
ويقول الإمام الصادق عليه السلام :
من قرأ القرآن وهو شابٌّ مؤمنٌ ، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله اللّه عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة(3) .
ويقول عليه السلام :
ومن أُوتي القرآنَ فظنّ أنّ أحداً من الناس أُوتي أفضلَ ما أُوتي، فقد عظّم ما حقّر اللّه، وحقّر ما عظّم اللّه (4) .
وقارئ القرآن في تطوّرٍ مستمرّ، فهو حالٌّ مرتحلٌ(5) .
وحملة القرآن عُرفاء أهل الجنّة(6) .
ويأتي التأكيد على ختم القرآن وتنوير البيوت بالقرآن(7)، والحثّ على قراءته في كلّ حال(8) ، وختم القرآن في مكّة خلال أُسبوع(9)، وترتيل القرآن بصوتٍ
ص: 268
حسن(1)، ويقول الإمام الصادق عليه السلام :
إنّ القرآن لا يُقرأ هَذرَمةً، ولكن يُرتّل ترتيلاً، فإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر الجنّة، فقف عندها وسلِ اللّه عزّ وجلّ الجنّة، وإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر النار، فقف عندها وتعوّذ باللّه من النار(2) .
ثمّ يأتي ذكر فضل قراءة السور(3) .
وبطبيعة الحال يأتي تأطير كلّ السلوك بإطار القرآن، فيجعل معياراً عامّاً له وضابطاً لكلّ حركة ، فيقول الإمام في الدعاء :
اللّهمّ اجعلنا نتّبع حلاله، ونجتنب حرامه، ونقيم حدوده، ونؤدّي فرائضه(4) .
وفي مقطعٍ آخر:
اللّهمّ اجعله لنا وليّاً يثبّتنا من الزلل، ودليلاً يهدينا لصالح العمل ، وعوناً هادياً يقوّمنا من الميل، حتّى يبلغ بنا أفضل الأمل(5) .
ويقول الصادق عليه السلام :
وهو الدليل يدلّ على خير سبيل(6) .
إنّ روايات الكافي تربّي الإنسان القرآني الكامل ، تصوغ له عقيدته ومفاهيمه القرآنية، وتزكّيه وتربّيه على التخلّق بأخلاقه والتفاعل معه، كما تعطيه الإطار القرآني للسلوك،
ص: 269
فالقرآن حينئذٍ كلّ شيء في حياته ؛ يسمع به ويبصر به وينطق به .
ومع كلّ ما سبق نجد أنّ المرحوم الكليني قدس سره يعطي القرآن في كتابه أعظم المقام، ويجلّه أكبر الإجلال، ويدفع الأجيال - وخصوصاً أتباع مدرسة أهل البيت - لبناء أنفسهم وفقه وتصحيح كلّ تصوّراتهم بمعياره، والتفاعل معه كلّ التفاعل .
ومع هذا لا يبقى مجال للاستماع إلى تهمة موجّهة إليه قدس سره من أنّه شكّك في حجّيته ، أو آمن بتحريفه ، وبالتالي خرج على الإجماع الإسلامي بسلامته من التحريف، وإنّه ذكر إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنّ اللّه تعالى هو
الّذي نزّله وهو الّذي تكفّل بحفظه ، فإنّ كلّ هذه النسب لا يبقى لها مجال .
ولكن لنتعرّض إليها عرضاً ونقول الحقّ دفاعاً عن هذا العالم النحرير والمحدّث الجليل .
تعدّ نسبة القول بالتحريف لشيخنا الكليني من أخطر التهم الموجّهة إليه . وهذا الخطأ ارتكبه المرحوم الفيض الكاشاني، حيث قال :
فالظاهر من ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني - طاب ثراه - أنّه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن(1) .
الأمر الّذي أدّى إلى نتيجة أكثر خطراً، وهي (التكفير)، حيث استند الشيخ محمّد أبو زهره إلى هذه النسبة، وأقدم على تكفيره قائلاً :
ومن الغريب أنّ الّذي ادّعى هذه الدعاوي الكليني، وهو حجّة في الرواية عندهم ، وكيف تُقبل رواية من يكون على هذا الضلال ، بل على هذا الكفر المبين(2) .
والحقيقة هي أنّ المرحوم الكليني لم يصرّح بذلك أبداً ، ونقله لبعض الروايات
ص: 270
في باب «إنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة»(1)، لا يعني الإيمان بالتحريف ، ورواياته إنّما تركّز على الاختلاف في كيفية ترتيب النزول ، وجمع القرآن ، وعلم القرآن وتفسيره، وهي بعيدة عن التحريف .
وكذلك باب «النوادر في فضل القرآن»(2)، ورواياته بين مؤكّدة على حفظ الحروف وتضييع المعاني ، وبين التركيز على أنّ علمهم عليهم السلام بتفسير القرآن وعلومه أكثر من غيرهم ، وكلّ هذا لا يعني الالتزام بالتحريف .
ثمّ إنّه موسوعي ينقل الروايات الّتي يعتمد على إسنادها، ولا يعني ذلك الإيمان بكلّ مضامينها، خصوصاً وأنّه نقلها في باب «النوادر»، ممّا يجعلها مشمولة لمنهجه الواضح في رفض الشاذّ النادر، عملاً برواية: «ودع الشاذّ النادر»(3) .
الأهمّ من ذلك أنّها لا تدلّ على التحريف، وإنّما على اختلاف في تحديد الآيات ، أو على التحريف المعنوي، كما دلّت عليه رواية أُخرى نقلها المرحوم، إذ تقول :
وكان من نبذهم الكتاب أنّهم أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده(4) .
أو على الاختلاف في ترتيب الآيات، وما إلى ذلك .
أمّا (التكفير) فهو أمر تسرّع فيه الشيخ أبو زهرة ، فظلم المرحوم الكليني بذلك .
وناقش الأمر المرحوم أُستاذنا السيّد محمّد تقي الحكيم، فقال :
فرواية هذه الأحاديث في الشواذّ النوادر من كتابه ، وتعارضها مع مروياته ، ولزوم طرحها بالنسبة إلى منهجه الّذي رسمه ، وعدم التلازم بين الإيمان بالصدور - لو آمن بصدورها - وبين الإيمان بمضمونها ، كلّ ذلك ممّا يوجب القطع بطرحه لهذه الأخبار ، وإيمانه بعدم التحريف . على أنّ التحريف لو كان مذهباً له لما صحّ دعوى الشيخ كاشف الغطاء وغيره إجماع الإمامية على عدم التحريف، ومثل الكليني ممّن
ص: 271
لا يتجاهل أمره عادة(1) .
ولكنّي أعود فاؤكّد أنّه لا توجد رواية في الكافي يُستفاد منها التحريف بصراحة . وما تُوهّم منه ذلك ذكره في النوادر . فهو إذن بريء من هذه التهمة ، عامل على نشر القرآن وصياغة الإنسان صياغة قرآنية فريدة .
ص: 272
لم يسعَ هذا البحث ضمن أولوياته إلى إثبات سلامة القرآن الكريم من عامل التحريف ؛ ذلك بأنّ هذا الأمر تعهّده أصحابه من علماء الشيعة(2) ، فتارةً أفردوا لهذا الموضوع أبوابا من مصنّفاتهم في علوم القرآن ، وتارةً أُخرى ألّفوا فيه المصنّفات المتخصّصة ، فبسطوا القول فيه وبحثوا وحقّقوا ، وخرجوا بنتيجة لا تقوم على تبرئة ساحة الشيعة من التهم الملصقة بهم زورا بالقول بتحريف القرآن فحسب ؛ بل سعوا إلى تنزيه القرآن الكريم نفسه والقطع بأنّه أنزه وأكبر إعجازا من أن يتطرّق إليه التحريف ؛ لأنّه الثقل الأكبر الذي خلّفه رسول اللّه فينا مَن تمسّك به لن يضلّ أبدا .
ص: 273
فضلاً عن أنّه دستور هذه الأُمّة ومقياس تشريعها ، والفرقان بين الحقّ والباطل ، قال تعالى : «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِى لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا»(1) ، فكيف يكون المقياس محرّفا ؟! بل أنّى لعاقلٍ أن يظنّ بأنّ هذا الفرقان يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه ! وقد قال عزَّ من قال : «لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنم بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِى تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(2) ، وقد وعد اللّه - ولا يخلف اللّه وعده - بأنّه لهذا الذكر لحافظ ، فقال : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُو لَحَافِظُونَ»(3) ، ولا يخفى على القارئ الواعي لآية الحفظ - قراءةً دلاليّةً - أنّ فيها من المؤكّدات ما يوائم الدلالة المبتغاة منها ؛ إذ إنّ التعبير القرآني فيها مسوق بلفظ الجمع دون المفرد « إنّا - نحن - نزّلنا - حافظون » ، للدلالة على التفخيم والقوّة والقدرة الموجودة في الجماعة ، فضلاً عن ورود جملة وعد الحفظ بصيغة الجملة الاسمية الدالّة على الثبوت .
وتصدّر هذه الجملة القرآنية بحرف المعنى « إنّ » التوكيدية ؛ لتوكيد المسند إليه من جهة ، وتوكيد المسند وتقويته من جهةٍ أُخرى ، واقتران المسند بلام التوكيد زيادةً في توثيقه وتقويته ، فجاء موثّقا من جهتين ، فضلاً عن تقديم المتعلّق الأوّل وإظهاره « له » والمقصود به الذكر ؛ للاختصاص والقصر وإضمار المتعلّق الثاني « من التحريف والضياع والنسيان » ، فجاء المسند مقيّدا من جهة المحفوظ ، ومطلقا من جهة المحفوظ منه .
وهذا التعبير الإعجازي فيه من القوّة والتأكيد ما يدحض كلّ الشبهات أو الشكوك التي قد تطرق الأذهان في أنّ هذا النصّ المعجز يمكن أن يصيبه ما أصاب الكتب السماوية السابقة من تحريف ، وأمثال هؤلاء قد تكفّل القرآن الكريم بتوصيفهم في
قوله عز و جل : «فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُم بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ»(4) ،
ص: 274
وقال : «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقِم بَعِيدٍ»(1) .
وقد تراكمت هذه الأمراض والأوهام في هذه القلوب ، حتّى عدّوا زيفهم حقيقةً وظنّوا أنّ باطلهم حقّ ، وانحرافهم موضوعية ، وهذا نابع من تمسّكهم بثقافة مسمومة قوامها الاستبداد برأيهم وتسقيط الرأي الآخر ؛ لإبعاده عن الساحة ؛ بغية زرع الفتن الطائفية من جهة ، وفتح منفذ لأعداء هذه الأُمّة للولوج منه ونفث السموم في صحّة المعتقد من جهةٍ أُخرى ، ولكن أنّى لهم هذا! وفي هذه الأُمّة الإسلامية أعلام منصفون من كلتا الطائفتين ، يتبارون في الدفاع عنها وتحرّي الحقّ والعدالة ؛ ليعطي لكلّ ذي حقٍّ حقّه ، ويضع الأُمور في مواضعها .
وبالرغم من ذلك وُجِد هناك من اتّخذ منهجا سقيما(2) وهو يدّعي الموضوعية ، فأخذ يكيل التهم جزافا إلى علمائنا الأجلاّء ، متّخذا من القراءة السطحية للنصوص والروايات مستندا للطعن والتوهين ، فأحيانا يدلّس محرِّفا أقوال العلماء بتقطيع نصوصهم ، فيأخذ منها ما يوافق هواه تاركا ما يدحض شبهاته ، وأحيانا أُخرى يزعم ويضع عليهم أقوالاً لم يقولوا بها ألبتّة ، ولم يشيروا إليها لا تصريحا ولا تلميحا . وهذه التهم نجدهم قد وجّهوها إلى المحدّث الفقيه الشيخ الكليني صاحب كتاب الكافي ، وهو أشهر من أن نُعرِّف به .
لقد استند القائلون باتّهام الشيخ الكليني بالقول بتحريف النصّ القرآني على أُسس ثلاثة :
1 - إنّه روى روايات تنصّ على معنى التحريف والنقصان في القرآن الكريم .
2 - إنّه لم يتعرّض لهذه الروايات بالنقد لا سندا ولا متنا ، وهذا يدعو إلى القول بأنّ
ص: 275
هواه ومعتقده يتّفق وهذه الروايات .
3 - إنّه ذكر أوّل كتابه أنّه يثق بكلّ ما رواه ، وعلى هذا فهو يرى صحّة هذه الروايات القائلة بتحريف النصّ القرآني ، ما يفضي إلى القول بأنّه يتبنّى هذا المعتقد(1) .
وللوقوف على حقيقة موقف الشيخ الكليني ، ومحاولة الكشف عن صدق نسبة هذه التهم إليه ، لابدّ لنا من أن نقف عند كلّ من هذه الأدلّة فنخضعها للمناقشة ؛ بغية اقتناص الدلائل التي تدين أو تبرئ ساحته من هذه التهم التي أُشيعت وشنعت به .
ومن البديهي أنّ هناك شرائط ومقدّمات لابدّ من أن تتوافر عند صاحب المعتقد - أيّ معتقد - لاستقامة القطع بمعتقده ، وقد وضع بعض العلماء شرائط لاستقامة نسبة عقيدة التحريف عند صاحب الكتاب ، منها :
1 - تعهّد صاحب الكتاب بصحّة ما يرويه على الإطلاق تعهّدا صريحا شاملاً .
2 - ظهور تلك الأحاديث في التحريف ظهورا بيّنا ، بحيث لا يحتمل تأويلاً أو محامل أُخر ، معتمدة على أدلّة عقلية أو نقل متواتر .
3 - عدم وجود معارض لها بحيث يترجّح عليها بحسب نظر صاحب الكتاب .(2)
وسنقف عند كلّ من هذه المقدّمات ، لنرى مدى توافرها في كتاب الكافي للشيخ الكليني ، حتّى يصحّ أن يوصم بهذه الوصمة .
تقوم هذه المقدّمة على أساس أنّ الكليني تعهّد بصحّة جميع ما رواه على الإطلاق تعهّدا شاملاً ، على فرض أنّ الروايات قائلة بالتحريف بالمعنى المتنازع فيه ، وهذا ما لا يجده المتتبّع لكتاب الكافي تتبّعا موضوعيا دقيقا البتّة ؛ إذ لم يرد هناك نصّ واحد أو
ص: 276
إشارة صريحة إلى أنّه يقول بصحّة كلّ ما يرويه ، بل على خلاف ذلك نراه في مقدّمة كتابه يقول :
يا أخي - أرشدك اللّه - أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه ، إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله : اعرضوها على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه عز و جل فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه(1) .
نلمح من مقالته هذه أنّه يقرّ أن ليس بوسعه ولا غيره تمييز الصحيح من غيره إذا اختلفت رواياته عن أهل البيت عليهم السلام ، إلاّ بعرضه على كتاب اللّه ، فما وافقه يعدّ صحيحا ، وما خالفه يعدّ مردودا . فهو لم يضع شرطا لصحّة رواياته غير مقال الإمام عليه السلام ، ولم يقطع بصحّتها ، إلاّ على هذا الشرط ، لذا نراه يروي روايات عن أهل البيت عليهم السلام في هذا المعنى ، ومن ذلك ما رواه عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال :
قال رسول اللّه عليه السلام : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه(2) .
إنّ رواياته هذه دليل على القول بعدم وقوع التحريف في القرآن الكريم ، وذلك من جهتين :
الاُولى : إنّ المعروض عليه يجب أن يكون مقطوعا به ؛ لأنّه المقياس الفارق بين الحقّ والباطل ، ولا موضع للشكّ في نفس المقياس .
إذن لو عُرضت روايات التحريف على نفس ما قيل بسقوطه لتكون موافقة له ، فهذا عرض على المقياس المشكوك فيه ، وهو دور باطل ، وإن عُرضت على غيره فهي تخالفه . . . .
الجهة الثانية : إنّ العرض لابدّ أن يكون على هذا الموجود المتواتر لدى عامّة المسلمين ؛ لما ذكرناه في الجهة الاُولى من أنّ المقياس لابدّ من أن يكون مقطوعا به . . . ولا يجوز أن يكون المراد بالكتاب المعروض عليه غير هذا المتواتر الذي بين
ص: 277
أيدينا وأيدي الناس ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق، فقد ثبت وجوب عرض الأخبار على هذا الكتاب ، وأخبار النقيصة إذا عُرضت عليه كانت مخالفة له(1) .
وإذا قلنا بأنّ نقل الروايات تنمّ عن معتقد ناقلها ، فإنّنا سنجزم بأنّ الكليني من القائلين باستحالة وقوع التحريف في القرآن الكريم .
ومن جهة أُخرى نراه يقول معتذرا :
وقد يسّر اللّه - وله الحمد - تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ، فمهما كان فيه من تقصير فلم نقصر نيّتنا في إهداء النصيحة ؛ إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملّتنا(2) .
ويُفهم من كلامه هذا أنّه اجتهد ما وسعه الاجتهاد في جمع الأحاديث بمختلف أسانيدها ، وترك الأمر للمتحرّي أن يعرض هذه الأحاديث على كتاب اللّه ، ليكون فيصلاً في تمييز الصحيح من المردود .
وممّا يشفع للكليني أنّه لم يسمّ كتابه صحيحا كما سمّى جامع البخاري ومسلم ، ولم يذهب إلى ما ذهب إليه البخاري بأنّه لم يخرّج في هذا الكتاب إلاّ ما صحّ عنده(3) على حين أنّه روى روايات ضعيفة(4) ، ولم يقل أحد من علماء الشيعة إنّه : « لا يخرّج إلاّ عن الثقة من مثله في جميع الطبقات »(5) ، مع أنّه يروي عن ليث بن مسلم وغيره من الضعفاء(6) . وكذلك لم يقل فيه أحد كما قال الشافعي في حقّ الموطّأ : « أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه الموطّأ »(7) .
ص: 278
ولو سلّمنا جدلاً مع القائلين بأنّ الكليني يثقّ بكلّ ما رواه - مع ما ذكرنا من أدلّة على بطلان هذه الدعوى - على افتراض أنّه روى روايات فيها معنى التحريف والنقيصة ، فالأولى بنا أن نأخذ أصحاب الصحاح بهذه التهمة ؛ لأنّهم صرّحوا بأنّ كلّ ما رووه صحيحا على وفق شروطهم التي اشترطوها ، وهم قد رووا كثيرا من الأحاديث الضعيفة التي تقول بوجود تحريف في النصّ القرآني . وسنذكر باختصار أمثلة منها؛ تجنّبا للإطالة ، ولأنّ الباحثين قد أسهبوا بحصر هذه الروايات(1) .
فمن القول بالزيادة ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عبّاس أنّه قرأ : «وَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَ لاَ نَبِىٍّ - ولا محدّث - إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى»(2) ، بزيادة « ولا محدّث » .
ومن النقصان ما في الإتقان بسنده عن ابن مسعود أنّه قرأ : « والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والاُنثى » بحذف « وما خلق »(3) .
ومن التبديل في الألفاظ ما في مسند أحمد وصحيح الترمذي والمستدرك عن ابن مسعود أنّه قال : « أقرأني رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّي أنا الرزّاق ذو القوّة المتين »(4) .
فلو جاز أن تُكال التهم للكليني بالقول بالتحريف ، لكان من باب أولى أن يقال هذا في أصحاب الصحاح ؛ لأنّهم ألزموا أنفسهم برواية كلّ حديث صحيح ، ولكن لم يقل أحد من علماء الشيعة أو السنّة بذلك ، فلِمَ هذا الكيل بمكيالين ؟ ! على حين أن الكليني لم يصرّح بوقوع التحريف ، كما لم يصرّح أحد من علماء الشيعة .
إنّ هذه المقدّمة قوامها الروايات والأحاديث التي رواها الكليني ، والتي ادّعى
ص: 279
المتّهمون إيّاه أنّها دليل الاتّهام الأوثق التي تنصّ على قوله بتحريف القرآن ، وقد كان استدلالهم بهذه الروايات من جهتين :
1 - إنّهم حكموا على هذه الروايات بأنّها نصّ في القول بتحريف النصّ القرآني .
2 - عدّوا الكليني معتقدا بها ؛ كونه لم يتعرّض لنقدها أو قدحها .
أمّا الروايات التي زعموا أنّها قائلة بتحريف القرآن واتّخذوها مادّة لاتّهام الكليني ، فقد قسّمها الباحثون على أقسام(1) .
1 - الروايات التي وردت في شأن مصحف الإمام عليّ عليه السلام .
2 - روايات الفساطيط التي تُضرب بظهر الكوفة عند ظهور القائم ( عجّل اللّه فرجه الشريف ) .
3 - الأحاديث التي وردت فيها لفظة التحريف .
4 - الروايات التي دلّت على أنّ بعض الآيات المنزلة من القرآن فيها أسماء الأئمّة عليهم السلام .
5 - الروايات التي دلّت على التحريف في القرآن بالنقيصة .
6 - قراءات منسوبة إلى بعض الأئمّة عليهم السلام .
والأظهر أنّ القسمين الأوّل والثاني يمكن أن يندرجان في عنوان القسم الأوّل ، على حين أنّ الأقسام الأربعة الأُخرى تندرج تحت عنوان الروايات التي توهم بوجود تحريف في النصّ القرآني ، إذا أخذنا بالحسبان المعنى الأشمل لمصطلح التحريف . تأسيسا على هذا وسيرا في سبيل الإجمال سوف نقسّمها على قسمين :
القسم الأوّل : الروايات التي تقول بوجود مصحف الإمام علي عليه السلام الذي يخالف هذا المصحف ، وسيظهر مع ظهور القائم ( عجّل اللّه فرجه ) .
نقول : إنّ القول بوجود هذا المصحف متّفق عليه بين علماء الفرقتين(2) ، وقد روى
ص: 280
الكليني في الكافي عن سالم بن سلمة أنّه قال :
قرأ رجل على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا استمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ؛ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم عليه السلام . وقال : فإذا قام القائم عليه السلام قرأ كتاب اللّه عز و جل على حدّه ، وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه السلام . وقال : أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه ، فقال لهم : هذا كتاب اللّه عز و جلكما أنزله اللّه على محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، قد جمعته من اللوحين ، فقال : هو ذا عندنا مصحف جامع لا حاجة لنا فيه ، فقال : أما واللّه ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا ، إنّما كان عليَّ أن أُخبركم حين جمعته لتقرؤوه(1) .
وروي أيضا عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال :
ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما أنزله اللّه تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام والأئمّة من بعده عليهم السلام(2) . وقال عليه السلام : ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء(3) .
إنّ القراءة الفاحصة في هذه النصوص الثلاثة توقفنا على أُمور ، منها :
1 - قوله في النصّ الأوّل : « قرأ رجل على أبي عبد اللّه حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس
» ، وقول الإمام علي : « إنّما كان عليَّ أَن أُخبركم حين جمعته لتقرؤوه » .
2 - قول الإمام : « ما ادّعى أحد من الناس جمع القرآن كلّه كما أُنزل » ، وقوله : « وما جمعه وحفظه كما أنزله اللّه تعالى إلاّ عليّ » .
3 - قوله : « جميع القرآن ظاهره وباطنه » .
إنّ النظرة السطحية الظاهرية لهذه النصوص تُوصل إلى فكرة مفادها أنّ مصحف الإمام عليّ عليه السلام يختلف في جوهره وشكله عن نصوص الآيات القرآنية الموجودة في القرآن الكريم ، ولكنّ القراءة الدلالية الواعية للنصّين توقفنا على وجود اختلاف بين
ص: 281
المصحفين ، لا بالجوهر ، بل بالشكل فقط ، وهذا ما قال به علماء المسلمين من كلتا الطائفتين(1) .
ويعود الاختلاف إلى أمرين :
الأوّل : هو أنّ ترتيب مصحف الإمام يباين ترتيب المصحف الموجود ؛ كون الأوّل مرتّبا على النزول ، حيث روى ابن عبد البرّ عن ابن سيرين قوله :
فبلغني أنّه كتبه على تنزيله ، ولو أُصيب ذلك الكتاب لكان فيه علم(2) .
وقال السيوطي :
جمهور العلماء اتّفقوا على أنّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة ، وأنّ ابن فارس استدلّ لذلك بأنّ منهم من رتّبها على النزول ، هو مصحف علي ، كان أوّله : اقرأ، ثمّ نون، ثمّ المزمّل . هكذا ذكر السور إلى آخر المكّي ثمّ المدني(3) .
وبهذا قال أعلام الشيعة قدماء ومحدثين(4) .
والوجه الآخر في الاختلاف : إنّ هناك زيادات كانت موجودة في هذا المصحف ، لكنّها زيادات ليست من النصّ القرآني ، بل هي من قبيل التفسير والتأويل ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، وغير ذلك ؛ لذا قالوا فيه : إنّه لو أُصيب فيه لكان فيه علم ، وليس أدلّ على ذلك من قول الشيخ المفيد :
قد جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن المنزل من أوّله إلى آخره ، والذي يجب فيه ما وجب من تأليفه ، فقدّم المكّي على المدني ، والمنسوخ على الناسخ ، ووضع كلّ شيء منه في موضعه(5) .
وهذا ما عناه بلفظ الإنزال والتنزيل في قوله : « كما أنزله اللّه تعالى » ؛ إذ « قد
ص: 282
يُستعمل ويراد به ما نزل مطلقا ، لا ما اصطلح عليه المتأخّرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا فقط » ، وبهذا قال علماء الشيعة(1) .
أمّا معنى لفظ الإقراء فهو :
على عهد الرسول إلى سنوات قليلة من بعده ، تعليم تلاوة اللفظ مع تعليم معناه اصطلاحا ، والمقرئ مَن يعلّم تلاوة لفظ القرآن مع تعليم معنى اللفظ . . . وأصبح بعد انتشار تعلّم القرآن يُستعمل الإقراء في أحد المعنيين ، وهو تعليم معنى الآيات التي تحتاج إلى تفسير(2) .
فعلى هذا قوله : « قرأ على الإمام حروفا من القرآن ليست ممّا يقرأ الناس » ، فلا يقصد به أنّه قرأ آيات من نصّ القرآن بألفاظها ، بل المراد تفسير معانيها ، ويشهد لذلك قول ابن مسعود :
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَل