الشافي في شرح الكافي

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: القزویني، خلیل بن الغازي، 1001 -1089ق.، توشیحگر

عنوان العقد: الکافی .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الشافي در شرح اصول الکافي/ خلیل القزویني؛ تحقیق محمدحسین الدرایتي؛ [برای] مكتبة ومتحف ومركز التوثيق التابع للمجلس الإسلامي.

تفاصيل النشر: قم: موسسة دارالحدیث العلمیة والثقافیة، مرکز للطباعه والنشر، 1430ق -= 1388 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 185

الشروح والحواشی علی الکافی؛ 1

مجموعه آثار الموتمر الدولی الذکری الشیخ ثقه الاسلام الکلینی؛ 1

شابک : دوره: 978-964-493-399-8 ؛ 70000 ریال: ج.1: 978-964-493-400-1

لسان : العربية.

ملحوظة : تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

معرف المضافة: درایتی، محمدحسین، 1343 -

معرف المضافة: کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی. شرح

معرف المضافة: ایران. مجلس شورای اسلامی. کتابخانه، موزه و مرکز اسناد

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP129/ک8ک20216 1388

تصنيف ديوي: 297/212

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1852865

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تصدير

لا يزال الكافي يحتلّ الصدارة الاُولى من بين الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية ، وهو المصدر الأساس الذي لا تنضب مناهله ولا يملّ منه طالبه ، وهو المرجع الذي لا يستغني عنه الفقيه ، ولا العالم ، ولا المعلّم ، ولا المتعلّم ، ولا الخطيب ، ولا الأديب . فقد جمع بين دفّتيه جميع الفنون والعلوم الإلهيّة ، واحتوى على الاُصول والفروع . فمنذ أحد عشر قرنا وإلى الآن اتّكأ الفقه الشيعي الإمامي على هذا المصدر لما فيه من تراث أهل البيت عليهم السلام ، وهو أوّل كتاب جمعت فيه الأحاديث بهذه السعة والترتيب . وبعد ظهور الكافي اضمحلّت حاجة الشيعة إلى الاُصول الأربعمائة ، لوجود مادّتها مرتّبة ، مبوّبة في ذلك الكتاب .

ومن عناية الشيعة الإمامية بهذا الكتاب واهتمامهم به أنّهم شرحوه أكثر من عشرين مرّة ، وتركوا ثلاثين حاشية عليه ، ودرسوا بعض اُموره ، وترجموه إلى غير العربية ، ووضعوا لأحاديثه من الفهارس ما يزيد على عشرات الكتب ، وبلغت مخطوطاته في المكتبات ما يبلغ على ألف وخمسمائة نسخة خطيّة ، وطبعوه ما يزيد على العشرين طبعة .

ومن الموسوف أنّ الكافي وشروحه وحواشيه لم تحقّق تحقيقا جامعا لائقا به ، مبتنيا على اُسلوب التحقيق الجديد ، على أنّ كثيرا من شروحه وحواشيه لم تطبع إلى الآن وبقيت مخطوطات على رفوف المكتبات العامّة والخاصّة ، بعيدة عن أيدي الباحثين والطالبين.

هذا ، وقد تصدّى قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث تحقيق كتاب الكافي ، وأيضا تصدّى في جنبه تحقيق جميع شروحه وحواشيه - وفي مقدّمها ما لم يطبع - على نحو التسلسل.

ومنها الشافي تأليف برهان الفضلاء خليل بن غازي القزويني، المعروف بالمولى

ص: 5

خليل القزويني، وهو أحد العلماء المشهورين في العصر الصفوي.

ولقد ترك آثارا كثيرة ومتنوّعة دلّت على عظم شخصيّته وجامعيّتها، فقد كتب في التفسير والحديث والكلام والفقه والاُصول والنحو والمنطق وغيرها.

لقد أطراه الكثير من كبار علماء عصره ووصفوه بأوصاف تدلّ على عظمته، ومنها ما قال في حقّه الحرّ العاملي في أمل الآمل: «فاضل، عالم، حكيم، متكلّم، محقّق، مدقّق، فقيه محدّث، ثقة ثقه، جامع للفضائل، ماهر».

إنّ تولّيه مسؤولية إدارة الروضة المقدّسة للسيّد عبد العظيم الحسني وله من العمر أقلّ من ثلاثين عاما دليلٌ على عظيم استعداده و عبقريّته ونبوغه المبكّر.

وهو أخباري متشدّد مفرط، حمل لواء الأخبارية على عاتقه فكان ذلك سببا في التفاف الكثير من الناس حوله، كما كان سببا في مخالفة الكثيرين له.

ويعتبر الشافي من آثار ملا خليل المهمّة، وقد شرع في تأليفة في عام (1057ق) في جوار الحرم الإلهي الآمن، وكان لذلك التأليف تأثير جلّي في فهم أحاديث الكافي حتّى نقل عنه أو تأثّر به الكثير ممّن شرح أحاديث الكافي أو تعرض لها بعده.

وما عثر عليه من هذا الأثر القيّم لحدّ الآن هو إلى نهاية كتاب الجنائز من كتاب الكافي، ولم نعثر على بقيته حتّى يومنا هذا.

وتعدّ هذه الطبعة، الطبعة الاُولى لهذا الكتاب حيث لم يحقّق قبل هذا ولم يطبع من قبل. ولا يعدّ هذا العمل دفاعا عن أفكاره وآرائه الشاذّة، ولكن اُريد عرض أفكاره الشخصيّة ومعرفة مدى تأثيرها في قلوب من عاصرها، حيث كان الكثير من نظرياته و آرائه مورد نقد المفكّرين والعلماء الآخرين في زمانه والأزمنة المتأخرّة عنه.

واليوم يسرّ مركز بحوث دار الحديث أن يصدر هذا السفر القيّم والتراث الخالد، ويقدّمه هديّةً لمكتبة أهل البيت عليهم السلام. نسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الجهد ذخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون، إنّه سميع الدعاء.

قسم إحياء التراث

مركز بحوث دار الحديث

ص: 6

مقدّمة التحقيق

إشارة

إنّ المولى خليل القزويني بتأليفه شرحين مبسوطين على الكافي جعل اسمه إلى جنب كتاب الكافي وخلّده كما خلّد ذلك الأثر القيّم، فقد صرف شطرا مهمّا من عمره الشريف في شرح أحاديث الكافي، فكانا من آثاره القيّمه والخالدة التي خلّفها بعده؛ الصافي باللغة الفارسيّة، والشافي باللغة العربيّة أثران خالدان لهذا العالم الكبير تمّ تأليفهما في العصر الصفوي.

وفي هذه المقدّمة نطرح 11 فصلاً نذكر فيها حياته الشخصيّة والعلمية ونطرح أفكاره وآثاره، وسوف نعرف الشافي ونعرف بعض نسخه الخطّية.

1. حياته

1/1. اسمه و نسبه

هو خليل بن غازي القزويني، يكنّى ب «أبي حامد»، و يعرف ب «ملاّ خليلا» و «خليلاي القزويني» و «ملاّ خليل القزويني»، و يلقّب ب «برهان العلماء».(1) ونقلوا بأنّ نقش خاتمه: «العِلْمُ خليلُ المؤمن»،(2) كما وذكر بعضهم أنّ اسمه «خليل اللّه».(3)

وقد ضمّت مدينة قزوين ذلك الزمان عددا من العلماء باسم «ملاّ خليل» وهم: الملاّ خليل بن محمّد زمان القزويني (كاتب رسالة إثبات حدوث الإرادة) في سنة 1148ق،(4)

ص: 7


1- . جامع الرواة، ج 1، ص 298.
2- . برگى از تاريخ قزوين، لمؤلّفه حسين المدرّسي الطباطبايي، ص 206 الهوامش.
3- . تتميم أمل الآمل، ص 60؛ الذريعة، ج 22، ص 351.
4- . الذريعة، ج 1، ص 88 .

الملاّ خليل بن حاجي بابا القزويني، المعروف ب «زركش»(1)، وخليل بن محمّد أشرف االقائني الأصفهاني المتوفّي سنة (1136ق)، وكان قد سكن قزوين،(2) وسيّد خليل

القزويني، صاحب تفسير سيّد خليل، وكان حيّا في سنة (1239ق).(3)

2/1. ولادته ووفاته

ولد ملاّ خليل القزويني في الثالث من شهر رمضان سنة 1001ق في مدينة قزوين، وتوفّي في نفس المدينة في سنة 1089ق وبلغ عمره الثمانية والثمانين عاما.(4)

3/1. أساتذته

بناءً على ما صرّح به الأفندي أنّ الملاّ خليل درس في أوائل سنّة على الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي المعروف بالشيخ البهائي (م 1030ق)، والسيد مير محمّد باقر الإسترآبادي المعروف ب «ميرداماد» (م 1041ق). وقد نقل المصنّف في هذا الشرح الذي بين يديك عند شرح حديث «جنود العقل» مطلبا عن المرحوم الشيخ البهائي بهذا التعبير: «اُستاذي شيخ بهاء الدين محمّد رحمه اللّه تعالى».

وبعد ذلك ثنى ركبتيه للتأدّب وتعلّم العلوم على يدي المولى الحاج محمود الرناني،(5) وبعدها قرأ الحاشية القديمة للملاّ جلال الدوّاني على شرح تجريد القوشچى الموسوم ب «شرح التجريد» عند المولى الحاج حسين اليزدي في مدينة مشهد المقدّسة، وكان ممّن حضر معه في ذلك الدرس رفيقه «خليفه سلطان» والذي سيأتي ذكره قريبا.

وكان أحد أستاذته أيضا الأمير أبو الحسن القائني المشهدي، وقد جمع الملاّ خليل

ص: 8


1- . تتميم أمل الآمل، ص 146.
2- . برگى از تاريخ قزوين، ص 205 - 206 الهوامش.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، ج 35، ص 262.
4- . رياض العلماء، ج 2، ص 262.
5- . نسبة إلى «رنان» وهي قرية من قرى أصفهان. اُنظر: مراصد الأطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، ج 2، ص 635؛ معجم البلدان، ج 3، ص 735. وقد نسب إلى هذه المنطقة جماعة من محدّثي القرن السادس والسابع.

القزويني في أيّام إقامته في مكّة المكرّمة حواشي القائني على كتاب الكافي ودوّنها.(1)

ولم يذكر في المصادر من أساتذته غير هولاء الأربعة، وقد غُفل عن اُستاذه الذي يمكن أن يأخذ الملاّ خليل عنه تعاليمه وآراءه وتأثّر به في مخالفة الفقهاء والمجتهدين، فإنّ ما ذكر من أساتذته الأربعة لم تكن لديهم هكذا أفكار، ويحتمل أنّ بالتأمّل ودقّة النظر في مؤلّفاته يمكن معرفة أساتذة آخرين له.

4/1. تلامذته

إنّ الكثير من العلماء الأعلام ملأوا كأس علومهم ومعرفتهم عند الملاّ خليل القزويني، وقطفوا محصولهم، وجمعوا بيدر الفضل والأدب من فضله وأدبه، وإليك أسماء بعض تلامذته، وهم:

1. الأمير محمّد مؤمن بن محمّد زمان الطالقاني.

2. أخوه الملاّ محمّد باقر بن غازي القزويني.

3. ابنه أحمد بن خليل القزويني.

4. ابنه أبوذرّ بن خليل القزويني.

5. ابنه المولى سلمان بن خليل القزويني.

6. الحاج محمّد تقي الدهخوارقاني.

7. المولى محمّد باقر بن الحافظ كيجي بيك التبريزي.

8 . المولى عليّ أصغر بن المولى بن محمّد يوسف القزويني.

9. المولى رفيع الدين محمّد بن فتح اللّه الواعظ القزويني.

10. المولى محمّد محسن بن نظام الدين القرشي الساوجي.

11. المولى محمّد تقي بن حيدر عليّ الزنجاني.

12. المولى محمّد أمين الوقاريّ الطبسي بن مولانا عبد الفتّاح.

ص: 9


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 266.

13. المولى محمّد يوسف بن پهلوان صفر القزويني.

14. المولى مهدي بن حاج عليّ أصغر القزويني.

15. المولى محمّد مؤمن بن شاه قاسم السبزواري.

16. المولى أبو الوفاء بن محمّد يوسف المشهور بالقاضي القزويني.

17. المولى محمّد صالح بن محمّد باقر الروغنيّ القزويني.

18. المولى عاشور بن محمّد التبريزي، الذي ألّف كتاب خلّة المؤمنين في سنة

1063ق باسم ملاّ خليل.(1)

5/1. تولّيه أوقاف الرَّيّ

عُيّن الملاّ خليل مدرّسا في الروضة المقدّسة لشاه عبد العظيم الحسيني وتولّى أوقافها وكان في سنّ السابعة والعشرين من عمره الشريف، وقد نصّبه على ذلك رفيقه الدراسي «خليفه سلطان» الذي حصل على وزارة السلطان عبّاس. ولكن بعد مدّة من تسلّمه هذه الوظيفة عزل منها، وعيّن مكانه المولى نظام الدين القرشي الساوجي وذلك في حدود (1040ق).

ويظهر من بعض ما ذُكر في حياة بعض المؤلّفين أنّ سبب عزله من هذا المنصب هو حكمه بحرمة صلاة الجمعة.(2)

فقد ذكر الأفندي في بيان أحواله: أنّه قدس سره كانت له مع حاكم طهران وقزوين قصص أحداث كثيرة أدّت إلى عدم توافقه مع حكّام الريّ وطهران أثناء تولّيه أوقاف الريّ.

6/1. هجرته إلى مكّة

لمّا عزل الملاّ خليل من منصب تولية الروضة المقدّسة لحضرة عبد العظيم الحسني عليه السلام هاجر إلى مكّة المكرّمة، وأقام في تلك البلدة الطيّبة عدّة سنوات، ولكن

ص: 10


1- . تراجم الرجال للسيّد أحمد الحسيني، ج 1، ص 258.
2- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 11ق، ص 204.

كان مضطربا في معيشته هناك، وقد نقلت كتب التراجم وقوع مناظرات متفرقة بين الملاّ خليل وعلماء آخرين من الشيعة والسنّة في مسائل مختلفة.

وقد نقل الشيخ الحرّ العاملي أنّه في سفره الأوّل إلى مكّة المكرّمة التقى بالملاّ خليل وكان مشغولاً بكتابة حاشية على تفسير مجمع البيان.(1)

وكتب عبد الحيّ الرضوي في كتاب حديقة الشيعة(2) ضمن نقله لأوضاع الحجّ: أنّ حكّام مكّة إذا صادف عيد الأضحى عندهم يوم الجمعة يسمّونه الحجّ الأكبر، وحينئذٍ تكون لهم منافع كثيرة، ولذلك نراهم لو أنّ عيد الأضحى صادف يوم السبت يعلنون العيد يوم الجمعة، وكان هذا أمرا مشكلاً للشيعة؛ لأنّهم إمّا يتابعون الحكّام وأبناء العامة، وإما يبقى حجّهم ناقص ولا يستطيعون الإحلال من إحرامهم. نقل عبد الحيّ الرضوي عن والده: أنّ ملاّ خليل القزويني حجّ وطرحت هذه المشكلة، فلم يتابعهم في أمرهم، لكنّهم لمّا عرفوا ذلك أصدروا حكم الإعدام في حقّه، ولكنّ الملاّ خليل اختفى في تنّور ونقل إلى نقطة من نقاط الحجاز، وبقي هناك إلى الموسم القادم، فلمّا جاء الموسم الجديد جاء بهيئة حطّاب يحتطب الشوك من الصحراء ويحمله مع قافلة حتّى دخل مكّه وأدّى فريضة الحجّ ورجع.(3)

7/1. رجوعه إلى قزوين

لقد رجع الملاّ خليل إلى قزوين بعد إقامته لعدّة سنوات في مكّة المكرّمة، وبقي في قزوين إلى آخر عمره الشريف مشغولاً بالتدريس والتأليف، وقد فقد بصره في آخر عمره، وفي سنّ الثامنة والثمانين ودّع هذه الدار الفانية وقضى نحبه.

ص: 11


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112.
2- . هذا الكتاب غير كتاب حديقة الشيعة المنسوب لملاّ أحمد الأردبيلي، ولم تصله يد الطبع والنشر، نعم، عرفت له نسخة خطّية محفوظة في مكتبة آية اللّه السيّد المرعشي برقم 1124. اُنظر: فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه آية اللّه مرعشى، ج 3، ص 295 - 297.
3- . حجّاج شيعى در دوره صفوى، رسول جعفريان المطبوع في مجلّه ميقات حجّ، ش 4، ص 1372 ص 117.

ومن الآثار الباقية لملاّ خليل في قزوين مدرسة في محلّة آخوند قزوين، وتعرف ب «مدرسة آخوند» أو «مدرسة ملاّ خليلا».(1)

8/1 . مدح الشعراء له

لقد أنشد شعراء قزوين قصائد متعدّدة في مدح ملاّ خليل القزويني، ومن جملة تلك القصائد قصيدة نظمها الشاعر إبراهيم سالك القزويني،(2) ومطلعها:

قزوين كه جنانْ صفت جميل است *** از دولت حضرت خليل است

گر مرتبه جليل دارد *** از موهبت خليل دارد(3)

9/1. مزاره ومدفنه

فارق المترجم الحياة سنة 1089 - كما أسلفنا - ودفن في محلّ تدريسه «مدرسة خليلا» بناء على وصيّته، وفي نفس هذه السنة توفّي تلميذه الملاّ رفيعا أيضا، وقد أرّخ

أحد الشعراء تأريخ وفاتهما قائلاً:

دُرّ درياى دين مولا خليلا *** چو نور از ديده مردم نهان شد

يگانه گوهر بحر معانى *** رفيعا واعظ دهر از ميان شد

پى تاريخ شان غوّاص دل گفت *** دو دُرّ بيرون زيك درج جهان شد(4)

ودفن إلى جنب قبر ملاّ خليل ثلاثة من أولاده، وهم: سلمان وأحمد وأبوذرّ.

وكانت تلك المدرسة في ذلك العصر محلّ اجتماع كبار العلماء الأعلام، أمثال: الفيض الكاشاني، والشيخ الحرّ العاملي، وملاّ رفيعا الواعظ، وآقا رضي، وغيرهم، ولازالت مدرسته تحت اختيار مؤسّسة «ايران شناسى» بقزوين.

ص: 12


1- . دائرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.
2- . لمعرفة حياة هذا الشاعر راجع: فرهنگ سخنوران، خيّامپور، ج 1، ص 430.
3- . دايرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.
4- . عبارة «دو دُرّ بيرون زيك درج جهان شد» يطابق بحساب الأبجد عام 1089، وهو تاريخ وفات ملاّ خليل و ملاّ رفيعا.

وصفت بناية مقبرة الملاّ خليل في كتاب «بناهاى آرامگاهى» - الذي هو عبارة عن دائرة معارف البنايات التاريخيّة الإيرانيّة زمن الدولة الإسلاميّة - بما يلي:

از محوّطه ميدان محلّه آخوند، از كوچه اى كه به طرف جنوب غربى مى رود، به فاصله 50 - 60متر، به كوچه باريكى مى توان رسيد كه به جانب غرب امتداد دارد. در سر دو نبشى اين كوچه، ورودى مقبره مرحوم مبرور مولا خليلا «طيّب اللّه رمسه» متوفّاى سال 1089 ق واقع شده است. اين آرامگاه داراى دو در بزرگى است و حياط متوسطى با ديوار آجرى دارد. امروزه اين محوّطه هيچ گونه بنايى ندارد. در انتهاى جنوبى حياط، چند مزار ديده مى شود كه يكى آرامگاه مرحوم مولا خليلا و سه قبر ديگر، از آنِ فرزندان آن مرحوم به نام سلمان، احمد و ابوذر است. اين محوّطه همچنان كه معلوم است، سابقا مدرسه و جايگاه تدريس مرحوم مولا خليلا بوده كه اكنون بناهاى آن از بين رفته است.(1)

وفي السنوات الأخيرة عمّرت هذه المدرسة والمقبرة تعميرا بسيطا.

2. خصوصيّاته العلميّة والروحيّة

يعتبر ملاّ خليل أحد كبار علماء القرن الحادي عشر، ومن شيوخ المحدّثين والفقهاء، وأحد أبرز علماء الأخباريّين في ذلك الزمان. وقد ذكرت جزئيّات حياته في أغلب الكتب التي اُلّفت في عصره، ولذا فإنّنا نكتفي بنقل خصوصيّاته ومزاياه الواردة في تلك الكتب وستغنينا عمّا نقلته بعض الكتب المتأخّرة وتعرّضت لأحواله وحياته الشخصيّة والعلميّة.

1/2. عالم لا نظير له

لقد مُدح ملاّ خليل من قِبَل معاصريه وأطروه بألفاظ وألقاب مختلفة تدلّ على علوّ مقامه العلمي، وكانت أفكاره وآراؤه محلّ توجّه أنظار العلماء والفضلاء في ذلك الزمان، فكان يلقّب ب «رأس فقهاء الإماميّة، ورئيسهم اُسوتهم، أو قدوة علماء الإثني

ص: 13


1- . بناهاى آرامگاهى، مركز تحقيقات الثقافة والفنون الإسلامية، بتقويم محمّد مهدي عقابي، ص 40 نقل ذلك من كتاب «مينودر يا باب الجنّه قزوين» للسيّد محمّد علي گلريز القزويني، ج 1، ص 717.

عشريّة»،(1) وعبّر عنه بعضهم بأنّه: «فاضل عالم، حكيم متكلّم محقّق مدقّق، فقيه محدّث، ثقة ثقة، جامع للفضائل، ماهر معاصر».(2) وقال آخر: «المولى الكبير الجليل، مولانا خليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، متكلّم اُصولي، جامع دقيق النظر، قويّ الفكر، من أجلّة مشاهير علماء عصرنا، و أكمل أكابر فضلاء دهرنا».(3) وأمثال ذلك.

2/2. مناظرته

كانت إحدى مناظرات ملاّ خليل مع العلماء مناظرته مع السيّد عليّ خان بن خلف المشعشعي الحويزي، وقد نقل هذه المناظرة السيّد عليّ خان في الباب الثالث من كتابه الموسوم ب «نكت البيان وأدب الأعيان»،(4) كما أن المرحوم الخياباني نقلها في وقائع شهر المحرّم من كتابه وقائع الأيام، ونصّها كالآتي:

فى ذكر مباحثات جرت بيننا و بين بعض الفضلاء من أهل زماننا أو ممّن تقدّم علينا. فمن ذلك ماجرى بيني و بين الشيخ العالم الفاضل العامل الكامل الملاّ خليل القزوينى، و قد اجتمعنا معه في مجلس جمع جماعة من أهل الفضل و غيرهم، و كنت قد بلغنى أنّه يقول بالوعيد .

فقلت له : بلغني أنّ شيخنا يقول بالوعيد أو يميل إليه .

فقال : و ما الذي يمنع عن ذلك ؟

فقلت : الموانع كثيرة، لكنّا نطلب منك الدليل عليه .

فقال : الدليل أنّ اللّه تعالى وعد و توعّد و قوله الحقّ و الصدق، فإذا لم يعاقب المجرم على جرمه كان قد أخلف ما توعّد به، فكما أنّه لم يجز أن يخلف وعده إذا وعد بالإحسان و الثواب، فلم يجز أن يخلف توعّده إذا توعّد بالإساءة و العقاب، فنكون قد نسبنا اللّه تعالى إلى الكذب؛ تعالى اللّه عن ذلك.

ص: 14


1- . قصص الخاقاني، لولي قلى بن داود قلي شاملو، ج 2، ص 36.
2- . أمل الآمل، شيخ محمّد حسن الحرّ العاملي، ج 2، ص 112.
3- . المصدر الساقق مع الترجمة.
4- . الذريعة، ج 24، ص 303.

و دليل آخر من مفهوم الآية الكريمة : «ذ لِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»(1) فإنّه نفى الظلم عن نفسه جلّ و تعالى، و معنى الظلم ترك ما يجب وَ ينبغي فعله، فإذا فعل الفاعل شيئا لم يجب أن يفعل يقال: ظلما؛ فلهذا نفى عن نفسه أنّ ما فعله بهم ليس بظلم، بل تسبّب ما كسبت أيديهم و وجوب المكافاة .

فأجبتُه: أمّا الدليل الأوّل فلم يلزم من تركه للتّوعد الخلف؛ فإنّ العبد قد يفعل فعلاً يرضى اللّه به عنه، فيعفو عنه، أو يندم فيتوب اللّه عليه، و إذا لم تجوّزوا العفو و لاقبول التوبة فقد خالفتم القرآن بوروده بقبول التوبة و بالعفو عن الذنوب في مواضع كثيرة، و أغريتم المسيء بترك التوبة إذا علم أنّ اللّه لم يعف، و نفيتم عن اللّه تعالى صفة العفو التي هي من أحسن صفاته، و لأنّ العفو لايكون إلاّ عن ذنب، فإذا أردتم إثباتها له لزمكم القول بالعفو عن إساءة المسيء، و يلزمكم نفي قبول التوبة. و إذا قلتم بأنّ اللّه تعالى عفوّ و لم يعف عن صاحب الذنب، فمن أين تحصل صفة العفو له؛ لأنّ المحسن لايحتاج إلى عفو. و أمّا تارك الوعيد فلا يقال له: مخلف، كما إذا أخلف الوعد؛ لأنّ مخلف الوعد مذموم، و مخلف الوعيد ممدوح؛ لأنّه صفح و عفى، و هذا أيضا مشهور عند العرب، قال الشاعر :

و إنّي و إن أوعدته و وعدته *** لمخلفٌ إيعادي و مُنجزٌ موعدي

فهو يمدح نفسه بخلف إيعاده و بإنجاز موعده .

و أمّا الدليل الثاني فإنّ قوله تعالى : «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْديكُمْ» يعنى إنّ هذا العقاب الذي عاقبناكم به إنّما كان بسبب فعلكم السيّئات و ارتكاب هذه الخطايا، فإذا جازيناكم و عاملناكم بالانتقام لم نكن ظالمين لكم، بل كنتم مستحقّين لذلك و جازيناكم بما فعلهم؛ فإنّ نفي الظلم عنه بسبب أنّ ما فعله بهم على خطائهم ليس بظلم، و العقل يشهد بذلك؛ فإنّك إذا جازيت مسيئا على إساءته قالت الناس: لم يكن ظالما، و إذا جازيت المحسن أو من لم يقترف سيّئة ماساءته، يقولون: قد ظلم، و هذا أمر بديهيّ، و لاحاجة به إلى تأويل الظلم بهذا التأويل البعيد، فانقطع و لم يحرجوا به، فلم أدر أنّه اعترف أو مراعاة لي عن المباحثة في هذا المجلس، و

ص: 15


1- . آل عمران 3 : 182 .

على الحالين فنسأل اللّه أن يحسن خاتمته بخير و يهديه إلى الصواب .(1)

وبعدها قال المرحوم الخياباني: لقد كتبت بحثا مفصّلاً في هذا الباب في مجلّد الصيام من كتاب وقائع الأيّام، ونقلت آيات وأخبارا وأشعارا عربيّة وفارسيّة في هذا المجال، فراجع.(2)

3/2. الرجل القويّ

كان الحاج ملاّ خليل قويّ الجسم شديد العضلات، وكان يحرث الأرض بيده وينثر الحبّ ويزرع. نقل صاحب الروضات : أنّ مصارعا دخل قزوين وحضر في محلّ درس الملاّ خليل، وطلب منه أن يكتب له تأييدا بخطّه بأنّه مصارع ويويّد حرفته، ولكن ملاّ

خليل قال له: كيف اُويّد بأنّك مصارع ولم أمتحنك؟! وبعد هذا ترك مجلس درسه وقام متهيّئا لمصارعته، وما مرّت إلاّ لحظات وإذا به أسقط أكبر مصارع في ذلك العصر إلى الأرض، وعندها قال له المصارع الكبير: أنت لستَ من أهل العلم، وإنّما أنت مصارع قد تلبّست بلباس أهل العلم!(3)

4/2. ميله إلى الأخباريّة

لقد تعمّق ملاّ خليل في الأخبار بدرجة كبيرة حتّى عدّه أصحاب التراجم من علماء الأخباريّة، وكان يخالف الاجتهاد، وأظهر تلك العقيدة بصراحة في عدّة مواضع من هذا الشرح وفي معظم مؤلّفاته، وكان يستدلّ عليها ببعض الأحاديث، ولكن كان أغلب تلامذته - مثل: آقا رضي القزويني والشيخ محمّد كاظم الطالقاني القزويني ومير محمّد معصوم القزويني - من المجتهدين والملتزمين بالاجتهاد.(4)

وهو بالرغم من كونه أخباريّا ولكن مع ذلك نجد التنكابني يكتب عنه قائلاً: «لم

ص: 16


1- . وقايع الأيّام وقايع محرّم الحرام، لملاّ عليّ الخياباني، بتصحيح محمّد الوانساز الخوئي، ج 2، ص 439 - 441.
2- . وقائع الأيام، ج 3، ص 47.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 272.
4- . دايرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.

يعلم أنّه من أيّ عالم أخذ إجازته، لكنّه أخباريّ المسلك».(1)

وذكر المحدّث النوري في خاتمة المستدرك أنّ ملاّ خليل يروى عن الشيخ البهائي(2)

كما أنّ السماهيجي ذكر في إجازته لناصر الدين القطيفي بأنّ العلاّمة محمّد باقر المجلسي يروي عن ملاّ خليل.(3)

ونقل في فهرست النسخ الخطبّة لمكتبة المجلس إجازة ناصر الدين محمّد بن أحمد المعروف بنصر التوني(4) إلى خليل اللّه بن أبي الفتح المشهور بغازي القزويني، وفي هذه الإجازة يتّضح - مضافا إلى تلمّذ القزويني عنده وحضوره درسه - أنّه منحه إجازة الرواية عنه.(5)

وإذا كان المراد بخليل اللّه بن أبي الفتح النمازي القزويني - كما فهم المفهرست المحترم - هو الملاّ خليل بن غازي القزويني، يجب أن يعدّ نصر التوني من أساتيذ ملا خليل ومشايخه.

وقد نقل في طبقات أعلام الشيعة عند ذكر حياته احتمال أن ملاّ خليل تظاهر بالأخباريّة رغم اعتقاده، وسبب ذلك هو المماشاة لحاكم الزمان الذي كان يخالف الاجتهاد والفلسفة مخالفة شديدة.(6)

ولكن لو نظرنا في الكثير من المطالب التي نقلها عنه المعاصرون له، وطالعنا ما ترك من المؤلّفات أمثال الصافي والشافي لا نرى لذلك وجها، ولعلّ هذه المطالب اُضيفت إلى الطبقات بعد رحلة المؤلّف.

نعم، إنّ المترجم قدس سره في كتابي شرحه على الكافي خالف الكثير في النظريّات

ص: 17


1- . قصص العلماء للتنكابنى، ص 263.
2- . مستدرك الوسائل، ج 2، ص 199.
3- . للإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، شيخ عبد اللّه سماهيجي بحراني، ص 131.
4- . راجع: مستدركات أعيان الشيعة، ج 7، ص 231.
5- . راجع: فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس، ج 11، ص 218.
6- . الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، شيخ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني، ص 204.

الفلسفيّة المشهورة، بل حتّى المجرّبات المسلّمة، متمسّكا بما يستفاد من بعض الأحاديث، حتّى أنّه حمل حملة شَعواء على أصحاب هذه النظريّات.

5/2. تحريم صلاة الجمعة

بالرغم من كون المترجم أخباريّا متطرّفا إلاّ أنّه كان يخالف إقامة صلاة الجمعة، وكان يعتقد بأولويّة عدم إقامتها في زمن الغيبة، وكتب رسالة مفصّلة في حرمة إقامة صلاة الجمعة وكانت تلك الرسالة موردا لنقد الكثيرين من معاصريه وردّهم.(1)

كما أن من القائلين بحرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة أخوه محمّد باقر بن غازي، وهكذا ابنه ملاّ سلمان بن خليل القزويني، وكتبوا في ذلك رسائل.

وقد تعرّض السماهيجي في رسالته المسمّاة قامعة البدعة في ترك صلاة الجمعة في الفصل الثالث منها إلى رأي الملاّ خليل والفاضل الهندي في صلاة الجمعة وردّ عليهما.(2)

6/2. آراءٌ ونظريّات

نسب العلماء المتقدّمون والجدد نظريّات وعقائد شاذّة لا أساس لها إلى ملاّ خليل، حتّى أنّ بعض هذه النظريات اشتهرت باسمه. ذكر الأفندي عند التعرّض لحياته: أنّ من جملة النظريّات الغريبة لملاّ خليل نظريّته في كتاب الكافي، فإنّه كان يعتقد بأنّ الإمام الثاني عشر عليه السلام شاهد كتاب الكافيبكامله وأيّده، وأن كلّ ما جاء بلفظ «رُويَ» أخذه الكليني رحمه اللهمن الحجّة(عج) من دون واسطة، ونباء على هذا يكون العمل بجميع أخبار كتاب الكافي واجبا، ولم يصدر حديث واحد فيه تقيّة.

وقالوا أيضا: إنّه قدس سره يرى أن قسم الروضة ليس من الكافي، وكان يعتقد أنّ مؤلّفها هو ابن إدريس الحلّي، قال الأفندي: وأيّد ملاّ خليل في هذا الرأي بعض آخر من العلماء،

ص: 18


1- . راجع: دين وسياست در دوره صفوى، رسول جعفريان، ص 126 - 131: (رساله هاى نماز جمعه وأخباريها» و «سابقه تاريخى إقامه جمعه در ميان شيعيان»).
2- . نفس المصدر، ص 156.

وبعضهم نسب هذه النظريّة إلى الشهيد الثاني، لكن هذه النسبة غير ثابتة.(1)

ومن المعلوم أنّ ملاّ خليل في شرحه على الكافي شرح الروضة أيضا، ولكنّه لم يشر في المقدّمة إلى أنّ الروضة ليست من تأليف الكليني، ولذا كانت نسبة هذا القول إليه ليست بقطعيّة، ولم يقم الناسب دليلاً عليها.

ومن الآراء الاُخرى التي نسبت إلى ملاّ خليل وأنّه تفرّد بها هي: إمكان تخلّف المعلول عن علّته التامّة، وإمكان الترجيح بلا مرجّح، وثبوت المعدومات، وردّ القول بتجرّد النّفس الناطقة ومراتبها الأربعة، وردّ القول بقدم العالم زمانا، والقول بعدم انتاج القياس من الشكل الأوّل، وأنكر كون الأرض كرويّة، وأوجب العمل بالعلم لا بالظنّ في المسائل الفرعيّة الفقهيّة في زمان الغيبة، وغيرها من الموارد التي صرّح بها الملاّ خليل في مواضع متعدّدة من كتابيه الصافي والشافي.

7/2. شهامته ومروءته:

كان ملاّ خليل عالما فاضلاً صاحب شهامة و مروءة، فقد نقل عنه أنّه بمجرّد أن يلتفت إلى أنّه أخطأ في رأي من الآراء يعترف بخطئه ويعتذر من الطرف المقابل له، وكان لايقصّر في بذل المال إلى الضعفاء والمِعْوَزين، وقد نقلت عنه في هذا المجال عدّة قضايا، وإليك بعضها:

1. اختلف ملاّ خليل مع الفيض الكاشاني صاحب الوافي في مسألة من المسائل، ودار بينهما بحث طويل ومناظرة ومكاتبات، ولم ينتهِ إلى شيء يذكر، ولكن ما إن توجّه الملاّ خليل إلى فساد رأيه وأنّ الحق مع الفيض فيها ذهب ماشيا من قزوين إلى كاشان، فلمّا اقترب من حائط بيت الفيض صاح بأعلى صوته: «يا محسن، قد أتاك المسيء» فلما سمع الفيض صوته وعرفه خرج مسرعا من داخل داره، فلمّا وصل إليه اعتنقه وضمّه إلى صدره ورحّب به، وبعد مذاكرات ومباحثات رجع ملاّ خليل

ص: 19


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 265.

إلى قزوين بالرغم من إصرار الفيض على بقائه في كاشان؛ حذرا عن تخلّل شائبة في إخلاصه.(1)

2. لما عرف ملاّ خليل القزويني أنّ المحقّق الخوانساري قد نقد رأيه في مسألة «الترجيح بلا مرجّح» وبطلان القياس من الشكل الأوّل في المنطق، توجّه من قزوين إلى إصفهان كي يناقشه في هاتين المسألتين، ولكن اتّفق أن واجه أحد تلامذة المحقّق الخوانساري، وهو الملاّ ميرزا الشرواني (م 1099ق) ووصل إلى مرامه، حيث إنّ التلميذ بيّن وجه الخطأ في رأيه، وبين وجه صحّة رأي اُستاذه المحقّق الخوانساري، وعندها اعترف الملاّ خليل باشتباهه وأذعن إلى الرأي المقابل ورجع إلى قزوين.(2)

3. ونقل أيضا: أنّه قدس سره لاقاه يوما أحد جنود الحكّام الظلمة، وبيده براة حوالة شعير

موجّهة إلى بعض الفلاّحين الفقراء، فأخذ ملاّ خليل تلك الحوالة من يد الجندي، ولمّا

قرأها قال: إنّ هذه الحوالة باسم هذا العبد، واصطحب الجندي إلى منزله وسلّمه الشعير

المقدّر فيها، فأخذه الجندي ورجع، فلمّا صار الليل وعرضوا ذلك الشعير على خيول الملك لم تأكل من محصول كد يمين ذلك العالم، وبقي الجميع في حيرة.(3)

8/2. الردّ على الفلاسفة

كان المترجم يخالف الفلاسفة، وقد صرّح بذلك في مواضع متعدّدة من شرحيه على الكافي، وكان يرى أنّ الاستدلال لا يوصل إلى المعرفة، وقد تعرّض السيّد ميرداماد إلى نظريّة ملاّ خليل في هذه الأبيات الشعريّة وانتقدها:

اى كه گفتى پاى چوبين شد عليل *** ور نه بودى فخر رازى بى بدليل

فخر رازى نيست جز مرد شكوك *** گر تو مردى از نصيرالدين بكوك

هست در تحقيق برهان اوستاد *** داده خاك خرمن شبهت به باد

در كتاب حق اولوالألباب بين *** وآن تدبّر را كه كرده آفرين؟

ص: 20


1- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.
2- . قصص العلماء، للتنكابني، ص 264.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.

چيست آن جز مسلك عقل مصون *** گر ندارى هستى از لايعقلون

خوار شبهت نيست جز در راه وهم *** در خرد بد ظن مشو اى كور فهم

از هيولا وهم را پاى كج است *** كج نظر پندارد اين ره اعوج است(1)

وهو أيضا يخالف الاُصول والاجتهاد، وقد صرّح بذلك في مواضع متعدّدة من كتبه خصوصا في الصافي والشافي، وتمسّك بظاهر بعض الأحاديث لإثبات رأيه، وفي بعض الموارد استعان بتأويل بعض الأحاديث.

3. آراء معاصريه فيه

إنّ منزلته العلميّة والاجتماعيّة كانت السبب في أن يتعرّض لذكر حياته وترجمته أغلب المترجمين والشارحين في كتبهم، ونقلوا آراءه، ولكي نتعرّف على منزلته عند معاصريه لابدّ أن ننقل ما ذكروه في حقّه ملخّصا، وهو كالآتي:

1/3. ولي قلي شاملو

لقد أدرك ولي قلي شاملو أواخر عمر ملاّ خليل، ففي قصص الخاقاني عند ذكر معاصري السلطان عبّاس الصفوي من العلماء، ذكره بعنوان العالم الثالث بعد ملاّ رفيعا وآقا حسين الخوانساري، وكتب:

رأس و رئيس فقهاى اماميه و اسوه و قدوه علماى اثنا عشرية - عليهم السلام و التحية - شارح اصول كلينى، مولانا محمّد خليل قزوينى؛ ذكر مناقب و فضائل آن صدر نشين محفل فضليت، زياده از آن است كه خامه حقيقت ترجمه به اظهار شمّه يى از آنها مبادرت تواند جست. نور دانش از ناحيه گفتارش ظاهر و شعشعه كوكبِ تفضّل از سيماى اعمالش هويداست. اوقات فرخنده ساعات آن قدوه اهل فضل از مبادى سنّ شباب - كه اول فصل بهار طبع معنى انتخاب است - الى الان (كه هزار و هفتاد و شش هجرى و عمر شريف آن صاحب تصانيف از عقد هشتاد متجاوز است) به تحصيل علوم دينى وحكمت نظرى صرف شده،

ص: 21


1- . منية المريد شهيد ثانى ترجمه محمّد باقر ساعدى، ص 250.

تصنيف و تأليف مشهور دارند. از آن جمله حاشيه عدّه در اصول و حاشيه زبده و شرح بر اصول كلينى. بعد از آن كه شرح مذكور را به همّت دقّت طبع به اتمام رسانيده، مصحوب احدى از تلامذه خويش به بارگاهِ عرشْ اشتباه، ارسال داشتند. چون به نظر كيميا اثر رسيد، مقرّر شد كه آن رئيس الفقهاء شرح مزبور را ترجمه نمايد. در عرضِ اندك وقتى، اهتمامِ تمام به كار برده، كار بندِ خدمت مرجوعه شدند.(1)

2/3. المولى شمس الدين محمّد الشيرازي

وهو أحد علماء الشيعة المقيمين في مكّة المكرّمة،(2) وفيها التقى بالملاّ خليل القزويني، وقد كتب في أحد مؤلّفاته: لقد جاءني لملاقاتي في بيتي في مكّة الملاّ خليل القزويني، وأخبرني أنّه كتب حاشية على عدّة الاُصول، وأرسلها لي،وبعدما طالعتُها وجدتها مليئة بالإشكالات، وقد نسب الملاّ خليل إلى علماء الشيعة عدّة نظريّات، وهي بعيدة عنهم، وعند لقائي به مرّة ثانية طرحنا تلك الاُمور، وبيّنتُ له بعض الإشكالات، لكنه أظهر بأنّ اُصوله تختلف مع نظريّات الشيعة، وملخّص الأمر ذكرتُ له أنّ الأقوال التي نسبتَها إلى علماء الشيعة لم تبيّن في أيّ كتاب من كتبهم، فمن أين أتيتَ بها؟ فأحالني على حاشيته على العدّة، فطالعتها، وفي نهاية الأمر كان رأيه هكذا:

فطالعتُ فيها من غير أن يكون قصدي تزييف كلامه، لكن الحقّ أبلج و الباطل لجلج، فوجدتُ فيها أشياء ليس لها طائل تحتها، و وجدتُ قائلها كالراقم على الماء، فاستدلّ على صحّتها بدلائل أوهن من بيت العنكبوت. و حاصل كلامه تخطئة علمائنا و توبيخهم بمتابعة المعتزلة في اُصول الدين.(3)

ص: 22


1- . قصص الخاقانى، ولى قلى بن داود قلى شاملو، ج 2، ص 36.
2- . لمعرفة حياته راجع: أمل الآمل، ج 2، ص 132؛ نجوم السماء في تراجم العلماء لمحمّد على الكشميري، ص 108؛ طبقات أعيان الشيعة (القرن 11)، ص 268.
3- . نجوم السماء في تراجم العلماء لمحمّد علي كشميري، ص 107 - 108.

3/3. الشيخ الحرّ العاملي

وهو أحد معاصري ملاّ خليل ومن العلماء الأعلام، وهو أخباري المسلك، وقد ذكر حياة ملاّ خليل في كتاب أمل الآمل وكتابه تذكرة المتبحّرين بعبارة واحدة، وفي أمل الآمل تعرّض لحياة أولادة الثلاثة وحياة أخيه، وصف ملاّ خليل بما يلي:

المولى الجليل الخليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، حكيم متكلّم، محقّق مدقّق، فقيه محدث، ثقة ثقة، جامع للفضائل ماهر معاصر. له مؤلّفات: منها شرح الكافي فارسي، و شرح عربي، و شرح العدّة في الاُصول، و رسالة في النحو، و رموز التفاسير الواقعة في الكافي و الروضة و غير ذلك، رأيته بمكّة فِي الحجّة الاُولى، وكان مجاورا بها، مشغولاً بتأليف حاشية مجمع البيان، توفّي سنة تسع و ثمانين و ألف. و قد ذكره صاحب السلافة، و أثنى عليه ثناء بليغا، و ذكر بعض المؤلفات السابقة.(1)

وذكر الأفندي في رياض العلماء كلّ ما ذكره الحرّ العاملي في وصفه، وبعدها أشكل على توصيفه بالحكيم والمتكلّم والفقيه، فإنّه كتب:

أقول: في جعله حكيما نظر، و كذا في جعله فقيها؛ لأنّه كان تنكّرهما جدّا، وبمجرّد معرفة أقوالهما لايسمّى أحد بالحكيم و الفقيه، مع أنّ المعرفة الكاملة بأقوالهما أيضا غير معروف. على أنّ الجمع بينهما جمع بين الأضداد.(2)

ثمّ ذكر الأفندي أنّه لا يشكل على ما ذكرت بأنّ المحقّق الطوسي كان حكيما متكلّما بنفس الوقت؛ لأنّ المحقّق الطوسي في شرح الإشارات وبقية كتبه الفلسفيّة سلك مسلك الحكماء، وبالغ في تصحيح كلامهم ودافع عنهم وكان فيسلوفا واقعيّا، في حين نراه في كتاب تجريد الاعتقاد، وأمثاله تكلّم على طريق مذاهب المتكلّمين، وكأنّه متكلّم واقعي، ولهذا كان هو حكيما متكلّما.(3)

ص: 23


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112؛ تذكرة المتبحّرين، ص314.
2- . رياض العلماء، ج 2، ص 264 - 265.
3- . نفس المصدر.

4/3. الميرزا عبد اللّه الأفندي

تعرّف الميرزا عبد اللّه الأفندي في كتابيه رياض العلماء وتعليقته على أمل الآمل إلى حياة الملاّ خليل، وفي الرياض ذكر حياته العلميّة والاجتماعيّة مفصّلاً، ولكنّه في تعليقة أمل الآمل اكتفى بذكر مؤلّفاته، وقد وصفه في الرياض هكذا:

المولى الكبير الجليل مولانا خليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، متكلّم اُصولي جامع، دقيق النظر، قويّ الفكر، من أجلّة مشاهير علماء عصرنا، و أكمل أكابر فضلاء دهرنا.(1)

وفي موضع آخر كتب في مجال قدرته الفكريّة وتسلّطه في مختلف العلوم قائلاً: «و كان له قدس سرهقوّة فكر، و تسلّط على تحرير العبارات في العلوم و تقريرها».

ثمّ قال: لقد لاقاه أخي في قزوين فوصفه بوفور فضله وكثرة علمه، بل لعلّه يرجّحه على جميع علماء عصره.(2)

ثمّ إن الأفندي - بعد ذكره لأساتيذ ملاّ خليل وتبيينه منزلته لدى ملوك الدولة الصفويّة وحكّامها - قال:

كان معظّما مبجّلاً عند السلاطين الصفوية، سيّما سلطان عصرنا، و كذلك عند الاُمراء و الوزراء و سائر الناس. و صار في زمن الوزير خليفة سلطان متولّيا و له دون ثلاثين سنة، ومدرّسا بعبد العظيم، ثمّ عزل عنها لقصّة طويلة.(3)

وبعدما تعرّض إلى مخالفته لحكّام وعلماء عصره قائلاً:

و له مع حكّام طهران و قزوين أقاصيص، و هو أحد المحرّمين لصلاة الجمعة و المنكرين لها في زمن الغيبة و الناهين عنها جدّا، و من جملة الأخباريّين المنكرين للاجتهاد جدّا، و قد بالغ في ذلك و أفرط في نفي الاجتهاد، و من زمرة المنكرين للتصوّف و الحكمة، و القادحين منهم بما لا مزيد عليه، و من المنكرين لأقوال المنجّمين و الأطبّاء أيضا.(4)

ص: 24


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 261.
2- . نفس المصدر، ص 262.
3- . نفس المصدر.
4- . نفس المصدر.

ثمّ ذكر الأفندي بأنّ الملاّ خليل كانت له أقوال وآراء انفرد بها، ومن جملتها نظريّات في الاُصول والفروع لم يقل بها أحد غيره، وأكثرها لا يخلو من عجب وغرابة، وفي بعضها تابع المعتزلة، مثل القول بثبوت المعدومات.(1)

5/3. ميرزا محمّد الأردبيلي

لقد وصف الأردبيلي الملاّ خليل في جامع الرواة بما يلي:

خليل بن الغازي القزويني، الملقّب ببرهان العلماء، جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، من وجوه هذا الطايفة وثقاتها وأثباتها وأعيانها، أمره في الجلالة وعظم الشأن وسموّ الرتبة و الثقة والعدالة والأمانة أشهر من أن يذكر، وفوق ما يحوم حوله العبارة. وكان أخباريّا عالما بالعلوم العقليّة والنقليّة، أخذ العلوم والأخبار من شيخ الإسلام والمسلمين بهاء الملّة والحقّ والدين محمّد العاملي - قدس اللّه روحه -. له كتب: منها: حاشية على عدّة الاُصول لشيخ الطايفة أبي جعفر الطوسي - قدس اللّه روحه الشريف - ومنها: الشرح الصافي - الفارسي - على الكافي من البداية إلى النهاية، ومنها: شرح الشافي العربي عليه من البداية إلى كتاب الحيض، وغيرها من الرسائل. ولد في سنة إحدى وألف، وتوفّي - رحمه اللّه تعالى - في سنة تسع وثمانين بعد الألف؛ رضي اللّه عنه و أرضاه.(2)

6/3. عليّ أصغر القزويني

المولى عليّ أصغر بن محمّد يوسف القزويني (المتوفّي حدود 1129ق) أحد تلامذة ملاّ خليل البارزين، ومن آثاره التي خلّفها بعده تنقيح المرام والذي هو حاشية على حاشية عدّة الاُصول لاُستاذه ملاّ خليل، وفي مقدّمة كتابه هذا كتب واصفا اُستاذه:

لمّا رايتُ توفّر داعى المحصّلين إلى تعلّم الحواشي المعلّقة على عدّة الاُصول للمولى الفاضل المؤيّد، و الحبر الكامل المسدّد، محيي العقائد الدينيّة، مروج

ص: 25


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 261.
2- . جامع الرواة ميرزا محمّد الأردبيلي، ، ج 1، ص 298.

الاُصول اليقينيّة، مظهر نكات الآيات ودقائقها، موضح لطائف الروايات و حقائقها، معزّ الحقّ و معين الدين، عون الإسلام و ملجأ المسلمين، سمّي خليل الرحمن، خليل العلم و ناصر ذوي الإيمان.(1)

7/3. الشيخ عبد اللّه السماهيجي

إنّ الشيخ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني (1086 - 1135ق) وإن لم يكن معاصرا لملاّ خليل إلاّ أنّ المهمّ فيه أنّ ما قاله في شرح أحوال الملاّ خليل قد نقل ووصل إلينا مشافهة.

فقد ذكر في إجازته للشيخ ناصر الجارودي القطيفي أنّ ملاّ خليل أحد مشايخ العلاّمة المجلسي، وكتب في وصفه: «و كانَ هذا الرجل فاضلاً، محدّثا، أخباريّا».(2)

ثمّ يضيف قائلاً: كان ملاّ خليل متشدّدا في ردّه على أصحاب الاجتهاد، وكان يرتكب في نقل الروايات وتفسيرها تحريفات كثيرة وتصحيفات فاحشة.

ثمّ يقول: إنّه كان رئيسا في قزوين، ومنع علماء قزوين من تدريس المنطق والفلسفة والكلام واُصول الفقه، ومن اُموره العجيبة أنّه بالرغم من كونه أخباريّا إلاّ أنّه يقول بحرمة صلاة الجمعة زمن الغيبة.(3)

4. آثاره العلميّة

لقد قضى الملاّ خليل شطرا طويلاً من عمرة في تأليف وتصنيف الكتب، فألّف وصنّف في موضوعات مختلفة، مثل: الأدب العربي، والمنطق، والتفسير، واُصول الفقه والحديث وغيرها. وكان أهمّ ما كتبه هو شرحه الفارسي والعربي على الكافي، فهو في بداية الأمر كتب شرحا عربيّا على الكافي وسمّاه «الشافي» وفي أثناء تأليفه عدل إلى الشرح الفارسي بأمر من السلطان عبّاس الصفوي، واستغرق تأليفه ما يقارب عشرين عاماً.

ص: 26


1- . فهرست الكتب الخطّية لمكاتب إصفهان، ص 302.
2- . الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، الشيخ عبداللّه بن صالح السماهيجي البحراني، ص 131.
3- . نفس المصدر.

وأوّل مَن ذكر مؤلّفات ملاّ خليل مفصّلاً هو الأفندي في رياض العلماء.(1)

أمّا آثاره التي عُرفت فهي كالتالي:

1. الشافي في شرح الكافي(2) (عربي).

وهو الشرح الذي بين يديك وسنعرفه في نهاية المقدّمة.

2. صافي در شرح كافي (فارسي).

وقد بدأ المؤلّف في كتابته في سنة (1064ق) في محلّة ديلميّة قزوين، وقد بدأه باسم السلطان عبّاس الصفوي الذي كان مقيما في تلك المحلّة، واستغرق تأليف هذا الشرح عشرين عاما، وأنهاه في سنة (1084ق).(3)

جاء في كتاب نجوم السماء في ذكر علّة تأليفه لهذا الكتاب ما يلي:

الفاضل الجليل ، ملاّ خليل بن غازى القزوينى، سيّد على خان مدنى در سلافة العصر - كه ابتداى تأليفش سنه يك هزار و هشتاد و يك هجرى است - آورده كه : ملاّ خليل مذكور از فضلاى اهل اين عصر و علماى موجود اين زمان است . از تصانيف او در شرح بر كتاب كافى كلينى يكى فارسى و ديگرى عربى . و هر دو شرح به نظر مؤلّف رسيده و شرح عربى كه موسوم به «شافى» است ، در سال يك هزار و شصت و چهار هجرى به شغل آن پرداخته و چون در سال مذكور شاه عبّاس ثانى صفوى ، وارد قزوين شد و فرمايش شرح ديگر به زبان فارسى به او نمود . پس او شرح فارسى هم مسمّى به صافى در همان سال شروع فرموده و آن را در عرض مدّت بيست سال در مجلّدات سى و چهار گانه به اتمام رسانيده و تاريخ اتمام مجلّد اوّل از شرح فارسى ، ماه محرّم سنه يك هزار و شصت و شش هجرى است و تاريخ اتمام جلد آخر از شرح كتاب مذكور ، كه شرح كتاب الروضة از كافى است ، سنه يك هزار و هشتاد و چهار هجرى است .

ميرزا طاهر وحيد در روزنامه خود به تقريب ورود شاه عبّاس ثانى صفوى در

ص: 27


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 265 - 266.
2- . الذريعة، ج 13، ص 5؛ وج 14، ص 27؛ التراث العربي، ج 3، ص 223.
3- . الذريعة، ج 6، ص 145؛ وج 15، ص 6.

قزوين نوشته : چون خاطر همايون و ضمير منير خيريّت مقرون پيوسته متوجّه به رواج و رونق دين مبين و ملّت متين مى باشد و فضلاى عظام را كه وارثان علوم انبيا و حاميان ملّت بيضااند ، همواره به تبجيل و تعظيم و اكرام مى فرمايند . بعد از ورود دارالسّلطنه قزوين ، جامع علوم معقول و منقول كشّاف مرموزات فروع و اصول مولانا خليل قزوينى را كه از اجلّه علماى عصر و فحول دانشمندان دهر است با ساير فضلا و طلبه به مجلس اقدس و بزم مقدّس طلب داشته ، با آن گروه نزاهت پژوه افطار فرمودند و در همان مجلس مولانا خليل اللّه را به خطاب مستطاب سرافراز ساخته ، فرمودند كه كتاب كلينى را كه دين قويم را اساس و بنيان و بيت المعمور دين مصطفوى بدان تابان ، به فارسى شرح نمايند كه عموم سكّان اين ديار را كه اغلب گفتگوهاى ايشان به لغت فارسى است ، انتفاع حاصل شود .

و نيز رقم اشرف به اسم مولانا محمّدتقي مجلسى شرف صدور يافت كه كتاب من لايحضره الفقيه را به دستور شرح نمايد و چون فضيلت نماز جماعت بر پيشگاه ضمير منير پرتو وضوح افكنده بود ، رقم اشرف به طلب عالم ربّانى و مؤيّد به تأييدات آسمانى سالك طريق انيق عرفان و بلد شوارع ايقان ، مولانا محمّد محسن كاشانى نفاذ يافت .(1)

ولم يُطبع من هذا الكتاب إلاّ شرح اُصول الكافي، حيث طبع في الهند في مدينة (لكنهو) برعاية السيّد تصدّق حسين صاحب الرضوي، وقد طبع في جلدين في سنة (1323ق).(2)

وقام أحد العلماء في العهد الصفوي بتلخيص هذا الشرح وسبكه بعبارات واضحة سهلة، ثمّ قدّمه إلى السلطان حسين الصفوي، وقد اكتفى في هذا المختصر بذكر معاني الأخبار، ولم يذكر تفصيلات زائدة على الأصل. وكانت بدايته هكذا: «زينت ديباچه جوامع آثار ابرار و زيور عنوان شرح اخبار...».

وقد حُرّرت نسخة من الجلد الأوّل لهذا الملخّص في صفر (1134ق)، وتحتوى

ص: 28


1- . نجوم السماء ، ص 105 .
2- . فهرست كتاب هاى فارسى، خان بابا مشار، ج 3، ص 3369.

على (196) ورقة، وهي محفوظة في مكتبة آية اللّه الگلپايگاني.(1)

3. المجمل (الجمل) في النحو: وهذا الكتاب ألّفه ملاّ خليل في علم النحو، وقد حصل اختلاف في اسم هذا الكتاب، فقد نقل في الرياض وأمل الآمل أنّ اسمه «المجمل». وفي روضات الجنّات أنّ اسمه «الجمل».(2)

وقد شرح هذا الكتاب تلميذ ملاّ خليل، محمّد مهدي ابن المولى عليّ أصغر القزويني.(3)

4. حاشية شرح الشمسيّة؛ أصل الكتاب هو الشمسيّة لمؤلّفه نجم الدين عمر الكاتبي القزويني (م 675ق)، وشرحها لقطب الدين محمّد الرازي (م 766ق). وقد كتب ملاّ خليل حاشية على مبحث قضايا هذا الشرح.(4)

وذكر الشيخ الطهراني في الذريعة أنّ نسخة منه بخطّ المحشّي موجودة في قمّ المقدّسة عند آية اللّه المرعشي النجفي.(5)

5. شرح (حاشية) عدّة الاُصول؛ كتاب عدّة الاُصول معروف، وهو من تأليفات شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460ق)، ويقع على قسمين: اُصول الدين، واُصول الفقه، وكتب ملاّ خليل حاشية على القسمين، وذكر الأفندي أنّ ملاّ خليل طرح في هذه الحاشية مسائل جديدة متعدّدة في الاُصول والفروع، وذكر أقوالاً عجيبة غريبة.(6)

وكان ملاّ خليل يغيّر في هذه الحاشية طيلة عمره، ولذا اختلفت نسخها اختلافا شديدا.(7)

ص: 29


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، ج 1، ص 190.
2- . راجع: الذريعة، ج 5، ص 142؛ وج 20، ص 142.
3- . الذريعة، ج 13، ص 177.
4- . الذريعة، ج 6، ص 35.
5- . نفس المصدر.
6- . رياض العلماء، ج 2، ص 265.
7- . الذريعة، ج 6، ص 78، و ص 148.

وكتب الاُستاذ الأعظم آية اللّه الروضاتي توضيحها شاملاً وواسعا لهذه الحاشية.(1)

وقامت مؤسّسة آل البيت بطبع كتاب عدّة الاُصول مع هذه الحاشية بتحقيق الشيخ محمّد مهدي نجف.(2)

وقد كتبت على هذه الحاشية عدّة حواشي، وهي:

أ. حاشية المولى أحمد الطالقاني.

ب. حاشية المولى أحمد بن ملاّ خليل الغازي (وهو ابن المؤلّف).

ج. حاشية المولى محمّد باقر بن غازي القزويني (وهو أخو المؤلّف وتلميذه).

د. حاشية المولى عليّ أصغر بن المولى محمّد يوسف القزويني (وهو تلميذ المؤلّف) وقد سمّى حاشيته هذه ب «تنقيح المرام»،(3) وتوجد لدينا نسخة من الجلد الأوّل من كتاب تنقيح المرام.(4)

وقد اعتنى العلماء الأخباريّون في مدينة قزوين بحاشية عدّة الاُصول وأخذوا يقرؤونها ويدرّسونها، وذكر الشيخ عبد النبيّ القزويني في كتابه تتميم أمل الآمل أنّ الحاج محمّد رضا القزويني درّس حاشية عدّة الاُصول لملاّ خليل مع حواشي متعدّدة اُخرى كتبها المؤلّف عند جملة من الأساتذة، وقضى وطرا كبيرا من عمره في ذلك كي يتوصّل إلى معرفة آراء ملاّ خليل القزويني ويتعمّق فيها.(5)

6. حاشية مجمع البيان؛ كتاب مجمع البيان في تفسير القرآن الكريم، تأليف أبي عليّ الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (م 548ق)، وهو معروف، وهذه الحاشية كتبها الملاّ خليل أيّام إقامته في مكّة المكرّمة. وذكر الحرّ العاملي بأنّه في سفره الأوّل للحجّ

ص: 30


1- . فهرست كتب خطّى كتابخانه هاى إصفهان، ص 289 - 298.
2- . كتابشناسى اُصول فقه، مهدى مهريزى، ص 84 .
3- . كشف الحجب والأستار، ص 145؛ الذريعة، ج 4، ص 464 - 465؛ و ج 6، ص 79؛ مرآة الكتب، لثقة الإسلام التبريزي، ص 306.
4- . فهرست كتب خطي كتابخانه هاى اصفهان، آيت اللّه سيد محمّد على روضاتى، نسخه ش 65، ص 298 - 303.
5- . تتميم أمل الآمل، ص 157.

قد التقى بالملاّ خليل وأنّه كان مشغولاً بكتابة هذه الحاشية.(1)

7. رسالة في حرمة شرب التتن؛(2) يقول حجّة الإسلام الشفتي الإصفهاني: يرى المرحوم الحاج ملاّ خليل حرمة التدخين، وصنّف رسالة في ذلك، وقد أرسل نسخة جميلة نفيسة منها إلى العلاّمة المجلسي، الذي كان يدخّن بكثرة، ولمّا اطّلع العلاّمة عليها ترك التدخين، ولكنّه لمّا طالعها بدقّة ووقف على أدلّتها، وجدها غير تامّة الدلالة، وحينئذٍ ملأها تتنا وردّها إلى ملاّ خليل.(3)

8 . رسالة في صلاة الجمعة؛ ذكر صاحب رياض العلماء أنّ ملاّ خليل قد أورد هذه الرسالة في بداية شرحه الفارسي على الكافي، وبعدها جعلها رسالة مستقلّة، وقد كتب ملاّ محمّد طاهر القمّي ردّا على هذه الرسالة.

وبعد هذه الرسالة كتب ملاّ خليل رسالة اُخرى باللغة الفارسيّة وكان فيها أيضا مصرّا على حكمه بحرمة صلاة الجمعة، ولكنّه بعد ذلك كتب رسالة ثالثة في هذا الموضوع وكان معتدلاً في رأيه.(4)

وتوجد لهذه الرسالة نسخ متعدّدة، منها: نسخة في مكتبة الروضة المقدّسة الرضويّة برقم (8602).(5) ومنها: نسختان في مكتبة المسجد الأعظم في قم المقدّسة، برقم (1359) و (1432)،(6) ومنها: نسخة في مكتبة ملك بطهران، برقم (1920).(7)

9. رموز التفاسير الواقعة في الكافي والروضة؛(8) نقل ملاّ خليل في هذا الكتاب الأحاديث الواردة في تفسير الآيات المباركة من كتاب الكافي، وجعل للكتاب

ص: 31


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112.
2- . الذريعة، ج 11، ص 173.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.
4- . رياض العلماء، ج2، ص 266؛ الذريعة، ج 14، ص 27؛ و ج 15، ص 71.
5- . فهرست الفبايي آستان قدس رضوي، ص 385.
6- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد اعظم، ص 281.
7- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه ملك، ج 5، ص 397.
8- . الذريعة، ج 11، ص 251 رقم 1538.

ولأبواب الكافي رموزا خاصّة قد شخّص مواضعها. وقد شخّصت من هذا الكتاب أربع نسخ، وهي:

أ. نسخة مكتبة المجلس، برقم (13992)، ولم يذكر فيها اسم الكتاب ولا تاريخ الكتابة، وهي عبارة عن (204) أوراق ضمّت كلّ ورقة (16) سطرا.(1)

ب . نسخة مكتبة مدرسة خاتم الأنبياء (صدر) في مدينة بابل، برقم (219) من دون ذكر اسم الكاتب ولا تاريخ التأليف. وكانت أوراقها ذات (20) سطرا.(2)

ج - نسخة مكتبة آية اللّه المرعشي، برقم (4989)، من دون ذكر اسم الكاتب ولا تاريخ الكتابة، ضمّت (124) ورقة في (19) سطرا.(3)

د. نسخة مكتبة ملك في طهران، برقم 1453، بخطّ أبي القاسم بن محمّد حسن في سنة (1235)، وتقع في (205) أوراق تحتوى الورقة على (16) سطرا.(4)

ويمكن أن يكون كتاب رموز التفاسير الواقعة في كتب الأربعة و غيرها من كتب الحديث من تأليف تلميذ ملاّ خليل المولى عليّ أصغر بن محمّد يوسف القزويني، مكمّلاً به كتاب اُستاذه ملاّ خليل.(5)

10. الأسئلة الخليليّة؛ وهي عبارة عن مجموعة أسئلة في التصوّف وجهّها ملاّ خليل إلى العلاّمة المجلسي، وأجاب عنها العلاّمة، وقد أدرج هذه الرسالة المرحوم الخياباني في كتابه وقايع الأيام (جلد محرّم الحرام)، كما أنّها قد طبعت ضمن كتاب تشويق السالكين.(6)

11. تفسير سورة الفاتحة؛ ذكر المحقّق الطهراني هذا التفسير في الذريعة وجعله من مؤلّفات ملاّ خليل القزويني، وكتب في وصفه: حكى بعض الفصلاء أنّه رآه وهو كبير

ص: 32


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس، ج 37، ص 589.
2- . فهرست نسخه هاى خطّى مدرسه خاتم الانبياء صدر بابل، ص 151.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 13، ص 183.
4- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه ملك، ج 1 الطبع الثاني، ص 246.
5- . الذريعة، ج 11، ص 251، رقم 1539.
6- . الذريعة، ج 2، ص 82 .

جدّا، وفيه لباب كلّ علم نافع».(1) ولكنّ الظاهر أن هذا التفسير هو للسيّد خليل القزويني، وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري، ويسمّى ب «كشف الحقائق أو فوائد الفاتحه وتفسير سيّد خليل القزويني. وقد فرغ من تأليفه في سنة (1239ق). وتوجد نسخة منه في مكتبه مجلس الشورى الإسلامي في طهران.(2)

12. رسالة أقوال الأئمّة؛ ضمّت مكتبة راجه الفيض آبادي نسخة من هذه الرسالة، ويوجد اسم هذه النسخة في فهرست هذه المكتبة، وقد كُتب في حقّها أنّ موضوعها فيالحديث، ولم يذكر توضيحا أكثر من هذا. ونقل هذا المطلب المحقّق الطهراني، وذكر أنّ ملاّ خليل كان يدرّس هذه الرسالة في مدينة الريّ في روضة عبد العظيم الحسني.(3)

13. رسالة في الأمر بين الأمرين؛ لقد رأى المحقّق الطهراني نسخة لهذه الرسالة في أحد مكاتب النجف الأشرف، وكانت بدايتها هكذا: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء، وسبحان من لايجري في ملكه إلاّ ما يشاء».(4)

143. شرح الصحيفة؛ لقد أدرج المحقّق الطهراني هذا الكتاب في الذريعة من دون أيّ توضيح، وذكر بأنّ نسخة منه توجد في مكتبة شيخ الشريعة الأصفهاني في النجف الأشرف.(5)

15. فهرست الكافي؛ توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة مير حسينا محفوظة هناك، وقد قوبلت مع النسخة الأصليّة في 25 ذي الحجّة من عام (1089ق).(6)

16. أجوبة مسائل محمّد المؤمن؛ وهي عبارة عن أجوبة على إيرادات ملاّ محمّد المؤمن بن السلطان قاسم على هذه العبارة: «العمل بظاهر القرآن ليس لإفاد ه الظنّ

ص: 33


1- . الذريعة، ج 4، ص 339.
2- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، ج 35، ص 262.
3- . الذريعة، ج 2، ص 276 بعنوان «اقوال الائمة»؛ و ج 11، ص 103 بعنوان «رسالة اقوال الائمة».
4- . الذريعة، ج 11، ص 115.
5- . الذريعة، ج 13، ص 351.
6- . نشريه نسخه هاى خطى دانشگاه تهران، المجلّد السادس، ص 346.

بمراده تعالى وبحكمه الواقعي، بل لعلمنا بأنّه يجب علينا اتّباع ظاهره»، وقد وصلت هذه الإشكالات إلى ملاّ خليل في قزوين في يوم عيد الفطر لسنة (1067ق)، فأجاب عنها في نفس هذه السنة عند ذهابه لزيارة مشهد المقدّسة. وتوجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة آية اللّه المرعشي، برقم (3028).(1)

17. الرسالة النجفيّة؛(2) وهي بالفارسيّة؛ وكانت عبارة عن أجوبة أسألة أرسلها له بعض الفضلاء من النجف الأشرف، وقد أكمل هذه الرسالة في غرّة سنة (1080ق). وطبعت هذه الرسالة في مجلّة علوم الحديث، العدد (19)، ربيع سنة (1380) هجري شمسي (ص 144 - 162) باهتمام مسعود الطبري.

وتوجد لهذه الرسالة ثلاث نسخ، وهي:

أ. في طهران في كلّيّة الآداب، برقم (إمام جمعة 216).(3)

ب . في بروجرد، في مدرسة الإمام الصادق عليه السلام، برقم (8)، وصوّرت هذه النسخة، واُودع تصويرها في مركز إحياء التراث الإسلامي برقم (1191).(4)

ج . في مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، نسخة رقم 7/11520.(5)

18. الرسالة القمّيّة(6) (بالفارسية)؛ وهي عبارة عن أجوبة أسألة نذر على بيك خصي من قمّ المقدّسة، حيث أظهر عجزه عن فهم حاشية القزويني على عدّة الاُصول، فكانت عبارة عن ثلاثة أسألة قدّمها له، ويطلب منه الإجابة، وكانت هذه الأسألة في الترجيح بلا

ص: 34


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 8 ، ص 214.
2- . كشف الحجب والأستار، للسيّد اعجاز حسين، ص 577 ؛ الذريعة، ج 11 ص 228 بعنوان «الرسالة النجفيّة»؛ وج 20 ص 371 بعنوان «المسائل النجفيّة».
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه دانشكده ادبيات تهران، ج3، ص 35.
4- . مجله وقف ميراث جاويدان، ش 21، ص 126؛ فهرست نسخه هاى عكسى مركز احياء ميراث اسلامى، ج3، ص 477.
5- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 24، ص 166.
6- . الذريعة، ج 5، ص 230 بعنوان «جوابات المسائل القمّيّة»؛ و ج 11 ص 222 بعنوان «الرسالة القمّيّة»؛ و ج 17، ص 171 «القمّيّة»؛ و ج 20 ص 363 بعنوان «المسائل القمّيّة».

مرجّح، وتخلّف المعلول عن العلّة، والمسائل المتوقّفة على الفكر، وكانت الأجوبة مختصرة واستدلاليّة.

وقد ذكر هذه الرسالة المحقّق الطهراني في الذريعة بعنوان «رسالة في ترجيح بلامرجّح».(1) كما وذكر في الذريعة أيضا عدّة رسائل بعنوان «رسالة في امتناع الترجيح بلا مرجّح» يحتمل أنّها في الجواب عمّا طرحه ملاّ خليل في هذه الرسالة.(2)

وتوجد لهذه الرسالة أربع نسخ خطّيّة في مكتبة آية اللّه المرعشي في قمّ، برقم (4076) و(6543) و(9562) و(11520).(3)

19. تعليقة على التوحيد؛ وهي عبارة عن تعليقات على كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، وقد ذكر الأفندي هذا التأليف، لكنّه ليس له وجود في يومنا الحاضر.(4)

20. حاشية الكافي؛ لمّا كان ملاّ خليل مقيما في مكّة المكرّمة قام بجمع حواشي محمّد أمين الإسترآبادي على كتاب الكافي وألّفها بصورة كتاب مستقلّ.(5)

21. حاشية الكافي؛ وهو كسابقه حيث قام بجمع حواشي اُستاذه الأمير أبي الحسن القائني المشهدي على كتاب الكافي للكليني، وألّفه بصورة كتاب مستقلّ عندما كان مقيما في مكّة أيضا.(6)

5. الردود على مؤلّفات ملاّ خليل

لقد كانت الآراء التي طرحها ملاّ خليل في مؤلّفاته السبب الموجب لتوجّه الانتقادات والإشكالات له من قبل العلماء والمفكّرين، حتّى كتبت في ردّ كتبه عدّة

ص: 35


1- . الذريعة، ج 11، ص 144 بعنوان «رسالة في الترجيح بلا مرجّح».
2- . الذريعة، ج 11، ص 113.
3- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 11، ص 81 ؛ و ج 17 ص 126 بعنوان «ترجيح بلا مرجّح»؛ و ج 24 ص 305؛ و ج 29، ص 166 وهما بعنوان «أجوبة أسئلة نذر عليّ».
4- . رياض العلماء، ج 2، ص 266.
5- . نفس المصدر.
6- . نفس المصدر.

كتب، بعضها ذكرناها عند ذكر آثاره، وبعضها الآخر كما يلي:

1. نقد كلام ملاّ خليل القزويني (بالفارسي)؛ تأليف صدر الدين محمّد بن محمّد صادق القزويني الحسيني (حيّ إلى سنة 1109ق) وهو من تلامذة آقا رضي القزويني، وقد كتب الحسيني هذه الرسالة في سنة (1103ق) وكانت ردّا على ما قاله ملاّ خليل في كتاب الصافي في شرح الكافي، حيث جاء فيه: «من ترك أخا لاُمّ وابن أخ لأب واُمّ ...»، وردّا أيضا على حاشية محمّد باقر - أخو ملاّ خليل - على هذا القسم من حاشية أخيه.(1)

والنسخة الأصليّة لهذه الرسالة محفوظة في المكتبة الخاصّة بالقائني في قمّ المقدّسة، برقم (334)، حيث جاء في بدايتها هكذا: «اين چند كلمه در بحث فرايض از صافى شرح كافي به خاطر رسيده و در اين وقت بعنوان شرح الشرح نگاشته».(2)

2. نقد كلام ملاّ خليل في باب الرؤية؛ وهو الآخر من تأليفات المؤلّف السابق، وفيه نقل الحسيني الشرح المزجي لملاّ خليل على الكافي، وما قاله في شرح حديث الإمام الرضا عليه السلام والذي نفي فيه الإمام رؤية الباري في الدنيا والآخرة، وأورده الكليني في كتاب الكافي في باب الرؤية، فأشكل عليه وردّه، وأوّله هكذا: «بعد الحمد و الصلاة، هذه كلمات سنحت لي في حديث الإمام الثامن مولانا عليّ بن موسى الرضا عليه السلام».

وكتب المولى عليّ أصغر بن المولى محمّد يوسف القزويني تلميذ ملاّ خليل رسالة أجاب فيها على إشكالات الحسيني على ملاّ خليل، وبعدها كتب الحسيني رسالة آخرى ردّ فيها على أجوبة ملاّ علي أصغر. وتوجد هذه الرسائل الثلاث بخطّ صدر الدين الحسيني في مكتبة آية اللّه المرعشي.(3)

ص: 36


1- . الذريعة، ج 24، ص 277.
2- . مجله تراثنا، ش 52، ص 139.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 17 ص 172 - 174، مجموعة رقم 6598، وهي تشمل 5 رسائل بهذا التفصيل: 1. حاشية الجرجاني على الكشّاف ورقة 1 - 168، 2. حاشية الباغنوي على حاشية الجرجاني على شرح المطالع (ورقة 170 - 257)، 3. رسالة صدرالدين الحسيني على نقد ملاّ خليل (ورقة 259 - 267)، 4. ردّ ملاّ عليّ أصغر على الحسيني (ورقة 167 - 279)، 5. جواب الحسيني على ردّ ملاّ عليّ أصغر (ورقة 279 - 289).

3. رسالة في بطلان ما نسبه ملاّ خليل القزويني في حاشيته على عدّة الاُصول إلى أصحابنا الإماميّة؛ تأليف الفاضل شمس الدين محمّد الشيرازي، وكان معاصرا لملاّ خليل القزويني. وقد نفى الشيرازي في هذه الرسالة الأقوال التي نسبها ملاّ خليل إلى الشيعة الإماميّة في مسألة الجبر والاختيار. وكانت بدايتها: «الحمد للّه الذي خلق الثقلين لعبادته بقوله: «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، ولم يشاء منهم الكفر والمعصية، تعالى اللّه علوّا كبيرا عمّا يقول الظالمون».(1)

4. جاء الحقّ في صلاة الجمعة؛ وهو ردّ على رسالة صلاة الجمعة لملاّ خليل، وكُتب هذا الردّ في سنة (1076ق) ولم يعرف مؤلّفه.(2)

5. رسالة في صلاة الجمعة؛ وهي من تأليفات المولى محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي القمّي، وقد ردّ القمّي في هذه الرسالة على رأي ملاّ خليل القزويني ورأي ملاّ حسن عليّ بن المولى عبد اللّه الشوشتري في مسألة صلاة الجمعة.(3)

6 . رسالة في الدفاع عن ملاّ خليل؛ وهي للمولى أبي الوفاء بن محمّد يوسف، المشهور بالقاضي القزويني، وهو تلميذ المولى خليل القزويني، وقد أجاب أبو الوفاء في هذه الرسالة على بعض الإشكالات التي وجّهها بعضهم على اُستاذه في مسألتي «تخلّف المعلول عن العلّة» و «الترجيح بلا مرجّح». وقد كتب هذه الرسالة في سنة (1124).(4)

7. حاشية الشافي في شرح الكافي (عربي)؛ ولم يعرف مؤلّفها، وهي حاشية على ما قاله ملاّ خليل القزويني في الشافي ذيل حديث: «ما جرى بين أبي الحسن موسى عليه السلام و الزنديق ... قال الرجل: فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ». وبداية هذه الحاشية: «روى الكليني - روّح اللّه روحه - في ثالث أوّل كتاب التوحيد في حديث طويل ماجرى بين أبي الحسن موسى عليه السلام و الزنديق، و فيه ما هذا لفظه: فقال الرجل: فإذا

ص: 37


1- . كشف الحجب والأستار لسيّد إعجاز حسين، ص 243؛ الذريعة، ج 1، ص 71.
2- . الذريعة، ج 15، ص 20.
3- . الذريعة، ج 15، ص 72.
4- . لباب الألقاب في القاب الأطياب ملاّ حبيب الكاشاني، ص 91؛ الذريعة، ج 20، ص 106.

إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ، فقال أبو الحسن: «لما عجزت حواسّك ...» و هذا الكلام من مطارح أنظار الأعلام... قال الشارح قدس سره بعد قوله: أيقنّا أنّه ربّنا».

تحتوي نسخة هذه الحاشية على (12) صفحة، ضمّت كلّ صفحة (15) سطرا، وهي محفوظة ضمن المجموعة رقم 170/2/350 في مكتبة آية اللّه الگلپايگاني في قمّ المقدّسة.(1)

6. مخطوطاته

لقد ترك المؤلّف عدّة مخطوطات، فإنّه قدس سره كان يحرّر تأليفاته عدّة مرّات، ولذا توجد الآن عدّة نسخ لمؤلّفاته بخطّ يده، وقد شخّصت لحدّ الآن عدّة نسخ كتبها بيده، وهي:

1. الأمالي، للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460ق). وقد حرّر هذه النسخة ملاّ خليل في سنة (1048ق)، وأصل هذه النسخة محفوظ في مدينة زنجان في مكتبة السيّد عزّ الدين الزنجاني، برقم (413)،(2) ويوجد ميكروفيلم منه في جامعة طهران، برقم (2975).(3)

2. الحاشية على اُصول الكافي، تأليف ميرزا رفيع الدين محمّد بن حيدر الحسيني النائيني الطباطبائي (م 1082ق).

وقد كتب ملاّ خليل هذه الحاشية بخطّه في (250) ورقة من دون ذكر تأريخ الكتابة. وتوجد نسخة منها محفوظة في مكتبة آية اللّه المرعشي.(4)

3. التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي (م 460ق). وتوجد نسخة نفيسه منه في مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني وعليها خطّ المولى خليل القزويني ومذكراته بتأريخ (1048ق).(5)

ص: 38


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، أبوالفضل حافظيان بابلى. مخطوط.
2- . الذريعة، ج 2، ص 313.
3- . فهرست ميكروفيلم هاى كتابخانه دانشگاه تهران، ج1، ص 744.
4- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 16، ص 306، نسخه ش 643.
5- . الذريعة، ج 3، ص 329.

4. حاشية شرح الشمسيّة، للمترجم، وتوجد نسخة منها في مكتبة آية اللّه المرعشي، ويحتمل كونها بخطّ المؤلّف.(1)

5. الشافي، وهو للمولى خليل أيضا، وقد نقل في الذريعة أنّ نسخة من هذا الكتاب بخطّ المؤلف موجودة ضمن مجموعة السيّد محمّد مشكاة في مكتبة جامعة طهران.(2)

6 . توجد على نسخة من نسخ من لايحضره الفقيه: «بلغت» و«سمعت» للملاّ خليل مع محمّد زمان في تاريخ (1053ق). وتوجد هذه النسخة في مكتبة ميرحسينا في قزوين.(3)

7. الصافي في شرح كافي. توجد ثلاث نسخ للصافي قد كتبت وحرّرت بخط ملاّ خليل نفسه، وهي:

1. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 7251، كتاب العقل وكتاب التوحيد، بالخط النسخي، وروايات الكافي معرّب، 93 ورقة [الفهرست، ج 19، ص 47] .

2. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 682، كتاب الإيمان والكفر، بخط النسخ والنستعليق، 301 ورقة [الفهرست، ج 5، ص 1389] .

3. مكتبة مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بقزوين، الرقم 131: كتاب المعيشة من باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها، 132 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 174] .

7. اُسرته

إنّ أفراد اُسرته الذين عرفوا لحدّ الآن هم:

1. غازي القزويني، أبوه، ولم يذكر عنه شيء في الكتب التي تعرّضت للرجال وغيرها.

2. ملا محمّد باقر بن غازي، وهو أخو المؤلّف، وهو من أعيان علماء عصره، وقد عيّن مدرّسا في روضة عبد العظيم الحسني وهو في سنّ الثلاثين من عمره. وكان

ص: 39


1- . الذريعة، ج 6، ص 35.
2- . الذريعة، ج 13، ص 6؛ فهرست نسخه هاى خطّى دانشگاه، ج 5، ص 1360، ش 915.
3- . نشريه نسخه هاى خطّى، ج 6، ص 352.

أستاذا في مدرسة «التفاتيّة» في قزوين.(1)

وقد ترك آثارا، ومن آثاره:

أ. الحاشية على حاشية عدّة الاُصول، وتوجد نسخة منها في مدرسة «سپهسالار» في طهران.(2)

ب. الحاشية على صافي ملاّ خليل.(3)

ج. رسالة في صلاة الجمعة.(4)

3. جعفر بن غازي القزويني، وهو أخ آخر للمؤلّف، وجاء في كتب الرجال في بيان حياته مايلي:

جعفر بن الغازي الرازي، عالم جليل محدّث من أعلام القرن الحادي عشر، سكن قزوين متلمّذا على المولى خليل القزويني، وساح وتجّول في بلاد كثيرة باحثا منقّبا، وكتب بخطّه الجيّد وصحّح وقابل كتبا كثيرة في التفسير والحديث وغيرهما. كتب حواشي تدلّ على فضله على نسخة من فروع الكافي، بدأ بها في قزوين سنة (1060)، وأتمّها في قرية عبد العظيم في جمادى الاُولى سنة 1068. له زين المؤن ألّفه سنة (1082 ق).(5)

4. المولى سليمان بن ملاّ خليل القزويني، (وهو ابن المؤلّف).(6)

وقد ضبطت رسالتان من آثاره في المصادر، وهما:

أ. رسالة في صلاة الجمعة؛ وفيها قال بحرمة صلاة الجمعة زمن الغيبة كوالده،(7) وقد

ص: 40


1- . راجع لمعرفة حياته مفصّلاً: أمل الآمل، ج 2، ص 176 و 248 و 251؛ تعليقة أمل الآمل، ص 248؛ رياض العلماء، ج 5، ص 38 - 39؛ فوائد الرضويّة، ص 403 - 404؛ أعيان الشيعة، ج 9، ص 178؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 92 - 93؛ مينودر يا باب الجنّه قزوين، ج 2 ص 276 و 665 و 856 - 857 ؛ معجم رجال الحديث، ج 14، ص 210.
2- . فهرست كتابخانه مدرسه عالى سپهسالار شهيد مطهرى، ج 1، ص 566.
3- . الذريعة، ج 6، ص 78.
4- . الذريعة، ج 15، ص 66.
5- . تراجم الرجال، ج 1، ص 125.
6- . وردت حياته في المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 128؛ فوائد الرضويّة، ص 203؛ أعيان الشيعة، ج 7، ص 279؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 248؛ مينودر يا باب الجنّه قزوين، ج 2 ص 666.
7- . الذريعة، ج 15، ص 72.

كتب ملاّ عبد اللّه بن صالح السماهيجي (م 1135ق) رسالة في خراسان ردّ فيها على هذه الرسالة، وسمّاها النفر والرهط الذين يجب عليهم الجمعة.(1)

ب . مناسك الحجّ؛ وقد كتبها باسم السلطان سليمان الصفوي المتوفّي سنة (1106ق).(2)

5. أحمد بن خليل بن غازي القزويني (ابن المؤلّف أيضا) والذي توفّي في حياة أبيه،(3) وقد كتب حاشية على حاشية أبيه على عدّة الاُصول.(4)

6. أبوذرّ بن ملاّ خليل القزويني (وهو ابنه الثالث)، وقد توفّي أيضا في حياة أبيه.(5)

7. محمّد نصير بن حاجي أفضل بيك (ابن أخي المؤلّف) وهو الذي كتب نسخة من فروع الكافي اشتملت على كتاب الصلاة والجهاد من سنة (1070) إلى سنة (1073ق).(6)

8. الأوضاع العلميّة والثقافيّة في قزوين في زمن ملاّ خليل

كان مولد ملاّ خليل في عام (1001ق)، وكانت قزوين في ذلك الزمن عاصمة للدولة الصفويّة، وقد بدأ فيها السلطان عبّاس الصفوي بمطاردة الفلاسفة والصوفيّة وتصفيتهم، وكان ملاّ خليل في الربيع الثاني من عمره.

وتعتبر المدرسة الفلسفيّة لقزوين ذات تاريخ قديم، فكانت من قديم الزمان مهدا لتربية جمع كثير من فحول الفلاسفة وكبار الحكماء والمتكلّمين، أمثال عليّ بن حاتم القزويني صاحب كتاب التوحيد الذي كان حيّا إلى سنة (326)، وأبي بكر عبد اللّه بن طاهر بن حارث الأبهري القزويني المتوفّي في سنة (330ق) وهو من طبقة الشبيلي،

ص: 41


1- . الذريعة، ج 24، ص 258؛ كشف الحجب والأستار، ص 248.
2- . الذريعة، ج 22، ص 264.
3- . تعرّضت لحياته المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 14؛ رياض العلماء، ج 1، ص 38؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 31.
4- . معجم المؤفين، ج 1، ص 217؛ أعيان الشيعة، ج 8 ، ص 376.
5- . ذكرت حياته الشخصيّة والعلميّة في المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 352؛ أعيان الشيعة، ج 2، ص 349؛ طبقات أعلام الشيعة قرن 11، ص 212.
6- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، أبوالفضل حافظيان بابلى مخطوط، نسخه ش 15/1.

والشيخ علك القزويني الذي توفّي في حدود سنة (480ق)، ومن معاصري السلطان محمّد بن ملكشاه السلجوقي صاحب الكرامات، وأبي بكر بن شاذان القزويني المتوفّي في سنة (581ق)، والكاتب القزويني المتوفّي في سنة (675ق)، وعبد الجليل القزويني صاحب كتاب نقض، وآخرون.(1)

لقد قام السلطان عبّاس الأوّل الصفوي (حكم 996 - المتوفّي 1038ق) بانقلاب عسكري على جيشه، فعزل جميع قوّاد الجيش وأصحاب المراتب العاليه فيه ممّن كان صوفيّا أوله مسلك فلسفي، كما وأغلق المدارس الفلسفيّة في قزوين، وحدّث قتل عام للفلاسفة ولمن يتّصل بهم في قزوين، وأسّس محاكم لمعرفة عقائد الناس، وكثيرا مّا كان يحاكم الفلاسفة بنفسه ويصدر في حقّهم حكم الإعدام. وقد عكس لنا الملاّ عبد النبيّ القزويني (م 1050ق) أحد هذه المجازر الجماعيّة التي ارتكبها السلطان عبّاس بنفسه.(2)

وبعد هذه التصفية التامّة للفلاسفة والصوفيّة أصبح الميدان خاليا للأخباريّين، ففي ظلّ السيف استطاع الصفويّون من سنة (1003ق) الاستيلاء التامّ على حوزات مدينة قزوين من سنة (1003ق) وأخذوا يصولون ويجولون فيها، واستمرّت قوّتهم وشوكتهم حتّى بعد انتقال العاصمة إلى مدينة إصفهان، بل استمرّت بعد انقراض الدولة الصفويّة.

وكان العلماء الاُصوليّون في قزوين يدركون خطر الأخباريّين، وكانوا على قلق شديد من الجمود الفكرى الحاكم على الحوزات العلميّة للشيعة والناشئ من الفكر الأخباري الجامد، ولذا نراهم كانوا يخالفونهم، ويتنازعون معهم من بداية شوكتهم وقوّتهم في قزوين.

وقد كتب المحقّق الشهيدي الصالحي القزويني مقالاً تحقيقيّا دقيقا في نشوء وسقوط الأخباريّين في قزوين، ولأجل معرفة هذا التيّار الفكري الحاكم على مدينة

ص: 42


1- . مدرسه فلسفى قزوين در عصر صفوى مقاله، عبدالحسين صالحى شهيدى، (طبع في مجلّة حوزة، ش 58، ص 169 - 192).
2- . المصدر السابق.

قزوين زمن ملاّ خليل نقلنا قسما من مقالة الشهيدي بعينه:

بعد تجديد الحياة الاخبارية في العصر الصفوي وبواسطة الحملة الشعواء التي لم ترحم أحدا، التي شنّها السلطان عبّاس الأوّل الصفوي على المدارس الفلسفية في قزوين، استطاع الأخباريّون - تحت ظل السيف - الانتصار في مقابل الفلاسفة.

وقد اشتدّت قدرتهم عند ظهور الملاّ محمّد أمين الإسترآبادي المتوفّي في سنة (1033ق)، حيث أقام دعائم الأخباريّة، وقد وصلوا إلى أوج قدرتهم في عصر ملا خليل القزويني المتوفي سنة (1089ق) - والذي يعدّ أخباريا متشدّدا - حتّى قسّمت قزوين عملاً إلى قسمين: شرقي وغربي، ويفصل هذين القسمين نهر السوق، وقد سكن القسم الشرقي منها أتباع الاُصولية في حين سكن القسم الغربى أتباع الأخبارية.

وكان الجمود الفكرى والتعصّب الأعمى في ذلك الزمان هو السائد حتّى على فضلاء ومتديني الأخبارية، وكان طلاب العلوم الدينيّة التابعين لهم يتجاهرون بالتعصب والجهل، حتّى أنّهم كانوا إذا أرادوا حمل كتب الاُصوليين يجعلونها في قطعة قماش أو غيرها، ثمّ يحملونها؛ كي لا تصيب جلود تلك الكتب أيديهم فيتنجّسوا!!!

لقد لقّب الأخباريّون العلماءَ الاُصوليين بعلماء ماوراء النهر، وكان معنى هذا الإسم واللقب أنّ من يلقّب به محكوم بالكفر والإلحاد وأنّه مهدور الدم.

تتشكل الأخباريّة من طبقتين: الأعيان أو الاشراف والرعية، وكان الجهل والاعتقاد بالخرافات والاُمور الغيبية هو الحاكم على عوام الناس، حتّى أنّ مريضهم كان يعالج بواسطة الأدعية الطبيّة ولا يعالج بالعقاقير الطبيّة ولا بشرب الأدوية.

لقد صارت القادة على أموال الاُصوليين وقتلهم أمرا عاديا رائجا بين عوامّهم.

هكذا كانت الاُمور الحاكمة في قزوين حتّى ما يقارب سنة (1165ق)، حيث دخلها الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق (م 1184ق)، و هو من مشهوري علماء الأخباريّة، فلمّا دخلها استقبله الأخباريون استقبالاً حارّا، ونزل في القسم الغربي من المدينة، حيث كان بين أنصاره و أتباعه ومؤيّديه.

ص: 43

فلمّا دخل الشيخ يوسف البحراني مدينة قزوين حاول مقابلته العلماء من عائلة آل طالقاني والذين كانوا يمثّلون قيادة العلماء الاُصوليين، فالتقوا به ورتّبت بعدها زيارات متقابلة بين الطرفين.

وفي هذه الزيارات والاجتماعات وقعت مناظرات ومباحثات وجدل علمي بين الأخباريين والاُصوليين، حتّى استطاع الملاّ محمد ملائكة (م 1200ق) أن يقنع الشيخ يوسف البحراني زعيم الأخبارية في آخر لقاء بينهما، وذلك في منزله وبمحضر جمع غفير من علماء الفريقين، ولكن بعد مباحثة ومناظرة طويلة دارت بينهما، حتّى صار الشيخ يوسف البحراني على أثر هذه المناظرة من علماء الأخباريّة المعتدلين بعد أن كان متطرّفا متشدّدا.

وكان لهذه المناظرة صدى عظيم في قزوين، وكانت مورد بحث وجدال في مجالس فضلاء وخواصّ الفرقين، ودار على الألسنة: أنّ الملاّ محمّد ملائكة أقنع الشيخ يوسف البحراني وحكمه.

ولكن لم تستمر تلك المناظرات والمباحثات بين علماء الطرفين وفضلائهم طويلاً حتّى سرت إلى عوامّ الناس من مؤيّدي الطرفين، وتبدّل الأمر إلى حرب داخليّة محلّية في شوارع وأزقّة المدينة.

وفي أثناء هذه المواجهات واستمررا لها حمل الأخباريّون على بيت الملاّ محمد ملائكة كي يقتلونه، ولكنّه نجا من تلك المحاولة، ولكنهم أحرقوا بيته ومكتبته.

وقد عرفت واشتهرت هذه الحرب المحلّية باسم «حيدرى نعمتي»، ويتناقلها اليوم مشايخ مدينة قزوين ورواتها فيما بينهم على شكل قصص محلّية.

وقد غضب الشيخ يوسف البحراني غضبا شديدا من أعمال عوامّ الأخباريّة وسوقتهم، ثم ترك قزوين وقصد مدينة كربلاء المقدّسة اعتراضا على تلك الأعمال المشينة، واتّخذ كربلاء مسكنا له، ومن ناحية اُخرى أبعدت حكومة الوقت ملاّ محمّد ملائكة إلى قرية «برغان»، وبهذا الترتيب انتهت هذه الحادثة في قزوين.

وبعد هذه الكارثة بدأ العلماء الاُصوليون بتصديهم للأخبارين ومبارزتهم وذلك بقيادة العلماء من عائلة آل طالقاني.

ص: 44

وفي هذا الأثناء قام العلاّمة المجدّد المولى محمد باقر البهبهاني الحائري (م 1205ق) في كربلاء المقدّسة، وتصدّى للشيخ يوسف البحراني وأتباعه، وبوفاة المحدّث البحراني في سنة (1184ق) انزوت الأخبارية في إيران والعراق.(1)

وقد تعرّض الواعظ الشهير أدهم العزلتي الخلخالي - وكان من العرفاء المعاصرين لملاّ خليل القزويني، وكان تلميذا للشيخ البهائي، وقد سكن قزوين مابين سنة (1020) إلى سنة (1050) - في كشكوله المسمّى ب «كدو مطبخ قلندرى» إلى أهالي قزوين والأوضاع الحاكمة هناك، وانتقدهم عدّة مرات تصريحا وتلويحا.(2)

9. ملاّ خليل والأخباريّون

لقد نما واكتمل ملاّ خليل القزويني في أيّام تسّط الأخباريّين في قزوين، ومن الطبيعي أن تؤثّر هذه الأوضاع على أفكاره، ولذا أصبح في طبقة العلماء من الناحية الفكريّة، ويعدّ ملاّ خليل أحد العلماء الأخباريّين، وعدّه بعضهم بأنّه أخباريّ متشدّد،

وعدّه آخر بأنّه أخباريّ معتدل. لكي نعرف المباني الفكريّة لملاّ خليل لابدّ من طرح بعض عقائد الأخباريّين وأفكارهم وفرقها عن عقائد المجتهدين الاُصوليّين وأفكارهم، فجاء في دائرة المعارف الإسلاميّة الكبيرة في مدخل «الأخباريّون» في ذكر تاريخهم وفرقهم عن الاُصوليّين ما يلي:

الأخباريون في فقه الإماميّة المتأخّر: هم طائفة يعتمدون المنقولات في الكتب الحديثيّة من الأخبار والأحاديث، ولا يقبلون المناهج الاجتهاديّة والاُصوليّة، وفي مقابلهم الفقهاء الذين يعتمدون الاجتهاد ويعرفون بالاُصوليين. وتمتدّ جذور مقابلة هذين الرأيين في الفقه الامامي من القرون الاُولى للإسلام، ولكن من دون ذكر عنواني الاُصولية والأخبارية. وبالمطالعة لأنواع المكاتب الفقهية الإماميّة في القرون الثلاثة الاُولى يمكن التعرّف على جيل وطائفة كانوا يتّبعون طرقا مختلفة في فهم متون الأخبار توصلهم إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية في قبال

ص: 45


1- . المصدر السابق.
2- . راجع: كدو مطبخ قلندرى، أدهم العزلتي الخلخالي، ص 16 و 17 و 36 و 73 و 74 وموارد ديگر.

تبعة متون الأخبار.

وأوّل من أطلق اصطلاح «الأخباري» على معتمدي متون الأخبار والروايات هو الشهرستاني في كتابه الملل والنحل وذلك في النصف الأول من القرن السادس الهجري، وتبعه في ذلك جماعة. وبعده ذكر عبد الجليل القزويني الرازي - و هو من علماء الإمامية في القرن السادس الهجري - في كتابه النقض الاصطلاحين: الأخباري والاُصولي أحدهما قبال الآخر.

وضعّف مكتب فقهاء أهل الحديث في أواخر القرن الرابع والنصف الأوّل في القرن الخامس، وذلك بسعي الفقهاء الاُصوليين، وأصبح وجوده محدودا، ولكن حافظوا على هذا الوجود المحدود، واستمرّ هذا الأمر إلى أوائل القرن الحادي عشر، وعندها برزوا بثوب جديد بقيادة الملاّ محمد أمين الإسترآبادي (م 1033 أو 1036ق) الذي وجّه حملاته الشديدة على الطريقة المعتمدة غالبا في الفقه الإمامي؛ يعنى طريقة المجتهدين. ولابد من أن نلفت النظر إلى أنّ بعضهم يعتقد أنّ ابن أبي جمهور الأحسائي - الذي كان حيا إلى سنة (904ق) - كان من الذين مهدّوا السبيل للأخباريين وسوّوه لهم.

قالوا في ملاّ محمّد أمين الإسترآبادي الذي يعتبر مؤسّس الأخبارية ومشيّدها بين الشيعة المتأخرين هكذا: هو أوّل من فتح باب الطعن على المجتهدين، وأوّل من قسّم الإماميّة إلى قسمين: أخبارية واُصولية.

ومضافا إلى ملاّ محمد أمين الإسترآبادي المتشدّد والمتعصّب من المدرسة الأخبارية في القرن الحادي عشر، ذكروا متشدّدا آخر منهم في ذلك القرن وهو الشيخ عبد اللّه بن صالح بن جمعة السماهيجي البحراني، صاحب كتاب منية الممارسين، والذي اشتهر بطعنه على المجتهدين، كما عدّه الشيخ يوسف البحراني من الأخباريين، وأضاف بأنّه كان ممن يتطرّق لهم ويصيب من هجوهم، في حين كان أبوه ملاّ صالح من المجتهدين.

كما ويعدّ الملاّ محمد تقي المجلسي (م 1070ق) من أتباع المدرسة الأخبارية المعتدلين، وكان يؤيد تعليمات الملا محمّد أمين الاسترآبادي صراحة.

ومن الأخباريين المعتدلين أيضا: ملاّ خليل بن غازي القزويني (م 1089ق)،

ص: 46

وهو من معاصري الشيخ الحرّ العاملي ومحمّد باقر المجلسي وملا محسن الفيض الكاشاني، وأحد تلامذة الشيخ البهائي والسيد ميرداماد، وكان يخالف الاجتهاد مخالفة شديدة، وكان ينكره.

ومنهم: محمّد طاهر القمّي (م 1098ق).

ومنهم: الشيخ الحرّ العاملي (م 1104ق) وقد أشار في خاتمة كتابه المعروف وسائل الشيعة إلى أنّه من الأخباريين وأقام أدلّة على أحقّية مسلكه.

اشتهرت المدرسة الأخباريّة في القرون الثلاثة: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الهجريّة، واتّسعت في مدن إيران والعراق المذهبيّة، وهكذا في البحرين وبلاد الهند، وكانت من أهم المدن الإيرانيّة التي كثر فيها أتباع هذه المدرسة وتعتبر من القواعد المهمّة لهم، هى مدينة قزوين، وكان القسم الغربي منها محلّ سكونتهم واستقرارهم في زمن وصلوا فيه إلى أوج قدرتهم، فتعدّ قزوين أحد مراكز تلامذة وأتباع ملا خليل القزويني (م 1089ق) من الأخباريين.

ولكن بعد المواجهات المتعدّدة بين الأخباريين والاُصوليين، وبعد الصراع المرير بينهما أخذت المدرسة الأخباريّة بالضعف والاُفول يوما بعد يوم حتّى أصبح نفوذها محدودا جدّا.

وقد ذكر كلّ من السيّد نعمة اللّه الجزائري في منبع الحياة وملاّ رضي القزويني في لسان الخواصّ الفروق الأساسيّة بين الأخباريين والاُصوليين.

كما وعدّ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني في منية الممارسين أربعين فرقا بينهما.

وأيضا حقّق الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه الحقّ المبين عدّة فروق بينهما.

وأشار الميرزا محمّد الأخبارى في كتابه الطهر الفاصل إلى (59) فرقا بينهما.

وأوصل السيّد محمّد الدزفولي في فاروق الحقّ تلك الفروق والاختلافات إلى (86) فرقا.

كما وتعرّف الحرّ العاملي في الفائدة (92) من الفوائد الطوسيّة إلى الاختلافات بين المدرستين.(1)

ص: 47


1- . دائرة المعارف بزرگ اسلامى، ج 7، ص 160 - 163، مدخل «اخباريان».

ثمّ ذكر الكاتب في بقيّة مقالته عدّة اُمور يختلف فيها الأخباريّون عن الاُصوليّن، وهي كالآتي:

أ. الأخباريّون يحرّمون الاجتهاد، وأمّا الاُصوليّون فإنّهم يرونه واجبا كفائيّا، بل بعضهم يراه واجبا عينيّا، فمثلاً: نرى الملاّ محمّد أمين الإسترآبادي، ينكر الإجتهاد في كتابه الفوائد المدنيّة، ويقول: طريقة علمائنا المتقدّمين لم تكن اجتهاديّة.

ب. لقد حصر الأخباريّون الأدلّة بالكتاب والسنّة، في حين ذهب الاُصوليّون إلى حجّية الإجماع والعقل.

ج . منع الأخباريّون من تحصيل الأحكام عن طريق الظنّ، ولم يقولوا بحجّية غير العلم، والاُصوليّون على خلاف ذلك.

د . قُسّمت الأخبار لدي الأخباريّين إلى قسمين: صحيح وضعيف، وقسمّها الاُصوليّون إلى أربعة أقسام: صحيح وموثّق وحسن وضعيف.

ه . لقد قسّم الاُصوليّون المكلّفين إلى قسمين: مجتهد ومقلّد، وأمّا الأخباريّون فيرون أنّ المكلّفين كلّهم مقلّدي المعصوم، ولايجوّزون تقليد غير المعصوم.

و . ذهب الاُصوليّون إلى حجّيّة ظواهر القرآن ويرجحونه على ظواهر الأخبار، ولكنّ الأخباريّين لايجيزون التمسّل بظاهر الكتاب إلاّ في صورة عدم وجود تفسير وارد من المعصوم عليه السلام.

ز . ذهب الأخباريّون إلى أنّ جميع أخبار الكتب الأربعة صحيحة وقطعيّة الصدور، في حين لايرى الاُصوليّون صحّة جميع الأخبار الواردة في الكتب الأربعة، بل يخضعونها إلى قواعد خاصّة، فيكون بعضها صحيح وآخر غير صحيح، والصحيح على أقسام، كما هو مفصّل في محلّه.

ح . الأخباريّون يقولون بالحسن والقبح العقليّين، لكنّهم يخالفون الاُصوليّين في الأحكام العقلية المحضة فلا يقولون بحجّيّتها.

ط . ذهب الاُصوليّون إلى جريان أصالة البراءة في الشبهة الحكميّة التحريميّة وفي الشبهة الحكميّة الوجوبيّة، لكنّ الأخباريّين يقولون بجريانها في الشبهة الحكميّة

ص: 48

الوجوبيّة فقط.

ي . ذهب الأخباريّون إلى أنّه عند تعارض الأخبار لا تكون البراءة الأصليّة هي المرجع، عكس الاُصوليّين. قال الإسترآبادي في الفوائد المدنيّة:

أنا أعتقد أنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يصحّ قبل إكمال الدين، وأمّا بعد أن كمل الدين فلا محلّ لجريانها، بل لايجوز قطعا؛ لأنّ الأخبار تواترت عن

الأئمة عليهم السلام بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الاُمّة إلى يوم القيامة، وكلّ واقعة يقع فيها اختلاف بين اثنين ورد فيها خطاب قطعي من الشارع المقدّس.

ك . ذهب الاُصوليّون إلى حجّيّة القياس المنصوص العلّة وكذا قياس الأولويّة وتنقيح المناط، ولكنّ الأخباريّين يرون أنّ هذه الأنواع من القياس هي من القياس الباطل والمنهي عنه في لسان الأحاديث.(1)

10. المصادر

أهمّ المصادر التي ذكرت ملاّ خليل وعرضت حياته أو نقده وما أشبهه هي: أمل الآمل، رياض العلماء، روضات الجنّات، قصص العلماء، ونجوم السماء.

وأمّا المصادر الاُخرى فإنّها كرّرت ماجاء في هذه الكتب الخمسة، وإليك أسماء جميع هذه المصادر مرتّبة طبق حروف الهجاء.

1. اثر آفرينان (زندگينامه نام آوران علمى ايران ازآغاز تا سال 1300 ش)، باهتمام عبدالحسين نوايي، ج 4، ص 342.

2. الأعلام، للزركلي، ج 2، ص 368.

3. أعيان الشيعة، للعاملي، ج 6، ص 355.

4. الإجازة الكبيرة، سيد نعمة اللّه الجرائري، ص 38 و 202.

5. الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، الشيخ السماهيجي البحراني، ص 131.

ص: 49


1- . المصدر السابق.

6. أمل الآمل، الحرّ العاملي، ج 2، ص 112.

7. بناهاى آرامگاهى (دائرة المعارف بناهاى تاريخى ايران در دوره اسلامى)، پژوهشگاه فرهنگ و هنر اسلامى، تقويم محمّد مهدي العقابي، ص 40.

8. تتميم أمل الآمل، عبد النبيّ القزويني، ص 60 و 124 و 157.

9. تذكرة المتبحّرين، الحرّ العاملي، ص 314.

10. تراجم الرجال، للسيّد أحمد الحسيني، ج1، ص 126 و 168 و 200؛ و ج 2 ص 385.

11. تعليقة أمل الآمل، ص 50.

12. تنقيح المقال، المامقاني، ج 1 ص 402.

13. الجامع في الرجال، الشيخ موسى الزنجاني، ج 3 ص 703.

14. جامع الرواة، ميرزا محمّد عليّ الأردبيلي، ج 1، ص 298 - 299.

15. دائرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 247 (خليلا قزوينى) للكاتب: شهيدي الصالحي.

16. روضات الجنّات، للسيّد الخوانساري، ج 3، ص 269 - 274.

17. رياض الجنّة، للسيّد الزنوزي الخوئي، الروضة الرابعة، ج 1، ص 550 - 553.

18. رياض العلماء، ميرزا عبداللّه الأفندي، ج 2، ص 261 - 266.

19. ريحانة الأدب، ميرزا محمّد عليّ المدرّس التبريزي، ج 4، ص 450 - 452.

20. سفينة البحار، للشيخ عبّاس القمّي، ج 1 ص 426.

21. سلافة العصر، سيد عليّ خان المدني الدشتكي، ص 499.

22. طبقات أعلام الشيعة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني، (قرن 11)، ص 203 - 204.

23. فرهنگ بزرگان اسلام و ايران، آذر تفضّلي و مهين فضائلي جوان، ص 196.

24. الفوائد الرضوية، للشيخ عبّاس القمّي، ص 174 - 172.

25. فهرست كتب خطى كتابخانه هاى اصفهان، آيت اللّه سيد محمّد على روضاتى، ص 289 - 303.

26. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه دانشگاه تهران، محمّد تقى دانش پژوه، ص 1357 و 1385 و 1669.

ص: 50

27. قصص العلماء، للتنكابني، ص 264 - 265.

28. قصص الخاقاني، ولي قلي بن داود قلي شاملو، ج 2، ص 36-37.

29. لباب الألقاب في ألقاب الأطياب، ملاّ حبيب اللّه شريف الكاشاني، ص 91.

30. لغت نامه دهخدا، ذيل مدخلِ «خليل».

31. خاتمة مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري، ج 3، ص 413.

32. معجم رجال الحديث، للسيّد الخويي، ج 7، ص 79.

33. معجم المؤّفين، عمر رضا كحاله، ج 4، ص 125.

34. مؤلفين كتب چاپى فارسى و عربى، خان بابا مشار، ج 3 ص 31.

35. مينودر يا باب الجنّه قزوين، سيد محمّد علي گلريز قزويني، ج 2 ص 173.

36. نجوم السماء فى تراجم العلماء، محمّد على كشميرى، مير هاشم محدّث، ص 105 - 108.

37. هدية الأحباب، حاج شيخ عباس قمى، ص 176.

38. هدية العارفين، اسماعيل پاشا بغدادى، ج 1، ص 354.

39. وقايع الأيّام (وقايع ماه محرم) ، ملاّ على خيابانى، ج 2 ، ص 147 .

11. الشافي في شرح الكافي

إشارة

وهو شرح مزجي مفصّل لكتاب الكافي، وكان تأليفه بأمر من سلطان العلماء كما صرّح بذلك المؤلف في مقدّمة الكتاب، حيث قال:

أمرني بشرح الكافي مفخر العلماء ، وأعظم السادات والعظماء ، نور الهدى وبدر الدُّجى ، ملجأ الضعفاء والمساكين ، مرجع الاُمراء في العالمين ، اعتماد الدولة العليّة العالية الحسينيّة الموسويّة الصفويّة ، خليفة سلطان الحسيني، الملقّب بسلطان العلماء أدام اللّه تعالى إقباله وإفضاله .

وقال المؤلّف نفسه في سبب تأليفه الكتاب وزمان شروعه بذلك ومكانه ما نصّه:

واحتياج الكافي إلى الشرح الشافي حرّك العزم منّي، فشرعت في شرحه في حرم

ص: 51

اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام - زاده تعظيما - في سنة سبع و خمسين وألف هجرية.

والذي يفهم من مقدّمة المؤلّف على الكتاب أنّه قرّر أن يقوم بشرح كتاب الكافي بكامله، ولكنّ الذي عرف من نسخه الخطّية ووصل إلينا لحدّ الآن هو إلى نهاية كتاب الجنائز، وإلى الآن لم تُعرف أنّ له تتمّة، لذا نحتمل أنّ المؤلّف لم يستمرّ في ذلك

الشرح، بل تركه واعتنى بشرحه الفارسي للكتاب، وهو ما يسمّى ب «الصافي».

وبمقايسة بسيطة بين الصافي والشافي يتّضح أنّ المرتبة العلميّة للشرح العربي - أعين الشافي - أعلى من الصافي، وذات عبارات أكثر انسجاما وأكثر وضوحا.

إنّ ملاّ خليل بعد تأليفه كتاب الشافي حرّره وراجعه عدّة مرّات، فغيّر بعض المطالب وحذف اُخرى وأضاف ثالثة، وهذا ما جعل معرفة التحرير الأخير وتشخيصه أمرا مشكلاً.

وقد وقفنا على تحريرين للمؤلّف لكتاب الشافي، واعتمدنا التحرير الثاني وجعلناه أصلاً، وقد استنسخت منه عدّة نسخ جعلناها ملاكا لتصحيح الكتاب. ومن حسن الحظّ أنّا حصلنا على نسخة يعدّ متنها الأصلي هو التحرير الأوّل، وعليها تغييرات بخطّ المؤلّف نفسه، حيث غيّر بعض المطالب وأضاف أو حذف بعضا آخر على نفس تلك النسخة والتي تعتبر التحرير الثاني له، ومنها استنسخت عدّة نسخ.

ولمعرفة هذه التغييرات الحاصلة في التحرير الثاني عرضنا نماذج من بعض صور هذه النسخة لكي يشاهدها القارئ المحترم عن قرب ووضوح.

1/11. مخطوطات الشافي المهمّة

لقد عرفت وشخّصت لحدّ الآن أكثر في ستّين نسخة خطية من نسخ الشافي في مكتبات إيران فقط، وسَنُطلع القرّاء الكرام على أهمّ هذه النسخ باختصار وإيجاز غير مخلّين.

1. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 916. الكتاب الثاني من الكافي، أوّلها:

ص: 52

«بسمله، الحمدُ للّه ربّ العالمين... فيقول... خليل بن...»؛ بالخطّ النسخي، نسخها جعفر بن غازي الرازي، و فرغ عنها في شوّال 1058ق، 210 أوراق [الفهرست، ج 5، ص 1359] .

2. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 3786. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، ناسخها وتاريخ نسخها مجهول، لكن قوبلت مرّتين، إحداهما في تاريخ 1060ق والثانية فى 1076ق، 225 ورقة [الفهرست، ج 10، ص 172] .

3. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله في قمّ، الرقم 485. المجلّد الأوّل من الكافي، بخطّ النستعليق، نسخها محمّد إبراهيم الرازي، وفرغ عنها في أوائل ربيع الثاني من سنة 1063ق، 235 ورقة [الفهرست، ج 13، ص 25] .

4. مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة في مشهد، الرقم 902. كتاب العقل من الكافي، نسخها محسن بن نظام الدين محمّد القرشي، وفرغ عنها سنة 1064ق [الفهرست الإهدايى، ص 141] .

5. مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي في قمّ، الرقم 2447. أوّلها: «الدهر ثمّ ببيانهم عليهم السلاميعرف». وآخرها: «وعلى الأخير بمعنى الذنب». بالخطّ النسخي، نسخها قوام الدين أمير حسين الجوهرستاني اللنجاني، وفرغ عنها في 10 رمضان المبارك سنة 1064ق، 279 ورقة [الفهرست المخطوط، ص 7] .

6. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1467 /ع. كتاب العقل و الجهل وكتاب الحجّة من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد صالح بن محمّد سعيد الحسيني، وفرغ عنها فى 1067ق، 293 ورقة [الفهرست، ج 9، ص 493] .

7. مكتبة جامعة العلوم القرآني بطهران، الرقم 7. المجلّد الثاني والثالث من الكافي، بخط النستعليق، كاتبها مجهول، فرغ عن نسخها في جمادي الأولى من سنة 1067ق [مجلّة وقف ميراث جاويدان، ج 9، ص 130] .

8. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1896/ع. القسم الاُصول من الكافي، أوّلها:

ص: 53

«فوجب القطع بأنّ العلم بعدم الإيمان مناف...». بخطّ النستعليق، نسخها محمّد حسين بن عبد المطلّب الحسيني الجيلاني، وفرغ عنها في 1070ق، 69ورقة [الفهرست، ج 10، ص 547] .

9. مكتبة مجلس سنا في طهران، الرقم 216. كتاب التوحيد من الكافي، بالخط النسخي وناسخها مجهول، فرغ عن نسخها سنة 1076ق، 237 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 101] .

10. مكتبة آية اللّه الگلپايگاني رحمه الله بقم، الرقم 2376. كتاب الإيمان والكفر من الكافي، نسخت في 1086ق، وناسخها مجهول [الفهرست القديم، ج 3، ص 241] .

11. مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة في مشهد، الرقم 1405. كتاب العقل و كتاب التوحيد من الكافي، نسخت في عام 1087ق، وناسخها مجهول [الفهرست الإهدائي، ص 141] .

12. مكتبة جامعة إلهيّات بطهران، الرقم 235ج. كتاب الدعاء إلى آخر كتاب العشرة من الكافي. بالخطّ النسخي وبعضها بالنستعليق. ناسخها مجهول، وفرغ عنها في 25 ربيع الأوّل من سنة 1089ق، 282 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 565] .

13. مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي في قمّ، الرقم 2195. إلى كتاب الحيض من كتاب الطهارة. بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، وفيها علامة البلاغ تصحيحا بإمضاء حسين بن أفضل بيك في تاريخ 25 شوّال سنة 1089ق، 225 ورقة [الفهرست العكسي، ج 6، ص 247] .

14. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 2503 /ف. من كتاب الطهارة إلى كتاب الجنائز أوّلها: «بسمله، الحمد للّه ربّ العالمين حمدا كثيرا، والصلاة...». بالخطّ النسخي، نسخت في عام 1090ق، وناسخها مجهول، 425 ورقة [الفهرست، ج 6، ص 4] .

15. مكتبة فحول القزويني في قزوين، من دون الرقم. كتاب التوحيد وكتاب العقل من الكافي، سُقط من أوّلها وآخرها. نسخها محمدرضا التنكابني في عام 1092ق [مجلّة تراثنا، ج 2، ص 76] .

ص: 54

16. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 6002. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، وناسخها و تاريخ نسخها مجهول، قوبلت مرّتين مع نسخة المؤلّف، 134 ورقة [الفهرست، ج 16، ص 5] .

17. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله في قم، الرقم 6003، كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في 26 محرّم 1094ق، وناسخها مجهول، وقوبلت مع نسخة المؤلّف، 139 ورقة [الفهرست، ج 16، ص 6] .

18. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 6267. المجلّد الأوّل من الاُصول، بالخطّ النسخي، نسخها عليرضا بن أحمد الطالقاني، وفرغ عنها في 20 شعبان سنة 1094ق، 361 ورقة [الفهرست، ج 25، ص 264] .

19. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1626 / ع . من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الجنائز من الكافي. أوّلها: «الحمد للّه ربّ العالمين حمدا كثيرا، والصلاة على سيّد الأوّلين....». بالخطّ النسخي، نسخها محمّدكاظم بن محمّد صادق عبد العظيمي، وفرغ عنها عام 1095ق، 182 ورقة [الفهرست، ج 10، ص 183] .

20. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 10741. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في عصر المؤلّف، وناسخها مجهول، 210 أوراق [الفهرست، ج 27، ص 175] .

21. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 9954. من كتاب الطهارة إلى آخر باب استبراء الحائض. بالخطّ النسخي، ناسخها وتاريخ نسخها مجهول، لكن نسخت تقريبا في عصر المؤلّف، 96 ورقة [الفهرست، ج 25، ص 230] .

22. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 915. كتاب العقل و الجهل من الكافي. نسخها جعفر بن غازي الرازي في القرن الحادي عشر، 214 ورقة [الفهرست، ج 5، ص 1357] .

23. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 133 من مجموعة الخوئي.

ص: 55

كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 378 ورقة [الفهرست، ج 7، ص 142] .

24. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 5776. كتاب الحجّة من الكافي، أوّلها: «الحمد للّه على حجّته البالغة... أمّا بعد فيقول...». بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 260 ورقة [الفهرست، ج 17، ص 210] .

25. المكتبة الوطنّية في طهران، الرقم 1294 / ع. كتاب الإيمان والكفر وكتاب الدعاء من الكافي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 588 ورقة [الفهرست، ج 9، ص 280] .

26. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 14750. كتاب العلم وكتاب التوحيد من قسم الأصول. بالخطّ النسخي، نسخها ميرزا هاشم الحسيني الرودباري، وفرغ عنها في شهر رمضان من شهور سنة 1109ق، وصحّحت وقوبلت بتوسّط الحاج محمّد حسينا، 280 ورقة [الفهرست، ج 37، ص 341] .

27. مكتبة آية اللّه الگلپايگاني رحمه الله بقم، الرقم 135/32/6435. كتاب الإيمان والكفر من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد بن محمّد عليّ بن لطف عليّ الحسينيّ التبريزي قبل عام 1110ق، وقابلها مع نسخة آخر، وعليها علامت بلاغ و حواش وتصحيحات، 264 ورقة [الفهرست، الالكترونيّة] .

28. مكتبة جامعة الحقوق في طهران، الرقم 48ج. بخطّ النستعليق، نسخها محمّد تقيّ بن عبد اللّه في عام 1111ق، 186 ورقة [الفهرست، ص 366] .

29. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 2334، كتاب التوحيد، سقط من أوّلها. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد قاسم بن نور اللّه الحسينيّ الطالقاني، وفرغ عنها في 8 صفر من

عام 1112ق [الفهرست، ج 6، ص 313] .

30. المكتبة الوطنيّة في فارس، الرقم 593. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد باقر بن ملا

ص: 56

على رضا، وفرغ عنها في شهر ذي حجّة من شهور سنة 1117ق، 400 ورقة [الفهرست، ج 2، ص 182] .

31. مكتبة مركز المطالعات والتحقيقات الإسلاميّة، الرقم 794. كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها أحمد بن ميرزا إبراهيم السمناني، وفرغ عنها في 22 جمادي الاُولى من سنة 1239ق، وعليها علامات البلاغ والتصحيح، 323 ورقة [الفهرست، ج 2، ص 74] .

2/11. النسخ المعتمدة:

1. مكتبة السيد جواد العلوي بقزوين. ومنه مصوّرة في مركز إحياء التراث اسلامي، برقم 3285.

تحتوي من أوّل الشرح إلى نهاية كتاب التوحيد، بخط النسخ، نسخها مهدى.

وهذه النسخة من أهمّ النسخ، حيث قوبل مرّتين بنسخة الأصل ومرّة منه كان مع سماع المصنّف وبمحضره. وصرّح بذلك في نهاية شرح كتاب العقل. حيث قال:

قوبل بقراءة أكثره بنسخة الأصل اُمّ النسخ في مجالس آخرها الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 1083ق وهو من كتب ولدي محمّدمهدي وفّقه اللّه لفهمه والعمل بما فيه.

ثمّ قوبل ثانيا سماعا مع اُمّ النسخ من قوله: «نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ» إلى آخره من حديث هشام إلى الحديث العشرين من الباب الأوّل، ومن الحديث الثامن من الباب الثالث إلى آخر الباب بحضور مصنّفه دام ظلّه وسماعه، ومن الباب الرابع إلى هنا في غيبته، وكان ذلك في مجالس آخرها يوم الخميس اليوم الثامن من العشر الأوّل من الشهر الحادي عشر من السنة الرابعة من العشر التاسع من المائة الاُولى من الألف الثاني من الهجرة النبويّة وصلّى اللّه على محمّد وآله اجمعين، كتبه العبد سنة 1083 (المهدى من هديت)

وصرّح أيضا في نهاية شرح كتاب التوحيد هكذا:

قد خطّت هذه النسخة من نسخة الشارح دام ظلّه اُمّ النسخ وقوبلت معها وصحّت

ص: 57

بقدر الوسع والطاقة في مجالس آخرها يوم الثلثاء السادس من شهر محرّم الحرام من شهور سنة (1086) ستّ وثمانين بعد الألف، الحمد للّه رب العالمين والصلاة على محمّد وآله أجمعين، كتب هذا العبد (المهدى من هديت).

وامتازت هذه النسخة بكثرة الحواشي، منها حواشي المصنّف على الكتاب برمز «منه»، «منه دام ظلّه»، «سمع منه». وحواشي من الوافي وحواشى من ميرزا رفيعا النائيني ومحمّد أمين الاسترآبادي وحاجى حسين النيشابوري والشيخ علي (ويحتمل أنّها لعليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي المعروف بالشيخ علي الكبير، صاحب الدرّ المنظوم) وحواشى من كاتب النسخة، المسمّى ب «مهدى»، قد يكون هو محمّد مهدي بن علي أصغر القزويني المعاصر للحرّ العاملي صاحب الوسائل، وهو من تلامذة الخليل القزويني. وأيضا في هذه النسخة بعض المطالب في شرح الشافي أو في شرح بعض فقرات من أحاديث الكافي بهذه الرموز: «م ح ق»، «م د»، «ام ن»، «ع». وترجمة بعض اللغات من كتب اللغة، وأيضا بعض المطالب بلا رمز والاسم.

وتقع هذه النسخة في (617) صفحة، وفي كلّ صفحة (24) سطرا. ورمزنا لها ب «أ».

2. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، برقم 6002 و 6003، الرقم الأوّل يحتوي من أوّل الشرح إلى نهاية كتاب العقل، والرقم الثاني يحتوي على شرحه كتاب التوحيد. ناسخها مجهول ولكن قابلها رفيع الحسيني الطالقاني في سنة 1093ق وكتب في نهاية شرح كتاب العقل هكذا:

قوبل وصحّح مع نسخة مرّ عليها الشارح مرارا وفي هوامشها خطّه رحمه الله في مجالس آخرها عصر يوم الأربعاء أواسط شهر ذي قعدة الحرام سنة 1093 على يدي العبد الجاني رفيع الحسيني الطالقاني.

وكتب في نهاية شرح كتاب التوحيد:

قوبل وصحّح بقدر الجهد والطاقة إلاّ ما زاغ عنه البصر وحسر عنه النظر مع اُمّ النسخ، نسخة مرّ عليها الشارح مرارا وفي هوامشها خطّه الشريف في مجالس آخرها قبل زوال يوم الثلثاء من شهر صفر 1094.

ص: 58

وتقع نسخة 602 في (268) صفحة ونسخة 6003 في (278) صفحه وفي كلّ صفحه منها (25) سطرا. ورمزنا لهما ب «ج».

3. مكتبة آية اللّه المرعشى رحمه الله بقم، برقم 3786، وتحتوي على شرح كتاب العقل. وفيها اصلاحات واضافات كثيرة بخط المؤلّف. ناسخها مجهول ولكن قوبل في سنة 1060 و 1076ق مرّتين وصرّح بذلك في نهاية النسخة هكذا:

قوبل إلى هنا في ذي قعدة سنة ستّين وألف، ثمّ قوبل وصحّح في مجالس آخرها يوم الثلثاء الثالث عشر من رجب سنة ستّ وسبعين و ألف هجرية حامدا مصلّيا.

وتقع هذه النسخة في (450) صفحة وفى كلّ صفحة (19) سطرا. ورمزنا لها ب «د».

4. مكتبة آية اللّه المرعشى رحمه الله بقم، برقم 4825، تحتوي على شرح كتاب العقل، نَسخَه محمّد إبراهيم الرازى في أوائل ربيع الثاني سنة 1063. وكتب الشارح بخطّه الشريف في آخر النسخة هكذا:

أحمده واُصلّي على أحمده وآله؛ قوبل هذه النسخة المباركة مع الأصل اُمّ النسخ في مجالس حضرتُ في بعضها مقابلة تصحيح وإمعان نظر من صاحبها [؟] للعلم والعمل ميرزا محمّد صفي أدام اللّه تعالى توفيقاته وأمدّه بتأييداته. وكتب هذه الأحرف الشارح خليل بن الغازي القزويني في بلدة طهران في جمادي الاُولى سنة ثلاث وستّين بعد الألف.

وهذه النسخة هي التحرير الأوّل من الشافي. وتقع في (470) صفحة وفي كلّ صفحه (21) سطرا. ورمزنا لها ب «ه».

3/11. عملنا في الكتاب

قد عرفت فيما سبق أنّا قد اعتمدنا في تحقيق هذين المجلّدين على أربع نسخ معتبرة، وكانت مراحل العمل كما يلي:

1. مقابلة النسخ الخطّية بعضها مع البعض الآخر مع تثبيت الإختلافات، كما أننّا قد قابلنا متن الكافي الذي اعتمده المصنّف مع المتن المطبوع الذي

ص: 59

حقّقه الاُستاذ الغفاري رحمه الله، وأيضا قابلناه مع الكافي الذي حقّقه مركز بحوث دار الحديث أخيرا.

2. استخراج الآيات الشريفه والروايات المباركة وأقوال العلماء وشرح المفردات الغريبة.

3. تقويم النصّ وضبطه مع إعادة النظر في الاختلافات المنقولة من النسخ الخطّية، وقد جعلنا الصحيح أو الأصحّ في المتن وأشرنا إلى المرجوح في الهامش.

4. تقطيع النصّ إلى فقرات ومقاطع المعتدلة ووضع علائم الترقيم ورعاية قواعد الإملاء ممّا يسهّل الأمر على القارئ والطالب.

5. المراجعة النهائية الشاملة لتحقيق التناسق الكامل في الكتاب وإزالة مازاغ عنه البصر في المراحل السابقة.

ثمّ إنّه لابدّ من ذكر ملاحظتين ضروريّتين:

الاُولى: ذكرنا فيما تقدّم أن ملاّ خليل صاحب أفكار معتقدات بعضها واضح البطلان، فنراه أحيانا في كتابه الشافي بل وسائر مؤلّفاته يشنّ حملات شديدة على المجتهدين والفلاسفة بحدّ يخرج معه قلمه أحيانا عن الاعتدال والانصاف، وينسب إليهم اُمورا رديئة مشينة.

ومن المتّيقن به أنّ طبع هذا الكتاب لا يعني الدفاع عن أقواله وأفكاره الخاصّة، فضلاً عن تبنّيها، بل لأجل عرض أفكاره الشخصيّة التي كان لها الأثر في عصره وعرض الانتقادات التي وجّهها المفكّرون العلماء المخالفون له ذلك الزمان.

الثانية: لقد شرح ملاّ خليل اُصول الكافي بكاملها، ومن الفروع إلى نهاية كتاب الجنائز، وقد قمنا ابتداءً. بطبع قسم من شرح اُصول الكافي، وسوف نقوم بعد ذلك - إن شاء اللّه - بتحقيق وتصحيح بقية الكتاب وطبعه، وطبق تخميناتنا الأوّلية سيصل مجلّدات هذا الشرح إلى خمسة عشر جلداً.

ص: 60

كلمة شكر وتقدير:

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل إلى جميع اُخوتنا الذين ساهموا بمساعدتنا في إنجاز هذا العمل ونخصّ منهم: آية اللّه الشيخ نعمة اللّه الجليلي رحمه الله الذي قام بالمراجعة النهاية للكتاب، والأخ الفاضل الشيخ عبد الحليم الحلّي الذي ساهم في إنجاز هذا العمل من أوّله إلى آخره، والسيّد مرتضى عيسى زاده، وعبد الكريم الرضائي لقيامهما بمقابلة النسخ الخطّيه، والمحقّق البارع الشيخ علي الصدرائي الخوئي للمساعدة في تنظيم مطالب حول حياة المؤلف، والمحقّق الفاضل الشيخ علي الحميداوي لتعريب مقدّمة التحقيق، وحجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد محمود المرعشي رئيس مكتبة آية اللّه السيد المرعشي رحمه الله، وحجة الإسلام والمسلمين سيد أحمد الحسيني الاشكوري حيث وفّرا لنا النسخ الخطّية للكتاب. نسأل اللّه تعالى أن يوفّق العاملين في خدمة دينه المبين ما يحبّ ويرضى.

محمد حسين الدرايتي

17 ربيع الأوّل 1430ق

25 اسفند 1387ش.

ص: 61

ص: 62

تصوير شماره 1

ص: 63

تصوير شماره 2

ص: 64

تصوير شماره 3

ص: 65

تصوير شماره 4

ص: 66

تصوير شماره 5

ص: 67

تصوير شماره 6

ص: 68

تصوير شماره 7

ص: 69

تصوير شماره 8

ص: 70

تصوير شماره 9

ص: 71

تصوير شماره 10

ص: 72

تصوير شماره 11

ص: 73

تصوير شماره 12

ص: 74

تصوير شماره 13

ص: 75

تصوير شماره 14

ص: 76

الشافي في شرح الكافي

ص: 77

ص: 78

خطبة الکافي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه على ما وفّقنا للتمسّك بالثقلين ، ولم يجعلنا من الذين نسوا عترة نبيّهم في أفكارهم في الفروع أو أحد الاُصولَيْن ، فاجتنبنا البدعة ، ولزمنا المهيعة ،(1) وصلّى اللّه على سيّد الأوّلين والآخرين محمّد أصل الضياء ، وعترته الطيّبين المعصومين الهادين الذين هم سفينة النجاة ، وبهم بقاء العلم ما بقي الأرض والسماء .

أمّا بعد ،

فيقول الغنيّ بربّه عمّن سواه خليل بن الغازي القزويني - تجاوز اللّه تعالى عن سيّئاتهما وآتاهما كتابهما بيمينهما - : أمرني بشرح الكافي مفخر العلماء ، وأعظم السادات والعظماء ، نور الهدى وبدر الدُّجى ، ملجأ الضعفاء والمساكين ، مرجع الاُمراء

في العالمين ، اعتماد الدولة العليّة العالية الحسينيّة الموسويّة الصفويّة(2) ، خليفة سلطان الحسيني، الملقّب بسلطان العلماء(3) أدام اللّه تعالى إقباله وإفضاله .

إنّ كتاب(4) الكافي للشيخ أبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي

ص: 79


1- . مهيعة ؛ اسم الجحفة ، وهي ميقات أهل الشام ، وبها غدير خمّ ، وفي حديث عليّ عليه السلام : «اتّقوا البدع والزموا المهيع» ؛ هو الطريق الواسع المنبسط ، والميم زائدة ، وهو مفعل من التهيّع : الانبساط . النهاية، ج 4، ص 377 مهيع .
2- . في «ج» : - «الصفوية» .
3- . هو حسين بن الميرزا رفيع الدين محمد بن محمود الحسيني الآملي المازندراني الملقّب بسلطان العلماء ، واُخرى بخليفة السلطان ، زوّجه الشاه عباس ابنته ، وفوّض إليه الوزارة ، ثم استوزره من بعده الشاه صفي ، توفي سلطان العلماء سنة 1064 هجرية في مازندران ، وحمل إلى النجف الأشرف . معجم رجال الحديث ، ج 12 ، ص 196 ، الرقم 7803 .
4- . في «أ ، ج» : «إنّ الكتاب» . وفي «د» : «فإنّ الكتاب». والمناسب ما اُثبت .

الكليني - شكر اللّه تعالى مساعيه في حفظ اُصول الدِّين وفروعه - كتابٌ لم يصنّف في الإسلام مثله(1) ؛ صنّف في زمن الغيبة الصغرى - وهو تسع وستّون سنة - بين أزمنة ظهور الأئمّة وأزمنة انقطاع ذلك بالكلّيّة ، ومصنّفه ممّن اعترف المؤالف والمخالف بفضله .

قال أصحابنا : «وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم وأغورهم في العلوم» .(2)

وقال ابن الأثير من المخالفين في جامع الاُصول :

هو أبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي الفقيه ، الإمام على مذهب أهل البيت ، عالم في مذهبهم ، كبير فاضل(3) عندهم ، مشهور ، له ذكر فيمن كان على رأس المائة الثالثة .(4) انتهى .

وهذا إشارة إلى ما روى المخالفون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّ اللّه - عزّ وجلّ - يبعث لهذه الاُمّة على رأس كلّ مائة سنة(5) من يجدّد لها دينها» . رواه أبو داود(6) ، و(7)كذا في المشكاة .(8)

وقال الطيّبي(9) في الشرح :

ففي رأس المائة الاُولى من اُولي الأمر : عمر بن عبد العزيز ، ومن الفقهاء : محمّد بن عليّ

ص: 80


1- . في «ج» : «مثله في الإسلام» .
2- . رجال النجاشي ، ص 377 ، الرقم 1026 ؛ منتهى المقال ، ج 6 ، ص 235 ، الرقم 2947 .
3- . في «أ» : «وفاضل» .
4- . جامع الاُصول ، ج 11 ، ص 322 .
5- . في «ج» : - «سنة» .
6- . سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 311 ، ح 4291 .
7- . في «ج ، د» : - «و» .
8- . المراد بالمشكاة ، مشكاة مصابيح السنّة وهو تكملة مصابيح السنّة للبغوي ، ألّفه ولي الدين أبو عبداللّه محمد بن عبداللّه الخطيب القزويني . فرغ من جمعه آخر يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 737 هجرية . كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1699 .
9- . الطيبي هو حسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743 هجرية، له شرح على كتاب مصابيح السنّة للبغوي حسين بن مسعود الفراء الشافعي المتوفى سنة 516 هجرية، واسم الشرح : الكاشف عن حقائق السنن . كشف الظنون، ج 2، ص 1700؛ هدية العارفين ، ج 1 ، ص 286 .

الباقر عليه السلام ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وسالم مولى عبداللّه بن عمر ، والحسن البصري ، ومحمّد بن سيرين وغيرهم من طبقاتهم .

وفي رأس المائة الثانية من اُولي الأمر : المأمون ، ومن الفقهاء : الشافعي ، وأحمد بن حنبل لم يكن مشهورا حينئذٍ ، واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة ، وأشهب من أصحاب مالك ، ومن الإماميّة : عليّ بن موسى الرضا .

وفي(1) الثالثة من اُولي الأمر : المقتدر باللّه ، ومن الفقهاء : أبو العبّاس بن شريح الشافعي ، وأبو جعفر الطحاوي الحنفي ، وابن(2) جلال الحنبلي ، وأبو جعفر الرازي من الإماميّة ، ومن المتكلِّمين : أبو الحسن الأشعري .

وفي(3) الرابعة من اُولي الأمر : القادر باللّه ، ومن الفقهاء : أبو حامد الإسفرايني الشافعي ، وأبو بكر الخوارزمي الحنفي ، وأبو محمّد عبدالوهّاب المالكي ، والمرتضى الموسوي أخ الرضيّ الشاعر من الإماميّة .

وفي الخامسة من اُولي الأمر: المستظهر باللّه ، ومن الفقهاء : الإمام أبو حامد الغزالي ، والقاضي محمّد المروزي وغيره من طبقاتهم ، وإنّما المراد بالذِّكر ذكر من انقضت المائة ، وهو حيّ عالم مشهور ، مشار إليه ، واللّه أعلم .(4) انتهى .

ثمّ إنّه لم يكن كثيرَ التصانيف ، فيكونَ مستعجلاً ؛ صنّف الكافي في عشرين سنة ، وكان في بغداد مجاورا للسفراء ، ومات فيها سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ، أو سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، سنة تناثر النجوم ،(5) وفي هذه السنة مات آخر السفراء

ص: 81


1- . في «ج» : «ومن» .
2- . في «ج» : «وأبي» .
3- . في «أ ، د» : «ومن» .
4- . حكاه في روضات الجنّات ، ج 6 ، ص 108 ، عن شرح مصابيح للبغوي .
5- . جاء في لؤلؤه البحرين ، ص 384 في علّة تسمية السنة التي توفي فيها الشيخ الكليني بسنة تناثر النجوم : أنّه رأي الناس فيها تساقط شهب كثيرة من السماء ، وفسّر ذلك بموت العلماء، وقد كان ذلك، فإنّه مات في تلك السنة جملة من العلماء منهم الشيخ الصدوق ومنهم الشيخ الكليني وعلي بن محمد السمري آخر السفراء وغيرهم ، كما ورد خبر تناثر النجوم في كتاب تاريخ أخبار البشر الذي هو من مصنّفات إخواننا الجمهور ، وقد ذكر وفاة جملة من العلماء ، ومنهم السمري والكليني ، وانظر: روضات الجنّات ، ج 4 ، ص 278 .

الأربعة عن الناحية المقدّسة ، وهو أبو الحسن عليّ بن محمّد السَمُري رحمه اللّه تعالى ، ووقعت الغيبة التامّة .

واحتياج الكافي إلى الشرح الشافي حرّك العزم منّي ، فشرعتُ في شرحه في حرم اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام - زاده اللّه تعظيما - في سنة سبع وخمسين وألف هجريّة ، وجعلته هديّة لبقيّة اللّه تعالى في أرضه ، وحجّته على بريّته ، الإمام الثاني عشر المنتظر، القائم بالحقّ، صاحب الزمان الحجّة بن الحسن ، عليه وعلى آبائه الطاهرين أجمعين صلوات اللّه وتسليماته وتحيّاته ، اللّهُمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ، وعجِّل إنجاز ما وعدته من النصر والظفر .

وقد اشتهر اُصول الكافي بالإشكال ، وليس الباعث عليه في الأكثر إلاّ أنّ جمعا أدخلوا بعض اُصول الفلاسفة وبعض اُصول المعتزلة واجتهاد المخالفين في اُصول أصحابنا ، فذهبوا إلى ما أرادوا ؛ مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرئٍ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعُرىً وثيقات ، وأسبابٍ محكمات ؛ فنسأل اللّه العفو والعافية .

واعلم أنّ جميع ما نذكره في مقام تفسير الآيات المتشابهات إمّا إبداء احتمال، والاحتمالات المختلفة الغير المتناقضة يمكن اجتماعها في القرآن ؛ لأنّ بطونه كثيرة ، القرآن حمّال ذو وجوه ، وإمّا نقل لم يذكر فيه المنقول عنه ، وكذا في شرح الأحاديث .

وما يذكر فيه أكثر من احتمال واحد ، فكلّ سابق أرجح من لاحقه ، فإن صُدِّر اللاحق بقولنا : «ويحتمل» أو «ويمكن» فالتفاوت معتدٌّ به ، وإن صُدِّر ب «أو» فالتفاوت قليل ، إلاّ إذا تقدّم فيما هو ناظر إليه قولنا : «ويحتمل» أو «ويمكن» ، وإن صدِّر ب «أمّا» و«إمّا» أو بنحو الأوّل والثاني ، كان التفاوت أقلّ ؛ كلّ ذلك في نظري ، فليسع كلّ ناظر لنفسه ، ولا يعتمد على شيءٍ منه تقليدا ، إنّما هو لتشحيذ الأذهان لتستعين به إلى اليقين ؛ ونسأل اللّه العصمة والتوفيق .

ص: 82

قال المصنّف - قدّس اللّه تعالى روحه - :

(بسم اللّه الرحمن الرحيم)

الاسم : الرفعة والعظمة ، كما يجيء في أوّل سادس عشر(1) «كتاب التوحيد» . وهو مأخوذ من السُّمُوّ بضمّتين وشدّ الواو ، وقد توضع موضعه العزّة ، كما قالوا: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ»(2) .

«اللّه» أصله إله ، على فِعال بمعنى فاعل من ألههم كنصر ، أي استحقّ عبادتهم ، ونظيره إمام من أمّهم إذا تقدّمهم ، اُدخل عليه اللام للعهد ، أي الذي يستحقّ عبادة كلّ من سواه ، ولا يستحقّ غيره عبادته ؛ فهو صفة تستعمل استعمال العَلَم .

وقيل(3) : عَلَم ، وإلاّ لم يفد «لا إله إلاّ اللّه» التوحيد .(4) انتهى .

وفيه : أنّ انحصاره في شخص - بديهة أو نظرا - يغني عن علميّته في إفادة التوحيد ، كأن يقول : لا إله إلاّ الخالق لكلّ ما سواه ، أو إلاّ القادر على كلّ شيء ، وسيجيء بيان الاسم ولفظ «اللّه» في خامس(5) كتاب التوحيد .

و«الرحمن» لا يطلق على غيره تعالى ؛ فإنّ معناه : من أعطى كلّ شيء ما يستحقّه من التدبير ؛ قال تعالى : «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ» .(6)

وهو عربي ، ومن أبنية المبالغة من «رحم» كعلم ، ومستعمل استعمالَ الصفة ، فجرّه على النعت ، وفي الدعاء : «يا رحمن الدنيا والآخرة» .(7)

ص: 83


1- . أي الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
2- . الشعراء 26 : 44 .
3- . في حاشية «أ» : «والقائل التفتازاني في المطوّل» .
4- . المصباح للكفعمي ، ص 314 ؛ المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 305 ؛ تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 272 .
5- . أي الباب الخامس من كتاب التوحيد ، وهو باب المعبود .
6- . الملك 67 : 3 .
7- . الكافي ، ج 2 ، ص 557 ، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن والخوف ، ح 6 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 19 ، ح 37 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 504 ؛ فضائل الأشهر الثلاثة ، ص 135 .

وقيل(1) : عبراني الأصل ، وكان بالخاء المعجمة فاُبدل ، وإلاّ لما أنكرته العرب ، قال تعالى : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ»(2) .(3) انتهى .

وقيل : عَلَم ،(4) قال ابن هشام في مغني اللبيب في قول الشاعر :

«تبارك رحمانا رحيما وموئلاً»(5) :

الصواب أنّ «رحمانا» بإضمار أخصّ وأمدح،(6) و«رحيما» حال منه ، لا نعت له ؛ لأنّ الحقّ قول الأعلم وابن مالك : إنّ الرحمن ليس بصفة بل عَلَم . وبهذا أيضا يبطل كونه تمييزا ، وقول قوم : إنّه حال .

وأمّا قول الزمخشري : إذا قلت : اللّه رحمن أتَصْرِفه أم لا ؟ وقول ابن الحاجب : إنّه اختلف في صرفه ؛ فخارج عن كلام العرب من وجهين ؛ لأنّه لم يستعمل صفة ولا مجرّدا من «ال» وإنّما حذف في البيت للضرورة ، ويبنى(7) على علميّته أنّه في البسملة ونحوها بدل لا نعت .

و«الرحيم» نعت آخر للّه ، وقيل : يبنى على علميّة الرحمن أنّ الرحيم بعده نعت له ، لا نعت لاسم اللّه ؛ إذ لا يتقدّم البدل على النعت ، وأنّ السؤال الذي سأله الزمخشري وغيره - : لِمَ قدّم الرحمن مع أنّ عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم : عالم نحرير ، وجواد فيّاض ؟ - غير متّجه .(8) انتهى .

ووجه التقديم مع كون الرحمن صفةً أنّه إنّما عادتهم تأخير الأبلغ إذا كان التفاوت بالشدّة والضعف ، لا بالعموم والخصوص ، وما نحن فيه من الثاني ، فإنّ المراد بالرحيم

ص: 84


1- . في حاشية «أ» : «القائل ثعلب» .
2- . الفرقان 25 : 60 .
3- . لسان العرب ، ج 12 ، ص 231 ؛ تاج العروس ، ج 16 ، ص 278 رحم .
4- . اُنظر: التبيان للطوسي ، ج 7 ، ص 501 ؛ تفسير مجمع البيان ، ج 1 ، ص 52 .
5- . هذا عجز لبيت صدره : «بدأت ببسم اللّه في النظم أوّلاً» وهو مطلع القصيدة الشاطبيّة في القراءات السبع ، وتوفّي الشاطبي قاسم بن فيره، سنة 590 هجرية .
6- . في مغني اللبيب : «أو أمدح» .
7- . كذا في النسخ . وفي المصدر : «وينبني» .
8- . مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 461؛ وفي طبعة اُخرى ، ج 2 ، ص 601 ، الباب الرابع، فيما افترق فيه الحال والتمييز .

مَن هَدى مَن يليق بالهداية إلى صراطٍ مستقيم والجنّة .

(الْحَمْدُ لِلّهِ الْمَحْمُودِ) . الحمد بالفتح والمحمدة - بكسر الميم الثانية وفتحها من باب علم - : ضدّ اللوم والملامة ، فلا يكون إلاّ بالقول وما يجري مجراه ، فهو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه أو قوله :

(لِنِعْمَتِهِ) . النعمة بالكسر: مصدر «نعم» كعلم بمعنى أنعم ، وبالفتح الاسم من التنعّم . وإنّما خصّها بالذِّكر - مع أنّ الباعث على الحمد وهو الذي يسمّى المحمود له والمحمود عليه أيضا أعمّ من النعمة وغيرها - لأنّ المقصود هنا بيان ما وقع في سورة الحمد من الابتداء بالحمدللّه لجلب نعمته واستجابة الدعاء في قوله : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» .

ويجيء في «كتاب الدعاء» في الأوّل والسادس من «باب التحميد والتمجيد» أنّ تقديم الحمد وسيلة استجابة الدعاء ، فالمراد بنعمته هنا التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، وهو العمل عن علم مستفاد من اللّه ورسوله ، لا عن رأي وظنّ ، كما في سورة

النساء : «وَمَنْ يُطِعْ اللّه َ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه ُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ...»(1) .

وهذا طريقة الأخباريّين من الشيعة الإماميّة ، كما يجيء في الخطبة في شرح : «والشرط من اللّه جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلمٍ ويقين وبصيرة» .

ويظهر منه أنّ المغضوب عليهم عبارة عن المفتين عن ظنّ من اليهود والنصارى وأمثالهم ، والضالّين عبارة عن المقلّدين منهم كما في آية(2) سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ ...»(3) . ويجيء في «كتاب العقل» في أوّل كتاب

ص: 85


1- . النساء 4 : 69 .
2- . في «أ» : - «منهم كما في آية» .
3- . التوبة 9 : 30 .

التقليد(1) ، وهو التاسع عشر(2) ، وآية سورة البقرة : «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً ...»(3) . ويجيء في «كتاب العقل» في ثاني عشر الأوّل .(4)

ويمكن كون كلّ من الفريقين داخلاً في المغضوب عليهم ، وكون الضالّين عبارة عن المستضعفين .

(الْمَعْبُودِ) . العبادة: تعظيم وتذلّل عند شخص لم يأذن أعلى منه في هذا التذلّل عنده، سواء كان التذلّل باعتقاد أنّ المتذلّل له قادر على قضاء كلّ حاجة وكشف كلّ كربة أم لا ، وسواء كان بإطاعة له أم لا .

(لِقُدْرَتِهِ) . القدرة هنا: صحّة الفعل والترك ، فلا تتعلّق إلاّ بالممكن في نفسه ، الغير اللازم لعلّته التامّة ، كما يجيء في «باب البداء» من «كتاب التوحيد» .

وقد تُطلق على كون الشخص بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، وحينئذٍ تتعلّق بالمحال في نفسه أيضا ، وإنّما خصّها بالذِّكر لأنّ القدرة بالاستقلال في خلق ممكن ما بقول «كن» ومحض نفوذ الإرادة أوّل ما يعرف به العبد ربّه وأوّل ما يستحقّ العبادة لأجله ، وللإشعار بأنّ حصر العبادة في قوله تعالى : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» مبنيّ على قدرته بالاستقلال على التوفيق وهداية الصراط المستقيم .

(الْمُطَاعِ لِسُلْطَانِهِ(5)) . معنى الإطاعة هنا أنّ كلّ شيء بمشيئته ، فما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن حتّى أفعال العباد الاختياريّة ، طاعتهم وعصيانهم ، وسيجيء تحقيقه في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

ص: 86


1- . كذا في النسخ وفي الكافي المطبوع : «باب التقليد» .
2- . أي الحديث 1 من باب التقليد وهو الباب التاسع عشر من كتاب العقل . وهذا على تبويب الشارح . ولكن هذا الباب في الكافي المطبوع كان ذيل كتاب فضل العلم، ورقم الباب 18 .
3- . البقرة 2 : 171 .
4- . أي الحديث 12 من الباب الأوّل وهو باب العقل والجهل من كتاب العقل . وهذا على تبويب الشارح حيث عنون لكتاب العقل والجهل وكتاب فضل العلم عنوانا واحدا، وهو «كتاب العقل»، وجعل كتاب فضل العلم من أبواب كتاب العقل ، خلافا للكافي المطبوع .
5- . في الكافي المطبوع : «في سلطانه» بدل «لسلطانه» .

(الْمَرْهُوبِ) أي المخوف (لِجَلاَلِهِ) أي لأنّه يجلّ عن النقص وعن القبيح ؛ يقال : جلّ عن كذا : إذا لم يتّصف به ؛ لأنّه نقص أو قبيح ، أي سواء كان في صفات ذات - كالصورة والتخطيط - أم صفات فعل كالظلم ، وهو وضع الشيء في غير موضعه . وهو إشارة إلى أنّه تعالى يعذّب البتّة مَن كان العفو عنه ظلما من العُصاة ، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال : «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»(1) ، وتفصيله وبيان مفهوم المبالغة في الآية في حواشينا على عدّة الاُصول .

(الْمَرْغُوبِ إِلَيْهِ). الظرف في مقام الفاعل . (فِيمَا عِنْدَهُ) هو خزائن السماوات والأرض .

(النَّافِذِ أَمْرُهُ فِي جَميعِ خَلْقِهِ) . «أمره» إشارة إلى ما في سورة يس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2) .

(عَلاَ فَاسْتَعْلى). هذا إلى قوله : (منظر) مذكور في «كتاب الروضة» في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام .(3) والمراد بالعلوّ هنا استجماع جميع صفات الكمال والبراءة من كلّ نقص وقبيح ، والفاء للتعقيب ، والاستعلاء إظهار العلوّ بخلق العالم . وهذا إشارة إلى الحديث القدسي : «كنتُ كنزا مخفيّا ، فأحببت أن اُعرف ، فخلقت الخلق كي اُعرف» .(4)

(ودَنَا) أي من أذهان الخلق لتحقّق شواهد ربوبيّته في كلّ مخلوق ، موافقا لقوله تعالى : «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ»(5) فيتيسّر العلم بربوبيّته تعالى لكلّ مكلّف .

(فَتَعَالى) أي عن أن يجري فيه شكّ أو شبهة ، فليس جحد الجاحدين إلاّ بمحض اللسان والمكابرة . والفاء هنا يحتمل التعقيب والتفريع .

ص: 87


1- . الأنفال 8 : 182 .
2- . يس 36 : 82 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 67 ، ح 23 .
4- . حكاه في رسائل الكركي ، ج 3 ، ص 159 ؛ والرازي في تفسيره ، ج 28 ، ص 234 ؛ وابن عربي في تفسيره ، ج 2 ، ص 123 ؛ وأبو السعود في تفسيره ، ج 2 ، ص 130 .
5- . الأعراف 7 : 185 .

(وَارْتَفَعَ فَوْقَ كُلِّ مَنْظَرٍ) . الواو للعطف على «تعالى» أو للحال بتقدير «قد» ؛ والظرف متعلّق ب «ارتفع». والمنْظَر - بفتح الميم وسكون النون وفتح المعجمة ومهملة - مصدر ميمي ، أي النظر ، وهو تأمّل الشيء بالقلب ، فالمعنى أنّه لا تدرك العقول كنه ذاته ولا شخصه ، كما يجيء في «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء» من «كتاب التوحيد» . ويمكن أن يجعل المنظر بمعنى النظر بالعين ، أو اسم مكان منه ، أي ما نظرت إليه ، فالمراد أنّه غير مرئيّ بالعين .

(الَّذي لاَ بَدْءَ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمز، أي لا ابتداء (لِأَوَّلِيَّتِهِ ، وَلاَغَايَةَ) أي لا نهاية .

(لِأَزَلِيَّتِهِ) الأزَل - بالتحريك - : الامتداد الغير المتناهي المنتزع من كائن لا أوّل له ، والأزلي: القديم، والتاء لإفادة معنى المصدر ، أي القدم . وقيل : الأزل(1) القدم ، وهو أزلي، وأصله «يزلي» منسوب إلى «لم يزل» ثمّ اُبدلت الياء ألفا للخفّة، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن : أزني .(2) انتهى .

(القَائِمِ) أي الكائن الباقي (قَبْلَ الْأَشْيَاءِ ، وَالدَّائِمِ الَّذِي بِهِ قِوَامُهَا) ؛ بكسر القاف ، أي نظامها وبقاؤها .

(وَالْقَاهِرِ) أي الغالب (الَّذِي لاَيَؤُودُهُ) أي لا يثقله (حِفْظُهَا ، وَالْقَادِرِ الَّذِي بِعَظَمَتِهِ تَفَرَّدَ) ؛ بشدّ الراء المهملة (بِالْمَلَكُوتِ) ؛ بفتحتين مبالغة الملك بالضمّ ؛ أي لا يشاركه أحد في التكوين بمحض قول «كن» بلا حركة لتحريك آلة أو عضو.

وفيه إشارة إلى إبطال تجرّد فاعل سوى اللّه تعالى، كما زعمته اليهود والفلاسفة في العقول العشرة(3) والنفوس الناطقة .(4)

ص: 88


1- . في «أ» : «الأول» .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 328 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1622 ؛ تاج العروس ، ج 14 ، ص 16 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 14 أزل .
3- . نظرية العقول العشرة، فرضها المشاؤون؛ لتصحيح صدور الكثير من الواحد ، وهي مبتنية على وجود الأفلاك التسعة وكونها ذوات نفوس مريدة .
4- . تفصيل الكلام في النفوس الناطقة موكول إلى المواقف للايجي ، ج 2 ، ص 675 .

(وَبِقُدْرَتِهِ تَوَحَّدَ) ؛ بشدّ الحاء المهملة (بِالْجَبَرُوتِ) ؛ بالجيم والموحّدة المفتوحتين ، وهو مبالغة الجبر . والمراد أن لا يمتنع شيء عمّا أراد تكوينا وإبقاءً وتصرّفا .

(وَبِحِكْمَتِهِ أَظْهَرَ حُجَجَهُ عَلى خَلْقِهِ) أي أظهر أنبياءه وأئمّته أو آياته الدالّة على ربوبيّته .

وذكر الحكمة هنا إشارة إلى أنّه لم يظهرها كلّ الظهور بحيث يصير كقولنا : «الواحد نصف الاثنين»، أو «زوايا المثلّث مساوية لقائمتين»، بل جعلها بحيث تجري فيها معارضة وهميّة، فيكون في التصديق بها ثواب على ما اقتضته الحكمة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة أو احتجاجاته على العصاة في استحقاقهم العقاب .

وأمّا قوله : (اِخْتَرَعَ الْأَشْيَاءَ إِنْشَاءً ، وَابْتَدَعَهَا ابْتِدَاءً بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ، لاَ مِنْ شَيْءٍ ؛ فَيَبْطُلَ الاخْتِرَاعُ ، ولاَلِعِلَّةٍ ؛ فَلاَ يَصِحَّ الاِْبْتِدَاعُ . خَلَقَ مَاشَاءَ كَيْفَ شَاءَ مُتَوَحِّدا بِذلِكَ ؛ لاِءِظْهَارِ حِكْمَتِهِ ، وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ . لاَ تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ ، وَلاَ تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، وَلاَ يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ . عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الْأَبْصَارُ ، وضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ . اِحْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ ، وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ ، وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ ، وَنُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ ، لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) فمأخوذ من كلام الرضا عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في ثالث الحادي عشر(1) من «كتاب التوحيد» .

ونقول هنا : قوله : «لا من شيء» أي لا من مادّة قديمة شخصا . وقوله : «لا لعلّة» - بكسر المهملة أو فتحها وشدّ اللام - أي لا لمعدّ قبله، أو لا لعود إلى مثل ما فعله سابقا. وهو لإبطال كون العالم قديما نوعا .

(ضَلَّتِ الْأَوْهَامُ عَنْ بُلُوغِ كُنْهِهِ) . كنه الشيء: ذاته أو قدره ، والمراد على الثاني قدر عظمته .

(وَذَهَلَتِ) ؛ بالمعجمة من باب «منع». والذهل بالفتح والذهول بالضمّ: السلوّ عن الشيء حين العلم بأنّه لا طريق للوصول إليه ؛ أي يئست .(2)

ص: 89


1- . أي الحديث 3 من باب النهي عن الجسم والصورة . ورقم الباب في الكافي المطبوع : 12 .
2- . العين ، ج 4 ، ص 39 هذل و ج 7 ، ص 299 ، (سلو) .

(الْعُقُولُ أَنْ) أي عن أن (تَبْلُغَ غَايَةَ نِهَايَتِهِ) . الغاية بالمعجمة والخاتمة : الراية ، واستعيرت هنا للتشخّص. والنهاية بكسر النون: الآخر. والمراد بنهايته هنا مائيّته وحقيقته ؛ فالمراد ببلوغ غايتها العلم بتشخّصها .

(لاَيَبْلُغُهُ حَدُّ) ؛ مصدر، أي حدّة . (وَهْمٍ ، وَلاَ يُدْرِكُهُ) أي على الوجه الجزئي والهاذيّة . (نَفَاذُ) ؛ بفتح النون وفاء وألف ومعجمة : جواز الشيء عن الشيء بعد دخوله فيه . (بَصَرٍ) . بفتحتين: حسّ العين ونظر القلب وخاطره .

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرُ(1) اِحْتَجَّ عَلى خَلْقِهِ) أي مخلوقيه المبطلين، أو مخلوقيه مطلقا. (بِرُسُلِهِ ، وَأَوْضَحَ الأْمُورَ بِدَلاَئِلِهِ) .

الاُمور: جمع «أمر» : الحادثات ، والمراد هنا متشابهات كتب اللّه تعالى بقرينة قوله : «أوضح» ، فإنّ الإيضاح إنّما يتعلّق بالمشتبه ، وضمير دلائله للّه . والمراد بالدلائل بعض من كتاب اللّه يفسّر بعضا آخر ، وإنّما اُضيف إلى اللّه لا إلى الاُمور للإشعار بأنّ دلالة ذلك البعض معلومة(2) للّه. ولا يطّلع عليها أحد إلاّ بالتحديث في ليالي القدر ونحوها فيما يحتاج إليه الرسول أو الإمام في كلّ سنة .

(وَابْتَعَثَ الرُّسُلَ) ؛ بضمّتين جمع «رسول» بمعنى مرسَل، ولم يأت فعول بمعنى مفعَل في اللغة إلاّ نادرا ، كما أنّ النبئ بالهمز - والمختار التشديد - فعيل بمعنى مفعل، وهو نادر. والإرسال: التوجيه، وكذا الابتعاث. وإرسال اللّه الرسل أمرُه إيّاهم بالإبلاغ

إلى مَن أرسلهم إليه، وسيجيء تفسير الرسول والنبيّ في «باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام» من «كتاب الحجّة» .

(مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ؛ «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(3)) أي مبشّرين للاُمّة بالأوصياء العالمين بجميع الأحكام، ومنذرين للاُمّة بالعذاب على منكري الأوصياء وتابعي الظنّ؛ «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(4) كما في سورة النساء .

ص: 90


1- . في الكافي المطبوع : «العليم» .
2- . في «د ، ج» : «معلوم» .
3- . الأنفال 8 : 42 .
4- . النساء 4 : 165 .

وقوله : «ليهلك» إلى آخره مأخوذ من سورة الأنفال .

(وَلِيَعْقِلَ الْعِبَادُ عَن رَبِّهِمْ مَا جَهِلُوا(1) ؛ فَيَعْرِفُوهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ بَعْدَ مَا أنْكَرُوهُ) المراد بالعباد المؤمنون باللّه ورسله، ويجيء معنى العقل عن اللّه في ثاني عشر أوّل(2) «كتاب العقل»

عند قوله : «لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه»(3) .

و«ما جهلوا» عبارة عن أحكام الدِّين من الحلال والحرام وغيرهما ، وضمير الجمع في «فيعرفوه» للعباد.

والربوبيّة - بضمّ المهملة وضمّ الموحّدة والواو الساكنة والموحّدة المكسورة والخاتمة المشدّدة - : المالكيّة لكلّ شيء والحكومة في كلّ نزاع . و «ما» مصدريّة ، وضمير الجمع في «أنكروه» لخلقه ، ويحتمل أن يكون للعباد بأن يقال : معرفة ربوبيّته تعالى على قسمين :

الأوّل : معرفته مجملاً ، وهو حاصل لكلّ مكلّف ، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»(4) .

الثاني : معرفته تفصيلاً ؛ أي معرفة أحكامه في الحلال والحرام وفي كلّ نزاع .

والمراد هنا القسم الثاني ، وهو غير حاصل لأحد من الناس إلاّ بوحي أو رسول ، كما يجيء في ثاني أوّل «كتاب الحجّة» .(5) فكلّ مكلّف جاهل وغير عارف للقسم الثاني من ربوبيّته تعالى بدون وحي أو رسول .

وعلى الاحتمال الثاني يكون هذا الكلام إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ»(6) إلى آخره ، بناءً على أن يكون المراد بكون

ص: 91


1- . في «ج، ذ» و الكافي المطبوع: «جهلوه».
2- . أي الحديث 12، من كتاب العقل.
3- . في «أ» : + «بربوبيّته».
4- . الأعراف 7 : 172 .
5- . أي الحديث 2 من الباب الأوّل من كتاب الحجّة، وهو «باب الاضطرار إلى الحجة».
6- . البقرة 2: 213.

الناس اُمّة واحدة ، كونهم غير عارفين بالقسم الثاني من الربوبيّة، محتاجين إلى وحي أو رسول في سابق علم اللّه ، لا كونهم متّفقين على الإيمان أو على الكفر في زمان ، وأن يكون الفاء في «فبعث» للتفريع لا للتعقيب ، وأن يكون المراد بالنبيّين الستّة المشهورين ، وهم : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلى الله عليه و آله ، فإنّ جميع ما عداهم إنّما عمل بشرائعهم .

وقس على هذا قوله : (وَيُوَحِّدُوهُ بِالاْءِلهِيَّةِ بَعْدَ مَا أَضَدُّوهُ) ؛ بالمعجمة المخفّفة والمهملة المشدّدة . والضدّ والضديد من أسماء الأضداد ، يطلق على المثل وعلى المخالف المدافع ، وأفعل هنا للتعريض ، نحو : أبعت الجارية ؟ أي عرضتها للبيع .

والمراد بالضدّ هنا المثل بقرينة مقابلته بالتوحيد بالإلهيّة .

(أَحْمَدُهُ حَمْدَا يَشْفِي النُّفُوسَ) أي يسلّيها . (وَيَبْلُغُ رِضَاهُ ، وَيُؤَدِّي شُكْرَ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ سَوَابِغِ النَّعْمَاءِ) - بفتح النون وسكون المهملة والمدّ - مفرد بمعنى النعمة بكسر النون ، وكذا النعمى بضمّ النون والقصر . وسبوغ النعمة سعتها وكثرتها .

(وَجَزِيلِ) أي عظيم (الاْلاَءِ) أي النِّعم ، واحدها «أَلا» بالفتح والقصر ، وقد يكسر، ويكتب حينئذٍ بالياء نحو مِعى وأمعا .

(وَجَميلِ الْبَلاَءِ) أي النعمة .

(وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، إِلها وَاحِدا أَحَدا(1) صَمَدا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَبْدٌ انْتَجَبَهُ) بالجيم (وَرَسُولٌ ابْتَعَثَهُ).

وأمّا قوله : (عَلى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَانْبِسَاطٍ مِنَ الْجَهْلِ ،وَاعْتِرَاضٍ مِنَ الْفِتْنَةِ ، وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ ، وَعَمىً عَنِ الْحَقِّ ، وَاعْتِسَافٍ مِنَ الْجَوْرِ ، وَامْتِحَاقٍ مِنَ الدِّينِ) فمأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» من «كتاب العقل» .

وأمّا قوله : (وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ) - إلى قوله - : (رؤوفا رحيما) فيجيء في «مولد

ص: 92


1- . في «د»: - «أحداٌ».

النبيّ صلى الله عليه و آله » من أبواب التاريخ من «كتاب الحجّة» .

(فِيهِ الْبَيَانُ) ؛ جملة حاليّة ، والبيان(1) في المحكمات أو المحكمات اللآتي لم يتكرّر مضمونها في القرآن .

(والتِّبْيَانُ) - بكسر المثنّاة فوقُ - مصدر بمعنى البيان ، إلاّ أنّ فيه مبالغةً، وهو في المحكمات اللآتي تكرّر مضمونها ، كالنهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ ، فإنّها دالّة على إمام في كلّ زمان عالم بكلّ شيء يحتاج إليه ، فهي تبيان كلّ شيء .

(«قُرْءَانًا») منصوب بالإغراء(2) بتقدير «أدركوا» أو «الزموا» ، أو منصوب بالاختصاص بتقدير «أعني» ، أو حال الكتاب .

(«عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ») العوج - بكسر المهملة وفتح الواو - في الكلام أن يكون بعيد التناول ، أو انحرافه عن صوب الاستواء والصواب ، سواء كان لفساد المعنى أو لعدم البلاغة . والمقصود أنّه سهل التناول ، أو أنّه لا يوجد كلام يقصد به معانٍ متعدّدة إلاّ وفيه شيء من التكلّف والعوج ، وهذا فيه تبيان كلّ شيء ، كما يجيء في «كتاب العقل» في خامس «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» ، وليس فيه عوج فهو معجز .

(«لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(3)) أي يجتنبون بمعرفتهم به على سهولة أو بهذا المعجز عمّا يسخطه .

(قَد بَيَّنَهُ لِلنّاسِ)؛ استئناف لبيان قوله : «غير ذي عوج» ، أو قوله : «فيه البيان والتبيان» ، والضمير المستتر للّه والمنصوب للكتاب ، أي بيّن جميع الكتاب محكمه ومتشابهه .

ويفسّره قوله : (وَنَهَجَهُ) «كمنع» أي أوضح طريق تناوله ، والضمير المنصوب للكتاب .

(بِعِلْمٍ) ؛ بكسر العين وسكون اللام ، أي بمحكم القرآن ؛ لأنّه معلوم لكلّ عارف باللغة .

(قَدْ فَصَّلَهُ) أي كرّره مضمونا ، كما في عقد يكون بين كلّ لؤلؤتين خرزة ، وهو إشارة إلى محكمات كثيرة فيها النهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ وبينها المتشابهات ، فهو

ص: 93


1- . في «ج»: + «هو».
2- . أي بفعل مضمر.
3- . الزمر 39: 28.

كقوله تعالى في سورة الأعراف : «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ»(1) ، وفي سورة هود : «أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ»(2) ، على أنّه خصّ بقوله في آل عمران : «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ»(3) و«ثمّ» للتعجّب .

(وَدِينٍ) . الدِّين - بالكسر - ما يرجى(4) به حسن الجزاء ، وهو إشارة إلى محكمات كثيرة فيها الأمر بطلب العلم ، أو بسؤال أهل الذكر .

(قَدْ أَوْضَحَهُ ، وَفَرَائِضَ قَدْ أَوْجَبَهَا)؛ إشارة إلى آيات كثيرة ، فيها إيجاب نحو الصلاة والزكاة ، وهنا زيادة في كتاب الحجّة هي: «وحدود حدّها للناس وبيّنها» .

(وَأُمُورٍ قَدْ كَشَفَهَا لِخَلْقِهِ وَأَعْلَنَهَا) ؛ إشارة إلى آيات كثيرة فيها العِبَر كقصص الاُمم الماضية والأمثال .

(فِيهَا) أي في الاُمور (دَلاَلَةٌ إِلَى النَّجَاةِ ، وَمَعَالِمُ) ؛ عطف على دلالة ، وهي جمع معلم - بفتح الميم وسكون المهملة وفتح اللام - : العلامة الدالّة على الحقّ كأنّها مكان العلم .

(تَدْعُو)؛ الضمير للمعالم (إِلى هُدَاة(5)) ؛ بالتاء : جمع هاد بالتنوين للتعظيم أو بضمير اللّه ؛ أي إلى رشاده ، وهو أن يعقل الناس عن ربّهم ما جهلوا ولا يتّبعوا آراءهم، «قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه ِ»(6) . وقيل : يجوز أن تكون هاءَ الوقف كما في «ياربّاه» .(7)

(فَبَلَّغَ صلى الله عليه و آله مَا أُرْسِلَ بِهِ ، وَصَدَعَ) ؛ بصيغة المعلوم كمنع ، تقول : صدعت بالحقّ، إذا تكلّمت به جهارا . (بِمَا أُمِرَ) بصيغة المجهول .

(وَأَدَّى مَا حُمِّلَ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل . (مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ) .

ص: 94


1- . الأعراف 7 : 52 .
2- . هود 11 : 1 .
3- . آل عمران 3 : 7 .
4- . في «أ ، د» : «رجى» .
5- . في الكافي المطبوع : «هداه» .
6- . آل عمران 3 : 73 .
7- . الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني، ص 34 .

يدلّ على الثقل قوله : «على حين فترة» إلى قوله : «وامتحاق من الدِّين» .

(وَصَبر لِرَبِّهِ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ) . أصل الناصح الخالص .

(وَدَعَاهُمْ إِلَى النَّجَاةِ ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الذِّكْرِ) أي رغّبهم في القرآن أو في الإمام العالم بجميع الأحكام ، كما يجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» . والمآل واحد .

(وَدَلَّهُمْ عَلى سَبِيلِ الْهُدى مِنْ بَعْدِهِ) أي على أوصيائه .

(بِمَنَاهِجَ) ؛ جمع منهج : الطريق الواضح ؛ والمراد وصاياه في القرآن وأهل البيت .

(وَدَوَاعٍ) أي اُمور تدعو إلى سبيل هداه ، وهي المتشابهات الداعية إلى التصديق بإمام عالم بتأويلها، أو تزويج فاطمة ونحوه .

(أَسَّسَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل .

(لِلْعِبَادِ أَسَاسَهَا) ؛ بفتح الهمزة : أصل البناء ، والتأسيس : بناء الأساس ، والضمير للدواعي . والمراد به ما في المحكمات من الآيات التي هُنّ اُمّ الكتاب ؛ أي يعرف بهنّ واحد بعد واحد من الأئمّة إلى آخر الدهر ، ثمّ ببيانهم عليهم السلام يعرف المتشابهات ، ويجيء تفصيله في «كتاب العقل» في شرح ثاني «عشر باب العقل والجهل» .

(وَمَنَائِرَ) ؛ بكسر الخاتمة: جمع منار - بفتح الميم - اسم مكان ، وهو ما توقد فيه النار من رأس الجبل ونحوه ، والمراد ما في نحو غدير خمّ من النصوص على الوصيّ .

(رَفَعَ) ؛ بصيغة المعلوم من المجرّد . (لَهُمْ أَعْلاَمَهَا) ؛ جمع «عَلَم» ، محرّكةً ، وهو الجبل في رأسه نار في الليل المظلم؛ لاهتداء الضالّ .

(لِكَيْ لاَ يَضِلُّوا) . اللام للتعليل و«كي» بمنزلة «أن» المصدريّة معنىً وعملاً . (مِنْ بَعدِهِ ، وَكَانَ بِهِمْ رَؤُوفا رَحِيما) .

بيّن لهم ما هو أسهل من ذلك من آداب الخلاء ونحو ذلك ، فلم يكن يتركهم سدىً مهملين بعده لا يعرفون صاحب الحقّ عن الضالّ المضِلّ ، فما ترك الحقّ مَن تركه من غير المستضعفين إلاّ عنادا أو اتّباعَ هوى ملبس ، فتفرّقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم

البيّنات .

(فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ ، وَاستُكْمِلَتْ) ؛ بصيغة المجهول . والاستكمال : إتمام شيء بضمّ

ص: 95

تتمّة قليلة إلى العمدة من أجزائه كضمّ أيّام من العمر إلى السنين والشهور منه .

(أَيَّامُهُ ، تَوَفَّاهُ) ؛ بشدّ الفاء . (اللّه ُ وَقَبَضَهُ إِلَيْهِ) ؛ الضمير للّه .

(وَهُوَ عِنْدَ اللّه ِ مَرْضِيٌّ عَمَلُهُ)؛ بالرفع في مقام فاعل مرضيّ .

(وَافِرٌ حَظُّهُ) أي نصيبه من الثواب .

(عَظِيمٌ خَطَرُهُ) - بالمعجمة والمهملة المفتوحتين - أي شأنه .

(فَمَضى صلى الله عليه و آله وَخَلَّفَ) ؛ بتشديد(1) اللام ، كقوله عليه السلام : «إنّي مخلِّفٌ فيكم الثَقَلين» .(2) يُقال : خلّفه تخليفا، إذا تركه بعده . (فِي أُمَّتِهِ كِتَابَ اللّه ِ ، وَوَصِيَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ وَإِمَامَ الْمُتَّقِينَ صَلَوَاتُ اللّه ِ عَلَيْهِ ، صَاحِبَيْنِ مُؤْتَلِفَيْنِ) .

إشارة إلى ما رواه الموافق والمخالف من قوله عليه السلام : «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» . نقل السيوطي من المخالفين في الجامع الصغير عن أحمد بن حنبل في مسنده(3) ، وعن الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «إنّي تاركٌ فيكم خليفتين : كتابَ اللّه حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهلَ بيتي ،

وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» .(4)

(يَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالتَّصْدِيقِ) . استئناف لبيان المصاحبة والائتلاف ؛ وليس المراد بالتصديق محض الإخبار بالصدق ، بل كون كلّ منهما بحيث لولاه لكان الآخر باطلاً ؛ من قبيل قوله تعالى في سورة فاطر : «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»(5) أي لولا الإمام لبطل القرآن ؛ لأنّ فيه محكماتٍ كثيرةً ناهية عن

ص: 96


1- . في «ج ، د» : «بشدّ» .
2- . الاُصول الستّة عشر ، ص 262، ح 360 ؛ بصائر الدرجات ، ص 432 ، باب في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّي تارك فيكم الثقلين ؛ دعائم الإسلام ، ج 1 ، ص 28 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 500 ، ح 687 . هذا وقد ألّف جماعة كتبا مخصوصة في حديث الثقلين مثل نجم الدين العسكري والسيّد عليّ الميلاني .
3- . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 و 26 و 59 ؛ و ج 5 ، ص 182 و 190 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ، ج 1 ، ص 402 ، ح 2631 .
4- . المعجم الكبير للطبراني ، ج 5 ، ص 153 ، ح 4921 و 4922 .
5- . فاطر 35 : 31 .

الاختلاف واتّباع الظنّ ، ولابدّ منهما حينئذٍ ، ولولا القرآن لعجز الإمام عن الحكم في كلّ مختلف فيه ، وبيانه.

قوله : (يَنْطِقُ الاْءِمَامُ) استئناف لبيان قوله : «يشهد» إلى آخره .

(عَنِ اللّه ِ) متعلّق بقوله : «ينطق» ، وهو للاحتراز عن كون نطقه عن اجتهاده .

(فِي الْكِتَابِ) متعلّق بالظرف ، وهو للاحتراز عن إلقاء اللّه ذلك في قلبه على حِدَة ؛ لئلاّ يلزم كونه نبيّا .

(بمَا أَوْجَبَ اللّه ُ) متعلّق بقوله «ينطق» . (فِيهِ) أي في الكتاب .

(عَلَى الْعِبادِ مِنْ) . بيان ل- «ما» (طَاعَتِهِ) أي طاعة اللّه في جميع أحكامه .

(وطَاعَةِ الإِمَامِ) . المقصود أنّ طاعة اللّه هي طاعة الرسول ، وطاعة الرسول بعده هي طاعة الإمام ، كما في قوله تعالى : «ومَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه َ»(1) .

(وَوِلاَيَتِهِ) ؛ بكسر الواو ، والضمير للّه ، أي عبوديّته وتفويض الحكم إليه في كلّ ما يمكن أن يختلف فيه بالظنّ .

(وَوَاجِبِ) . مضاف ، أي لازم (حَقِّهِ) . الضمير للّه .

(الَّذِي) . صفة «واجب» . (أَرَادَ) . الضمير للّه ، والعائد المنصوب محذوف ، أي طلبه .

(مِنِ) . بيان للذي . (اسْتِكْمَالِ دِينِهِ) . الضمير للّه ، أي إكمال الإسلام في قلوب العباد ، وهو إنّما يكون بترك اتّباع الظنّ .

(وَإِظْهَارِ أَمْرِهِ) . عطف على استكمال دينه ، والضمير للّه ، و«أمره» العمدةُ من أفعاله ، وهو عبارة عن القرآن أو الإمام العالم بجميع متشابهات القرآن ، والمراد بإظهار أمره إعلاء شأنه ببيان فضله .

(وَالاْحْتِجَاجِ بِحُجَجِهِ) . الضمير للّه ، أي اهتداء العباد إلى الحقّ في كلّ دقيق وجليل بتمسّكهم بحججه ، وهم أئمّة الهدى .

ص: 97


1- . النساء 4 : 80 .

(وَالاْسْتِضَاءَةِ) أي كسب الضوء (بِنُورِهِ) . الضمير للّه ، ونوره علم أئمّته ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» من قوله : «لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار» .

(فِي مَعَادِنِ أَهْلِ صَفْوَتِهِ) . الظرف حال نوره ، وهو مفعول بواسطة حرف الجرّ ، والمعدن كمجلس في الأصل ما خُلِق فيه الجوهر من ياقوت ونحوه ؛ من عَدَنَ بالمكان كضَرَبَ ، إذا أقام به ؛ سمّي لإثبات اللّه تعالى الجوهر فيه .(1)

والصفوة - مثلّثةَ الصاد - : الخالص ، والضمير للّه . والمراد بصفوته محمّد ، وبأهل صفوته المؤمنون به ، وبمعادنهم أوصياؤه ، فإنّهم مستودعوا الأسرار والعلم بجميع القرآن .

(وَمُصْطَفَيْ)؛ بفتح الفاء وسكون الياء ، أصله «مصطفين» حذفت النون بالإضافة .

(أَهْلِ خِيَرَتِهِ) الخيرة بالكسر كعنبة اسم المصدر من قولك : «اختاره اللّه» .

قيل : والفرق بين المصدر واسمه(2) أنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه ، واسم المصدر يدلّ على الحدث بواسطة المصدر ، فمدلول المصدر معنى(3) ، ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر .(4) انتهى .

والضمير للّه ، والمراد بخيرته محمّد صلى الله عليه و آله ، وبأهل خيرته المؤمنون به ، وبمصطفيهم أوصياؤه .

(فَأَوْضَحَ اللّه ُ تَعَالى بِأَئِمَّةِ الْهُدى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ) . يجيء مضمون هذا إلى قوله : «دعائم الإسلام» في «كتاب الحجّة» في ثاني باب الخامس عشر .(5) والفاء لتفصيل

قوله : «أراد من استكمال دينه» إلى آخره .

الإيضاح : الإظهار ، والتعدية بعن لتضمين معنى الكشف ، ودينه الإسلام ، وهو مساوق لترك اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ . والمراد أنّه لولاهم لقبح التكليف بالإسلام .

ص: 98


1- . اُنظر: النهاية ، ج 3 ، ص 192 ؛ مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 135 عدن .
2- . في حاشية «أ» : «القائل الأزهري في التصريح شرح التوضيح، في مبحث المفعول المطلق منه دام ظلّه» .
3- . في «أ ، د» : + «الحدث» .
4- . حكى هذا الفرق السيّد عليّ القزويني في تعليقته على معالم الاُصول ، ج 2 ، ص 471 .
5- . أي الحديث 2، من باب نادر جامع في فضل الأئمة وصفاته.

(وَأَبْلَجَ) ؛ بالموحّدة والجيم بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال ، أي أظهر ؛ يقال : بلج الصبح إذا أضاء .(1)

(بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مَنَاهِجِهِ) . جمع «منهج» : الطريق الواضح . والمراد هنا مسائل الحلال والحرام ونحوهما في الشرع . وسبيل مناهجه : طريقة سؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه . والمراد أنّه لولاهم لم يتصحّح طريقة سؤال أهل الذكر المأمور به في سورة النحل وسورة الأنبياء «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) .

(وَفَتَحَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من المجرّد .

(بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِهِ) . جمع «ينبوع» - بفتح الخاتمة وسكون النون وضمّ الموحّدة وسكون الواو ومهملة - : عين الماء . والمراد هنا الآيات البيّنات المحكمات

الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، وباطنها السرّ الذي يبتني عليه تلك الآيات ، وهو وجوب إمام عالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة في كلّ زمان ، فإنّه لولا ذلك السرّ لبطلت تلك الآيات :

ويعبّر عن ذلك الإمام بذكر اللّه كما في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ»(3) ، وفي سورة الرعد : «أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(4) .

(وَجَعَلَهُمْ مَسَالِكَ لِمَعْرِفَتِهِ) أي طرقا لها لا تحصل المعرفة بأنّه تعالى حاكم كلّ نزاع ومالك كلّ شيء بدون التمسّك بذيلهم .

(وَمَعَالِمَ لِدِينِهِ) . في بعض النسخ : «مسالكا» و«معالما» بالتنوين فيهما ، وهو لمناسبة «حُجَّابا» . وقيل : التنوين للتعظيم ، أي طائفة من المسالك ومن المعالم ؛ إذ لا يلاحظ في هذا الاعتبار معنى الجمعيّة ، بل إنّما يلاحظ كونها واحدة من المراتب الجمعيّة ، كما

ص: 99


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 186 بلج .
2- . الأنبياء 21 : 7 .
3- . الزمر 39 : 23 .
4- . الرعد 13 : 28 .

إذا قلت : رأيت مساجدا من المساجدات .(1) انتهى مضمونه .

(وَحُجَّابا)؛ بضمّ المهملة وشدّ الجيم ؛ جمع الحاجب ، بمعنى البوّاب .

(بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ) أي لا يصل الخلق إليه إلاّ بتوسّطهم .

(وَالْبَابَ) ؛ بالنصب معطوف على «مسالك» . ولم يجمع إشارة إلى أن لا اختلاف في أحكامهم الواقعيّة ؛ إذ ليس حكمهم مبنيّا على اجتهاد ، بل جميعهم باب واحد ؛ إنّما التعدّد في ذواتهم وفي أزمنة هدايتهم ، وبهذا الاعتبار عبّر عنهم بمسالك ومعالم وحُجّابٍ .

(الْمُؤَدِّيَ)؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعيل ؛ أي الموصل .

(إِلى مَعْرِفَةِ حَقِّهِ) أي معرفة ما أوجبه على الناس . ومضى بيانه في قوله : «وواجب حقّه» .

(وَ(2) أَطْلَعَهُمْ) بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال ، وهو استئناف لبيان قوله : «فأوضح اللّه تعالى» إلى آخره .

(عَلَى الْمَكْنُونِ) أي المصون ، والكنّ بالكسر ما يستتر به(3) .

(مِنْ غَيْبِ سِرِّهِ) . السرّ ما يكتم ، وهو على قسمين : غيب ونظري ، والغيب على قسمين : مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون ، هو في متشابهات الكتاب ، وغير مكنون هو في محكمات الكتاب .

(كُلَّمَا) ؛ منصوب على الظرفيّة ، و«كلّ» مضاف و«ما» مصدريّة ، والمصدر نائب ظرف الزمان ، قيل : أو «ما» اسم نكرة بمعنى وقت ، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة ، فيحتاج إلى تقدير عائد .(4) انتهى .

ويبعّده أنّه لم يسمع في مثلها عائد ، ولو كان خفض الجملة على الإضافة لم يحتج إلى تقدير العائد ، ولم يجز أيضا .

ص: 100


1- . الرواشح السماوية ، ص 50 .
2- . في «أ ، ج ، د» : - «و» وأثبتناها من الكافي المطبوع .
3- . ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1601 ؛ المصباح المنير ، ص 542 كنن .
4- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 201 ؛ كنزالدقائق ، ج 1 ، ص 160 .

(مَضى مِنْهُمْ إمَامٌ) ؛ بكسر الهمزة .

(نَصَبَ) كضرب ، وقد تشدّ(1) للمبالغة ، أي رفع وعيّن ، وهو العامل في الظرف وجوابه في المعنى ؛ لأنّ «كلّما» يتضمّن معنى الشرط . والضمير للّه أو للإمام ، والمآل واحد .

(لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ)؛ بفتح المهملة وكسر القاف ، وقد يسكّن ؛ أي من بعده ، وإذا اُريد بالعقب الولد وولد الولد كان مبنيّا على التغليب(2) .

(أَمَاما) ؛ بفتح الهمزة ؛ أي مقدّما على المضيّ ، وجمعه مع العقب فنّ من البلاغة .

(بَيِّنا) ؛ بفتح الموحّدة وكسر الخاتمة المشدّدة والنون ، أي ظاهرا مشهورا .

(وَهادِيا نَيِّرا ، وَإِمَاما) ؛ بكسر الهمزة .

(قَيِّما) أي قائما بأمر القرآن أو بأمر الرعيّة إذا مُكِّن .

(يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي يرشدون إلى أحكام اللّه تعالى بالعلم بما في القرآن ، وذلك في فتاويهم .

(وبِهِ) أي بالحقّ . (يَعْدِلُونَ) في المحاكمات بين الناس ؛ أي ليس فتاويهم ولا أحكامهم مبنيّة على الاجتهاد .

(حُجَجُ اللّه ِ) . مرفوع بالمدح ؛ أي هم حجج اللّه .

(وَدُعَاتُهُ) ؛ بضمّ المهملة ، جمع «داع» .

(وَرُعَاتُهُ) ؛ بضمّ المهملة ، جمع «راع» .

(عَلى خَلْقِهِ) أي الخلق ، كالغنم لولا الرعاة واتّباعهم لأكلهم الذئب ، أي اختطفهم الشيطان .

(يَدِينُ) . استئناف لبيان قوله : «حجج اللّه» إلى آخره ، أي يتعبّد .

(بِهُداهُم(3))؛ بضمّ الهاء ، أي بطريقتهم المستقيمة ، أو بدلالتهم .

(الْعِبَادُ) ؛ جمع عبد ، والمراد هنا الذين هم على حقّ العبوديّة .

ص: 101


1- . في «د ، ج» : «يشدّ» .
2- . في حاشية «أ» : «وإلاّ فالحسين عليه السلام ليس ولدا ولا ولد الولد للحسن عليه السلام مهدي» .
3- . في الكافي المطبوع : «بهديهم» .

(وَيَسْتَهِلُّ(1)) . يُقال : استهلّ وجه فلان : إذا تلألأ سرورا .

(بِنُورِهِمُ الْبِلاَدُ) أي أهل البلاد ، ويحتمل المجاز في النسبة .

(جَعَلَهُمُ اللّه ُ) . استئناف لبيان قوله : «يدين» إلى آخره . أو لقوله : «ويستهلّ» إلى آخره .

(حَيَاةً لِلأَنَامِ) ؛ إذ هم أسباب العلم ، وهو حياة للقلوب أو أسباب الحياة الحقيقيّة ، كما سيجيء(2) في خامس «باب النوادر» من «كتاب التوحيد» .

(وَمَصَابِيحَ لِلظَّلاَمِ ، وَمَفَاتِيحَ لِلْكَلاَمِ) أي لولاهم لكان فن الكلام أو الإفتاء والقضاء أو تفسير كلام اللّه قولاً على اللّه بغير علم وغير جائز .

(وَدَعَائِمَ لِلاْءِسْلاَمِ وَجَعَلَ نِظَامَ طَاعَتِهِ) . نظام الشيء : ما ينتظم به أمره .

(وَتَمَامَ فَرْضِهِ التَّسْلِيمَ لَهُمْ فِيمَا عُلِمَ) ؛ بصيغة المجهول المجرّد ؛ أي علم أنّه قولهم ، وهو ناظر إلى نظام طاعته ، ومعلوم من نحو قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3) ، وسيجيء بيان التسليم في «باب التسليم وفضل المسلمين» من «كتاب الحجّة» .

(وَالرَّدَّ إِلَيْهِمْ) أي سؤالهم .

(فِيمَا جُهِلَ)؛ بصيغة المجهول ، وهو ناظر إلى تمام فرضه ، ومعلوم من نحو قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» .(4) ويجيء بيانه في عاشر «باب النوادر» من «كتاب العقل» .(5)

(وَحَظَرَ)؛ بالمهملة والمعجمة المفتوحة المخفّفة ، أي حرم في محكمات القرآن .

(عَلى غَيْرِهِمُ) أي على أئمّة الضلالة وأتباعهم ، وإنّما اُقحم لفظ «على غيرهم» مع أنّه

ص: 102


1- . في الكافي المطبوع : «وتستهلّ» .
2- . في حاشية «أ» : «من قول أبي عبداللّه عليه السلام : بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عُبد اللّه ، ولولا نحن ما عُبد اللّه» .
3- . التوبة 9 : 119 .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
5- . في حاشية «أ»: «وهو السابع عشر».

حرام على كلّ أحد إشارةً إلى الدليل الآتي على إمامتهم .

(التَّهَجُّمَ)؛ بالمثنّاة فوقُ والهاء والجيم المشدّدة المضمومة مصدر قولك : تهجّم على كذا، إذا بالغ في الهجوم عليه ، أي الدخول فيه بغير إذن .

(عَلَى الْقَوْلِ) على اللّه (بِمَا يَجْهَلُونَ) ؛ وذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف : «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه ِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(1) ، وفي قوله فيها : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(2) ونحو ذلك .

(وَمَنَعَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، أي في محكمات القرآن .

(جَحْدَ) أي إنكار (مَا لاَ يَعْلَمُونَ من الحق(3)) .

وذلك في قوله تعالى في سورة يونس : «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ»(4) .

وإنّما اُقحم قوله : «من الحقّ» - مع أنّ الإنكار مطلقا ممنوع بدون علم - إشارةً إلى أنّ إنكار ما لا يعلم كإنكار المعلوم ؛ إذ يفضي إلى إنكار الحقّ البتّة .

(لِمَا أَرَادَ اللّه (5) تَبَارَكَ وَتَعَالَى) . تعليل لقوله : «وحظر» إلى آخره ، ولقوله : «ومنعهم» إلى آخره ، وبيان لعلّة غائيّة ومصلحة مرعيّة فيهما ، و«ما» موصولة ، ومعنى الإرادة هنا القضاء والقدر .

(مِنْ) بيانيّة ل- «ما» .

(اسْتِنْقَاذِ) أي استخلاص (مَنْ) ، موصولة ، وعبارة عن اتّباع الأئمّة الاثني عشر في أيّ زمان كانوا إلى يوم القيامة .

(شَاءَ) . العائد محذوف ، أي شاء استنقاذه . وسيظهر معنى مشيّة اللّه لأفعال العباد

ص: 103


1- . الأعراف 7 : 33 .
2- . الأعراف 7 : 169 .
3- . في الكافي المطبوع : - «من الحقّ» .
4- . يونس 10 : 39 .
5- . في الكافي المطبوع : - «اللّه» .

بحيث لا يلزم جبر في أبواب من كتاب التوحيد .

(مِنْ) ؛ تبعيضيّة . (خَلْقِهِ مِنْ) ؛ متعلّقة باستنقاذ .

(مُلِمَّاتِ) جمع ملمّة - بضمّ الميم وكسر اللام وشدّ الميم - وهي النازلة من نوازل الدهر(1) ، والمراد روايات المخالفين الكاذبة في فضائل أئمّتهم .

(الظُّلَمِ) ؛ بضمّ المعجمة وفتح اللام ، جمع «ظلمة» .

(وَمَغْشِيَّاتِ) أي مستورات . والمراد أسرار اللّه تعالى في مظلوميّة أئمّة الهدى .

(الْبُهَمِ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح الهاء ، جمع «بُهمة» بالضمّ ، وهي مشكلات الاُمور .

بيان التعليل في قوله «لما أراد» إلى آخره : أنّ الشبه والشكوك - التي تعتري الإنسان من روايات المخالفين ومن جهله بسرّ تقلّب الذين كفروا في البلاد وميل أكثر الناس في أكثر البقاع المشرّفة إلى أئمّة الضلالة ومجتهديهم - تزول عن العاقل بالعلم ؛ بأنّ كلّ رواية وكلّ إمامة خالفت(2) محكمات كتاب اللّه فهو زخرف ، والقول على اللّه بغير علم غير جائز في محكمات القرآن .

وكذا إنكار ما لم يعلم أنّه الباطل ، وذلك لأنّ أقصى مستندهم في أكثر الأحكام ليس إلاّ الاجتهاد والظنّ ، وسيجيء في «كتاب العقل» في الثاني عشر والعشرين من «باب العقل والجهل» بيان هذا الدليل على بطلان أئمّة الضلالة في أيّ زمان كانوا إلى يوم القيامة .

(وَصَلَّى اللّه ُ عَلى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللّه ُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرا) .

سيجيء في أوّل «باب ما نصّ اللّه ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحدا» من «كتاب الحجّة» أنّ الرجس هو الشكّ ، ولعلّ المراد التباس حكم من أحكام الربّ تعالى عليهم ، أو المراد التباس أمرهم على الناس .

ص: 104


1- . معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 198 ، لمم .
2- . في «ج ، د» : «خالف» .

والقرينة أنّ الآية مذكورة في سورة الأحزاب(1) متوسّطةً بين الجمل المسوقة لتكليف نسائه صلى الله عليه و آله ، وقد صرف الخطاب فيها إلى غيرهنّ على طريقة الاستئناف البياني التعليلي، ثمّ اُعيد إليهنّ بالتأكيد عليهنّ إشارة إلى عدم إطاعة صاحبة الجمل لذلك ، وأنّ المقصود بهذا إذهاب شكّ الناس عنكم ، لئلاّ يتوهّموا أنّ الحرب معها يوجب تهمة فيكم .

وقد بيّنّا وجوه دلالة الآية على عصمة الخمسة أصحاب العباء ، ودفعنا مشاغبات المخالفين في حواشي العدّة(2) .

(أَمَّا بَعْدُ ، فَقَد فَهِمْتُ يَا أَخِي مَا شَكَوْتَ). «ما» موصولة ، والعائد المنصوب محذوف ؛ أي شكوته .

ذكر هذا الأخ خمسة أشياء :

الأوّل : ما ذكره المصنّف رحمه اللّه تعالى بعد قوله : «ما شكوت» ، وهو تمهيد للسؤال بعده ، وإخبار عن علمه بأنّ الرؤساء الذين اطّلعوا على محكمات القرآن الناهية عن الجهالة ، ومع هذا اصطلحوا على الجهالة أهل النار .

الثاني : ما ذكر بعد قوله : «وسألتَ» ، وهو السؤال عن أنّ من لم يطّلع على المحكمات الناهية وقلّد الرؤساء في الجهالة ناجٍ أم لا؟

الثالث : ما ذكر بعد قوله : «وذكرت» ، وهو السؤال عن كيفيّة العمل في ما اختلف الرواية فيه من المسائل .

الرابع : ما ذكر بعد قوله : «وقلت : إنّك» ، وهو طلب تصنيف الكافي .

الخامس : ما ذكر بعد قوله : «وقلت : لو كان» ، وهو تأكيد طلب التصنيف .

فقرّر المصنّف رحمه اللهالأوّل وأجاب عن الثاني بقوله : «فاعلم يا أخي رحمك اللّه» إلى قوله : «فمستقرٌّ ومستودع» .

ص: 105


1- . الأحزاب 33 : 33 .
2- . وفي حاشية نسخة «أ» : «قوله قدس سره في حواشي العدّة بيّنه في المجلد الثاني من الحواشي عند قوله : لأنّ الإجماع عندنا إذا اعتبرناه من حيث كان فيه معصوم» .

وأجاب عن الثلاثة الأخيرة بقوله : «فاعلم يا أخي أرشدك اللّه» إلى قوله : «إلى يوم القيامة».

وليعلم أنّ المراد باُصول الدِّين مسائلُ محمولاتُها ليست من الأحكام الشرعيّة ، ولا من اقتضاء الأحكام الشرعيّة ، وأوجب اللّه تعالى على من بلغ سنّ التكليف - ولم يكن من المستضعفين - التصديق بها ، أي الطوع لها بباطن القلب .

هذا إذا خوطب بها الفلاسفة الزنادقة ومن يحذو حذوهم ، وأمّا إذا خوطب بها أهل الإسلام فالأصوب أنّ المراد باُصول الدِّين مسائل موضوعاتها ما ذكرنا في حدّها ومحمولاتها وجوب التصديق بتلك المسائل ، أو موضوعاتها التصديق بها ومحمولاتها الوجوب من الأحكام الخمسة ، وعليه قوله تعالى في سورة البقرة : «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ»(1) .

فبالقيد الأوّل خرج مسائل الفروع الفقهيّة ، وهي مسائل محمولاتها من الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها غير التصديق ، وخرج أيضا ما محموله من الأحكام الشرعيّة وموضوعه التصديق ، كقولنا : التصديق بالنبيّ واجب ، فإنّه ليس من مسائل اُصول الدِّين ولا اُصول الفقه ولا الفروع الفقهيّة ، إنّما هو من متعلّقات اُصول الدِّين .

وبالقيد الثاني خرج اُصول الفقه ، كقولنا : الأمر يقتضي وجوب المأمور به .

وبالقيد الثالث خرج ما عدا الثلاثة من الفنون .

[الإمامة من اُصول الدين أم لا؟]

واعلم أنّ مسألة الإمامة من اُصول الدِّين عند من يقول إنّ تعيين الإمام من اللّه ورسوله ويجب على الناس التصديق بإمامته ، سواء كان التعيين في محكمات القرآن كما هو الحقّ - وسيجيء في «باب معرفة الإمام والردّ إليه» من «كتاب الحجّة» - أم لا ؟ ومن الفروع الفقهيّة عند من يقول : إنّ اللّه ورسوله لم يعيّنا الإمام وأوجبا على الناس وجوبا كفائيّا القيام بالإمامة ونصب الإمام في كلّ زمان .(2)

ص: 106


1- . البقرة 2 : 256 .
2- . اُنظر: شرح المواقف للجرجاني ، ج 8 ، ص 344 ؛ شرح المقاصد للتفتازاني ، ج 5 ، ص 222 .

وقد بلغني في مكّة - شرّفها اللّه تعالى - في الموسم أنّ أحدا من فضلاء ما وراء النهر(1) ومجاوري مدينة الرسول عليه السلام يُشنِّع على الشيعة في عقائدهم ، وأنّه في مكّة وسمع مقامي بها وأراد أن يسألني عن إشكالات ، ثمّ إنّه توسّل بوسائل إلى ذلك حتّى وقعت الملاقاة في المسجد الحرام قبيل صلاة المغرب حين كان المسجد غاصّا بأهل الموسم ، فرأيته رجلاً متينا داهيا ، وكان معه بعض تلاميذه من أهل ما وراء النهر ، فقال بعد التعظيم والترحيب : ما دليل الشيعة على كون مسألة الإمامة من اُصول الدين ، وكفر المخالف للحقّ فيها ، هل عند الشيعة أصل يقتضي أنّ الغلط في الإمامة يوجب الكفر ، أم هذا حكم عن التشهّي ؟ وقد سألت عن هذا كثيرا من علماء الشيعة فما أجابوني عنه .

قلت : لعلّ الذي سألته عن هذا لم يكن عارفا بمذهب الشيعة كما هو حقّه ، وأنا أذكر لك مذهبهم في المسألة بحيث لا يبقى إشكال .

قال : قُل .

قلت : قد بلغك الخلاف المشهور بينهم وبين غيرهم واستدلالات كلّ جماعة على مذهبهم وأجوبة الآخرين عنها في مسألة الإمامة، ولا تعلّق لمسألة تكفير المخالف للحقّ بمسألة الإمامة ، ولم يقع للشيعة غلط في هذه المسألة ، سواء أخطأوا في مسألة الإمامة أم أصابوا .

قال : كيف هذا؟

قلت : ذهب الشيعة إلى أنّ ما أوجب اللّه على عباده على قسمين : الأوّل : التصديق ، ومرادهم بالتصديق التواضع للحقّ ، أي الطوع والخضوع له ، وليس مرادهم بالتصديق العلم اليقيني ولا الاعتقاد مطلقا ؛ لأنّهما من مقولة الانفعال [لا(2)] من الأفعال المولّدة ، فلا يتعلّق بهما تكليف حقيقةً .

ص: 107


1- . قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ، ج 5 ، ص 45 : «ما وراء النهر يراد به ما وراء نهر جيحون بخراسان ، فما كان في شرقيّه يقال له : بلاد الهياطلة ، وفي الإسلام سموه ما وراء النهر ، وما كان في غربيّه فهو خراسان وولاية خوارزم ، وخوارزم ليست من خراسان ، إنما هي إقليم برأسه» .
2- . في «أ»: - «لا»؛ وفي «ج، د»: «أو».

والثاني : غير التصديق ، كالصلاة والصوم والحجّ ونحو ذلك ، وأنّ تارك واجب من الثاني غير كافر ، وإن علم أنّه واجب من اللّه تعالى إنّما هو آثم فقط . وأنّ الناس بالنسبة إلى الواجب الأوّل على ثلاثة أقسام :

الأوّل : من علم في كلّ تصديق باُصول الدِّين أنّه واجب من اللّه وأتى به وبكلّ تصديق عَلِم أنّه واجب من اللّه ؛ وهذا مؤمن .

والثاني : من علم في تصديق أنّه واجب من اللّه وأخلّ به ؛ وهذا كافر .

والثالث : من لم يعلم في تصديق(1) باُصول الدِّين أنّه واجب من اللّه ، سواء أتى به أم لم يأت ؛ وهذا مستضعف . وقد يتصادق الكافر والمستضعفُ في واحد باعتبار جهتين ، والمستضعفُ الذي ليس بكافر في مشيئة اللّه .

ومعنى هذا وبيان أقسام المستضعفين وأنّها سبعة وتقسيم العلم الذي يشترط في كفر الجحود إلى المستقرّ عند الكافر ، كما في قوله تعالى : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(2) ، وقوله : «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»(3) ، وإلى غير المستقرّ عنده بإخفائه علمه عن نفسه بالتلبيسات على نفسه ، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ»(4) مفصّلٌ عندهم(5) .

ولاشكّ أنّ التصديق بالإمام الحقّ بعد رسول اللّه واجب من اللّه ، فهو من القسم الأوّل من قسمي الواجب ومتعلّق باُصول الدِّين عندهم ، فيجري فيه التقسيم إلى الأقسام الثلاثة ، وهذا التقسيم غير مختصّ عندهم بالتصديق بالإمامة ، بل جارٍ في التصديق بالنبوّة ونحوها ، بل في التصديق بالأحكام(6) التي هي فروع الفقه أيضاً ،

ص: 108


1- . في «ج» : «التصديق» .
2- . النمل 27 : 14 .
3- . البقرة 2 : 89 .
4- . الأنعام 6 : 28 .
5- . قوله : «مفصّل عندهم» خبر قوله : «ومعنى هذا» .
6- . في حاشية «أ» : «إذ ليس الإيمان إلا التصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله » .

والفرق أنّهم لا يسمّون الجاهل في الفروع مستضعفا .(1)

قال بعد التأمّل : هذا صحيح ولم أسمعه إلى الآن من أحد ، وشرع بعض تلاميذه في الاعتراض على هذا البيان ، فلمّا تصدّيت للجواب أشار إليَّ الاُستاذ أن لا تتكلّم في جوابه ، فإنّه لم يفهم كلامك وأنا اُفهِمُه فأفْهَمَهُ وأسكته .

ثمّ قال : سنح لي الآن سؤال آخر هو أنّه بلغنا عن الشريف المرتضى من علماء الشيعة أنّه قال : الناس صنفان : اثنا عشري ، والباقي كافر ، وأنت تقول : الناس عندهم على ثلاثة أصناف؟

قلت : هل رأيت هذا في تصنيف للشريف؟

قال : لا .

قلت : أنا أيضا لم أرَ هذا في تصانيفه ، ثمّ إنّ مذهب الشيعة أنّه ليس قول أحد حجّة عليهم بعد الرسول عليه السلام إلاّ قول الأئمّة المعروفين الاثني عشر ، والتقسيم إلى الثلاثة مع الاستدلال عليه بالقرآن مرويّ عن أئمّتهم في كتب أحاديثهم .

فاستحسن الجواب .

فقال التلميذ : وبالجملة هل الشيعة يقولون : إنّ أهل السنّة كفّار ، أم لا؟

قلت : لا يخرجونهم من أحد الأقسام الثلاثة ، واعتقدوا أنتم أيضا بالشيعة ذلك ؛ وقمت إلى مكاني لصلاة المغرب ، ولم يناسب المقام أن اُجيب بما يجيء في أحاديث «باب معرفة الإمام والردّ إليه» من «كتاب الحجّة» من أدلّة كفرهم .

فمراد الشريف بالناس أهل النظر ومن بلغ إليه الدليل ، والحقّ ظاهر على جميعهم ، بل الاطّلاع على الحقّ في الإمامة لأهل القبلة والمقرّين بالقرآن أسهل بكثير من الاطّلاع على الحقّ في النبوّة لمن تولّد بين اليهود والنصارى ؛ بل الإنصاف أنّ جاهل

ص: 109


1- . في حاشية «أ» : «لمّا كان العلم بحكم شرعي مستلزما للعلم بوجوب التصديق بذلك الحكم ، والجهل بوجوب التصديق بحكم مستلزما الجهل به، لم يقل في بيان الفرق أن كلاًّ من الجاهل بوجوب التصديق بالحكم الأصلي والجاهل بالحكم الأصلي مستضعفا ، بخلاف الحكم الفرعي ، فإنّ الجاهل بوجوب التصديق به وإن سمّي مستضعفا لكن الجاهل به لم يسمّ مستضعفا ، بل آثما» .

نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله إذا اطّلع على الكلمات المنقولة عن أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعروفين عليهم السلام في التوحيد وبيان الأحكام ونحو ذلك بعد ما اطّلع على كلمات غيرهم فيها استدلّ بها على نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله كما يستدلّ بها على إمامتهم عليهم السلام .

والتقسيم إلى الثلاثة موافق لقوله تعالى : «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ» .

(مِنِ) ؛ بيانيّة ل- «ما» . (اصْطِلاَحِ) أي اتّفاق (أَهْلِ دَهْرِنَا) أي الرؤساء المتبوعين من الذين علموا محكمات كتاب اللّه الناهية عن الاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة، ثمّ خالفوها بالتأويلات على هواهم .

(عَلَى الْجَهَالَةِ) ؛ - بفتح الجيم - الاستناد في المبهمات المحتاج إليها إلى ما ليس بعلم كالظنّ الحاصل بالاجتهاد .

والجهالة على قسمين :

الأوّل : الحكم بالمبهمات بدون تعلّمها بالبيّنات ، أي بالمقدّمات المعلومة بإحدى طرق هي طرق البداهة بالنسبة إلى ذهن كلّ عاقل مكلّف ، ويقابلها المبهمات ، ولا بالزبر ، أي بالمحكمات من كتاب اللّه تعالى ، ولا بسؤال أهل الذِّكر الأئمّة عليهم السلام كالإفتاء بالاجتهاد أو القضاء به .

الثاني : العمل في المبهمات بدون تعلّم جوازه الواصلي ، أي الرخصة فيه بالبيّنات ، ولا بالزبر ، ولا بسؤال أهل الذِّكر ، كالعمل بالاجتهاد وكتقليد المجتهد ، ولا ينافي خطر الجهالة جواز العمل بظاهر القرآن أوخبر الواحد بشروطهما بدون إفتاء ؛ لأنّ الرخصة في العمل هنا معلوم بسؤال أهل الذِّكر للإجماع ، وليس مناط جواز العمل حصول الظنّ .

اعلم أنّ النهي في القرآن عن التفرّق وعن الاختلاف(1) ، وعن تقطّع الأمر(2) ، وعن

ص: 110


1- . مثل قوله تعالى : «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ» آل عمران (3 : 50) .
2- . مثل قوله تعالى : «وَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَ حِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» المؤمنون (23 : 52 و 53) .

الفتنة الأشدّ من القتل(1) ، وعن الرغبة عن ملّة إبراهيم(2) ، وعن ابتغاء غير الإسلام دينا(3) وعن الإشراك،(4) وعن اللعب وعن اللهو(5) ، وعن الباطل ، وعن الخرص(6) وعن الهزل ، وعن اتّخاذ آيات اللّه ورسله هزوا(7) ، ونحو ذلك راجع إلى النهي عن الجهالة أو عن أعمّ منها .

إن قلت : الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام أخبار آحاد في زمننا ، وهي لا تفيد علما في اُصول الدِّين إجماعا ، فذكر أخبار الاُصول إن كان للاستناد إليها في الحكم كان رضا بالجهالة ، وإلاّ فلا فائدة في ذكرها .

قلت : ربّما أفادت العلم لا باعتبار سندها ، بل باعتبار الأدلّة المذكورة فيها من البيّنات والزبر بعد تحرير محلّ النزاع حقّ التحرير ، وتصوير الحقّ والباطل حقّ التصوير ، كما يظهر لمن تتبّعها وتتبّع كتب المتكلِّمين ، فهي كالاستاذ ليس حجّة ، وقد يفيدك تقريره العلم فيما ليس فيه خلاف حقيقي مستقرّ ، وربّما لم تفد العلم ، وفائدة ذكرها حينئذٍ الاطّلاع بها على قصور في احتجاجات الخصوم أو في دعواهم الإجماع .

(وَتَوَازُرِهِمْ)؛ بتقديم الزاي على الراء المهملة، أي تعاونهم ، وذلك بإطراء بعضهم بعضا أو تلاحق أفكارهم .

(وَسَعْيِهِمْ فِي عِمَارَةِ) - بكسر المهملة - مصدر عَمَرت الخراب كنصر فهو عامر ، أي

ص: 111


1- . مثل قوله تعالى : «وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» البقرة (2 : 191) .
2- . مثل قوله تعالى : «وَ مَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَ هِيمَ» البقرة (2 : 130) .
3- . مثل قوله تعالى : «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» آل عمران (3 : 85) .
4- . مثل قوله تعالى : «وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ» لقمان (31 : 14) .
5- . مثل قوله تعالى : «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ»الحديد (57 : 20) .
6- . مثل قوله تعالى : «قُتِلَ الْخَرَّ صُونَ» الذاريات (51 : 10) . ومثل قوله تعالى : «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ» (الانعام (6) : 116 و يونس (10) : 66) .
7- . مثل قوله تعالى : «وَلاَ تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا» البقرة (2 : 231) .

معمور ، مثل ماء دافق ، أي مدفوق . وفيه إشارة إلى أنّها تخرب بنفسها كلّ حين لركاكتها .

أو مصدر عَمَر اللّه منزلك كنصر ، أي جعله ذا أهل ، أو عَمَر الرجلُ مالَه وبيته، أي لزمه . والعمارة أيضا ما يعمر به المكان .

(طُرُقِهَا) أي طرق الجهالة ، وذلك ببيان طرق الظنّ الحاصل بالاجتهاد ، وبتفصيل المقدّمات لإثبات خيالاتهم ، وتحرير أنواع الاعتراضات والأجوبة وإدخال مسائل آداب البحث ونحو ذلك ممّا يوهم فضلاً ويوجب ثناء الجاهل ، وهذا من ملمّات الظلم ومغشيّات البُهم، ألم تر إلى هذا اللكع عضد شارح مختصر ابن الحاجب في اُصول الفقه قال : «فتشعّبوا فيها شعبا وتحزّبوا أحزابا ورتّبوا فيها مسائل تحريرا واحتجاجا وجوابا ، فلم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم وإعانةً لهم على درك الحقّ منها بسهولة ،

فدوّنوها وسمّوا العلم بها اُصول الفقه»؟(1) انتهى .

كأنّه لم يسمع قوله تعالى في سورة المؤمنين : «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ»(2) الآيات ، وأمثالها الكثيرة .

(وَمُبَايَنَتِهِمُ الْعِلْمَ) أي ما يحصل من محكمات القرآن الناهية عن الاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة .

(وَأَهْلَهُ) أي من دلّت المحكمات على إمامته من أهل البيت أو من اتّبع المحكمات ، وذلك بقولهم : إنّ العقل مقدّم على النقل ، وهذا كلمة حقّ اُريد بها باطل(3) .

(حَتّى كَادَ الْعِلْمُ مَعَهُمْ) أي مع أهل دهرنا .

(أَنْ يَأْرِزَ) ؛ بالهمزة ومهملة مكسورة ، وقيل : مثلّثة والزاي ، أي يتضامّ ويتقبّض ويختفي .(4) وسيجيء في حادي عشر «باب في الغيبة» من «كتاب الحجّة» . ولهذا يأرز

ص: 112


1- . شرح القاضي عضد الدين ، ص 5 ؛ وحكاه عنه الأمين الاسترابادي في الفوائد المدنيّة ، ص 62 .
2- . المؤمنون 23 : 53 - 54 .
3- . في «ج» : «به الباطل» .
4- . الصحاح ، ج 3 ، ص 864 ، النهاية ، ج 1 ، ص 37 ارز .

العلم . (كُلُّهُ) أي كلّ العلم .

(وَتَنْقَطِعَ مَوَادُّهُ) . مادّة الشيء : أصله الذي يحتاج إليه ، وهي المحكمات ، وانقطاعها انتفاء التفات الناس إليها بالكلّيّة .

(لِمَا قَدْ رَضُوا) أي مع أنّهم اطّلعوا على المحكمات ، وخرّوا على آيات اللّه بالتأويل والتخصيص صمّا وعميانا .

(أَنْ يَسْتَنِدُوا إِلَى الْجَهْلِ) ؛ هو الظنّ الحاصل بالاجتهاد ، والاستناد إليه يؤدّيهم إلى آرائهم السخيفة .

(وَيَضَعُوا(1)) أي يهينوا بعدم الالتفات (الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ) . هم أهل البيت أو من اتّبع المحكمات وسكت عمّا لم يعلم .

(وَسَأَلْتَ : هَلْ يَسَعُ) ؛ بصيغة المضارع المعتلّ الفاء ، من باب علم ، سقطت الواو من يسع كما سقطت من يطأ لتعدّيهما ؛ لأنّ فَعِلَ يَفْعَلُ ممّا اعتلّ فاؤه لا يكون إلاّ لازما ، فلمّا جاءا من بين أخواتهما متعدّيين خولف بهما نظائرهما وجعلا كأنّهما من باب ضرب ، تقول : يسعك أن تفعل كذا ، أي يجوز ؛ لأنّ الجائز على الرجل لاضيق على الرجل فيه .

(النَّاسَ) ؛ بالنصب على المفعوليّة ، أي اتّباع الرؤساء .

(الْمُقَامُ) ؛ بالرفع على الفاعليّة ، وهو مصدر ميمي ، وهو بفتح الميم من قامت الدابّة : إذا وقفت ، أو بضمّها من أقام بالمكان : إذا دام .

(عَلَى الْجَهَالَةِ ، وَالتَّدَيُّنُ) أي العمل بما يعتقدون أنّه مقتضى دين الإسلام .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بأنّه مقتضى دين الإسلام .

(إذْ) ؛ تعليل للسعة . (كَانُوا) أي قبل البلوغ والتكليف ، أو قبل العمر الذي اُشير إليه في قوله تعالى في سورة فاطر : «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ»(2) وهو

ص: 113


1- . في الكافي المطبوع وحاشية «أ» : «ويضيّعوا» .
2- . فاطر 35 : 37 .

ثمانية عشر سنة .(1)

(دَاخِلِينَ فِي الدِّينِ) أي دين الإسلام .

(مُقِرِّينَ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ) أي جميع ما جاء به الرسول مجملاً .

(عَلى جِهَةِ الاِْسْتِحْسَانِ وَالنُّشُوءِ) ؛ بضمّتين وبعد الواو الساكنة همز ، مصدر نشأ كمنع وحسن ، أي حيي ورَبي وشبّ .

(عَلَيْهِ ، والتَّقْلِيدِ لِلاْبَاءِ وَالْأَسْلاَفِ وَالْكُبَرَاءِ) - بضمّ الكاف وفتح الموحّدة - ؛ جمع «كبير» .

(وَالاِْتِّكَالِ عَلى عُقُولِهِمْ) أي على عقول الآباء والأسلاف والكبراء ، أو عقول أنفسهم واستحسانها .

(فِي دَقِيقِ الْأَشْيَاءِ) أي مشكلها ، ويحتمل أن يُراد صغيرها .

(وَجَلِيلِهَا) أي واضحها أو كبيرها .

(فَاعْلَمْ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللّه ُ) . مقصوده الاستدلال على أنّه لا يجوز للقابل للتكليف الجهالة والمقام على الجهالة ، وهذا إلى قوله : «بالأدب والتعليم» دليل عقلي ، وقوله : «فلو كانت» إلى قوله : «أهل الدهر» ؛ دليل عقلي آخر ، وقوله : «فوجب» إلى قوله : «والإنكار لدينه» تفريع على الدليلين وتوضيح ، وقوله تعالى : «فقال» إلى قوله : «لا تعلمون» دليل سمعي من محكمات القرآن ، ويجيء تفصيله في أبواب من كتاب العقل ، كما نوضحه في ثاني عشر «باب العقل والجهل» . وقوله : «فلو كان يسع» إلى آخره ، تفريع على دليل السمع .

وتوضيح الدليل العقلي الأوّل :

(أَنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى خَلَقَ) . الخلق : التقدير .

(عِبَادَهُ خِلْقَةً) . الخِلقة - بالكسر - : الفطرة ، وهي التي خُلِق عليها المولود في رحم

ص: 114


1- . حكاه الطبرسي في مجمع البيان ، ج 8 ، ص 249 عن وهب وقتادة، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام ؛ وحكاه بلفظ «قيل» في جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 125 ، وحكاه عن قتادة في تفسير ابن زمنين ، ج 4 ، ص 34 .

اُمّه ، والنصب على أنّه مفعول مطلق لنيابته عن المصدر ، كما في قوله : «أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتا»(1) .

(مُنْفَصِلَةً مِنَ الْبَهَائِمِ) أي من خلقة البهائم .

(فِي الْفِطَنِ) ؛ بكسر الفاء وفتح المهملة ، جمع «فطنة» وهي الفهم ، والظرف متعلّق بمنفصلة .

(وَالْعُقُولِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِمْ) ؛ بتشديد الكاف المفتوحة ، أي المحمولة عليهم المجعولة فيهم من ركّبه تركيبا : إذا جعله راكبا ، وإنّما يستعمل في نحو تركيب الفصّ في الخاتم ، والنصل في السهم .

(مُحْتَمِلَةً) ؛ بصيغة اسم الفاعل ، أي قابلة وإن كان في الدنيا باعتبار بعض الأفراد ، وهو خلقة أهل الصحّة والسلامة .

(لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الظرف متعلّق ب- «محتملة» أي لكون من هي فيه مأمورا ومنهيّا .

(وَجَعَلَهُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - صِنْفَيْنِ : صِنْفا) أي جعل(2) صنفا .

(مِنْهُمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ ، وَصِنْفا مِنْهُمْ أَهْلَ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ) ؛ بفتح الزاي ، أي الآفة .(3) وهم - على ما يجيء في «كتاب الجنائز» في أوّل «باب الأطفال» - سبع طوائف : الأطفال ، والذي مات من الناس في الفترة - أي بين مضيّ الإمام السابق وبين بلوغ خبر الإمام اللاحق وظهور حجّته - ، والشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله وهو لا يعقل ، والأصمّ والأبكم الذي لا يعقل ، والمجنون والأبله الذي لا يعقل .

وفيه: أنّ تكليف هؤلاء السبع سيقع في القيامة ، وبهذا الاعتبار جُعلوا صنفا من عباده ، ومَن عداهم أهل الصحّة والسلامة .

(فَخَصَّ) أي في الدنيا .

ص: 115


1- . نوح 71 : 17 .
2- . في «أ» : + «منهم» .
3- . المصباح المنير ، ص 256 زمن .

(أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ بِالْأَمْرِ) بالواجبات التي هي في اُصول الدِّين ، أو فيها وفي الفروع .

(وَالنَّهْيِ) عمّا يضادّها ، كما في قوله تعالى : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ»(1) .

(بَعْدَ مَا أَكْمَلَ لَهُمْ آلَةَ التَّكْلِيفِ) . المراد بآلة التكليف الاُمور التي لو لم يتحقّق شيء منها لقبح التكليف ، والمراد بالتكليف الأمر والنهي اللذان ليسا بقصد اللعب ونحوه ، بل يكونان مع قصد الذمّ والتبعة(2) والمشقّة على المخالفة .

(وَوَضَعَ) أي في الدنيا .

(التَّكْلِيفَ عَنْ أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَالضَّرَرِ ؛ إِذْ قَدْ خَلَقَهُمْ خِلْقَةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ) أي في الدنيا .

(لِلْأَدْبِ) أي لبيان الأحكام العمليّة ، وهو بفتح الهمزة وسكون المهملة والموحّدة مصدر أَدَبَ القوم كضرب، أي دعاهم إلى طعامه . قيل : «ومنه تقول : أدّبته كضربته : إذا علّمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق».(3) انتهى .

ويحتمل أن يكون بفتح الدال من أدب كحسن ، إذا كان حركاته وكلامه على الهيئة المحمودة ، وإذا عدّيته قلت : أدّبته بالتشديد فتأدّب ، ويبعّد هذا عطف التعليم ، لكن يؤيّده قوله(4) بعدُ : «من مؤدّب ودليل» وبفتح الدال أيضا مصدر أدب كضرب ، أي عمل مأدُبةً بضمّ الدال ، ويجوز الفتح وهي طعام صنع لدعوة أو عرس .(5)

ومنه حديث ابن مسعود : «القرآن مأدبة اللّه في الأرض»(6) . يعني مَدْعاته ، شبّه القرآن بصنيع صنعه اللّه تعالى للناس لهم فيه خير ومنافع .

ص: 116


1- . البقرة 2 : 256 .
2- . في «أ» : - «والتبعة» .
3- . المصباح المنير ، ص 9 أدب .
4- . في «د» : «قوله يؤيّده» بتقديم وتأخير .
5- . لسان العرب ، ج 1 ، ص 206 ؛ المصباح المنير ، ص 9 أدب .
6- . المصنّف لعبد الرزّاق ، ج 3 ، ص 368 ، ح 5998 و ص 375 ، ح 6017 ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ، ج 7 ، ص 165 ، ح 3 ؛ المعجم الكبير للطبراني ، ج 9 ، ص 129 ، الفائق في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 27 .

(وَالتَّعْلِيمِ) أي أن يلقى إليهم من الأدلّة ما يقتضي العلم بالمبهمات المحتاج إليها؛ ليستغنوا عن الجهالة فيها .

(وَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ سَبَبَ بَقَائِهِمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ) ؛ لما نعلم ؛ ضرورةَ أنّه لو لم يخلق أهل الصحّة والسلامة لأسرعوا إلى الزوال ، أو لم يُخلقوا أصلاً ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» .(1)

أمّا إذا رجع ضمير ليعبدون إلى المؤمنين فظاهر ، وأمّا إذا رجع إلى الجنّ والإنس فلامتناع أن لا يترتّب الغاية بالذات على فعله تعالى ، فالعبادة حينئذٍ غاية بالعرض ، أي مطلوبة بالغاية بالذات(2) واُقيمت مقام الغاية بالذات ، وهي طلب العبادة إشعارا بأنّه لولا وقوع المطلوب في بعضهم لم يقع خلقهم أصلاً ، ويجيء تتمّة بيانه في أوّل «باب ثواب العالم والمتعلِّم» من «كتاب العقل» .

(وَجَعَل بَقَاءَ أَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ بِالْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ) .

حاصله وحاصل ما يجيء في أوّل «باب(3) الاضطرار إلى الحجّة» من «كتاب الحجّة» من قوله : «وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم» ، وما يجيء أيضا في ثالثه(4) ، إنّا نعلم ضرورة أنّهم محتاجون إلى التَّمَدُّن والمعاملات المفضية إلى المنازعات والترافع إلى العالم ، فلو لم يجمعهم أدب وتعليم مانع عن الجهالة ، لكانوا في الهرج والمرج دائما بسبب الفساد والفتنة ، أي اختلاف آرائهم ؛ وذلك لأنّ جمهورهم مضطرّون حينئذٍ إلى أن يحكموا في المبهمات المحتاج إليها بالرأي ، وإلاّ تعطّل المعاش وخربت الدنيا ؛ لانسداد طريق العلم بالمبهمات على الجمهور ، وذلك ينافي عدل اللّه ؛ ضرورة أنّ العادل لا يرضى بالفساد ، ولا يرضى لعباده أن يعطيهم الفطن والعقول الداعية إلى

ص: 117


1- . الذاريات 51 : 55 - 56 .
2- . في «أ» : + «على فعله تعالى» .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
4- . أي في الحديث 3 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

الهرج والمرج بدون أن يعطيهم ما إذا قبلوا نجوا ، فيكون الفطن والعقول وبالاً عليهم بدون تقصيرهم .

ولا ينتقض بزمان غيبة الإمام ؛ لأنّ الجمهور قد أتوا من قِبَلِ أنفسهم حيث لم يقبلوا عطاء اللّه وحجّته على بريّته ، والقليل المُسلمون المُسَلِّمون لا تخرب الدنيا ولا يتعطّل المعاش بكفّهم أنفسهم عن الحكم في المختلف فيه بالرأي .

واعلم أنّه يمكن أن يحمل على الإشارة إلى هذا الدليل العقلي المحض على نفي جواز الجهالة قوله تعالى في سورة المؤمنين: «مَا اتَّخَذَ اللّه ُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(1) على أن يراد بالولد من يحكم من عند نفسه بإذن اللّه المطلق ، وبالإله من يحكم بدون إذنه ، وبالخلق الافتراء ، وبالعلوّ الاستعلاء ، وقوله تعالى في سورة يوسف : «أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللّه ُ الواحد القهّار»(2) فإنّ الأرباب أهل الجهالة المتبوعون ، كما في قوله في سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) .

الدليل العقلي الثاني :

(فَلَوْ كَانَتِ) . الفاء للتعقيب والترتيب الذكري ، كما يكون في الانتقال من استدلال إلى استدلال آخر أو الانتقال من تمهيد مقدّمة إلى استدلال .

(الْجَهَالَةُ جَائِزَةً لِأَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ ، لَجَازَ وَضْعُ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ) .

المراد بالتكليف الأدب والتعليم ، والمراد بوضعه عنهم أن يكلهم اللّه تعالى إلى اجتهادهم وارتيائهم بعقولهم في كلّ شيء كما هو زعم الفلاسفة ، والمراد بجواز وضعه أن لا يجب على اللّه تعالى عقلاً ، كما هو زعم السيّد المرتضى حيث قال في أوّل الشافي :

أحد ما احتيج إلى الإمام به كونه بيانا ، بمعنى أنّه مبيّن للشرع وكاشف عن ملتبس(4)

ص: 118


1- . المؤمنون 23 : 91 .
2- . يوسف 12 : 39 .
3- . التوبة 9 : 31 .
4- . التبس الأمر : اختلط واشتبه .

الدِّين وغامضه ، غير أنّ هذه العلّة ليست الموجبة للحاجة إلى الإمام في كلّ زمان وفي كلّ حال ؛ لأنّ الشرع إذا كان قد أجاز(1) أن لا تقع العبادة به ، لم يحتج إلى مبيّن فيه .(2) انتهى .

والملازمة هنا ضروريّة ؛ لأنّا نعلم ضرورةً أنّه لو جاز على اللّه الرخصة في الاجتهاد في بعض الأحكام التي يحتاج إليها جمهور الناس أو أكثرها - كما هو زعم أهل الجهالة - لجاز عليه الرخصة في الاجتهاد في جميعها ، بأن لا يكون تعليم أصلاً ، أو لا يبقى ضروري للدِّين أصلاً .

وهذا إلى قوله : «أهل الدهر» قياس مركّب، وهو من قياس الخلف(3) ، والمقدّمة الاستثنائيّة مطويّة في كلّ مرتبة فيقدّر هنا ، لكن لم يجز وضع التكليف .

(وَفِي جَوازِ ذلِكَ) . دليل على(4) المقدّمة الاستثنائيّة .

(بُطْلاَنُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالاْدَابِ) . المراد ببطلانها كون إنزال الكتب وبعث الرسل وتعليم الآداب من اللّه تعالى بصفة المباح لم يوجبها على اللّه تعالى الحكمة ، فيكون رفعها أولى ؛ لأنّها عبث ، ولم يكتف في الدليل بهذا ، مع أنّه كاف مماشاةً مع منكري

الشرائع .

وبهذا يتّضح ما في رواية البرقي في كتاب المحاسن في باب المقاييس والرأي عن أبي عبداللّه عليه السلام في رسالة إلى أصحاب الرأي والقياس :

أمّا بعد فإنّه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقاييس لم ينصف ولم يُصب حظّه ؛ لأنّ المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء والمقاييس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل ؛ لأنّا قد رأينا

ص: 119


1- . في النسخ : «جاز» . والمثبت عن المصدر .
2- . الشافي ، ج 1 ، ص 43 .
3- . قياس الخلف هو قياس مركّب يثبت المطلوب بإبطال نقيضه ، وخلاصته : أنّه لو لم يصدق المطلوب لصدق نقيضه ، ولكن نقيضه ليس بصادق ؛ لأنّ صدقه يستلزم الخلف ، فيجب أن يكون المطلوب صادقا . المنطق للمظفر ، ص 303 وفي طبعة اُخرى ، ص 291 .
4- . في «ج» + «وضع» .

المتعلّم الطالب ربما كان فائقا المعلّمَ ولو بعد حين ، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو ، وفي ذلك تحيّر الجاهلون ، وشكّ المرتابون ، وظنّ الظانّون .

ولو كان ذلك عند اللّه جائزا لم يبعث اللّه الرسل بما فيه الفصل ، ولم ينه عن الهزل ، ولم يعب الجهل ، ولكنّ الناس لمّا سفّهوا الحقّ وغمطوا(1) النعمة ، واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم اللّه ، واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره وقالوا : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا ، فولاّهم اللّه ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون .

ولو كان اللّه رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادّعوا من ذلك ، لم يبعث اللّه إليهم فاصلاً لما بينهم ، ولا زاجرا عن وصفهم ، وإنّما استدللنا أنّ رضا اللّه غير ذلك ببعثة الرسل بالاُمور القيّمة الصحيحة ، والتحذير عن الاُمور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم

أبوابه وصراطه والأدلاّء عليه باُمور محجوبة عن الرأي والقياس ، فمن طلب ما عند اللّه بقياس ورأي ، لم يزدد من اللّه إلاّ بُعدا ، ولم نره(2) يبعث رسولاً قط وإن طال عمره قابلاً من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا مرّة وتابعا اُخرى ، ولم نره(3) أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من اللّه ، وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والمقاييس مخطئون مدحضون ، وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل ، لا في الرسل ، فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين : إحداهما : القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ،(4) والاُخرى : استغناؤك عمّا فيه حاجتك وتكذيبك لمن إليه مردّك ، وإيّاك وترك الحقّ سآمة وملالة ، وانتجاعك الباطل جهلاً وضلالة ، لأنّا لم نجد تابعا لهواه جائزا عمّا ذكرنا قط رشيدا فانظر في ذلك .(5) انتهى .

ص: 120


1- . غمط النعمة والعافية، أي لم يشكرهما . العين ، ج 4 ، ص 389 غمط ؛ وفي معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 396 : «غمط النعمة: احتقرها، وغمط الناس: احتقرهم» .
2- . في المحاسن : - «نره» .
3- . في المحاسن : «ولم ير» .
4- . في «ج» : «جذر» وفي «أ ، د» : «حذر» والمثبت عن المحاسن .
5- . المحاسن ، ج 1 ، ص 209 ، باب المقائيس والرأي ، ح 76 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 50 ، ح 33182 .

والملازمة هنا لا تحتاج إلى بيان ، والمقدّمة الاستثنائيّة المطويّة هنا قولنا : «ولكنّها لم تبطل» .

(وَفِي رَفْعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالاْدَابِ) . دليل على المقدّمة الاستثنائيّة .

(فَسَادُ التَّدْبِيرِ ، وَالرُّجُوعُ إِلى قَوْلِ أَهْلِ الدَّهْرِ) أي أن يكون خلق الإنسان عبثا بأن تكون الحياة منحصرة في الحياة الدنيا ، والمعطوف لإيضاح المعطوف عليه ؛ يعني إذا خلا زمان عن إنزال كتاب وبعث رسول بإعلام آداب لأجل أهل ذلك الزمان ، كان حياتهم منحصرة في الحياة الدنيا، لا يبعثون لثواب أو عقاب ، فكان خلقهم فيه عبثا ؛ لأنّ الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ ، ألا ترى أنّه قد سُلّط شرارها وظلمتُها على خيارها ومحسنيها ، وأنّه قد بسط فيها رزق الحمق أكثر من اُولي الألباب .

وبالجملة ، هي دار تعب وعناء ، وشرّ وبلاء ، دواؤها داء ، ونعيمها بلاء ، وحياتها فناء ، ألا ترى إلى كثرة الآلام والمصائب والعاهات والنوائب ، والمسكين ابن آدم إنّما لايتمنّى الموت والخروج منها لما يرى من شدائد الأمراض وسكرات الموت فهو(1) كالمحبوس فيها .

والمقدّمة الاستثنائيّة المطويّة هنا قولنا : ولكن فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر باطل ؛ لأدلّة حدوث العالم وحكمة المحدث .

والمراد بأهل الدهر الدهريّة ، عدل عنه ليناسب قوله : «من اصطلاح أهل دهرنا» .

والدهر - بالفتح - : الامتداد الزماني من حيث إنّه ظرف للحوادث .(2) والدهريّة - بالفتح وقد يضمّ - : الذين قالوا : «إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»(3) كما حكي في سورة الأنعام وسورة المؤمنين ، ومثله في سورة الجاثية(4) ، يعنون أنّ الأفاعيل الواقعة في العالم - كالحياة والموت - صادرة عن الطبائع لا عن حكيم ، وأنّ الأجسام ليس لها محدث بلا

ص: 121


1- . في «ج» : «وهو» .
2- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 201 دهر .
3- . الأنعام 6 : 29 .
4- . المؤمنون 23 : 37 ؛ الجاثية (45) : 24 .

مادّة قديمة ولا مثال سابق ، بل هي أزليّة شخصا أو نوعا ، وتبقى الحياة الدنيا أبدا على سبيل التناسخ .

واعلم أنّه يمكن أن يحمل على هذا الدليل العقلي المحض على نفي جواز الجهالة قولُه تعالى في سورة المؤمنين : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللّه ُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه ِ إِلَها آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ»(1) بناءً على أن يكون قوله : «فتعالى» لبيان انتفاء جواز وضع التكليف ، وقوله : «لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» لبيان انتفاء جواز الجهالة ، فإنّ أهل الجهالة عبدوا أنفسهم من حيث لا يعلمون ، كما مرّ في رواية البرقي ، وقوله : «وَمَنْ يَدْعُ»لبيان حال أهل الجهالة في بعض الأحكام ومقلّديهم التابعين لإمام الضلالة ، التاركين لإمام الهدى ؛ إنّهم لا يزالون في التباس وجهل بالأحكام بسبب إمامهم ، بخلاف من تبع نور اللّه في ظلمات الأرض من أهل الذكر الأئمّة المعصومين ، وقوله : «فإِنَّمَا حِسَابُهُ»لبيان كثرة خطائه في أحكام اللّه بحيث لا يحصيه ولا يعدّه إلاّ ربّه ، أو وعيد .

(فَوَجَبَ) . الفاء للتفريع والتفصيل . (فِي) بمعنى مع .

(عَدْلِ اللّه ِ(2) وَحِكْمَتِهِ أَن يَخُصَّ) ، أي القول بعدل اللّه وحكمته يستلزم القول بأن يخصّ.

(مَنْ) . موصولة . (خَلَقَ مِنْ) . تبعيضيّة . (خَلْقِهِ خِلْقَةً مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الظرف في قوله :

(بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) متعلّق «بأن يخصّ» .

(لِئَلاَّ يَكُونُوا) . الظرف متعلّق بالأمر والنهي ، أي أن يخصّهم بالأمر والنهي ، لا للعبث والباطل بأن لا يريد منهم وقوع المأمور به ولا ترك المنهيّ عنه ، فإنّ ذلك ينافي العدل

والحكمة بل لئلاّ يكونوا .

ص: 122


1- . المؤمنون 23 : 115 - 117 .
2- . في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ».

(سُدىً) . السدى بضمّ(1) المهملة ومهملة والقصر : المهمل ؛ تقول : إبل سدى ، أي مهملة .(2) وبعضهم يقول : سدى بالفتح . أشار(3) إلى قوله تعالى في سورة القيامة : «أَيَحْسَبُ الاْءِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً»(4) .

(مُهْمَلِينَ) ؛ على لفظ اسم المفعول من باب الإفعال وصف للتوضيح .

(وَلِيُعَظِّمُوهُ) أي وليعبدوه، (وَيُوَحِّدُوهُ) أي ويفردوه بالعبادة .

(ويُقِرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ) أي بأنّه ربّ كلّ شيء وخالقه ومالكه ، لا يخرج من سلطانه شيء . وسيجيء بيانه في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» . والمقصود إقرارهم بأنّه لا حكم في المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلاّ للّه تعالى

حتّى يصحّ توحيدهم .

(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ) أي لا يعتمدوا في تدبير أمرهم وتحصيل رزقهم إلى حولهم وقوّتهم ، بل يعلموا أنّ أزمّة الاُمور بيده تعالى ، ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن .

(إِذ شَوَاهِدُ رُبُوبِيَّتِهِ دَالَّةٌ ظَاهِرَةٌ) «إذ» هنا للظرفيّة فقط أي حين ، ويحتمل التعليل أيضا ، وهذا لدفع سؤال هو أنّ التكليف بمعرفة اللّه تعالى إمّا متوجّه إلى من يعرف اللّه تعالى ، أو إلى من لا يعرفه ، فإن كان الأوّل كان هذا أمرا بتحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان الثاني كان توجّها لأمر اللّه تعالى إلى من لم يكن عارفا باللّه ، والجاهل بالذات جاهل بالصفة ، فإذن هذا الأمر متوجّه إلى شخص لا يمكنه حالَ بقاء ذلك الأمر أن يعرف الآمر والأمر ، وذلك عين تكليف ما لا يُطاق .

وحاصل الدفع : أنّ معرفة اللّه تطلق على معنيين : الأوّل : العلم بوجود صانع للعالم بريء من كلّ نقص ، وبأنّه أنزل الكتب وبعث الرُّسل بالآداب .

الثاني : العلم المذكور مقيّدا بالعمل به ، وهذا غالب إطلاقاته ، كما يجيء في ثاني

ص: 123


1- . في «د» : + «السين» .
2- . المصباح المنير ، ص 272 سدى ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 356 (سدا) .
3- . في حاشية «أ» : «أي المصنّف» .
4- . القيامة 75 : 36 .

«باب من عمل بغير علم» من «كتاب العقل» من قوله عليه السلام : «ولا معرفة إلاّ بعمل» إلى آخره . وهذا بترك الجهالة وترك القول على اللّه بغير علم وتعظيمه وتوحيده والإقرار بربوبيّته ، ونحو ذلك .

فنقول : التكليف بالأوّل غير واقع ، بل يجب على اللّه تعالى بيان ذلك لمن شاء تكليفه ، وذلك بشواهد ربوبيّته .

وأمّا التكليف بالثاني فواقع ومتوجّه إلى العارف بالمعنى الأوّل .

(وَحُجَجُهُ نَيِّرَةٌ وَاضِحَةٌ ، وَأَعْلاَمُهُ لاَئِحَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلى تَوْحِيدِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) أي إلى نفي الشريك في استحقاق العبادة ، كالشريك في الحكم ، وذلك بتحريم الاختلاف بالظنّ والاجتهاد ، وهو معنى الإسلام في نحو قوله تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(1) .

(وَتَشْهَدُ عَلى أَنْفُسِهَا لِصَانِعِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالاْءِلهِيَّةِ) كون صانعها ربّا لها ظاهر ؛ لأنّه مالك كلّ شيء ، وأمّا كونه إلها لها فمشكل إن اُريد بالإله المستحقّ للعبادة ، كما هو الحقّ ؛ لأنّه يختصّ بذوي العقول ، وكذا إن اُريد به من يتحيّر الأذهان فيه .

ولعلّ المراد أنّها تشهد لصانعها بأنّه إله فيها ؛ لأنّها تشهد عند المتأمّل فيها بأنّه لا يجوز أن يختلف في حقّها(2) فيُعبد غير صانعها ممّن يحكم بالظنّ والاجتهاد ، أو مبنيّ على التشبيه ، كقوله في سورة بني إسرائيل : «وَإِنْ مِنْ شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(3) .

(لِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ ، وَعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ) ، بيان لكيفيّة الشهادة .

(فَنَدَبَهُمْ) . متفرّع على قوله : «فوجب في عدل اللّه» إلى آخره ، أي فدعاهم ببعث الأنبياء (إِلى مَعْرِفَتِهِ) أي الاعتراف بأنّه ربّ العالمين وخالقهم بقول: كُن ، فهو متّصف بكلّ كمال ، وبريء من كلّ نقص وقبيح كالعبث ، ويتضمّن ذلك الاعتراف بصفات ذاته

ص: 124


1- . آل عمران 3 : 19 .
2- . في حاشية «أ» : «أي في حقّ حكم من أحكامها الشرعية» .
3- . الإسراء 17 : 44 .

وصفات أفعاله التي منها التكليف بالدِّين ، وهو ما ذكر في قوله : «وليعظّموه» إلى آخره .

(لِئَلاَّ يُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَجْهَلُوا دِينَهُ وَأَحْكَامَهُ) يعني أنّ طلب معرفته ليس بالهزل ، بل للتكليف وأن لا يبيح لهم أن يقولوا على اللّه في اُصول الدِّين أو فروعه بغير علم ، أو يعملوا بغير علم .

(لِأَنَّ الْحَكِيمَ لاَ يُبِيحُ الْجَهْلَ بِهِ وَالاْءِنْكارَ لِدِينِهِ) . دليل على قوله : «لئلاّ يبيح» إلى آخره ، يعني : يستحيل من الحكيم إباحة الجهل كما مرّ في تقرير الدليلين العقليّين .

الدليل الثالث : السمعي :

(فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ) في سورة الأعراف . الفاء للتفصيل وهو معطوف على «فندبهم» عطف المفصّل(1) على المجمل .

(«أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم») على اليهود في التوراة .

(«مِّيثَاقُ الْكِتَابِ») . اللام للاستغراق ؛ أي كلّ كتاب من اللّه منزل على رسول من الرسل ؛ لما يجيء في ثامن «باب النهي عن القول على اللّه بغير علم» من «كتاب العقل» من قوله : «إنّ اللّه خصَّ عباده بآيتين»،(2) ولقوله تعالى في سورة المؤمنين : «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا»(3) الآيات ، وسنبيّنه في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» عند قوله : «يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه» ، ولقوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً»(4) الآيات ، وسنبيّنه في شرح عاشر «باب النوادر»(5) من «كتاب العقل» .

((أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ»(6)) . «أن» ناصبة و«لا» نافية ، أو «أن» مفسّرة و«لا» ناهية

ص: 125


1- . في «د» : «التفصيل» .
2- . في حاشية «أ» : «وهما «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم» و «بَلْ كَذَّبُوا» .
3- . المؤمنون 23 : 51 .
4- . الأنبياء 21 : 7 .وفي سورة النحل (16) : 43 «وَمَا أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجَالاً» .
5- . في «أ» : «وهو الباب السابع عشر» .
6- . الأعراف 7 : 169 .

لما في أخذ الميثاق من معنى القول ، و«على» بنائيّة ، أي قولاً مبنيّا على حكم اللّه بأن يكون حكاية لنفس حكم اللّه ، كأن يقال : الماء الكرّ لا ينجس بمحض ملاقاة النجاسة ، وهو احتراز عن القول في محلّ حكم اللّه ، كأن يقال : هذا الماء كرا ، أو وفيما ليس نفسَ حكم اللّه ولا محلّه كأن يقال : زيد في بلد كذا ، والحقّ المعلوم هو ضدّ الباطل ، وهو المظنون مثلاً ، كما في قوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(1) .

(وَقَالَ) : في سورة يونس : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ»(2)) يجيء توضيحه في «كتاب العقل» في شرح ثامن الثاني عشر(3) ، والحاصل أنّه تعالى حظر بالآيتين الإثبات بغير علم ، والنفي بغير علم .

(فَكَانُوا) أي أهل الصحّة والسلامة .

(مَحْصُورِينَ) أي محبوسين مكلّفين ، من حَصَرَه إذا مَنَعَه .

(بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) أي ليس أمرهم ونهيهم لغير التكليف والحصر . وسيجيء مثل هذا في حادي عشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» من «كتاب التوحيد» .

(مَأْمُورِينَ بِقَوْلِ الْحَقِّ) أي إن قالوا أو إن سئلوا(4) أو إذا ظهر البدع ، وهو ناظر إلى قوله : «بالأمر» ببيان فرد منه هو ما نحن فيه .

(غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُم فِي الْمُقَامِ عَلَى الْجَهْلِ) بحدود ما أنزل اللّه على رسوله ، وهو بيان لكون الأمر بقول الحقّ مع الحصر ، أو ناظر إلى قوله : «والنهي» فالنشر على ترتيب اللفّ .

(أَمَرَهُمْ) . استئناف بياني لقوله : «غير مرخّص» إلى آخره(5) (بِالسُّؤَالِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ) .

ص: 126


1- . يونس 10 : 36 ؛ النجم (53) : 28 .
2- . يونس 10 : 39 .
3- . أي الحديث 8 من باب النهي عن القول بغير علم .
4- . في حاشية «أ» : «إشارة إلى ما يجيء في كتاب العقل من ثاني العشرين» .
5- . في «أ» : «لهم» .

(فَقَالَ(1)) في سورة التوبة :

(فَلَوْلاَ) . حرف تحضيض دخلت على الماضي ، فهي للتوبيخ وتدلّ على الحصر .(2)

(نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(3)) أي عذاب اللّه على اتّباع الظنّ كما يجيء بيانه في سابع ثاني «كتاب العقل»(4) ، فيدلّ على الحصر .(5)

(وَقَالَ) في سورة النحل وسورة الأنبياء : («فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(6)) .

هذا أمر لكلّ اُمّة على لسان كلّ رسول ، كما يجيء بيانه في عاشر «باب النوادر»(7) من «كتاب العقل» .

(فَلَوْ كَانَ) : الفاء للتفصيل .

(يَسَعُ أَهْلَ الصِّحَّةِ والسَّلاَمَةِ الْمُقَامُ عَلَى الْجَهْلِ) أي لو لم يكن المقام على اتّباع الظنّ في شيء من الأحكام منافيا للاعتراف بربوبيّة اللّه تعالى .

(لَمَا أَمَرَهُمْ) أي على لسان كلّ رسول وفي كلّ شريعة .

(بِالسُّؤَالِ) : أي ما داموا لا يعلمون ، وهذا ظاهر .

(وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلى بَعْثَةِ الرُّسُلِ بِالْكُتُبِ وَالاْدَابِ) . الواو للعطف على الجزاء ، فيفيد ثبوت الاحتياج ، إشارةً إلى قوله تعالى في سورة النساء: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّه ُ عَزِيزا حَكِيما»(8) أي ممتنعا من ترك(9)

ص: 127


1- . في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ».
2- . في حاشية «أ» : «أي المنع كما مرّ آنفا» .
3- . التوبة 9 : 122 .
4- . أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه .
5- . في حاشية «أ» : + «أي المنع» .
6- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
7- . في حاشية «أ» : «وهو الباب السابع عشر» .
8- . النساء 4 : 165 .
9- . في «ج» : «عدم» .

التكليف بالاعتراف بالربوبيّة وعن التكليف به مع غير تكامل شروط التكليف ، كما في ترك بعث الرسل ، فإنّه حينئذٍ لا علاج لهم إلاّ اتّباع الظنّ ، وهو إنكار للربوبيّة وإشراك غيره تعالى معه في الحكم ، والتعبير عن وجوب البعثة عقلاً لدفع(1) الاعتراض بالاحتياج(2) إلى البعثة مبنيّ على التجوّز والمسامحة .

(وَكَانُوا(3)) أي أهل الصحّة والسلامة (يَكُونُونَ) . إقحامه لإفادة الاستمرار في الماضي . (عِندَ ذلِكَ) أي عند انتفاء البعثة . (بِمَنْزِلةِ الْبَهَائِمِ ، وَمَنْزِلةِ أَهْلِ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ) أي في انتفاء التكليف .

(وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ ، لَمَا بَقُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ) .

ويجيء توضيحه في أوّل «كتاب الحجّة» . والطرفة - بالفتح - : المرّة ؛ من طرف عينه يطرفها طرفا من باب ضرب ، أي أطبق أحد جفنيه على الآخر(4) ، فالإضافة إلى المفعول ونصبه على الظرفيّة ؛ لأنّ المصدر قد يضاف إليه اسم زمان لتعيين الوقت أو لتعيين مقدار الوقت(5) ، ثمّ يحذف المضاف ويقام المصدر مقامه ، فالأوّل نحو : جئتك صلاةَ العصر ، أي وقت صلاة العصر ؛ والثاني نحو : أنتظر بك حَلبَ ناقة ، أي مقدار حلب ناقة ؛ وما نحن فيه من الثاني . وقد يكون المنوب عنه مكانا ، نحو : جلست قربَ زيد ، أي مكان قربه .

(فَلَمَّا) . الفاء للتفصيل . (لَمْ يَجُزْ بَقاؤُهُمْ إِلاَّ بِالْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَجَبَ) أي ثبت (أَنَّهُ لاَبُدَّ لِكُلِّ صَحِيحِ الْخِلْقَةِ ، كَامِلِ الاْلَةِ) أي آلة التكليف (مِنْ مُؤَدِّبٍ وَدَلِيلٍ) أي معلِّم (وَمُشِيرٍ) . يقال : أشار عليه بالرأي في كذا إذا دلّه إلى وجه الصواب فيه .

(وَآمِرٍ وَنَاهٍ ، وَأَدَبٍ وَتَعْلِيمٍ ، وَسُؤَالٍ وَمَسْأَلَةٍ) . هي بصيغة المصدر ، والمراد الجدّ في

ص: 128


1- . في حاشية «أ» : «لدفع» متعلق ب- «وجوب» .
2- . في حاشية «أ» : «بالاحتياج» متعلق ب- «التعبير» .
3- . في الكافي المطبوع : «وكادوا» .
4- . اُنظر: تاج العروس ، ج 12 ، ص 348 طرف .
5- . في «أ ، ج» : «للوقت» .

السؤال إلى أن يفهم الجواب كما هو حقّه .

(فَأَحَقُّ) . الفاء للسببيّة .(1) (مَا اقْتَبَسَهُ) أي اكتسبه من جملة الأنوار (الْعَاقِلُ ، وَالْتَمَسَهُ) أي طلبه (الْمُتَدَبِّرُ الْفَطِنُ ، وَسَعى لَهُ) أي لتحصيله (الْمُوَفَّقُ الْمُصِيبُ) أي الذي وُفِّق للصواب وأصاب الحقّ .

(الْعِلْمُ بِالدِّينِ ، وَمعرِفَةُ مَا اسْتَعْبَدَ اللّه ُ بِهِ خَلْقَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ) ؛ كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»(2) .

(وَشَرَائِعِهِ) . عطف على «ما» أي ومعرفة مفروضاته من العبادات التي هي شَرع سواء بين المكلّفين كالصلاة والزكاة .

(وَأَحْكَامِهِ) أي ومعرفة محظوراته كشرب الخمر وأكل الرِّبا ؛ مأخوذ من الحَكَمة بفتح الحاء وفتح الكاف ، وهي حديدة في فم الدابّة تمنعها عن الحركات الغير المرضيّة .(3)

(وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ) أي ومعرفة خليفته الذي يأمر وينهى من قبله . والإفراد إشارة إلى انتفاء تعدّد الخليفة في زمان واحد .

(وَزَوَاجِرِهِ) أي ومعرفة وعيداته على مخالفة شرائعه وأحكامه أو أمره ونهيه .

(وَآدَابِهِ) أي ومعرفة سننه في غير الشرائع والأحكام والأمر والنهي ، كما في الواجبات الغير المفروضة والمستحبّات والمكروهات ، وكما في العقود والإيقاعات والمواريث والحدود ونحوها .

(إِذْ كانَتِ الْحُجَّةُ ثَابِتَةً) . ذلك بما بيّنه سابقا(4) من معلوميّة الأمر بالمعرفة والنهي عن الجهالة.

(وَالتَّكْلِيفُ لاَزِما) أي غير منفكّ عن الأمر والنهي أو(5) ثابتا إلى يوم القيامة لا ينقطع .

ص: 129


1- . في حاشية «أ» : «أي التفريع ؛ سمع منه» .
2- . الأنعام 6 : 163 .
3- . المصباح المنير ، ص 145 حكم .
4- . من قوله : «فلو كان يسع» .
5- . في حاشية «أ» : «وهذا موافق لما يجيء في تاسع عشر العشرين من كتاب العقل» .

(وَالْعُمْرُ يَسِيرا ، وَالتَّسْويفُ غَيْرَ مَقْبُولٍ).

(وَالشَّرْطُ) . الواو للحال عن ضمير «غير مقبول» أو للعطف على الحجّة .

(مِنَ اللّه ِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - فيمَا اسْتَعْبَدَ بِهِ خَلْقَهُ) أي المكلّفين .

(أَنْ يُؤَدُّوا) . خبر أو معطوف على ثابتة .

(جَمِيعَ فَرَائِضِهِ) . الفرض : القطع ، والمراد بفرائضه كلّ ما أوعد(1) اللّه بالنار على تركه .

(بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ) . الباء للسببيّة أو للمصاحبة ، كلّ واحد من «يقين» و«بصيرة» معطوف على «علم» عطفَ تفسير ، لئلاّ يتوهّم بالعلم الظنّ .

إن قلت : العلم بالأحكام الفرعيّة غير ممكن الحصول في زمن الغيبة لنا إلاّ في الشاذّ النادر فكيف الشرط؟

قلت : تأدية الشيء أعمّ من فعله ومن فعل ما يجري مجراه . وتفصيله : أنّ الحكم قسمان : حكم واقعي ، وهو الحكم في حقّ من لا يتغيّر هذا الحكم فيه بعلمه بجميع الخطابات الشرعيّة على وجهها في المسألة ، وحكم واصلي ، وهو الحكم في حقّ من بذل وسعه في طلب العلم بالخطابات الشرعيّة ، استجماع شرائط العمل في مسألة ، والعلم المأخوذ في الشرط أعمّ من العلم بالواقعي والواصلي ، والعلم بالواقعي(2) لا يحصل بالظواهر وبأخبار الآحاد .

لكنّ العلم بالواصلي يحصل بهما ، وتفصيل بيان الواقعي والواصلي والنسبة بينهما في حواشي(3) العدّة(4) .

اعلم أنّ هذا الشرط معلوم من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ بنفس الحكم الواقعي وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه ، وهذا الشرط متحقّق في الأخباريّين من الشيعة الإماميّة دون غيرهم ، فإنّ

ص: 130


1- . أي أوعد عباده .
2- . في «ج» : - «الواصلي والعلم بالواقعي» .
3- . في حاشية «أ» : «في أواخر الحاشية الاُولى» .
4- . عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 10 ، نشر مؤسسة آل البيت وبذيله حاشية الشيخ خليل القزويني .

غيرهم يتّبعون الظنّ الحاصل بالاجتهاد في نفس الحكم الواقعي ، ويجوّزون تقليد المجتهد ، وطريقتهم منافية لتلك الآيات .

ودعواهم العلم بجواز العمل بالظنّ الحاصل بالاجتهاد مكابرة صريحة لمقتضى عقولهم ؛ إذ جحدوا بالآيات واستيقنتها أنفسهم .

وأمّا الأخباريّون فليس مناط عملهم الظنّ بنفس الحكم الواقعي ، فعلمهم بجواز عملهم وبراءة ذمّتهم به يحصل بسبب علمهم بأنّ مفتيهم من أئمّة الهدى شاهد بالحقّ ، كما يجيء بُعيدَ هذا ، وما يجيء في «كتاب العقل» في سابع(1) «باب اختلاف الحديث» وهو الثاني والعشرون من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه» .

(لِيَكُونَ الْمُؤَدِّي لَهَا مَحْمُودا عِنْدَ رَبِّهِ ، مُسْتَوْجِبا لِثَوَابِهِ وَعَظِيمِ جَزَائِهِ) .

هذا مضمون الشرط ؛ أي شرط اللّه على المكلّفين أنّه لولا أداؤهم الفرائض بعلم لم يكونوا محمودين . ومضى بيان مضمون الشرط في قوله : «أمرهم بالسؤال والتفقّه» إلى آخره .

(لِأَنَّ الَّذِي يُؤَدِّي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ) . استدلالٌ عقليٌ و«غير علم وبصيرة» القدرُ المشترك بين الظنّ والتقليد والاعتقاد المبتدأ .

(لاَيَدْرِي مَا يُؤدِّي) أي هل هو من فرائض اللّه ، أم لا؟

(وَلاَيَدْرِي إِلى مَنْ يُؤَدِّي) . المراد أنّه لا يدري هل يؤدّي إلى اللّه أو إلى من يتبع ظنّه فيه .

(وَإذا كانَ جَاهِلاً) بما يؤدّي وبمن يؤدّي إليه .

(لَم يَكُنْ عَلى ثِقَةٍ مِمَّا أَدّى) . ناظر إلى قوله : «لا يدري ما يؤدّي» أي لم يكن على اطمئنان ممّا أدّى ؛ لتجويزه استحقاق اللوم والعقاب عليه .

(وَلاَ مُصَدِّقاً)(2) بربوبيّة اللّه تعالى . هذا ناظر إلى قوله : «ولا يدري إلى مَن يؤدّي» .

(لِأَنَّ) . تعليل لقوله : «ولا مصدّقاً» .

ص: 131


1- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : السادس .
2- . في حاشية «أ» : «عطف عل محل قوله : على ثقة» .

(الْمُصَدِّقَ لاَ يَكُونُ مُصَدِّقا حَتّى يَكُونَ عَارِفا بِمَا صَدَّقَ بِهِ) . الباء صلة «صدّق» . والمراد بما صدّق به ربوبيّة اللّه تعالى .

(مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلاَ شُبْهَةٍ) . الشكّ هنا ليس على اصطلاح المتكلِّمين ، وهو تساوي احتمال الإيجاب والسلب ، بل على معنى محض(1) احتمال الطرف المخالف ، وهو المراد بالشبهة أيضا .

(لأَنَّ الشَّاكَّ لاَ يَكُونُ لَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّقَرُّبِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِن الْعَالِمِ الْمُسْتَيْقِنِ) أي لأنّ الشاكّ مشرك قد عبد مَن اتّبع ظنّه وحكمه في الدِّين كالذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه بخلاف العالم .

ويستنبط ممّا ذكره المصنّف - رحمه اللّه تعالى - أنّ التصديق المعتبر في حدّ الإيمان ليس محض العلم ، ولا العلم مع الإقرار لفظا ، بل ما يساوق الطوع ، أي الرغبة والرهبة المتأكّدة التي لا تكون إلاّ للعالم بما يؤدّيه للتصديق بربوبيّة اللّه تعالى ؛ يُقال : خضع لزيد - كمنع - : إذا تذلّل له . والتقرّب طلب القرب .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الزخرف : («إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ»(2)) .

هذا بعد قوله : «وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ» أي لا يستحقّ الرؤساء - الذين يدعون الناس إلى أنفسهم من دون إذن اللّه - الازدواج ، بمعنى قبول المدعوّين قولهم والعمل بأمرهم ونهيهم ، والاستثناء من «الذين» وهو منقطع ، والشهادة الخبر اليقيني ، والباء للملابسة ، والحقّ ما وافق الحكمة ورعاية المصلحة ، والظرف حال [عن] ضمير «شهد» ، وهو احتراز عن الشهادة في موضع وجوب التقيّة ، وضمير«هم» للمدعوّين .

والمراد بالعلم العلم بالشهاده بالحقّ ؛ أي لكن يملك شفاعة المدعوّين مَن حكم حكما يقينيّا بالحقّ حال كون المدعوّين عالمين بأنّه حكم يقيني بالحقّ .

ص: 132


1- . في «د» : «أصل» .
2- . الزخرف 43 : 86 .

ويظهر بهذا التقرير أنّ قوله بعد ذلك : «وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ»(1) على قراءة الجرّ عطف على الحقّ ، وهو لبيان موضع وجوب التقيّة .

(فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً) أي عند المدعوّين .

(لِعِلَّةِ الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ) أي علم المدعوّين بأنّ حكم الداعي شهادة بالحقّ .

(وَلَوْ لاَ الْعِلْمُ بالشَّهَادَةِ ، لَمْ تَكُنِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً) فضلاً عمّا علم أنّه ليس شهادة .

(وَالْأَمْرُ فِي الشَّاكِّ - المُؤَدِّي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَة - إِلَى اللّه ِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، إِنْ شَاءَ تَطَوَّلَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ عَمَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِ) الشاكَّ المستضعف ، وهو الذي لم يطّلع على اليقين ، أي الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، أو اطّلع عليها ولم يفهمها ؛ لكونه عجيما كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أول «باب الشكّ» وهو السبعون والمائة من قوله : «إنّما الشكّ ما لم يأت اليقين ، فإذا جاء اليقين لم يجز الشكّ» .

«المؤدّي» أي لفرائض اللّه بغير علم وبصيرة ، أي بتقليد أهل الظنّ كما في عوامّ الشيعة الإماميّة .

جملة : «إن شاء» استئناف بياني موافق لآية سورة النساء : «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَ نِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَعَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا».(2)

(لأَنَّ الشَّرْطَ عَلَيْهِ مِنَ اللّه ِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَفْرُوضَ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ ) . الباء للسببيّة أو للمصاحبة ، هذا الشرط عليه معلوم له من شواهد الربوبيّة في السماوات والأرضين ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب الاضطرار إلى الحجّة» وهو الأوّل من قوله :

«من عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول» إلى آخره ، وكما في أمثال آية سورة المؤمنين : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ»(3) .

ص: 133


1- . الزخرف 43 : 88 .
2- . النساء 4 : 98 و 99 .
3- . المؤمنون 23 : 115 .

(كَيْ لاَ يَكُونُوا(1) مِمَّنْ وَصَفَهُ اللّه ُ ، فَقَالَ تَبارَكَ وَتَعَالَى(2) : «وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةَ ذَ لِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(3) ؛ لِأَنَّهُ كانَ دَاخِلاً فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ يَقِينٍ ، فَلِذلِكَ صَارَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ يَقِينٍ) .

«كي لا» تعليل للشرط المذكور ، وحاصله أنّ عاقبة الشاكّ ثلاثة احتمالات :

أحدها : البقاء على(4) الشكّ إلى آخر عمره .

ثانيها : الانقلاب إلى الشرك ، كما في هذه الآية من سورة الحجّ .

ثالثها : المصير إلى الإيمان بالآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب في قوله تعالى : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه َ عَلَى حَرْفٍ»» وهو الثامن والسبعون والمائة من قوله : «فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويُصدّق ويزول عن منزلته من الشكّ إلى الإيمان ، ومنهم من يَثبُتُ على شكّه ، ومنهم من ينقلب إلى الشرك» .

ضمير «لأنّه» للمنقلب على وجهه ، وهذا بيان لسبب فساده . ضمير «فيه» للدين الحق . «بغير علم ولا يقين» أي بغير علم بمضمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ . «خروجه بغير علم ولا يقين» أي بفتنة وشبهة ، والمراد أنّه لو كان

دخوله بعلم لم يخرج بفتنة وشبهة .

(وَقَدْ قَالَ الْعَالِمُ عليه السلام ) . أكثر ما يطلق على الكاظم عليه السلام ، ولعلّ المراد هنا صاحب الزمان عليه السلام .

(مَنْ دَخَلَ فِي الاْءِيمَانِ بِعِلْمٍ ، ثَبَتَ فِيهِ ، وَنَفَعَهُ إِيمَانُهُ) أي البيّنة أو الغالب ذلك .

(وَمَن دَخَلَ فِيهِ بِغَيرِ عِلْمٍ ، خَرَجَ مِنْهُ) أي ربّما خرج(5) منه أو الغالب ذلك .

ص: 134


1- . في الكافي المطبوع جديدا : «يكون» . وفي المطبوع السابق كما في المتن .
2- . في «أ» : + «في سورة الحج» .
3- . الحج 22 : 11 .
4- . في «د» : «إلى» .
5- . أي قد يخرج .

(كَمَا دَخَلَ فِيهِ) أي بغير علم ، كما مرَّ آنفا . وظاهره أنّ المقلّد للمحقّ(1) مؤمن ، لكن لا ينتفع بإيمانه ، وأنّ المؤمن قد يصير كافرا .

وقد خالف في كلّ منهما جمع من المتكلِّمين .(2)

(وَقَالَ عليه السلام : مَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى اللّه عَلَيْه وَآلِهِ) أي من محكمهما(3) .

وسيجيء تفسيره في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» .(4)

(زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ) أي لا يزول أصلاً أو الغالب ذلك .

(وَمَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ رَدَّتْهُ الرِّجَالُ) أي ربّما ردّته ، أو الغالب ذلك .

(وَقَالَ عليه السلام : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَنَا مِنَ الْقُرْآنِ ، لَمْ يَتَنَكَّبِ) ؛ بصيغة المضارع من باب التفعّل ، أي لم يحترز ؛ يقال : نكب عنه - كنصر وعلم - ونكّب وتنكّب : إذا عدل عنه .(5)

(الْفِتَنَ)؛ بكسر الفاء وفتح المثنّاة فوقُ ، جمع «فتنة» بالكسر : الامتحان ، والضلال ، والإضلال ، واختلاف الناس في الآراء ، والإعجاب بالشيء ، والإثم ، والكفر ، والفضيحة ، والعذاب(6) . والأنسب هنا الإضلال ، أي لم يجتنب غوائل إضلال المخالفين له ، فإنّ المخالفين يمنعون تواتر الروايات ويذكرون ما يوسوس غير العالم ، كما يجيء في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل» ، فربّما زال(7) أو الغالب ذلك .

وفي معناه ما رواه ابن بابويه في كتاب التوحيد في باب في أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ

ص: 135


1- . في «ج» : «للحق» .
2- . ذكر هذا البحث مفصلاً الشهيد الثاني في كتاب حقائل الإيمان ، ص 109 ، البحث الثالث ، وقد نسب فيه هذا القول للسيّد المرتضى .
3- . في «ج» : «محكمها» .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
5- . المصباح المنير ، ص 624 نكب .
6- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2175 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 472 فتن .
7- . في حاشية «أ» : «أي إيمانه» .

به عن الصادق عليه السلام أنّه قال : «لولا اللّه ما عُرفنا ، ولولا نحن ما عُرِفَ اللّه»(1) .

أو الاختلاف بالظنّ ؛ قال تعالى في سورة البقرة : «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ»(2) وقال فيها :

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه ِ»(3) .

(وَلِهذِهِ الْعِلَّةِ) . العلّة - بكسر المهملة - : المرض والعاهة ؛ أي لأجل اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وإعراضهم عن المؤدّب(4) والدليل والمشير من أهل الذِّكر عليهم السلام المأمور بسؤالهم .

(انْبَثَقَتْ) أي انفتحت ؛ يُقال : بثق - بتقديم الموحّدة على المثلّثة من باب نصر - الماء موضع كذا بَثقا وبِثقا بالفتح والكسر ، أي خرقه وشقّه ، واسم ذلك الموضع البثق بالكسر ، وانبثق الشطّ ، أي انخرق .(5)

(عَلى أَهْلِ دَهْرِنَا) من اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله . (بُثُوقُ) بضمّ الموحّدة ، جمع «بثق» بالكسر ، وهو مرفوع، فاعل انبثقت .

(هذِهِ) ؛ مضاف إليه (الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ) . يريد بها الاُصول الأربعة الجهليّة المشهورة من المتكلّمين والصوفيّة والمشّائيّين والإشراقيّين .

شبّه الدِّين الفاسد بالسيل الذي يبثق مواضع كثيرة من شطّه ، ويحتمل أن يكون تعدّد البثوق بتعدّد الأديان .

(وَالْمَذَاهِبِ المُسْتَبْشِعَةِ)(6) . يُقال : هذا شيء بشع - بفتح الموحّدة وكسر المعجمة - أي كريه الطعم يأخذ بالحلق(7) .

والشين في المستبشعة إمّا مكسورة ، وهي للمبالغة ، كأنّها طلبت من نفسها أن

ص: 136


1- . التوحيد للصدوق ، ص 290 ، ذيل ح 10 .
2- . البقرة 2 : 191 .
3- . البقرة 2 : 192 .
4- . في «د» «وعدم التفاتهم إلى المؤدب» بدل «وإعراضهم عن المؤدب» .
5- . اُنظر: ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 131 ؛ المصباح المنير ، ص 36 بثق .
6- . في الكافي المطبوع : «المستشنعة» .
7- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 165 ؛ المصباح المنير ، ص 49 بشع .

تكون بشعة ؛ وإمّا مفتوحة ، يُقال : استبشعه إذا عدّه بَشعا ، يريد بها خصوصيّات مسألة مسألة في كلّ دين من الأديان الأربعة الجهليّة .

ويحتمل أن يريد بها ما حدث بين الإماميّة من مذاهب الجبر والتفويض ونحوهما ، بقرينة ما سيجيء من قوله : «يتدارك اللّه بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا» .

(الَّتِي قَدِ اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ كُلَّهَا) فإنّ رأس تلك الشرائط اتّباع الرأي ويتبعه باقيها .

(وَذلِكَ) أي انقسام الداخل في الإيمان إلى الداخل فيه بعلم وإلى الداخل فيه بغير علم .

(بِتَوفِيقِ اللّه ِ(1) وَخِذْلاَنِهِ) . المراد بالتوفيق هنا فعل أو ترك من اللّه تعالى ، يعلم تعالى أنّ

العبد يختار به الطاعة أو يمتنع به عن المعصية ، أي بدون قسر(2) وإلجاء ، سواء كان مقرّبا إلى الطاعة أو الامتناع عن المعصية أم لا ؛ وبالخذلان - بكسر الخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة - فعل أو ترك من اللّه تعالى، يعلم تعالى أنّ العبد يختار به ترك الطاعة أو فعل المعصية ، سواء كان مبعّدا عن الطاعة أو ترك المعصية أم لا ، كما في قوله تعالى : «يُضِلُّ بِهِ كَثِيرا»(3) ، والمشهور في حدّ التوفيق لطفه تعالى بالعبد مقيّدا بالنفع ، أي ما يقرّبه إلى الطاعة فيختارها لأجله ، أو ما يبعّده عن المعصية فيمتنع منها لأجله ، أي مع انتفاء الإلجاء ، وقد يخصّ التوفيق بلطف يفعله اللّه تعالى بالعبد ، يختار معه الطاعة ، ويسمّى اللطفُ الذي يمتنع معه من المعصية عصمةً(4) .

(فَمَنْ أَرَادَ اللّه ُ تَوْفِيقَهُ وَأَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ ثَابِتا مُسْتَقِرّا) ؛ بكسر القاف .

(سَبَّبَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل ، ويحتمل المجهول .

(لَهُ الْأَسْبَابَ) . معنى تسبيب السبب خَلْق ما يعلم أنّه يصير سببا .

(الَّتِي تُؤَدِّيهِ) أي تفضي به بدون جبر .

ص: 137


1- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- . في النسخ الثلاث : «قصر» .
3- . البقرة 2 : 26 .
4- . أوائل المقالات ، ص 164 ؛ كتاب الألفين ، ص 200 .

(إِلى أَنْ يَأَخُذَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ عليه السلام (1) بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ ، فَذَاكَ أَثْبَتُ فِي دِينِهِ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي) . جمع راسية ، يُقال : رسا الشيء : إذا ثبت .(2)

(وَمَنْ أَرَادَ اللّه ُ خِذْلاَنَهُ وَأَنْ يَكُونَ دِينُهُ مُعَارا مُسْتَوْدَعا(3))؛ بفتح الدال المهملة .

(سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الاسْتِحْسَانِ وَالتَّقْلِيدِ وَالتَّأْوِيلِ) أي تأويل الآيات المحكمات الدالّة على حظر الاستحسان والتقليد على غير المراد أو تأويل ما تشابه من الكتاب ، وهو منهيّ عنه ، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»(4) الآية .

(مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ) . ذكر هذا لأنّها(5) إن كانت على طبق البرهان كتقليدنا المعصوم أو تأويل المعصوم لم تكن قبيحة .

(فَذَاكَ فِي الْمَشِيئَةِ) أي في مشيّة اللّه ، بمعنى أنّه لا يعلم العباد عاقبته ، وتفسيره قوله :

(إِنْ شَاءَ اللّه ُ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَتَمَّ إِيمَانَهُ) أي أبقاه إلى آخر عمره .

(وَإِنْ شَاءَ ، سَلَبَهُ إِيَّاهُ) . يجيء في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب(6) في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة» معنى مشيّة اللّه للمعاصي بحيث لا يلزم جبر .

(وَلاَ يُؤْمَنُ) ؛ بصيغة المجهول من باب علم .

(عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ مُؤْمِنا وَيُمْسِيَ كَافِرا ، أَو يُمْسِيَ مُؤْمِنا وَيُصْبِحَ كَافِرا) . ظاهره أنّ المقلّد للمحقّ مؤمن وأنّ المؤمن قد يصير كافرا كما مرّ .

(لِأَنَّهُ كُلَّمَا رَأى كَبِيرا مِن الْكُبَرَاءِ) كعلماء المخالفين وملوكهم . ويحتمل أن يكون أعمّ منهم وممّن أحدث المذاهب المستبشعة في الإماميّة .

(مَالَ مَعَهُ ، وَكُلَّمَا رَأى شَيْئا اسْتَحْسَنَ ظَاهِرَهُ) ككثرة أهل الخلاف وتصرّفهم في أكثر

ص: 138


1- . في الكافي المطبوع : «صلوات اللّه عليه» .
2- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 678 ؛ المصباح المنير ، ص 226 ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 459 رسو .
3- . في الكافي المطبوع : + «نعوذ باللّه منه» .
4- . آل عمران 3 : 7 .
5- . في حاشية «أ» : «أي الاستحسان والتقليد والتأويل» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الخامس والعشرون» .

الأماكن المشرّفة والدفن فيها وتقيّدهم بالأوقات والجماعات وحفظ القرآءات وأنواع العمائم ونحو ذلك .

(قَبِلَهُ) . جواب كلّما .

(وَقَدْ قَالَ الْعَالِمُ عليه السلام ) . سيجيء نقله عن أبي الحسن عليه السلام (1) في رابع باب المعارين من كتاب الإيمان والكفر .

(إِنَّ اللّه َ جَلَّ وعزَّ(2) خَلَقَ النَّبِيِّينَ عَلَى النَّبُوَّةِ ، فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ أَنْبِيَاءَ) يعني لا تكون النبوّة معارة .

(وَخَلَقَ الْأَوْصِيَاءَ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ أَوْصِيَاءَ)(3) .

كذا في النسخ التي رأينا ، ولعلّه من سهو الناسخين ، والصواب(4) ما يجيء في رابع «باب المعارين» بدله هكذا : «وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين» .

والمراد بالمؤمنين بعض المؤمنين ، كما يدلّ عليه ما في خامس «باب المعارين» من قوله : «وجُبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبدا» .

(وَأَعَارَ قَوْمَا إِيمَانَا ، فَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ لَهُمْ ، وإِنْ شَاءَ سَلَبَهُمْ إِيَّاهُ ، قالَ : وَفِيهِمْ جَرى قَوْلُهُ تَعَالى في سورة الأنعام(5) : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(6)) .

الضمير لقوم وتقديم الظرف لإفادة الحصر ، والمراد أنّ حمل الآية عليهم لا يحتاج إلى تكلّف ، وحمله على غيرهم يحتاج إلى تكلّف، في سورة الأنعام : «وَهُوَ الَّذِى

ص: 139


1- . في «أ» : + «الظاهر أنّه الكاظم عليه السلام » .
2- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
3- . في «ج» : «الأوصياء» .
4- . قوله قدس سره : «والصواب» إلى آخره ، الظاهر أنّ الأصوب أن يقال : سقط من قلم الناسخين هاهنا وخلق اللّه النبيّين إلى آخره ، وفي باب المعارين وخلق الأوصياء إلى آخره ، فيتمّ ذكر أقسام المكلّفين بأسرهم في هذا الحديث صريحا ، ثمّ هذا مبنيّ على أن يكون هذا الحديث هو المرويَّ فيما سيجيء كما هو الأظهر بناءً على أنّه يستبعد أن يتمسّك المصنّف بحديث [ ؟؟؟] ذكر [؟؟؟] الباب المناسب له كما لا يخفى مهدي .
5- . في «أ» والكافي المطبوع : - «في سورة الأنعام».
6- . الأنعام 6 : 98 .

أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»فمستقرّ بفتح القاف وكسرها قراءتان ، وعلى الأوّل اسم مكان كمستودع ، والتقدير : فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع ، موافقا لآية سورة التغابن : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»(1) ، ولا يفيد الحصر ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب الضلال» وهو الحادي والسبعون والمائة ؛ أي بعضكم موضع استقرار إيمانه ؛ إذ يبقى معه إلى آخر عمره ، وبعضكم موضع استيداع إيمانه ؛ إذ يؤخذ عنه قبل موته ، وعلى الثاني «مستقرّ»(2) اسم فاعل ، أي مستقرّ في إيمانه ، فمآل القراءتين واحد .(3)

(وَذَكَرْتَ أَنَّ أُمُورا) أي من الأحكام الفرعيّة الغير(4) المتعلّقة لابما(5) يتنازع فيه رجلان من دَين أو ميراث بقرينة ما يجيء من التوسيع(6) في جوابه ؛ مع ما يجيء في كتاب العقل في آخر باب اختلاف الحديث من الترتيب والتضييق في جواب السؤال عمّا فيه تنازع بين رجلين من أصحابنا كدين أو ميراث .

(قَدْ أَشْكَلَتْ عَلَيْكَ ، لاَتَعْرِفُ حَقَائِقَهَا) ؛ جمع حقيقة ، وهي الأصل الذي يستند

ص: 140


1- . التغابن 64 : 2 .
2- . في «أ» : + «أي» .
3- . في «ج» : «منطوق الآية بل بواطنه ، وظاهر كلام المصنّف فيما سبق من قوله : «وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا» ، وقوله : «أن يكون دينه معارا مستودعا» وظاهر هذا الحديث أنّ الراجح في «فمستقر» كسر القاف كما قرأه ابن كثير وأبو عمرو يعقوب برواية روح وزيد ، وأن التقدير : فبعض أحوالكم مستقر أي راسخ كشمائل الإنسان من كيفية صوته وشكله وغير ذلك ، وبعض أحوالكم مستودع أي غير راسخ كالصحة والمرض والنوم واليقظة وغير ذلك وفي حكم ذلك أن يكون بعض الأحوال راسخا في بعض الناس وغير راسخ في بعض آخر ، ومن هذا القبيل الإيمان» بدل من قوله : «الضمير لقوم وتقديم ...» إلى هنا .
4- . في «أ» : «فرعية غير».
5- . في «أ» : «لا مما» وفي «د» : «بما» .
6- . في حاشية «أ» : «فإنّ ما يجيء في الخطبة وفي تاسع الثاني والعشرين من التوسيع مختصّ بالعبادات ، غير جارٍ في المعاملات كالدين والميراث ، بقرينة ما يجيء في آخر الثاني والعشرين ، حيث سئل فيه عن وجه الترجيح في الحديثين المختلفين الواردين في دين أو ميراث ، وأجاب عليه السلام بعد ذكر وجوه من الترجيحات وسؤال الراوي عن صورة تساويهما في تلك الوجوه بقوله عليه السلام : «فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» .

وينتهي إليه الشيء ، كضدّ المجاز والراية وما يحقّ على الرجل أن يحميه ، أي يجب ، يقال : فلان حامي الحقيقة(1) ؛ والخالص الذي لا يشوبه غشّ ، كما في الحديث ؛ «لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتّى لا يعيب مسلما بعيب هو فيه» أي خالص الإيمان ومحضه وكنهَه .(2)

والمراد بالحقائق هنا شواهد القرآن القطعيّة الدلالة على الحقّ ، والصواب في هذه الاُمور المشكلة ، كما يجيء في «كتاب العقل» في أوّل «باب(3) الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» من قوله : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه» .

(لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَةِ فِيهَا) أي عن أهل الذِّكر عليهم السلام ، وفيه إشارة إلى أنّ نحو قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) حقيقة لما ليس فيه اختلاف رواية عن أهل الذكر ، دون ما فيه اختلاف الرواية عنهم ، وذلك إمّا لأنّه لم يصل إلى الأخ بعد ما روى عن أهل الذكر في وجه الخلاص عن الحيرة في الحديثين المختلفين ، وإمّا لأنّه وصل إليه لكن توهّم أنّ أخبار الآحاد طرق لسؤال أهل الذكر في الفروع الفقهيّة ، دون مسائل اُصول الفقه ، وما نحن فيه مسألة أصليّة ، وسيظهر بطلان هذا التوهّم عند قول المصنّف : «وأرجو أن يكون بحيث توخّيت» .

(وَأَنَّكَ) ؛ بفتح الهمزة عطف على «أنّ اُمورا» وإنّما ذِكْرُه الأخ لِدفعِ توهّمِ أنّ اختلاف الرواية ينافي كون المرويّ عنه من أهل الذِّكر .

(تَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلاَفَ الرِّوايَةِ فِيهَا لاِخْتِلاَفِ عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا) أي ليس للتناقض في فتاوى أهل الذِّكر عليهم السلاموجهل(5) بعضهم بمسألة ، بل هي لعوارض ونوازل مختلفة تقتضي

ص: 141


1- . قال الجوهري في الصحاح ، ج 4 ، ص 1461 : «والحقيقة خلاف المجاز ، والحقيقة : ما يحقّ على الرجل أن يحميه ، وفلان حامي الحقيقة ، ويقال : الحقيقة الراية» .
2- . النهاية في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 415 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 52 حقق .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثالث والعشرون» .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
5- . في «ج» : «جعل» .

اختلاف الروايات من التقيّة ، أو نسيان الراوي ، أو سهوه ، أو إرادته نقل الرواية بالمعنى ، أو كذبه ، أو إسقاط بعض الكلام ، أو نحو ذلك .

(وَأَنَّكَ)؛ بفتح الهمزة . (لاَ تَجِدُ بِحَضْرَتِكَ مَنْ تُذَاكِرُهُ وَتُفَاوِضُهُ) أي تحادثه ؛ مفاعلة من التفويض ، كأنّ كلّ واحد منهما ردَّ ما عنده إلى صاحبه .

(مِمَّنْ تَثِقُ بِعِلْمِهِ) أي ممّن يحصل لك ببيانه الحقائقَ العلمُ بالحقائق ، فتعتمد على علمه .

(فِيهَا) أي في الاُمور المشكلة الحقائق . والظرف متعلّق إمّا بتذاكره وإمّا بعلمه .

اعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف مبنيّ على أنّه كان بحضرة المصنّف مَن يفاوضه من السفراء من جانب من يوثق بعلمه ، وهو صاحب الزمان عليه السلام ؛ ووجهه أنّ المصنّف رحمه اللهكان حينئذٍ في بغداد وحواليه في الغيبة الصغرى ، وكان مجاورا للسفراء .

(وَقُلْتَ : إِنَّكَ تُحِبُّ) بالمهملة وشدّ الموحّدة (أَنْ يَكُونَ عِندَكَ كِتَابٌ كَافٍ يَجْمَعُ(1) مِنْ جَمِيعِ فُنُونِ عِلْمِ الدِّينِ مَايَكْتَفِي بِهِ الْمُتَعَلِّمُ) أي طالب العلم باُصول الدِّين .

(وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُسْتَرْشِدُ) أي طالب البرهان على اُصول الدِّين .

(وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَنْ يُرِيدُ عِلْمَ الدِّينِ) . المراد به العلم باُصول الفقه والفروع الفقهيّة .

(وَالْعَمَلَ بِهِ) أي بعلم الدِّين .

(بِالاْثارِ الصَّحِيحَةِ) . هذا في الفروع الفقهيّة وفي اُصول الفقه أيضا ، والباء للاستعانة ، والظاهر أنّ الظرف متعلّق «بعلم الدِّين والعمل به» لا بالسابق أيضا ، فإنّ أحاديث اُصول الدِّين ليست عمليّة من حيث إنّها من اُصول الدِّين ، كما يظهر ممّا ذكرنا في تفسير اُصول الدِّين عند قوله : «أمّا بعد» إلى آخره ، فليس للصحّة فيها كثير نفع ولا حاجة لها كثيرا إلى الصحّة ، إنّما سندها متنها أو متن مثلها ممّا يعاضدها ، ويشتمل على البرهان أو تحرير محلّ النزاع ، بحيث(2) يظهر به الحقّ أو تصوير السند للمنع لدفع الشبه عن الحقّ أو نحو ذلك .

ص: 142


1- . في الكافي المطبوع : + «فيه» .
2- . في «ج» : «حيث» .

اعلم أنّ المراد بالصحيح ما يجوز العمل به باتّفاق الإماميّة ، وهو ما يكون كلّ واحد من رواته ممّن أجمعت الطائفة المحقّة في قديم الدهر وحديثه على العمل برواية مثله ، سواء أفاد ظنّا أم لم يفد ، وقد بيّن ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله في كتاب عدّة الاُصول(1) ، وليس المراد بالصحيح ما هو على اصطلاح المتأخّرين ، وهو ما يكون كلّ واحد من رواته عدلاً إماميّا(2) ، ولا ما توهّمه بعض المتأخّرين ، وهو أن يكون معلوم الصدور عن أحد الأئمّة بالقرائن المفيدة للقطع .(3)

قال : قلت : في قوله رحمه اللّه : «وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها» إلى آخره ، تصريحٌ بأنّه طلب منه ما يرتفع به إشكاله وحيرته ، فلو فرضنا أنّ كتاب الكافي مشتمل على ما علم وروده عنهم عليهم السلام وعلى ما لم يعلم - ولا يخفى أنّ المصنّف رحمه اللّه تعالى لم يذكر له قاعدة بها يميّز بين البابين - لزاده هذا الكتاب إشكالاً وحيرة .

وكلام المصنّف رحمه اللّه تعالى صريح في أنّه صنّف له ما يرتفع به إشكاله وحيرته ، فعلم من ذلك أنّ قصده - رحمه اللّه تعالى - من قوله : «بالآثار الصحيحة» إلى آخره ، أنّ كلّ ما في كتابه كذلك ، وأيضا في قوله رحمه اللّه تعالى : «ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد» دلالة صريحة على ما ذكرناه ، فإنّ المتعلّم كيف يكتفي بما يتحيّر فيه فُحُول العلماء المتبحّرين . وفيما نقلناه في حواشي تمهيد القواعد عن السيّد المرتضى قدس سره(4) في حال الأحاديث المرويّة في كتبنا تأييد لما ذكرنا ؛ فافهم .

ثمّ قال : الصحيح عند قدماء أصحابنا الأخباريّين ما علم بقرينة وروده عن المعصوم .(5) انتهى .

ص: 143


1- . عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 87 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 1 ، ص 273 .
2- . اُنظر: مشرق الشمسين للبهائي ، ص 269 ؛ الرواشح السماوية ، ص 72 ؛ رسائل في دراية الحديث الوجيزة للشيخ البهائي ، ج 2 ، ص 526 .
3- . قد يكون المراديه التقي المجلسي في روضة المتقين ، ج 14 ، ص 10 .
4- . غير موجود .
5- . اُنظر: روضة المتقين ، ج 14 ، ص 10 .

وقد بيّنّا الحقّ في حواشي العدّة . ونقول هنا : إنّ ممّا يبطله أنّ مقبولة عمر بن حنظلة ذكرت في الكافي في «كتاب العقل» في ثاني عشر(1) «باب اختلاف الحديث» وفي «كتاب القضايا والأحكام» في خامس «باب كراهة الارتفاع إلى قضاة الجور» وبينهما اختلاف ، وأنّ ما يجيء في «كتاب الجنائز» في(2) رابع «باب غسل الميّت» منقول في التهذيب عن محمّد بن يعقوب(3) ، وبينهما اختلاف عظيم ، وأمثال ذلك كثيرة .

(عَنِ الصَّادِقِينَ)(4) أي الذين ليس فتواهم عن ظنّ واجتهاد ، وهم : رسول اللّه والأئمّة من أهل البيت عليهم السلام .

وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(5) ووجهه أنّ الفتوى بغير علم يفضي بصاحبه إلى كذب البتّة ؛ لأنّه لا يخلو مجتهد عن خطأ عادةً ، أو أنّ الفتوى بغير علم كذب عند اللّه ، وفي حكمه ؛ لنهيه تعالى عنه .

ونظيره قوله تعالى في سورة النور : «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللّه ِ هُمْ الْكَاذِبُونَ»(6) وقد جعل عدم العلم والبرهان مستلزما للكذب في قوله تعالى : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(7) .

(وَالسُّنَنِ). السنّة : الطريقة ، والمراد به طريقة العمل فيما لم يعلم .

(الْقَائِمَةِ) أي المستمرّة في قديم الدهر - وهو دهر ظهور الأئمّة عليهم السلام - وحديثِه وهو ما بعد ظهورهم ، وهو دليل أنّ الأئمّة عليهم السلامبيّنوا هذه السنن وأقرّوا شيعتهم عليها ، من «قامت السوق» أي نفقت ، أو المعتدلة(8) المستقيمة من «قام الأمر» أي اعتدل ، وليس فيه

ص: 144


1- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : العاشر .
2- . في «أ» : «الجبائر من» .
3- . التهذيب ، ج 1 ، ص 298 ، باب تلقين المحتضرين وتوجيههم عند الوفاة ، ح 873 41 .
4- . في الكافي المطبوع : + «عليهم السلام» .
5- . التوبة 9 : 119 .
6- . النور 24 : 13 .
7- . البقرة 2 : 111 .
8- . في «ج» : «المعتمرله» .

نقص ، وهذا في قواعد اُصول الفقه كقاعدة طريقة التخلّص عن الحيرة فيما اختلفت الرواية فيه ونحوها .

(الَّتِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ) أي بين الطائفة المحقّة .

(وَبِهَا) أي بالسنن القائمة .

(يُؤَدَّى) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(فَرْضُ اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةُ نَبيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . المراد بهما ما في الأحكام الفقهيّة من بيان اللّه في القرآن وبيان رسوله ، سواء كانا في الواجبات أم في المستحبّات أم في نحوهما ، وتأدية الفرض والسنّة بالسنن أعمّ من أن يكون العمل بالسنن في الخصوصيّات موافقا للفرض والسنّة فيها ، أم جاريا مجرى الموافق حيث رخّص فيه لضرورة الجهل .

وتقديم الظرفين للدلالة على أنّ طرق المخالفين ومن تبعهم في نحو الترجيحات الظنّيّة لا يجوز العمل بها ، ويجيء في أوّل «باب(1) صفة العلم وفضله وفضل العلماء» من «كتاب العقل» : «إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة» ، مع شرحه .

(وَقُلْتَ : لَوْ كَانَ) ؛ تامّة . (ذلِكَ ، رَجَوْتُ) بضمّ التاء أو فتحها . (أَنْ يَكُونَ) ؛ ناقصة . (ذلِكَ سَبَبا يَتَدَارَكُ اللّه ُ تَعَالى)(2) . قد ينسب الفعل من باب التفاعل إلى واحد للمبالغة ، فإنّ الفعل المنسوب إلى اثنين يكون فيه مغالبة غالبا فيكون فيه مبالغة .

(بِمَعُونَتِهِ) أي معونة اللّه (وَتَوْفِيقِهِ إِخْوَانَنَا وَأَهْلَ مِلَّتِنَا) أي الإماميّة كأنّه يئس من انتفاع غيرهم به .

(وَيُقْبِلُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال . (بِهِمْ) ؛ الباء للتعدية . (إِلى مَرَاشِدِهِمْ) أي ينجيهم عن الجهالة في اُصول الدِّين .

(فَاعْلَمْ يَا أَخِي - أَرْشَدَكَ اللّه ُ -) . هذا إلى قوله : «وسعكم» بيان لحقيقة الاُمور التي أشكلت على الأخ ، وذكرنا أنّ المراد بها الأحكام الفرعيّة الغير المتعلّقة بما يتنازع فيه رجلان كدينٍ وميراثٍ .

ص: 145


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثالث» .
2- . «تعالى» من الكافي المطبوع .

(أَنَّهُ لاَ يَسَعُ أَحَدا تَمْيِيزُ شَيْءٍ مِمَّا اخْتَلفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ عليهم السلامبِرَأْيِهِ ، إِلاَّ عَلى مَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمُ بِقَوْلِهِ عليه السلام (1) : اِعْرِضُوهُمَا(2) عَلى كِتَابِ اللّه ِ ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللّه ِ - جلَّ وعزَّ(3) - فَخُذُوهُ ، وَمَا(4) خَالَفَ كِتَابَ اللّه ِ فرُدُّوهُ . وَقَوْلِهِ عليه السلام : دَعُوا مَا وَافَقَ القَوْمَ ؛ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلاَفِهِمْ . وَقَوْلِهِ عليه السلام : خُذُوا بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لاَرَيْبَ فِيهِ) .

تقول : ميّزه وأمازه إذا أفرزه واختاره ، كمازه من باب ضرب ، وضدّ(5) التمييز التسوية .

والمراد ب- «ما» الموصولة في قوله : «ممّا اختلفت» ما لا منازعة فيه بين رجلين ، كالعبادات المحضة ،بقرينة ما يجيء بُعيدَ هذا من التوسيع فيه بقوله : «ولا نجد» إلى آخره ، مع ما يجيء في آخر «باب(6) اختلاف الحديث» من «كتاب العقل» من حظر التوسيع فيما فيه منازعة ، وهذا شامل للتصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإن لم يكن داخلاً فيما سأل عنه الأخ .

والاختلاف : التناقض ، والمراد ب- «العلماء» رسول اللّه وأوصياؤه الاثنا عشر عليهم السلام . والباء للسببيّة . والرأي : الاعتقاد الحاصل بالفكر . والاستثناء متّصل(7) ، فلو كان المراد بالرأي الظنّ لكان الاستثناء منقطعا .

و«على» بنائيّة ، و«ما» موصولة ، والإطلاق - بالمهملة والقاف - : الإعطاء مأخوذ من الطلق بالكسر وهو الحلال . والمراد بالعالم هنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وذكر الأقوال الثلاثة بدون ترتيب بينَها يدلّ على أنّ ما يجري فيه أحدها يجري فيه الآخران أيضا ، ومورد جميع الثلاثة مسألة التصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول

ص: 146


1- . في الكافي المطبوع : «العالم عليه السلام يقوله» .
2- . في الكافي المطبوع : «اعرضوها» .
3- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
4- . في «ج» : «فما» .
5- . في «أ» : «وضده» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون» .
7- . في حاشية «أ» : «وذلك لأنّ هذا الكلام أعمّ من أن يكون فيما أطلقه العالم أو الاُصول أو نحوها» .

اللّه صلى الله عليه و آله فإنّه قد اختلف فيها(1) الروايات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فمنهم مَن روى : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر(2) ، ومنهم من روى خلاف ذلك .

فهذه الأقوال الثلاثة ثلاثة براهين على إمامة عليّ - صلوات اللّه عليه - بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة :

الأوّل : العرض على الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّها صريحة في إبطال روايات إمامة مَن غاية دعواه الاجتهاد واتّباع الظنّ .

الثاني : ترك ما وافق القوم واتّباع خلافهم ، وذلك أنّ آيات كثيرة وروايات كثيرة متّفقٌ عليها بين الفريقين صريحة في أنّ أكثر قريش وأكثر الأصحاب يُؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويرتدّون على أعقابهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ ففي سورة الأعلى : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(3) ، وفي سورة الزخرف : «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ»(4) .(5)

ص: 147


1- . في «ج» : «فيه» .
2- . مسند أحمد ، ج 5 ، ص 382 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، ح 97 ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 333 ، ح 3887 ؛ السنن الكبرى للبيهقي ، ج 5 ، ص 212 .
3- . الأعلى 87 : 16 - 19 .
4- . الزخرف 43 : 57 - 58 .
5- . في حاشية «أ» : «ويؤيّدها ما رواه الشيخ الطبرسي رحمه اللّه في مجمعه عن عليّ عليه السلام أنّه قال : جئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إليَّ ثمّ قال : يا عليّ إنّما مثلك في هذه الاُمّة كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا . فعظم ذلك عليهم وضحكوا وقالوا : يشبّهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية . وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن سلمان الفارسي رضى الله عنه قال : بينما رسول اللّه صلى الله عليه و آله جالسٌ في أصحابه إذ قال : إنّه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى بن مريم ، فخرج بعض من كان جالسا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليكون هو الداخل فدخل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال الرجل لبعض أصحابه : أما رضي محمّدٌ أن فضّل علينا عليّا حتّى يشبّهه بعيسى بن مريم، واللّه لآلهتنا التي كنّا نعبد في الجاهلية لأفضل منه ، فأنزل اللّه في ذلك المجلس : «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» . انتهى .

تمثيل رسول اللّه عليّا بابن مريم لقول جمعٍ : إنّه اللّه ، وإنكارِ جمعٍ حقّ إمامته ، وسلوكِ جمعٍ الجادّة الوسطى فيه كاختلاف الناس في ابن مريم ، وتمثيل القوم عليّا بآلهتهم ، أي أصنامهم التي كانوا يعبدونها مبنيّ على إيهامهم أنّه كالجماد ، وذلك تعنّت

وعناد وجدال منهم ، وهم خصمون لا يتركون خصومة عليّ إلى آخر عمرهم .

وفي سورة الأنعام : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1) واللام للعهد ، أي الأرض التي فيها الأصحاب ، وروى البخاري في الأصحاب في حديث طويل خطابا من اللّه لرسوله يوم القيامة «أنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» .(2)

وروى البخاري أيضا عن عليّ عليه السلام أنّه قال : «أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة» .(3)

وروى مسلم في باب صفات المنافقين ما يدلّ صريحا على أنّ ما صنعوا بعليّ كان من جهة المنافقين .(4)

وفي نهج البلاغة : «اللّهمَّ إنّي أستعديك(5) على قريش ، فإنّهم قطعوا رحمي» .(6)

وأمثال ذلك كثيرة في روايات المخالف والمؤالف ، فظهر أنّ القوم لو كانوا اجتمعوا على إمامة عليّ بلا واسطة لكان دليلاً على بطلان إمامته .

الثالث : الأخذ بالمجمع عليه ، وذلك أنّ الروايات المتّفق عليها بين الفريقين الدالّة على إمامة عليّ وبطلان إمامة أبي بكر أكثر من أن تُحصى ، مثل حديث الثقلين(7) ، ومثل

ص: 148


1- . الأنعام 6 : 116 .
2- . صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 110 ، كتاب بدء الخلق ؛ و ج 5 ، ص 192 ، كتاب تفسير القرآن .
3- . صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 6 ، باب قصة غزوة بدر ؛ و ص 242 ، كتاب تفسير القرآن .
4- . صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 119 ، كتاب صفات المنافقين .
5- . أستعديك : أستعينك .
6- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 202 ، من كلام له في الشكوى .
7- . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 و 26 مسند أبي سعيد الخدري ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 432 ، كتاب فضائل القرآن ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 و 22 ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج 3 ، ص 109 و 148 ؛ سنن البيهقي ، ج 7 ، ص 30 .

حديث غدير خمّ(1) ، ومثل أقضاكم عليّ(2) ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالمجمع عليه بين الفريقين وطرح ما يختصّ به أحد الفريقين لأجل المتّفق عليه هو الحقّ والصواب .

(وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ مِنْ جَمِيعِ ذلِكَ إِلاَّ أَقَلَّهُ ، وَلاَ نَجِدُ شَيْئا أَحْوَطَ وَلاَ أَوْسَعَ مِنْ رَدِّ عِلْمِ ذلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْعَالِمِ عليه السلام ، وَقَبُولِ مَا وَسَّعَ مِنَ الْأَمْرِ فِيهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام : «بأيّهما(3) أَخَذْتُمْ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكُمْ») .

عبّر المصنّف بقوله : «نحن» عن الأخباريين من الشيعة الإماميّة أو عن نفسه وموافقيه من أهل التدقيق والتحقيق في استنباط المراد من أحاديث العلماء عليهم السلام ؛ والمآل واحد .

والمراد بالمعرفة التمييز ، و«من» للتعليل ، و«جميع ذلك» عبارة عن الأقوال الثلاثة وأمثالها ، كما يجيء في «كتاب العقل» في خامس «باب(4) الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» في قوله صلى الله عليه و آله في خطبته بمنى : «أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله» .

و«إلاّ» للاستثناء المفرّغ ، و«أقلّه» بصيغة اسم(5) التفضيل ، والضمير الراجع إلى ما اختلف الرواية فيه عن العلماء عبارة عن التصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وقوله : «أحوط» أي أحفظ للدين عن الفساد ، وهو مبنيّ على أنّه أبعد عن المنهيّ عنه في الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ .

وقوله : «من ردّ» إلى آخره ناظر إلى قوله : «أحوط».

ص: 149


1- . مسند أحمد ، ج 1 ، ص 84 و 88 و 111 ؛ مسند على بن أبى طالب ؛ و ج 4 ، ص 368 ، حديث زيد بن أرقم ؛ و ج 5 ، ص 419 ، حديث أبي أيوب الأنصاري ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج 3 ، ص 109 و 116 .
2- . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 18 ؛ و ج 7 ، ص 219 ؛ المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 627 و 636 ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 285 .
3- . في الكافي المطبوع : «بأيّما» .
4- . في حاشية «أ» : «وهو آخر الأبواب» .
5- . في «أ» : «الاسم» .

وقوله : «ذلك كلّه» إشارة إلى جميع ما سأل الأخ عنه ، وقد ذكرنا أنّ مسألة الإمامة ليست داخلة فيه .

وقوله : «وقبول» إلى آخره ناظر إلى قوله : «أوسع» ففي الكلام نشر على ترتيب اللّف .(1)

ويظهر بهذا التقرير أنّ مقصود المصنّف رحمه الله أنّه لا يجري في شيء ممّا سأل عنه الأخ شيء من الأقوال الثلاثة ، إنّما يجري فيه التوسيع ، بخلاف ما فيه تنازع بين رجلين كما يجيء في كتاب العقل في آخر باب اختلاف الحديث(2) من مقبولة عمر بن حنظلة فإنّ فيه ترتيبا .

وقال صاحب الفوائد المدنيّة : «كأنّ مقصوده - رحمه اللّه - ذلك مع فقد الترجيحات المذكورة»(3) انتهى .

وفيه ما فيه .

والمراد بالعالم هنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو أبو عبداللّه عليه السلام فإنّه منقول عنه فيما يجيء في «كتاب العقل» في الثامن والتاسع من «باب اختلاف الحديث» . والمآل واحد .

و«ما» مصدرية و«من» في «من الأمر» اسم بمعنى البعض ، ومنصوب محلاًّ على أنّه مفعول «وسع» ، وفيه إشارة إلى أنّ التوسيع مع شائبة تضييق لقوله : من باب التسليم ، فإنّه يدلّ على أنّه إن كان مع اتّباع ظنّ بأحدهما كان حراما ، وربما كان الأحوط حينئذٍ

اختيار خلاف المظنون .

و«الأمر» : الشأن ، وضمير «فيه» لذلك كلّه ، ومعنى التسليم يجيء في كتاب الحجّة في باب التسليم وفضل المسلمين .(4)

ص: 150


1- . في «د» : «وقوله : "وقبول" إلى آخره ناظر إلى قوله : "أوسع" ففي الكلام تفسير على ترتيب اللف ، وقوله : "ذلك كله" إشارة إلى جميع ما سأل الأخ عنه وقد ذكرنا أنّ مسألة الإمامية ليست داخلة فيه» بدل من «وقوله : ذلك كلّه» إلى هنا .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون» .
3- . الفوائد المدنية ، ص 526 .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الرابع والتسعون» .

واعلم أنّ هذا التخيير لاينافي ما يجيء في «كتاب العقل» في العاشر والحادي عشر من «باب اختلاف الحديث» وهو ترجيح الأخير من حكمَيْ إمام أو إمامين ، فإنّ ما يجيء مخصوص بصورة العلم بخبر الإمام الحيّ ، أو بقاء دولة الظالم الذي وقع الحكم الأخير في زمانه ، ولا يجري في نحو هذه(1) الأزمان .

(وَقَدْ يَسَّرَ اللّه ُ - وَلَه الْحَمْدُ - تَأْلِيفَ مَا سَأَلْتَ) يدلّ على أنّ تأليف الخطبة كان بعد تأليف الكتاب .

(وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ تَوَخَّيْتَ).

التاء للمخاطب(2) ، أي قصدتَ وتحرّيتَ . وهذا تقرير و بيان لكون ما في الكتاب على ما ذكره السائل من الآثار الصحيحة والسنن القائمة ، إلى آخره .

اعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف مبنيّ على مسألة ، وهي أنّ العمل بأخبار الآحاد الجامعة لشروط الصحّة جائز في فروع الفقه وفي اُصوله أيضا ، وأنّه لاينافي ذلك شرط اللّه على عباده أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة . ووجهه أنّ هذه المسألة من مسائل اُصول الفقه متواترة معنى عن الأئمّة عليهم السلام ، ومن تتبّع أدنى تتبُّع عَلِمَ أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا مجمعين على العمل بهذه المسألة بدون فرق بين اُصول الفقه وفروعه .

(فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ فلم تُقَصّرْ) بصيغة المعلوم الغائبة من باب التفعيل .

(نِيَّتُنَا فِي إِهْدَاءِ النَّصِيحَةِ ؛ إِذْ كَانَتْ وَاجِبَةً لاِءِخْوَانِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا) أي الذين هم على الجهالة في اُصول الدِّين ، والجهل فيها يستلزم الجهل في الفروع .

(مَعَ مَا رَجَوْنَا أَنْ نَكُونَ مُشَارِكِينَ لِكُلِّ مَنِ اقْتَبَسَ مِنْهُ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ فِي دَهْرِنَا هذَا ، وَفِي غَابِرِهِ) أي مستقبله (إِلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا) ؛ فإنّ هذا الرجاء يوجب ترك التقصير .

(إِذِ الرَّبُّ - جَلَّ وَعَزَّ(3) - وَاحِدٌ) . تعليل لانتفاء الفرق بين دهرنا هذا وغابره .

ص: 151


1- . في «ج» : «هذا» .
2- . في «ج ، د» : «التاء للخطاب» .
3- . في الكافي المطبوع : «جلّ وعزّ» .

(وَالرَّسُولُ) . مبتدأ . (مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ) ؛ عطف بيان أو بدل . (خَاتَمُ النَّبِيِّينَ(1)) . صفة لمحمّد . (وَاحِدٌ) . خبر . (وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدةٌ) .

وقوله : (وَحَلاَلُ مُحَمَّدٍ حَلاَلٌ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مأخوذ من كلام أبي عبداللّه عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في تاسع عشر «باب(2) البدع والرأي والمقاييس» من «كتاب العقل» ترك استثنائه عصر ظهور القائم عليه السلام من الغابر(3) في العمل بما فيه يدلّ على كمال اعتماده على ما فيه ، وكان بعض الأصحاب يقول : «إنّ تصنيف مثل هذا الشيخ مثل هذا الكتاب في عشرين سنة في زمن الغيبة الصغرى وظهور السفراء وكونه في بغداد يستبعد جدّا أن لا يكون مع عرضٍ على الناحية المقدّسة بواسطة بعض السفراء»(4) انتهى .

فإن كان وقع عرضٌ كان بعد تمام الكتاب وقبل الخطبة ؛ واللّه أعلم .

(وَوَسَّعْنَا) ؛ بشدّ السين المهملة . (قَلِيلاً كِتَابَ الْحُجَّةِ وَإِنْ لَمْ نُكَمِّلْهُ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ ؛ لِأَنَّا كَرِهْنَا أَنْ نَبْخَسَ) ؛ بالنون للمضارعة والموحّدة والمعجمة ومهملة ، يُقال : بخسه حقّه - كمنعه - : إذا نقصه .(5)

(حُظُوظَهُ) ؛ جمع كثرة للحظّ النصيب . (كُلَّهَا) يعني حقّه ونصيبه التوسيع .

(وَأَرْجُو أَنْ) بفتح الهمزة . (يُسَهِّلَ اللّه ُ - جَلَّ وَعَزَّ(6) - إِمْضَاءَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ النِّيَّةِ) . يشير إلى أنّه كان في نيّته رحمه اللّه تعالى التوسيع فوق القليل إلى أقصى حقّه ، لكن لم يتيسّر له .(7)

(إِنْ) ؛ بكسر الهمزة ، استئناف بياني لقوله : «أرجو»(8) .

ص: 152


1- . في الكافي المطبوع : «محمّد خاتم النبيين صلوات اللّه وسلامه عليه وآله» بدل من : «محمد صلى الله عليه و آله خاتم النبيين» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب العشرون» .
3- . في «أ» : «العابر» .
4- . حكاه في تنقيح المقال ، ص 201 ، عن بعض معاصري المحدّث الجزائري .
5- . المصباح المنير ، ص 37 بخس .
6- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
7- . في «ج» «د» : + «الآن» .
8- . في «أ» : «رجونا» .

(تَأَخَّرَ الْأَجَلُ صَنَّفْنَا كِتَابا) في الحجّة (أَوْسَعَ وَأَكْمَلَ مِنْهُ) أي من كتاب الحجّة الذي هو جزء الكافي .

(نُوَفِيهِ) أي كتاب الحجّة .

(حُقُوقَهُ كُلَّهَا) . يقال : أوفاه حقّه ، أي أعطاه حقّه وافيا أي تامّا .

(إِنْ شَاءَ اللّه ُ تَعَالى ، وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ) أي لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

والحول كالنصر : الاعوجاج(1) ، والمراد هنا اعوجاج العزم وانفتاله عن شيء ، سواء كان معصية أو طاعة .

والقوّة من باب علم ضدّ الضعف ، والمراد هنا تأكّد العزم في شيء ، سواء كان معصية أو طاعة .

وإنّما قوبل الحول بالقوّة لأنّ الحول يستلزم ضعفا ، كما في العين الحولاء .

وقيل : الحول الحركة ، يُقال : حال الشخص : إذا تحرّك ؛ والمعنى : لا حركة ولا قوّة إلاّ بمشيئة اللّه .

وقيل : الحول الحيلة ، أي التدبير .(2)

(وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ . وَالصَّلاَةُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ الطّيبين(3) الْأَخْيَارِ) ؛ بالمعجمة ، جمع «خير» بسكون الخاء(4) ، أي الأفاضل ممّن عداهم ؛ كلٌّ في زمانه .

(وَأَوَّلُ مَا أبدأ(5) بِهِ وَأَفْتَتِحُ بِهِ كِتَابِي هذَا كِتَابُ الْعَقْلِ).

الكافي مشتمل على ثلاثة وثلاثين كتابا ، بناءً على نسختنا وعلى ما نقل عن الشهيد

ص: 153


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 445 حول .
2- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 157 حول .
3- . في الكافي المطبوع : «الطاهرين» .
4- . في «ج، د» : «الياء» .
5- . في الكافي المطبوع : «أَبْتَدِىُ» .

الثاني من أنّ كتاب الروضة ليس جزءا من الكافي(1) ، وإن عدّ جزءا منه كان مشتملاً على أربعة وثلاثين كتابا ، وهي هذه :

الأوّل : كتاب العقل .

الثاني : كتاب التوحيد .

الثالث : كتاب الحجّة .

الرابع : كتاب الإيمان والكفر .

الخامس : كتاب الدعاء .

السادس : كتاب فضل القرآن .

السابع : كتاب العِشْرة .

الثامن : كتاب الطهارة .

التاسع : كتاب الحيض .

العاشر : كتاب الجنائز .

الحادي عشر : كتاب الصلاة .

الثاني عشر : كتاب الزكاة .

الثالث عشر : كتاب الصيام .

الرابع عشر : كتاب الحجّ .

الخامس عشر : كتاب الجهاد .

السادس عشر : كتاب المعيشة .

السابع عشر : كتاب النكاح .

ص: 154


1- . قال الأفندي في رياض العلماء ، ج 2 ، ص 261 ، في ترجمة الخليل القزويني : «الروضة ليس من تأليف الكليني ، بل هو من تأليف ابن ادريس وإن ساعده بعض الأصحاب ، وربما ينسب هذا القول الأخير إلى الشهيد الثاني ، ولكن لم يثبت» . هذا وللشيخ عبدالرسول الغفار تحقيق لطيف في هذا المجال في كتابه الكلينى و الكافي . فمن شاء المزيد فعليه بالمراجعة .

الثامن عشر : كتاب العقيقة .

التاسع عشر : كتاب الطلاق .

العشرون : كتاب العتق والتدبير والكتابة .

الحادي والعشرون : كتاب الصيد .

الثاني والعشرون : كتاب الذبائح .

الثالث والعشرون : كتاب الأطعمة .

الرابع والعشرون : كتاب الأشربة .

الخامس والعشرون : كتاب الزيّ والتجمّل والمروءة(1) .

السادس والعشرون : كتاب الدواجن .

السابع والعشرون : كتاب الوصايا .

الثامن والعشرون : كتاب المواريث .

التاسع والعشرون : كتاب الحدود .

الثلاثون : كتاب الديات .

الحادي والثلاثون : كتاب الشهادات .

الثاني والثلاثون : كتاب القضايا والأحكام .

الثالث والثلاثون : كتاب الأيمان والنذور والكفّارات .

وإذا عدّ كتاب الروضة جزءا من الكافي كان الرابع والثلاثين ، والشيخ الطوسي في الفهرست، عدّه جزءا من الكافي(2) ، ومع هذا عدّ الكتب ثلاثين بأن لم يذكر كتاب العشرة وجعل كتاب الطهارة والحيض واحدا ، ولم يذكر كتاب العقيقة ، وجعل كتاب الأطعمة والأشربة واحدا ، وأيضا جعل الأوّل كتاب العقل وفضل العلم وغيّر بعض ترتيب ما بعد كتاب الطهارة والحيض .

وعلى كلّ تقدير ما قبل كتاب الطهارة الاُصول التي يجب الابتداء والافتتاح بها ،

ص: 155


1- . في «ج» : «المروة» .
2- . الفهرست ، ص 210 ، الرقم 17 .

وأصل تلك الاُصول الذي يجب أن يكون أوّلاً فيها كتاب العقل ، وليس المراد بالعقل هنا ما هو شرط التكليف ، وهو مقابل الجنون ، بل المراد رعاية الآداب الحسنة بقدر الوسع في تحصيل علم الدِّين والعمل به ، وهو مقابل الجهل بمعنى الإخلال بتلك الآداب ، ولا ينافي هذا ما يجيء في ثالث أوّل «كتاب العقل» ، فإنّه بيان حقيقته لا بيان مفهومه .

(وَفَضَائِلُ(1) الْعِلْمِ ، وَارْتِفَاعُ دَرَجَةِ أَهْلِهِ ، وَعُلُوُّ قَدْرِهِمْ ، وَنَقْصُ الْجَهْلِ ، وَخَسَاسَةُ أَهْلِهِ ، وَسُقُوطُ مَنْزِلَتِهِمْ).

فضائل مرفوع معطوف على «كتاب» بعطف التفسير والتفصيل ، وكذا نظائره ، فليس من تتمّة العنوان .

واللام في «العلم» للعهد ، والمراد علم الدِّين ، وأهل العلم العاملون بالعلم ، والنقص بالفتح النقصان ، وتغيير الاُسلوب - حيث لم يقل : ونقائص الجهل - رمزٌ إلى أنّ المراد بالجهل هنا ضدّ العقل ، لا ضدّ العلم .

(إِذْ كَانَ الْعَقْلُ هُوَ الْقُطْبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ ، وَبِهِ يُحْتَجُّ ، وَلَهُ الثَّوَابُ ، وَعَليْهِ الْعِقَابُ).

هذا بيان وجه تقديم كتاب العقل على سائر كتب الكافي ، و«إذ» للتعليل .

وذكر «كان» إشارةٌ إلى أنّ ابتداء خلق المكلّفين والتكليف لم يكن إلاّ للعقل ، موافقا لاحتمال في قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(2) وهو أن يكون ضمير «يعبدون» للمؤمنين .(3)

و«القطب» بالضمّ : وتد الرحى(4) . و«المدار» بفتح الميم ، مصدر ميمي من باب نصر ، والمراد هنا انتظام تكليف الجنّ والإنس ؛ شبّه العقل بقطب الرحى ، والتكليف بالرحى ، وانتظام التكليف بدوران الرحى على القطب .

«يحتجّ» بالمهملة وشدّ الجيم بصيغة المجهول من باب الافتعال ، والمراد احتجاج

ص: 156


1- . في الكافي المطبوع : «وفضائلِ» بكسر الأخير .
2- . الذاريات 51 : 55 - 56 .
3- . في حاشية «أ» : «وهم الذين يعقلون» .
4- . ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1490 قطب .

اللّه تعالى بالعقل على أهل الجهل .

والمقصود أنّه لو لم يتحقّق العقل في بعض المكلّفين لم يتمّ الاحتجاج على الجاهل ، واللام في : «له الثواب» تعليليّة و«على» في «عليه العقاب» بنائيّة ، وسيتّضح في شرح أوّل أوّل(1) «كتاب العقل» عند قوله : «إيّاك اُعاقب وإيّاك اُثيب» .

والحاصل : أنّ جميع ما يذكر في أبواب كتاب العقل لبيان كيفيّة رعاية الآداب الحسنة في تحصيل علم الدِّين والعمل به ، وكيفيّة الاجتناب عن الإخلال بتلك الآداب ؛ إمّا بالدلالة المطابقيّة وإمّا بالدلالة الالتزاميّة ، فظهر أنّ القوانين المتعلّقة بالعقل المذكورة في كتاب العقل ميزان اللّه ، ومظهره في طلب علم الدِّين والعمل به ومنطقه واُصول فقهه ، عاصمة لطالب علم الشريعة والعمل به عن الخطأ في الطلب ، كقانون وجوب تقديم اتّباع محكمات القرآن على اتّباع متشابهاته .

وسيجيء في ثاني عشر «باب العقل والجهل» ؛ فتقديم كتاب العقل على سائر الكتب كتقديم الفلاسفة فنّ منطقهم على مقاصدهم .

هذا ، وليس المحتاج إليه من قوانين منطقهم إلاّ اُمورا سهلة النفع ، مركوزة في عقول العوامّ أيضا ، لا حاجة كثيرا إلى تدوينها ، بل هي نقطة كثّرها الجاهلون ، وحسبك دليلاً على أنّ منطقهم لا يفي بالعصمة عن الخطأ كثرةُ مناقضات متعاطيه ومعلّميه ، فربّ عالمٍ به قتله جهلُه ، وعلمه به معه لا ينفعه وإن استعان به .

ونقل شارح المقاصد في المبحث الثاني من الفصل الثالث من المقصد الأوّل عن الفخر الرازي أنّه قال :

لا نزاع في أنّ النظر(2) يفيد الظنّ ، وإنّما النزاع في إفادته اليقين ، وأنكره السمنيّة(3) مطلقا

ص: 157


1- . أي في الحديث 1 من الباب الأوّل من كتاب العقل .
2- . النظر : ترتيب اُمور ذهنيّة يتوصّل بها إلى اُخر . معارج الفهم في شرح النظم ، ص 75 ؛ وانظر: المحصّل للرازي ، ص 121 .
3- . السُّمَنية - بضم السين وفتح الميم مخففة - : فرقة تعبد الأصنام وتقول بالتناسخ ، وتنكر حصول العلم بالأخبار ، قيل : نسبة إلى سومنات بلدة من الهند على غير قياس . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 238 ؛ قوانين الاصول ، ص 421 . وفي فهرست ابن النديم ، ص 408 : «بني السمنية بوداسف ، وعلى هذا المذهب كان أكثر أهل ماوراء النهر قبل الإسلام» .

وجمعٌ من الفلاسفة في الإلهيّات والطبيعيّات ، حتّى نقل عن أرسطو أنّه قال : لا يمكن تحصيل اليقين في المباحث الإلهيّة ، إنّما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأولى والأخلق عليه تعالى .(1) انتهى .

وأرسطو واضع فنّ المنطق ورئيسهم ومعلّمهم الأوّل ، فما قالوا في الإلهيّات قول على اللّه بغير علم ، وهو غير جائز عند المسلمين ، فليتعلّم الذي يطلب علم الشريعة ويرجو نجاة الآخرة قوانين كتاب العقل ، فإنّ من لم يتعلّمها وطلب علم الشريعة فقد خبط خبط عشواء(2) ، وتورّط المهالك ، وانبثق عليه بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستبشعة .

ص: 158


1- . شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 235 .
2- . في حاشية «أ» : «خبط خبط عشواء ركبه على غير بصيرة ، والعشواء الناقة لا تبصر أمامها» .

كتاب العقل

إشارة

ص: 159

ص: 160

في كتاب العقل ثلاثة وعشرون بابا :

الأوّل : باب العقل والجهل .

الثاني : باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

الثالث : باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .

الرابع : باب أصناف الناس .

الخامس : باب ثواب العالم والمتعلِّم .

السادس : باب صفة العلماء .

السابع : باب حقّ العالم .

الثامن : باب فقد العلماء .

التاسع : باب مجالسة العلماء وصحبتهم .

العاشر : باب سؤال العالم وتذاكره .

الحادي عشر : باب بذل العلم .

الثاني عشر : باب النهي عن القول بغير علم .

الثالث عشر : باب من عمل بغير علم .

الرابع عشر : باب استعمال العلم .

الخامس عشر : باب المستأكل بعلمه والمباهي به .

السادس عشر : باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه .

ص: 161

السابع عشر : باب النوادر .

الثامن عشر : باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب .

التاسع عشر : باب التقليد .

العشرون : باب البدع والرأي والمقاييس .

الحادي والعشرون : باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة .

الثاني والعشرون : باب اختلاف الحديث .

الثالث والعشرون : باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب .

ص: 162

باب العقل والجهل

الباب الأوّل

باب العقل والجهل

الذي في النسخ المشهورة «كتاب» بدل «باب» ، وظاهر الشيخ الطوسي رحمه اللّه تعالى في الفهرست أنّه كان في نسخته «باب»(1) فبنينا عليه ليناسب أبواب الكتب الآتية . فيه أربعة وثلاثون حديثا .

المراد بالجهل هنا ضدّ العقل الذي مضى معناه قُبَيلَ هذا - ويعبّر عنه بالهوى كما في سورة النساء : «فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى»(2) وسورة ص : «وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(3) - أي باب بيان فضل العقل ونقص الجهل .

وتقديم هذا الباب على سائر أبواب كتاب العقل كتقديم الفلاسفة في منطقهم ذكر بيان الحاجة وشرف الموضوع على المسائل ، ولا ينافي ذلك اشتمال بعض أحاديثه على ما هو من المسائل أيضا ، فإنّه مذكور فيه بالتقريب .

(أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ).

هذا من زيادات(4) تلامذة المصنّف . وذكر الشيخ الطوسي رحمه اللهفي الفهرست من رواة الكافي عن محمّد بن يعقوب بلا واسطة سبعةً ، هم : أبو القاسم جعفر بن محمّد بن

ص: 163


1- . اُنظر: الفهرست ، ص 210 ، الرقم 17 .
2- . النساء 4 : 135 .
3- . ص 38 : 26 .
4- . في «ج» : «زيادة» .

قولويه القمّي ، وأبو غالب أحمد بن محمّد الزراري ، وأبو عبداللّه أحمد بن إبراهيم الصَيمَري المعروف بابن أبي رافع ، وأبو محمّد هارون بن موسى التُلعكبري ، وأبو المفضّل محمّد بن عبداللّه بن المطّلب الشيباني ، وأبو الحسين أحمد بن عليّ بن سعيد

الكوفي ، وأبو الحسين(1) عبد الكريم بن عبداللّه بن نصر البزّاز(2) بتنّيس(3) وبغداد .

الأوّل : (حَدَّثَنِي عِدَّةٌ) بكسر العين المهملة ؛ أي جماعة . (مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ : مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ) .

قال العلاّمة في الخلاصة :

قال الشيخ الصدوق محمّد بن يعقوب [الكليني] في كتابه في أخبار كثيرة عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى .

قال : والمراد بقولي : «عدّة من أصحابنا» : محمّد بن يحيى العطّار ، وعليّ بن موسى الكميذاني ، وداود بن كورة ، وأحمد بن إدريس ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم .

قال : وكلّما قلت في كتابي المشار إليه : «عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد [البرقي]» فهم : عليّ بن إبراهيم ، وعليّ بن محمّد بن عبداللّه بن اُذينة ، وأحمد بن عبداللّه بن أبيه(4) ، وعليّ بن الحسن . وكلّما ذكرت في كتابي المشار إليه : «عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد» فهم : عليّ بن محمّد بن علاّن ، ومحمّد بن أبي عبداللّه ، ومحمّد بن الحسن ، ومحمّد بن عقيل الكليني .(5) انتهى .

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنِ الْعَلاَءِ) بفتح المهملة واللام المخفّفة والمدّ .

(بْنِ رَزِينٍ) بفتح المهملة وكسر الزاي وسكون الخاتمة(6) والنون .

ص: 164


1- . في «أ» : + «الحسن خ ل» .
2- . في «أ» : «البراز» .
3- . «تنّيس» - بكسرتين و تشديد النون وياء ساكنة والسين مهملة : جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفرما ودِمياط ، ينسب إليه الثياب الفاخرة . معجم البلدان ، ج 1 ، ص 51 ؛ القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 203 .
4- . في «أ» : + «امية خ» .
5- . خلاصة الأقوال ، ص 430 ، الفائدة الثالثة .
6- . سيتكرّر هذا التعبير من المصنّف لاحقا ، والمراد به سكون إلياء ، وهذا باعتبار كون الياء آخر حروف الهجاء .

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللّه ُ الْعَقْلَ) .

الخلق : التقدير والتدبير ، وخلق الشيء أعمّ من تكوينه . وليس المراد بالعقل ما هو شرط التكليف ، وهو المقابل للجنون ، بل المراد به - كما مرّ قُبَيْلَ هذا - التأدّبُ بقدر الوسع بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، والعملُ به(1) ، وهو مقابل الجهل بقرينة أنّ الثاني(2) أحبّ إلى اللّه من الأوّل .

(اسْتَنْطَقَهُ)(3) أي عدّه ناطقا أي هاديا لصاحبه إلى أهل الذِّكر وسؤالهم عن كلّ مشكل من اُمور الدِّين .

(ثُمَّ) للتراخي في الزمان ، وهي إشارة إلى تراخي زمان التكليف عن زمان خلق العقل واستنطاقه .

(قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ ، فَأَقْبَلَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ ، فَأَدْبَرَ).

الإقبال : التوجّه ؛ قال تعالى : «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ»(4) ، والإدبار : ضدّ الإقبال . و«ثمّ» للتراخي في الرتبة باعتبار شدّة كون الإقبال أهمّ من الإدبار ، ولا ينافي هذا كون الإقبال متراخيا عن الإدبار في الزمان ، كما يظهر من عكس الترتيب في رابع عشر الباب ؛ إذ المراد بالإقبال هنا التوجّه(5) إلى ربّ العالمين لمعرفة أحكام الدِّين ؛ لأنّ مَن عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا ، وأنّه لا يعرف

رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، كما يجيء في ثاني أوّل «كتاب الحجّة» .(6)

والمراد بالإدبار الاستقلال بالحكم في غير أحكام الدِّين ، سواء كان عن علم كما في أمثال قولنا : أنا مستطيع للحجّ ، أو عن ظنّ كما في قيم المتلفات ، ومقادير الجراحات

ص: 165


1- . في «أ ، ج» : - «به» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو التأدّب» .
3- . في «د» : «استنبطه» .
4- . الصافّات 37 : 27 .
5- . في «أ ، د» : «التوجيه» .
6- . أي الحديث 2 من الباب الأوّل من كتاب الحجّة ، وهو باب الاضطرار إلى الحجّة .

الموجبة للديات ، وعدالة الرواة وأمثالها ، ولا شكّ أنّ العلم بما يستقلّ فيه الذهن مقدّم زمانا على العلم بما لا يستقلّ فيه الذهن ، والكلامان من الاستعارة التمثيليّة(1) شبّه حاله في اقتضائه لصاحبه أمرا مهمّا بحالِ مَنْ أَمرَهُ اللّه ُ بأمرٍ مهمّ فأطاعَ .

(ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ ، وَلاَ أَكْمَلْتُكَ) بصيغة الماضي المتكلّم المعلوم من باب الإفعال .

إن قلت : أليس يجب تكرار «لا» إذا دخلت على الماضي ، نحو : «فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى»(2)؟

قلت : بلى ، ولكن بشرطين كلاهما(3) منتفٍ هنا :

الأوّل : كون «لا» غير زائدة ، لتأكيد النفي ، وما نحن فيه زائدة ، نحو : ما فررت ولا جبنت .

والثاني : أن تكون في جملة خبريّة ، وما نحن فيه جملة قَسَميّة ، نحو : واللّه لا فعلت كذا .

ويحتمل كون «أكملتك» بصيغة المضارع المؤكّد بالنون الثقيلة أو الخفيفة من باب التفعيل أو باب الإفعال .

(إِلاَّ فِي مَنْ أُحِبُّ) . المراد الإكمال الذي يجيء في رابع عشر الباب، وهو لا يكون إلاّ فيمن يحبّه اللّه من نبيٍّ أو وصيٍّ أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الإكمال لا يكون إلاّ فيمن يحبّ اللّه الإكمال فيه.

(أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهى) . «أَما» - بفتح الهمزة وتخفيف الميم - حرف استفتاح وتنبيه . «إيّاك» ضمير منصوب منفصل ، وهو مفعول به ، قدِّم للحصر .

والمعنى لولاك لما كلّفت أحدا ، كما يجيء بيانه في الثاني والثلاثين من الباب ، فكأنّه المأمور والمنهيّ .

ص: 166


1- . يراد بالاستعارة التمثيليّة أن يستعمل مركّبا في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة ، كأن يقال للمتردّد : أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر اُخرى .
2- . القيامة 75 : 31 .
3- . في «ج» : - «كلاهما» .

(وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ)(1) .

العقاب لا يتعلّق بالعقل المراد هنا ، ولا بالعاقل حقيقة ، فمعناه لولاك لما هلك مَن هلك عن بيّنة ، وما حيّ من حيّ عن بيّنة ، فكأنّه المعاقب والمثاب ، وهذا من قبيل وضع السبب موضع المفعول به .

ويحتمل أن يكون «إيّاك» في المواضع الأربعة مركّبا إضافيّا ؛ في القاموس : «إيا الشمس ؛ بالكسر والقصر ، وبالفتح والمدّ ؛ وإياتها بالكسر والفتح : نورها وحسنها ، وكذا من النبات»(2) انتهى .

وهو حينئذٍ مفعول له على ما جوّزه بعض النحاة(3) ، واختاره الشيخ الرضيّ في شرح الكافية(4) ، وهو أن يكون فاعل المفعول له غير فاعل عامله .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ مُفَضَّلِ) ؛ بضمّ الميم وفتح الفاء وفتح المعجمة المشدّدة . (بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ سَعيدِ)(5) ؛ بفتح السين المهملة والعين المهملة وسكون الخاتمة ومهملة . كذا في النسخ ، كما في بعض نسخ رجال الصادق عليه السلام من كتاب الرجال للشيخ الطوسي(6) . قيل : والظاهر أنّه سعد ، فإن صحّ فهو أخوه ، واللّه أعلم ،(7) انتهى . (بْنِ طَرِيفٍ) ؛ بفتح الطاء المهملة وكسر الراء المهملة وسكون(8) الخاتمة والفاء.

(عَنِ الْأَصْبَغِ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحّدة ومعجمة . (بْنِ نُبَاتَةَ) ؛

ص: 167


1- . في الكافي المطبوع : «وإيّاك اُثيب وإيّاك اُعاقب» .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 408 إيا .
3- . حكاه عن بعض النحاة الشيخ الرضيّ في شرحه على الكافية ، ج 1 ، ص 511 .
4- . شرح الرضيّ على الكافية ، ج 1 ، ص 511 .
5- . في الكافي المطبوع : «سعد» .
6- . في رجال الشيخ الطوسي ، ص 115 ، الرقم 17 ؛ و ص 136 ، الرقم 3 سعد بن طريف .
7- . جامع الرواة ، ج 1 ، ص 360 ، باب السين .
8- . في «أ ، ج» : - «سكون» .

بضمّ النون والموحّدة والألف والمثنّاة فوقُ والهاء .

(عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام ، قَالَ : هَبَطَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام عَلى آدَمَ صلى الله عليه و آله (1) ، فَقَالَ : يَا آدَمُ ، إِنِّي أُمِرْتُ) ؛ بصيغة المجهول من الماضي المجرّد للمتكلّم وحده .

(أَنْ أُخَيِّرَكَ) ؛ بشدّ(2) الخاتمة . (وَاحِدَةً مِنْ ثَلاَثٍ) أي ثلاث خصال .

(فَاخْتَرْهَا وَ دَعِ اثْنَتَيْنِ ، فَقَالَ(3) آدَمُ عليه السلام : يَا جَبْرَئِيلُ ، وَمَا الثَّلاَثُ؟ فَقَالَ : الْعَقْلُ ، وَالْحَيَاءُ) ؛ هو ترك القبيح عقلاً مخافة الذمّ ، كالحكم بالظنّ ، وكدعوى العلم بسبب المكاشفة ؛ واشتقاقُه من الحياة ، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة فيردّها عن أفعالها ، يقال : حيي الرجل كرضي ، كما يقال : نسي وحشي إذا اعتلّ نساه وحشاه .

(وَالدِّينُ) أي الديانة ، وهو ترك القبيح شرعا مخافة العقاب .

(فَقَالَ آدَمُ عليه السلام : إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ الْعَقْلَ ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ لِلْحَيَاءِ وَالدِّينِ : انْصَرِفَا وَدَعَاهُ) أي آدم أو العقل .

(فَقَالاَ : يَا جَبْرَئِيلُ ، إِنَّا أُمِرْنَا) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والآمر هو اللّه .

(أَنْ نَكُونَ مَعَ الْعَقْلِ حَيْثُ كَانَ ، قَالَ : فَشَأْنَكُمَا) ؛ بالنصب ، أي الزما شَأْنَكُما ، أي ما تريدانه ، وهو الكون مع العقل .

(وَعَرَجَ) . هذا وأمثاله من الاستعارة التمثيليّة الشائعة في القرآن والحديث ، نحو قوله : «نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(4) ، وقوله : «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»(5) ، والمقصود أنّ العقل هو الأصل ويستلزم الحياء والدِّين .

الثالث : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ إِلى

ص: 168


1- . في الكافي المطبوع : «عليه السلام» .
2- . في «ج» : «بتشديد» .
3- . في الكافي المطبوع : + «له» وفي «أ» : «له . خ ل» .
4- . النحل 16 : 40 .
5- . ق 50 : 30 .

أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : مَا الْعَقْلُ؟) أي ما حقيقة التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل؟

وباعث السؤال اختلاف الآراء في استحسان الأشياء واستقباحها .

(قَالَ : مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمنُ ، وَاكْتُسِبَ بِهِ) ؛ بصيغتي المجهول .

(الْجِنَانُ)؛ بكسر الجيم جمع جنّة بفتح الجيم .

(قَالَ : قُلْتُ : فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟) بضمّ الميم والمهملة والألف وكسر الواو والخاتمة والهاء ، والموصول مبتدأ خبره محذوف ، أي ما هو؟

(فَقَالَ : تِلْكَ) . التأنيث باعتبار الخبر . (النَّكْرَاءُ) ؛ بفتح النون وسكون الكاف والمدّ ؛ يُقال للداهية وللمنكر ؛ ضدّ المعروف .(1)

(تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ) ؛ لأنّه ينتظم به ظاهر من الحياة الدنيا مع الإخلال باُمور الآخرة ، قال تعالى في سورة الروم : «يَعْلَمُونَ ظَاهِرا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الاْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(2) ، وفي سورة الحديد : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» إلى قوله : «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(3) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ) ؛ بفتح الفاء وشدّ المعجمة . (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ) ؛ بفتح الجيم وسكون الهاء .

(قَالَ : سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام ) ؛ بكسر الراء مقصور ، يقال : رجل رضا ، وُصف بالمصدر مبالغةً ، أي مرضيّ . والرضا أيضا الضامن والمحبّ .

(يَقُولُ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِىًٔعَقْلُهُ) ؛ يعني انتفاع العاقل بعقله أكثر وأقوى من انتفاعه بكلّ صديق ، أو هو الوسيلة إلى انتفاعه بالأصدقاء ، فكأنّه لا صديق له إلاّ العقل ، وكذا

ص: 169


1- . تاج العروس ، ج 7 ، ص 557 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 371 نكر .
2- . الروم 30 : 7 .
3- . الحديد 57 : 20 - 22 .

الكلام في قوله : (وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ) .

الخامس : (وَعَنْهُ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ) أي الرضا عليه السلام : (إِنَّ عِنْدَنَا قَوْما لَهُمْ مَحَبَّةٌ) أي لأهل البيت عليهم السلام أو لأهل الخير والصلاح .

(وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعَزِيمَةُ) أي العزيمة القويّة ، وهي ما عرف بين أصحاب الأئمّة من الجدِّ والقوّة في أمرهم . والمراد أنّهم يوافقون المخالفين في اتّباع الظنّ والحكم بغير علم ، وهم بحيث لو صادفهم مخالف كاد أن يخرجهم عمّا هم فيه .

(يَقُولُونَ بِهذَا الْقَوْلِ) أي بأمر الإمامة لأهل البيت عليهم السلام ؛ والمعنى أنّه محض القول بلا بصيرة ولا يقين ، وهو استئناف لنفي تلك العزيمة عنهم .

(فَقَالَ عليه السلام : لَيْسَ أُولئِكَ مِمَّنْ عَاتَبَ اللّه ُ)(1) ؛ بالمهملة والمثنّاة فوقُ والموحّدة . والمعاتبة : التأديب ، ومنه «عاتبوا الخيل فإنّها تَعتَّبُ» أي أدّبوها وروّضوها للحرب والركوب ، فإنّها تتأدّب وتقبل العتاب .(2)

(إِنَّمَا) . استئناف لبيان عدم(3) قابليّتهم . (قَالَ اللّه ُ) في سورة الحشر : « فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(4)) . جمعُ بصيرة ، فمن لم تكن له بصيرة لا يخاطب بذلك ، ولا يعاتب بالاعتبار ، أي الاستدلال بشيء على شيء ، وأصله من العبور .

السادس : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ) ؛ بفتح الحاء المهملة وشدّ السين المهملة . (عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَهَ(5)) بفتح المهملة وكسر الميم وسكون الخاتمة والمهملة والهاء .

ص: 170


1- . في الكافي المطبوع + : «تعالى» .
2- . النهاية ، ج 3 ، ص 175 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 578 عتب .
3- . في «ج» : «انتفاء» .
4- . الحشر 59 : 2 .
5- . في الكافي المطبوع : «عَمِيرة» بالنقطتين على الأخير .

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ كَانَ عَاقِلاً ، كَانَ لَهُ دِينٌ) . مرّ في ثاني الباب .

(وَمَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) .

السابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ) ؛ بكسر المهملة . (عَنْ أَبِي الْجَارُودِ) بالجيم وضمّ المهملة وسكون الواو ومهملة ، اسمه زياد بن المنذر وهو زيدي ، وإليه تنسب الجاروديّة من الزيديّة .(1)

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّمَا يُدَاقُّ) ؛ بالمهملة والألف وشدّ القاف . (اللّه ُ الْعِبَادَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ) ؛ بضمّ العين ، جمع «عقل» أي طبقات العقل المتفاوتة قوّةً وضعفا ، فإنّ التأدّب بقدر الوسع بالآداب الحسنة يختلف باختلاف الوسع الذي هو بإيتاء اللّه تعالى .

(فِي الدُّنْيَا) ؛ يعني احتجاج اللّه تعالى بالعقل يختلف شدّةً وضعفا على حسب اختلاف العقل شدّةً وضعفا .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَحْمَرِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وفتح اللام .

ويجيء في «كتاب الجهاد» في «باب الجهاد الواجب مع من يكون» : «أنّ في بلادنا موضعَ رباط يقال له : قزوين ، وعدوّا يقال لهم : الديلم» .(2)

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فُلاَنٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَفَضْلِهِ)(3).

الظرف خبر مبتدأ محذوف ، أي كذا وكذا ، والمجموع خبر «فلان» . أو الظرف خبر

ص: 171


1- . رجال الطوسي ، ص 135 ، الرقم 1409 ؛ معالم العلماء ، ص 87 ، الرقم 345 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 348 ، الرقم 1 ؛ نقد الرجال ، ج 2 ، ص 279 ، الرقم 2106 .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 22 ، باب الجهاد الواجب ، ح 2 .
3- . في «أ ، ج» والكافي المطبوع : + «كذا» .

«فلان» . والمقصود أنّه في المرتبة العليا فيها كأنّه مخلوق منها .

(فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ؟ قُلْتُ : لاَ أَدْرِي ، فَقَالَ : إِنَّ الثَّوَابَ عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ) يعني إذا صدر فعل واحد عن العاقل والأعقل ، كان ثواب الأعقل فيه أكثر .

(إنّ) ؛ بكسر الهمزة استئناف بياني . (رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَعْبُدُ اللّه َ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ ، خَضْرَاءَ ، نَضِرَةٍ) ؛ بفتح النون وكسر المعجمة ، أي شديدة الخضرة ، أو حسنة .

(كَثِيرَةِ الشَّجَرِ ، طَاهِرَةِ(1) الْمَاءِ)أي نظيفته .

(وَإِنَّ) ؛ بكسر الهمزة . (مَلَكَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَرَّ بِهِ ، فَقَالَ) أي الملك للّه تعالى :

(يَا رَبِّ(2) ، أَرِنِي ثَوَابَ عَبْدِكَ هذَا ، فَأَرَاهُ اللّه ُ تَعَالى ذلِكَ ، فَاسْتَقَلَّهُ الْمَلَكُ) أي عدّه قليلاً ظاهرا في جنب عبادته .

(فَأَوْحَى اللّه ُ(3) إِلَيْهِ : أَنِ) ؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون ، حرف تفسير ؛ لأنّ الإيحاء بمنزلة القول .

(اصْحَبْهُ ، فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ إِنْسِيٍّ ، فَقَالَ لَهُ) أي للملك : (مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ : أَنَا رَجُلٌ) ؛ باعتبار ما صار إليه من الصورة .

(عَابِدٌ بَلَغَنِي مَكَانُكَ) . مصدر ميمي ، أي كونك في هذا المكان أو منزلتك ، أو اسم مكان ؛ أي أحوال هذا المكان الذي هو لك .

(وعِبَادَتُكَ فِي هذَا الْمَكَانِ ، فَأَتَيْتُكَ لِأَعْبُدَ اللّه َ مَعَكَ ، فَكَانَ مَعَهُ يَوْمَهُ ذلِكَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ) أي في اليوم الثاني .

(قَالَ لَهُ الْمَلَكُ : إِنَّ مَكَانَكَ لَنَزِهٌ) ؛ بفتح اللام للتأكيد . والنَّزِه - بفتح النون وكسر الزاي المخفّفة والهاء - من باب حسن وضرب : البعيد عن المكروه .

(وَمَا يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْعِبَادَةِ ، فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ : إِنَّ لِمَكَانِنَا هذَا عَيْبا ، فَقَالَ لَهُ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ :

ص: 172


1- . في الكافي المطبوع : «ظاهرة» بالنقطة على الأوّل .
2- . في «ج» : - «يا ربّ» .
3- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

لَيْسَ لِرَبِّنَا بَهِيمَةٌ) ؛ بفتح الموحّدة : كلّ أهلي ذي أربع قوائم . والمراد بهيمة مطلقة ، ويحتمل أن يكون المراد بهيمةً مختصّةً به مركوبةً له .

(فَلَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ) . خصّه بالذكر لأنّه أخسّ ما يركب .

(رَعَيْنَاهُ فِي هذَا المَوْضِعِ ؛ فَإِنَّ هذَا الْحَشِيشَ يَضِيعُ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ : وَمَا لِرَبِّكَ حِمَارٌ؟) ؛ الاستفهام الإنكاري مقدّر ، والواو للعطف على مقدّر هو نفي الأعلى من الحمار . وفيه لطف إشارة إلى حماقة المخاطب .

وإن اُريد بالبهيمة المختصّة فهذا خبر عن أنّه ما يمكن أو ما يكون لربّك حمار ، والواو للعطف على قول المخاطب «ليس لربّنا» إلى آخره ، فإنّ «ليس» لمجرّد النفي في الحال .

(فَقَالَ) ردّا لإنكار الملك أو على طبق كلامه :

(لَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ مَا كَانَ) . إقحام لفظة «كان» للاستبعاد .

(يُضَيِّعُ)(1) بصيغة المعلوم من باب التفعيل ، وفيه ضمير اللّه ، أو من المجرّد ولا ضمير فيه .

(مِثْلُ) ؛ بالنصب أو بالرفع ، وإقحامه للإشارة إلى كثرة الحشيش .

(هذَا الْحَشِيشِ ، فَأَوْحَى اللّه ُ إِلَى الْمَلَكِ : إِنَّمَا أُثِيبُهُ عَلى قَدْرِ عَقْلِهِ) .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الواو وفتح الفاء . (عَنِ السَّكُونِيِّ) ؛ بفتح المهملة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا بَلَغَكُمْ عَنْ رَجُلٍ حُسْنُ حَالٍ) في العبادة (فَانْظُرُوا فِي حُسْنِ عَقْلِهِ ؛ فَإِنَّمَا يُجَازى بِعَقْلِهِ) أي بقدر عقله .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، قَالَ : ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام رَجُلاً مُبْتَلىً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ) أي وسواسيّا فيهما وفي نيّتهما .

ص: 173


1- . في الكافي المطبوع : «يَضِيعُ» .

(وَقُلْتُ : هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَأَيُّ عَقْلٍ لَهُ؟) ؛ استفهام إنكاري ، أي لا عقل له .

(وَهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟! فَقُلْتُ(1) : وَكَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟ فَقَالَ : سَلْهُ : هذَا الَّذِي يَأْتِيهِ) أي الوسواس .

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟) أي هل هو من جملة القبيح أو الحسن؟

(فَإِنَّهُ يَقُولُ(2) : مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من القبيح الذي يدعو إليه الشيطان .

الحادي عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَا قَسَمَ اللّه ُ لِلْعِبَادِ شَيْئا أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ؛ فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ) بفتحتين مصدر «سهر» كعلم . إذا لم ينم ليلاً .

(الْجَاهِلِ) أي تابع الهوى .

(وَإِقَامَةُ الْعَاقِلِ) فى بلده(3) ، أي طلبه الدِّين مع الإقامة .

(أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ) أي من طلبه الدِّين بالشخوص .

يقال : شَخَصَ - كمنع - من بلد إلى بلد شخوصا ، أي ذهب .

(وَلاَ بَعَثَ اللّه نَبِيّا وَلاَ رَسُولاً) .

النبيّ - بفتح النون وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة - إنسان جاءه الوحي من اللّه تعالى ، سواء بُعِث إلى غيره أم لا .

والرسول : النبيّ المبعوث إلى غيره ؛ وهو على قسمين : الأوّل : مَن كان نبيّا قبل رسالته ، الثاني : مَن كانت نبوّته حين رسالته . والقسم الأوّل أفضل من القسم الثاني .

والمراد بالنبيّ هنا الأوّل من قسمي الرسول ، والمراد بالرسول هنا ثاني قسميه ، كما في سورة مريم : «وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّا»(4) . ويجيء بيانه في «كتاب الحجّة» في شرح أوّل

ص: 174


1- . في «أ» والكافي المطبوع : + «له» .
2- . في «أ» والكافي المطبوع : + «لك» .
3- . في «أ» : - «في بلده» .
4- . مريم 19 : 51 .

«باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدَّث» وهو الباب الثالث .

(حَتّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ) ؛ بصيغة المعلوم ونصب العقل بالمفعوليّة . تقول : استكملت الشيء : إذا أتممته ، أي يستجمع النبيّ جميع جنود العقل التي تُذكر في رابع عشر الباب ، أو يستكمل اللّه عقل النبيّ . ويفسّره قوله :

(وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ) أي أعلى مرتبة ، فإنّه مقول بالتشكيك .

(مِنْ عُقُولِ جَمِيعِ أُمَّتِهِ) أي كلّ واحد منهم ، أو المجموع من حيث المجموع .

(وَمَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فِي نَفْسِهِ) . «ما» موصولة ، والمراد بالنبيّ مطلق النبيّ ، أي ما يقصده من العبادات ولا يأتي به لعذر .

(أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ) أي من كلّ واحدة من العبادات الصادرة عن غير النبيّ بجدّ فيها وحسن نيّة ، أو من مجموعها .

(وَمَا) ؛ نافية . (أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللّه ِ) أي كما هو حقّها .

(حَتّى عَقَلَ عَنْهُ) أي عن اللّه ؛ عدّى العقل ب- «عن» لتضمينه معنى الأخذ ، فالمراد بالعقل عن اللّه رعاية الآداب الحسنة في أخذ علم ما يحتاج إليه من(1) الدِّين وأحكامه من كتاب اللّه وسنّة نبيّه عليه السلام ، فيكون ردّا على أهل الرأي .

(وَلا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ) أي بدون عقل عن اللّه .

(فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ) أي عن اللّه .

(وَالْعُقَلاءُ) أي عن اللّه (هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) ؛ جمع «لبّ» بالضمّ ، وهو الخالص من كلّ شيء ؛ أي ليس اُولو الألباب إلاّ العقلاء عن اللّه .

(الَّذِينَ قَالَ اللّه ُ تَعَالى :) . مقول القول محذوف ، وهو العائد المنصوب ؛ أي قالهم اللّه ، يعني ذكرهم في سورة الزمر بقوله : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللّه ُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(2) ، وسيجيء في ثاني عشر الباب مع شرحه .

ص: 175


1- . في «د» : - «رعاية الآداب الحسنة في أخذ علم ما يحتاج إليه من» .
2- . الزمر 39 : 18 .

(وما يَتَذَكَّرُ إلاّ أُولُوا الْأَلْبَابِ(1)) ليس هذا مقول القول ، بل هو من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فالمعنى ولا يتنبّه لكون العقلاء عن اللّه هم أُولو الألباب الذين ذكرهم اللّه في سورة الزمر إلاّ أُولوالألباب ؛ أي العقلاء .

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون العائد المحذوف فيهم ، فيكون هذا مقول القول ، فإنّه مذكور في سورة البقرة وآل عمران(2) لكن بإدغام التاء(3) في الذال ، وفي سورة الرعد والزمر(4) أيضا ، لكن ب- «إنّما» بدل «ما» و«إلاّ» كما يجيء نقله في آخر ثاني عشر الباب ، فهذا إمّا قراءة غير مشهورة في إحداها ، أو نقل بالمعنى ؛ ومآل الكلّ واحد .

الثاني عشر : (أَبُو عليّ الْأَشْعَرِيُّ) . أشعر أبو قبيلة من اليمن ، هو أشعر بن سبأ بن يشجب بن قحطان،(5) والأشعريّون جمع من أصحابنا القمّيين .

(رَفَعَهُ(6) ، عَنْ هِشَامِ) ؛ بكسر الهاء وتخفيف المعجمة .

(بْنِ الْحَكَمِ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليهماالسلام) . مقصوده عليه السلام في هذا الحديث بيان النصّ وما هو في حكم النصّ من كتاب اللّه تعالى على إمامة أمير المؤمنين بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، بحيث يظهر منه النصّ على إمامة أولاده المعروفين بعده إلى نفسه عليه السلام ، وبحيث يظهر منه النصّ على إمامة واحد واحد بعده إلى القائم عليه السلام ، ويندفع عن النصّ مشاغبات المخالفين من المنع والمعارضات ، فذكر عليه السلام أنواعا من الكلام متضمّنة لمدح العقل وذمّ الجهل :

النوع الأوّل : بيان النصّ وما في حكمه من القرآن .

النوع الثاني : دفع منع المخالفين عن الاستدلال بالنصّ وإبطال سندهم .

ص: 176


1- . في الكافي المطبوع : «إنّما يتذكّر اُولوا الألباب» .
2- . البقرة 2 : 269 ؛ آل عمران (3) : 7 .
3- . في «د» : - «التاء» .
4- . الرعد 13 : 19 ؛ الزمر (39) : 9 .
5- . الصحاح ، ج 2 ، ص 700 شعر .
6- . في الكافي المطبوع : «أبو عبداللّه الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه» بدل : «أبو عليّ الأشعري رفعه» .

النوع الثالث : دفع معارضتهم الناشئة من حسن ظنّهم بجميع أصحاب رسول اللّه أو أكثرهم الذين سنّوا لهم ذلك .

النوع الرابع : دفع معارضتهم بالإجماع ، أي بكثرتهم وقلّتنا .

النوع الخامس : بيان ما حملهم على المكابرة للنصّ ، وغطّى عقولهم من حبّ الدنيا واتّباع الهوى ودولة الباطل . وذلك ببيان طريقة العقل وعلامته ومدحه وبيان طريقة الجهل وعلامته وذمّه ، ولكنّه عليه السلام لمّا كان في زمن شدّة التقيّة ، بيّن تلك الأنواع بحيث لا يفهمها الصادّون عن دين اللّه إذا بلغت إليهم ، ولذا أتى بالرمز والإيماء ، واكتفى في آيات النصّ بجزئها ، ولم يلتزم بضمّ(1) المتجانسين من أنواع الكلام .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - بَشَّرَ) ؛ بشدّ المعجمة . والتبشير : الإخبار بما يُسرُّ ، وهذا من النوع الأوّل .

(أهْلَ الْعَقْلِ) ؛ وهو ناظر إلى قوله فيما بعد : «هداهم اللّه» .

(وَالْفَهْمِ) ؛ بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها : ضدّ الحمق أو ضدّ الغباوة ، ويجيء تفسيرهما(2) في شرح رابع عشر الباب ، وهو ناظر إلى قوله فيما بعد : «أولو الألباب» .

ومراده بأهلهما شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام .

نقل المُطرّزي في أوّل شرح مقامات الحريري عن عامر بن واثلة عن عليّ عليه السلام أنّه قال يوم الشورى في حديثٍ طويل : «هل سمعتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : عُرضت عليّ اُمّتي البارحةَ فاستغفرت لك ولشيعتك؟ فقالوا : اللّهُمَّ نعم»(3) .

(فِي كِتَابِهِ ، فَقَالَ) في سورة الزمر : («فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّه ُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ»(4)) . فيه وضع الظاهر موضع الضمير ؛

ص: 177


1- . في «ج ، د» : «ضمّ» .
2- . في «أ» : «هما» .
3- . حكاه عن شرح مقامات للحريري الماحوزي ، في كتاب الأربعين ، ص 442 ؛ وورد مثله في الخصال ، ص 563 ؛ وعنه في البحار ، ج 31 ، ص 328 ، باب 26 .
4- . الزمر 39 : 17 - 18 .

لبيان المناط ، أي فبشّرهم . وهو راجع إلى الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها .

والظاهر ممّا يجيء في أوّل الثامن عشر وفي «كتاب الحجّة» في(1) ثامن «باب التسليم

وفضل المسلمين» أنّ القول أعمّ من قول اللّه وقول رسول اللّه وأوصيائه عليهم السلام ، واستماع القول عبارة عن ترك اتّباع الظنّ وترك الإصغاء إلى كلام أهل الظنّ ، و«أحسنه» مفعول به والضمير للقول .

وأحسن قول اللّه الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لا يعلم بالبيّنات والزبر ، كما في سورة الزمر : «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(2) ، وفيها : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ»موافقا لما خوطب به موسى عليه السلام في سورة الأعراف بقوله تعالى : «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(3) ، وفي سورة الحديد : «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»(4) .

وأحسن قول رسول اللّه وأوصيائه عليهم السلامفي أمثال زماننا هذا أبعده عن تغيير الرواة لفظه اعتمادا على جواز النقل بالمعنى ، واتّباع أحسن القول العمل بمقتضاه ، سواء جاز الإفتاء والقضاء به أيضا ، كمضمون الآيات البيّنات المحكمات ، أم لا كمضمون أخبار الآحاد الجامعة لشروط العمل .

وقوله : «هَدَاهُمُ اللَّهُ» أي الراسخين في العلم وصراطهم المستقيم ، كما يجيء في الحديث عند قوله : «يا هشام إنّ اللّه حكى عن قوم صالحين» إلى آخره ، ومضى معنى اللبّ في شرح السابق وقوله : «هم اُولوالألباب» أي كلّ من التذكّر واللبّ المذكورين في سورة الزمر قبل هذه الآية في قوله : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(5) منحصر فيهم . والتذكّر : الاهتداء ، ولم يبالغ في الحصر

ص: 178


1- . في «أ» : «من» .
2- . الزمر 39 : 55 .
3- . الأعراف 7 : 155 .
4- . الحديد 57 : 9 .
5- . الزمر 39 : 9 .

الأوّل ، أي حصر التذكّر فيهم ؛ لدلالة الآية السابقة ب- «إنّما» على حصر التذكّر في اُولي الألباب ، والمنحصر في المنحصر في الشيء منحصر فيه ، ولم يقل في الحصر الأوّل : اُولئك الذين تذكّروا ، إشعارا بأنّ التذكّر لا يكون إلاّ بهداية اللّه وتوفيقه .

اعلم أنّه ينبغي هنا بيان اُمور :

الأوّل : أنّ هذه السياقة من الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر المعروفين - سلام اللّه عليهم - مذكورة في آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى في سورة البقرة : «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»(1) بناءً على أن يكون الهدى في الموضعين مصدرا بمعنى اسم الفاعل للمبالغة ، ويكون في الأوّل حالاً عن القرآن ، وفي الثاني عبارة عن الإمام العالم بجميع القرآن ، ويكون «من» للسببيّة ، والظرف متعلّقا ب- «بيّنات» ، ويكون المراد بالفرقان المحكم من القرآن ، كما يجيء من أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال : «القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به» في «كتاب فضل القرآن» في حادي عشر «باب النوادر» ، وهو الباب الرابع عشر .

المراد بالمحكم والمتشابه :

والمراد بالمحكم ما يعلم المراد به كلّ عارف باللغة العربيّة بدون حاجة إلى معلّم ، وليس بمنسوخ ، وبالمتشابه ضدّه(2) ، فيشمل المأوّل والمجمل ، والظاهر والمنسوخ ، فيكون المراد أنّ جميع آيات القرآن حتّى متشابهاته تصير بيّنات بسبب أمرين ؛ الإمام العالم بجميع القرآن ، والمحكم الذي هو بيّن بنفسه ، ومرشد إلى ذلك الإمام ؛ لاشتماله على النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف في الفتوى والقضاء .

ومنها : قوله تعالى في سورة الحديد : «هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللّه َ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» .(3)

ص: 179


1- . البقرة 2 : 185.
2- . في «ج» : «عنده» .
3- . الحديد 57 : 9 .

الثاني : أنّه جرى في المدينة المشرّفة بيني وبين أحد مدرّسي المسجد ، يسمّى السيّد محمّد الكبريتي كلام في مجلس بعض سادات بني الحسين ، وهو السيّد أحمد بمحضر جمع من علماء العرب والعجم :

قال الكبريتي : أنا متحيّر فيما وقع فيه الاختلاف بين أهل السنّة والشيعة الإماميّة ، فإنّ كلاًّ منهما يروي أحاديث لترويج مذهبه ، ويردّها الآخر ، ومذهب الإباء والكبرياء لا يصلح للاعتماد .

قلت : الخلاص عن تلك الحيرة سهلٌ جدّا عند المتأمِّل المنصف ؛ أتظنّ أنّ اللّه تعالى أرسل رسولاً هو خاتم النبيّين ، وأنزل كتابا فيه تبيان كلّ شيء ، وأهمل مسألة الإمامة التي عليها المدار في أكثر الأحكام الشرعيّة ، وبسبب الاختلاف فيها سفكت الدماء وتسفك؟ هذا محال .

قال : لم يبلغه ذهني ، فإن كان عندك شيء في هذا فاذكره .

قلت : قد أوضح اللّه تعالى طريق الخلاص عن تلك الحيرة في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى في سورة آل عمران : «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»(1) الآية ، وهذا وسيلة معرفة الإمام الحقّ في كلّ زمان إلى يوم القيامة ومعرفة المتشابهات .

قال : كيف يكون وسيلة؟

قلت : باعتبار أنّه قد تكرّر في آيات محكمات كثيرة النهيُ عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف في الفتوى والقضاء بالظنّ إلى يوم القيامة ، فيدلّ على وجود عالم بجميع القرآن وجميع أحكام اللّه تعالى في كلّ زمان ، ولا شكّ أنّ غاية دعوى الطائفة الاُولى ومن يحذو حذوهم كالزيديّة(2) لأئمّتهم في كلّ زمان الاجتهاد الذي فسّر باستفراغ الوسع بتحصيل الظنّ بحكم شرعي ؛ والطائفة الاُخرى يقولون : إنّ هذه الدعوى غير مسلّمة عندنا» .

ص: 180


1- . آل عمران 3 : 7 .
2- . وهم الجماعة القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام وإمامة كلّ من خرج بالسيف يعده من ولد فاطمة عليهاالسلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح . كما في المقنعة ، ص 655 ؛ والملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 29 .

لكن بعد التسليم نقول : إنّ المجتهد لا يجوز له العمل برأيه ، فضلاً عمّن يقلّده ؛ بدلالة تلك المحكمات الكثيرة ، فليس الإمام في كلّ زمان إلى يوم القيامة إلاّ العالم بجميع متشابهات القرآن وجميع الأحكام ، وتلك المحكمات تهدي الناس إلى الإمام الحقّ في كلّ زمان ، والإمام الحقّ يهدي الناس إلى معاني المتشابهات إن مُكّنَ ، والهادي إلى الهادي إلى الشيء هاد إلى ذلك الشيء ، فتلك المحكمات اُمّ الكتاب ؛ بمعنى أنّه يعرف بها جميع الكتاب ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة الإمام الحقّ ، وإذا بطلت دعوى الطائفة الاُولى ومن يحذو حذوهم ثبت صدق دعوى الطائفة الثانية .

قال : ما ذكرتَ حقٌّ ، ولكنّ الطائفة الاُولى يستدلّون بآيات على مدّعاهم ، وإن كانت من المتشابهات .

قلت : قد أبطل اللّه تعالى في ذيل هذه الآية استدلالاتهم بقوله : «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه ُ»إلى آخر الآية .

قال : هذا واضح ، ولم أسمعه إلى الآن من أحد ، وانقطع الكلام .

الثالث : أنّه قد اُشير إلى الحثّ على هذه السياقة في الاستدلال على الإمامة في آخر «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتّى تعرفوا الذي نبذه» الخطبة .(1)

ووجهه أنّها أوضح الطرق وأدفعها لمشاغبات النواصب ، فالحصر مجاز ، وكأنّه مستنبط من نحو تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان باللّه في قوله تعالى : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا»(2) .

وحاصله : أنّه يثبت بذلك إمامة أهل البيت المعروفين الاثني عشر - سلام اللّه عليهم - إلى يوم المحشر بإبطال إمامة الثلاثة وأضرابهم بنصّ قطعي وبرهان يقيني من

ص: 181


1- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 32 ، الخطبة 147 ؛ الكافي ، ج 8 ، ص 390 .
2- . البقرة 2 : 256 .

القرآن ، فإنّا لو لم نعلم أنّ أهل البيت عليهم السلامبمعزل عن الاجتهاد بالظنّ في أحكامهم ، وأنّهم والقرآن لا يفترقان حتّى يردا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحوضَ ، فلا أقلّ من انتفاء علمنا باجتهادهم وانحصار الخلاف في الإمامة في كلّ عصر بيننا وبين خصومنا فيهم وفيمن غاية دعواه الاجتهاد بالظنّ .

الرابع : أنّه قد اتّفقت الملاقاة في الطريق بين الحرمين حين توجّهي من مكّة إلى المدينة مع أحد من مدرّسي المسجد الحرام من المالكيّة ، فذكرتُ له هذا الدليل ، قال : المجتهد على قسمين : مجتهد في الكلّ ، ومجتهد في البعض .

قلت : المجتهد في الكلّ هل يتجاوز الظنّ ويصل إلى العلم في شيء ممّا اجتهد فيه؟

قال : لا .

قلت : فتشمله الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم؟

قال : لا علاج لنا في زمن عدم ظهور عالم بجميع الأحكام الشرعيّة إلاّ الاجتهاد .

قلت : قد صنّف بعض أهل بلادنا كتابا ذكر فيه كيفيّة العمل في زمن الغيبة بدون اجتهاد ، وبيّن فيه الفرق بين الإفتاء والقضاء ، وبين العمل في اشتراط العلم بالحكم الواقعي ونفيه ، وفصّل ذلك تفصيلاً .

قال : حيّاه اللّه ما أحسنه ، وانقطع الكلام .

إن قلت : آية اُمّ الكتاب وأمثالها متشابهة فيما ذكرت ، فاحتجاجك مبطل لنفسه .

قلت : هي محكمة ، لكن باعتبار لحوق أمثالها بها ، كما مرّ من آيات سورة الزمر وغير ذلك ، على أنّ انتفاء كونها محكمة فيه لا يضرّ أصل الاحتجاج ؛ لأنّها إشارة إلى البرهان من القرآن ، ولا يجب في مثل ذلك أن يكون نفسه قطعيّة .

إن قلت : يجيء في آخر باب النهي عن القول بغير علم(1) أنّه لابدّ في الاستدلال أن يعلم الناسخ من المنسوخ ، ونحن لم نعلم أنّ الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم

ص: 182


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني عشر» .

لم تنسخ إنّما نظنّ ظنّا؟

قلت : إجماع الطوائف على مضمونها ، واستدلالهم بها في المواضع ، واشتمالها على أنّ النهي عنه في كلّ شريعة ، وأنّ خلاف ذلك شرك ، كما يجيء عند قوله : «يا هشام ما بعث اللّه» إلى آخره ، أفادنا العلمَ بأنّها لم تنسخ .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى) . هذا إلى قوله : «وقال يجيء» من النوع الثاني ، فإنّ المخالفين لمّا علموا إجماع أهل الإسلام على طبق ما دلّ عليه المحكم من حظر القول على اللّه بغير علم ، وأحبّوا أئمّة الضلالة ، وأحبّوا لأنفسهم التصدّر للفتوى والقضاء بالقياس وبالاجتهاد ، خرّوا على ما ذكّروا به من آيات ربّهم صمّا وعميانا ، واحتالوا بحيل ؛ فتارةً قالوا : لا ، ثمّ إنّ ظنّ المجتهد بحكم لا يفضي به إلى علم ، فإنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي علميّة الحكم(1) .

وتارةً قالوا : إنّ العلم قد يُطلق على ما يشمل الظنّ(2) ، كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»(3) .

وتارةً قالوا : إنّ الشرع أقام غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به(4) ، وأيّدوا ذلك بما رووا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «اختلاف اُمّتي رحمة»(5) . ولم يفهموا معنى الرواية على تقدير صحّتها ، وذكرنا لها معاني في حواشي العدّة(6) .

ص: 183


1- . تحرير الأحكام ، ج 1 ، ص 31 ؛ معالم الدين ، ص 27 ؛ تهذيب الوصول ، ص 47 ؛ وحكاه المحقق الداماد في اثنى عشر رسالة ، ج 4 ، ص 14 و 23 .
2- . كما شرحه في جامع المقاصد ، ج 2 ، ص 369 ؛ والشهيد في شرح اللمعة ، ج 2 ، ص 200 ؛ البحار ، ج 10 ، ص 291 .
3- . الممتحنة 60 : 10 .
4- . حكاه في الذريعة ، ج 2 ، ص 519 ؛ إيضاح الفوائد ، ج 3 ، ص 442 ؛ جامع المقاصد ، ج 1 ، ص 154 ؛ الحدائق ، ج 4 ، ص 253 . وحكاه عن الفاضل الجواد في هداية المسترشدين ، ج 2 ، ص 391 ؛ و ج 3 ، ص 365 و 419 .
5- . شرح مسلم للنووي ، ج 11 ، ص 91 ؛ المواقف للإيجي ، ج 1 ، ص 21 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ، ج 1 ، ص 48 ؛ كنزالعمّال ، ج 10 ، ص 136 ، ح 28686 .
6- . للمصنّف أكثر من حاشية على العدّة ولم نجده في المطبوعة .

(أَكْمَلَ لِلنَّاسِ) أي عليهم ، كقوله : «وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1) والمراد بالناس المكلّفون .

(الْحُجَجَ) أي الأدلّة على ربوبيّته .

(بِالْعُقُولِ) أي بعقول العقلاء ، فإنّها حجّة على غير العقلاء ؛ إذ من المعلوم عند الناس وجوب التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل على كلّ أحد بقدر وسعه .

والمقصود أنّ تتبّع الاحتمالات البعيدة -

التي يأبى عنها العقل ؛ لكونها ناشئة عن الهوى - لا يضرّ الدليل وكماله ، ولا إتمام الحجّة على الناس .

ولا يخفى على المتأمّل - الطالب للحقّ المجتنب للهوى بأدنى تأمّل في اختلاف فتاوى المخالفين وقضاياهم واستدلال كلّ منهم على ما اجتهد فيه وفي أنّ مراد الشارع بالعلم العلم الذي لا يجري معه اختلافٌ - فسادُ حيلهم(2) هذه .

ولوضوح هذا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في خطبةٍ في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا ، أنّه قال : «أفأمرهم اللّه بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ؟(3)» أي معلوم قطعا أنّه تعالى نهاهم عنه في آيات كثيرة من محكمات القرآن ، وهم يتسارعون إليه كأنّه أمرهم به .

وروى الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أُبيّ بن كعب رحمه اللّه أنّه خطب بمحضرٍ من أبي بكر وجمع كثير ، وقال في خطبته : غلبتم وزعمتم أنّ الاختلاف رحمة ، هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم(4) .

وأمثال ذلك كثيرة ، ولولا علم الناس بوجوب العقل ، لم تكمل حجّة على أحد ؛ لأنّ جميع المطالب الدينيّة ممّا تتطرّق إليه المعارضات الوهميّة ، والتسويلات الشيطانيّة ، فإنّه لو كان شيء منها مثلَ قولنا : الواحد نصف الاثنين ، أو قولنا : زوايا المثلّث مساوية لقائمتين ، لم يكن في التصديق به كلفة وفتنة وثواب . وسيجيء في أوّل باب البدع

ص: 184


1- . الإسراء 17 : 7 .
2- . قوله : «فساد حيلهم» فاعل لقوله : «ولا يخفى» .
3- . نهج البلاغة ، ص 60 ، الخطبة 18. الاحتجاج ، ج 1 ، ص 389 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 288 .
4- . في الاحتجاج ، ج 1 ، ص 156 : «وتخارستم وزعمتم أنّ الخلاف رحمة ، هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم» .

والرأي والمقاييس(1) ما يوضحه .

وهذا تمهيد يعرف به تفسير ما سيذكر في الحديث من الآيات المشتملة على نحو قوله : «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .(2)

(وَنَصَرَ) . الضمير للّه .

(النَّبِيِّينَ بِالْبَيَانِ) أي لم يكلهم إلى أذهان الناس ، بل نصرهم ، ولكن لم ينصرهم بإسكات المعاندين للحقّ وأهل الهوى ، إنّما نصرهم ببيان اللّه تعالى للناس الحجج بحيث يندفع عنها بالعقول الاشتباهُ ، ولا يلزم إقحام الأنبياء .

ويحتمل أن يكون المراد بيان الحجج للناس بحيث تورث العلمَ لكلّ مكلّفٍ بمقتضاها معذّبٍ على تركه ، فيكون إنكار المنكر منهم إيّاها إمّا عن عناد للحقّ ، أو اتّباع هوى ملبّس؛ واللّه يعلم المفسد من المصلح .

ويحتمل أن يكون المراد بيان كلّ شيء يحتاج إليه ، فلم يكن اللّه يترك بيان الإمام الذي هو الهدى في قوله تعالى في سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ» .(3)

(وَدَلَّهُمْ) . هذا توضيح لدفع المنع بتشبيه هذا الدليل على الإمامة بأدلّة الربوبيّة ، وبيان أنّ أمثال هذه الاحتمالات لو كانت قادحة في هذا الدليل ، لكانت قادحة في أدلّة الربوبيّة أيضا ؛ لاشتراكها معه في إمكان مشاغبة الملحد ، كما يدلّ عليه قوله : «لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .(4)

(عَلى رُبُوبِيَّتِهِ) ؛ بضمّ المهملة وضمّ الموحّدة وسكون الواو وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة والتاء ، أي كونِه مالكا لكلّ حكم لم يفوّض إلى أحد أن يقول على اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، بل بمحض الاجتهاد والظنّ ، خلافا لأئمّة الضلالة

ص: 185


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب العشرون» .
2- . البقرة 2 : 164 ؛ الرعد (13) : 4 .
3- . البقرة 2 : 159 .
4- . البقرة 2 : 164 .

ومجتهديهم ، وكونه مالكا لكلّ شيء حتّى أفعال العباد الاختياريّة ، عصيانهم وطاعتهم ، فإنّهم - وإن كانوا قادرين وممدوحين أو مذمومين على أفعالهم - ليسوا قادرين عليها بالاستقلال ، خلافا للقدريّة(1) ، فاللّه تعالى هو المالك لما ملّكهم إيّاه ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، ولم يفوّض إليهم بشيء من تفويضي المعتزلة القدريّة(2) ، وسيجيء تحقيقه في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» ، وثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

اعلم أنّ معنى الربوبيّة لمّا كان مشتملاً على أن لا يشرك في حكمه أحدا ، كان جميع ما يدلّ على الربوبيّة دالاًّ على بطلان إمامة أئمّة الضلالة ، فالآيات الدالّة على الربوبيّة داخلة في النوع الأوّل أيضا بهذا الاعتبار ، وسنوضح هذا بعد قوله : «يا هشام» .

ثمّ ذمّ اللّه الكثرة في قوله(3) تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ»(4) الآية ، وبعد قوله : «يا هشام» ، ثمّ ذكر اُولي الألباب في قوله تعالى : «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ»(5) الآية ، وقوله : «أَفَمَنْ يَعْلَمُ»(6) الآية .

(بِالْأَدِلَّةِ) . ليس في شيء من الأدلّة على ربوبيّته التعرّض لإثبات الوجوب الذاتي بإبطال الدور والتسلسل ونحو ذلك ، فتكلُّف ذلك ممّا لا حاجة إليه ، فإنّ كلّ ما يثبت به الربوبيّة يثبت به الوجوب الذاتي كغيره من صفات الكمال ؛ لأنّ الأدلّة تدلّ على ثبوت صانع بلا آلة وفعل علاجي ، فتدلّ على أنّه بريء من كلّ نقص ، والإمكان الذاتي نقص .

وسنوضح ذلك في كتاب التوحيد في باب حدوث العالم .

ثمّ نقول : تكلُّف ذلك لا يفضي إلى علم إلاّ بعد إثبات مقدّمات مشكلة لا يعلمها أكثر الخواصّ ، فضلاً عن العوامّ ، منها أحد أمرين : إمّا امتناع أن تكون الاُمور الغير

ص: 186


1- . القدريّة تطلق على من يقول بالقدر خيره وشرّه من اللّه تعالى . كما في الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 43 .
2- . تفصيل الكلام في المعتزلة القدريّة في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 43 .
3- . في «د» : «قول اللّه» .
4- . التوبة 9 : 65 ؛ العنكبوت (29) : 61 .
5- . البقرة 2 : 164 ؛ آل عمران (3) : 191 .
6- . الرعد 13 : 20 .

المجتمعة غير متناهية في جانب المبدأ ، وإمّا امتناع أن تكون كلّ سابق منها فاعلاً للاّحق بإثبات أنّ الممكن يحتاج في البقاء إلى المؤثّر مثلاً .

(فَقَالَ) في سورة البقرة : («وَإِلهُكُمْ) المستحقّ لعبادتكم (إِلَهٌ واحِدٌ) لا شريك له في استحقاق العبادة .

(لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) . استئناف لبيان الوحدة ، وإزاحة لأن يتوهّم أنّ في الكون مستحقّا آخر(1) للعبادة ، ولكن لا يستحقّ العبادة منهم بأن يستحقّ العبادة من غيرهم .

(الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) . خبران لمبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم . وقيل : الأوّل خبر المبتدأ المحذوف ، والثاني صفة الأوّل .

ومضى في شرح البسملة الخلاف في «الرحمن» هل هو مستعمل استعمال الصفة أو استعمال العَلَم .

ويحتمل أن يكونا خبرين آخرين لقوله : «إِلَاهُكُمْ» .

«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ) . استئناف بياني لقوله : «الرحمن الرحيم» .

و«السماء» ما يرى فيه كوكب . وجَمَعَ السماوات وأفرَدَ الأرض ؛ لأنّ تعدّد السماوات لوضوحه كان معلوما لهم ، بخلاف تعدّد الأرضين .

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ؛ مجيئهما وذهابهما ؛ لانتفاء كون أحدهما سرمدا ، أو تعاقبهما ، كقوله : «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً»(2) ، أو زيادتهما ونقصانهما بإيلاج كلّ واحدٍ منهما في صاحبه ، وهو معطوف على السماوات أو على خلْق .

(وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ) . «ما» موصولة ، أي بالأقوات - التي تجلب من المواضع البعيدة ، ويعيش بها الناس - والأمتعة للتجارة ، ونحو ذلك ؛ أو مصدريّة ، أي ينفع اللّه الناس .

و«الفلك» مفرد ومؤنّث(3) ؛ لأنّه بمعنى السفينة ، أو جمع ، وضمّة الجمع غير ضمّة

ص: 187


1- . في «ج ، د» : - «آخر» .
2- . الفرقان 25 : 62 .
3- . في «ج ، د» : «يؤنّث» .

الواحد تقديرا ، وقرئ بضمّتين .

(وَمَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ) . «من» الاُولى للابتداء ، والثانية للبيان ، والسماء جهة العلو أو السحاب .

(فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) بانتفاء النبات .

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) . عطف على «أنزل» ف- «من» بيانيّة ، والمراد بالدابّة الكائنةُ منها ؛ أو على «أحيا» و«من» تبعيضيّة ، والمراد بالدابّة مفهومها الشامل للكائن منها وغير الكائن . والبثّ : النشر والتفريق .

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) : تغيير جهاتها شرقا وغربا وشمالاً وجنوبا ، فإنّه ليس بطبعها ، وما ذكره الطبيعيّون في علّته من التخلخل والتكاثف إنّما أوقعهم في الحيرة .

ويحتمل أن يراد به الإعصار ، ويحتمل أن يراد تغييرها ؛ لعود السفن على وجه مضبوط معلوم عند أهلها .

(وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : المقيم بلا إرادة واختيار لا يمتنع من الصعود والإقامة ، ونحو ذلك ممّا اُريد به ، أو المسخّر للرياح تقلّبه في الجوّ بمشيئة اللّه تعالى .

(لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)) .

(يَا هِشَامُ ، قَدْ جَعَلَ اللّه ُ) . هذا تنبيه لهشام على ما ذكرنا عند قوله : «ودلّهم على ربوبيّته» من تشبيه دليل الإمامة بأدلّة الربوبيّة .

(ذلِكَ دَلِيلاً عَلى مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّ لَهُمْ مُدَبِّرا) أي معرفة العقلاء له لا بشخصه ولا بكنهه ، بل بعنوان أنّ للناس مدبّرا عظيما خارجا عنهم ، مباينا لهم في الجسميّة ونحوها .

وجه الدلالة أنّ الناظر في كلّ من هذه الاُمور يعلم أنّه ليس بفعل الطبيعة التي لا شعور لها ، بل هو بتدبير مدبّر ، وخلق خالق خارج عنه ، وأنّ خالقه بريء من كلّ نقص ، فهو الرحمن الرحيم ، أي الخالق لكلّ شيء على ما اقتضته الحكمة ، الهادي للمؤمنين ،

ص: 188


1- . البقرة 2 : 162 - 163 .

فهو الإله ، لا إله إلاّ هو ؛ لأنّ الشركة في الملك والسلطنة يستلزم نقصا ، كما سنفصّله في «كتاب التوحيد» في خامس «باب حدوث العالم وإثبات المحدث»(1) ، وفي ثاني «باب الاستطاعة»(2) . والأظهر أنّ ذلك إشارة إلى المذكور سابقا وأمثاله ، بقرينة الفاء في قوله :

(فَقَالَ) في سورة النحل : «وَسَخَّرَ لَكُمُ) : هيّأ لمنافعكم (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) ؛ لا بطبائعها .

وفيه إيذان ببطلان تأثير الطبيعة ، وقد دلّلنا في الحاشية الاُولى من حواشي العدّة بدليلين على أنّ الفاعل لا يكون إلاّ حيّا قادرا .(3)

(إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(4)) ؛ فإنّ كلّ واحد من ذلك يدلّ على كون مدبّر بريء من كلّ نقص ، فهو ربّ كلّ شيء وخالقه ، لا يخرج عن ملكه شيء أصلاً .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن . وهذا عطف على «فقال : وإلهكم» إلى آخره .

(«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) . الخلق : التقدير ، وذلك قد يكون قبل تكوين المخلوق .

(مِنْ تُرَابٍ) ؛ بإفراز حصّة من التراب لتكون مادّة للبدن .

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ؛ بإفرازها من بين سائرها بإفراغها في الرحم لتكون مادّة للبدن .

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ؛ بإفرازها من سائرها وترك إسقاطها عن الرحم .

(ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاًَ) ؛ أطفالاً ، والإفراد لإرادة الجنس ، أو على تأويل كلّ واحد . والنكتة فيه الإشارة إلى أنّه إن كان في بطن واحد طفلان لم يكن خروجهما دفعة واحدة .

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : قوّتكم ، وهو زمان البلوغ والتكليف . ويجيء في آخر أبواب «كتاب الوصايا»(5) ما يدلّ على أنّه يكون بعد ثلاث عشرة سنة تامّة . وفي «كتاب الصيام»

ص: 189


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الحادي والثلاثون» .
3- . يظهر من كلامه أنّ له أكثر من حاشية على كتاب عدّة الاُصول .
4- . النحل 16 : 12 .
5- . وهو باب الوصي يدرك أيتامه فيمتنعون من أخذ مالهم و ... .

في ثاني «باب صوم الصبيان ومتى يؤخذون به» وهو الباب الخامس والأربعون أنّه يكون بعد أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة ، ولا منافاة ؛ لأنّ الأوّل والثاني مبنيّان على إمكان الاحتلام ، أو إنبات الشعر الخشن في ذلك السنّ ، والثالثَ لبيان منتهى سنّ البلوغ بدون توقّف على احتلام ، أو إنبات الشعر الخشن .

ويجيء في «كتاب العقيقة» في أوّل «باب النشوء» أنّه يحتلم لأربع عشرة سنة .

و«أشدّ» واحد جاء على بناء الجمع ك- «آنُك»(1) ، ولا نظير لهما ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدّة بالكسر ، مع أنّ فعلة لا تجمع على أفعلٍ ، أو شدّ ككلب وأكلب ، أو شدّ كذئب وأذؤب ، وما هما بمسموعين بل قياس ، واللام فيه متعلّقة بمحذوف تقديره : ثمّ يبقيكم لتبلغوا ، وكذا في قوله :

(ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخَا) . ويجوز عطفه على «لتبلغوا» .

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) : من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشدّ .

(وَلِتَبْلُغُوا) : ويفعل ذلك لتبلغوا (أَجَلاًَ مُسَمّىً) . هو الوقت المعلوم المعيّن للموت أو يوم القيامة .

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2)) ؛ فتعرفون ما في ذلك من الدلالات على كون(3) الصانع للعالم البريء من كلّ نقص .

(وَقَالَ : إِنَّ فِى اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ؛ الذي في سورة الجاثية هكذا : «إِنَّ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»(4) الآية ، ويمكن أن يكون هذا قراءة غير مشهورة ، وأن يكون نقلاً بالمعنى

ص: 190


1- . قال في المصباح المنير ، ص 26 : «الآنُك ، وزان أفلُسٍ هو الوصاص الخالص ، ويقال : الرصاص الأسود ، ومنهم من يقول : الآنُك فاعُلُ قال : وليس في العربي فاعُلُ بضم العين وأما الآنُك والآجُر فيمن خفف وآمل وكابل فاعجميات» .
2- . غافر 40 : 67 .
3- . في «ج ، د» : «وجود» .
4- . الجاثية 45 : 3 - 5 .

إشعارا بأنّ قوله : «اختلاف» معطوف على «السماوات» أو على «خلقكم» بأن لا يكون قوله : «وفي خلقكم» إلى آخره جملة معترضة ، ولا من عطف الجملة على الجملة .

(وَمَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ) : من مطر ؛ لأنّه سببه .

(فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) : فَقْد نباتها .

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ لاَيَاتٍ)؛ الذي في الجاثية «آياتٍ» بدون اللام ، وقرئ بالرفع عطفا على محلّ «إنّ» واسمها ، وبالنصب على لفظ اسم «إنّ» ، وكذا في السابق ، فزيادة اللام إمّا قراءة وإمّا لتأكيد الإشعار .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَقَالَ) في سورة الحديد . هذا من النوع الثالث .

(«يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ») . يجيء في «كتاب الحدود» في ثاني الأوّل عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : «يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» قال : «ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل ، فتحيا الأرض لإحياء العدل ، ولإقامة(1) الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا»(2) .

فهو إخبار عن ظهور دولة الباطل بعد الرسول صلى الله عليه و آله بسبب انتفاء خشوع قلوب أكثر أصحابه للحقّ ، وقساوة قلوبهم وفسق كثير منهم ، وعن ظهور دولة الحقّ بعد دولة الباطل بظهور القائم عليه السلام عقيب انتشار الباطل في الأرض ، فإنّ هذا بعد معاتبة أكثر الأصحاب بما بيّن في قوله : «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ»إلى قوله : «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(3) من أنّ المؤمن الخالص من يجعل ما نزل من الحقّ - وهو القرآن - نصب عينه وبين يديه ، وأنّ المنافق ينبذه وراء ظهره ، فليلتمس نورا من ورائه ، ومن ذلك نصبه الإمام من عند نفسه ، وباختيار الاُمّة ، وبغير التفات إلى من قدّمه القرآن موافقا لما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» ،

ص: 191


1- . في «ج» : «إقامة» .
2- . الكافي ، ج 7 ، ص 174 ، كتاب الحدود ، باب التحديد ، ح 2 .
3- . الحديد 57 : 12 - 15 .

وبما بيّن في قوله : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه ِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ يُحْىِ الْأَرْضَ»(1) الآية من انتفاء خشوع قلوبهم للحقّ وقساوة قلوبهم ، وأنّ كثيرا منهم فاسقون .

(وَقَالَ) في سورة الرعد . هذا من النوع الثاني .

(«وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ) أي مزروع ، ولعلّه لم يجمع هنا ؛ لأنّ أصله المصدر .

(وَنَخِيلٌ) . جمع نخل .

(صِنْوَانٌ). جمع «صنو» بالكسر والضمّ ، وهو النخل أصله وأصل نخل آخر ، واحد أو عَلَمٌ(2) في جميع الشجر .

(وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) : ومتفرّقات غير مجتمعة الاُصول .

(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِى الاُكُلِ) : فيما يؤكل شكلاً وقدرا وريحا وطعما .

(إِنَّ فِى ذلِكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(3)) ؛ فإنّ ذلك ممّا يدلّهم على الصانع الحكيم .

(وَقَالَ) في سورة الروم : («وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) .

المناسب لسابقه ولاحقه أن لا يكون الظرف متعلّقا بقوله : «يريكم» . فقيل فيه وجهان : إضمار أنّ ، وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وبهما فسّر المثَل «تسمع بالمُعَيديّ خيرٌ من أن تراه»(4) انتهى .

(البَرْقَ خَوْفا) للمسافر من المطر ، أو للجميع من الصاعقة ، أو من الأخلاف .(5)

(وَطَمَعا) للحاضر ، أو للجميع في الغيث ؛ ونصبهما على الحال ، أي خائفين

ص: 192


1- . الحديد 57 : 16 - 17 .
2- . في «ج ، د» : «عام» .
3- . الرعد 13 : 4 .
4- . الكشّاف عن حقائق التنزيل ، ج 3 ، ص 218 ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 9 .
5- . الكشّاف عن حقائق التنزيل ، ج 3 ، ص 218 ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 9 .

وطامعين ؛ أو على العلّة بتقدير مضاف ، نحو إرادة خوف وطمع ؛ أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع ، كقولك : فعلته رغما للشيطان .

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِى بِهِ الأرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) : يُبسها .

(إِنَّ فِى ذلِكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)؛ وَقَالَ) في سورة الأنعام . هذا من النوع الأوّل .

(«قُلْ تَعالَوْا) . أمر من التعالي ، أي إيتوني ، وأصله أن يقول من كان في علوّ لمن كان في سفل ، فاتّسع(2) فيه بالتعميم .

(أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا) .

من الاحتمالات أنّ «ما» موصولة للعموم و«عليكم» متعلّق ب- «حَرّمَ» و«أن» مفسّرة ، فإنّ كلاًّ من التحريم والتلاوة يتضمّن معنى القول ، و«لا» ناهية ، ومن الإشراك اتّباع الظنّ بترك التزام اتّباع الإمام العالم بجميع أحكام اللّه تعالى وجميع متشابهات كتاب اللّه في كلّ زمان ، موافقا لقوله تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(3) ، وفي سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(4) ، ويجيء بيانه في أوّل التاسع عشر؛(5) وموافقا لما رواه ابن بابويه في العيون في آخر باب ما حدّث به الرضا عليه السلام في مربعة نيسابور عن الرضا عليه السلام في تفسير الحديث القدسي : «لا إله إلاّ اللّه حصني ، فمَن دخل حصني أمن عذابي» ، أنّه قال :

«بشروطها وأنا من شروطها»(6) .

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانا) . عطف على : «به شيئا» بتقدير ولا تشركوا بالوالدين إحساناً .

ص: 193


1- . الروم 30 : 24 .
2- . في «ج» : «اتسع» .
3- . آل عمران 3 : 64 .
4- . التوبة 9 : 31 .
5- . أي في الحديث 19 من كتاب العقل والجهل .
6- . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 144 ، ح 4 .

والظاهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب البرّ بالوالدين» أنّ المراد بالوالدين هنا الأب والاُمّ ، ولا ينافي هذا(1) ما قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية : «الوالدين : رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه» .(2)

فالمراد بالإحسان إحسان اللّه تعالى بالعبد ، والمعنى أنّ الوالدين أجلّ نِعَم اللّه تعالى على عباده ، وفي حكم الوالدين من يقوم مقامهما من أئمّة الهدى صلوات اللّه عليهم .

وهذا معنى قول أبي عبداللّه عليه السلام فيما يجيء في سادس «باب البرّ بالوالدين» من «كتاب الإيمان والكفر» في برّ الوالدين في قول اللّه عزّ وجلّ : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا»فإنّ في الموضعين بتشديد الياء المفتوحة ، وآية برّ الوالدين هي التي في سورة لقمان(3) ، والتي في سورة العنكبوت : «وَوَصَّيْنَا الاْءِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ»(4) وقول اللّه عزّ وجلّ : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا» عبارة عمّا في سورة الأنعام ، فإنّ مقتضى سياق ما في سورة البقرة وسورة النساء وسورة بني إسرائيل أنّ المراد بالوالدين فيها الأب والاُمّ النسبيان ، بخلاف سياق ما في سورة الأنعام .

(وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) . عطف على «تعالوا» ، و «لا» ناهية ، والنهي هنا للتنزيه ، بناءً على ما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب» قبل «باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(5) البدن كلّها» من أنّه لم يكن في مكّة قبل الهجرة إلى المدينة حرام إلاّ الإشراك ، وسورة الأنعام مكّيّة .

(مِنْ إِمْلاقٍ) : من أجل فقر ، ومن خشيته ، كقوله : خشية إملاق ، وهو نهي عن وَأْد البنات وإسقاط الجنين ونحوهما .

(نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ) . جمع «فاحشة» وهي نحو الايتمام بأئمّة

ص: 194


1- . قوله : «الأب والأم ، ولا ينافي هذا» مشطوب عليه في النسخ والأنسب تثبيته .
2- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 220 .
3- . لقمان 31 : 14 .
4- . العنكبوت 29 : 8 .
5- . في النسخ : «بجوارح» .

الجور ، كما يجيء في تاسع «باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل» من «كتاب الحجّة» .

(ما ظَهَرَ مِنْها) . هو القدر المشترك بين المدلول المطابقي أو التضمّني للقرآن ، وبين ما لا يستره فاعله عن الناس ونحوهما .

ويجيء أمثلته في «كتاب الحجّة» في عاشر «باب من ادّعى الإمامة» إلى آخره ، وفي «كتاب النكاح» في السابع والأربعين من «باب نوادر [في المهر]» ، وفي «كتاب الأشربة» في أوّل «باب تحريم الخمر» في الكتاب .

(وما بَطَنَ) . يظهر معناه بالمقابلة .

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه ُ) أي حرّمها اللّه بأن جعلها حراما ، أي ذاتَ حرمة ، ومحترمةً ، مثل «عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» وهي نفس بني آدم ؛ لقوله : «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ»(1) الآية .

(إِلاّ بِالْحَقِّ) . العامل في المستثنى «لا تقتلوا» .

(ذلِكُمْ) . إشارة إلى قوله : «ولا تقتلوا أولادكم» إلى آخره .

(وَصّاكُمْ بِهِ) أي بحفظه ، فالباء للصلة .

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2) وَقَالَ) في سورة الروم . هذا من النوع الثاني .

(«هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) . تمثيل لبيان كونه تعالى ذا مَثَل أعلى وعزيزا لا يخرج عن مشيئته شيء حتّى معاصي العباد ، وهو لإثبات ربوبيّته بإبطال تفويضي القدريّة ، كما سيجيء تفصيله في ثاني «باب(3) الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» وتفويض مجتهديهم ، و«من» للتبعيض ، أي من جملة مماليككم .

(مِنْ شُرَكاءَ فِى ما رَزَقْنَاكُمْ) أي في التدبير والتصرّف فيما رزقناكم من الأموال وغيرها .

(فَأَنْتُمْ) ؛ يعني الموالي والعبيد (فِيهِ) : فيما رزقناكم (سَواءٌ) أي يتمكّن العبيد أيضا ممّا

ص: 195


1- . الإسراء 17 : 70.
2- . الأنعام 6 : 151 .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الحادي والثلاثون» .

شاؤوا من التصرّف المعهود من المالك في ملكه .

(تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) . استئناف لبيان كونهم سواءً ، يعني يكون العبيد مستقلّين في التصرّف في الأموال على قَدر حصّتهم من الشركة ، كما يستقلّ الأحرار الشركاء في مال ، فربّما يتصرّف أحد الشريكين اختيارا في حصّة شريكه على ما يكرهه الشريك الآخر ، ولا يقدر الآخر على صرفه عن ذلك التصرّف إلى تصرّفه فيها اختيارا على ما يشاؤه الآخر بوجه من الوجوه . والمقصود أنّ شركة أحد في التدبير التفويضي مستلزم لإخراج الشريك الآخر عن سلطنته ، ولا سيّما شركة المملوك .

(كَذلِكَ) : مثل ذلك التفصيل .

نُفَصِّلُ الآياتِ) : نبيّنها ، فإنّ التمثيل فيما دلَّ عليه البرهان ممّا يدفع المعارضات الوهميّة والمشاغبات .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)) ؛ فإنّهم بالتفكّر في هذا المثل تطمئن(2) قلوبهم على العلم بأنّ كون اللّه بالنسبة إلى عبيده كمَن يخاف شريكه في تصرّف يكرهه يستلزم نقصا فيه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ) ؛ للتعجّب ، إشارة إلى وضوح ما ذكر سابقا من الأدلّة على إمامة أئمّة الهدى وبطلان إمامة أئمّة الضلالة ، بحيث لا يحتاج إلى ضميمة ، ثمّ مع هذا ضمّ إليه هذا ، وكذا «ثمّ» فيما يجيء من قوله : «ثمّ خوّف» وأمثاله .

(وَعَظَ) . الوعظ كالوعد تذكير ما يليّن القلب من الثواب والعقاب ونحوهما .

(أَهْلَ الْعَقْلِ) . وظاهر جعل الموعوظين أهل العقل والمخوّفين الذين لا يعقلون ، أنّ الآية خطاب للمؤمنين الغير المتّقين ، وهم المقصودون أوّلاً بالوعظ دون الكفّار والمنافقين ، بخلاف ما يجيء في التخويف ، فإنّه بالعكس ، فالجميع من النوع الثالث .

(وَرَغَّبَهُمْ) ؛ بشدّ المعجمة . (فِي الاْخِرَةِ ، فَقَالَ) في سورة الأنعام : («وَمَا الحَيَاةُ

ص: 196


1- . الروم 30 : 28 .
2- . في «أ ، ج» : «يطمئنّ» .

الدُّنْيَا) : وما الاكتفاء بها (إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ؛ لقلّة نفعها وانقطاعها وإلهائها مَنْ يغترّ بها عمّا يعقب منفعة دائميّة ، وهو إبطال لقول الدهريّة(1) : «إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»(2) .

(وَلَلدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ) ؛ لدوامها وخلوص منافعها . (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) .

تنبيه على أنّ أعمال غير المتّقين لا توجب ثوابا كقوله تعالى : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ»(3) .

(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(4)) ؛ حيث تؤثرون الحياة الدنيا .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ خَوَّفَ) ؛ بشدّ(5) الواو . (الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ؛ حيث يتبعون الهوى . (عِقَابَهُ) ؛ مفعولٌ ثانٍ ل- «خوّف» .

(فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الصافّات :

(«ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ) ؛ هم قوم لوط .

(وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكّة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) : على مواضعهم في متاجركم إلى الشام ، فإنّ مواضعه الأربعة التي يجيء ذكرها في «كتاب النكاح» في ثاني «باب(6) من أمكن من نفسه» في طريقه .

(مُصْبِحِينَ) : داخلين في الصباح . (وَبِاللَّيْلِ) : قُبَيل الصباح . والأوّل للمبطئ ، والثاني للمسرع .

وقيل : «أي ومساء ، وقَعَتْ قريبَ منزل يمرّ بها المرتحل عنه صباحا والقاصد له مساءً»(7) انتهى .

ص: 197


1- . الدهرية : هم جماعة يقولون بقدم الدهر ، وينكرون الصانع ويقولون : إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر .
2- . الأنعام 6 : 29 ؛ المؤمنون (23) : 37 ؛ الجاثية (45) : 24 .
3- . المائدة 5 : 27 .
4- . الأنعام 6 : 32 .
5- . في «د» : «بتشديد» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب السابع والثمانون والمائة» .
7- . تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 26 .

وقيل : المراد نهارا وليلاً .(1)

(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(2)) . أبعد ذلك المرور لا تعتبرون به ولا تخافون من مثله . وفي «كتاب الروضة» بعد حديث عليّ بن الحسين مع يزيد لعنه اللّه قال : فقلت : فقوله عزّ وجلّ :

«وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» قال : «تمرّون عليهم في القرآن ، إذا قرأتم القرآن تقرأ(3) ما قصّ اللّه عليكم(4) من خبرهم .(5)

(وَقَالَ) في سورة العنكبوت :

(«إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) . هي سَدُوم(6) وما والاها ، وأهلها قوم لوط .

(رِجْزا مِنَ السَّمَاءِ) : عذابا منها ، سمّي بذلك لأنّه يقلق المعذّب ؛ من قولهم : ارتجز : إذا ارتجس ، أي اضطرب . وفي سورة الذاريات «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»(7) .

(بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) ؛ بسبب استمرارهم على الفسق . إلى هنا كلام الملائكة .

(وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا) : من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) ؛ هي ما يعتبر به العاقل من حكايتها الدالّة على بأسه بالظالمين .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(8)) ؛ حيث يعلمون منها أنّه لا يجوز الأمن من عقاب اللّه والاعتماد على الأمانيّ ، وهو متعلّق ب- «تركنا» أو «بيّنة» .

ص: 198


1- . حكاه في تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 26 .
2- . الصافات 37 : 138 .
3- . في النسخ : «فقرأ» والمثبت عن المصدر .
4- . في النسخ : «عليهم عليكم خ» .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 250 ، ح 349 .
6- . قال ياقوت في معجم البلدان ، ج 3 ، ص 200 : «سدوم ، مدينة من مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له : سدوم ؛ وقال أبو حاتم في كتاب المزال والمفسد يقال له : سذوم بالذال المعجمة ، قال : والدال خطأ ؛ قال الأزهري : وهو الصحيح وهو أعجمي» .
7- . الذاريات 51 : 33 - 34 .
8- . العنكبوت 29 : 34 - 35 .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل .

(إِنَّ الْعَقْلَ مَعَ الْعِلْمِ) أي لا يتحقّق التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم بأحكام الدِّين بقدر الوسع إلاّ مع ما يفيد العلم من القرآن ، وهو محكماته الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشكل يحتاج إليه ، والناهية عن اتّباع الظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى ، كما في رسالة أوّل «كتاب الروضة» من قول أبي عبداللّه عليه السلام في ذمّ المخالفين : «واُولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتّى دخلهم الشيطان ، لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه كافرين ، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللّه مؤمنين» .

وهذا تمهيد لبيان معنى قوله تعالى : «لا يعقلون» في الآيات المذكورة تحت قوله : «يا هشام ثمّ ذمّ» إلى آخره ، والمقصود أنّ طريقة(1) أهل الاجتهادات الظنّيّة ينافي العقل ، فيدخلون(2) تحت قوله : «لا يعقلون» .

(فَقَالَ) . الفاء للبيان . ( : «وَتِلْكَ الْأمْثَالُ) أي مثل العنكبوت ونظائره (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُهَا) أي ما يصل إلى علمها كما ينبغي .

(إِلاَّ العَالِمُونَ»(3)) أي المتّبعون للبيّنات المحكمات القرآنيّة ، دون الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه .

ومثله قوله تعالى في سورة فاطر : «إِنَّمَا يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(4) ، ويجيء في ثاني السادس .(5)

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ؛ هم الذين ليسوا مع العلم كما مرّ ، كأئمّة الضلالة ومجتهديهم .

ومعنى الذمّ بيان أنّهم ليسوا صالحين للمتبوعيّة ، ولا للهداية ، ولا للاهتداء .

ص: 199


1- . في «د» : «طريق» .
2- . في «د» : «فيدخل» .
3- . العنكبوت 29 : 43 .
4- . فاطر 35 : 28 .
5- . أي في الحديث 2 من باب صفة العلماء .

(فَقَالَ) في سورة البقرة :

(«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) ؛ لأتباع غير العالمين .

(اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه ُ) . هو ما مضى قبل هذه الآية متّصلاً بها من النهي عن أن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون ، فإنّه يدلّ على حظر كون أحد مفتيا بالاجتهاد ، فضلاً عن إمام المسلمين ، ومن النهي عن السوء والفحشاء .

(قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) : وجدنا (عَلَيْهِ آبَاءَنَا) .

هذا كما يقوله المخالفون من أنّ السلف الصالح مهّدوا لنا طريقا هو الاجتهاد ، وأنّه مجمع عليه ، ويجب تأويل الآيات بإجماعهم ، فلا نعدل عنه .(1)

(أَوَلَوْ كَانَ) . الهمزة للاستفهام التوبيخي ، والواو للعطف على مقدّر ، فكأنّه قال : أ لولم يكن ولو كان .

(آبَاؤهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا) أي معتدّا به ، كأحكام اللّه تعالى ، أو مطلقا بناءً على التشبيه .

(وَلا يَهْتَدُونَ»(2)) أي ولا يوفّقون للعقل بهداية اللّه تعالى إيّاهم الصراط المستقيم المذكور في قوله تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(3) أو لا يسألون أهل الذِّكر عمّا لا يعلمون ، كما في سورة طه : «وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا ثُمَّ اهْتَدَى»(4) ، والواو على الأوّل حاليّة ، وعلى الثاني عاطفة .

(وَقَالَ) في سورة البقرة متّصلاً بما مضى :

(«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً) . يقال : نعق بغنمه - كمنع وضرب - : إذا صاح بها وزجرها(5) . وهذا بيان لحال السلف بعد بيان حال مقلّديهم .

ص: 200


1- . اُنظر: الفصول في الاُصول للجصّاص ، ج 1 ، ص 162 ؛ واللمع في اُصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي ، ص 357 .
2- . البقرة 2 : 166 .
3- . الفاتحة 1 : 6 .
4- . طه 20 : 82 .
5- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1559 نعق .

فالمراد ب- «الذين كفروا» الذين سنّوا لهم القول على اللّه بغير علم والسوء والفحشاء ، كما يدلّ عليه سابق الآية(1) ، فيُفهم منه أنّ الأتباع كالغنم المَسُوقة إلى المَسلخ لا يسمعون إلاّ دعاءً ونداءً ، ولا يعرفون وخامة عاقبة الاتّباع .

وقيل : على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم التي تنعق ، والمعنى أنّ الكفرة لإنهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يُتلى عليهم ، ولا يتأمّلون فيما يقرّر معهم فهم في ذلك ، كالبهائم التي يُنعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحسُّ بالنداء ولا تفهم معناه .(2) انتهى .

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي الذين كفروا أو الأتباع صمّ .

(فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(3) ، وَقَالَ :) في سورة يونس :

«وَمِنْهُمْ) : ومن المفسدين الذين لا يؤمنون بالحقّ ، أي علم اللّه منهم أنّهم يموتون على التكذيب من جملة الذين كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله .

(مَنْ يَسْتَمِعَُ) . كذا في النسخ موافقا لما في سورة الأنعام وسورة محمّد(4) ، والذي في

سورة يونس : «مَّن يَسْتَمِعُونَ» .(5)

(إِلَيْكَ) . كان رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله حريصا على إيمان المكذّبين ، طالبا لأن يستمع إليه المعرضون عنه منهم ؛ ليرجعوا عن التكذيب بسماع الأدلّة الواضحة الدلالة بالتقرير اللائق ، ذا تعب في تركهم الاستماع ، فسلاّه اللّه تعالى بأنّ بعضهم يستمع إليك ولا ينفعه الاستماع ، فإنّه إنّما يستمع للدفع والإنكار ، ولا يرجع مثل هذا عن التكذيب لوضوح الدليل .

ص: 201


1- . يريد بذلك قوله تعالى : «وَ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَ تِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَآءِ وَ أَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» . البقرة (2 : 168 - 169) .
2- . تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 448 .
3- . البقرة 2 : 171 .
4- . الأنعام 6 : 25 ؛ محمّد (47) : 16 .
5- . يونس 10 : 42 .

(أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) . شبّههم بالصمّ لأنّهم لا ينتفعون بالسماع ، فكأنّهم لم يسمعوا ، وكأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يُسمِعهم ؛ لأنّه لم يورث كلامه لهم نفعا .

ويجيء تحقيق أنّ النبيّ غير قادر على هداية من أحبّ في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب الهداية أنّها من اللّه» .

(وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ»(1)) . شبّههم بالجَهَلة بكلّ نظريٍّ لانتفاء انتفاعهم بعلمهم بوجوب الاتّباع للحقّ المعلوم ، وترك الاستبداد بالرأي .

(وَقَالَ) في سورة الفرقان :

(«أَمْ تَحْسَبُ) : بل أتحسب (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) أي ليسوا صُمّا .

(أَوْ يَعْقِلُونَ) شيئا . وهذه كالسابقة مبنيّة على التشبيه وتسلية له صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله كان شديد الاهتمام بإيمانهم .

(إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعَامِ) ؛ لانتفاء انتفاعهم بقرع الأدلّة الواضحة آذانَهم ولا بعلمهم .

(بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(2)) من الأنعام ؛ لأنّهم لا يجتنبون ما علموا أنّ ضرره قويّ ، غالب على نفع ضدّه ، بخلاف الأنعام .

(وَقَالَ) في سورة الحشر :

(«لا يُقَاتِلُونَكُمْ) اليهود ، أو اليهود مع المنافقين (جَمِيعا) : مجتمعين .

(إِلاَّ فِى قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق ونحوها .

(أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) لخوفهم من الخروج إلى المسلمين .

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) . استئناف بياني ، أي هذا لشدّة خوف بعضهم من بعض ، بحيث لا يأمن الخروج معه .

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا) : مجتمعين في الرأي .

(وَقُلُوبُهُمْ شَتّى) : مفترقة لا يتّبع بعضهم رأي بعض .

ص: 202


1- . يونس 10 : 42 .
2- . الفرقان 25 : 44 .

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ»(1)) . فيه أيضا التشبيه ، أي هم مُعجَبون برأي أنفسهم ، ولا ينتفعون بما علموا من أنّ التمدّن والتعيّش لا يمكن إلاّ بترك الإعجاب بالرأي ، ليحصل الاتّفاق على رئيس عاقل مطاع ، تجتمع به الكلمة ، ويرتفع به الشتات ، فيترك كلّ أحد رأي نفسه ، ويتبع رأيه في الحروب وغيرها ، بل من المجرّب أنّ السفيه المطاع أنظم للتمدّن من عاقل لا يطاع .

(وَقَالَ) في سورة البقرة :

(«وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البرّ كالمنسيّات .

(وَأَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (تَتْلُونَ الكِتَابَ) : التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول والعمل ، أو فيها بيان الحقّ ، فأنتم تعلمون الحقّ ، فلِمَ لا تعملون بما تأمرون به الناس من اتّباع الحقّ المعلوم ؟

(أَفَلا تَعْقِلُونَ»(2)) أي أبعد تصدّركم لأمر الناس ونهيهم لا تعلمون ما في الكتاب الذي تتلونه ، فلا تعرفون قبح صنيعكم ، مع أنّه لا يصلح لهذا التصدّر إلاّ العالم بما في الكتاب .

ويحتمل أن يُراد أبعد الأمر بالبرّ لا تعلمون أنّه برّ ، مع أنّه يشترط في الأمر بالمعروف العلم بأنّه معروف ، ولا يكفي الظنّ .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَمَّ اللّه ُ الْكَثْرَةَ) . هذا من النوع الرابع ؛ استدلّ المخالفون على طريقتهم بأنّا الكثرة والجماعة ، وأنّكم قليلون لا يُعبأ بكم ، ولا بخلافكم ، فادّعوا الإجماع في كلّ ما يختصّ بهم .(3)

والمراد بذمّ الكثرة ، ذمّ الأكثر لا على الكثرة ، فإنّه ليس فعلاً اختياريّا لأحد ، بل على ما هم عليه من اتّباع الظنّ في أحكامهم في الشرع ، أو ذمّ اتّباع الأكثر ، فالكثرة إن لم تكن أمارة للبطلان ليست دلالة ولا أمارة على الحقّيّة .

ص: 203


1- . الحشر 59 : 14 .
2- . البقرة 2 : 44 .
3- . اُنظر: المستصفى للغزالي ، ص 142 ؛ والمنخول ، ص 399 ؛ والمحصول للرازي ، ج 4 ، ص 19 .

إن قلت : لم يستند المخالفون إلى الكثرة المطلقة ، بل إلى الكثرة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل الإسلام ، وهم الذين قال تعالى فيهم : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1) .

قلت : بعدما ثبت بالظواهر أنّ الكثرة مذمومة لا يجوز استثناء كثرة منها إلاّ بدليل ، ولم يتحقّق هناك ، والخطاب في الآية للنبيّ وأهل بيته ؛ إنّما الخطاب لأكثر الأصحاب في أمثال قوله تعالى في سورة الأعلى : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(2) وفي سورة آل عمران : «أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(3) ، وبيانه في «كتاب الروضة» بعد حديث عليّ بن الحسين عليه السلام مع يزيد لعنه اللّه (4) ، وبعد حديث نوح صلّى اللّه عليه(5) ، وهم الذين قال فيهم : «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوا»(6) وأمثاله ، فإنّ الجمع والعكس لا يحتمله عاقل .

(فَقَالَ) في سورة الأنعام :

(«وَإِنْ تُطِعْ) . خاطب النبيّ صلى الله عليه و آله ، والمراد غيره ، كما في قوله في سابقه : «فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ»(7) . وقيل : المراد هو وغيره .(8) انتهى .

والمراد بالإطاعة العمل بالفتوى في نفس حكم شرعي ، فإنّها المسمّاة سبيل اللّه حقيقة ، والمذكورة سابقا في قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(9) .

(أكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي مجموع الأكثر من حيث إنّهم الأكثر ومخالفهم أقلّ ، أو أيّ واحدٍ كان منهم ؛ والمآل واحد . والاستغراق في «من» على الأوّل حقيقي إذا اُريد بالأرض ما توطّن فيه النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه ، أو ما يبلغ إليك خبر أهلها وأحكامهم في

ص: 204


1- . آل عمران 3 : 110 .
2- . الأعلى 87 : 16 .
3- . آل عمران 3 : 144 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 235 ، ح 313 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
6- . الجمعة 62 : 11 .
7- . البقرة 2 : 147 .
8- . تفسير مجمع البيان ، ج 4 ، ص 145 .
9- . الأنعام 6 : 115 .

الشرع ، وعرفي إن اُريد بهم الأعمّ ، وعلى الثاني حقيقي البتّة .

(يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1)) ؛ هو شرعهُ في الاُصول والفروع ، والاستئناف البياني بعد هذا بقوله : «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ»(2) الآية ، يدلّ على أنّ السرّ في النهي أنّه لا يجوز الحكم في شرعه تعالى بالظنّ ، وأنّ أكثر مَن في الأرض يفتون على ظنّ ، ويبدّلون كلمات اللّه (3) .

ولا ينافي هذا جواز اتّباع حكم الأكثر في محال الحكم ، كالشهادات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الجراحات الموجبة للديات ، ونحو ذلك ممّا يجوز فيه الحكم بالظنّ ، ولا يسمّى سبيل اللّه .

ولا ينافي أيضا جواز قبول رواية الأكثر فيما يقبل فيه خبر الواحد وتعارضت الأخبار ، كما يجيء في آخر «باب اختلاف الحديث» .

ويمكن أن يحمل على أحد هذين قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام قاله للخوارج : «والزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد اللّه على الجماعة ، وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان ، كما أنّ الشاذّة من الغنم للذئب» .(4)

وروى ابن بابويه في معاني الأخبار عنه عليه السلام أنّه قال في تفسير مثل ذلك : «الجماعة أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(5) .

ووجهه أنّ المراد بالحقّ ما هو معلوم صريحا من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، فأهل الحقّ جماعة ، أي لا اختلاف بينهم أصلاً ، والمراد بالباطل تجويز اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، فأهل الباطل فرقة ، أي هم متفرّقون مختلفون دائماً .

ص: 205


1- . الأنعام 6 : 117 .
2- . الأنعام 6 : 116 .
3- . في «ج» : «عن كلام اللّه» بدل : «كلمات اللّه» .
4- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 8 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 33 ، ص 372 ، ح 604 .
5- . معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى الجماعة والفرقة ، ذيل ح 3 .

وإلى هذا يرجع ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ومن هم؟» من أنّ جماعة المسلمين أولاد عليّ بن أبي طالب عليه السلام .(1)

ويطابق هذا قوله تعالى في سورة المائدة : «قُلْ لاَ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللّه َ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ»(2) .

ويحتمل أن يحمل الجماعة على ما اجتمعت الشواهد القرآنيّة عليه من تعيين أئمّة الحقّ ، والفرقة على ما افترقت عنه من ذلك ، بقرينة قوله بعد ذلك في نهج البلاغة : «فإنّما حكم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن» .(3) وإحياؤه : الاجتماع عليه ، وإماتته : الافتراق عنه ؛ أي إحياء القرآن ما أحياه في أمر الأئمّة اجتماع آياته على الدلالة عليه ، كما مرّ بيانه في أوّل الحديث عند قوله : «يا هشام إنّ اللّه تبارك وتعالى بشّر» إلى آخره . وإماتته إياه نبوّ(4) آياته عن الدلالة عليه بدلالتها على ضدّه أنواعا متفرّقة من الدلالة .

إن قلت : الاستئناف إنّما يدلّ على حظر انحصار حكم أحد في اتّباع الظنّ ، ولا يدلّ على حظر اتّباع الظنّ أصلاً ، فلعلّه غير جائز في الاُصول وفي الفروع الضروريّة للدِّين ، وما يجري مجراها ، وجائز في المشكلات الفروعيّة .

قلت : الإطاعة لا تستعمل إلاّ فيما يجري فيه الفتوى من المشكلات العمليّة ، فهي المقصودة بالنهي عن اتّباع الظنّ فيها ، وما قبل الآية وهو قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»يدلّ على ذلك ، وكذا ما بعدها وهو قوله : «وَإِنَّ كَثِيرا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(5) الآية .

ص: 206


1- . في الحديث 2 من الباب .
2- . المائدة 5 : 100 .
3- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 8 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 33 ، ص 373 ، ح 604 .
4- . النبو : التجافي والابتعاد ، ونبا السيف : إذا لم يقطع . تاج العروس ، ج 20 ، ص 212 نبو .
5- . الأنعام 6 : 119 .

وقال الفخر الرازي : تمسّك نفاة القياس بهذه الآية . ثمّ قال :

والجواب لِمَ لا يجوز أن يُقال : الظنّ عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يسند إلى أمارة ، وهو مثل ظنّ الكفّار ، أمّا إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة ، فهذا الاعتقاد لا يسمّى ظنّا ، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال ؛ واللّه أعلم .(1) انتهى .

وفيه أنّ المصرّح به في الكتب أنّ ما لم يستند إلى أمارة لا يسمّى ظنّا ، بل اعتقادا ، مبتدءا ، وما استند إليها يسمّى ظنّا ، ألا ترى أنّ فيه علامتي المنهيّ عن اتّباعه ، وهما انتفاء العلم ، وإمكان الاختلاف الحقيقي المستقرّ معه .

(وَقَالَ) في سورة لقمان :

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي المشركين القائلين بالتفويض إلى العباد في القول على اللّه ، حيث جوّزوا القول على اللّه بالقياس و بالاجتهاد ، وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ»(2) الآيات .

(مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي نفسهما .

(لَيَقُولُنَّ اللّه ُ) ؛ لظهور الأدلّة على أنّ نفس هذه الأجرام غير مخلوقة للعباد أصلاً .

(قُلِ) ، أي في نفسك ، لا في جوابهم ؛ لأنّ السؤال مفروض لا واقع .

(الْحَمْدُ للّه ِِ) أي على أنّه لا يعذّب غير المستحقّ ، فإنّهم عالمون بأنّ اللّه خالق السماوات والأرض ويشركون في حكمه أحدا باتّباع الظنّ ، فإنّ خالق نفس هذه الأجرام معلوم أنّه بريء من أن يشرك في حكمه أحدا .

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ) . الضمير راجع إلى «الناس» في قوله سابقا : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ»أي أكثر الناس ، وهو من مقول قل .

(لاَ يَعْقِلُونَ»(3)) .(4) الذي في سورة لقمان : «لا يعلمون» أي يتّبعون الظنّ ، فلا يعلمون ما يفعلون ويقولون .

ص: 207


1- . تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 164 .
2- . الحجّ 22 : 8 .
3- . في الكافي المطبوع : «يعلمون» .
4- . لقمان 31 : 21 .

(وَقَالَ) في سورة العنكبوت :

(«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي الذين آمنوا بالباطل ، وهو الظنّ .

(مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه ُ قُلِ الْحَمْدُ للّه ِِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ) . «مَنْ» مقول قل ، والضمير لأهل الكتاب ، وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ»(1) الآية ، أو للناس وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ»(2) .

(لاَيَعْقِلُونَ»(3)) .

(يَا هِشَامُ، ثُمَّ مَدَحَ الْقِلَّةَ) أي القليل ، لا على القلّة ، فإنّها ليست من الأفعال الاختياريّة ، بل على ما هو عليه من الحقّ ، لمّا كان كلّ من ذمّ الكثرة ومدح القلّة مشتملاً على الآخر بالمفهوم وسّط آياتِ مدحِ القلّة بين آيات ذمّ الكثرة ، وأيضا معنى مدح القلّة

أنّ الحقّ لا يكون إلاّ في القليل ، لا بمعنى أنّ كلّ قليل على الحقّ ، فإنّا نرى أهل أكثر المذاهب الباطلة أقلّ قليل ، فيرجع إلى ذمّ الكثرة في الحقيقة .

(فَقَالَ) في سورة سبأ :

(«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ»(4)) : المؤدّي للشكر كما طلب منه .

(وَقَالَ) في سورة ص :

(«وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»(5)) . «ما» مزيدة للإبهام والتعجّب من قلّتهم ، أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الخلطاء قليل في غاية القلّة .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن :

(«وَقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ) أي باللّه وبرسوله موسى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي من أقاربه ، ولذا يقال

ص: 208


1- . العنكبوت 29 : 46 .
2- . العنكبوت 29 : 43 .
3- . العنكبوت 29 : 63 .
4- . سبأ 34 : 13 .
5- . ص 38 : 28 .

له : مؤمن آل فرعون ، كما يجيء في خامس عشر السابع عشر(1) . وقيل : «من» متعلّقة بقوله :

(يَكْتُمُ إِيمانَهُ) ؛ تقيّةً(2) (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) هو موسى (أنْ يَقُولَ) ؛ لأن يقول ، أو وقت أن يقول ، من غير رويّة وتأمّل في أمره : (رَبِّىَ اللّه ُ»(3)) أي وحده .

(وَقَالَ) في سورة هود :

(«وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل يانوح في السفينة من آمن من غير أهلك . (وَما آمَنَ مَعَهُ) : مع نوح (إِلاّ قَلِيلٌ»(4)) .

قيل : كانوا تسعة وسبعين : زوجته المسلمة ، وبنوه الثلاثة : سام وحام ويافث ، ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلاً وامرأةً من غيرهم .(5)

(وَقَالَ) في سورة يونس وسورة القصص وسورة الدخان :

((وَلكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ») . هذا إلى قوله : «يا هشام» من آيات ذمّ الكثرة ؛ ففي سورة يونس : «أَلاَ إِنَّ للّه ِِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّه ِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(6) ، وفي سورة القصص : «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه ِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(7) أي أكثر الناس لا يعلمون أنّ وعده حقّ فيرتابون ، وفي سورة الدخان : «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(8) أي أكثر الناس لا يعلمون أن خلقهما بالحقّ فيتمنّون الأمانيّ الفارغة مع عصيانهم .

ص: 209


1- . أي الحديث 15 من باب النوادر .
2- . مجمع البيان ، ج 8 ، ص 437 .
3- . المؤمن 40 : 29 .
4- . هود 11 : 40 .
5- . تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 234 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 12 ، ص 55 .
6- . يونس 10 : 55 .
7- . القصص 28 : 13 .
8- . الدخان 44 : 38 - 39 .

(وَقَالَ) في سورة المائدة :

(«وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(1)) . ظاهر ذكره هنا أنّ المراد بضمير«هم» الناس ، ويدلّ عليه قوله : «مَا جَعَلَ اللّه ُ مِنْ بَحِيرَةٍ»(2) إلى آخره ، فإنّه يدلّ على اشتهار البدع بين الناس ، ولا يمكن أن يكون المرجع «الذين كفروا» في قوله : «وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ»فإنّهم جميعا غير عقلاء .

(وَقَالَ : وَأكْثَرُهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ؛ كذا في النسخ ، وكأنّه نقل ما في سورة المؤمنين(3) «بل لا يشعرون» بالمعنى للإشارة إلى أنّ المرادَ بالضمير في قوله : «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا»(4) وفي قوله : «لاَ يَشْعُرُونَ» ، أكثرُ من بُعِثَ الرسلُ إليهم ، فإنّ الاختلاف بالاجتهاد في أحكام الشرع ووضع الزبر أي الكتب ، لبيان المسائل الاجتهاديّة على مذاهب المجتهدين - بعدما أمر كلّ رسول بأن تكون أحكام شريعته واحدة بين قومه بحيث لا يجري فيها اختلاف في الفتوى - لم يصدر عن جميع من بعث الرسل إليهم ، بل صدر عن أكثرهم ، وكذا انتفاءُ الشعور بما في الاختلاف من الوبال ، وبما في خذلان اللّه تعالى المختلفين بأن أمدّهم في الاختلاف بأموالٍ وبنين من الاستدراج وصفٌ لأكثرهم لا جميعهم .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَكَرَ أُولِي الْأَلْبَابِ) . هذا من النوع الأوّل ، أي العقلاء ، وهم في هذه الاُمّة شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام .

(بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ ، وَحَلاَّهُمْ) ؛ بالمهملة وشدّ اللام ، أي وصفهم بالجميل .

(بِأَحْسَنِ الْحِلْيَةِ) ؛ بكسر المهملة وسكون اللام ، وهي في الأصل ما يزيّن به من مصوغ المعدنيات ونحوه ، والمراد بها هنا الصفة الجميلة .

(فَقَالَ) في سورة البقرة :

(«يُؤتِى الْحِكْمَةَ) ؛ أي كفّ النفس عن التأدية بغير علم ويقين وبصيرة . وبعبارة

ص: 210


1- . المائدة 5 : 103 .
2- . المائدة 5 : 103 .
3- . المؤمنون 23 : 56 .
4- . المؤمنون 23 : 53 .

اُخرى : كفّ النفس عن الإتيان بغير المعلوم قولاً أو فعلاً ؛ مأخوذ من الحَكَمة بفتحتين ، وهي الحديدة في فم الدابّة من اللجام لتمنعها عن الحركات الغير المرضيّة ، وهو مفعول ثان قدّم للاهتمام . ومعنى إيتاء الحكمة التوفيق لها .

(مَنْ يَشاءُ) ؛ مفعول أوّل اُخّر .

(وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرا كَثِيرا وَما يَذَّكَّرُ) : وما يتنبّه للفرق بين مَن اُوتي الحكمة ومن لم يؤتَ في الخير الكثير وانتفائه (إِلاّ أُولُوا الْألْبَابِ»(1)) أي هم المتفطّنون بذلك الفرق ، حيث لا يجوّزون لمصلحة من المصالح تقديم غير أهل العلم بجميع الأحكام ومتشابهات القرآن عليهم في الخلافة .

(وَقَالَ) في سورة آل عمران :

(«وَالرّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) . مبتدأ ، والمراد بهم أئمّة الهدى ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في آخر «باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة صلوات اللّه عليهم» وفي رابع عشر «باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية» .

(يَقُولُونَ) . خبر . (آمَنَّا بِهِ) أي بأنّه ما يعلم تأويله إلاّ اللّه ، فهو من غيبه الذي لا يعلمه إلاّ هو .

(كُلٌّ) . استئناف بياني ، أي كلّ ما عندنا من تأويل ما تشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) لا نعرف شيئا منه إلاّ بتوسّط رسوله .

(وَمَا يَذَّكَّرُ) : ما يتنبّه للفرق بين تأويل الراسخين وتأويل متبوعي الزائغين .

(إِلاَّ أُولُوا الْألْبَابِ»(2)) . هم شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وقد مضى في أوّل الحديث في شرح قوله تعالى في سورة الزمر : «فَبَشِّرْ عِبَادِ»(3) الآيةَ الدليلُ الذي يوضح هذا .

(وَقَالَ) في سورة آل عمران :

(«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِى الْألْبَابِ»(4)) ؛ حيث

ص: 211


1- . البقرة 2 : 269 .
2- . آل عمران 3 : 7 .
3- . الزمر 39 : 17 .
4- . آل عمران 3 : 190 .

تفضي بهم إلى التصديق بالصانع البريء من كلّ نقص ، ومن الشريك في الحكم ، وهو كقوله تعالى في سورة الرعد : «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1) الآيات ، كما سيجيء بُعَيدَ هذا .

وبهذا التقرير يصير هذه الآية من النوع الأوّل ، وإنّما قرّرنا كذلك لتوسّطها بين آياته ، وإن أمكن جعلها من النوع الثاني كما ذكرنا في أمثالها .

(وَقَالَ) في سورة الرعد :

(«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي في القرآن من الأحكام الشرعيّة (الحَقُّ) . تعريفه باللام يدلّ على الحصر ، أي يعلم أنّه ليس حقّ إلاّ وقد اُنزل في القرآن ، فلا يحكم بالاجتهاد لظنّه أنّ بعض الأحكام غير موجود فيما اُنزل ، والحكم فيه مفوّض إلى رأي المجتهد ، فلا يدخل المجتهد فيه في نحو قوله تعالى : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»(2) ، وهذه الآية متّصلة بما قبلها من قوله : «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللّه ُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ نَفْعا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للّه ِِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(3) الآيات .

وقد عبّر عن هذا الحصر فيما قبل بقوله : «اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(4) إن اُريد به حاكم كلّ حكم يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، وكان كقوله : تبيان كلّ شيء(5) ، وعبّر عن العالم به بالبصير وبالنور ونحوهما .

(كَمَنْ هُوَ أَعْمى) . هو إمام الضلالة لا يعلم أنّه لا حقَّ إلاّ فيما أنزل ، وقد عبّر عنه قبلها أوّلاً بأولياء من دون اللّه ، وشبّهه بالأعمى وبالظلمات ، وعبّر عنه ثانيا وبعد الترقّي - بأم المنقطعة - بشركاء للّه .

ص: 212


1- . الرعد 13 : 16 .
2- . المائدة 5 : 44 .
3- . الرعد 13 : 16 .
4- . الرعد 13 : 16 .
5- . مقتبس من سورة النحل 16 : 89 .

وقوله : «خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ»(1) أي حكموا من عند أنفسهم ، كما يحكم اللّه من عند نفسه ، فاشتبه الحكم على الشركاء ؛ لضعف عقولهم عن إدراكه فتردّدوا ، أو حكموا عن ظنّ ، وإن اُريد بخلق كلّ شيء ما هو ردّ على القدريّة اُريد بخلقهم كخلقه تقديرهم لكلّ كائن ، فهو إشارة إلى أنّ الحاكم من عند نفسه يجب أن يكون عالما بجميع الجهات الغير المتناهية لفعل أو ترك حتّى يعلم حسنهُ أو قبحه الواقعي ، وليس هكذا إلاّ من هو مقدّر لكلّ كائن .

إن قلت : أهل الاجتهاد يستندون في جواز الاجتهاد شرعا إلى آيات من القرآن وأحاديث ، فهو من الحقّ الذي فيما أنزل .

قلت : جواز الاجتهاد مسألة اُصوليّة ، وكما أنّ الحكم في المسائل الاُصوليّة منقسم إلى حقّ وباطل ، كذلك الحكم في المسائل الفروعيّة منقسم إليهما ، فحكمهم في المسائل الفروعيّة واختلافهم فيها لابدّ أن يشتمل على الباطل وخلاف ما أنزل اللّه ؛

لاستحالة مطابقة ما أنزل للنقيضين ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ، وخرافات المصوّبة لكلّ مجتهد ظاهر البطلان ، وقال تعالى في سورة محمّد صلى الله عليه و آله : «ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه ُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ»(2) .

(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) : إنّما يتنبّه للفرق بين الإمامين (أُولوُا الألْبَابِ»(3) وَقَالَ) في سورة الزمر : («أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) : قائم بوظائف ما أمر به ، و«أم» منقطعة ، والمعنى : بل أَمّن هو قانت من أصحاب النار . والاستفهام إنكاري ، نحو : «أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ»(4) .

وفي «كتاب الروضة» بعد حديث قوم صالح ما يدلّ على أنّ ما قبله نزل في أبي بكر ، وأنّ المراد بمَن هو قانتٌ عليّ عليه السلام .(5)

ص: 213


1- . الرعد 13 : 16 .
2- . محمّد صلى الله عليه و آله 47 : 3 .
3- . الرعد 13 : 20 .
4- . الطور 52 : 39 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 204 ، ح 246 .

(آنَاءَ اللَّيْلِ) : ساعاته ، وهو إشارة إلى حسن التفريق في صلاة الليل ، كما هو المرويّ من فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويجيء في «كتاب الصلاة» في حادي عشر «باب صلاة النوافل» وثالث عشره .

(سَاجِدا وَقَائِما) أي مظلوما ومُمكّنا .

(يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي لا يعمل بمقتضى تمشّي الاُمور ونظام المملكة في الدنيا ، كما هو شأن أئمّة الضلالة أوّلوا وخصّصوا الأحكام الشرعيّة بالمصالح المرسلة والاستحسان ونحوهما(1) ، وبذلك انتظم أمر دنياهم ، بل يتقيّد بقيود الشريعة .

وظاهر الآية يبطل القول بأنّ العبادة لخوف العقاب ورجاء الثواب باطل أو ناقص ، كعمل العبيد والاُجراء ، وكذا ظاهر قوله في سورة الإنسان : «إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا»(2) .

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) ؛ أي ما يقولون في الشرع ، وعبّر عنه في «كتاب الروضة» بأنّ محمّدا رسولُ اللّه تأكيدا بالإشارة إلى أنّ الأوّل لا ينفكّ عن الثاني ، أو ما به الحذر والرجاء من الأعمال ، أو كلّ الشريعة ومتشابه القرآن .

(وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) للفرق بين الإمامين (أُولُوا الْألْبَابِ»(3)) . هم شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام ، كما بيّنّا في أوّل الحديث ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في «باب(4) أنّ من وصفه اللّه تعالى في كتابه بالعلم هو الأئمّة صلوات اللّه عليهم(5)» .

(وَقَالَ) في سورة ص :

(«كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) ؛ فيعرفوا معاني المحكمات ، ثمّ يعرفوا

ص: 214


1- . في «ج» : «ونحوها».
2- . الإنسان 76 : 10 .
3- . الزمر39 : 9 .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون ، فإنّ فيه هكذا : عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزّوجلّ : «هَلْ يَسْتَوِيَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُونَ ...»الآية . قال : نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لايعلمون ، وشيعتنا اُولوالألباب ، ويوافق هذا ما نقله الطبرسي رحمه الله في مجمعه في تفسيره هذه الآية» .
5- . في الكافي المطبوع : «هم الأئمة عليهم السلام» بدل من «هو الأئمة صلوات اللّه عليهم» .

بدلالتها على أهل الذكر عليهم السلام معانيَ المتشابهات بواسطة أهل الذِّكر بالسماع منهم .

أو هو تنبيه على ما في الآيات قبله من قوله تعالى : «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1) الآيات من الدلالة على أنّه لا يجعل اللّه الذين هم علماء يحكمون بين الناس بالحقّ كالجهّال الذين يحكمون بينهم بالظنّ .

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْبابِ»(2)) . هم شيعة أهل البيت المعصومين كما مرَّ آنفا .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن :

(«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) : ما يهتدي به من المعجزات .

(وَأوْرَثْنَا بَنِى إِسْرائِيلَ الْكِتَابَ) : وجعلنا أوصياء موسى من بني إسرائيل وارثين للكتاب من موسى ، وهو التوراة . والمراد إيراث العلم بجميعه ، كما في قوله تعالى في سورة فاطر : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(3) .

(هُدىً وَذِكْرى) ؛ مفعول له ، أي هدايةً وتذكرة ؛ أو حال عن الكتاب ، أي هاديا ومذكّرا .

(لِأُولِى الْأَلْبَابِ»(4)) ؛ فإنّهم الذين يعرفون أنّ الوصيّ في كلّ زمان من بني إسرائيل مَن عندهُ العلم بجميع الكتاب ، دون مَن هو جاهل منهم بالجميع .

إن قلت : هل تدلّ هذه الآيات على أن ليس أحدٌ من غير الأوصياء عالما بجميع الشريعة والكتاب؟

قلت : لا ، إنّما تدلّ على أنّ المدّعين للخلافة والمنكرين للوصاية ليسوا عالمين ، وأمّا من يسلّم للوصيّ حقّه ويُظهر نفي خلافته في زمان ليس خليفة فيه فربّما كان عالما .

ص: 215


1- . ص 38 : 26 .
2- . ص 38 : 29 .
3- . فاطر 35 : 32 .
4- . المؤمن 40 : 57 .

(وَقَالَ) في سورة الذاريات :

«(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى) . هي اسم للتذكير (تَنْفَعُ المُؤمِنِينَ»(1)) .

هذا من النوع الرابع ، والآية باعتبار ما قبلها وما بعدها تدلّ على قلّة عدد المؤمنين وكثرة من عداهم ، فضمير الجمع في قوله بعد ذلك : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(2) راجع إلى المؤمنين ؛ لبيان أنّ المؤمنين مع قلّة عددهم مخلوقون بالأصالة ، وجميع مَن عداهم من الجنّ والإنس مخلوقون تطفّلاً للمؤمنين .

ويظهر منه أنّه لا يضرّ حسن التذكير بتلك الآيات المكرّرة مضمونا ، الدالّة على إمامة الذين جعلهم اللّه مستودعي أسراره واحدا فواحدا ، أنّه ليس لها رواجٌ عند الناس إلاّ أقلّ قليل ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «أيّها الناس لا تستوحشوا عن سبيل الهدى لقلّة أهلها» .(3)

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الخامس أو تتمّة للنوع الرابع .

(إِنَّ اللّه َ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) في سورة ق :

(«إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ»(4) يَعْنِي عَقْلٌ) . مرفوعٌ على الحكاية .

(وَقَالَ) في سورة لقمان :

(«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ»(5)) . اختلف في أنّ لقمان هل كان نبيّا أم لا ؟ وظاهر هذا الحديث الثاني(6) .

والحكمة - بالكسر - : كفّ النفس عن الإتيان بغير المعلوم قولاً أو فعلاً ، وقد تُطلق

ص: 216


1- . الذاريات 51 : 55 .
2- . الذاريات 51 : 56 .
3- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 181 ، كلام 201 .
4- . ق 50 : 37 .
5- . لقمان 31 : 12 .
6- . فى تفسير التبيان للطوسي ، ج 8 ، ص 275 ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنّ لقمان لم يكن نبيّا ، وقال عكرمة : كان نبيا ، وقيل : إنّه كان عبدا أسودا حبشيا . وانظر: تفسير السمعاني ، ج 4 ، ص 229 ؛ تفسير ابن كثير ، ج 3 ، ص 452 .

على النبوّة .

(قَالَ) . هذا لفظ هشام ، وفاعله ضمير أبي الحسن عليه السلام .

(الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ) أي ليس المراد بالحكمة هنا النبوّة . والفهم - بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها(1) - : ضدّ الحمق أو ضدّ الغباوة ، كما يجيء في رابع عشر الباب .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لاِبْنِهِ) . هذا من النوع الخامس . وقوله : (تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ) ؛ إلى قوله : «الناس» ناظر إلى العقل ، أي تذلّل له واتّبعه وإن كان على خلاف ما عليه أكثر الناس .

(تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ) ؛ أي هو أصل كمال العقل . وقوله :

(وَإِنَّ الْكَيِّسَ) ؛ إلى قوله : (يسير) ناظر إلى الفهم ، وهو بفتح الكاف وكسر الخاتمة المشدّدة ، ويجوز إسكانها ومهملة : الفهيم ، وخبر «إنّ» مجموع قوله :

(لَدَى الْحَقِّ يَسِيرٌ) أي ذليل . ويمكن أن يكون الظرف متعلّقا بالكيّس واحترازا(2) عن الكيّس لدى الدنيا ، ويكون «يسير» خبر «إنّ» أي قليل ، وقوله :

(يَا بُنَيَّ) ؛ إلى قوله : (الصبر) ، ناظر إلى العقل أو إلى الفهم أيضا ، أصله يا بُنيوِي ، وهو تصغير ابن ، مضافا إلى ياء المتكلّم ؛ لأنّ أصل ابن بَنَوٌ ، يُقال : يا بنيِ ويا بُنيِّ بكسر الياء المشدّدة على حذف ياء المتكلّم وإبقاء الكسر دليلاً عليه ، وفتحها على قلب ياء المتكلّم ألفا مع فتح ما قبلها ثمّ حذف الألف .

(إِنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ) ؛ كعلم . (فِيه(3) عَالَمٌ) ؛ بفتح اللام ، ويحتمل الكسر . (كَثِيرٌ ، فَلْتَكُنْ سَفِينَتُكَ فِيهَا تَقْوَى اللّه ِ) ؛ فإنّها أصل النجاة .

(وَحَشْوُهَا) أي متاعها الذي تنقله إلى الآخرة .

(الاْءِيمَانَ) . هو التصديق بجميع ما جاء به الرسول ، ومصداقه الإتيان بالفرائض كلّها ، والاجتناب عن كبائر ما نهى عنه ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب

ص: 217


1- . في «ج» : «ضمها» .
2- . في «ج» : «واحتراز» .
3- . في حاشية «أ» : والكافي المطبوع : «فيها» .

في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(1) البدن كلّها» .

(وَشِرَاعُهَا) ؛ بكسر المعجمة : الثوب المبسوط في السفينة لتُحرِّك به الريحُ السفينةَ .

(التَّوَكُّلَ) أي على اللّه تعالى بتفويض الأحكام وجميع الاُمور إليه بدون اتّكال على اجتهادك ولا على حولك وقوّتك .

(وَقَيِّمُهَا) ؛ بفتح القاف وكسر الخاتمة المشدّدة ، وهو من يقوم بتدبير أمرها حتّى لا تنحرف عن الصواب ، ويسمّى المعلِّم أيضا.

(الْعَقْلَ ، وَدَلِيلُهَا) أي ما يدلّ قيمها إلى الصواب .

(الْعِلْمَ) أي العمل بمقتضى العلم دون مقتضى الظنّ . ومضى معنى العلم في شرح قوله : «يا هشام إنّ العقل مع العلم» .

(وَسُكَّانُهَا) ؛ بضمّ المهملة وتشديد الكاف : ما يحفظ السفينة عن الانحراف عن السمت في مؤخّرها من آلاتها ، وهو للسفينة بمنزلة اللجام للدابّة .

(الصَّبْرَ) أي ترك الوقوع فيما لا يعلم حسنه وقبحه بقدر الإمكان ، وهو أفضل الصبر ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس عشر «باب الصبر» أنّ الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وأنّ أفضلها الثالث .

(يَا هِشَامُ) . هذا أيضا من النوع الخامس .(2)

(إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز ، أصله مصدر باب «علم» من شاء : إذا أراد ، ويستعمل في مفرد الأشياء باعتبار أنّ كلّ شيء بمشيئة اللّه . والمراد هنا ما أمر اللّه به عباده ومن جملته العقل .

(دَلِيلاً) أي باعثا للبصيرة فيه .

(وَدَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّرُ ، وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ) ؛ بفتح المهملة : السكوت . والمراد ترك الحكم بالظنّ في المختلف فيه ، فإنّ من حكم فيه بشيء قلّما يصفو تفكّره(3) عن

ص: 218


1- . في النسخ : «بجوارح» والمثبت موافق للمصدر .
2- . في «د» : + «قال» .
3- . في «د» : «بفكره» .

شوائب الهوى والميل إلى ما حكم به ، فلا بصيرة له في التفكّر .

(وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةً) ؛ هي الدابّة تمطو في سيرها ، أي تسرع فيركب عليها .

(وَمَطِيَّةُ الْعَقْلِ) أي ما يسرع به وصول العقل إلى الحقّ .

(التَّوَاضُعُ) أي التذلّل للحقّ المعلوم بالمحكمات الناهية عن الاختلاف وعن اتّباع الظنّ .

(وَكَفى بِكَ) ؛ من الخطاب العامّ .

(جَهْلاً) أي اتّباعا للهوى .

(أَنْ تَرْكَبَ) أي أن تجعل مطيّتك .

(مَا نُهِيتَ عَنْهُ) ؛ بصيغة المجهول . والمراد اتّباع الظنّ والاختلاف ، وهو ضدّ التواضع للحقّ المعلوم بالمحكمات .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل ، وفيه تعيين للحقّ الذي يجب التواضع له .

(مَا بَعَثَ اللّه ُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلى عِبَادِهِ إِلاَّ لِيَعْقِلُوا عَنِ اللّه ِ) أي ليتعلّموا عنه بالتأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، ومفعوله محذوف ، أي الحقّ الذي يمكن أن يختلفوا فيه بآرائهم ، وهو من الغيب ، قال تعالى في سورة البقرة : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِيِّينَ»(1) الآية ، وفي سورة يونس : «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً»(2) الآية ، أي كانوا جاهلين بالغيب محتاجين إلى بعث الرُّسل ، لئلاّ يختلفوا بآرائهم ، وقال تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(3) ، ويجيء بيانه في عاشر باب النوادر .

وقال في سورة المؤمنين : «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ

ص: 219


1- . البقرة 2 : 213 .
2- . يونس 10 : 19 .
3- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء(21) : 7 .

وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ»(1) ، فإنّ فيه خطابا لجميع الأنبياء ، لا على أنّهم خوطبوا بذلك دفعة ، لأنّهم اُرسلوا في أزمنة مختلفة ، فالمعنى أنّ كلاًّ منهم خوطب به في زمانه ، فالمراد ب- «الطيّب» ما يحلّ أكله في ذلك الزمان ؛ لانتفاء قبحه فيه ، ولا ينافي أن يكون خبيثا في زمان آخر .

والمراد بالعمل الصالح(2) ما ينبغي أن يعمل في ذلك الزمان وإن كان قبيحا في زمان آخر ، وذكر أكل الطيّبات على حدة - مع أنّ عمل الصالح يشمله وغيرَه - للاهتمام .

وهذه إشارة إلى ما تقدّم من التكليفين اللّذين فيهما مجمل جميع التكاليف في جميع الأزمنة لجميع الاُمم ، لكنّه مشار إليه باعتبار التفاصيل كلٌّ في شريعة ؛ والتأنيث باعتبار الخبر ؛ والاُمّة الطريقة ، كما في قوله تعالى حكايةً : «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ»(3) فإن خصّ العمل بعمل الجوارح للاهتمام ، كانت الاُمّة مخصوصة بالفروع ، وهي المختلفة باختلاف الشرائع وإلاّ عمّت .

وبالجملة ، تخصيص الاُمّة باُصول الدِّين من أبعد الاحتمالات ، فإنّ المراد بأمرهم شرع اللّه فيهم ، والأمر : الحادثة ، وتقطّع أمرهم بينهم ، أي تقسّمهم إيّاه بينهم رضاهم بالاختلاف ، وليس هذا إلاّ في الفروع .

وفي قوله : «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»(4) وعيد على التقطع وإشارة إلى أنّه شرك ، والزبر كتب المجتهدين المختلفين في الفروع ، أو هي وكتب المختلفين من نحو المتكلِّمين والاُصوليّين ، وقال تعالى في سورة الزخرف : «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ»(5) نَهى عن اتّباع الرأي في الدِّين ، ثمّ أكّد النهي بأنّه

ص: 220


1- . المؤمنون 23 : 51 - 56 .
2- . في النسخ : «بعمل الصالح» والمثبت موافق للقواعد .
3- . الزخرف 43 : 22 .
4- . المؤمنون 23 : 52 .
5- . الزخرف 43 : 43 - 45 .

كان في شريعة كلّ رسول بقوله : «واسأل» ، فالمراد بالآلهة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه ، كما في قوله في سورة حم عسق : «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا»(1) الآية ، بقرينة أنّ بطلان نحو عبادة الأوثان لا يحتاج إلى سؤال ، إنّما الصعب المستصعب نفي تجويز الاختلاف ونفي الحكم بالظنّ في الدِّين .

ويمكن أن يكون المراد ب- «السؤال» هنا طلب قراءة كتبهم كما في قوله تعالى في سورة يونس : «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ»(2) أي النهي عن الاختلاف وعن الحكم بالظنّ مذكور صريحا فيما لم يحرّفوه من الكتب .

وفي «كتاب الروضة» بعد حديث آدم مع الشجرة أنّ السؤال وقع ليلة الإسراء(3) .

ولأمثال هذه الآيات البيّنات الناهية عن الاختلاف في أحكام الدِّين ، قال تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(4) ، وقال فيها : «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِى اللّه ُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»(5) ، وقال فيها : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(6) ، فمن قال(7) من المخالفين : الأظهر أنّ النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الاُصول دون الفروع ؛ لقوله عليه السلام : «اختلاف اُمّتي رحمة» ، ولقوله عليه السلام : «مَنْ اجتهد فأصاب فله أجران ، ومَن أخطأ فله أجر واحد» .(8)

ص: 221


1- . الشورى 42 : 21 .
2- . يونس 10 : 93 - 94 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 121 ، ح 93 .
4- . آل عمران 3 : 19 .
5- . آل عمران 3 : 85 - 86 .
6- . آل عمران 3 : 105 .
7- . هو البيضاوي في تفسير سورة آل عمران .
8- . تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 76 .

انتهى . فقد ضلّ وأضلّ .

وقال تعالى في سورة الأنعام : «وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ»(1) .

(فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً) أي أحسن عباده تسليما وقبولاً لدعوة الأنبياء والرُّسل أحسن عبادهِ اعترافا بما ذكر من أنّه ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلاّ ليعقلوا عن اللّه ، فإنّ من لم يعرف فائدة بَعث الرسول وإنزال الكتاب لا يهتدي بهداه ؛ قال تعالى : «ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»(2) .

(وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللّه ِ) أي بشريعته (أَحْسَنُهُمْ عَقْلاً) أي عن اللّه .

(وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً) أي عن اللّه (أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ) ؛ لأنّ أكرمهم عند اللّه في الدنيا والآخرة أتقاهم ، والتقوى الخشية و«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(3) ، ولا علم إلاّ بالعقل عن اللّه كما مرّ آنفا .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ : حُجَّةً) ؛ منصوب على أنّه بدل تفصيل من «حجّتين» أو مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أو أحدهما حجّة .

(ظَاهِرَةً) : مرئيّة يطّلع عليها غير المحتجّ عليه أيضا .

(وَحُجَّةً بَاطِنَةً) : خفيّة ، وهي في قلب المحتجّ عليه لا يطّلع عليها غيره .

(فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ) ؛ حيث جعلهم اللّه وسائط بين اللّه والمكلّفين ليعقلوا عن اللّه ، ويحتجّ بهم على العُصاة يوم القيامة ، كما في قوله : «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ»(4) ، وقوله : «وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ»(5) .

(وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ) . مضى معناه في شرح قوله : «يا هشام إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيّين بالبيان» .

ص: 222


1- . الأنعام 6 : 153 .
2- . البقرة 2 : 1 - 2 .
3- . فاطر 35 : 28 .
4- . الملك 67 : 8 .
5- . هود 11 : 18 .

(يَا هِشَامُ، إِنَّ الْعَاقِلَ ، الَّذِي لاَ يَشْغَلُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب منع ، ويحتمل باب الإفعال ، والشغل - بالضمّ وبضمّتين ، وبالفتح وبفتحتين - : ضدّ الفراغ - وبالفتح ، وبالضمّ - : مصدر شغله ك- «منعه» إذا جعله غير فارغ .

(الْحَلالُ شُكْرَهُ) . فيه مجاز في التعلّق بالمفعول به ، والمقصود أنّه لا يكسب الحلال إلاّ بقدر ما لا يشغله عن أداء ما أوجب اللّه عليه شكرا لنعمِهِ تعالى ، كما في سورة النور : «رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه ِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(1) .

(وَلاَ يَغْلِبُ) ؛ كيضرب . (الْحَرَامُ صَبْرَهُ) أي لا يكسب الحرام ويصبر عنه خوف يومٍ تتقلّب فيه القلوب والأبصار .

(يَا هِشَامُ ، مَنْ سَلَّطَ ثَلاَثا عَلَى ثَلاَثٍ ، فَكَأنَّمَا أَعَانَ) أي أعان هواه .

(عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ : مَنْ أَظْلَمَ) . استئناف بياني ، و«أظلم» يجيء كأضاء لازما ومتعدّيا ، والمراد هنا المتعدّي من ظَلِم الليل كعلم .

(نُورَ تَفَكُّرِهِ) أي تفكّره الذي هو كالنور في أنّه يتأتّى به الوصول إلى المطلوب ، فهو من قبيل لُجين(2) الماء ، أو كون تفكّره بحيث يتأتّى به الوصول إلى المطلوب ؛ فالإضافة لاميّة ، وإظلامه إيّاه مجاز في النسبة .

(بِطُولِ أَمَلِهِ) أي سلّط طول الأمل على نور تفكّره ؛ فإنّ طول الأمل يمحو نور التفكّر .

(وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ) . جمع «طريف» : الحسن الغريب ، أي الكلمات البديعة المشتملة على الحكمة .

(بِفُضُولِ كَلاَمِهِ) ؛ فإنّ كثرة الكلام يوجب أن لا يصدر عن الإنسان طرائف الحكمة ، ويصير جميع الكلام لَغطا(3) .

ص: 223


1- . النور 24 : 37 .
2- . اللجين كزبير الفضة ، والمراد بلجين الماء ، الماء الصافي الذي يشبه اللجين .
3- . اللغط : يحرك أصوات مبهمة لا تفهم .

(وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة اسم(1) الاعتبار ، أي استنباط عاقبة الأشياء الاتّعاظ.

(بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ) أي بالإتيان بمشتهيات نفسه .

(فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ) أي ميل نفسه إلى الباطل وهو ضدّ العقل .

(عَلى هَدْمِ عَقْلِهِ ، وَمَنْ هَدَمَ) ؛ بصيغة المعلوم . (عَقْلَهُ ، أَفْسَدَ) ؛ بصيغة المعلوم . (عَلَيْهِ) أي على نفسه (دِينَهُ وَدُنْيَاهُ) ؛ لما مرّ آنفا من قوله : وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً في الدُّنيا والآخرة .

(يَا هِشَامُ ، كَيْفَ) ؛ توضيحٌ للسابق . (يَزْكُو) أي يربُو وينمو (عِنْدَ اللّه ِ عَمَلُكَ) ؛ من الخطاب العامّ ، والمقصود المخالفون .

(وَأَنْتَ قَدْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ) أي باتّباع رأيك (عَنْ أَمْرِ رَبِّكَ) أي شريعته ، كما مرّ في قوله : «وأعلمهم بأمر اللّه» . وهذا ناظر إلى الحجّة الظاهرة .

(وَأَطَعْتَ هَوَاكَ عَلى غَلَبَةِ عَقْلِكَ) . هذا ناظر إلى الحجّة الباطنة .

(يَا هِشَامُ ، الصَّبْرُ عَلَى الْوَحْدَةِ) أي الاعتزال عن أهل الدنيا ، وهم المخالفون ، وهو إشارة إلى ندرة أهل الحقّ(2) .

(عَلاَمَةُ قُوَّةِ الْعَقْلِ ، فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللّه ِ) أي أخذ دينه عن كتاب اللّه .

(اعْتَزَلَ أَهْلَ الدُّنْيَا وَالرَّاغِبِينَ فِيهَا) . هم المخالفون ، فإنّ الدنيا والكثرة معهم .

(وَرَغِبَ) ؛ كعلم . (فِيمَا عِنْدَ اللّه ِ ، وَكَانَ اللّه ُ أُنْسَهُ فِي الْوَحْشَةِ) أي في الهمّ والخوف .

(وَصَاحِبَهُ فِي الْوَحْدَةِ ، وَغِنَاهُ) ؛ بكسر المعجمة مقصور ، وإذا فُتِح مُدَّ : ضدّ الفقر .

(فِي الْعَيْلَةِ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة : الفقر .

(وَمُعِزَّهُ) ؛ بالميم والمهملة المفتوحتين والزاي المشدّدة مصدر ميمي .

(مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ) ؛ بفتح المهملة وكسر المعجمة : بنو الأب الأدنون أو القبيلة .

ص: 224


1- . في «د» : + «من» .
2- . في «أ» : غير واضحة .

(يَا هِشَامُ ، نُصِبَ الْحَقُّ) ؛ بصيغة المجهول ، ويحتمل المصدر . والمراد بنصب الحقّ وضع الشرائع ببعث الأنبياء والرسل .

(لِطَاعَةِ اللّه ِ) ؛ يقال : طاع له يطوع ويَطاعُ وأطاعه ، أي أذعن وانقاد ، والاسم الطاعة إشارة إلى ما مرّ في خطبة الكتاب من قول المصنّف : «فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحّة والسلامة ، لجاز وضع التكليف عنهم» إلى آخره .

(وَلاَ نَجَاةَ) أي من النار (إِلاَّ بِالطَّاعَةِ) أي طاعة اللّه في أوامره ونواهيه .

(وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ) أي لا تحصل إلاّ بالعلم بأوامر اللّه ونواهيه .

(وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) أي لا يحصل بدون توقيف وباتّباع الرأي .

(وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَلُ)(1) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، أي يُحبَسُ ويمنع من الفِرار ، وأصله من العقال ، شبّه انتفاء مجيء ما هو المقصود مع مجيء ما يُضادّه - ممّا يسمّى تعلّما وليس بتعلّم بل هو كسب للجهالات - بالفرار .

(وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ) . هذا إلى قوله : «بالعقل» بيان لطريقة الاعتقال بالعقل .

(رَبَّانِيٍّ) ؛ نسبة إلى الربّ بزيادة الألف والنون ، وهو(2) الراغِب في ثواب الربّ بالزهد في الدنيا ، مثل من نصبه اللّه لتعليم العباد من الرسل والأنبياء والأئمّة . ويجيء في رابع الخامس عشر «إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه فاتّهموه على دينكم»(3) .

(وَمَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ) أي معرفة أنّ المدّعي لنفسه أنّه عالم هل هو عالم بأحكام اللّه تعالى أو جاهل بها سهلة تتأتّى بالعقل ، كما يجيء في العشرين من الباب ، من أنّ العقل تَعرف(4) به الصادق على اللّه ، أي العالم فتصدّقه ، والكاذب على اللّه ، أي القائل عليه بما لا يعلمه فتكذّبه .

(يَا هِشَامُ ، قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَالِمِ) أي الربّانيّ أو مطلقا .

ص: 225


1- . في الكافي المطبوع : «يعتقد» .
2- . في «د» : «فهو» .
3- . أي الحديث 4 من باب المستأكل بعلمه والمباهي به .
4- . في «د» : «يُعرف» .

(مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ ، وَكَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوى(1) وَالْجَهْلِ) ؛ ضدّ العلم .

والمراد بأهل الهوى والجهل العاملون بمقتضى الهوى وبمقتضى الظنّ والاعتقاد المبتدأ كأئمّة الضلالة وأتباعهم ، فإنّ غاية ما يدّعون لأنفسهم الظنون ، وليست بعلم ، ولا واسطة بين العلم والجهل .

(مَرْدُودٌ) ؛ فإنّ العمل إنّما يُتقبَّل ممّن أتى به على شروطه ومن شروطه ، العلم .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ) أي الدنيّ .

(مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ) ؛ أي الفهم والعقل كما مرّ عند قوله : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ»(2) .

(وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا ؛ فَلِذلِكَ(3) رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؛ حيث أعطوا العالي من الدنيا وأخذوا العالي من الحكمة . وضمير الجمع لأنّ المراد بالعاقل الجنس .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعُقَلاَءَ تَرَكُوا فُضُولَ الدُّنْيَا) من المباحات التي لا تضرّ صاحبها .

(فَكَيْفَ الذُّنُوبَ) أي تركهم مُضرّات الدنيا ومحظوراتها بطريقٍ أولى .

(وَتَرْكُ الدُّنْيَا) . الواو للحال ، أي ترك فضول الدنيا (مِنَ الْفَضْلِ) أي من الاُمور الفاضلة المستحبّة التي لا يُذمّ ولا يُعاقب على فقدها .

(وَتَرْكُ الذُّنُوبِ مِنَ الْفَرْضِ) أي ممّا يذمّ ويُعاقب على فقده .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا) أي إلى فضولها (وَ إِلى أَهْلِهَا ، فَعَلِمَ أَنَّهَا) أي الدنيا التي في أيدي هذه الجماعة التي هم أهلها .

(لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِالْمَشَقَّةِ ، وَنَظَرَ إِلَى الاْخِرَةِ) . لم يقل : وأهلها ، لأنّ نيل الآخرة لا يحتاج

إلى سلبها من أحد .

(فَعَلِمَ أَنَّهَا لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِالْمَشَقَّةِ ، فَطَلَبَ بِالْمَشَقَّةِ أَبْقَاهُمَا) . وهي الآخرة ، وهذا لأنّ الجمع بينهما متعذّرٌ أو متعسّر جدّاً .

ص: 226


1- . في «ج ، د» : + «ضد العقل» ، ولا داعي له .
2- . لقمان 31 : 12 .
3- . في حاشية «أ» : «فكذلك خ ل» .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعُقَلاَءَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَرَغِبُوا فِي الاْخِرَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا طَالِبَةٌ) للزاهد فيها لإيفاء الرزق .

(مَطْلُوبَةٌ) للراغبين فيها بعد إيفاء الرزق .

(وَالاْخِرَةَ طَالِبَةٌ) للراغب فيها وللزاهد فيها أيضا لقبض روحه .

(وَمَطْلُوبَةٌ) للراغب فيها ، لعلّ ترك الواو في الاُوليين وذكرها في الاُخريين لأنّ متعلّق كلّ واحدة من الاُوليين غير متعلّق الاُخرى مثل «خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ»(1) والاُخريان قد تتعلّقان بواحد فهما مثل «هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»(2) . وبيان ذلك في قوله :

(فَمَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ ، طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا ، طَلَبَتْهُ الاْخِرَةُ ، فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ) .

(يَا هِشَامُ ، مَنْ أَرَادَ الغِنا(3)) ؛ بفتح المعجمة والمدّ ، وإذا كُسِر قُصر .

(بِلاَ مَالٍ ، وَرَاحَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسَدِ ، وَالسَّلامَةَ فِي الدِّينِ ، فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَسْأَلَتِهِ بِأَنْ يُكْمِلَ عَقْلَهُ)؛إكماله إبقاؤه إلى آخر العمر ، كما هو الأنسب بما بعده من قوله : «يا هشام إنّ اللّه» إلى آخره ، وهو الأنسب أيضا بقوله :

(فَمَنْ عَقَلَ) ؛ حيث لم يقل : ومَن كمُل عقله .

(قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ) ؛ ولم يطلب الفضول فصار غنيّا .

(وَمَنْ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ ، اسْتَغْنَى) عن الناس(4) ، فلم يحسد أحدا واستراح ، وفيه سلامة الدِّين أيضاً.

(وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا يَكْفِيهِ ، لَمْ يُدْرِكِ الغنا(5) أَبَدا) أي إذا حصل له فضل مال من فضول الدُّنيا ، اشتاقت نفسه إلى آخر .

ص: 227


1- . الواقعة 56 : 3 .
2- . البقرة 2 : 185 .
3- . في الكافي المطبوع : «الغِنى» .
4- . في «ج» : - «عن الناس» .
5- . في الكافي المطبوع : «الغنى» .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل .

(إِنَّ اللّه َ حَكى) في سورة آل عمران بعد ما مرّ في هذا الحديث من قوله : «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(1) .

(عَنْ قَوْمٍ صَالِحِينَ) ؛ هم اُولو الألباب .

(أَنَّهُمْ قَالُوا : « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) أي عن الراسخين في العلم .

(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أي إلى الراسخين في العلم .

(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ »(2) حِينَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ) . اللام للعهد الخارجي ، أي قلوب القوم الفاسقين ، وهم الذين ارتدّوا على أعقابهم قهقرى ، وتركوا أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين ، واتّبعوا الطاغوت .

(تَزِيغُ) . يُقال : زاغ عن الطريق : إذا عدل عنه وجار .

(وَتَعُودُ إِلى عَمَاهَا) ؛ بفتح المهملة مقصور ، أي ترتدّ(3) عن الإسلام إلى شركها الذي كانت عليه ، فإنّ القوم كانوا عابدي أصنام قبل إظهار الإسلام .

(وَرَدَاهَا) ؛ بفتح المهملة مقصور ، أي هلاكها . وفي الآية دلالة على أنّ الزيغ والعود يكون بمشيئة اللّه ، وليس العبد مستقلاًّ بالقدرة على أفعاله الاختياريّة ، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

(إِنَّهُ لَمْ يَخَفِ اللّه َ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللّه ِ) . استئنافٌ لبيان عود تلك القلوب إلى عماها ورداها ، وقوله : «لم يخف اللّه» إشارة إلى ما في القرآن من الوعيد الكثير على الاختلاف والتفرّق والتقطّع ، نحو ما في سورة آل عمران : «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(4) ، وفي سورة المؤمنين : «فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ»(5) الآية . وتعدية الفعل

ص: 228


1- . آل عمران 3 : 7 .
2- . آل عمران 3 : 8 .
3- . في «د» : «يرتد» .
4- . آل عمران 3 : 19 .
5- . المؤمنون 23 : 54 .

ب- «عن» بتضمين معنى الأخذ ؛ أي من لم يأخذ العلم بما يحتاج إليه من الحكم الشرعي عن اللّه بالتأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، وهو الذي لم يأخذ تأويل ما تشابه من الراسخين في العلم الذين يقولون : آمنّا به ، كلٌّ من عند ربّنا(1) ، مع أنّه ليس من الراسخين في العلم ، فتبع ظنّه ، أو ظنّ غيره .

(وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللّه ِ ، لَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلى مَعْرِفَةٍ ثَابِتَةٍ يُبْصِرُهَا وَيَجِدُ حَقِيقَتَهَا فِي قَلْبِهِ) .

هذا بيان للسابق . يقال : عقد - كضرب - الحبل على الوتد ، أي شدّه . و«قلبه» منصوب بالمفعوليّة .

والمراد ب- «معرفةٍ» معرفةُ الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، والآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لا يعلم . و«ثابتة» بالجرّ صفة معرفة ، أي ليس معها شكّ . و«يبصرها» بصيغة المعلوم من باب الإفعال صفة موضحة ل- «ثابتة» ، والضمير المستتر للعاقد .

والحقيقة ضدّ المجاز ، وهو ما يشابهها أي يعلم أنّه لم يتخلّف عنها شيء من لوازم المعرفة ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(2) ، وكقوله في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ» .

(وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ كَذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ مُصَدِّقا ، وَسِرُّهُ لِعَلاَنِيَتِهِ مُوَافِقا) . المشار(3) إليه في قوله : «كذلك» العاقل عن اللّه ، أو المنفيّ في قوله : «لم يعقد» أي العاقد قلبه . والمقصود أنّه ليس كذلك عند غير المتوسّمين(4) ، حتّى يشهد عليه بأنّه عاقل .

ويجيء بيان المتوسّمين في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب أنّ المتوسّمين الذين ذكرهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه هم الأئمّة ، والسبيل فيهم مقيم» .

ص: 229


1- . اقتباس من الآية 7 من سورة آل عمران .
2- . النمل 27 : 14 .
3- . في «د» : «والمشار» .
4- . الوسم : التأثير ، والسمة : الأثر ، والمتوسمون : المعتبرون العارفون المتعظون؛ المفردات للراغب ، ص 524 وسم .

والضمائر الأربعة ل- «من» ، والقول عبارة عن الفتوى والقضاء ، والفعل - بكسر الفاء أو فتحها وسكون المهملة - عبارة عن القدر المشترك بين العقل والجهل حين إرادة كسب العلم ، فإنّ كلاًّ منهما من أفعال النفس ، وتصديق قوله لفعله عبارة عن دلالة قوله على أنّ فعله سديد ، أي عقل لا جهل ، وهو بأن يكون قوله مختصّا بما يعلم ويكون ساكتا فيما لا يعلم ، وسرّه عبارة عمّا يصدر عنه في الخلوة من الأقوال والأفعال ، نظير قوله : «وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ»(1) . وعلانيته عبارة عمّا يصدر عنه بمحضر من الملأ .

(لِأَنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ اسْمُهُ - لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْبَاطِنِ الْخَفِيِّ مِنَ الْعَقْلِ إِلاَّ بِظَاهِرٍ مِنْهُ وَنَاطِقٍ عَنْهُ) . استدلالٌ على قوله : «ولا يكون أحد كذلك» إلى آخره . يقال : دلَلْتهُ على كذا - كنصرته - : إذا هديته إليه . والباطن من بطن - ك-نصر - أي خفي . وأكّد الباطن بالخفيّ للدلالة على أنّ الباطن هنا باطن جدّا . و«من» لبيان الباطن الخفيّ . والمراد ب- «العقل» العقل عن اللّه ، و«إلاّ» للاستثناء المفرّغ أو المنقطع ، وضمير «منه» و«عنه» راجع إلى «من» .

والمقصود أنّه ليس لغير المتوسّمين سبيل إلى معرفة عقل أحد وأنّه من الغيب ، فيوضع الظنّ هنا مقام العلم ، كما في سائر محالّ الحكم ، كتعيين القبلة ، وقيم المتلفات ، ومقادير الجراحات الموجبة للديات ، وعليه قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ» .(2)

ولا ينافي ذلك أنّه لا يجوز وضع الظنّ مقام العلم في نفس أحكامه تعالى ، ويجيء ما يناسب هذا في خامس الرابع عشر .(3)

(يَا هِشَامُ) . هذا إلى آخره من النوع الخامس .

(كَانَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : مَا عُبِدَ) ؛ بصيغة المجهول من المجرّد ، أو معلوم من باب التفعيل .

ص: 230


1- . البقرة 2 : 14 .
2- . الممتحنة 60 : 10 .
3- . أي الحديث 5 من باب النهي عن القول بغير علم .

(اللّه ُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ، وَمَا تَمَّ) أي ما قوي .

(عَقْلُ امْرِىًٔحَتّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ شَتّى) . جمع «شتيت» أي متفرّقة .

(الْكُفْرُ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونَانِ) أي الناس في أمنٍ من أن يكفر نعمة عليه ، ومن أن يضرّ أحدا .

(وَالرُّشْدُ وَالْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولاَنِ) . الرشد بالضمّ خلاف الغيّ ، والمراد هنا شكر النعمة ، أي الناس يرجون منه أن يشكر نعمتهم عليه ، وأن ينفعهم إذا احتاجوا إليه .

(وَفَضْلُ مَالِهِ) أي الزائد على نفقته ونفقة عياله على سبيل الاقتصاد من ماله .

(مَبْذُولٌ) في سبيل اللّه .

(وَفَضْلُ قَوْلِهِ) أي الزائد على ما يحتاج إليه في الأغراض اللازمة من كلامه .

(مَكْفُوفٌ) . فيه حذف وإيصال ، أي مكفوف عنه من كفَّ عن الشيء من باب نصر ، أي امتنع منه . ويحتمل أن يكون من كففته عن الشيء ، أي دفعته وصرفته عنه ؛ فهو متعدّ ولا حذف .

(وَنَصِيبُهُ) ؛ بفتح النون ، أي حظّه وحِصّته . والمراد ما يصرفه في نفسه من النفقة .

(مِنَ الدُّنْيَا الْقُوتُ)؛ بالضمّ : ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام ، أي لا يأكل كلّ الشبع .

(لاَ يَشْبَعُ) ؛ كيعلم .

(مِنَ الْعِلْمِ دَهْرَهُ) ؛ بالنصب ، أي حريص على طلب العلم بما يعينه في كلّ دهره ، فلا ينافي ما سيجيء في أوّل(1) «باب المستأكل بعلمه والمباهي به» من ذمّ منهوم العلم .

(الذُّلُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اللّه ِ مِنَ الْعِزِّ مَعَ غَيْرِهِ) . المراد بالذلّ والعزّ ما في ظاهر الدنيا ، فلا ينافي قوله تعالى : «وَللّه ِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2) .

(وَالتَّوَاضُعُ) : تكلّف الضعة ، أي دناءة الحال بالنسبة إلى من ليس بوضيع بالنسبة إليه ، بل شريف . والمراد أن يعاشر الناس كالوضيع بالنسبة إليهم لا ما يوجب الكذب .

ص: 231


1- . في «أ، د»: + «الخامس عشر».
2- . المنافقون 63 : 8 .

(أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ) ؛ بالمعجمة والمهملة المفتوحتين : العلوّ أو العلوّ في الحسب . والمراد إظهار الشرف على الغير .

(يَسْتَكْثِرُ) أي فعلاً ، لا قولاً ؛ لئلاّ يلزم الكذب .

(قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ) أي فعلاً كما مرّ .

(كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْرا مِنْهُ ، وَأَنَّهُ شَرُّهُمْ) ؛ بفتح الهمزة ، معطوفٌ على معمول «يرى» . وفائدة العطف الإشعار بأنّ التفاوت بينه وبين الناس ليس ناشئا من كمال الناس ، بل من نقصانه .

(فِي نَفْسِهِ) . متعلّقٌ ب- «يرى» أي في ذهنه ، كقوله تعالى : «تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِي»(1) .

وهذا للتنصيص على أن ليس المراد بالرؤية رؤية العين ، فلا يقتدى بهم ، بل المراد رؤية القلب ، وهي هنا الظنّ . والمقصود أنّه يعامل الناس كمعاملة مَن يظنّ الناس خيرا منه ، فإنّ العاقبة مجهولة ، فربّ كافر وفّق للإيمان في آخر عمره ، وربّ مؤمن كفر في آخر عمره .

(وَهُوَ) أي الأخير (تَمَامُ الْأَمْرِ) أي ما يتمّ به أمر العقل أو العمدة منه .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ لاَ يَكْذِبُ) ؛ ك-يضرب . (وَإِنْ) ؛ وصليّة . (كَانَ فِيهِ) أي في الكذب (هَوَاهُ) أي ميل نفسه ونفعه في الدنيا .

(يَا هِشَامُ ، لاَ دِينَ لِمَنْ لا مُرُوءَةَ لَهُ) . المروءة - بضمّ الميم والمهملة وواو وهمزة وقد تُقلَب الهمزة واوا وتشدّد - مصدر اشتقّ من المرء ، وهو الرجل ، أي الذكورة والإنسانيّة . والمقصود الإباء عن دناءة الاتّباع لأئمّة الضلالة الذين ليس لهم علم ولا شجاعة ولا نجابة بمحض كون الدنيا معهم .

(وَلاَ مُرُوءَةَ لِمَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ ، وَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ قَدْرا الَّذِي لاَ يَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَرا) . الخطر - بالمعجمة والمهملة المفتوحتين - السَبَق الذي يتراهن عليه(2) ، وخطر الرجل قدره ومنزلته وقيمته ، وهذا ردّ على أهل الدنيا الذين لا يعلمون حقيقة المروءة ،

ص: 232


1- . المائدة 5 : 116 .
2- . كتاب العين ، ج 4 ، ص 213 خطر .

ويتوهّمون أنّهم يذلّون إن لم يفعلوا ما يجلب لهم الدنيا وتعظيم الناس لهم .

(ألاَ(1) إِنَّ أَبْدَانَكُمْ) . فيه إشعار بنفي تجرّد النفس الناطقة .

(لَيْسَ لَهَا ثَمَنٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ ، فَلاَ تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا) أي بالدنيا .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَقُولُ : إِنَّ مِنْ عَلاَمَةِ الْعَاقِلِ أنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ) ؛ من للتبعيض ، والعلامة بفتح المهملة وتخفيف اللام السِّمة . والمراد هنا اللازم الخاصّ ، بقرينة الفاء التفريعيّة في «فمن» . والمراد بالعاقل المحقّ من مدّعي الإمامة ، فإنّ غيره من مدّعي الإمامة سفيه جاهل .

والخصال الثلاث متلازمة ، فذكر «من» التبعيضيّة مبنيّ على أنّ من علامته بعض هذه الثلاث ، كما أنّ من علامته نصّ النبيّ صلى الله عليه و آله .

(يُجِيبُ إذَا سُئِلَ) ؛ بالرفع استئنافٌ بياني ، ويجوز النصب بتقدير «أن» وإعمالها ، والرفع بتقديرها وإهمالها على أن يكون بدل تفصيل الثلاث ، أي لا يقول : «لا أدري» في شيء ممّا يحتاج إليه الرعيّة ويُسأل عنه ، كما كان يقوله الخلفاء الثلاثة .

(وَيَنْطِقُ إِذَا عَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الكَلاَمِ) . ينطق - كيضرب - . والمراد بالقوم الخلفاء الثلاثة وملأهم . وهذا إشارة إلى أمثال ما يجيء في «كتاب الحجّة» في الرابع والسابع(2) من «باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم عليهم السلام» - وهو الرابع والعشرون والمائة - من أنّ بعض علماء اليهود جاء عمر ليسأله عن أشياء معظلة(3) ، فعجز عن الجواب ودلَّ السائل إلى أمير المؤمنين عليه السلام .

(وَيُشِيرُ بِالرَّأْيِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ صَلاَحُ أهْلِهِ) . تقول : أشرت عليهم بكذا : إذا أمرتهم به . والرأي : النظر بالقلب ، ومنه التدبير . وضمير «فيه» للذي ، وضمير «أهله» للعاقل أو للذي . وهذا إشارة إلى ما روي من تدبيرات أميرالمؤمنين في قضاياه ، ويجيء بعضه في «كتاب القضايا والأحكام» في أخر أبوابه .

ص: 233


1- . في الكافي المطبوع : «أما» .
2- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : الخامس والثامن .
3- . في «ج» : «المعظلة» .

(فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ هذِهِ الْخِصَالِ الثَّلاَثِ شَيْءٌ فَهُوَ أَحْمَقُ ؛ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام قَالَ : لاَ يَجْلِسُ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ إِلاَّ رَجُلٌ فِيهِ هذِهِ الْخِصَالُ الثَّلاَثُ ، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ) .

هذا الكلام لبيان أنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام بالعاقل في الكلام السابق المتصدّر للإمامة بالحقّ . ويجلس - كيضرب - والمراد بالمجلس المجلس الذي كان فيه البيعة بالإمامة لأحد كسقيفة بني ساعدة ، وذكرُ «أو واحدة منهنّ» للإشارة إلى تلازم الثلاث ، فالعلم بتحقّق واحدة منهنّ كاف في العلم بتحقّق الاثنتين والثلاث .

(فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُنَّ فَجَلَسَ ، فَهُوَ أَحْمَقُ) .

الموصول عبارة عن مدّعي الإمامة ، ولم يكن للسلب الكلّي أو السلب الجزئي . والمآل واحد ؛ لأنّ الثلاث متلازمة . والأحمق : السفيه الجاهل .

(وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهماالسلام : إِذَا طَلَبْتُمُ الْحَوَائِجَ)؛ بكسر الهمزة جمع «حاجة» على غير قياس ، أو كأنّهم جمعوا حائجة . والمراد ما تحتاجون إليه من مسائل الدِّين ، ويمكن أن يحمل على الأعمّ منها .

(فَاطْلُبُوهَا مِنْ أَهْلِهَا) أي المتأهّلين لطلبها منهم .

(قِيلَ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، وَمَنْ أَهْلُهَا؟ قَالَ : الَّذِينَ قَصَّ) ؛ من باب نصر ، أي بيّنهم .

(اللّه ُ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُمْ) ؛ بتخفيف الكاف من الذكر بمعنى الثناء ؛ أي أثنى عليهم ، أو بمعنى الحفظ أو خلاف النسيان . ويحتمل التشديد ، أي نسبهم إلى الذكر أو جعلهم ذاكرين ؛ فإنّ التذكّر لا يكون إلاّ بتذكير اللّه وتوفيقه له .

(فَقَالَ) في سورة الرعد وسورة الزمر :

(«إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) للفرق بين إمام الهدى وإمام الضلالة .

(أُولُوا الْأَلْبابِ»(1)). هم شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام، كما مرّ في شرح أوّل هذا الحديث .

(قَالَ) أي الحسن بن عليّ عليهماالسلام :

ص: 234


1- . الرعد 13 : 19 ؛ الزمر (39) : 9 .

(هُمْ) أي اُولوالألباب في الآية ، أو الذين قصّ اللّه ، أو أهلها .

(أُولُو الْعُقُولِ) . فيه النهي عن طلب الحاجة من المخالفين ، بناءً على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه .

(وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : مُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ دَاعِيَةٌ إِلَى الصَّلاحِ ، وَآدابُ(1) الْعُلَمَاءِ) أي رعاية الآداب مع العلماء ، أو مشاهدة الآداب من العلماء .

(زِيَادَةٌ فِي الْعَقْلِ) أي سبب لزيادة العقل .

(وَطَاعَةُ وُلاَةِ) ؛ بضمّ الواو جمع «الوالي» : الأمير . (الْعَدْلِ تَمَامُ الْعِزِّ) أي في الدنيا والآخرة .

(وَاسْتِثْمَارُ الْمَالِ) أي استنماؤه (تَمَامُ الْمُرُوءَةِ) ؛ لأنّ المؤمن الغنيّ يعين الفقراء ، والمحتاج يلقي ثقله على غيره ، ويذلّ .

(وَإِرْشَادُ الْمُسْتَشِيرِ) أي طالب المشورة (قَضَاءٌ لِحَقِّ النِّعْمَةِ) أي نعمة اللّه عليه بجعله من أهل المشورة ، أو نعمة المستشير حيث عدّه من أهل المشورة .

(وَكَفُّ الْأَذى) ؛ بالهمزة والمعجمة المفتوحتين والقصر مصدر آذاه يؤذيه أذىً وأذاةً وأذيّةً ، قيل : ولا تقل : إيذاءً أي فعل به المكروه اليسير ، ويقال : أذِيَ به كرضي أذىً ، أي تأذّى به(2) . والمراد صرف أذى نفسه عن الناس .

(مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ) . استثنى من هذا النكير على المنكر لوجوبه شرعاً .

(وَفِيهِ رَاحَةً لِلْبَدَنِ(3) عَاجِلاً) ؛ حيث لا يبغضه أحد . (وَآجِلاً) بالثواب على ذلك .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ لاَ يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ) . استثنى من ذلك تبليغ أوامر

ص: 235


1- . في الكافي المطبوع جديدا : «إدْآب» . والإدآب مصدر من الدأب، وهو بمعنى الجدّ والتعب والعادة والملازمة والدوام. والأنسب في المقام الملازمة والدوام، يعنى الإلحاح والسؤال المتتابع والإصرار في ملازمتهم والتشرّف بخدمتهم. راجع: شرح المازندراني، ج 1، ص 243؛ الصحاح، ج 1، ص 123؛ لسان العرب، ج 1، ص 368؛ مجمع البحرين، ج 2، ص 54 دأب. وراجع أيضا كلام المحقق الشعراني في هامش الوافي، ج 1، ص 94.
2- . لسان العرب ، ج 14 ، ص 27 ؛ القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 298 ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 149 أذى .
3- . في الكافي المطبوع : «راحةُ البدن» .

الشرع ونواهيه ونحو ذلك ؛ ففي سورة آل عمران : «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ»(1) .

(وَلاَ يَسْأَلُ مَنْ يَخَافُ مَنْعَهُ) أي ترك إنجاح سؤاله .

(وَلاَ يَعِدُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ) أي(2) ما ليس له ظنّ أنّه يقدر عليه في وقته ، فإنّه لا تكون قدرة العبد ولا العلم بها قبل وقت الفعل ، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

(وَلاَ يَرْجُو مَا يُعَنَّفُ) ؛ بصيغة المجهول ؛ من التعنيف أو الإعناف ، وهو اللؤم والتعيير .

(بِرَجَائِهِ ، وَلاَ يُقْدِمُ) . الإقدام على الشيء إرادته والشروع فيه .

(عَلى مَا يَخَافُ فَوْتَهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ) أي ما يَشُمّ منه رائحة العجز عنه .

الثالث عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عليه السلام : العَقْلُ غِطَاءٌ)؛ بالمعجمة المكسورة: ما يستر به. والمراد أنّ العقل ساتر لما لا ينبغي أن يظهر.

(سَتِيرٌ) أي مستور ، نظير قوله تعالى : «حِجَابا مَسْتُورا»(3) أي حجابا غير ظاهر على الناس ، أو حجابا عليه حجاب ، والأوّل مستور بالثاني ، يراد بذلك كثافة الحجاب .

(وَالْفَضْلُ) أي الجود بالمال .

(جَمَالٌ ظَاهِرٌ ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ) ؛ بالضمّ وبضمّتين : السجيّة والطبع والمروءة . والمراد هنا العقل ، أي إن كان في عقلك خلل في معاشرة الناس فاستره .

(بِفَضْلِكَ) ؛ كما يجيء في التاسع والعشرين من الباب من قوله : «والجود بالمال نجح» بضمّ النون وسكون الجيم ومهملة : الظفر بالحوائج ، أي هو من أسباب الظفر ، منه في شرح الحديث المذكور .(4)

ص: 236


1- . آل عمران 3 : 184 .
2- . في «ج» : «أن» .
3- . الإسراء (17) : 45 .
4- . قوله «بضم النون» إلى هنا ليس في «ج ، د» .

(وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ) . المقاتلة - بالقاف والمثنّاة(1) - : المدافعة . الهوى - بفتح الهاء والقصر - : إرادة النفس الأمّارة بالسوء ، كما في آية سورة ص : «وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(2) وآية سورة النازعات : «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(3) ، لمّا كان الهوى أعدى عدوّ - كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب اتّباع الهوى» وهو السابع والثلاثون والمائة - وكان العقل أصدق صديق - كما مرّ في رابع الباب - أمر بمدافعة الهوى بالعقل .

(تَسْلَمْ) . من باب علم ، أي تخلُص من الغشّ والآفة ؛ وهو مجزوم في جواب الأمرين .

(لَكَ الْمَوَدَّةُ) ؛ بفتح الميم : المحبّة ، إلاّ أنّ المودّة في القلب ، والمحبّة في الظاهر .

(وَتَظْهَرْ لَكَ الْمَحَبَّةُ) . المراد أنّ مجموع المودّة والمحبّة من الناس لك يترتّب على مجموع ستر الخلل ومقاتلة الهوى .

الرابع عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ) ؛ بالمهملة المفتوحة . (عَنْ سَمَاعَةَ) ؛ بفتح المهملة . (بْنِ مِهْرَانَ) ؛ بكسر الميم وسكون الهاء ومهملة .

(قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوَالِيهِ ، فَجَرى ذِكْرُ الْعَقْلِ) أي رعاية الآداب الحسنة لتحصيل علم الدِّين والعمل به بقدر الوسع .

(وَالْجَهْلِ) أي الإخلال بالآداب الحسنة المذكورة في حدّ العقل .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اعْرِفُوا الْعَقْلَ وَجُنْدَهُ، وَالْجَهْلَ وَجُنْدَهُ ، تَهْتَدُوا) . المراد بمعرفة العقل والجهل تأدية حقّهما ، وهو مجاورة الأوّل ومجانبة الثاني بقرينة التعبير عن معرفة الجهل في آخر الحديث بمجانبة الجهل .

والجُند - بضمّ الجيم وسكون النون - : الأعوان والأنصار . والمراد هنا اُمور

ص: 237


1- . في «د، ج» : «بقاف ومثناة» .
2- . ص 38 : 26 .
3- . النازعات 79 : 40 - 41 .

يستتبعها العقل ، واجتماعها في أحد يدلّ على كمال قوّة عقله ، وفقد بعضها يدلّ على ضعف العقل بقدر المفقود منها .

(قَالَ سَمَاعَةُ : فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، لاَ نَعْرِفُ) ؛ بصيغة المتكلِّم مع الغير المعلوم من باب ضرب . (إِلاَّ مَا عَرَّفْتَنَا) ؛ بتشديد الراء .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ - عَزَّوَجَلَّ - خَلَقَ الْعَقْلَ) . مضى في شرح أوّل الباب أنّ الخلق التقدير والتدبير ، وهو أعمّ من التكوين .

(وَهُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ) أي أوّل مخلوق .

(مِنَ الرَّوْحَانِيِّينَ) ؛ بفتح الراء جمع «روحاني» بفتح الراء نسبةً إلى الروح بضمّ الراء بزيادة الألف والنون ، تقول لكلّ شيء له مكانة ونفاسة : «رَوحاني» بالفتح ، أي طيّب . وقيل : إنّ النسبة إلى الملائكة ، والجِنّ روحاني بضمّ الراء ، أي لطيف لا يبصر .(1)

(عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ) . يستعمل من جملة ظروف المكان اليمين والشمال ب- «عن» ، والفوق والتحت والقدّام والخلف بمن كما في الدعاء : «اللّهُمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته»(2) . فقيل : المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنّما يفتش عن صحّة موقعها فقط .(3) انتهى .

وسألت أديبا(4) عن ذلك ، فقال :

أصله أنّ السالك لطريق في سفره لا يخرج عن طريقه بالتقدّم والتأخّر والصعود على العقبات والنزول ، ويخرج عنه بالتيامن والتياسر ، وكذا من يرافقه(5) أو يلاقيه ، فإنّ من هو بين يديه أو خلفه أو فوقه أو تحته سالك لطريقه غير خارج عنه ، وقد يصل إليه

ص: 238


1- . الصحاح ، ج 1 ، ص 367 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 463 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 247 روح .
2- . كمال الدين ، ج 2 ، ص 512 ، ح 43 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 409 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 183 ؛ تأويل الآيات ، ص 444 .
3- . الكشاف للزمخشري ، ج 2 ، ص 71 ؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، ج 4 ، ص 277 .
4- . في حاشية «أ» : «هو الشيخ محمد ...» .
5- . في «ج» : «يوافقه» .

بخلاف مَن على يمينه أو يساره ، فلفظة «عن» موضوعة للبُعد والمجاوزة ، وهي أنسب بالخارج عن طريقه ، ولفظة «من» موضوعة لمحض الابتداء ، فهي أنسب بمن يصل إليه ، وهو مَن على طريقه وإن كان كلاهما هنا بمعنى «في». انتهى .

وقيل في قوله تعالى في سورة الأعراف : «ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ»(1) إنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنّه منهما متوجّه إليهم ، وإلى الآخرين بحرف المجاوزة ؛ فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عرضهم ، ونظيره قولهم : جلست عن يمينه .(2) انتهى .

وقيل(3) :

«عن» قد تكون اسما بمعنى جانب ، وذلك متعيّن إذا دخل(4) عليها «من» وهو كثير كقوله :

فلقد أراني للرماح دريئةً *** من عَنْ يميني مرّة وأمامي

ويحتمله عندي ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ.(5) فتقدّر معطوفة على مجرور «من» ، لا على «من» ومجرورها ، و«من» الداخلةُ على «عن» زائدة عند ابن مالك ، ولابتداء الغاية عند غيره ، قالوا : فإذا قيل : قعدت عن يمينه ، فالمعنى في جانب يمينه ، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها ، فإن جئت ب- «من» تعيّن كون القعود ملاصقا لأوّل الناحية .(6) انتهى .

الدريئة - بفتح الدال المهملة وكسر الراء المهملة وسكون الخاتمة والهمز وبشدّ الخاتمة بلا همز - : الحلقة التي يتعلّم عليها الطعن والرمي .(7)

والمراد بالعرش سلطنته تعالى على كلّ مخلوق ، ويمين العرش عبارة عن الماء

ص: 239


1- . الأعراف 7 : 17 .
2- . تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 11 ؛ تفسير أبي السعود ، ج 3 ، ص 219 .
3- . في حاشية «أ» : «القائل ابن هشام في مغني اللبيب منه» .
4- . في «ج» : «ادخل» .
5- . الأعراف 7 : 17 .
6- . مغني اللبيب ؛ ج 1 ، ص 199 ؛ وفي طبعة اخرى ، ص 149 .
7- . معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 273 درى .

العذب الفرات الذي خلق منه المؤمنون والجنّة وأمثالهما ، فشمال العرش الماء الملح الاُجاج الذي خلق منه الكافرون والنار وأمثالهما ، قال تعالى في سورة هود : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب التوحيد» في سابع «باب العرش والكرسيّ» ، وفي «كتاب الحجّة» في شرح الثاني من «باب نادر فيه ذكر الغيب» .

(مِنْ نُورِهِ)(2) ؛ الضمير للّه ، والمراد بنوره ما خلق منه المؤمنون من جملة يمين العرش ، كما يجيء في الثامن عشر والعشرين من الباب العشرين .(3)

إن قلت : العقل عرض لا يمكن أن يكون أوّل مخلوق ؛ لأنّ محلّه مقدّم عليه ، وأيضا ينافي ما روي أنّ أوّل مخلوق الماء .(4)

قلت : ليس المراد بالأوّليّة هنا التقدّم الذاتي ولا الزماني ، بل المراد التقدّم بالرتبة ، ولمّا كان فائدة تكوين الماء ومحلّ العقل تكوينَ العقل ، وهما تمهيد له ، فأوّل مدبّر بالرتبة العقل المكرَّم على جميع خلقه ، ولا ينافي هذا كون الماء أوّل مكوّن زمانا .

(فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ؛ فَأَقْبَلَ) . مضى شرح ذلك في أوّل الباب ، وبيّنّا أنّ «ثمّ» هنا للتراخي في الزمان .

(فَقَالَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى : خَلَقْتُكَ خَلْقا عَظِيما ، وَكَرَّمْتُكَ عَلى جَمِيعِ خَلْقِي . قَالَ : ثُمَّ خَلَقَ الْجَهْلَ مِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ) ؛ بضمّ الهمزة : المالح الشديد المُلوحة المُرّ ، وهو ناظر إلى قوله : عن يمين العرش .

(ظُلْمَانِيّا) . منسوبٌ إلى الظلمة بزيادة الألف والنون ، وهو حال مقيّدة عن البحر الاُجاج ، وعبارة عمّا خلق منه الكافرون من جملة البحر الاُجاج ، فهو ناظر إلى قوله : «من نوره» .

ص: 240


1- . هود 11 : 7 .
2- . في حاشية «أ» : «من نور ذاته الذي هو عين ذاته» .
3- . أي في الحديث 18 و 20 من باب البدع والرأي والمقاييس .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 94 ، ح 67 ؛ التوحيد للصدوق ، ص 67 ، ح 20 . وعنهما في بحارالأنوار ، ج 54 ، ص 66 ، ح 43 ؛ و ص 96 ، ح 81 .

إن قلت : لا يمكن خلق العرض من الجوهر كما لا يمكن العكس .

قلت : هذا مبنيّ على نوع من المجاز ، نظير العكس في قوله تعالى في سورة الأنبياء : «خُلِقَ الاْءِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ»(1) ، والمقصود أنّ العقل مناسب لجوهر المؤمن وقويّ فيه كأنّه مخلوق ممّا خلق منه ، وكذا الجهل مناسب لجوهر الكافر .

(فَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَلَمْ يُقْبِلْ) . هذا كما في نظيره في العقل استعارة تمثيليّة ، والمقصود أنّه أفضى بصاحبه إلى ترك الإيمان بالغيب ، وذلك بالإعجاب بفكر نفسه في دقيق الأشياء وجليلها ، والاتّكال على ذهنه ، وترك الإقبال على اللّه

تعالى بالتلقّي عنه بطرق الأنبياء وأهل الذِّكر عليهم السلام في أحكامه تعالى .

(فَقَالَ لَهُ : اسْتَكْبَرْتَ) . إمّا بفتح الهمزة للاستفهام وحذف همزة الوصل في الخطّ أيضا ، وإمّا بكسرها ، أي وضعت صاحبك في مرتبةٍ فوق مرتبته بالاتّكال عليه في كلّ مسألة ، وذلك استكبار على اللّه ورسوله وأهل الذِّكر عليهم السلام ، والمراد أنّ من تبعك مستكبر بك .

(فَلَعَنَهُ) - كمنعه - : طرده وأبعده ؛ أي فلعن مَن تبعه .

(ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْدا) . الجند : الأعوان والأنصار كما مرّ ، ولا يقال لواحد منها ولا اثنين : جند ؛ فقوله : «جندا» ، ليس مميّزا للعدد ، ومميّزه محذوف ، أي مُعينا ؛ فهو صفة أو عطف بيان للعدد ، كقوله تعالى في سورة الكهف : «ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ»(2) فالظرف مستقرّ هو مفعولٌ ثانٍ ، ويوافق هذا قوله فيما بعد : «فأعطاه» إلى آخره وقوله : «الجند» .

(فَلَمَّا رَأَى الْجَهْلُ مَا أَكْرَمَ اللّه ُ بِهِ الْعَقْلَ وَمَا أَعْطَاهُ ، أَضْمَرَ لَهُ الْعَدَاوَةَ ، فَقَالَ الْجَهْلُ : يَا رَبِّ ، هذَا خَلْقٌ مِثْلِي) أي هو مخلوق لمصلحة التكليف ، كما أنّي مخلوق لها .

(خَلَقْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَقَوَّيْتَهُ ، وَأَنَا ضِدُّهُ وَلاَ قُوَّةَ لِي بِهِ) أي لا مضايقة في التكريم له ، إنّما المضايقة في تقويته وترك تقويتي ، بحيث يتأتّى منّي المضادّة ، ويتصحّح ابتلاؤك للمكلَّفين .

ص: 241


1- . الأنبياء 21 : 37 .
2- . الكهف 18 : 25.

(فَأَعْطِنِي مِنَ الْجُنْدِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَإِنْ عَصَيْتَ بَعْدَ ذلِكَ) . معنى العصيان هنا أن يجعل صاحبه ممّن شرّه أقوى من خيره ، أو ممّن لا خير فيه ، وهذا مبنيّ على أنّ العقل والجهل قد يجتمعان في مكلّف من جهتين ، وهو المكلّف الذي ليس نبيّا ولا وصيّا ولا مؤمنا امتحن اللّه قلبه للإيمان ، كما يجيء في أواخر الحديث ؛ يعني فالشرط عليك أنّك إن عصيت بعد ذلك الإعطاء والتقوية .

(أَخْرَجْتُكَ) . الإخراج إمّا ناظر إلى قوله تعالى في سورة المؤمنين : «أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ»(1) ، فإنّ المرويّ أنّ اللّه خلق لكلّ مكلّف منزلاً في الجنّة ، وينتقل منازل أهل النار في الجنّة إلى المؤمنين(2) ، وإمّا مبنيّ على أنّ العُصاة مرحومون في الدنيا .

(وَجُنْدَكَ) . الواو بمعنى «مع» أي لا يدفع جندك عنك استحقاق الإخراج .

(مِنْ رَحْمَتِي) أي من دار رحمتي ، وهي الجنّة ، أو من النعمة التي كانوا عليها في الدنيا .

(قَالَ : قَدْ رَضِيتُ ، فَأَعْطَاهُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْدا) ؛ كلّ واحد منها ضدّ لواحد من جند العقل . وجميع ذلك من الاستعارة التمثيليّة ، والمقصود أنّه تعالى خلق بحكمته الكاملة وعلمه الشامل قوّتين داعيتين ؛ إحداهما العقل ، وهو الداعي إلى الخير ، والاُخرى الجهل ، وهو الداعي إلى الشرّ وخلق صفات حميدة تقوّي العقل في دعائه إلى الخير ، وهي خمسة وسبعون ، وخلق ضدّها من رذائل تقوّي الجهل في دعائه إلى الشرّ ، وهي أيضا خمسة وسبعون ، وكتب على نفسه الرحمة لأهل العقل ، وشرط استحقاق الإخراج من الرحمة لأهل الجهل ، وهذا الشرط بيان لبطلان زعم المعتزلة أنّ تقوية جانب المعصية في المكلّف الذي علم تعالى أنّه يفضي به بدون جبر إلى المعصية ينافي العدل واستحقاق العقاب ، لأنّه ضدّ اللطف الواجب عليه تعالى

ص: 242


1- . المؤمنون 23 : 10 - 11 .
2- . مجمع البيان ، ج 7 ، ص 178 ؛ بحارالأنوار ، ج 8 ، ص 91 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1453 ، باب صفة الجنّة ، ح 4341 ؛ تفسير السمعاني ، ج 3 ، ص 464 .

عندهم ، ولزعم الأشاعرة أنّ عقاب العُصاة ليس باستحقاق(1) ، وسيجيء تفصيل ذلك في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» .

(فَكَانَ مِمَّا أَعْطَى الْعَقْلَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَالسَّبْعِينَ الْجُنْدَ : الْخَيْرُ ، وَهُوَ وَزِيرُ الْعَقْلِ ، وَجَعَلَ ضِدَّهُ الشَّرَّ ، وَهُوَ وَزِيرُ الْجَهْلِ . وَالاْءيمَانُ وَضِدَّهُ الْكُفْرَ ، وَالتَّصْدِيقُ وَضِدَّهُ الْجُحُودَ) . الفاء للتعقيب ، والمراد أنّ إعطاء هذه الثلاثة وأمثالها بعد إعطاء الخمسة والسبعين الجند ، ف- «من» في قوله : «ممّا أعطى» تبعيضيّة ، وفي قوله : «من الخمسة» للسببيّة . وقوله : «الخير» مرفوع أو اسم كان ، والإيمان والتصديق مرفوعان للعطف على الخير ، وما بعد الخير من الجمل معترضة .

والمراد بالخير والشرّ أن ينفع الناس وأن يضرّ بهم ، ومضى في ثاني عشر الباب : «الكفر والشرّ منه مأمونان ، والرشد والخير منه مأمولان» .

والوزير والموازِر : المعاون الذي عليه المدار ، والمراد بالضدّ المنافرُ جدّا ، وهو أخصّ من النقيض ، والمراد بالإيمان الطوعُ القلبي للّه ولرسوله ولجميع(2) ما جاء به ، وقد يستعمل في الإتيان بجميع الفرائض ، والاجتناب عن كلّ كبيرة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(3) البدن كلّها» . والكفر أصله الشرّ ، والمراد هنا ظاهر بالمقابلة .

والمراد بالتصديق الإقرار القولي أو الفعلي بصدق اللّه ورسوله في جميع ما جاء به ، وقد يستعمل في الكون مع الصادقين ، وهم أئمّة الهدى المعصومون ، أي الايتمار والانتهاء بأمرهم ونهيهم إطاعةً لقوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(4) ، والجحود - بضمّ الجيم والمهملة - مصدر جحده حقّه وبحقّه

ص: 243


1- . تفصيل هذا البحث في شرح المقاصد ، ج 5 ، ص 126 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 306 ؛ معارج الفهم ، ص 583 ؛ مناهج اليقين ، ص 505 .
2- . في «ج» : «جميع» .
3- . في النسخ : «بجوارح» والمثبت موافقا للمصدر .
4- . التوبة 9 : 119 .

- كمنعه - : إذا أنكره مع علمه .

(وَالرَّجَاءُ) ؛ بفتح المهملة والمدّ منصوب ، لأنّ الواو بمعنى «مع» ونظائره بعده منصوبات بالعطف عليه ، والجمل بعد كلّ واحد منها معترضة ، وهذا أوّل الخمسة والسبعين الجند .

والجمهور على أنّ «من» في قوله : «من الخمسة» بيانيّة لما ، وأنّ الواو هنا عاطفة فاحتاجوا إلى تكلّفات ، كما سنذكره في ذيل شرح هذا الحديث .

(وَضِدَّهُ الْقُنُوطَ) ؛ بضمّ القاف والنون و(1)المهملة ، مصدر قنط - كنصر و ضرب وحسب وحسن(2) - والفرق بين الرجاء والطمع أنّ الرجاء ما في القلب من التوقّع ، سواء أظهره صاحبه أم لا ، والطمع إظهار الرجاء باللسان ونحوه ، وكلّ منهما إن كان من اللّه تعالى كان محمودا ومن جنود العقل ، وإن كان من الخلق كان مذموما كما في «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام وهي خطبة الوسيلة من قوله عليه السلام : «فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص» .(3)

وقد يُقال : الطمع أشدّ الرجاء ، وفيه مسامحةٌ مبنيّة على أنّه يستلزم شدّة الرجاء ، وعلى هذا يقال : القنوط أشدّ اليأس كما في نهاية ابن الأثير(4) . ويوافق هذا الترقّي في سورة حم السجدة : «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ»(5) ، ويعدّ كلّ من القنوط من رحمة اللّه والإياس من روح اللّه كبيرة على حدة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في عاشر «باب الكبائر» . وسنبيّن وجهه إن شاء اللّه تعالى .

(وَالْعَدْلُ) في الحكم والقسمة .

(وَضِدَّهُ الْجَوْرَ وَالرِّضَا) ؛ بكسر المهملة والقصر ، مصدر رضيه - كعلمه - وبه وهنه

ص: 244


1- . في «د» : - «و» .
2- . في «د» : - «وحسن» .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 21 ، ح 4 .
4- . النهاية ، ج 4 ، ص 113 قنط .
5- . السجدة 32 : 49 .

وغلبه(1) . والمراد الرضا بالقضاء .

(وَضِدَّهُ السُّخْطَ) ؛ بالضمّ و كجبل وعنق .

(وَالشُّكْرُ) على النعمة .

(وَضِدَّهُ الْكُفْرَانَ ، وَالطَّمَعُ وَضِدَّهُ الْيَأْسَ) . مضى معناهما .

(وَالتَّوَكُّلُ) هو أن يفوّض الأمر إلى اللّه في الرزق ونحوه ، فيقتصد في طلبه ، أو أمرا إلى الغير مطلقا .

(وَضِدَّهُ الْحِرْصَ) . الذي في النسخ بالحاء المهملة المكسورة والراء المهملة الساكنة والصاد المهملة ، والمراد به هنا تكلّف مشاقّ الاُمور في طلب الرزق ونحوه من اُمور الدنيا لترك الاعتماد على وكيل ، وهو من فعل الجوارح بقرينة أنّ التوكّل من الوكل ، وهو الترك للفعل لإظهار العجز والاعتماد على اللّه ، أو على الغير مطلقا .

وأمّا ضدّ القنوع فالحرص بمعنى الأمر القلبي ، وهو الهمّ والحزن على فوت الزائد .

وقيل(2) في ضدّ التوكّل : هو بالحاء المهملة المفتوحة والراء المهملة المفتوحة والضاد المعجمة ، ومعناه الهمّ بالشيء والحزن له والوجد عليه وتقسّم البال في التوصّل إليه ، وذلك أنّ المهملة ضدّ القنوع .(3) انتهى .

(وَالرَّأْفَةُ) ؛ بفتح المهملة وسكون الهمز ؛ من رأف ك-نصر ومنع وعلم ، أو مصدر(4) ما كعلم الرأف(5) محرّكة هي تأثّر القلب عن وصول أذى إلى الغير .

(وَضِدَّهَا الْقَسْوَةَ) ؛ بالفتح : شدّة القلب وصلابته .

(وَالرَّحْمَةُ)؛ بالفتح وبفتحتين من باب علم : ميل القلب إلى إيصال النفع إلى الغير .

(وَضِدَّهَا الْغَضَبَ) ؛ بفتحتين ؛ من غضب عليه كعلم : إذا مال إلى إيصال الأذى إليه ،

ص: 245


1- . في «ج ، د» : «عليه» .
2- . القائل: السيد الداماد .
3- . حكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 1 ، ص 224 ، عن سيد الحكماء الإلهيين السيد الداماد .
4- . في حاشية «أ» : «مبتدأ» .
5- . في حاشية «أ» : «خبر» .

وقيل : الرأفة أرقّ من الرحمة ، ولا تكاد تقع في الكراهة والرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة .(1) انتهى .

(وَالْعِلْمُ) أي العمل بمقتضى العلم ، ومضى في ثاني عشر الباب في قول لقمان «ودليلها العلم» .

(وَضِدَّهُ الْجَهْلَ) أي العمل بمقتضى الظنّ والاعتقاد المبتدأ .

(وَالْفَهْمُ) ؛ بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها ، مصدر باب علم : حسن المعاشرة مع الناس .

(وَضِدَّهُ الْحُمْقَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم وضمّها ؛ من باب حسن : قبح المعاشرة مع الناس .

(وَالْعِفَّةُ) ؛ بالكسر : كفّ النفس عمّا تُلام عليه .

(وَضِدَّهَا التَّهَتُّكَ)؛ هو هتك ستر النفس .

(وَالزُّهْدُ) ؛ بالضمّ ؛ من زهد فيه وعنه - كعلم ومنع - : ضدّ الرغبة ، أي في الدنيا ولذّاتها .

(وَضِدَّهُ الرَّغْبَةَ) بالفتح ؛ من رغب فيه كعلم : إذا أراده .

(وَالرِّفْقُ) ؛ بالكسر الاسم من رفق(2) به وعليه مثلّثة : إذا لم يعنف به .

(وَضِدَّهُ الْخُرْقَ) ؛ بضمّ المعجمة وسكون المهملة والقاف ، الاسم من خرق - كعلم - خرقا بفتحتين : إذا عنُف .

(وَالرَّهْبَةُ) ؛ بالفتح من رهب - كعلم - أي خاف من المضرّات .

(وَضِدَّهَا الْجُرْأَةَ) ؛ بالضمّ ؛ من باب حسن : الإقدام على المهالك .

(وَالتَّوَاضُعُ) أي الانقياد للحقّ ، كما مضى في ثاني عشر الباب في قول لقمان : «تواضع للحقّ تكن أعقل الناس» .

(وَضِدَّهُ الْكِبْرَ) ؛ بالكسر من باب حسن ، أي الإعجاب بالرأي .

ص: 246


1- . النهاية ، ج 2 ، ص 176 رأف .
2- . في «ج» : + «منه» .

(وَالتُّؤدَةُ) ؛ بضمّ المثنّاة فوقُ وفتح الهمزة والمهملة ، أي التأنّي في الاُمور .

(وَضِدَّهَا التَّسَرُّعَ ، وَالْحِلْمُ) ؛ بالكسر من باب حسن : احتمال الأذى من الغير .

(وَضِدَّهُ السَّفَهَ) ؛ بفتحتين : أن لا يحتمل أذىً أصلاً ، وأصله الخفّة والحركة ؛ من سفه عليه - كعلم وحسن - : إذا طاش .

(وَالصَّمْتُ) ؛ بالفتح من باب نصر : السكوت عمّا لا طائل تحته ، أو عمّا نفعه سهل لا يعارض حسن السكوت . ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب الصمت وحفظ اللسان» : «إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضّة فإنّ السكوت من ذهب» .

(وَضِدَّهُ الْهَذَرَ) ؛ بفتح الهاء وسكون المعجمة ومهملة ، مصدر باب نصر وضرب : الهذيان .

(وَالاِسْتِسْلاَمُ) أي ترك النزاع ، وأصله طلب السِّلم بالكسر بمعنى الصُلح .

(وَضِدَّهُ الاِسْتِكْبَارَ) أي النزاع ، وأصله أنّ المنازع يطلب من خصمه أن يتعظّم حتّى يكسره بقوّته .

(وَالتَّسْلِيمُ) أي الرضا والقبول لما هو على خلاف رأيه ممّا يصدر عن الأئمّة مثلاً ، ولا يُعرف وجهه ، كما يجيء في «باب التسليم وفضل المسلمين» من «كتاب الحجّة» .(1)

(وَضِدَّهُ الشَّكَّ) . هو أن يكون في النفس حرج ممّا قضى اللّه أو رسوله أو أهل بيته .

(وَالصَّبْرُ) على النوائب .

(وَضِدَّهُ الْجَزَعَ) ؛ بفتحتين من باب علم .

(وَالصَّفْحُ) ؛ بالفتح من باب منع ، أي العفو عن المسيء صفحا جميلاً .

(وَضِدَّهُ الاِنْتِقَامَ وَالغِناء) ؛ بفتح المعجمة والنون وهو ممدود وإذا كسر قصر ، والمراد غناء النفس عمّا في أيدي الناس .

(وَضِدَّهُ الْفَقْرَ ، وَالتَّذَكُّرُ) أي التنبيه للطائف الاُمور كقوله تعالى : «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(2) .

ص: 247


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 390 ، باب التسليم وفضل المسلمين .
2- . البقرة 2 : 269 ، آل عمران (3) : 7 .

(وَضِدَّهُ السَّهْوَ) ؛ بالفتح : الغفلة .

(وَالْحِفْظُ) ؛ بالكسر من باب علم ؛ أي لمّا عُلِم من الحقائق .

(وَضِدَّهُ النِّسْيَانَ ، وَالتَّعَطُّفُ) : الإشفاق .

(وَضِدَّهُ الْقَطِيعَةَ) ؛ بفتح القاف وكسر المهملة : القطع ، وهو الهجران .

(وَالْقُنُوعُ) ؛ بضمّتين : الرضا بالقَسم .

(وَضِدَّهُ الْحِرْصَ) ؛ بالكسر .

(وَالْمُؤاسَاةُ) ؛ بضمّ الميم وفتح الهمز ، والاُسوة بالكسر وبالضمّ : ما يأتسي به الحزين ، أي يتعزّى به ، والقدوة ، يقال : آسيته بمالي بالهمز والألف - وواسيته لغة - أي أنَلتُهُ منه بقدر ما يأتسي به ويتسلّى . والمراد المعاونة بالمال كالقرض .

(وَضِدَّهَا الْمَنْعَ ، وَالْمَوَدَّةُ) ؛ بفتح الميم وفتح الواو وشدّ المهملة هي الحبّ ، إلاّ أنّها باعتبار الباطن ، والحبّ باعتبار الظاهر .

(وَضِدَّهَا الْعَدَاوَةَ) ؛ بفتح العين والدال المهملتين، والفرق بينها وبين البغض كالفرق بين المودّة والحبّ بقرينة ما مرّ من قوله : «أضمر له العداوة» .

(وَالْوَفَاءُ) بالعهد (وَضِدَّهُ الْغَدْرَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة .

(وَالطَّاعَةُ) لوليّ الأمر .

(وَضِدَّهَا الْمَعْصِيَةَ ، وَالْخُضُوعُ) . وهو خفض الرأس للتذلّل .

(وَضِدَّهُ التَّطَاوُلَ) . هو رفع الرأس للتعزّز .

(وَالسَّلاَمَةُ)(1) أي ترك إلقاء الثقل على الناس .

(وَضِدَّهَا الْبَلاَءَ) ؛ بفتح الموحّدة والمدّ : المحنة ، أي إلقاء الثقل على الناس .

(وَالْحُبُّ وَضِدَّهُ الْبُغْضَ ، وَالصِّدْقُ وَضِدَّهُ الْكَذِبَ ، وَالْحَقُّ) أي الميل إلى الحقّ وإلى ترويجه .

ص: 248


1- . لعلّ المراد سلامة الناس منه كما ورد في الحديث : المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، ويراد بالبلاء ابتلاء الناس به وإلاّ فالبلاء موكّل بالأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل . منه رحمه اللّه .

(وَضِدَّهُ الْبَاطِلَ) أي الميل إلى الباطل وإلى ترويجه .

(وَالْأَمَانَةُ) ؛ بفتح الهمزة من أمُن كحسن ، فهو أمين مأمون : ثقة ، ويقال : أمنه - كعلمه - أمانة : إذا لم يخفه على شيء .

(وَضِدَّهَا الْخِيَانَةَ) ؛ بكسر المعجمة من باب نصر : أن يُؤتَمن فلا يَنصَح .

(وَالاْءِخْلاَصُ) . هو فوق ما سيجيء من الحقيقة .

(وَضِدَّهُ الشَّوْبَ) ؛ بفتح المعجمة من باب نصر : الخلط .

(وَالشَّهَامَةُ) ؛ بفتح المعجمة مصدر شهم - كحسن - : إذا كان له سرعة تصوّر المبادي عند إرادة الفكر ، يُقال : رجلٌ شَهَم بالفتح أي جَلْد ذكيّ الفؤاد .

(وَضِدَّهَا الْبَلاَدَةَ) ؛ بفتح الموحّدة من باب حسن : بطؤ الذهن وكلاله عن تصوّر المبادي .

(وَالْفَهَمُ) ؛ بفتح الفاء وفتح الهاء أو سكونها مصدر باب علم : حسن الانتقال من المبادي إلى المطالب في القضايا التي لا تتعلّق بالمعاشرة مع الناس .

(وَضِدَّهُ الْغَبَاوَةَ) ؛ بفتح المعجمة والموحّدة مصدر باب علم : الغفلة وخمود الذهن . والجمهور يحكمون بزيادة إحدى فقرتي الفهم من الناسخين كما سننقله .

(وَالْمَعْرِفَةُ) . هي الاعتراف بفضل أهل الفضل ، كما في سورة النساء : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(1) .

(وَضِدَّهَا الاْءِنْكَارَ ، وَالْمُدَارَاةُ) أي الملائنة ، يهمز ولا يهمز ، تقول : دارأته وداريته : إذا اتّقيته ولاينته . وأمّا المداراة بمعنى المخالفة والمدافعة فبالهمز لا غير .

(وَضِدَّهَا الْمُكَاشَفَةَ) أي التصريح بالمكروه .

(وَسَلاَمَةُ الْغَيْبِ) ؛ يقال لها : حفظ الغيب أيضا ، وهي أن يكون في غيبة الشخص كحضوره .

(وَضِدَّهَا الْمُمَاكَرَةَ ، وَالْكِتْمَانُ) ؛ بكسر الكاف من باب نصر ، أي الإخفاء للسرّ ، سواء

ص: 249


1- . النساء 4 : 54 .

كان من جنس الحديث أو غيره .

(وَضِدَّهُ الاْءِفْشَاءَ ، وَالصَّلاَةُ) أي حفظ حدودها وأوقاتها .

(وَضِدَّهَا الاْءِضَاعَةَ ، وَالصَّوْمُ) أي حفظ حدوده وشروطه .

(وَضِدَّهُ الاْءِفْطَارَ ، وَالْجِهَادُ) أي نصرة الدِّين .

(وَضِدَّهُ النُّكُولَ) ؛ بضمّتين ، يُقال : نَكَلَ عن العدوّ - كنصر - ، أي جبن .(1)

(وَالْحَجُّ وَضِدَّهُ نَبْذَ الْمِيثَاقِ) . هو الذي يجيء بيانه في أوّل «كتاب الحجّ» في «باب بدء(2) الحجر والعلّة في استلامه» . ومجمله أنّ الحجر الأسود مَلَكٌ اُلقِم الميثاق الذي أخذ اللّه على بني آدم للّه بالربوبيّة ، ولمحمّد صلى الله عليه و آله بالنبوّة ، ولعليّ عليه السلام بالوصيّة ، وكان الأخذ في هذا المكان الذي وضع الحجر فيه ، ولذا يُقال عند استلامه : «أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة» .

(وَصَوْنُ الْحَدِيثِ وَضِدَّهُ النَّمِيمَةَ) ؛ الاسم من نمّ الحديث من باب نصر وضرب : نما ، أي أشاعه إفسادا .

(وَبِرُّ) ؛ بكسر الموحّدة من باب علم وضرب : الصلة والاتّساع في الإحسان تقول : بررته وأنا بَرٌّ به بالفتح وبارٌّ به .

(الْوَالِدَيْنِ وَضِدَّهُ الْعُقُوقَ) ؛ بضمّتين .

(وَالْحَقِيقَةُ) ؛ هي الخالص الذي لا يشوبه غشّ ، ويكون في الأفعال أيضا ، كالإتيان بالمأمور به شرعا أو بالحلال شرعا على ما أمر به عليه ، أو أحلّ عليه .

(وَضِدَّهَا الرئاء)(3) ؛ بكسر المهملة وهمزة وقد تُقلب ياءً ، مصدر من باب المفاعلة من راآى : إذا أرى نفسه على خلاف ما عليه . والمقصود هنا الإتيان بالمأمور به أو بالحلال صورة وفي المرأى فقط ، فالمراد بهما ما يشمل أيضا نحوَ حقيقة البيع وما هو على صورته فقط بمكر الربا ، أي لا بالعينة التي يجيء جوازها في «باب العينة» من

ص: 250


1- . المصباح المنير ، ص 625 نكل .
2- . في النسخ : «بدو» .
3- . في الكافي المطبوع : «الرياء» .

«كتاب المعيشة» فإنّها بيع يشبه الرِّبا ، والمَكْرُ ربا يشبه البيع .

(وَالْمَعْرُوفُ وَضِدَّهُ الْمُنْكَرَ) . المراد بالمعروف : المأمور به في كلّ شريعة ، وفي محكمات كثيرة من القرآن ، وهو اتّباع العلم فيما اختلف والاجتناب عن اتّباع الظنّ والهوى والقول بغير علم . والمراد بالمنكر : المنهيّ عنه في كلّ شريعة ، وفي محكمات

القرآن ، وهو اتّباع الظنّ والهوى والقول بغير علم ؛ ففي سورة آل عمران وسورة التوبة : «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ»(1) ، وفي سورة الأعراف : «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ»(2) .

(وَالسَّتْرُ) ؛ بفتح المهملة مصدر ستره - كنصره - : إذا غطّاه ، أي إخفاء المحاسن أو الزينة عمّن لا يليق الإظهار عنده .

(وَضِدَّهُ التَّبَرُّجَ) . هو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال .

وَالتَّقِيَّةُ) . هي حفظ ما في الباطن خوفا من أن يظهر على المخالف .

(وَضِدَّهَا الاْءِذَاعَةَ ، وَالاْءِنْصَافُ) أي الاعتراف(3) لصاحب الحقّ بحقّه .(4)

(وَضِدَّهُ الْحَمِيَّةَ) ؛ بفتح المهملة وكسر الميم وشدّ الخاتمة مصدر ، حمي من كذا - كرضي - : إذا أنف منه ودخله عار وأَنَفه أن يفعله . والمراد عدُّ الاعتراف بالحقّ عارا ، كما في قوله تعالى : «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(5) . ويجيء ذمّ الحميّة في «كتاب الإيمان والكفر» في أحاديث «باب العصبيّة» .

(وَالتَّهْيِئَةُ) ؛ بفتح المثنّاة فوقُ وسكون الهاء وكسر الخاتمة وهمزة ، مصدر قولك : هيّأت الشيء بالتشديد : إذا أصلحته . والمراد أنّه إذا دعاه العدوّ قولاً أو فعلاً إلى شيء يكون فيه صلاح الطرفين رضي به .

ص: 251


1- . آل عمران 3 : 104 .
2- . الأعراف 7 : 199 .
3- . في «د» : «الإقرار» .
4- . في «أ» : «بحق» .
5- . الفتح 48 : 26 .

(وَضِدَّهَا الْبَغْيَ) ؛ بالفتح ، من باب ضرب : طلب الزيادة على الحقّ .

(وَالنَّظَافَةُ) ؛ بفتح النون والمعجمة ، من باب حسن ، أي النقاوة .

(وَضِدَّهَا الْقَذَرَ) ؛ محرّكة ، من باب نصر وعلم وحسن .

(وَالْحَيَاءُ) ؛ بالفتح والمدّ ، من باب علم .

(وَضِدَّهُ الْخَلَعَ)(1) ؛ بفتح المعجمة وسكون اللام ، يقال : خَلَع الفرس عذاره(2) - كمنع - : إذا ألقاه فهامَ على وجهه . ومنه فلان خليع ، أي شاطر قد أعيا أهله خبثا وعداءً على الناس ، كأنّ عديم الحياء خلع رسنه وأعطى نفسه هواها . ويمكن في العربيّة أن يكون بالجيم واللام المفتوحتين ، يقال : جلعت المرأة - كعلم - فهي جلعة وجالعة أيضا ، أي قليلة الحياء تتكلّم بالفحش ، وكذلك الرجل ، ومجالعة القوم : مجاوبتهم بالفحش وتنازعهم عند الشرب والقمار .(3)

(وَالْقَصْدُ) ؛ من باب ضرب : الاقتصاد ، أي التوسّط بين الإفراط والتفريط .

(وَضِدَّهُ الْعُدْوَانَ) ؛ بضمّ العين(4) المهملة وكسرها وسكون الدال(5) المهملة ، من باب نصر مِن عدا الأمر وعنه : إذا جاوزه وتركه ، أي التعدّي من الوسط إلى الزائد أو الناقص .

(وَالرَّاحَةُ) أي ترك التعرّض لما ليس عليه التعرّض له .

(وَضِدَّهَا التَّعَبَ ، وَالسُّهُولَةُ) ؛ بضمّ المهملة ، مصدر باب حسن : الايتمار والانتهاء عند الأمر والنهي .

(وَضِدَّهَا الصُّعُوبَةَ) ؛ مصدر باب حسن : الامتناع .

(وَالْبَرَكَةُ) ؛ بفتحتين ، من باب نصر : النُماء والزيادة . والمراد هنا ارتكاب الحلال

ص: 252


1- . في الكافي المطبوع : «الجَلَع» .
2- . عذار الدابة : السير الذي على خدّها من اللجام ، ويطلق العذار على الرسن ، والجمع : عذر . والرسن : الحبل . المصباح المنير ، ص 399 عذر و ص 277 (رسن) .
3- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 304 جلع .
4- . في «د» : - «العين» .
5- . في «د» : - «الدال» .

لأجل النفقة كبيع شيء من أثاث البيت أو أخذ(1) الصدقة مع الفقر .

(وَضِدَّهَا الْمَحْقَ) ؛ بالفتح ، من باب منع : الإبطال والمحو . والمراد هنا أكل الرِّبا ، أي الاقتراض بالزيادة لأجل النفقة مع إمكان التفصّي عنه ببيع شيء من أثاث البيت أو أخذ الصدقة ، وهو إشارة إلى نحو قوله تعالى في سورة البقرة : «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا»إلى قوله : «يَمْحَقُ اللّه ُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ»(2) ، ويجيء بيانه في «كتاب المعيشة» في شرح بعض أحاديث «باب الرِّبا» إن شاء اللّه تعالى .

(وَالْعَافِيَةُ) ؛ هي الاسم من عافاه اللّه وأعفاه ، وهي دفاع اللّه المحذور عن العبد ، ويوضع موضع المصدر ، يقال : عافاه اللّه عافية . والمراد هنا الفراغ من هموم أهل المبالاة بالدنيا من فوات ما يفوت منها .

(وَضِدَّهَا الْبِلاَءَ) ؛ بكسر الموحدة والمدّ ، مصدر باب المفاعلة ، أي المبالاة بالدنيا والاهتمام بها .

(وَالْقَوَامُ) ؛ بفتح القاف هو العدل ، قال تعالى : «وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما»(3) . والمراد هنا

أن يعدّ نفسه من أوساط الناس .

(وَضِدَّهُ الْمُكَاثَرَةَ) أي المغالبة في الكثرة في المال ، أو العدّة ، أو العدد ، أو نحو ذلك ، يقال : كاثرناهم فكثرناهم ، أي غالبناهم فغلبناهم في الكثرة .

(وَالْحِكْمَةُ) . قد مرَّ تفسير الحكمة بالفهم والعقل في ثاني عشر الباب ، والمراد هنا التأنّي في الاُمور .

(وَضِدَّهَا الْهَوى) ؛ بفتحتين والقصر ، وهو في الأصل ضدّ العقل . والمراد هنا العجلة في الاُمور .

(وَالْوَقَارُ) ؛ بفتح الواو : الثقل والطمأنينة .

(وَضِدَّهُ الْخِفَّةَ) ؛ بالكسر ، من باب ضرب .

ص: 253


1- . في «أ» : «قصد» .
2- . البقرة 2 : 276 .
3- . الفرقان 25 : 67 .

(وَالسَّعَادَةُ) ؛ بفتح المهملة ، من باب علم : الرخاء والسعة . والمراد هنا طلب الرزق الحلال بالتجارة ونحوها .

(وَضِدَّهَا الشَّقَاوَةَ) ؛ بفتح المعجمة وقد تكسر ، من باب علم : الشدّة والعسر . والمراد هنا تضييع النفس والعيال بترك طلب الرزق الحلال بالتجارة ونحوها .

(وَالتَّوْبَةُ) أي الرجوع عن الذنب بالنَّدَم .

(وَضِدَّهَا الاْءِصْرَارَ ، وَالاِسْتِغْفَارُ) أي طلب المغفرة بعد التوبة كلّما تذكّر الذنب .

(وَضِدَّهُ الاِغْتِرَارَ) : مطاوع من غرّه الشيطان ، من باب نصر ؛ أي خدعه وأطمعه بالباطل ، وهو أن يعدّ ذنبه معفوّا عنه بسبب الإمهال .

(وَالْمُحَافَظَةُ) أي الاهتمام والاحتياط في الاُمور المهمّة .

(وَضِدَّهَا التَّهَاوُنَ) أي جعل الشيء هيّنا وليس بهيّن ، من هانَ عليه الشيء - من باب نصر ، أي خفّ وتهاون به ، أي استهان به .

(وَالدُّعَاءُ ؛ وَضِدَّهُ الاِسْتِنْكَافَ) أي الاستكبار ، من نكف عنه - كنصر وعلم - ، أي أنف منه وامتنع .

(وَالنَّشَاطُ) ؛ بفتح النون مصدر نشط - كعلم - ، أي طابت نفسه للعمل وغيره . والمراد هنا السعي في طلب الخير .

(وَضِدَّهُ الْكَسَلَ ، وَالْفَرَحُ) أي السرور بالحسنة .

(وَضِدَّهُ الْحَزَنَ ، وَالْأُلْفَةُ) ؛ بالضمّ ، اسم الايتلاف ؛ أي لزوم أهل الحقّ ومن قدّمه الكتاب والسنّة ، وترك الاستبداد بالرأي المفضي إلى الاختلاف .

(وَضِدَّهَا الْفُرْقَةَ) ؛ بالضمّ الاسم ، من فارقته مفارقة وفراقا ، وهو الاستبداد بالرأي . والفِرقة بالكسر الطائفة من الناس ، والفريق أكثر منهم ، وهذه إنّما تقابل بالجماعة .

وفي معاني الأخبار لابن بابويه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سُئِلَ عن الجماعة وعن الفرقة ، فقال : «الجماعة أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(1) . وقد

ص: 254


1- . معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى المنقلين ، ح 3 .

أوضحناه(1) في ثاني عشر الباب .

(وَالسَّخَاءُ) ؛ بفتح المهملة وبالمدّ والقصر ، من باب منع ونصر وحسن وعلم : الجود .

(وَضِدَّهُ الْبُخْلَ) ؛ بالضمّ وكجبل ونجم وعنق .

(وَلاَ(2) تَجْتَمِعُ هذِهِ الْخِصَالُ كُلُّهَا مِنْ أَجْنَادِ الْعَقْلِ إِلاَّ فِي نَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ أَوْ مُؤمِنٍ قَدِ امْتَحَنَ اللّه ُ قَلْبَهُ لِلاْءِيمَانِ) . اللام للعاقبة ، أي اختبره وصار إيمانه خالصا . وقد يقال : الممتحن : المصفّى المهذّب ، من مَحَنْتُ الفضّة : إذا صفّيتها وخلّصتها بالنار ؛ فاللام للأجل .

(وَأَمَّا سَائِرُ ذلِكَ) أي باقي ذلك ، من السؤر بمعنى البقيّة .

(مِنْ مَوَالِينَا فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هذِهِ الْجُنُودِ حَتّى يَسْتَكْمِلَ وَيَنْقى) ؛ من باب علم ، أي يطهر ويخلص .

(مِنْ جُنُودِ الْجَهْلِ ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ) ؛ فإنّه حينئذٍ مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان وهو قرينهم .

(وَإِنَّمَا يُدْرَكُ) أي ينال (ذلِكَ) أي الاستكمال .

(بِمَعْرِفَةِ الْعَقْلِ وَجُنُودِهِ ، وَبِمُجَانَبَةِ الْجَهْلِ وَجُنُودِهِ) أي شيئا فشيئا ، يوما فيوما .

(وَفَّقَنَا اللّه ُ وَإِيَّاكُمْ لِطَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ) . اسم مكان للكثرة .

اعلم أنّ المفصّل من كلّ من جنود العقل وجنود الجهل عند جمهور الناظرين هنا ثمانية وسبعون ، فقال شيخنا بهاء الدِّين محمّد رحمه اللّه تعالى :

ذكر الطمع وضدّه تكرار لذكر الرجاء وضدّه ، ولا يمكن توجيهه بإرادة الطمع من الخلق واليأس منهم لذمّ الطمع منهم ومدح اليأس ، فكيف يجعل الأوّل من جنود العقل والثاني من جنود الجهل ، فكان ينبغي أن يُقال : واليأس وضدّه الطمع ، والظاهر أنّ هذه النسخة كانت في بعض النسخ بدل اُختها ، فرآها بعض الناظرين فجمع بينهما ، والصواب عدم الجمع بين الاُختين .

ص: 255


1- . في «د» : «أوضحنا» .
2- . في الكافي المطبوع : «فلا» .

ثمّ قال رحمه الله :

لعلّ الثلاثة الزائدة : إحدى فقرتي الرجاء والطمع ، وإحدى فقرتي الفهم ، وإحدى فقرتي السلامة والعافية ؛ فجمع الناسخون بين البدلَين غافلين عن البدليّة ، كما ذكرنا عند ذكر الطمع واليأس .(1) انتهى .

الخامس عشر : (جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله الْعِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ) . كنه الشيء بالضمّ : منتهاه ، واختلاف العقل في القوّة والضعف مضى في السابع . والمراد أنّه كان يبلغ عقله ما لم يكن يبلغه عقول اُمّته ، ولعلّ المراد ما عدا الوصيّ ، والتفاوت في العقل لا يقتضي(2) اختلاف بعض العلوم بالنسبة إلى ذهن الرسول وذهن غيره ، ضرورة ونظرا ؛ لأنّ التفاوت في العقل إنّما يقتضي التفاوت في التصوّر للقضايا وفي حفظها وفي ترتيبها وكسب المجهولات منها ، وهو لا يستلزم التفاوت في العلم بها بعد تصوّرها .

(قَطُّ) . من الظروف المبنيّة على الضمّ ، ومعناها الدهر ، ولا تستعمل إلاّ مع الماضي المنفيّ ، يُقال : ما رأيته قطّ بفتح القاف وضمّها وشدّ المهملة وتخفيفها أي في ما مضى من عمري .

(وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّا - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ - أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) أي فهمهم للدقائق برعاية الآداب الحسنة في تحصيل العلم .

السادس عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ عليهماالسلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : إِنَّ قُلُوبَ الْجُهَّالِ) أي التابعين للهوى ، التاركين للآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل به بقدر الوسع .

ص: 256


1- . حكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 1 ، ص 210 : عن البهائي ؛ وحكي بلفظ «قيل» في هامش الحاشية على اصول الكافي لرفيع النائيني ، ص 66 . وللمزيد راجع : شرح صدر المتألّهين ، ص 66 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 61 .
2- . في «ج» : «تقتضي» .

(تَسْتَفِزُّهَا) ؛ بتشديد الزاي ، أي تستخفّها وتخرجها من مواضعها .

(الْأَطْمَاعُ) ؛ بفتح الهمزة جمع «طمع» بفتحتين كفرس وأفراس : رزق الجند ، أو وقت قبض أرزاقهم ، أو مصدر طمع في الشيء - كعلم - : إذا انتظره من غيره .

(وَتَرْتَهِنُهَا) أي تأخذها بالغلبة كأخذ المرتهن الرهن لا ينفكّ إلاّ بما يرضيه .

(الْمُنى) ؛ بضمّ الميم وفتح النون جمع «مُنْيَة» بضمّ الميم وكسرها وسكون النون ؛ أي الآمال .

(وَتَسْتَعْلِقُهَا) ؛ بالعين المهملة أو المعجمة قبل اللام والقاف بعدها ، من علق الصيد في الحبالة - كعلم - : إذا وقع فيها ، أو من غلق الرهن - كعلم - : استحقّه المرتهن . وفي بعض النسخ بقافين وهو غير مناسب .

(الْخَدَائِعُ) ؛ بكسر الهمزة(1) جمع «خديعة» وهي الاسم من خدعه كمنعه ، أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم .

السابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ) ؛ بكسر المهملة وضمّها : القويّ على التصرّف مع حدّة ، والتاجر ، وزعيم فلاّحي العجم ، ورئيس الإقليم ؛ معرّب «دهخان»(2) .

(عَنْ دُرُسْتَ) ؛ بالدال والراء المهملتين المضمومتين والسين المهملة الساكنة والمثنّاة فوقُ ؛ غير منصرف للعجمة والعلميّة .

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً) أي فهما للدقائق .

(أَحْسَنُهُمْ خُلُقا) ؛ بضمّ المعجمة وسكون اللام وضمّها : السجيّة والطبع والمروءة والدِّين .

الثامن عشر : (عَلِيٌّ ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ الرِّضَا عليه السلام ، فَتَذَاكَرْنَا الْعَقْلَ

ص: 257


1- . في «أ» : «الهمز» .
2- . في «د» : «دهخوان» .

وَالْأَدَبَ) ؛ بفتحتين ، أي العمل بمقتضى العلم الذي حصل .

(فَقَالَ : يَا أَبَا هَاشِمٍ ، الْعَقْلُ حَبَاءٌ) ؛ بفتح المهملة والموحّدة والمدّ ، أي عطاء .

(مِنَ اللّه ِ) . والمراد أنّ قوّة(1) العقل ليست اختياريّة للعباد ؛ لاختلاف وسعهم في ذلك ، كما مرّ في السابع .

(وَالْأَدَبُ كُلْفَةٌ) ؛ بالضمّ : ما يتكلّفه الإنسان من نائبة أو حقّ ؛ أي الأدب الاختياري يمكن للإنسان تكلّفه .

(فَمَنْ تَكَلَّفَ الْأَدَبَ) أي حمل نفسه على تحمّله إذا لم يكن طائعا له .

(قَدَرَ عَلَيْهِ) أي على الأدب .

(وَمَنْ تَكَلَّفَ الْعَقْلَ) أي ادّعى مرتبة من العقل هو دونها ، كمن تصدّر للإمامة أو للقضاء بين الناس أو للمشوَرَة وليس أهلاً لذلك .

(لَمْ يَزْدَدْ بِذلِكَ إِلاَّ جَهْلاً) أي إلاّ إظهار جهله ، أي حمقه عند القوم . ويحتمل أن يكون التكلّف فيه باعثا على زيادة الجهل في الواقع لأنّه يشوّش ذهنه .

التاسع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ جَبَلَةَ) ؛ بالجيم والموحّدة المفتوحتين . (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ لِي جَارا كَثِيرَ الصَّلاَةِ ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ ، كَثِيرَ الْحَجِّ ، لا بَأْسَ بِهِ) أي لا يصل منه إليّ أو إلى جاره أو إلى أحد ضررٌ .

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام : يَا إِسْحَاقُ، كَيْفَ عَقْلُهُ؟) أي أَهُوَ مُهتَدٍ موافق لكم ، أم مخالف؟

(قَالَ : قُلْتُ(2) : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ ، قَالَ : فَقَالَ : لا يَنْتَفِعْ)(3) أي الجار .

(بِذلِكَ) . الباء للإلصاق ، أي بعمله وكثرة عبادته .

(مِنْهُ) . من للسببيّة ، أي من أجل أنّه ليس له عقل . وفي نسخة «لا يرتفع بذلك منه» ،

ص: 258


1- . في «ج» : - «قوّة» .
2- . في الكافي المطبوع : + «له» .
3- . في الكافي المطبوع : «يرتفع» .

والمعنى لا يرتفع عمله إلى اللّه بذلك ، أي بسبب أنّه ليس له عقل منه ، أي من الجار ، فالباء للسببيّة و«من» للابتداء .

العشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّيَّارِيِّ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الخاتمة . (عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيِّ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ) ؛ بكسر المهملة وكسر الكاف المشدّدة والخاتمة والمثنّاة فوقُ ، واسمه يعقوب بن إسحاق صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة من أفاضل الإماميّة وثقاتهم .(1)

(لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) ؛ أي الثالث .

(لِمَاذَا) ؛ اسم استفهام مركّب من «ما» و «ذا» .

(بَعَثَ اللّه ُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام بِالْعَصَا وَيَدِهِ الْبَيْضَاءِ وَآلَةِ السِّحْرِ؟) . الآلة بالهمز والألف المنقلبة عن الواو وتخفيف اللام : الرجعة والكساد ، وهي ضدّ الرواج والرونق ؛ مأخوذة من الأوْل بفتح الهمز وسكون الواو بمعنى الرجوع . والمراد هنا ما يورث الرجعة والكساد . والسحر بالكسر مصدر باب منع - : تغطية العيون بالتلبيس والتزوير في أمر يرى أنّه خارق للعادة ، فهي من عطف العامّ على الخاصّ ، ويشمل الجراد والقمّل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل .

(وَبَعَثَ عِيسى عليه السلام بِآلَهِ الطِّبِّ) ؛ بتثليث المهملة وشدّ الموحّدة ، مصدر باب نصر وضرب : علاج الجسم بالدواء .

(وَبَعَثَ مُحَمَّدا - صَلَّى اللّه ُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ - بِالْكَلاَمِ) ؛ أي بآلة الكلام ، حَذَف المضاف اقتصارا واكتفاءً بما سبق . ويجيء في تتمّة الحديث ما يظهر به أنّ الصواب هنا بالشعر .

(وَالْخُطَبِ) ؛ بضمّ المعجمة وفتح المهملة ، جمع «خُطبة» بالضمّ ، وهي الكلام

ص: 259


1- . ترجمة هذا العالم مفصلةً في مقدمة كتاب ترتيب إصلاح المنطق المطبوع والمنشور في مجمع البحوث الإسلامية في مشهد .

البليغ الغير المنظوم الصادر عن البشر الملقى إلى جماعة ؛ لجمعهم على أمرٍ مهمّ بالترغيب أو الترهيب .(1)

إن قلت : قد نقل من معجزاته صلى الله عليه و آله آلة السحر كالإسراء مع إخباره بالرفقة والعلامة التي في العير ، وكردّ الشمس ، وانشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، وحنين الجذع ، ومجيء الشجرة وشهادتها له بالنبوّة ، وتسليم الحجر عليه ، ونُبُوع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وشكاية الناقة ، وشهادة الشاة المشويّة ، وإظلال السحاب قبل مبعثهِ ، وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أراد أن يضربها على رأسه ، وما كان من شاة اُمّ معبد حين مسح يده على ضرعها ، ونحو ذلك(2) ، فما وجه تخصيص الكلام والخُطب بالذكر؟

قلت : المراد معجز يبقى بقاءَ دينه متواترا ، أو أوّل معجزا ثبت به نبوّته ، وأنّه المتبادر من قولنا : بعث بكذا .

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ لَمَّا بَعَثَ مُوسى عليه السلام كَانَ الْغَالِبُ عَلى أَهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ ، وَمَا أَبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ) بإظهار أنّ السحر حيلة بأمرٍ خفيّ المأخذ ليس على ما يدّعيه الساحر من أنّه خارق عادةً ، أو كالمعجز ، كما يشعر به قوله تعالى : «مَا يَأْفِكُونَ»(3) .

(وَأَثْبَتَ بِهِ) أي بما آتاهم به (الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم السحر عالم بأنّ ما أتى به ليس من جنس السحر ؛ إذ لا يمكن مثلاً أن يَلقَف العصا جميع السحر الذي أتى به كلّ سحّار عليم بحيلة من مجرى العادة .

(وَإِنَّ اللّه َ بَعَثَ عِيسى عليه السلام فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ الزَّمَانَاتُ) ؛ بفتح الزاي ، أي الآفات والأمراض التي تبقى زمانا لا تزول .(4)

ص: 260


1- . اُنظر: القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 63 خطب .
2- . ذكر هذه المعاجز الشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 181 ؛ والمبسوط ، ج 4 ، ص 154 والطبرسى في اعلام الورى ، ج 1 ، ص 76 ؛ وابن حزم في المحلى ، ج 1 ، ص 36 ؛ وانظر: البداية والنهاية ، ج 6 ، ص 138 وما بعدها .
3- . الأعراف 7 : 117 .
4- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 256 زمن .

(وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ) ؛ أي فكان تعلّم الطبّ شائعا فيهم .

(فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ(1) بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ ، وَبِمَا) ؛ مصدريّة .

(أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللّه ِ(2)) . المراد بالإحياء والإبراء هنا طلبهما من اللّه بحيث يترتّب المطلوب على الطلب ، وذلك لأنّهما فعل اللّه حقيقة ، وليس معنى الإذن هنا ما يأتي بيانه في «كتاب التوحيد» في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة»(3) بل معناه الرخصة ورفع الحَظر .

(وَأَثْبَتَ بِهِ) أي بما لم يكن عندهم مثله (الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم الطبّ عالم بأنّ ما أتى به ليس من جنس الطبّ وخارق للعادة .

(وَإِنَّ اللّه َ(4) بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله فِي وَقْتٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلى أَهْلِ عَصْرِهِ الْخُطَبَ وَالْكَلاَمَ) ؛ وذلك أنّهم كانوا فرسان الخطب والكلام قد خُصّوا من ذرابة اللِّسان(5) والبلاغة ما لم يؤتَ غيرهم من الاُمم ، وكان ذلك لهم طبعا وخِلقة كانوا يأتون على البديهة بالخطب العجيبة في المقامات الغريبة ، ويرتجزون بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ويرفعون ويضعون ، وخصّوا من الذكاء والفهم والعلم بظاهر من الحياة الدنيا بما لا يخفى على المتتبّع لكلامهم ، قد وصلوا في تبييتهم(6) القول في نظم الاُمور ورعاية المصالح إلى ما لم يصل إليه أمثالهم ، لا شكّ أنّه كان البلاغة مِلك قيادهم ، والكلام طوع مرادهم .

(وَأَظُنُّهُ قَالَ : الشِّعْرَ) . هذا كلام السيّاري للاعتراض على نقل أبي يعقوب ، والضمير البارز في «أظنّه» والمستتر في «قال» راجع إلى الإمام عليه السلام . والشِعْر - بكسر المعجمة

ص: 261


1- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . عنوان الباب في الكافي المطبوع : «باب في أنّه لا يكون شى ء في السماء والأرض إلاّ بسبعة» .
4- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
5- . لسان ذرب ، أي فصيح . المصباح المنير ، ص 207 ذرب .
6- . أي في صياغة قولهم على شكل أشعار ، ويحتمل أن تكون : «تبيينهم» بالنون قبل الهاء .

وسكون المهملة - : الكلام المنظوم ، والمقصود أنّه ينبغي أن يكون «الشعر» بدل «الكلام» ، لأنّه لا تقابل بين الخطب والكلام ؛ إنّما التقابل بين الخطب والشعر ، فإنّ الأوّل غير منظوم والثاني منظوم ، وأيضا الكلام يشمل كلام اللّه تعالى(1) ، فليس القرآن آلة الكلام مطلقا . وهذا مناقشة مع ابن السكّيت أيضا في سؤاله . وإنّما قال السيّاري : «أظنّه» ولم يقل : «أعلمه» لأنّ الجواب في أمثال ذلك قد يكون على طبق السؤال مماشاةً مع السائل .

(فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ(2) مِنْ مَوَاعِظِهِ وَأحْكَامِهِ)(3) . «من» الاُولى ابتدائيّة ، والثانية تبعيضيّة ، والإتيان بالبعض إمّا في أوّل البعثة ، وإمّا باعتبار أنّ القرآن بعض كتب اللّه تعالى ، وقوله : «مواعظه» ناظر إلى الخطب ، وهي جمع موعظة ، وهي ما يُليّن القلب من الوعد والوعيد والقصص والأمثال وبعض مسائل اُصول الدِّين ، وقوله : «وأحكامه» ، ناظر إلى الكلام ، وهي تشمل مسائل الفقه واُصول الفقه وبعض مسائل اُصول الدين .

وقد عدّ الناس من وجوه إعجاز القرآن اُمورا :

الأوّل : البلاغة ، قال تعالى في سورة يوسف : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ»(4) .

الثاني : الاُسلوب .

الثالث : الإخبار بالمغيبات المستقبلة ووقوعها كما أخبر .

الرابع : الإخبار عن القرون السالفة والشرائع الداثرة ممّا كان لا يعلم منه القصّة الواحدة إلاّ الفذّ من أحبار أهل الكتاب ، مع أنّه صلى الله عليه و آله كان اُمّيا لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يشتغل بمدارسة ، قال تعالى في سورة يوسف : «ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ»(5) الآية .

ص: 262


1- . في «ج» «د» : - «تعالى» .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . في الكافي المطبوع : «وحكمه» .
4- . يوسف 12 : 3 .
5- . يوسف 12 : 44 .

الخامس : وروده بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنّهم لا يفعلونها فما فعلوا كقوله في سورة الجمعة : «فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ»(1) .

السادس : كونه تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ، كما في سورة يونس ، ويجيء بيانه في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» .

السابع : صرف القلوب عن المعارضة بالإتيان بمثله أو بما يدانيه في مقام التحدّي .

الثامن : عدم الاختلاف ، قال تعالى في سورة النساء : «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه ِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِيرا»(2) وهو مبنيّ على إرجاع ضميري «كان» و«فيه» إلى القرآن ، لا إلى الذي تقول .

التاسع : كونه باقيا لا يعدم ما بقيت الدنيا ، تكفّل اللّه بحفظه قال : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(3) .

العاشر : أنّ قارئة لا يملّه ، وسامعه لا يمجّه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبّة .

الحادي عشر : حسن التخلّص من قصّة إلى اُخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي ، وخبر واستخبار ، ووعد ووعيد ، وإثبات نبوّة وتوحيد ، وترهيب وترغيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلّل فصوله ، كما في أوّل سورة ص ، والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوّته ، ولانت جزالته ، وقلَّ رونقه .

الثاني عشر : إيجازه وأنّ الجمل الكثيرة انطوت عليها الكلمات القليلة .

الثالث عشر : تيسيره تعالى حفظه لمتعلِّميه ، وتقريبه على متحفّظيه ، قال تعالى : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ»(4) .

ص: 263


1- . الجمعة 62 : 6 .
2- . النساء 4 : 82 .
3- . الحجر 15 : 9 .
4- . القمر 54 : 17 .

الرابع عشر : كونه تبيان كلّ شيء كما في سورة النحل ، ويجيء في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» أنّ هذا إنّما يظهر لنا إذا راجعنا في تفسيره إلى القيّم له من أهل البيت عليهم السلام ، والذي يظهر لنا منه بدون المراجعة إليهم جمعه لعلوم ومعارفَ إلهيّةً وغيرها لم يعهد العرب عامّة ولا محمّد صلى الله عليه و آله قبل نبوّته خاصّة بمعرفتها ، ولم يحط به أحد من علماء الاُمم من بيان الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقليّات ، والردّ على فرق الاُمم ببراهين قويّة ، وأدلّة بيّنة ، وأخبار الدار الآخرة وغيرها ، فهو قولٌ فصل ليس بالهزل أصلاً .

هذه أربعة عشر وجها ، وقد ذكروا غيرها أيضا .

وظاهر الحديث في قوله : «مواعظه» الوجه الأوّل ، وفي قوله : «وأحكامه» الوجه السادس ، ويحتمل الوجه الرابع عشر .

(مَا أَبْطَلَ بِهِ قَوْلَهُمْ) . كذا في النسخ ، والأنسب بالسابق «بما» بالباء للتعدية . ويحتمل أن يقرأ هنا «فآتاهم» من باب الإفعال ، أي ما كان كلامهم وخطبهم في مقابلته ركيكا جدّا خارجا من جنسه ، ويحتمل أن يُراد بقولهم إنكارهم نبوّته .

(وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم البلاغة ومعرفة أساليب الخطب والكلام عالمٌ بأنّ القرآن ليس من جنس خطبهم وكلامهم .

(قَالَ : فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : تَاللّه ِ) . التاء المثنّاة فوقُ : حرف قسم تستعمل في التعجّب .

(مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ ، فَمَا الْحُجَّةُ) أي للإمام في إثبات الإمامة .

(عَلَى الْخَلْقِ) أي على اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله .

(الْيَوْمَ؟) أي بعد انقضاء الوحي ويوم لا يأتي أحد بمعجز جديد من عند اللّه على طبق دعواه ، أو يأتي لكن لا جهارا على رؤوس الأشهاد حتّى يعرفه كلّ أحد كما كان في عصر الأنبياء عليهم السلام .

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام : الْعَقْلُ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي الحجّة العقل ، والمراد به رعاية الآداب الحسنة لتحصيل علم الدِّين والعمل به بقدر الوسع . ويحتمل أن يُراد به ما يقابل الجنون ؛ والمآل واحد . فإنّه مركوز في ذهن كلّ مكلّف وجوب رعاية الآداب

ص: 264

الحسنة المذكورة . وقوله :

(تَعْرِفُ(1) بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللّه ِ فَنُصَدِّقُهُ(2) ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللّه ِ فَنُكَذِّبُهُ(3)) ؛ خطابٌ وجملة استئنافيّة بيانيّة ؛ يعني أنّه لا حاجة في معرفة الإمام إلى معجز جديد ، بل القرآن كاف في ذلك بالنسبة إلى العاقل ، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ اللّه حرّم في القرآن الاختلاف بالظنّ ، والقولَ على اللّه بغير علم ، أي بالاجتهاد والرأي ، وذلك في آيات كثيرة خارجة عن العدّ والإحصاء ، قطعيّة الدلالة ، كما اُشير إليه فيما مضى في ثاني عشر الباب ، وأنّه تعالى جعل الحكم بغير إذن من اللّه وقبول في شرعه افتراءً على اللّه وكذبا عند اللّه ، وإن كان مطابقا لنفس الأمر ، كما في قوله تعالى في سورة يونس : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلاَلاً قُلْ أَاللّه ُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه ِ تَفْتَرُونَ»(4) ، ونظيره قوله تعالى فى سورة النور : «فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ»(5) وأنّه تعالى أمر الناس(6) بأن يكونوا مع الصادقين ، كما في قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(7) ، وجعل لازم الصدق أن يكون عن علم وبرهان ، كما في قوله : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ »(8) ، والعاقل يعرف ذلك بأدنى تأمّل في آيات اللّه ، ويجد الفرق بين من فتواه وحكمه عن اجتهاد وظنّ ومن ليس كذلك ، بل ليس أحد من الذين ادّعوا الإمامة وليسوا لها بأهل إلاّ وقد أقرّ على نفسه بعدم العلم وإنّ أعلى ما(9) ادّعى لنفسه الاجتهاد والظنّ ، وليس ذلك الإقرار إلاّ خوفا من الافتضاح ؛ لأنّ

ص: 265


1- . في الكافي المطبوع : «يَعْرِف» .
2- . في الكافي المطبوع : «فيصدّقه» .
3- . في الكافي المطبوع : «فيكذّبه» .
4- . يونس 10 : 59 .
5- . النور 24 : 13 .
6- . في «أ» : - «في سورة النور - إلى - أمر الناس» .
7- . التوبة 9 : 119 .
8- . البقرة 2 : 111 .
9- . في «ج» : «من» .

كلّ عاقل يجد الفرق بين العالم وغير العالم ، أي المجتهد ، فهم كما قال اللّه في سورة الجمعة : «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه ِ وَاللّه ُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1) .

(قَالَ : فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : هذَا وَاللّه ِ هُوَ الْجَوَابُ) . الحصر مبنيّ على ما مضى في خطبة الكتاب من قول العالم عليه السلام : «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن» . وأنّ هذا أوضح الأدلّة القرآنيّة لكثرة الآيات في هذا المعنى بحيث يظهر على كلّ عاقل ، فبهذا

تثبت الحجّة على جميع الخلق اليوم ، دون غيره .

الحادي والعشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى) ؛ بضمّ الميم وفتح المهملة وشدّ اللام المفتوحة . (بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ) ؛ بفتح الواو وشدّ المعجمة والمدّ . (عَنِ مثنّى)(2) ؛ بضمّ الميم وفتح المثلّثة وشدّ النون المفتوحة . (الْحَنَّاطِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ النون . (عَنْ قُتَيْبَةَ) ؛ بضمّ القاف .

(الْأَعْشى) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح المعجمة . والعشى(3) بالفتح والقصر : أن لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ، وقيل : سوء البصر بالليل والنهار ، أو العمى .

(عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ) ؛ بفتح الخاتمة وسكون المهملة وضمّ الفاء وسكون الواو ومهملة .

(عَنْ مَوْلىً لِبَنِي شَيْبَانَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والموحّدة : اسم أبوي قبيلتين من بكر بن وائل : أحدهما شيبان بن ثعلبة ، والآخر شيبان بن ذهل .(4)

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا قَامَ قَائِمُنَا ، وَضَعَ اللّه ُ يَدَهُ) . الضمير للّه أو للقائم .

(عَلى رُؤُوسِ الْعِبَادِ) . كناية عن التوفيق أو عن شفقة القائم .

(فَجَمَعَ) ؛ بصيغة المعلوم ، والضمير للّه أو للقائم ، أو بصيغة المجهول . ويؤيّد الأوّل

ص: 266


1- . الجمعة 62 : 5 .
2- . في الكافي المطبوع : «المثنّى» .
3- . في النسخ : «العشا» والمثبت مطابق لإرادة المصنّف . وقال في المصباح المنير ، ص 412 : «عشى عشىً من باب تعب : ضعف بصره ، فهو أعشى ، والمرأة عشواء» .
4- . الصحاح ، ج 1 ، ص 160 ؛ تاج العروس ، ج 2 ، ص 133 شيب .

الاختلاف بين «جمع» و«كملت» في التذكير والتأنيث .

(بِهَا) أي بيده ؛ فالباء للسببيّة ، أو بالرؤوس ؛ ف- «الباء» بمعنى «في» .

(عُقُولَهُمْ) أي عقل كلّ واحدٍ منهم ، وجَمْعُ العقلِ عبارةٌ عن تقويته بجعل وسع صاحبه أكثر ممّا كان ، وتفريقُهُ عبارةٌ عن ضدّ ذلك تشبيها له بالعسكر إن اجتمعوا فتحوا ، وإن تفرّقوا صاروا مغلوبين ، أو عن جمع جنوده التي مضت في رابع عشر الباب ، أو عبارة عن جمع الحواسّ والآراء ؛ بأن يكون الهمّ واحدا والفكر فارغا والقلب صافيا ، أو جعل كلّ من أفكاره ملاحظا مع الباقي ، فإنّ المتذكّر لأفكاره السابقة أبصرُ في الفكر .

(وَكَمَلَتْ بِهِ) أي بالجمع أو بمجموع وضع اليد والجمع .

(أَحْلامُهُمْ) ؛ الأحلام : الأبدان بلا واحد ، وجمع حلم بالكسر : الأناة .

الثاني والعشرون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : حُجَّةُ اللّه ِ عَلَى الْعِبَادِ) أي في الظاهر وجهارا . (النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله (1)) وكذا أوصياؤه القائمون مقامه .

(وَالْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ اللّه ِ) أي في الباطن (الْعَقْلُ) ؛ كما مضى في ثاني عشر الباب .

الثالث والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلاً ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : دِعَامَةُ) ؛ بكسر الدال المهملة . (الاْءِنْسَانِ الْعَقْلُ) ؛ شبّهه بعماد البيت ، لأنّه يقوم به أمر الإنسان وينتظم .

(وَالْعَقْلُ) ؛ مبتدأ وخبره جملة قوله : (مِنْهُ الْفِطْنَةُ) . والضمير للعقل ، والظرف خبر مقدّم ، و«الفطنة» مبتدأ ثان مؤخّر ؛ أي يتأتّى منه الفطنة ، أي سرعة الانتقال إلى المبادئ المناسبة للمطلوب .

ص: 267


1- . في الكافي المطبوع : - «صلّى اللّه عليه وآله» .

(وَالْفَهْمُ) ؛ بفتح الهاء أو سكونها ، مرَّ تفسيره في الرابع عشر عند قوله : «والفهم وضدّه الغباوة» .

(وَالْحِفْظُ) أي المحافظة على ما يجب رعايته في المبادئ من الترتيب المنتج للمطلوب .

(وَالْعِلْمُ) بالمطلوب بالاستنتاج من تلك المبادئ .

(وَبِالْعَقْلِ يَكْمُلُ) أي الإنسان .

(وَهُوَ دَلِيلُهُ) أي العقل دليل الإنسان إلى إمام الحقّ .

(وَمُبْصِرُهُ) ؛ بضمّ الميم وسكون الموحّدة وكسر الصاد المهملة ، أي مبصر الإنسان ؛ من أبصره : إذا جعله ذا بصيرة، أي ذكاء ، أو ذا بصر ، أي علم ، كقوله تعالى : «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً»(1) ، أو بكسر الميم وفتح الصاد اسم آلة ، أو بفتح الميم والصاد اسم مكان .

(وَمِفْتَاحُ أَمْرِهِ) ؛ كما يعبّر عن كتاب اللّه بأمر اللّه . ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس «باب معرفة الإمام والردّ إليه» يعبّر عنه بأمر الناس ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في عاشر «باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحدا»(2) لأنّه صادر

عن اللّه لمصلحة الناس ، فأمره عبارة عن القرآن . والمراد أنّ العقل يدلّ صاحبه إلى إمام عالم بجميع المتشابهات ، حلاّل للمشكلات ، ويحمله على سؤاله عن كلّ ما يحتاج إليه ؛ فالعقل مفتاح القرآن .

(فَإِذَا كَانَ تَأْيِيدُ عَقْلِهِ مِنَ النُّورِ) . المراد بالنور أئمّة الهدى عليهم السلام ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» ، وتأييد عقله من النور في صورة كونه مشاهدا لإمام من أئمّة الهدى ، مستفيدا منه مشافهةً .

(كَانَ عَالِما) بكلّ ما يحتاج إليه .

(حَافِظا) أي محافظا على ما يجب حفظه من آداب الفكر في كلّ مسألة .

ص: 268


1- . النمل 27 : 13 .
2- . لا يخفى عليك أنّ أحاديث هذه الباب في الكافي سبعة ، اُنظر: الكافي ، ج 1 ، ص 286 - 291 .

(ذاكِرا) أي غير ناس لمعلوم يحتاج إليه .

(فَطِنا ، فَهِما) أي في كلّ مسألة ، وهذان مع الأوّلين ناظرات إلى الأربعة المذكورة في قوله : «منه الفطنة» إلى آخره ، فالنشر على غير ترتيب اللفّ .

(فَعَلِمَ بِذلِكَ كَيْفَ) أي كيف الحكم في مسألة مسألة .

(وَلِمَ) أي ولأيّ شيء كان الحكم فيها ذلك ، والمراد دليل المسألة .

(وَحَيْثُ) أي عرف مخصّصات الأحكام ونواسخها ومواضع التقيّة .

(وَعَرَفَ مَنْ نَصَحَهُ وَمَنْ غَشَّهُ) أي كان محدّثا عارفا بلحن القول .

(فَإِذَا عَرَفَ ذلِكَ ، عَرَفَ مَجْرَاهُ) ؛ بفتح الميم وسكون الجيم ، مصدر ميمي أو اسم مكان ، أي طريقه الذي ينبغي له سلوكه في المعاش والمعاد .

(وَمَوْصُولَهُ) أي ما ينبغي صلته من الرحم ومن نصحه ، ونحو ذلك .

(وَمَفْصُولَهُ) أي ما ينبغي قطعه من الفساد ومعاشرة من غشّه والفسّاق ونحو ذلك.

(وَأَخْلَصَ الْوَحْدَانِيَّةَ لِلّهِ تعالى(1)) . «الوحداني» بفتح الواو وسكون المهملة منسوبٌ إلى الوحد أو الوحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة ، وإذا اُريد المصدر اُلحق به التاء . ومعنى الوحدانيّة هنا التوحّد بالربوبيّة ، ومعنى إخلاصها للّه تعالى أن لا يجعل له شريكا في الأحكام ، كما مرَّ توضيحه في ثاني عشر الباب ، موافقا لقوله تعالى في آية سورة الأنعام وآيتي سورة يوسف : «إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(2) أو في الربوبيّة مطلقا .

(وَالاْءِقْرَارَ بِالطَّاعَةِ) أي للّه . و«الإقرار» منصوب على أنّه مفعول معه ، أو معطوف على الوحدانيّة . ويخدش الثاني أنّ الوحدانيّة وصف للّه تعالى ، والإقرار وصف للعبد ، وعلى التقديرين الظرف لغو والباء للإلصاق .

ويحتمل أن يكون الإقرار مرفوعا على الابتداء ، فالظرف مستقرّ وخبر ، والباء للسببيّة ، أي الإقرار بالوحدانيّة بسبب الطاعة .

ص: 269


1- . في الكافي المطبوع : - «تعالى» .
2- . الأنعام 6 : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67 .

والمراد بالطاعة فعل المأمور به والاجتناب عن المنهيّ عنه ، ويحتمل أن يكون المراد الصبر والرضا بقضاء اللّه .

(فَإِذَا فَعَلَ ذلِكَ ، كَانَ مُسْتَدْرِكا لِمَا فَاتَ) ؛ بكسر الراء ، أي محاولاً لإدراك ما لم يدركه لعذر ، كمنع الظالمين . ومعنى استدراكه أنّ المؤمن بقصده محصّل لثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا منعه الظالمون من إدراكهما ، ويمكن أن يكون المراد بالاستدراك ما في زمان القائم عليه السلام .

(وَوَارِدا عَلى مَا هُوَ آتٍ) ؛ أي قائما بحقّ ما هو غير فائت ، كالإنكار الباطني للمنكرات ، ونحو ذلك .

(يَعْرِفُ مَا هُوَ فِيهِ) . «ما» موصولة ، أي يعرف قدر المصائب ، فإنّ لها عوضا ، أو قدر عدم إعطاء الناس حقّه ، فإنّه نعمة ورحمة ، نظير ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب سيرة الإمام في نفسه» من قوله عليه السلام : «فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه نعمة إلاّ هذه» .(1)

ويمكن أن يحمل على هذا ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «اختلاف اُمّتي رحمة» .(2)

(وَلِأَيِّ شَيْءٍ هُوَ هاهُنَا) أي لأيّ مصلحة هو فيما هو فيه ، أي ليس ذلك لهوانه على اللّه ، بل لهوان الدنيا وما فيها ورعاية حكمه فيه(3) . ويحتمل أن يكون «هاهنا» إشارة إلى الدنيا .

(وَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ) أي يعرف السبب الذي به يأتيه ما هو فيه بأن يعرف أنّ أزمّة الاُمور بيد اللّه تعالى ومصادرها عن قضائه تعالى بحيث لا يستلزم جبرا ، كما يجيء في أبواب من «كتاب التوحيد» .

(وَإِلى مَا هُوَ صَائِرٌ) . الظرف متعلّق بصائر ، و«ما» استفهاميّة ، وإثبات ألفها مع حرف

ص: 270


1- . الحديث 2 من باب سيرة الإمام في نفسه .
2- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 85 ، العلة التي من أجلها صار بين الناس الائتلاف والاختلاف ، ح 4 ؛ معاني الأخبار ، ص 157 ، باب معنى قوله عليه السلام «اختلاف امتي رحمة» ؛ وعنهما في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 141 ، ح 33425 .
3- . في «أ» : - «حكمه فيه» .

الجرّ نادر إلاّ إذا ركّبت مع «ذا» . ونظيره قراءة عكرمة وعيسى «عمّا يتساءلون»(1) وجوّز الزمخشري في «بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى»(2) كون «ما» استفهاميّة(3) مع ردّه على من قال ذلك في «بِمَآ أَغْوَيْتَنِى»(4) بأنّ إثبات الألف قليل شاذّ .(5)

وضمير «هو» للعاقل ، و«ما» عبارة عن السعادة الأبديّة في الدار الآخرة ، أو ضمير «هو» لما هو فيه و«ما» عبارة عمّا ستنقلب الحال إليه في ظهور القائم عليه السلام .

(وَذلِكَ كُلُّهُ مِنْ تَأْيِيدِ الْعَقْلِ) ؛ إضافة إلى المفعول ، أي من النور .

الرابع والعشرون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ) ؛ بكسر الميم وسكون الهاء ومهملة . (عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْعَقْلُ دَلِيلُ الْمُؤمِنِ) . ظاهر ممّا سبق آنفا .

الخامس والعشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنِ السَّرِيِّ) ؛ بفتح السين المهملة وكسر الراء المهملة وشدّ الخاتمة . (بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يَا عَلِيُّ ، لا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ) ؛ المقابل للعقل .

(وَلاَ مَالَ أَعْوَدُ) ؛ بالمهملتين ، أي أنفع (مِنَ الْعَقْلِ) . ظاهر(6) من السابق أيضا .

السادس والعشرون : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ) ؛ بفتح النون وسكون الجيم ومهملة . (عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللّه ُ الْعَقْلَ ، قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، فَقَالَ :

ص: 271


1- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 238 ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 299 .
2- . يس 36 : 27 .
3- . الكشاف ، ج 3 ، ص 320 .
4- . الحجر 15 : 39 .
5- . الكشاف ، ج 2 ، ص 70 .
6- . في «أ» : «ظاهرا» .

وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقا أَحْسَنَ مِنْكَ ، إِيَّاكَ آمُرُ ، وَإِيَّاكَ أَنْهى ، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ ، وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ) . مضى شرحه في أوّل الباب.

السابع والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْهَيْثَمِ) ؛ بفتح الهاء وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة . (بْنِ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الهاء ومهملة ، نسبة إلى قبيلة باليمن .(1) (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الميم .

(قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الرَّجُلُ) . اللام للعهد الذهني ، أي بعض الرجال .

(آتِيهِ وَأُكَلِّمُهُ بِبَعْضِ كَلاَمِي ، فَيَعْرِفُهُ كُلَّهُ) أي ما ذكرت وما لم أذكر بعدُ من تتمّة الكلام .

(وَمِنْهُمْ مَنْ آتِيهِ فَأُكَلِّمُهُ بِالْكَلاَمِ ، فَيَسْتَوْفِي كَلاَمِي كُلَّهُ) أي يفهمه بعد الإتمام .

(ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيَّ كَمَا كَلَّمْتُهُ) أي يجاوبني على طبق ما كلّمته بحيث يعلم منه أنّه فهم الكلام من أوّله إلى آخره ، أو يقول : مضمون كلامك كذا وكذا ، ويصيب .

(وَمِنْهُمْ مَنْ آتِيهِ فَأُكَلِّمُهُ ، فَيَقُولُ : أَعِدْ عَلَيَّ؟ فَقَالَ : يَا إِسْحَاقُ ، وَمَا تَدْرِي) . الاستفهام مقدّر و«ما» نافية .

(لِمَ هذَا؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : الَّذِي تُكَلِّمُهُ بِبَعْضِ كَلاَمِكَ ، فَيَعْرِفُهُ كُلَّهُ ، فَذَاكَ) . كرّر لوقوع الفصل .

(مَنْ عُجِنَتْ نُطْفَتُهُ بِعَقْلِهِ ؛ فَأَمَّا(2) الَّذِي تُكَلِّمُهُ ، فَيَسْتَوْفِي كَلاَمَكَ ، ثُمَّ يُجِيبُكَ عَلى كَلاَمِكَ) . أي على طبقه . (فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، أي حمل ؛ شبّه ذلك بتركيب الفصّ في الخاتم .

عَقْلُهُ فِيهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؛ وَأَمَّا الَّذِي تُكَلِّمُهُ بِالْكَلاَمِ ، فَيَقُولُ : أَعِدْ عَلَيَّ ، فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ عَقْلُهُ فِيهِ بَعْدَ مَا كَبِرَ) أي خرج من بطن اُمّه إلى أن صار مراهقا أو بالغا مكلّفا .

ص: 272


1- . تاج العروس ، ج 5 ، ص 288 نهد .
2- . في الكافي المطبوع : «وأمّا» .

(فَهُوَ يَقُولُ لَكَ : أَعِدْ عَلَيَّ) . المقصود أنّ هذا التفاوت بينهم ليس باختيارهم ، بل بفعل اللّه على حسب ما يعلمه من المصلحة ، كما مرّ في الخامس عشر .

الثامن والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ بَعْضِ مَنْ رَفَعَهُ) . فيه مسامحة ، والمراد «عن بعض أصحابنا رفعه» .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ ، كَثِيرَ الصِّيَامِ ، فَلاَ تُبَاهُوا) أي لا تفاخروا (بِهِ حَتّى تَنْظُرُوا كَيْفَ عَقْلُهُ) .

التاسع والعشرون : (بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : يَا مُفَضَّلُ ، لاَ يَفْلِحُ) ؛ بالفاء ومهملة بصيغة المعلوم من باب منع أو باب الإفعال . والفلاح : الفوز والنجاة والبقاء .

(مَنْ لاَ يَعْقِلُ ، وَلاَ يَعْقِلُ مَنْ لاَ يَعْلَمُ) . ظاهر ممّا مرّ في الثاني عشر عند قوله : «يا هشام إنّ العقل مع العلم» .

(وَسَوْفَ) . هي كالسين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت التوكيد ، وأنّه واقع لا محالة .

(يَنْجُبُ) ؛ من باب حسن ؛ والنجيب : الكريم الحسيب .

(مَنْ يَفْهَمُ) التفاوت بين العلم والظنّ ، فيتّبع المحكمات اللاتي هنّ اُمّ الكتاب دون ما تشابه منه إلاّ بعد سؤال أهل الذِّكر .

(وَيَظْفَرُ) ؛ من باب علم ؛ والظَفَرُ محرّكةً : الفوزُ بالمطلوب ، يقال : ظفر مطلوبه وبه وعليه : إذا أدركه ، ويقال : ظفر بعدوّه وظفره أيضا : إذا نال منه ما يريد .

(مَنْ يَحْلُمُ) . الحلم بالكسر من باب حسن : الأناة ، والمقصود دفع السيّئة ، أي كلمات الخصوم بالتي هي أحسن .

(وَالْعِلْمُ) بطريقة الحلم والظفر (جُنَّةٌ) . الجنّة بالضمّ : ما يُستتر به من سلاح والسُترة .

(وَالصِّدْقُ عِزٌّ ، وَالجَهْلُ ذُلٌّ) . المراد بالصدق هنا صدق النيّة في إهداء النصيحة وإظهار الحقّ بأن لا يكون قصده إظهار الغلبة على الخصم ، أو هو القول على اللّه

ص: 273

بالمعلوم ؛ وبالجهل المجادلة لا بالتي هي أحسن وترك الحلم ، أو هو القول على اللّه بغير علم ، ويسمّى كذبا وافتراءً كما مرّ في العشرين .

(وَالْفَهْمُ) . المراد به البصيرة بمواقع الكلام في دفع كلمات الخصوم .

(مَجْدٌ) ؛ بالفتح ، أي كرم وحسب .

(وَالْجُودُ) بالمال (نُجْحٌ) ؛ بضمّ النون وسكون الجيم ومهملة : الظفر بالحوائج ، أي هو من أسباب الظفر .

(وَحُسْنُ الْخُلُقِ) أي المماشاة مع الخصوم في الكلام معهم .

(مَجْلَبَةٌ) ؛ بفتح الميم وسكون الجيم وفتح اللام والموحّدة من جلبه - كنصر وضرب - أي ساقه من موضع إلى آخر ، اسم المكان للكثرة ؛ يقال : إذا كثر الشيء بالمكان مفعلة(1) .

(لِلْمَوَدَّةِ) ؛ بفتح الميم وقد تكسر وفتح الواو من باب علم : الحبّ ، يعني أنّ حسن الخلق يجلب مودّة الخصوم وإصغاءهم إلى البرهان وإلى دفع شبههم .

(وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ) ؛ بكسر الجيم أو ضمّها ، من «هجم عليه» بالفتح هجوما : إذا انتهى إليه بغتةً ، أو دخل بغير إذن .

(عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ) . جمع «لابسة» أي الشبهات ، من لبست عليه الأمر - كضربت - أي خلطت ، يعني أنّ من يعلم أحوال أهل زمانه - من تسرّع المشهورين بالصلاح والعلم إذا افترصوا فرصة إلى إيثار الحياة الدنيا إلاّ الشاذّ النادر جدّا - يعلم أحوال الصحابة والتابعين ، ولا يكترث لشبهة كثرة أهل الخلاف وقلّة أهل الحقّ .

قال لي بعض الأصدقاء : إنّي أتعجّب في أنّ الجماعة بعد سماعهم الوصيّة من النبيّ صلى الله عليه و آله كيف ذهبوا عن أهل البيت في أوّل الأمر إلاّ ثلاثة ؟

قلت : تعجّبي على عكس تعجّبك ، أنت تتعجّب من ذهاب الجماعة ، وأنا أتعجّب من بقاء الثلاثة ، وليس ما سمعوا من النبيّ صلى الله عليه و آله فوق ما سمعوا من اللّه في القرآن في تعيين

ص: 274


1- . في «أ، ج» : «مفعله» بدون تنقيط الأخير .

الإمام ، وقد أشرنا إليه في ثاني عشر الباب ، وفي «كتاب الروضة» بعد حديث نوح ،(1) واللّه ما أعجب ممّن هلك كيف هلك ، ولكن أعجب ممّن نجا كيف نجا .

ويحتمل أن يُراد أنّ العالم بالمخالفين وإضمارهم العداوة لنا لا يقرّ عندهم بما ينافي التقيّة إذا رأى منهم لين الكلام .

(وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ) . إشارةٌ إلى ما اُشير إليه في الفقرة السابقة . و«الحزم» بفتح المهملة وسكون المعجمة : الاحتياط ، وأصله من شدّ الحزام . والمساءة مصدر ميمي ، والمراد بسوء الظنّ عدم الاعتماد ، يعني الاحتياط أن لا يغترّ الإنسان بما صدر عن الجماعة من صورة الصلاح ، ولا بقول من قال : إنّي أتّبع السلف الصالح ، ونحو ذلك من الألفاظ الهائلة ؛ بل يتّبع ما في محكم كتاب اللّه والسنّة المتّفق عليها بين الفريقين حتّى يثبت حقّيّة فريق ، ثمّ يتّبع ما قالوا ، أو أن لا يغترّ بلين كلام المخالفين فيترك التقيّة .

(وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَالْحِكْمَةِ نِعْمَةُ الْعَالِمِ ، وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا) . تقوية لما في الفقرتين السابقتين ، و«البين» قد يكون إسما بمعنى الوصلة ، كقولك : لقيته غداة البين ، وبمعنى الفرقة ، كما في غُراب البين ، وقد يكون ظرفا متمكّنا ، وهو هنا اسم بمعنى الوصلة مرفوع على الابتداء ، ويحتمل أن يكون ظرفا منصوبا ، ويضاف «شقيّ» إلى «بينهما» على الأوّل كقوله : «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا»(2) لا على الثاني . ومضى معنى الحكمة في ثاني عشر الباب أنّها الفهم والعقل .

يعني أنّ العالم يفرح بكون المرء حكيما ، فيكون عالما بزمانه حازما ، والجاهل يسوءه أن يكون المرء حكيما ، فقوله : «نعمة» مضاف إلى العالم إضافة لاميّة ، والمراد بالشقاء هنا التعب والمشقّة ، وهو ضدّ النعمة ، لا ضدّ السعادة الاُخرويّة ، وضمير «بينهما» للمرء والحكمة .

ص: 275


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
2- . النساء 4 : 35 .

والحاصل على الثاني أنّ في الوصلة بين المرء والحكمة نعمة للعالم ؛ لالتذاذه بتلك الوصلة ، وشقاء للجاهل ؛ لنفرته عن تلك الوصلة ، فإنّه يحبّ أن يكون كلّ الناس على السفه وخلاف الحكمة ليتيسّر له ترويج جهله ، أو ليكون الناس مثله .

ولو حمل الفقرتان السابقتان على الأمر بالتقيّة احتمل هنا أن يُراد أنّ المرء إذا كان عالما كان اتّصافه بالحكمة سهلاً فيتّقي ، وإذا كان جاهلاً صعبت عليه الحكمة فلا يتّقي .

(وَاللّه ُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ) أي من عرف اللّه ، وهو العالم الذي يحبّ الوصلة بين المرء والحكمة .

(وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ) أي تكلّف اللّه ، والمراد مَن تكلّف معرفته ، وهو الجاهل الذي له شقاء بين المرء والحكمة .

(وَالْعَاقِلُ غَفُورٌ) ؛ بفتح المعجمة ، أي كثير العفو ؛ لعدم اهتمامه باُمور الدنيا .

(وَالْجَاهِلُ) المقابل للعاقل (خَتُورٌ) ؛ بفتح المعجمة وضمّ المثنّاة فوقُ ، أي غدّار يُظهر المغفرة ويُضمر العداوة .(1)

(وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُكْرَمَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال . (فَلِنْ) ؛ بكسر اللام وسكون النون : أمرٌ من لانَ يلين .

(وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُهَانَ ، فَاخْشُنْ) . الخشونة في الخُلق ضدّ اللين فيه ، وقد خشن بالضمّ .

(وَمَنْ كَرُمَ) ؛ كحسن ، أي شرف (أَصْلُهُ) أي طينته التي خلق منها .

(لاَنَ قَلْبُهُ) . ليس المقصود في أمثال ذلك أنّ كرم الطينة يوجب الأفعال المناسبة للين القلب وجوبا سابقا ليلزم الجبر ، بل المقصود أنّه أكثريّ ؛ بقرينة أنّ أمثال ذلك لميل الناس إلى لين القلب ، ثمّ إنّه لو كان دائميّا لكان واجبا بالوجوب اللاحق ، ولا

جبر . وتفصيله يجيء في شرح أبواب من «كتاب التوحيد» منها الخامس والعشرون .

(وَمَنْ خَشُنَ) أي لؤم ؛ لكونه كالنخالة .

ص: 276


1- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 490 ختر .

(عُنْصُرُهُ) ؛ بضمّ العين وفتح الصاد وقد تضمّ : الأصل ، والنون مع الفتح زائدة عند سيبويه ؛ لأنّه ليس عنده فعلل بالفتح .

(غَلُظَ) ؛ بفتح المعجمة وضمّ اللام وفتح الظاء المعجمة ، أي صار غليظا .

(كَبِدُهُ) ؛ بفتح الكاف وكسر الموحّدة ، ويجوز فيه كسر الكاف مع سكون الباء ، ويجوز فتح الكاف أيضا مع سكون الباء وهي واحدة الأكباد . والمراد بغلظ الكبد الجرأة وعدم التثبّت في الاُمور ، وهو لازم لقساوة القلب اُقيم مقامه .

(وَمَنْ فَرَطَ) ؛ بالفاء والراء المهملة والطاء المهملة كنصر ، يقال : فرط عليه في القول ، أي عجل وعدا ، قال تعالى : «إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا»(1) .

(تَوَرَّطَ) . الورطة : الهلكة ، وكلّ أمر يعسر النجاة منه ؛ يقال : أورطه وورّطه توريطا ، أي أوقعه في الورطة ، فتورّط هو فيها .

(وَمَنْ خَافَ الْعَاقِبَةَ) أي سوء العاقبة .

(تَثَبَّتَ) ؛ بالمثلّثة والموحّدة والمثنّاة فوقُ بصيغة الماضي من باب التفعّل ، أي تأنّى وامتنع .

(عَنِ التَّوَغُّلِ) ؛ بالمعجمة المشدّدة ، يُقال : توغّل في الأرض : إذا سار فيها فأبعد .

(فِيمَا لاَ يَعْلَمُ ؛ وَمَنْ هَجَمَ) أي دخل .

(عَلى أَمْرٍ) من اُمور الدين .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ ، جَدَعَ) أي كأنّما جدع بالجيم والدال المهملة والعين المهملة - كنصر - ، أي قطع .

(أَنْفَ نَفْسِهِ) أي أنفه . وفيه نهي عن استعمال الاجتهاد بالظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى .

(وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ) أنّ الهجوم على أمرٍ بغير علم لا يجوز وأنّه جدع لأنف النفس (لَمْ يَفْهَمْ) أي لم يتبصّر .

ص: 277


1- . طه 20 : 45 .

(وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ، لَمْ يَسْلَمْ) ؛ من باب علم ، أي من الآفة - وهي الهجوم على أمر بغير علم - وجدع الأنف .

(وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ ، لَمْ يُكْرَمْ) ؛ بالمهملة(1) ، أي لم يكن كريما شريفا عند اللّه ، كما أنّ مجدوع الأنف حقيقةً لا يكون كريما عند الناس .

(وَمَنْ لَمْ يُكْرَمْ ، تَهَضَّم(2)) ؛ بالمعجمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعّل ، أي تقاصر في إدراك الحقوق ولم يسبق قطّ ؛ تقول : تهضّم تهضّما : إذا نقد للقوم وتقاصر .

والهضم بالتحريك انضمام الجنبين ، وهو في الفرس عيب لا يكون في الكريم منه ، يقال : لا يسبق أهضم في الحلبة أبدا ، وإذا قرئ بصيغة المجهول من المضارع الغائب من باب ضرب ، كان من هضمت الشيء ، أي كسرته ، وذلك لأنّ غير الكريم يُهان .

(وَمَنْ تَهَضَّمَ(3) ، كَانَ أَلْوَمَ) أي ملوما عند اللّه تعالى ، ويحتمل أفعل التفضيل . وفيه ردّ لما توهّمه المجبّرة من أنّه لا لوم على قبيح ، بل العذاب بإجراء العادة .

(وَمَنْ كَانَ كَذلِكَ) أي ملوما عند اللّه لقبيح ما صدر عنه (كَانَ أَحْرى) ؛ بالحاء والراء المهملتين أفعل التفضيل ؛ أي أجدر وأخلق الملومين (أَنْ يَنْدَمَ) أي بأن يندم ؛ لأنّ لوم العباد على شيء يوجب الندم ، فلوم اللّه يوجب الندم بطريقٍ أولى .

الثلاثون : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : مَنِ اسْتَحْكَمَتْ) ؛

بصيغة المعلوم الغائبة ، يُقال : أحكمت الشيء بالألف ، أي أتقنته فاستحكم هو .

(لِي) . إشارة إلى ما مضى في السابق من قوله : «بين المرء والحكمة نعمة العالم» .

(فِيهِ خَصْلَةٌ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة : الخلّة والفضيلة والرذيلة ، أو قد غلب على الفضيلة .

(مِنْ خِصَالِ) ؛ بكسر الخاء . (الْخَيْرِ) ؛ هي المذكورة في رابع عشر الباب .(4)

ص: 278


1- . هي «ج ، د» : «بضم المهملة» .
2- . في الكافي المطبوع : «يُهْضَمْ» .
3- . في الكافي المطبوع : «يُهْضَمْ» .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 22 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 .

(احْتَمَلْتُهُ) ؛ بصيغة المتكلّم من باب الافتعال ، أي قبلته وعددته من شيعتي (عَلَيْهَا) أي لأجلها .

(وَاغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا) . عطفُ تفسير .

(وَلاَ أَغْتَفِرُ) . بمنزلة الاستثناء . (فَقْدَ عَقْلٍ) ؛ والمراد به هنا التمييز بين الإمام الحقّ والباطل . (وَلاَ دِينٍ) أي ولا فقد دين ، والمراد به الطاعة .

(لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ) أي الطاعة لوليّ الأمر وترك اتّباع الظنّ (مُفَارَقَةُ الْأَمْنِ) ؛ حيث يعقبها العقاب في الآخرة والمؤاخذة في الدنيا .

(فَلاَ يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلى «من» ، والفاء فصيحة في جواب شرط مقدّر ، أي إذا فارق الأمن فلا يتهنّأ ؛ يقال : تهنّأ بالطعام : إذا لم يكن له فيه تعب . ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول ، فالظرف قائم مقام الفاعل ، والأنسب حينئذٍ الواو بدل الفاء ، كما يجيء في نظيره من قوله : «ولا يقاس» .

(وَفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ ، وَلاَ يُقَاسُ) أي لا يقدر فاقد العقل (إِلاَّ بِالْأَمْوَاتِ) .

ففي «كتاب الروضة» في صحيفة عليّ بن الحسين وكلامه في الزهد : «واعلموا أنّه من خالف أولياء اللّه ودان بغير دين اللّه واستبدّ بأمره دون أمر وليّ اللّه ، كان في نار تلتهب ، تأكل أبدانا ، قد غابت عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حرّ النار ، ولو كانوا أحياءً لوجدوا مضض(1) حرّ النار»(2) .

الحادي والثلاثون : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُحَارِبِيِّ) ؛ بضمّ الميم والحاء المهملة والراء المهملة المكسورة والموحّدة ، نسبةٌ إلى قبيلة .(3)

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسى ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ

ص: 279


1- . المَضَض : وجع المصيبة. الصحاح ، ج 3 ، ص 1106 مضض .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 16 ، ح 2 .
3- . اُنظر: معجم قبائل العرب ، ج 3 ، ح 1042 محارب .

اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) . يُقال : أعجبني هذا الشيء بحسنه وقد اُعجِب - بصيغة المجهول - فلان بنفسه فهو معجَب - بالفتح - برأيه وبنفسه ، والاسم «العُجب» بالضمّ ، فإضافة الإعجاب إضافة المصدر إلى المفعول به .

(دَلِيلٌ عَلى ضَعْفِ عَقْلِهِ) .

الثاني والثلاثون : (أَبُو عَبْدِ اللّه ِ الْعَاصِمِيُّ) ؛ بالعين والصاد المكسورة المهملتين ، نسبةٌ إلى جدّه ، واسمه : أحمد بن محمّد بن أحمد بن طلحة بن عاصم .(1)

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة والموحّدة.

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَهُ أَصْحَابُنَا وَذُكِرَ الْعَقْلُ ، قَالَ : فَقَالَ : لاَ يُعْبَأُ) ؛ بالمهملة والموحّدة والهمز بصيغة المجهول ، من باب «منع» ، أي لا يبالى (بِأَهْلِ الدِّينِ) أي الطاعة (مِمَّنْ لاَ عَقْلَ لَهُ) . مرّ بيانه في الثامن والعشرين من الباب .

(قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ مِمَّنْ يَصِفُ هذَا الْأَمْرَ) أي ممّن يقول بأمر الإمامة لكم .

(قَوْما لاَ بَأْسَ بِهِمْ عِنْدَنَا) أي هم قائلون بجميع ما يجب القول به ، أو صالحون ليسوا بفسّاق في ظنّنا .

(وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعُقُولُ؟) أي العقول المعهودة ، وهي الحاصلة في خواصّ الشيعة . والمراد أنّهم يوافقون المخالفين في اتّباع الظنّ والحكم بغير علم .

(فَقَالَ : لَيْسَ هؤلاَءِ مِمَّنْ خَاطَبَ اللّه ُ) أي في ضمن خطابه تعالى العقل ، كما يجيء بُعيدَ هذا ، ومضى في خامس الباب : «ممّن عاتب اللّه» . والمآل واحد .

(إِنَّ اللّه َ(2) خَلَقَ الْعَقْلَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ، وَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، فَقَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، مَا خَلَقْتُ شَيْئا أَحْسَنَ مِنْكَ - أَوْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ - ) . «أحسن» بالمهملتين والنون ، و «أو»

ص: 280


1- . اُنظر: منتهى المقال ، ج 7 ، ص 410 ، الرقم 4328 .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

للشكّ من الراوي ، ومضى شرحه في أوّل الباب .

(بِكَ آخُذُ ، وَبِكَ أُعْطِي) . ظاهر تكرار «بك» أنّ المراد بالأخذ ما في قوله تعالى : «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ»(1) ، وقوله تعالى : «أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ»(2) .

والمراد بالإعطاء إعطاء الجنّة والثواب ، فكلّ منهما بالنسبة إلى جمع على حدة ، ووجه التعليلين ظاهر ممّا مرّ في شرح أوّل الباب .

ويحتمل أن يكون المراد : بك أقبل الطاعة ، وبك اُعطي الثواب . ويمكن أن يكون المراد بالأخذ النهي ، وبالإعطاء الأمر ، أو عدم النهي ، وأن يكون المراد بمجموع الأخذ والإعطاء المعاملةَ في التكليف ، فإنّه أخذ ، أي طلب للعبادة وإعطاء ، أي للثواب إن وقعت العبادة .

الثالث والثلاثون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لَيْسَ بَيْنَ الاْءِيمَانِ وَالْكُفْرِ) . «بين» هنا إمّا اسم متمكّن بمعنى الفرقة ، فيكون مرفوعا ، اسم «ليس» . وإمّا ظرف منصوب ، خبر «ليس» أي ليس الفارق بينهما المخصّص للمكلّف بأحدهما مع تساوي نسبتهما إليه باعتبار القدرة .

(إِلاَّ قِلَّةُ الْعَقْلِ) . والمراد حصر الفارق في الكافر فيه ، ويدلّ بالمفهوم على أن ليس بين الكفر والإيمان في المؤمن إلاّ كثرة العقل . ويحتمل أن يكون المراد حصر الفارق في الكافر والمؤمن ، ويكون من باب الاقتصار والتقدير إلاّ قلّة العقل وكثرته .

(قِيلَ : وَ كَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ؟) أي بأيّ تقريب خطر هذا ببالك؟

(قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَرْفَعُ رَغْبَتَهُ) أي مرغوبه وحاجته ، من رغب - كعلم - فيه رغبةً بالفتح وإليه رغبة بالضمّ وبفتحتين . (إِلى مَخْلُوقٍ) أي عبد .

(فَلَوْ أَخْلَصَ نِيَّتَهُ لِلّهِ) أي رفع رغبته إلى اللّه بنيّة خالصة (لَأَتَاهُ) ؛ من الإيتاء وهو

ص: 281


1- . الحاقة 69 : 30 .
2- . القمر 54 : 180 .

الإعطاء . (الله(1) الَّذِي يُرِيدُ) ؛ وهو رغبته . (فِي أَسْرَعَ مِنْ ذلِكَ) أي من رفع الرغبة إلى المخلوق أو حصول رغبته إذا رفعه إلى مخلوق . والمقصود أنّ هذا وما يحدث الكفر داخلان في جنس واحد ومتقاربان .

الرابع والثلاثون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَبِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : بِالْعَقْلِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْحِكْمَةِ ، وَبِالْحِكْمَةِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْعَقْلِ) .

المراد بالحكمة هنا الصمت عن الحكم بغير المعلوم ؛ مأخوذ من حَكَمة اللجام بفتحتين ، لأنّها تمنع الدابّة عمّا لا يراد من الحركات .(2)

وهذا مبنيّ على مقدّمتين :

الاُولى : لمّا كان العقل دالاًّ على فضائل الصمت كان مقوّيا للصمت .

الثانية : لمّا كان الصمت دليل التفكّر والتفكّر دليل العقل - كما مضى في ثاني عشر الباب من قوله : «يا هشام إنّ لكلّ شيء دليلاً ، ودليل العقل التفكّر ، ودليل التفكّر الصمت» - كان الصمت مقوّيا للعقل ، فكلّ منهما إذا زال عن صاحبه ضعف الآخر .

و«استخرج» في الموضعين بصيغة الماضي المجهول ، ويحتمل الأمر . والغور - بفتح المعجمة وسكون الواو ومهملة - : القعر من كلّ شيء ، والمراد بغور الحكمة والعقل أقصاهما ، ويمكن أن يجعل كلّ مرتبة لاحقة من العقل والحكمة غورا بالنسبة إلى سابقتها .

(وَبِحُسْنِ السِّيَاسَةِ يَكُونُ الْأَدَبُ الصَّالِحُ) . ناظرٌ إلى الفقرة الثانية ، تقول : ساسه - من باب نصر - أي أدّبه . و«الأدب» بفتحتين من باب حسن : حفظ الحدود ، و«صلح» - كحسن ومنع - : ضدّ فسد . والمقصود أنّ الحكمة تنهى الإنسان عن الهوى ، وتحصل بحسن سياستها الآداب الجميلة .

ص: 282


1- . في الكافي المطبوع : - «الله» .
2- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 433 حكم .

(قَالَ : وَكَانَ يَقُولُ : التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ) . البصير(1) : الفهيم .

(كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ) ؛ بالمعجمة واللام المضمومتين جمع «ظلمة» . والمراد نحو المنافذ المظلمة في الجبال ، والجمع باعتبار التعدّد الناشئ من بُعد المسافة ، والظرف متعلّق بالماشي .

(بِالنُّورِ) . الظرف متعلّق بالماشي والباء للاستعانة ، أي بالمصباح ونحوه .

(بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ) . الظرف متعلّق ب- «يمشي» والباء للملابسة ، أي بالنجاة عن الظلمات بحيث لا يحصل ضرر من سقوط وعثار وتَرَدّ في بئر ونحو ذلك .

(وَقِلَّةِ التَّرَبُّصِ(2)) . أي سرعة النجاة عن الظلمات ؛ لعدم الحيرة والضلالة . شبّه التفكّر بالمشي في الظلمات والفهم بالنور .

ص: 283


1- . في «أ ، د» : - «البصير» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو المكث» .

باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه

الباب الثاني بَابُ فَرْضِ الْعِلْمِ وَوُجُوبِ طَلَبِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ

أي هذا باب بيان المفروض في القرآن من جملة العلم ، وبيان وجوب طلب ذلك المفروض هل هو على كلّ مسلم أو على بعض المسلمين ، وبيان حثّ اللّه ورسوله والأئمّة عليهم السلام على ذلك الطلب ، فيه عشرة أحاديث .

لمّا فرغ من بيان العقل الذي هو القطب وعليه المدار شرع في توضيح ما ذكره في الجواب - عن شكاية الأخ اصطلاح أهل دهره على الجهالة وعن سؤاله عن أنّه هل يجوز لأحد المقام على الجهالة - بأحاديث موافقة للآيات المذكورة في الجواب في الخطبة الدالّة على نفي جواز المقام على الجهالة ليطمئنّ قلب إخواننا وأهل ملّتنا ، فلا ينافي ذلك كون الأحاديث أخبار(1) آحاد لا توجب علما ؛ لأنّها منضمّة إلى موجب العلم لدفع معارضات الوهم الحاصلة لأهل الجهالة من الإماميّة كما شرحناه في شرح الخطبة ، وقس على ذلك سائر الأبواب الآتية .

الأوّل : (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ) . من زيادات التلامذة . (عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيِّ) ؛ بكسر الراء لالتقاء الساكنين .

(عَنْ عَبْدِالرحمن(2) بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ

ص: 284


1- . في «ج» : «أخبارا» .
2- . في الكافي المطبوع : «عبداللّه» .

الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) أي طلب علم الدِّين في وقت الحاجة واجب يعاقب على تركه إذا لم يكن حاصلاً .

ووقت الحاجة في اُصول الدِّين واُصول الفقه اثنان :

الأوّل : وقت القول على اللّه في إحداهما ، سواء كانت من المسائل الدقيقة الغريبة أوالجليلة الشائعة .

الثاني : وقت استدلال المكلّف في ذهنه بها في وقت الحاجة في الفروع ، وهذا يختصّ ببعض مسائلهما كالإمامة ، فإنّ العمل لا يصحّ في أكثر الفروع إلاّ بمعرفة من يصحّ أن يؤخذ منه الأحكام المجهولة وشروط الأخذ ونحو ذلك ، بخلاف نحو كون إرادته تعالى قديمة أو حادثة وأنّ سمعه تعالى عين علمه بالمسموع أو غيره ، ووقت الحاجة في فروع الدين وقت القول على اللّه فيها ووقت العمل بها .

ومعنى فرض العلم وقت القول على اللّه : النهي عن القول على اللّه بغير علم ، ومعنى فرض العلم وقت العمل : أن لا يصدر عنه عمل إلاّ وقد علم جوازه شرعا بالجواز الواصلي . وتفصيله في محلّه .

(عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ) . خصّه بالذكر - مع أنّه فريضة على الغير المستضعف وإن كان كافرا - إشارةً إلى أنّ فرضه من ضروريّات دين الإسلام .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (إِنَّ) ؛ بالكسر والتشديد . (اللّه َ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ) أي طلبة العلم بالدِّين قبل وقت الحاجة ، أو المراد وقت الحاجة .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْعَمَرِيِّ) ؛ بفتح العين المهملة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ) أي في وقت الحاجة (فَرِيضَةٌ) . ظهر في أوّل الباب .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : هَلْ يَسَعُ النَّاسَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ

ص: 285

إِلَيْهِ؟) . ظهر معناه من بيان معنى وقت الحاجة في أوّل الباب . (فَقَالَ : لا) .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ) ؛ بفتح المهملة وكسر الموحّدة وسكون الخاتمة ومهملة و «سبيع» بطن من همدان .(1)

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ) ؛ بالكسر : الطاعة ، وكماله : فضيلته ، أو جزؤه الأخير .

(طَلَبُ الْعِلْمِ) قبل وقت الحاجة ، ليعمل به في وقت الحاجة . أو المراد طلبه وقت الحاجة (وَالْعَمَلُ بِهِ) .

(أَلاَ وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ) قبل وقت الحاجة أو فيه (أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ) . الوجوب هنا بمعنى الثبوت وحسن الإتيان ، أو بمعنى استحقاق العقاب على الترك .

(مِنْ طَلَبِ الْمَالِ) أي للتوسعة أو لأصل النفقة .

(إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ) ؛ من باب علم أي كفله ؛ لقوله تعالى : «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّه ِ رِزْقُهَا»(2) .

(وَسَيَفِي لَكُمْ) . السين للتأكيد .(3)

(وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ) . فيه دلالة على نفي استقلال عقول الرعيّة بعلم الدِّين ، وأنّ جميعه عند الأئمّة الطاهرين عليهم السلام .

(وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ) ؛ كما في قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) ، وسيجيء في عاشر «باب النوادر» .

ص: 286


1- . لبّ اللباب في تحرير الأنساب ، ص 133 .
2- . هود 11 : 6 .
3- . ذكر إفادة السين للتأكيد السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ، ج 2 ، ص 173 .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

(فَاطْلُبُوهُ) . لم يقل «فاطلبوه من أهله» إشارةً إلى أنّه لا يحصل إلاّ من أهله ، وأنّ الطلب من غير أهله طلب جهل حقيقةً .

إن قلت : قد نرى المال يزيد بطلبه وينقص بترك الطلب .

قلت : قد نرى العكس فهو بالقسمة ، ولا ينافي ذلك وجوب الطلب للمال بشروط بيّنها الفقهاء .

الخامس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والقاف، نسبة إلى برقروذ ؛ بفتح الموحّدة وسكون القاف(1) وضمّ المهملة

وسكون الواو والمعجمة : قرية من سواد قمَّ على وادٍ هناك .(2)

(عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ) ؛ بالخاتمة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ - عن(3) رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) . مضى شرحه في أوّل الباب .

السادس : (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ) أي بالسند السابق (قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِم، أَلاَ وَإِنَّ اللّه َ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ) . مضى شرحه في أوّل الباب .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ، فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ) أي كالأعرابي ؛ نسبة إلى الأعراب بفتح الهمزة ، وهم سكّان البادية من أولاد يعرب بن قحطان ، لا واحد له من لفظه(4) ، وليس الأعراب

ص: 287


1- . في «ج، د» : «بفتح القاف» بدل من : «بفتح الموحدة وسكون القاف» .
2- . معجم البلدان ، ج 1 ، ص 389 برقة ، مراصد الاطلاع ، ج 1 ، ص 186 .
3- . في الكافي المطبوع : - «عن» .
4- . مفردات غريب القرآن ، ص 328 عرب .

جمع عرب ، وإنّما العرب اسم جنس وواحده عربي ، وهم سكّان الأمصار منهم أو عامّ . والمراد بالأعرابي هنا واحد الأعراب المذكورين في قوله تعالى في سورة التوبة : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ»(1) .

(إِنَّ اللّه َ(2) يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) ؛ في سورة التوبة :

(«لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(3)) . استئناف بياني لكونه كالأعرابي ، فإنّ الآية تدلّ على ذمّهم ؛ لعدم تفقّههم في الدِّين ، فإنّ صدر الآية «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا»(4) . والمراد بالمؤمنين بعض الأعراب ، وهم المذكورون في سابق هذه الآية بقوله : «وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ»(5) واللام في «لينفروا» لتأكيد النفي الدالّ على سهولة طريق حصول التفقّه لمؤمني الأعراب ، والفاء للتفريع على السهولة ، و«لولا» للتوبيخ وضمير «منهم» راجع إلى الأعراب المذكورين في سابق هذه الآية بقوله : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ»(6) .

واللام في «ليتفقّهوا» للتعليل ، فمَن لم يتفقّه من غيرهم داخل في حكمهم . والتفقّه مطاوع التفقيه ، فهو كسب الفقه بالكسر ، وهو الفهم ، أي العلم المفضي إلى العمل بمقتضاه ، والدِّين الطاعة . والمراد بالتفقّه في الدِّين تفهّم حدود ما أنزل اللّه على رسوله المذكورة فيما سبق .

والحدود : الأطراف ؛ وهي نوعان : داخلة وخارجة . و«مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ» عبارة عن الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، قال تعالى في سورة

ص: 288


1- . التوبة 9 : 97 .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . التوبة 9 : 122 .
4- . التوبة 9 : 122 .
5- . التوبة 9 : 99 .
6- . التوبة 9 : 97 .

المائدة : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»(1) ، وقال فيها : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»(2) ، وقال فيها : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»(3) ، وهو أحسن الحديث المذكور في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ»(4) ، ويجيء بيانه في شرح ثالث الثالث والعشرين من كتاب التوحيد .(5)

وحدوده الداخلة المسائل التي لا يمكن العمل بها(6) إلاّ مع العلم بها كوجوب سؤال أهل الذِّكر عن كلّ ما لم يعلم من اُمور الدِّين المحتاج إليها في وقت الحاجة سؤالاً بلا واسطة ، أو بواسطة معلومة الصدق إن تيسّر ، وإلاّ فبواسطة جامعة لشروط العمل المقرّرة عند الشيعة الإماميّة في جواز العمل بأخبار الآحاد بدون إفتاء ولا قضاء .

وحدوده الخارجة الغلوّ والانتحال والتأويل كما يجيء بيانه في ثاني الثالث(7) . والإنذار : التخويف من العذاب على اتّباع الظنّ المذكور في المحكمات المتواترة عند الأعراب أيضا ، والحذر : الاجتناب عن اتّباع الظنّ وعذابه .

الثامن : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللّه ِ، وَلاَ تَكُونُوا أَعْرَابا؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللّه ِ، لَمْ يَنْظُرِ اللّه ُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلاً) ؛ من التزكية : الإنماء ، أي لم يضاعف حسناته أو لم يقبل ؛ من زكّاه تزكية : إذا طهّره ، فإنّ شرط صحّة

العمل أن يكون مع العلم بالحكم الواصلي ، كما مرّ في أوّل الباب .

ص: 289


1- . المائدة 5 : 44 .
2- . المائدة 5 : 45 .
3- . المائدة 5 : 47 .
4- . الزمر 39 : 23 .
5- . أي الحديث 3 من باب النوادر من كتاب التوحيد .
6- . في النسخ : «به» والمثبت موافق للسياق .
7- . أي الحديث 2 من باب صفة العلم وفضله وفضل العالم .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ) ؛ بفتح الجيم . (بْنِ دَرَّاجٍ) ؛ بضمّ الدال وتشديد الراء المهملتين . (عَنْ أَبَانِ) ؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحّدة. (بْنِ تَغْلِبَ)؛ بفتح المثنّاة فوقُ وسكون المعجمة وكسر اللام والموحّدة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: لَوَدِدْتُ) ؛ بفتح اللام وصيغة المعلوم للمتكلّم من باب علم ، جواب قسم محذوف .

(أَنَّ) بالفتح والتشديد . (أَصْحَابِي ضُرِبَتْ) ؛ بصيغة المجهول للغائبة أو المعلوم للمتكلّم .

(رُؤُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ) ؛ بكسر المهملة ، جمع «سوط» بالفتح المقرعة ، وأصله أن تخلط شيئين في إنائك ثمّ تضربهما بيديك حتّى يختلطا ؛ سمّيت به لأنّها تخلط اللحم بالدم . (حَتّى يَتَفَقَّهُوا) أي في دين اللّه .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، رَجُلٌ) . مبتدأ .

(عَرَفَ هذَا الْأَمْرَ) ؛ من باب ضرب ، والجملة صفة «رجل» . و«الأمر» مصدر أمر علينا مثلّثة الميم : إذا ولّى ، والاسم «الإمرة» بالكسر ، أي ولاية أهل البيت ، أو بمعنى الحادثة والشيء ، أي أمر إمامة أهل البيت وإنكار القوم حقّهم .

(لَزِمَ بَيْتَهُ) . خبرٌ ، تقول : لزمت الشيء كعلم : إذا لم تفارقه .

(وَلَمْ يَتَعَرَّفْ إِلى أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ؟) . بصيغة المعلوم الغائب من باب التفعل ، يقال : تعرّف فلان إلى زيد : إذا تقرّب إليه بحيث يعرفه زيد ؛ أي اعتزل الناس حتّى أهل دينه .

(قَالَ: فَقَالَ: كَيْفَ يَتَفَقَّهُ هذَا فِي دِينِهِ؟!) أي لا يجوز له ؛ لأنّه خالف قوله تعالى في سورة التوبة : «لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ»(1) وذلك إذا لم يكن فقيها .

ص: 290


1- . التوبة 9 : 122 .

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء

الباب الثالث بَابُ صِفَةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ الْعُلَمَاءِ

وفيه عشرة أحاديث ، والمراد ب- «صفة العلم» بيان أنّ العلم المطلوب للشارع أيّ علم هو؟ وب- «فضله» فضل العلم الموصوف ، وب- «العلماء» أهل العلم الموصوف .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ، عَنْ دُرُسْتَ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟) . لم يقل : «من هذا»؟ تخفيفا وإهانةً له .

(فَقِيلَ: عَلاَّمَةٌ) ؛ بتشديد اللام والهاء، لتأكيد المبالغة : العالم جدّا ، وقد يقال للنسّابة .

(فَقَالَ: وَمَا الْعَلاَّمَةُ؟) أي بأيّ شيء تسمّونه علاّمة؟

(فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا) . الضمير للعرب .

(وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ما وقع في الأيّام التي هي قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله بين قريش .

(وَالْأَشْعَارِ وَالْعَرَبِيَّةِ) أي القواعد المتعلّقة بكلام العرب .

(قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ) لبيان أنّ علم هذا الرجل لا يصلح لأن يطيفوا به لأجله : (ذَاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ) ؛ بصيغة المعلوم ، من باب نصر ، أو باب الإفعال .

(مَنْ) . موصولة محلّها النصب على المفعوليّة .

(جَهِلَهُ) . المضاف محذوف ، أي جهل معلومه . ويحتمل أن يُراد بالعلم المعلوم ،

ص: 291

فلا حاجة إلى تقدير ، وكذا في قوله :

(وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي ما يصلح منه لأن يطيفوا برجل لأجله لأنّه النافع منه للعالم ، والضارّ منه للجاهل ، ولا يستقلّ العقول بتحصيله .

(ثَلاَثَةٌ) أي ثلاثة علوم ، على أن تكون «أو» فيما يجيء بمعنى الواو . ويحتمل أن يقدّر مضاف ، أي أحد ثلاثة .

(آيَةٌ) . خبر مبتدأ محذوف ، والمضاف أيضا محذوف ، أي الثلاثة أو أحد الثلاثة علم آية ، ولو اُريد بالعلم المعلوم لم يحتج إلى تقدير المضاف . والمراد بالآية المفصول عمّا قبله وما بعده من جملة أجزاء سور القرآن حين إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله على كاتبي القرآن . والمراد بالسورة ما لا تراخي بين أجزائه في النزول على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جملة القرآن .

(مُحْكَمَةٌ) . اسم مفعول من باب الإفعال . والآيات المحكمات هي الآيات القطعيّة الدلالة بحسب أذهان الرعيّة الغير المنسوخة اللاتي هنّ اُمّ الكتاب ؛ لدلالتها على تعيين أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم ، وهم أئمّة العدل ، وبتوسّطهم على معاني الآيات المتشابهات اللاتي لا يعلمها الرعيّة إلاّ بسؤال أهل الذِّكر عليهم السلاموعلى جميع ما يحتاج إليه الرعيّة ، كما مرّ في ثاني عشر باب العقل .

(أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) . الفرض : القطع . والمراد هنا بالفريضة مسألة فرضها اللّه في القرآن ، أي ذكرها فيه وقطعها عن غيرها ؛ بمعنى أنّ العالم بمضمونها لا يحتاج في الانتفاع والعمل بها إلى خطاب آخر عن اللّه أو رسوله أو أهل بيته ؛ لأنّها ليست لبيان

كيفيّة العمل بخطاب آخر ، فجميع المسائل الفقهيّة الفرعيّة فرائض ؛ أي سواء كانت في الواجبات أم في المستحبّات أم في غيرهما ، بخلاف مسائل اُصول الفقه كقولنا : يجب العمل بخبر الواحد بشرط كذا ، فإنّه لا ننتفع بها إلاّ إذا وصل إلينا خطاب آخر منقول آحادا .

والعادلة مسألة عدلت عن محكمات القرآن ، فهي في متشابهاته ؛ لأنّ القرآن تبيان كلّ شيء .

ص: 292

(أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ) . السنّة بالضمّ : الطريقة ، والقائمة : المستمرّة بين أهل الحقّ . والمراد بالسنّة القائمة هنا مسألة من اُصول الفقه عليها العمل في عصر الرسول والأئمّة عليهم السلام بحيث يعلم أنّها بتقريرهم كقولنا : يجب العمل بخبر الواحد بشرط كذا ، فإنّها معلومة لنا ومفيدة لنا فيما لم نعلم من جملة الفريضة العادلة ، والمقصود حصر العلم المأمور به بالذات في الثلاثة ، فلا ينافي نفع العلم بالقواعد العربيّة ونحوها إذا توقّف العلم بأحد الثلاثة عليه ، ولم يقصد بتحصيله إلاّ التوسّل به إلى تحصيلها ، ولم يتجاوز القدر الموقوف عليه .

(وَمَا خَلاَهُنَّ) . الضمير للآية والفريضة والسنّة ، أي وعلم ما خلاهنّ .

(فَهُوَ فَضْلٌ) أي زيادة غير محتاج إليه .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المعجمة وفتح المثنّاة فوقُ ومهملة : نسبة إلى البخترة ، وهي مشية حسنة ، والبختري الحسن المشي والجسيم والمختال .(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ) . المراد ب- «العلماء» الذين يعلمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف بالظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه محتاج إليه من الدِّين علما لا يكون معه غلوّ ولا انتحال ولا تأويل . والمراد بالأنبياء الذين نزل عليهم شريعة وكتاب على حدة ، وهم ستّة : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وعليهم .

(وَذَاكَ أَنَّ) أي لأنّ (الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا) ؛ بتخفيف المهملة من الإيراث ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي لم يورثوا اُمّتهم(2) ومن يأتي بعدهم .

(دِرْهَما وَلاَ دِينَارا) أي ليسا ميراث النبوّة ، ولا ينافي إيراثهم الورثة المعيّنين المال(3) ؛

ص: 293


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 136 ؛ ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 101 بختر .
2- . في «ج» : «منهم» .
3- . في «أ» : - «المال» .

لأنّه ليس من حيث النبوّة ، ولو اُريد نفي إيراثهما مطلقا لكان ظاهر الكذب ؛ إذ ليس معنى الإيراث لغةً وشرعا إلاّ إبقاء شيء إلى بعد الموت(1) ، سواء استحقّه الورثة المعيّنون شرعا في العمومات القرآنيّة أم كان صدقة .

(وَإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ) . المراد الآيات البيّنات المحكمات المشتركة مضمونا بين جميع كتب الأنبياء ، وهي الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف بالظنّ الآمرة بسؤال أهل الذكر عن كلّ مشتبه ممّا يحتاج إليه من الدِّين ، فإنّ تلك الآيات أحاديث من جملة كتبهم التي هي أحاديثهم موافقا لقوله تعالى في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ»(2) ، وقوله في سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ»(3) .

(فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَقَدْ أَخَذَ حَظّا وَافِرا) . تفريعٌ على كون تلك الأحاديث مشتركة بين جميع شرائع الأنبياء ، فهي مهتمّ بها غاية الاهتمام ، وذكرُ شيء منها مبنيٌّ على أنّ مضمون جميع تلك الآيات واحد كرّر للتأكيد ، ولذا يسمّى(4) تلك الآيات المثاني ، فالأخذ بواحدٍ منها أخذٌ بجميعها .

وكون حظّه وافرا مبنيّ على أنّه أصل جميع الدِّين ، فإنّ الأخذ به يفضي إلى سؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه محتاج إليه من الدِّين وعبادة اللّه حقّ عبادته وترك اتّباع الظنّ والاختلاف عن الظنّ .

(فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ؟) . تفريعٌ على ما سبق . و«علمكم هذا» عبارة عن المضمون المشترك بين جميع الأنبياء ، و«مَن» للاستفهام ، وأخذه عبارة عن التفقّه فيه بحيث يندفع عنه المعارضات الوهميّة المقتضية للغلوّ أو الانتحال أو التأويل .

(فَإِنَّ فِينَا - أَهْلَ الْبَيْتِ - فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ

ص: 294


1- . النهاية ، ج 5 ، ص 172 ؛ المصباح المنير ، ص 654 ورث .
2- . الزمر 39 : 23 .
3- . يوسف 12 : 111 .
4- . في «ج» : «سمّى» .

الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) . فاء التعليل باعتبار دلالة مدخولها على وقوع التحريف والانتحال والتأويل في العلم ، و«في» في الموضعين للتعليل ، والظرف الثاني بدل من الأوّل ، بدلَ البعض من الكلّ ، و«أهل» منصوب بالاختصاص ، والخَلَف بفتحتين الإمام بعد الإمام ، والمراد به الإمام الحيّ ، والعدول جمع عدل بمعنى عادل ، المتوسّطون بين الإفراط والتفريط والتضييع ، وهم شيعة الخلف المؤمنون به حقّ الإيمان . وفيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة النور : «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ* رِجَالٌ»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب الحجّة» في سادس، السابع ، وهو «باب معرفة الإمام والردّ إليه» .

و«ينفون» بضمّ الفاء من النفي بمعنى اعتقاد بطلان شيء ، أو بمعنى الاستدلال على بطلان شيء ، والتحريف نقل شيء إلى الحرف بمعنى الطرف الخارج ، والغالون جمع اعتقدوا أنّه لا يجوز اتّباع الظنّ في محلّ الحكم الشرعي أيضا ، فأنكروا ما روي من الأحاديث في سهو النبيّ والأئمّة ، مثل ما يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل، الثاني والأربعين ، وهو «باب من تكلّم في صلاته أو انصرف قبل أن يتمّها أو يقوم في موضع الجلوس» .

وقد شنّع ابن بابويه في الفقيه في «كتاب الصلاة» في «باب أحكام السهو في الصلاة على الغالين» بقوله : «إنّ الغلاة والمفوّضة - لعنهم اللّه - ينكرون سهو النبيّ»(2) إلى آخر ما قال .

والانتحال أن ينسب أحد نفسه إلى مذهب ويعمل بخلافه(3) ، والمبطلون : التابعون للظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى ويختلفون فيها بالظنون ويدّعون أنّهم من الإماميّة وليسوا منهم ، كما هو مذكور في «كتاب الروضة» تحت خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام ، وهي خطبة الوسيلة من قول جابر بن يزيد لأبي جعفر عليه السلام : قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها ، وجواب الإمام بما حاصله : إنّ هؤلاء ليسوا شيعة ، فإنّهم أنكروا صاحب

ص: 295


1- . النور 24 : 36 - 37 .
2- . الفقيه ، ج 1 ، ص 359 ، ذيل ح 1031 .
3- . لسان العرب ، ج 11 ، ص 651 ؛ تاج العروس ، ج 15 ، ص 722 نحل .

الزمان ، ولذا اختلفوا في مذاهبها(1) .

والمراد بالتأويل هنا صرف الكلام الصريح في معنى عنه إلى معنى آخر لاتّباع الهوى ، والجاهلون هم الذين يؤوّلون الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة باتّباع العلم بأنّ المراد بالظنّ اعتقادٌ لم يكن عن أمارة ولا عن دليل ، وبالعلم اعتقادٌ يكون عن أمارة أو دليل ، وربّما خصّصوا الآيات بمسائل اُصول الدِّين .

ثمّ لا ينافي ذلك غيبة الإمام الثاني عشر صلوات اللّه عليه كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الحجّة» في السادس عشر والتاسع عشر من «باب في الغيبة»(2) من أنّه عليه السلام ظاهر على ثلاثين من خاصّة مواليه في الغيبة الكبرى ، فهم عدول البتّة ، وربّما كانت العدالة في غيرهم أيضا بتوفيق اللّه تعالى .

الثالث : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ حَمَّادِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الميم . (بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللّه ُ بِعَبْدٍ خَيْرا) . معنى إرادة اللّه فعل العبد هنا - فعلٌ أو تركٌ - منه تعالى يفضي إلى اختيار العبد إيّاه بدون جبر .

(فَقَّهَهُ) ؛ بتشديد(3) القاف ، أي وفّقه للفقه (فِي الدِّينِ) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة ومهملة . (بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ: الْكَمَالُ كُلُّ) ؛ بالرفع على البدليّة ، ويبعد كونه صفة ؛ لأنّه يشترط فيها الاشتقاق عند جمهور النحاة وأن لا تكون مقصودة بالنسبة .

وقيل : من الجوامد الواقعة صفة قياسا «كلٌّ» و«جدٌّ» و«حقّ» تابعة للجنس ، مضافة إلى مثل متبوعها لفظا ومعنىً ، نحو : هو الرجل كلّ الرجل ، أو جدّ الرجل ، أو حقّ

ص: 296


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 18 ، ح 4 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 340 ، باب في الغيبة ، ح 16 و 19 .
3- . في «د، ج» : «يشد» .

الرجل .(1) انتهى .

والمعنى أنّ ما سواه كأنّه ليس رجلاً أو هزل أو باطل .

(الْكَمَالِ) ؛ بالجرّ ، مضاف إليه . (التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ) : المصيبة ، واحدة نوائب الدهر ، وهي نوازله ؛ من نابه أمرٌ ينوبه ، أي أصابه .

(وَتَقْدِيرُ الْمَعِيشَةِ) أي جعلها بين التقتير والتبذير .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ(2)) ؛ بكسر المهملة . (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: الْعُلَمَاءُ) . المراد الذين صدّق فعلهم قولهم من جملة من حصّل العلم بقدر معتدّ به من مسائل الدِّين من الرعيّة ، كما سيجيء في ثاني «باب صفة العلماء» .

(أُمَنَاءُ) ؛ بضمّ الهمزة وفتح الميم ، جمع «أمين» وهو المعتمد عليه في الحفظ للحصن ونحوه .

(وَالْأَتْقِيَاءُ) ؛ جمع «تقيّ» بالمثنّاة فوقُ المنقلبة عن الواو والقاف .

(حُصُونٌ) ؛ بضمّتين جمع «حصن» بالكسر : سور المدينة . شبّه الأتقياء بالحصون إمّا لأنّ الناس محفوظون بثبات قدمهم في الدِّين من شرّ العدوّ وهو الشيطان ، وإمّا لأنّ اللّه يدفع بهم البلاء عن سائر الناس ، ويشبه أن يكون الأصل «والأنبياء حصون» بالنون والباء الموحّدة ؛ لأنّ شرائعهم محيطة باُممهم يتحصّنون بها عن شرّ الشيطان .

(وَالْأَوْصِيَاءُ سَادَةٌ) ؛ بتخفيف المهملة جمع «سيّد» أي اُمراء على العلماء الحافظين للحصون ، يأمرونهم بطريقة الحفظ وينهونهم عمّا يضادّها .

السادس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي بالسند السابق عن أبي عبداللّه عليه السلام :

(الْعُلَمَاءُ) . مرّ تفسيره آنفا . (مَنَارٌ) ؛ بفتح الميم جمع «منارة» بفتحها ، وهي العلامة التي تنصب لمعرفة الطريق .

ص: 297


1- . شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 292 .
2- . في «أ» قد تقرأ : «سينان» .

(وَالْأَتْقِيَاءُ حُصُونٌ، وَالْعُلَمَاءُ(1) سَادَةٌ) . المراد ب-«العلماء» هنا أخصّ من السابق ، أي الأوصياء . ويجيء تفسيره بهم في آخر «باب أصناف الناس»(2) . وفي بعض النسخ

«الأوصياء» بدل «العلماء» .

السابع : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكِنْدِيِّ) ؛ بكسر الكاف وسكون النون ومهملة . وكندة أبو حيّ من اليمن ، وهو كندة بن ثور .(3) (عَنْ بَشِير الدَّهَّانِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الهاء .

(قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا) . «من» للتبعيض أو للابتداء بتضمين التفقّه معنى الأخذ .

(يَا بَشِيرُ، إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ) أي من أصحابنا أو من المخالفين ؛ وفيه حينئذٍ وعيد .

(إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ) أي بما اعترف بأنّه الفقه من طريقة أهل البيت أو بما أمر بتحصيله من الفقه على طريقتهم عليهم السلام دون طريقة المخالفين .

(احْتَاجَ إِلَيْهِمْ) أي إلى المخالفين ومطالعة كتبهم في اُصول الدِّين واُصول الفقه ونحو ذلك . ومعنى الاحتياج إليهم توهّم أنّه يمكن جعل ما سمّوه فقها وليس بفقه طريقا للفقه الواجب في الدِّين ، وذلك لاعتماده بتسويلات إبليس على ذهنه في التمييز بين الحقّ والباطل في دقيق الأشياء وجليلها بدون سؤال أهل الذِّكر والرجوع إلى آثارهم .

(فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلاَلَتِهِمْ) . إضافة «الباب» إلى «ضلالتهم» لاميّة ، والمراد بباب ضلالتهم الاجتهاد الظنّي والقول على اللّه بغير علم ، فإنّه يفتح على الإنسان سائر الضلالات ، كما أنّ الكفّ عنه يفتح عليه سائر الحقّ ، كما يجيء في سابع الثاني عشر(4) وحادي عشر السابع عشر(5) .

ص: 298


1- . في الكافي المطبوع : «الأوصياء» .
2- . أي الحديث 4 من باب أصناف الناس .
3- . الصحاح ، ج 2 ، ص 532 كند .
4- . أي الحديث 7 من باب النهي عن القول بغير علم .
5- . أي الحديث 11 من باب النوادر .

ويحتمل أن يكون المراد به الاعتماد على عقله في دقيق الأشياء وجليلها ، فإنّه رأس كلّ ضلالة ، ويبعّد هذا أنّ الاعتماد من تتمّة الشرط ، كما يظهر ممّا فسّرنا به قوله : «احتاج إليهم» فهم لم يدخلوه فيه ، بل هو أدخل نفسه فيه ، وإنّما لم يقل : أدخلوه من باب ، لأنّ المراد إدخالهم إيّاه في نفس الباب ، لا في ضلالتهم ، وإن كان الأوّل مستتبعا للثاني مطلقا أو غالبا .

(وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ) . الواو للحال ، والضمير للرجل ؛ أي لا يعلم أنّهم أدخلوه في الباب ، وهذا مجرّب مُشاهد فيمن لم يقتف من أصحابنا آثار أهل البيت في اُصول الدِّين ونحوها ، فإنّه سلّم من المخالفين كثيرا من أباطيلهم الداعية إلى القول على اللّه بغير

علم ، نحو قولهم : ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ، فادّعى العلم بكلّ ما قال .

إن قلت : إذا لم يعلم أنّهم أدخلوه كان معذورا غير مؤاخذ .

قلت : هذا إنّما يصحّ في المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، ويجيء بيانهم في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب المستضعف» . وأمّا غيرهم فيؤاخذ لترك ما هو ضروري كلّ دين من وجوب سؤال أهل الذِّكر عمّا ليس من ضروريّات الدِّين ولا من ضروريّات المذهب ، وقد مرَّ بيانه في ثاني عشر «باب العقل» ، ويجيء في عاشر «باب النوادر» .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام، قَالَ) . الضمير لأبي عبداللّه عليه السلام .

(قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلاَّ لِرَجُلَيْنِ: عَالِمٍ) ؛ بالجرّ بدل تفصيل ، أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف . والمراد من يعلم القدر المعتدّ به أو المحتاج إليه من المسائل الشرعيّة .

(مُطَاعٍ) ؛ بضمّ الميم ، والمراد ثقة معتمد عليه في أحكام اللّه تعالى ، وهو من صدّق فعله قوله .

(أَوْ)؛ بمعنى الواو ، أو معنى «لرجلين» لأحد رجلين .

ص: 299

(مُسْتَمِعٍ) أي من العالم المُطاع .

(وَاعٍ) . تقول : وعيت الحديث أعيه وعيا إذا حفظته وفهمته .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ) كسفينة (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: عَالِمٌ يُنْتَفَعُ) ؛ بصيغة المجهول . (بِعِلْمِهِ) . الظرف نائب الفاعل ويشمل الفاعل المحذوف العالم أوّلاً ، فإنّ العلم بلا عمل شرٌّ من الجهل .

(أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ) .

العاشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدَانَ) ؛ بفتح السين وسكون العين المهملتين . (بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : رَجُلٌ) . مبتدأ . (رَاوِيَةٌ) . صفة ، والهاء للمبالغة ، أي كثير الرواية .

(لِحَدِيثِكُمْ يَبُثُّ) ؛ بالموحّدة وشدّ المثلّثة بصيغة معلوم [من] باب نصر أو ضرب أو [من] باب الإفعال صفة ثانية أو حال عن ضمير راوية ، أي ينشر (ذلِكَ) أي حديثكم . (فِي النَّاسِ، وَيُسَدِّدُهُ)(1) ؛ بالسين المهملة ، من باب التفعيل ؛ أي يوضحه ويبيّنه بحيث يظهر أنّ الحقّ فيه دون حديث المخالفين ، والسداد بالفتح والسدد بفتحتين : الاستقامة .

(فِي قُلُوبِهِمْ) أي قلوب المخالفين بدفع شبههم عنه وبالاستدلال .

(وَ قُلُوبِ شِيعَتِكُمْ) ؛ بالاستدلال والتوضيح .

(وَلَعَلَّ عَابِدا مِنْ شِيعَتِكُمْ لَيْسَتْ لَهُ هذِهِ الرِّوَايَةُ) . عطفٌ بالمعنى على «رجل راوية» أي ورجل عابد من شيعتكم . والمراد بالعابد كثير الصلاة والصيام ونحوهما ، والظرف صفة «عابدا» و«ليست» خبرٌ ، والتوقّع هنا ليس ترجّي المحبوب ، بل الإشفاق من المكروه ، نحو : لعلّ الرقيب حاضر .

ص: 300


1- . في الكافي المطبوع : «يُشدِّدُهُ» .

(أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟) . خبر المبتدأ وما في حيّزه . ومنع طائفة من الكوفيّين وقوع الإنشاء خبرا ، فالجملة على مذهبهم استئناف نحوي ، وخبر المبتدأ «يبثّ» أو «راوية» ، وجُوِّز كون النكرة الغير المخصّصة مبتدأ ؛ لإفادة أو أنّه على سبيل الفرض ، وليس على حقيقة الخبر ، وحينئذٍ عطف «ولعلّ» إلى آخره على سابقه باللفظ ومِن عطف الإنشاء على الخبر ؛ وهو جائز عند جماعة من النحويّين .

(قَالَ: الرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ) ؛ بالشين المعجمة من باب نصر ، أي يقوّي به .

(قُلُوبُ شِيعَتِنَا) . لم يذكر قلوب المخالفين ، فإنّه قد ينافي التقيّة ، فربّما كان تركه أحسن .

(أفْضَلُ مِنْ ألْفِ عَابِدٍ) . لا ينافي ما سبقه ؛ لأنّ العابد فيما سبق لا رواية له أصلاً ، بخلاف العابد في هذا الحديث ، أو لأنّه لم يذكر قدر الأفضليّة ، أو لأنّهما بحسب التفاوت في مراتب العلم والرواية ، أو لأنّه باعتبار ضميمة الكلام مع المخالفين في زمن التقيّة ، أو لأنّه قد يعبّر بالألف ونحوه عن الكثير الذي لا يعدّ ولا يُحصى ، وليس المقصود به تعيين العدد .

ص: 301

باب أصناف الناس

الباب الرابع بَابُ أَصْنَافِ النَّاسِ

فيه أربعة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ) ؛ بضمّ الهمزة . (عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ) ؛ بفتح المهملة وكسر الموحّدة وسكون الخاتمة ومهملة . وفي القاموس : «وكأمير ، السبيع بن سبع أبو بطن من همدان ، منهم الإمام أبو إسحاق عمرو بن عبداللّه ، ومحلّة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا»(1) .

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ آلُوا) ؛ كقالوا ، يقال : آل الأمر إلى كذا أولاً ومآلاً : إذا رجع إليه وتقرّر عليه .(2)

(بَعْدَ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله إِلى ثَلاَثَةٍ) أي أقسام ثلاثة :

(آلُوا إِلى عَالِمٍ) بالمسائل الشرعيّة المحتاج إليها الغير الضروريّة للدِّين ولا الجارية مجراها ، فهو عالم بكلّها اُصولها وفروعها .

(عَلى هُدًى) . الظرف صفة موضحة لعالم ، أي ليس علمه بمحض الدعوى . والهُدى بضمّ الهاء وفتح الدال : الرَّشاد - كما في قوله : «لَعَلَى هُدىً أَوْ فِى ضَلاَلٍ»(3)

ص: 302


1- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 36 سبع .
2- . المصباح المنير ، ص 29 آل .
3- . سبأ 34 : 24 .

والدلالة ، ويطلق على القرآن ، كقوله(1) : «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»(2) وقوله : «هُدىً لِلنَّاسِ»(3) .

ومعنى الاستعلاء تمثيل تمكّنه من الهدى واستقراره عليه بحال ؛ من اعتلى الشيء وركبه ، وهذا مختصّ بالأوصياء عليهم السلام كما يجيء في آخر الباب .

(مِنَ اللّه ِ) . الظرف صفة موضحة لهدى ، أي لا عن اجتهاد ، بل بتلقٍّ عن صاحب الشرع .

(قَدْ أَغْنَاهُ اللّه ُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ) . أي علمه محيط بجميع المسائل المحتاج إليها ، دقيقها وجليلها ، والجملة صفة ثانية لعالم ، إمّا موضحة كما يظهر من آخر الباب ، وإمّا مخصّصة . وبالجملة القسم الأوّل مختصّ بالأوصياء .

(وَجَاهِلٍ) ؛ بالجرّ عطف على «عالم» . والمراد جاهل بالمسائل الغير الضروريّة للدِّين ولا الجارية مجراها ، فإنّ ما عداها معلوم لكلّ من الأقسام الثلاثة ، والمراد بهذا القسم المجتهد ، فإنّ الظنّ يباين العلم .

(مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ) . صفة «جاهل» . وهذا ناظر إلى قوله : «على هدى من اللّه» أي للعلم المجوّز للحكم بين الناس ، فإنّه يقول : إنّ ظنّ المجتهد يفضي به إلى علم في جميع اجتهاديّاته ، وأنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .

(لاَ عِلْمَ لَهُ) . صفة ثانية لجاهل ، وهذا ناظر إلى قوله : «قد أغناه» إلى آخره ، أي ليس له علم أصلاً في شيء من اجتهاديّاته ، وإنّما ذكره لأنّ الجاهل بمجموع قد يكون عالما ببعض دون بعض .

إن قلت : كيف يمكن للمجتهد توهّم أنّ ظنّه يفضي به إلى العلم المجوّز للحكم ، وهو يعلم أنّ الاجتهاد مساوق للظنّ؟

قلت : ذلك لأمرين :

الأوّل : توهّمه أنّ الاجتهاد والظنّ بالحكم الواقعي يوجب العلم بالحكم الواصلي .

ص: 303


1- . في «ج ، د» : «لقوله» .
2- . البقرة 2 : 2 .
3- . البقرة 2 : 185 .

الثاني : خلطه بين الأحكام الواقعيّة والواصليّة ، وتوهّمه أنّ العلم بالحكم الواصلي يقوم مقام العلم بالحكم الواقعي في جواز الإفتاء والقضاء ، وذلك لحبّه رياسة الدنيا والتصدّر للإفتاء والقضاء ، مع علمه بأنّ القول على اللّه بغير علم حرام بدلالة محكمات القرآن ، كما مرَّ في ثاني عشر «باب العقل»(1) وتفصيل إبطال الأمرين في محلّه من حواشي العدّة(2) . وإلى بطلان الأمر الأوّل أشار بقوله :

(مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ) ؛ بضمّ الميم وفتح الجيم صفة ثالثة لجاهل ، يقال : فلان معجبٌ برأيه : إذا أعجبه رأيه لحسنه عنده ، والاسم «العجب» بضمّ العين وسكون الجيم وما عنده الاجتهاد ، وإلى بطلان الأمر الثاني أشار بقوله :

(قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) ؛ بتخفيف المثنّاة فوقُ ، من باب ضرب ، أو تشديدها صفة رابعة لجاهل ؛ أي أوقعته في الفتنة بالكسر : الضلال والإضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب والإعجاب بالشيء والجنون والمحنة واختلاف الناس في الآراء .

(وَفَتَنَ) ؛ بتخفيف التاء و(3)تشديدها، بصيغة المعلوم ، والضمير للجاهل .

(غَيْرَهُ) . إشارةٌ إلى أنّ الأقسام أربعة حقيقةً اُلحِق مقلِّدُ القسم الثاني به ، فجعلت الأقسام ثلاثة .

(وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ) أي من القسم الأوّل ، فالمتعلّم شيعة أهل البيت المقتفون لآثارهم .

(عَلى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللّه ِ) . لم يقل : على هدى من اللّه ، لأنّه مختصّ بالعالم ، والظرف الأوّل صفة متعلِّم ، أي لم يتنكّب عن الصراط ولم يدّع العلم بالاجتهاد في شيء كما ادّعى الجاهل ، والظرف الثاني صفة «هُدى» أو صفة «سبيل» لأنّه بالتوفيق منه تعالى .

(وَنَجَاةٍ) . معطوفٌ على «هدى» ، لأنّ إيمان غير الأوصياء قد يكون مُعارا ، ويحتمل عطفه على «سبيل» لظاهر الحال .

ص: 304


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 13 ، كتاب العقل والجهل ، ح 12 .
2- . عدة الاصول ، ج 1 ، ص 21 ، فصل في ماهية اصول الفقه وبذيله حاشية الخليل القزويني .
3- . في «د» : «أو» .

(ثُمَّ هَلَكَ) ؛ من باب ضرب وعلم ، قيل : ومنع ، والهلاك بالفتح ، والهَلَكَة بفتحتين : السقوط والموت والفساد ، ومصير الشيء إلى حيث لا يدري أين هو ، ويقال : هلكه - كضربه - ، فهو لازم لا(1) متعدّ . والتراخي باعتبار أنّ هلاكه في الآخرة ، والماضي لتحقّق الوقوع أو باعتبار الرتبة ، فثمّ للتعجّب ؛ لأنّ المجتهد لا يخلو عن فضيحة في الدنيا

بتناقض في الحكم أو توقّف .

(مَنِ ادَّعى) . هو القسم الثاني ، ويُحتمل أن يراد به من حدث من القسم الثاني بعد العصر الأوّل ، وهو الإمام الثاني من أئمّة الضلالة ، والتراخي في «ثمّ» حينئذٍ أيضا باعتبار الزمان ، ويحتمل أن يُراد به قسم رابع حادث بعد العصر الأوّل يدّعي لنفسه أنّه

من القسم الثالث ، وليس كذلك لتنكّبه عن سبيل الهدى ؛ لدعواه العلم في شيء بالاجتهاد ، والإخبار به إخبار بالمغيبات .

و «ادَّعى» بصيغة الماضي لتحقّق الوقوع .

(وَخَابَ) ؛ من باب ضرب ، أي لم ينل المقصود .

(مَنِ افْتَرى) . هو الملحق بالقسم الثاني ، أي من اقتدى بالمدّعي في الدِّين بدون إذن من اللّه ، أو نفس القسم الثاني . ويحتمل أن يُراد به الإمام الثالث من أئمّة الضلالة ، ويناسب خَيبتَه اتّفاق أهل الحقّ على خلعه وقتله(2) .

ويُحتمل أن يُراد به القسم الرابع الذي ذكرناه في «مَن ادّعى» والحكم في الدِّين بدون إذن من اللّه افتراءً على اللّه موافقا لقوله تعالى في سورة يونس : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلاَلاً قُلْ أَاللّه ُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه ِ تَفْتَرُونَ»(3) .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ) ؛ بالمهملة والألف وكسر الهمز والمعجمة . (عَنْ أَبِي

ص: 305


1- . في «ج ، د» : - «لا» .
2- . اُنظر: المعجم الكبير للطبراني ، ج 1 ، ص 77 ؛ الطبقات الكبرى ، ج 3 ، ص 31 .
3- . يونس10 : 59 .

خَدِيجَةَ سَالِمِ بْنِ مُكْرَمٍ) ؛ بضمّ الميم وسكون الكاف وفتح المهملة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : النَّاسُ ثَلاَثَةٌ : عَالِمٌ) بالأحكام الشرعيّة الواقعيّة ، وهو الوصيّ ، كما يجئفي آخر الباب (وَمُتَعَلِّمٌ) من العالم(1) (وَغُثَاءٌ) ؛ بضمّ المعجمة والمثلّثة والمدّ : ما يحمله السيل من الزبد والوسخ وغير ذلك(2) ، وكذلك «الغثّاء» بتشديد الثاء ، والمراد هنا أراذل الناس وسقطهم من أهل البطالة(3) ، يدلّ على أنّ المجتهدين ومقلّديهم غثاء .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ) ؛ بضمّ المثلّثة وتخفيف الميم .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام (4) : اغْدُ) ؛ بالمعجمة والمهملة ، أمرٌ من غدا يغدو غدوّا بضمّتين وتشديد الواو ، أي كُن في الغداة ، وهي أوّل اليوم ، أو ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ، أو النصف الأوّل من اليوم .(5)

(عَالِما) . منصوبٌ على الخبريّة .

واختلف في «غدا» و«راح» ، فقال ابن مالك : هما لا يكونان إلاّ تامّين ، وإن جاء بعد مرفوعهما منصوب فهو حال .(6) وردّه نجم الدِّين الرضيّ رحمه اللّه تعالى بأنّه إذا كان «غدا» بمعنى مشى في الغداة ، كقوله تعالى : «أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ»(7) ، و«راح» بمعنى رجع في الرواح ، وهو ما بعد الزوال إلى الليل ، نحو : راح إلى بيته ، فلا ريب في

ص: 306


1- . في حاشية «أ» : «المراد بالعالم، العالم بالعلم اللدنّي ، وبالمتعلّم من أخذ عنه وافي» .
2- . النهاية ، ج 3 ، ص 343 ؛ ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 1328؛ المصباح المنير، ص 443؛ القاموس المحيط، ج 4، ص 368 غثا .
3- . النهاية ، ج 3 ، ص 342 غثث .
4- . في حاشية «أ» : «في هذا الحديث دلالة على أنّ غير الأئمة عليهم السلام يجوز أن يصير عالما علما لدنّيا ، فإنه المراد بالعلم دون حفظ الأقوال وحمل الأسفار وافي» .
5- . النهاية ، ج 3 ، ص 346 غدا .
6- . حكاه: الرضي في شرح الكافية عن ابن مالك ، ج 4 ، ص 186 .
7- . القلم 68 : 21 .

تمامهما . وأمّا نحو قوله : «يروح ويغدو داهنا يتكحّل»(1) ، فإن كانا بمعنى يدخل في الرواح أو(2) الغداة ، [فهما أيضا تامّان ، والمنصوب بعدهما حال ، وإن كانا بمعنى يكون في الغداة(3)] والرواح فهما ناقصان ، فلا منع إذن من كونهما ناقصين .(4) انتهى .

ويؤيّد النقصان هنا قوله «ولا تكن رابعا» . والمراد بالعالم هنا من يستغني بعلمه عن علم غيره ، وذكره لحصر الأقسام ، فإنّ المخاطب لا يصلح لذلك .

(أَوْ مُتَعَلِّما) من عالم (أَوْ أَحِبَّ) ؛ بصيغة الأمر من باب الإفعال ، وهو معطوف بالمعنى على «عالما» كأنّه قال : أو محبّا ، أو باللفظ على اُغد .

(أَهْلَ الْعِلْمِ) أي العلماء ، وحبّهم التصديق بأنّ طاعتهم مفترضة ، وبأنّه لا يجوز التعلّم إلاّ منهم . ويُحتمل أن يُراد بأهل العلم ما يشمل المتعلِّمين من العلماء ، والمقصود أنّ من لا يتيسّر له طلب العلم في يوم يقتصر في ذلك اليوم على حبّ أهل العلم ، وهو ملحق بالمتعلّم فيه ، فلا ينافي ذلك تثليث القسمة كما مرّ .

(وَلاَ تَكُنْ رَابِعا ؛ فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ) أي بغض أهل العلم ، وهذا يدلّ على أنّ عدم حبّهم يفضي بصاحبه إلى بغضهم .

قال لي بعض المخالفين : إنّ قول الشيعة فينا : إنّا أعداء عليّ ظاهر الكذب ، كيف يبغض أحد من اعترف بأنّه إمامه الرابع؟ ونحن نقول : إنّا أشدّ حبّا لعليّ من الشيعة .

قلت : هل النصارى أعداء اللّه بقولهم : إنّ اللّه ثالث ثلاثة؟ قال : نعم ، قلت : فكيف يبغض أحد من اعترف بأنّه إلهه الثالث ؟ وهل يعترف أحد بأنّه يسبّ اللّه؟ فكيف قال اللّه : «فَيَسُبُّوا اللّه َ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ»(5)؟

ص: 307


1- الكلام للشاعر الشنفري من قصيدته المسماة بلامية العرب وأصل البيت : ولا خالف دارية متغزل يروح ويغدو داهنا يتكحل اُنظر : شرح الكافية ، ج 4 ، ص 187 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 202 .
2- في المصدر : «و» .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 187 ، الافعال الناقصة : معناها ، ألفاظها .
5- الأنعام (6) : 108 .

قال : هذا جواب له روح .

ثمّ قلت : هل تصدّقون اليهود فيما زعموا أنّهم أولياء للّه من دون الناس؟

قال : لا .

قلت : فالشيعة إذن لا يصدّقونكم .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ جَمِيلٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَغْدُو النَّاسُ) أي يذهبون في طريقتهم (عَلى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ : عَالِمٍ ، وَمُتَعَلِّمٍ ، وَغُثَاءٍ) أي أهل بطالة (فنَحْنُ الْعُلَمَاءُ ، وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ ، وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ) .

ص: 308

باب ثواب العالم والمتعلّم

الباب الخامس بَابُ ثَوَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ

فيه ستّة أحاديث :

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعا ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ) ؛ بفتح القاف وتشديد الدال المهملة والحاء المهملة ، صفة عبداللّه ، ويقال للميمون أيضا ، من قدح العين كمنع : إذا أخرج منها الماء الفاسد ؛(1) أو من القدح بفتحتين ، وهو نوع من الآنية كان يصنعه ، وقيل : من القدح بالكسر ، وهو السهم قبل أن يراش وينصل ،(2) كان يبري القداح ، وفيه أنّه إنّما يُقال لباريها : برّاء .

(وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ سَلَكَ طَرِيقا) أي مشى إلى أبواب العلماء ، أو تصفّح الكتب ، أو تفكّر في نفسه ، أو نحو ذلك .

(يَطْلُبُ فِيهِ) . الضمير للطريق ، والجملة صفة «طريق» أو حال ضمير «سلك» وليست حال «طريق» ، لأنّ صاحبها نكرة محضة ، ومن قواعد النحو أنّ الجملة الخبريّة - التي لم تستلزمها ما قبلها - إن كانت مرتبطة بنكرة محضة فهي صفة لها ، أو بمعرفة

ص: 309


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 394 (قدح) .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1445 ؛ المصباح المنير ، ص 491 ؛ وانظر: النهاية ، ج 4 ، ص 19 (قدح) .

محضة فهي حال عنها ، أو بغير المحض منهما فهي محتملة لهما ،(1) وكلّ ذلك بشرط وجود المقتضي ، أي صحّة المعنى وعدم المانع ، فلو لم يتحقّق الشرط لشيء منهما كانت استئنافا .

(عِلْما) أي من العلم النافع في الدِّين .

(سَلَكَ اللّه ُ بِهِ طَرِيقا إِلَى الْجَنَّةِ) أي هداه اللّه إلى الحقّ ووفّقه للخير .

(وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ) أي تفرشها لتكون تحت أقدامه إذا مشى ، وهذا إمّا للتبرّك ، وإمّا لحفظه عن التردّي في بئر أو التأذّي من وَحَلٍ(2) ونحو ذلك .

ويمكن أن يكون المراد بوضع الجناح خفضَه ، وهو عبارة عن الشفقة والرحمة والتواضع له تعظيما لحقّه ، كما في قوله تعالى : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ»(3) .

وقيل : أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم وترك الطيران(4) ، وقيل : أراد به إظلالهم بها .(5)

(رِضا) ؛ بالكسر والقصر ، حذف ألفها لالتقاء الساكنين هي والتنوين ، وهو منصوب تقديرا على أنّه مفعول له .

(بِهِ) أي بطلب العلم أو بطالبه لطلبه ، فإنّ الرضا لا يتعلّق إلاّ بالأفعال .

(وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ(6) لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الاْءَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ) .

المراد بطالب العلم طالب علم الدِّين بقصد العمل ، والمراد بالسماء جهة العلوّ فيشمل الهواء ، والمراد بالأرض الجهة المقابلة للسماء فيشمل الماء . واستعمال «من» في الموضعين لتغليب العقلاء ، أو لأنّه قد ينزّل غير العقلاء منزلتهم إذا نسب إليهم ما .

ص: 310


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 428 .
2- قال في المصباح المنير ، ص 651 (وَحِل) : الوحل: وهو الطين الرقيق .
3- الإسراء (17) : 24 .
4- حكاه ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 305 (جنح) .
5- حكاه ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 305 (جنح) .
6- في الكافي المطبوع : «ليستغفر» .

يختصّ بالعقلاء صورة ، كما في قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ»(1) ؛ وذلك لتوجّه الخطاب إليهم .

والاستغفار من الملائكة ومؤمني الإنس والجنّ حقيقة ، ومن غيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بينهما في لفظ ، كقولهم : القلم أحد اللسانين . وعلاقة المجاز المشابهةُ .

وهذا مبنيّ على أنّ بقاء نوع الإنس ببركة بقاء العابدين منهم ، كما مرّ في شرح خطبة الكتاب عند قول المصنّف : «وجعل عزّ وجلّ سبب بقائهم أهل الصحّة والسلامة وبقاء غيرهم ممّا في الأرض ببركة بقائهم» ، كما يشعر به قوله تعالى : «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا»(2) ، وعبادتهم لا تصحّ بدون العلم بها ، وعلمهم بها لا يمكن بدون طلبه ، وكلّ حيّ يحبّ البقاء ويفرّ من الموت ، فكان كلّ حيّ يستغفر لطالب العلم من الإنس ؛ إذ هو سبب لبقائه .

والأولى أنّ المراد أنّ اللّه تعالى يغفر لطالب العلم بعدد الأحياء ؛ إذ هو السبب لنعمته تعالى عليها بإيجادها وإبقائها ، فكان كلّ حيّ يستغفر له ويستجاب له .

وأمّا كفّار الجنّ ففي كونهم من المستغفرين مجازا ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّ الجنّ داخلون فيما في الأرض فبقاؤهم ببقاء الإنس ، لما مرّ من قوله تعالى : «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا» .(3)

الثاني : أنّهم داخلون فيما خلق لأجل عبادة مؤمني الإنس ، كما مرّ أيضا في شرح الخطبة من احتمال أن يكون ضمير «ليعبدون» في قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(4) راجعا إلى المؤمنين .

الثالث : أنّ بقاء كفّار الجنّ ببقاء مؤمني الجنّ ، وهم يستغفرون لمؤمني الإنس .

ص: 311


1- النمل (27) : 18 .
2- البقرة (2) : 29 .
3- البقرة (2) : 29 .
4- الذاريات (51) : 55 - 56 .

حقيقة ، فكفّار الجنّ تبع للمستغفرين حقيقة لمؤمني الإنس ، فكانوا مستغفرين لهم مجازا .

(وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) . مضى شرح نظيره في عاشر باب صفة العلم .

و«ليلة» منصوب على الظرفية لفضل ، و«ليلة البدر» بالفتح ليلة الرابع عشر من الشهر ، وسمّي بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع قبيل غروبها كأنّه يُعجلها المغيبَ ، ويُقال : سمّي لتمامه واستدارته .(1)

(وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الاْءَنْبِيَاءِ ؛ إِنَّ الاْءَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا) ؛ بتشديد الراء . (دِينَارا وَلاَ دِرْهَما ، وَلكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ) أي أحاديث من أحاديثهم فيها العلم .

(فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) . مضى شرحه في ثاني باب صفة العلم .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ(2) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ مِنْكُمْ لَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِ الْمُتَعَلِّمِ ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِ) . «يعلّم» بصيغة معلوم باب التفعيل ، و«العلم» مفعول به ، كالحقّ في آية سورة يونس : «يُحِقُّ اللّه ُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ»(3) .

والمراد بالعلم ما مضى في أوّل الثالث(4) في قوله : «إنّما العلم ثلاثة : آيةٌ محكمة ، أو فريضةٌ عادلة ، أو سنّةٌ قائمة» . أو المراد القدر المشترك بين الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر وما يوافقها من أحاديث أهل البيت عليهم السلام .

وحينئذٍ تعليمه قسمان :

الأوّل : دفع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنه كما مرّ في ثاني الثالث .(5) .

ص: 312


1- النهاية ، ج 1 ، ص 106 ؛ المصباح المنير ، ص 38 (بدر) .
2- في الكافي المطبوع : «جميل بن درّاج» .
3- يونس (10) : 82 .
4- أي الحديث 1 من باب صفة العلم وفضله .
5- أي الحديث 2 من باب صفة العالم وفضله .

الثاني : التنبيه على دلالته على وجوب إمام معصوم عالم بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة في كلّ زمان إلى انقراض التكليف .

و«منكم» حال ضمير «يعلم» أو حال «العلم» . وعلى الأوّل «من» للتبعيض واحتراز عن الأئمّة ، فإنّ أجرهم في التعليم أكثر ، وعلى الثاني «من» للتعليل باعتبار انحصار الانتفاع به في المخاطبين ، واحتراز عمّا يصدق به المخاطبون والمخالفون من جملة الآيات البيّنات المحكمات ، نحو : «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(1)القصص : (28) 82 .(2) .

وضمير «له» للمعلّم ، و«الفضل» النعمة والتطوّل ، وضمير «عليه» للمتعلِّم ، والظرف متعلّق بالفضل . والمراد أنّه يجب على المتعلِّم شكر المُعلِّم ؛ لنعمته عليه ، وهو غير الثواب الاُخرويّ .

(فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ) ؛ بالمهملة والميم المفتوحتين ، جمع «حامل» .

(وَعَلِّمُوهُ إِخْوَانَكُمْ) أي لتحوزوا أجر التعليم والفضل مع أجر التعلّم .

(كَمَا عَلَّمَكُمُوهُ الْعُلَمَاءُ) . الظرف متعلّق بعلّموه ، وهو: إمّا ترغيب في التعليم و«ما» كافّة ، أي لولا فتح باب التعليم وحسنه لما وصل إليكم العلم من العلماء ، كما تقول : «أحسن إليّ كما أحسن اللّه إليك» لا تريد أن يكون إحسانه مثل إحسان اللّه ، بل تريد ترغيبه فيه ، وأنّ مَن أحبّ إحسان من فوقه إليه ، فليحبّ إحسانه إلى من تحته .

وإمّا بيان لكيفيّة التعليم المأمور به ، و«ما» مصدريّة ، أي لا تزيدوا على لفظه ، أو على معناه ، أو على بيان المحتاج إليه في التعليم ؛ فإنّه يتشتّت به ذهن المتعلِّم ولا تنقصوا عنه .

وقال ابن هشام في مغنى اللبيب في معاني الكاف الحرفيّة :

الثاني : التعليل ، أثبت ذلك قوم ، ونفاه الأكثرون ، وقيّد بعضهم جوازه بأن تكون الكاف مكفوفة ب- «ما» كحكاية سيبويه ، كما أنّه لا يعلم فتجاوز اللّه عنه ، وألحق جوازه في المجرّدة من «ما» نحو : «وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ»(2) ؛ أي أعجب لعدم فلاحهم ، وفي .

ص: 313


1- البقرة
2- : 43 .

المقرونة ب- «ما» الكافّة(1) كما في المثال وب- «ما» المصدريّة نحو : «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ»(2) الآية .

قال الأخفش : أي لأجل إرسالي فيكم رسولاً منكم فاذكروني ، وهو ظاهر في قوله تعالى : «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ»(3) .

وأجاب بعضهم : بأنّه من وضع الخاصّ موضع العامّ ؛ إذ الذكر والهداية يشتركان في أمر وهو الإحسان ، فهذا في الأصل بمنزلة «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه ُ إِلَيْكَ»(4) ، والكاف للتشبيه ، ثمّ عدل عن ذلك للإعلام بخصوصيّة المطلوب ، وما ذكرناه في الآيتين من أنّ «ما» مصدريّة قاله جماعة ، وهو الظاهر . وزعم الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما أنّها كافّة ، وفيه إخراج الكاف عمّا ثبت لها من عمل الجرّ لغير مقتض .(5) انتهى .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ عَلَّمَ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل .

(خَيْرا ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ) أي زائدا على أجر التعليم ، ولا يلزم أن يكون مثل الأجر أجرا ؛ لأنّ الأجر هو الثواب ، وهو لا ينقص ولا يزيد بعمل الغير وعدمه ، اللّهُمَّ إلاّ أن يُقال : إنّ له مثل أجر من يمكن أن يعمل به في عمله به ، لكن اكتفى بذلك في البيان ، كما يجيء في «الوزر» في الآتي ، ويؤيّده قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا»(6) ، وضمير «به» للخير أو لمصدر علم ، والباء على الأوّل صلة عمل ، وعلى الثاني للسببيّة . .

ص: 314


1- في المصدر : «الزائدة» .
2- البقرة (2) : 151 .
3- البقرة (2) : 198 .
4- القصص : (28) 77 .
5- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 234 .
6- المائدة (5) : 32 .

(قُلْتُ : فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ) . الاستفهام مقدّر ، أي أفإن علّم المتعلِّم منه غيره وعمل به ذلك الغير .

(يَجْرِي ذلِكَ لَهُ؟) أي يحصل للمعلِّم الأوّل مثل أجر عمل المتعلِّم الثاني .

(قَالَ : إِنْ عَلَّمَهُ) . الضمير المرفوع المستتر للمتعلِّم منه ، وهو المعلّم الثاني ، والمنصوب البارز للخير .

(النَّاسَ كُلَّهُمْ) . مفعول أوّل ، اُخّر عن المفعول الثاني لكونه ضميرا متّصلاً .

(جَرى لَهُ) أي يحصل للمعلِّم الأوّل بعدد من عمل به من الناس الأجر .

ويحتمل أن يكون قوله : «من عمل به» إشارة إلى أنّ المتعلِّم فيما نحن فيه متعدّد ، وربّما عمل به بعضهم دون بعض ، ويكون «غيره» مرفوعا بالفاعليّة ، والضمير لمن عمل به ، ويكون المستتر في «علمه» ل- «غيره» والبارز للخير ، ويكون حاصل السؤال لو لم يعمل به بعض المتعلّمين وتعلّم منه من يعمل به أيجري مثل ثواب هذا العمل للمعلِّم الأوّل أم لا؟ ويكون حاصل الجواب أنّ ترك عمل المتعلِّم الأوّل لا يقدح في جريان مثل ثواب عمل المتعلِّمين منه للمعلّم الأوّل .

(قُلْتُ : فَإِنْ مَاتَ؟) . الاستفهام مقدّر ، أي أفإن مات المعلِّم الأوّل . وجزاؤه محذوف ، أي يجري ذلك له .

(قَالَ : وَإِنْ مَاتَ) . «إن» وصليّة ، وهو معطوف على مقدّر ، أي إن بقي يجري له ذلك ، وإن مات يجري له ذلك فيمن عمل به بعد موته .

الرابع : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ المعجمة .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ عَلَّمَ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل . (بَابَ هُدىً ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ) . ظاهر من شرح السابق .

(وَلاَ يُنْقَصُ) ؛ بصيغة مجهول باب نصر . (أُولئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئا ، وَمَنْ عَلَّمَ(1) بَابَ .

ص: 315


1- في «ج» : + «من» .

ضَلاَلٍ) . المراد بالتعليم الرواية والتصوير والترغيب في العمل به كالمعلوم ، فإنّ التعليم الحقيقي أي إحداث العلم بالصدق لا يتصوّر في باب الضلال .

(كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهِ ، وَلاَ يُنْقَصُ أُولئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئا) .

إن قلت : كيف يمكن أن يستحقّ أحد الوزر بسبب عمل غيره ، وأن لا يستحقّه لو لم يعمل الغير ، وهو ليس باختياره ، وقد قال تعالى في سورة فاطر : «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1)؟

قلت : ليس استحقاقه للوزر بسبب عمل الغير حتّى يلزم أنّه لو لم يعمل الغير لم يحصل استحقاق ، بل نقول : استحقاق الوزر في التعليم لباب ضلال بعدد أوزار جميع الخلق ممّن يمكن أن يعمل به في العمل به ، فإن لم يعمل به أحد ممّن يمكن عمله به ، وقلنا : إنّه ليس له وزر بإزائه كان ذلك تخفيفا من اللّه عنه ، لا لعدم استحقاقه ، بل لما علِمَ اللّه تعالى من المصلحة .

وأمّا الآية فلا تنافي ذلك ؛ لأنّه لا ينقص اُولئك من أوزارهم شيئا ، فوزره على حدة ، قال تعالى في سورة العنكبوت : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(2) ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى : «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا»(3) .

إن قلت : إن اُريد بجميع الخلق جميع من يخلق ، كان الاستحقاق مختلفا بالزيادة والنقصان على حسب زيادة الخلق ونقصانه ، ويعود المحذور ، وإن اُريد به جميع ما يمكن أن يُخلق ، كانت التي استحقّها من الأوزار غير متناهية .

قلت : نختار الثاني ، ولا ضير ، فإنّه يرجع إلى استحقاق الخلود في النار .

الخامس : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، قَالَ : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) أي من الأجر (لَطَلَبُوهُ .

ص: 316


1- فاطر (35) : 18 .
2- العنكبوت (29) : 13 .
3- المائدة (5) : 32 .

وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ) .

السفك : الإراقة والإجراء لكلّ مائع ، يُقال : سفك الدم والدمع والماء - كضرب - سفكا ، وكأنّه بالدم أخصّ .(1) و«المُهج» بضمّ الميم وفتح الهاء ، جمع «المهجة» بسكون الهاء ، وهي الروح والدم ، أو دم القلب خاصّة .(2) والمراد هنا الدم ، والمراد بسفك المهج التعرّض للمخوفات التي يسفك فيها الدماء ، وهي مظنّته .(3)

(وَخَوْضِ اللُّجَجِ) . الخوض : الذهاب في قعر الماء ،(4) واللُجج بضمّ اللام وفتح الجيم جمع «لجّة» بتشديد الجيم : معظم البحر وموجه .(5) والمراد الأوّل .

(إِنَّ اللّه َ تَعَالى(6) أَوْحى إِلى دَانِيَالَ :) . قيل : بكسر النون .

(إِنَّ)(7) ؛ بكسر الهمزة وتشديد النون ، أو بفتح الهمزة وتخفيف النون .

(أَمْقَتَ) ؛ بالنصب أو بالرفع اسم تفضيل من المجهول ، والمقت من باب نصر : البغض ،(8) تقول : هو أمقت الناس عندي أو إليَّ : إذا أخبرت أنّه ممقوت ؛ وأمقت الناس لي : إذا أخبرت أنّه ماقت .

(عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ) . المراد به ما يقابل العاقل .

(الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ) ؛ بكسر المعجمة ، يُقال : استخفّه ، أي عدّه خفيفا ، واستخفّ به ، أي أهانه . والأنسب على الأوّل «لِحقّ» باللام ، دون الباء ، وعلى الثاني ينبغي جعل الكلام مبنيّا على تشبيه الحقّ بإنسان ، أو إعطاء المضاف حكمَ المضاف إليه .

(التَّارِكُ لِلاِقْتِدَاءِ بِهِمْ) . ما أشدّ انطباقَ هذا على متكلّمين أعرضوا عن أحاديث أهل .

ص: 317


1- النهاية ، ج 2 ، ص 376 ؛ ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 831 (سفك) .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1733 (مهج) .
3- في «أ» قد تقرأ : «مظنة» .
4- المصباح المنير ، ص 184 (خاض) .
5- المصباح المنير ، ص 549 (لجّ) .
6- في الكافي المطبوع : «تبارك وتعالى» .
7- في الكافي المطبوع : «أنّ» .
8- المصباح المنير ، ص 576 (مقت) .

البيت في الاُصول لزعمهم أنّها معارضة لمقتضى أدلّة عقليّة والعقل مقدّم على النقل ، وما أدلّتهم إلاّ شُبَهٌ ظاهرة الأجوبة ، قلّدوا فيها أسلافهم من المعتزلة أو الأشاعرة .

(وَأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ) . ناظرٌ إلى الجاهل .

(اللاَّزِمُ لِلْعُلَمَاءِ ، التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ ، الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ) . ناظرٌ إلى المستخفّ ، إلى آخره . والحلم بالكسر : العقل ، والحكمة : ضدّ الهوى .

ما أشدّ انطباق هذا على مَن يتأمّل أحاديث أهل البيت في الاُصول حقّ التأمّل ، فإنّه يفضي به إلى علم ، وإن كانت أخبار آحاد بشرط خلوّه عن الهوى وعن اتّباع الكبراء من المتكلِّمين ، والأوصاف الثلاثة - أعني العلم والحلم والحكمة - إنّما هي مجتمعة في الأنبياء وأوصيائهم كأهل البيت عليهم السلام فالأحبّ الآن اتّباعهم .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ) ؛ بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف ومهملة نسبةً إلى منقر بن عبد اللّه أبي بطن من تميم .(1)

(عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَ لِلّهِ) . «العلم» مفعول به ، وهو عبارة من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه من الدِّين احتاج إليه هذا المتعلِّم ، ويعبّر عنه بعلم القرآن كما في أوّل كتاب الروضة ، وتعلّمه تفهّمه شيئا فشيئا(2) موافقا لما يجيء في ثالث الآتي(3) ، والمراد بهما استنباط النتيجة منه ، وهي وجوب إمامة العالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، وهو أمير المؤمنين وأولاده المعروفون ؛ لاتّفاق الاُمّة على اتّباع معارضيهم الظنّ ، والعمل به عبارة عن كفّ النفس عن اتّباع الظنّ وحمل النفس على السؤال المذكور و«علّم» بتقدير «علّمه» ، .

ص: 318


1- اُنظر: ترجمته في معجم رجال الحديث ، ج 9 ، ص 266 ، الرقم 5442 .
2- في «أ» : - «شيئا فشيئا» .
3- أي الحديث 3 من باب صفة العلماء .

والظرف متعلّق بكلّ واحد من الثلاثة ، والترتيب يُشعر بوجوب تقديم العمل على التعليم .

(دُعِيَ) ؛ مجهول ، أي سمّي (فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) أي ملائكة السماوات تسمية للمتعلَّق باسم المتعلِّق ، فإنّ الملكوت وصف للّه تعالى ، وهو مصدر من الملك بالضمّ(1) : السلطنة ، بني للمبالغة ، كالرهبوت من الرهبة .

(عَظِيما) أي باسم عظيم بين الأسماء .

(فَقِيلَ : تَعَلَّمَ لِلّهِ ، وَعَمِلَ لِلّهِ ، وَعَلَّمَ لِلّهِ) . الفاء للبيان ، والمراد أنّ تسميته عظيما نفس هذا القول نظير عَدّ «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» من أسماء اللّه ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في أوّل الخامس عشر(2) ، وحُذف المفعول به في تعلّم للّه ونظيريه للعموم .

والمراد أنّ عمدة أحكام اللّه وأصلها هذا العلم ، فمَن تعلّمه وعمل به وعلّمه للّه فكأنّما تعلّم جميع أحكام اللّه وجميع ما اُنزل على الرسول في محكم القرآن ومتشابهه وعمل بها وعلّمها ، فثوابه كثوابه ، نظير قوله تعالى في سورة المائدة : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا» (3). .

ص: 319


1- في «أ» : «بضمّ الميم وسكون اللام» بدل «بالضمّ» .
2- أي الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
3- المائدة (5) : 32 .

باب صفة العلماء

الباب السادس بَابُ صِفَةِ الْعُلَمَاءِ

فيه سبعة أحاديث ؛ أي بيان العلماء الممدوحين شرعا .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ) ؛ بفتح الواو وسكون الهاء .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اطْلُبُوا الْعِلْمَ ، وَتَزَيَّنُوا مَعَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ الْعِلْمَ ، وَتَوَاضَعُوا) أي بعد فراغكم من الطلب (لِمَنْ طَلَبْتُمْ مِنْهُ الْعِلْمَ) أي في الزمان الماضي (وَلاَ تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ) أي غير متواضعين ، (فَيَذْهَبَ بَاطِلُكُمْ) ، هو الجبّاريّة (بِحَقِّكُمْ) ، هو العلم وأثره.

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنِ الْحَارِثِ) ؛ بالمهملة والألف وكسر المهملة ومثلّثة .(1) (بْنِ الْمُغِيرَةِ) ؛ بضمّ الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة ومهملة(2) . (النَّصْرِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الصاد(3) المهملة ومهملة من بني نصر بن معاوية(4) .

(عَنْ أَبِي عَبْدِاللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة فاطر : («إِنَّما يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبادِهِ

ص: 320


1- في «ج ، د» : - «بالمهملة والألف وكسر المهملة ومثلثة» .
2- في «ج ، د» : - «بضمّ الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة ومهملة» .
3- في «ج ، د» : - «الصاد» .
4- قبيلة من هوازن تسكن في منطقة قرب الطائف تسمى جلذان . معجم البلدان ، ج 2 ، ص 151 .

الْعُلَماءُ»(1) قَالَ : يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ، فَلَيْسَ بِعَالِمٍ) . الخشية شدّة الخوف ، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع «باب الخوف والرجاء» وهو الثالث والثلاثون : «العلماء المحافظون على الشرط من اللّه جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلمٍ ويقين وبصيرةٍ» كما مرّ في كلام المصنّف رحمه اللّه في الخطبة ، وهم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة .

وممّا يدلّ عليه أنّ «على كلّ حقّ حقيقةً ، وعلى كلّ صواب نورا» . ويجيء مع بيانه في أوّل «باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» وهو آخر الأبواب ، وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «أيّها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وأنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم» . ويجيء مع شرحه في «كتاب الإيمان والكفر» في تاسع «باب الخوف والرجاء» وهو الثاني والثلاثون .

وإنّما كان المحافظ على هذا الشرط خاشيا لأنّ الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ مشتملة على الوعيد بجهنّم والعذاب الأليم على مخالفتها .

ولمّا كان هذا الشرط مشتملاً على قيدين :

الأوّل : العلم الحاصل بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه ، إمّا بلا واسطة وإمّا بواسطة أو وسائط بشروط مقرّرة معلومة ، وهذا ردّ على طريقة أهل الاجتهاد الظنّي وتقليد المجتهد .

الثاني : أداء جميع الفرائض ، وكان في انتفاء العلم بانتفاء القيد الثاني نوع خفاء اكتفى الإمام عليه السلام ببيان القيد الثاني ، ووجهه أنّ الآية مسوقة لمدح العلماء ، وأنّ الخشية مختصّة بهم ، ولا يصحّ مدح العالم الذي لا يؤدّي الفرائض ؛ لأنّه شرّ من الجاهل ، كما يجيء في الرابع والسادس من «باب استعمال العلم» وهو الرابع عشر .

«صدّق» معلوم باب التفعيل ، أي وافق ، «فعلُه» مرفوع ، «قولَه» منصوب ، أي علمه ، «ليس بعالم» أي ليس ممّن مدحه اللّه في هذه الآية . .

ص: 321


1- فاطر (35) : 28 .

اعلم أنّ هنا وجها آخر يرجع إلى الأوّل ، هو أن يكون المراد بالعلماء الذين يعلمون اللّه . ويؤيّد هذا ما في «كتاب الروضة» في صحيفة عليّ بن الحسين عليهماالسلام وكلامه في الزهد من قوله : «فمَن عرف اللّه خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة اللّه ، وأنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا اللّه فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال اللّه : «إِنَّمَا يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) ، وما في الصحيفة الكاملة من دعائه عليه السلام في الإلحاح على اللّه تعالى من قوله : «سبحانك أخشى خلقك لك أعلمهم بك» الدعاء(2) .

بيان ذلك أنّ خشية اللّه على قسمين :

الأوّل : خشية متعلِّقة بالدنيا ، وهي خشية خذلانه واستدراجه ومكره وإزاغته للقلب بعد الهداية وإضلاله ، ونحو ذلك ، وهذه إنّما تحصل بالعلم بأنّ بيده تعالى أزمّة الاُمور كلّها ، وأنّه خالق كلّ شيء حتّى معاصي العباد ، وأنّه لا يجب عليه كلّ لطف ناجع(3) ، إنّما يجب عليه اللطف المزيح لعلّة المكلّف ، وأنّه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بمشيئته وإرادته وقدره وقضائه وإذنه ، وأنّه يضلّ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء ، وأنّ العبد غير مستقلّ بالقدرة على فعله وإن كان له أصل القدرة على كلٍّ من الفعل والترك ، وهو المؤثّر في أفعال نفسه ، ويستحقّ على فعله المدح أو الذمّ عقلاً ، والثواب أو العقاب ، وهذا مذهب الواسطة بين الجبر والتفويض ، وسيتّضح في «باب الاستطاعة» وغيره من أبواب «كتاب التوحيد» .

الثاني : خشية متعلّقة بالآخرة ، وهي خشية عقابه ونسيانه وعدم النظر ، وعدم تزكية الأعمال ، ونحو ذلك ، وهذه إنّما تحصل بالعلم بأنّه تعالى لا يُسأل عمّا يفعل وهُم يُسألون ، ويجيء شرحه في سادس «باب المشيّة والإرادة» من «كتاب التوحيد» ، وبالعلم بزواجره ومواعيده ، وأنّ العفو عن بعض العاصين ظلم بل ظلاميّة ، وهو تعالى ليس بظلاّم للعبيد ، وأنّه سيبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، وأنّ اللّه تعالى يحبط).

ص: 322


1- الكافي ، ج 8 ، ص 16 ، ح 2 . والآية في سورة فاطر (35) : 28 .
2- الصحيفة السجادية ، ص 302 ، دعاؤه في الإلحاح .
3- أي ظاهر أثره . المصباح المنير ، ص 594 (نجع).

أعمال الأخسرين أعمالاً «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1) ، وأنّ مصالحه تعالى في شرع الأحكام ، وأمر الثواب والعقاب ليست على طبق أمانيّ الناس وآرائهم ، لم يرخّص في القول على اللّه بغير علم ، ولا في العمل بغير علم فإنّ العالم بهذه الاُمور لا يتّكل على الأمانيّ الفارغة ، ولا يحكم عن رأي واجتهاد ، ولا يعمل عن ظنّ وتكون له مع رجائه خشية .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْقَمَّاطِ) بفتح القاف وتشديد الميم ، أي بيّاع القماط - ككتاب - خرقة يقمط بها الصبيّ ، أي يشدّ يداه ورجلاه .(2)

(عَنِ الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَلاَ) بهمزة الاستفهام ولا النافية ، ففي الكلام حذف بعد تمام الجملة الاستفهاميّة فيقدّر «قالوا : بلى فقال» ويجوز أن يكون حرف تنبيه فلا حذف .

(اُخَبِّرُكم)(3) ؛ من باب التفعيل . والفرق بين الإخبار والتخبير كالفرق بين الإنباء والتنبيء ؛ في أنّ الأوّل إلقاء الخبر ، سواء حصل به علم أم لا ، والثاني ما مع التعليم ، قال تعالى في سورة التحريم : «مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»(4) ، يُقال : خبر - كحسن - ، وخبره - كعلم - : إذا عرف حقّ المعرفة .

(بِالْفَقِيهِ) . المراد به من يؤخذ منه أحكام الشرع . (حَقِّ الْفَقِيهِ؟) . الحقّ خلاف الباطل ، أو بمعنى الحقيق ، أي الجدير بأن يسمّى فقيها ، وهو مجرور على أنّه بدل الفقيه ، وقيل : صفته ، كما مضى في رابع الثالث(5) ، فما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هو ، ويحتمل الرفع بالابتداء فيكون ما بعده خبره . .

ص: 323


1- الكهف (18) : 104 .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1524 (قمط) .
3- في الكافي المطبوع : «أخبِرُكم» .
4- التحريم (66) : 3 .
5- أي الحديث 14 من باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .

(مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ) ؛ بتشديد النون . والقنوط : إظهار اليأس ، أو هو أشدّ اليأس ومضى في رابع عشر الأوّل(1) أنّ القنوط ضدّ الرجاء .

(النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللّه ِ) أي إيصاله النفع ، وأمّا دفعه الضرر فهو رَوح اللّه بفتح المهملة ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في عاشر «باب الكبائر» ، وهو الاثنا عشر والمائة : «الكبائر القنوط من رحمة اللّه ، والإياس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه» إلى آخره .

(وَلَمْ يُوءْمِنْهُمْ) ؛ من باب الإفعال ، والأمن : ضدّ الخوف .

(مِنْ عَذَابِ اللّه ِ) ، هو مكر اللّه المذكور في سورة الأعراف : «فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه ِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ»(2) ، أو أعمّ منه .

(وَلَمْ يُرَخِّصْ) ؛ من باب التفعيل . (لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللّه ِ) . الترخيص في المعاصي لازم قول طوائف :

الاُولى : المرجئة ، وهم الذين قالوا : إنّ الإيمان محض العلم بصدق جميع ما جاء به الرسول ، ويؤخّرون الأعمال عن الإيمان ، ويقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية ، ويجعلون إيمان أفسق الفسّاق في مرتبة إيمان جبرئيل وميكائيل ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومَن هم» وهو الاثنان والمائة .

الثانية : الأشاعرة ، حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، فجوّزوا الكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ، وتخليد الأنبياء في جهنّم ، وتخليد المشركين في الجنّة ونحو ذلك ، وهم أهل الإباحة .

الثالثة : الجبريّة ، القائلون بالجبر ، وهو القدر المشترك بين مذهب الجهميّة(3) القائلين بأنّ فعل الإنسان كحركة الورق على الشجر ، والأشاعرة القائلين بأنّ فاعل فعل .

ص: 324


1- أي الحديث 14 من كتاب العقل والجهل .
2- الأعراف (7) : 99 .
3- الجهمية ، جماعة من الجبرية ، رئيسهم جهم بن صفوان؛ ظهرت بدعته بمدينة ترمذ وقتله مسلم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني اُمية وتفصيل عقائد الجهمية في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 86 .

الإنسان هو اللّه ، وأنّ العبد كاسب ، والفلاسفة القائلين بأنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال(1) ، ويجيء بيان مذاهبهم في «كتاب التوحيد» في شرح «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وهو الثلاثون ؛ وذلك لأنّه يستلزم بطلان الثواب والعقاب وهو إباحة .

الرابعة : القائلون بأنّ وعيد اللّه تعالى على المعاصي تهديد ، وهو من قبيل الإنشاء ، فيجوز إخلافه ، ويستندون إلى قول الشاعر :

وأنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(2)

الخامسة : الصوفيّة ، القائلون بأنّه إذا ظهرت الحقائق بطلت الشرائع ، ويروّجون ذلك بقياسات شعريّة كتشبيه الأعمال الشرعيّة بمعالجات الأطبّاء وتدبيرات أهل الكيمياء ، كما في الدفتر الخامس من مثنوي الرومي ، ويروّجونه أيضا بدعوى العلم باتّحاد الموجودات بالمكاشفة بدون برهان ، وأنّه حينئذٍ لا يتصوّر تكليف ، وهذا إنكار للشريعة وصانع العالم في لباس ، وقول اللّه أصدق من قولهم ؛ قال تعالى في سورة البقرة وسورة النمل : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(3) .

(وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلى غَيْرِهِ) . «رغبة» مفعول له للمنفيّ ، وهي إذا عدِّيت ب- «عن» بمعنى النفرة ، و«غيره» بمعنى ضدّه أو أعمّ منه ، والرغبة عن القرآن إلى غيره ما صدر عن منافقي الأصحاب المذكور في سورة يونس : «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ»(4) .

ويجيء في «كتاب الحجّة» في السابع والثلاثين من السابع والمائة(5) ، وما صدر عن .

ص: 325


1- استحالة تخلف المعلول عن العلّة التامة ثابتة بين الفلاسفة ، وللمثال يراجع الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 217 ، و ج 2 ، ص 299 و 322 ؛ و ج 9 ، ص 374 .
2- حكاه الباقلاني في تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل ، ص 401 ، باب القول في الوعد والوعيد ؛ تفسير الرازي ، ج 2 ، ص 57 ، المسألة الثانية عشرة ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ج 67 ، ص 112 .
3- البقرة (2) : 111 ؛ النمل (27) : 64 .
4- يونس (10) : 15 .
5- أي الحديث 37 من باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية .

رئيسهم حين أراد النبيّ صلى الله عليه و آله أن يؤكّد الوصيّة من قوله : «إنّ الرجل ليهجر ، وحسبنا كتاب اللّه»(1) . وما صدر عن أتباعهم حيث نقل ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري عن النووي شارح صحيح مسلم أنّه قال : «اتّفق العلماء على أنّ قول عمر : حسبنا كتاب اللّه من قوّة فقهه ، ودقيق نظره ؛ لأنّه خشي أن يُكتب اُمور ربّما عجزوا عنها فاستحقّوا العقوبة لكونها منصوصة ، وأراد أن لا ينسدّ باب الاجتهاد على العلماء»(2) انتهى .

ومنشأ هذا حبّ الرياسة بمنصب الفتوى والقضاء مع الجهل بأحكام اللّه تعالى ومتشابهات كتابه ، فمَثَلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ، ويدخل في الرغبة عن القرآن إلى غيره توهّم بعض عوامّ الصوفيّة حيث قال : العلم الحاصل بالمكاشفة أقوى من العلم الحاصل بقول الأنبياء ، ووجوه فساد هذا أكثر من أن يحصى ، وأقلّها لزوم التشكيك بالقوّة والضعف في العلم .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ) . هذا إلى آخره ناظر إلى الفقرة الرابعة ، مضى معنى العلم والتفهّم في شرح آخر الباب السابق . و«في» في «فيه» ونظائره بمعنى «مع» ، وهذه الفقرة للتثريب(3) على قسم من المخالفين للشيعة الإماميّة ، وهم الذين يعلمون أنّ الآيات البيّنات المحكمات صريحة في النهي عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، ولا يتفهّمون منه وجوب الإمام العالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ) . هذا تثريب على قسم آخر من المخالفين ، وهم الذين يقرؤون القرآن ولا يعلمون أنّ الآيات البيّنات المحكمات صريحة في النهي عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ؛ لعدم تدبّرهم ، قال تعالى في سورة محمّد صلى الله عليه و آله : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(4) . .

ص: 326


1- صحيح مسلم ، ج 5 ، ص 76 : وفيه قالوا : إن رسول اللّه يهجر ؛ وحكاه عن عمر الشيخ المفيد في أوائل المقالات ، ص 406 ؛ والعلامة في كشف اليقين ، ص 472 ؛ ومنهاج الكرامة ، ص 103 .
2- فتح الباري ، ج 8 ، ص 102 ، باب مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وسلّم ووفاته .
3- التثريب : اللدم والأخذ على الذنب . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 216 (ثرب) .
4- محمّد (47) : 24 .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ) . هذا تثريب على قسم آخر من المخالفين ، وهم الذين لا يعلمون مضمون الآيات البيّنات المحكمات ولا يقرؤون من القرآن إلاّ المفروض في الصلاة ، وهو سورة الفاتحة ونحوها ، بأنّ سورة الفاتحة صريحة كافية فيما نحن فيه لمَن تفكّر فيها ، فإنّ الصراط المستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين عبارة عن اتّباع العلم وأهله ، والاجتناب عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، وعن أئمّة الضلالة كما في سورة العنكبوت : «أَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه ِ أَكْبَرُ»(1) ، ويجيء بيانه في أوّل «كتاب فضل القرآن» .

(وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي في رواية بعض العدّة بعد قوله : «إلى غيره» في الرواية الاُولى . وحاصل الروايتين واحد ، فإنّ الفقه الفهم ، وهو ثمرة التفكّر ، والفقرة الرابعة تأكيد للفقرة الثالثة ، وليس مضمونا آخر ، ولذا لم يذكر في الرواية الاُولى .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لاَ فِقْهَ فِيهَا ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي نُسُكٍ لاَ وَرَعَ فِيهِ) . «النسك» بالفتح والضمّ والكسر وبضمّتين : العبادة ، و«الورع» بفتح الواو وبفتح المهملة : الاجتناب عن المنهيّ عنه صريحا ، وهو راجع إلى الفقه الحاصل بالتفكّر في سورة الفاتحة .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ) ؛ بالشين والذال المعجمتين . (النَّيْسَابُورِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الخاتمة ومهملة . (جَمِيعا ، عَنْ صَفْوَانَ) ؛ بفتح المهملة . (بْنِ يَحْيى ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ الْفِقْهِ)(2) أي الممدوح شرعا منه ، (الْحِلْمَ) ؛ بكسر المهملة وسكون اللام : ضدّ السفه . والمراد الاحتياط في التكذيب لئلاّ يكون من الذين كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله ، أو المراد أعمّ منه ومن غيره . (وَالصَّمْتَ) ؛ بفتح .

ص: 327


1- العنكبوت : 45 .
2- في الكافي المطبوع : «الفقيه» .

المهملة وسكون الميم : ضدّ الهذر . والمراد الاحتياط في القول على اللّه لئلاّ يقول بغير علم . وفي رواية : «إنّما شيعتنا الخُرْس»(1) أو المراد أعمّ منه ومن غيره .

الخامس : (أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : لاَ يَكُونُ السَّفَهُ) : ضدّ الحلم ، (وَالْغِرَّةُ) ؛ بكسر المعجمة وتشديد المهملة : الغفلة التي توجب الهذر في الكلام وخلاف الصمت . (فِي قَلْبِ الْعَالِمِ) . يفهم معناه ممّا سبق آنفا.

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ رَفَعَهُ ، قَالَ :)

(قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليهاالسلام : يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ) ؛ بفتح المهملة جمع «حواريّ» بتشديد الياء ، وحواريّ النبيّ : خاصّته من اُمّته ، ومنه الحواريّون أصحاب المسيح عليه السلام ، أي خلصاؤه وأنصاره ، وأصله من التحوير التبييض ، قيل : إنّهم كانوا قصّارين يُحوّرون الثياب ، أي يبيّضونها ، ومنه الدقيق الحُوّاري بضمّ الحاء وشدّ الواو والقصر الذي نخل مرّة بعد مرّة ، وقيل : تأويل الحواريّين الذين اُخلصوا ونُقّوا من كلّ عيب .(2)

(لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ اقْضُوهَا لِي ، قَالُوا : قُضِيَتْ حَاجَتُكَ) ؛ بصيغة المجهول للغائبة ، جملة دعائيّة . (يَا رُوحَ اللّه ِ) . الروح جسمٌ هوائي به حياة البدن ، وتسمية عيسى روح اللّه باعتبار أنّ بدنه مخلوق من الروح التي نفخ جبرئيل في مريم ، أو منها ومن منيّ مريم ، بخلاف سائر الأبدان ، فإنّها مخلوقة من الطين أو من المنيّ فقط ، وإضافتها إلى اللّه باعتبار الاصطفاء ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في أحاديث «باب الروح» وهو الحادي والعشرون .

(فَقَامَ ، فَغَسَلَ أَقْدَامَهُمْ ، فَقَالُوا : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهذَا يَا رُوحَ اللّه ِ ، فَقَالَ : إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِدْمَةِ الْعَالِمُ) . لمّا كان العالم يقتدي به الناس في أفعاله الحسنة وتشتهر بصدورها .

ص: 328


1- الكافي ، ج 2 ، ص 113 ، باب الصمت وحفظ اللسان ، ح 2 ؛ مختصر بصائر الدرجات ، ص 105 ؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 182 ، ح 16025 .
2- ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 468 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 458 (حور) .

عنه بين الناس وتصير دأبا مستمرّا بينهم ، كان أولى بالأفعال الحسنة حتّى الخدمة من الجاهل ، والأحقّيّة من هذه الحيثيّة لا ينافي كونه أحقّ بالمخدوميّة من حيثيّة اُخرى ، وهي النظر إلى مرتبة الجاهل والعالم في نفسهما مع قطع النظر عن التعليم ، ولذا قال عليه السلام :

(إِنَّمَا تَوَاضَعْتُ هكَذَا) . الهاء للتنبيه والكاف للتشبيه و«ذا» إشارة إلى غسل الأقدام ، والظرف منصوب المحلّ على أنّه صفة مفعول مطلق محذوف ، أي تواضعا .

إن قلت : لا يجوز كون الكاف للتشبيه ؛ للزوم اتّحاد المشبّه والمشبّه به ، فهي زائدة .

قلت : غسل الأقدام ليس نفس التواضع ، بل هو دالّ عليه بقرينة الأحوال ، فربّما تحقّق غسل قدم يكون ترفّعا أو سخريّة ، وإنّما التواضع أمر معنوي قائم بالنفس الناطقة ، فشبّه المدلول بالدالّ للمطابقة بينهما ، ونظيره تجويز بعضٍ(1) كونَ نحو : بعت واشتريت من صيغ العقود إخباراتٍ عن معانٍ قائمة بالنفس لا إنشاءات ، ويحتمل أن يكون من تشبيه الكلّي بفرده ومجازا .

(لِكَيْمَا تَتَوَاضَعُوا) . اللام للتعليل ، و«كي» بمنزلة أن المصدريّة معنىً وعملاً ، و«ما» زائدة للتقوية، مثلها في : «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّه ِ لِنْتَ لَهُمْ»(2)في المصدر : «كيلا» بدل «لئلا» ، وفي حاشية «أ» : «بيغ به مجهولاً وتبيغ عليه الأمر : اختلط ، والدم هاج وغلب» . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 104 (بيغ) .(3) ؛ وذلك بالإشارة إلى نفي أن يكون العلّة سوى ما ذكر .

(بَعْدِي) . كان ذكره إشارة إلى أنّ هذه الأحقّيّة ليست جارية في كلّ عالم ، بل إنّما هي في الأنبياء والأوصياء المنصوبين من اللّه لهداية الناس ، ونظيره ما في نهج البلاغة : «لئلاّ يتبيّغ(3) بالفقير فقره» .(4)

(فِي النَّاسِ كَتَوَاضُعِي لَكُمْ . ثُمَّ قَالَ عِيسى عليه السلام : بِالتَّوَاضُعِ تُعْمَرُ الْحِكْمَةُ ، لاَ بِالتَّكَبُّرِ ؛ .

ص: 329


1- في حاشية «أ ، ج ، د» : «البعض شارح مختصر الاصول (منه دام ظله)» .
2- آل عمران
3- : 158 .
4- نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 188 ، الخطبة 209 .

وَكَذلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعُ ، لاَ فِي الْجَبَلِ) .

ليس هذا من قبيل الاستدلال حتّى يكون قياسا شعريا ، بل من قبيل تشبيه أمرٍ معلوم بمعلوم آخر ليتمكّن في الذهن غاية التمكّن ليعمل بمقتضاه .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ) ؛ بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الموحّدة ومهملة .

(عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : يَا طَالِبَ الْعِلْمِ ، إِنَّ لِلْعَالِمِ) أي للممدوح شرعا من العالم .

(ثَلاَثَ عَلاَمَاتٍ :) أي إن كان فيمن أردت أن تطلب منه العلم هذه الثلاث فاطلب منه وإلاّ فلا .

(الْعِلْمَ) أي أن يعلم حدّه عند من هو أعلم منه ، أو المراد حبّ(1) العلم فلا ينازع من فوقه ، بل يحبّ أن يستفيد منه دائما . أو المراد أن لا يقول إلاّ ما يعلم .

(وَالْحِلْمَ) أي أن يتحمّل عمّن دونه سوء أدبه .

(وَالصَّمْتَ) أي السكوت عمّا لا يعلم .(2)

(ولِلْمُتَكَلِّفِ) أي مَن ادّعى العلم وليس بعالم (ثَلاَثَ عَلاَمَاتٍ : يُنَازِعُ) ؛ بالرفع على أنّه جملة استئنافيّة للبيان ، أو على أنّه مفرد بتقدير «أن» وإهمالها ، أو بالنصب على أنّه مفرد بتقدير «أن» وإعمالها .

واختلف النحاة في الاحتمال الأخير في مثله ، فقيل : شاذّ لا يُقاس عليه ، وذهب الكوفيّون ومَن وافقهم من البصريّين إلى أنّه يُقاس عليه ، وأجاز الأخفش حذف «أن» قياسا ، ولكن بشرط رفع الفعل مثل : «أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ»(3) ، و«تسمع بالمُعيدي .

ص: 330


1- في «ج» : + «حد».
2- في «د» : + «أو عما يحتاج إليه» .
3- الزمر (39) : 64 .

خيرٌ من أن تراه» في رواية الرفع فيهما .(1) وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّه لا يجوز حذفها إلاّ في الأماكن العشرة المشهورة رفعت أو نصبت ، ذكره الأزهري في التصريح .(2)

(مَنْ) ؛ بفتح الميم ، اسم موصول . (فَوْقَهُ) ؛ بالنصب على الظرفيّة فيقدّر بفعل ، لأنّ الصلة لا تكون إلاّ جملة ، ويجوز على قلّة تقدير اسم الفاعل على أنّه خبر لمبتدأ محذوف على حدّ قراءة بعضهم تماما على الذي أحسن بالرفع . (بِالْمَعْصِيَةِ) أي بالمخالفة له فيما يدعوه إليه من الحقّ الظاهر ببيانه .

(وَيَظْلِمُ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ ) ؛ بفتحتين من باب ضرب ، أي بالحدّة والخشونة .

(وَيُظَاهِرُ) أي يُعاون (الظَّلَمَةَ) أي الظالمين لحقّ أهل البيت عليهم السلام بموافقتهم في اتّباع الظنّ والقول على اللّه بغير علم . .

ص: 331


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 641 .
2- وهو التصريح بمضمون التوضيح في شرح أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك من تأليفات خالد بن عبداللّه بن أبي بكر الأزهري، المتوفى سنة 905 هجرية والمدفون بالقاهرة . كشف الظنون ، ج 1 ، ص 154 ؛ ايضاح المكنون ، ج 1 ، ص 293 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 297 .

باب حقّ العالم

الباب السابع بَابُ حَقِّ الْعَالِمِ

فيه حديث واحد :

(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ(1) بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ) أي ممّا يجب رعايته مع العالم من التعظيم (أَنْ لاَ تُكْثِرَ عَلَيْهِ السُّوءَالَ) ؛ بصيغة المضارع للمخاطب من باب الإفعال ؛ أي أن لا تسأله إلاّ عمّا تحتاج إليه .

(وَلاَ تَأْخُذَ بِثَوْبِهِ ) ؛ بالنصب بتقدير «أن» على أن تكون «لا» للنفي ، أو بالجزم على أن تكون «لا» للنهي . والمراد الأخذ بثوبه لمنعه من الخروج عن مجلسه إذا أراده أو مطلقا ، فإنّه استخفاف . ويحتمل أن يُراد : ولا تجلس قريبا منه بحيث يمكنك الأخذ بثوبه .

ويؤيّد الأوّل ما في إرشاد المفيد في فصل «ومن كلامه عليه السلام في صفة العالم وأدب المتعلِّم» من قوله : «ولا يؤخذ بثوبه إذا نهض» .(2)

(وَإِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ - وَعِنْدَهُ قَوْمٌ - فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ جَمِيعا ، وَخُصَّهُ بِالتَّحِيَّةِ دُونَهُمْ ، وَاجْلِسْ بَيْنَ يَدَيْهِ) فإنّه أسمع لكلامه ، وأفهم لمقصوده ، فإنّ كيفيّة الأداء قد تكون قرينة على المراد ، ولأنّه أسهل للسؤال .

ص: 332


1- في المطبوع : + «عن محمد» .
2- الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 230 .

(وَلاَ تَجْلِسْ خَلْفَهُ) . ذكره للدلالة على أنّه إن لم يتيسّر الجلوس بين يديه ، فينبغي الجلوس على أحد جانبيه ؛ لما مرّ ، ولأنّ السؤال من الخلف يؤذي المسؤول .

(وَلا تَغْمِزْ بِعَيْنِكَ) ؛ بالمعجمتين بصيغة النهي من باب ضرب ، والغمز : العصر والكبس باليد ، وإذا نُسب إلى العين فالمراد الإشارة بها ، أو إطباقها للتصديق .

(وَلاَ تُشِرْ بِيَدِكَ ، وَلاَ تُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : قَالَ فُلاَنٌ وَقَالَ فُلاَنٌ خِلاَفا لِقَوْلِهِ ، وَلاَ تَضْجَرْ) ؛ من باب علم أو باب التفعّل ؛ أي لا تبرم ، (بِطُولِ صُحْبَتِهِ ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ النَّخْلَةِ) .

وقوله : (تَنْتَظِرُهَا حتّى يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ) صفةُ النخلة ، إنّما سوغها كون اللام في النخلة للعهد الذهني فهي كالنكرة كقوله : «ولقد أمرُّ على اللئيم يسبّني»(1) ، ولا يجوز أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ؛ لأنّه ليس كلّ نخلة كذلك ، والحال عن المضاف إليه ضعيف .

(وَالْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرا مِنَ الصَّائِمِ(2) الْقَائِمِ ، الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللّه ِ) ؛ لأنّ كفّ نفسه وأصحابه عن المذاهب الباطلة أفضل من كفّ الصائم ، وقيامه ليلة للمطالعة أفضل من قيام القائم في الليل للصلاة ، ودفع السلوك عن الحقّ أفضل من غزو الغازي في سبيل اللّه ، وقد روي أنّ مداد العلماء أعظم من دماء الشهداء(3) . .

ص: 333


1- هذا صدر بيت وعجزه : «فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني» ذكره الجوهري في الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 (وثم) ؛ وحكاه أيضا الطوسي في التبيان ، ج 1 ، ص 351 ؛ والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 1 ، ص 58 ؛ ومجمع البيان ، ج 1 ، ص 322 .
2- في حاشية «أ ، ج» : «الصابر . خ ل» .
3- ورد مضمونه في الأمالي للصدوق ، ص 233 ، ح 1 ؛ والفقيه ، ج 4 ، ص 399 ، ح 5853 ؛ وأمالي الطوسي ، ص 521 ، ح 56 .

باب فقد العلماء

الباب الثامن بَابُ فَقْدِ الْعُلَمَاءِ

فيه ستّة أحاديث :

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الخَزَّازِ(1)) ؛ بفتح المعجمة وشدّ الزاي الاُولى .

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ) أي ما من موت أحد (يَمُوتُ مِنَ الْمُوءْمِنِينَ أَحَبَّ إِلى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ) أي من المؤمنين .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا مَاتَ الْمُوءْمِنُ الْفَقِيهُ ، ثُلِمَ فِي الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ) . الثلمة بضمّ المثلّثة وسكون اللام : الخلل في الحائط وغيره ، ويقال في المجاز : موت فلان ثلمة في الإسلام لا تسدّ . والثلمة مصدر والهاء للوحدة ، تقول في المتعدّي : ثلمه - كضرب - ثلما بالفتح ، وفي اللازم : ثلم كعلم ثَلَما بفتحتين ، وذهب الكوفيّون إلى أنّ تحويل حركة العين مُعدٌّ للفعل اللازم ، يُقال : كَسِيَ زيد كعلم ، وإذا فُتِحَت السين صار بمعنى ستر وغطّى وتعدّى إلى واحد ، نحو : كسوت وجهه ، أو بمعنى أعطى كسوة ،

ص: 334


1- في المطبوع : «الخرَّاز ، جاء في منتهى المقال ، ج 7 ، ص 115 ، الرقم 3356 : أبو أيوب الخزاز بالزاي قبل الألف وبعدها إبراهيم بن عثمان ، أو ابن عيسى ، ثم قال : أقول : جعل في المجمع لأبي أيوب الخزاز ترجمتين ذكر في إحداهما أنه بالمعجمات ، وذكر في الأخرى أنه بالراء فالزاي أخيرا وقال : هو إبراهيم بن زياد فتأمل جدا . مجمع الرجال ، ج 7 ، ص 9 .

فتعدّى(1) إلى اثنين ، نحو : كسوت زيدا جبّة ، قالوا : وكذلك شَتِرَتْ عينه بكسر التاء لازم ، بمعنى انقلب جفنها ، وشتر اللّه عينه بفتحها متعدّ ، بمعنى قلّبها ، وكذا ثرم بمعنى انكسر سنّهُ من أصلها وثرَمه وثَلِم وثَلَمه . وذهب البصريّون إلى أنّ جميع ذلك من باب المطاوعة .(2)

وكأنّ مرادهم أنّ الأمر بالعكس أو أنّ كلاًّ منهما موضوع على حدة .

وقوله «ثلم» إمّا بصيغة المجهول ، وإمّا بصيغة المعلوم ، وعلى التقديرين فثُلمة إمّا بالضمّ وإمّا بالفتح وإمّا بفتحتين ، وعلى التقادير فثُلمة إمّا منصوب على المصدريّة ، أو على نيابة المصدر ، كقولك : توضّأ وضوءا ، وامّا مرفوع على الفاعليّة للمبالغة ، كقولهم : جدّ جدُّه ، أو على نيابة الفاعل للمبالغة أيضا .

ولو جعل ثلَم بصيغة المعلوم فهو إمّا من المتعدّي ، والأصل ثَلَمَ موتُه أو المؤمن الفقيه باعتبار الموت حِصنا في الإسلام ثُلمَةً أو ثَلْمَةً ، وإمّا من اللازم ، والأصل ثَلِم حِصن في الإسلام ثُلْمَةً أو ثَلَمَةً ، ولو جعل ثلم بصيغة المجهول وثلمة منصوبا كان نائب الفاعل الظرف .

ويبعّد كون ثَلمة مصدرا قولُهُ :

(لاَ يَسُدُّهَا) ؛ فإنّ السدّ يتعلّق حقيقة بالخلل ولا يتعلّق بالمصدر إلاّ مسامحة .

(شَيْءٌ) أي شيء من غير جنس المؤمن الفقيه ، فلا يرد أنّه يمكن أن يوجد بدله فقيه أو أكثر مساوٍ له بل أفضل ، فيسدّ به الخلل .

ويمكن دفعه أيضا بأن يُقال : من يأتي بدله قلّما يتّصل فقهه بموته ؛ لأنّ الفقه لا يحصل إلاّ في سنين(3) ، وسدّ خلل الحصن بحيث لا يحصل فساد إنّما يكون لو اتّصل بالثلم ، وبأن يُقال : الذي مات لو لم يمت كان مع من حدث ، فيقوى محفوظهُ من .

ص: 335


1- في المغني : «فيتعدى» .
2- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 527 .
3- في «ج» : «في السنين» بدل «إلاّ في سنين» .

الإسلام بحصون متعدّدة ، فبموته يزول حصن من الحصون لا يقوم مقامه شيء ، فإنّ الفقهاء حصون كما يجيء في ثالث الباب .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا مَاتَ الْمُوءْمِنُ الْفَقِيه(1) ، بَكَتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ) أي الموكّلون به وبأعماله ، أو جميعهم .

وهذا نوع من المجاز ، والمراد حبّهم له ولأعماله ، وإلاّ فلا يتصوّر فيهم خروج الدمع من عيونهم والرضا بقضاء اللّه من أوجب الواجبات .

ولا يتصوّر في الملائكة رقّة الجنسيّة ، ولا التأثّر من مفارقة المألوف ، بل لا يتصوّر لهم حقيقة إلاّ الفرح بانتقال المؤمن إلى دار الكرامة .

(وَبِقَاعُ الاْءَرْضِ ، الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ اللّه َ عَلَيْهَا ، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ ، الَّتِي كَانَ يُصْعَدُ) ؛ بصيغة المجهول من باب علم ، (فِيهَا بِأَعْمَالِهِ) . الظرف الثاني قائم مقام الفاعل ، وهذان أيضا من المجاز ، والمقصود فقدُ البقاع والأبواب التشرّفَ بعبادته .

(وَثُلِمَ فِي الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ يَسُدُّهَا شَيْءٌ ؛ لاِءَنَّ الْمُوءْمِنِينَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الاْءِسْلاَمِ كَحِصَنٍ) ؛ بكسر الحاء(2) المهملة وفتح الصاد المهملة والتنوين ، أي كحصون ، موافقا لما يجيء في آخر أبواب «كتاب الجنائز» .

(سُؤْرِ(3) الْمَدِينَةِ لَهَا) ؛ الجملة صفة حصن ، والسؤر بضمّ المهملة وسكون الهمزة(4) ، وقد يقلب واوا والمهملة : البقيّة ، والمراد هنا البقاء ، وهو مبتدأ ومضاف والظرف خبر المبتدأ ، والضمير للحصن .

والمقصود تشبيه الإسلام بمدينة عظيمة ذات محلاّت ، لكلّ واحدة منها حصن ، .

ص: 336


1- في الكافي المطبوع : - «الفقيه» . وفي حاشية «أ» : «كذا في نسخة» .
2- في «د» : - «الحاء» .
3- في الكافي المطبوع : «سور» .
4- في «أ ، د» : «الهمز» .

وتشبيه المؤمنين الفقهاء بتلك الحصون كلّ واحدٍ منهم يحصن محلّة في بقاء انتظام تلك المدينة بتلك الحصون .

الرابع : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ(1) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ مِنَ الْمُوءْمِنِينَ أَحَبَّ إِلى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ) . مرَّ في أوّل الباب .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنْ عَمِّهِ يَعْقُوبَ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ) ؛ بفتح الفاء وسكون المهملة وفتح القاف والمهملة .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - لاَ يَقْبِضُ) . القبض بالقاف والموحّدة والمعجمة من باب ضرب : الأخذ بجميع الكفّ ، والمراد هنا الأخذ عن الناس مطلقا .

(الْعِلْمَ) . المراد به الآيات البيّنات المحكمات من القرآن ، كما مرَّ تفسيره في شرح آخر الخامس .(2)

(بَعْدَ مَا يُهْبِطُهُ ) أي على الرسول للناس .

(وَلكِنْ يَمُوتُ الْعَالِمُ) بذلك العلم (فَيَذْهَبُ) أي عن الناس (بِمَا يَعْلَمُ) ؛ الباء للتعدية أو للمصاحبة ، و«ما» مصدريّة ، والمراد علمه بذلك العلم .

(فَتَأُمُّهُمُ(3)) . يُقال : أمّهم من باب نصر في الصلاة وغيرها : إذا تقدّمهم وتبعوه .

وفي بعض النسخ «فَتَلِيهِمُ» وهو من باب ورث ، من الولاية بالكسر : السلطان . والضمير للناس المدلول عليهم بقوله : «يقبض ويذهب» .

(الْجُفَاةُ) ؛ بضمّ الجيم وتخفيف الفاء ، جمع «الجافي» من جفاه وعنه جَفاء بالفتح والمدّ : إذا بعُد عنه ، والمراد البُعَداء عن ذلك العلم ، ومنه قول عُمَر : إنّي أجفو عن أشياء .

ص: 337


1- في «ج» والكافي المطبوع : «الخرَّاز» .
2- أي الحديث 6 من باب ثواب العالم والمتعلّم .
3- في الكافي المطبوع : «فتليهم» .

من العلم(1) ، أي أنبُو عنها أجهلها ، والجفاء أيضا غِلظ الطبع(2) ويكون بمعنى ترك الصلة والبرّ .

(فَيَضِلُّونَ) ؛ من باب ضرب ، أي عن طريق العلم في أفكارهم . والضمير للجُفاة ، والفاء للتفريع على مجموع الإمامة والجفا ؛ لأنّ الإمامة يستلزم إعداد الفتاوى ، والجفا يستلزم الخطأ في الفكر .

(وَيُضِلُّونَ) ؛ من باب الإفعال .

(وَلاَ خَيْرَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ) . المراد بالشيء هنا المذهب والطريقة ، والأصل ما يستند إليه الشيء ، وهو هنا الآيات البيّنات المحكمات من القرآن التي تسمّى اُمّ الكتاب ، كما في سورة آل عمران(3) ؛ لأنّها ممّا تستقلّ عقول الرعيّة بالعلم به قطعا ، ويجعل مبدأ المبادئ في كسب العلم .

السادس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام يَقُولُ : إِنَّهُ يُسَخِّي نَفْسِي فِي سُرْعَةِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ فِينَا قَوْلُ اللّه ِ) .

السخاوة والسخاء بفتحهما : الجود ، يُقال : سخا يسخو أو(4) سخي بالكسر يسخى بالفتح . وقوله : «يسخّي» بالمهملة والمعجمة بصيغة المضارع المذكّر الغائب من باب التفعيل أو الإفعال ، وفاعله «قول اللّه» ومفعوله «نفسي» . والظرف الأوّل متعلّق بقوله : «يسخّي» ، والثاني ب- «سرعة» . وقيل : «تسخى» بتخفيف الخاء بصيغة المؤنّث الغائبة ، وحينئذٍ فاعله «نفسي» و«قول اللّه» مبتدأ خبره «فينا» ، وجملة المبتدأ والخبر جملة استئنافيّة بيانيّة ، أي لأنّ فينا قول اللّه :

(«أَ وَلَمْ يَرَوْا) . الضمير لأهل الحرص في البقاء في الدنيا من أهل الكتاب كاليهود ، .

ص: 338


1- ذكر السرخسي في شرح السير الكبير ، ج 1 ، ص 36 : أنّ هذا من كلام رجل من أهل البادية لعمر .
2- اُنظر: النهاية ، ج 1 ، ص 281 (جفأ) .
3- آل عمران (3) : 7 .
4- في «ج ، د» : «و» .

موافقا لقوله : «لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ»(1)في حاشية «أ» : «فيه ردّ لما قاله البيضاوي من أنّ المراد بها أرض الكفرة ، وبقوله : «نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا»فتح بعضها على المسلمين» .(2) .

(أَنّا نَأْتِى الاْءَرْضَ)(2) . لم يُرِد أرضا مخصوصة ، بل ما يشمل الجميع . (نَنْقُصُها مِنْ) ابتدائيّة ، أي النقص من جهة (أَطْرافِها»(3)) ؛ أو سببيّة ، أي النقص لأجل توفّينا أطرافها . الأطراف جمع «طِرْف» بالكسر : الكريم من كلّ شيء - كحِمْل وأحمال - أو جمع «طريف» كشريف وأشراف . قال ثعلب : الأطراف : الأشراف .(4) انتهى .

وليس جمع طرف بفتحتين : الجانب والناحية ، أو الطائفة من الشيء .

(وَهُوَ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ) . الضمير للنقص ، أي هو بسبب موتهم وقتلهم .

وبيانه أنّ الآية في سورة الرعد بعد قوله : «وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ»(5) ، «إمّا» هي «إن» الشرطيّة زيدت عليها «ما» تأكيدا ، ولذلك دخلت النون المؤكّدة في الفعل ، ولو اُفردت «إن» لم يصحّ دخولها ، لا تقول : إن تكرمنّ زيدا يكرمك ، ولكن إمّا تكرمنّه ، وهو يدلّ على أنّه لا بأس بأن يتوفّى رسوله عليه السلام سريعا قبل إراءة شيء ممّا وعدهم ، فناسب رفع التعجّب(6) بأنّه توفّى رسله وأنبياءه وأوصياءهم ، وقد علم اليهود أنّ الأنبياء قتلوا بغير الحقّ ، ولعلّ السخا لأنّه نسب تعالى في توفّيهم إلى نفسه إتيان الأرض على سبيل الاستمرار التجدّدي تعظيما لهم ودلالةً على أنّ الدنيا ليست لائقة بشأنهم ، وجعل نقص الأرض وخرابها من توفّيهم(7) للتعظيم لهم . .

ص: 339


1- البقرة
2- : 96 .
3- الرعد (13) : 41 .
4- نقله الجوهري عن ثعلب في الصحاح ، ج 4 ، ص 1394 (طرف) .
5- الرعد (3) : 40 .
6- في «ج» : «العجب» .
7- في «أ» : «توفهم» .

باب مجالسة العلماء وصحبتهم

الباب التاسع بَابُ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَصُحْبَتِهِمْ

فيه خمسة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ : يَا بُنَيَّ ، اخْتَرِ الْمَجَالِسَ) ؛ بفتح الميم جمع مجالس بضمّ الميم ، أي قوما يحسن مجالستك إيّاهم مثل مُفاتح ومَفاتح ، ولو كان جمع مجلس أو بضمّ الميم مفردا لم يناسب قوله : «فإن رأيت قوما» إلى آخره .

(عَلى عَيْنِكَ) . الظرف متعلّق ب- «اختر» ، والمراد بالعين بفتح المهملة وسكون الخاتمة والنون : الباصرة التي هي أشرف الأعضاء ، أو المراد الذات ، نظير : «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ»(1) .

(فَإِنْ رَأَيْتَ قَوْما يَذْكُرُونَ اللّه َ جَلَّ وَعَزَّ) . الذِّكر نقيض النسيان ، أي يخشون اللّه ولا ينسونه . والمراد أنّهم يجعلون أفعالهم وأقوالهم تبعا للآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر ، الثابتة في كلّ شريعة .

(فَاجْلِسْ مَعَهُمْ ؛ فَإِنْ تَكُنْ عَالِما) بالمسائل التي يذكرونها حين جلوسك (نَفَعَكَ عِلْمُكَ) أي لم يكن علمك السابق عبثا باعتبار هذا المجلس ؛ لأنّ العالم بالشيء إذا سمعه مرّة اُخرى كان أبعد من النسيان من الجاهل إذا سمعه أوّل مرّة ، وهذا لدفع

ص: 340


1- الحشر (59) : 9 .

وسوسة الشيطان ، فإنّه يقول : جلوسك هنا عبث ، وإلاّ كان صرف عمرك في العلم عبثا .

(وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً ، عَلَّمُوكَ) أي هَدوك إلى طريق علمهم .

(وَلَعَلَّ) ؛ للتوقّع وهو ترجّي المحبوب . (اللّه َ أَنْ) ؛ ناصبة ويقترن بها خبر «لعلّ» كثيرا لحمل «لعلّ» على «عسى» .

(يُظِلَّهُمْ بِرَحْمَتِهِ) . يُقال : أظلّه أمر كذا : إذا غشيه أو دنا منه ، كأنّه ألقى عليه ظلّه ، والباء للتعدية أو للملابسة .

(فَتَعُمَّكَ مَعَهُمْ) ؛ بصيغة المضارع للمؤنّث الغائبة من باب نصر ، أي فتشملك . والضمير المستتر للرحمة ، ويمكن أن يكون للمذكّر والضمير للّه، أي فيعمّك اللّه بها ، يُقال : عمّهم بالعطيّة : إذا أشملهم عطيّته .

واختلف في نصب الفعل الواقع بعد الفاء ، فذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز نصبه ، فالنصب هنا بالعطف لفظا على «يظلّهم» فيرفع مع عدم «أن» والفاء ليست للسببيّة ، بل للعطف على صريح الفعل . وذهب الفرّاء إلى جواز نصبه بأن مقدّرة ، فيكون الفعل في تأويل مصدر معطوف بالمعنى على مصدر متوهّم ، فيجوز نصبه مع عدم «أن» أيضا ، والفاء للسببيّة ، احتجَّ بقراءة حفص عن عاصم «فَأَطَّلِعَ»(1) بالنصب في جواب «لَّعَلِّىآ أَبْلُغُ الاْءَسْبَابَ»(2) ، وأوّله البصريّون بأنّ «لعلّ» اُشربت معنى «ليت» لكثرة استعمالها في توقّع المرجوّ ، وتوقّع المرجوّ ملازم للتمنّي .(3) وقال صاحب(4) الارتشاف : «وسماع الجزم بعد الترجّي يدلّ على صحّة مذهب الفرّاء ومَن وافقه من الكوفيّين»(5) انتهى .

(وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْما لاَ يَذْكُرُونَ اللّه َ) أي ينسونه ، ونسيان اللّه تعالى ترك الالتفات إلى .

ص: 341


1- غافر(40) : 37 ، وانظر: تفسير الكشاف ، ج 3 ، ص 428 .
2- غافر (40) : 36 .
3- حكاه عن بعض النجاة الغرناطي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل ، ج 4 ، ص 6 ؛ وانظر: شرح شافية ابن الحاجب ، ج 4 ، ص 130 .
4- في حاشية «أ» : «نقله الأزهري في التصريح شرح التوضيح (منه دام ظله)» .
5- حكاه الرضي في شرح شافية ابن الحاجب ، ج 4 ، ص 130 : عن أبي حيان في الارتشاف .

الآيات البيّنات المحكمات من كتابه ، الناهية عن الاختلاف بالرأي واتّباع الظنّ ، الآمرة بطلب العلم عن أهل الذِّكر ، وهو منشأ الخذلان وترك إصلاح النفس ، قال تعالى في سورة الحشر : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه َ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ»(1) .

(فَلاَ تَجْلِسْ مَعَهُمْ ؛ فَإِنْ تَكُنْ) أي على تقدير الجلوس معهم (عَالِما) بالمسائل التي يذكرونها ويحكمون فيها بآرائهم (لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ) أي في هذا المجلس ؛ إذ لم يمكنك هدايتهم ، فإنّهم لا يقبلون حقّا ولا يميلون إلاّ إلى ما سمعوه من كبرائهم ، فهم المقلّدون لأهل الآراء في اُصول الدِّين وفروعه .

ويحتمل أن يُراد بنفي النفع هنا أنّه لا يدفع العقوبة التي يجيء في قوله : «فتعمّك معهم» .

(وَإِنْ كُنْتَ(2) جَاهِلاً ، يَزِيدُوكَ جَهْلاً )(3) ؛ لأنّ للكلام تأثيرا ووقعا في النفوس وإن كان باطلاً ، فيصير أبعد من العلم بالحقّ .

(وَلَعَلَّ) ؛ للإشفاق من المكروه ، نحو : لعلّ الرقيب حاضر ، ويحتمل على مذهب الفرّاء المذكور آنفا أن تكون للتوقّع ، فإنّ المرغوب ربّما كان سببا لمكروه باعتبار ما ينضمّ إليه ، وهو هنا الجلوس معهم .

(اللّه َ أَنْ يُظِلَّهُمْ بِعُقُوبَةٍ) أي بما يستحقّونه على هذا المجلس من الخذلان في الدنيا والإضلال والاستدراج ونحو ذلك ، أو عذاب الآخرة .

(فَتَعُمَّكَ مَعَهُمْ) عقوبةً للجلوس معهم . يدلّ على حظر الجلوس في مجالس أهل البدع إلاّ ما أخرجه الدليل كما في التقيّة .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ .

ص: 342


1- الحشر (59) : 19 .
2- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «تكن» .
3- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «لا يزيدوك إلاّ جهلاً» .

أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام ، قَالَ : مُحَادَثَةُ الْعَالِمِ عَلَى الْمَزَابِلِ) ؛ جمع «مزبلة» بفتح الموحّدة ، ويجوز ضمّها أيضا ، وهي موضع الزِّبل بالكسر : السرجين .(1)

(خَيْرٌ مِنْ مُحَادَثَةِ الْجَاهِلِ) بالجهل المركّب كأهل الآراء . ويجوز أن يُراد ما يعمّ الجاهل بالجهل البسيط أيضا .

(عَلَى الزَّرَابِيِّ) ؛ بفتح أوّله وتشديد آخره جمع «زَرْبيّة» بفتح الزاي وضمّها وكسرها وسكون المهملة وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة(2) ، قيل : هي الطنفسة ، أي البساط الذي له خملٌ رقيق(3) ، وقيل : البساط ذو الخمل(4) ، وقيل : كلّ ما بسط واتّكئ عليه(5) ، وقيل : هي النُمْرُقَةُ ، وهي وسادة صغيرة .(6)

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ شَرِيفِ) ؛ بفتح المعجمة وكسر المهملة وسكون الخاتمة . (بْنِ سَابِقٍ) ؛ بالمهملة والموحّدة المكسورة .

(عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : قَالَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسى : يَا رُوحَ اللّه ِ ، مَنْ) ؛ للاستفهام مفعول مقدّم وجوبا ؛ لأنّ الاستفهام يقتضي صدر الكلام .

(نُجَالِسُ؟ قَالَ : مَنْ) ؛ موصولة . (يُذَكِّرُكُمُ)(7) ؛ من التذكير ويحتمل الإذكار . (اللّه َ رُوءْيَتُهُ ، وَيَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ ، وَيُرَغِّبُكُمْ) ؛ من الترغيب . (فِي الاْآخِرَةِ عَمَلُهُ) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ) ؛ بالمهملة والزاي المكسورة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : .

ص: 343


1- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 740 (زبل) .
2- النهاية ، ج 2 ، ص 300 (زرب) .
3- حكاه عن الفرّاء في لسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
4- حكاه بلفظ قيل في النهاية ، ج 2 ، ص 300 ؛ ولسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
5- حكاه بلفظ قيل في لسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
6- الصحاح ، ج 1 ، ص 143 (زرب) ؛ وانظر: لسان العرب ، ج 10 ، ص 361 (نمرق) .
7- في الكافي المطبوع : «تذكركم» .

مُجَالَسَةُ أَهْلِ الدِّينِ) أي العالِمين بأحكام الدِّين العاملين بها (شَرَفُ الدُّنْيَا وَالاْآخِرَةِ) .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَصْبَهَانِيِّ) ؛ بكسر الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحّدة . (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الخاتمة وسكون الخاتمة الثانية والنون . (عَنْ مِسْعَرِ) ؛ بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة والراء المهملة . (بْنِ كِدَامٍ) ؛ بكسر الكاف وتخفيف المهملة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : لَمَجْلِسٌ) ؛ بفتح اللام الموطّئة للقسم ، أي واللّه لمجلس ، وهو مصدر ميمي .

(أَجْلِسُهُ) . الضمير المنصوب لمجلس ، وفي موضع المفعول المطلق ، ويحتمل أن يكون المجلس اسم مكان ، فنصب الضمير إمّا على الظرفيّة ؛ لأنّ المجلس وإن لم يكن فيه إبهام فيشبه الجهات الستّ في الشياع كناحية ومكان ، لكن أسماء المكان المختصّة تنتصب على الظرفيّة إذا اتّحدت مادّتها ومادّة عاملها ، كقوله : «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ»(1) ، والضمير في حكم المرجع ؛ وإمّا على المفعول به ، كما قالوا في نحو : «دخلت الدار وسكنت البيت»(2) من أنّ انتصابهما إنّما هو على التوسّع بإسقاط الخافض ، والأصل «دخلت في الدار وسكنت في البيت» فلمّا حذف الخافض نصبا على المفعول به توسّعا كما يحذف الجارّ وينتصب ما بعده(3) ، كقوله : تمرّون الديار(4) ، وذلك لأنّ الدار والبيت من أسماء المكان المختصّة ، لأنّ لها صورة وحدوداً .

ص: 344


1- الجنّ (72) : 9 .
2- في حاشية «أ» : «قاله الأزهري في التصريح شرح التوضيح في بحث المفعول فيه (منه دام ظله)» .
3- اُنظر: مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 102 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 1 ، ص 538 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 121 .
4- هذا كلام من بيت شعر لجرير وهو : تمرون الديار ولم تعوجوا *** كلامكم عليّ إذا حرام «لسان العرب ، ج 5 ، ص 165 (مرر) ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 102 ؛ و ج 2 ، ص 473 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 1 ، ص 538 ، الرقم 159» .

محصورة ، ولا يقبل النصب على الظرفيّة من أسماء المكان إلاّ المبهم ، أو ما اتّحدت مادّته ومادّة عامله كما مرّ .

(إِلى مَنْ أَثِقُ بِهِ) أي من لا أتّقيه أصلاً ؛ لوثوقي بعلمه بمواضع التقيّة ومحالّ الكلام ، يُقال : جلس إليه : إذا جلس معه وألِفَ وأنس به .

(أَوْثَقُ) أي باعتبار الثواب لي (فِي نَفْسِي مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ) لأنّه عليه السلام كان ينشر علوم الدِّين كما هو حقّه عند ثقاته وهو أفضل .

والأنسب بعنوان الباب أن يُقال : إنّ المراد بأوثَق في نفسي أوثقُ باعتبار الثواب لمن أثق به من عمله سنّة ، أو يُقال : إنّه عليه السلام نسب إلى نفسه ما يريد أن ينسبه إلى شيعته تأكيدا في النصيحة ، وأنّ المراد بمن أثق به من أثق بعلمه لأستفيد منه المسائل المجهولة .

ص: 345

باب سؤال العالم وتذاكره

الباب العاشر بَابُ سُوءَالِ الْعَالِمِ وَتَذَاكُرِهِ

فيه عشرة أحاديث

المراد بالعالم من يعلم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ويعمل بعلمه ، ومرَّ بيانه في شرح سابع الثاني . وإضافة «سؤال» إلى المفعول به ، وكذا إضافة «تذاكر» إلى الضمير الراجع إلى العلم المفهوم من العالم ، كما يصرّح به في سابع الباب .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ مَجْدُورٍ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ) ؛ بفتح الجيم : اسم الحدث الذي يحصل بالجماع ، أو خروج المنيّ ، وهي في الأصل البُعد ، وسمّي [الإنسان جنبا(1)] لأنّه نُهِيَ معه أن يَقْرَب الصلاة أو مواضعها ما لم يتطهّر ، وقيل : لمجانبته الناس حتّى يغتسل ، والجنابة قد تُطلق على المنيّ .(2)

(فَغَسَّلُوهُ) ؛ بتشديد المهملة ، من التغسيل ، ويجوز تخفيفها ، من الغسل الذي يشتمل عليه التغسيل ، أو من غسل موضع النجاسة.

(فَمَاتَ ، قَالَ : قَتَلُوهُ ، أَلاَّ) ؛ بفتح الهمزة وتشديد اللام ، حرف تنديم .

(سَأَلُوا ؛ فَإِنَّ دَوَاءَ الْعِيِّ السُّوءَالُ) . «العِيّ» بكسر المهملة وتشديد الخاتمة : التحيّر في الكلام ، والمراد به هنا الجهل(3) ، يعني كان الواجب عليهم أن يسألوا إذ لم يعلموا ، فإنّ

ص: 346


1- مابين المعقوفين من المصدر .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 302 (جنب) .
3- النهاية ، ج 3 ، ص 334 (عيا) .

الجهل داءٌ شديد ، ودواؤه السؤال والتعلّم من العلماء .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَرِيزٍ) ؛ بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون الخاتمة والزاي . (عَنْ زُرَارَةَ) ؛ بضمّ الزاي والراءين المهملتين بينهما ألف . (وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَبُرَيْدٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح المهملة وسكون الخاتمة ومهملة . (الْعِجْلِيِّ) ؛ بكسر المهملة وسكون الجيم ، وبنو عجل حيّ .(1)

(قَالُوا : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِحُمْرَانَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم . (بْنِ أَعْيَنَ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الخاتمة .

(فِي شَيْءٍ سَأَلَهُ : إِنَّمَا يَهْلِكُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب وعلم ، قيل : ومنع(2) . والهلاك : الموت ، والمراد هنا الشقاء .

(النَّاسُ ؛ لاِءَنَّهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ) أي العلماء عمّا لا يعلمون ، وقد اُمروا بسؤال أهل الذِّكر .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : إِنَّ هذَا الْعِلْمَ) . الإشارة إلى جنس علم الدِّين .

(عَلَيْهِ قُفْلٌ ، وَمِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ) . بيان لعدم استقلال فكر الإنسان بمعرفة علوم الدِّين بدون الرجوع إلى العلماء وإلى إبطال القياس والاجتهاد .

(عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ(3) ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام مِثْلَهُ) .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، .

ص: 347


1- بنو عجل جماعة كانت تسكن اليمامة ، وهم أخلاط من حنيفة وتميم ، كما في معجم البلدان ، ج 2 ، ص 376 (الخضارم) . قال ابن خلدون : «وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل» . تاريخ ابن خلدون ، ج 2 ، ص 302 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 324 (هلك) .
3- في الكافي المطبوع : + «عن السكوني» .

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الاْءَحْوَلِ) . هو محمّد بن عليّ بن النعمان مؤمن الطاق .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لاَ يَسَعُ النَّاسَ حَتّى يَسْأَلُوا) أي عن(1) حدود ما أنزل اللّه على رسوله .

(وَيَتَفَقَّهُوا) أي في الدِّين بمعرفة تلك الحدود ، كما في سورة التوبة : «فَلَوْلاَ نَفَرَ»(2)النهاية ، ج 1 ، ص 55 ؛ وحكاه بلفظ قيل في لسان العرب ، ج 9 ، ص 7 (أفف) .(3) الآية ، ومضى بيانه في شرح سابع الثاني .(4)

(وَيَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ ) أي إمام زمانهم بدلالة تلك الحدود وتتبّع أحوال المدّعين للإمامة ، أو بنصّ الإمام السابق .

(وَيَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا يَقُولُ وَإِنْ كَانَ تَقِيَّةً) . المراد بالأخذ العمل به والإفتاء الغير الحقيقي به ، أي الرواية له حتّى يعمل به الغير ، لا الإفتاء الحقيقي به ، فإنّه لا يجوز الإفتاء الحقيقي بما جوّز العقل فيه التقيّة ، لأنّه قولٌ على اللّه بغير المعلوم . وتفصيله في محلّه .

الخامس : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : أُفٍّ) ؛ بضمّ الهمزة وتشديد الفاء ، وفيها ستّ لغات(5) : كسر الفاء ؛ لأنّه الأصل في التقاء الساكنين ، وفتحها للتخفيف ، وضمّها للاتباع ، وكلّ منها مع التنوين وبدونه ؛ وهو مبنيّ وتنوينه للتنكير ، وقيل : لغاتها أربعون .(6) انتهى . وأصلها صوتٌ إذا صوّت به الإنسان عُلم أنّه متضجّر مُتَكَرّه ، ثمّ استعملت(7) بمعنى الاستقذار .(8) وقيل(9) : بمعنى الاحتقار والاستقلال .(9) انتهى . .

ص: 348


1- في «ج» : - «عن» .
2- التوبة
3- : 122.
4- أي الحديث 7 ، من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .
5- حكاه عن الأخفش في الصحاح ، ج 4 ، ص 331 (أفف) .
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 117 (اُفّ) .
7- في «د» : «استعمل» .
8- النهاية ، ج 1 ، ص 55 ؛ وعنه في لسان العرب ، ج 9 ، ص 7 (أفف) .
9- في حاشية «أ» : «يفهم من نهاية ابن الأثير» .

ومحلّها الرفع على الابتداء ، فما بعدها خبرها ، ويحتمل النصب بتقدير فعل ، أي الزم اللّه اُفّ(1) ، وقيل : نصب نصب المصادر .(2) انتهى .

وقد يُقام مقام الجملة ، قال تعالى : «فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(3) ، وقيل(4) : اسم فعل بمعنى أتضجّر .(5) انتهى .

وإذا اُريد بها تضجّر خاصّ أو من شيءٍ خاصّ جرّدت عن التنوين ، وإلاّ نوّنت للتنكير ، كما قالوا في «صه» بمعنى اُسكت ، و«إيه» بكسر الهمزة وسكون الخاتمة بمعنى زد الحديث(6) ، وقيل : أصل الاُفّ من وسخ الإصبع إذا فُتل .(7)

(لِرَجُلٍ لاَ يُفَرِّغُ) ؛ بصيغة المعلوم من المذكّر الغائب ، من باب التفعيل أو الإفعال ، أو من باب نصر ، يُقال : فرغت من الشغل فروغا أو فراغا ، وفرّغت غيري تفريغا وأفرغته .

(نَفْسَهُ) ؛ بالنصب أو الرفع . (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لاِءَمْرِ دِينِهِ ؛ فَيَتَعَاهَدَهُ) . التعاهد والتعهّد : التحفّظ بالشيء وتجديد العهد به ، وهو منصوب بتقدير «أن» في جواب النفي ، ويحتمل الرفع للعطف على المنفيّ ، لا النفي ، نحو : «وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»(8) ، والضمير المنصوب لأمر دينه ، والتعاهد بحضور الجماعة والجمعة وزيارة العلماء ونحو ذلك . وفي فصيح ثعلب(9) في باب المشدّد : فلان يتعهّد ضيعته . قال ابن درستويه : .

ص: 349


1- في حاشية «أ» : «يفهم مما ذكره الجوهري في ويب» .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 236 (ويب) .
3- الإسراء (17) : 23 .
4- في حاشية «أ» : «نقله البيضاوى (منه دام ظله)» .
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 439 .
6- قال في النهاية ، ج 1 ، ص 87 (أين) : إيه كلمة يراد بها الاستزادة ، وهي مبنية على الكسر ، فإذا وصلت نونت فقلت : إيهٍ حدثنا ، وإذا قلت : إيها بالنصب فإنّما تأمره بالسكوت .
7- النهاية ، ج 1 ، ص 55 (افف) ؛ مفردات غريب القرآن ، ص 19 (أفّ) .
8- المرسلات (77) : 36 .
9- فصيح ثعلب في اللغة ؛ اختلاف في مؤلفه فقيل : للحسن بن داود الرقي ، وقيل : لابن السكيت ، والأصحّ أنّه لأبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب الكوفي النحوي ، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة ، اعتنى به العلماء . معجم المطبوعات العربية ، ج 1 ، ص 662 . توفّي ثعلب سنة 291 هجرية كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1272 .

ولا يجوز عنده يتعاهد ؛ لأنّه لا يكون عند أصحابه إلاّ من اثنين ولا يكون متعدّيا ويردّه قوله : تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا .(1)

وأجاز الخليل يتعاهد وهو قليل . وسأل الحكم بن قنبر(2) أبا زيد عنها فمنعها ، وسأل يونس فأجازها فجمع بينهما ، وكان عند ستّة من فصحاء العرب فسئلوا وامتنعوا من يتعاهد ، فقال يونس : يا أبا زيد كم من علم استفدناه كنت سببه .(3) انتهى .

ويردّه أيضا الحديث .

وقال الجوهري : «تعهّدت فلانا وتعهّدت ضيعتي أفصح من قولك : تعاهدته ؛ لأنّ التعاهد إنّما يكون بين اثنين»(4) انتهى .

وفيه : أنّه منقوض بقوله تبارك اللّه وتعالى اللّه : «لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ»(5) ، والحلّ أنّ الفعل الصادر عن واحد فقط قد يبرز في صيغة الصادر عن اثنين على سبيل التغالب ؛ للإشعار بوقوعه متأكّدا متكثّرا ، لأنّ الغالب فيما بين اثنين ذلك ، سواء كان منسوبا إليهما صريحا كما في التفاعل ، أو لا كما في المفاعلة .

(وَيَسْأَلَ عَنْ دِينِهِ) بالسؤال الصريح في مجلس العلماء ، أو بحضور مجلس الوعظ أو نحو ذلك .

السادس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى :) أي بالسند السابق ، والتفاوت مبنيّ على أنّ من ذكره كان متعدّدا . (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أي بدل قوله : «لرجل» . .

ص: 350


1- هذا صدر بيت من معلقة امرئ القيس وهو : تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا *** عليّ حراصا لو يسرون مقتلي الصحاح ، ج 2 ، ص 683 (سرر) ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 103 ؛ مجمع البيان ، ج 8 ، ص 219 .
2- هو الحكم بن محمد بن قنبر المازني البصري ، من شعراء الدولة الهاشمية ، قدم بغداد ، وكان يهاجي مسلم بن الوليد مدة ثم غلبه مسلم . الوافي بالوفيات ، ج 13 ، ص 78 .
3- حكاه عنهم ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 522 ؛ والزبيدى في تاج العروس ، ج 5 ، ص 146 (عهد) .
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 516 (عهد) .
5- القلم (68) : 49 .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ : تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَيْنَ عِبَادِي مِمَّا يَحْيَا(1) الْقُلُوبُ الْمَيْتَةُ إِذَا هُمُ انْتَهَوْا فِيهِ إِلى أَمْرِي) .

المراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ باعتبار أنّها صريحة مفيدة للعلم للرعيّة أيضا ، وبتذاكره ذكر بعضهم لبعض إيّاه لئلاّ يُنسى ، و«من» تبعيضيّة ، وهي قسمان : ما مدخوله كلّي ، وما مدخوله كلّ .

وعلى الأوّل جملة «إذا هم انتهوا» متعلّقة ب- «ممّا يحيا» ، وذكر «ممّا» لأجل أنّ حياة قلوب الأنبياء ليست بالتذاكر وكذا الأوصياء ، أو لأجل أنّ التذاكر بدون التوفيق لا يفيد ، أو لأجل أنّ بعض الحياة يحصل قبل التذاكر بالنظر في دلائل إثبات الصانع وشواهد الربوبيّة ونحو ذلك . وعلى الثاني استئناف بياني .

والمراد لأنّها إنّما تحيا إذا هم انتهوا ، و«على» بنائيّة ، وحياة القلوب علمها بالدِّين الحقّ ، وموتها جهلها به ، والانتهاء إلى الشيء الوصول إليه في الحركة ، والمراد بأمره تعالى ما في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) ، وسيجيء بيانه في عاشر باب النوادر .

والحاصل أنّ مَن يتذاكر العلم إذا لم يصل إلى أمره - الدالّ على وجوب إمام عالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف - يصير متحيّرا ، فربّما ارتكب التأويل والتخصيص في العلم بصمم وعمى ، كما يفهم ممّا في سورة الفرقان : «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّا وَعُمْيَانا»(3) ، وأمّا مَن وصل إلى أمره فيخرج من التحيّر ، ويلين قلبه إلى ذكر اللّه ، كما في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ .

ص: 351


1- في الكافي المطبوع : «تحيا» .
2- النحل (16) : 43 ، الأنبياء (21) : 7 .
3- الفرقان (25) : 73 .

إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ ذَلِكَ هُدَى اللّه ِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللّه ُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»(1) ، وفي سورة الرعد : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه ِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(2) .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : رَحِمَ اللّه ُ عَبْدا أَحْيَا الْعِلْمَ) . الجملة دعائيّة ، والمراد بالعلم ما مرّ في شرح السابق .

(قَالَ : قُلْتُ : وَمَا إِحْيَاوءُهُ؟) أي ما الذي يحيا به العلم؟

(قَالَ : أَنْ يُذَاكِرَ) ؛ بكسر الكاف والضمير للعبد . (بِهِ) أي بالعلم (أَهْلَ الدِّينِ) ؛ بالنصب مفعول به أي المهتمّين بأمر الآخرة والجزاء .

(وَأَهْلَ الْوَرَعِ) أي المجتنبين عن سخط اللّه ، والمقصود تكرار ذكر العلم عندهم ودفع الشبه عنه لئلاّ يُنسى وليكثر العلماء .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَجَّالِ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الجيم .

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : تَذَاكَرُوا العلم) . أمر بتذاكره ، ومضى معنى العلم في شرح سابع الباب ، ومضى بيان شرط تذاكره في سابع الباب وثامنه .

(وَتَلاَقَوْا) ؛ بفتح القاف أمر بالتزاور (وَتَحَدَّثُوا) . التحدّث : مكالمة الأحبّة .

(فَإِنَّ الْحَدِيثَ) . المراد بالحديث آيات القرآن ، كما في أمثال قوله تعالى في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ»(3) . واللام هنا للعهد ، والمراد به العلم .

(جَلاَءٌ لِلْقُلُوبِ) بفتح الجيم وتخفيف اللام والمدّ مصدر ، جلا السيف والمرآة من باب نصر ، أي انكشفا وخرجا عن الرين ، حمل على باعث الجلاء مبالغة .23

ص: 352


1- الزمر (39) : 23 .
2- الرعد (13) : 28 .
3- الزمر (39) : 23

(إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَرِينُ) . الرين بالفتح : الدَنَس والوَسَخ ، ويُقال : رانت نفسه ترين رينا ، أي خبثت .(1)

(كَمَا يَرِينُ السَّيْفُ) أي يعلوه الصَّدأ ، وهو وسخ السيف والمرآة ونحوهما . (جَلاَؤُهُ) ؛ بفتح الجيم وتشديد اللام والمدّ ، أي الجالي جدّا من جملة السيف ، أو بتخفيف اللام مصدر استعمل بمعنى اسم الفاعل مبالغة ؛ والمآل واحد .

(الْحَدِيد)(2) ؛ بفتح المهملة ، أي الحادّ الماضي في الضريبة . والجملة استئناف بياني لتقوية التشبيه السابق .

العاشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ فَضَالَةَ) ؛ بفتح الفاء والمعجمة . (بْنِ أَيُّوبَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ) ، بفتح الهمزة وتخفيف الموحّدة . (عَنْ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وفتح القاف مَن شُغْلُه صقل السيف ونحوه .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : تَذَاكُرُ الْعِلْمِ) ؛ بطريق الإضافة ، (دِرَاسَتُه)(3) أي كدراسته ، وهو مصدر درست الكتاب درسا بالفتح ودراسةً بالكسر من باب نصر وضرب ، أي ألقيت معناه إلى من لم يعلمه فعلم .

(وَالدِّرَاسَةُ) أي كلّ مرّة من الدرس (صَلاَةٌ) أي كصلاة (حَسَنَةٌ) . مرفوعة على أنّها صفة صلاة ، وهي تأنيث حسن ، أي مقبولة . وهو إشارة إلى ما يجيء في «كتاب الصلاة» في حادي عشر الأوّل(4) من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «من قبل اللّه منه صلاة واحدة لم يُعذّبه ، ومَن قبل منه حسنة لم يعذّبه» . .

ص: 353


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2129 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 193 (رين) .
2- في الكافي المطبوع : «وجلاؤها الحديث» .
3- في الكافي المطبوع : «دراسة» .
4- أي الحديث 11 من باب فضل الصلاة .

باب بذل العلم

الباب الحادي عشر بَابُ بَذْلِ الْعِلْمِ

فيه أربعة أحاديث ، ومضى معنى العلم في شرح سابع العاشر .(1)

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ) بفتح الموحّدة وكسر الزاي وسكون الخاتمة ومهملة . (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْدا بِطَلَبِ الْعِلْمِ) ؛ مضى معنى العلم في شرح سابع العاشر .

(حَتّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْدا بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ) . يعني أخذ العهد على العلماء بالبذل إن مُكِّنوا وسئلوا قبل أخذ العهد على الجهّال بالطلب .

وروى مضمونه الطبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَإِذْ أَخَذَ اللّه ُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ»(2)مجمع البيان ، ج 2 ، ص 466 .(3) بدون التتمّة .(3)

(لاِءَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ) . المراد بالعلم علم الذين اُوتوا الكتاب بحظر الاختلاف بالظنّ باطّلاعهم على الآيات البيّنات المحكمات ، والمراد بالجهل اختلاف الذين اُوتوا الكتاب بالظنّ والاجتهاد .

وهذا استدلال بقوله تعالى في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ

ص: 354


1- أي الحديث 7 من باب سؤال العالم و تذاكره .
2- آل عمران
3- : 187 .

بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(1)لقمان (18) : 18 .(2) . والمقصود أنّه لو لم يكن أخذ العهد على العلماء ببذل العلم قبل أخذ العهد على الجهّال بالطلب في كلّ شريعة وكتابٍ إلهي لما جاء جميع الذين اُوتوا الكتاب ذلك العلم قبل اختلافهم بسبب جهالاتهم الاجتهاديّة ، أي لم يحصل لهم العلم بحظر الاختلاف .

ويظهر بهذا التقرير أحد وجوه دفع المنافاة بين هذا الحديث وما يجيء في «كتاب الحجّة» في الثالث والتاسع من العشرين .(3)

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي هذِهِ الاْآيَةِ) في سورة لقمان : («وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ»(3) قَالَ : لِيَكُنِ النَّاسُ عِنْدَكَ فِي الْعِلْمِ) أي في تعليم العلم (سَوَاءً) ؛ فإنّ الصَعَر محرّكةً : ميل في الوجه أو في العنق من الكِبر ، ويُنسب إلى الخدّ لأنّه جزء الوجه(4) ، أو داء في البعير يلوي عنقه منه . وتصعير الخدّ لأحد صرف الوجه عنه تهاونا به وتكبّرا ،(5) وتعديته باللام لتضمين معنى الإبداء ، أي لا تمل خدّك عن الاستقامة مبديا إيّاه للناس . وأصله أنّ من يصرف وجهه عن أحد يُبدي أحد خدّيه له بتمامه ، ومنه ما في «كتاب الروضة» قبيل خطبة عليّ بن الحسين : «مَن أبدى صفحته للحقّ هلك»(6) أي مَن صرف وجهه عن الحقّ هلك .

ولمّا كان المراد بالعلم هنا الآيات البيّنات المحكمات موافقا لما مضى في شرح سابع العاشر(7) ، لم يناف هذا ما يجيء في أوّل الثاني والعشرين من تخصيص رسول .

ص: 355


1- آل عمران
2- : 19 .
3- أي الحديث 3 و 9 من باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم السلام .
4- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 989 ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 31 (صعر) .
5- الإفصاح في فقه اللغة ، ج 2 ، ص 762 (الصعر) .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 68 ، ح 23 .
7- أي الحديث 7 من باب سؤال العالم وتذاكره .

اللّه صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بتعليم الأسرار .(1)

الثالث : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ) ؛ بفتح النون وسكون المعجمة . والنضر اسم لجماعة(2) ، وكذلك نصر ، فالذي بالمعجمة ملازم للام ، والذي بالمهملة عارٍ عن اللام .

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : زَكَاةُ الْعِلْمِ أَنْ تُعَلِّمَهُ عِبَادَ اللّه ِ) أي الذين هم على جادّة العبوديّة ، فيرجع إلى ذكر الشرط الذي يجيء في رابع الباب .

ويحتمل أن يفرّق بين التعليم والتحديث بالحكمة ؛ بأنّ الأوّل يستلزم العلم ، بخلاف الثاني ، والعلم يهتف بالعمل فيجيبه غالبا .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَامَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ خَطِيبا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لاَ تُحَدِّثُوا الْجُهَّالَ) أي الذين لا عقل لهم ، والعقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان .

(بِالْحِكْمَةِ) أي بالعلم المذكور في عنوان الباب ، والمراد النهي في غير صورة التكليف بإتمام الحجّة ، فلا ينافي ما مرَّ في أوّل الباب من أخذ العهد على العلماء ببذل العلم للجهّال .

(فَتَظْلِمُوهَا ، وَلاَ تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا) أي العقلاء ، والمراد النهي في غير صورة التكليف بالتقيّة من بعض الحاضرين مثلاً (فَتَظْلِمُوهُمْ) . .

ص: 356


1- أي الحديث 1 من باب اختلاف الحديث .
2- في «أ» : «لجماعته» .

باب النهي عن القول بغير علم

الباب الثاني عشر

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

فيه تسعة أحاديث :

المراد بالقول القول على اللّه ، أي نسبة حكم إلى اللّه بغير علم بالحكم ، وكذلك نسبة غير الحكم .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ وَعَبْدِاللّه ِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ) ؛ بالمهملة والكاف المفتوحتين . (عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ مَزِيدٍ)(1) بفتح الميم وكسر الزاي .

(قَالَ : قَالَ(2) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ) . النهي إمّا متعلّق بكلّ منهما ، وإمّا بمجموعهما ؛ لأنّ كلاًّ منهما يستلزم الاُخرى غالبا .

(فِيهِمَا) . في للسببيّة . (هُلْكُ الرِّجَالِ : أَنْهَاكَ أَنْ) أي عن أن (تَدِينَ اللّه َ) . يُقال : دانه وأدانه وديّنه : إذا أقرضه ، ويسمّى ما في ذمّة المقترض دينا بالفتح . وقيل : القرض : ما لا أجل له ، والدين : ما له أجل .(3) انتهى .

والدين بالكسر : ما يؤدّي العبد إلى اللّه تعالى ويجازى عليه ، سواء كان خيرا فيقرض اللّه قرضا حسنا ، أم شرّا فيقرض اللّه قرضا سيّئا ، وسواء كان فعل قلب ،

ص: 357


1- في الكافي المطبوع : «يزيد» .
2- في الكافي المطبوع : + «لي» .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 225 (الدين) ؛ الفروق اللغوية للعسكري ، ص 426 ، الرقم 1714 .

أم(1) فعل جارحة ، ويُطلق على الجزاء أيضا ، وحمل عليه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» . ويحتمل أن يراد به المعنى الأوّل ، أي مالك أجل ما يؤدّي العبد إلى اللّه . ويُطلق على الحكم والقضاء ، و«عليٌّ ديّان هذه الاُمّة بعد نبيّها»(2) أي حاكمها .(3)

(بِالْبَاطِلِ) . أصل الباطل : الزائل ، وهو خلاف الحقّ في معانيه ، وأصل الحقّ : الثابت الراسخ ، ويُطلق على العلم وعلى المعلوم ، ويُطلق على اللّه تعالى لأنّه حاضر في كلّ وقت لعبده عند الشدائد ، ويُطلق على ما وافق الحكمة وثبت ورسخ فيه الأمر المطلوب ، بأن لا يكون فيه صورته فقط ، فيكون كاللعب والعبث ، ويُطلق على الخبر والاعتقاد إذا طابق الواقع ، وعلى التصديق به والتكذيب لضدّه .

ويمكن تقرير قوله : «بالباطل» على أربعة أوجه :

الأوّل : أن تكون(4) الباء للسببيّة ، كقولك : دنت زيدا بإحسانه إليّ ، والمراد بالباطل الظنّ ، أي أنهاك عن أن تعمل للّه بسبب الظنّ بالحكم الواقعي بأن تجعل الاجتهاد مناطا للعمل ، وإنّما سمّي الظنّ باطلاً لقوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(5) ، أي لا يقوم في موضع الحقّ ، أي العلم أصلاً ، لا في الإفتاء ولا في العمل .

ففيه دلالة على أنّ الظنّ ليس حقّا ولا جاريا مجراه ، فهو باطل محض في الدِّين ، فكما لا يجوز أن يكون مناطا للإفتاء ، لا يجوز أن يكون مناطا للعمل ، سواء كان في اُصول الدِّين أو اُصول الفقه أو فروعه .

ولا ينافي ذلك أن يكون العلم بأنّ ظاهر القرآن أو خبر الواحد الجامع للشروط كذا .

ص: 358


1- في «ج» : «أو» .
2- في حاشية «أ» : «ذكره الزمخشري في الأساس (منه دام ظله)» .
3- حكاه عن أساس اللغة للزمخشري في تاج العروس ، ج 18 ، ص 217 ؛ ونقله بلفظ «قيل» في النهاية ، ج 2 ، ص 148 ؛ ولسان العرب ، ج 13 ، ص 166 (دين) .
4- في «أ» : «أن يكون» .
5- يونس (10) : 36 ، النجم (28) : 53 .

فيما ليس لنا طريق إلى العلم بالحكم الواقعي مناطا للعمل فيه في زمن غيبة الإمام ، فإنّ ظاهر الآية لا يبطله .

إن قلت : ظاهر الآية لا يبطل جواز العمل بالاجتهاد أيضا ؛ لأنّ من يعمل بالاجتهاد يدّعي أنّه ليس مناط عمله في الحقيقة الظنّ ، بل العلم الحاصل من الدليل القطعي على جواز العمل بالاجتهاد في نفس الحكم الشرعي الواقعي .

قلت : ظاهره يبطل جواز العمل بالاجتهاد ، ويبطل دعوى العامل به أيضا ؛ لأنّ العلم الحاصل بالدليل ليس مناطا للعمل ، بل سبب لجعل الظنّ مناطا ، فهو باطل(1) لظاهر الآية .

نعم ، لو كان ما يدّعيه من الدليل القطعي حقّا وجب تأويل الآية ، كما نقول به في محلّ الحكم كمقادير الجراحات وقيم المتلفات وتعيين القبلة ونحو ذلك ؛ وأنّى لهم ذلك .

الثاني : أن تكون الباء للسببيّة ، والمراد بالباطل ما يُعبد من دون اللّه ، وهو إمام الضلالة وإبليس وكلّ رأس ضلالة ، كقوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(2) .

وإنّما سمّي باطلاً لقوله تعالى في سورة الحجّ : «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه َ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ»(3) ، وعلى أحد الوجهين يحمل قوله تعالى في سورة حم السجدة : «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(4) ، أي لا يهلكه إمام الضلالة ، مِن أتاه العدوّ : إذا أهلكه .

ومنه قوله تعالى : «فَأَتَى اللّه ُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ»(5) ؛ وذلك(6) إمّا لأنّ جميعه محفوظ .

ص: 359


1- في «ج» : + «الظاهر» .
2- التوبة (9) : 31 .
3- الحج (22) : 62 .
4- فصّلت (41) : 41 - 42 .
5- النحل (16) : 26 .
6- في حاشية «أ» : «أي عدم الإهلاك» .

عند إمام الهدى لفظا ومعنىً ، وإمّا لأنّ ما يبقى منه في أيدي الناس كاف في ظهور بطلان إمام الضلالة ، وفي الدلالة على إمام الهدى الحافظ لجميعه ، أو لا يصل إليه إمام الضلالة بمعنى أنّه لا يجوز الاعتماد عليه في تفسيره ، أو المراد لا يصل إليه الظنّ بمعنى أنّه لا يجوز تفسيره بالرأي ، فهو استئناف بياني لتوضيح كونه عزيزا غير ذليل .

الثالث : أن تكون الباء للصلة ، كقولك : دنت زيدا بدرهم ، والمراد بالباطل ما يكون كاللعب والهزء ، يقال : في كلامه بطالة ، أي هزل ، وذلك كمكر أهل الرِّبا ومانعي الزكاة لحفظ صورة التجارة والبيع فقط ، قال تعالى في سورة يونس : «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِى آيَاتِنَا قُلْ اللّه ُ أَسْرَعُ مَكْرا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ»(1) عبّر عن إرسال الحفظة لأعمالهم أو عن خذلانهم بإعطائهم المال المفضي إلى مكرهم بالمكر ، وقال تعالى في سورة الجمعة : «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوا»(2) الآية ، وقال تعالى في سورة البقرة في النهي عن نظير ذلك : «وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه ِ هُزُوا»(3) .

ولا ينافي ذلك جواز العينة بشروط سيجيء في «باب العينة» من «كتاب المعيشة» . فالمراد النهي عن أن يكون المُدان به في صورة العبادة فقط وخاليا عن حقيقتها ، وذلك بأن يكون متلقّى عن إمام الضلالة أو مظنونا أو نحو ذلك .

الرابع : أن تكون الباء للصلة ، والمراد بالباطل ما لا يطابق الواقع من التصديق والتكذيب ونحوهما .

(وَتُفْتِيَ النَّاسَ بِمَا لاَ تَعْلَمُ) أي وعن أن تفتي . ويحتمل أن تكون(4) الواو بمعنى «أو» ، يُقال : أفتاه في الأمر : إذا أبانه له . والباء للصلة ، أي وأن تخبرهم عن اللّه بغير معلوم ، سواء كان مظنونا أم لا ، وسواء كان معلوم الانطباق على ظاهر القرآن ونحوه ، أم لا ، فجواز الفتوى أضيق من جواز العمل ، ومن جملة الإفتاء بما لا يعلم إفتاء أهل القياس .

ص: 360


1- يونس (10) : 21 .
2- الجمعة (62) : 11 .
3- البقرة (2) : 231 .
4- في «د» : «أن يكون» .

والاجتهاد في المسائل الخلافيّة ، فإنّه يتضمّن الإخبار عن الحكم الواقعي ، وغاية مجهودهم تحصيل الظنّ به . وتفصيله في محلّه في حواشينا على عدّة الاُصول(1) .

ومن أصحابنا(2) من لا يسلم لهم الظنّ أيضا . قال : «ما يجد المجتهدون أنفسهم عليه اعتقادٌ مبتدأ لا ظنٌّ عن أمارة».(3) انتهى .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ(4) الجيم .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِيَّاكَ وَخَصْلَتَيْنِ ؛ فَفِيهِمَا) . «في» للسببيّة (هَلَكَ مَنْ هَلَكَ : إِيَّاكَ أَنْ) أي من أن (تُفْتِيَ النَّاسَ بِرَأْيِكَ) . الباء للسببيّة ، أي بظنّك واجتهادك . وفيه دلالة على بطلان ما يشاغب به أهل القياس والاجتهاد يقولون : إنّا لا نخبر إلاّ عن الحكم الواصلي ، وظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ؛ وذلك لأنّ مناط الفتوى حينئذٍ الظنّ بالحكم الواقعي ، وقد أبطلنا مشاغبتهم في حواشي العدّة .(5)

(أَوْ تَدِينَ) أي أو أن تعمل للّه (بِمَا لاَ تَعْلَمُ) . الباء للإلصاق ، أي بما لا تعلم حكمه الواقعي ولا الواصلي ، فلا ينافي جواز العمل بنحو خبر الواحد ، كما مرّ في أوّل الباب .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ) بكسر المهملة والهمزة والموحّدة .

(عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَفْتَى النَّاسَ) أي من نصب نفسه .

ص: 361


1- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 12 ، ذيل الطبعة القديمة .
2- في حاشية النسخ : «هو السيّد المرتضى رحمه الله ، ذكره في الذريعة ووافقه الشيخ الطوسى رحمه الله في تلخيص الشافى . (منه سلّمه اللّه)» .
3- الذريعة للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 689 ؛ الشافي ، ج 1 ، ص 171 ؛ عدّة الاُصول ، ج 2 ، ص 661 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 3 ، ص 88 .
4- في «ج ، د» : «تشديد» .
5- عدة الاُصول ، ج 1 ، ص 21 .

لبيان المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا ، سواء كان اللّه تعالى كما في قوله تعالى :«اللّه ُ يُفْتِيكُمْ»(1)ما بين المعقوفين من المصدر .(2) أم غيره .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) هو ما عند اللّه ؛ إذ لا حاجة له إلى هاد .

(وَلاَ هُدًى) هو ما عند الأنبياء «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه ُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ»(3)القلم (68) : 37 .(4) ، وفي حكمهم الأوصياء كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في الأوّل والثاني من «باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام» ، وهو الباب الأوّل من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «اتّقوا الحكومة [فإنّ الحكومة(5)] إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ أو وصيّ نبيّ» . ومن قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح : «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ [نبيّ(4)] أو شقيّ» .

وهذا مطابق لما في سورة الحجّ وسورة لقمان : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ»(6) ، وإن لم يذكر الشقّ الثالث هنا لوضوحه ؛ لأنّ المراد بكتاب ما يدلّ على جواز الإفتاء بغير علم ولا هدى ، فهو فرض محال ، كما في قوله تعالى في سورة نآ : «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ»(6) .

ويحتمل أن يُراد بالعلم هنا العلم من جهة العقل ، أي بما يستقلّ العقل بالعلم به ، إمّا حقيقة وهو ظاهر ، وإمّا حكما بأن يكون مذكورا في المحكمات وبالهدى العلم من جهة أهل الذِّكر ، أي بما لا يستقلّ العقل بالعلم به أصلاً ، فاكتفى هنا بشقّين ، كما في قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(7) ، فإنّ العقل إذا استقلّ بالعلم بشيء حقيقةً أو حكما ، لم يجب سؤال أهل الذِّكر عنه وإن لم يعلم بعدُ . .

ص: 362


1- النساء
2- : 176 ؛ وفي «أ، د» : «يفتيكم اللّه» .
3- الأنعام
4- : 90 .
5- ما بين المعقوفين من المصدر .
6- الحجّ (22) : 8 ؛ لقمان (31) : 20 .
7- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

وقد حذف الأخيران جميعا في أوّل سورة الحجّ : «وَمِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ»(1) ، فيجعل العلم فيه أعمّ من الشقوق الثلاثة ، فمآل الجميع واحد .

ويحتمل أن يُراد بالعلم هنا المعنى الأعمّ من الثلاثة ، وبالهدى ما يدلّ على جواز الفتوى بغير علم بالمعنى الأعمّ .

(لَعَنَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ ، وَلَحِقَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِفُتْيَاهُ) . الفتيا بالضمّ والفتوى بالضمّ والفتح : ما أفتى به الفقيه ، ولحوق وزره بدون أن ينقص من وزر العامل شيء ، كما مرّ في رابع باب ثواب العالم .

الرابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمانٍ(2) الاْءَحْمَرِ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ) ؛ بفتح المهملة والجيم والمدّ .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَا عَلِمْتُمْ فَقُولُوا ، وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَقُولُوا : اللّه ُ أَعْلَمُ) أي قولوا في أنفسكم ذلك ولا تفتوا بغير المعلوم . أو المراد : قولوا في جواب السؤال عنه .

وإنّما يجوز ذلك إذا كان المسؤول عالما بكثير من المسائل و معدودا من العلماء مع جهله بخصوصيّة المسؤول عنه ، كما سيجيء في خامس الباب .

(إِنَّ الرَّجُلَ) . اللام للعهد الذهني . (لَيَنْتَزِ عُ الاْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) . الانتزاع : الاقتلاع ، والمقصود هنا إفرازها وتخصيصها ببيان مراد اللّه فيها ، وليس المقصود أنّ كلّ رجل كذلك ، أو كلّ انتزاع مع الخرور إنّما هو في نحو استدلالات أهل القياس والاجتهاد وأهل الأديان المختلفة بالآيات المتشابهة .

(يَخِرُّ) ؛ بفتح ياء المضارعة وكسر المعجمة وشدّ(3) المهملة، أي يسقط(4) ، وذلك إذا .

ص: 363


1- الحجّ (22) : 3 .
2- في الكافي المطبوع : - «بن عثمان» .
3- في «ج ، د» : «تشديد» .
4- النهاية ، ج 2 ، ص 21 (خرر) .

لم يعلم المراد بها وإنّما يظنّ ظنّا ، والجملة صفة الآية ؛ لأنّ اللام فيها للعهد الذهني كقوله : «ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني»(1) .

أو معطوفة على «ينتزع» بتقدير العاطف ، وهو الواو ، وقد عدّ النحاة فيما تنفرد الواو عن سائر حروف العطف جواز حذفها إن أمن اللبس ، كقوله : «كيف أصبحت كيف أمسيت»(2) ؛ ذكره الأزهري في التصريح(3) ، أو حال عن الآية ، أو عن الضمير في «ينتزع» .

(فِيهَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ) . يحتمل أن تكون «في» بمعنى الباء ، كقوله : «عُذِّبت امرأة في هرّة»(4) فالمراد الخرور في جهنّم ، فإنّه أكثر ضررا من الخرور ما بين السماء والأرض .

ويحتمل أن تكون «في» على الحقيقة ، فالمراد بالخرور الضلال في معنى الآية عن الحقّ ، والانحطاط عن مرتبة السعداء وأهل الحقّ إلى مرتبة الأشقياء وأهل الباطل . وهو أيضا أكثر ضررا من الخرور ما بين السماء والأرض ، وقوله : «أبعد» منصوب على الظرفيّة ، أي مسافة أبعد . .

ص: 364


1- هذا صدر بيت و عجزه : «فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني» ذكره الجوهري في الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 (وثم) ؛ وحكاه أيضا الطوسي في التبيان ، ج 1 ، ص 351 ؛ والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 1 ، ص 58 ؛ ومجمع البيان ، ج 1 ، ص 322 .
2- هذا صدر بيت لأبي زيد الأنصاري كما حكاه السمعاني في تفسيره ، ج 6 ، ص 240 ؛ والبيت : كيف أصبحت كيف أمسيت مما *** يغرس الود في فؤاد اللبيب وممن جوّز حذف الواو إن أمن اللبس ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 635 ؛ والسمعاني في تفسيره، ج 6 ، ص 240 ؛ والبغدادي في خزانة الأدب ، ج 11 ، ص 26 . وقال : هو مذهب الفارسي ومن تبعه . وانظر: شرح العينية الحميرية للفاضل الهندي ، ص 341 ؛ والبرهان للزركشي ، ج 3 ، ص 212 .
3- الأزهري هو زين الدين خالد بن عبداللّه الأزهري نحوي أديب المتوفى سنة 905 ، وقد كتب كتابه المشهور بالتصريح وله اسم آخر : شرح التصريح على التوضيح والمراد بالتوضيح كتاب ابن هشام المسمّى ب- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك . والكتاب مطبوع في دار إحياء الكتب العربية في مصر ، وطبع بالأفست في مكتبة ناصر خسرو في طهران . اُنظر: كشف الظنون ، ج 1 ، ص 154 ؛ وذيل كشف الظنون ، ص 31 .
4- ورد مضمونه في ثواب الأعمال ، ص 278 . وفي طبعة اُخرى ، ص 327 ، ح 6 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 544 ، ح 15493 ؛ وج 29 ، ص 14 ، ح 35033 .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لِلْعَالِمِ) أي الذي يعلم قدرا معتدّا به من المسائل ، ويكون معدودا من العلماء ، أو الذي يعلم بعض المسؤول عنه .

(إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُهُ أَنْ يَقُولَ : اللّه ُ أَعْلَمُ) أي يجوز له ذلك ، وإن كان الأولى أن يقول : لا أدري ، كما سيجيء في سادس الباب .

(وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ ذلِكَ) ؛ لأنّه كذب ؛ لأنّ ظاهره أنّ أصل العلم مشترك بينه وبين اللّه ، وليس العلم بالمسؤول عنه مشتركا بينهما ؛ لأنّ المفروض جهل المسؤول به .

واستقرّ العرف العامّ على أنّ العالم المطلق - أي الغير المقيّد بمعلوم خاصّ - لا يطلق إلاّ على من علم قدرا معتدّا به من المسائل .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ ، فَلْيَقُلْ : لاَ أَدْرِي ، وَلاَ يَقُلْ : اللّه ُ أَعْلَمُ ؛ فَيُوقِعَ) ؛ منصوب بتقدير «أن» بعد النهي ، والنهي للتأديب لا للتحريم .

(فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ) أي صاحب الرجل وهو السائل ، أو صاحب السؤال (شَكّا) ؛ فإنّ اللفظ يحتمل الاشتراك في أصل العلم بالمسؤول عنه ، فربّما توهّم السائل أنّه عالم بالمسؤول عنه ولا يجيب .

فهذا الجواب - وإن صدر عن العالم - خلاف الآداب من وجهين :

الأوّل : أنّه في معرض أن يلقي في ذهن السائل باطلاً ، وهو علم المسؤول بالمسؤول عنه .

الثاني : أنّه في معرض أن يتّهمه السائل وينسبه إلى قبيح ، وهو أنّه لا يجيب مع علمه بالجواب ، وهو قبيح في الجملة ، والشكّ يشمل الوجهين .

(وَإِذَا قَالَ الْمَسْؤُولُ : لاَ أَدْرِي ، فَلاَ يَتَّهِمْهُ السَّائِلُ) . «لا يتّهمه» مجزوم ، و«لا» للنهي بقرينة الفاء ، فتكون الجملة إنشاءً ونهيا للسائل عن الاتّهام ، فإنّه لا يجوز ظنّ السوء بالمؤمن

ص: 365

ما أمكن المخرج ، وكلّ عالم من الرعيّة مجهوله من المسائل أكثر من معلومه بكثير .

السابع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سَمَاعَةَ ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام : مَا حَقُّ اللّه ِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ : أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ) أي إذا سئلوا عنه ولم يكن مانع من تقيّة ونحوها ، ومن القول للمعلوم نقلهم ما رووا عن أئمّة الهدى الحكم فيها ولو بواسطة ، فإنّ الرواية معلومة التحقّق ، وإن لم يكن المرويّ معلوم التحقّق ، وكذا جواز العمل بها بشروط خاصّة وإن لم يعلم صدقها كما تقرّر في محلّه .

(وَيَقِفُوا عِنْدَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ) أي وأن يقفوا عن القول عنده بأن لا يحكموا به ولا يردّوه كما سيجيء في ثامن الباب ، ولا ينافي جواز العمل بخبر الواحد بشروط خاصّة ، فإنّ الفرق بين العمل والقول ظاهر ، وجوابه عليه السلام مبنيّ على أنّه العمدة في حقّ اللّه ، ويفضي بصاحبه إلى كلّ حقّ ، ويجيء التصريح به في ثاني عشر السابع عشر(1) ، وذلك كما أنّ القول على اللّه بغير علم رأس كلّ ضلالة موافقا لما مرّ في سابع الثالث .(2)

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ(3) إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ حَضَّ(4) عِبَادَهُ) ؛ بالمهملة وشدّ المعجمة ، يُقال : حضّه على كذا - كنصر - : إذا أغراه به وبالغ في الدعاء إليه .

(بِآيَتَيْنِ) . الباء للآلة ، وهما «أَلَمْ يُؤْخَذْ» و«بَلْ كَذَّبُوا» ، والحضّ فيهما لدلالة كلّ منهما على أنّه تأكيد لتكليف سابق ، أمّا في «أَلَمْ يُؤْخَذْ» فظاهر ، وأمّا في «بَلْ كَذَّبُوا» فلقوله في تتمّة الآية : «كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ»(5) . .

ص: 366


1- أي الحديث 12 من باب النوادر .
2- أي الحديث 3 من باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .
3- في «أ» : + «عن» . وفي حاشيتها : «عن ليس في الأصل» .
4- في الكافي المطبوع : «خصّ» .
5- يونس (10) : 39 .

(مِنْ كِتَابِهِ) أي من القرآن ، والظرف مستقرّ صفة آيتين .

(أَنْ لاَ يَقُولُوا حَتّى يَعْلَمُوا) أي على أن لا يقولوا ، وهو متعلّق ب- «حضّ» .

(وَلاَ يَرُدُّوا(1) مَا لَمْ يَعْلَمُوا ) . معطوفٌ على «لا يقولوا» ؛ أي وعلى أن لا يردّوا ، و«ما» مصدريّة زمانيّة ؛ أي حين لم يعلموا صحّة الردّ ، فمفعول لم يردّوا(2) مقدّر ، أي شيئا ، ولو كانت موصولة لم يناسب قوله في سورة يونس : «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ»(3) .

(وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الأعراف ، وهو معطوف على «حضّ» عطف المفصّل على المجمل ، ونقل في مجمع البيان في تفسير سورة يونس هذا الحديث(4) ، وفيه بدل هذا ثمّ قرأ : («أَلَمْ يُوءْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(5)يونس (10) : 39 .(6)) .

مضى في شرح الخطبة أنّ «على» بنائيّة ، والحقّ ضدّ الباطل ، والمراد هنا المعلوم ، وقد بيّن ذلك في قوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(7) ومضى بيانه في أوّل الباب .

(وَقَالَ) في سورة يونس ، وفي مجمع البيان بَدَله وقرأ : («بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ»(7)) . ضمير «كذّبوا» لقوم كذّبوا ما سبق هذه الآية من أمثال قوله : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»فمفعول «كذّبوا» مقدّر ، والباء في بما للمصاحبة ، وما مصدريّة ، وضمير «علمه» وضمير «تأويله» لمصدر كذّبوا . والمراد مع انتفاء إحاطة .

ص: 367


1- في حاشية «أ» : «قوله : (ولا يرد) إلى آخره أي لا يرد شيئا أتاهم من صادق بسبب أنهم لا يعلمون وجهه وتأويله ، بل متى أخبر به الصادق وجب قبوله وإن لم يعلموا معناه وتأويله» شيخ علي .
2- كذا في النسخ ، والمناسب لمتن الكافي المشروح هنا : «لا يردّوا» بدل من : «لم يردّوا» .
3- يونس (10) : 18 .
4- مجمع البيان ، ج 5 ، ص 190 .
5- الأعراف
6- : 169 .
7- يونس (10) : 36 ؛ النجم (28) : 53 .

علمهم بصحّة ذلك التكذيب وتأويله ما يستحقّون عليه من العقاب كقوله : «يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ»(1) .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) ؛ بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ المهملة . وعبداللّه بن شبرمة فقيه أهل الكوفة عداده في التابعين ، كان قاضيا للمنصور الدوانيقي على سواد الكوفة .(2)

(قَالَ : مَا ذَكَرْتُ) ؛ من الذكر : ضدّ النسيان ، أي ما تذكّرت ؛ أو ضدّ السكوت ، أي ما حدّثت .

(حَدِيثا سَمِعْتُهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام إِلاَّ كَادَ أَنْ يَتَصَدَّعَ قَلْبِي) ؛ بالتاء وشدّ الدال من باب التفعّل ، وفي بعض النسخ بالنون وتخفيف الدال من باب الانفعال ، أي ينشقّ ويتفرّق . والصدع : الشقّ في شيء صلب .(3) وذلك لما فيه من الدلالة على هلاك القاضي وأصحابه .

(قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ جَدِّي ، عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله . قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : وَأُقْسِمُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال . (بِاللّه ِ مَا كَذَبَ أَبُوهُ عَلى جَدِّهِ ، وَلاَ جَدُّهُ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ عَمِلَ بِالْمَقَايِيسِ) ؛ جمع مقيس بردّه إلى أصله ، وهو مقيوس - كمحصور ومحاصير - ويجيء بيانه في «باب البدع والرأي والمقاييس» .

(فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ ) أي سواء كان مع إفتاء أم بدونه ، فإنّ مجرّد العمل أيضا ممّا يفضي إلى اقتفاء من اطّلع عليه من المقلِّدة أثره .

(وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ) أي تصدّر لمنصب الفتوى لعامّة الناس في كلّ ما يحتاجون إليه ، ولو اُريد بالناس أحد منهم في قضيّة ، لكان الشرط في هذه الفتوى أن يعلم أنّ دليلها .

ص: 368


1- الأعراف (7) : 53 .
2- تفصيل حاله في منتهى المقال ، ج 4 ، ص 190 ؛ الرقم 1733 .
3- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 975 (صدع) .

ليس منسوخا ، وأنّه محكم فيها ، سواء كان من الكتاب أم السنّة .

(وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ) . قيل(1) : «من» هذه للفصل ، وهي داخلة على ثاني المتضادّين ، نحو : «وَاللّه ُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ»(2) ، «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ»(3) .(4) انتهى .

وقيل(5) : فيه نظر ؛ لأنّ الفصل مستفاد من العامل ، فإنّ ماز وميّز بمعنى فصل ، والعلم صفة توجب التمييز ، والظاهر أنّ «من» في الآيتين للابتداء أو بمعنى عن .(6) انتهى .

والأظهر أنّ التمييز في حدّ العلم غير التمييز بين المتضادّين ، ف- «من» في الآيتين للابتداء ، لكنّها في الاُولى وأمثالها باعتبار تضمين العلم معنى التمييز الذي يكون بين المتضادّين .

والنسخ - كالمنع - : الإزالة ، مثل مجيء الإمام اللاحق حين مُضيّ الإمام السابق ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في رابع الثاني والأربعين وهو «باب العبادة» ، ومثل إزالة حكم شرعي بآخر حادثٍ ، كما يجيء أيضا في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب» هو السابع عشر(7) وهو المصطلح عليه عند الاُصوليّين ، ومثل ما في دلالات الألفاظ ونحوها على المعاني ، كأن يكون ظاهر كلام شيئا ويجيء كلام آخر معه أو بعده أو قبله يدلّ على أنّ المراد بالأوّل خلاف ظاهره ، فالثاني ناسخ ، والأوّل منسوخ . وهذا يتحقّق في الأخبار أيضا .

ومعنى تمييز الناسخ من المنسوخ العلم بجميع ما يحتاج إليه الناس من الكتاب .

ص: 369


1- في حاشية «أ» : «القائل ابن مالك (منه دام ظله)» .
2- البقرة (2) : 220 .
3- آل عمران (3) : 179 .
4- حكاه عنه في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 424 و 425 .
5- في حاشية ، «أ» : «القائل ابن هشام في المغني ، (منه دام ظله)» .
6- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 425 .
7- أي الحديث 1 من باب (بدون العنوان) .

والسنّة ؛ فهذه الفقرة مناسبة لأحوال الأئمّة ومن نصبوه للإفتاء .

(وَالْمُحْكَمَ) أي ما علم أنّه لم ينسخ ، ولا يحتمل خلاف ما يستنبطه منه لكونه نصّا(1) فيه .

(مِنَ الْمُتَشَابِهِ) أي ما نسخ أو فيه الاحتمال . ومعنى تمييز المحكم من المتشابه ، إمّا العلم بأنّه لا يجوز الاستناد في شيء من فتاويه إلى المتشابه من حيث إنّه متشابه ، فإنّ المتشابه إذا سئل مَنْ قوله حجّةٌ مفيدٌ للعلم عن أنّه على ظاهره أو فيه تأويل يجوز الاستناد إليه في الفتوى ؛ وإمّا العلم بما في المحكمات من أنّه يجب سؤال أهل الذِّكر في كلّ ما لم يعلم ، ورفض أئمّة الضلالة وطريقتهم في القول على اللّه بغير علم ؛ فهذه الفقرة مناسبة لأحوال الرعيّة .

(فَقَدْ هَلَكَ) حيث قال على اللّه بغير علم .

(وَأَهْلَكَ) أي المستفتين ؛ حيث حملهم على سؤال غير الراسخين في العلم وهم أهل الذِّكر ، أو أهلك الذين أخذوا طريقته - وهي القول على اللّه بغير علم - سنّةً . .

ص: 370


1- في «ج» : + «مستمرا» .

باب من عمل بغير علم

الباب الثالث عشر بَابُ مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ

فيه ثلاثة أحاديث .

يحتمل أن يُراد بالعمل بغير علم الإتيان بشيءٍ من الأفعال أو التروك بغير علم بجوازه شرعا ، وأن يُراد به الإتيان بفرائض اللّه من الأفعال كالصلاة والحجّ ونحو ذلك ، أو التروك كترك الشرك وترك الصيد في الحرم ونحو ذلك ، أو بنوافله بغير علم بأنّ الصورة المأتيّ بها مجزية ، أي مسقطة للتكليف .

وليعلم أنّ الوجوب ونحوه من الأحكام قد يقيّد بالشرعيّة ، ويُراد بها ما يكون باعتبار استحقاق الثواب والعقاب الاُخرويّين وعدمهما ، وقد يقيّد بالعقليّة ويُراد بها ما يكون باعتبار استحقاق المدح والذمّ وعدمهما ، وكلّ منهما قد يقيّد بالواقعيّة وقد يقيّد بالواصليّة .

ومعنى الوجوب الشرعي الواقعي مثلاً كون الفعل الاختياري للعبد بحيث إذا علم جميع جهاته المتلقّاة من الشارع وتركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ، ومعنى الوجوب الشرعي الواصلي كون الفعل الاختياري للعبد بحيث إذا علم من الجهات المتلقّاة من الشارع ما في وسعه أن يصل إلى العلم به وتركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ؛ وبينهما عموم من وجه(1) ، والعلم بالأوّل أخصّ مطلقا من العلم بالثاني ، فالجهل بالعكس .

ص: 371


1- في حاشية «أ» : «قوله : وبينهما عموم من وجه ؛ وذلك لاجتماعهما في الصلاة والزكاة ونحوهما ممّا علم وجوبه ، إمّا ضرورةً من الدين ، وإمّا بغيرها على ما نصّ قدس سره عليه في حواشي العدة في المقدّمة الثالثة من مقدّمات بيان الحاجة (مهدي)» .

والواصلي على قسمين :

الأوّل : كون فعل العبد الاختياري بحيث إذا تركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ؛ لوصوله إلى العلم بما يقتضي ذلك ، ولنسمّه وجوبا شرعيّا واصليّا بالفعل .

الثاني : ما ليس كذلك ولا يختصّ باسم ، وقس على ذلك الوجوب العقلي وغير الوجوب من أقسام الأحكام الشرعيّة والعقليّة ، والمقصود هنا العمل بغير علم بالحكم الشرعي الواصلي لئلاّ ينافي جواز العمل بظاهر القرآن أو بخبر الواحد على شروط خاصّة مقرّرة في محلّها ، فإنّه جائز بدون إفتاء وقضاء . وتفصيله في محلّه .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : الْعَامِلُ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ) ؛ على بنائيّة ، أي بغير علم بالحكم الشرعي الواصلي .

(كَالسَّائِرِ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ ، لاَ يَزِيدُهُ سُرْعَةُ(1) السَّيْرِ إِلاَّ بُعْدا) أي عن الطريق أو عمّا يريد الوصول إليه .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ) ؛ بضمّ الميم وسكون المهملة ، (عَنْ حسين(2) الصَّيْقَلِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : لاَ يَقْبَلُ اللّه ُ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ) .

المراد بالمعرفة هنا العلم بقصد الإطاعة قصدا متأكّدا ، وعلامته أن يفضي إلى الإطاعة ، أي إلى العمل بمقتضاه ، ولهذا يُقال : فلان عالم بلا عمل ؛ ولا يُقال : عارف بلا عمل ، والمراد إلاّ بمعرفة بحكم ذلك العمل ، وذلك بمعرفة باللّه وبرسوله وبمَن يصلح لأن يُؤخذ منه الأحكام بعد رسوله وبطريقة الأخذ ثمّ أخذ حكم ذلك العمل .

(وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ) ؛ لا لنفي الجنس . و«معرفة» مبنيّ على الفتح ، أي لا تتحقّق .

ص: 372


1- في حاشية النسخ : «كثرة . خ» .
2- في الكافي المطبوع : «الحسن» .

المعرفة لحكم إلاّ ويتحقّق معها(1) العمل بمقتضاها .

(فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ مَعْرِفَةَ لَهُ) ؛ بل له ضدّ المعرفة ، وهو الإنكار .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (إِنَّ الاْءِيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضه وهو العمل ناش من بعض وهو المعرفة . يدلّ على أنّ العلم بلا قصد العمل ليس من الصالحات كالعمل بلا علم .

إن قلت : كلّ مؤمن عارف ، وقد نرى المؤمن يرتكب بعض المناهي ، وقد يترك بعض الفرائض .

قلت : هذا غير عارف من وجه ، وعارف من وجه ؛ فإنّه ليس عارفا بالحكم الذي خالف فيه ، وعارف في الجملة باللّه ورسوله وأئمّته ، فإنّ معرفته بذلك إنّما تستلزم إطاعته في الجملة بحيث تسوؤه السيّئة وتسرّه الحسنة . نعم ، لو لم يخالف أصلاً كانت معرفته بذلك أشدّ .

والمراد بالبعض: إمّا الجزء ، فيدلّ على أنّ الإيمان قد يُطلق على المركّب من الأمر القلبي وعمل(2) الجوارح . وإمّا الجزئي ، فيدلّ على أنّ الإيمان قد يُطلق على القدر المشترك بين الأمر القلبي وأعمال الجوارح .(3)

الثالث : (عَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَمَّنْ رَوَاهُ ) ؛ من باب التفعيل(4) أو باب ضرب .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ عَمِلَ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير علم بالحكم الواصلي ، وذلك بأن لا يلتزم أخذ الحكم الواقعي الذي ليس في المحكمات .

ص: 373


1- في «ج» : «معه» .
2- في «ج» : «وأعمال» .
3- في «ج» : - «وإما الجزئي فيدل ...» إلى هنا .
4- في «أ» : «الفعيل» .

عن أهل الذكر بشروط الأخذ ، وليس المراد بالعلم العلم بالحكم الواقعي ، فإنّ اشتراطه يسدّ باب العمل في الأكثر على الرعيّة ولا سيّما في زمن الغيبة ، وهو خلاف ضروريّ الدِّين .

(كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ) . «ما» في الموضعين إمّا موصولة والعائد مقدّر ، وإمّا مصدريّة ؛ وعلى التقديرين «أكثر» بالمثلّثة أو بالموحّدة(1) . ومآل الكلّ واحد ، وهو أنّه يفسد أمر آخرته بمخالفته الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، ويصلح أمر دنياه بحفظ دمه وماله بانتحال الإسلام أو بكسب المال والجاه أيضا بموافقة رؤساء الضلالة ؛ والآخرة خيرٌ وأبقى . .

ص: 374


1- أي «أكبر» .

باب استعمال العلم

الباب الرابع عشر بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ

فيه سبعة أحاديث :

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ) ؛ بضمّ الهمزة وفتح المعجمة وسكون الياء والنون . (عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ) بفتح المهملة وشدّ الخاتمة . (عَنْ سُلَيْمِ) ؛ مصغّرا . (بْنِ قَيْسٍ الْهِلاَلِيِّ) ؛ بكسر الهاء نسبةً إلى حيّ من هوازن .(1)

(قَالَ : سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قَالَ فِي كَلاَمٍ لَهُ : الْعُلَمَاءُ رَجُلاَنِ) أي على قسمين :

(رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ) ؛ وذلك بترك اتّباع الهوى وترك طول الأمل .

(فَهذَا نَاجٍ ، وَعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ) أي تارك للعمل بعلمه في فرائض اللّه ، وذلك باتّباع الهوى وطول الأمل .

(فَهذَا هَالِكٌ ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَتَأَذَّوْنَ(2) مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ ، وَإِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَحَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْدا إِلَى اللّه ِ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ ، فَأَطَاعَ اللّه َ ، فَأَدْخَلَهُ اللّه ُ الْجَنَّةَ ، وَأَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَهُ ، وَاتِّبَاعِهِ) ؛ بالجرّ معطوف على «تركه» عطف السبب على المسبّب .

ص: 375


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1851 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 710 ، وفي تاج العروس ، ج 15 ، ص 809 : «بنو هلال : حيّ من هوازن ، وهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن» .
2- في الكافي المطبوع وحاشية «ج» : «ليتأذّون» .

(الْهَوى) ؛ بفتح الهاء والقصر : هوى النفس ، أي اشتهاءها للملاذّ ؛ يُقال : هوى - كعلم - : إذا أحبّ .

ويحتمل أن يكون المراد بالهوى الرأي في المسائل والاجتهاد فيها وباتّباعه العمل بالرأي ، فإنّ ذلك ترك للعلم الحاصل عن المحكمات الناهية عن ذلك واستقلال بالرأي لإنكارها ، كما روي : «رُبّ عالمٍ قتله جهله وعلمه معه لا ينفع»(1) . بخلاف من أضعف رأي نفسه واتّهمه ، فصار ضعيفا عند نفسه بتسليم المحكمات والتزام سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلم ، فإنّه مرحوم ، وسيجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» : «رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا أنّهم أهل تسليم» .

(وَطُولِ) ؛ بالجرّ معطوف على «اتّباع» .

(الاْءَمَلِ) - كجبل ونجم وشبر - : الرجاء ؛ من باب نصر .

ووصف الأمل بالطول وصفٌ له بحال متعلّقه ، والمراد أن يرجو البقاء الطويل في الدنيا ، ويرجو الأشغال الطويلة في أوقاتها .

(أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ) في العملي والعلمي ، وهو كحصول المانع عن العمل بالعلم ، وربّما أدّى إلى إنكار العلم أيضا .

(وَطُولُ الاْءَمَلِ يُنْسِي الاْآخِرَةَ) . هذا كعدم المقتضي للعمل بالعلم ، فإنّ تذكّر الآخرة يقتضي العمل بالعلم ، وترك هنا تكرار «إمّا» لظهور المراد ، كما في قوله تعالى : «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ»(2)آل عمران (3) : 7 .(3) ، مع قوله تعالى : «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ» .(3)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ) . المقرون بالقاف والمهملة، .

ص: 376


1- نهج البلاغة ، ص 487 ، الحكمة 107 ؛ خصائص الائمة للشريف الرضي ، ص 97 ؛ الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 247 .
2- آل عمران
3- : 7 .

من قرن يده بعنقه بِغلّ ، نظير قوله تعالى في سورة إبراهيم : «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِى الاْءَصْفَادِ»(1) .

و«إلى» للانتهاء ، والمراد أنّ العلم ضائع غير مقبول عند اللّه إلى أن يعمل به ، كما مرّ في ثاني السادس .(2)

(فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ) . الفاء للتفريع ، والجملة خبرٌ اُريد به الأمر ؛ أي فمَن علم وجب عليه العمل به .

(وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ) . هذا أيضا خبر اُريد به الأمر ؛ أي من عمل بما علم فليطلب علم ما لم يعلم ، ويجوز أن يكون الأمر فيه للإباحة ، ويرجع إلى النهي عن طلب العلم قبل العمل بما علم سابقا ، كما يجيء في رابع الباب .

(وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ) . يُقال : هتف بزيد - كضرب - : إذا صاح به ودعاه . والباء في «بالعمل» كالباء في هتف زيد بيا اللّه ، فيجوز جرّ العمل بالباء ونصبه حكاية . والمراد أنّ العلم يدعو صاحبه إلى العمل به ، ويقول له : العمل ، أي أدرك العمل .

(فَإِنْ أَجَابَهُ) أي أجاب صاحب العلم العلم ؛ والجزاء محذوف ، أي بقي العلم ونفع . (وَإِلاَّ ارْتَحَلَ) أي العلم (عَنْهُ) : عن صاحب العلم - المفهوم من الكلام - بعروض نسيان أو بانتفاء النفع .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ ) ؛ بالقاف والمهملة والنون . قيل(3) : وقاسان بلد بما وراء النهر ، وناحية بأصبهان ، غير قاشان المذكور مع قمّ .(4)

(عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ .

ص: 377


1- إبراهيم (14) : 49 .
2- أي الحديث 2 من باب صفة العلماء .
3- في حاشية «أ» : «في القاموس (منه دام ظله)» .
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 243 (قوس) .

يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ ، زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفَا) ؛ بفتح المهملة والقصر جمع «صفاة» وهي الصخرة الملساء .(1)

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ البُرَيْدِ)(2) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح المهملة .

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ) قبل وقت حاجتها أو وقت حاجتها (فَأَجَابَ ، ثُمَّ عَادَ لِيَسْأَلَ عَنْ مِثْلِهَا ) أي عن مسائل اُخرى قبل وقت حاجتها .

(فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : مَكْتُوبٌ فِي الاْءِنْجِيلِ : لاَ تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَمَّا تَعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ) . كأنّه عليه السلام علم منه أنّه لم يعمل بعلمه وقت الحاجة ، أو تجاوز في السؤال حدّ عمل نفسه ، وهو منهيّ عنه ، كما يجيء في خامس «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» .

أمّا قوله : (فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ، لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهُ إِلاَّ كُفْرا ، وَلَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللّه ِ إِلاَّ بُعْدا) ؛ فيحتمل أن يكون من قول عليّ بن الحسين عليه السلام ، وأن يكون تتمّة المكتوب في الإنجيل .

إن قلت : يجب على المكلّف أمران : الأوّل : طلب العلم بما يحتاج إليه ممّا لم يتجاوز فيه حدّ نفسه . والثاني : العمل ، وتارك أحد الواجبين كيف يكون شرّا من تارك كليهما؟

قلت : الواجب الأوّل طلب العلم بقصد العمل لا مطلقا ، كما سيجيء في أوّل «باب المستأكل بعلمه» من ذمّ الحرص في طلب العلم ، فإن لم يكن في قصده حين طلب العلم العمل ، فذاك ؛ وإن كان حين طلب العلم في قصده العمل ثمّ تغيّر القصد ، فنقول : الترك الصادر عن العالم أشدّ تبعة من الترك الصادر عن الجاهل ، فيمكن أن يكون تفاوت الشدّة والضعف هنا أكثر من تفاوت العدد ، وذلك لتشديد الحجّة على العالم .

ص: 378


1- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 998 (صفو) ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 40 (صفا) .
2- في المطبوع : «البَرِيد» .

حتّى أنّه قد يكون العالم التارك للعمل كافرا ناصبا ، كما في اُصول الديانات ، بخلاف الجاهل ، فإنّه مستضعف ؛ وأيضا ترك العالم مظنّة الاستخفاف بالدِّين ، وهو كفر ، بخلاف ترك الجاهل .

ويتحصّل منه أنّ طلب العلم إذا صدر عن الذي لم يعمل في وقت الحاجة بما علم قَبْلُ ويظنّ بنفسه عدم العمل به أيضا كان قبيحا .

ويمكن أن يكون الكلام محمولاً على المجاز والمبالغة في وجوب العمل بالعلم ؛ واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : بِمَ يُعْرَفُ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب أو من باب التفعيل .

(النَّاجِي؟) أي من ينجو من عذاب النار يوم القيامة ولا يخلد فيها ، أو من لا يعذّب بها أصلاً . والمقصود بالسؤال الناجي من جملة من ينتسب إلى الشيعة الإماميّة ، أو من جملة اُمّة نبيّنا ، أي الذين يقولون ويشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، فإنّهم تفرّقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، إحداها ناجية ، والباقية هالكة ، كما في «كتاب الروضة» بعد حديث يأجوج ومأجوج ؛(1) أو من جملة أهل الكتاب ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في علامة المعار» هكذا عن المفضّل الجعفي قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره ، ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم ، أنفع له أم ضرّ» . قلت : فبِمَ يُعرف الناجي من هؤلاء جُعلت فداك؟

قال : ... إلى آخره .(2)

المراد «بما أبصره» : ما رآه وعلمه في محكمات القرآن من الآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف بالظنّ ، والمراد بالأمر الذي هو عليه مقيم : اتّباع الظنّ .

ص: 379


1- الكافي ، ج 8 ، ص 224 ، ح 283 .
2- الحديث 1 من باب في علامة المعار .

والاختلاف بالظنّ ، و«هؤلاء» إشارة إلى المنتسبين إلى الإسلام .

(قَالَ : مَنْ كَانَ فِعْلُهُ) أي الأمر الذي هو عليه مقيم (لِقَوْلِهِ) أي لما اعترف بحقّيّته(1) من الآيات البيّنات المحكمات القرآنيّة (مُوَافِقا) بأن لا يخالفه أصلاً ، (فإنّما(2) لَهُ الشَّهَادَةُ) ؛ بفتح المعجمة ، من باب علم وحسن : الخبر القاطع ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في علامة المعار» بدل هذا «فأتت له الشهادة بالنجاة» ، وفي نسخة «فأثبت» بدل «فأتت» .

وعلى كلّ تقدير المراد أنّه يجوز شهادتنا له بالنجاة ، دون من لم يكن فعله لقوله موافقا . وذلك لعلمنا بأنّه من المتّقين ، كما في آية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(3) بناءً على كون المراد بالمجيء بالصدق الاعتراف بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، وكون المراد بالتصديق به العمل بما تدلّ عليه صريحا ، وهو إمامة الإمام العالم بكلّ مسألة من مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ إلى انقراض التكليف .

ففي هذا الحديث تفسير لآية سورة الزمر بوجه لم يبلغه أذهان سائر المفسِّرين ، ويعلم به أنّ المتّقين هم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة ؛ والحمد للّه .

(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ مُوَافِقا ، فَإِنَّمَا ذلِكَ) ؛ الإشارة إلى «من» . (مُسْتَوْدَعٌ) ؛ بفتح الدال اسم مكان أو اسم مفعول ؛ أي موضع استيداع الإيمان لا استقراره ؛ أو من استُودع الإيمان(4) ، والمراد أنّه في خطر عظيم وإن عدَّ نفسه من الشيعة الإماميّة .

السادس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ .

ص: 380


1- في «ج» : «بحقيقته» وفي «د» : «بحجية» .
2- في الكافي المطبوع : «فأثْبِتْ» بدل : «فإنما» .
3- الزمر (39) : 33 .
4- في «ج» : + «ولا ينافي هذا ما مضى في شرح خطبة الكتاب عند قوله : وفيهم جرى قوله تعالى : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» لأنّ الاستيداع يتعدّى إلى مفعولين ، نحو : استودعك اللّه ، فكلّ منهما ، مستودع بفتح الدال» .

أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام فِي كَلاَمٍ لَهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي تخرجون من الحيرة وتبصرون بعلمكم معلومكم ؛ شبّه العلم بالسراج إن استُعمل اهتدي به ، وإلاّ فلا .

(إِنَّ الْعَالِمَ) . استئنافٌ لبيان أنّه لا اهتداء بالعلم إلاّ إذا عمل به .

(الْعَامِلَ بِغَيْرِهِ) أي بغير العلم وهو الهوى وطول الأمل .

(كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ) في عدم الاهتداء .

(الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ عَنْ جَهْلِهِ) . الاستفاقة استفعال من أفاق : إذا رجع إلى ما كان قد شغل عنه وعاد إلى نفسه ، ومنه استفاقة المريض والمجنون والمغشيّ عليه والنائم ، يُقال : استفاق من مرضه ومن سكره ، وتعديته ب- «عن» هنا لتضمين معنى الانفصال .

(بَلْ قَدْ رَأَيْتُ)(1) أي في كتاب اللّه تعالى . وفيه إشارة إلى أنّ هذا الاستنباط لا يتأتّى من الرعيّة(2) .

(أَنَّ الْحُجَّةَ) أي احتجاج اللّه ولومه (عَلَيْهِ) أي على هذا العالم . والظرف متعلّق بالحجّة (أَعْظَمُ) .

إن قلت : إذا كانت الحجّة على هذا العالم أعظم منها على الجاهل ، فما وجه تشبيهه بالجاهل ، مع أنّ المشبّه به يكون أقوى في وجه الشبه؟

قلت : الجاهل أقوى في عدم الانتفاع بعلم وأضعف من حيث ضرر عدم الانتفاع وهو الحجّة ، والتشبيه مبنيّ على الأوّل ، والترقّي مبنيّ على تقدير الثاني في الكلام ، فكأنّه قال : فكلاهما محجوج ، بل إلى آخره . .

ص: 381


1- في حاشية «أ» : «أي قد علمت علما قريبا من المعاينة أنّ الحجّة على هذا العالم أعظم من الحجّة على هذا الجاهل ، والظرف متعلق بالحجة ، والمتعلّق بأعظم محذوف اعتمادا على المذكور فيما يتلو هذه القرينة ، أو المذكور متعلّق بكلّ منهما ، وقوله : والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه ، أي المشرف على الانسلاخ ، وقوله : على هذا العالم متعلقٌ بقوله : بأدوم ، والجملة معطوفة على قوله : بل رأيت ، أو على مدخول أن (ميرزا رفيعا)» .
2- في «د» : «للرعية» .

(وَالْحَسْرَةَ أَدْوَمُ) . عطفٌ على اسم «أنّ» وخبرها ، والتفاوت في الدوام باعتبار الابتداء ؛ لأنّ حسرة(1) العالم متّصل بموته ، وحسرة الجاهل بعد بعثه وحشره ، موافقا لما يجيء في «كتاب الجنائز» في «باب المسألة في القبر ومَن يُسأل ومَن لا يسأل» من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «لا يسأل في القبر إلاّ من محض الإيمان محضا ، أو محض الكفر محضا ، والآخرون يلهون عنهم»(2) .

أو باعتبار الانتهاء بأن ينتهي أحدهما ولا ينتهي الآخر ، أو ينتهي بعد انتهاء الأوّل ، فإنّ الدوام لا يستلزم الأبديّة ، كما في سورة مريم : «وَأَوْصَانِى بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا»(3) .

أو باعتبار الوسط بأن يكون في أحدهما طفرة ولا يكون في الآخر أويكون طفرته أقلّ من الأوّل .

(عَلى هذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مِنْ عِلْمِهِ) . بدل عليه . (مِنْهَا) ؛ متعلّق بأعظم ، والضمير للحجّة .

(عَلى هذَا الْجَاهِلِ) . الظرف متعلّق بالضمير(4) في «منها» لرجوعه إلى الحجّة .

(الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ) . مضى بيانه في رابع الباب ، ولا يخفى أنّ ترك ذكر «عليه» وبدله ونحو ذلك في قوله : «والحسرة أدوم» للاقتصار . وهنا احتمالات اُخرى غير ملائمة لذكر عليه .

(وَكِلاَهُمَا حَائِرٌ) أي غير مهتد (بَائِرٌ) أي هالك . .

ص: 382


1- في حاشية «أ» : «قوله : لأنّ حسرة ، إلى آخره ، ويمكن أن يكون لأنّه يغفر الجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ، كما يجيء في أول السادس عشر من هذا الكتاب (مهدي)» .
2- الحديث 1 من باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل .
3- مريم (19) : 31 .
4- في حاشية «أ» : «قوله : الظرف متعلق بالضمير إلى آخره ، هذا مبني على جواز تعلّق الجار بضمير المصدر . قال صاحب المغني في مبحث الباء الزائدة وهو قول الفارسي والرماني أجازا : مروري يزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، ومنع جمهور البصريين إعماله مطلقا ، وأجاز الكوفيّون إعماله في الظرف وغيره . انتهى (مهدي)» . اُنظر: مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 144 .

(لاَ تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا) . استئنافٌ لسدّ طرق عذر العالم العامل بغيره . الارتياب : تتبّع ما هو مظنّة الريب أي الشكّ في المعلوم ممّن ليس قويّا على دفع الشكوك والمعارضات الوهميّة كتتبّع مذاهب صنفين(1) من الزنادقة الفلاسفة الدهريّة، القائلين بأنّه لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، لتوهّمهم امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .

ويجيء تفصيله في شرح أوّل أوّل «كتاب التوحيد»(2) ، وفي «كتاب الإيمان والكفر» في شرح حديث «باب وجوه الكفر» وهو السادس والستّون والمائة(3) .

ويناسبه ما يجيء في «كتاب التوحيد» في خامس «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة» من قوله : «إيّاك والخصومات ، فإنّها تورث الشكّ» .

وما في آيتين من سورة المؤمن :

الأُولى : «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّه ُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه ُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ»(4) .

الثانية : «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللّه ِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّه ِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه ُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(5) .

من المحتمل أنّ المراد بالبيّنات البراهين العقليّة والنقليّة المفيدة للزوم إمام عالم بجميع مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، سواء كان نبيّا أم وصيّ نبيّ .

وتعدية الشكّ ب- «من» بتضمين معنى البعد . «ما جاءكم به» عبارة عن الآيات البيّنات ، والمراد بمرتاب : المجادل في الآيات البيّنات . «الذين» مبتدأ والجملة استئناف بياني . «بغير سلطان أتاهم» خبر المبتدأ ، والباء للمصاحبة ، و«غير» بمعنى ضدّ .

ص: 383


1- في «أ» : «الصنفين» .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 72 ، كتاب التوحيد باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 1 .
3- الحديث 1 من باب وجوه الكفر .
4- غافر (40) : 34 .
5- غافر (40) : 35 .

وعبارة عن الطاغوت ، وهو إمام الضلالة التابع للظنّ . «سلطان أتاهم» عبارة عن الإمام العالم بجميع مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ من عند اللّه ، المستتر في «كبر» ل- «غير» أو لمصدر «يجادلون» .

(وَلاَ تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا) . إشارةٌ إلى ما سيجيء في «باب دعائم الكفر وشعبه» من «كتاب الإيمان والكفر»(1) من أنّ الشكّ في الحقّ المعلوم من دعائم الكفر .

(وَلاَ تُرَخِّصُوا لاِءَنْفُسِكُمْ) . هذا سدّ طريق آخر للعالم العامل بغيره ، فإنّه ربّما أنكر علم نفسه بسبب عادته بالمخالفة ، كما في قوله تعالى : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه ِ»(2) ، على تقدير كون «أن كذّبوا» خبر «كان» أو اسمها .

والرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ؛ ورخّصت لزيد في كذا ترخيصا ، أي أعطيته الرخصة فترخّص هو فيه ؛ أي لم يستقص . والمراد النهي عن الترخيص لها في ترك شيء من العمل بالحقّ المعلوم .

(فَتُدْهِنُوا) . الدهن - كالنصر - والإدهان في الحقّ ترك المبالاة به شيئا فشيئا بحيث يؤدّي إلى الغشّ وإنكار الحقّ .

(وَلاَ تُدْهِنُوا فِي الْحَقِّ فَتَخْسَرُوا) . يُقال : خسر - كعلم - في البيع : إذا حصل له نقصان فيه . والمراد ذهاب الحقّ والهدى من يده بالكلّيّة وحصول الإدهان والضلالة في يده عوضه .

(وَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَفَقَّهُوا) الحقّ المعلوم ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(3)الأعراف (7) : 169 .(4) ، وفي سورة الأعراف : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(4) ؛ وهنا عبارة عن الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ . .

ص: 384


1- الحديث 1 من باب دعائم الكفر وشعبه .
2- الروم (30) : 10 .
3- النساء
4- : 171 .

و«أن» مفسّرة لتضمّن الحقّ معنى القول ، أو ناصبة ، وعلى الأوّل «تفقّهوا» بصيغة الأمر من باب التفعّل ، وهو إشارة إلى قوله تعالى في سورة التوبة : «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ»(1) ، فإنّه من جملة تلك الآيات البيّنات المحكمات ؛ وعلى الثاني بصيغة المضارع من باب حسن أو من باب علم أو من باب التفعّل بحذف إحدى التاءين . ومضى بيان التفقّه والفقه في شرح سابع الثاني .(2)

(وَمِنَ الْفِقْهِ أَنْ لاَ تَغْتَرُّوا) . «أن» ناصبة أو مفسّرة ؛ لتضمّن الفقه أيضا معنى القول ، والاغترار : الالتفات إلى الدنيا التي هي متاع الغرور ، وإلى تلبيس إبليس بأنّ فلانا وفلانا وفلانا تمكّنوا من التصرّف في البلاد ، وتبعهم المنتسبون إلى العلم من أرباب العمائم ونحو ذلك . ومثل هذا لا يكون باطلاً ، وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة لقمان : «وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه ِ الْغَرُورُ(3)»(4) ، وفي سورة آل عمران : «لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلاَدِ»(5) .

(وَإِنَّ أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ) . النصيحة خلاف الغشّ ؛ أي أشفقكم على نفسه .

(أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ) باتّباع الآيات البيّنات المحكمات .

(وَأَغَشَّكُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاكُمْ لِرَبِّهِ) ؛ فإنّ دائرة العصيان(6) لا ترجع إلاّ إلى نفسه .

(وَمَنْ يُطِعِ اللّه َ يَأْمَنْ وَيَسْتَبْشِرْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ يَخِبْ) ؛ بكسر المعجمة بصيغة المضارع المعلوم من باب ضرب ، والخائب : المحروم ومَن لم ينل ما طلب .

(وَيَنْدَمْ) ؛ بفتح المهملة بصيغة المضارع المعلوم من باب علم ، والنَّدَم بفتحتين والندامة : الأسف . .

ص: 385


1- التوبة (9) : 122 .
2- أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه .
3- في «ج» : + «فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا» .
4- لقمان (31) : 33 .
5- آل عمران (3) : 196 .
6- في حاشية «أ» : «قوله : فإنّ الدائرة إلى آخره ، لعلّ المراد بها العقوبة التي تدور مع العصيان نفيا وإثباتا ، فالإضافة بهذه المناسبة (مهدي)» .

السابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلى) ؛ بفتح اللامين وسكون الخاتمة والقصر .

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا سَمِعْتُمُ الْعِلْمَ) . عبّر بالعلم عن الأحاديث المفضية بالتأمّل فيها إلى العلم .

(فَاسْتَعْمِلُوهُ) أي اعملوا به (وَلْتَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ) أي لا تستكثروا ما حصل لكم من العلم .

(فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَثُرَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ لاَ يَحْتَمِلُهُ) . صفة «رجل» والضمير للعلم باعتبار الكثرة .

(قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ) أي أوقعه في الإعجاب بنفسه فقدرَ على إيقاعه في كلّ مهلكة .

(فَإِذَا خَاصَمَكُمُ الشَّيْطَانُ) أي أراد أن يوقعكم في العُجب .

(فَأَقْبِلُوا) ؛ من الإقبال نقيض الإدبار .

(عَلَيْهِ بِمَا تَعْرِفُونَ ؛ فَ «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا») . اقتباس من سورة النساء .(1)

(فَقُلْتُ : وَمَا(2) الَّذِي نَعْرِفُهُ ؟ قَالَ : خَاصِمُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ مِنْ) . للتبعيض أو للتعليل أو للتبيين .

(قُدْرَةِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . كأنّه يريد النظر إلى صنع اللّه في نبيّه صلى الله عليه و آله وفي الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام وإحاطتهم بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة من الاُصول والفروع دقيقها وجليلها ، فإنّ الإنسان المُعجَب بنفسه في العلم إذا نظر إلى من فوقه في العلم قلَّ إعجابه ، فإذا نظر إلى آثار قدرة اللّه في المعصومين الحجج عليهم السلام حقّ النظر تضاءلَ غايةَ التضاؤل. .

ص: 386


1- النساء (4) : 76 .
2- في «ج» : «فما» .

باب المستأكل بعلمه والمباهي به

الباب الخامس عشر بَابُ الْمُسْتَأْكِلِ بِعِلْمِهِ وَالْمُبَاهِي بِهِ

فيه ستّة أحاديث .

روى ابن بابويه في معاني الأخبار عن حمزة بن حمران قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «مَن استأكل بعلمه افتقر» .

فقلت له : جُعلت فداك ، إنّ في شيعتك ومواليك قوما يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم ، فلا يعدمون على ذلك منهم البرّ والصلة والإكرام .

فقال عليه السلام : «ليس اُولئك بمستأكلين ، إنّما المستأكل بعلمه : الذي يفتي بغير علم ولا هدى من اللّه عزّ وجلّ ؛ ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا»(1) انتهى .

«الحقوق» : محكمات القرآن الناهية عن اتّباع الظنّ .

إن قلت : ليس هذا عالما .

قلت : بل هو عالم بالرواية وبجواز العمل بدون فتوى وإن لم يكن عالما بالمرويّ ؛ لاحتمال التقيّة ونحو ذلك . والمباهاة : المفاخرة .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعا ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْهُومَانِ) . مبتدأ مع كونه

ص: 387


1- معاني الأخبار ، ص 181 ، باب معنى الاستئكال بالعلم، ح 1 .

نكرة ، يُقال : نهم - كعَلِمَ - وبصيغة المجهول نَهمَا محرّكةً : إذا أفرطت شهوته إلى الطعام ، ولم يمتل عن الأكل ، ولم يشبع ، فهو نَهِمٌ ونهيم ومنهوم .(1)

(لا يَشْبَعَانِ : طَالِبُ دُنْيَا) : هو الذي أكبر همّه الدنيا ، لا لأجل كفاية الحاجة ، بل للتوسّع في المال أو في الجمال أو نحو ذلك.

(وَطَالِبُ عِلْمٍ) : هو الذي أكبر همّه العلم لا للعمل ، بل للمباهاة أو للتوسّع فيه وجامعيّةِ أنواع العلوم وتسميته علاّمةً ، وهذا ذمّ لكلّ من النّهِم في الدنيا والنهِم في العلم بأنّ شيئا منهما لا يبلغ إلى حدّ يحصل به المطلوب ، وتطمئنّ به النفس مع إضراره بالآخرة ، كما مرّ في رابع «باب استعمال العلم» ، ولذا فرّع عليه قوله : (فَمَنِ) . هذا إلى آخره يمكن أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وأن يكون من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلى مَا أَحَلَّ اللّه ُ لَهُ) . إشارةٌ إلى أنّ طالب الدنيا يكتسب ما لم يحلّ اللّه البتّة ، أو غالبا ، أو إلى أنّ ما اكتسب من المال بالنهم ليس بحلال من جهة النهم ، وإن كان حلالاً في حدّ نفسه . ويحتمل أن يُراد ما أحلّ اللّه له الاقتصار عليه ولم يوجب عليه كسب الزائد ؛ لوفائه بنفقة العيال .

(سَلِمَ) أي من عذاب الآخرة ، أو من الحساب ، أو من عذاب الدنيا للنهم فيها وأنواع التعب لتحصيلها وحفظها في كلّ وقت ، كما في قوله تعالى : «فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»(2) .

(وَمَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا) ، كما هو شأن النهِم فيها .

(هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ) بالشروط المقرّرة ، منها ردّ حقّ صاحب الحقّ إليه إن تيسّر .

(أَوْ يُرَاجِعَ) ؛ بكسر الجيم ، مأخوذٌ من الرجع بالفتح، من باب ضرب ، وهو الردّ والمراجعة ، ردَّ الشريك شيئا عن تصرّف شريكه فيه حين القسمة .

وأصله أنّ المال إذا كان مشتركاً بين اثنين ، كان كلّ جزء منه في تصرّف كلّ واحد .

ص: 388


1- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1849 ؛ النهاية ، ج 5 ، ص 138 (نهم) .
2- التوبة (9) : 55 .

منهما(1) فإذا قُسّم واُقرع ردّ كلّ منهما بعضا مخصوصا عن تصرّف الآخر فيه .

والمراد هنا أنّه إذا لم يتب في الدنيا لم يخل حاله عن صورتين :

الاُولى : أن يحيط الحقّ بجميع حسناته ، وحينئذٍ لا مراجعة له وهو هالك ، موافقا لقوله تعالى في سورة البقرة : «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(2) .

الثانية : أن لا يحيط ، وحينئذٍ يصيران شريكين في الحسنات ، ويراجع ببعض حسناته ، فليس بهالك من هذه الحيثيّة ، موافقا لما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب في أنّ الذنوب ثلاثة» من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وأمّا الذنب الذي لا يُغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض» إلى قوله عليه السلام : «فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض حتّى لا يبقى(3) لأحدٍ على أحدٍ مظلمة ، ثمّ يبعثهم للحساب» .

ويوافقه ما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها : «انتفعوا ببيان اللّه» من قوله عليه السلام : «وأمّا الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضا» .(4)

(وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ) . «من» للتبعيض أو للابتداء .

وعلى الأوّل الضمير للأخذ أو للعلم ، والمراد بأهله مَن يستحقّ أخذ العلم ، وهو الذي يأخذه للعمل والثواب الاُخروي ، وذكر «وعمل بعلمه» للاحتراز عمّن تغيّر قصده بعد الأخذ فلم يعمل به .

وعلى الثاني الضمير للعلم ، والمراد بأهله من قام البرهان النقلي أو العقلي على أنّه عالم ويجب سؤاله عن غير المعلوم ، وهو رسول اللّه وعترته عليهم السلام (5) كما يجيء في «كتاب الحجّة» في بعض أحاديث «باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحداً» . .

ص: 389


1- في «ج» : «منها» .
2- البقرة (2) : 81 .
3- في الكافي المطبوع : «تبقى» .
4- نهج البلاغة ، ص 255 ، الخطبة 176 .
5- في «ج» : + «ومن تبعهما» .

وذكر «من أهله» للاحتراز عمّن يكتفي بالعلم بضروريّات الدِّين ، وبما دلّت عليه الآيات البيّنات المحكمات القرآنيّة ، ويترك سؤال أهل الذِّكر عن المشكلات .

(نَجَا) من الهلكة في الآخرة ، أو من النهم في طلب العلم والتعب لتحصيله في كلّ وقت بدون ثواب اُخروي .

(وَمَنْ أَرَادَ بِهِ) أي بالأخذ أو بالعلم (الدُّنْيَا ، فَهِيَ) أي الدنيا (حَظُّهُ) أي نصيبه ، ليس له في الآخرة نصيب لأخذ العلم .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ ، عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الاْآخِرَةِ نَصِيبٌ) أي لطلب الحديث .

(وَمَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرَ الاْآخِرَةِ ، أَعْطَاهُ اللّه ُ خَيْرَ الدُّنْيَا) أي يترتّب عليه وإن لم يقصده ، (وَالاْآخِرَةِ) .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءصْبَهَانِيِّ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الاْآخِرَةِ نَصِيبٌ) أي لطلب الحديث .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّا لِدُنْيَاهُ) ؛ مثل أن يُصبح ويُمسي والدنيا أكبر همّه ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب حبّ الدُّنيا والحرص عليها» .

(فَاتَّهِمُوهُ) ؛ بشدّ المثنّاة فوقُ بصيغة الأمر من باب الافتعال ، وأصله «اوتهموه» قلبت الواو تاءً مثنّاةً فوقُ واُدغمت .

وقيل(1) : قُلبت الواو ياءً ؛ لانكسار ما قبلها ، ثمّ اُبدلت منها(2) التاء ، فاُدغمت في تاء .

ص: 390


1- القائل: هو الجوهرى في الصحاح (وكل) . كما في حاشية «أ» .
2- في «ج» : «منه» .

الافتعال ، ثمّ بنيت على هذا الإدغام أسماء من المثال ، وإن لم تكن فيها تلك العلّة توهّما أنّ التاء أصليّة ، لأنّ هذا الإدغام لا يجوز إظهاره بحال ، فمن تلك الأسماء «التهمة» بضمّ التاء وفتح الهاء وسكونها .(1)

ويجوز أن يكون بتخفيف التاء بصيغة الأمر من باب الإفعال ومعناهما واحد .

(عَلى دِينِكُمْ) . تقول : اتّهمت زيدا على كذا : إذا لم تأمنه عليه وأسأت ظنّك به فيه . واتّهمت زيدا بكذا : إذا نسبته إليه بالريبة .

(فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ) ؛ من وضع الظاهر موضع الضمير ، أي يحوطه لحبّه إيّاه . ويحتمل كون «ما» مصدريّة زمانيّة والعائد حينئذٍ مقدّر ؛ أي يحوطه مدّة حبّه إيّاه ، وإن زال الحبّ زال الحوط . يقال : حاطه حَوطا وحياطة وحوّطه تحويطا : إذا حفظه وصانه وذَبَّ عنه وتوفّر على مصالحه .(2)

والمراد أنّه لا ينصحكم ، بل يراعي جانب دنياه لا جانب دينكم ، فلا تسألوه عن شيء من أحكام الدِّين ولا تعتمدوا على فتاواه ولا على قضاياه ، أو ولا على رواياته .

(وَقَالَ عليه السلام : أَوْحَى اللّه ُ(3) إِلى دَاوُدَ عليه السلام ) . استئنافٌ بياني لقوله : «إذا رأيتم» إلى آخره ، ويحتمل أن يكون حديثا آخر منفصلاً عن الأوّل ، فيكون ابتداء كلام في مجلس آخر ، وتكون أحاديث الباب سبعة .

(لاَ تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِما مَفْتُونا بِالدُّنْيَا) أي لا تصاحبه ولا تواخه فيّ ، ولا تستنصحه في دينك .

(فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي) بتزيين الدنيا إليك .

(فَإِنَّ أُولئِكَ) . الإشارةٌ إلى الجماعة ؛ لأنّ المراد بقوله : «عالما» الاستغراق ؛ لأنّه نكرة في سياق النهي ، وهو كالنفي ، فهو في معنى الجمع .

(قُطَّاعُ) ؛ بضمّ القاف وشدّ المهملة ، جمع «قاطع» . .

ص: 391


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1845 ؛ تاج العروس ، ج 15 ، ص 785 (وكل) .
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1121 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 461 (حوط) .
3- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

(طَرِيقِ عِبَادِيَ) أي إلى رضاي ومحبّتي ، أو إلى جنّتي . (الْمُرِيدِينَ) لما عندي من الثواب .

(إِنَّ أَدْنى) . يُقال : دنا - كنّصر - دنوّا ودناوة : إذا قرب . ودنا - كعلم - دنا ودناية : إذا ضعف(1) ؛ فالمعنى : أوّل أو أقلّ (مَا أَنَا صَانِعٌ بِهِمْ أَنْ أَنْزِ عَ) . يُقال : نزعه - كضربه - : إذا قلعه .

(حَلاَوَةَ) ؛ بفتح المهملة : نقيض المرارة .

(مُنَاجَاتِي) . النجو بالفتح : السرّ بين اثنين ، يُقال : ناجيته مناجاة ونجوته نجوا ، أي ساررته(2) . والمراد هنا الدعاء وعرض الحاجات والذِّكر .

(مِنْ قُلُوبِهِمْ) ؛ فهم في قيامهم إلى الصلاة ونحوها من الطاعات كسالى ، وفي نفس الطاعات غَفَلة غير مقبلين بقلوبهم على اللّه . وهذا جزاء دنيوي ويؤدّي إلى فوات كثير من ثواب الآخرة ؛ نعوذ باللّه منه .

الخامس : (عَلِيٌّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ) . المراد إمّا رسل اللّه وأنبياؤه ، فالمراد أنّه يأتمنهم الرسل على اُممهم ، وإمّا كلّ مَن أرسله أحدٌ إلى غيره ، فالمراد أنّهم اُمناء من جملة الرُّسل .

وفيه إشعار بعدم جواز حكمهم بالرأي .

(مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، وَمَا) أي وأيّ شيء (دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ : اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ) ، بشدّ التاء ، تقول : تبعته - كعلمته - واتّبعته على افتعلته : إذا مشيت خلفه أو مرَّ بك فمضيت معه . والمراد طلب قربه لنيل نوائله ، لا للتقيّة ودفع المحذورات .

(فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلى دِينِكُمْ) أي لا تسألوهم عن شيء من مسائل دينكم ، ولا تعتمدوا على فتاواهم وقضاياهم في الدِّين . .

ص: 392


1- لسان العرب ، ج 14 ، ص 275 ؛ والقاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دنا) ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 418 (دنو) .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2503 ، لسان العرب ، ج 15 ، ص 308 (نجا) .

السادس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ) . المباهاة : المغالبة(1) في البهاء ، وهو الحُسن . والمراد به هنا العلم ، أي ليفاخر .

(بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ يُمَارِيَ) أي يجادل . والمرية : الشكّ ، وذلك في الاستدلالات الظنّيّة على الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الاجتهاديّة ، كما سطّر في كتب المخالفين أو في تقرير المغالطات المعضلة وجوابها لإظهار القوّة في فنّ الكلام .

(بِهِ السُّفَهَاءَ) : هم أهل الاجتهاد من المخالفين ، أو أهل مزاولة المغالطات ، فإنّه لا يتوجّه إلى مثل ذلك إلاّ سفيه .

(أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ) بالإفتاء والقضاء الحقيقيّين في المسائل بالاجتهادات الظنّيّة ونحو ذلك .

(فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي فليمهّد وليعيّن لنفسه محلاًّ في النار . يُقال : تبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه .(2) والمراد أنّه يصير إلى النار البتّة .

(إِنَّ الرِّئَاسَةَ) أي كون الشخص ممّن ينصرف وجوه الناس بالإفتاء والقضاء الحقيقيّين إليه .

(لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لاِءَهْلِهَا) وهو العالم بالأحكام الشرعيّة لا عن اجتهاد ظنّي ، وهو النبيّ أو الوصيّ ، كما مرّ في شرح ثالث الثاني عشر (3). .

ص: 393


1- في «ج» : «المبالغة» .
2- لسان العرب ، ج 1 ، ص 38 (بوأ) .
3- أي الحديث 3 من باب النهي عن القول بغير علم .

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه

الباب السادس عشر بَابُ لُزُومِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَشْدِيدِ الاْءَمْرِ عَلَيْهِ

فيه أربعة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : يَا حَفْصُ ، يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْبا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ) .

المراد بالجاهل من علم وجوب طلب العلم ، ولم يعمل بعلمه هذا ، ولم يتعلّم الأحكام ، ولم يتفقّه ، فترك الواجبات وارتكب المنهيّات لجهله بالأحكام .

والمراد بالعالم من تفقّه وعلم الأحكام ، ولم يعمل بعلمه هذا ، فترك الواجبات وارتكب المنهيّات مع علمه بالأحكام .

ولا شكّ أنّ من يعلم شيئا بخصوصه ولا يعمل به أشدُّ تبعةً فيه ممّن لا يعلمه ، فذنب الجاهل قويّ في ترك طلب العلم لأنّه عالم فيه ، وضعيف بالنسبة إلى العالم فيما بعده من الخصوصيّات ، بل ربّما يتوهّم أنّه لا ذنب له فيها ؛ لأنّه غير مطاق له . وظاهر هذا الحديث يدفعه ، ومرَّ نظير هذا المبحث في رابع «باب ثواب العالم والمتعلِّم» .

ويُحتمل أن يكون المراد بالعالم والجاهل العالم بحقيقة الوعيد في الذنب والجاهل بها ، أو العالم بالمحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والجاهل بها ، أو العالم بالحكم الواقعي والجاهل به مع علمه بالحكم الواصلي .

ويحتمل أن يُراد بالعالم من علم قدرا معتدّا به من الشرعيّات ، فيكون معدوداً من

ص: 394

العلماء في العرف ، وبالجاهل من ليس كذلك وإن كان عالما بخصوصيّة ما فعله أو تركه من المعصية . وظاهر هذا أنّ نسبة قبح ذنب الجاهل إلى قبح ذنب العالم نسبة الواحد إلى واحد وسبعين .

الثاني : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام (1) : وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السُوءِ(2)) ؛ بضمّ المهملة : الآفة كالبرص .(3) والمراد هنا أنّهم آفة دين الناس بسبب حبّ الدنيا والحكم بالظنّ ونحو ذلك ؛ أو بفتح المهملة مصدر ساءه ، يسوؤه ، وبالضمّ الاسم منه ، والوصف بالمصدر للمبالغة ولم يجمع ؛ لأنّه مصدر لفظا أو معنىً .

(كَيْفَ) ؛ للتعجّب . (تَلَظّى عَلَيْهِمُ النَّارُ ؟!) . فعل ماض من باب التفعّل لتحقّق وقوعه ، أو مستقبل منه بحذف إحدى التاءين . وتلظّي النار : تَلَهُّبها واتّقادها .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعا ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ) ؛ بسكون الفاء ، أي الروح . وظاهره إبطال تجرّد النفس .

(هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى حَلْقِهِ - ) . ظاهره أنّ هذا معنى قوله تعالى : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ(4)»(5) .

(لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ) أي المرتكب للكبيرة مع علمه بأنّها كبيرة (تَوْبَةٌ) . مصدر تاب اللّه عليه : إذا رجع عليه بفضله ؛ لرجوعه عن المعصية . ويُقال : تاب إلى اللّه : إذا رجع عن المعصية . واللام للانتفاع ؛ أي لا يتوب اللّه عليه .

والمراد أنّه لم يبق له إلاّ احتمال المراجعة المذكورة في شرح أوّل السابق أو نحو ذلك . .

ص: 395


1- في الكافي المطبوع : «على نبينا وآله و عليه السلام» .
2- في الكافي المطبوع : «لعلماء السَّوء» .
3- ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 872 (سوء) .
4- في «ج ، د» : «من قريب» بدل : «تعالى : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» .
5- النساء (4) : 17 .

(ثُمَّ قَرَأَ) ؛ استشهادا من سورة النساء : («إِنَّمَا) للحصر (التَّوْبَةُ) مبتدأ (عَلَى اللّه ِ) ، «على» للإضرار المجازي ، والظرف خبر ، أي ثقيلة على اللّه ؛ شبّه نفسه بمَن لا يحبّ أن يقبل التوبة ، ويقبلها في الجملة ؛ لضرورة دعاء العلم والحكمة إليه .

(لِلَّذِينَ) ؛ اللام للانتفاع ، والظرف متعلّق بالظرف السابق أو خبر ثان .

(يَعْمَلُونَ السُّوءَ) ؛ مصدر ساء يسوء من اللازم ، ومنه فعل الذمّ ، مثل : «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»(1) استعمل في محلّ السوء مبالغة ، فالمراد به الكبيرة ، وهي ما أوعد اللّه عليه نار جهنّم .

(بِجَهَالَةٍ»(2)) . الباء للملابسة ، والظرف لغو متعلّق ب- «يعملون» أو مستقرّ حال عن فاعل «يعملون» أو عن السوء ، أي مع جهله بكونه سوءا وعلمِه بكونه حراما .

وتتمّتها : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّه ُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه ُ عَلِيما حَكِيما» . «من» بمعنى «في» ، والقريب حالة الغرغرة ؛ فإنّها متّصلة بحالة لقاء اللّه ، والفاء للتفصيل وبيان أنّه تعالى يتوب على هذه الجماعة مع ثقله عليه ، بخلاف من تاب قبل ذلك ، فإنّه لا ثقل في قبول توبته على اللّه ، وبخلاف من لم يتب حينئذٍ أيضا ، أو تاب حينئذٍ وكان عالما . وذكر العلم والحكمة بيان لمنشأ القبول ، فإنّ العليم الحكيم لا يفعل إلاّ لمصلحة .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُكَارِي) ؛ بضمّ الميم وتخفيف الكاف والألف وكسر المهملة وتخفيف الخاتمة .

(عَنْ أَبِي بَصِيرٍ : عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّوَجَلَّ) في سورة الشعراء : «فَكُبْكِبُوا) . يجيء توضيح هذه الآية في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل السابع عشر(3) ، يُقال : كبّه لوجهه من باب نصر ، أي صرعه . والكبكبة تكرير الكبّ ، جُعل التكرير في .

ص: 396


1- الأنعام (6) : 136 .
2- النساء (4) : 17 .
3- الحديث 1 من باب (بدون العنوان) .

اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى ،(1) كأنّ مَن اُلقي في الجحيم ينكبّ مرّة بعد مرّة حتّى يستقرّ في قَعرها .

والضمير للذين عبدهم الغاوون من دون اللّه حيث اقتدوا بهم وجعلوهم رؤساء من دون توقيف من اللّه وإذن منه ، وسوّوهم بربّ العالمين حيث جعلوا حكمهم في الدِّين كحكم اللّه في وجوب اتّباعه ، وإن لم يأذن في الاتّباع من هو أقوى(2) وأعلى منهم .

(فِيها) : في الجحيم (هُمْ) ؛ تأكيدٌ لضمير كبكبوا . (وَالْغَاوُونَ»(3)) . الغيّ : الضلال والخيبة أيضا ، وهم الجهلة أتباع أئمّة(4) الضلالة .

(قَالَ : هُمْ) . الضمير للمعبودين ، والعابدين لهم بتقليدهم .

(قَوْمٌ وَصَفُوا عَدْلاً) . هو بالفتح : المتوسّط ين الإفراط والتفريط ، والمراد هنا الصدق المذكور في آية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(5) ، موافقا لآية سورة الأنعام : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(6) ، وكلّ من العدل والصدق وكلمة «ربّك» عبارة عن الآيات البيّنات المخرجة من الظلمات إلى النور الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظن ، فإنّها ميزان عدل في كلّ شريعة ؛ إذ كلّ حكم وعمل لم يوافقها كان فاسدا ، وكلّ حكم وعمل وافقها كان صحيحا ، كما في آية سورة النساء : «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(7) .

(بِأَلْسِنَتِهِمْ) . نعتٌ لقوله : «عدلاً» وإشارة إلى أنّ مضمونه معلوم لهم بلا اشتباه .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب . (خَالَفُوهُ إِلى غَيْرِهِ) . تعدية المخالفة ب- «إلى» لتضمين معنى التوجّه ، .

ص: 397


1- تفسير الكشاف ، ج 3 ، ص 119 ؛ جوامع الجامع ، ج 2 ، ص 680 ؛ وحكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 2 ، ص 169 ، عن القاضي .
2- في «ج» : «قوى» .
3- الشعراء (26) : 94 .
4- في «ج ، د» : «رؤساء» .
5- الزمر (39) : 33 .
6- الأنعام (6) : 115 .
7- النساء (4) : 58 .

والمراد بغيره ضدّه ، وهو تجويز الحكم والعمل بالاجتهاد الظنّي وتقليد المجتهد ، كما يجيء في أوّل «باب التقليد» وهو التاسع عشر .

ويستنبط من هذا تفسير لآية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(1) بوجه لم يبلغه أذهان سائر المفسّرين ، حيث تركوا سؤال أهل الذِّكر عليهم السلام فيما كانوا لا يعلمون ، ويعلم به أنّ المتّقين هم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة . .

ص: 398


1- الزمر (39) : 33 .

باب النّوادر

الباب السابع عشر بَابُ النَّوَادِرِ

فيه خمسة عشر حديثا .

المراد بالنوادر أحاديث متفرّقة مناسبة للأبواب السابقة لا يجمعها باب وعنوان كما يجمع الأبواب السابقة .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ رَفَعَهُ ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : رَوِّحُوا) . أمرٌ من باب التفعيل من الراحة ، أي اجعلوها في راحة حتّى لا تكلّ أو بعد الكلال . ويمكن أن يكون من ترويح الدهن ، أي تطييبه .

(أَنْفُسَكُمْ) أي أرواحكم. (بِبَدِيعِ الْحِكْمَةِ) أي بالحديث الجديد المرويّ عن الحكماء ، وهم أئمّة الهدى عليهم السلام .

(فَإِنَّهَا تَكِلُّ كَمَا تَكِلُّ الاْءَبْدَانُ) ؛ من كَلَّ من المشي - كضرب - كلالاً وكلالةً ، أي أعيا .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ نُوحِ بْنِ شُعَيْبٍ النَّيْسَابُورِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَخِي شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ ، عَنْ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : يَا طَالِبَ الْعِلْمِ) أي العلم بالمحتاج إليه من مسائل الدِّين ، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس ، مثلاً مَنْ شغلهُ التجارة لا يحتاج إلى تعلّم مسائل المزارعة والمساقاة ، إنّما يحتاج إلى تعلّم مسائل شُغله .

ص: 399

(إِنَّ الْعِلْمَ ذُو فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ) أي لا يصير مقبولاً عند اللّه وباعثا لنجاة صاحبه في الآخرة إلاّ إذا كان مع فضائل كثيرة لصاحبه ، بعضها بمنزلة الأعضاء أو الأحوال الداخلة ، وبعضها بمنزلة الآلات الخارجة .

(فَرَأْسُهُ التَّوَاضُعُ) أي الانقياد للحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وهو العمل بمقتضاها .

ومضى في ثاني عشر الأوّل : «يا هشام ، إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للحقّ تكُن أعقل الناس» .(1)

(وَعَيْنُهُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَسَدِ) . الحسد : مدّ العين إلى نعمة الغير ، وهو منهيٌّ عنه في آية سورة النساء : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(2)الفقيه ، ج 4 ، ص 380 ، ح 5814 ؛ المجازات النبوية ، ص 175 ، ح 136 .(3) ، وآية سورة الحجر وسورة طه : «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجا مِنْهُمْ»(4) .

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب الحسد» : «لا تحسدَنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك» .

ووجه المناسبة أنّ منشأ الحسد حبّ الدنيا ومتاعها ، وهو يُعمي القلب عن الآخرة وثوابها ، وعن مضرّة الحرص في الدنيا والتصرّف في الحرام كما في الحديث : «حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ» .(4)

(وَأُذُنُهُ الْفَهْمُ) ؛ بالفتح وبفتحتين : ضدّ الحمق ، كما مرّ في رابع عشر الأوّل .(5) ووجه المناسبة أنّ مدار حسن المعاشرة مع الناس على استماع النصائح من أهلها .

(وَلِسَانُهُ الصِّدْقُ) أي الاحتراز عن الكذب حين الكلام . ووجه المناسبة ظاهر .

(وَحِفْظُهُ الْفَحْصُ) . الحفظ بالكسر مصدر باب علم ، والإضافة إلى المفعول ، .

ص: 400


1- أى الحديث 12 من باب العقل والجهل .
2- النساء
3- : 54 .
4- الحجر (15) : 88 ؛ طه (20) : 131 .
5- أي الحديث 14 من باب العقل والجهل .

والفحص بفتح الفاء وسكون المهملة ومهملة مصدر باب منع : سؤال أهل الذِّكر عمّا لم يعلم من المحتاج إليه .

وهذا إشارة إلى أنّه قد يحدث الحاجة إلى مسألة ، وحينئذٍ يجب الفحص عنها لئلاّ ينتفي العلم بكلّ مسألة يحتاج إليه في الدِّين ، فإنّ انتفاء الجُزء يستلزم انتفاء الكلّ .

(وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ) أي أن ينوي العمل به لثواب الآخرة .

(وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الاْءَشْيَاءِ وَالاْءُمُورِ) . الفرق بين العلم والمعرفة أنّ العلم يتعلّق بالقواعد الكلّيّة التي تصلح لأن تكون كبرى للشكل الأوّل ، كالقواعد الفقهيّة ، نحو قولنا : كلّ وقت دلكت فيه الشمس وجبت فيه صلاة الزوال ، ونحو قولنا : كلّ من شجّ كذا وكذا فعليه دية كذا وكذا . وتسمّى نفس أحكام اللّه تعالى ، والمعرفة تتعلّق بقضايا تصلح لأن تكون صغريات لتلك الكبريات في الشكل الأوّل ، نحو : هذا وقت دلكت فيه الشمس ، ونحو قولنا : زيد شجّ كذا وكذا . وتسمّى محالّ أحكام اللّه تعالى .

وتحقيق تلك القضايا إمّا خارجة عن قدرة العباد كدلوك الشمس(1) ، وإمّا مقدورة لهم كمقادير الجنايات لتعيين الديات ، وتسمّى الاُولى أشياءً ، والثانية اُمورا .

(وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ) أي التعطّف على الضعفاء بإيصال نعمه إليهم ، ويعبّر عنه بوضع اليد على رأس المُنعَم عليه ، كما مرَّ في الحادي والعشرين من الأوّل(2) ، ويُقال للنعمة : يد .(3)

(وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ الْعُلَمَاءِ ) أي العالمين بجميع المحتاج إليه(4) ، أو بجميع ما يحتاجون(5) إليه من مسائل الدِّين .

(وَهِمَّتُهُ السَّلاَمَةُ) . الهمّة بكسر الهاء وتشديد الميم : القصد والضمير . والمراد أنّ .

ص: 401


1- في «أ» : + «لصلاة» .
2- أى الحديث 21 من باب العقل والجهل .
3- جوامع الجامع ، ج 2 ، ص 110 ؛ التفسير الأصفى ، ج 1 ، ص 484 ؛ تفسير الكشاف ، ج 2 ، ص 224 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 184 .
4- في حاشية «أ» : «أي ما يحتاج إليه العالم من مسائل دينه» .
5- في حاشية «أ» : «أي الناس» .

عمدة قصده السلامة من عذاب الآخرة ومن خزي الدنيا بعُلوّ الخصومات وارتكاب المجادلات مع السفهاء المنتسبين إلى طلب العلم .

(وَحَكَمَتُهُ الْوَرَعُ) . الحَكَمة بفتحتين : ما أحاط من اللِّجام بحنك الدابّة لمنعها عن الحركات الغير المرضيّة ، وهي حديدة ، وكانت العرب تتّخذها من القِدّ(1) ونحوه(2) ؛ استعيرت هنا لمانع العلم عمّا لا يليق . و«الورع» بفتحتين مصدر باب ورث : الاحتراز عمّا يضرّ بالآخرة ، كالتجاوز عن القدر المحتاج إليه المفضي إلى ترك العمل ، كما مضى في رابع الرابع عشر(3) من قوله عليه السلام : «لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم» ؛ وكالعُجب ، كما مضى في سابعه(4) من أنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قَدَرَ الشيطان عليه .

(وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ) . المستقرّ بفتح القاف اسم مكان ، والمراد هنا موضع اطمئنان العلم ، و«النجاة» بفتح النون والجيم مصدر(5) باب نصر : الخلاص ، وهي عبارة عن مذهب الفرقة الناجية ، وهو التصديق بوجوب إمام عالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة في كلّ زمان إلى انقراض الدنيا ، وهو ذكر اللّه ، كما يجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» من قول أبي جعفر عليه السلام : «نحن ذكر اللّه» .

وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرعد : «أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(6) ، وفي سورة الزمر : «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ»(7) .

والحاصل أنّه لولا هذا التصديق لاضطرب العلم بالآيات البيّنات المحكمات .

ص: 402


1- القد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ . الصحاح ، ج 2 ، ص 522 (قدد) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1902 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 144 (حكم) .
3- أى الحديث 4 من باب استعمال العلم .
4- أي الحديث 7 من باب استعمال العلم .
5- في «أ» : + «من» .
6- الرعد (13) : 28 .
7- الزمر (39) : 23 .

الناهية عن اتّباع الظنّ ، وباضطرابه يضطرب العلم بالقدر المحتاج إليه من مسائل الدِّين .

(وَقَائِدُهُ الْعَافِيَةُ) . القَودُ : ضدّ السَوق ، فالقود من أمام ، والسوق من خلف . والمراد هنا ما يفضي بالعلم إلى استنباط النتائج منه . والعافية : البراءة من الأمراض القلبيّة المانعة عن الفكر الصحيح من حبّ الدنيا ونحوه ، كما في نهج البلاغة في وصيّته للحسن بن عليّ عليهماالسلام من قوله : «وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجَتْكَ(1) في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشَعَ ، وتمّ رأيُك واجتمع(2) ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا ، فانظر فيما فسّرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم [أنّك(3)] إنّما تخبط العشواء(4) وتتورّط الظلماء» .(5)

(وَمَرْكَبُهُ الْوَفَاءُ) ، بالفتح والمدّ : ضدّ الغدر ، يُقال : وفى بعهده : إذا لم يخفر .(6) والمراد به هنا العمل بمقتضى شروط اللّه تعالى وعهوده ، كما في سورة الأعراف : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(7) ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس السابع : «لا يقبل اللّه إلاّ الوفاء بالشروط والعهود» .(8)

(وَسِلاحُهُ) ؛ بكسر المهملة : آلة الحرب أو حديدتها ، والمراد هنا حدّته ومضيّه .

(لِينُ الْكَلِمَةِ) ، فإنّه لا شيء أمضى لكلام العلماء من لين كلمتهم مع كلّ من الصديق الطالب للحقّ والعدوّ الطالب للمراء ، كما في قوله تعالى في سورة طه : «فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً .

ص: 403


1- الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، وأو لجتك : أدخلتك .
2- في نهج البلاغة : «فاجتمع» .
3- ما بين المعقوفين من المصدر .
4- العشواء : الضعيفة البصر ، أي تخبط خبط الناقة العشواء لا تأمن أن تسقط فيما لا خلاص منه .
5- نهج البلاغة ، ج 3 ، ص 42 ، من وصية له لولدة الحسن عليهماالسلام .
6- في حاشية «أ» : «خفر به خفرا وخفودا : نقض عهده» .
7- الأعراف (7) : 169 .
8- أي الحديث 7 من باب معرفة الإمام والردّ إليه .

لَيِّنا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) .

(وَسَيْفُهُ) أي أهمّ سلاحه (الرِّضَا) ؛ بكسر الراء والقصر مصدر قولك : رضيت عنه ، والاسم منه «الرضاء» بالمدّ ، وهو ضدّ السخط . والمراد هنا عمدة أسباب لين الكلمة ، وهي(2) التصديق بأنّ كفر الكافر وعصيان العاصي كإيمان المؤمن وطاعة المطيع تحت ملكوت اللّه تعالى غير خارج عن قضائه الذي يجب الرضا به . ويجيء في «كتاب التوحيد» في شرح أوّل «باب العرش والكرسيّ» أنّ إبراهيم عليه السلام لانت كلمته باطّلاعه على ملكوت السماوات والأرض .

(وَقَوْسُهُ) أي الذي يدفع به شرّ العدوّ من بعيد (الْمُدَارَأَةُ)(3) ؛ بالهمز بعد الراء ، وقد تُقلب ألفا ، وهي المدافعة . والمراد هنا التغافل عن غيبة الأعداء وذمّهم من بعيد ، كما قال الشاعر :

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني *** فمضيتُ ثمّة قلت : لا يعنيني(4)

(وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ) ؛ بالمهملة ، أي مجاوبتهم ومكالمتهم ، فإنّه يكثر بذلك العلمُ بالنتائج .

(وَمَالُهُ) ؛ بالألف اللينة بعد الميم وقبل اللام ، هو في الأصل ما يُملَك من الذهب والفضّة ، ثمّ اُطلق على كلّ ما يملك من الأعيان . وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل ، لأنّها كانت أكثر أموالهم(5) . والمراد هنا ما به يبقى كتعيّش(6) الإنسان بالمال الضروري ، أو ما به يكتسب كما يكتسب ربح التاجر برأس مالٍ لولاه لما أمكنه الاكتساب .

(الاْءَدَبُ) ؛ بفتحتين من باب حَسُنَ : حُسْنُ التناول ، أي العمل بالعلم ، أو رعاية .

ص: 404


1- طه (20) : 44 .
2- في «ج» : «فهي» .
3- في الكافي المطبوع : «المداراة» بدون همزة ، وفي «ج» : «المرارة» .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 ؛ شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 239 ؛ و ج 2 ، ص 21 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 81 (ثمم) .
5- النهاية ، ج 4 ، ص 373 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 636 (مول) .
6- في «د» : «لتعيش» .

الآداب في التعلّم والتعليم وفي محاورات العلماء ، ونحو ذلك .

(وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنُوبِ) . الذخيرة : ما يدفنه الإنسان من النقدين ليوم شدّته ؛ شبّه الذنوب باعتبار اجتنابها بما يُدفَن تحت الأرض ليوم الحاجة ، مثل اجتناب الخمر ، فإنّه يُفضي إلى أنهار من خمر لذّةً للشاربين(1) في الجنّة .

(وَزَادُهُ) ؛ هو ما يتّخذه المسافر من حوائج سفره من الطعام ونحوه . (الْمَعْرُوفُ) ؛ هو ضدّ المنكر ، والمراد هنا ما هو مُنزل في كتاب كلّ شريعة من مضمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ؛ شبّه احتجاج العالم على المخالفين له في الدِّين بالسفر ، وشبّه أقوى ما يحتجّ به على الخصم وأقصره - وهو المعروف - بزاد السفر ، كما مرّ الإشارة إليه في العشرين من الأوّل(2) في قوله عليه السلام : «العقل تعرف به الصادق على اللّه فتصدّقه ، والكاذب على اللّه فتكذّبه» ، قال تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) ، ويجيء في أوّل التاسع عشر(4) تفسير قوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(5) .

(وَمَاؤُهُ)(6) . هو(7) في الأصل الذي يشرب ، وهمزته مبدلة من الهاء في موضع اللام ، وأصله «مَوَه» بالتحريك ، والمراد به هنا الرواء والجمال ، وفي نسخة «ومأواه» .

(الْمُوَادَعَةُ) أي المصالحة ، وحقيقتها المتاركة ؛ لأنّ كلّ واحد من المتصالحين يدع شيئا من دعواه ، والمراد هنا ترك إفراط الجدل . .

ص: 405


1- اقتباس من سورة محمّد (47) : 15 .
2- أى الحديث 20 من باب العقل والجهل . وفيه : «يعرف» بدل من : «تعرف» و «فيصدّقه» بدل : «فتصدّقه» و«فيكذّبه» بدل : «فتكذّبه» .
3- آل عمران (3) : 64 .
4- أى الحديث 1 من باب التقليد .
5- التوبة (9) : 31 .
6- في المطبوع : «ومأواه» .
7- في «ج» : - «هو» .

(وَدَلِيلُهُ الْهُدى) أي هدى اللّه ، وهو الإمام العالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة ، كما في سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ»(1)الزمر (39) : 23 .(2) ، على أن يكون «الهدى» معطوفا على «ما أنزلنا» ، وضمير «بيّنّاه» للهدى ، وكما في سورة الزمر : «ذَلِكَ هُدَى اللّه ِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ»(2) ، ونحوهما من الآيات .

(وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الاْءَخْيَارِ) أي الأتقياء ، فإنّ محبّتهم ترافقه وتجرُّهُ إلى العمل .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ) ؛ بفتح النون وسكون الصاد المهملة والراء المهملة .

(عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : نِعْمَ وَزِيرُ الاْءِيمَانِ الْعِلْمُ) . الوزير : الموازر ، أي المعاون ؛ لأنّه يحمل عنه وزره أي ثقله .

والإيمان : التصديق بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله أي الطوع له ، وهو فعل قلبي حاصل بعد العلم بأنّ ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله حقّ ، وقد لا يحصل بعده فيصير صاحبه كافرا ، وقد يحصل بعده ضعيفا ، فإنّه قابل للقوّة والضعف .

والمراد بالعلم العلم بالقدر المحتاج إليه من مسائل الدِّين ، كما مرَّ في شرح السابق ، وذلك أنّ صبر فاقده عن شرك اتّباع الظنّ في نفس أحكامه(3) تعالى مشكل جدّا ، وليس المراد العلم بما يؤمن به فقط ، فإنّه شرط في الإيمان ، والمعاون لا يكون شرطا .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ) ؛ بكسر المهملة : الأناة ، وهي ترك الانتقام . والمراد هنا المداراة المذكورة في السابق .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُّ) ؛ بكسر المهملة : ضدّ العنف ، وهو لين الكلمة المذكور في السابق . .

ص: 406


1- البقرة
2- : 159 .
3- في «د» : «أحكام اللّه» بدل : «أحكامه» .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ الْعِبْرَةُ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة : الاسم من الاعتبار ، وهو التأمّل في سوء عاقبة ترك من ترك الرفق بالخُرق والعنف ليعلم أنّ عنفه أيضا مثل ذلك ، وأصله من العبور بمعنى الانتقال ؛ لانتقال فكره من حال عنف غيره إلى حال عنف نفسه .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، قَالَ) ؛ الضمير لأبي عبداللّه عليه السلام : (جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، مَا الْعِلْمُ؟) أي ما الذي يجب رعايته على طالب العلم حتّى يحصل له العلم وينتفع به .

(قَالَ : الاْءِنْصَاتُ) ، هو السكوت للاستماع للحديث ، تقول : أنصتني زيد وأنصت لي زيد ، أي سكت لاستماع حديثي .

(قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟) ؛ أصلها «ما» للاستفهام ، اُبدل الألف هاء السكت .

(قَالَ : الاِسْتِمَاعُ ، قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟(1) قَالَ : الْحِفْظُ) في الخاطر أو في كتاب .

(قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ : الْعَمَلُ بِهِ(2) ، قَالَ : ثُمَّ مَهْ يَا رَسُولَ اللّه ِ؟) . كأنّ زيادة ندائه صلى الله عليه و آله هنا دون سوابقه للإشارة إلى أنّه لم يبق إلاّ هذا السؤال . (قَالَ : نَشْرُهُ) .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، رَفَعَهُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : طَلَبَةُ العِلْمِ ثَلاثَةٌ) . وجه الحصر أنّ غرضه إمّا الظنّ بالأحكام الشرعيّة الحاصل بالاجتهاد باصطلاح المخالفين ، وإمّا غيره . والثاني : غرضه العلم بالأحكام الشرعيّة ، وهو إمّا للدنيا وإمّا للآخرة ، فاثنان من أهل الباطل وواحد من أهل الحقّ .

إن قلت : ينافي هذا ما مضى في سادس «باب المستأكل بعلمه والمباهي به» من قوله : «من طلب العلم ليُباهي به العلماء أو يُماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار» . فإنّه تثليث لأهل الباطل . .

ص: 407


1- في «ج» : «ثم قال : مه؟» .
2- في «ج» : - «به» .

قلت : ما مضى تثليث قصد أهل الباطل ، وهذا تثنية القاصد منهم وتربيع قصدهم للإشعار بتلازم اثنين منها غالبا ، ولا تَنافي بينهما ؛ لتغاير مفهوم الأقسام في التقسيمين فنقول : مباهاة العلماء هو الاستطالة(1) ، ومماراة السفهاء هو المراء ، وصرف وجوه الناس إليه يشمل الجهل والختل .

(فَاعْرِفْهُمْ) . في نسخة «فاعرفوهم» .

(بِأَعْيَانِهِمْ) أي أنظارهم ، فإنّ نظر كلّ صنف إلى فائدة لطلب العلم غير ما إليه نظر الآخرين ، وهي فيما ذكره بقوله : «صنف» ، إلى قوله : «والعقل» .

(وَصِفَاتِهِمْ) أي لوازم أعيانهم وعلاماتهم التي يُعرف بها كلّ صنف من غيره ، وهو فيما ذكره بقوله : «فصاحب الجهل» إلى آخره .

(صِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْجَهْلِ) . المراد بالجهل هنا الظنّ الحاصل بالاجتهاد المتعارف بين المخالفين للشيعة الإماميّة ، وهو ضدّ العلم .

(وَالْمِرَاءِ) أي الجدال لإظهار الغلبة . والمراد هنا احتجاجات مجتهدي المخالفين المختلفين بعضهم على بعض عن ظنّ ، كما سطّر في كتبهم الفرعيّة الاستدلاليّة .

(وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلاِسْتِطَالَةِ) أي التفضّل والتفوّق .

(وَالْخَتْلِ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المثنّاة فوقُ ، يقال : ختله - كنصر وضرب - وخاتله ، أي خدعه . والمراد خدعة أهل الدنيا من الأغنياء .

(وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْفِقْهِ وَالْعَقْلِ) . الفقه في الأصل الفهم ، أي الفطنة والذكاء ، تقول منه : فقه الرجل كعلم ثمّ نقل إلى العلم ، لأنّه يترتّب على الفطنة غالبا ، ثمّ خصّ عرفا بالقدر المحتاج إليه من علم الشريعة ، تقول منه : فقُه الرجل - كحَسُنَ - فَقاهة بفتح الفاء ، وهو المراد هنا . والمراد بالعقل العمل بمقتضى الفقه .

(فَصَاحِبُ الْجَهْلِ وَالْمِرَاءِ) أي مَن بلغ من الصنف الأوّل مقصوده .

(مُؤْذٍ) ؛ اسم فاعل من الإيذاء ، قال تعالى في سورة الأحزاب : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه َ .

ص: 408


1- في «ج» : «الاستطاعة» .

وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللّه ُ فِى الدُّنْيَا وَالاْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابا مُهِينا»(1) .

(مُمَارٍ ، مُتَعَرِّضٌ لِلْمَقَالِ فِي أَنْدِيَةِ) ؛ جمع نديّ - كرغيف وأرغفة - والنديّ والنادي والندوة والمنتدى : مجلس القوم ومتحدّثهم ، وقيل : جمع النادي أندية .(2) انتهى . ولعلّه على خلاف القياس ؛ لأنّ قياس أفعلة أن يكون مفردها على أربعة أحرف ثالثها مدّة .

(الرِّجَالِ) أي تلاميذه ونحوهم .

(بِتَذَاكُرِ الْعِلْمِ) ؛ بالموحّدة حرف جرّ ، والظرف متعلّق بمتعرّض أو بالمقال ، والتفاعل هنا للتكرار والمبالغة ، نحو : تبارك وتعالى ، وأصله أنّ الفعل الصادر عن اثنين فصاعدا نحو : تضاربا وتضاربوا يكون فيه مغالبة ومبالغة وتكرار غالبا . والمراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، كما في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(3) .

(وَصِفَةِ الْحُلْمِ) . معطوفٌ على تذاكر ، والصفة مصدر قولك : وصفته : إذا مدحته ، كما في سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»(4) ، ويجيء بيانه في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني عشر «باب مجالسة أهل المعاصي» .

و«الحُلم» بالضمّ وبضمّتين : الفاسد ممّا يرى في النوم ، كما في آية سورة يوسف : «قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْءَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ»(5) ، وفي سورة الأنبياء : «بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ»(6) ، وفي سورة الطور : «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا»(7) . وتقسيم ما يرى في .

ص: 409


1- الأحزاب (33) : 57 .
2- المصباح المنير، ص 598 (ندا).
3- آل عمران (3) : 19 .
4- النحل (16) : 116 .
5- يوسف (12) : 44 .
6- الأنبياء (21) : 5 .
7- الطور (52) : 32 .

النوم إلى الفاسد وغير الفاسد مذكور في «كتاب الروضة» في ذيل حديث الرؤيا .(1)

شبّه تأويلات أهل الاجتهاد للآيات البيّنات المحكمات على هواهم بالخيالات الفاسدة ممّا يرى في النوم ، والمقصود أنّه يذكر واحدة واحدة من تلك الآيات ، ويؤوّلها(2) بخيالات فاسدة ، ويمدح تأويله السخيف مع علم قلبه بأنّه كذب ولهو ، وأنّه كفر بآيات اللّه لئلاّ ينسدّ عليه باب الإفتاء والقضاء ، قال تعالى في سورة الفرقان : «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّا وَعُمْيَانا»(3) .

وكون الحلم بالكسر بمعنى الأناة والعقل لا يناسب هذا المقام .

(قَدْ تَسَرْبَلَ بِالْخُشُوعِ ) . السربال بكسر المهملة : القميص أو الدرع أو كلّ ما لُبِسَ ؛ يقال : تسربل به ، أي جعله سربالاً لنفسه(4) . والمراد أنّه في زيّ الخاشعين في اللِّباس والإتيان بالنوافل ونحو ذلك .

(وَتَخَلّى مِنَ الْوَرَعِ) أي لا ورع في قلبه ؛ لأنّه كفر بآيات اللّه .

(فَدَقَّ اللّه ُ مِنْ هذَا خَيْشُومَهُ ، وَقَطَعَ مِنْهُ حَيْزُومَهُ) . جملة خبريّة ، و«من» في الموضعين للتعليل ، أي من أجل مقاله المذكور . و«الخيشوم» بفتح المعجمة وسكون الخاتمة : أقصى الأنف.(5) والمراد هنا الدماغ .

و«قطع» بصيغة المعلوم من باب منع ، والضمير في «منه» لما اُشير إليه بهذا . و«الحيزوم» بفتح المهملة وسكون الخاتمة والزاي : الفرس الذي شدّ حزامه وتهيّأ للمعارك ، كما في «كتاب الروضة» بعد حديث الفقهاء والعلماء من حكاية قول جبرئيل عليه السلام أو الملائكة : «أقدِم حيزوم» .(6) استعير هنا للسان السليط . .

ص: 410


1- الكافي ، ج 8 ، ص 91 ، ح 62 .
2- في «ج» : «يؤلها» .
3- الفرقان (25) : 73 .
4- لسان العرب ، ج 11 ، ص 335 ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 357 (سربل) ، المصباح المنير ، ص 272 (سرب) .
5- لسان العرب ، ج 12 ، ص 178 (خشم) ؛ المصباح المنير ، ص 170 (الخيشوم) .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 321 ، ح 502 . وأراد بذلك : أقدم يا حيزوم ، فحذف حرف النداء ، وحيزوم اسم فرس جبرئيل عليه السلام .

وفي هذا الكلام إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء : «لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»(1) .

(وَصَاحِبُ الاِسْتِطَالَةِ وَالْخَتْلِ ذُو خِبٍّ) ؛ بكسر المعجمة وشدّ الموحّدة : هيجان البحر(2) ، استُعير هنا للمباهاة وخشونة الكلام .

(وَمَلَقٍ) بفتحتين : الودّ واللطف وأن يعطي باللسان ما ليس في القلب .

(يَسْتَطِيلُ عَلى مِثْلِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ ، وَيَتَوَاضَعُ لِلاْءَغْنِيَاءِ مِنْ دُونِهِ) . استئناف لبيان موضع خبّه وملقه ، وأنّ خبّه عند العلماء وملقه عند الأغنياء . والمراد ب «مثله» المساوي له في مرتبة العلم تقريبا أو تحقيقا ، وب «أشباهه»(3) بفتح الهمزة: المشاركون له في الدِّين ، وهم الشيعة الإماميّة ، وبدونه المخالف له في الدِّين . و«من» في الموضعين تبعيضيّة .

(فَهُوَ لِحَلْوَائِهِمْ هَاضِمٌ) . الفاء للتفريع على التواضع . والحلواء بفتح المهملة وسكون اللام والمدّ(4) معروف ، واستُعير هنا للكلمات السخيفة التي يستحليها ويتفكّه(5) بها أكابر المخالفين في مجالسهم من صفة الحُلم والطعن على الشيعة الإماميّة . والمراد بهضمها التغافل بعد سماعها للطمع في أموالهم ، أو استُعير لعطاياهم تشبيها لهم بالأموات ولعطاياهم بحلواء الأموات .

(وَلِدِينِهِ حَاطِمٌ) . المراد بدينه بكسر المهملة : مذهب الشيعة الإماميّة ، والحطم : الكسر ؛ يعني أنّ هذا الرجل شين وعيب لدينه ؛ إذ يذهب إلى باب المخالف ويسمع الطعن على(6) أهل دينه ، فيتغافل للطمع . .

ص: 411


1- الأنبياء (21) : 17 - 18 .
2- العين ، ج 4 ، ص 145 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 117 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 342 ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 4 (خبب) .
3- في «د» : «بالأشباه» .
4- في «د» : «ومدّ» .
5- في «د» : «ويتفكر» .
6- في «ج» : «إلى» .

(فَأَعْمَى اللّه ُ) . يُقال : عَمِي عليه الخبر - كعلم - : إذا خفي عليه ، وأعماه : إذا أخفاه . والجملة خبريّة أو دعائيّة .

(عَلى هذَا) . «على بنائيّة» والإشارة إلى ما ذكر من صفته ، أو صلة أعمى ، والإشارة إلى الموصوف .

(خَبَرَهُ ؛ بفتح المعجمة والموحّدة : واحد الأخبار ، أو بكسر المعجمة وقد يضمّ وسكون الموحّدة : العلم بالشيء .

(وَقَطَعَ مِنْ آثَارِ الْعُلَمَاءِ أَثَرَهُ) . الأثر بفتحتين : ما بقي من رسم الشيء ؛ أي جعله اللّه بحيث لم يبق عنه أثر فيما بقي من آثار العلماء .

(وَصَاحِبُ الْفِقْهِ وَالْعَقْلِ ذُو كَآبَةٍ) ؛ بفتح الكاف والهمز والألف والموحّدة ، وقد يحذف الألف فيسكن الهمزة : سوء الحال والانكسار الظاهر في الوجه من الحزن ، والفعل - كعلم - .

(وَحَزَنٍ) في قلبه لخوف أهوال(1) يوم القيامة (وَسَهَرٍ) ؛ بالمهملة والهاء المفتوحتين من باب علم : ضدّ النوم في الليل .

(قَدْ تَحَنَّكَ فِي بُرْنُسِهِ) . استئنافٌ لبيان ما سبق . وهذا ناظر إلى الكآبة والحزن . والتحنّك بالمهملة والنون : إدارة العمامة من تحت الحنك .(2) استُعير هنا للسكوت في المجالس ، كما هو عادة أهل الكآبة والحزن ، ومنه : حنَّك السِنُّ فلانا تحنيكا : إذا أحكمته التجارب ، فعرف أنّه لو كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب .

والبرنس - بضمّ الموحّدة وسكون المهملة وضمّ النون والمهملة - : ثوب الخشوع ، وهو ثوب غليظ يستحبّ لبسه في الصلاة ، كما يجيء في «كتاب الزيّ والتجمّل والمروءة» في رابع «باب لبس الصوف» وأوّل «باب القلانس» . وقيل : كلّ ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبّة أو مِمطَر أو غيره .(3) وقيل : هو قلنسوة طويلة .

ص: 412


1- في «ج» : «أحوال» .
2- لسان العرب ، ج 10 ، ص 417 (حنك) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 122 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 26 ؛ تاج العروس ، ج 8 ، ص 203 (برنس) .

كان يلبسها النسّاك في صدر الإسلام .(1) وهو من البِرس بكسر الموحّدة وسكون المهملة : القطن ، والنون زائدة(2) . وقيل : إنّه غير عربي(3) والضمير لصاحب .

(وَقَامَ اللَّيْلَ فِي حِنْدِسِهِ) . هذا ناظر إلى السهر ، والحندس بكسر المهملة وسكون النون وكسر الدال المهملة والسين المهملة : ظلمة الليل ، وقد يُطلق على الليل المظلم .(4) والضمير لليل أو لصاحب .

(يَعْمَلُ) أي للآخرة (وَيَخْشى) أي يخاف اللّه ويتّقي ، إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ»(5) ، أو يخاف أن لا يقبل عمله .

(وَجِلاً) ؛ بفتح الواو وكسر الجيم ، مأخوذ من الوجل بفتح الجيم ، وهو اضطراب القلب من الخوف .(6)

(دَاعِيا) أي طالبا من اللّه ثوابه وقضاء حوائجه ، أو داعيا لغيره إلى مثل ما هو فيه بلسان الحال لا بحسب النطق والمقال ، فإنّ الناس إذا رأوا من أحد حسن عبادة مالوا إليه ، فكأنّ من أحسن عبادة اللّه يدعو الناس إلى ذلك .

(مُشْفِقا) ، مأخوذٌ من الشفق بفتحتين ، وهو الرديء . يُقال : ثوبٌ شفق ، أي رديء خَلِق .(7) والمراد هنا المنكسر الحال ، ويحتمل أن يكون بمعنى الشفيق ، من الشفق بمعنى حرص الناصح على إصلاح المنصوح ، وهو بلسان الحال لا بالمقال بقرينة قوله :

(مُقْبِلاً عَلى شَأْنِهِ ) أي على إصلاح نفسه ، لا يتوجّه إلى إصلاح الغير لفظا ؛ لعدم التأثير ، كما بدل عليه قوله :

(عَارِفاً بِأَهْلِ زَمَانِهِ) أي بحال أهل زمانه من أنّهم أهل باطل لا يؤثّر فيهم الكلام . .

ص: 413


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 908 ؛ وحكاه عنه في النهاية ، ج 1 ، ص 122 (برنس) .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 122 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 26 ؛ تاج العروس ، ج 8 ، ص 203 (برنس) .
3- حكاه في النهاية ، ج 1 ، ص 122 (برنس) بلفظ قيل .
4- العين ، ج 3 ، ص 332 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 387 (حندس) .
5- المائدة (5) : 27 .
6- العين ، ج 6 ، ص 182 ؛ الصحاح ، ج 5 ، ص 1840 (وجل) .
7- العين ، ج 5 ، ص 44 ؛ غريب الحديث للحربي ، ج 1 ، ص 26 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1502 (شفق) .

(مُسْتَوْحِشا مِنْ أَوْثَقِ إِخْوَانِهِ) أي شركائه في الدِّين . والمراد أنّه لا يُطْلِعه على سرّه الذي لو ذاع لضرّ ؛ لأنّه لا يناسب كمال التقيّة ، فلا ينافي هذا ما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع عشر «باب حسن الخلق» من قوله عليه السلام : «لا خير فيمن لا يألَف ولا يُؤلَف» .

(فَشَدَّ اللّه ُ مِنْ هذَا أَرْكَانَهُ) أي أحكم اُصول دينه ، فهو أثبت في دينه من الجبال الرواسي .

(وَأَعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَانَهُ) . خبرٌ لتحقّق الوقوع ، أو دعاء .

(وَحَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ الْقَزْوِينِيُّ ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أحْمَد(1) الصَّيْقَلِ بِقَزْوِينَ) : متعلّق بصيقل ، وقيل : بقوله : «عن عدّة» . (عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى الْعَلَوِيِّ ، عَنْ عَبَّادِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الموحّدة . (بْنِ صُهَيْبٍ) ، مصغّرا . (الْبَصْرِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ رُوَاةَ الْكِتَابِ) أي القرآن (كَثِيرٌ ، وَإِنَّ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ) . أخبر بالمفرد عن الجمع ؛ لأنّه متعدّد في المعنى .

والمقصود أنّ أكثر الاُمّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله نبذوا أحكام كتاب اللّه بوجهين ، كلّ منهما لترجيحهم أمرا آخر على حفظ أحكام الكتاب : الأوّل : أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه . والثاني : ما أشار إليه بقوله : (وَكَمْ) ؛ خبريّة بمعنى كثير ، وهي مرفوعة المحلّ بالابتداء .

(مِنْ مُسْتَنْصِحٍ لِلْحَدِيثِ) . اللام للعهد الذهني ، ويحتمل الجنس ، يقال : استنصحه : إذا عدّه نصيحا ، أي خالصا لا غشّ فيه .

(مُسْتَغِشٌّ) ؛ بالرفع ، خبر المبتدأ ، يُقال : استغشّه : إذا عدّه مغشوشا غير خالص .

(لِلْكِتَابِ) . بيان حال النواصب أو الحشويّة منهم ، فإنّهم على ما ذكره الشيخ المفيد .

ص: 414


1- في الكافي المطبوع : «محمّد» .

رحمه اللّه تعالى في كتاب الإفصاح(1) أربع طوائف : الحشويّة والمرجئة والمعتزلة والخوارج ، وقال فيه : الحشويّة أصحاب الحديث(2) ؛ يعني الأشاعرة ؛ لأنّهم أشدّ استنصاحا للحديث واستغشاشا للقرآن ، وهم يسمّون أنفسهم أهل السنّة إشارة إلى الاستنصاح . والحشو من الكلام : ما خرج من النظام . ويجيء بيان المرجئة وغيرهم في ثاني «باب التقليد» .

المقصود أنّ أكثر الاُمّة نبذوا أحكام الكتاب عمدا بعد رسول اللّه لأحاديثَ موضوعةٍ مكذوبةٍ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

بيان نبذهم الكتاب : أنّهم نصبوا الذين لا يعلمون للإمامة ، فسنّوا للناس القول على اللّه بالاجتهاد والظنّ بغير علم ، وذلك لاستنصاحهم حديث معاذ في تصويبه عليه السلام قوله : أجتهد رأيي(3) . وحديث عمرو بن العاص في أجر المخطئ في الاجتهاد وأجرَيِ المُصيب(4) ، ونحو ذلك من أحاديثهم ، مع أنّ النهي عن القول على اللّه بغير علم معلوم لكلّ أحد من محكمات القرآن ، كما مرَّ بيانه في ثاني عشر «باب العقل» فمن استنصح أمثال هذه الأحاديث استغشّ محكمات القرآن .

(فَالْعُلَمَاءُ) . هذا إلى قوله : «حفظ الرواية» ناظر إلى قوله : «إنّ رواة» إلى قوله : «قليل» . والفاء للتعقيب ، فإنّ هذا لبيان اختلاف حال الخلف بعدما علموا حال السلف .

(يَحْزُنُهُمْ) ؛ بالمهملة والزاي والنون يمكن أن يكون من باب الإفعال ، وأن يكون من المجرّد ، يُقال : حزنه الشيء - كنصره وضربه - وأحزنه : إذا جعله في فكر ذلك الشيء ، وكان عمدةً عنده بالنسبة إلى غيره ، سواء كان مكروها عنده ، أم محبوبا يخاف فوته . .

ص: 415


1- في «د» وحاشية «أ» : «الإيضاح».
2- الإفصاح ، ص 226 .
3- مسند احمد ، ج 5 ، ص 230 ؛ سنن الدارمي ، ج 1 ، ص 60 ؛ الذريعة ، ج 2 ، ص 773 ؛ عدة الأصول ، ج 1 ، ص 356 .
4- حكاه الشافعي في الرسالة ، ص 494 ، باب الاجتهاد ؛ كتاب الاُمّ ، ج 6 ، ص 216 ، كتاب الاقضية ؛ و ج 7 ، ص 99 ، باب في اجتهاد الحاكم ؛ و ص 292 .

(تَرْكُ الرِّعَايَةِ) أي ترك أكثر الاُمّة رعاية الكتاب . والمقصود أنّ تركهم رعاية الكتاب هو العمدة في نظر العلماء وأكبر من حفظهم الرواية ، ولذلك يرفضهم العلماء . والأكبريّة هنا كما في قوله تعالى : «وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» .(1)الكافي ، ج 8 ، ص 53 ، ح 16 .(2)

(وَالْجُهَّالُ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الرِّوَايَةِ) أي حفظ أكثر الاُمّة رواية الكتاب . والمقصود أنّ حفظهم حروف الكتاب هو العمدة في نظر الجهّال وأكبر عندهم من تركهم الرعاية ، ولذلك يتبعهم الجهّال في نصبهم . وفي «كتاب الروضة» في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير هكذا : «وكلّ اُمّة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم عدوّهم حين تولّوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» الحديث(2) .

«كلّ» مبتدأ خبره جملة «قد رفع» ، والمقصود أنّ ما وقع في هذه الاُمّة من ضلال أكثرهم بترك وصيّ نبيّهم قد وقع في اُمّة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بعد أنبيائهم ، وضمير الجمع في «يعجبهم» للجهّال ، وفي «حفظهم» لاُمّة ، وفي «يحزنهم» للعلماء ، وفي تركهم لاُمّة ، وبعض الأصحاب(3) كتب فوق لفظة «ترك» في قوله : «ترك الرعاية» لفظة «كذا» ، ومقصوده أنّ الظاهر أن يُقال : فالعلماء يحزنهم الرعاية ، لتكون النسبة في الموضعين إلى المحبوب ، وفي الباب الآخر من كتاب السرائر لابن إدريس فيما استطرفه من كتاب اُنس العالم تصنيف الصفواني نقل هذه الرواية بتغيير عن طلحة بن زيد عن أبي عبداللّه عليه السلام وفيها : «العلماء تحزنهم الدراية ، والجهّال تحزنُهُم الرواية» .(4) .

ص: 416


1- البقرة
2- : 219 .
3- في حاشية «أ» : «وهو مولانا محمد أمين الاسترآبادي رحمه الله » .
4- مستطرفات السرائر ، ص 640 ؛ وفيه : «تحريهم» بدل «تحزنهم» . وفي هامش السرائر عن نسختين منه : «تجزيهم» .

(فَرَاعٍ) . هذا إلى آخره ، ناظر إلى قوله : «وكم من» إلى قوله : «للكتاب» ، لكنّ الفاء للتفريع على مجموع ما سبق ؛ لأنّ تحقّق القسم الأوّل - وهو راعي الحياة - لا يظهر إلاّ به .

(يَرْعى حَيَاتَهُ) أي حياة نفسه ، وهو راعي الكتاب المتمسّك بعُرى(1) الدِّين ، وهم الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام .

(وَرَاعٍ يَرْعى هَلَكَتَهُ) ؛ بفتحتين ، أي هلاك نفسه ، وهو راعي الحديث المخالف للكتاب مع علمه بذلك لاتّباع الهوى والتلبيسات لكتمان ما أنزل اللّه .

(فَعِنْدَ ذلِكَ اخْتَلَفَ الرَّاعِيَانِ) . الفاء للتفريع ، والمشار إليه ما يفهم من قوله : «فراع» إلى آخره . وهو كونهما متعمّدين عالمَين ، فإنّه مع تصريح اللّه تعالى في محكمات كتابه على خلاف أحاديثهم ؛ أي لولا تمام الحجّة عليهم بالصدق والعدل لم يختلف الراعيان بأن يكون أحدهما من أهل الرحمة ، والآخَر من أهل الغضب .

وفي «كتاب الروضة» في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير قبل ما مرّ «إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه ، ثمّ أمكن أهل السيّئات من التوبة بتبديل الحسنات دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوتٍ رفيع لم ينقطع ، ولم يمنع دعاءً عباده ، فلعن اللّه الذين يكتمون ما أنزل اللّه ، وكتب على نفسه الرحمة ، فسبقت قبل الغضب ، فتمّت صدقا وعدلاً ، فليس يبتدئ العباد بالغضب قبل أن يغضبوه ، وذلك من علم اليقين وعلم التقوى» . ثمّ قال بعدما مرّ : «وكان من نبذهم الكتاب أن ولّوه الذين لا يعلمون ، فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيّروا عُرى الدِّين» الحديث(2) .

والمراد بالهوى ميل النفس إلى الدنيا وما يترتّب عليه من الاجتهاد في نفس أحكامه تعالى في الدِّين ، وبالردى العذاب أو العمل بالاجتهاد .

(وَتَغَايَرَ الْفَرِيقَانِ) أي فريق في الجنّة وفريق في السعير . .

ص: 417


1- جمع «عروة» .
2- الكافي ، ج 8 ، ص 52 ، ح 16 .

السابع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ) ؛ بضمّ الجيم . (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ حَفِظَ مِنْ أَحَادِيثِنَا أَرْبَعِينَ حَدِيثا ، بَعَثَهُ اللّه ُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِما فَقِيها) . معنى حفظ الحديث أن يراعي شروط عمله به فيصير عالما ، ويعمل به فيصير فقيها ، والمراد بأحاديثنا الأحاديث المختصّة بأهل البيت عليهم السلام في المسائل المختلف فيها بين الاُمّة ، وذكر الأربعين مبنيّ على أنّ أكثر الناس لا يحتاجون إلى أكثر منها في المسائل المُختلَف فيها .

الثامن : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ) ؛ بفتح المعجمة وشدّ المهملة ، (عَنْ أَبِي عبداللّه عليه السلام (1) فِي قَوْلِ اللّه ِ تبارك وتعالى)(2) في سورة عبس :(«فَلْيَنْظُرِ الاْءِنْسَانُ إِلى طَعَامِهِ»(3) قَالَ : قُلْتُ : مَا طَعَامُهُ؟ قَالَ : عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ ، عَمَّنْ يَأْخُذُهُ؟) .

المراد بالعلم الحديث ، و«من» استفهاميّة . ولعلّ المقصود أنّ من أحد بطونه أن يُراد بالطعام العلم ، لأنّه غذاء الروح ، كما أنّ الطعام غذاء البدن . ويُراد بالنظر إلى العلم تمييز من يصحّ أخذه عنه ممّن لا يصحّ ، ويجيء بيانه في عاشر الباب .

ويناسب هذه الإرادة أن يُراد بقوله : «ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ»(4) ثمّ خذله وختم على قلبه ، كقوله : «ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ»(5) ، وقوله في سورة فاطر : «وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ»(6) ، وبقوله : «ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(7) ، ثمّ إذا شاء أن يوفّقه وفّقه ، وبقوله : «كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ»(8) الردع عن توهّم حصول التوفيق للكفور أو لأكثر الناس ، وتعليله بأنّه لم .

ص: 418


1- في الكافي المطبوع : «أبي جعفر» .
2- في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
3- عبس (80) : 24 .
4- عبس (80) : 21 .
5- التين (95) : 5 .
6- فاطر (35) : 22 .
7- عبس (80) : 22 .
8- عبس (80) : 23 .

يقض بعدُ ما أمره اللّه به بناءً على أنّ من شروط الإتيان بالمأمور به إذا لم يكن مذكورا في المحكمات أن يكون علمه مأخوذا عمّن يصحّ الأخذ عنه من أهل الذِّكر عليهم السلام .

ويحتمل أن يكون العائد إلى «ما» الضمير المنصوب المذكور ، ويكون الضمير المرفوع المستتر في «أمر» راجعا إلى الإنسان ؛ أي ولم يقض بعد ما أمر غيرَه به ، بمعنى أنّه عالم بلا عمل أو بمعنى أنّه آمر بلا علم .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الزُّهْرِيِّ) ؛ بضمّ الزاي وسكون الهاء المهملة .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ) أي أقلّ ضررا (مِنَ الاِقْتِحَامِ) ؛ هو الدخول في الشيء من غير تأمّل . (فِي الْهَلَكَةِ) ؛ بفتحتين ، أي ما يُفضي إلى الهلاك .

والمقصود بيان حظر الفتوى الحقيقي بدون علم بالحكم الواقعي ، وحظر العمل الذي يمكنه تركه بلا بدلٍ مثله بدون علم بالحكم الواصلي ، لكن بيّنهما بحيث يظهر به سرّ حظرهما ، وهو أنّ ما يحتمله الترك حينئذٍ من المفسدة أقلُّ بكثير ممّا يحتمله الفعل منها ، فإنّ غاية ما يتصوّر في الترك من المفسدة أن يكون التارك واقفا عن الإتيان بكلامٍ صادق أو بفعل جائز ، وما يحتمله الفعل من المفسدة أن يكون آتيا بكذب على اللّه أو بفعلٍ نهى اللّه عنه ، وكلّ منهما هَلكة إن كان مع الاقتحام .

ومعنى الاقتحام أنّه لا برهان عنده على جوازه الواصلي ، ولذا لا يمنع العمل بخبر الواحد ونحوه ، مع أنّ فيه احتمال الخطأ للحكم الواقعي ، وذلك لأنّ الحكم الواصلي فيه معلوم ، فليس من الشبهة .

(وَتَرْكُكَ حَدِيثا) . هذه الجملة للترقّي عن السابق .

(لَمْ تُرْوِهِ) ؛ بسكون المهملة وكسر الواو ، والضمير ، بصيغة المضارع المعلوم المخاطب من باب ضرب ، والجملة صفة «حديثا» ومفهومها إثبات ضبطه وإثبات العمل به ؛ أي ترك روايتك حديثا حفظته وعملت بمقتضاه .

ص: 419

(خَيْرٌ) ؛ أي أقلّ ضررا .

(مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثا لَمْ تُحْصِهِ) ، بصيغة المضارع المعلوم المخاطب من باب الإفعال ، والجملة صفة حديثا ، والإحصاء : الضبط .

العاشر : (مُحَمَّدٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح الكاف وسكون الخاتمة ومهملة . (عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الطَّيَّارِ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الخاتمة .

(أَنَّهُ عَرَضَ) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب . (عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام بَعْضَ خُطَبِ أَبِيهِ ، حَتّى إِذَا بَلَغَ مَوْضِعا مِنْهَا) ؛ كأنّه كان في ذلك الموضع النهي عن القول على اللّه بغير علم وعن العمل بغير علم .

(قَالَ لَهُ : كُفَّ) ؛ بضمّ الكاف وتشديد الفاء المفتوحة أو المكسورة أو المضمومة ، أمر من باب نصر ، يقال : كففته عنه ، أي دفعته وصرفته فكفّ ، هو لازم و(1) متعدّ ، أي انصرف أو اصرِف نفسك عن العرض أو عن العمل بغير علم .

(وَاسْكُتْ) أي لا تتكلّم بشيء آخر أيضا للاستماع ، أو اسكت عمّا لا تعلم من القول على اللّه .

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لا يَسَعُكُمْ) ؛ من باب علم ، والأصل : يوسَع ، والوسعة : ضدّ الضيق ، أي لا يجوز عليكم .

والمقصود بهذا الحديث بيان حظر الفتوى بسبب الاجتهاد وحظر العمل بالاجتهاد ، سواء كان العامل المجتهد نفسه أم مقلّدا له .

(فِيمَا يَنْزِلُ بِكُمْ) . «ما» عبارة عن الواقعة ، كميراث بين أخ وجدّ ، يُقال : نزله وبه وعليه - كضرب - أي حلّ .

والنزول بالمخاطبين هنا يتصوّر على وجهين : الأوّل : أن يكونوا في معرض .

ص: 420


1- في «أ ، د» : - «و» .

الفتوى به ، كأن يكونوا مسؤولين عنه . الثاني : أن يكونوا في معرض العمل به ، كأن يشتهوا قسمة الميراث بين الأخ والجدّ ، أو يشتهوا أكل نوع من السمك مع حضوره .

(مِمَّا لاَ تَعْلَمُونَ) أي ليس لكم علم بحكمه حقيقةً ، وهو ظاهر ؛ ولا حكما ، وهو أن يمكن أن يعلم حكمه بمحكم القرآن ونحوه ، كمحكم الحديث المتواتر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكذا إجماع الاُمّة ، سواء استقلّت العقول بالظنّ به ، كما هو مذهب أهل الاجتهاد في المسائل الفرعيّة الخلافيّة بينهم ، أم لم تستقلّ بالظنّ به أيضا ، كما هو مذهب من يقول(1) : إنّ ما يجد المجتهدون المختلفون في الفروع أنفسهم عليه اعتقادٌ مبتدأٌ ، لا ظنّ عن أمارة .(2) وسواء كان ما لا يعلمون من مسائل اُصول الدِّين ، أم من اُصول الفقه أم من الفروع الفقهيّة .

(إِلاَّ الْكَفُّ عَنْهُ) أي كفّ النفس عن الفتوى به وعن العمل مهما أمكن ، خوفا من الإفراط أو التفريط .

(وَالتَّثَبُّتُ) . يُقال : تثبّت في الأمر واستثبت فيه : إذا تأنّى ، أي والتأنّي والتأمّل فيه لطلب وجه الصواب فيه خوفا من أن يسأل عنه من لا يعلم ، فيزيد العمى ، وهو للتكلّف ، كأنّه طلب من نفسه الثبات فيه كما في «تحلّم» .

وفيه وفي لفظ «الكفّ» إشارة إلى أنّ النفس تنازع في مثله إلى القول بالاجتهاد والعمل على وفقه .

(وَالرَّدُّ إِلى أَئِمَّةِ الْهُدى) أي سؤالهم عنه ، ومنه تتبّع ما روي عنهم في زمن الغيبة بشروط معلومة ، بحيث يُفضي إلى العلم بالحكم الواقعي إن كان في معرض القول فيفتي به ، أو بالحكم الواصلي إن كان في معرض العمل فيعمل به .

وفيه دلالة على أنّ اجتهاد أحد ليس مجوّزا لفتواه ولا لقضاه ، ولا لعمله ، سواء كان فيما ليس عنده حديث من أهل الذِّكر فيه ، أم فيما فيه حديث منهم عنده ، لكن كان .

ص: 421


1- في حاشية «أ ، د» : «هو السيد المرتضى رحمه الله تعالى والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي (منه)» .
2- الشافي في الإمامة ، ج 1 ، ص 171 .

الاجتهاد في ترجيح أحد المتعارضين منه ، أو في تأويل ظاهر منه ، أو في تخصيص عامّ منه ، أو في نحو ذلك .

(حَتّى) ؛ بمعنى «كي» التعليليّة ، كقوله : «وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ»(1)الصحاح ، ج 6 ، ص 2304 ؛ لسان العرب ، ج 14 ، ص 152 (جلا) .(2) . (يَحْمِلُوكُمْ) ؛ من باب ضرب ، يُقال : حمله على الأمر : إذا أغراه به .

(فِيهِ عَلَى الْقَصْدِ) ؛ بالفتح : استقامة الطريق والوسط بين الإفراط والتفريط في القول والفعل . وهو ناظر إلى قوله : «الكفّ عنه» .

(وَيَجْلُوا) ؛ بفتح ياء المضارعة وسكون الجيم وضمّ اللام ، وفيه ضمير الجمع الراجع إلى أئمّة الهدى ، يُقال : جلا الهمَّ عنه ، أي أذهبه .(2)

(عَنْكُمْ فِيهِ الْعَمى) ؛ بفتح المهملة ، أي الجهل بالكلّيّة . وهو ناظر إلى قوله : و«التثبّت» .

(وَيُعَرِّفُوكُمْ) ؛ من باب التفعيل ، أي يعلّموكم .

(فِيهِ الْحَقَّ) . هو ناظر إلى قوله : «والردّ إلى أئمّة الهدى» .

إن قلت : قد يكون جواب أئمّة الهدى مبنيّا على تقيّة ، أو على إرادة خلاف الظاهر بتأويل ، أو تخصيص غير معلوم لنا ، أو يكون فيه إجمال ، فلِمَ يحملونّا حينئذٍ على القصد ولم يجلو العمى ولم يعرّفونا الحقّ؟

قلت : عنه جوابان :

الأوّل : أنّه ليس في الحديث دلالة إلاّ على أنّ أئمّة الهدى يتأتّى منهم هذه(3) ؛ لعلمهم بجميع ما يسألون عنه من الشريعة حتّى ما لم يعلمه الرعيّة من جهة النبيّ ، ويجب الردّ إليهم فيه لطلب هذه ثمّ العمل بما قالوا ، فإن كان السائل من خواصّهم المنقطعين إليهم المزاولين لأحاديثهم حصل له هذه غالبا ، ولا سيّما في المشافهة ، وإن لم يحصل له .

ص: 422


1- البقرة
2- : 217 .
3- في حاشية «أ» : «أي هذه الثلاثة وهي الحمل والجلاء والتعريف» .

هذه فلا بأس عليه إذا فعل ما اُمر به من السؤال ، إنّما عليه حينئذٍ العمل بقولهم بدون إفتاء ولا قضاء حقيقيّين . وأمّا الإفتاء والقضاء الغير الحقيقيّين - وهما رواية الحديث عنهم ليعمل به في غير منازعة وفي منازعة - فجائزان له .

الثاني : أنّ جوابهم وإن كان تقيّة أو خلاف الظاهر أو مجملاً ، كان حاملاً على القصد حينئذٍ ، وجاليا للجهل بالكلّيّة ، ومعرِّفا للحقّ ، فإنّه يُعلَم به الحكم الواصلي ؛ إمّا معيّنا كما في الظاهر ، أو مخيّرا كما في المجمل ؛ إذ ليس على المكلّف في مثل هذا إلاّ سؤالهم والعمل بما قالوا ، وسيجيء في سابع «باب اختلاف الحديث» قوله : «من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا ، فليكتف بما يعلمه(1) منّا» إلى آخره . مع شرحه .

إن قلت : الجواب الأوّل مبنيّ على جعل «حتّى» بمعنى «كي» ، والاستشهاد بالآية بدل على أنّها بمعنى «إلى» نحو قوله : «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى»(2) ، فإنّ المعلّق على شرط - وهو هنا عدم العلم - يتكرّر بتكرّر الشرط ، ويدوم بدوامه .

قلت : زيادة «كنتم» في الشرط للدلالة على أنّ الشرط في معنى الماضي كقوله : «إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ»(3)هود (11) : 34 .(4) و«إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ»(5) ، و«إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(5) ، وما ذكرتم على تقدير صحّته إنّما هو في الشرط المستقبل .

(قَالَ اللّه ُ تَعَالى) ؛ في سورة الأنبياء : («فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(6)) ؛ يعني أنّ المراد بأهل الذِّكر العلماء بجميع كتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء ، وهم أئمّة الهدى . ويجيء في «كتاب الحجّة» في «باب أنّ أهل الذِّكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمّة عليهم السلام » روايات في هذا المعنى :

منها : عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه .

ص: 423


1- في الكافي المطبوع : «يعلم» بدل «يعلمه» .
2- طه (20): 91 .
3- المائدة
4- : 116 .
5- يوسف (12) : 26 .
6- الأنبياء (21) : 7 .

عزّ وجلّ : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» أنّهم اليهود والنصارى ، قال : «إذا يدعونهم(1) إلى دينهم» ، ثمّ قال بيده إلى صدره : «نحنُ أهل الذِّكر ، ونحن المسؤولون»(2) .

ومنها : عن الفضيل عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه تبارك وتعالى : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ»(3) قال : «الذِّكر القرآن ، ونحن قومه ، ونحن المسؤولون»(4) انتهى .

وتوضيحه مع قطع النظر عن الروايات أنّه تعالى قال في سورة النحل : «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاَءَجْرُ الاْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(5) ، وفي سورة الأنبياء : «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الاْءَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ»(6) .

وقال المخالفون(7) في قوله : «هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرسالة ؛ لاعتقادهم أنّ الرسول لا يكون إلاّ مَلَكا(8) ، وقالوا في قوله : «وَمَا .

ص: 424


1- في الكافي المطبوع : «يدعونكم» .
2- الحديث 7 من باب أنّ أهل الذكر الذين ... .
3- الزخرف (43) : 44 .
4- الحديث 5 من باب أنّ أهل الذكر الذين ... .
5- النحل (16) : 41 - 44 .
6- الأنبياء (21) : 2 - 8 .
7- في حاشية «أ ، ج» : «قاله الزمخشري والبيضاوي (منه دام ظله)» .
8- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 82 .

أَرْسَلْنَا» إنّه جواب لقولهم : «هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرُّسل المتقدِّمة لتزول عنهم الشبهة ، والإحالة إليهم إمّا للإلزام ؛ فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبيّ ويثقون بقولهم ، أو لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم ، وإن كانوا كفّارا .(1) انتهى .

ثمّ قالوا : إنّ الآية تدلّ على وجوب مراجعة المقلّدين إلى المجتهدين . انتهى .

وفيه : أنّهم لو كانوا استدلّوا بكونه بشرا لما قالوا : «كَمَا أُرْسِلَ الاْءَوَّلُونَ» إنّما استدلّوا بمجموع كونه بشرا مثلكم ، ومعنى المثليّة أنّه لا فضل له في كمالات البشر عليكم . فالحاصل أنّه لا فضل له عليكم أصلاً ؛ لأنّ التفاوت في الفضل إمّا من جهة الجنس بأن يكون مَلَكا مثلاً وهو بشر ، وإمّا من جهة كمالات الجنس وهو مثلكم ، وأيضا يكفي في ردّ السلب الكلّي الإيجاب الجزئي ، ومعلوم لكلّ من عرف أهل الكتاب بدون سؤالهم أنّهم يعتقدون رسالة رجلٍ : موسى أو عيسى .

ودعوى الذين ظلموا مكابرة لمعارضة المعجزات ، فلا حاجة إلى مقابلتهم بالدعوى ، بل يكفي المنع ، فالقول بأنّه دعوى للحصر في مقابلتهم موكّدا بهذا الدليل - وهو الاستناد إلى قول جمع أخبر(2) عنهم بأنّهم يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ولم يعبّر عنهم في غير ما نحن فيه بأهل الذِّكر ، بل بأهل الكتاب - يحتاج إلى تكلّف .

وأيضا يصير قوله : «نُوحِى إِلَيْهِمْ» كاللغو ، وكذا الفاء ؛ لأنّ المقام مقام الاستئناف البياني ، وكون الفاء فصيحة في جزاء شرط محذوف ، كقوله : «فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ» بعيد ؛ لأنّه لا يذكر بعد الفصيحة شرط ، وقد ذكر هنا بقوله : «إِنْ كُنْتُمْ» .

وأيضا ظاهر السياق حينئذٍ أن يقول بدل «قبلك» : «قبله» أو بدل «فاسألوا» إلى آخره : «فليسأل» إلى آخره .

وأيضا أمر مكابرين بسؤال كافرين ليس إلاّ للتبكيت ، ولا يكون للتكليف حتّى يكون دليلاً للمخالفين على وجوب مراجعتهم إلى مجتهديهم . .

ص: 425


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 84 . وفي الكشاف ؛ ج 2 ، ص 562 بالمضمون .
2- في «أ» : «أخير» .

وأمّا قوله تعالى في سورة يونس : «فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ»(1) ، فهو كقوله في سورة الزخرف : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا»(2) ، وليسا ممّا نحن فيه ، كما مرّ بيانهما في ثاني عشر «باب العقل» عند قوله : «يا هشام ما بعث اللّه أنبياءه ورسله [إلى عباده(3)] إلاّ ليعقلوا عن اللّه» .

والأقرب أنّ الآيتين السابقتين كاللاحقتين للنهي عن اتّباع الاجتهاد المتضمّن للقول على اللّه بغير علم ، بل بالظنّ والرأي ، وللعمل في الشرعيّات بالظنّ والرأي ، مع بيان أنّ هذا النهي ممّا جاء به كلّ رسول إلى اُمّته .

ويمكن تقريرهما حينئذٍ بوجهين :

الأوّل وهو الأنسب بقوله تعالى في سورة يوسف : «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللّه ِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللّه ِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى»(4) ، وبقوله تعالى في سورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ»(5) أنّ المراد برجالاً : كاملين في الرجوليّة ، وبقوله : «نوحي إليهم» : نَقِفُهُم في دقيق الأحكام وجليلها على الوحي لا نرخّص لهم في الاعتماد على الرأي أصلاً ، مع كمال عقلهم وذكائهم ، وكونهم من أهل القرى ، وهم أعلم وأبصر من أهل البوادي ، فحاصله : لو جوّزنا الدعاء إلى اللّه على غير بصيرة وعلم ، بل على الاعتماد على الرأي في نفس الأحكام لأحدٍ ، لكان تلك الرسل أولى به ؛ لقربهم إلى اللّه ، وكون رأيهم أقرب إلى الصواب لكمالهم في أنفسهم ، ولكن لم نجوّز لهم ؛ لكونه إشراكا كإشراك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه . وقوله «فاسألوا» تفريع عليه وخطاب لاُمّة رسولنا صلى الله عليه و آله . .

ص: 426


1- يونس (10) : 94 .
2- الزخرف (43) : 45 .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- يوسف (12) : 108 - 109 .
5- الأنبياء (21) : 25 .

الثاني : أنّ المراد بقوله : «إِلاَّ رِجَالاً» بيان أنّ كلّ رسول كان ممّن يحتاج إلى أكل الطعام ويمرض ويموت ، ولم يكن خالدا ما بقي دينه ؛ ردّا لقولهم المحكيّ بقوله تعالى في سورة النحل : «وَأَقْسَمُوا بِاللّه ِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّه ُ مَنْ يَمُوتُ»(1) أي حيث لا يبعث رسول آخر بعده ، وقولُه : «نوحي» استئناف بياني ، كأنّ سائلاً يقول : فَاِلامَ يصير تكليف اُمّته بعد مماته وقبل نسخ دينه ؟

ويحتمل كونه صفة «رجالاً» ، والفاء للعطف على محذوف ، أو مقدّر ، وهي تحت الوحي ، فكأنّه قال : نوحي إليهم أن خذوا معالم دينكم عن رسولكم، أي في حياته «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(2) أي بعد مماته ؛ والذكر : الحفظ للشيء ، وهو ضدّ النسيان . والمراد بالذِّكر هنا وسيلة العلم بجميع أحكام اللّه تعالى كالنبيّ وكالقرآن ، موافقا لآية سورة الطلاق : «قَدْ أَنزَلَ اللّه ُ إِلَيْكُمْ ذِكْرا * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه ِ مُبَيِّنَاتٍ»(3) ، وآية سورة الزخرف : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ»(4) ، باعتبار أنّه محفوظ عند من هو ذكرٌ له دون غيره .

والمراد بالبيّنات : الواضحات ، وهي المقدّمات البديهيّة بالنسبة إلى ذهن كلّ عاقل مكلّف ، وبالزبر : الآيات من كتاب اللّه اللاتي لا نحتاج في العلم بمعناهنّ إلى أمرٍ خارج ، وهنّ المحكمات .

وقوله : «فاسألوا» و«لا تعلمون» لهما مفعول مقدّر ، أي فاسألوهم كلّ شيء إن لم تعلموه . ويؤيّده قوله في هذا الحديث : «فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون» .

ويحتمل أن يكونا جاريين مجرى اللازم ، أي كونوا مقلّدي أهل الذِّكر إن لم تكونوا من أهل الذِّكر . والظرف على الأوّل متعلّق ب «تعلمون» ، وعلى الثاني متعلّق ب «فاسألوا» ، وزيادة «كنتم» في الشرط - مع أنّه يكفي أن يُقال : إن لم تعلموا - تدلّ مع المضارع ، على .

ص: 427


1- النحل (16) : 38 .
2- الأنبياء (21) : 7 .
3- الطلاق (65) : 10 - 11 .
4- الزخرف (43) : 44 .

أنّ الشرط استمرار الجهل في الزمان الماضي ، وهو قبل زمان السؤال المكلّف به ورسوخه ، وإلاّ لما أمر بالسؤال ، فقوله : «بالبيّنات والزبر» متعلّق بتعلمون تأكيدا لما يفهم من «كنتم» ، ولذا حذف في سورة الأنبياء .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ) أي ما ينفع الناس من العلم إذا جروا على مقتضاه .

(كُلَّهُ فِي أَرْبَعٍ :) أي منحصرا في أربع كلمات :

(أَوَّلُهَا :) أي أوّل الكلمات . وتذكير المضاف وإفراد المضاف إليه باعتبار الخبر .

(أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ) أي بصفات ذاته وصفات فعله ، ويجيء في «كتاب الجهاد» في «باب الدُّعاء إلى الإسلام قبل القتال» : «أنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانيّة والرأفة والرحمة والعزّة والعلم والقدرة والعلوّ على كلّ شيء ، وأنّه النافع الضارّ القاهر لكلّ شيء الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يُدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ ما جاء به هو الحقّ من عند اللّه عزّ وجلّ ، وما سواه هو الباطل» .(1) الحديث .

(وَالثَّانِي : أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ) . «ما» موصولة أو موصوفة ، ويحتمل كونها استفهاميّة نائبة مناب مفعول «تعرف» ، وليست مفعوله لفظا ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ؛ أي لا يعمل فيه ما قبله ، ولذا تُعلَّق به أفعال القلوب ، نحو : «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى»(2) ، والتعليق باصطلاح النحاة إبطال العمل لفظا لا محلاًّ .(3)

والمراد بما صنع بك : كونك من الرعيّة والمحتاجين إلى السؤال ، لا من الأئمّة أهل الذِّكر عليهم السلام . ويحتمل أن يكون المراد النِّعم الظاهرة والباطنة التي تُوجب استحقاق .

ص: 428


1- الحديث 1 من باب الدعاء إلى الإسلام قبل القتال .
2- الكهف (18) : 12 .
3- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 155 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 141 .

العبادة والشكر . ويحتمل معاني اُخرى .

(وَالثَّالِثُ : أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ) . الإرادة هنا بمعنى الطلب ؛ أي ما أمرك به ، نحو سؤال أهل الذِّكر فيما لا تعلم ، والتسليم لهم في أحكامهم .

(وَالرَّابِعُ : أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ) أي ما إذا ارتكبته خرجت من دينك كالإصرار على الكبيرة ، وكشِرك اتّباع أهل الرأي وأئمّة الجور والتسليم لهم في أحكامهم .

الثاني عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا حَقُّ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ؟ قَالَ(1) : أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ ، وَيَكُفُّوا عَمَّا لاَ يَعْلَمُونَ) . ظاهر ممّا مرَّ في شرح سابع الثاني عشر .(2)

(فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ فَقَدْ أَدَّوْا إِلَى اللّه ِ حَقَّهُ) فإنّ ذلك يفضي إلى اتّباعهم لأئمّة الهدى في الأحكام ، وهو مشتمل على جميع حقوق اللّه .

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ محمّد(3) ابْنِ سِنَانٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الْعِجْلِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ) ؛ بفتح المهملة وسكون النون وفتح المعجمة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اعْرِفُوا مَنَازِلَ النَّاسِ) أي درجاتهم في العلم ليُعرف من يجوز الاستفتاء منه والتحاكم إليه عمّن لا يجوز . (عَلى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ(4) عَنَّا) أي مَن كان أحفظ لجانب الرواية عنّا فيما يسأل عنه أولى بأن يُتَّبَع .

وتوضيح هذا بخمس مقدّمات :

الاُولى : أنّ جمعا من ثقات أصحاب الأئمّة عليهم السلام اختلفوا في الفتيا ، كما وقع بين محمّد بن أبي عمير وبين أبي مالك الحضرمي وهشام بن الحكم ، ويجيء في «كتاب .

ص: 429


1- في الكافي المطبوع : «فقال» .
2- أي الحديث 7 من باب النهي عن القول بغير علم .
3- في الكافي المطبوع : - «محمد» .
4- في حاشية «أ ، ج ، د» : «رواياتهم» .

الحجّة» في تاسع «باب أنّ الأرض كلّها للإمام عليه السلام » وكما وقع بين الفضل(1) بن شاذان ويونس بن عبد الرحمان ، ويجيء في «كتاب المواريث» في «باب أنّ ميراث أهل الملل بينهم على كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله » .

الثانية : أنّه لا يمكن أن يكون الحكمان المتنافيان عن علم ، فأحدهما أو كلاهما عن ظنّ ، بناءً على أنّ الجزم المنقسم إلى الجهل المركّب والتقليد نوع من الظنّ القويّ ، كما تقرّر في محلّه .

الثالثة : أنّ الفتيا عن ظنّ قسمان ؛ أوّلهما أن يعلم المفتي أنّه عن ظنّ ومبنيّ على تذاكر العلم وصفة الحلم ، وهو افتراء الكذب على اللّه ، كما مرّ في خامس الباب .

وثانيهما : أن لا يعلم أنّه عن الظنّ ، بل اشتبه عنده بالعلم ، فإنّ الفرق بين الظنّ القويّ والعلم ليس بضروريّ ، والقسم الثاني لا يوجب تفسيق صاحبه . ويجيء توضيح ذلك في «كتاب الإيمان والكفر» في شرح ثاني عشر «باب مجالسة أهل المعاصي» .

الرابعة : أنّ الاختلاف بين ثقات أصحاب الأئمّة ومَن لا يجوز تفسيقه من الإماميّة من القسم الثاني ، لا من القسم الأوّل ، كما زعمه الشيخ الطوسي رحمه اللّه تعالى في عدّة الاُصول في فصل في ذكر خبر الواحد وجملة من القول في أحكامه .(2)

الخامسة : أنّ المستفتي(3) والمتحاكمين يحتاجون إلى معرفة قاعدة كلّيّة للتمييز بين من يجوز اتّباعه ومَن لا يجوز من المختلفين في الفتيا والقضاء ، وهذا الحديث لبيانها . ونظيره ما يجيء في ثاني عشر «باب اختلاف الحديث» .

الرابع عشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلاَبِيِّ) ؛ بفتح المعجمة وتخفيف اللام والموحّدة ، وغلاب - كقطام - اسم امرأة ، وبنو غلاب قبيلة بالبصرة من بني نصر بن معاوية .(4) (عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ البِصْرِيِّ) ؛ بكسر الموحّدة . .

ص: 430


1- في «ج» : «فضل» .
2- عدة الاُصول ، ج 1 ، ص 286 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 1 ، ص 97 .
3- في «ج» : «المستفتين» .
4- تاج العروس ، ج 2 ، ص 293 (غلب) .

(رَفَعَهُ : أَنَّ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام قَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنِ انْزَعَجَ) . يُقال : أزعجه ، أي أقلقه وقلعه من مكانه فانزعج(1) ، ويكون للمكروه وللمحبوب .

(مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ) ، بضمّ الزاي وسكون الواو ومهملة : الكذب ، سواء كان ذمّا أم(2) مدحا ، والمراد هنا الذمّ . ووجه منافاته للعقل أنّ الزور قد قيل في اللّه وفي رسله ، كما في سورة المائدة : «وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللّه ِ مَغْلُولَةٌ»(3)فاطر (35) : 4 .(4) ، وفيها : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(5) ، وكما في سورة فاطر : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»(5) ، فالانزعاج به نوع من التكبّر .

(وَلاَ بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ) . الحكمة : العقل والفهم ، كما مضى في ثاني عشر الأوّل .(6) والرِّضا ضدّ السخط ، والثناء بفتح المثلّثة والمدّ : المدح أو المدح المتكرّر . والمراد هنا ما يطابق الواقع من الثناء ، والمراد بالجاهل من ليس بعاقل كالمخالفين للشيعة الإماميّة .

وفيه دلالة على أنّ الرضا بثناء الجاهل لا ينافي العقل ، إنّما ينافي كمال العقل ، وذلك لأنّه مظنّة الركون إلى الجاهل ، وإن لم يستلزم الركون إليه فالاحتراز عنه أولى .

(النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ) ؛ من باب الإفعال ، يُقال : أحسن الشيء : إذا أتى به حَسَنا وكما هو حقّه . والعائد المنصوب محذوف ، أي يحسنونه ؛ شبّه ما يُحسَن بالأب لأنّه كما يعرف الابن بالأب ، يعرف الإنسان بما يُحسِن ، أو لأنّه كالأب في جلب النفع والرزق .

(وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ) أي قيمته (مَا يُحْسِنُ) فإن كان ما يحسن أمرا خسيسا كالصنائع .

ص: 431


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 319 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 88 (زعج) .
2- في «ج» : «أو» .
3- المائدة
4- : 64 .
5- المائدة (5) : 73 .
6- أي الحديث 12 من باب العقل والجهل .

الدنيّة ، كان المرء خسيسا لا قيمة له ، وإن كان ما يحسن رفيعا كالعلم بالدِّين ، كان المرء رفيعا .

(فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ) . اللام للعهد ، أي العلم بالدِّين للعمل ، أي تكلّموا في كسب العلم ، وتذاكروه حتّى تحسنوه .

(تَبَيَّنْ) . مجزومٌ بجواب الأمر ، وأصله «تتبيّن» حذف إحدى التاءين من باب التفعّل ، والبين : البُعد ، يُقال : أبانه : إذا أبعده وأفرده عن أمثاله ، وتبيّن : إذا تفرّد وبعُدَ عن أمثاله ؛ والمقصود يرتفع جدّا .

(أَقْدَارُكُمْ) فإنّ التفاوت بين قدر من يحسن العلم بالدِّين ليعمل به ومَن يحسن شيئا غير هذا العلم أظهر من أن يخفى .

وحمل اللام في العلم على الجنس ممكن ، لكنّه ينافي ظاهره(1) ما مرّ في أوّل «باب المستأكل بعلمه» من ذمّ النَّهم في العلم .

الخامس عشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ) ؛ بتقدير «يقول قولاً» بقرينة قوله : «فقال أبو جعفر عليه السلام » .

(وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ : عُثْمَانُ الاْءَعْمى ، وَهُوَ يَقُولُ : إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَزْعُمُ) أي يدّعي (أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْعِلْمَ يُوءْذِي(2) رِيحُ بُطُونِهِمْ أَهْلَ النَّارِ) .

لم يزل المخالفون يشنّعون على الفرقة الناجية في التقيّة ويقولون : لا يجوز التقيّة ، ومقصودهم تعريضهم للقتل ، وإلاّ فالأمر في جواز التقيّة أظهر من أن يخفى ، وكان منشأ تلبيسهم سوء النظر في آية سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ»(3) ؛ وذلك أنّ .

ص: 432


1- في حاشية «أ» : «قوله : ينافي ظاهره إلى آخره ، وذلك لأنّه يظهر ممّا مرّ أنّ المراد بالنهم في العلم أن يكون المقصود من طلب العلم التوسّع فيه وجامعيّة أنواع العلوم ، وهو مذموم (مهدي)» .
2- في «أ» : «تؤذي» .
3- البقرة (2) : 159 .

الكتمان على قسمين :

الأوّل : ما هو باتّباع الهوى والميل إلى الدنيا لمنصب(1) الإفتاء والقضاء بدون استحقاق ، وذلك بتذاكر العلم وصفة الحلم ، كما مرّ في خامس الباب .

الثاني : ما هو للتقيّة ودفع الضرر .

والمراد في الآية القسم الأوّل بأن يكون البيّنات عبارة عن الآيات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف بالظنّ ، ويكون الهدى عبارة عن الإمام العالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة ومعطوفا على «ما أنزلنا» ، والضمير في «بيّناه» للهدى ، وقوله : «للناس» للدلالة على أنّ البيّنات الدالّة على الهُدى لا اشتباه فيها أصلاً ، فمنكر الهدى مكابر كافر بآيات اللّه «وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» .(2)غافر (40) : 28 .(3)

(فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : فَهَلَكَ إِذَنْ مُوءْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى : «يَكْتُمُ إِيمَانَهُ»(3) .

(مَا زَالَ الْعِلْمُ مَكْتُوما مُنْذُ بَعَثَ اللّه ُ نُوحا) . إشارةٌ إلى نحو قوله تعالى في سورة الشعراء : «قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ»(4) .

إن قلت : في «كتاب الروضة» في ذيل حديث آدم مع الشجرة(5) ما بدل على أنّه كان مكتوما قبل نوح هكذا ، فلبث هبة اللّه والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث النبوّة وآثار علم النبوّة حتّى بعث اللّه نوحا عليه السلام .

قلت : المراد تعيين أوّل من جاء بشريعة مستأنفة وكان مع الكتمان ، وهبة اللّه على شرع آدم ، أو أوّل ما جاء في ظاهر القرآن من الكتمان ، أو أوّل اُولي العزم من الرُّسل ، ولذا يكون نوح أوّل من يُسأل يوم القيامة عن التبليغ كما في «كتاب الروضة» في حديث .

ص: 433


1- في «ج» : «كمنصب» .
2- آل عمران
3- : 19 .
4- الشعراء (26) : 116 .
5- الكافي ، ج 8 ، ص 114 ، ح 92 .

نوح - صلّى اللّه عليه - يوم القيامة .(1)

(فَلْيَذْهَبِ الْحَسَنُ يَمِينا وَشِمَالاً) أي في غير الجادّة ، وهو في صورة الأمر ، ومعناه نهي .

(فَوَ اللّه ِ مَا يُوجَدُ الْعِلْمُ) أي بجميع ما يحتاج إليه الناس (إِلاَّ هاهُنَا) . الإشارة إلى صدره أو إلى أهل البيت ، أي ليس عند الناس كثير من العلم ، وما ذلك إلاّ للكتمان للتقيّة . ويجيء ما يوضحه في أوّل الثاني والعشرين (2). .

ص: 434


1- الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
2- أي الحديث 1 من باب اختلاف الحديث .

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب

الباب الثامن عشر بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ وَالْحَدِيثِ وَفَضْلِ الْكِتَابَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ

فيه خمسة عشر حديثا ، أو ستّة عشر إن جعل ما في الرابع حديثين ؛ أي باب بيان ما يتعلّق برواية الكتب من أنّه هل يجوز عدم السماع لتفصيلها عن المرويّ عنه ، وما يتعلّق برواية الحديث بقوله : «حدّثني فلان» أو «قال فلان» ، من أنّ الأفضل من الرواية ماذا؟ والجائز منها ماذا؟ وبيان فضل كتابة الحديث بعد سماعه عن المعصوم أو غيره ، وفضل حفظ كتب الحديث للتمسّك بها ؛ يُقال : تمسّكت بالشيء : إذا اعتصمت به وإذا أمسكته وحفظته .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَوْلُ اللّه ِ جَلَّ ثَنَاوءُهُ) في سورة الزمر : («الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»(1) ؟ قَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ ، فَيُحَدِّثُ بِهِ كَمَا سَمِعَهُ ، لاَ يَزِيدُ فِيهِ وَلاَ يَنْقُصُ مِنْهُ) . ضمير «هو» ل- «أحسنه» والمضاف مقدّر ، أي قول الرجل . وهذا لبيان القاعدة التي ذكرت في شرح ثالث عشر السابق(2) ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في ثامن «باب التسليم وفضل المسلمين»(3) : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» إلى آخر الآية ، قال : «هم المسلّمون لآل محمّد

ص: 435


1- الزمر (39) : 18 .
2- أي الحديث 13 من باب النوادر .
3- في حاشية «أ» : «وهو الباب الرابع والتسعون» .

الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه ، جاؤا به كما سمعوه» .

والظاهر أنّ ضمير «هم» فيه للقائلين : «أحسنه» ، وعلى كلّ تقدير «الذين» عبارة عن المستفتين والمتحاكمين . ومضى توضيح الآية في شرح صدر ثاني عشر الأوّل .(1)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ ، فَأَزِيدُ وَأَنْقُصُ؟) أي في اللفظ حين الرواية عنك ، واستعمال المضارع لحكاية الحال الماضية ، والدلالة على الاستمرار في الماضي .

(قَالَ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ) . لم يقل ، «إن أردت» ليطابق السؤال ، فإنّ زيادة «كان» بعد «إن» الشرطيّة تقلب الفعل إلى الماضي ، فالمضارع بعد «كان» للاستمرار في الماضي .

(مَعَانِيَهُ) . الضمير للحديث ، أي الاُمور الداخلة في أصل المراد ، أو أعمّ منها ومن المزايا الخارجة وجهاته المقصودة منه حسب اقتضاء مقامه للبلغاء . والمقصود بإرادة المعاني ذكر المعاني كما هو حقّها ، وذلك بعد معرفة المعاني والألفاظ المناسبة لها ببصيرة ، وذلك لا يتيسّر إلاّ لنُقّاد الكلام والمَهَرة من الأعلام .

(فَلاَ بَأْسَ) أي يجوز ذلك ، وإن كان الأحسن النقل كما سمع إن تيسّر . ويحتمل أن يكون المراد بإرادة المعاني إظهار أنّه نقل بالمعنى ، ومنه النقل إلى الأعجمي بلغته ، وقوله تعالى : «إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْءُولَى»(2) ، وحكايته تعالى قصّة آدم وعدم سجدة إبليس له بعبارات مختلفة في سور متعدّدة ، وكذا قصّة موسى عليه السلام .

الثالث : (وَعَنْهُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلاَمَ مِنْكَ ، فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلاَ يَجِيءُ؟) أي لا يجيء لفظه كما سمعته إلى ذهني في أثناء الرواية بعد التأمّل لنسياني بالكلّيّة اللفظ . .

ص: 436


1- أي الحديث 12 من باب العقل والجهل .
2- الأعلى (87) : 18 .

(قَالَ : فتُعمَدُ(1) ذلِكَ؟ . قُلْتُ : لاَ ، فَقَالَ : تُرِيدُ الْمَعَانِيَ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَلاَ بَأْسَ) . المضبوط في النسخ «تعمد» بالمثنّاة فوقُ ، وقيل في معناه : تقصد .(2) انتهى . فهو من تعمّده : إذا قصده ، وأصله «تتعمّد» حذف إحدى التاءين من باب التفعّل ، أو عمده - كضربه - : إذا قصده .

وفي ظاهر هذا مناقشة ؛ لأنّ عدم العمد معلوم من قول الراوي ، فيلزم أن لا يكون هذا السؤال في موضعه .

ويمكن دفعها بأنّ المراد بالعمد ترك تكراره ذلك ، مع العلم بأنّ عادته عدم المجيء ، فإنّه في حكم العمد . والأظهر أن يكون «تعمد» على صيغة المخاطب من باب الإفعال أو باب التفعيل ؛ من عمد البعير - كعلم - : إذا انفضخ داخل سنامه من الركوب .(3) وظاهره صحيح ، فهو بعير عَمِد بفتح العين وكسر الميم ، وهذا الداء عمد بفتحتين .

ويُطلق على النفاق ؛ ففي نهج البلاغة : «للّه بلاءُ فلانٍ ، فلقد قوّم الأوَدَ وداوى العَمَد» إلى آخره .(4)

و«فلان» عبارة عن محمّد بن أبي بكر ، لم يصرّح باسمه تقيّةً ؛ لأنّ الكلام تعريض بأبيه ومدح لمحمّد بأنّه تبرّأ من أبيه ورذائله ، مع أنّه مشكل جدّا في عادات الناس . ويحتمل أن يكون عبارة عن مالك الأشتر رحمهما اللّه تعالى ، فالمعنى أفتجعل الحديث فاسد الباطن صحيح الظاهر .

وهذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون في ابتداء لفظه ما يشعر بأنّه يرويه كما سمعه ، ثمّ يخالف ذلك للنسيان ، ولا يستدرك ذلك بلفظ بدل على أنّه ليس كما سمعه ، فيكون فيه تلبيس . وهذا هو الظاهر من كلام الراوي ، ولذا لم يقع هذا السؤال فيما مرّ في ثاني الباب ، وهو .

ص: 437


1- في الكافي المطبوع : «فتتعّمد» .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 511 (عمد) .
3- القاموس المحيط ، ج 1، ص 317 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 125 (عمد) .
4- نهج البلاغة ، ص 350 ، الخطبة : 228 ؛ وفيه : «فقد» بدل «فلقد» .

الظاهر أيضا من الفاء في قوله : «فتعمد» .

الثاني : أن يخلّ ببعض معانيه ، وعلى هذا يكون قوله عليه السلام : «تريد المعاني» جاريا مجرى الاستئناف البياني لقول الراوي : «لا» إلاّ إذا اُريد به تظهر أنّه نقل بالمعنى ، ولو كان «يعمد» بالخاتمة(1) ، لكان من المجرّد ولكان ذلك فاعلاً له .

الرابع : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الْحَدِيثُ) . مبتدأ واللام للعهد الذهني ، وقوله : (أَسْمَعُهُ مِنْكَ) صفته ؛ لأنّه في حكم النكرة . وقوله : (أَرْوِيهِ عَنْ أَبِيكَ) خبر المبتدأ والاستفهام مقدّر ؛ أي هل يجوز لي أن أرويه عن أبيك بأن أقول : «قال أبو جعفر ، كذا وكذا» أم يجب عليَّ أن أرويه عنك . ويحتمل أن يكون الجملتان خبرين ، فيقدّر بعدهما استفهام ؛ أي هل يجوز ذلك أم يجب الرواية عنك ، وكذا قوله :

(أَوْ أَسْمَعُهُ مِنْ أَبِيكَ أَرْوِيهِ عَنْكَ؟ قَالَ : سَوَاءٌ ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي روايتك عنّي وروايتك عن أبي سواء في الصدق في كلّ من الصورتين ، يُقال : هما في هذا الأمر سواء، بفتح المهملة والمدّ أي شِبهان ، وهم سواء أي أشباه .

(إِلاَّ أَنَّكَ تَرْوِيهِ عَنْ أَبِي أَحَبُّ إِلَيَّ) . «ترويه» بالنصب بتقدير «أن» المصدريّة وإعمالها ، أو بالرفع إمّا بتقدير أن وإهمالها ، وإمّا على أنّه خبر في تأويل أمر . وذكروا الوجوه الثلاثة في المَثَل : «تَسْمَع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه» .(2)

وعلى الأوّلين المصدر بدل اشتمال عن ضمير «إنّك» نظير «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا»(3) ، و«أحبّ» خبر «أنّ» ، وعلى الثالث «أحبّ» خبر مبتدأ محذوف ، أي الرواية عن أبي في كلّ من صورتي سماعِك منّي وسماعِك من أبي أحبّ إليَّ من .

ص: 438


1- أي بالياء .
2- حكاه الطبري في تاريخه ، ج 4 ، ص 231 ؛ وابن الأثير في الكامل ، ج 3 ، ص 516 ؛ وابن خلكان في وفيات الأعيان ، ج 4 ، ص 68 ؛ والذهبي في تاريخ الإسلام ، ج 7 ، ص 228 .
3- الزمر (39) : 17 .

الرواية عنّي ؛ لأنّ الرواية عمّن مضى أوفق للتقيّة في الصورتين جميعا ، وأبعد من آفة شهرة الحيّ في زمان تسلّط الظالمين .

(وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِجَمِيلٍ :) . هذا كلام أبي بصير ، فيكون إمّا من تتمّة الحديث ، وإمّا حديثا على حِدة مُسنَدا(1) . وقيل(2) : الظاهر أنّه حديث على حدة .(3) انتهى . وعلى هذا تكون أحاديث الباب ستّة عشر .

(مَا سَمِعْتَ مِنِّي فَارْوِهِ عَنْ أَبِي .) ذلك للتقيّة .

الخامس : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَجِيئُنِي الْقَوْمُ ) أي التلامذة (فَيَسْمَعُونَ(4) مِنِّي حَدِيثَكُمْ ) أي كتاب حديثكم (فَأَضْجَرُ) ؛ بصيغة المتكلِّم المعلوم من باب علم ، أو المجهول(5) من باب الإفعال . والضجرة بالضمّ : الملال والسأمة .

(وَلاَ أَقْوى) أي لكثرة الدرس بسبب كثرة القوم : التلاميذ ، وسماع كلّ واحدٍ منهم منّي في موضع من كتاب الحديث غير ما يسمع الآخرون ، فيؤدّي ذلك إلى الترك بالكلّيّة ، أو يخاف من ذلك الترك بالكلّيّة ، ويُحتمل أن لا يكون ذلك لكثرة عدد الدرس(6) بل لطوله .

(قَالَ : فَاقْرَأْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ) أي أوّل حديثنا ، والمراد كتاب الحديث ، وأوّله ثلثه الأوّل .

(حَدِيثا) أي درسا من الحديث (وَمِنْ وَسَطِهِ) أي ثلثه الوسط (حَدِيثا) أي درسا من .

ص: 439


1- في حاشية «أ» : «بالسند السابق» .
2- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمد الاسترآبادي (منه)» . ولم نجده فى حاشيته على الكافي المطبوع ضمن ميراث حديث شيعة، الدفتر الثامن.
3- احتمله المولى المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 216 ؛ ورفيع الدين النائيني في حاشيته على اُصول الكافي ، ص 183 .
4- في الكافي المطبوع : «فيستمعون» .
5- في «ج» : - «من باب علم أو المجهول» .
6- في «ج» : «الرأس» .

الحديث (وَمِنْ آخِرِهِ) أي ثلثه الآخر (حَدِيثا) أي درسا من الحديث .

والمقصود أمره(1) بتخفيف عدد الدرس في كلّ يوم إلى الثلاثة المذكورة ، وإشراكهم فيها ليقوى ولا يضجر ، ويقع كلّ تلميذ إمّا على مقصوده وإمّا على قريب من مقصوده ، وكذا من يتجدّد من التلامذة . أو أمره بتفريق درس طويل من موضع واحد إلى ثلاثة مواضع ، فإنّ من المجرّب أنّه أبعد من الضجرة ، كما مضى في أوّل «باب النوادر» .

والظاهر أنّه ليس المراد أن يقرأ ثلاثة أحاديث متفرّقة في يوم واحد ويكتفي بذلك مع المناولة(2) ونحوها ممّا هو مذكور في طرق تحمّل الحديث ؛ وذلك لأنّ هذا الجواب إنّما يناسب لو كان المقصود بالذات للسائل السؤال عمّن يتجدّد من التلامذة ، وليس كذلك ، فإنّ الأنسب حينئذٍ أن يكون في كلام السائل بدل «فيسمعون» : «ليسمعوا» .

فالمقصود بالذات السؤال عن المشغولين ، وحينئذٍ لا فائدة في القراءة من أوّله ، ولأنّ العمدة في تحمّل الحديث الدراية الحاصلة بسماع التفصيل ، لا ما يحصل بالمناولة ونحوها ، فإشارته(3) عليه بالثاني لا يصحّ إلاّ مع حصول الضجرة وعدم القوّة في كلّ فرد من الأوّل ، وبعيد أن يتضجّر ولا يقوى على ثلاثة دروس في كلّ يوم يقرأ فيه الدرس .

السادس : (عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلاَّلِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ اللام : بيّاع الحلّ بالفتح ، وهو دهن السمسم .(4)

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا يُعْطِينِي الْكِتَابَ) أي كتاب الحديث ، ويسمّى هذا عند أهل الدراية «مناولةً» .

(وَلاَ يَقُولُ : ارْوِهِ عَنِّي) أي لم يصدر عنه الإجازة لي ، إنّما صدر عنه المناولة . .

ص: 440


1- في «ج» : «أمر» .
2- المناولة : هي واحدة من أقسام تحمل الحديث ، وهي أن يناول الشيخ الطالب كتابا وهي على نوعين مقرونة بالإجازة ومجردة عنها. البداية في علم الدراية ضمن رسائل في دراية الحديث ، ج 1 ، ص 140 .
3- في «ج» : «وإشارته» .
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1672 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 173 (حلل) .

(يَجُوزُ لِي أَنْ أَرْوِيَهُ عَنْهُ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكِتَابَ لَهُ) أي مجموع له بأن يكون الكتاب أصلاً والرجل سامعه من الإمام وجامعه ، وليس فيه إلاّ ما سمعه من الأحاديث .

إن قلت : لا يمكن فيما نحن فيه تحصيل العلم القطعي ، فهل استعمل العلم هنا فيما يشمل الظنّ ، كما زعموا في قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»(1) ، ويجيء بيان حقيقته في «كتاب النكاح» في شرح سادس «باب مناكحة النصّاب والشكّاك» فدلّ على أنّه يجوز الاكتفاء في أمثال ذلك بالظنّ ، أم لا؟

قلت : لا ، بل فيه مجاز في التعلّق بالمفعول به ، والمعنى : إذا علمت ما تشهد به شرعا أنّ الكتاب له كما في سائر الشهادات الشرعيّة التي يشترط فيها العلم نحو الشهادة بكون الدار لزيد دون عمرو ، وحمل عليه قوله تعالى في سورة يوسف : «إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ»(2)) ؛ وذلك بأن يقول حين أعطى الكتاب : هذا مشتمل على أحاديث سمعتها أنا ممّن رويتها عنه فيه أو نحو ذلك .

ويمكن أن يُراد بكون الكتاب له ما يشمل كونه مصنّفا له ، أو مسموعا له من جامعه ، أو من مصنّفه بلا واسطة ، أو بالواسطة ، أو نحو ذلك ممّا يجوز له بسببه روايته لغيره .

(فَارْوِهِ عَنْهُ) . ظاهره أنّ الإجازة التي عدّها المخالفون من طرق التحمّل لغو لا يتوقّف عليها جواز الرواية أصلاً ؛ لأنّ قوله : «إذا علمت» عامّ شامل لغير صورة المناولة أيضا ، فإنّ المورد غير مخصّص للعموم .

إن قلت : يلزم أن يكون المناولة أيضا لغوا؟

قلت : لا يلزم ؛ لأنّ المناولة من طرق العلم بأنّ الكتاب له بخلاف الإجازة .

نعم ، يلزم أنّه لو علمنا بالشهرة بين الناس وتصحيح الثقات أنّ الكافي مثلاً لمحمّد بن يعقوب ، جاز لنا روايته عنه على ما علمناه عليه ، ولا حاجة في مثله إلى إجازة ولا مناولة ، وقد نسج كثير من متأخّرينا في ذلك على منوال المخالفين بدون ذكر مستند من أهل الذِّكر عليهم السلام لا متواترا ولا آحادا . .

ص: 441


1- الممتحنة (60) : 10 .
2- يوسف (12) : 81 .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِذَا حَدَّثْتُمْ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، ويحتمل المعلوم . والأوّل أوفق بقوله : «حدّثكم» وبما يجيء في ثاني عشر الباب .

(بِحَدِيثٍ ، فَأَسْنِدُوهُ) أي في تحديثكم إيّاه غيركم (إِلَى الَّذِي حَدَّثَكُمْ) أي إليه بخصوصه ، فإن زعموا مطيّة الكذب ، وهذا نهي عن الإرسال .

(فَإِنْ كَانَ حَقّا فَلَكُمْ) أي فنفع تحديثكم لكم دونه ؛ بمعنى أنّه لا ينتقل به ما تقصدون من نفعه إلى الذي حدّثكم ، أو المراد : فلكم فيه جمال نقل الصدق .

(وَإِنْ كَانَ كَذِبا فَعَلَيْهِ) أي فضرّه عليه دونكم ، أو المراد : فعلى الذي حدّثكم شين الكذب دونكم . وهذا في الأحاديث الشرعيّة ، أو فيها وفي غيرها من الاُمور الدنيويّة .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْمَدَنِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ حُسَيْنٍ الاْءَحْمَسِيِّ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الميم ومهملة ، وبنو أحمس بطن من ضبيعة(1) وقيل : من بجيلة .(2)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْقَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابَةِ) . أمرٌ بكتابة الحديث وعدم الاكتفاء بالحفظ في الذهن .

التاسع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اكْتُبُوا) أي ما تسمعون منّي (فَإِنَّكُمْ لاَ تَحْفَظُونَ حَتّى تَكْتُبُوا) .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ .

ص: 442


1- معجم قبائل العرب ؛ ج 1 ، ص 10 (احمس) ؛ وحكاه ابن الأثير الجزري في اللباب في تهذيب الأنساب ، ج 1 ، ص 32 (الأحمسي) .
2- تاريخ ابن خلدون ، ج 2 ، ص 254 .

فَضَّالٍ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ ، عَنْ عُبَيْدِ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الموحّدة . (بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ) . يُقال : احتفظه : إذا حفظه لنفسه ؛ فالباء لتضمين معنى التمسّك ، أو لتقوية التعدية . والأوّل أوفق بعنوان الباب .

(فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا) أي في زمن غيبة الإمام غيبةً كبرى ، أو قبله أيضا ؛ لأنّ الحفظ في الخاطر لا يفي بالأحاديث .

الحادي عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْبَرِيِّ ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة وفتح الموحّدة .

(عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اكْتُبْ) أي ما تسمعه منّي (وَبُثَّ) ؛ بضمّ الموحّدة وتثليث المثلّثة المشدّدة ، أو بكسر الموحّدة وفتح المثلّثة وكسرها : أمر من بثّه، من باب نصر وضرب : إذا نشره وفرّقه .(1) (عِلْمَكَ) أي الأحاديث ، فإنّها تفضي إلى العلم بالحكم الواصلي ، وربّما أدّت في اُصول الدِّين ونحوها إلى العلم بصدق مضمونها لمَن تأمّل فيها حقّ التأمّل . (فِي إِخْوَانِكَ) أي الشيعة .

(فَإِنْ مُتَّ) ؛ بضمّ الميم وكسرها وفتحها والمثناة فوقُ المشدّدة المفتوحة من باب يموت ويميت ويمات ، أي أشرفت على الموت (فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ) أي علّمهم تفصيلاً أو إجمالاً أنّها مسموعاتك ، أو سلّمها إليهم بالوصيّة أو بترك إتلافها وإخفائها عنهم .

(فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ) . أصل الهرج، بفتح الهاء وسكون المهملة والجيم : الكثرة في الشيء والاتّساع ، ويُطلق على الفتنة والاختلاط والاشتباه ، وعلى القتل ، يُقال : هرج الناس - كضرب - : إذا وقعوا في هرج . والمراد بزمان هرج زمان غيبة الإمام عليه السلام .(2)

(لاَ يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلاَّ بِكُتُبِهِمْ) ؛ لعدم ظهور الأئمّة ، أو لفقد الحفّاظ للأحاديث ، أو لعدم تمكّنهم من الرواية في المدارس . .

ص: 443


1- العين ، ج 8 ، ص 217 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 273 (بثث) ؛ الفروق اللغوية ، ص 185 (الرقم 731) .
2- حكاه رفيع الدين النائيني في الحاشية على اُصول الكافي ، ص 186 .

الثاني عشر : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ الْمُفْتَرَعَ)(1) ؛ بضمّ الميم وسكون الفاء وفتح الراء المهملة والعين المهملة ، أي المبتذل الشائع بين الناس ؛ من افترع البكر : إذا افتضّها .(2)

(قِيلَ لَهُ : وَمَا الْكَذِبُ الْمُفْتَرَعُ؟ قَالَ : أَنْ يُحَدِّثَكَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ، فَتَتْرُكَهُ) أي الرجل (وَتَرْوِيَهُ) أي الحديث (عَنِ الَّذِي حَدَّثَكَ عَنْهُ) .

من أمثلته أن يحدّثك زيد بأنّ عمرا فعل كذا أو قال كذا ، فتقول لغيرك : إنّ عمرا فعل كذا أو قال كذا ، بدون قرينة تدلّ على واسطة . وكونه كذبا لأنّ المتبادر منه عدم الواسطة ، فهو إخبار عن عدم الواسطة بحيلة .

ومنها : أن تقول في المثال : وعن عمرو وأنّه فعل كذا أو قال كذا ، وكان عدم تسمية الواسطة بسبب أنّه(3) لو ذكر لظهر للمخاطب كذب الحديث ، أو قلَّ وثوقه بالحديث . وكونه كذبا لأنّه إخبار بقوّة ما ليس بقويّ بحيلةٍ وشيوعه ؛ لأنّ كثيرا من الناس يتحرّجون عن الكذب الصريح ، ولا يتحرّجون عمّا فيه حيلة من الكذب ، كما يتحرّجون عن الرِّبا الصريح ولا يتحرّجون عمّا فيه حيلة من الربا ، زعما منهم باتّباع هواهم أنّهما ليسا من الكذب والربا ، فيكثران .

وقيل : المراد بالمفترع ما لم يسبق إليه أحد .(4)

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَعْرِبُوا حَدِيثَنَا) . الإعراب : .

ص: 444


1- في حاشية «أ» : «المقترع بالقاف من الاقتراع بمعنى الاختيار ، والمقترع والمقروع من الإبل، المختار منها للفحلة ، وأمّا «المفترع» بالفاء من افترعت البكر : إذا افتضضتها، فليس بمستعذب المعنى في هذا المقام ، ولعلّه من التصحيفات في الانتساخ أو من التحريفات في الرواية واللّه سبحانه أعلم. م ح ق» .
2- تاج العروس، ج 1، ص 94 (المفترع). وانظر: الحاشية على اصول الكافي للنائيني، ص 186.
3- في حاشية «أ»: «اي المحدث».
4- في «د» : «أحد إليه» .

الإيضاح ، ويُقال : أعرب كلامه : إذا لم يلحن في الإعراب(1) ، أي اكتبوه واكتبوا إعرابه المسموع منّا ، أو لا تتكلّموا به بلغاتكم في الإعراب ، وتكلّموا به كما سمعتم في الإعراب ، أو لا تغيّروه أصلاً .

(فَإِنَّا قَوْمٌ فُصَحَاءُ) . جمع «فصيح» وهو المُنْطَلق اللِّسان في القول الذي يَعرف جيّد الكلام من رديّه .

الرابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ ، قَالُوا : سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي ، وَحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي ، وَحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ ، وَحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ ، وَحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ ، وَحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَ حَدِيثُ رَسُولِ اللّه ِ قَوْلُ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) أي ليس فتيانا وقضاؤنا عن اجتهاد ورأي ، أو يجوز نسبة حديث كلّ منّا إلى الآخرين في زمن التقيّة ونحوها .

الخامس عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ شُنْبُولة(2)) بضمّ المعجمة وسكون النون وضمّ الموحّدة وسكون الواو من الشُنْبُلة ، وهي التقبيل .(3) وفي الإيضاح بفتح الشين(4) المعجمة وإسكان الياء المنقّطة تحتها نقطتين وضمّ النون وإسكان الواو .(5)

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ مَشَايِخَنَا رَوَوْا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي .

ص: 445


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 179 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 589 ؛ تاج العروس ، ج 2 ، ص 215 (عرب) .
2- في الكافي المطبوع : «شَيْنُولَةَ» .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 404 ؛ تاج العروس ، ج 4 ، ص 396 (شنبل) .
4- في «ج» : - «الشين» .
5- جاء في إيضاح الاشتباه ، ص 266 ، الرقم 567 : «محمد بن الحسن بن أبي خالد المعروف ب- «شير» بفتح الشين المعجمة وإسكان الياء المنقطة تحتها نقطتين ، وضم النون وإسكان الراء» بدل مما في المتن .

عَبْدِ اللّه ِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) أي وكتبوا بخطّهم كتبا في ذلك (وَكَانَتِ التَّقِيَّةُ شَدِيدَةً ، فَكَتَمُوا كُتُبَهُمْ فَلَمْ(1) تُرْوَ)(2) ؛ بصيغة المجهول من المضارع ، الغائب¨ ، وفيه ضمير الكتب . (عَنْهُمْ ، فَلَمَّا مَاتُوا ، صَارَتِ الْكُتُبُ إِلَيْنَا) أي ونحن نعرف خطّهم أو نثق بأنّها خطّهم أو مسموعهم ، ويسمّى كلّ هذا عند أهل الدراية «وِجادة» بكسر الواو والجيم والمهملة .

(فَقَالَ : حَدِّثُوا بِهَا) أي بالكتب عنهم على وجه لا يوهَم القراءة عليهم أو السماع منهم ، أو نحو ذلك .

(فَإِنَّهَا حَقٌّ) أي ممّا يجب العمل به من خبر الواحد ، وكالمسموع منهم في وجوب العمل . وليس المراد أنّها تُفيد القطع بالحكم الواقعي ، أو القطع بصدق رواياتهم عن المعصوم . .

ص: 446


1- في المطبوع : «ولم» .
2- في حاشية «أ» : «الأصحّ الأصوب والأثبت الأقوم (فلم نرو عنهم) بفتح الواو المشدّدة وبالراء المفتوحة ، على صيغة المجهول من المضارع المجزوم ، إمّا بضمّ النون للمتكلّم مع الغير أو بالتاء المضمومة للتأنيث في الغيبة ؛ من التروية بمعناها الشائع في اصطلاح على الحديث في الرخصة . وقد ورد أيضا في اللغة ؛ قال في الصحاح : رويت الشعر تروية ، أي حملته على روايته ، وقال في المغرب : أول الحديث والشعر روا ورويته إيّاه : حملته على روايته من إنّا روينا في الأخبار . وضمير الجمع في «عنهم» للمشايخ ، والمعنى فلم نرو نحن عنهم ، أي لم يرخّص لنا من قبلهم في الرواية ، أو لم ترو تلك الكتب وأحاديثها عنهم ، أي لم يرخّص من قبلهم في روايتها ، وفي طائفة من النسخ : «فلم يرووا عنهم» من روى يروي رواية ، وواو الجمع في الفعل للمشايخ ، والضمير البارز في «عنهم» للأئمة عليهم السلام ، وأمّا (فلم نرو) على صيغة المتكلّم مع الغير من الروايات من تصحيفات المصحفين . م ح ق» .

باب التقليد

الباب التاسع عشر بَابُ التَّقْلِيدِ

فيه ثلاثة أحاديث ؛ أي باب بيان من لا يجوز تقليده ومَن يجوز ويجب . والتقليد : العمل بقول الغير من غير طلب دليل منه ؛ كأنّه جعل القول قلادة في عنقه ؛ لأنّه جعل عهدته عليه ولم يفتّش بعد سماعه منه .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ يَحْيى ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1) ؟) أي ما معنى ما ذمّ اللّه تعالى به النصارى في سورة التوبة من اتّخاذهم الأحبار والرهبان أربابا . والأحبار جمع حِبر بكسر الحاء وفتحها وهو العالم ، والرُّهبان جمع راهب ، وهو المتخلّي عن أشغال الدنيا ، التارك لملاذّها ، الزاهد فيها ، المعتزل عن أهلها ، المتحمّل للمشاقّ .

(فَقَالَ : أَمَا وَاللّه ِ ، مَا دَعَوْهُمْ إِلى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ) أي صريحا .

(وَلَوْ دَعَوْهُمْ) أي إلى عبادة أنفسهم صريحا (مَا أَجَابُوهُمْ) أي ما عبدوهم صريحا .

(وَلكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاما ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلاَلاً) . تحليل الحرام وتحريم الحلال يحتمل وجهين :

الأوّل : تحريف الكلم عن مواضعه عمدا ، أي تأويل الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر بحيث يفضي إلى إحلال ما نهى عنه

ص: 447


1- التوبة (9) : 31 .

وتحريم ما أمر به . وهذا التأويل هو المذكور في خامس «باب النوادر» بقوله : «بتذاكر العلم وصفة الحلم» .

الثاني : إفتاؤهم في أحكام اللّه تعالى بالظنّ والاجتهاد ، فإنّه يستلزم الغلط في شيء من أحكام الحلال(1) وشيء من أحكام الحرام عادةً .

(فَعَبَدُوهُمْ) أي فقلّدوهم ؛ وذلك عبادتهم إيّاهم .

(مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون أنّ تقليد غير مَن أذِنَ اللّه ُ في تقليده - أي غير العالم الحجّة بين اللّه وبين المقلِّد - اتّباعٌ لرأيه وعبادة له .

إن قلت : إذا لم يعلموا ذلك لم يكفروا ؛ لأنّ تكليف غير العالم تكليف [ب-] ما لا يُطاق؟

قلت : تكليف غير العالم ليس تكليفا بما لا يُطاق ، إلاّ في صورة عدم تمكّنه من العلم ، أو عدم إعلام وجوب ما إذا أطاع فيه أدّى إلى العلم على أنّهم فيما نحن فيه علموا بمعجزات النبيّ صلى الله عليه و آله وبنصّه من عند اللّه تعالى ، على أنّ القول على اللّه بغير علم بل بالرأي والاجتهاد حرام ، فعلموا أنّ تقليدهم حرام ، وأصرّوا على التقليد عمدا ، وإنّما المجهول عندهم كون التقليد عبادة لهم ؛ فليس هذا من تكليف [ب-] ما لا يُطاق في شيء .

وفي التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام في قوله تعالى : «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ»(2) حديث طويل وفي آخره : «أنّ من علم اللّه من قلبه من هؤلاء العوامّ أنّه لا يريد إلاّ صيانة دينه وتعظيم وليّه لم يتركه في يد هذا المتلمّس(3) الكافر ، ولكنّه يقيّض له مؤمنا يقف به على الصواب ، ثمّ يوفّقه اللّه للقبول منه ، فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ويجمع على مَن أضلّه لعن الدنيا وعذاب الآخرة»(4) انتهى . .

ص: 448


1- في «د» : «أو» .
2- البقرة (2) : 78 .
3- في حاشية «أ» : «تَلَمَّسَ : تطلب مرة بعد اُخرى» ، وفي المصدر : «الملبس» بدل : «المتلمّس» .
4- تفسير الإمام العسكري عليه السلام ، ص 301 .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيِّ) ؛ بالهاء والميم المفتوحتين والمعجمة نسبةً إلى بلد بناه همذان بن الفلّوج بن سام بن نوح .(1) (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بضمّ المهملة وفتح الموحّدة وسكون الخاتمة .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) ؛ يحتمل الأوّل والثاني عليهماالسلام . (يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتُمْ أَشَدُّ تَقْلِيدا) أي لأئمّتكم (أَمِ الْمُرْجِئَةُ؟) .

الإرجاء على معنيين : الأوّل : التأخير ، وهذا إذا كان مهموز اللام . الثاني : إعطاء الرجا ، وهذا إذا كان من الناقص الواوي . و«المرجئة» بضمّ الميم وسكون المهملة وكسر الجيم ، فإن جعلت من الأوّل وقد حصرها فيه الأكثر ، كان بعد الجيم همزة ، ويجوز قلبها ياءً ، ويجوز تشديد الياء للنسبة على حذف لام الفعل بعد قلبها ياءً . وقيل : لا يجوز .(2) والمراد بها هنا المؤخِّرَة لأمير المؤمنين عليه السلام إلى المرتبة الرابعة ، وعلى هذا المرجئة والشيعة طائفتان متقابلتان .

وإن جعلت من الثاني كان بعد الجيم ياء مخفّفة ، ويجوز تشديدها للنسبة على حذف لام الفعل . والمراد بها هنا المجوّزة للناس حتّى للأئمّة اتّباعَ الرأي والهوى في الدِّين بالاجتهادات الظنّيّة . وعلى هذا يشمل المرجئة نحو الزيديّة(3) القائلين بالاجتهاد .

والمشهور إطلاق المرجئة على الطائفة المؤخّرة للعمل عن الإيمان ، حيث جعلوا التصديق المعتبر في حدّ الإيمان عبارة عن العلم اليقيني ؛ أي العلم باصطلاح المتكلِّمين ، فحكموا بأنّ إيمان الصدِّيقين والفسّاق لا يتفاوت بالكمال والنقصان ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين» . .

ص: 449


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 361 ؛ وحكاه الميرداماد في الرواشح السماوية ، ص 149 .
2- في حاشية «أ» : «صاحب القاموس . (منه دام ظله)» . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 16 .
3- هم جماعة ينسبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة عليهاالسلام ولم يجوّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم ، إلاّ أنّهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماما واجب الطاعة ، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين عليهماالسلام . الملل والنحل ، ج 1 ، ص 154 .

وهذا لضرورة أنّ التفاوت في الاعتقادين قوّةً وضعفا لا يمكن إلاّ بتجويز النقيض في أحدهما ، وهو ينافي العلم ، ولم يشترط جمهورهم الإقرار باللِّسان .

وهذه الطائفة معطية أيضا للناس رجاءهم ، حيث جرّؤوهم على المعاصي ، فإنّهم قالوا : إنّ المؤمن بهذا المعنى لا يخلّد في النار ، ولا ينافي إيمانه ترك الطوع ولا فعل جميع الكبائر مع ترك التوبة .(1)

ومذهب الوعيديّة - وهم المعتزلة والخوارج - أنّ كلّ كبيرة بلا توبة ينافي الإيمان المُنجي من الخلود في النار ، وأنّ مرتكب الكبيرة بلا توبة من أهل القبلة ليس بمؤمن ولا كافر ، بل في منزلة بين المنزلتين ، أي مخلّد في النار وعذابه أخفّ من عذاب الكافر .

وعلى هذا فالمرجئة والوعيديّة على طرفي التفريط والإفراط ، وبينهما الإماميّة القائلون بالأمر بين الأمرين هنا أيضا ، كما قالوا به في مسألة خلق الأعمال ، وهو هنا أنّ التصديق المعتبر في حدّ الإيمان المُنجي من الخلود في النار هو الطوع القلبي ، وعلامته سوء السيّئة وسرور الحسنة ، فلا ينافي الإيمان كلّ كبيرة ، بل إنّما ينافيه من الكبائر ما يكشف عن الجرأة المتأكّدة المنافية للطوع ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في مواضع منها تاسع «باب الكفر» .

وأمّا العلم بما يجب التصديق به فليس للعباد فيه صنع وأنّه شرطٌ للكفر ، كما أنّه شرطٌ للإيمان ، كما يجيء في «باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة» من «كتاب التوحيد» .

وقد يطلق المرجئة على الجبريّة ؛ لأنّ الجبر من مقالات المرجئة ، وذلك كما قيل(2) في الحديث : «صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدريّة»(3) .

وقيل(4) : المرجئة أصناف أربعة : مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدريّة ، ومرجئة .

ص: 450


1- حكاه الايجي في المواقف ، ج 3 ، ص 501 ؛ الإنصاف فيما تضمنه الكشاف ، ج 1 ، ص 327 ؛ و ج 3 ، ص 556 ؛ شرح المواقف للقاضي الجرجاني ، ج 8 ، ص 309 .
2- في حاشية النسخ : «القائل الطيبي في شرح المشكاة (منه دام ظلّه)» .
3- جامع الأخبار ، ص 188 ؛ وعنه في مستدرك الوسائل ، ج 18 ، ص 185 ، ح 39 .
4- في حاشية «د» : «القائل الشهرستاني» وفي حاشية «ج ، أ» : «الشهرستاني» .

الجبريّة ، ومرجئة الخالصة .(1) انتهى .

(قُلْتُ : قَلَّدْنَا وَقَلَّدُوا) أي قلّدنا أئمّتنا وقلّدوا أئمّتهم .

(فَقَالَ : لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هذَا) أي ليس سؤالي عن أصل التقليد ، بل عن التفاوت بينكم وبينهم في التقليد .

(فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ أَكْثَرُ مِنَ الْجَوَابِ الاْءَوَّلِ) ؛ يعني فسكتُّ عن الجواب ثانيا لجهلي به .

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ الْمُرْجِئَةَ نَصَبَتْ رَجُلاً) ؛ من باب ضرب ، أي أقامت رجلاً للإمامة من عند نفسها . وهذا أحد وجهي تسميتها بالناصبة والنواصب ، أو المراد قالت بإمامة رجل .

(لَمْ تَفْرِضْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو من باب ضرب ، وفيه ضمير(2) راجع إلى المرجئة .

(طَاعَتَهُ) ؛ منصوب على أنّه مفعول به ؛ أي لم يعدوا طاعته فرضا من اللّه ، فإنّهم لم يقولوا بأنّه مُفترض الطاعة بحيث لا يجوز مخالفته بالاجتهاد ؛ لأنّهم علموا أنّ غاية مجهوده في الفتوى أن يكون ظانّا مجتهدا فيها ، إمّا مخطئا وإمّا مصيبا ، أو لم يوجبوا طاعته .

وعلى الثاني في الكلام دلالة على أنّهم يوجبون من عند أنفسهم أشياء ، ولكن لم يوجبوا طاعته بحيث لا يجوز مخالفته بالاجتهاد .

(وَقَلَّدُوهُ) أي في كلّ فتاويه .

(وَأَنْتُمْ نَصَبْتُمْ رَجُلاً) ؛ من باب مجاز المشاكلة(3) ، فإنّ الرجل منصوب من عند اللّه ورسوله ، أي قلتم بإمامة رجل ، ومراده بالرجل نفسه عليه السلام . .

ص: 451


1- الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 139 ، معنى الإرجاء .
2- في «ج» : «ضمير فيه» بدل : «فيه ضمير» .
3- مجاز المشاكلة : ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته ذلك الغير ، نحو : قالوا اقترح شيئا نجدُّ لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا حيث ذكر خياطة الجبّة بلفظ الطبخ لمصاحبته طبخ الطعام .

(وَفَرَضْتُمْ طَاعَتَهُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو من باب ضرب ، وعلى الثاني يكون من باب مجاز المشاكلة ، فإنّ الفارض هو اللّه ورسوله ؛ أي قلتم بأنّه مفترض الطاعة لا يجوز مخالفته بالاجتهاد ، معصوم في كلّ فتاويه عن الخطأ .

(ثُمَّ لَمْ تُقَلِّدُوهُ) أي في كلّ فتاويه ، و«ثمّ» للتعجّب .

(فَهُمْ أَشَدُّ مِنْكُمْ تَقْلِيدا) . هذا شكاية عظيمة منه للشيعة في زمانه عليه السلام ، ولعلّ باعثها عدم سكوتهم عمّا لم يعلم ، أو عدم اهتمام بعض الشيعة بالتقيّة مع صدور التشديد عن الأئمّة في أمرها .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1) فَقَالَ : وَاللّه ِ ، مَا صَامُوا لَهُمْ وَلاَ صَلَّوْا لَهُمْ ، وَلكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاما ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلاَلاً ، فَاتَّبَعُوهُمْ) .

ظهر معناه ممّا مرَّ في أوّل الباب . .

ص: 452


1- التوبة (9) : 31 .

باب البدع والرأي والمقاييس

الباب العشرون بَابُ الْبِدَعِ وَالرَّأْيِ وَالْمَقَايِيسِ

فيه اثنان وعشرون حديثا ، أو ثلاثة وعشرون إن عدّ ما في السابع عشر حديثين ، أو أربعة وعشرون إن عُدّ ما في التاسع عشر أيضا حديثين .

«البدع» بكسر الموحّدة وفتح المهملة جمع «بِدعة» بالكسر ؛ يُقال : بدع - كحسن - أي حدث لا عن مثال سابق ، وبدعه - كمنعه - أي اخترعه وأحدثه لا عن مثال سابق كابتدعه . والبدعة الاسم من الابتداع ، كالرفعة من الارتفاع ، والخِلفة من الاختلاف .(1)

والمراد بالبدع هنا الأهواء ، وهي الاعتقادات المبتدأة ، أي الغير المستندة إلى قرينة ولا أصل يُقاس عليه ، بقرينة مقابلتها بالرأي والمقاييس .

ومنه ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «كلّ محدثة بدعة»(2) . تأنيث «محدثة» لأنّ المراد طريقة محدثة ، وظاهر أنّه ليس مراده بيان المعنى(3) اللغوي ، بل مراده أنّ كلّ حكم حدث بعد ما لم يكن مستند البتّة إلى اتّباع الهوى والاعتقاد المبتدأ بلا واسطة أو بواسطة .

ومثله ما روى ابن بابويه في معاني الأخبار أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أخبرني عن السنّة والبدعة ، وعن الجماعة ، وعن الفرقة؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام :

ص: 453


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1355 (خلف) .
2- الأمالي للطوسي ، ص 337 ، المجلس 12 ، ح 26 ؛ تحف العقول ، ص 151 ؛ كشف الغمّة ، ج 2 ، ص 134 ؛ بحارالأنوار ، ج 2 ، ص 301 ، ح 30 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 12 ، ص 325 ، ح 5 .
3- في «ج» : «معنى» .

«السُنّة : ما سنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والبدعة : ما اُحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(1) انتهى .

«والرأي» بفتح الراء وسكون الهمزة والخاتمة : الظنّ الحاصل بالاجتهاد بدون أصل يُقاس عليه ، وجمعه «أرءاء» و«آراء» على القلب ، ولم يجمع ، مع أنّ سابقه ولاحقه جمع للإشارة إلى كثرة أنواع البدعة والمقيس وقلّة الرأي حتّى قال بعض أصحابنا : إنّ ما يجد المجتهدون أنفسهم عليه اعتقاد مبتدأ لا ظنّ عن أمارة(2) ، أو لأنّه مصدر دونهما ، وجمع المصدر قليل .

«والمقاييس» بالخاتمتين جمع «مقيس» بردّه إلى أصله ، وهو مقيوس - كمحصور ومحاصير - تقول قاسه به وعليه وإليه، من باب ضرب ، قيسا بالفتح ، وقياسا بكسر القاف ، أي نسبه وأضافه إليه لاستنباط معنى ، سواء كان الاستنباط علميّا أم ظنّيا ، وسواء كان المعنى حكما بحسب الدِّين أم بحسب الدنيا ، أم غير حكم .

والمراد بالحكم الحسنُ والقبح وأقسامهما وما يتعلّق بهما ، ويسمّى الشيء الأوّل مقيسا ، والثاني(3) مقيسا به ومقيسا عليه ومقيسا إليه .

هذا معنى القياس لغةً . وخصّ القياس في عرف الفقهاء بنسبة شيء إلى آخر لاستنباط حكم بحسب الدين ظنّي متعلّق بالأوّل .

خرج بقولنا : «الاستنباط» ما ليس للاستنباط ، بل للاتّعاظ والانزجار ، كما في قوله تعالى : «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاْءَبْصَارِ»(4) ، فإنّه بعد قيام الدلالة القطعيّة على الحكم .

وخرج بقولنا : «حكم» ما لاستنباط غير الحكم ، كما في قوله تعالى في سورة المؤمنين : «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْءَنْعَامِ لَعِبْرَةً»(5) ، وكاستنباط كون بعض الأفعال ممّا يتناوله .

ص: 454


1- معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى الجماعة والفرقة والسنة والبدعة ، ح 3 .
2- الشافي في الامامة للمرتضى ، ج 1 ، ص 171 .
3- في «ج» : - «مقيسا والثاني» .
4- الحشر (59) : 2 .
5- المؤمنون (23) : 21 .

الخطاب ، ويقصده المتكلِّم في نفس خطابه ليعمل به ، سواء لم يكن الحكم الواقعي معلوما ولا مظنونا ، أم كان أحدهما ، كالضرب في : «لاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(1) ، وكالنبيذ في «الخمرُ حرام لسكره» .

ومثل هذين قد يسمّيان قياسا بطريق أولى وقياسا منصوص العلّة ، وذلك إذا اُريد بهما استنباط حكم ظنّي ، وكدخول باقي الرجال في ظاهر الجواب عن السؤال رجل فعل كذا وكذا أو في نصّه ونحو ذلك ، وكاستنباط المساحة في قولك : قست الثوب بالذراع .

وخرج بقولنا : «بحسب الدين» ما لاستنباط نحو حسن شرب بعض الأدوية للمريض ؛ أي نفعه له بحسب الدنيا .

وخرج بقولنا : «ظنّي» ما لاستنباط الأحكام القطعيّة .

وخرج بقولنا : «متعلّق بالأوّل» ما لاستنباط حكم هو نفس الأوّل ، كقولنا : الصلاة واجبة ؛ لقوله تعالى : «أَقِمْ الصَّلاَةَ»(2) . ومن هذا القبيل القياس باصطلاح المنطقيّين ، إلاّ أنّه غير مخصوص باستنباط الحكم بالمعنى السابق .

[أقسام القياس]

والقياس قسمان :

الأوّل : أن يكون الحكم في المقيس مبنيّا على حكم في المقيس عليه مماثلاً له ، ويسمّى قياس المساواة .

الثاني : أن يكون مبنيّا عليه مخالفا له ، ويسمّى قياس العكس .

وقياس المساواة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يلاحظ فيه العلّة في المقيس عليه صريحا ، كما في قياس النبيذ على الخمر لعلّة السكر ، ويسمّى قياس العلّة . .

ص: 455


1- الإسراء (17) : 23 .
2- هود (11) : 114 .

الثاني : أن يلاحظ فيه ما يلازم العلّة ، كما في قياس النبيذ على الخمر لرائحة المشتدّ .

الثالث : أن يلاحظ فيه نفي الفارق ، ويسمّى القياس بتنقيح المناط ، والقياس في معنى الأصل والقياس بنفي الفارق .

ولا يخفى أنّ القسمين الأوّلين يجريان في قياس العكس أيضا .

وقياس العكس على قسمين :

الأوّل : ما يثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علّة حكم الأصل ، نحو : الوتر يؤدّى على الراحلة ؛ لأنّه نفل قياسا على صلاة الصبح لمّا كانت فرضا لم تؤدّ على الراحلة .(1)

الثاني : ما يثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض معلول حكم الأصل ، نحو : الوتر نفل ؛ لأنّه يؤدّى على الراحلة قياسا على صلاة الصبح لمّا كانت فرضا لم تؤدّ على الراحلة .

ثمّ القياس جليّ وخفيّ ؛ والجليّ : قياس الأولويّة وقياس منصوص العلّة ، والخفيّ : ما عداهما . وأمّا إذا كان نفي الفارق معلوما قطعا مع العلم بحكم الأصل ، فهو خارج عن حدّ القياس المتنازع فيه ؛ لأنّه يفيد القطع بالحكم ، وحينئذٍ يسمّى تنقيح المناط في الدلالة وتشبيها أيضا ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في رابع «باب في إبطال الرؤية» من قوله عليه السلام : «وكان ذلك التشبيه ؛ لأنّ الأسباب لابدّ من إتّصالها(2) بالمسبّبات» . ويظهر بذلك كثرة أنواع القياس .

والمراد بالمقاييس هنا ما اُثبت بالقياس من الأحكام .

قيل : وفي الفقهاء من فَصَلَ بين القياس والاجتهاد(3) ، وفيهم مَن أدخل القياس في الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه .(4) انتهى . .

ص: 456


1- اُنظر: وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 325 ، باب 14 ، باب عدم جواز صلاة الفريضة والمنذورة على الراحلة .
2- في «أ ، ج» : «إيصالها» .
3- في حاشية النسخ : «ذكر مضمونه السيد المرتضى في الذريعة» . الذريعة ، ج 2 ، ص 669 ، فصل في القياس والاجتهاد .
4- الذريعة للسيد المرتضى ، ج 2 ، ص 672 .

وهذا ليس نزاعا حقيقةً ، بل راجع إلى بيان وقوع الاستعمالين ، والرأي مساوق للاجتهاد ، فظاهر العنوان الأوّل .

الأوّل : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ؛ وَعِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ جَمِيعا ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا بَدْءُ)(1) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمزة ، أي سبب .

(وُقُوعِ الْفِتَنِ) ؛ بكسر الفاء وفتح المثنّاة فوقُ ، جمع «فِتنة» بالكسر ، والمراد بها هنا الاختلاف في الفتوى والقضاء عن ظنّ . وقد يُراد بها الضلال أو الإضلال أو الكفر . ويحتمل أن يُراد بها هنا الامتحان والاختبار من اللّه تعالى مع خروج الممتحنين إلى القبيح ، فإنّ ما ذكر بقضاء اللّه .

(أَهْوَاءٌ) ؛ جمع «هوى» بالفتح مقصورٍ ، وهو ميل النفس إلى شيء .

(تُتَّبَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، أي يَتْبَعُها صاحبوها ويعملون على مقتضاها . والمراد أنّ سبب وقوع الاختلافات الاجتهاديّة الظنّيّة في الحلال والحرام ليس إلاّ اتّباع الأهواء ، وهو المعبّر عنه بتداكر العلم وبصفة الحلم فيما مضى في خامس السابع عشر .(2)

(وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، من قبيل عطف التفسير . والمراد بابتداع الأحكام أن لا تكون عن أمارة ولا عن أصل تستند إليه ، فهي اعتقادات مبتدأة . وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ»(3) . .

ص: 457


1- في حاشية «أ» : «إمّا بالموحّدة والمهملة المضمومتين والواو المشدّدة مصدر بدأ يبدو : إذا ظهر ، وإمّا بفتح الموحّدة وتسكين المهملة والهمز أخيرا ، وفق ما في نهج البلاغة المكرمة من بدأت الشيء (م ح ق)» .
2- أي الحديث 5 من باب النوادر .
3- النحل (16) : 116 .

(يُخَالَفُ) ؛ بصيغة المجهول من باب المفاعلة ، استئنافٌ بياني ، أو صفة اُخرى لأحكام (فِيهَا) أي في الأحكام .

(كِتَابُ اللّه ِ) المخالفة بكون القضايا التي حكم بها منافيةً لما في كتاب اللّه صريحا ، فهي بمحض اللسان ، كما في سورة النحل من قوله : «وتَصِفُ ألْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ»(1) وقوله : «لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ»(2) .

(يَتَوَلّى) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل ، معطوفٌ على «يخالف» بحذف العاطف ، أو صفة اُخرى لأحكام من تولاّه : إذا اتّخذه وليّا ، أي ناصرا مفوّضا إليه اُموره ، كما في قوله تعالى في سورة الحجّ : «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ»(3) .

(فِيهَا) ؛ أي في الأحكام و«في» للتعليل أو للظرفيّة ، والتولّي على الأوّل التقليد في مسائل الحلال والحرام ، وعلى الثاني التقليد في تأويل الآيات البيّنات .

(رِجَالٌ) ؛ جمع كثرة ، وهم التابعون لقواعد الضلالة .

(رِجَالاً) ؛ هم من سنّ قواعد الضلالة ، فإنّ من نظر إلى كثرة المخالفين وشهرة قواعدهم بين الناس عصرا بعد عصر افتتن ، إلاّ من رحم اللّه .

(فَلَوْ) ؛ الفاء للتفريع على الحصر المدلول عليه بإنّما في قوله : «إنّما بدء وقوع الفتن» .

(أَنَّ) ؛ بفتح الهمزة والتشديد ، وموضعها عند جميع النحاة رفع ، فعند سيبويه بالابتداء ، ولا يحتاج إلى خبر ؛ لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه(4) ، وقيل : على الابتداء والخبرُ محذوف ، ثمّ قيل : يقدّر مقدّما ، أي فلو ثابت خلوص الباطل ، وقيل : بل يقدّر مؤخّرا ، أي فلو خلوصه ثابت . والأرجح ما ذهب إليه المبرّد والزجّاج والكوفيّون من أنّه على الفاعليّة ؛ أي فلو ثبت خلوصه ؛ لأنّ فيه إبقاء «لو» على .

ص: 458


1- النحل (16) : 62 .
2- النحل (16) : 116 .
3- الحج (22) : 4 .
4- حكاه عنه في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 269 .

الاختصاص بالفعل .(1)

(الْبَاطِلَ) أي ما يجب الكفر به كإمامة الطاغوت .

(خَلَصَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب نصر ، أي عن شوب أن يتأتّى فيه الأهواء بأن يكون كقولنا : الواحد نصف الثلاثة ، أو زوايا المثلّث مساوية لقائمة .

(لَمْ يَخْفَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب علم ؛ يُقال : خفي - كعلم - إذا لم يظهر . والمراد لم يخف بطلانه .

(عَلى ذِي حِجًى) بكسر المهملة والجيم والقصر : العقل والفطنة . والمقصود أنّه لم يكن حينئذٍ ضلالة ولا في الكفر به ثواب ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في «باب ابتلاء الناس [واختبارهم] بالكعبة» .

(وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ) أي ما يجب التصديق به .

(خَلَصَ) أي عن شوب أن يتأتّى في ضدّه الأهواء بأن يكون كقولنا : الواحد نصف الاثنين أو زوايا المثلّث مساوية لقائمتين .

(لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ) أي لم يختلف الحقّ في اثنين بأن يوفّق له واحد ويؤفك عنه آخر ، أو لم يختلف فيه اثنان بعد التأمّل فيه أو النظر إلى أدلّته ، فلم يكن ضلالة ولا في التصديق به ثواب ، كما يجيء أيضا في «باب ابتلاء الناس [واختبارهم] بالكعبة» .

(وَلكِنْ يُوءْخَذُ) ؛ بصيغة المجهول ، والفاعل هو اللّه تعالى .

(مِنْ هذَا) أي من الباطل .

(ضِغْثٌ) ؛ بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة والمثلّثة : قبضة من الحشيش أو ممّا أشبهه .(2)

(وَمِنْ هذَا) أي من الحقّ .

(ضِغْثٌ ، فَيُمْزَجَانِ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، أي يخلط الضغثان . .

ص: 459


1- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 269 .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 285 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 164 ؛ القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 169 (ضغث) .

(فَيَجِيئَانِ مَعا) أي في التكليف . والحاصل أنّ التكاليف الشرعيّة لا تخلو عن معارضات وهميّة .

(فَهُنَالِكَ) أي ففي هذا المكان الذي هو مكان مزج الحقّ والباطل .

(اسْتَحْوَذَ) أي غلب واستولى بخذلان اللّه تعالى. وهذه اللفظة ممّا جاء على الأصل من غير إعلال خارجة عن أخواتها نحو استقال واستقام .

(الشَّيْطَانُ عَلى أَوْلِيَائِهِ) أي على أحبّائه ، وذلك بحبّهم الدنيا ، واستحواذُه عليهم بإنسائه إيّاهم ذكر اللّه ، وهو كتاب اللّه باتّباعهم الأهواء ، وحكمهم بخلاف كتاب اللّه . وهو إشارة إلى قوله تعالى في سورة المجادلة : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه ِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ»(1) .

(وَنَجَا) أي من استحواذ الشيطان .

(الَّذِينَ سَبَقَتْ) أي في مشيّته تعالى ، وسيجيء تفسير المشيّئة في «كتاب التوحيد» في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة أو في علمه»(2) .

(لَهُمْ مِنَ اللّه ِ الْحُسْنى) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء : «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ»(3) ؛ أي عن جهنّم . والحسنى تأنيث الأحسن ، أي الخصلة الحُسنى ، وهي اتّباع كتاب اللّه بترك الأهواء ، كما في قوله تعالى في سورة الكهف : «فَلَهُ جَزَاءُ الْحُسْنَى»(4) على قراءة رفع جزاء بلا تنوين للإضافة . أو المراد المشيّة الحسنى ، وهي التوفيق لهم لنهي النفس عن الهوى باتّباع كتاب اللّه وإن خالف الأهواء .

وهذا الفرق بين الطائفتين بالخذلان والتوفيق ممّا استأثر اللّه تعالى بالعلم بسرّه ، ولا .

ص: 460


1- المجادلة (58) : 19 .
2- عنوان الباب في الكافي المطبوع هكذا : «باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة» .
3- الأنبياء (21) : 101 .
4- الكهف (18) : 88 .

يجوز لنا الاستكشاف عنه ، كما في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام (1) ، إنّما المعلوم لنا أنّ جميع ذلك برعاية الحكمة ، فلا يجوز له التبديل ولا يندم ، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(2)في «ج» : «أظهرت» .(3) . وسيجيء بيانه في «باب الخير والشرّ» من «كتاب التوحيد» .

أو المراد المنزلة الحسنى ، وهي الجنّة والرضوان ، كما في قراءة تنوين «جزاء» أو عدم التنوين لالتقاء الساكنين .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ الْعَمِّيِّ) ؛ العمّ بفتح المهملة وشدّ الميم موضع بين حلب وأنطاكية .(4) ولقب مالك بن حنظلة ، وقيل : ابن زيد أبو قبيلة .(5)

(رَفَعَهُ(6) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا ظَهَرَتِ(6) الْبِدَعُ) . مضى تفسير البدع في شرح عنوان الباب ، وظهورها : انتشارها وشهرتها أو حدوثها .

(فِي أُمَّتِي ، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ) أي إن لم يكن تقيّة ، سواء جوّز التأثير أم لا ، فإنّه لولا الإظهار لتوهّم العوامّ أنّها إجماعيّة .

(عِلْمَهُ) أي ما علم في النهي عن البدع ، أو علمه بالحكم الواقعي .

(فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ) أي فمن لم يُظهر من العلماء علمه مع الشرط .

(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّه ِ) ، فإنّه رضي بها أو تسامح فيها . والجملة خبريّة أو دعائيّة .

الثالث : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ رَفَعَهُ ، قَالَ : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله مَنْ أَتى .

ص: 461


1- اُنظر: الكافي ، ج 1 ، ص 230 ، باب ما اعطي الأئمة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم .
2- الأنعام
3- : 115 .
4- معجم البلدان ، ج 4 ، ص 157 (عمّ) .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 154 (عم) .
6- في الكافي المطبوع : «يرفعه» .

ذَا بِدْعَةٍ فَعَظَّمَهُ) أي بدون تقيّة (فَإِنَّمَا يَسْعى فِي هَدْمِ الاْءِسْلاَمِ) ؛ لأنّ تعظيمه يعينه على البدعة التي هي هادمة للإسلام .

الرابع : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : أَبَى اللّه ُ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ) أي للمزاول لها (بِالتَّوْبَةِ) ؛ الباء زائدة لتقوية التعدية ، والمراد أنّه(1) لا يوفّقه اللّه تعالى للتوبة .

(قِيلَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، وَكَيْفَ ذلِكَ؟) أي بأيّ سبب لا يوفّق للتوبة؟

(قَالَ : إِنَّهُ) ؛ بكسر الهمزة ، والضمير للشأن أو لصاحب البدعة . (قَدْ أُشْرِبَ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم ، وفاعله هو اللّه بقضائه أو الشيطان بإغوائه ، كما في قوله : «فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه ِ» ، والمنسي حقيقة هو اللّه . (قَلْبُهُ) ؛ بالرفع أو النصب . (حُبَّهَا) .

يُقال : اُشرب فلان حبَّ فلان ، أي خالط قلبه . والمقصود أنّه لا يتوب حقيقةً للإشراب وإن أظهر التوبة .

ويمكن أن يُحمل على هذا ما روى البرقي في كتاب المحاسن عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «كان رجل في الزمان الأوّل طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، فطلبها حراما فلم يقدر عليها ، فأتاه الشيطان فقال : يا هذا قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، أفلا أدلّك على شيء يكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟ قال : نعم ، قال : تبتدع دينا وتدعو إليه الناس ، ففعل ، فاستجاب له الناس وأطاعوه وأصاب من الدنيا» .

قال : «ثمّ إنّه فكّر وقال : ما صنعت شيئا ، ابتدعت دينا ودعوت الناس إليه ، ما أرى لي توبة إلاّ أن آتي مَن دعوته إليه فأردّه عنه» .

قال : «فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه ، فيقول : إنّ الذي دعوتكم إليه باطل ، وإنّما ابتدعته كذبا ، فجعلوا يقولون له : كذبت ، هو الحقّ ولكنّك شككت في دينك فرجعت عنه» . .

ص: 462


1- في «د» : - «أنّه» .

قال : «فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة ، فأوتد لها وتدا ، ثمّ جعلها في عنقه فقال : لا أحلّها حتّى يتوب اللّه عليَّ» .

قال : «فأوحى اللّه إلى نبيٍّ من أنبيائه أن قُل لفلان بن فلان : وعزّتي لو دعوتني حتّى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتّى تردّ مَن مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه» .(1)

فإنّ ظاهر سياق الحديث أنّه لم يمت أحد ممّن استجاب له موتَ فناء ، بل إنّما مات موتَ كفر ونفاق ، ف- «على» في قوله : «من مات على ما دعوته» بنائيّة ، والمقصود أنّ انتفاء رجوعهم لانتفاء إخلاصك في قولك : «إنّ(2) الذي دعوتكم إليه باطل» إلى آخره ، ففعلك هذا مخادعة اللّه . فلا ينافي هذا الحديث آيات قبول اللّه التوبة عن عباده .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ تَكُونُ مِنْ بَعْدِي) .

المراد إمّا عصر الصحابة ، فيكون أمرا لهم بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام في الاُمور المختلَف فيها ؛ فإنّ الأصحاب الذين روى البخاري وغيره فيهم أنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أسّسوا أساس كلّ بدعة ؛ وإمّا إلى آخر الزمان .

(يُكَادُ بِهَا الاْءِيمَانُ) ؛ بصيغة مجهول من باب ضرب ، صفة اُخرى لبدعة . والكيد بالفتح : المكر ، أي التغليط والتلبيس . والإيمان : التصديق بالحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ أو الحقّ نفسه أو أهله .

(وَلِيّا) . الوليّ فعيل من باب حسب : ضدّ العدوّ ، من الولي - بفتح الواو وسكون اللام - : القرب والدنوّ . والوليُّ أيضا مَنْ وَليَ أمرَ أحد ، مِنْ وَلِيَ الوالي البلد ، فإن جعل الوليّ هنا من الأوّل ، فالمراد وليّ اللّه ، وإن جعل من الثاني فالمراد وليّ الناس ، أي القائم باُمورهم . .

ص: 463


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 207 ، باب البدع ، ح 70 .
2- في «ج» : - «إنّ» .

(مِنْ أَهْلِ بَيْتِي) ؛ هم : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن يجري مجراهم بعدهم من الأئمّة الطاهرين ، ويحتمل أن يكون المراد هنا ما يعمّهم وأولادهم ، فإنّ «من» للتبعيض .

(مُوَكَّلاً) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل ، يُقال : وكّلته بأمر كذا توكيلاً ، أي جعلته حافظا له . (بِهِ ) أي بالإيمان .

(يَذُبُّ عَنْهُ) ؛ بالمعجمة وشدّ الموحّدة بصيغة معلوم باب نصر ، أي يدفع عن الإيمان كيد المبطلين أهل البدعة .

(يَنْطِقُ) - كيضرب - استئنافٌ بياني لقوله : «يذبّ» أي يتكلّم في مقام الإفتاء والقضاء ونحوهما .

(بِإِلْهَامٍ مِنَ اللّه ِ) . الإلهام: إلقاء تصوّر شيء في القلب وقت الحاجة ، والمراد هنا تحديث الملائكة في ليلة القدر ونحوها ، وهو إحضارهم جميع الدلائل القرآنيّة على مسائل الحلال والحرام المحتاج إليها في كلّ سنة سنة عند وليّ تلك السنة لئلاّ يحكم في شيء من المسائل عن ظنّ ؛ يعني أنّ كيد المبطلين هو أنّه لا يمكن العلم في أكثر مسائل الحلال والحرام في هذه الأزمان مع حاجة الناس إلى المفتي والقاضي ، فلابدّ من جواز الحكم عن ظنّ ، وهذا الكيد يبطل بالعلم بتحقّق وليّ ناطق عن اللّه بإلهام منه في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، ويظهر به الحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات .

ولذا قال :

(وَيُعْلِنُ الْحَقَّ ، وَيُنَوِّرُهُ) . الإعلان : الإظهار ، والتنوير : البيان .

(وَيَرُدُّ كَيْدَ الْكَائِدِينَ) أي يدفع عن كلّ ما ينطق به شُبه المبطلين أهل البدعة عقليّاتهم ونقليّاتهم .

(يُعَبِّرُ) ؛ بالمهملة والموحّدة ومهملة ، تقول : عبّرت عن فلان تعبيرا : إذا تكلّمت عنه .

(عَنِ الضُّعَفَاءِ) أي عن المؤمنين الذين لم يزاولوا طرق الاستدلال ودفع الشُّبه .

ص: 464

(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاْءَبْصَارِ) . أمرٌ بالتفكّر(1) في عاقبة الاُمور ، أو هو كلام أبي عبداللّه عليه السلام ، وهو تعجّب من أمر الاُمّة حيث إنّهم مع سماعهم أمثال هذه من نبيّهم كيف تركوا أهل بيته ، واستندوا في جميع أحكامهم إلى أهوائهم وآرائهم ومقاييسهم وقلّدوا مجتهديهم ، بل خذلوا أهل بيته وقتلوهم .

والاعتبار : الاتّعاظ والتدبّر في عاقبة الشيء ، والمخالفون يفسّرونه بالقياس المتنازع فيه في الأحكام الشرعيّة . ومضى في شرح عنوان الباب ما يكفي في دفعه .

(وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللّه ِ) ؛ للاحتراز عن مثل هذا الخذلان .

إن قلت : إذا كان المراد بقوله : «من بعدي» إلى آخر الزمان ، لم ينطبق على حال زمان غيبة الإمام .

قلت : المراد بقوله : «يذبّ» إلى آخره ، أنّه يذبّ إذا سُئل وروجع إليه ومُكِّن في الأرض .

وأيضا منصب الكائدين في هذا البحث الاستدلال إمّا معارضةً ، وإمّا نقضا إجماليّا لوجود الآيات البيّنات المحكمات ، فيكفي في دفعه احتمال تحقّق وليّ ناطق بإلهامٍ من اللّه ، غائب بسبب حدث المبطلين ، فهو ذابّ من هذه الحيثيّة ؛ وبعد التجاوز نقول : لا نسلّم أنّ الإمام الغائب عن جمع غائبٌ عن كلّ جمع ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «باب في الغيبة» فلعلّه يذبّ في الجملة .

السادس :( مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ) ؛ بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة والدال المهملة والهاء . (بْنِ صَدَقَةَ ) ؛ بالصاد المهملة والدال المهملة والقاف المفتوحات والهاء . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ رَفَعَهُ) أي إلى أبي عبداللّه عليه السلام .

(عَنْ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إِلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . البغض ضدّ الحبّ ، تقول : فلان باغض لي : إذا مَقَتَك ، ومبغوض إليّ : إذا مَقَتَّهُ . .

ص: 465


1- في «ج ، د» : «بالفكر» .

(لَرَجُلَيْنِ :) أوّلهما : صوفيهم ، وهو شبيه رهبان النصارى ، وثانيهما : مجتهدهم ، وهو شبيه أحبار النصارى . وقد مرَّ تفسيرهما في أوّل «باب التقليد» . أو أوّلهما : إمام الضلالة ، وثانيهما : المُفتي والقاضي من أتباع الأوّل(1) . وقيل : أوّلهما : مفتيهم ، وثانيهما : قاضيهم .(2)

(رَجُلٌ) . رفعه على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي أحدهما رجل .

(وَكَلَهُ اللّه ُ إِلى نَفْسِهِ) . يُقال : وكل زيدٌ أمر ولده إلى غيره - كضرب - أي تركه واعتمد فيه على الغير ، فالأصل : وكل اللّه أمره إلى نفسه ، يعني خلاّه ونفسه .

إن قلت : الوكل إلى النفس مشتركٌ بين الرجلين ، فما وجه تخصيصه في الذكر بالأوّل؟

قلت : لأنّه في الأوّل أظهر وأقوى وأشدّ ، فإنّ الأوّل يكتسب ما ليس من ضروريّات دين الإسلام ولا من ضروريّات مذهبه بالرياضة ، فيتمسّك فيه بمعانٍ شعريّة يستحسنها بطبعه ولا يكتسبها من المدرّسين ، إنّما اكتسب من غيره طريق الرياضة فقط ، بخلاف الثاني ، فإنّه يبني آراءه في الغالب على قواعد وجهالات وضعها الاُصوليّون قبله ونسبوها إلى الشريعة واكتسبها منهم ، ولذا قال في الثاني : «قمش جهلاً» ، أو لأنّ الثاني فرع الأوّل ، وكذا الكلام فيما بعد هاتين الفقرتين .

(فَهُوَ جَائِرٌ) . الجور الميل عن القصد .

(عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ) . قصد : الوسط من كلّ شيء ، وهو بين الإفراط والتفريط . والمراد ما في قوله تعالى في سورة النحل : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ»(3) . ومضى في عاشر باب النوادر . والميل عنه : الخروج عنه والذهاب إلى اليمين أو الشمال .

(مَشْعُوفٌ)(4) ؛ بالمعجمة والمهملة والفاء ، من شعفه الحبّ - كمنع - أي أحرق قلبه .

ص: 466


1- شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 286 . وحكاه عنه بدر الدين العاملي في الحاشية على اُصول الكافي ، ص 63 .
2- شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 2 ، ص 242 .
3- النحل (16) : 43 - 44 .
4- في الكافي المطبوع : «مشغوف» .

أو أمرضه . وفي بعض النسخ بالغين المعجمة ، من شغفه الحبّ : إذا أصاب شغافه ، وهو غلاف القلب ، أي دخل حبّه تحت الشغاف .

(بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ) : بما يعظ به مريديه وأتباعه في السلوك والسيرة من المعاني الشعريّة وغيرها التي يستحسنها طباع العوامّ ، وليس في الشريعة منها أثر .

(قَدْ لَهِجَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ) . اللهج بالشيء، بالجيم بفتحتين من باب علم : الحرص فيه لاعتياده ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب الصدق وأداء الأمانة» : «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم ؛ فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش» .

(فَهُوَ فِتْنَةٌ) ؛ بالكسر ، أي امتحان واختبار . والحمل مجاز .

(لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم ، يُقال : افتتنه : إذا امتحنه واختبره فافتتن ؛ متعدّ لازم ، ثمّ كثر استعمالهما فيمن أخرجه الاختبار إلى القبيح ، وهو المراد هنا .

(ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ(1) مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) . الهدى بضمّ الهاء والمهملة والقصر : الرشاد والإرشاد ، وبفتح الهاء وسكون الدال والخاتمة : الإرشاد والسيرة ، أي عن طريقة السؤال فيما لا يعلم ، فإنّه لا يسأل أصلاً ، بل يعتمد على طريقة الرياضة وهوى نفسه ، أو عن طريقة سؤال أهل الذِّكر .

والمراد بمن كان قبله الأنبياء عليهم السلام ، قال تعالى في سورة الأنعام : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه ُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ»(2) ، وقال فيها : «إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ»(3) ، وقال في سورة يوسف : «قُلْ .

ص: 467


1- في حاشية «أ» : «عن هدى من كان قبله» بفتح الهاء وكسرها وسكون المهملة ، أي عن سيرته وطريقته ، يقال : هدى هدْي فلان أي سار بسيرته وعمل بطريقته ؛ قاله في الصحاح . وقال في النهاية : ومنه الحديث «واهدوا هدي عمار» والحديث الآخر «الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» بكسر الهاء وفتحها معا وبسكون الدال في الجميع وكذلك ضبطناه ورويناه في دعاء سيد الساجدين عليه السلام في الصلاة على اتّباع الرسول ومصدّقيهم من الصحيفة الكريمة (م ح ق)» . اُنظر: الصحاح ، ج 5 ، ص 253 ؛ النهاية ، ج 5 ، ص 253 (هدا) .
2- الأنعام (6) : 90 .
3- الأنعام (6) : 50 .

هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللّه ِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى»(1) .

(مُضِلٌّ) ؛ بتحسين طريقته وترجيحها على طريقة السؤال .

(لِمَنِ اقْتَدى بِهِ فِي حَيَاتِهِ) أي لمريديه وأتباعه .

(وَبَعْدَ مَوْتِهِ) حين يقوم خليفته مقامه ، ويستند إليه في طريقته .

(حَمَّالُ خَطَايَا غَيْرِهِ ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ) . «حَمّال» بفتح المهملة وشدّ الميم ، و«خطايا» جمع «خطيئة» وإضافتها تفيد العموم .

إن قلت : إن كان المراد خطاياه حقيقة فينافي(2) ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(3) ، وإن كان المراد خطاياه مجازا ؛ أي أمثالها لإضلاله إيّاه كما مرّ في رابع «باب ثواب العالم والمتعلِّم» فعموم الخطايا ينافي قوله تعالى في سورة النحل : «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(4) .

قلت : المراد الأوّل ، ولا منافاة ؛ لأنّ المراد بالحمل ادّعاء الحمل ، كما في قوله : «وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ» لا الحمل الحقيقي ؛ أو المراد الثاني ، والمقصود المبالغة للإشارة إلى كثرة الحمل باعتبار كثرة التابعين وكثرة الخطايا باعتبار كثرة تبعيّة الغير له . والمراد بخطيئته ما عدا ما يثبت عليه بسبب عمل الغير من الخطايا .

(وَرَجُلٌ قَمَشَ) ؛ بالقاف والمعجمة بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر أو باب التفعيل ، أي اكتسب من اُستاديه . والقمش : جمع شيء من هنا وهنا ، وكذلك التقميش ، .

ص: 468


1- يوسف (12) : 108 .
2- في حاشية «أ» : «قوله: فينافي إلى آخره ، دخول الفاء على المضارع المثبت الواقع جزاءا إما مبنيّ على الجواز ولو قليلاً ، وإما مبنيّ على تقدير المبتدأ ، أي فهو ينافي ؛ وعلى الوجهين خرّج قوله تعالى : «وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» . (مهدي)» .
3- العنكبوت (29) : 12 - 13 .
4- النحل (16) : 25 .

وذلك الشيء قماش بالضمّ ، يُقال : ما أعطاني إلاّ قماشا ، أي أردأ ما وجده .(1)

(جَهْلاً) ؛ هو الاعتقاد الذي ليس بعلم ، مثل ما تلاحق فيه أفكار أهل الرأي ، كما سطّره الفقهاء والمتكلِّمون والاُصوليّون منهم في كتبهم من القواعد وكانت ممهّدة في زمانه عليه السلام وزادت قرنا بعد قرن .

(فِي جُهَّالِ النَّاسِ) . «في» للتعليل أو للظرفيّة ، والجهّال على الأوّل الاُستادون ، وعلى الثاني الشركاء .

(عَانٍ(2) بِأَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ) ؛ صفة ثانية لرجل ، و«عان» اسم فاعل من الناقص ، من عنا يعنو : إذا صار أسيرا . والباء للآلة ، يعني أنّه أسير الشيطان بأغلال هي أغباش الفتنة . والأغباش جمع «غَبَش» بفتح المعجمة وفتح الموحّدة والمعجمة ، وهو بقيّة الليل أو ظلمة آخره(3) ؛ عبّر بها عن الجهالات والشبهات الموسوسة ، والفتنة : الاختلاف ، والإضافة لأنّ الأغباش تفضي إلى الاختلاف .

(قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِما) . الناس بتخفيف السين اسم جمع الإنسان ، وبشدّها نوع من الحيوان خلق على صورة الإنسان وليس بإنسان ، كالنسناس بفتح النون وكسرها . والأوّل مبنيّ على أنّ المراد بالناس العقلاء ، والمقصود التشبيه في الصورة والمباينة في المعنى ، كما في آية سورة البقرة : «قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(4) ، أو مبنيّ على أنّ اللام للعهد ؛ أي المعروفون بأنّهم مفسدون في الأرض .

ص: 469


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 285 ؛ تاج العروس ، ج 9 ، ص 176 (قمش) .
2- في حاشية «أ» : «غان بالغين المعجمة والنون المنوّنة بالكسر بعد الألف ، من غِنى بالكسر يغني ، أي عاش ، وغنى بالمكان بالكسر أيضا يغني كبقي يبقى ، أي أقام به ، وقد رأيت في بعض نسخ نهج البلاغة المكرمة : غار ، باعجام الغين وبالراء المنوّنة ، من غرى بالشيء بالكسر يغري به بالفتح ، أي ولع به وشغفه الافتنان لحبّه . والأصحّ فيه الأوّل على ما يشهد به قوله عليه السلام : ولم يغن فيه يوما سالما ، بفتح الياء والنون وسكون المعجمة بينهما ، وأما «عان» بإهمال العين ، من عنى بالكسر عناءا ، أي تعب ونصب فمن التصحيفات والتحريفات المستهجنة ، وبأغباش الفتنة بالغين والشين المعجمتين والباء الموحدة قبل الألف جمع غبش ، والغبش بالتحريك : البقية من الليل قبيل الفجر (محق)» .
3- الفائق في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 405 (الأغباش) .
4- البقرة (2) : 275 .

ولا يكادون يفقهون قولاً وهم يأجوج ومأجوج ، والمقصود التشبيه في المعنى .

(وَلَمْ يَغْنَ) ؛ بسكون المعجمة وفتح النون بصيغة المضارع المعلوم ، من غني - كعلم - إذا عاش ، وغني بالمكان : إذا أقام به .(1)

(فِيهِ) أي في العلم(2) (يَوْما) أي في وقت (سَالِما) أي عن وسوسة الشيطان ، وهو حال عن فاعل «لم يغن» وإشارة إلى أنّه غنيّ بالعلم بمضمون الآيات البيّنات المحكمات ، وأنكره بمحض اللسان لوسوسة الشيطان ، كما في سورة النحل من قوله تعالى : «وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ»(3) ، وقوله : «لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ»(4) كما مضى في شرح خامس السابع عشر(5) عند قوله : «بتذاكر العلم وصفة الحلم» . ونظيره قوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(6) .

(بَكَّرَ) ؛ بموحّدة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل ، وهو استئناف بياني لقوله : «قمش» إلى آخره . والتبكير : الإتيان في أوّل اليوم أو في أوّل أيّ وقت كان ، والمعنى : بادر إلى أبواب الجهلة لتحصيل الجهالات .

(فَاسْتَكْثَرَ) ؛ بمثلّثة ومهملة بصيغة المعلوم من باب الاستفعال ، أي فاستكثره ؛ والضمير المحذوف للجهل ، تقول : استكثرت الماء : إذا اكتسبت منه كثيرا .

(مَا) ؛ موصولة ، وهي عبارة عن الجهل ، ومحلّها رفع على الابتداء ، والجملة معترضة .

(قَلَّ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب ، وفيه ضمير الموصول .

(مِنْهُ) . «من» للتبعيض ، والضمير للجهل . .

ص: 470


1- الفائق في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 17 (غنى) ؛ الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ، ص 63 .
2- في «أ» : «العالم» .
3- النحل (16) : 62 .
4- النحل (16) : 116 .
5- أى الحديث 5 من باب النوادر .
6- النمل (27) : 14 .

(خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ) ؛ بمثلّثة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب حسن ، وهذا كناية عن أنّ تركه رأسا خيرٌ من الشروع فيه ، وهذا مشاهد في جمع صرفوا دهرهم في تحصيل الجهالات لا يمكن صرفهم إلى الحقّ أصلاً ، ولا يثمر مكالمتهم ولا رؤيتهم للمؤمن إلاّ الأسف ، وأمّا المبتدئ ومَن لم يحصّل تلك أصلاً فأطوع للحقّ .

(حَتّى إِذَا ارْتَوى مِنْ آجِنٍ) . يُقال : روى من الماء بالكسر وارتوى وتروّى : إذا شربه بقدر حاجته ، وكذا إذا أخذه .(1) والآجن على وزن فاعل : الماء المتغيّر الطعم واللون(2) ؛ شبّه جهالاتهم به بمناسبة أنّ العلم يشبَّه بالماء في أنّه سبب الحياة .

(وَاكْتَنَزَ) . يُقال : اكتنز الشيء : إذا اجتمع وامتلأ .(3) والضمير المستتر فيه لآجن أو للرجل ، والنسبة مجاز ، وقيل : أي اتّخذ العلم كنزا .(4)

(مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ) أي بغير فائدة .

(جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِيا) . القضاء : الفصل بين متنازعين في دين أو ميراث أو نحوهما .

(ضَامِنا لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ) . تقول : خلصته من شوب كذا تخليصا : إذا نحيت الشوب عنه ، والفرق بينه وبين التلخيص أنّ الأوّل إبعاد الأجنبيّ ، والثاني إبعاد غير الأجنبيّ . وقيل : هو والتلخيص متقاربان ، ولعلّهما شيءٌ واحد من المقلوب .(5) انتهى . والمراد هنا التخليص من الشبهة والالتباس ، أي مفتيا فهو جامع لمنصبي القضاء والإفتاء .

(وَإِنْ خَالَفَ قَاضِيا سَبَقَهُ) أي زمانا إلى القضاء في قضيّة .(6) .

ص: 471


1- لسان العرب ، ج 14 ، ص 345 ؛ مختار الصحاح ، ص 143 ؛ القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 337 (روى) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 2067 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 26 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 8 (أجن) .
3- الصحاح ، ج 3 ، ص 893 (كنز) . وانظر: كتاب العين ، ج 5 ، ص 321 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 401 (كنز) .
4- في حاشية «أ» : «القائل ابن أبي الحديد» . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 284 .
5- غريب الحديث لابن قتيبة ، ج 1 ، ص 361 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 284 .
6- في «ج» : «قضيته» .

(لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ) أي خاف نقض حكمه ؛ أو المراد جوّز لغيره نقض حكمه .

(مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ) أي من يصير قاضيا بعده .

(كَفِعْلِهِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ) . الظرف في «كفعله» صفة مفعول مطلق محذوف ، والعامل فيه ينقض ، ووجه الشبه كون كليهما بالرأي دون العلم ، وإنّما ذكر ذلك إشارة إلى أنّه إذا كان مخالفته قاضيا سبقه بالعلم أمِنَ أن ينقض حكمه قاضٍ آخر كذلك ، أي بالعلم ؛ لأنّه تناقض بين المعلومين . فالمقصود أنّه إن(1) خالف قاضيا كان مخالفته بالرأي والظنّ ، فجوّز لمن يأتي بعده أن ينقض حكمه ؛ لتجويزه الاختلاف في الحكم في الدِّين مع أنّه منهيٌّ عنه .

(وَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ) أي في إفتائه وقضائه .

(إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ) ؛ بصيغة المفعول ، يُقال : أمرٌ مبهم ، أي لا مأتى له ، وأبهمتُ الباب : أغلقته .(2)

(الْمُعْضِلاَتِ) ؛ بصيغة اسم الفاعل ، يُقال : أعضلني فلان ، أي أعياني أمره ، وقد أعضل الأمر : اشتدّ واستغلق ، وأمرٌ معضِل لا يهتدى لوجهه ، والمعضلات : الشدائد(3) . والمراد بالمبهمات المعضِلات المسائل التي ليست من ضروريّات الدِّين ولا جارية مجراها .

(هَيَّأَ لَهَا حَشْوا) ؛ بفتح المهملة وسكون المعجمة : ما يُحشى به الفَرْش وغيره من القطن والصوف ونحوهما ، أي ضائعا ركيكا .

(مِنْ رَأْيِهِ) ؛ تبعيضيّة أو سببيّة ، وهذا الكلام كتفسير لقوله تعالى في سورة النحل : «أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ»(4) . .

ص: 472


1- في «ج» : «من» .
2- لسان العرب ، ج 12 ، ص 56 (بهم) .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1766 ؛ مختار الصحاح ، ص 230 (عضل) .
4- النحل (16) : 76 .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب . (قَطَعَ(1)) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع ، بمعنى أبان وفصل ، أي قطع الاحتمالات بإراءة الجزم والعلم اليقيني ، كما اشتهر بينهم أنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .(2) وذلك بترتيب قياس هكذا ، هذا ما استقرّ عليه ظنّ المجتهد ، وكلّ ما استقرَّ عليه ظنّ المجتهد يجب العمل به ، وأنّ المقدّمتين يقينيّتان ، مع أنّ كلاًّ منهما باطل ؛ فإنّ الاجتهاد - على ما عرّفوه - لا يكاد يعلم أحدٌ نفسه عليه فضلاً عن غيره ، وعلى تقدير العلم لا يجوز العمل به ، وتفصيله في محلّه .

ويحتمل أن يُراد بالقطع ما يعمّ فصل القاضي باصطلاح الفقهاء بين متنازعين في دين أو ميراث أو نحوهما .

(بِهِ ، فَهُوَ مِنْ) ؛ للسببيّة . (لَبْسِ) ؛ إمّا بفتح اللام وسكون الموحّدة مصدر قولك : لبست عليه الأمر كضربت أي خلطت ، واللبس أيضا اختلاط الظلام ، والإضافة إلى الفاعل ، وإمّا بضمّ اللام مصدر قولك : لبست الثوب كعلمت ، والإضافة إلى المفعول .

(الشُّبُهَاتِ) ؛ بالضمّ وبضمّتين وبضمّ المعجمة وفتح الموحّدة جمع «الشبهة» بالضمّ ، وأصلها الالتباس اُطلقت على باطل يلتبس بالحقّ ، وعلى ما يلتبس به(3) الباطل بالحقّ .

(فِي مِثْلِ) ؛ الظرف خبر المبتدأ . (غَزْلِ) ؛ بالفتح مصدر باب ضرب ، أي مغزول . (الْعَنْكَبُوتِ ) . شبّه الشُّبهات بغزل العنكبوت ، كلّ شبهة بطاقة منه ، وغزل العنكبوت مثَلٌ في كلّ شيء واهٍ ضعيفٍ .

(لاَ يَدْرِي) ؛ بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب ضرب ، وهو من أفعال القلوب ؛ بمعنى لا يعلم علّق بالاستفهام ، والجملة استئناف بياني لقوله : «هو في لبس الشبهات» إلى آخره .

(أَصَابَ) ؛ الاستفهام مقدّر بدليل معادلته مع . .

ص: 473


1- في المطبوع : + «به» . رياض المسائل ، ج 13 ، ص 35 ؛ مستند الشيعة ، ج 17 ، ص 21 ؛ قوانين الاُصول ، ص 6 ؛ كفاية الاُصول ، ص 469 .
2- وانظر: الفوائد المدنيّة ، ص 187 .
3- في «أ» : - «به» .

(أَمْ أَخْطَأَ) . والمراد إصابة الحكم الواقعي في حقّ المستفتي مثلاً وأخطاؤه ، ويحتمل أن يكون المراد إصابة الحكم الواصلي في حقّ نفسه باعتبار إفتائه مثلاً وإخطائه .

(لاَ يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ) أي لا يظنّ أو لا يعلم ، وهو بصيغة المضارع المعلوم من باب علم . قال الجوهري : «وهو من الأربعة النوادر التي جاء كسر العين أيضا في مضارعها ، وهي من السالم، كيبس ويئس ونَعِمَ»(1) انتهى .

ولعلّ مراده بالسالم ما لا يحذف فاؤها في المضارع . ومصدره «الحِسبان» بالكسر ، ولو كان بمعنى لا يعُدّ ، لكان من باب نصر لا غير ، ومصدره «الحُسبان» بالضمّ ، وهو استئناف بياني للاستئناف الأوّل أو لقوله : «هيّأ» إلى آخره ، كأنّ سائلاً قال : بِمَ تسلّت نفسه؟ فاُجيب : بأنّها تسلّت بزعمه أنّ غاية مجهود كلّ أحد الاجتهاد والظنّ ، ولا يتحقّق في أحدٍ العلمُ بما ليس من ضروريّات الدِّين من الفروع التي اجتهد فيها .

(مِمَّا أَنْكَرَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال ، أي لم يعرفه ؛ لأنّه لا يدري أصاب أم أخطأ ، أو لم يعتقده ؛ وحينئذٍ تخصيصه بالذِّكر مع أنّه لا يحسب العلم في شيء ممّا اعتقده أيضا ؛ لأنّ المناط للتسلّي الأوّلُ دون الثاني .

(وَلاَ يَرى) أي لا يظنّ من الرأي بمعنى المذهب ، أو لا يعلم كقوله تعالى : «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا * وَنَرَاهُ قَرِيبا»(2) ؛ الأوّل للظنّ ، والثاني للعلم .

(أَنَّ وَرَاءَ) ؛ بفتح الواو . وقيل : من المهموز .(3) وقيل : من المعتلّ اللام .(4) وهو منصوب على الظرفيّة إمّا بمعنى «خلف» كقولك : زيد في وراء الجدار ، وهو إشارة إلى دقّة المذهب ؛ وإمّا بمعنى «قدّام» كقوله تعالى : «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ»(5) ؛(6) فهو إشارة إلى .

ص: 474


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 112 (حسب) .
2- المعارج (70) : 6 - 7 .
3- في حاشية «أ ، ج» : «صاحب القاموس» . القاموس ، ج 1 ، ص 17 .
4- في حاشية «أ» : «القائل: الجوهري في الصحاح» . الصحاح ، ج 6 ، ص 2522 (ورى) .
5- الكهف (18) : 79 .
6- في حاشية «أ» : «هدد بن بدد - كزفر - : الملك الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا ؛ عن البخاري (ق)» . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 348 (هدد) .

وضوح المذهب ، فإنّه من الأضداد . ولكلٍّ وجه هنا ، فإنّ تحقّق المذهب مجملاً واضح من محكمات القرآن ، والعلم بخصوصيّته في مسألة مسألة دقيق جدّا .

(مَا بَلَغَ فِيهِ) . «ما» موصولة وعبارة عن الآجن ، و«بلغ» - كنصر - يتعدّى إلى المفعول به بنفسه ، ومفعوله محذوف ؛ أي بلغ مراده وهو الارتواء ، والضمير المستتر المرفوع للرجل ، والضمير المجرور ل- «ما» . وفي نهج البلاغة : «ما بلغ منه» .(1) فيحتمل حينئذٍ أن يكون الضمير المستتر المرفوع ل- «ما» والضمير المجرور للرجل ، يُقال : بلغت من زيد ، أي أعجزته بحيث لم يقدر على دفع ضرري عن نفسه أصلاً ، والمفعول محذوف ، أي ما أردت أوكلّ مبلغ .

(مَذْهَبا) أي طريقة استنباط للفروع يفضي بصاحبها إلى علم بالفروع ، لا ظنّ ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِى اْلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2) .

(إِنْ قَاسَ شَيْئا بِشَيْءٍ) . استئنافٌ بياني لقوله : «هيّأ لها حشوا» إلى آخره ، فالمراد بشيء في الموضعين مسألة .

(لَمْ يُكَذِّبْ) ؛ إمّا بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو الإفعال ، وفيه ضمير الفاعل ، يُقال : كذّبه تكذيبا وأكذبه : إذا زعمه كاذبا ؛ وإمّا بصيغة المعلوم من باب التفعيل ولا ضمير فيه ، من كذّب الوحشي : إذا جرى شوطا فوقف ؛ وإمّا بصيغة المجهول من باب التفعيل أو الإفعال ولا ضمير فيه .

(نَظَرَهُ) ؛ بالنصب على المفعوليّة ، أو الرفع على الفاعليّة أو على نيابة الفاعل . والمراد بنظره : قياسه . وفيه مجاز في الإسناد ، كما في قولك : لم يقطع سيف زيد إذا نبا ، أي إذا قاس حَكَمَ بسبب القياس ولم يكذب نفسه فيه .

وفي هذه الفقرة إشارة إلى كمال وهن القياس . .

ص: 475


1- نهج البلاغة ، ص 54 ، الخطبة 17 . وفيه : «أنّ مِن وراء ما بَلَغَ مذهبا لغيره» .
2- النساء (4) : 83 .

(وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ) . عطفٌ على قوله : «هيّأ لها» إلى آخره ، عطف المعادل على معادله ؛ أي وإن لم يتيسّر له أن يهيّئ لها حشوا من رأيه . ويحتمل العطف على قوله : «إن قاس» إلى آخره .

(أَمْرٌ) من المبهمات المعضلات (اكْتَتَمَ بِهِ) . يقال : كتمت الشيء كتما بالفتح وكتمانا بالكسر ، واكتتمته أيضا ، أي سترته ؛ فالباء لتقوية التعدية ، والضمير المجرور للأمر أو للإظلام .

(لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ) . علّةٌ للاكتتام ، و«ما» موصولة ، و«من» تبعيضيّة ، وهي إشارة إلى أنّه حين هيّأ له حشوا من رأيه أيضا جاهل ، لكنّه لا يعلم جهل نفسه. ويمكن أن يكون «من» بيانا ل- «ما» .

(لِكَيْ لاَ يُقَالَ لَهُ : لاَ يَعْلَمُ) . بيانٌ لعلّة غائيّة لترتّب الاكتتام على علمه بجهل نفسه نحو : ضربت ولدي لسوء أدبه لئلاّ يعود إلى مثله .

والحاصل أنّ ترتّب اكتتامه على علمه بجهله ليس لثواب اُخروي أو دفع عقاب اُخروي ، بل لدفع طعن الناس في الدنيا ، ولا يعلم بصيغة الغائب أو المخاطب ، واللام في «له» على الأوّل بمعنى «في» نحو قوله تعالى : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرا مَا سَبَقُونَا»(1) ، وعلى الثاني صلة «يقال» .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب ، وهو عطف على «اكتتم» .

(جَسَرَ) ؛ - ك- نصر - والجسارة على الشيء : الجرأة والإقدام .

(فَقَضى) . الفاء للتفصيل وعطف على «جسر» عطفَ المفصّل على المجمل ، وقضاؤه مبنيّ على زعمه أنّ المجتهد المتوقّف يقضي بما شاء .

(فَهُوَ) ؛ الفاء للتفريع على قضائه مع العلم بالجهل ، وهذا إلى قوله : «جهالات» ناظر إلى قوله في معادله : «فهو من لبس» إلى آخره .

(مِفْتَاحُ عَشَوَاتٍ) ، بفتحتين جمع «عشوة» بفتح المهملة وسكون المعجمة : الظلمة ، .

ص: 476


1- الأحقاف (46) : 11 .

ومنها قولهم : ركب فلان عشوةً : إذا باشر أمرا على غير بيانٍ .(1) جعلهُ مفتاح العشوات للمبالغة لأنّه قضى عالما بجهل نفسه ، مع أنّه ضَمِنَ تخليص ما التبس على غيره .

(رَكَّابُ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الكاف للمبالغة ؛ لأنّه مع العلم بالجهل ، يقال : ركبه - كعلمه - : إذا علاه ، وركب الذنب وارتكبه : إذا اقترفه .(2)

(شُبُهَاتٍ) ، بضمّتين جمع «شبهة» بالضمّ .

(خَبَّاطُ) ؛ بفتح المعجمة وتشديد الموحّدة للمبالغة ؛ لأنّه مع العلم بالجهل ، يقال : خبط البعير الأرض بيده خبطا من باب ضرب : إذا ضربها حين المشي لا يتوقّى شيئا ، وخَبط الرجل : إذا طرح نفسه حيث كان لينام .(3)

(جَهَالاَتٍ) ؛ بفتح الجيم جمع «جهالة» بمعنى جهل .

(لاَ يَعْتَذِرُ مِمَّا لاَ يَعْلَمُ) . استئنافٌ لبيان قوله : «وإن نزلت به إحدى المبهمات» إلى آخره ، أي ينبغي له أن يعتذِر منها إذا نزلت به .

(فَيَسْلَمَ) ؛ بالنصب بتقدير «أن» وجوبا ؛ لأنّه بعد فاء السببيّة مسبوقا بنفي هو لا يعتذر ، أي فيسلم من الافتراء على اللّه المذكور في آية سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»(4) .

(وَلاَ يَعَضُّ فِي الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ ؛ فَيَغْنَمَ) . العضّ، بفتح المهملة وشدّ المعجمة، من باب علم : إنشاب الأسنان في شيء .(5) والمراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشكل . والباء للآلة ، والضرس بكسر المعجمة وسكون المهملة ومهملة : السنّ ، والكلام تمثيل . .

ص: 477


1- لسان العرب، ج 15 ، ص 59 (عشا) . وانظر: كتاب العين ، ج 2 ، ص 187 (عشو) .
2- لسان العرب ، ج 1 ، ص 428 (ركب) .
3- الصحاح ، ج 3 ، ص 1121 ؛ تاج العروس ، ج 10 ، ص 230 (خبط) .
4- النحل (16) : 116 .
5- النهاية ، ج 3 ، ص 252 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 188 (عضض) .

والمقصود أنّه لا يأخذ الآيات البيّنات المحكمات كما هو حقّها فيحصل له غنيمة ، أي فيستفيد علم الحلال والحرام بسؤال أهل الذِّكر عليهم السلام .

(يَذْرِي الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ) . استئنافٌ لبيان قوله : «لايعتذر» إلى آخره ، يُقال : ذرت الريح التراب وغيره تذري وتذروا ذريا وذروا ، أي طيّرته ، ومنه ذرى الحنطة .(1) والهشم : كسر الشيء اليابس ، والهشيم من النبات : اليابس المتكسّر .(2)

والمراد أنّه يتفوّه بالروايات المكذوبة في بيان مسائل الحلال والحرام والأحكام وفي معارضة الآيات البيّنات المحكمات ، كما مرّ في سادس السابع عشر(3) في بيان قوله عليه السلام : «كم من مستنصحٍ للحديث مستغشٍ للكتاب» . ولذلك يسمّى أمثاله حشويّة .

(تَبْكِي) ؛ بدل تفصيل لقوله : «يذري» (مِنْهُ) أي من الرجل (الْمَوَارِيثُ) أي حين يحكم فيها بخلاف الحقّ ولغير المستحقّ .

(وَتَصْرُخُ مِنْهُ الدِّمَاءُ) . عطفٌ على «تبكي» ، يُقال : صرخ - كنصر - إذا(4) استغاث بصوت شديد . وهذا إشارة إلى أمثال ما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في سابع آخر الأبواب(5) من حكم بني الخطّاب برجم امرأة(6) ومنع أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه عن ذلك .

(يُسْتَحَلُّ) ؛ بصيغة المجهول بدل آخر ل- «يذري» لم يعطف على البدل الأوّل للتباين بين باب القتل والميراث ، وبين باب التزويج والطلاق ، يقال : استحلّ الشيء ، أي عدّه حلالاً .

(بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَرَامُ) ، كما في الإخلال بشروط الطلاق ؛ فإنّه يستحلّه زوج آخر .

(وَيُحَرَّمُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، عطفٌ على «يستحلّ» والتحريم : عدّ الشيء حراماً. .

ص: 478


1- غريب الحديث للحربي ، ج 1 ، ص 256 ، الحديث العاشر باب ذر .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 203 (حظر) ؛ و ج 12 ، ص 612 (هشم) .
3- أي الحديث 6 من باب النوادر .
4- في «د» : «إذ» .
5- أي الحديث 7 من باب النوادر .
6- في النسخ : «رجل» والمثبت من حاشية نسخة «أ» وهو موافق لما في الكافي المطبوع .

(بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَلاَلُ) ، كما في الإخلال بشروط الطلاق أيضا ؛ فإنّه يحرّم على الزوج الأوّل .

(لاَ مَلِيءٌ بِإِصْدَارِ مَا عَلَيْهِ وَرَدَ) . استئنافٌ لبيان قوله : «يذري» إلى آخره ، أو بدل ثالث لم يعطف على ما سبق للتباين بين الجملة الفعليّة والاسميّة ، والمليء، بفتح الميم وكسر اللام وسكون الياء والهمز : الثقة الغنيّ بعلمه ، وقد مَلُؤَ بالضمّ فهو ملئ وقد أولع الناس فيه بترك الهمز وتشديد الياء .(1) وهو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي لا هو ملي . ويقال : صدر - كنصر - صدرا : إذا رجع . والإصدار : الإرجاع ، وضمير «عليه» للرجل ، وضمير «ورد» بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب ل- «ما» ، والمراد بإصدار ما ورد عليه جواب ما سئل عنه أو تُحوكم فيه إليه .

(وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِمَا مِنْهُ فَرَطَ) ؛ بالفاء والراء المهملة والطاء المهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر ، يُقال : فرط منّي إليه قول ، أي سبق من غير احتياط .(2) وضمير «منه» للرجل ، وضمير «فرط» ل- «ما» . ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي المجهول من باب التفعيل ، أي نحّى ، يُقال : فرط اللّه منه وعنه ما يكره تفريطا ، أي أبعده منه ونحّاه عنه . والفاعل هنا اللّه بخذلانه . و«ما» الموصولة عبارة عن الحقّ والعلم به ، وضمير «منه» حينئذٍ ل- «ما» وضمير «فرط» للرجل ، أي وليس مستحقّا لأن يوفّقه اللّه تعالى لعلم الحقّ الذي أبعده اللّه منه . وعلى الأوّل «من» في قوله :

(مِنِ ادِّعَائِهِ عِلْمَ الْحَقِّ) . بيانٌ لما ، أي وليس أهلاً لدعوى علم الحقّ ، وعلى الأخير سببيّة ، أي لأنّ جهله المركّب مانع عن طلبه علم الحقّ ، أو لأنّه يدّعي استقلال العقل بعلم الحقّ في الأحكام الشرعيّة بدون سؤال أهل الذِّكر .

(السابع : الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والموحّدة والهاء . .

ص: 479


1- النهاية ، ج 4 ، ص 352 (ملا) .
2- غريب الحديث لابن قتيبة ، ج 2 ، ص 184 ، حديث أم المؤمنين اُم سلمة ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 434 ، (فرط) .

(الْخُرَاسَانِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ أَصْحَابَ الْمَقَايِيسِ) . مضى معناها في شرح عنوان الباب .

(طَلَبُوا الْعِلْمَ) أي العلم الذي اُمروا بطلبه ، وهو الذي لا يجوز العمل إلاّ معه ، وهو العلم بالأحكام الواصليّة ، فإنّ الأحكام الواقعيّة مظنونة عندهم .

(بِالْمَقَايِيسِ) . الباء للسببيّة ، والظرف متعلّق ب- «طلبوا» أي جعلوها ذريعة إلى العلم بالأحكام الواصليّة ، ولو حمل المقاييس في هذا الحديث على أنّها جمع «مقياس» كمفاتيح ومفتاح واُريد بها قواعد أهل القياس ، لأمكن كون الباء صلةً ، والظرف متعلّقا بالعلم .

(فَلَمْ تَزِدْهُمُ الْمَقَايِيسُ مِنَ الْحَقِّ إِلاَّ بُعْدا) . يُقال : زاده اللّه خيرا - كباعه - فزاد وازداد خيرا . و«من» للنسبة كقوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .(1) والحقّ : المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وما يتفرّع عليه من العلوم الحاصلة بسؤال أهل الذِّكر . والاستثناء مفرّغ ، و«بُعدا» تمييز للنسبة أو مفعول ثان .

(إِنَّ(2) دِينَ اللّه ِ) أي ما شرّعه لعباده من الأحكام الواصليّة أو من الأحكام الواقعيّة (لاَ يُصَابُ بِالْمَقَايِيسِ) . تأكيدٌ وتوضيح لما سبقه .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليهماالسلام ، قَالاَ : كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ) .

هذا مطابق لما روى المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «كلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة صاحبها في النار»(3) . ومضى معنى البدعة ، ومعنى كلّ .

ص: 480


1- صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 129 ، باب غزوة تبوك ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 120 ، باب من فضائل عليّ عليه السلام ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 170 ، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقّاص.
2- في الكافي المطبوع : «وإنّ» .
3- المعجم الكبير للطبراني ، ج 9 ، ص 97 ، خطبة ابن مسعود ؛ الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 243 ، ح 1604 ؛ كنزالعمّال ، ج 11 ، ص 10 ، ح 30405 .

محدثة بدعة في شرح عنوان الباب .

والمراد بالضلالة الكفر الباطني مع ظاهر الإيمان والشهادة بأنّ الرسول حقّ ، وإنّما كان كلّ بدعة ضلالة لأنّ كلّ بدعة بالمعنى الذي مضى وضع شريعة في مقابلة ما جاء به الرسول عليه السلام .

وفي نهاية ابن الأثير من المخالفين :

في حديث عمر في قيام رمضان نعمت البدعة ، هذه البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال ، فما كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسوله فهو في حيّز الذمّ والإنكار ، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب اللّه إليه وحضّ عليه [اللّه] أو رسوله فهو في حيّز المدح ، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة ، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد جعل له في ذلك ثوابا فقال : «مَن سنَّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها»(1) وقال في ضدّه : مَن سنَّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمِلَ بها ؛ وذلك إذا كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسوله . ومن هذا النوع قول عمر : نعمت البدعة هذه لِما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح . سمّاها بدعة لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم ، وإنّما صلاّها ليالي ثمّ تركها ولم يحافظ عليها ، ولا جمعَ الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر ، وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة ، وهي على الحقيقة سنّة ؛ لقوله صلى الله عليه و آله : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي(2)» وقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(3) وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر : «كلّ محدثة بدعة» إنّما يريد .

ص: 481


1- الكافي ، ج 5 ، باب وجوه الجهاد ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 124 ، باب أقسام الجهاد ، ح 1 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 28 ، ح 8 ؛ الأمالي للمفيد ، ص 91 ، المجلس 23 ، ح 19 ؛ أعلام الدين ، ص 389 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 24 ، ح 19937 ؛ صحيح مسلم ، ج 3 ، ص 87 ؛ مسند أحمد ، ج 4 ، ص 357 و 362 ؛ السنن الكبرى للبيهقي ، ج 4 ، ص 176 .
2- مسند أحمد ، ج 4 ، ص 126 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 1 ، ص 96 ، عمدة القارى للعيني ، ج 23 ، ص 266 . وللسيد علي الميلاني رسالة في هذا الحديث مطبوعة من الرسائل العشر .
3- مسند احمد ، ج 5 ، ص 382 ، حديث حذيفة بن اليمان ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، فضل أبي بكر ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 332 . وللسيد على الميلاني رسالة في هذا الحديث مطبوعة ضمن الرسائل العشر .

ما خالف اُصول الشريعة ولم يوافق السنّة ، وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذمّ .(1) انتهى .

وهذا كلام مختلّ ؛ لأنّه يقال فيما لم يكن له مثال : من أين تحكمُ بكون نوع من الجود والسخاء أحسن في الدِّين من الأنواع الاُخرى بحيث يكون كلّ فرد منه أحسن من كلّ فرد منها ، وكذا في كون فعل معروفا وأحسن من غيره ، وفي كون الأفعال المحمودة محمودة وفي حسن السنّة وقبحها ؛ فإن زعمت أنّ العقل يستقلّ بالعلم بحكمه الواقعي ، فهذا غلط ربّما حصل من الخلط بين نسبة الجنس إلى الجنس ، ونسبة الفرد إلى الفرد ، فإنّ العقل يعلم - بديهة أو نظرا - أنّ جنس الصدق خيرٌ من جنس الكذب مثلاً ، ولا يعلم أنّ هذا الصدق خيرٌ من هذا الكذب بدون توقيف .

ولا ينافي قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ؛ لجواز اجتماعه مع أقسام من المفسدة فيه لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب ، وإن زعمت أنّه حكم بالظنّ في الدِّين فهو منهيّ عنه في آيات بيّنات كثيرة ، وهو شريك مع البدعة في الإثم إن لم يكن بدعة ، وما حمله على هذا الإصلاح إلاّ حبّ أهل البدع ، فبأيّ حديثٍ بعد اللّه وآياته يؤمنون ؟

فالمراد بمن سنَّ سنّة حسنة مَن علّم باب هدى وأشاعه ، كما مضى في رابع «باب ثواب العالم» وهو خامس الأبواب . وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «مَن أحيا سنّة من سنّتي قد اُميتت بعدي فإنّ(2) له من الأجر مثل اُجور مَن عمل بها من غير أن ينقص من اُجورهم شيئا»(3) .

والمراد بالخلفاء الراشدين الأئمّة الاثنا عشر من أهل البيت عليهم السلام ، وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر .

ص: 482


1- النهاية ، ج 1 ، ص 106 (بدع) .
2- في «ج» : «فإنّه» .
3- سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 76 ، باب من أحيا سنّة قد أميتت ، ح 210 ؛ سنن الترمذي ، ج 4 ، ص 150 ، باب الأخذ بالسنّة واجتناب البدعة ، ح 2818 ؛ منتخب مسند عبد بن حميد ، ص 120 ؛ مسند عمرو بن عوف المزني ، ح 289 .

خليفة كلّهم من قريش» .(1) وفي رواية : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّيهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش»(2) . وفي رواية : «لا يزال الدِّين قائما حتّى تقوم الساعة ، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(3) .

ولو صحّ الحديث الآخر ، لكان الأمر فيه للنهي والتهديد ، كما في قوله تعالى : «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ»(4) ، وكما في قولك : أطيعوا الشيطان وهو مضلّكم ، أو لجمع خاصّ في سلوك طريق خاصّ في الحرب ونحوه كانا فيه بحسب المكان خَلْف الرسول عليه السلام وذلك ليَسْلَم أحكام اللّه ورسوله من التناقض والتهافت ، فإنّهما ممّن علم حكمهم في الدِّين بالاجتهاد ، وقد بيّنّاه في ثاني عشر «باب العقل والجهل» .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حكيمٍ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الكاف ، وقيل : بفتح المهملة وكسر الكاف .

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فُقِّهْنَا) ؛ بصيغة المعلوم من باب حسن ، أو المجهول من باب التفعيل ، أو المعلوم من باب علم على حذف المفعول به ، تقول : فقه الرجل - كحسن - : إذا علم قدرا معتدّا به من المسائل وجعله العرف خاصّا بعلم الشريعة ، وربّما(5) خصّص بعلم الفروع منها ، وتقول : فقهه - كعلمه - : إذا فهمه وعلمه ، وتقول من الأوّل : فقّهه تفقيها ، ومن الثاني : أفقهه المسألة إفقاها .

(فِي الدِّينِ ، وَأَغْنَانَا اللّه ُ بِكُمْ عَنِ النَّاسِ) أي عن فقهاء المخالفين .

(حَتّى إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة ، و«حتّى» هي الداخلة على الجمل . .

ص: 483


1- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 90 ، حديث جابر بن سمرة ؛ صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 3 ، باب الناس تبع لقريش ؛ الآحاد والمثاني ، ج 3 ، ص 126 ، ح 1448 .
2- صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 3 ، باب الناس تبع لقريش ؛ فتح الباري ، ج 13 ، ص 181 ، شرح مسلم ، ج 12 ، ص 201 ، باب الخلافة في قريش .
3- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 89 ، حديث جابر بن سمرة ؛ صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 4 ، باب الاستخلاف وتركه ؛ الآحاد والمثاني ، ج 3 ، ص 128 ، ح 1454 .
4- فصّلت (41) : 40 .
5- في «أ» : «فربّما» .

(الْجَمَاعَةَ مِنَّا) أي من الشيعة الإماميّة .

(لَتَكُونُ) ؛ بفتح اللام للتأكيد وبالمثنّاة فوقُ للمضارعة .

(فِي الْمَجْلِسِ) . اللام للعهد الخارجي ، والمراد مجلس فقيه من المخالفين مشهورٍ في ذلك الزمان بأنّه أفضلهم .

(مَا يَسْأَلُ(1) رَجُلٌ صَاحِبَهُ) . «ما» مصدريّة ، والمصدر مفعول فيه لنيابته عن الزمان ، نظير رأيته قدوم الحاجّ . وضمير «صاحبه» للمجلس ، والمراد بصاحبه ذلك الفقيه .

(تَحْضُرُهُ الْمَسْأَلَةَ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائبة ، عطفٌ على «تكون» أو حال عن فاعل «تكون» ، والإحضار : الإفهام ، والضمير المستتر للجماعة ، والبارز لصاحبه ، وهو المفعول الأوّل ، و«المسألة» المفعول الثاني .

والمقصود أنّه إذا سئل ذلك الفقيه من المخالفين في حضور جماعتنا عن مسألة وغفل عن شقوق المسألة أو عن أصل المسألة بأن يقول : أعد عليَّ أفْهَمَه جماعتنا تلك المسألة وشقوقَها .

(وَتَحْضُرُهُ(2) جَوَابُهَا)(3) ؛ هذا أيضا بصيغة الغائبة من باب الإفعال ، والضمير المستتر للجماعة ، والبارز لصاحبه ، وجوابها مفعول ثان ؛ أي يفهمونه جواب كلّ شقّ من المسألة .

(فِيمَا مَنَّ اللّه ُ عَلَيْنَا بِكُمْ) . «في» للسببيّة و«ما» مصدريّة ، والظرف متعلّق بتحضره . وتمهيد هذا البيان أنّ احتياجنا إلى القياس نادر حتّى يأذن في القياس .

(فَرُبَّمَا وَرَدَ عَلَيْنَا الشَّيْءُ) . اللام للعهد الذهني ، أي ربّما سُئلنا عن مسألة ، أو ربّما وصلنا في العمل إلى موضع .

(لَمْ يَأْتِنَا فِيهِ عَنْكَ وَلاَ عَنْ آبَائِكَ شَيْءٌ) . الجملة صفة الشيء ؛ لأنّه في حكم النكرة . .

ص: 484


1- في حاشية «أ» : «ما في قوله : ما يسأل نافية أي لا حاجة له إلى سؤال ، فيكون قوله : تحضره استئنافا بيانيا ، وضميره للرجل» حاجي حسين نيشابوري .
2- في الكافي المطبوع : «ويحضره» .
3- في حاشية «أ» : «في الفوائد المدنية للمولى محمد أمين الاسترابادي في الفصل السابع، روى هذه الفقرة هكذا : «ما يسأل رجل صاحبه إلاّ ويحضره المسألة ويحضره جوابها (مهدي)» .

(فَنَظَرْنَا إِلى أَحْسَنِ مَا يَحْضُرُنَا) ؛ بصيغة المعلوم للغائب من باب نصر ، والمراد بما يحضرنا ما يخطر ببالنا من احتمالات الحكم في تلك المسألة .

(وَأَوْفَقِ الاْءَشْيَاءِ لِمَا جَاءَنَا عَنْكُمْ) . عطفُ تفسيرٍ لأحسن ما يحضرنا ، والمراد بالأشياء الاحتمالات التي تخطر(1) ببالنا في حكم تلك المسألة ، والمراد بما جاءنا عنكم : أجوبة المسائل التي سألناكم عنها . ويجيء في ثالث عشر الباب قوله : «وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه مع بيانه» .

(فَنَأْخُذُ بِهِ) . الضمير في «به» للأحسن والأوفق ؛ لأنّهما واحد ، أي نُجيب به عن الشيء أو نعمل به فيه .

(فَقَالَ : هَيْهَاتَ) . اسم فعل بمعنى بَعُد . (هَيْهَاتَ) . تكرار للتأكيد .

(فِي ذلِكَ وَاللّه ِ) أي في الأخذ بالأحسن والأوفق ، والمراد في القياس ، وتقديم الظرف للحصر باعتبار أنّه العمدة . ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى القياس ونحوه من القول على اللّه بغير علم ، فالحصر حقيقي ، ويجيء في ثالث عشر الباب : «إنّما هلك مَن هلك من قبلكم بالقياس» .

(هَلَكَ مَنْ هَلَكَ) أي صار جهنّميا ، وذلك بأن وقع في تجويز الاختلاف المنهيّ عنه في الدِّين .

بيان ذلك أنّ من فتح باب القياس والرأي وخلع اللجام قد يسنح له في أنظاره دقائق ولطائف يستحسنها طبعه وطباع(2) العوامّ من أشكاله ، كما يظهر لمن تتبّع كتب المخالفين في اُصول الفقه وتفريعاتهم ، فيحسب أنّه وصل إلى ما لم يصل إليه العلماء قبله من الحقائق ويفتخر بذلك ، وتلك المزخرفات بالشعريات أشبه منها بالشرعيّات .

(يَا ابْنَ حَكِيمٍ . قَالَ : ثُمَّ قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام : (لَعَنَ اللّه ُ أَبَا حَنِيفَةَ) . استئنافٌ لبيان أنّ ذلك سبب الهلاك . .

ص: 485


1- في «ج» : «تحظر» .
2- في «ج» : «طبع» .

(كَانَ يَقُولُ :) . لفظة «كان» إذا دخلت على المضارع أفاد الاستمرار في الماضي .

(قَالَ عَلِيٌّ وَقُلْتُ) . لم يلاحظ في هذين الفعلين مفعولاهما ، بل اُجريا مجرى اللازم ، وأكثر استعمال مثل هذا الكلام في ترجيح القائل أقوال نفسه على أقوال غيره ، فمقصوده - خذله اللّه - أنّه اطّلع من استنباط المسائل على دقائق ولطائف غفل عنها السابقون ، وإنّما هي جهالات تركها السابقون ؛ لعلمهم بأنّها نشأت من اتّباع الرأي المنهيّ عنه في الشريعة ، وقد يستعمل في مجرّد عدم تسليمه الفضل لغيره بدون دعوى ترجيح كما تقول لمن ينهاك عن مخالفة رأي زيد : هو رجل وأنا رجل ، أو هو قائل وأنا قائل .

ويحتمل أن لا يكون الفعلان في مجرى اللازم ، بل حذف مفعولاهما اقتصارا(1) في النقل على موضع الحاجة ؛ أي قال عليّ كذا وكذا ، وقلت كذا وكذا خلافا له ، فالمقصود حينئذٍ أنّه كان يجوّز الاختلاف في الدِّين حتّى الاختلاف بينه وبين عليّ ، بناءً على زعمه أنّ عليّا كان قد يحكم لا عن علم ، بل عن الاجتهاد .

ويحتمل أن يُراد أنّه كان يقول ذلك إذا أراد قياس شيء على حكم عليّ عليه السلام في موضع آخر ، أو أنّه ردّ على عليّ عليه السلام في مسألة بترجيح قياس نفسه على قياس عليّ بزعمه ، أو أنّه رجّح قياس نفسه على حكم عليّ عليه السلام ؛ لأنّه خبر واحد ، ومن مذهبه ترجيح القياس على خبر الواحد .

(قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَكِيمٍ لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ : وَاللّه ِ ، مَا أَرَدْتُ إِلاَّ أَنْ يُرَخِّصَ لِي فِي الْقِيَاسِ) .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الاْءَوَّلِ عليه السلام : بِمَا) . اسم استفهام ، وإثبات ألفه مع حرف الجرّ نادر .

(أُوَحِّدُ اللّه َ عَزَّ وَجَلَّ) : بصيغة المتكلّم وحده من باب التفعيل . والمراد بما يوحّده به : ما لا يقبل اللّه توحيده ، وقولَه : لا إله إلاّ اللّه إلاّ به ، فيكون فاقده مع ظاهر إيمانه وشهادته تحت قوله تعالى في سورة آل عمران : «كَيْفَ يَهْدِى اللّه ُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ .

ص: 486


1- في «ج» : «اختصارا» .

وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»(1)الأنعام (6) : 106 .(2) .

(فَقَالَ : يَا يُونُسُ ، لاَ تَكُونَنَّ مُبْتَدِعا) ؛ بصيغة الفاعل من باب الافتعال ، ومضى معناه في شرح عنوان الباب ، وإنّما كان المبتدع مشركا لأنّه عبدَ نفسه من حيث لا يعلم ؛ لأنّه جعل نفسه شريكا للّه في الحكم في الدين ، قال تعالى في سورة الأنعام : «إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(3) ، وقال فيها : «اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ»(3) . والمبتدع ينكر كونه مشركا ؛ لعدم التفاته إلى افترائه ، قال تعالى فيها : «قَالُوا وَاللّه ِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(4) .

(مَنْ نَظَرَ بِرَأْيِهِ) . استئنافٌ لتفصيل الابتداع ببيان ثلاثة أقسام من لوازمه ؛ أي من فكّر في المسائل وتعيين الصواب من الخطأ وكان المعيار رأيه - أي ظنّه بأنّ الصواب كذا كما هو شأن المجتهدين - يأوّلون ويخصّصون ظواهر القرآن وظواهر الحديث بالظنّ بالتأويل والتخصيص ، ويرجّحون الأحاديث المتعارضة بالظنّ ، ويقولون : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا ، وهذا من أقوى لوازم الابتداع وعبادة النفس .

(هَلَكَ ) أي صار جهنّميا .

(وَمَنْ تَرَكَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . هذا بيان لثاني أقسام لوازم الابتداع ؛ أي ومن لم ينظر برأيه ، لكنّه قلّد أئمّة الضلالة ومجتهديها ، لا أهل البيت المؤدّين عن اللّه تعالى لا باجتهاد .

وفي آخر «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «فإنّ اللّه - تبارك وتعالى - بعث محمّدا صلى الله عليه و آله بالحقّ ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ، ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته» إلى قوله : «وقد اجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة» الخطبة .(5) أي اتّفقوا على جواز التفرّق .

ص: 487


1- آل عمران
2- : 36 .
3- الأنعام (6) : 57 .
4- الأنعام (6) : 23 - 24 .
5- الكافي ، ج 8 ، ص 386 ، ح 586 .

والاختلاف في مسائل الدِّين بالاجتهادات ، وتركوا الذين لا اختلاف في فتواهم وقضاهم .

(ضَلَّ) أي عمّا ينصّ عليه محكمات القرآن من وجوب التمسّك بحبل الراسخين في العلم ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار كما مرّ في ثامن الباب .

(وَمَنْ تَرَكَ كِتَابَ اللّه ِ وَقَوْلَ نَبِيِّهِ) . هذا بيان لثالث أقسام لوازم الابتداع ، وهو أضعف أقسامها ؛ أي ومن لم ينظر برأيه وفيما يتعلّق بنفسه من المسائل ولم يترك أهل بيت نبيّه ، ولكنّه لم يعُدَّ الطائفتين السابقتين مشركتين ، فخالف محكمات الكتاب وقول الرسول الصريحة في إشراكهما ، كما مرّ في آية سورة الأنعام وقوله فيها : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب التوحيد» في «باب الاستطاعة» ونحوهما من الآيات .

(كَفَرَ) أي أنكر شيئا من الحقّ المعلوم ، مع ظاهر إسلامه وشهادته أنّ الرسول حقّ والكتاب حقّ ، كما مرَّ في آية آل عمران ؛ وذلك لأنّه اتّبع رأيه في خصوصيّة هذه المسألة .

الحادي عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ مُثَنًّى الْحَنَّاطِ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : تَرِدُ عَلَيْنَا أَشْيَاءُ) أي نسأل عن مسائل (لَيْسَ نَعْرِفُهَا فِي كِتَابِ اللّه ِ ، وَلاَ سُنَّةٍ)(2) أي ولا في الأخبار عن النبيّ ولا في الأخبار عن أهل البيت (فَنَنْظُرُ فِيهَا) أي نتفكّر فيها برأينا ونجيب به عنها إذا سُئلنا عنها ؛ والاستفهام مقدّر .

(قال(3) : فَقَالَ : لاَ) أي لا يجوز ذلك (أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَ) أي كان جوابك موافقا لحكم اللّه الواقعي (لَمْ تُوءْجَرْ) أي على الإصابة ؛ لأنّه اتّفاقي ليس باختيارك ، والأجر والثواب النفع المقارن للتعظيم ، ويستحيل أن يقع في مقابلة ما لا اختيار فيه . .

ص: 488


1- الأنعام (6) : 148 .
2- في «ج» : «سنته» .
3- في الكافي المطبوع : - «قال» .

(وَإِنْ أَخْطَأْتَ ، كَذَبْتَ عَلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . ليس المراد به أنّ الإثم غير حاصل في صورة الإصابة ، بل هو تعريض بالمخالفين وروايتهم أنّ للمصيب أجرين : أحدهما للاجتهاد ، والآخر للإصابة ، وللمخطئ أجر واحد وهو للاجتهاد .(1) وذلك أنّ العقل يستحيل التفاوت في الأجر بين اثنين بَذَل كلّ واحدٍ منهما وسعَه ، واتّفق الإصابة في أحدهما ، والخطأ في الآخر بدون تقصيره ، فالمراد أنّ كلاًّ من الصورتين فيه الوعيد المشهور في الكتاب والسنّة على الكذب على اللّه ، أمّا في صورة الكذب فظاهر ، وأمّا في صورة الإصابة فلأنّ العقل يستحيل التفاوت في الإثم بين الصورتين ؛ إذ ليس تفاوتهما باختيار المكلّف ، فكلّ من الصورتين قبيح ؛ لاحتمال الكذب فيه .

الثاني عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْكَلْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ) ؛ بفتح القاف وكسر المهملة وسكون الخاتمة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ) أي صاحبها في النار . وظهر معناه ممّا مرّ في ثامن الباب .

الثالث عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسىَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنَّا نَجْتَمِعُ فَنَتَذَاكَرُ مَا عِنْدَنَا) أي نتذاكر الأحاديث التي بلغَتْنا منكم وكتبناها .

(فَمَا(2) يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِلاَّ وَعِنْدَنَا فِيهِ) أي في حلّه والجواب عنه (شَيْءٌ) أي من أحاديثكم (مُسَطَّرٌ) ؛ بصيغة المفعول من باب التفعيل ؛ أي مكتوب .

(وَذلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللّه ُ بِهِ عَلَيْنَا بِكُمْ ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا الشَّيْءُ الصَّغِيرُ) أي يسألنا أحد من شيءٍ قليل الورود لم نسألكم عنه (لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْءٌ ، فَيَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلى بَعْضٍ) أي نعجز عنه .

ص: 489


1- الرسالة للشافعي ، ص 494 ، باب الاجتهاد ، ح 1409 ؛ مسند أحمد ، ج 4 ، ص 198 ، حديث عبدالرحمن بن حسنة ؛ المستصفى للغزالي ، ص 360 ؛ فتح الباري ، ج 1 ، ص 60 ؛ كنزالعمّال ، ج 6 ، ص 7 ، ح 14597 .
2- في الكافي المطبوع : «فلا» .

(وَعِنْدَنَا مَا يُشْبِهُهُ ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال(1) ؛ أي يشابه الشيء الصغير .

(فَنَقِيسُ عَلى أَحْسَنِهِ) . الضمير ل- «ما» أي على أوفقه للشيء الصغير .

(فَقَالَ : مَا(2) لَكُمْ وَلِلْقِيَاسِ؟) . يُقال : ما لكَ ولزيد ، أي أيّ شيءٍ تريد بمصاحبته؟ ولِمَ لا تتركه ؟

(إِنَّمَا هَلَكَ) أي صار جهنّميّا (مَنْ) ؛ موصولة . (هَلَكَ مِنْ) ؛ حرف جرّ وهي بمعنى «في» . (قَبْلِكُمْ) . الظرف متعلّق ب- «هلك» الأوّل أو بالثاني . (بِالْقِيَاسِ) . متعلّق ب- «هلك» الأوّل .

(ثُمَّ قَالَ : إِذَا جَاءَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ ، فَقُولُوا بِهِ) . «جاءكم» أي ورد عليكم ، وهذا التعبير للإشارة إلى تفسير آية سورة النساء : «وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اْلأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ»(3)آل عمران (3) : 66 .(4) ؛ بأنّ المراد بالمجيء الورود بالسؤال ، والمراد بالأمن الحلال ، وبالخوف الحرام ، وبالإذاعة إفشاء النفاق . والباء للآلة ، والضمير لمصدر «جاء» باعتبار أنّه منشأ لاتّباعهم الظنّ ، تعلمون أي جوابه ضمير به لمصدر تعلمون ، والباء للآلة .

(وَإِنْ جَاءَكُمْ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، فَهَا) ؛ بالقصر ، فيه احتمالان :

الأوّل : أن يكون«ها» منصوب المحلّ بالإغراء بتقدير : فالزموا ، وعبارة عن الآيات الأربع اللاتي أوّلهنّ «ها» كما في سورة آل عمران : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّه ُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) ، فيكون هذا الكلام من الاختصارات البليغة الشريفة اللطيفة ، وله نظائر كثيرة كما نبّه عليه ابن الأثير في النهاية في باب الهمزة مع النون(5) .

وفيه إشارة إلى تفسيرٍ لهذه الآية وآية اُخرى قبلها بوجه مخالف لتفاسير العامّة .

ص: 490


1- في «ج ، د» : «معلوم باب الإفعال» بدل : «بصيغة المعلوم من باب الإفعال» .
2- في الكافي المطبوع : «وما» .
3- النساء
4- : 82 .
5- النهاية ، ج 1 ، ص 78 .

الذين جعلوا نظم القرآن المعجز ركيكا جدّا لتعاميهم عن أهل الذِّكر . فمن المحتمل في الآية أن يكون«ها» لتقريب زمان وقوع مدخولها بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة . قال الجوهري : «ها ، مقصور للتقريب ، إذا قيل لك : أين أنت ؟ قلت : ها أنا ذا»(1) انتهى .

«أنتم» مبتدأ ، والخطاب لجمهور الأصحاب المخاطبين بقوله : «فقولوا» في آية سابقة وهي : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(2)في «د» : «بسبب» .(3) .

«هؤلاء» خبر المبتدأ وإشارة إلى أهل الكتاب المذكورين سابقا ، وهم الذين ابتدعوا الاجتهاد والتقليد بعد نبيّهم ، خلافا لكلمة معلومة نازلة في كلّ كتاب إلهي ، وهي النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ . والجملة من قبيل التشبيه نحو : زيد أسد .

«حاججتم» استئناف بياني ، وهو إشارة إلى ما مضى في قوله : «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . «فيما لكم به علم» أي سبب(3) الكلمة التي هي معلومة لكم . «فلِم تحاجّون» بصيغة المضارع نهيٌ عمّا صدر عنهم بعد رسول اللّه من احتجاجات المجتهدين بالمظنونات . «واللّه يعلم» تأكيدٌ للإخبار عن صدور هذا القبيح عن جمهور الأصحاب بعد الرسول صلى الله عليه و آله حين تفرّقهم واتّباعهم خلفاء الضلالة . «وأنتم لا تعلمون» أي إنّ هذا القبيح سيصدر عنكم . «أن» في «أن لا نعبد» مصدريّة ، والمصدر مفعول له ل- «تعالوا» .

وقس عليه آية سورة النساء : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(4) على أن يكون ضمير «عنهم» للذين يبيّتون القول على اللّه بغير علم .

وكذا آية سورة محمّد : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ»(5) ؛ .

ص: 491


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2560 (ها) .
2- آل عمران
3- : 64 .
4- النساء (4) : 109 .
5- محمّد (47) : 38 .

على أن يكون «هؤلاء» إشارة إلى الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه ، وهو النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ .

وكذا آية سورة آل عمران : «هَا أَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ»(1)في «أ» : - «اسم».(2) ، على أن يكون «اُولاء» إشارةً إلى المنافقين الذين مردوا على النفاق ، فأحبّهم المنافقون(3) وجعلوهم خلفاء بعد الرسول صلى الله عليه و آله .

الثاني : أن يكون «ها» اسم(3) فعل بمعنى «خذوا» ويستوي فيه الإفراد والتثنية والجمع ، والمقصود الأمر بأخذ العلم والجواب الصحيح عن أهل الذِّكر عليهم السلام .

(وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلى فِيهِ) . يُقال : أهوى يدي وهوت أيضا - كرمت - أي امتدّت وارتفعت ، فالباء للتعدية ؛ والمقصود وضع يده على فمه لتأكيد الأمر بالسكوت ، أو الإشارة بيده إلى فمه للأمر بوجوب أخذ الجواب الصحيح عنه عليه السلام .

(ثُمَّ قَالَ : لَعَنَ اللّه ُ أَبَا حَنِيفَةَ ؛ كَانَ يَقُولُ : قَالَ عَلِيٌّ وَقُلْتُ(4) ، وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ وَقُلْتُ) أي كان لا يسلّم(5) لعليّ ولا لغيره من الصحابة ، ومضى في تاسع الباب ما يكفي في شرحه . والمراد بالصحابة إمّا بعضهم كما في(6) قوله : «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ»(7) وإمّا جميعهم .(8)

(ثُمَّ قَالَ : أَ كُنْتَ تَجْلِسُ إِلَيْهِ ؟) . «إلى» بمعنى «مع» كما في قوله تعالى : «إِلَى الْمَرَافِقِ»(9) ، ويجيء بيانه في عاشر الثالث والعشرين ، فالظرف مستقرّ حال عن فاعل «تجلس» أو لغو متعلّق ب- «تجلس» وعدّي ب- «إلى» لتضمين الضمّ أو التوجّه ؛ أي .

ص: 492


1- آل عمران
2- : 119 .
3- في «د» : «المخاطبون» .
4- في الكافي المطبوع : + «أنا» .
5- في «أ» : «يسمّ» .
6- في «ج ، د» : «نظير» بدل : «كما في» .
7- آل عمران(3) : 39 .
8- مجمع البيان ، ج 2 ، ص 286 ؛ معاني القرآن للنحّاس ، ج 1 ، ص 390 .
9- المائدة (5) : 6 .

تجلس ضامّا نفسك أو متوجّها إليه . والمراد أنّك إن كنت تجلس معه أي كثيرا ، لسمعت ذلك البتّة منه .

(فَقُلْتُ : لاَ ، وَلكِنْ هذَا كَلاَمُهُ) أي أعلم أنّه كان يقول ذلك بدون جلوس كثير إليه .

(فَقُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، أَتى رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله النَّاسَ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ فِي عَهْدِهِ؟) أي بما يتناول كلّ واحد من أفعالهم تناول المسائل الفقهيّة للأفعال الشخصيّة ، وذلك بأن يأتي بما يعلم به الحكم الواقعي لكلّ فعل من أفعالهم .

وفيه إشارة إلى أنّه إذا لم يأت بالجميع كان الباقي موكولاً إلى اجتهاد الاُمّة ، وكان عليّ والصحابة مضطرّين إلى الاجتهاد والحكم بالرأي وتجويز الاختلاف فيه ، فلم يكن اعتراض على أبي حنيفة ؛ لأنّه ليس الفتوى في الباقي قولاً على اللّه ، فلا يندرج في الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وليس فيه احتمال كونه حكما بخلاف ما أنزل اللّه ، فلا يندرج في الوعيد في نحو قوله : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ»(1) في الآيات الثلاث في سورة المائدة .

(فقَالَ : نَعَمْ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ) أي وبما يحتاجون ، وهو عطف تلقين .

(إِلَيْهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي أتى بما ذكرت ، وبما يزيد عليه بوجهين :

الأوّل : ما قد يحتاجون إليه في عهده ، وذلك إمّا فيما تعذّر علمهم بالحكم الواقعي فيه ، فقد أتى بالمسائل الاُصوليّة التي يعلم بها الحكم الواصلي لكلّ فعل من أفعالهم حينئذٍ ، ولم يَكِلهُم فيه إلى عقولهم ، وإمّا في التفاوت في الدِّين بين أصناف نوع واحد من الحكم ، ككون بعض المستحبّات أحسن في الدِّين من بعض ، وبعض الواجبات أوجب في الدِّين من بعض ، وبعض المحظورات أقبح في الدِّين من بعض وهكذا ، فقد أتى بجميع الترغيبات والترهيبات ، ولم يدع لأحد فيها كلاما .

الثاني : ما يعلم به الحكم الواقعي والحكم الواصلي والتفاوت لكلّ فعل من أفعال مَن بعدهم إلى يوم القيامة ، وهذا مستنبط من قوله تعالى في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ .

ص: 493


1- المائدة (5) : 44 ، 45 و 47 .

الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، كما يجيء في أوّل الباب الآتي .

(فَقُلْتُ : فَضَاعَ مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ) . إشارةٌ إلى أنّ ما ضاع كما لم يأت به في استلزام تجويز الاجتهاد والاختلاف فيه .

(فَقَالَ : لاَ ، هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ) أي أهل ذلك ، أو أهل النبيّ بمعنى أهل بيته عليهم السلام ، ولذا أمر الاُمّة بسؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلمون، وقال عليه السلام : «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ».(2)

الرابع عشر : (عَنْهُ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : ضَلَّ) أي فقد ، ومنه تعريف الضالّة . وهذا كناية عن الضياع والفساد ؛ فإنّ الغالب في المفقود الضياعُ والفساد .

(عِلْمُ ابْنِ شُبْرُمَةَ) ؛ أي ما سمّاه علما ، وهو اعتقاد أنّه لم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكلّ ما يحتاج إليه الاُمّة من الحلال والحرام ، بل فوّض إلى المجتهدين وأهل القياس .

وعبد اللّه بن شبرمة، بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ المهملة وتخفيف الميم، كان فقيه المخالفين وقاضيهم بالكوفة .(3) ويجيء في «كتاب الوصايا» في «باب من أعتق وعليه دَين»(4) غلبتُه على ابن أبي ليلى بقياس إجازة عتق الميّت عبده مع الدين المحيط أو الأكثر ممّا للورثة على إجازته مع الدين المساوي أو الأقلّ .

(عِنْدَ الْجَامِعَةِ - إِمْلاَءِ) ؛ بالجرّ صفة الجامعة .

(رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وَخَطِّ عَلِيٍّ عليه السلام بِيَدِهِ) . يجيء بيانها في «كتاب الحجّة» في «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام » . .

ص: 494


1- النحل (16) : 89 .
2- مسند احمد ، ج 3 ، ص 14 ، مسند أبي سعيد الخدري ؛ مجمع الزوائد ، ج 9 ، ص 163 ، باب فضل أهل البيت عليهم السلام ؛ مسند ابن الجعد ، ص 397 ، من حديث محمد بن طلحة .
3- عبداللّه بن شبرمة الضبي الكوفي ، كنيته أبو شبرمة ، وكان قاضيا لأبي جعفر [المنصور] على سواد الكوفة ، وكان شاعرا ، مات سنة أربع وأربعين ومائة. رجال الطوسي ، ص 117 ؛ رجال ابن داود ، ص 120 .
4- في الحديث 1 من باب من أعتق وعليه دين .

(إِنَّ الْجَامِعَةَ لَمْ تَدَعْ لاِءَحَدٍ كَلاَما) أي كلاما بالرأي والقياس (فِيهَا عِلْمُ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ) أي جميعه .

(إِنَّ أَصْحَابَ الْقِيَاسِ طَلَبُوا الْعِلْمَ بِالْقِيَاسِ ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ إِلاَّ بُعْدا؛ إِنَّ دِينَ اللّه ِ لاَ يُصَابُ بِالْقِيَاسِ) . مضى شرحه في سابع الباب .

الخامس عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ السُّنَّةَ) . المراد بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله . (لاَ تُقَاسُ) أي لا يجوز الحكم بأنّ هذا من السنّة بقياسه على سنّة اُخرى ، فما ثبت بالقياس إمّا مخالف لما جاء به الرسول ، وإمّا شريك له في الإثم .

(أَ لاَ تَرى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْضِي صَوْمَهَا وَلاَ تَقْضِي صَلاَتَهَا؟) حاصله أنّ الحكم في الدِّين بالقياس يفضي إلى الخطأ الكثير ، وإلى الاختلاف الكثير في أحكام الدِّين وإن بُذِل الوسعُ ، وكلّ ما يفضي إلى أحدهما مردود .

أمّا الاُولى ، فلأنّ الشريعة فيها تفريق المتشاكلات بحسب عقولنا ، وضمّ المختلفات بحسب عقولنا ، فالقياس - سواء كان قياس المساواة أم قياس العكس ، ومضى معناهما في شرح عنوان الباب - يفضي إلى الخطأ الكثير وإن بذل الوسع ، فيفضي إلى الاختلاف وإن بذل الوسع ؛ لاختلاف القرائح والأنظار والإحاطة بالاُصول بديهةً .

أمّا الفرق بين المتماثلات بحسب عقولنا فكما في هذا المثال ؛ أي إيجاب القضاء على الحائض في الصوم وإسقاطه عنها في الصلاة ، وهي أوكد من الصوم .

وله أمثلة كثيرة كإيجاب القضاء على المسافر فيما قصر في الصوم ، وإسقاطه عنه فيما قصر من الصلاة ، وكإيجاب الغسل ومنع المكث في المسجد بخروج الولد والمنيّ ، وهما أنظف من البول والغائط اللذين يوجبان الوضوء ، وكإباحة النظر إلى الأمَة الحسناء وإلى محاسنها وحَظْر ذلك من الحرّة وإن كانت شوهاء ، وكالتشديد في بول الصبيّة دون الصبيّ ، وهو أعزّ عند الوالدين ، وكقطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وكإيجاب الجلد بنسبة الزنا إلى الشخص دون الكفر ، وكإثبات القتل بشاهدين

ص: 495

دون الزنا ، وكالفرق بين عدّتي الطلاق والوفاة ؛ وأمثلته كثيرة جدّا .

ويجيء في «كتاب الديات» في «باب الرجلُ يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل» إلى آخره عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : «عشرة من الإبل» . قلت : قطع اثنتين(1) ؟ قال : «عشرون» قلت : قطع ثلاثا ؟ قال : «ثلاثون» قلت : قطع أربعا ؟ قال : «عشرون» قلت : سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : «مهلاً يا أبان هكذا حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست مُحقَ الدِّين» .(2)

وأمّا ضمّ المختلفات بحسب عقولنا ؛ فمنه التسوية بين قتل الصيد عمدا وخطأً في الفداء في الإحرام ، ومنه التسوية بين الزنا والردّة في القتل ، ومنه تسوية القاتل خطأ والواطئ في الصوم ، والمظاهر عن امرأته في إيجاب الكفّارة عليهم ، ومنه تسوية زمان وجود المحتاجين وزمان فقدهم في وجوب ما استيسر من الهدي على المتمتّع في يوم النحر بمنى ؛ وأمثلته كثيرة جدّا .

وأمّا الثانية ، فلآيات بيّنات كثيرة ناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وعن الاختلاف في أحكام الدِّين .

إن قلت : يحتمل أن يكون المراد بالحديث أنّ القياس لا يفيد ظنّا ؛ لأنّ السنّة فيها ضمّ المختلفات وتفريق المتشاكلات ، كما في هذا المثال وأمثاله الكثيرة . والقياس لو أفاد ظنّا إنّما يفيده فيما لم يعلم فيه كثرة ذلك .

قلت : العلم بالكثرة لا نُسَلِّم أنّه ينافي الظنّ إلاّ إذا كانت الكثرة بحيث يكون غالبا على ضدّه ، وهو ممنوع . .

ص: 496


1- في «د» : «اثنين» .
2- الحديث 6 من باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل ... . وفيه : «تقابل» بدل : «تعاقل» .

(يَا أَبَانُ ، إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ) ؛ بصيغة المجهول من باب منع أو باب التفعيل ، أي مُحي (الدِّينُ) . إشارةٌ إلى كثرة الخطأ فيه حينئذٍ كما بيّنّاه آنفا .

السادس عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام عَنِ الْقِيَاسِ ، فَقَالَ : مَا لَكُمْ وَلِلْقِيَاسِ)(1) أي نزّهوا أنفسكم عن القياس .

(إِنَّ) ؛ بالكسر والتشديد ، استدلال على نفي جواز القياس . (اللّه َ لاَ يُسْأَلُ) ؛ بصيغة المجهول ، ونائب الفاعل إمّا ضمير مستتر راجع إلى اللّه ، أو المفعول المطلق المفهوم من قوله : (كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ) . «كيف» للاستفهام ، ومحلّها النصب على الحاليّة عند السيرافي(2) والأخفش(3) ، وعلى الظرفيّة عند سيبويه(4) ، أو(5) للشرط كقوله تعالى : «يُصَوِّرُكُمْ فِى الاْءَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ»(6) ، وعلى تقدير كونه للاستفهام وكون نائب الفاعل في «يسأل» ضميرَ اللّه يكون الغيبة في أحلّ وحرّم لرعاية حال المتكلِّم ، كقوله : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا»(7) الآية ، شبّه التفكّر في سرّ قدر اللّه تعالى في الحلّ والحرمة بالسؤال كيف أحلّ اللّه وكيف حرّم اللّه ؛ يعني أنّ القياس لا يتحقّق إلاّ بالتطلّع إلى سرّ قدر اللّه تعالى في الحلال والحرام ، والتطلّع إلى سرّ قدر اللّه منهيٌّ عنه كما في .

ص: 497


1- في الكافي المطبوع : «والقياس» .
2- هو الحسن بن عبداللّه بن المرزبان السيرافي ، نحوي ، عالم بالأدب ، أصله من سيراف من بلاد فارس ، تفقّه في عمّان وسكن بغداد ، فتولّى نيابة القضاء ، وتوفّي فيها سنة 368 هجرية . وكان معتزليا ، لا يأكل إلاّ من كسب يده ، ينسخ الكتب بالاُجرة ويعيش منها ، له الاقناع في النحو ، أكمله بعده ابنه يوسف ، وأخبار النحويين البصريين وصنعة الشعر والبلاغة وشرح المقصورة الدريدية وشرح كتاب سيبويه . الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 195 .
3- الأخفش مشترك بين جماعة منهم الأكبر والأوسط والأصغر .
4- هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارئي بالولاء أبو بشر إمام النحاة ، ولد في إحدى قرى شيراز ، وقدم البصرة ولزم الخليل بن أحمد ، وصنف كتابه المسمى كتاب سيبويه في النحو ، لم يصنع قبله ولا بعده في النحو ، توفي سنة 180 هجرية ، وقيل : توفي شابّا وقبره في شيراز . الأعلام ، ج 5 ، ص 81 .
5- حكاه عنهم في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 272 (كيف) .
6- آل عمران (3) : 6 .
7- الزخرف (43) : 45 .

روايات كثيرة ، وسيجيء في ثالث «باب الخير والشرّ» وهو التاسع والعشرون من «كتاب التوحيد» وكأنّه استنباط من قوله تعالى في سورة الأنبياء : «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(1) ، أو من قوله تعالى في سورة المائدة : «إِنَّ اللّه َ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ»(2) .

السابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ ، عَنْ أَبِيهِ عليهماالسلام : أَنَّ عَلِيّا صَلَواتُ اللّه عليه قَالَ : مَنْ نَصَبَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلى «من» أي رفع وعيّن (نَفْسَهُ لِلْقِيَاسِ) ، بأن جعل القياس شغلاً لنفسه .

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي من الأفعال الناقصة . (دَهْرَهُ) ؛ بالنصب ، أي في عمره ، أو بالرفع والنسبة مجاز . (فِي الْتِبَاسٍ) أي لا يعرف الحلال من الحرام ويلحق أحدهما بالآخر ، أو لا يحصل له إلاّ ظنّ ضعيف أو اعتقاد مبتدأ ، أو يتوقّف في أكثر المسائل كما هو شأن أهل القياس ، يُقال : التبس بغيره : إذا اختلط بحيث لا يعرف الفرق بينهما . والتبس عليه الأمر : إذا لم يعرفه .

(وَمَنْ دَانَ اللّه َ) . يُقال : دانه من باب ضرب : إذا أقرضه ؛ أي من أدّى إلى اللّه شيئا يجازى عليه .

(بِالرَّأْيِ) ، بفتح المهملة وسكون الهمزة . والمقصود النهي عن العمل بالاجتهاد ، بمعنى جعله مناطا ودليلاً ، وإن كان بدون إفتاء وقضاء .

(لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي ارْتِمَاسٍ) أي يرتطم في الشُّبَه والشكوك لا يجد مخرجا منها ، وينغمس فيها ؛ لكثرة المخائل والمعارضات ، فيتحيّر كما هو شأن أهل الاجتهاد ، لا يحصل لهم فيما يجتهدون فيه في الأكثر أو في جميعه إلاّ اعتقاد مبتدأ ، أو أضعف الظنّ ، فضلاً عمّا توقّفوا فيه .

والمقصود بالفقرتين أنّ القول بالقياس والرأي وانحصار طريق كلّ واحدٍ من الاُمّة .

ص: 498


1- الأنبياء (21) : 23 .
2- المائدة (5) : 1 .

بعد الرسول صلى الله عليه و آله إلى بعض الأحكام الواقعيّة فيهما كما هو مذهب من يدين اللّه بهما ، ينافي قوله تعالى في سورة النحل : «تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، ويجيء في أوّل الباب الآتي .

(قَالَ : وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِرَأْيِهِ) أي بالظنّ ، فالباء للاستعانة ؛ أو بما يظنّه ، فالباء صلة «أفتى» .

(فَقَدْ دَانَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ) أي قال على اللّه ما لا يعلم .

(وَمَنْ دَانَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ، فَقَدْ ضَادَّ اللّه َ) أي جحد آياته المحكمات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، أو المراد جعل نفسه آمرا ناهيا ، ونازع اللّه في سلطانه «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ»(2) .

(حَيْثُ أَحَلَّ وَحَرَّمَ) أي حكم بالحلّ والحرمة من عند نفسه كما نرى في المجتهدين ومقلّديهم يعلّقون الأحكام الإلهيّة على ظنّ المجتهد ، ويقولون : إذا مات المجتهد انتفى ظنّه فلا تعلّق بقوله ، وهذا أيضا من فتاوى مجتهديهم .

(فِيمَا لاَ يَعْلَمُ) . الظرف متعلّق ب- «ضادّ» أو بكلّ من «أحلّ» و«حرّم» على سبيل التنازع .

الثامن عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ) ، بفتح الخاتمة وسكون القاف وكسر المهملة وسكون الخاتمة والنون . (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيَّاحٍ) ، بفتح الميم وتشديد الخاتمة والمهملة . (عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ إِبْلِيسَ قَاسَ نَفْسَهُ بِآدَمَ(3)) .

القيس والقياس، بالفتح من باب ضرب : إلحاق شيء بشيء في حكم ، والباء بمعنى «مع» والظرف حال نفسه ، فكلّ منهما مقيس . والمقصود أنّه قاس نفسه على شيء ، وقاس آدم على شيء . .

ص: 499


1- النحل (16) : 89 .
2- الأنعام (6) : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67.
3- في «ج» : «إلى آدم» .

(فَقَالَ : «خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ») . الفاء للتفصيل وبيان المقيس عليهما في القياسين السابقين . والمقصود أنّه قاس نفسه على النار التي هي مادّته ، وقاس آدم على الطين الذي هو مادّته ، كما هو مذكور في سورة الأعراف وسورة صآ .(1)

ولا يجوز أن يحمل هذا ولا ما يجيء في العشرين من الباب على الاستدلال على بطلان القياس مطلقا ، وإلاّ لتوجّه عليه الاعتراض بأنّ ذمّ إبليس على قياس خاصّ في وقت خاصّ لا بدل على قبح كلّ قياس ، ولا من كلّ أحد ، ولا في كلّ وقت إلاّ بالقياس ؛ لجواز أن يكون في ذلك القياس أو في إبليس أو في ذلك الوقت خصوصيّة ليست في غيره ، وليس هذا الاستدلال من قبيل إبطال الشيء بنفسه ، وراجعا إلى دليل الخلف بأن يُقال : لو جاز قياس ما ، لجاز هذا القياس من إبليس ، وليس فليس ، وذلك لأنّ بطلان القياس من مسائل اُصول الفقه ، ومجوّزوا القياس لم يجوّزوه فيه ، إنّما جوّزوه في الفروع الفقهيّة .

إن قلت : هل يمكن الاعتراض على هذا الاستدلال أيضا بأنّ قياس إبليس كان في مقابلة النصّ، بخلاف قياسهم ؟

قلت : لا ؛ أمّا أوّلاً، فلأنّ وجوب سجود إبليس لم يكن منصوصا عليه أوّلاً ؛ أي حين ترك السجود قبل المعاتبة ، بل كان داخلاً في ظاهر عمومٍ خصّصه بالظنّ بالقياس كما يخصّصون ، بل ظنّه أقرب بناءً على عدم كونه من جنس الملائكة ، هذا إذا كان أوّل ما ذمّ إبليس عليه القياس حين الخطاب بقوله تعالى في سورة صآ : «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(2) ؛ سواء كان قياسه قبل وقت السجدة - كما هو ظاهر قوله في سورة صآ : «اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ»(3) وفي سورة الأعراف : «لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ»(4) ؛ بناءً على كونهما استئنافا بيانيّا لقوله : «إِلاَّ إِبْلِيسَ» وعدم كونهما تكرارا له وكون المضيّ في «وكان من الكافرين» بالنسبة إلى الاستكبار ولم يكن باعتبار علم اللّه .

ص: 500


1- الأعراف (7) : 12 ؛ صآ (38) : 76 .
2- صآ (38) : 72 .
3- صآ، (38): 74.
4- الأعراف (7) : 11 .

كما قيل،(1) ولم يكن الكفر فيه غير القياس - أم كان قياسه في وقت السجدة .

وأمّا إذا كان أوّل قياسه قبل ذلك الخطاب في سورة صآ أيضا بأن يكون في ضمير إبليس حين سمع قوله : «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الاْءَرْضِ خَلِيفَةً»(2) ، أو قوله : «إِنِّى خَالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ»(3) قبل سماع التتمّة أنّ نفسه خيرٌ منه بحيث يقبّح سجودها له بالقياس أو حكم به أيضا ، فالأمر أظهر .

وأمّا ثانيا، فلأنّه لا فرق بين النصّ على الحكم في المسألة الفقهيّة - كما في أمر إبليس بالسجود - وبين النصّ على الحكم في المسألة الاُصوليّة كما في الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وعن الاختلاف في الدِّين في عدم جواز المخالفة بالتأويل بالهوى ، بل تأويل إبليس أقرب من تأويلاتهم للنصوص، كما يظهر للمتتبّع ، فهم أيضا تكبّروا واستكبروا على أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم بادّعائهم لأنفسهم ما ليس لها من منصب الفتوى ، وأبوا أن يكونوا مع الصادقين .

ويظهر بهذا التحرير بطلان تأويل مثبتي القياس قولَ ابن عبّاس : مَن قاس الدِّين بشيءٍ من رأيه قرنه اللّه بإبليس(4) بأنّه إذا كان جاهلاً بالقياس كإبليس .

(فَقَاسَ مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ) ، الفاء للتفريع أو للتعقيب، و«ما» موصولة وعبارة عن النسبة، والتقدير: فقاس على ما بين .

وترك ذكر المقيس هنا للاقتصار؛ لظهور أنّه النسبة بين إبليس وآدم ، فالمقصود أنّه عدَّ نفسه أشرف من آدم بقياس النسبة بين المخلوقين على النسبة بين المادّتين ، ويقيس المتفاخرون بالآباء كقياس إبليس غافلين عن أنّه لو كان المخلوق مثل المخلوق منه في الشرف والخسّة، لكان الآباء مثل آباء الآباء، وهكذا إلى آدم وحوّاء ،4.

ص: 501


1- في حاشية «أ»: القائل: «البيضاوي». تفسير البيضاوي، ج 1، ص 294؛ وج 5، ص 55.
2- البقرة (2) : 30 .
3- صآ (38) : 71 .
4- مجمع البيان، ج 4، ص 225؛ تفسير الثعلبي، ج 4، ص 219؛ تفسير البغوي، ج 2، ص 150؛ تفسير الرازي، ج 14، ص 34.

فيتّحد المخلوق منه ؛ قال تعالى في سورة الحجرات : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه ِ أَتْقَاكُمْ»(1) .

(فَلَوْ قَاسَ الْجَوْهَرَ الَّذِي خَلَقَ اللّه ُ مِنْهُ آدَمَ بِالنَّارِ ، كَانَ ذلِكَ أَكْثَرَ نُورا وَضِيَاءً مِنَ النَّارِ) . يعني وبعد تسليم القياس والتجاوز عن مدلول الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ لو قاس على الجوهر إلى آخره ، وليس المقصود أنّه لو قاس كذلك كان قياسا صحيحا، وأنّه غلط إبليس في كيفيّة القياس ، بل(2) المقصود زيادة التنفير من القياس ببيان كثرة الخطأ فيه، فإنّ شيخهم وأوّل من سنَّ القياس لهم قد أخطأ خطأً ظاهرا في قياس يلزم على تقدير صحّته بطلانُه، فإنّه لو صحَّ قياس الشيء على مادّته لصحّ قياس المادّة على مادّة المادّة ، فيلزم على قياسه أن يكون آدم أشرف منه .

و«الجوهر» معرّب «گوهر» الأصل الذي يستخرج منه شيء ، والباء بمعنى «مع» ، والنار بتقدير الجوهر الذي خلق اللّه منه النار ، وهذا إشارة إلى أنّ جوهر آدم العذب الفرات النوراني، وجوهر إبليس الملح الاُجاج الظلماني، كما مرّ في رابع عشر الأوّل .(3)

التاسع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَرِيزٍ ، عَنْ زُرَارَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ) أي قلت : هل يمكن أن يحدث شيء من الحلال والحرام بحسب الأحكام الواقعيّة، أو بحسب الأحكام الواصليّة، ولم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناس بحكمه الواقعي، أو بحكمه الواصلي، ووكله إلى نظر الناس في مسألة فقهيّة، أو في مسألة من اُصول الفقه .

(فَقَالَ : حَلاَلُ مُحَمَّدٍ حَلاَلٌ أَبَدا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَدا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . الحصر مراد، أي حلال محمّد هو الحلال وحرامه هو الحرام بقرينة الاستئناف البياني بقوله :

(لاَ يَكُونُ غَيْرُهُ). هذا لإبطال أن يختلف أحكام الحلال والحرام باختلاف ظنونل.

ص: 502


1- الحجرات (49) : 13 .
2- في «د»: «و».
3- أي الحديث 14، من باب العقل والجهل.

المجتهدين المصوّبة منهم والمخطّئة، فإنّ اتّباع الظنّ من حيث إنّه ظنّ يتضمّن الحكم بالمظنون إمّا صريحا كما في الإفتاء الحقيقي ، وإمّا غير صريح كما في العمل لأجل الظنّ .

وبهذا يظهر أنّه لا يُبطِل طريقة الأخباريّين .

(وَلاَ يَجِيءُ غَيْرُهُ) . هذا لبيان أنّه لا ينسخ هذه الشريعة .

(وَقَالَ) : أي أبو عبداللّه عليه السلام :

(قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام ) : استئنافٌ لبيان ما تقدّم من أنّه لا حكم واقعيّا وواصليّا إلاّ وهو فيما جاء به محمّد صلى الله عليه و آله .

(مَا أَحَدٌ ابْتَدَعَ بِدْعَةً إِلاَّ تَرَكَ بِهَا سُنَّةً) . مضى في شرح عنوان الباب معنى البدعة ، و(1)المراد هنا أعمّ منه ومن الرأي والمقاييس، وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ما أحدث قوم بدعة إلاّ رفع مثلها من السنّة فتمسُّكٌ بسنّة خيرٌ من إحداث بدعة ».(2) انتهى .

العشرون : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْعَقِيلِيِّ) بضمّ المهملة وفتح القاف نسبة إلى قبيلة، وإمّا عقيل - كأمير - فيقع علي بن أبي طالب و على غيره. (عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْقُرَشِيِّ ، قَالَ دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَنِيفَةَ ،(3) بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقِيسُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لا تَقِسْ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ) . هذا إلى آخره تنفير من القياس بعد ظهور قيام الدلالة على بطلانه من نصوص القرآن، كما مضى شرحه في ثامن عشر الباب .

(حِينَ قَالَ). الظرف ليس متعلّقا بقوله «قاس» بل هو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي قياسه حين قال ، والمراد ظهور قياسه منه حين قال : («خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(4) فَقَاسَ 6.

ص: 503


1- في «د»: - «و».
2- مسند أحمد، ج 4، ص 105، حديث غضيف بن الحرث؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 188.
3- باب في البدع والأهواء؛ فتح الباري، ج 13، ص 213، باب الاقتداء بسنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ العهود المحمّديّة للشعراني، ص 639.
4- الأعراف (7): 12؛ صآ (38): 76.

مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ ، وَلَوْ قَاسَ نُورِيَّةَ آدَمَ) . المراد بها الجوهر الذي خلق اللّه منه آدم، وهو الماء العذب، كما مضى في ثامن عشر الباب .

(بِنُورِيَّةِ النَّارِ) ، هي الماء الملح الاُجاج .

(عَرَفَ فَضْلَ مَا بَيْنَ النُّورَيْنِ ، وَصَفَاءَ) أي زيادة صفاء (أَحَدِهِمَا عَلَى الاْآخَرِ) .

الحادي والعشرون : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَأَجَابَهُ فِيهَا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَ رَأَيْتَ) ؛ بهمزة الاستفهام وفتح التاء للمخاطب ؛ أي أخبرني، وأصله من الرأي .

(إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، مَا كَانَ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا ؟ فَقَالَ لَهُ : مَهْ )؛ بفتح الميم وسكون الهاء اسم فعل ؛ أي اسكت ، وأكثر استعماله بمعنى اترك .

(مَا أَجَبْتُكَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، لَسْنَا مِنْ أَ رَأَيْتَ فِي شَيْءٍ) . لعلّه عليه السلام علم من قوله : «أرأيت» ، أنّ مراده طلب الفتوى بالرأي والاجتهاد ، فصرّح بأنّا لسنا من أهل الرأي في شيء من الأحكام ، والمراد بقوله عليه السلام : «أرأيت» لفظ أرأيت، وهو في حكم الاسم، ولذا أدخل عليه «مِن» ، والمراد ممّن يُقال له: أرأيت .(1)

الثاني والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلاً ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : لاَ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلِيجَةً) .

إشارة إلى قوله تعالى في سورة التوبة : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه ُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّه ُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2) . المجاهدة هنا مجاهدة مع النفس ؛ لأنّ النفوس تنزع إلى اتّباع الرأي واتّخاذ الوليجة بدون نصّ اللّه ، ولا نصّ رسوله ، ولا نصّ الأئمّة السابقين ، ولا سيّما إذا كانت الدُّنيا مع الوليجة ، فقوله : «ولم يتّخذوا» عطف تفسيرٍ تقول : أخذت الشيء - كنصر - : .

ص: 504


1- وحقِّ العبارة: والمراد لسنا ممن يقال له أرأيت.
2- التوبة (9) : 16 .

إذا تناولته فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وتقول : ائتخذوا في القتال بهمزتين ؛ أي أخذ بعضهم بعضا ، والاتّخاذ افتعال أيضا من الأخذ ، إلاّ أنّه اُدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء .

وقد يستعمل «اتّخذ» بمعنى «أخذ» فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وقد يستعمل بمعنى قريبٍ من معنى «صيّر» وهو تناول الشيء على أن يكون شيئا آخر ، فيجعل الشيئان مفعولين له ، نحو قوله : «اتَّخَذَ اللّه ُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً»(1)في «ج» : + «بغير المتصرف» .(2) ، وقد يُحذف المفعول الأوّل . وما نحن فيه يحتمل أن يكون منه ؛ أي لا تتّخذوا أحدا وليجة ، وأن يكون من المتعدّي إلى واحد ، وكذا قوله تعالى : «أَأَتِّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً»(3) ، و«من» بمعنى «في» و«دون» ظرف غير متصرّف بمعنى وراء ، فمعنى من دون اللّه : في وراء اللّه ، كأنّ الاتّخاذ في مكان وراء اللّه ؛ أي لم يعلم اللّه به . ويرجع حاصل المعنى إلى انتفاء نصّهِ ، تعالى اللّه ُ عن المكان وعن الغفلة .

ويحتمل أن تكون «من» للسببيّة و«دون» ظرفا بمعنى وراء ومتصرّفا ؛ لما يلحقه من معنى غير ، كما تقول : فعلته بدون تفريط ولا إفراط ، فمعنى من دون اللّه : بغير اللّه ، بمعنى بغير نصّه .

وقال الرضيّ رحمه الله (4) :

المراد بغير المتصرّف من الظروف ما لم يستعمل إلاّ منصوبا بتقدير «في» أو مجرورا ب- «من» . وقد ينجرّ متى بإلى وحتّى(4) أيضا ، وينجرّ أين بإلى أيضا مع عدم تصرّفهما ، و«من» الداخلةُ على الظروف غير المتصرّفة أكثرها بمعنى «في» نحو : جئت من قبلك ومن بعدك ، و«مِن بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ»(5) وأمّا نحو : جئت من عندك ، «فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ»(6) فلابتداء الغاية ، والمتصرّف من الظروف ما لم يلزم انتصابه بمعنى «في» أو .

ص: 505


1- النساء
2- : 125 .
3- يسآ (36) : 23 .
4- في حاشية النسخ : «في شرح الكافية في بحث المفعول فيه (منه)» .
5- الروم (30) : 5 .
6- مريم (19) : 5 .

انجراره بمن .(1)

ثمّ عدّ رحمه الله «دون» بمعنى قدّام من الظروف المكانيّة النادرة التصرّف ، وقال :

وقد يدخل «دون» التي بمعنى قدّام معنيان آخران ، هي في أحدهما متصرّفة ، وذلك معنى أسفل ، نحو : أنت دون زيد: إذا كان لزيد مرتبة عالية وللمخاطب مرتبة تحتها ، فيتوصّل(2) إلى المخاطب قبل الوصول إلى زيد ، ويتصرّف فيها بهذا المعنى ، نحو : هذا شيء دونٌ ، أي خسيس ، ومعناها الآخر «غيرُ» ولا يتصرّف بهذا المعنى ، وذلك نحو قوله تعالى : «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً» ،(3) كان المعنى أإذا وصلتُ إلى الآلهة أكتفي بهم ، ولا أطلبُ اللّه الذي هو خلفهم ووراءهم ، فهم كأنّهم قدّامه في المكان ؛ تعالى [اللّه] عنه .(4) انتهى .

وقوله : «ولا رسوله» ، عطف على «اللّه» ، وكذا «ولا المؤمنين» . و«لا» مزيدة لتأكيد ما في «لم يتّخذوا» من النفي ، فيفيد وجوب اعتبار نصّ الثلاثة جميعا ، أو لتأكيد ما في «دون» من معنى النفي ، فيفيد وجوب اعتبار نصّ واحد من الثلاثة ، والمآل واحد ؛ إذ لا يفترق نصّ أحد الثلاثة عن نصّ الآخرين .

ولذا اكتفى في هذا الحديث بقوله : «من دون اللّه» اقتصارا ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في خامس عشر «باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية» عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : «يعني بالمؤمنين الأئمّة عليهم السلام لم يتّخذوا الولائج من دونهم» .

ويجيء في عاشر «مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهماالسلام » أنّه قال في تفسير المؤمنين : «هم الأئمّة الذين يؤمنون على اللّه فيجيز أمانهم» .

والولوج : الدخول ، وقد ولج يلج وأولجه(5) غيره ، ومنه الحديث : «عُرِض عليَّ كلّ شيء تُولِجونَهُ» بكسر اللام ، أي تُدخِلونه في الدِّين من الأئمّة والأحكام ونحوها . .

ص: 506


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 494 .
2- في المصدر : «فيوصل» .
3- سورة يس (36) : 23 .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 500 .
5- في النهاية : «وأولج» .

وقيل : بفتح اللام ، أي تدخلونه وتصيرون إليه من جنّةٍ ونار .(1) انتهى .

وظاهر هذا الحديث أنّ المراد بالوليجة من دخل في سلسلة الأئمّة ، سواء كان حقّا أو باطلاً ، وما يجيء في «كتاب الحجّة» في عاشر «مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهماالسلام » من قوله عليه السلام : «الوليجة الذي يقام دون وليّ الأمر» تفسير لفردٍ منها(2) ، وهو من اتّخذ من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين ، أي بغير نصّ اللّه ولا نصّ رسوله ولا نصّ الأئمّة السابقين ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والتاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة أو للتأنيث باعتبار نفس .

(فَلاَ تَكُونُوا مُوءْمِنِينَ) ؛ أي على حقيقة الإيمان .

(فَإِنَّ) . استدلالٌ على كفر القائلين بجواز انعقاد الإمامة بدون نصّ اللّه ولا رسوله ولا الأئمّة السابقين ، كما توهّمه القائلون بانعقاد إمامة «ركب وبا»(3) بالبيعة .

(كُلَّ سَبَبٍ) ؛ بالمهملة والموحّدة المفتوحتين : ما به يربط بين شيئين ، والمراد هنا أمثال المصاهرة بين الوليجة وبين الإمام السابق ، وأصله في الحبل كقوله : «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ»(4) .

(وَنَسَبٍ) ؛ بالنون والسين المفتوحتين : اتّصال الوليجة بالإمام السابق في أبي قبيلة كقريش .

(وَقَرَابَةٍ) ؛ بفتح القاف : قرب النسب ، ككون الوليجة عمّ الإمام السابق .

(وَوَلِيجَةٍ) ؛ بتقدير ولوج وليجة ، والمراد دخول وليجة في سلسلة الأئمّة بالتسلّط والسلطنة وكثرة الأتباع .

(وَبِدْعَةٍ وَشُبْهَةٍ) . ذكر هذا الحديث تحت عنوان هذا الباب باعتبار هاتين ، والبدعة : متابعة هوى النفس ، والشُبهة، بالضمّ : المشابهة المعتبرة في القياس . .

ص: 507


1- النهاية ، ج 5 ، ص 224 (ولج) .
2- في «د» : «منهما» .
3- في «د» : «أبي بكر» وفي حاشية «أ» : «وهذا قلب لفظ أبو بكر» .
4- الحجر (15) : 15 .

والمقصود أنّ كلاًّ من البدعة والشبهة على قسمين :

الأوّل ما كان في نفس الحكم الشرعي ، كتعيين الإمام باتّباع الهوى ، وكتعيين الإمام لمشابهته بالإمام السابق في الشكل والشمائل ؛ وهذا ممّا أبطله القرآن .

الثاني : ما كان في غير نفس الحكم الشرعي ، كإحداث نوع من الطعام بهوى النفس ، وكتعيين قيمة متلَف لمشابهتِهِ بشيءٍ معلوم القيمة ؛ ونحو ذلك من محالّ الحكم التي يكتفى فيها بالظنّ .

(مُنْقَطِعٌ) ، بصيغة اسم الفاعل من باب الانفعال أو باب التفعّل(1) ؛ أي لا يثبت يوم القيامة بأن يتوصّل به ويستند إليه في الاعتذار عن اتّخاذ الإمام .

(إِلاَّ مَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ) أي الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرةٍ بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ ما لم يعلم بالبيّنات والزبر الدالّة على وجوب إمام عالم بجميع الأحكام والمتشابهات إلى انقراض التكليف ، وعلى كفر مَن أنكر مضمون تلك الآيات ، كقوله تعالى في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(2)الكافي ، ج 8 ، ص 296 ، ح 456 .(3) .

وفي «كتاب الروضة» قُبَيلَ حديث أبي ذرّ رضى الله عنه : «وأنّ أبا بكر دعا فأبى عليّ صلوات اللّه عليه إلاّ القرآن ، وأنّ عمر دعا فأبى عليّ عليه السلام إلاّ القرآن ، وأنّ عثمان دعا فأبى عليّ عليه السلام إلاّ القرآن» الحديث . .

ص: 508


1- كذا في النسخ . أقول : ولا يكون من باب التفعل إلا إذا كانت الكلمة : «متقطّع» .
2- آل عمران
3- : 19 .

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ، وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام و...

الباب الحادي والعشرون (بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ إِلاَّ وَ قَدْ جَاءَ فِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ)

فيه عشرة أحاديث .

والمراد بالكتاب محكمات القرآن ، والواو للتقسيم أو بمعنى «أو» لمنع الخلوّ ؛ ومآلهما واحد .

والمراد بالسنّة ما هو صريح في الجامعة لتفسير متشابهات القرآن ، ولا يخرج شيء من أحكام الحلال والحرام ونحوهما عنهما كما مرّ في رابع عشر السابق(1) ؛ يعني أنّ هذا باب وجوب ردّ الرعيّة حكم جميع ما نزل بهم في أمر دينهم من القضايا الجزئيّة إلى الكتاب والسنّة .

ومعنى الردّ إلى محكمات الكتاب ظاهر ، وأمّا الردّ إلى السنّة فمعناه سؤال أهل الذِّكر الذين عندهم الجامعة عن حكم كلّ ما لم يُعلم من محكمات الكتاب .

وقوله : «وأنّه» إلى آخره عطف تفسير على الردّ ، والمحتاج إليه : ما يحتاج إلى العلم به ؛ لأنّه قابل للاختلاف الحقيقي المستقرّ .

وهو على قسمين :

الأوّل : ما يحتاج أكثر الناس إليه ، كمسائل معرفة اللّه ، ومسائل الميراث ونحو ذلك .

الثاني : ما لا يحتاج أكثر الناس إليه ، كمعرفة القبلة في موضع خاصّ ، ومقادير

ص: 509


1- أي الحديث 14 من باب البدع والرأي والمقاييس .

الجنايات الموجبة للديات ، وقيم المتلفات فيه .

والمراد هنا القسم الأوّل ، فالمراد بالناس أكثر الناس ، و«أو» في قوله : «أو سنّة» لمنع الخلوّ ، كما يظهر ممّا مرّ آنفا .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ ، عَنْ مُرَازِمٍ) ، بضمّ الميم والمهملة وكسر الزاي . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»(1) ، وآيات كثيرة قبله وبعده تمهيد وتتميم له ، فمَن جوّز الحكم بالرأي والمقاييس بعد تبيان اللّه تعالى كلّ شيء مشركٌ و«كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا» .(2)

والتبيان : البيان البليغ الواضح ، والمراد بكلّ شيء : كلّ ما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام ونحوهما ، كما يدلّ عليه تتمّة الحديث وثاني الباب ، فهذا كقوله : «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ»(3) . والمحتاج إليه فيما نحن فيه جميع الأحكام التكليفيّة والوضعيّة من الفقهيّة والأُصوليّة ونحوهما .

فإن اُريد أنّ القرآن تبيان لكلّ شيء بالنسبة إلى ذهن رسول اللّه ومَن يقوم مقامه من الأئمّة الراسخين في العلم أهل الذِّكر فلا إشكال فيه ، ويطابقه ما في «كتاب الروضة» .

ص: 510


1- النحل (16) : 89 .
2- في حاشية «أ» : «إشارة إلى مافي سورة النحل بعد تلك الآية بآيتين من قوله تعالى : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا» الآية والإنكاث : الانقاض ، واحدها : نكث ، وهو النقض بعد الفتل ، ومنه سمّوا من بايع الإمام طائعا ثم خرج عليه ناكثا ؛ لأنّه نقض ما وكّد على نفسه بالعهود ، والمعنى : لا تكونوا كالمرأة التي غزلت ثم نكثت غزلها من بعد إبرام وفتل للغزل . وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها وكانت تسمّى خرقاء مكة ، واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ؛ عن الكلبي . وقيل : إنّه مثل ضربه اللّه تعالى ، شبّه فيه حال ناقض العهد بمن كان كذلك» . مجمع البيان ، ج 6 ، ص 193 و 194 .
3- النمل (27) : 23 .

بعد حديث العلماء والفقهاء من قول أبي جعفر عليه السلام : «إنّما يعرف القرآن مَن خُوطب به» .(1)

وإن اُريد أنّه تبيان لكلّ شيء بالنسبة إلى أذهان الرعيّة أيضا ، فهو بتوسّط المحكمات التي هي اُمّ الكتاب . وفي سورة يونس : «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ»(2) أي تفصيل كلّ ما يليق بأن يكتب . وفي سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(3) أي تفصيل كلّ ما يليق بأن يفصّل .

قال بعض المخالفين :

فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكلّ شيء ؟(4)

قلت : المعنى أنّه بيّن كلّ شيء من اُمور الدِّين حيث كان نصّا على بعضها ، وإحالةً على السنّة حيث اُمِر فيه باتّباع رسول اللّه وطاعته ، وقيل : «يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىآ»(5) وحثّا على الإجماع في قوله : «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ»(6) ، ورضي رسول اللّه لاُمّته اتّباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»(7) وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّأوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنّة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثمّ كان تبيانا لكلّ شيء .(8) انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ القياس والاجتهاد لا يفيان بجميع الأحكام الواقعيّة التي لا يستنبطها فقهاؤهم من الكتاب والسنّة والإجماع ، وهم صرّحوا بأنّ مالكا سُئل عن أربعين مسألة .

ص: 511


1- الكافى ، ج 8 ، ص 312 ، ح 485 .
2- يونس (10) : 37 .
3- يوسف (12) : 111 .
4- في حاشية النسخ : «هو الزمخشري في الكشاف (منه)» .
5- النجم (53) : 3 .
6- النساء (4) : 115 .
7- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، ج 2 ، ص 78 و 90 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 20 ، ص 11 و 23 و 28 ؛ هذا وللسيد علي الميلاني المعاصر رسالة في حديث أصحابي كالنجوم، مطبوعة سنة 1418 هجرية .
8- الكشّاف ، ج 2 ، ص 424 .

فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري(1) . والتّهيّؤ للجميع(2) بالمخائل الظنّيّة ممتنع عادةً كما يظهر للمتتبّع .

وثانيا : أنّ من تتبّع أنظار أهل القياس والاجتهاد علم أنّه لا يحصل لهم فيما اجتهدوا أو قاسوا فيه إلاّ جهالات من اعتقاد مبتدأ ، أو ظنٍّ ضعيف في عرضة التهافت والزوال والتناقض ، وكيف يمكن أن يمنّ اللّه على عباده بالبيان البليغ الواضح لكلّ شيء وبتفصيله ، ولا يكون فيهم من يكون له طريق في حلّ الأحكام الواقعيّة إلى علم أصلاً ، ويحيلهم في التبيان والتفصيل إلى جهل جُهّالٍ . وقد اُشير إلى الوجهين فيما مضى في سابع عشر الباب السابق(3) عن عليّ صلوات اللّه عليه أنّه قال : «مَن نصب نفسه للقياس لم يزل دهرَه في التباس ، ومَن دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس» . فالأصحاب الذين هم كالنجوم في انتفاء اختلاف الدلالات لم يجتهدوا ولم يقيسوا .

وثالثا : أنّه لو كان القرآن بهذا الاعتبار تبيانا وتفصيلاً لكلّ شيء ، لكان قول القائل : اعمل ما علمتَ أو ظننتَ أنّه حقّ ، وإلاّ فاعمل ما شئت ، تبيانا وتفصيلاً لكلّ شيء . وهذا سفسطة .

(حَتّى وَاللّه ِ ). الواو للقسم .

(مَا) ؛ نافية .

(تَرَكَ اللّه ُ شَيْئا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ) أي في اُمور الدِّين إلى يوم القيامة من أنواع الأحكام الواقعيّة والواصليّة ، والتفاوت بين أصناف نوع واحد بحسب الدِّين ككون هذا من الواجبات أوجبَ من ذاك منها ، وهذا من المستحبّات أحبَّ من ذاك منها ، ونحو ذلك .

(حَتّى لاَ يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ) ؛ بدل «حتّى واللّه» إلى آخره ، أو معطوف عليه بحذف العاطف ، يُقال : استطاعه إذا قدر عليه بسعة ، ويجيء حقيقة الاستطاعة في «كتاب التوحيد» في أحاديث «باب الاستطاعة» . .

ص: 512


1- حكى ذلك ابن قدامة في المغني ، ج 11 ، ص 384 ؛ وفي الشرح الكبير ، ج 11 ، ص 391 ؛ والغزالي في المستصفى ، ص 345 ؛ والآمدي في الأحكام ، ج 4 ، ص 164 .
2- في «ج» : «للجمع» .
3- أي الحديث 17 من باب البدع والرأي والمقاييس .

(يَقُولُ) ؛ بالرفع على تقدير «أن» الناصبة وإهمالها ، أو على أنّه بدل «يستطيع» أو بالنصب على تقدير «أن» وإعمالها . والمراد باستطاعة القول وقوع القول منه ، نحو : «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرا»(1) ، أو المراد القدرة على القول .

(لَوْ) ؛ للتمنّي وتفيد أمرين : كونَ مدخولها محتاجا إليه ، وكونَه غير واقع .

(كَانَ) ؛ ناقصة ، وإنّما زيدت للدلالة على أنّ المتمنّى ماض .

(هذَا) ؛ اسم كان ، ولا حاجة إلى تقييد المشار إليه بكونه محتاجا إليه ، بناءً على ما في «كتاب الروضة» في حديث النظر في النجوم من أنّه يستنبط الإمام من القرآن عدد قصبات الأجمّة والتي في وسطها .

(أُنْزِلَ) ؛ بصيغة المجهول خبر «كان» .

(فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ) ؛ بكسر الهمزة وتشديد اللام ، والاستثناء متّصل مفرّغ ، والمستثنى حال ، نحو : «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا»(2) أي لا يستطيع أن يقوله على حال إلاّ على هذا الحال .

(وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللّه ُ) . الضمير راجع إلى «هذا» . (فِيهِ) أي في القرآن .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ) ؛ بضمّ الميم وسكون النون وكسر المعجمة والمهملة (عَنْ عُمَرَ(3) بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - لَمْ يَدَعْ شَيْئا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الاْءُمَّةُ إِلاَّ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ) .

يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الحدود» في حادي عشر الأوّل(4) . والاستثناء هنا من قسم المنقطع الذي لا يمكن فيه تسليط العامل على المستثنى ، نحو : .

ص: 513


1- الكهف (18) : 67 .
2- الأنعام (6) : 59 .
3- في «أ ، ج» : «عمرو» . وفي حاشية «ج» كالمثبت في المتن .
4- أي الحديث 11 من باب التحديد .

ما زاد هذا المال إلاّ نقص ؛ إذ لا يُراد زاد النقص .

(وَبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه و آله ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة القيامة : «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ»(1) .

(وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ) أي ممّا بيّنه في الكتاب (حَدّا ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلاً يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ عَلى مَنْ تَعَدّى ذلِكَ الْحَدَّ حَدّا) .

الحدّ الحاجز بين شيئين ، وهو قسمان :

الأوّل : ما يحجز الشيء عن أن يشتبه بالشيء الآخر كالجدار بين أرضين .

والثاني : ما يحجز الشيء عن أن يرتكب الشيء الآخر كعقوبة الزاني . والمراد بالحدّ أوّلاً وثانيا القسم الأوّل ، والمراد بالحدّ ثالثا القسم الثاني .

وقوله : «جعل» ، أي في القرآن ، وضمير «عليه» للحدّ ، والمراد بالدليل الإمام الهدى ، أو الآيات البيّنات المحكمات الدالّة على إمامته ، أوالجامعة التي هي إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخطّ عليّ عليه السلام ؛ ومآل الكلّ واحد .

والمراد بالتعدّي التجاوز في العمل أو في الإفتاء والقضاء .

فإن قلت : إذا حمل التعدّي على التعدّي في العمل دلَّ ظاهره على أنّه لا يجوز العمل إلاّ مع يقين بالحكم الواقعي ، كما ذهب إليه بعض ، فإنّه لولاه لزم التعدّي عن حدّ ؟

قلت : لا دلالة ؛ لأنّ أحكام اللّه تعالى على قسمين : واقعيّة وواصليّة ، والاُولى كالعزيمة ، والثانية كالرخصة ؛ لعذر الجهل بالحكم الواقعي ، وقد بيّن كلاًّ منهما في الكتاب ، وجعل لكلّ منهما حدّا .

الثالث : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَارُونَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ) . يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الحدود» في تاسع الأوّل .(2) .

ص: 514


1- القيامة (75) : 18 - 19 .
2- أي الحديث 9 من باب التحديد .

(مَا خَلَقَ) أي ما قدّر (اللّه ُ حَلاَلاً وَلاَ حَرَاما) . يشملان جميع الأحكام الشرعيّة ، فإنّ صحّة عقد بيع مثلاً يرجع إلى حلّيّة تصرّف المشتري ، وفساده يرجع إلى حرمة تصرّفه ، وهكذا .

(إِلاَّ وَلَهُ حَدٌّ) أي حاجز مميّز (كَحَدِّ الدَّارِ) أي لا يختلف باختلاف الاجتهادات ، أو معلوم عند أهله .

(فَمَا كَانَ مِنَ الطَّرِيقِ ، فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقِ ) أي فغير داخل في الدار باجتهاد ، أو فمعلوم عند أهله .

(وَمَا كَانَ مِنَ الدَّارِ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ) أي فغير داخل في الطريق باجتهاد ، أو فمعلوم عند أهله .

وهذا ردّ على المصوّبة من أهل الاجتهاد ؛ حيث يقولون : حكم اللّه تابع لظنّ المجتهد(1) ، وعلى المخطّئة منهم أيضا ؛ لزعمهم أنّ بعض الأحكام ليس محدودا في الكتاب ولا في السنّة .(2)

(حَتّى أَرْشِ الْخَدْشِ فَمَا سِوَاهُ ، وَالْجَلْدَةِ وَنِصْفِ الْجَلْدَةِ) . «حتّى» جارّة والظرف لغو متعلّق بالظرف في قوله : «له حدّ» . ويبعد كون «حتّى» عاطفة على ضمير «له» ؛ لوجوب إعادة الجارّ عند الأكثر في العطف على الضمير المجرور ، واختيار إعادة الجارّ عند الجميع في العطف بحتّى وإن كان عطفا على المظهر ؛ دفعا لتوهّم كونها جارّة ، نحو : مررت بالقوم حتّى بزيد .(3)

والأرش - بالفتح - : الدية ، والخدش - بفتح المعجمة وسكون المهملة - مصدر خدش جلده - كضرب - : إذا قشره بعود ونحوه ، والخدش اسم لذلك الأثر أيضا ، .

ص: 515


1- حكاه الآمدي في الأحكام ، ج 4 ، ص 183 . في المسألة الخامسة عن القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه .
2- المعروف عند الاُصوليّين أنّ المخطئة يقولون : ما من واقعة إلاّ وفيها حكم معيّن ، وأنّه ما من حكم إلاّ وقد نصب عليه دليل ، إمّا حجّة قاطعة ، أو أمارة ظنّية . الفصول الغروية ، ص 406 .
3- اُنظر: شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 276 ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 128 .

والفاء للتعقيب الرتبي ، و«ما» موصولة معطوفة على الخدش ، و«سواه» بكسر المهملة وضمّها والمقصورة ، وضمير الخدش خبر مبتدأ محذوف ؛ إذ التقدير : فما هو سواه ، وسواه بمعنى غيره ، والمراد هنا أسفله بقرينة أن ، حتّى هنا للانتقال من الأقوى إلى الأضعف ، ويؤيّده ما يجيء في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام » من قوله : «فغمزني بيده» وقال : «حتّى أرش هذا» .

و«الجلدة» بفتح الجيم مجرورٌ معطوفٌ على «أرش» ، وذكر نصف الجلدة من قبيل المثال لما هو أسفل من الجلدة بقرينة ما يجيء في «كتاب الحدود» في بعض أحاديث الباب الأوّل من التأديب بثُلث الجلدة(1) ، والمقصود أنّه تعالى أوضح جميع الديات حتّى دية كذا وكذا(2) ، وأوضح جميع الحدود حتّى كذا وكذا .

الرابع : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَا مِنْ شَيْءٍ) أي ممّا تحتاج إليه الاُمّة في الحلال والحرام إلى يوم القيامة (إِلاَّ وَفِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ) . مضى معناه في شرح عنوان الباب .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ) أي من الحلال والحرام (فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ اللّه ِ) أي قولوا : أين هو من كتاب اللّه؟ يعني كلّ ما حدّثتكم دليله موجود مبيّن في كتاب اللّه ، فسلوني عنه حتّى تطمئنّ نفوسكم .

(ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ : إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله نَهى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ ) . اسمان اُخذا من فعلين ماضيين مبنيّين ، فاُعربا على إجرائهما مجرى الأسماء ، واُدخل حرف التعريف عليهما ، ومجموعهما في حكم كلمة واحدة . والمراد به محادثة أهل مجلس الضيافة ونحوه بما لا يعنيهم ، ووجه المناسبة أنّ أكثرها يشتمل على نقل بقيل كذا، وقال فلان كذا ، بلا التفات إلى حال القائل . .

ص: 516


1- أي الحديث 13 من باب التحديد .
2- في «أ» : «فكذا» .

ويحتمل أن لا يكونا في حكم كلمة واحدة ، ويكون المراد بالأوّل نقل الكلام بقيل كذا ، وبالثاني نقله بقال فلان كذا .

وقد يستعملان مصدرين بمعنى القول الرديّ ، وفي حديثهم نهى النبيّ عليه السلام عن قيل وقال ، يروى بالتنوين فيهما ، وهما حينئذٍ كما ذكر آنفا ، وبغير تنوين فيهما ، فقال الفرّاء : فعلان استعملا استعمال الأسماء ، وتركا على البناء الذي كانا عليه .(1) وقال نجم الدِّين الرضيّ رحمه الله : محكيّان ، والمعنى نهى عن قول : قيل كذا وقال فلان كذا ؛ يعني كثرة المقالات .(2) انتهى .

(وَفَسَادِ الْمَالِ) . الفساد - بفتح الفاء مصدر باب نصر وحسن - : الضياع ضدّ الصلاح ، والإفساد : الإضاعة ضدّ الإصلاح ، والنهي عن الفساد راجع إلى النهي عن الإفساد حقيقة ؛ إذ هو الفعل الاختياري بالذات دون الفساد ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْءَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ»(3) .

ويجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب وضع المعروف موضعه» : «من كان منكم(4) له مال ، فإيّاه والفساد ؛ فإنّ إعطاءه في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف» . والمال : ما ملكته من أيّ شيء كان .

(وَكَثْرَةِ السُّوءَالِ) أي تجاوز أحد من الرعيّة في السؤال عن اُمور الدِّين القدر المحتاج إليه لعمل نفسه وأهل بيته ، كما مرّ في رابع «باب استعمال العلم» ويجيء في أوّل الباب الآتي .

(فَقِيلَ لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، أَيْنَ هذَا) أي مجموع الثلاثة (مِنْ كِتَابِ اللّه ِ ؟ قَالَ : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ) في سورة النساء : («لاَ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ»(5)) . الضمير للذين يختانون أنفسهم ، و«نجواهم» : محادثتهم في مجلس الضيافة ونحوه جهارا ، أي بدون .

ص: 517


1- حكاه عنه الرضي في شرح الكافية ، ج 3 ، ص 230 .
2- شرح الرضي على الكافية ، ج 3 ، ص 230 .
3- البقرة (2) : 205 .
4- في الكافي المطبوع : «فيكم» .
5- النساء (4) : 114 .

مسارّة ، كما في سورة التوبة : «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ»(1) ، وفي سورة الزخرف : «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ»(2) .

قال الهروي في الغريبين(3) : «أي من مرائهم وقد نجوت فلانا ، أي ناجيته ونجوته : إذا استنكهته»(4) انتهى .

(«إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ»(5)) . الاستثناء منقطع ، وهو استثناء عن كثير ، والمضاف محذوف ، والتقدير نجوى من أمر . والمراد بالأمر الهداية إلى شيء والدعوة إليه ، والصدقة، بفتحتين : ما أعطيته في ذات اللّه كالزكاة ، والمراد هنا التصدّق . ويجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب القرض» في تفسير هذه الآية : «يعني بالمعروف : القرض» . والمراد بالإصلاح : رفع التنازع والاختلاف في الإفتاء ونحو ذلك ، و«بين الناس» متعلّق بالإصلاح .

(وَقَالَ :) في سورة النساء : («وَلاَ تُوءْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللّه ُ لَكُمْ قِيامَا»(6)) ؛ السفيه الخفيف العقل وعادمه والجاهل ، والمراد بالسفهاء هنا ما يشمل الفسّاق ، وقوله : «التي» صفة موضحة للتعليل ، والقيام والقوام بالكسر نظام الأمر وعماده وملاكه ، وظاهر الخطاب باعتبار التعليل أنّ كلّ ما فيه تضييع المال منهيٌّ عنه كإلقاء شيء في البحر بلا حاجة ، ويجيء في كتاب المعيشة في باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ولا تأتمن شارب الخمر ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه : «ولا تؤتوا»الآية(7) ، .

ص: 518


1- التوبة (9) : 78 .
2- الزخرف (43) : 80 .
3- يعني غريب القرآن والحديث لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة 401 هجرية ، كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1206 . وفي معجم البلدان ، ج 1 ، ص 322 : «باشان من قرى هراة منها أبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين» .
4- حكاه الراغب الإصفهاني في مفرداته ، ص 484 عن بعضهم . وانظر: الصحاح ، ج 6 ، ص 2501 (نجا) .
5- النساء (4) : 114 .
6- النساء (4) : 5 .
7- الكافي ، ج 5 ، ص 299 ، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الاضاعة ، ح 1 .

وليس من قبيل الاستدلال بالقياس المنهيّ عنه ؛ لأنّه استدلال بظاهر الخطاب ممّن يعلم أنّه لا صارف عنه .

(وَقَالَ :) في سورة المائدة : («لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُوءْكُمْ»(1)) . يحتمل كون المراد بالأشياء الأحكام الشرعيّة ، وكون الجملة الشرطيّة صفة لأشياء .

بيان ذلك : أنّ الأشياء المجهولة من جملة أحكام الشرع بالنسبة إلى المكلّفين قسمان :

الأوّل ما علم المكلّف أمثالها ولم يعمل بها .

الثاني : ما ليس كذلك ، وهذه الآية للنهي عن السؤال عن القسم الأوّل ، موافقا لما مضى في رابع «باب استعمال العلم» من قوله : «لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم» .

ويظهر بهذا أنّ السوء المبدوّ باعتبار ترك العمل به ، فإنّ الحجّة على العالم أشدّ منها على الجاهل ، كما مضى في سادس «باب استعمال العلم» وفي أحاديث «باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه» . وأئمّة أهل البيت عليهم السلام خارجون عن هذا الخطاب ، كما يجيء في أوّل الباب الآتي .

وروى مسلم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»(2) انتهى .

السادس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ الْمُعَلَّى) ؛ بضمّ الميم وفتح المهملة وتشديد اللام والقصر . (بْنِ خُنَيْسٍ) ، بضمّ المعجمة وفتح النون وسكون الخاتمة ومهملة .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا مِنْ أَمْرٍ) أي من الحلال والحرام ، أو مطلقا ، كما يجيء في سابع الباب . .

ص: 519


1- المائدة (5) : 101 .
2- صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 91 .

(يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلاَّ وَلَهُ أَصْلٌ) أي ما يستند إليه نحو استناد الجزئيّات إلى القاعدة الكلّيّة ، لا نحو استناد فروع الفقه إلى اُصول الفقه فقط .

(فِي كِتَابِ اللّه ِ(1) ، وَلكِنْ لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ) أي لا يقدر على أن يعلم جميعه بالاستنباط عقول الرعيّة ؛ لكون أكثره ممّا يستنبط من المتشابهات ، والعلم بها موقوف على نزول الملائكة والروح والتحديث ليلة القدر ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب في شأن «إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وتفسيرها» وفي أحاديث «باب الروح التي يسدّد اللّه بها الأئمّة عليهم السلام » والمخاطب به النبيّ صلى الله عليه و آله ، وأهل البيت عليهم السلام تراجمته بعد النبيّ ، ويكفي علمهم بجميعه في حسن إنزاله .

السابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَرْسَلَ إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه و آله ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَأَنْتُمْ) . الواو للحال . (أُمِّيُّونَ) . الاُمّيّ منسوب إلى الاُمّ ، أي من هو على أصل ولادة الاُمّ لم يتعلّم(2) الكتابة ولا العلم ، وكان يقال للعرب «الاُمّيّون» لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة .

(عَنِ الْكِتَابِ) . اللام للجنس ؛ أي ما أنزل اللّه تعالى من(3) الكتاب ، عدّى الاُمّي ب- «عن» لتضمينه معنى الغفلة .

(وَمَنْ أَنْزَلَهُ ، وَعَنِ الرَّسُولِ) . اللام للجنس . (وَمَنْ أَرْسَلَهُ) . المقصود أنّهم لم يعرفوا اللّه بوحدانيّته ، وغفلوا عن فائدة إرسال الرُّسل وإنزال الكتب ، وهي النهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ .

(عَلى حِينِ) . الظرف متعلّق بقوله : «أرسل» ، واختيار «على» لإفادة الغلبة .

(فَتْرَةٍ) ؛ بفتح الفاء وسكون المثنّاة فوقُ(4) : الانكسار والضعف . .

ص: 520


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
2- في «د» : «لم تتعلّم» .
3- في «أ» : «عن» .
4- في «د» : - «فوق» .

(مِنَ الرُّسُلِ) . الظرف مستقرّ ، وهو مجرور صفة «فترة»(1) . و«من» إمّا للنسبة ، نحو(2) «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و إمّا(3) للابتداء ، وتصلح «من» الابتدائيّة للتوسّط بين كلّ ما قام بشيء ، وبين ذلك الشيء باعتبار أنّه ظاهرٌ منه ، كقولك : أعجبني مشي من زيد ؛ وإمّا بمعنى «في» والمقصود أنّ عامّة الناس حينئذٍ كانوا أهل اختلاف عن رأي ، ولم يتّبعوا الرُّسل ، ففتروا وانكسر(4) الرسل وأوصياؤهم بذلك . وهكذا الكلام في النظائر الآتية في هذا الحديث وفي سورة المائده : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ»(5) .

(وَطُولِ هَجْعَةٍ) ؛ بفتح الهاء وسكون الجيم والمهملة : النومة من أوّل الليل ، والمراد هنا الغفلة .

(مِنَ الاْءُمَمِ) ، بضمّ الهمزة وفتح الميم ، جمع «اُمّة» بضمّ الهمزة وتشديد الميم بمعنى الجماعة ، والظرف صفة «طول» أو «هجعة» .

(وَانْبِسَاطٍ) أي انتشار ، وبسط الشيء نشره .

(مِنَ الْجَهْلِ ، وَاعْتِرَاضٍ) . يُقال : اعترض الشيء دون الشيء ، أي حال دونه كالخشبة المعترضة في النهر ، المانعة عن جريان الماء .

(مِنَ الْفِتْنَةِ) ؛ بكسر الفاء : الامتحان والاختبار من اللّه تعالى للعباد ، ويكون بالخير وبالشرّ . والمراد هنا الاختلاف(6) في الحكم بالظنون ؛ قال تعالى في سورة البقرة : «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ»(7) ، واعتراضها إفضاؤها إلى ترك كلّ حقّ . .

ص: 521


1- في ج + «بفتح الفاء وسكون المثناة» .
2- في «د» : «مثل» .
3- في «أ» : - «للنسبة نحو أنت مني بمنزلة هارون من موسى وإما» .
4- في «ج، د» : «ففتر وانكسر» .
5- المائدة (5) : 19 .
6- في «ج» : «اختلاف» .
7- البقرة (2) : 191 .

(وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ) ؛ بفتح المهملة ، يُقال : أبرمت الشيء ، أي أحكمته ؛ أي ما أبرمه الأنبياء السابقون من العقائد والأحكام بأمر اللّه تعالى .

(وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ) . هذا ليس على سياقة المتعاطفات قبله وبعده ، ولذا لم يُعدّ ب- «من» ، بل هو لدفع توهّمٍ نشأ من قوله : «وانتقاض» إلى آخره .

وحاصله : أنّ الانتقاض ليس بارتفاع الحجّة ، بل لعماهم ، أي لتركهم الالتفات إلى الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ المُنزلة في كلّ شريعة ، والظرف لغو متعلّق ب- «عمى» ثمّ عاد إلى السياقة السابقة ، وقال :

(وَاعْتِسَافٍ) . هو الأخذ على غير الطريق كالعسف والتعسّف .

(مِنَ الْجَوْرِ) ؛ بالفتح هو الميل عن القصد ، يُقال : جار عن الطريق ، وجار عليه في الحكم . ونسبة الاعتساف إلى الجور مجاز ، وفيه مبالغة كقولهم : جدّ(1) جدّه ؛ أو المصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة .

(وَامْتِحَاقٍ) . يُقال : محقه محقا - كمنعه - أي أبطله ومحاه ، وتمّحق وامتحق ، أي انمحى .

(مِنَ الدِّينِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ) . تلظّي النار : تلهّبها ، حذفت الياء لالتقاء الساكنين : الياء والتنوين . شبّه الحروب بالنيران على الاستعارة بالكناية ، وذكر التلظّي ترشيح ، ولو شبّه الحروب بالنيران المتلظّية كان ذكر التلظّي تخييلاً ، يجيء في «كتاب النكاح» في سادس «باب خطب النكاح» أنّ هذه الاُمور عادت بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله في اُمّته كما كانت قبله في الاُمّة السابقة .

(عَلى حِينِ)(2) . الظرف إمّا معطوف على قوله : «على حين فترة» بحذف العاطف ، وإمّا صفة «تلظّ» ، والمقصود أنّ الناس قبل البعثة كما كانوا فاقدي دين كانوا فاقدي دنيا ؛ لما كانوا في ضيق وقحط وبلاء .ت.

ص: 522


1- في «ج»: «جدّه».
2- في حاشية «أ»: هذا مذكور في ديباجة تفسير علي بن إبراهيم، مع الواو العاطفه (مهدي). وانظر: تفسير القميّ، ج 1، ص 2، مقدّمة المصنّف، بتفاوت في بعض الكلمات.

(اصْفِرَارٍ مِنْ رِيَاضِ) ؛ جمع «روضة» وهي ما نبت فيه البقل والعشب ، وأصلها «رِواض» قُلبت الواو ياءا لكسرة ما قبلها .

(جَنَّاتِ) . الجنّة : البستان ، والعرب تسمّي النخيل جنّةً .

(الدُّنْيَا) ؛ فُعلى من الدنوّ ، وهو القرب ، سُمّيت لقربها منّا بالنسبة إلى الآخرة ، والتأنيث باعتبار أنّ موصوفها النشأة .

(وَيُبْسٍ) ؛ بضمّ الخاتمة وسكون الموحّدة مصدر يبس - كعلم ، وكحسب شاذّ - : الجفافُ .

(مِنْ أَغْصَانِهَا) . الضمير للجنّات .

(وَانْتِشَارٍ(1) مِنْ وَرَقِهَا ) . الضمير للجنّات .

(وَيَأْسٍ مِنْ ثَمَرِهَا) . اليأس، بفتح الخاتمة وسكون الهمزة، مصدر يئس - كعلم ، وكحسب شاذّ - : ضدّ الطمع ، فإن جعل هذا كالمتعاطفات قبله وبعده فنسبة اليأس إلى الثمر مجاز ، وإلاّ فالظرف لغو متعلّق ب- «يأس» هو لدفع توهّم أن يكون اليبس والانتشار كما يكونان في كلّ خريف . والضمير للجنّات .

(وَاغْوِرَارٍ) . غور كلّ شيء : قعره ، وغار الماء من باب نصر ، واغورّ كاحمرّ ؛ أي ذهب في الغور .

(مِنْ مَائِهَا) . الضمير للجنّات .

(قَدْ دَرَسَتْ) . استئنافٌ بياني لما تقدّم ، وهذا ناظر إلى قوله : «على حين فترة» ، إلى آخره . يقال : درس الرسم - كنصر - أي عفا وانمحى ، ودرسته الريح ، يتعدّى ولا يتعدّى .

(أَعْلاَمُ) ؛ جمع «عَلَم» بفتحتين : العلامة .

(الْهُدى) ؛ بضمّ الهاء والمهملة والقصر : الرشاد ؛ أي سلوك الطريق المستقيم ، ويقال له : الاهتداء أيضا ، وأعلامه الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ ، .

ص: 523


1- في الكافي المطبوع وحاشية النسخ : «انتثار» .

النازلة في كلّ كتاب شريعة ، الدالّة على تحقّق إمام معصوم عالم بجميع الأحكام في كلّ زمان نبيّ أو وصيّ نبيّ .

(وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدى) ؛ بفتح الراء المهملة والدال المهملة والقصر ، مصدر ردى من الناقص اليائي ، من باب علم : إذا هلك ، وأعلامه(1) : القواعد الفاسدة التي وضعها(2) أهل القياس والاجتهاد ، وأحاديثهم المكذوبة على أنبيائهم ، وخرورهم على الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ صمّا وعميانا بالتأويلات الواهية .

(فَالدُّنْيَا) . ناظر إلى قوله : «على حين اصفرار» إلى آخره ، والفاء للإشارة إلى أنّ فساد دنياهم متفرّع على فساد دينهم كما هو الغالب ، موافقا لقوله تعالى في سورة الطلاق : «وَمَنْ يَتَّقِ اللّه َ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ»(3) ، ولقوله تعالى فيه أيضا : «وَمَنْ يَتَّقِ اللّه َ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا»(4) ، ولقوله تعالى في سورة طه : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا»(5) .

(مُتَهَجِّمَةٌ)(6) ؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعّل ، وهي بتقديم الهاء على الجيم على ما في أكثر النسخ ؛ أي متهدّمة خربة جدّا ؛ من هجم البيت - كنصر - أي انهدم ، والتفعّل للمبالغة ؛ أو من هجَمتُ البيت - كنصر - هجما ، أي هدمته ، ومطاوعه : انهجم ، أي انهدم ، وكأنّ مطاوعه إذا اُريد المبالغة تهجم .

أو بتقديم الجيم على الهاء على ما في بعض النسخ ، يُقال : جهمه - كمنعه وعلمه - وتجهّمه وله : إذا استقبله بوجه كريه ، وجهُم - كحسُن - : إذا كان وجهه غليظا سمجا ، ورجل جَهم الوجه بالفتح ، أي عبوس . .

ص: 524


1- في «د» : «وأعلام» .
2- في «د» : «وضعتها» .
3- الطلاق (65) : 2 - 3 .
4- الطلاق (65) : 4 .
5- طه (20) : 124 .
6- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «متجهّمة» .

(فِي وُجُوهِ أَهْلِهَا مُكْفَهِرَّةٌ) . الظرف متعلّق ب «مكفهرّة» وب «متهجّمة» ، فيقدّر مثله لما بعده ، وأهل الدنيا الراغبون إليها ، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، أي في وجوهكم ، وفائدته بيان رغبتهم فيها والتفظيع ، فإنّ العبوس في وجه المحبّ الراغب نادر . والمكفهرّة بصيغة اسم الفاعل ، يقال : اكفهرّ زيد في وجهي - كاقشعرّ - أي نظر إلى وجهي بوجه عابس قطوب .

(مُدْبِرَةٌ غَيْرُ مُقْبِلَةٍ) ، أي مدبرة عن أهلها غير مقبلة إليهم ، وفائدة قوله : «غير مقبلة» التأكيد ، وأن لا يتوهّم أنّها مدبرة بوجه ومقبلة بوجه آخر ، ولا أنّها مدبرة في حين ومقبلة في حين آخر .

(ثَمَرَتُهَا الْفِتْنَةُ) . استئنافٌ بياني ، والفتنة : الاختلاف في الحكم بالظنون كما مرّ .

(وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ) ؛ بكسر الجيم : جثّة الميّت إذا أنتن ، استُعيرت للحرام ، وكانوا يأكلون الجيف وما هو كالجيف كالعِلهِز ، وهو شيء كانوا يتّخذونه في سِني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ، ثمّ يشْوُونَهُ بالنار ويأكلونه ، وقد يخلطون فيه القِردان .(1)

(وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ) . الشعار بكسر المعجمة : الثوب الذي يلي الجسد ؛ لأنّه يلي شعره ، والدثار بكسر(2) المهملة : الثوب الذي فوق الشعار .(3) والخوف بالشعار أنسب ؛ لأنّه في الباطن ، والسيف كالدثار في الظاهر ، والمراد سيف الأعداء ، ويحتمل سيف أنفسهم .

(مُزِّقْتُمْ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل من مزَق الثوب مزقا - كضرب - : خرقه ، ومزّقه تمزيقا للتكثير ، وهو استئناف لبيان الخوف والسيف فيهم .

(كُلَّ مُمَزَّقٍ) . مصدر كالتمزيق ، وهو مفعول مطلق اُقيم مضافُه - وهو «كلٌّ» - مقامَه ، واُعرب بإعرابه، وهذا للمبالغة في تفرّقهم(4) في الآراء ، كان كلّ امرى ءٍ منهم إمام نفسه . .

ص: 525


1- النهاية ؛ ج 3 ، ص 293 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 381 (علهز) .
2- في «ج» : + «الدال» .
3- غريب الحديث لابن سلام ، ج 1 ، ص 311 (الشعر) ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 655 (دثر) ؛ و ج 2 ، ص 699 (شعر).
4- في «ج» : «تمزقهم» .

(وَقَدْ أَعْمَتْ) . حالٌ عن ضمير «مزّقتم» وفيه ضمير الدنيا .

(عُيُونَ)(1) ؛ بالنصب على المفعوليّة .

(أَهْلِهَا) ، أي الراغبين إليها .

(وَأَظْلَمَتْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال ، يقال : أظلمه إذا أخفاه .

(عَلَيْهَا) ؛ الضمير لعيون .

(أَيَّامَهَا)(2) ، بالنصب على المفعوليّة ، والضمير لعيون أو للدُّنيا ، والمراد بالأيّام أئمّة الحقّ ، وحمل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم : «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه ِ»(3) ، وفسَّر به ابن بابويه في كتاب معاني الأخبار حديث : «لا تعادوا الأيّام فتعاديكم»(4) .

(قَدْ قَطَعُوا) . استئنافٌ لبيان الإعماء والإظلام ، والضمير للأهل .

(أَرْحَامَهُمْ) ؛ جمع «رِحم» بالكسر(5) وككتِف ، وهو في الأصل منبت الولد ووعاؤه في البطن ، ثمّ سمّي القرب من جهة الولاد رحما ، وهو المراد هنا .

(وَسَفَكُوا) ؛ من باب ضرب ، أي صبّوا .

(دِمَاءَهُمْ) ، الضمير لأهلها ، أو للأرحام على المجاز .

(وَدَفَنُوا فِي التُّرَابِ) أي بدون تابوت ولا لحد .

(الْمَوْؤُودَةَ) ؛ اسم مفعول من وأد - كضرب - . أي دفن البنت حيّةً .

(بَيْنَهُمْ) . الظرف متعلّق بدفنوا أو بالموؤودة ، وذكره لزيادة التفظيع ، حيث لم يكونوا يُخفون هذا القبيح ، بل كانوا يئدون في محضر جماعتهم ولا ينهى(6) عنه ، ولا يتأثّر به أحد منهم ، وقوله :

(مِنْ أَوْلاَدِهِمْ) ، أيضا لزيادة التفظيع . .

ص: 526


1- في الكافي المطبوع : «عيونُ» بالضمّ .
2- في الكافي المطبوع : «أيامُها» بالضم .
3- إبراهيم (14) : 5 .
4- معاني الأخبار ، ص 123 ، باب معنى الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه و آله : لا تعادوا الأيام فتعاديكم ، ح 1 .
5- أي بكسر الراء .
6- في «ج» : «تنهى» والأولى : «لا يُنْهَوْن عنه» .

(يَخْتَارُ(1) دُونَهُمْ طِيبُ الْعَيْشِ) . قوله : «يختار» بصيغة المضارع الغائب من باب الافتعال ، والنسخ فيه مختلفة ، ففي بعضها بالخاء المعجمة وراء مهملة ، وفي بعضها بالجيم وزاي معجمة . وعلى النسخة الاُولى «يختار» بصيغة المجهول ، و«دون» منصوب على الظرفيّة بمعنى وراء ، و«طيب» مرفوع نائب الفاعل ، والجملة حال عن ضمير «دفنوا» . وفيه إشارة إلى أنّ غيرهم كالعجم مثلاً حينئذٍ كانوا في طيب عيش . وعلى النسخة الثانية «يجتاز» بصيغة المعلوم بمعنى يمشي ويمرّ ، و«دون» بمعنى وراء ، و«طيب» مرفوع فاعل يجتاز .

(وَرَفَاهِيَةُ) ؛ بفتح المهملة والفاء وكسر الهاء وتخفيف الخاتمة ، وهو النعومة(2) ولين العيش .

(خُفُوضِ الدُّنْيَا) ؛ بضمّ المعجمة والفاء والمعجمة مصدر خفض - كحسن - : الدعة والفراغة . وإضافة رفاهية إليه للمبالغة .

(لاَ يَرْجُونَ مِنَ اللّه ِ ثَوَابا ، وَلاَ يَخَافُونَ - وَاللّه ِ - مِنْهُ عِقَابا) . استئنافٌ بياني ، والقسم لتوهّم أكثر الناس أنّ في أهل الاختلاف بالظنون خوفَ عقاب من اللّه ؛ لمداومتهم على العبادات الباطلة .

(حَيُّهُمْ أَعْمى) . استئنافٌ لبيان الاستئناف السابق .

(بَخِسٌ(3)) ، بفتح الموحّدة وكسر المعجمة والمهملة من باب منع : الناقص ، وفلان باخس ، أي ظالم . والمراد بيان ضلاله وكفره أو وأده .

وفي بعض النسخ بالنون والمهملة من باب علم وحسن ، وهو ضدّ السعد .

(وَمَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ مُبْلِسٌ) ؛ بصيغة اسم الفاعل ؛ من أبلس : إذا يئس ، ومنه سمّي إبليسَ ليأسه من رحمة اللّه .

(فَجَاءَهُمْ بِنُسْخَةِ مَا فِي الصُّحُفِ الاْءُولى) ؛ بضمّ النون وسكون المهملة : ما ينتسخ منه .

ص: 527


1- في الكافي المطبوع : «يجتاز» .
2- في «د» : «بالنعومة» .
3- في الكافي المطبوع : «نجس» .

كتاب ؛ أي يكتب . والمراد أنّه جاءهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما هو مشتمِلٌ على جميع ما في الصحف الاُولى ، فكأنّها انتسخت منه .

ولا يمكن هذا المجاز في العكس ، لأنّه مشتمل على زائد عليها ؛ أو لأنّه معجز دونها ، فهو بنفسه وبإعجازه يشهد لها بدون عكس ، وفي سورة طه : «وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْءُولَى»(1) ، ويجيء ما يناسب هذا في عاشر أوّل «كتاب فضل القرآن» .

(وَتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وبمصدّق الذي ، أو وصف بالمصدر مبالغةً ، والمراد به هنا محقّق الصدق له ؛ أي ما لولاه لم يكن الذي بين يديه صادقا ، وهو الإنجيل ؛ لأنّ فيه الإخبار عن بعثة نبيّ كذا وكذا ، وكتاب كذا وكذا ، أو لأنّ فيه النهي عن اتّباع الظنّ ، والدلالة على أنّه لا يخلو زمان عن العالم بجميع أحكام الدِّين كما في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ»(2)في «ج» : «انجيل» .(3) الآية ، فلو لم يجيء القرآن كان الإنجيل(3) كاذبا ، فكلّ من رسول اللّه وكتابه مصدّق للإنجيل ، كما أنّ كلاًّ من عيسى والإنجيل مصدّق للتوراة .

قال تعالى في سورة المائدة : «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الاْءِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ»(4)المائدة (5) : 48 .(5) ، إلى قوله : «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ» الآية .(5) ف- «من» في قوله «من الكتاب» إمّا للتبيين ، واللام في «الكتاب» للعهد ، والمراد به الإنجيل ؛ وإمّا للتبعيض ، واللام للجنس . ويحتمل أن يراد ب «الذي بين يديه» : جنس الكتب المتقدّمة ، وحينئذٍ الأنسب أن يكون «من» في قوله «من الكتاب» .

ص: 528


1- طه (20): 133 .
2- آل عمران
3- : 64 .
4- المائدة
5- : 46 .

للتبيين ، ويكون المراد بالكتاب : جنس الكتب المتقدّمة .

(وَتَفْصِيلِ الْحَلاَلِ مِنْ رَيْبِ الْحَرَامِ) . التفصيل : المبالغة في الفصل والتمييز ، والريب، بالفتح من باب ضرب إمّا بمعنى الشكّ ، فالإضافة إلى المفعول ، تقول : أرابني - بالألف - أمر فلان : إذا شكّك ، أي من احتمال كونه حراما ؛ وإمّا بمعنى الإيهام ، فالإضافة إلى الفاعل ؛ تقول : رابني أمر فلان : إذا أوهمك ما تكرهه ، وأفضى بك إلى سوء الظنّ به ؛ وإمّا بمعنى الحاجة ، فالإضافة إلى المفعول أيضا ، أي من الحاجة إلى الحرام . والحلال والحرام كما يكونان في الأحكام التكليفيّة يكونان في الأحكام الوضعيّة ، فيشملان جميع الأحكام ، وهذا تفسير لقوله تعالى في سورة يونس : «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ»(1) ، بأنّ المراد تفصيل كلّ ما يليق بأن يكتب . وفي سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(2) .

(ذلِكَ) ؛ مبتدأٌ ، وهو إشارة إلى الأمر الجامع للأوصاف الثلاثة : كونه نسخة وتصديقا وتفصيلاً ، وهو على لغة من لا يتصرّف في الكاف الحرفيّة تصرّفَه في الكاف الإسميّة ، وإلاّ لقال : «ذلكم» .

(الْقُرْآنُ) ؛ خبره ، ويمكن أن يكون «ذلك» عطف بيان لنسخة ، والقرآن صفة «ذلك» .

(فَاسْتَنْطِقُوهُ) . الاستنطاق إمّا بمعنى طلب النطق ، والفاء لجواب شرط محذوف ؛ أي وإن ارتبتم في كون القرآن كذلك فاستنطقوه ؛ أو للتفريع على كون القرآن كذلك ، وإمّا بمعنى عدّه ناطقا ، أي دالاًّ على جميع ما ذكر ، والفاء للتفريع .

(وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ) ، يعني ليس نطق القرآن نطقه الحقيقي لغةً، أو ليس نطقه بالنسبة إليكم.

(أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ) أي إنّما استنطاقه المطلوب استنطاق من جعله اللّه تعالى قيّما له ، أو إنّما نطقه بالنسبة إلى القيّم .

(إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة والتشديد ، ويمكن أن يكون بفتح الهمزة . .

ص: 529


1- يونس (10) : 37 .
2- يوسف (12) : 111 .

(فِيهِ عِلْمَ مَا مَضى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . في للظرفيّة ، أو للسببيّة ، وعلى الأوّل المراد بالعلم وسيلة العلم ، وليس المراد ب «ما مضى» وب «ما يأتي» الماضي والآتي بالنسبة إلى زمان خاصّ كزمان تكلّمه عليه السلام بهذا الكلام ، بل المراد بهما كلّ ماض وآت ، أي بالنسبة إلى أيّ زمان زمان فرض حالاً فيشملان كلّ حال أيضا ؛ لأنّ الحال لابدّ أن يصير ماضيا بالنسبة إلى حال بعده ، ونظيره قول النحاة : الماضي ما دلّ على زمان قبل زمانك .(1) فإنّهم لم يريدوا بزمانك زمان تكلّمهم بهذا الكلام فقط ، والمراد بالعلم بهما العلم بنفس الحوادث ووقوعها في كلّ وقت وقت من الماضي والمستقبل ، سواء كان ذاتا أو صفةً ، حكما أو غير حكم .

وقال بعض المخالفين(2) : الجفر والجامعة كتابان لعليّ ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم ، وكانت الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما .(3) انتهى .

وكأنّهما لبيان كيفيّة دلالة القرآن على ما يدلّ عليه من الحوادث ، وحقيقة الحال يجيء في «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة» من «كتاب الحجّة» .

إن قلت : إن كان في القرآن ما يدلّ على تفصيل وقوع كلّ حادث في وقته من الماضي والمستقبل ، لم يجز أن نقول بالظنّ : فعل زيد كذا ؛ لأنّه ربّما كان حكما بخلاف ما أنزل اللّه ، فتشمله الأوصاف الثلاثة المذكورة في سورة المائدة في قوله : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ» أو «اَلظالِمُون» أو «الفاسِقُون»(4) .

قلت : مقتضى سياق الآيات الثلاث أنّ ما أنزل اللّه عبارة عمّا هو صريح في جميع كتب اللّه كالتوراة والإنجيل، وهو النهي عن اتّباع الظنّ، وعن الاختلاف عن ظنّ المتضمّنين للإشراك باللّه كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ .

ص: 530


1- حكاه الرضي في شرح الكافية ، ج 4 ، ص 11 : عن ابن الحاجب .
2- في حاشية النسخ : «يعني شارح المواقف» .
3- المواقف للإيجي ، ج 2 ، ص 59 .
4- المائدة(5) : 44 و 45 و 47 .

تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1)الأنعام (6) : 57 .(2) ، وفي قوله تعالى في سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) ، ومرَّ بيانه في أوّل باب التقليد ، وهو دالّ على نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله وعلى إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر بعده ؛ إذ لم يبق منذ بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيما عداهم وأتباعهم إلاّ من غاية دعواه الاجتهاد والظنّ ، ولولا أنّ المراد بالآيات الثلاث ما ذكر لكان السكوت في الحكم في شيء من الحوادث كفرا وظلما وفسقا ، وهو باطل ضرورة ، ويمكن أن يكون تخصيص ما قبل يوم القيامة بالذِّكر ؛ لأنّ القرآن لا يدلّ على كلّ حادث في يوم القيامة وما بعده .

(وَحُكْمَ) ؛ بالضمّ : الأمر والنهي ونحوهما ، مثل : «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(3) . وقد يُطلق على الحِلّ والحرمة ونحوهما ، وهو عطف على «ما» ، أو على «علم» .

(مَا) ؛ موصولة ومحلّها الجرّ بالإضافة .

(بَيْنَكُمْ) أي بين أهل عصر فرض حالاً ، و«ما» عبارة عن الأفعال الصادرة عنهم ، وهذا من عطف الخاصّ على العامّ ، وفائدة ذكره وتغييرِ الاُسلوب حيث ذكر في الأوّلين العلمُ ، وفي هذا الحكم الإشارة إلى أنّ بيان القرآن في الحال لما مضَى وما يأتي خبر فقط ، وبيانه في الحال لما في الحال تكليف وحكم للمكلّفين ؛ بمعنى أنّ العمدة في نفع بيانه لما في الحال التكليفُ .

(وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) . «ما» موصولة ؛ إمّا عبارة عن تعيين الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإمّا عن الأعمّ منه ومن سائر المسائل المختَلَف فيها . و«أصبحتم» من الأفعال الناقصة بمعنى صرتم بعد أن لم تكونوا ، وفيه إشارة إمّا إلى أنّ تعيين الإمام كان متّفقا عليه في زمن الرسول عليه السلام ، وإمّا إلى أنّ الاختلاف في الدِّين كان ممنوعا في زمن الرسول عليه السلام ، والظرف إمّا متعلّق ب- «تختلفون» وتقديمه للحصر ، فإنّ أوّل خلافهم بعد الرسول عليه السلام لم .

ص: 531


1- آل عمران
2- : 64 .
3- التوبة (9) : 31 .

يكن إلاّ في تعيين الإمام ، وإمّا متعلّق ب- «أصبحتم» ، ومحكمات القرآن دالّة على تعيين الإمام ، وعلى عدم جواز الاختلاف في الدِّين ، كما مرّ بيانه في ثاني عشر باب العقل .

ويحتمل أن يكون «أصبحتم» من الأفعال التامّة ، أي دخلتم في الصباح ، بمعنى علمتم الحقّ واضحا ؛ فالظرف متعلّق ب- «أصبحتم» ، و«تختلفون» حال مقدّرة بأن يكون المراد الخبر عن إصباحهم فيه في زمن الرسول ، ويحتمل كونه حالاً مقارنة بأن يكون المراد الخبر عن إصباحهم فيه بعد الرسول عليه السلام .

(فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ) أي عمّا أصبحتم فيه تختلفون وكيفيّة كون بيانه في القرآن ، أو عن القرآن وكيفيّة دلالته على ما فيه . (لَعَلَّمْتُكُمْ) ؛ بتشديد اللام .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) .

يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس «باب الكتمان» .

و(1)«ولد» بصيغة الماضي المعلوم إمّا من باب التفعيل ، والتوليد : التربية ، والتربية هنا بتوسّط الأئمّة السابقين ، أو بالدعاء والتضرّع والطلب من اللّه ، أو المراد التبشير بالولادة ، وحينئذٍ إشارة إلى نحو ما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم عليهم السلام » : «سيهلك المرتابون في جعفر ، الرادّ عليه كالرادّ عليَّ» .

وإمّا من باب ضرب ، وحينئذٍ فيه إشارة إلى أنّه من أهل بيته الذين ورد فيهم أنّهم كسفينة نوح(2) ، وأنّهم والقرآن لا يفترقان حتّى يردا الحوضَ(3) ونحو ذلك . وفيه دلالة .

ص: 532


1- في «د» : - «و» .
2- المعجم الأوسط للطبراني ، ج 5 ، ص 306 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 218 ؛ أمالي الطوسي ، ص 633 ، موعظة للصادق عليه السلام ، ح 6 ؛ مناقب ابن شهر آشوب ، ج 3 ، ص 39 .
3- مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 ؛ مسند أبي سعيد الخدري ، ج 5 ، ص 182 ، حديث زيد بن ثابت ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 328 ، ح 3876 ، باب مناقب أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 ، فضائل عليّ عليه السلام ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري ، ج 3 ، ص 109 ، وصية النبيّ صلى الله عليه و آله في كتاب اللّه .

على أنّ ولد بنت الرجل ولد له ، وبيانه في «كتاب الروضة» بعد حديث الفقهاء والعلماء .(1)

(وَأَنَا أَعْلَمُ) ؛ بصيغة المتكلّم . (كِتَابَ اللّه ِ) أي القرآن ، ويحتمل كلّ كتاب أنزله .

(وَفِيهِ بَدْءُ الْخَلْقِ) . البدء - بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمز - مصدر بداه - كمنعه - : إذا فعله ابتداءً ، والخلق بمعنى المخلوق ، أو بمعنى المصدر والإضافة إلى المفعول .

والمراد أنّ فيه بيان أنّ العالم ليس بقديم ، لا ذاتا ولا زمانا ، وهو ردّ على الفلاسفة الزنادقة والصوفيّة الاتّحاديّة حيث قالوا بقِدم العالم ، الأوّلون(2) مع الإقرار بالمغايرة بين المؤثّر والأثر بالذات ، والآخرون(3) مع دعوى اتّحادهما بالذات وتغايرهما بالاعتبار .

(وَمَا هُوَ كَائِنٌ) أي باقٍ بشخصه أو بنوعه .

(إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الاْءَرْضِ ، وَخَبَرُ الْجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ) أي فيه بيان لامتياز الأشياء المتقابلة بعضها عن بعض بحيث لا يشتبه فيه أحد المتغايرين بالآخر أصلاً ، والاقتصار على الاُمور المذكورة على سبيل المثال .

(وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ(4) مَا هُوَ كَائِنٌ) أي فيه بيان كلّ ما وقع ولم يبق لا بشخصه ولا بنوعه كطوفان نوح ، وبيان كلّ ما هو واقع في الحال أو الاستقبال ولم يقع قبلُ لا بشخصه ولا بنوعه .

(أَعْلَمُ) ؛ بصيغة المتكلِّم . (ذلِكَ) أي جميع ما في كتاب اللّه . والمراد العلم به بشرط الاستنباط من كتاب اللّه ، فلا ينافي أمثال(5) ما يجيء في «كتاب التوحيد» في بعض أحاديث «باب البداء» . .

ص: 533


1- الكافي ، ج 8 ، ص 307 وما بعدها .
2- أي الفلاسفة .
3- أي الصوفية .
4- في «د» : - «خبر» .
5- في «د» : - «أمثال» .

(كَمَا أَنْظُرُ) ؛ بصيغة المتكلِّم . (إِلى كَفِّي) أي إلى يدي . و«ما» مصدريّة ، والمراد التشبيه في أنّه بلا شكّ وشبهة ومعارضة وهميّة ، أو في سرعة الاستنباط ، أو في سهولته .

(إِنَّ اللّه َ يَقُولُ : فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ) . استئنافٌ بياني لكونها في الكتاب ، والذي في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، فإنّما غيّره للإشارة إلى أنّ «تبيانا» مفعول له لا حال .

التاسع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ) ؛ بضمّ النون وسكون المهملة .

(عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كِتَابُ اللّه ِ فِيهِ نَبَأُ) ؛ بالنون والموحّدة المفتوحتين والهمز : الخبر ، وأكثر استعماله في الخبر عن الماضي .

(مَا قَبْلَكُمْ) . المخاطبون هم اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله الواقعون في أيّ زمان فرض حالاً .

(وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ) أي إلى يوم القيامة ، كما مضى في سابع الباب شرحه .

(وَفَصْلُ) ؛ بالمهملة : الحكم ، أو قطع النزاع .

(مَا بَيْنَكُمْ) . مضى في سابع الباب ما يكفي في شرحه .

(وَنَحْنُ) ؛ يعني الأئمّة من أهل البيت (نَعْلَمُهُ) . الضمير ل «كتاب اللّه» ، أو لما فيه من الاُمور الثلاثة ؛ والمآل واحد .

العاشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ) ؛ بفتح الميم وسكون المعجمة والمهملة والمدّ ، وقيل : والقصر .(2)

(عَنْ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : أَكُلُّ شَيْءٍ) أي من الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس (فِي كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . مضى معنى الكتاب والسنّة .

ص: 534


1- النحل (16) : 89 .
2- في حاشية «أ» : «اختاره في الإيضاح» . إيضاح الاشتباه ، ص 138 ، الرقم 152 .

في شرح عنوان الباب .

(أَوْ تَقُولُونَ) ؛ بصيغة الخطاب أو الغيبة من باب نصر .

(فِيهِ؟) أي في شيءٍ من الحلال والحرام ، وهو ما ليس في الكتاب والسنّة . والمعنى أكلّ شيء من الحلال والحرام داخل في الغيب فهو مبيّن في الكتاب والسنّة ، أو بعض منهما يستقلّ بمعرفته عقولكم ، أو عقول العلماء مطلقا .

(قَالَ : بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) .

ص: 535

باب اختلاف الحديث

الباب الثاني والعشرون بَابُ اخْتِلاَفِ الْحَدِيثِ

فيه اثنا عشر حديثا ؛ أي باب بيان سرّ اختلاف الحديث ، وبيان كيفيّة العمل مع الاختلاف .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلالِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ سَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَبِي ذَرٍّ شَيْئا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ) .

المقصود بذكر هذا الحديث هنا أن يستفاد منه عدم جواز العمل بأخبار الآحاد المرويّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغير طرقٍ بيّنها أهل البيت عليهم السلام .

(وَأَحَادِيثَ) . إمّا منصوب معطوف على «شيئا» ، وإمّا مجرور معطوف على «تفسير» . ويؤيّد الأوّل تنكير «أحاديث» ، ويؤيّد الثاني ما يجيء من قوله : «ومن الأحاديث» .

(عَنْ نَبِيِّ اللّه ِ صلى الله عليه و آله غَيْرَ) . منصوبٌ صفة لكلّ من قوله : «شيئا» و«أحاديث» أو لقوله : «شيئا» ، والمغايرة هنا مغايرة بحسب النوع ، وهي التضادّ والتباين .

(مَا) ؛ موصولة ، وهي عبارة عن تفسير القرآن والأحاديث .

(فِي أَيْدِي النَّاسِ) أي سائر الناس من أصحاب نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله ، وهم المخالفون .

(ثُمَّ سَمِعْتُ مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ) أي من سلمان والمقداد وأبي ذرّ .

(وَرَأَيْتُ فِي أَيْدِي النَّاسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الاْءَحَادِيثِ عَنْ نَبِيِّ اللّه ِ صلى الله عليه و آله

ص: 536

أَنْتُمْ) أي أهل البيت ، أو أنت وشيعتك (تُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا) أي في الأشياء الكثيرة ، بمعنى أنّكم تفسّرون وتروون ما يضادّها ، أو تحكمون ببطلانها ساكتين عن التفسير والرواية بما يضادّها ؛ وحينئذٍ قوله : (وَتَزْعُمُونَ) ؛ عطف تفسير ، أي تدّعون (أَنَّ ذلِكَ) أي المذكور . وهو إشارة إلى أشياء كثيرة ، لا إلى كلّ ما في أيدي الناس ، فلا ينافي أن يكون في أيدي الناس حقّ وباطل .

(كُلَّهُ بَاطِلٌ ، أَفَتَرَى) ؛ بهمزة الاستفهام وفاء التفريع وفعل القلب .

(النَّاسَ يَكْذِبُونَ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله مُتَعَمِّدِينَ) . يجيء تفسيره بُعيدَ هذا .

(وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِآرَائِهِمْ ؟ قَالَ:) أي سليم .

(فَأَقْبَلَ) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ، والضمير لأمير المؤمنين عليه السلام .

(عَلَيَّ) ، حرف جرّ وضمير المتكلّم وحده .

(فَقَالَ : قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوَابَ ، إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ) أي من الأحاديث المرويّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، سواء كانت في تفسير القرآن أم في غيره .

(حَقّا وَبَاطِلاً) . أصل الحقّ : الثابت الراسخ ، والمراد هنا ما ثبت ورسخ فيه الأمر المطلوب بأن لا يكون فيه صورته فقط ، والباطل خلافه . ومضى في أوّل «باب النهي عن القول بغير علم» .

(وَصِدْقا وَكَذِبا) . هذا إلى قوله : «ووهما» تفصيل للحقّ والباطل ببيان أقسامهما ، وهو في الحقيقة بيان لأقسام الباطل ، فإنّ المتقابلين إذا عمّم أحدهما خصّص الآخر ، وهذا بيان للقسم الأوّل .

والمراد بالصدق هنا الخبر الموافق لنفس الأمر وللاعتقاد ، وبالكذب خبر يخالفهما ولا تقيّة فيه ، كما(1) في «كتاب الروضة» قبل حديث العابد ما ظاهره أنّ فتوى التقيّة لا يسمّى كذبا بقوله في قوله تعالى : «فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ»(2) : «واللّه ما كان سقيما وما .

ص: 537


1- في «د» : + «يجيء» .
2- الصافّات (37) : 89 .

كذب»(1) . ومثله يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب التقيّة» وسابع عشر «باب الكذب» .

(وَنَاسِخا وَمَنْسُوخا) . هذا بيان لقسم ثان من الباطل ؛ أي مزيلاً لحكم سابق ومزالاً بحكم لاحق .

(وَعَامّا وَخَاصّا) . هذا إلى قوله : «ووهما» ، بيان لقسم ثالث من الباطل ، وهو ما وقع فيه وهمٌ ، أعمّ من أن يكون بحسب المعنى ومن أن يكون بحسب اللفظ .

والقسم الثالث يمكن جعله قسما واحدا وعليه بناء قوله فيما بعد : «ليس لهم خامس» ويمكن جعله ثلاثة أقسام كما هنا ، فإنّ هذا لبيان القسم الأوّل منها .

والمراد بالعامّ هنا المطلق ، نحو تحرير رقبة في كفّارة الظهار في سورة المجادلة(2) ؛ والمراد بالخاصّ المقيّد ، نحو تحرير رقبة مؤمنة في كفّارة قتل الخطأ في سورة النساء .(3)

وفي هذا إشارة إلى بطلان مذهب جمع من الاُصوليّين ، حيث حكموا في أمثال ذلك في القرآن أو في الحديث بوجوب حمل المطلق على المقيّد باعتبار اللغة والعرف ، أو باعتبار القياس على اختلاف مذاهبهم ، كما بيّنه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه تعالى في كتاب العدّة في فصل في ذكر الكلام في المطلق والمقيّد ، حيث بيّن أنّ المطلق والمقيّد نوع من العامّ والخاصّ ، وقال في بعض كلامه :

وقد يكون التخصيص بأن يعلم أنّ اللفظ يتناول جنسا من غير اعتبار صفته ، ويخصّ بعد ذلك بذكر صفة من صفاته ، نحو قول القائل : تصدّق بالورق إذا كان صحاحا فيستثنى منه ما ليس بصحاح ، وإن كان اللفظ الأوّل لم يتناول ذلك على التفصيل ، وقد علم أنّ الرقبة إذا ذكرت منكّرة لم تختصّ عينا دون عين ، فصحّ تخصيص الكافرة منها ، وتخصيص ذلك قد يكون بأن يقترن إلى الرقبة صفة تقتضي إخراج الكافرة ، وقد يكون .

ص: 538


1- الكافي ، ج 8 ، ص 369 ، ح 559 .
2- المجادلة (58) : 3. قوله تعالى : «وَ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا» .
3- النساء (4) : 92. قوله تعالى : «مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ» الآية .

باستثناء الكافرة ، فلا فصل بين قوله عزّوجلّ : «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»(1) ، وبين قوله : «إلاّ أن تكون كافرة» ، وهذا بيّن .(2) انتهى .

وعلى هذا كلّ حديث نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في نظير كفّارة الظهار ، وكان عامّا فهو حقّ ، وكلّ ما نُقِلَ عنه صلى الله عليه و آله في نظير كفّارة الظهار وكان خاصّا فهو باطل ، ومن قبيل النقل بالمعنى عن ظنّ .

(وَمُحْكَما وَمُتَشَابِها) . المراد بالمحكم نقل معنى حديث من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله صريح الدلالة وغير منسوخ ، سواء كان في تفسير آية أم لا ، فالنقل مطابق للمنقول وداخل في الحقّ . والمراد بالمتشابه نقل معنى حديث من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله غير صريح الدلالة ، فالنقل مخالف للمنقول وداخل في الباطل ، فهذا لبيان القسم الثاني من أقسام القسم الثالث من الباطل .

(وَحِفْظا وَوَهَما) . هذا لبيان القسم الثالث من أقسام القسم الثالث من الباطل .

والحفظ بالكسر، من باب علم : الحراسة وعدم الغفلة ، ويُقال : وهم في الشيء كضرب وهما بالفتح : إذا ذهب ذهنه إليه وهو يريد غيره ، ووهم كعلم في الحساب ونحوه وَهَما بفتحتين : إذا غلط فيه وسها . والمراد بالحفظ هنا ما حفظ فيه حدود اللفظ بعينه مع إرادة النقل باللفظ ، وبالوهم ما لم يحفظ فيه تلك لسهو فيها ، أو نسيان مع إرادة النقل باللفظ بقرينة ذكر باقي أقسامه على حِدة .

(وَقَدْ كُذِبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب ، وفاعله المحذوف : الأصحاب ، وهو بيان لقوله : و«كذبا» وجواب لقوله : «أفترى الناس يكذبون» إلى آخره .

(عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ؛ الظرف قائم مقام الفاعل .

(عَلى عَهْدِهِ) . العهد : الحفاظ ؛ أي في زمانه ومع حفظه للناس عن مثل ذلك .

(حَتّى قَامَ خَطِيبا ، وَقَالَ(3) : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ كَثُرَتْ) ؛ من باب حسن . .

ص: 539


1- النساء (4) : 92 .
2- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 334 ؛ وفي طبعة اُخرى : ج 2 ، ص 132 .
3- في الكافي المطبوع : «فقال» .

(عَلَيَّ) . الظرف متعلّق بقوله : «كثرت» لتضمينه معنى اجتمعت أو ثقلت ، أو متعلّق بقوله :

(الْكَذَّابَةُ ) ، بصيغة المبالغة ، والتاء لكون الموصوف مؤنّثا ، أي الطائفة الكذّابة ؛ أو جمع كذّاب ، واستُدلّ به على أنّه لا يجوز التمسّك في الأحكام بما رواه المخالفون عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغير طرق بيّنها أهل البيت عليهم السلام كما صرّح به الشيخ الطوسي رحمه الله في عدّة الاُصول .

(فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا) أي لا عن تقيّة وضرورة ، ولو اُريد بالتعمّد العلم لوجب أن يُقال : إنّ المراد بالكذب هنا المخالف لنفس الأمر ، ويعرف التخصيص بما عدا التقيّة والضرورة بدليل خارج .

(فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي لينزل منزله من النار . يُقال : بوّأه منزلاً ، أي أسكنه إيّاه ؛ وتبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه ، وهو أمر . والمقصود الإخبار بأنّ منزله(1) في النار البتّة .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب أو للتراخي في الزمان .

(كُذِبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب ، وفاعله المحذوف : الأصحاب ، أو أعمّ منهم ومن غيرهم .

(عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذلك القول ، أو من بعد الرسول .

(وَإِنَّمَا أَتَاكُمُ) أي جاءكم (الْحَدِيثُ) أي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، أعمّ من أن يكون في تفسير القرآن وغيره .

(مِنْ أَرْبَعَةٍ) . هم أقسام أصحابه الرُّواة لحديثه بلا واسطة .

(لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ :) أي قسم خامس من الرواة بلا واسطة ، ولا ينافي ذلك تحقّق الخامس في أخبار الآحاد في هذه الأزمان .

(رَجُلٍ مُنَافِقٍ يُظْهِرُ الاْءِيمَانَ) . في نهج البلاغة «مُظهر للإيمان»(2) . .

ص: 540


1- في «ج» : + «من» .
2- نهج البلاغة ، ص 336 ، الخطبة 210 .

(مُتَصَنِّعٍ بِالاْءِسْلاَمِ) . التصنّع : تكلّف حسن السمت(1) والتزيّن ، والباء للآلة ، والإسلام أعمّ من الإيمان بحيث يدخل فيه المنافقون ، كما في سورة الحجرات : «قَالَتْ الاْءَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا»(2) .

(لاَ يَتَأَثَّمُ وَلاَ يَتَحَرَّجُ) . التأثّم : التجنّب للإثم والتوبة منه ، وكذلك التحرّج ، والحرج بفتحتين : الإثم ، فالعطف تفسيري ، وفائدته المبالغة .

(أَنْ يَكْذِبَ) ؛ مفعول به ؛ لأنّ الفعلين يتعدّيان بنفسهما .

(عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله مُتَعَمِّدا ، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَذَّابٌ ، لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا : هذَا قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . يُقال : صحبه - كعلمه - صحابة ويكسر وصحبه : إذا عاشره .

(وَرَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ) . ذكر الرؤية والسماع باعتبار أنّهما داعيان لصاحبهما إلى الإيمان بتمام القلب ، بخلاف الأعمى ومن لم يسمع ؛ فإنّهما كالغائب ، وفي المَثَل : «يرى الشاهد ما لا يرى الغائب»(3) . وهذا مبنيّ على أنّ هؤلاء المنافقين لم يكونوا عُمْيا ولا غير سامعين .

(وَأَخَذُوا) أي الناس الحديث ، وهو عطف على «قالوا» . وفي بعض النسخ بالفاء .

(عَنْهُ وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ حَالَهُ) وقولَه .

(وَقَدْ) . استدلال على أنّ بعض الأصحاب كانوا منافقين .

(أَخْبَرَهُ)(4) . الضمير المستتر للّه تعالى ، والبارز للرسول صلى الله عليه و آله .

(عَنِ الْمُنَافِقِينَ) أي في القرآن (بِمَا أَخْبَرَهُ) أي في القرآن ، وهو تهويل وتعظيم .

(وَوَصَفَهُمْ) أي في القرآن (بِمَا وَصَفَهُمْ) أي في القرآن ، وهو تهويل وتعظيم .

(فَقَالَ) في سورة المنافقين . الفاء لتفصيل الخبر والوصف ، فيفيد أنّ المنافقين كان .

ص: 541


1- في «ج» : «الصمت»؛ وفي حاشية «أ» : «السمت : هيئة أهل الخير» . لسان العرب ، ج 2 ، ص 47 (سمت) .
2- الحجرات (49) : 14 .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 349 ، ح 547 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 297 ، ح 2505 ؛ وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 441 ، ح 15208 .
4- في الكافي المطبوع : + «اللّه» .

ظاهرهم ظاهرا حسنا ، وكلامهم كلاما مزيّنا مدلّسا يوجب اغترار الناس بهم وتصديقهم لهم فيما ينقلونه عن النبيّ صلى الله عليه و آله من الأحاديث ؛ ويرشد إلى ذلك أنّه سبحانه خاطب نبيّه صلى الله عليه و آله بهذا الكلام .

أو الفاء للتعقيب ، وحينئذٍ يحتمل أن يُراد بالخبر والوصف ما في نحو(1) قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ»(2) . وفيه إشارة أيضا إلى أنّ الرسول إذا لم يعلمهم فكيف يعلمهم الناس ؟

«وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ» . كانوا في الظاهر على حُسن السمت والجمال والصلاح .

«وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(3) ؛ أي تُصْغِ إليهم ؛ لذلاقة ألسنتهم ، أو لأنّهم كانوا بين الناس معظّمين ، أو لأنّه لم يعرف نفاقهم .

(ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ ، فَتَقَرَّبُوا إِلى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ) ؛ هم هم . (بِالزُّورِ) ؛ بالضمّ : القوّة والشرك باللّه ودعوى الشيء بمحض اللسان ، وبفتحتين : الزيغ والميل عن الحقّ .

(وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ) ؛ بالضمّ مصدر بهتهُ - كمنعه - وإذا نسب إليه نقصا أو قبيحا ليس فيه كروايات المخالفين في صحاحهم ما فيه نقص أهل البيت عليهم السلام لترويج أباطيلهم ، والظرف متعلّق ب- «تقرّبوا» وفيه إشارة إلى أنّ أئمّة الضلالة عرفوا منهم ذلك ؛ لاتّحاد سريرتهم ولذلك قرّبوهم ؛ أو «بالدعاة» ، وفيه إشارة إلى أئمّة الضلالة من القسم الأوّل ، والجنسيّة علّة الضمّ .

(فَوَلَّوْهُمُ) ؛ بفتح اللام المشدّدة .

(الاْءَعْمَالَ) ؛ مفعول ثان ، يُقال : ولّيته الأمر تولية ، أي جعلت الأمر في عهدته .

(وَحَمَلُوهُمْ) ؛ من باب ضرب ، ويحتمل باب التفعيل للمبالغة . .

ص: 542


1- في «ج» : - «نحو» .
2- التوبة (9) : 101 .
3- المنافقون (63) : 4 .

(عَلى رِقَابِ النَّاسِ ، وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا) . الضمير الأوّل للمنافقين ، والثاني للأئمّة ، أو بالعكس .

(وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا) . إشارة إلى أنّ ميل الناس إلى قبول قولهم قد ازداد بسبب التقرّب إلى الأئمّة ، وجمع مال الدنيا ، أو تولّى أعمال الدنيا .

(إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللّه ُ) . أي وفّقه اللّه وعرف أنّ الكون مع الملوك والدنيا يضرّ بدين المؤمن . (فَهذَا أَحَدُ الاْءَرْبَعَةِ) .

(وَرَجُلٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله شَيْئا لَمْ يَحْفَظْهُ) ؛ من باب علم .

(عَلى وَجْهِهِ) أي على ما هو حقّه .

(وَوَهَمَ) ؛ كضرب . المراد بالوهم هنا أعمّ من الأقسام الثلاثة التي ذكرت بقوله : «وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما» .

(فِيهِ) أي في لفظه بالزيادة والنقصان ، أو معناه إذا كان النقل بالمعنى .

(وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِبا ، فَهُوَ فِي يَدِهِ ، يَقُولُ بِهِ) أي يفتي به (وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيَرْوِيهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهَمَ لَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ وَهَمَ لَرَفَضَهُ) أي لتركه .

(وَرَجُلٍ ثَالِثٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله شَيْئا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ) ؛ للعطف على «سمع» . ويحتمل أن يكون للعطف على أمر .

(نَهى عَنْهُ وَهُوَ) أي الرجل (لاَ يَعْلَمُ ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، فَحَفِظَ مَنْسُوخَهُ) . الضمير للرسول أو لشيء ، ويحتمل الرجل .

(وَلَمْ يَحْفَظِ) . في بعض النسخ «ولم يعلم» ، والمعنى واحد .

(النَّاسِخَ ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ - إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ - أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ . وَآخَرَ رَابِعٍ) . وقوله :

(لَمْ يَكْذِبْ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، مُبْغِضٍ لِلْكَذِبِ؛ خَوْفا مِنَ اللّه ِ(1) وَتَعْظِيما لِرَسُولِ .

ص: 543


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ، للتمييز عن القسم الأوّل ، وقوله :

(لَمْ يَنْسَ(1)) ، في بعض النسخ لم يَسْه .

(بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلى وَجْهِهِ ، فَجَاءَ بِهِ كَمَا سَمِعَ ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ) ، للتمييز عن القسم الثاني . وقوله :

(وَعَلِمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ ، فَعَمِلَ بِالنَّاسِخِ وَرَفَضَ الْمَنْسُوخَ) ، للتمييز عن القسم الثالث .

(فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ) . الفاء للبيان ، والمراد بالأمر هنا ضدّ النهي ، وهو مذكور على سبيل المثال ، أو الأمر بمعنى ما صدر عنه من الخطاب التكليفي مطلقا .

(مِثْلُ الْقُرْآنِ) . خبر «إنّ» .

(نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ) . العطف للانسحاب ؛ أي منقسم إليهما ، ورفعهما على أنّهما خبر ثان ل «إنّ» وأو على البدليّة من «مثل» ، أو على الخبريّة لمبتدأ محذوف بأن يكون الجملة استئنافا لبيان المثليّة . وهذا ناظر إلى القسم الثالث والرابع ، والنسبة بينهما بالتمييز .

(وعَامُّ وخاصٌّ(2) ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ) . العطف الأوّل والثالث للانفراد ، والثاني والرابع للانسحاب ، وهذا ناظر إلى القسم الثاني والرابع ، والنسبة بينهما بالتمييز .

(قَدْ) . استئناف بياني للعامّ والخاصّ ، والمحكم والمتشابه .

(كَانَ) ؛ ناقصة ، واسمها ضمير الشأن المستتر فيها ، وما بعدها خبرها .

(يَكُونُ) ؛ ناقصة ، وإقحامها للدلالة على الاستمرار في الماضي .

(مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . الظرف خبر «يكون» .

(الْكَلامُ) ؛ اسم «يكون» .

(لَهُ وَجْهَانِ) أي احتمالان ، فهو من المتشابه . والجملة صفة الكلام ؛ لأنّ لامه للعهد الذهني ، فهو في حكم النكرة . ويحتمل كون الجملة حالاً عن الكلام ، وكونَها خبر .

ص: 544


1- في الكافي المطبوع : «لم ينسه» .
2- في الكافي المطبوع : «وخاص وعام» .

يكون والظرف حالاً عن الكلام ، وكونها صفة الكلام ، والظرف حالاً عن الكلام ، و«يكون» تامّة .

ويؤيّد الصفة عطف النكرة الموصوفة على الكلام في قوله :

(وَكَلاَمٌ(1) عَامٌّ وَكَلاَمٌ خَاصٌّ) . مضى معناهما آنفا .

(مِثْلُ الْقُرْآنِ) ؛ بالرفع صفة لكلّ من «الكلام» و«كلام عامّ وكلام خاصّ» . و«مثل» - كغير - في التوغّل في الإبهام ، وأنّه لا يكسب التعريف من الإضافة إلى المعرفة .

(وَقَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ : «ماآتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2)) . جملة حاليّة بتقدير «قد» ، والآية في سورة الحشر ، ويجيء بيانها في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلى الأئمّة عليهم السلام في أمر الدِّين» وهو الباب الثاني والخمسون .

والمراد بما آتاكم : ما قال لكم من الأحاديث أو ما يعمّه وحصّة الغنيمة ، وبما نهاكم عنه : كثرة السؤال ، كما في قوله : «لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ»(3) . وقد مرّ في خامس الباب السابق .

(فَيَشْتَبِهُ) ؛ عطف على «يكون» ، والفاء للتفريع أو للتعقيب ، وهو إمّا خالٍ عن الضمير وفاعله «ما» الموصولة ، وإمّا فيه ضمير مستتر مرفوع المحلّ على الفاعليّة ، راجع إلى كلّ من «الكلام» و«كلام عامّ وكلام خاصّ» .

(عَلى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يَدْرِ مَا) . «ما» إمّا موصولة ومحلّها الرفع على فاعليّة «يشتبه» ، فيكون «لم يعرف» و«لم يدر» جاريين مجرى اللازم بحذف مفعول «لم يعرف» ومفعولي «لم يدر» نسيا منسيّا ؛ لحصول الفائدة في النفي بالمبالغة ، فما قيل - من أنّه لا يحذف مفعولا باب علمت وظننت معا نسيا منسيّا ، فلا تقول : علمت ولا ظننت ؛ لعدم الفائدة ؛ لأنّ من المعلوم أنّ الإنسان لا يخلو في الأغلب عن(4) علمٍ أو ظنّ ، فلا فائدة في .

ص: 545


1- في الكافي المطبوع : «كلام» بدون الواو .
2- الحشر (59) : 7 .
3- المائدة (5) : 101 .
4- في «ج» : «من» .

ذكرهما من دون المفعولين مع عدم قيام القرينة .(1) انتهى . - إن تمّ فمختصّ بالإيجاب .

وإمّا استفهاميّة علق بها «لم يدر» ، وحينئذٍ إمّا أن يجري «لم يعرف» مجرى اللازم ، وإمّا أن يبنى على قول هشام من جواز إلحاق «عرف» ب- «علم» في نصب المفعولين ، فيعلق هو أيضا بالاستفهام على سبيل التنازع ، ويبعد جدّا أن تكون موصولة محلّها النصب على مفعوليّة «لم يعرف» ويكون «لم يدر» جاريا مجرى اللازم ، ولا يجوز أن تكون موصولة محلّها النصب على مفعوليّة «لم يدر» ؛ لأنّه لا يتعدّى إلاّ إلى مفعولين ، ومن خصائص أفعال القلوب أنّه إذا ذكر أحد مفعوليها ذكر الآخر .

(عَنَى اللّه ُ بِهِ) أي ب- «الكلام له وجهان وكلام عامّ وكلام خاصّ» وهو ناظر إلى قوله : «مثل القرآن» .

(وَرَسُولُهُ صلى الله عليه و آله ) أي وما عنى رسوله به ، وهو ناظر إلى قوله : «قد كان يكون من رسول اللّه» إلى آخره .

(وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله كَانَ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّيْءِ) أي عمّا يشتبه ، وهذا لدفع توهّمٍ نشأ من السابق ، وهو أنّه مع حضوره عليه السلام وإمكان سؤاله لا يبقى اشتباه ، ويحتمل أن يكون لضمّ مقوٍّ إلى الجملة الحالّية السابقة .

(فَيَفْهَمُ) ؛ بالرفع بصيغة المعلوم من باب علم ، والفاء للعطف على «يسأله» أي فيفهم السائل الجواب ، ولا يجوز أن يكون منصوبا في جواب النفي . والفاء للسببيّة ؛ لأنّه يفيد أنّهم إذا سألوا فهموا وهو ينافي ما بعده ، والنفي راجع إلى مجموع السؤال والفهم .

وذلك يتصوّر على ثلاثة وجوه :

الأوّل : ترك سؤالهم .

الثاني : سؤالهم وانتفاء فهمهم الجوابَ ، كما روى مسلم عن عمر أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكرّرا عن الكلالة ولم يفهم الجواب .

الثالث : سؤالهم وترك جوابه عليه السلام . وأفرد بالذِّكر الثالث بعده اهتماما وتمهيدا لبيان .

ص: 546


1- في حاشية «أ» : «القائل الرضي في شرح الكافية» . شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 154 .

الفرق بينه وبين سائر الأصحاب ، ويحتمل أن يكون النفي راجعا إلى الفهم فقط ، فلا يدلّ إلاّ على الوجه الثاني ، بأن يكون الوجه الأوّل مذكورا بالجملة الحاليّة السابقة ، والوجه الثالث مذكورا بقوله :

(وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُ) . الضمير المستتر لمن ، والبارز لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أي يسأله عن الشيء المشتبه .

(وَلاَ يَسْتَفْهِمُهُ) . الضمير المستتر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والبارز لمن ، واستفعل هنا للنسبة إلى الشيء ، نحو : استحسنت زيدا واستقبحت الظلم ؛ والمعنى : لا يعدّه فاهما أي أهلاً لأن يفهم المسؤول عنه ، فيترك جوابه كراهةَ أن يدّعي منصب الإفتاء والقضاء أو الإمامة بلا استحقاق ؛ لتوهّمه من نفسه توسّعا في العلم ، كما مضى في خامس الباب السابق في شرح قوله تعالى : «لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ»(1) ، وذلك إنّما يكون في سؤاله عمّا لا يتعلّق بنفسه ولا بأهليّة من المسائل ، ويمكن أن يكون الضمير المستتر ل- «من» والبارز لرسول اللّه ، أي لا يستقصي في السؤال إلى أن يفهم .

وفي نهج البلاغة بدل قوله : «وليس كلّ» إلى هنا هكذا : «وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يسأله ويستفهمه»(2) .

(حَتّى) ؛ هي الداخلة على الجمل .

(إِنْ كَانُوا) ؛ بكسر الهمزة مخفّفة من المثقّلة ، والفارقة هي اللام في قوله :

(لَيُحِبُّونَ) . الضميران للأصحاب ، أو لمن باعتبار تعدّده في المعنى .

(أَنْ يَجِيءَ الاْءَعْرَابِيُّ) أي ساكن البادية .

(وَالطَّارِئُ) ؛ بالهمز من «طرأ» عليهم كمنع طرءا وطروءا : إذا أتاهم من مكان ؛ أو بالياء من «طري» - كعلم - : إذا أقبل ، أو مرّ ، أي المتجدّد قدومه أو إسلامه ، أو من «طرأ» كنصر طروّا : إذا جاء من مكان بعيد ، أي من يجيء من البلاد البعيدة . .

ص: 547


1- أي الحديث 5 من باب الردّ إلى الكتاب والسنّة . والآية في سورة المائدة (5) : 101 .
2- نهج البلاغة ، ص 326 ، الخطبة 210 .

(فَيَسْأَلَ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي عمّا لا يتعلّق بالأصحاب أنفسهم ، ونُهوا عن السؤال عنه .

(حَتّى يَسْمَعُوا) أي يسمعوا الجواب في المشتبه ويفهموا ، وإنّما أحبّوا سؤالهما لأنّهما يستقصيان في السؤال الشقوق والاحتمالات ولا يتأدّبان ، فرجوا أن يكرّر عليه السلام الجواب عليهما ، ويوضح المشتبه لهما ؛ لبُعدهما من الفهم فيفهموا .

وروى مسلم عن نوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلاّ المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن شيء .(1) انتهى .

وقال شارحه : معناه أنّه أقام بالمدينة كالزائر من غير نقله أهله(2) إليها من وطنه لاستيطانها ، وما منعه من - الهجرة وهي الانتقال من الوطن إليها(3) - إلاّ الرغبة في سؤال رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن اُمور الدِّين ، فإنّه صلى الله عليه و آله كان يسمح بذلك للزائرين(4) دون المهاجرين ، وكان المهاجرون يفرحون بسؤال الغرباء من الأعراب .(5) انتهى .

(وَقَدْ كُنْتُ) . هذا لبيان أنّه لم يكن حكم اللّه تعالى فيه كحكمه في سائر الأصحاب ، كيف لا ونهي سائر الأصحاب عمّا نهوا عنه من السؤال لم يكن إلاّ لإعلاء شأنه ، وللفرق بينه وبينهم ، ولكشف سرّ قوله عليه السلام : «أنا مدينة العلم وعليٌّ الباب»(6) ، لِمَ لَمْ يصرّح اللّه تعالى بالمراد في القرآن وأتى بالمتشابهات ؟

(أَدْخُلُ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . ليس المراد الدخول الجسمي ، بل العقلي ؛ لئلاّ ينافي قوله فيما بعد : «فربما كان» إلى آخره ، ومنه يُقال لمن يداخل الملك في اُموره ويختصّ .

ص: 548


1- صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 7 ، باب صله الرحم وتحريم قطيّعتها .
2- في المصدر : - «أهله» .
3- في المصدر : «واستيطان المدينة» بدل : «إليها» .
4- في المصدر : «سمح بذلك للطائرين» بدل «يسمح بذلك للزائرين» .
5- شرح مسلم للنووي ، ج 16 ، ص 111 .
6- المستدرك للحاكم النيسابوري ، ج 3 ، ص 126 ، باب أنا مدينة العلم وعليّ بابها ؛ مجمع الزوائد ، ج 9 ، ص 114 ، باب في علمه عليه السلام ؛ المعجم الكبير ، ج 11 ، ص 55 ؛ كنزالعمّال ، ج 13 ، ص 148 ؛ فضائل علي عليه السلام ، ح 36463 .

به : دخيل الملك ودُخْلُلُه - كقُنفذ ودِرهم - .(1)

(كُلَّ يَوْمٍ) . المراد في أواخر عمره صلى الله عليه و آله ، أو في غير أيّام المفارقة للسفر .

(دِخْلَةً)(2) ؛ بكسر الدال للنوع ؛ أي دخولاً لاستيداع الأسرار ، ليس كسائر أفراد الدخول ؛ أو بفتح الدال للمرّة من الدخول العقلي .

(وَكُلَّ لَيْلَةٍ دِخْلَةً ، فَيُخْلِينِي) . الفاء للتفريع على الدخلة باعتبار ما يفهم من سابقه من كراهته صلى الله عليه و آله أن يطّلع سائر الأصحاب على ما لا(3) يتعلّق بهم ولا بأهليهم من الشرائع والأسرار .

و«يخليني» من باب الإفعال يُقال : أخلى الملك زيدا : إذا اجتمع به في خلوة(4) ؛ أي فيقيم سائر الأصحاب عنّي إن كان الدخول بمحضرهم . أو من باب التفعيل ، أي فيتركني ولا يمنعني من سؤال .

(فِيهَا) أي في الدخلة . و«في» للسببيّة أو للظرفيّة .

(أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ) أي أتعلّم منه في كلّ ما أسأله عنه جميع جهاته المعلومة له ، أو جميع ما يقول فيه ، وهو ناظر إلى قوله : «وكان منهم» إلى آخره ، وهو إمّا جملةٌ حالٌ مقدّرة ، أو مقارنة عن مفعول الإخلاء ، أو استئناف بياني لنفس التخلية ، أو لعلّته ؛ فإنّ المفيد إذا رأى من المستفيد البلوغ إلى تفهّم كلّ ما يفيد ، كان ذلك باعثا للمفيد على الرخصة في السؤال عن كلّ ما يريد ، وإمّا مفرد بتقدير «أن» مع إعمالها النصب في «أدور» ، أو إهمالِها ، واللام مقدّرة ، أي الإخلاء لأن أدور ، أو هو مفعول ثان للتخلية ؛ لتضمين معنى الإعطاء .

(قَدْ(5) عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذلِكَ) أي الإخلاء أو التخلية المذكور . ويحتمل أن يكون إشارة إلى التمكين من الدخلة كلّ يوم وليلة وما يتبعها . .

ص: 549


1- ترتيب إصلاح المنطق لابن السكيت الأهوازي ، ص 155 (دخلل) ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 425 (جلح) .
2- في الكافي المطبوع : «دَخلةً» بفتح الدال .
3- في «ج» : - «لا» .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 325 (خلا) ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 385 (خلو) .
5- في الكافي المطبوع : «وقد» .

(بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي ، فَرُبَّمَا) . الفاء للتفريع على ما سبق باعتبار أنّ تكراره كثيرا بمحضر من يصان عنه الأسرار يوجب ازدياد حسد المنافقين ، ويؤدّي إلى ارتدادهم عن ظاهر الإسلام أيضا .

و«ربّ» للتكثير ، و«ما» كافّة .

(كَانَ) أي الإخلاء أو التخلية أو الدخول وما يتبعه (فِي بَيْتِي) . وقوله :

(يَأْتِينِي) ؛ استئناف بياني لكثرة الإخلاء أو التخلية في بيتي .

(رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ؛ وقوله :

(أَكْثَرُ ذلِكَ) ؛ اسم تفضيل منصوب على الظرفيّة للزمان ؛ لأنّه مضاف إلى ذلك ، وهو إشارة إلى وقت الدخول وما يتبعه . ويحتمل أن يكون جملة معترضة بين الفعل والظرف المتعلّق به ، و«أكثر» فعل ماض من باب الإفعال ؛ يُقال : أكثر زيد المجيء : إذا جاء كثيرا ؛ وذلك إشارة إلى إتيان الرسول إيّاه عليهماالسلام .

(فِي بَيْتِي ، وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ) أي بالدخول العقلي كما مرّ ، لا كلّ دخول .

(بَعْضَ) أي في بعض ؛ ونصبه على المفعول به توسّعا بإسقاط الخافض ، وهو من قبيل : صلّيت المسجد ، لا من قبيل : دخلت المسجد ؛ لأنّ الدخول فيما نحن فيه عقلي لا جسمي . وفي بعض النسخ : «ببعض» ، وهو الأصوب ، والباء بمعنى «في» .

(مَنَازِلِهِ ، أَخْلاَنِي) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ونون الوقاية قبل ياء المتكلّم . وقوله :

(وَأَقَامَ عَنِّي نِسَاءَهُ ، فَلاَ يَبْقى عِنْدَهُ غَيْرِي) ؛ عطف تفسير؛ أي لم يكتف بمحض الاستتار والاحتجاب ، وذلك لئلاّ يسمعن ما يجري بينهما من الأسرار ، ولا يدّعين التوسّع في العلم ، كما مرّ في الأصحاب .

(وَإِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي ، لَمْ تقمْ) ؛ بالمثنّاة فوقُ للمضارعة من القيام .

(فَاطِمَةُ وَلاَ أَحَد)(1) ؛ بالرفع ، وفي بعض النسخ «أحدا» بالنصب ، وحينئذٍ «لم يقم» بالخاتمة من باب الإفعال . .

ص: 550


1- في الكافي المطبوع : «لم يقم عنّي فاطمة ولا أحدا» .

(مِنْ بَنِيَّ) ؛ جمع «ابن» اُضيف إلى ياء المتكلّم فحذفت النون ، استعمل الجمع في اثنين أو هو لتغليب(1) الذكور على الإناث ؛ وذلك لأنّه ليس حكم اللّه في أهل البيت حكمه في غيرهم ، فإنّ أهل البيت هم المستحفظون للدِّين بعد الرسول .

(وَكُنْتُ) . عطف على «كنت أدخل» أي وكنت في الدخلة سواء كانت في منزلي أو منزله أو غيرهما .

(إِذَا سَأَلْتُهُ أَجَابَنِي ، وَإِذَا سَكَتُّ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب نصر .

(عَنْهُ) أي عن السؤال ، ويحتمل عود الضمير إلى الرسول ، والمعنى واحد .

(وَفَنِيَتْ مَسَائِلِي) ؛ بصيغة غائبة(2) الماضي المعلوم من باب علم ، أي لم يبق في ذهني ما أردت السؤال عنه ولم يخطر(3) غيره .

(ابْتَدَأَنِي) أي بتعليم ما لا بدّ أن يعلمه الوصيّ .

(فَمَا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَقْرَأَنِيهَا) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ، أي حملني على ضبطها وجمعها مع أخواتها ، والقراءة ، والقرآن في الأصل الجمع ، وكلّ شيء جمعته فقد قرأته ، وسمّي القرآنَ ولأنّه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض ، وإذا قرأ التلميذ القرآن أو الحديث على الشيخ يقول : أقرأني فلان ، أي حملني على القراءة ، ويُقال للمدرّس : مُقرئ . وحينئذٍ فمعنى أقرأنيها : حملني على أن أقرأها عليه قراءة التلميذ لاستفادة المعنى .

(وَأَمْلاَهَا) ؛ من المعتلّ اللام ، والإملاء أن يقرأ أو يقول أحد كلاما ليكتبه آخر .

(عَلَيَّ ، فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي) . في هذه الفقرة إشارة إلى أنّ بعض القرآن فات سائرَ الأصحاب .

(وَعَلَّمَنِي) أي بعنوان الإملاء ، بقرينة قوله فيما بعد : «ولا علما أملاه» ، وهو عطف على «ما نزلت» لا على «أقرأنيها» لأنّ الضمائر في المعطوف راجعة إلى الآيات .

ص: 551


1- في «أ» : «للتغليب» .
2- في «ج» : - «غائبة» .
3- في «ج» : «لم يحظر» .

المفهومة من الكلام السابق لا إلى «آية» ؛ لأنّ فرض الناسخ والمنسوخ مثلاً في آية واحدة بعيد .

(تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا) . التأويل فيما يُراد باللفظ من المعنى الخارج عن المعنى المستعمل فيه على قانون اللغة ، والتفسير فيما يستعمل فيه اللفظ ، مثلاً إذا أمرت عبدك بأن يذهب إلى زيد وقت العصر ونسي العبد ذلك فقلت لرجل بحضور العبد : ما فعل زيد ، فتفسير ذلك الاستخبار عن حال زيد وتأويله أمر العبد بأن يذهب إليه ، وتذكيره إيّاه وتقديم التأويل ؛ لأنّ معرفته أهمّ وأصعب .

(وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا ، وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا ، وَخَاصَّهَا وَعَامَّهَا) . الإضافة في ناسخها ونظائره وترك الإضافة فيما مضى من(1) قوله : «وناسخا ومنسوخا» إلى آخره إشارة إلى أنّ جميع هذه في القرآن من أقسام الحقّ ، بخلاف ما مضى .

(وَدَعَا اللّه َ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا) . الفرق بين الفهيم والبليد إنّما هو بجودة التصوّر للدقائق وضدّها ، لا بكون بعض العلوم التصديقيّة بديهيّا عند الفهيم نظريّا عند البليد .

(وَحِفْظَهَا) . أي عدم نسيانها .

والحفظ مع الفهم شرط في استنباط ما يستنبط منها ، فإنّه ربّما كان برهان مركّبا من ألف برهان أو أكثر ، فمن لم يكن له فهم أو حفظ لا يمكنه العلم بنتيجةٍ .

(فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللّه ِ) . ناظر إلى قوله : «إلاّ أقرأنيها» إلى آخره .

(وَلا عِلْما) أي كلاما فيه علم وهو لتعليم ما يستنبط من القرآن ، وهذا ناظر إلى قوله : «وعلّمني» إلى آخره .

(أَمْلاَهُ) . الضمير المنصوب للعلم .

(عَلَيَّ وَكَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعَا اللّه َ لِي بِمَا دَعَا ، وَمَا تَرَكَ شَيْئا ممّا(2) عَلَّمَهُ اللّه ُ مِنْ حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ) ، هما في أفعال الأئمّة في أنفسهم . .

ص: 552


1- في «د» : «منه» .
2- في الكافي المطبوع : - «مما» .

(وَلاَ أَمْرٍ وَلاَ نَهْيٍ) ، هما في أفعال الأئمّة أُولي الأمر وحكمهم بين الناس ، فإنّ اُولي الأمر اُولو النهي أيضا .

(كَانَ أَوْ يَكُونُ) ، صفة لكلّ من حلال وحرام وأمرٍ ونهي .

(وَلاَ كِتَابٍ مُنْزَلٍ عَلى أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ(1) طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ) . يحتمل أن يكون المراد بالكتاب نحو التوراة والإنجيل وب- «أحد» أحد من الأنبياء ، وتكون «من» بيانيّة هي بيان للكتاب باعتبار ما فيه من القصص في طاعة أقوام ومعصية آخرين ، وإنّما بيّن ذلك من الكتاب دون الأحكام لأنّها علمت قبل ذلك بقوله : «كان أو يكون» ، فلا حاجة هنا إلى بيانها ، ولو حمل «كتاب» على أعمّ من جميع التوراة مثلاً وبعضه أمكن جعل «من» سببيّة . ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما أنزله اللّه تعالى على الاُمم السالفة من البشرى والعذاب ، فإنّه مكتوب أي واجب في قضيّة الحكمة .

وقد يعبّر عن الواجب بالكتاب كما في قوله تعالى : «وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»(2) أي ما وجب من التربّص أربعة أشهر وعشرا ، فالمراد ب- «أحد» أحد من الاُمم ، وتكون حينئذٍ «من» سببيّة ومتعلّقة بقوله : «منزل» .

(إِلاَّ عَلَّمَنِيهِ) . الضمير المنصوب لقوله : «شيئا» .

(وَحَفِظْتُهُ ، فَلَمْ أَنْسَ حَرْفا وَاحِدا) . حرف كلّ شيء : طرفه ، ومنه الحرف واحدُ حروفِ التهجّي ، أو التعبير عن الجزء بالحرف ؛ لأنّ الاهتمام بأطراف الشيء يكون أقلّ منه بأوساطه ، فعدم نسيان طرف يدلّ على عدم نسيان الباقي بطريقٍ أولى .

(ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِي) أي بعد تعليم الجميع وفي آخر عمره صلى الله عليه و آله .

(وَدَعَا اللّه َ لِي أَنْ يَمْلاَءَ قَلْبِي عِلْما وَفَهْما وَحُكْما) ؛ بضمّ المهملة وسكون الكاف : الحكمة أو القضاء بالعدل . ويحتمل أن يكون بكسر المهملة وفتح الكاف ، جمع «حكمة» .

(وَنُورا . فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللّه ِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ) . أصله : فُديتَ بأبي واُمّي ، بصيغة .

ص: 553


1- في حاشية «أ ، د» : «أي مما يوجب طاعة اللّه أو معصيته (منه دام ظله)» .
2- البقرة (2) : 235 .

المجهول والخطاب ، حذف الفعل وجعل الضمير المتّصل منفصلاً واُخّر .

(مُنْذُ دَعَوْتَ اللّه َ لِي بِمَا دَعَوْتَ) . يريد الدعاء الذي سبق في قوله : «ودعا اللّه أن يعطيني» إلى آخره .

(لَمْ أَنْسَ شَيْئا ، وَلَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ) . وقوله :

(لَمْ أَكْتُبْهُ) ؛ صفة شيء ، والمراد فضلاً عن الشيء الذي كتبته .

(أَفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ) . حرف جرّ دخلت على ياء المتكلّم ، يُقال : تخوّفت عليه الشيءَ ، أي خفت خفِيّا في نفسي .

(النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ) ؛ مبنيّ على الضمّ ، أي فيما بعد هذا الوقت .

(فَقَالَ : لاَ ، لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَالْجَهْلَ) أي عدم خوفي عليك النسيان والجهل فيما بعد كان مستمرّا في الزمان الماضي منذ دعوت اللّه لك .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الخَزَّازِ(1) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ) . البال : الحال ، وأصل الألف فيه واو .

(يَرْوُونَ) أي لفظ حديث (عَنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ) . المراد عدد التواتر .

(عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله لاَ يُتَّهَمُونَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، وأصل التاء فيه واو ، والضمير لأقوام ولفلان وفلان ، والجملة حاليّة .

(بِالْكَذِبِ) أي خلاف الواقع ، سواء كان بالوهم أم بغيره . والمقصود أنّ لفظ الحديث يصير متواترا .

(فَيَجِيءُ مِنْكُمْ خِلاَفُهُ ؟ قَالَ : إِنَّ الْحَدِيثَ يُنْسَخُ كَمَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ) . لم يفصل ببيان الأقسام الثلاثة للحديث الباطل المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام في أوّل الباب ؛ لعدم احتمال(2) الأوّلين فيما نحن فيه . .

ص: 554


1- في «د» والكافي المطبوع : «الخرّاز» بدون نقطة على الراء .
2- في «ج» : «احتمالين» .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا بَالِي) . توهّم أنّه عليه السلام ظنّ به سوءا .

(أَسْأَلُكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَتُجِيبُنِي فِيهَا بِالْجَوَابِ ، ثُمَّ يَجِيئُكَ غَيْرِي) أي ويسألك عن المسألة التي سألتك عنها (فَتُجِيبُهُ فِيهَا بِجَوَابٍ آخَرَ) أي مضادّ للأوّل أو مغاير له ، كما في بيان الشقوق والاحتمالات في أحدهما دون الآخر .

(فَقَالَ : إِنَّا نُجِيبُ النَّاسَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ) . الزيادة يجيء متعدّيا ولازما ، وهو هنا من اللازم لمقابلته بالنقصان ، وهو مصدر اللازم .

و«على» بنائيّة ، أي على دخول أشياء ليست من الدِّين فيه وخروج أشياء هي من الدِّين منه بسبب فتاوى أئمّة الضلالة ، أو على زيادة عقولهم والاعتماد عليهم في عدم إفشاء السرّ ، أو في كونهم موافقين ونقصان عقولهم .

ويحتمل أن تكون نهجيّةً أي على زيادة ذكر الاحتمالات في الجواب ونقصانه .

(قَالَ : قُلْتُ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . المراد عدد التواتر من الأصحاب .

(صَدَقُوا) ؛ بتخفيف الدال المهملة .

(عَلى مُحَمَّدٍ) . تعديته ب- «على» نظير ما في قوله : «أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(1) ، ومرّ في ثامن الثاني عشر .(2)

(أَمْ كَذَبُوا) ؟ أي عليه .

(قَالَ : بَلْ صَدَقُوا . قَالَ : قُلْتُ : فَمَا بَالُهُمُ اخْتَلَفُوا؟) أي في الروايات عنه حيث روى بعضهم خلاف ما يرويه الآخر ، وكلّ منهما في عدد التواتر .

(فَقَالَ : أَمَا(3) تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَيُجِيبُهُ فِيهَا بِالْجَوَابِ ، ثُمَّ يجِيئُهُ)(4) ؛ مضارع «جاء» أي يجيء رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الوحي . .

ص: 555


1- الأعراف (7) : 169 .
2- أي الحديث 8 من باب النهى عن القول بغير علم .
3- في النسخ : «أ أما» والمثبت من الكافي المطبوع .
4- في الكافي المطبوع : «يُجيبه» .

(بَعْدَ ذلِكَ مَا(1) يَنْسَخُ ذلِكَ الْجَوَابَ) أي فيأتيه رجل آخر فيسأله عن المسألة ، فيجيبه فيها بجواب آخر .

(فَنَسَخَتِ الاْءَحَادِيثُ بَعْضُهَا بَعْضا) أي فليس سبب اختلافهم تقيّة الرسول ولا كذبهم ، بل سببه النسخ .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ لِي : يَا زِيَادُ ، مَا تَقُولُ لَوْ أَفْتَيْنَا رَجُلاً مِمَّنْ يَتَوَلاَّنَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؟) . «من» سببيّة ، أو تبعيضيّة ؛ أي لحضور المخالفين في مجلس الإفتاء ، أو خوفا من إفشاء السرّ ، أو من أن يعمل بالحقّ فيؤذيه المخالفون ، أو يعلموا أنّه من جهتنا . والمقصود بالسؤال السؤال عن أنّ الرجل أ يوخذ به أم لا ؟ وذلك حين علم أو ظنّ الرجل أنّ الإفتاء من التقيّة .

(قَالَ : قُلْتُ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَمُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ، قَالَ : إِنْ أَخَذَ بِهِ) أي عمل بذلك الإفتاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي في الدنيا (وَأَعْظَمُ أَجْرا) أي في الآخرة ؛ لموافقته مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) ، فإنّ مفهومه وجوب العمل بما يقولون مطلقا ، والمفضّل عليه هنا أخذ أصحاب الرسول بالإفتاء بشيء من غير تقيّة ، ووجهه أنّ وسوسة إبليس ومجاهدة النفس في المفضّل أكثر منها في المفضّل عليه ، ويحتمل أن يكون المفضّل عليه الترك ، فيكون من قبيل : أعلم من الجدار .

الخامس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي بهذا السند عن أبي عبيد ، عن أبي جعفر عليه السلام بدل قوله : «إن أخذ به فهو» إلى آخره : (إِنْ أَخَذَ بِهِ أُوجِرَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال ، يُقال : أجره أجرا - كنصر وضرب- : إذا أعطاه اُجرته ، وكذلك آجره إيجارا ، وأمّا آجره موآجرة فهو بمعنى جعل له على فعله اُجرة . .

ص: 556


1- في الكافي المطبوع : «بما» .
2- النحل (16) : 43 .

(وَإِنْ تَرَكَهُ وَاللّه ِ أَثِمَ) ؛ بصيغة المعلوم - كعلم - ؛ لمخالفته مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» .

السادس : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ) ؛ بفتح المثلّثة وسكون المهملة وفتح اللام والموحّدة (بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَنِي ، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَأَجَابَهُ بِخِلاَفِ مَا أَجَابَنِي) أي بما ينافيه (ثُمَّ جَاءَ(1) آخَرُ) أي فسأله عنها (فَأَجَابَهُ بِخِلاَفِ مَا أَجَابَنِي وَأَجَابَ صَاحِبِي) . بسكون الخاتمة .

(فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلاَنِ ، قُلْتُ لَهُ(2) : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، رَجُلاَنِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِكُمْ قَدِمَا) ؛ بكسر المهملة من القدوم .

(يَسْأَلاَنِ) ، جملة حاليّة .

(فَأَجَبْتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ مَا أَجَبْتَ بِهِ صَاحِبَهُ) . سكت عمّا أجابه به تأدّبا ؛ لأنّه لا فرق بينهم ، فكلّ عذر يقوله فيهما جارٍ فيه أيضا ، أو اعتقد أنّ جوابه ليس عن تقيّة .

(فَقَالَ : يَا زُرَارَةُ ، إِنَّ هذَا خَيْرٌ لَنَا ، وَأَبْقى لَنَا وَلَكُمْ ) . اللامان للتعدية .

(وَلَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلى أَمْرٍ وَاحِدٍ ، لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا) . «لصدّقكم» بالقاف من باب نصر أو باب التفعيل ، نظير قراءَتَي سورة سبأ : «لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ»(3) . وأصل الصدق : ضدّ الكذب ، وأصل التصديق : عدّ الشيء صادقا . والمراد هنا العلم ؛ لأنّه مناط الصدق والتصديق ، وتعديته ب- «على» بتضمين معنى التطبيق ، أي يعلمكم المخالفون منطبقين ومجمعين على إمامتنا .

ويحتمل أن يكون بالفاء من باب ضرب ؛ أي لصرفكم المخالفون ولم يخالطوكم وجمعوكم علينا ؛ لعلمهم بأنّكم شيعتنا . .

ص: 557


1- في الكافي المطبوع : + «رجل» .
2- في الكافي المطبوع : - «له» .
3- سبأ (34) : 20 .

(وَلَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وَبَقَائِكُمْ) . اللام الجارّة للتعدية .

(قَالَ : ثُمَّ قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : شِيعَتُكُمْ) . مرفوعٌ على الابتداء ، أو منصوب على طريقة ما اُضمر عامله على شريطة التفسير .

(لَوْ حَمَلْتُمُوهُمْ) ؛ بتخفيف الميم ، يُقال : حمله على كذا : إذا أمره به .

(عَلَى الاْءَسِنَّةِ) ؛ جمع «سنان» بكسر السين ، وهو ما في رأس الرمح من الحديد ؛ والمعنى : على أن يقابلوا الأسنّة في الحروب .

(أَوْ عَلَى النَّارِ لَمَضَوْا ، وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِكُمْ مُخْتَلِفِينَ . قَالَ : فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِيهِ) .

السابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ نَصْرٍ) ؛ بفتح النون وسكون المهملة . (الْخَثْعَمِيِّ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المثلّثة وفتح المهملة نسبة إلى خثعم بن أنمار ، وهو أبو قبيلة من معد ، أو نسبة إلى جبل .(1)

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ عَرَفَ أَنَّا لاَ نَقُولُ إِلاَّ حَقّا ، فَلْيَكْتَفِ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا) . المراد بالقول هنا الفتوى ، وبالحقّ ما وافق الحكمة ، وبما يعلم منّا ما يعلم أنّه قولنا ، أو كون قولنا حقّا ، وبالاكتفاء أن يعمل به ولا يعمل بخلافه ، أو أن لا يضطرب ذهنه إذا لم يعلم دليله بخصوصه من الكتاب ، أو أن لا يفتّش عن مذاهب أهل الخلاف فيه . ويؤيّد الأوّل قوله :

(فَإِنْ سَمِعَ مِنَّا خِلاَفَ مَا يَعْلَمُ) أنّه الحكم الواقعي (فَلْيَعْلَمْ أَنَّ ذلِكَ) ؛ المشار إليه خلاف ما يعلم . (دِفَاعٌ مِنَّا) ؛ بكسر المهملة ؛ أي مدافعة للضرر (عَنْهُ) .

لم يقل «عنّا» أو «عنه» لأنّ الدفاع عن الإمام دفاع عن الرعيّة أيضا .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى وَالْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ جَمِيعا ، عَنْ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ مِنْ .

ص: 558


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1909 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 166 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 624 (خثعم) .

أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ) أي فعل من العبادات المحضة ، كصلاة الجمعة المقصورة في الحضر في زمن مظلوميّة الإمام المفترض الطاعة ، فليس ما فيه تنازع بين رجلين كدين أو ميراث ونحوهما داخلاً فيه .

(كِلاَهُمَا يَرْوِيهِ) ؛ بتخفيف الواو ، والضمير المنصوب للأمر .

(أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ) أي يروي ما يوجب أخذ الأمر ، أي الإتيان بالأمر .

(وَالاْآخَرُ يَنْهَاهُ)(1) . في نسخة «ينهى عَنْه» أي يروي ما يحرم أخذه ، والضمير المجرور للأخذ أو للأمر ، والمعنى واحد .

ولو كان مراد السائل بالأمر ما يشمل ما فيه تنازع بين رجلين ، لكان جوابه منافيا لما يجيء في ثاني عشر الباب ، فإنّ فيه ضدّ التخيير ؛ إذ التخيير فيه غير معقول ، ولقال أحدهما يجوز أخذه بدل قوله : «أحدهما يأمر بأخذه» فإنّ أخذ الحقّ في المنازعات غير مأمور به ، كما يجيء أيضا في ثاني عشر الباب .

(كَيْفَ يَصْنَعُ) ، يعني كيف يصنع في الترجيح؟ هل يجوز له الترجيح بالرأي والظنّ كأن يقول مثلاً : يقدّم المحرّم ؛ لأنّ دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع؟ وأمثال ذلك من الترجيحات المذكورة في كتب العامّة وبعض كتب المتأخّرين من أصحابنا ، وبعد الترجيح بالرأي والظنّ ، هل يجب العمل بما يوافقه ، أم لا ؟

(قَالَ(2) : يُرْجِئُهُ) ؛ بالهمز أو بالياء ؛ أي يجب عليه إرجاء الترجيح ، أي تأخيره ؛ من أرجأ الشيء : إذا أخّره ، وإبدال الهمز لغة ، والضمير المنصوب لما يصنع باعتبار أنّه راجح ، وهو مفهوم من قوله : «كيف يصنع» ، أو للأمر ، ومآلهما واحد ، فلفظه خبر ومعناه أمر ، كقولهم في المثل : أنْجَزَ حُرٌّ ما وَعَدَ ، أي لينجزه ، فالمقصود أنّه لا يجوز له الترجيح بالرأي .

(حَتّى يَلْقى مَنْ يُخْبِرُهُ) ؛ بالموحّدة بين المعجمة والمهملة بصيغة المضارع المعلوم .

ص: 559


1- في الكافي المطبوع : «ينهاه عنه» .
2- في الكافي المطبوع : «فقال» .

من باب الإفعال أو التفعيل ، والضمير المنصوب لرجل ؛ أي يجعله عالما ؛ من خبرت الأمر - كعلم - : إذا عرفته على الحقيقة ، وظاهر قوله : «حتّى يلقى» أنّ طلب من يخبره لا يجب على الرجل ، كما يجيء في ثاني عشر الباب في شرح قوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، وربما أمكن استنباط عدم الوجوب من مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» منضمّا إلى الأدلّة الدالّة على وجوب العمل بخبر الواحد ، وعلى أنّ خبر الواحد يجري مجرى جوابهم عن سؤالنا .

(فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتّى يَلْقَاهُ) أي يجوز له العمل بالموجب والعمل بالمحرّم بدون إفتاء وقضاء حقيقيّين ، فإنّ السؤال إنّما هو عن كيفيّة العمل دونهما ، ويجيء ما يناسب هذا في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام» .

التاسع : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى : بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكَ) . يحتمل أن تكون(1) الرواية الاُخرى بالسند السابق عن أبي عبداللّه عليه السلام في الجواب عن نظير السؤال في الرواية الاُولى ، وأن يكون قوله : «بأيّهما» إلى آخره ، إمّا تتمّة وضميمة للرواية الاُولى دفعا لتوهّم أنّ المراد بالسعة طرح كليهما والرجوع إلى حكم(2) العقل ، وإمّا بدلاً عن قوله : «يرجئه» إلى آخره ، وإمّا عن قوله : «فهو في سعةٍ» إلى آخره . ونقل المصنّف مثل ذلك في الخطبة عن العالم عليه السلام (3) ، وضمير التثنية راجع إلى الروايتين ، ومعنى الأخذ من باب التسليم مضى في شرح الخطبة .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام لبعض الأصحاب :

(أَرَأَيْتَكَ) ؛ بهمزة الاستفهام وفتح المثنّاة فوقُ للخطاب ، والمعنى : أخبرني عنك .

(لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ الْعَامَ) ؛ منصوب على الظرفيّة ، أي في هذا العام . .

ص: 560


1- في «ج» : «أن يكون» .
2- في «د» : «حكمة» .
3- راجع: مقدمة الكتاب .

(ثُمَّ جِئْتَنِي مِنْ قَابِلٍ) أي عام قابل (فَحَدَّثْتُكَ بِخِلاَفِهِ ، بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : كُنْتُ آخُذُ بِالأَْخِيرِ ، فَقَالَ لِي : رَحِمَكَ اللّه ُ) .

ذلك لأنّ الأخير موافق للحكم الواقعي في زمانه ، إمّا باعتبار العزيمة لحدوث شرط في المكلّف لم يكن قبل ، كالأمر بالخضاب بعد حدوث البياض في اللحية ، وإمّا باعتبار الرخصة ، كما(1) في صورة حدوث ضرورة موجبة للتقيّة ، فلا ينافي ذلك التخيير في صورة العلم بالتساوي في الشروط وارتفاع الضرورة ، كما مرّ في ثامن الباب وتاسعه .

ولا(2) منافاة بين هذا وبين ما يجيء في ثاني عشر الباب ؛ لأنّ ما يجيء فيه في صورة التنازع في حقوق الآدميّين ، وهذا في العبادات المحضة ، ويجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع «باب التقيّة» .

الحادي عشر : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ) ؛ بفتح الميم وتشديد المهملة وألف ومهملة . (عَنْ يُونُسَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنِ الْمُعَلَّى(3) بْنِ خُنَيْسٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ) أي في العبادات المحضة (عَنْ أَوَّلِكُمْ وَحَدِيثٌ) أي مناقض للسابق (عَنْ آخِرِكُمْ ) .

المراد بالآخر من كان زمانه متأخّرا عن الأوّل ، سواء مات أم كان حيّا . ويحتمل أن يخصّ بالميّت فلا يشمل الحيّ .

(بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ ؟ فَقَالَ : خُذُوا بِهِ) . الضمير المفرد المجرور راجع إلى : «حديث عن آخركم» ، وقوله :

(حَتّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ) ؛ بمنزلة الاستثناء .

(فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ ، فَخُذُوا بِقَوْلِهِ) . يظهر وجههُ ممّا مرّ في شرح السابق . .

ص: 561


1- في «ج» : + «هو» .
2- في «ج» : «فلا» .
3- في «ج» : «معلى» .

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّا وَاللّه ِ لاَ نُدْخِلُكُمْ إِلاَّ فِيمَا يَسَعُكُمْ) . استئنافٌ بياني ؛ أي فيما ليس عليكم في العمل به عقاب في الآخرة ولا ضرر في الدنيا ، وهو إشارة إلى أنّ الاختلاف في الفتاوى ليس لاختلاف الاجتهاد ، بل لمصلحة دفع الضرر عنكم .

ودفع المنافاة بين هذا وبين ما مرَّ في الثامن والتاسع وما يجيء في الثاني عشر ظاهر ممّا مرّ في شرح السابق .

(وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : خُذُوا بِالاْءَحْدَثِ) أي بدل : «خذوا به» .

الثاني عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الصاد المهملة وسكون الخاتمة . (عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ) .

في هذه الرواية بيان أنّه يجوز ويجب الترجيح بين الحديثين المتعارضين المرويّين في حقوق الآدميّين عن أهل البيت عليهم السلام لكن لا بالرأي ، بل بأحد سبعة وجوه على ترتيب خاصّ ، خمسة منها متعلّقة بسند الحديث ، واثنان متعلّقان بمتنه ، وبيان أنّه مع فقد ظهور شيء من هذه الترجيحات في حقوق الآدميين لا يجوز التخيير ، بل يجب التوقّف ، وظاهره أنّه لا يجري فيه القرعة التي تجيء في «كتاب النكاح» في ثاني «باب المرأة(1) يقع عليها غير واحد في طهر» .(2)

ولا يخفى أنّ إجراء أحد هذه الترجيحات أو التوقّف في العبادات المحضة بهذه الرواية غير جائز ؛ لأنّه قياس ، وأنّ مورد الرواية التعارض بمعنى أن يكون كلّ منهما جامعا لشروط العمل ويجب العمل به لولا المعارض ، فخرج عمّا فرض الكلام فيه صورة كون القرآن موافقا لأحدهما ؛ لأنّ خبر الواحد في مقابلة القرآن لا يجوز العمل به ، سواء كان له معارض من الأخبار أم لم يكن ، ولذا لم يقدّم في هذه الرواية موافقة الكتاب في قوله : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب» إلى آخره ، على سائر .

ص: 562


1- في الكافي المطبوع : «الجارية» .
2- في الكافي المطبوع : + «واحد» .

الترجيحات ، وسنذكر في شرحه ما يوضح المقصود ، وأنّ هذه الترجيحات إنّما توجب عمل المتنازعين بإحدى الروايتين ، ولا توجب ولا تجوّز الإفتاء الحقيقي ولا القضاء الحقيقي ؛ لأنّ شيئا من الإفتاء الحقيقي والقضاء الحقيقي لا يجوز إلاّ مع العلم بحكم اللّه الواقعي ، وشيء من هذه الترجيحات لا يفضي إلى العلم به .

وهذه الرواية تسمّى «مقبولة عمر بن حنظلة» ومعناه أنّ أصحابنا تلّقتها بالقبول ، وعليها المدار في العمل ؛ لتكرّرها في الاُصول .

ولا ينافي ذلك كون عمر بن حنظلة ممّن لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل .

(قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ) . ذكرهما على سبيل المثال ، فيشمل امرأتين ومختلفين .

(مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ) أي اختلاف . وأصل النزع : الجذب ؛ لأنّ المتنازعين يجذب كلّ واحدٍ منهما المتنازع فيه إلى جهته ، إمّا بظنّ استحقاقه ، أو باعتقاد مبتدأ للاستحقاق ، أو بميل نفساني إلى المُتنازَع فيه .

وقد يكون المنازعة بعلم في أحدهما دون الآخر ، لكنّه غير مراد هنا ، وكذا ليس المراد هنا المنازعة بسبب إنكار أحدهما الحقّ المعلوم لهما ، بقرينة قوله فيما بعد : «ينظران» إلى قوله : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» ، ولا ينافي ذلك قوله فيما بعد : «في حقٍّ أو باطل» ، ولا قوله : «وإن كان حقّا ثابتا له» ، كما نوضحه في شرحهما .

(فِي دَيْنٍ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة : ما في ذمّة أحد وله أجل ، وما لا أجل له فقرض .

(أَوْ مِيرَاثٍ) . ذكرهما على سبيل المثال ، ومثل هذا كثير في السؤالات ، فالمقصود بالسؤال حقوق الآدميين ، فيشمل الوقف على جماعة ، والوصيّة والفرج والزكاة والخمس ونحو ذلك بدون قياس ، والضابط ما يحتاج إلى التحاكم ، أو ما لا يكون من العبادات المحضة ؛ فلا يجري فيه التخيير الذي مضى في أحاديث الباب .

(فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ) أي من سلاطين الجور .

ص: 563

(وَ إِلَى الْقُضَاةِ ) . الواو هنا بمعنى «أو» كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في خامس «باب كراهة(1) الارتفاع إلى قُضاة الجور» .

ويحتمل أن يكون ذكر الواو هنا مبنيّا على أنّ سلاطين الجور يحيلون المتحاكمين إليهم إلى قضاتهم في الأكثر ، أو على أنّ التحاكم إلى قضاتهم تحاكم إلى السلطان الذي استقضاهم أيضا .

(أَيَحِلُّ ذلِكَ؟) أي التحاكم إليهم بقصد العمل بحكمهم .

(قَالَ : مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ) . «في» للظرفيّة أو للسببيّة . والمراد على الأوّل : في زمان ظهور الحقّ كزمان استقلال النبيّ أو الإمام العدل ، أو في زمان ظهور الباطل كزمان تغلّب أئمّة الجور . والمراد على الثاني : لما يستحقّ أو ما لا يستحقّ .

(فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ) ؛ على وزن لاهوت ، إلاّ أنّه مقلوب ؛ لأنّه من «طغى» من باب ضرب ونصر وعلم ، ولاهوت غير مقلوب؛ لأنّه من لاه يليه ليها : إذا تستّر وعلا وارتفع بمنزلة الرغبوت والرهبوت .

والطاغوت كلّ رأس في الضلالة وأصله الشيطان ، ويُطلق على ما يزيّن الشيطان لهم أن يعبدوه من الأصنام وأئمّة الضلالة وقضاتهم الذين يستندون في أحكامهم إلى الرأي .

والطاغوت قد يكون واحدا وقد يكون جمعا .

(وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتا) . «ما» بمعنى «من» ، و(2)عبّر به عنه إهانة . وضمير «يحكم» للطاغوت وضمير «له» ل- «ما» ، والفاء لتضمّن «ما» معنى الشرط .

والسحت، بضمّ السين المهملة وسكون الحاء المهملة وقد تُضمّ : الحرام جدّا ، واشتقاقه من السحت بفتح السين وهو الإهلاك والاستئصال . وسمّي سحتا لأنّه يسحت البركة ، أي يذهبها ، ويستعمل كثيرا في الرشوة في الحكم والشهادة ونحوهما ، وعلى هذا يكون فيه تشبيه ما يأخذه المتحاكم حينئذٍ بما يأخذه الحاكم .

ص: 564


1- في الكافي المطبوع : «كراهية» .
2- في «د» : - «و» .

رشوة في العقاب ، وما يجيء في «كتاب القضايا(1) والأحكام» هكذا : «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له ، فإنّما يأخذ سحتا»(2) وهو أظهر ، وبينهما اختلافات اُخرى ، وهذا ممّا يبطل قول من قال : إنّ كلّ رواية في الكافي ونحوه معلوم الصدور عن المعصوم .(3)

(وَإِنْ) ؛ وصليّة .

(كَانَ) ؛ الضمير للمأخوذ .

(حَقّا) أي حقّا له في نفس الأمر .

(ثَابِتا لَهُ ) . الضمير ل- «ما» وهو تأكيد لقوله : «حقّا» والمراد أنّه لا يتغيّر استحقاقه عقاب السحت بكون المتنازع فيه حقّه في نفس الأمر ، ولو جعل تأسيسا - بأن يكون الثابت بمعنى المعلوم ، ويكون هذا بيانا لعموم النهي بحيث يشمل غير موضع المسألة التي سأله عنها ؛ لأنّ المسؤول عنه صورة النزاع لجهل المتنازعين كليهما بالمسألة - لم يكفِ للاستدلال عليه قوله :

(لاِءَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ ) أي بالتصديق بفتواه وقضائه المبنيّ على فتواه ، ولا دلالة في هذا على أنّه لا يجوز للمحقّ أخذ الحقّ في النزاع الذي ليس للجهل بالمسألة ، بل لإنكار أحدهما الحقّ المعلوم لهما بجبر الطاغوت بدون حكم ، وهذا كما يجوز أخذه بالتقاصّ .

(وَقَدْ أَمَرَ اللّه ُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والظرف قائم مقام الفاعل ، أو بصيغة المعلوم والفاعل ضمير مستتر راجع إلى الأخذ ، وعلى الأوّل حذف مفعول «أمر» للدلالة على العموم ، وعلى الثاني أمر بتقدير «أمره» وهو على التقديرين إشارة إلى الآيات التي نزل مضمونها في جميع كتب اللّه في الشرائع ، وفيها الأمر بترك اتّباع أهل الظنّ كآية سورة البقرة : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ .

ص: 565


1- في الكافي المطبوع : «القضاء» .
2- الكافي ؛ ج 7 ، ص 412 ، باب أدب الحكم ، ح 5 .
3- لا يخفى عليك أنّ شارح هذا الكتاب قد كان ملتزما بصحة جميع روايات الكافي .

الْوُثْقَى»(1)النساء (2) : 60 .(3) . ومعنى الكفر به أن لا يصدّق بشيء من أحكامه في الشرع استنادا إلى حكمه .

(قَالَ اللّه ُ تَعَالى :) . استئنافٌ لبيان حكاية أمره تعالى ، لا لبيان نفس أمره تعالى ، قال في سورة النساء بعد الأمر بإطاعة اللّه وإطاعة الرسول واُولي الأمر وبردّ المتنازَع فيه إلى اللّه والرسول : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ» .(2)

(«يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ») . هذه الإرادة اجتماعهم وتدبيرهم أن يزوُوا هذا الأمر عن أهل البيت إن مات محمّد أو قُتل ، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(4) الآية . واجتماع رؤساء المنافقين في الكعبة لهذا مذكور في «كتاب الروضة» في حديث قبل حديث قوم صالح .(4)

(«وَقَدْ أُمِرُوا») ؛ أي فيما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك .

(«أنْ يَكْفُرُوابِهِ»(5) . قُلْتُ : كَيْفَ(6) يَصْنَعَانِ ؟ قَالَ : يَنْظُرَانِ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال ، تقول : أنظرني زيد ، أي أصغى إليَّ ، ونظر بين القوم ، أي حكم ؛ فالمعنى يجعلانه ناظرا في حقّهما ؛ أي حاكما . ويحتمل أن يكون من باب نصر ، والنظر بمعنى الاختيار ، وأصله أنّ النظر دليل المحبّة وترك النظر دليل البُغض والكراهة ، تقول : نظرته وإليه : إذا اخترته .

ويؤيّد الأوّل قوله فيما بعد : «الناظرين في حقّهما» ، ويؤيّد الثاني قوله فيما بعد : «ينظر إلى ما كان» إلى آخره ، وما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» من قوله : «انظروا إلى من كان منكم» إلى آخره .

(مَنْ(7) كَانَ مِنْكُمْ) . الظرف خبر «كان» أو حال عن الضمير فيه ، والمراد : من عدول .

ص: 566


1- البقرة
2- الكافي ، ج 8 ، ص 179 ، ح 202 .
3- : 256 .
4- آل عمران (3) : 144 .
5- النساء (4) : 60 .
6- في الكافي المطبوع وحاشية «أ» : «فكيف» .
7- في المطبوع : «إلى من» بدل : «من» .

الشيعة الإماميّة ، بقرينة قوله فيما بعد : «أعدلهما» ، وبقرينة قوله : «المجمع عليه من أصحابك»(1) ، وتفسيرهم بالثقات كما يجيء بيانه . ويحتمل أن يكون المراد : من الشيعة الإماميّة ، وحينئذٍ يكون العدالة مفهوما ممّا بعده .

(مِمَّنْ قَدْ رَوى حَدِيثَنَا) . الظرف متعلّق بقوله : «ينظران» ، أو حال عن الضمير في «كان» ، أو خبر ثان ، أو خبر أوّل ، وهذا الظرف غير مذكور في «كتاب القضايا والأحكام» .

وقوله : «روى» ، بصيغة المعلوم من باب ضرب ، أي نقل عنّا الحديث في هذه القضيّة ، ولم يحكم برأيه واجتهاده كما هو طريقة المخالفين .

وفي اختيار لفظة : «روى» على «علم» إشارة إلى أنّ هذا الناظر في حقّهما ليس قاضيا بالقضاء الحقيقي ، بل هو راوٍ ناقل لحديثهم ، وفي زيادة «قد» إشارة إلى أنّه يجب أن يكون معلوما بهذا الوصف من جملة الجماعة المعلومين بهذا الوصف .

(وَنَظَرَ فِي حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا) أي علم أنّ اتّباع الظنّ في محلّ الحكم الشرعي كقيم المتلفات ومقادير الجراحات حلال عندنا ، واتّباع الظنّ في نفس الأحكام الشرعيّة حرام عندنا .

وإنّما عبّر عن هذا العالم(2) بالنظر لأنّ هذا الفرق لا يحصل بدون فكر وتعمّق في كتاب اللّه وأحاديث أهل الذِّكر عليهم السلام ، وهو التفقّه في الدِّين على ما مضى في شرح سابع الثاني .(3)

(وَعَرَفَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب .

(أَحْكَامَنَا) . المراد بالمعرفة إدراك الجزئيّات ؛ أي حصل له بتتبّع أحاديثنا وطلب معرفة معانيها المعرفة بأساليب كلامنا في الأحكام بأن لا يخطئ في النقل بالمعنى عنّا ، وذلك لأنّ أكثر ما يحتاج إليه في القضاء النقل بالمعنى . أو المراد بالمعرفة علمٌ معه .

ص: 567


1- سياتي بعد أكثر من أربع صفحات .
2- في «ج» : «العلم» .
3- أي الحديث 2 من باب غرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

طاعة ، كما مضى في ثاني «باب من عمل بغير علم» من قوله : «ولا معرفة إلاّ بعمل» . والمراد هنا الطاعة ، أي طاع أحكامنا المعلومة له بأن يكون من الورعين .

إن قلت : هل يكفي ظنّهما اتّصافَ الناظر بالأوصاف الأربعة ، أم يشترط العلم ؟

قلت : يحتمل أن يكفي الظنّ ؛ لأنّه من محالّ أحكام اللّه تعالى ، وليس نفس حكمه ، فهو كقيم المتلفات في أنّه لا يحصل للناس العلم بها عادةً إلاّ نادرا .

(فَلْيَرْضَوْا) ؛ الضمير للمتحاكمين وأمثالهما من الشيعة .

(بِهِ حَكَما) ؛ بالمهملة والكاف المفتوحتين ، أي قاضيا وإن كان غير حقيقي .

(فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِما) . الحاكم يستعمل في الأعمّ من المفتي والقاضي ، بخلاف الحَكَم ، فإنّ أكثر استعماله في القاضي ؛ فهذا إشارة إلى أنّ هذا يصلح للإفتاء الغير الحقيقي أيضا ، وليس المقصود بنسبة الجعل إلى نفسه إنشاء نفس الجعل حتّى يختصّ بزمانه ولا يتجاوز إلى زمننا ، فإنّ الجاعل حقيقةً هو اللّه تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ»(1) ، بل المراد إنشاء شرطه لتربية الشيعة وتتميم سعي أبيه في إلقاء الأحاديث إلى الشيعة بحيث يبقى إلى ظهور القائم ، فإنّ أكثر الأحاديث عنهما صلوات اللّه عليهما ، أو هو إظهار للرِّضا بكونه حاكما لأنّه بإذن اللّه من حيث إنّه بعدما أدّى الأمانات إلى أهلها ، أي أقرَّ بإمامة أهل البيت المعصومين عليهم السلام ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «إِنَّ اللّه َ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاْءَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(2) .

ذكر ابن بابويه في كتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة :

حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام رضى الله عنه قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رضى الله عنه أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ ، فورد بالتوقيع(3) بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام : «أمّا ما سألت .

ص: 568


1- الأنعام (6) : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67 .
2- النساء (4) : 58 .
3- في المصدر : «التوقيع» .

عنه أرشدك اللّه ووفّقك(1) - إلى قوله عليه السلام - : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم».(2)

ثمّ إنّ جواز حكم قاضي التحكيم - وهو من رضي المتحاكمان بحكمه - لا ينافي حظر حكم قاضي التحكّم ، وهو من له الدرّة والسجن بدون أن يكون منصوبا بخصوصه من جانب الإمام المفترض الطاعة ، كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في أحاديث «باب من حكم بغير ما أنزل اللّه عزّ وجلّ» .

(فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ) أي أحد المتحاكِمَين ، وهو من حكم عليه .

(مِنْهُ ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللّه ِ وَعَلَيْنَا رَدَّ ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللّه ِ) ؛ من حيث إنّهم اُمناء على أحكام اللّه ، وليسوا حكّاما من عند أنفسهم .

(وَهُوَ) . الضمير للرادّ علينا ، أو للرادّ على اللّه .

(عَلى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللّه ِ) . الحدّ بالفتح : منتهى الشيء ، والمعنى أنّ الرادّ على اللّه استوفى شرائط الشرك كلّها ، ولم يقصر عن الشرك أصلاً ؛ نظير قول المصنّف في الخطبة : «ولهذه العلّة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستبشعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلّها» .

وليعلم أنّ كلاًّ من الإفتاء والقضاء على قسمين : إفتاء حقيقي ، وإفتاء غير حقيقي ؛ وقضاء حقيقي ، وقضاء غير حقيقي .

ومعنى الإفتاء الحقيقي الإبانة والإخبار عن حكم اللّه تعالى الواقعي في حقّ شخص في أمر ليعمل به ، ومعنى الإفتاء الغير الحقيقي رواية فتوى حقيقي عن العالم بالحكم الواقعي في حقّ شخص في أمر ليعمل بها .

والفرق بينه وبين الرواية المحضة أنّه يشترط في الأوّل علم الراوي بأنّ المرويّ جامع لشروط العمل به ، وأن تكون الرواية بلفظ مفهوم للمرويّ له ، سواء كان نفسَ لفظ فتوى العالم ، أو معناه بشروط مذكورة في محلّها ؛ بخلاف الثاني . .

ص: 569


1- في المصدر : «وثبّتك» .
2- كمال الدين ، ص 483 ، الباب 45 ذكر التوقيعات ، ح 4 .

ومعنى القضاء الحقيقي قطع النزاع بين متنازعين في دَين أو ميراث أو نحوهما بإعمال حكم اللّه تعالى الواقعي في حقّهما بنوع جبر وإلزام ، لا من حيث علم المحكوم عليه استحقاقَ المحكوم له ، وهذا القيد للاحتراز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

والفرق بين القضاء وبينهما أنّه يجوز لمن له الحقّ ترك الجبر على أداء الحقّ إذا لم يرض ببقاء الحقّ عند من عليه الحقّ في صورة الاستناد إلى القضاء ، بخلاف صورة الاستناد إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّه يجب عليه الجبر على أداء الحقّ وجوبا كفائيّا بشروط مقرّرة في محلّها ، ومعنى القضاء الغير الحقيقي رواية فتوى عمّن يعلم الحكم الواقعي في حقّهما ليعملا بها ، والفرق بينه وبين الرواية المحضة ما مرّ .

وإذا تقرّر هذه المعاني فليعلم أنّ المراد بالحكم في قوله عليه السلام : «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» الإفتاء الغير الحقيقي والقضاء الغير الحقيقي ، فإنّ الحقيقيّين لا يجوزان إلاّ لمن علم الحكم الواقعي ، وإلاّ لكان قولاً على اللّه بغير علم ، والعلم بالحكم الواقعي غير حاصل للرجل الجامع للأوصاف المذكورة في غير الشاذّ النادر من ضروريّات المذهب أو ما يجري مجراها .

وليس بمراد بقرينة تجويز الاختلاف في الحكم بين جامعين للأوصاف المذكورة في قوله فيما بعد : و«اختلفا» إلى آخره ، ولا اختلاف بين عالمين في معلوميهما ، فلا يجوز للقاضي حينئذٍ ولا للمحكوم له من المتنازعين لجهل المسألة أن يأخذ ما حكم له جبرا من باب الاستناد إلى القضاء ، إنّما على المحكوم عليه منهما أن يعطيه بالرضا ، وإلاّ لكان رادّا على اللّه وعلى حدّ الشرك باللّه .

إن قلت : هل يجوز حينئذٍ للقاضي أو للمحكوم له الجبر من باب الاستناد إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا من باب الاستناد إلى القضاء إذا علم القاضي أو المحكوم له أنّ المحكوم عليه عالم بالحكم الواصلي ، وجاهل بالحكم الواقعي ؟

قلت : هذه مسألة فروعيّة ، فإن لم يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 570

علم الآمر والناهي بالحكم الواقعي ولا علم المأمور والمنهيّ به ، جاز الجبر أو وجب وجوبا كفائيّا بشروط مقرّرة ، وإلاّ لم يجز .

(قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ(1) اخْتَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا ، وَاخْتَلَفَا) أي الرجلان من أصحابنا (فِيمَا حَكَمَا ، وَكِلاَهُمَا اخْتَلَفَ(2) فِي حَدِيثِكُمْ؟) .

المراد بالاختلاف هنا غير المراد به في سابقه ، فإنّ المراد بالسابق التناقض في الحكم ، وبهذا كثرة المشي إلى أبواب العلماء والأخذ عنهم ، وكثرة تصفّح الروايات وتعرّف معانيها .

(قَالَ : الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا ، وَلاَ يَلْتَفِتْ إِلى مَا يَحْكُمُ بِهِ الاْآخَرُ) .

ذكر أوصافا أربعة معا ، لأنّه قلّما ينفكّ بعضها عن بعض ، وفي الترتيب الذكري دلالة على أنّه على تقدير الانفكاك يقدّم كلّ سابق ذكرا على لاحقه ؛ إذ الكلام مفروض في حقوق الآدميين التي فيها تنازع ، فلا يمكن فيها التخيير والتوسيع ، فيكون الترجيح الأوّل بكون أحد الراويين أعدل ، والعدل سلوك القصد بلا ميلٍ إلى هوى ولا إلى إفراطٍ أو تفريط ، ويكون في كلّ شيء ، ومن جملته العدل في القضاء ، وهو ترك(3) الميل إلى أحد المتنازعين ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(4) .

والميل قد يكون طبيعيّا بسبب القرابة ، أو المصاحبة القديمة ، أو نحو ذلك ، وعلى تقدير التساوي في العدالة يكون الترجيح الثاني بكون أحد الراويين أفقه ، ومضى معنى الفقه(5) في سابع الثاني(6) ، وعلى تقدير التساوي في الفقه أيضا يكون الترجيح .

ص: 571


1- في حاشية «أ» والكافي المطبوع : «رجل» .
2- في حاشية «أ» : «اختلفا» .
3- في «د» : «عدم» .
4- النساء (4) : 58 .
5- في حاشية «أ» : «وهو لغة بمعنى العلم المفضي إلى العمل بمقتضاه» .
6- أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

الثالث بكون أحد الراويين أصدق في الحديث ، بأن يكون أبعد من الغفلة والنسيان ، وقد تكون الأصدقيّة بأن يكون أرعى للفظ المعصوم ، وأقلّ عدولاً عنه إلى لفظ آخر وإن كان موافقا له في المعنى ، وعلى تقدير التساوي في الصدق أيضا يكون الترجيح الرابع بكون أحد الراويين أورع ، أي أتقى وأبعد عن المعاصي باجتناب الشبهات والمكروهات .

(قَالَ : قُلْتُ : فَإِنَّهُمَا عَدْلاَنِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا) . الظرف متعلّق بقوله : «مرضيّان» أي رضيهما أصحابنا ؛ لحسن حالهما في العدل والفقه والصدق والورع .

(لاَ يُفَضَّلُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، أو بصيغة المعلوم من باب نصر وعلم ، والجملة استئناف بياني .

(وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلى صَاحِبِهِ(1)) أي في شيءٍ من الأوصاف الأربعة .

(قَالَ : فَقَالَ : يُنْظَرُ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والنظر هنا بمعنى الاختيار .

(إِلى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ ، فَيُوءْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا ، وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أي الترجيح الخامس بكون إحدى الروايتين مشهورة مكرّرة في اُصول أصحاب إمام دون الاُخرى ، مثل ما يجيء في «كتاب الطلاق» في «باب الخلع» في التعارض بين حديث الحلبي المنقول في أوّل ذلك الباب ، وحديث أبي بصير المنقول في خامسه من حكم المصنّف بأنّ حديث الحلبي راجح ؛ لأنّه حديث أصحاب أبي عبداللّه عليه السلام ، وحديث أبي بصير شاذّ نادر .

فنقول : «كان»(2) ناقصة ، واسمها ضمير مستتر فيها راجع إلى «ما» ، و«من» تبعيضيّة ، والظرف مستقرّ خبر «كان» ، وقوله : «ذلك» إشارة إلى الدين أو الميراث ، وقوله : «الذي» صفة «ذلك» ، والباء في قوله : «حكما به» بمعنى «في» ، وقوله : «المجمع عليه» مجرور وبدل «روايتهم» ، ويحتمل أن يكون «من» لغوا متعلّقا ب- «كان» و«المجمع عليه» منصوبا وخبر «كان» . .

ص: 572


1- في حواشي النسخ والكافي المطبوع : + «الآخر» خ .
2- في «د» : «وكان» .

ويؤيّد الأوّل ذكر روايتهم في موضع «روايتهما» ، ومعنى «المجمع عليه» المشهور المكرّر في اُصول أصحاب إمام ، لا ما كان المفتون به أكثر عددا ، ولا ما أجمع عليه بالإجماع المصطلح عليه بين الاُصوليّين بقرينة قوله عليه السلام : «الذي ليس بمشهور عند أصحابك» وبقرينة أنّه لو تحقّق الإجماع المصطلح عليه لكان مقدَّما على الترجيحات السابقة .

والظرف في «من أصحابك» متعلّق ب- «المجمع عليه» لتضمين الإجماع معنى الوقوع أو الصدور أو الشهرة ، والمراد ب-«أصحابك» ثقات الشيعة الإماميّة بقرينة تفسير المشهورين فيما بعد بقوله : «قد رواهما الثقات» ، والمراد بالثقة الجامع للأوصاف الأربعة السابقة . وقوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» استدلالٌ بالحديث المشهور وهو : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .(1)

قال ابن الأثير في النهاية :

الريب : الشكّ ، وقيل : هو الشكّ مع التهمة ، يُقال : رابني [الشيء] وأرابني ، بمعنى شكّكني ، وقيل : أرابني في كذا ، أي شكّكني وأوهمني الريبة فيه ، فإذا استيقنته قلت : رابني بغير ألف ، ومنه الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، يروى بفتح الياء وضمّها ، أي دع ما تشكّ فيه إلى ما لا تشكّ فيه .(2) انتهى .

والمقصود: أنّه إذا تعارض الشاذّ والمجمع عليه ، يجب ترك الشاذّ والعمل بالمجمع عليه ؛ لأنّ الشاذّ حينئذٍ محلّ تهمة السهو أو النسيان أو الكذب ، فيصير الحديث معلّلاً لا يجوز العمل به .

إن قيل : ينافي هذا ما مضى في ثامن الباب وتاسعه من التخيير في العبادات المحضة مطلقا .

قلت : لا منافاة ؛ لأنّ المراد بالتخيير فيما مضى أنّه لا يجب النظر والتتبّع ليعلم أيّهما شاذّ وأيّهما مجمعٌ عليه ، بخلاف صورة التعارض في حقوق الآدميّين . .

ص: 573


1- الغارات ، ج 1 ، ص 217 ؛ الفصول المختارة ، ص 207 .
2- النهاية ، ج 2 ، ص 286 (ريب) .

ولا ينافي هذا وجوب العمل بالمجمع عليه في العبادات المحضة أيضا إذا اتّفق النظر والتتبّع ، وحصَلَ العلم بأنّ أحدهما شاذّ والآخر مجمع عليه ، وكذا الكلام في نظائر هذا الترجيح مثل ما يجيء(1) من قوله : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة» .

(وَإِنَّمَا الاْءُمُورُ) . ذكر الواو هنا يشعر بأنّ هذا إلى قوله : «من حيث لا يعلم» استدلال آخر ، والمراد بالاُمور ما يبلغنا عن الحجج المعصومين .

(ثَلاَثَةٌ :) أي ثلاثة أقسام :

(أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ) ؛ بالضمّ وبفتحتين مصدر رشد - كنصر وعلم - إذا اهتدى وكان على الطريق المفضي إلى المطلوب ؛ أي بيّن كونه صوابا جائز العمل به ، مثل ما اتّفقت الطائفة المحقّة على العمل بمثله في موضعه .

(فَيُتَّبَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالاتّباع ، والضمير المستتر راجع إلى «أمر» .

(وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ) . الغيّ بفتح المعجمة وتشديد الخاتمة : الضلالة ، وهي الخروج عن السبيل المفضي إلى المطلوب ، أي بيّن ضلاله وحظر العمل به ، مثل ما اتّفقت الطائفة المحقّة على رفضه ، كرواية الغلاة والمتّهمين بالكذب .(2)

(فَيُجْتَنَبُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالاجتناب ، والضمير لأمر ؛ أي لا يعمل به .

(وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ) أي ليس بيّنا رشده ولا بيّنا غيّه ؛ مثل ما لم يعلم هل عملت الطائفة المحقّة بمثله في موضعه ، أم لا؟ ومنه الخبر الشاذّ النادر إذا عارضه المجمع عليه فيجب طرحه والعمل بالمجمع عليه ؛ لأنّ الطائفة المحقّة اتّفقوا على العمل بمثله في موضعه .

وهذا نظير ما ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله في عدّة الاُصول في فصل في ذكر .

ص: 574


1- سيجيء في هذا الحديث بعد صفحات .
2- في «د» : + «لها» .

تخصيص العموم بأخبار الآحاد بقوله : «والذي أذهب إليه أنّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال» إلى قوله : «ما دلّ على عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار من إجماعهم على ذلك لم يدلّ على العمل بما يخصّ القرآن ، ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة»(1) انتهى .

(يُرَدُّ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالردّ ، يُقال : ردّه إلى زيد : إذا راجع فيه إلى زيد وقَبِلَ قوله فيه ؛ وردّه على زيد : إذا خطّأ زيدا فيه ولم يقبل قوله فيه .

(عِلْمُهُ) أي العلم برشده وغيّه .

(إِلَى اللّه ِ وَإِلى رَسُولِ اللّه ِ(2) صلى الله عليه و آله ) أي لا تستقلّ العقول بالعلم فيه ، ولا يكفي الظنّ ؛ إنّما يكفي الظنّ في إدخال فعل شخصي تحت موضوع قاعدة فقهيّة فرعيّة ، كقيم المتلفات ومقادير الجراحات ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة النساء : «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه ِ وَالرَّسُولِ»(3)الشورى (42) : 10 .(4) ، فإنّ ما لم يعلم رشده ولا غيّه من الأفعال الكلّيّة كان ممّا يتنازع في رشده وغيّه باعتبار نفس أحكام اللّه تعالى الفقهيّة ، لا باعتبار محالّها فقط .

والردّ إلى الرسول لأجل أنّه مبلِّغ لحكم اللّه ، لا لأجل أنّه حاكم من عند نفسه أو برأيه ، بدليل قوله تعالى في سورة الشورى : «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه ِ»(4) ، وعليه يحمل قوله تعالى في سورة النساء : «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»(5) .

ويعلم من هذا أنّه يجب ردّ(6) ما لم يعلم من جهتهما إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا لأجل ».

ص: 575


1- عدة الاُصول ؛ ج 1 ، ص 350 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 2 ، ص 138 .
2- في الكافي المطبوع : «رسوله» .
3- النساء
4- : 59 .
5- النساء (4) : 65 .
6- في «ج» : + «على».

أنّهم حكّام من عند أنفسهم أو بآرائهم ، بل لأجل أنّ اللّه والرسول أحالا علم ما لم يعلم من جهتهما إليهم عليهم السلام في قوله تعالى في سورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1) ، ومضى بيانه في عاشر باب النوادر ، فالردّ إليهم ردّ إلى اللّه ورسوله .

(قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . ترك الواو هنا يشعر بأنّ هذا استئناف لبيان قوله : و«إنّما الاُمور ثلاثة» إلى آخره .

(حَلاَلٌ) ؛ خبر مبتدأ محذوف ؛ أي الأفعال ، أو اتّباع الاُمور ؛ والمآل واحد .

(بَيِّنٌ) أي معلوم كونه حلالاً ، وهو اتّباع البيّن رشده . فهذا لبيان القسم الأوّل من التقسيم الأوّل .

(وَحَرَامٌ بَيِّنٌ) أي معلوم كونه حراما ، وهو اتّباع البيّن غيّه ، فهذا لبيان القسم الثاني من التقسيم الأوّل .

(وَشُبُهَاتٌ) . هذا لبيان القسم الثالث من التقسيم الأوّل ، والشبهة بالضمّ : الالتباس ، والمراد هنا الملتبس ، سواء كان حراما ملتبسا بالحلال ، أم حلالاً ملتبسا بالحرام ، فهو ما عدا القسمين الأوّلين ، فالتقسيم حاصر كما أشار إليه بقوله :

(بَيْنَ ذلِكَ) . المشار إليه : الحلال البيّن والحرام البيّن ، أي لا حلال بيّن ولا حرام بيّن ، كقوله تعالى : «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ»(2) .

(فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ) ؛ من تتمّة كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو كلام أبي عبداللّه عليه السلام . ومعنى ترك الشبهات طلب علم الحلال والحرام في المسائل الأصليّة والفرعيّة ، حتّى يتميّز عنده أنّ ارتكاب ما كان من الشبهات من الحلال البيّن أو الحرام البيّن .

(نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ) . النجاة : الخلاص من ضرر ، والمراد أنّه ينحصر فعله حينئذٍ في الحلال البيّن .

(وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ) أي لم يطلب العلم واجترأ بارتكاب الشبهات . .

ص: 576


1- الأنبياء (21) : 7 .
2- النساء (4) : 143 .

(ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ ) ؛ يعني أنّ ارتكاب ما لم يعلم أنّه حلال بيّن محرّم ، وإن كان فعله بحيث إذا علم كان حلالاً بيّنا .

(وَهَلَكَ) أي صار جهنّميّا (مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ) . «من» للتعليل ؛ أي لأنّه لا يعلم حلّه . وهذا إشارة إلى أنّ كلّ مكلّف قامت عليه الحجّة بالآيات البيّنات المحكمات الآمرة بطلب العلم ، نحو : «فَلَوْلاَ نَفَرَ»(1) ، ونحو : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» ، ونحو : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(2) وأمثال ذلك ممّا لا يُعدّ ولا يُحصى ، فارتكاب الشبهة ارتكابُ محرّمٍ ؛ لأنّه ارتكاب شيء غير معلوم الحلّ .

(قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ) . في بعض النسخ المعتبرة «عنكما» ، ولعلّ المراد حينئذٍ عن الصادق وأبيه عليهماالسلام ، فإنّ أكثر الروايات المشهورة في ذلك الزمان لم تكن إلاّ عن أحدهما .

(مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ) . المراد التساوي في الشهرة .

(قَالَ : يُنْظَرُ ، فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ) أي المخالفين (فَيُوءْخَذُ بِهِ ، وَيُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ) .

المقصود أنّ الترجيح السادس بكون إحدى(3) الروايتين مخالفة للعامّة دون الاُخرى . وإنّما ضمّ الكتاب والسنّة إشارة إلى أنّ أحكامهم مخالفة للكتاب والسنّة ؛ إمّا بخصوصها فيكون المراد أنّها مخالفة للكتاب غالبا وإن لم تفهموه ، فإنّ كلّ شيء مذكور في الكتاب والسنّة ، إلاّ أنّه لا تبلغه عقول الرجال ، وإمّا بعمومها ؛ لدلالة الكتاب على أنّه لا يجوز لهم هذه الأحكام ؛ لأنّها مبنيّة على اتّباع الظنّ ، ويجوز لنا أحكامنا ؛ لأنّها مبنيّة على سؤال أهل الذِّكر .

والدليل على ما ذكرنا أنّه مع وجدان ظاهر كتاب أو سنّة مقطوع بها ووصول أحدهما إلينا بحسب عقولنا لا عبرة بالترجيحات السابقة ولا اللاحقة ؛ لدلالة الأدلّة القطعيّة .

ص: 577


1- التوبة (9) : 122 .
2- يونس (10): 36.
3- في «ج» : «أحد» .

على ذلك كما تقرّر في محلّه . ولم يفهم الراوي هذه الإشارة أو فهم وطلب زيادة التصريح ، ولذا قال :

(قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَرَأَيْتَ ، إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ) . «عرفا» بالعين المهملة المفتوحة والراء المهملة المفتوحة والفاء ، من المعرفة وهي العلم ، فلابدّ من كون المراد بالحكم الحكم الواصلي ، وذلك بأن يكون مثلاً ظاهر آية موافقا لأحدهما، وظاهر آية اُخرى موافقا للآخر، وكلّ منهما يعتقد أنّ تأويل الاُخرى أسهل، ونظيره ما قالوا في الجمع بين الاُختين في ملك اليمين من أنّ عموم قوله تعالى : «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الاْءُخْتَيْنِ»(1)في «ج» : - «أنّ» .(2) يقتضي حرمته ، وعموم قوله تعالى : «وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»(3) يقتضي حلّه ، ورووا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «أحلّتهما آية ، وحرّمتهما اُخرى ، وأنا أنهى عنهما نفسي وولدي» .(4) ويجيء في «كتاب النكاح» في أوّل «باب الأمة يشتريها الرجل وهي حُبلى» نظيرٌ آخَرُ ، ويجيء فيه في ثامن «باب نوادر» بعد «باب أنّ(4) مَن عفّ عن حرم الناس عفَّ حرمه» أنّ مثل هذه العبارة عنه عليه السلام لبيان الحرمة حين خشي أن لا يطاع ، وليس المراد بالحكم الحكم الواقعي ، فإنّ العلمين لا يتعلّقان بالمتنافيين .

(وَالسُّنَّةِ) ، أي المقطوع بها من السنّة .

(وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقا لِلْعَامَّةِ ، وَالاْآخَرَ مُخَالِفا لَهُمْ ، بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُوءْخَذُ؟ قَالَ : مَا) ؛ في محلّ الجرّ ؛ أي يؤخذ بما . ويحتمل أن يكون في محلّ الرفع على الابتداء.

(خَالَفَ الْعَامَّةَ ، فَفِيهِ) . الفاء لتعليل الأخذ بما خالف العامّة كما هو الظاهر من نقل المصنّف ما في معناه في الخطبة ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ ؛ والمآل واحد . .

ص: 578


1- النساء
2- : 23 .
3- النساء (4): 36 .
4- تهذيب الأحكام ، ج 7 ، ص 289 ، ح 1215 ؛ الاستبصار ، ج 3 ، ص 172 ، ح 628 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 483 ، ح 26149 ؛ السنن الكبرى ، ج 7 ، ص 164 ؛ كنزالعمّال ، ج 16 ، ص 515 ، ح 45696 .

(الرَّشَادُ) ؛ بفتح الراء : خلاف الضلالة ؛ أي ففيه موافقة الكتاب والسنّة ، نظير ما ورد في النساء من قوله عليه السلام : «شاوروهنّ وخالفوهنّ» .(1)

(فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَإِنْ وَافَقَهَا)(2) أي وافق العامّة (الْخَبَرَانِ جَمِيعا) بأن تكون المسألة بين العامّة مختلفا فيها .

(قَالَ : يُنْظَرُ) ؛ بصيغة المجهول ، والنظر هنا بمعنى الالتفات ، ويمكن أن يكون بمعنى الاختيار لكن للترك .

(إِلى مَا هُمْ) أي العامّة (إِلَيْهِ أَمْيَلُ) . وقوله :

(حُكَّامُهُمْ) ؛ بدل البعض من الكلّ ، والمبدل منه الضمير المنفصل ، ويحتمل أن يكون خبرا عن مبتدأ محذوف ، وتكون الجملة معترضة ، أي المعيار حكّامهم بمعنى سلاطينهم .

(وَقُضَاتُهُمْ ، فَيُتْرَكُ ، وَيُوءْخَذُ بِالاْآخَرِ) ، يعني الترجيح السابع بكون إحدى الروايتين مخالفة للمشهور عند حكّام العامّة وقضاتهم دون الاُخرى ، وهم في زمننا إلى فتاوى أبي حنيفة أميل منهم إلى فتاوى الشافعي ، وإلى فتاوى الشافعي أميل منهم إلى فتاوى أحمد ومالك ، فيمكن أن يكون المعيار زمن الإمام وأن يدخل فيه زمننا أيضا .

(قُلْتُ : فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعا) أي بدون أن يكونوا أميل إلى أحدهما .

(قَالَ : إِذَا كَانَ ذلِكَ ، فَأَرْجِهْ) . الإرجاء : التأخير ، أي أخّر النزاع الذي هو للجهل بالمسألة . ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الدَّين أو الميراث ، والمقصود أنّه لا يجوز للمدّعي أخذ ما يدّعيه من المدّعى عليه كما في الدين إلاّ بالصلح ، وإذا كان المال في يد ثالث أو في دار نسبتهما إليها على سواء ، أو نحو ذلك - كما في الميراث - لا يجوز أخذ أحد المتنازعين له إلاّ بالصلح ، أمّا إذا كان النزاع لا للجهل بالمسألة ، بل .

ص: 579


1- المبسوط للسرخسي ، ج 14 ، ص 44 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 18 ، ص 199 ؛ عوالياللآلي ، ج 1 ، ص 289 ، ح 148 .
2- في الكافي المطبوع : «وافقهما» .

لإنكار أحدهما حقّا معلوما لهما ، فلا يجب فيه التأخير بهذا الحديث ، بل يجوز فيه للمحقّ التقاصّ ، والأخذ جبرا ونحو ذلك إذا تيسّر .

(حَتّى تَلْقى إِمَامَكَ) . ظاهره أنّه لا يجري فيه القرعة .

(فَإِنَّ الْوُقُوفَ) أي التوقّف وانتظار سؤال أهل الذِّكر .

(عِنْدَ الشُّبُهَاتِ) . مضى معناها في هذا الحديث .

(خَيْرٌ) . التفضيل هنا كما في «أفقه من الجدار» بقرينة قوله :

(مِنَ الاِقْتِحَامِ) . تقول : قحم في الأمر - كنصر - : إذا رمى بنفسه فيه فجأةً بلا رويّة ، وقحّمه فيه تقحيما وأقحمه فاقتحم وانقحم ، والمقحِم هنا من سنَّ للناس طريقة اتّباع الظنّ من أئمّة الضلالة ومجتهديهم أو الشيطان .

(فِي الْهَلَكَاتِ) ؛ بفتحتين جمع هلكة بفتحتين ، وهي الهلاك . والمراد هنا ما يهلك فيه ، أو الوصف بالمصدر للمبالغة يعني اشتبه على كلّ واحدٍ من المتنازعين أنّ المال ماله أو مال خصمه ، فلا يجوز له أخذ المال بدون صلح ؛ لأنّه بلا مستند شرعي ، ففي أخذه الهلاك .

ص: 580

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب

الباب الثالث والعشرون بَابُ الاْءَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَابِ

فيه اثنا عشر حديثا .

هذا الباب لبيان أمرين :

الأوّل : وجوب الاحتياط في الدِّين بترك اتّباع الرأي ، وبالتزام سؤال أهل الذِّكر في دقيق الأشياء وجليلها إن كان لا يعلم .

الثاني : ضابطة كلّيّة يتعرّف بها أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم في كلّ زمان إلى انقراض الدنيا عن الضالّ(1)في «ج» : «شواهد الكتاب» بدل : «الشواهد» .(2) المضلّ المدّعي للإمامة وليس لها بأهل .

والبرقي في كتاب المحاسن جعل هذا العنوان عنواني بابين هكذا : «باب الاحتياط في الدِّين والأخذ بالسنّة» «باب الشواهد(2) من كتاب اللّه»(3) وذكر في جملة أحاديث الأوّل ما مضى في ثامن السابع عشر وهو «باب النوادر» .

والأخذ، بالفتح من باب نصر : التمسّك بالشيء لدفع الضرر . والمراد بالسنّة طريقة اللّه التي لم تنسخ في شريعة من الشرائع ، كما في سورة فاطر : «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَحْوِيلاً»(4) .

ص: 581


1- في حاشية «أ» : قوله : «عن الضال» إلى آخره ، الأولى بدل «عن» التي هي للمجاوزة لفظ «من» المبينة نظيره قوله تعالى : «وَاللّه ُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»[البقرة
2- : 220] (مهدي) .
3- المحاسن ، ج 1 ، ص 220 ، باب 11 ، باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنّة ؛ و ص 225 ، باب 12 ، باب الشواهد من كتاب اللّه .
4- فاطر (35) : 43 .

ولو كان المراد بالسنّة ما سنّه اللّه ورسوله مطلقا وتقابل البدعة ، لكان الأنسب جمعَها كشواهد(1) وعدمَ جمعها مع «شواهد» ، ولو كان المراد بالسنّة قول رسول اللّه أو فعله أو تقريره ويقابل الكتاب باعتبار أنّ استنباطنا الحكم ينقسم إلى استنباط من الكتاب وإلى استنباط من السنّة بهذا المعنى ، لكان الأنسب جمعها كشواهد ، وعدم تقديمها على شواهد ، وإنّما جمع شواهد منتهى الجموع للإشارة إلى كثرة المحكمات(2) المثبتة لإمامة أهل الذِّكر ووجوب سؤالهم ، النافية لطريقة أئمّة أهل الضلالة ومجتهديهم ، وهي الآيات الناهية عن التفرّق في الدِّين والاختلاف فيه ، وعن القول على اللّه بغير علم ، وعن اتّباع الظنّ ونحو ذلك ، كما مرَّ بيانه في ثاني عشر(3) «باب العقل والجهل» .(4) وهذا التعبير في العنوان يظهر به حلّ أحاديث الباب .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ،عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ عَلى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً ، وَعَلى كُلِّ صَوَابٍ نُورا ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللّه ِ فَخُذُوهُ ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللّه ِ فَدَعُوهُ) .

ذكر «على» لاشتمال الحقيقة والنور على الدلالة .

الحقّ : ضدّ الباطل ، والمراد هنا الصحيح من الأعمال الشرعيّة ، سواء كان عمل القلب كالإيمان واليقين ونحوهما ، أم غيره كالصلاة والزكاة والإمامة ونحوها .(5)

الحقيقة : الراية تكون في العسكر علامة لهم ، والمراد هنا العلامة من شواهد الكتاب الدالّة على صحّة العمل ، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» من .

ص: 582


1- في «ج» : + «الكتاب» .
2- قوله : «إلى كثرة المحكمات» إلى آخره إشارة إلى أنّ المراد بالشواهد هنا هذه المحكمات الموصوفة بتلك الصفات ، وهذه المحكمات هي التي عبّر المصنّف - قدّس سرّه - في ديباجة الكتاب بحقائق الاُمور حيث قال : «وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها» إلى آخره كما صرّح به الشارح - قدّس سرّه - ثمّة .
3- في «د» : + «الأوّل وهو» .
4- في «أ» : - «والجهل» .
5- في «أ» : «نحوهما» .

ذكر صدر هذا الحديث في «باب حقيقة الإيمان واليقين» ويجيء في «كتاب التوحيد» في خامس «باب في إبطال الرؤية» وهو التاسع من قوله : «ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» . فكلّ عمل طابق الآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لم يعلم فهو حقّ ، وإن كان مستندا إلى الظنّ فهو باطل .

ولا ينافي هذا جواز العمل بخبر الواحد بشروط مقرّرة من باب التسليم لأهل الذِّكر من باب اتّباع الظنّ بالحكم .

الصواب : ضدّ الخطأ ، والمراد هنا المستقيم من الأقوال الشرعيّة في الفتوى والقضاء ونحوهما .

النور : ضدّ الظلمة ، والمراد هنا البرهان ، كما في أمثال آية سورة البقرة وسورة النمل : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(1)في «ج» بدل قوله : «وعلى كلّ صواب نورا» إلى هنا، هكذا : «على متعلق بشاهد أو نحوه ، والحقّ : ضدّ الباطل ، والمراد به هنا الإمام الذى يجب الإيمان به بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، كما يظهر من ذكر صدر هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» فى «باب حقيقة الإيمان واليقين» . والحقيقة فعليّة بمعنى فاعلة باب نصر وضرب : حقيقة الحق ، والمراد هنا السنّة وشواهد الكتاب ومرّ بيانها فى شرح عنوان الباب . (وعلى كلّ صواب نورا) . الصواب : سلوك الطريق القصد وضدّ الخطاء ، والمراد به هنا ما ليس فيه خطأ من جمله بيان مراد اللّه تعالى بمتشابهات القرآن الذي هو تبيان كلّ شيء يحتاج إليه ، والنور بالضم مفرد ، هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، والمراد به هنا الروح التي يسدّد اللّه بها الأئمة ، ويجيء في السادس والخمسين من كتاب الحجّة ، أو المراد إمام الهدى كما يجى ء في ثالث عشر كتاب الحجّة ، ومآلهما واحد . (فما وافق كتاب اللّه فخذوه) الفاء للتفريع على قوله : «وعلى كلّ صواب» وعلى ما تقدّمه لأنّ الدالّ على شيء دالّ على ذلك الشيء ، أي فكلّ إمام وفتوى إمام وافق محكمات الكتاب مقبول ، وكذا الكلام في قوله : (وما خالف كتاب اللّه فدعوه)» .(2) ، وهذا إبطال لأحكام الصوفيّة المدّعين للكشف بدون برهان ، والمجتهدين المستندين إلى الأمارات الظنّيّة بدون برهان .

الفاء في «فما» للتفريع ، وعلى ما قرّرنا لا يبقى واسطة بين الموافق للكتاب والمخالف له .(2)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ .

ص: 583


1- البقرة
2- : 111 ؛ النمل (16) : 64 .

عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ) .

(قَالَ :) أي أبان . وفي محاسن البرقي في باب الشواهد من كتاب اللّه : «قال علي»(1) وكأنّه من تصرّفه .

(وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلاَءِ أَنَّهُ) ؛ الضمير لحسين .

(حَضَرَ) ؛ فاعله ضمير مستتر راجع إلى حسين .

(ابْنَ) ؛ بالنصب مفعول حضر .

(أَبِي يَعْفُورٍ فِي هذَا الْمَجْلِسِ) أي مجلس سؤال ابن أبي يعفور وجواب الإمام عليه السلام .

(قَالَ :) كلام أبان ، والضمير لابن أبي يعفور .

(سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ اخْتِلاَفِ الْحَدِيثِ) . المراد التناقض الواقع بين الأحاديث المنقولة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ما يتعلّق بالإمامة وبمن يجب سؤاله وأخذ الأحكام المجهولة عنه ، فإنّ كلّ أهل مذهب في الإمامة ينقل عنه عليه السلام ما يناقض ما ينقله فيها عنه الآخرون .

(يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ) . الجملة حال عن «الحديث» وتتمّة للمسؤول عنه . وحاصل السؤال التعجّب من أن يروي جمع يوثق بهم الأحاديث المتناقضة عنه عليه السلام وطلب بيان ما يزيل الحيرة فيه ، أو حاصله هل يجوز الاكتفاء في هذا بالثقة بالراوي .

(وَمِنْهُمْ) أي من رواة الحديث المختلف في باب الإمامة (مَنْ لاَ نَثِقُ بِهِ) .

هذه الجملة ليست معطوفة على قوله : «يرويه» إلى آخره ، وإلاّ لكان الأنسب أن يُقال بدلها : «ومن لا نثق به» ، فتغيير الاُسلوب للإشارة إلى أنّه ابتداء كلام لبيان أنّ هذا ليس موضع السؤال ، إنّما موضعه الأوّل فقط ؛ أو هي معطوفة عليه ، وتغيير الاُسلوب لئلاّ يتوهّم أنّ مرويّهما واحد بالنوع .

(قَالَ:) . حاصل الجواب أنّه لا حيرة في الإمامة لاختلاف الحديث فيها ، بل قد تبيّن الرشد من الغيّ فيها في محكمات الكتاب الناهية عن التفرّق في الدِّين والاختلاف فيه ، .

ص: 584


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 225 ، ح 145 .

وعن القول على اللّه بغير علم ، وعن اتّباع الظنّ والاجتهاد والقياس ونحو ذلك كما فصّل في ثاني عشر «باب العقل» .

(إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ) أي من الأحاديث المتناقضة في باب الإمامة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله (فَوَجَدْتُمْ لَهُ) أي لمضمونه (شَاهِدا مِنْ كِتَابِ اللّه ِ(1)) أي دليلاً قاطعا وهو المحكم من الكتاب (أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي حديثه المتّفق عليه بين أهل المذاهب المختلفة في الإمامة ، وبين رواة الأحاديث المتناقضة فيها .

ولا ينافي الترديد هنا ما مرّ في أوّل الباب من الاقتصار على كتاب اللّه ؛ للعلم بدورانهما في باب الإمامة وجودا وعدما ، والنكتة في ذكره هنا أنّ المنظور بالأصالة هنا بيان حال حديث المخالف للحقّ بأنّه ليس له شاهد من الكتاب ولا من قول الرسول ، ولذا لم يجمع هنا «شاهد» كما جمع في العنوان ، ويؤيّد ذلك أنّ الورود المجيءُ من بعيد ، والمخاطبون الشيعة .

وإنّما اقتصر على القول ، ولم يذكر الفعل ولا التقرير ؛ لأنّهما لا يدلاّن نصّا على شيء ، إنّما هما من الظواهر ، فليسا من الشاهد .

(وَإِلاّ فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلى بِهِ) أي ردّوه عليه ولا تعملوا به ، وذلك لأنّه معلوم من الخارج أنّ الشواهد من الكتاب وقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله تشهد لأحد المختلفين في باب الإمامة دون الآخر . والظرف متعلّق بجاءكم ، والباء للتعدية ويقدّر لأولى ظرف ، أي أولى به منكم .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ) ، بضمّ الحاء المهملة وتشديد الراء المهملة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : كُلُّ شَيْءٍ) أي كلّ ما يحتاج المكلّفون إليه (مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ؛ خبر بمعنى الأمر ، يُقال : ردّه إليه : إذا استنبطه منه . .

ص: 585


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

والمقصود أنّه لا يجوز اتّباع الظنّ في شيء ، وفيه إشارة إلى آية سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ»(1) ، ومضى مثله في عاشر الحادي والعشرين .(2)

(وَكُلُّ حَدِيثٍ) أي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في باب الإمامة وتمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم عمّن يعارضهم ، كما قصده المخالفون بروايتهم «اقتدوا باللذين من بعدي»(3) إلى آخره .

(لاَ يُوَافِقُ كِتَابَ اللّه ِ) أي خالف شواهده ، وهي الناهية عن التفرّق في الدِّين ونحو ذلك ، وذلك بأن يكون في الحديث ميل إلى إمامة تابع الظنّ .

(فَهُوَ زُخْرُفٌ) ؛ بضمّ الزاي وسكون المعجمة وضمّ المهملة والفاء : ما زوّر فيه قائله الكذبَ ، يُقال : زخرف كلامه : إذا زوّره . وهو إشارة إلى آية سورة الأنعام : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الاْءِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا»(4) .

وهذا الحديث وأمثاله ينعى على المخالفين ما رووا من الأحاديث الموضوعة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مدح مَن ذمّه اللّه تعالى عموما بالانفضاض إلى التجارة واللهو ، وبالفرار من الزحف ، وبترك التصدّق للمناجاة ، وبإيثار الحياة الدنيا وتقديم الذين لا يعلمون على الذين يعلمون ، وبالإشراك ، وباتّباع الطاغوت ونحو ذلك ، أو في مدح من ذمّه اللّه تعالى خصوصا بضدّ الشجاعة ، أي بضعف القلب والجُبن في الغار ، وبأنّه طاغوت وأمثال ذلك ، أو لتوثيق مَن جرحه اللّه من الرواة كمن خوّنه وشبّهه بالكافر في سورة التحريم .

والعجب أنّهم بعد بيان اللّه تعالى هذا البيان خرّوا على آيات اللّه صُمّا وعميانا بالتخصيص والتأويل ، حتّى جعلوا بعض آيات الذمّ مدحا ، ووضعوا على طبقه .

ص: 586


1- النحل (16) : 89 .
2- أي الحديث 10 من باب الردّ إلى الكتاب والسنة .
3- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 382 ، حديث حذيفة بن اليمان ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، فضل أبي بكر ؛ وقد خصّص السيّد الميلاني في نفحات الأزهار ، ج 3 ، ص 93 : دراسة خاصّة لهذا الحديث ، فراجع .
4- الأنعام (6) : 112 .

أحاديث كآية الغار ، وذلك بمجرّد لفظ «صاحبه» فيها ، وقد غفلوا عن أنّ تلك الآية من أوّلها مسوقة لبيان أنّ اللّه قد نَصَر نبيّه صلى الله عليه و آله حين كمال ضعفه ، وذكر خمسة أوجه لضعفه :

الأوّل : إخراج الذين كفروا إيّاه .

الثاني : أنّه لم تكن معه الأعوان إذ كان ثاني اثنين .

الثالث : أنّه كان كالتابع لصاحبه يتّقيه ويلاينه ويداريه ؛ لعدم وثوقه به ، فإنّه لم يقل : أوّل اثنين ، ولا أحد اثنين ، ونظيره قوله تعالى في سورة المائدة : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(1) ردّا لما قاله النصارى جميعا أو النسطوريّة(2) والملكائيّة منهم(3) : إنّ اللّه واحد بالجوهريّة ، ثلاثة بالاُقنوميّة ، ويعنون بالأقانيم الذات والعلم والحياة ، ويعبّرون عن الذات تارةً بالوجود ، وتارةً بالأب ، كما يعبّرون عن العلم تارةً بالكلمة(4) ، وتارةً بالابن ، ويعبّرون عن الحياة بروح القدس ، ويعنون بكلّ من العلم والحياة صفة موجودة في نفسها في الخارج ، ويعنون بكون الثلاثة أقانيم أنّها اُصول كانت متغايرة فاتّحدت . ولا شكّ أنّ الذات إذا انضمّت إلى صفة كمالها - سواء كان الانضمام بالاتّحاد كما زعموا أم لا ، كما زعمت الأشاعرة - كانت الذات الصغرى والصفة الكبرى ؛ لأنّ شرف الذات حينئذٍ بالصفة المنضمّة ؛ ولهذا يُقال لأهل البيت عليهم السلام : الثقل الأصغر ، ولكتاب اللّه : الثقل الأكبر باعتبار انضمامهم إلى العلم بالكتاب ، فكان ذاته تعالى كالتابع للصفتين تعالى عن ذلك علوّا كبيرا .

الرابع : عدم تمكّنه من الكون في الفضاء إذ هما في الغار .

الخامس : كون صاحبه غير شجاع ، ولا يخفى أنّه لوكان صاحبه حينئذٍ القويّ في .

ص: 587


1- المائدة (5) : 73 .
2- في القاموس : «النسطورية بالضم وتفتح : اُمّة من النصارى ، تخالف بقيّتهم ، وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون ، وتصرّف فى الإنجيل بحكم رأيه ، إن اللّه واحد ذو أقانيم ثلاثة ، وهو بالرومية نسطورس» . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 142 (النسطورية) .
3- في «د» : «من النصارى» .
4- في «ج» : «بالكلم» .

دين اللّه الذي بات في فراشه حينئذٍ كان ذكره هنا خروجا عن البلاغة ، أو لا يرون إلى قوله في بيان النصرة : «فأنزل عليه»(1) ولم يقل : فأنزل عليه وعلى صاحبه ، كما في قوله في موضع آخر «عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(2) «قَدْ بَيَّنَّا الاْءَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(3) .

وروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيب وأنا تاركٌ فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه ، فيه النور والهدى ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ؛ وأهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي» .(4)

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون القاف والموحّدة والهاء . (عَنْ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ ، فَهُوَ زُخْرُفٌ) .

يعلم معناه من شرح سابقه .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِمِنى) أي في حجّة الوداع ، وذلك حين علم أنّه قد كثرت(5) عليه الكذّابة ، كما مرّ في أوّل «باب اختلاف الحديث» وعلم أنّ المنافقين وضعوا ويضعون أحاديث عنه صلى الله عليه و آله في ما يتعلّق بالإمامة وتمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم عن غيرهم .

(فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي) أي في باب الإمامة .

(يُوَافِقُ كِتَابَ اللّه ِ) ، الجملة حال عن فاعل جاءكم . .

ص: 588


1- المراد الآية 40 من سورة اللتوبة : «فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ» .
2- التوبة (9) : 26 .
3- البقرة (2) : 118 .
4- صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 122 ، باب من فضائل علي عليه السلام .
5- في «ج» : «كثر» .

(فَأَنَا قُلْتُهُ) أي خذوه ، فإنّه مقول لي ولو بالمعنى ؛ لموافقته شواهد الكتاب التي أنا مبلّغها وقائلٌ بها .

(وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللّه ِ ) أي شواهد الكتاب (فَلَمْ أَقُلْهُ) .

يعلم معناه من شرح ثالث الباب .

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ خَالَفَ) أي في باب الإمامة .

(كِتَابَ اللّه ِ) أي شواهده ، وهي المحكمات النازلة في تمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم عن غيرهم .

(وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ(1) ) أي قوله المتّفق عليه بين أهل المذاهب المختلفة في الإمامة ، وبين رواة الأحاديث المتناقضة فيها ؛ أو المراد بها طريقة سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلم .

ومخالفتها : الاستقلال بالرأي فيما لا يعلم .

(فَقَدْ كَفَرَ) . الحديث يدلّ على كفر المخالفين لنا في الإمامة .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ : إِنَّ أَفْضَلَ الاْءَعْمَالِ عِنْدَ اللّه ِ) . المراد الأعمال المقبولة . (مَا عُمِلَ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ قَلَّ) .

«عمل» بصيغة المجهول ، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر فيه راجع إلى «ما» أي ما فعل ، والباء للسببيّةً أو الاستعانة أو المصاحبة . ويحتمل أن يكون الظرف قائما مقام الفاعل والعائد إلى الموصول مقدّرا ؛ أي ما عمل بالسنّة فيه ، والباء صلة «عمل» . ومضى بيان السنّة في شرح عنوان الباب ، ولمّا كان الموافق للسنّة موافقا لشواهد الكتاب أيضا بالواسطة البتّة ، اكتفى بها .

الثامن : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، .

ص: 589


1- في الكافي المطبوع : + «صلى اللّه عليه وآله» .

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْقَمَّاطِ وَ صَالِحِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا ، قَالَ : فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّ الْفُقَهَاءَ) ، يعني من المخالفين لنا في باب الإمامة .

(لاَ يَقُولُونَ هذَا . فَقَالَ : يَا وَيْحَكَ) . ويح، بفتح الواو وسكون الخاتمة والمهملة ، اسم بمعنى التعجّب ، وهو منادى مضافٌ ، والمقصود أنّ حال المخاطب عجيبةٌ جدّا . وقيل : ويح كلمة رحمة ، وويل كلمة عذاب ؛ يُقال : ويح لزيد بالرفع على الابتداء ، ويُقال : ويحا لزيد بالنصب بإضمار فعل كأنّه قال : ألزمه اللّه ويحا ونحو ذلك ، ويُقال ويح زيد بالإضافة ، والنصب بإضمار فعل ، ويُقال : يا ويح زيد بالنداء .(1)

(وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيها) أي بين المخالفين (قَطُّ) ؛ بفتح القاف وتشديد(2) المهملة المضمومة ، وفيه لغات غير هذا ، ومعناه الدهر ، ولا يستعمل إلاّ مع النفي ، أو معناه يقال : ما رأيت زيدا قطّ ، أي في دهري ، وما رأى زيد عمرا قطّ ، أي في دهره ، وبني على الضمّ لأنّه مقطوع عن الإضافة .

(إِنَّ الْفَقِيهَ) ؛ استئناف لبيان النفي ، وحاصله أنّهم لا يأخذون بطريقة سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلمون ، بل مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم بعد بيان اللّه تعالى ، وذلك لعدم زهدهم في الدنيا وعدم رغبتهم في الآخرة .

(حَقَّ) ؛ منصوب على أنّه نعت للفقيه ومضاف إلى قوله :

(الْفَقِيهِ) . والمقصود أنّ غيره باطل ، كما ذكره الشيخ الرضيّ رحمه اللّه تعالى في شرح الكافية في مبحث النعت .(3)

(الزَّاهِدُ) ؛ خبر «إن» .

(فِي الدُّنْيَا ، الرَّاغِبُ فِي الاْآخِرَةِ ، الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ) . مضى معنى السنّة في .

ص: 590


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 417 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 638 (ويح) .
2- في «د» : «و شدّ» .
3- شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 283 ، النعت .

عنوان الباب ، ولعلّ هذا التعبير للإشارة إلى آية سورة بني إسرائيل : «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً»(1) على أن يكون «سنّة» منصوبا بالإغراء ، أي الزم سنّة .

التاسع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الاْءَزْدِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْعَبْدِيِّ ، عَنْ جَعْفَرٍ ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، عَنْ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لاَ قَوْلَ إِلاَّ بِالْعَمَلِ)(2) .

المراد بالقول ما يذكر في الوعظ من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ، وفي الفتوى وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أي لا ينفع قول قائله إلاّ إذا عمل به .

(وَلاَ قَوْلَ وَلاَ عَمَلَ إِلاَّ بِنِيَّةٍ) ؛ بكسر النون مصدر قولك : نويت الشيء : إذا جددت في طلبه وعزمته ، والمراد بها هنا ضدّ السهو عن الشيء وهو الغفلة عنه ، والمعنى لا ينفع مجموع القول والعمل لصاحبهما إلاّ بثبات قلب وجدّ وإخلاص وتوجّه فيهما بأن لا يكون كاللاعب .

(وَلاَ قَوْلَ وَ عَمَلَ وَنِيَّةَ(3) إِلاَّ بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ) أي بموافقة السنّة .

والمراد بالسنّة ما مرّ في شرح عنوان الباب ، ولا ينافي ذلك جواز العمل بخبر الواحد بشروطه المقرّرة في محلّها ؛ أي لا ينفع مجموع القول والعمل والنيّة لصاحبها إلاّ إذا كان موافقا للسنّة ، وهو موافق لشواهد الكتاب أيضا البتّة ، وإلاّ كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا .(4)

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ) ، بفتح النون وسكون المعجمة . (عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ) . .

ص: 591


1- الإسراء (17) : 77 .
2- في الكافي المطبوع وحاشية «ج» : «بعمل» .
3- في الكافي المطبوع : «ولا عمل ولا نيّة» بدل : «وعمل ونيّة» .
4- مقتبس من سورة الكهف (18) : 103 - 104 .

المراد الأحد من الرعيّة المقيّدين بالعبادة .

(إِلاَّ وَلَهُ شَرَهٌ(1)) ؛ بالمعجمة والمهملة المفتوحتين والهاء ، مصدر شره الرجل - كعلم - : إذا غلبه حرصه . والمراد الإفراط في العمل لشدّة الاحتياط كأعمال أهل الوسواس ، أو المراد غلبة الحرص في طريقة من الطرق المختلف فيها فيما لم يعلم من الشرعيّات كطريقة سؤال أهل الذِّكر وكطريقة الاجتهاد والقياس ، أو المراد الحرص في طلب الدنيا .

وفي بعض النسخ : «شرَّة» بكسر المعجمة وشدّ المهملة والتاء ، وهي الرغبة(2) في العبادة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في الرابع والأربعين .(3)

(وَفَتْرَةٌ) ؛ بفتح الفاء وسكون المثنّاة ومهملة(4) ، مصدر فتر الماء - كنصر(5) - : إذا كان بين الحرارة والبرودة . والمراد هنا الاقتصاد في العمل ، أو المراد النفرة عن الطرق المخالفة لطريقته المرغوبة له ، أو المراد الزهد في الدنيا ، أو المراد الضعف في العبادة ، موافقا لما مرّ في سابع الباب من قوله : و«إن قلّ» .(6)

(فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلى سُنَّةٍ) . «إلى» هنا بمعنى «مع» كقوله تعالى : «إِلَى الْمَرَافِقِ»(7) ، والظرف حينئذٍ مستقرّ خبر «كان» أي منضمّة إلى سنّة . ومرّ بيان السنّة في شرح عنوان الباب. .

ص: 592


1- في الكافي المطبوع : «شِرَّة» بكسر الشين وتشديد الراء والتاء .
2- في «ج ، د» : «والمراد الحرص في طلب الدنيا كما يكون في زمان الغفلة عن عاقبة الدنيا ، وفي بعض النسخ (شرة) بكسر المعجمة وشدّ المهملة والتاء وهي النشاط ، والمراد هنا النية القوية عند الشروع» بدل قوله : «والمراد الإفراط في العمل» إلى هنا .
3- أي الحديث 3 من باب (بدون العنوان) ورقم الباب 44 .
4- في «أ» : «المثناة فوق والمهملة» بدل : «المثناة ومهملة» .
5- في «ج ، د» : «فتر كنصر وضرب» بدل : «فتر الماء كنصر» .
6- في «د» : «إذا سكن يعد مدّة . والمراد هنا ترك الحرص في طلب الدنيا ، كما يكون عند موت الأحبّة ، أو المراد ضعف النيّة ، كما يكون في انتهاء العبادة» بدل : «إذا كان بين الحرارة» إلى آخره .
7- المائدة (5) : 6 .

(فَقَدِ اهْتَدى) أي إلى صراط مستقيم ، كما في سورة البقرة : «وَاللّه ُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)في «ج ، د» : + «وطريقة الصوفية المدّعين للمكاشفة» .(2) ، وهو مضمون شواهد الكتاب الآمرة بسؤال أهل الذِّكر الناهية عن القول على اللّه بغير علم .

(وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلى بِدْعَةٍ) أي منضمّة إلى بدعة هي ضدّ السنّة كطريقة أهل الاجتهاد والقياس .(2)

(فَقَدْ غَوى) ؛ كرمى ، أي ضلَّ عن الصراط المستقيم ؛ إذ خالف محكمات الكتاب .

وإنّما ذكر قسمي الفترة ولم يتعرّض للشره للإشارة إلى أنّ الشره بجميع أقسامه غواية ، أو لم يتعرّض للشره بأن يقول : فمن كان شرهه إلى سنّة فقد اهتدى ، ومَن كان شرهه إلى بدعة فقد غوى للإشارة إلى أنّ الغالب في الإنسان أنّ شرهه في طريقة باعث له على النفرة عمّا يضادّها ، دون العكس .

وأمّا على نسخة كسر المعجمة وشدّ المهملة فلعلّ ترك ذكر قسميها لأنّ قوله : «فمن كانت» لدفع توهّم أنّ كلّ ضعف في العبادة غواية ، ولا يتوهّم مثل هذا في الشرّة .(3)

سألني بعض علماء ما وراء النهر من المخالفين بمحضر جمع منّا ومنهم عن قوله تعالى : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(4) ، قال : ظاهره يوافق مذهبنا من أنّه يجب ابتداء الغسل من رؤوس الأصابع وانتهاؤه إلى المرافق ، فما وجه مذهب الشيعة من الغسل من المرافق إلى الأصابع ؟

قلت : ما ذكرت من كون ظاهره موافقا لكم مبنيّ على كون الظرف لغوا متعلّقا ب- «اغسلوا» بدون تضمين «اغسلوا» معنى الضمّ ونحوه ، وهو وإن كان أظهر لفظا ؛ لعدم .

ص: 593


1- البقرة
2- : 213 .
3- في «ج ، د» : «ولم يتعرّض لقسمي الشره للإشعار بأنّه غواية بقسميه أو لأنّهما يعلمان من ذكر قسمي الفترة بطريق أولى» بدل : «وإنّما ذكر قسمي الفترة» إلى هنا .
4- المائدة (5) : 6 .

الحاجة معه إلى تقدير متعلّق الظرف ولا تضمين ، لكنّه باطل معنى كما نقله ابن هشام منكم في مغني اللبيب عن بعض النحاة ؛ لأنّ ما قبل الغاية لابدّ أن يتكرّر قبل الوصول إليها ويتّصل بها ؛ تقول : ضربته إلى أن مات ، ولا يجوز : قتلته إلى أن مات ، ولا ركبت السفينة إلى مكّة . وغسل اليد ليس كذلك ؛ لأنّ اليد اسم إمّا لجميعٍ أحدُ طرفيه رؤوس الأصابع ، والآخر مفصل المرافق أو المناكب(1) ، وهذا لا يتكرّر غسله أو لا يقع أصلاً ، وإمّا لما بينه وبين المرافق فاصلة وهو الكفّ فقط ، أو الأصابع فقط ، وهذا لا يتكرّر غسله ولا يتّصل بالمرافق ، وقد صحّ عند الشيعة النقل بطريق أهل البيت أنّ الابتداء من المرافق واجب .

فسكت وأظهر القبول .

ثمّ قلت له : الأمر في مثل هذا سهل بعد العلم بمن يجوز أخذ تفسير القرآن والأحكام عنه ومَن لا يجوز ، فالأهمّ طلب الحقّ فيه . انتهى .

ثمّ إنّه أظهر بعض من كان في المجلس من أهل ما وراء النهر بعد ذلك التنبّه للحقّ وقال : كنت أسمع أنّكم لا تتّبعون القرآن ، فذكرتُ له حججا فتبرّأ من أئمّة الضلالة ومجتهديهم .

إن قلت : يستعمل غسل الشيء في غسل جزئه ، وعلى هذا يتكرّر غسل اليد إلى المرافق ، ونظيره : غسلت زيدا من رأسه إلى قدمه .

قلت : هو مجاز يحتاج إلى قرينة ، وإلاّ لم يدلّ قوله : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» على وجوب غسل جميع الوجه .

إن قلت : قرينته رجحان كون الظرف لغوا بدون تضمين .

قلت : هذا الرجحان لا يصلح لترجيح مذهبكم على مذهبنا كما هو مدّعاكم هنا ، بل ولا يصلح للمعارضة أيضا ؛ لشيوع استعمال الظرف المستقرّ في مثله كما نذكر أمثلته بُعَيدَ هذا ، وعلى تقدير تسليم صلاحيته للمعارضة نقول : الرجحان لإرادة جميع اليد ؛ .

ص: 594


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 533 .

ليوافق قوله : «وجوهكم» ؛ لوجوب إرادة الجميع فيه وليخالف ما خالفه بدخول الباء من قوله : «بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» .

إن قلت : فبِمَ تعلّقت «إلى» ؟ وما ظاهر الآية ؟

قلت : إمّا أن تتعلّق بانضمام مقدّر والظرف حينئذٍ مستقرّ حال مقيّدة عن «أيديكم» ، أو باغسلوا بتضمينه معنى الضمّ ، ونظائره كثيرة ، كقوله تعالى في سورة آل عمران حكايةً عن عيسى : «مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللّه ِ»(1)النساء (2) : 2 .(3) ، وفي سورة هود : «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ»(4) ، وفي سورة النساء : «لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ»(3) ، فظاهر الآية أنّ المرافق خارجة عن المراد باليد هنا ، وأنّه يجب غسل المرافق أصالة لا من باب المقدّمة ، وأنّه يجب ابتداء الغسل من المرافق ؛ لأنّ الضميمة تابعة لما تنضمّ إليه ، ألا ترى أنّ نصرة اللّه مقدّمة على نصرة الرسول ، ولذا قال الحواريّون في جواب(4) عيسى : «نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه ِ»(5) وقد أساؤوا في هذا الجواب ، كما في «كتاب الروضة» في حديث نوح صلّى اللّه عليه يوم القيامة(6) ، وأصل قوّة المخاطبين مقدّمة على ما زيد ، وأكل الرجل ماله مقدّم على أكله مال اليتامى ، ففيه نهي عمّا هو الواقع المتعارف بينهم ، وإن دلّ الدليل من الخارج على أنّ العكس أيضا حرام بطريقٍ أولى ، وفائدة التقييد بقوله : «إلى أموالكم» تجويز أكلهم إيّاها في الجملة لا كسائر أموال أنفسهم ، كما في قوله تعالى : «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(7) ، ونظيره التقييد في قوله في سورة النساء : «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْما»(8) ، وكقولهم : فلان وُلّي الكوفة إلى البصرة ، وفلان فعل كذا إلى ما فعله ، وقال امرؤ القيس : .

ص: 595


1- آل عمران
2- في «ج» : + «حديث» .
3- : 52 .
4- هود (11) : 52 .
5- آل عمران (3) : 52 ؛ الصف (61) : 14 .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
7- النساء (4) : 6 .
8- النساء (4) : 10 .

له كَفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَه النَّدى *** إلى حارِكٍ مثلِ الرِّتَاجِ المُضَبَّبِ(1) .(2)

أي منضمّا إلى حاركٍ .

وقال النابغة الجَعْدي :

ولوحُ ذراعينِ في بركة *** إلى جُؤْجُوءٍ رَهَّلَ المَنْكِبَ(3)

وهذا أكثر من أن يُحتاج إلى الإطناب فيه .

وهذا الاحتمال هو المراد لمن قال : إنّ «إلى» هنا بمعنى «مع» ، بل يحتمل أن ينزّل عليه ما يجيء في «كتاب الطهارة» في خامس الثامن عشر(4) من قوله عليه السلام : «إنّما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق» .

وقال نجم الدِّين الرضيّ رحمه الله :

في [قوله تعالى(5)] «إِلَى أَمْوَالِكُمْ» ، والتحقيق أنّها بمعنى الانتهاء ، أي تضيفونها(6) إلى أموالكم ، وكذا قوله : «إِلَى الْمَرَافِقِ» أي مضافة إلى المرافق ، والذود إلى الذود إبل ، أي مضافة إلى الذود ، وقوله :

وأنتِ التي حبّبتِ شغبا إلى بدا *** إلي ، وأوطاني بلاد سواهما(7) .

ص: 596


1- الدعص : كثيب : الرمل ، شبّه به كفل فرسه ، والحارك : رأس الكتف ، والرتاج : الباب العظيم ، وضبب الباب : جعل فيه ضبة ، وهي حديدة أو خشبة يضبب بها الباب .
2- رسائل المرتضى ، ج 1 ، ص 214 ، حكم غسل اليدين في الوضوء ؛ تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 57 ، باب صفة الوضوء ؛ التبيان ، ج 3 ، ص 450 ؛ مجمع البيان ، ج 3 ، ص 284 ؛ لسان العرب ، ج 1، ص 380 ، و ج 11 ، ص 601 ؛ تاج العروس ، ج 1 ، ص 490 .
3- تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 57 ؛ التبيان ، ج 3 ، ص 451 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 1 ، ص 156 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 156 (حمد) ؛ و ج 15 ، ص 167 (فيا) .
4- أي الحديث 5 من باب حدّ الوجه الذي يغسل .
5- ما بين المعقوفين من المصدر .
6- في المصدر : «تضمونها» .
7- شغب : ضيعة خلف وادي القرى كانت للزهري ، وبدأ واد قرب إيلة من ساحل البحر ، وقيل : بوادي القرى . وقيل : بوادي عذرة قرب الشام. معجم البلدان ، ج 1 ، ص 356 (بدا) ؛ و ج 3 ، ص 352 . والبيت نسبه لجميل في تفسير القرطبي ، ج 9 ، ص 267 ؛ وحكاه عن بعضم في معجم البلدان ، ج 1 ، ص 357 ؛ ونسبه لكثير عزة في وفياتْْالأعيان ، ج 4 ، ص 179 ؛ وكذلك في معجم ما اسعجم ، ج 1 ، ص 230 ؛ ولسان العرب ، ج 14 ، ص 68 (بدا) ؛ وتاج العروس ، ج 2 ، ص 121 (شغب) .

أي مضافا إلى بدا .(1) انتهى .

وقال الجوهري : «الذود من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر ، وفي المثل : الذود إلى الذود إبل ، قولهم : إلى بمعنى مع ؛ أي إذا جمعت القليل مع القليل صار كثيرا»(2) انتهى .

وأمّا أن تتعلّق بانتهاء مقدّر والظرف مستقرّ حال موضحة هي قرينة المراد من اللفظ المشترك وهو أيديكم ، فظاهر الآية أنّ غسل المرافق من باب المقدّمة ، وهي مجملة بالنسبة إلى ما يجب ابتداء الغسل منه ، وهذا الاحتمال هو المراد لمن قال : إنّ «إلى» هنا لانتهاء المغسول لا انتهاء الغسل ، والاحتمال الأوّل أظهر لشيوع نظائره في الاستعمال إذا كان الظرف مستقرّا ، وأنّ التأسيس أظهر من التأكيد لكن يبعده الموافقة لقوله : «إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(3) ، ونظيره قوله : «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»(4) ، إلاّ أن يُقال : العدول عن الظاهر في موضع لدليل لا يوجب اطّراده في نظائره .

ويؤيّد ذلك أنّ الوضع الطبيعي مع قطع النظر عن خطاب الشارع في مسح الرجل أن يكون من الأصابع ، وفي غسل اليد أن يكون من المرفق ، كما أنّه في غسل الوجه أن يكون من قصاص الشعر ، والعلم عند اللّه وأهل الذِّكر عليهم السلام .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ سَلَمَةَ) ؛ بالمهملة واللام المفتوحتين . (بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : كُلُّ مَنْ تَعَدَّى السُّنَّةَ) . مضى معنى السنّة في شرح عنوان الباب . .

ص: 597


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 272 .
2- الصحاح للجوهري ، ج 2 ، ص 471 (ذود) .
3- المائدة (5) : 6 .
4- الإسراء (17) : 78 .

(رُدَّ) ؛ بصيغة المجهول الماضي من المضاعف من باب نصر ، ويحتمل أن يكون بصيغة المصدر منه ؛ أي مردود ، كما فيما يجيء في سابع عشر «باب شراء الرقيق» في «كتاب المعيشة» من قوله : «وكلّ شرطٍ خَالَفَ كتابَ اللّه فهو رَدٌّ» .

(إِلَى السُّنَّةِ) . الظرف متعلّق بردّ ؛ أي يجب عليه إرجاع نفسه إلى السنّة ، أو يجب على الناس إرجاعه إلى السنّة . ويحتمل كون «ردٍ» بصيغة الصفة المشبهة من الناقص ، أصله «ردي» ككتف اُعلّ إعلالَ غاز ، يُقال : رجل ردٍ من باب علم ، أي هالك ، ويُقال : ردي فلان من باب ضرب ، أي ذهب وردي ، في البئر من باب ضرب وعلم ، أي سقط كتردّى ؛ فيكون قوله : «إلى السنّة» كلاما برأسه ، ويكون الظرف متعلّقا بمحذوف ؛ أي توجّهوا إلى السنّة وخذوا بها ، ونظيره ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» عن أبي الحسن موسى عليه السلام : «لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدريّة ، ولا إلى الزيديّة ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ إليّ» .(1)

وروى البخاري ومسلم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» .(2)

الثاني عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، قَالَ:) أي أبو عبداللّه عليه السلام وذلك لأنّ الوسائط معصومون .

(قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : السُّنَّةُ سُنَّتَانِ) أي ما سنّه اللّه تعالى لعباده على قسمين .

(سُنَّةٌ فِي فَرِيضَةٍ) . المراد بالفريضة ما فرضه اللّه تعالى ، كاتّباع الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ قبل اتّباع الآيات المتشابهات ، وكالصلاة في قوله : «أَقِمْ الصَّلاَةَ» .(3) .

ص: 598


1- وهو الحديث 7 من باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الامامة .
2- صحيح بخاري ، ج 3 ، ص 167 ، كتاب الصلح ؛ صحيح مسلم ، ج 5 ، ص 132 ، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الاُمور .
3- الإسراء (17) : 78 ؛ لقمان (31) : 17 .

(الاْءَخْذُ بِهَا) أي بالسنّة في الفريضة . والمراد بالأخذ بها هاهنا التمسّك بها ورعاية حدودها .

(هُدًى) ؛ بضمّ الهاء وفتح الدال والقصر : الرشاد .

(وَتَرْكُهَا) أي ترك السنّة في الفريضة .

(ضَلاَلَةٌ) ، هي أشدّ الذنب ، وضدّها الهدى .

(وَسُنَّةٌ فِي غَيْرِ فَرِيضَةٍ ) أي في غير ما فرضه اللّه ، وذلك كالمندوبات ، نحو : «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ»(1)في الكافي المطبوع : «خطيئةٍ» بالجر .(2) ، ونحو : «فَكَاتِبُوهُمْ»(3) ، وكالآداب ، نحو : كلّ ممّا يليك ، وكالإرشاد ، نحو : «وَاسْتَشْهِدُوا»(4) .

(الاْءَخْذُ بِهَا فَضِيلَةٌ) أي كمال للمكلّف .

(وَتَرْكُهَا إِلى غَيْرِ خَطِيئَةٌ) .(4) إن كان «غير» منوّنا أو مقطوعا عن الإضافة بغير تنوين مضموما فالظرف لغو متعلّق بتركها بتضمين معنى التوجّه ، و«خطيئة» خبر المبتدأ ، ومعنى الترك إلى الغير الترك بالكلّيّة ، وإن كان مضافا إلى «خطيئة» فإلى بمعنى «مع» والظرف مستقرّ خبر المبتدأ ، والخطيئة على الأوّلين بمعنى التخطّي عن المرغوب ، وعلى الأخير بمعنى الذنب ، ويؤيّد الأوّلين رواية البرقي في المحاسن «إلى غيرها» .(5)

تَمَّ كِتابُ الْعَقْلِ ، وَالْحَمْدُ للّه ِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَتْلُوهُ كِتَابُ التَّوْحِيدِ .(6) .

ص: 599


1- النساء
2- : 3 .
3- النور (24) : 33 .
4- البقرة (2) : 282 .
5- المحاسن للبرقي ، ج 1 ، ص 224 ، باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنّة ، ح 140 .
6- في الكافي المطبوع : «تمّ كتاب العلم ، والحمد للّه رب العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين» .

ص: 600

فهرس المطالب

فهرس المطالب

تصدير............... 5

مقدّمة التحقيق............... 7

1. حياته............... 7

2. خصوصيّاته العلميّة والروحيّة............... 13

3. آراء معاصريه فيه............... 21

4. آثاره العلميّة............... 26

5. الردود على مؤلّفات ملاّ خليل............... 35

6. مخطوطاته............... 38

7. اُسرته............... 39

8. الأوضاع العلميّة والثقافيّة في قزوين في زمن ملاّ خليل............... 41

9. ملاّ خليل والأخباريّون............... 45

10. المصادر............... 49

11. الشافي في شرح الكافي............... 51

1/11. مخطوطات الشافي المهمّة............... 52

2/11. النسخ المعتمدة............... 57

3/11. عملنا في الكتاب............... 59

كلمة شكر وتقدير............... 61

ص: 601

الشافي في شرح الكافي

خطبة الكافي............... 79

باب العقل والجهل............... 163

باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه............... 284

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء............... 291

باب أصناف الناس............... 302

باب ثواب العالم والمتعلّم............... 309

باب صفة العلماء............... 320

باب حقّ العالم............... 332

باب فقد العلماء............... 334

باب مجالسة العلماء وصحبتهم............... 340

باب سوءال العالم وتذاكره............... 346

باب بذل العلم............... 354

باب النهي عن القول بغير علم............... 357

باب من عمل بغير علم............... 371

باب استعمال العلم............... 375

باب المستأكل بعلمه والمباهي به............... 387

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه............... 394

باب النّوادر............... 399

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب............... 435

باب التقليد............... 447

باب البدع والرأي والمقاييس............... 453

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ، وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام و.................. 509

باب اختلاف الحديث............... 536

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب............... 581

ص: 602

المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: القزویني، خلیل بن الغازي، 1001 -1089ق.، توشیحگر

عنوان العقد: الکافی .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الشافي در شرح اصول الکافي/ خلیل القزویني؛ تحقیق محمدحسین الدرایتي؛ [برای] مكتبة ومتحف ومركز التوثيق التابع للمجلس الإسلامي.

تفاصيل النشر: قم: موسسة دارالحدیث العلمیة والثقافیة، مرکز للطباعه والنشر، 1430ق -= 1388 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 185

الشروح والحواشی علی الکافی؛ 1

مجموعه آثار الموتمر الدولی الذکری الشیخ ثقه الاسلام الکلینی؛ 1

شابک : دوره: 978-964-493-399-8 ؛ 70000 ریال: ج.1: 978-964-493-400-1

لسان : العربية.

ملحوظة : تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

معرف المضافة: درایتی، محمدحسین، 1343 -

معرف المضافة: کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی. شرح

معرف المضافة: ایران. مجلس شورای اسلامی. کتابخانه، موزه و مرکز اسناد

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP129/ک8ک20216 1388

تصنيف ديوي: 297/212

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1852865

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله المعصومين .

أمّا بعد ؛

فيقول الفقير إلى الغنيّ المغني، خليل بن الغازي القزويني، عُفِيَ عنه وعن والديه وإخوانه المؤمنين : قد شرعتُ في شرح كتاب التوحيد من جملة الشرح المسمّى ب«الشافي» بتوفيق اللّه تعالى في حرم اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام _ زاده اللّه تعالى تعظيما _ في سنة سبع وخمسين وألف هجريّة حامدا مصلّيا مسلِّما .

كِتَابُ التَّوْحِيدِ

اشارة

هذا الكتاب الثاني من كتب الكافي لثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي الكليني رحمه اللّه تعالى، وهي ثلاثة وثلاثون كتابا، أو أربعة وثلاثون إن عدّ كتاب الروضة جزءا من الكافي، وهو مشتمل على خمسة وثلاثين بابا :

الأوّل : باب حدوث العالم وإثبات المحدث .

الثاني : باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء .

الثالث : باب أنّه تعالى لا يُعرف إلاّ به .

الرابع : باب أدنى المعرفة .

الخامس : باب المعبود .

السادس : باب الكون والمكان .

ص: 5

السابع : باب النسبة .

الثامن : باب النهي عن الكلام في الكيفيّة .

التاسع : باب في إبطال الرؤية .

العاشر : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى .

الحادي عشر : باب النهي عن الجسم والصورة .

الثاني عشر : باب صفات الذات .

الثالث عشر : باب آخَرُ وهو(1) من الباب الأوّل .

الرابع عشر : باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل .

الخامس عشر : باب حدوث الأسماء .

السادس عشر : باب معاني الأسماء واشتقاقها .

السابع عشر : باب آخَرُ وهو من الباب الأوّل ، إلاّ أنّ فيه زيادةً، وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه تعالى وأسماء المخلوقين .

الثامن عشر : باب تأويل الصمد .

التاسع عشر : باب الحركة والانتقال .

العشرون : باب العرش والكرسيّ .

الحادي والعشرون : باب الروح .

الثاني والعشرون : باب جوامع التوحيد .

الثالث والعشرون : باب النوادر .

الرابع والعشرون : باب البداء .

الخامس والعشرون : باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .

السادس والعشرون : باب المشيئة والإرادة . .

ص: 6


1- في «ج» : - «هو» .

السابع والعشرون : باب الابتلاء والاختبار .

الثامن والعشرون : باب السعادة والشقاء .

التاسع والعشرون : باب الخير والشرّ .

الثلاثون : باب الجبر والقدر، والأمر بين الأمرين .

الحادي والثلاثون : باب الاستطاعة .

الثاني والثلاثون : باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .

الثالث والثلاثون : باب [اختلاف الحجّة على عباده].(1)

الرابع والثلاثون : باب حجج اللّه على خلقه .

الخامس والثلاثون : باب الهداية أنّها من اللّه .

اعلم أنّ ما نذكره في مقام تفسير متشابهات القرآن أو متشابهات الأحاديث إبداءُ احتمالٍ، أو نقلٌ ربّما لم يصرّح فيه بالمنقول عنه .

والمراد بكتاب التوحيد كتاب تذكر فيه المسائل المتعلّقة بالتوحيد ، أي بالإقرار بأن لا إله إلاّ اللّه . وهذه المسائل على أربعة أقسام ؛ لأنّها إمّا متعلّقة بالجزء الوجودي ،2للتوحيد، وهو الإقرار بوجود اللّه تعالى ؛ وإمّا متعلّقة بجزئه العدمي، وهو الإقرار بأنّ اللّه واحد، أي لا شريك له في الاُلوهيّة. وكلّ منهما إمّا متعلّقة بأحد الجزءين صريحا، وإمّا متعلّقة به تأويلاً، بأن يكون المقصود فيها بيان لازمه، أو إبطال منافيه .

و«التوحيد» مصدر وحّده: إذا نسبه إلى الوحدة، كعدّله تعديلاً: إذا نسبه إلى العدالة ؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى واحد أزلاً وأبدا قبل وجود الموحِّدين .

ولفظ «اللّه » مشتقّ من «إله» على وزن فِعال بمعنى فاعل، من ألَهَهُم _ كنَصَرَ _ أي استحقّ عبادتهم، اُدخل عليه حرف التعريف للعهد، وحذفت الهمزة، فهو جارٍ مجرى العَلَم وليس علما، ومعناه: الذي يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته ، .

ص: 7


1- ما بين المعقوفين من الكافي المطبوع .

ويجيء بيانه في ثالث «باب المعبود »(1).

روى ابن بابويه في كتابه في التوحيد في «باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد »:

أنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ اللّه واحد ؟ فحمل الناس عليه، وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثمّ قال : «يا أعرابي، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه .

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه تعالى كفّر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه، وجلَّ ربّنا عن ذلك وتعالى .

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو _ عزّ وجلّ _ واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا ؛ وقول القائل: إنّه _ عزّ وجلّ _ أحديُّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ» . انتهى .(2)

قوله : «نريدهُ من القوم» إشارة إلى أنّ للإقرار بأنّ اللّه واحد جزءين كلاهما واجب :

الأوّل : الإقرار به بظاهر القلب، وهو مشترك بين الفرقة الناجية وغيرهم من أهل القبلة .

الثاني : الإقرار به بباطن القلب ، أي أن لا يجحد لازما من لوازم وحدته تعالى، فإنّ منكر لازم الشيء منكرٌ له في الحقيقة، ولا سيّما إذا كان اللزوم واضحا .

وعليه الحديث القدسي : «لا إله إلاّ اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن [من [عذابي » .

ص: 8


1- أي في الحديث 3 من باب المعبود .
2- التوحيد ، ص 83 ، باب معنى الواحد و التوحيد و الموحّد ، ح 3 ؛ الخصال ، ص 2 ، باب الواحد ، ح 1 ؛ معاني الأخبار ، ص 5 ، باب معنى الواحد ، ح 2 .

حيث قال الرضا عليه السلام : «بشروطها، وأنا من شروطها ». رواه ابن بابويه في العيون في آخر باب ما حدّث به الرضا عليه السلام في مربعة نيسابور، إلى آخره .(1)

وقوله : «باب الأعداد »، هو أن يقول في عدّ الدراهم حين الإقباض مثلاً: واحد، اثنان، ثلاثة، وهكذا ، وهذا يستلزم أن يكون للّه ثانٍ في الاُلوهيّة التي هي أخصّ صفاته .

وقوله : «النوع من الجنس »، المراد القسم المتوحّد من كلّي يتشارك أفراده في معنى ، أي في موجود في نفسه في الخارج، سواء كان المعنى تمام الماهيّة، أم بعضها، أم خارجا، كما تقول: زيد واحد من الإنسان، أي لا يشاركه أبناء جنسه في خصائصه، كعلمه وكرمه وشجاعته، وكذا قولك: الإنسان واحد من الحيوان، أو من الماشي .

والتشبيه: القول بأنّ غيره شريك له في معنى، أي في موجود في نفسه في الخارج، سواء كان عرضيّا كالبياض، أم ذاتيّا .

والانقسام في الوجود الانقسام إلى الأجزاء المنفصلة، كانقسام البيت إلى الجدران والسقف ونحو ذلك .

والانقسام في العقل الانقسام إلى الأجزاء المحمولة، أو الأجزاء المقداريّة المتّصلة الغير المتعيّنة في ذهن من يقسمه، كانقسام الجسم المفرد إلى نصف ونصف .

والانقسام في الوهم الانقسام إلى الأجزاء المتّصلة المقداريّة مطلقا، أو المتعيّنة كانقسام الجسم المفرد إلى هذا النصف وذاك النصف . .

ص: 9


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 143 ، باب ما حدّث به الرضا عليه السلام فى مربعة نيسابور وهو يريد قصد المأمون ، ذيل ح 4 . وما بين المعقوفين فى المصدر .

ص: 10

الباب الأوّل :باب حدوث العالم وإثبات المحدث

الباب الأوّل بَابُ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الْمُحْدِثِ

فيه ستّة أحاديث .

في هذا الباب بيان الجزء الوجودي للتوحيد صريحا، والمضاف مقدّر هنا ، أي باب بيان حدوث.

والمراد بالحدوث الحدوث الزماني، فإنّ إطلاق الحدوث على الحدوث الذاتي _ أي على الإمكان الذاتي _ مجرّد اصطلاح من الفلاسفة .(1)

و«العالَم» بفتح اللام بمعنى ما يعلم به، كالخاتم بمعنى ما يختم به . والمراد به النظام المشاهد بالنظر في السماوات والأرضين وما بينهما ، وبعبارة اُخرى: الأجسام وأعراضها التي وجودها بقول: «كُن» أي بلا آلة ولا حركة لفاعلها، كالجريان للماء، والحرارة للنار، والنموّ للشجر ونحو ذلك . والمراد بحدوثه: حدوث كلّ جزء وجزئي منه بلا مادّة أو مثال قديمين، شخصا أو نوعا .

وقوله : «وإثبات » عطف على «حدوث»، وإضافته إلى «المحدث» بكسر الدال إضافة إلى الفاعل ، أي وبيان أنّ مُحدِثَهُ مثبِتُهُ، وهو مأخوذ من أثبته: إذا سخّره، كأنّه شدّه بالثبات بالكسر، وهو سَيْر يشدّ به الرحل .(2) .

ص: 11


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 374 عن الحكماء .
2- لسان العرب ، ج 2 ، ص 19 (ثبت) .

فالمراد أنّ محدثه أثبت كلّ جزء وجزئي منه في زمان معيّن، دون ما تقدّمه من الأزمنة، ودون ما تأخّره، أي مع صحّة عدمه فيه، وصحّة وجوده فيما تقدّم، وفيما تأخّر، وفي مكان معيّن دون ما عداه من الأمكنة ؛ أي مع صحّة كونه فيما عداه، سواء كان تعيّن المكان شخصيّا _ كما في الساكن في مكان خاصّ دون مكان آخر _ أم نوعيّا، كما في المتحرّك في مسير خاصّ دون مسير آخر ، والمراد بصحّة الشيء حصول علّته التامّة.

أو مأخوذ من أثبته: إذا علمه حقّ العلم ؛ فالمراد أنّ محدثه حكيم. والمآل واحد .

وفي هذا الباب إبطال لقول مَن قال بقدم العالم .(1) ولقول من قال : إنّ الزمان مقدار حركة الفلك .(2) ولقول من قال : اختصّ حدوث العالم بوقته؛ إذ لا وقت قبله .(3) ولقول من قال : إنّه إنّما يتكامل شروط وجود الحادث حين حدوثه، لا قبله؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .(4) ولقول من قال : إنّ اللّه تعالى غير متّصف بالقدرة بمعنى صحّة الفعل والترك، بل إنّما يتّصف بالقدرة بمعنى إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل .(5) ولقول من قال : لكلّ فلك نفس تحرّكه، ويتجدّد لها بكلّ دورة كمال، وتشبه بالبارئ تعالى .(6) ولقول من قال : إنّ لكلّ جسم مكانا طبيعيّا .(7)

إن قلت : لِمَ لم يقل: باب وجود صانع العالم، وهو المتعارف بين المتكلِّمين ؟

قلت : للإشارة إلى أنّه كما لا يمكن الوصول إلى معرفة اللّه إلاّ بمعرفة أنّ للعالم .

ص: 12


1- اُنظر: شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 46 ؛ شرح المواقف ، ج 7 ، ص 229 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 134 .
2- اُنظر: شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 177 ؛ المعتبر في الحكمة ، ج 2 ، ص 94 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 732 ؛ الأسرار الخفية ، ص 313 .
3- اُنظر كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 264 ، تحقيق الآملي ، و ص 182 بتحقيق الزنجاني .
4- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 264 ، ، تحقيق الآملي ، و ص 182 ، بتحقيق الزنجاني .
5- المواقف للإيجي، ج 3 ، ص 74 ، و ص 79 و 121 ؛ شرح المواقف، ج 8 ، ص 49 و ص 56. وانظر الحكمة المتعالية، ج 8 ، ص 307، الموقف الرابع في قدرته.
6- حكاه عن القدماء في الملل والنحل ، ج 2 ، ص 194 ، وحكاه في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 35 عن الإشارات .
7- المواقف للإيجي ، ج 2 ، ص 389 .

صانعاً، لا يمكن الوصول إلى معرفة صانع العالم إلاّ بمعرفة جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، وأنّ معلولاته تعالى تخلّفَتْ عنه زمانا، مع أنّه علّة تامّة لأوّلها ، فحدوث العالم تعبير عن هذا التخلّف؛ لأنّهما متساوقان ، ومعنى الصانع هنا يساوق معنى المحدث المثبت .

بيان ذلك : أنّ معنى لفظة «اللّه » من يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته . ولا شكّ أنّ هذا الاستحقاق لا يتحقّق في أحد إلاّ إذا كان صانع العالم بمعنى الفاعل له بالقدرة، بمعنى صحّة الفعل والترك ؛ أي إمكان صدور كلّ منهما عنه إمكانا مقابلاً للوجوب السابق والامتناع السابق، والحاصل استجماعه للعلّة التامّة للفعل، وللعلّة التامّة للترك، فإنّها لو كانت بالمعنى الآخر فقط _ وهو كونه بحيث إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل _ لم يوجب استحقاق مدح فضلاً عن العبادة .

وهذا مبنيّ على جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، فمعنى المصنوع المفعولُ الغير الواجب بالوجوب السابق ؛ أي الغير اللازم عقلاً لعلّته التامّة، وأثر الصانع بهذا المعنى لا يكون إلاّ حادثا زمانا بديهةً واتّفاقا من المسلمين والزنادقة ،(1) حتّى أنّه قيل : «إنّ النزاع بين الفريقين في قدرة واجب الوجود بالمعنى المذكور وعدمها عين النزاع في حدوث العالم وقدمه » انتهى .(2) وليس معنى صانع العالم واجبَ الوجود، فمن استدلّ على إثبات الصانع بما يدلّ على إثبات واجب الوجود فقط،(3) فقد وهم وخلط بين المقصود للمسلمين في هذا المقام، والمقصود للفلاسفة .

إن قلت : فيجب على المسلمين في مقام الاستدلال على وجود صانع العالم التعرّضُ لبيان جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ليتمّ مقصودهم، وهم لم يتعرّضوا له؛ إنّما استدلّوا بمُدَبَّريّة شيء من العالم كحركة الشمس والقمر على وجود صانع .

ص: 13


1- سيأتي توضيح كلمة «الزنادقة» من المصنف في شرح الحديث الأول .
2- في حاشية «أ» و «ج» : القائل الخفري في حاشية الهيات شرح التجريد (منه دام ظله) .
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 391 ، تحقيق الآملي ، و ص 305 ، تحقيق الزنجاني .

العالم ، والمدبّريّة لا تدلّ على المصنوعيّة بالمعنى الذي ذكرتم .

قلت : لا حاجة إلى التعرّض له، فإنّهم إنّما لم يتعرّضوا له اعتمادا على بداهة أنّ ما يجب معه معلوله بالوجوب السابق لا إيجاد له أصلاً، فإنّ العقل المتخلّص من المألوفات الوهميّة يعلم أنّه كما لا يتعلّق إيجاد بالواجب الوجود بالذات، لا يتعلّق إيجاد بالواجب الوجود بالغير وجوبا سابقا بعد وجود ذلك الغير ، فمقصودهم أنّ المُدبَّريّة تدلّ على المفعوليّة، والمفعوليّة تدلّ على المصنوعيّة بالمعنى الذي ذكرنا، المساوقِ للحدوث الزماني .

ومقصودهم من الاستدلال بالمدبّريّة على المفعوليّة إبطال أن يتوهّم أنّ أجزاء العالم واجبة الوجود لذاتها، أو أن يتوهّم أنّ ترتّب أجزاء العالم على عللها كلزوم الزوجيّة للأربعة في عدم تعلّق الإيجاد بها .

ومقصودهم من الاستدلال بالمفعوليّة على المصنوعيّة بيان ما يساوق الحدوث الزماني للعالم ، ولذا قالوا: كلُّ الناس يعرفون قبل التوجّه إلى التشكيكات الموسوسة أنّ الفعل كلّه محدَث، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً حديثا وقديما في حالة واحدة .(1)

وقد نَقَل ابن بابويه(2) دعوى بداهة جميع ذلك في كتابه في التوحيد عن الرضا عليه السلام في «باب مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي»(3) ويجيء في خامس باب جوامع التوحيد: «ولافتراق الصانع من المصنوع» مع شرحه .

ويظهر بذلك أنّه لو وجد في الممكنات جوهر مجرّد _ : عقل، أو نفس _ لكان حادثا .

ص: 14


1- في «ج» : «وحده» .
2- في حاشية «أ» : قوله : «وقد نقل» إلى آخره ، نقل الشارح _ قدّس سرّه _ موضع الحاجة في أوّل الثاني عشر . وقوله قدّس سرّه : «و يجيء في خامس» إلى آخره عطف على «وقد نقل» ومراده أنّ قوله : «ولافتراق الصانع من المصنوع» مذكور في تلك الخطبة مع شرحه ودالّ على ما هو المدّعى (منه ، مهدي) .
3- التوحيد ، ص 441 ، باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي متكلّم خراسان عند المأمون في التوحيد .

زمانا ، ويظهر بهذا أنّه لا حاجة في دلائل هذا الباب إلى التصريح بدلالتها على حدوث العالم .

إن قلت : لِمَ لم يجعل المسلمون مقصودهم في هذا المقام بيانَ وجود واجب الوجود حتّى يستدلّوا عليه بما اشتهر من أنّه لا شكّ في وجود موجود، فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلاّ استلزمه؛ لاستحالة الدور والتسلسل، ونحو ذلك من المناهج المذكورة في كتب المتكلّمين ؟(1) وقد قيل : إنّ هذه المناهج أخصر وأوثق وأشرف من الذي اعتبر فيه حدوث العالم، أو اعتبر فيه إمكانه بشرط الحدوث، أو اعتبر فيه الحركة ؛ انتهى .(2) وهذا يضعّف الدلائل الآتية في هذا الباب .

قلت : لأنّ بيان وجود واجب الوجود لا يكفي في بيان الجزء الوجودي للتوحيد؛ ردّا على الدهريّة ،(3) فإنّ استحقاق العبادة ليس لازما بيّنا لوجوب الوجود؛ لتجويز أن يكون واجب الوجود قدماء من العالم كما هو مذهب بعض الدهريّة ،(4) أو يكون من غير العالم ولا يكون فاعلاً مثبتا ؛ أي قديرا بمعنى من يصحّ منه الفعل والترك، سواء كان موجَبا محضا أم مختارا، بمعنى إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل فقط، كما هو مذهب بعضٍ آخَرَ من الدهريّة، حيث زعموا امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة؛(5) غافلين عن أنّه يستلزم عدم استحقاق المدح، فضلاً عن استحقاق العبادة له ، ثمّ فضلاً عن استحقاق عبادة كلّ من سواه له ، وزعموا أنّ حدوث العالم يستلزم تعطيل اللّه تعالى عن جوده؛(6) غافلين عن معنى الجواد في كلّ من إعطائه كبسط الرزق، ومنعه كالتقتير، .

ص: 15


1- حكاه عن الحكماء التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 57 .
2- في حاشية «أ» و «ج» : ذكر مضمونه الخفري في أول حاشية إلهيات الشرح الجديد للتجريد (منه) .
3- سيأتي توضيح الدهريّة في كلام المصنّف لاحقا .
4- حكاه عنهم السيد المرتضى في الملخّص في اُصول الدين ، ص 285 ؛ والعلاّمة في مناهج اليقين ، ص 346 ، وفي الطبعة الاُخرى ص 222 ؛ ومعارج الفهم ، ص 374 .
5- ذكره في معارج الفهم ، ص 281 بعنوان إشكال مع ردّه .
6- في حاشية «أ» : الزاعم ابن سينا في إلهيّات كتاب الشفاء وأتباعه (منه) .

وعن أنّ استكشاف سرّ قدر اللّه تعالى ليس في مقدور البشر ، وعن أنّ من يجب معه معلوله بالوجوب السابق لا جود(1) له في الإعطاء أيضا ، بل لا إيجاد له أصلاً كما بيّنّاه آنفا ؛ فزعمهم هذا فوق كلّ تعطيل .

ويدلّ على ما ذكرنا أنّ دلائل الكتاب والسنّة في هذا المقام ليس فيها شيء من هذه المناهج، والأخصريّةُ ونحوها لو سلّمت فإنّما ترجّح إذا كان المقصود بالاستدلالين واحدا، فليُذكَر بيان وجوب الوجود في باب بيان الصفات، فإنّه لازم بيّن لصانع العالم، فإنّه يجب أن يكون منزّها عن كلّ نقص ، والإمكان الذاتي رأس كلّ نقص .

إن قلت : لِمَ لا يصرّح في بعض دلائل هذا الباب بمصنوعيّة كلّ جزء من العالم، وإنّما يصرّح فيه بمصنوعيّة شيء من العالم للّه تعالى، كحركة الشمس والقمر، وكالموت والحياة وأمثال ذلك ممّا هو مذكور في الكتاب والسنّة ؟

قلت : لأنّه لا حاجة إلى التصريح؛ لظهور بطلان القول بأنّ بعض العالم مصنوع بالمعنى الذي ذكرنا، وبعضَه غير مصنوع ، ولذا لم يقل بالفرق أحد من الزنادقة ، وما صُرّح بمصنوعيّته من العالم في بعض الدلائل أمرٌ يكون المصنوعيّة فيه أظهرَ، فإنّما ذكر ليعلم مصنوعيّة الباقي بالاعتبار السهل التناول بعد فتح الباب .

الأوّل : (أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ) . هذه الفقرة من زيادة تلامذة المصنّف رحمه اللّه تعالى، كما مضى في أوّل كتاب العقل .

(حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورٍ ، قَالَ : قَالَ لِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ : كَانَ بِمِصْرَ زِنْدِيقٌ) ؛ بكسر الزاي وسكون النون وكسر المهملة وسكون الخاتمة والقاف، معرّب «زن دين»(2) أي مَنْ دينه كدين المرأة، أي سخيف . والمراد بالزنديق الدهري، أي القائل بأنّ الأجسام لا بَدْوَ لها، فليس لها خالق أي مخترع على سبيل الاختيار بلا مادّة سبقت، ولا8.

ص: 16


1- في «أ» : «لا وجود» .
2- القاموس المحيط، ج 3، ص 242؛ تاج العروس، ج 13، ص 201 (زنديق). وانظر فتح الباري، ج 12، ص 238.

احتذاء مثال .(1)

(يَبْلُغُهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام أَشْيَاءُ) . دالّةٌ على كمال علمه وجِدّه في نصرة الإيمان باللّه تعالى، وإبطال الزندقة .

(فَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ) . عدّي ب«إلى» لتضمين معنى التوجّه .

(لِيُنَاظِرَهُ) أي ليحتجّ عليه في نفي الخالق للأجسام، كما يشعر به قوله عليه السلام فيما بعد: «ليس لمن لا يعلم حجّة» إلى آخره .

(فَلَمْ يُصَادِفْهُ بِهَا) : بالمدينة (وَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ) أي أبا عبداللّه عليه السلام (خَارِجٌ) من المدينة (بِمَكَّةَ) . خبر بعد خبر، أي إنّه بمكّة الحالَ .

(فَخَرَجَ) من المدينة (إِلى مَكَّةَ وَنَحْنُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) أي في مكّة، والواو للحال .

(فَصَادَفَنَا) أي صادف الزنديق إيّانا (وَنَحْنُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي الطَّوَافِ). الواو للحال .

(وَكَانَ اسْمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ ، وَكُنْيَتَهُ) . الواو للحال .(2) (أَبُو عَبْدِ اللّه ِ ، فَضَرَبَ كَتِفَهُ) أي بكتفه .

(كَتِفَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) ليتكلّم عليه السلام معه، فيعرّفه اعتقادَه نفيَ الخالق، وعرف عليه السلام ذلك بدون تعريفه، فدرج عليه السلام في الكلام معه، وذكر له أنواعا ثلاثة من الكلام عليه :

النوع الأوّل: تنبيهه على أنّه منكر لما هو مركوز في عقل كلّ عاقلٍ ناظرٍ إذا خُلِّي وعقلَه؛ لكمال ظهور دلائله وكثرتها، وتسميته وتكنيته من أبويه مبنيّ على ذلك، كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود»(3) ولا يرد تسمية أبي طالب وعبد مناف بن قصيّ بعبد مناف، فإنّ منافا ليس مأخوذا فيه من اسم صنم، بل هو اسم لأخٍ لقُصيّ انتهت إليه رئاسة قريش بعد أخيه ، .

ص: 17


1- احتذى مثاله : اقتدى به. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 316 (هذا) .
2- في الحاشية «أ» : قوله : «الواو للحال» إنّما لم يجعلها عاطفة لأنّها لو كانت كذلك لوجب نصب «أبو عبد اللّه » لكونه حينئذٍ خبرا لكان (مهدي) .
3- نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 9 ، الخطبة 49 .

وأنّ عبدا ليس بمعنى عابد، وقد يُقال: إنّ اسم عبد مناف بن قصيّ كان منافا، فغيّره بعض الناس لمصلحة ، قال الفرزدق :

ورثتم قناة(1) الملك غير كلالة(1) *** عن ابني مناف(2): عبد شمس وهاشم(3)

وإنّما احتيج إلى هذا النوع لئلاّ يلزم بطلان قاعدة من قواعد الإسلام .

بيان ذلك: أنّ من قواعد الإسلام أنّ الاختلاف بين الناس _ أي اختلافا حقيقيّا مستقرّا _ لا يمكن رفعه إلاّ برسول وكتاب من اللّه تعالى، فيتوهّم الخصم ويقول: إنّ بيننا وبينكم هنا اختلافا حقيقيّا بعد نظر كلٍّ منّا ومنكم، وليس في شيء من دلائلكم على وجود الصانع تمسّك بقول رسول، ولا بكتاب من اللّه ، إمّا لاستلزامه الدور حقيقة، وذلك إذا توقّف العلم بالرسول والكتاب على العلم بوجود الصانع حقيقة ، وإمّا لإيهامه الدور ظاهرا، وذلك إذا توقّف ظاهرا لا حقيقةً.

فيجب أن يُجاب الخصم بأنّ الاختلاف هنا بيننا وبينكم ليس حقيقيّا مستقرّا، ونظيره قوله تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(4) ، فإنّه لمّا كان الإسلام ردَّ المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلى محكمات كتاب اللّه ، احتيج إلى قوله : «وَمَا اخْتَلَفَ» إلى آخره ، لدفع الاحتياج في رفع الاختلاف في مدلول محكمات الكتاب الناهية عن اتّباع الظنّ بالاجتهاد إلى محكمات اُخرى، وكتابٍ آخَرَ؛ لئلاّ يلزم الدور أو التسلسل . .

ص: 18


1- في حاشية «أ» : الكلالة من لا ولد له ولا والد، و ما لم يكن من النسب لحا ، أو من تكلل نسبه بنسبك كابن العمّ وشبهه ، أو الإخوة للاُمّ ، أو بنو العمّ الأباعد ، أو ما خلا الوالد والولد ، أو في من العصبة من ورث معه الإخوة للاُمّ . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 46 (كل) .
2- في حاشية «أ» : عبد مناف أبو هشام و عبد شمس ، والنسبة إليه منافي .
3- أحكام القرآن للجصّاص ، ج 2 ، ص 113 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 3 ، ص 270 ؛ مفردات غريب القرآن للراغب ، ص 438 ؛ الصحاح ، ج 5 ، ص 1811 (كلك) .
4- آل عمران (3) : 19 .

(فَقَالَ(1) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) للإشارة إلى النوع الأوّل : (مَا اسْمُكَ ؟ فَقَالَ : اسْمِي عَبْدُ الْمَلِكِ ، قَالَ : وَ مَا(2) كُنْيَتُكَ ؟ قَالَ : كُنْيَتِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَمَنْ هذَا الْمَلِكُ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ؟) يدلّ على أنّ اللام في «الملك» للعهد لا للجنس .

(أَمِنْ مُلُوكِ الاْءَرْضِ ) . الاستفهام هنا إنكاري ؛ أي أمن الملوك الساكنين في الأرض .

(أَمْ مِنْ مُلُوكِ السَّمَاءِ؟) . «أم» منقطعة بمعنى بل والهمزة؛ ففيه استفهام آخر إنكاري ؛ أي بل أ من الملوك الساكنين في السماء، وهذا على سبيل عدّ الأقسام الغير المحتملة عند المخاطب أيضا .

(وَأَخْبِرْنِي عَنِ ابْنِكَ) الذي قدّره أبواك أقدّراه أنّه على تقدير وجوده .

(عَبْدُ إِلهِ السَّمَاءِ) أي مستحقّ للعبادة ساكن في السماء .

(أَمْ عَبْدُ إِلهِ الاْءَرْضِ؟) أي مستحقّ للعبادة ساكن في الأرض .

(قُلْ مَا شِئْتَ) ؛ أي اختر ما شئت من الشقّين في كلّ سؤال .

(تُخْصَمْ) . مجزوم، وهو على لفظ المجهول من باب ضرب، وهو شاذّ في المغالَبة، والقياسُ ردّه إلى باب نصر ، يُقال : خاصمته أي جادلته، فخصمته أخصمه بالكسر، أي غلبت عليه في الجدل .(3)

والمعنى تَصِرْ مغلوبا مُلزَما؛ لظهور بطلان كلّ من الشقّين، فيثبت المطلوب، وهو أنّ نفسه عبد ملك مَن في السماء والأرض، وابنَه عبد إله مَن في السماء والأرض .

وقيل : أي تَخصِم نفسك،(4) كما سيجيء في حديث العالم الشامي ؛ انتهى . يعني ما في رابع أوّل «كتاب الحجّة» .(5) .

ص: 19


1- في الكافي المطبوع : + «له» .
2- في المطبوع : «فما» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1912 (خصم) .
4- في حاشية «أ» : القائل مولى محمّد أمين الإسترآبادي رحمه الله (منه سلمه اللّه ) . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 3 ، ص 7 بصورة احتمال واستبعده .
5- أي الحديث 4 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

(قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ) . هذا من كلام عليّ بن منصور .(1)

(فَقُلْتُ لِلزِّنْدِيقِ) لمّا بقي متحيّرا متأمّلاً : (أَمَا تَرُدُّ) ؛ بتشديد الدال، ومفعوله محذوف ؛ أي الجوابَ (عَلَيْهِ؟) .

(قَالَ) أي هشام، وهو أيضا من كلام عليّ بن منصور تكرارا للأوّل .

(فَقَبَّحَ قَوْلِي) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، أي نسب قولي إلى القبح، وهذا لأنّه لا ينبغي التعجيل على طالب الحقّ، المتأمّلِ لتحرّي الصواب في الجواب .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) أي للزنديق إمهالاً له في التفكّر وتحرّي الحقّ .(2)

(إِذَا فَرَغْتُ) ؛ بصيغة المتكلّم . (مِنَ الطَّوَافِ ، فَأْتِنَا . فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام أَتَاهُ الزِّنْدِيقُ ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَنَحْنُ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ) .

النوع الثاني: تنبيهه(3) على أنّه لا يجوز له أن يكون في حدّ الإنكار للصانع وجحده؛ لأنّ غاية ما يقتضي حاله أن يكون منكرا لحدوث العالم وفنائه؛ لأنّه لم ير الحدوث ولا الفناء، وذلك لأنّه لم يثبت دليل يقتضي أنّه لا صانع للعالم، وإنّما ذكر عليه السلام ذلك أوّلاً قبل الدليل على وجود الصانع؛ لأنّ الخلوّ عن الضدّ قبل الشروع في الاستدلال شرط في حصول العلم، أو معين فيه جدّا، ورمز عليه السلام إلى ذلك في ضمن نظيره لئلاّ يقع التصريح من الزنديق في محضر جمع بنفي الصانع، فيشوّش بعضهم المجلس، وينقطع الكلام والاحتجاج .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِلزِّنْدِيقِ) للإشارة إلى النوع الثاني :

(أَتَعْلَمُ أَنَّ لِلاْءَرْضِ تَحْتا وَفَوْقا ؟). المراد بالتحت هنا اللغوي، وهو الطرف المقابل لما هو الفوق عندنا .

(قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَمَا يُدْرِيكَ) . ما استفهاميّة، أي أيّ فكر واستنباط يُعلمُكَ (مَا تَحْتَهَا ؟) . ما استفهاميّة، أي ما الذي تحتها؛ أو موصولة، أي ما هو تحتها . .

ص: 20


1- أي راوي الحديث .
2- تحرّاه : تعمّده وطلب ما هو أحرى بالاستعمال ؛ وبالمكان : تمكّث . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 316 (الحروة) .
3- في «أ» : «تنبيه» .

(قَالَ : لاَ أَدْرِي ، إِلاَّ أَنِّي أَظُنُّ) أي بأصالة العدم (أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ) . هذا رمز منه إلى ظنّه أن ليس للعالم صانع .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَالظَّنُّ) . الفاء للتفريع، واللام للعهد الخارجي ، والمراد الظنّ الذي هو في المنظور .

(عَجْزٌ) ؛ بفتح المهملة وسكون الجيم والزاي خبر المبتدأ .

(لِمَا لاَ تَسْتَيْقِنُ) . اللام للتعليل، والظرف صفة «عجز» و«ما» مصدريّة، و«تستيقن» بصيغة الخطاب للمعلوم، والاستيقان طلب اليقين . والمقصود أنّه على ما ذكرت من الجواب ظهر أنّ ظنّك عجز ناش عن تركك طلب اليقين، ولو طلبت اليقين لوجدته سريعا .

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَفَصَعِدْتَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَتَدْرِي)(1) بالتفكّر والتحرّي والاستنباط . (مَا فِيهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : عَجَبا لَكَ!). «عجبا» بفتحتين بتقدير حرف النداء، أو مصدر فعل محذوف ؛ أي عجبت عجبا لك .

(لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ ، وَلَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ) . ظاهره أنّه عليه السلام سأله في صدر الكلام عن بلوغه المشرق والمغرب أيضا، وأجاب، وسأله: هل تدري ما فيهما؟ وأجاب بلا أدري ، لكنّه أسقط الراوي . ويحتمل أن يكون _ بناءً على المعلوم من حاله _ بدون سؤال . وفي كتاب الاحتجاج هكذا: قال : «فأتيت المشرق والمغرب، فنظرت ما خلفهما ؟» قال : لا ، قال : «عجبا لك» إلى آخره .(2)

(وَلَمْ تَنْزِلِ الاْءَرْضَ ، وَلَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ ، وَلَمْ تَجُزْ هُنَاكَ) . «لم تجز» بضمّ الجيم وسكون الزاي بصيغة المخاطب، و«هناك» منصوب محلاًّ ومفعول به وعبارة عمّا كان الزنديق فيه من الظنّ .

ويحتمل أن يكون «لم تحرّ» بالمهملتين بصيغة المضارع المخاطب المعلوم المعتلّ اللام اليائي من باب التفعّل بحذف إحدى التاءين، والتحرّي قصد الأحْرى .

ص: 21


1- في الكافي المطبوع : «أفتدري» .
2- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 72 ، احتجاجه عليه السلام على الزنديق المصري . وفيه : «فالعجب لك» بدل «عجبا لك» .

والأليق . والمراد به هنا التفكّر لطلب اليقين، ويكون «هناك» إشارةً إلى ما كان الزنديق فيه من وجه الأرض، ومنصوبا محلاًّ على الظرفيّة .

(فَتَعْرِفَ) ؛ منصوب بتقدير «أن» بعد النفي .

(مَا خَلْفَهُنَّ) أي ما خلف المشرق والمغرب، والأرض والسماء . والتأنيث لتغليب الأرض والسماء، أو باعتبار البقعة . و«ما خلفهّن» نوع تعبير عن صفات صانع العالم، كالعلم والقدرة والعدل . والمقصود أنّك لو تحرّيت في وجه الأرض، لعرفت صفات صانع العالم، فضلاً عن معرفة كونه .

(وَأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ!).نوع تعبير عن إنكار كون صانع العالم .

(وَهَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ) جحدا يتصدّى للحجاج عليه كما أنت عليه؛ حيث جئت من بلدٍ بعيد للحجاج معنا .

(مَا لاَ يَعْرِفُ ؟) أي لا يعرفه ويعتقد خلافه بمجرّد الظنّ الحاصل من أصالة العدم، بدون دلالة ولا أمارة على العدم على حِدة .

(قَالَ الزِّنْدِيقُ : مَا كَلَّمَنِي بِهذَا أَحَدٌ غَيْرُكَ) .إقرارٌ منه بأنّه لا ينبغي له الجحد، وأنّه لو كلّمه بهذا أحد لما جَحَد .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَأَنْتَ مِنْ ذلِكَ فِي شَكٍّ) أي فأنت الآنَ صرت في شكّ . والمراد بالشكّ كفّ النفس عن الحكم بشيء لانتفاء اليقين فيه .

(فَلَعَلَّهُ هُوَ) .الضمير الأوّل راجع إلى «ما فيهنّ» باعتبار المنظور ، والثاني من أسماء الصانع للعالم تعالى .

(وَلَعَلَّهُ لَيْسَ هُوَ ) . الضمير الأوّل ل«ما فيهنّ »، والضمير الثاني وهو المستتر في «ليس» للضمير الأوّل ، والضمير الثالث من أسماء الصانع للعالم تعالى ، فهو كالظاهر، فلذا(1) لم يقل بدله: «إيّاه» نظير : «يا مَن ليس هو إلاّ هو»(2) مع أنّ «هو» في الأوّل اسم «ليس» .

ص: 22


1- في «ج» : «ولذا» .
2- مكارم الأخلاق ، ص 346 ؛ الأمان من أخطار الأسفار ، ص 83 ؛ بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 158 .

ولا يجوز الإتيان بالضمير المنفصل مع إمكان الضمير المتّصل .

ويحتمل أن يكون من قبيل وضع الضمير المرفوع المنفصل موضع الضمير المنصوب المنفصل استعارةً، نظير ما يجيء في «كتاب الحجّة» في خامس الباب السابع والأربعين، وهو «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنّهم لا يموتون إلاّ باختيار منهم» من قول أبي الحسن الأوّل عليه السلام : «إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ غضب على الشيعة، فخيّرني نفسي أو هم، فوقيتهم واللّه بنفسي» .

وهذا بيان لحال الشاكّ قد يصير أحد الطرفين في نفسه راجحا، فيصير من ساعته الطرف الآخر راجحا، كقولهم : أراك تقدّم رِجلاً، وتؤخّر اُخرى .(1)

(فَقَالَ الزِّنْدِيقُ : وَلَعَلَّ ذلِكَ) .لم يجزم بكونه شاكّا، بل رجّح ذلك ؛ أي لعلّ أنا في شكّ، أقام «ذلك» مقام الجملة المركّبة من الاسم والخبر .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّهَا الرَّجُلُ ، لَيْسَ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ حُجَّةٌ عَلى مَنْ يَعْلَمُ) ، أي دليل .

(وَلا حُجَّةَ لِلْجَاهِلِ ) أي للذي يحكم بغير المعلوم . والمراد أنّ قبح الحكم بغير المعلوم ضروري، والمنازع مكابر لمقتضى عقله ، فالحاكم بغير معلومه ليس له عذر يدفع به عن نفسه العذاب أو اللوم.

لمّا كان على الجاهل سؤال العالم والاستماع للجواب والتفهّم :

قال: (يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، تَفَهَّمْ عَنِّي ؛ فَإِنَّا) معشرَ المقرّين بأنّ للعالم محدثا مثبتا (لاَ نَشُكُّ فِي اللّه ِ أَبَدا) أي لا يزعجنا الوهم.

النوع الثالث: الاستدلال على أنّ للعالم محدثا مثبتا.

وذكر فيه خمسة أدلّة، مع أنّ الأدلّة عليه أكثر من أن تُحصى، كما يظهر لمن تدبّر في الأدلّة الخمسة؛ والنظرُ في أوّلها: في تسخير الشمس والقمر لينتفع بهما الخلائق، والنظر في ثانيها:(2) في حدوث الحوادث كالموت والحياة ونحوهما وربط الحادث .

ص: 23


1- اُنظر الكشّاف ، ج 3 ، ص 277 ؛ مختصر المعاني ، ص 237 و 246 ؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان الاُندلسي ، ج 7 ، ص 243 .
2- في «ج» : «ثانيهما» .

بالقديم، والنظر في ثالثها: في اختلاف أمكنة الأجسام، والنظر في رابعها: في إنشاء السحاب الثقال، والنظر في خامسها: في انكشاف وجه الأرض المعمور وخروجه من الماء .

الدليل الأوّل :

(أَمَا تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ؛ من رؤية البصر، أو القلب ، وعلى الثاني «يلجان» مفعول ثان .

(وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) . الواو الاُولى بمعنى «مع» والثانية للعطف . والمراد أنّ كلّ من رأى حال الشمس والقمر في دورانهما مع حال الليل والنهار في ذهابهما ومجيئهما، علم أنّ ذلك بتدبير مدبّر بقول «كُن» لمصلحة أهل الأرض، وليس للشمس والقمر نفع في الدوران، ولا لليل والنهار في الذهاب والمجيء، كما في سورة إبراهيم : «وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»(1) .

(يَلِجَانِ) ؛ بالجيم بصيغة المعلوم المعتلّ الفاء من باب ضرب، والضمير للشمس والقمر ، والجملة استئناف بياني، أو مفعول ثان ل«ترى ». والولوج: الدخول والاستتار، ومنه: الوَلَجة بفتحتين كهف(2) تستر فيه المارّة من مطر وغيره ،(3) والمراد هنا الدخول تحت الأرض .

(فَلاَ يَشْتَبِهَانِ) ؛ بالمعجمة والموحّدة بصيغة المعلوم من باب الافتعال ، يُقال : اشتبه الأمر: إذا أشكل. والفاء للتعقيب؛ يعني لا يحدث بعد الولوج في أمرهما إشكال باعتبار مكانهما ومدّة بقائهما تحت الأرض وساعاتها ودقائقها في أيّ وقت كان، كما هو معلوم عند أهل الرصد والحساب .

(وَيَرْجِعَانِ) إلى فوق الأرض . .

ص: 24


1- إبراهيم (14) : 33 .
2- في «ج» : «لكهف» .
3- تاج العروس ، ج 3 ، ص 509 (ولج) .

(قَدِ اضْطُرَّا) ؛ بضمّ المهملة وشدّ الراء؛ أي سُخّرا لمنافعنا .

(لَيْسَ لَهُمَا مَكَانٌ إِلاَّ مَكَانُهُمَا) ؛ مرفوع بالبدليّة، أو منصوب بالاستثناء . والمراد: مكانهما المعلوم بالرصد والحساب في أيّ وقت كان. وذلك يدلّ على كمال حكمة مدبّرهما وكمال قدرته .

أو المراد بمكانهما ما هما فيه، سواء كان معلوما بخصوصه في أيّ وقت اُريد، أم لا . وحينئذٍ يكون إشارة إلى أنّ فاعل الجسم يستحيل أن لا يكون مدبّرا؛ لأنّ الإمكان شرط تحقّق الجسم، ويستحيل أن يكون جسم واحد في زمان واحد في كلّ واحد من الأمكنة ، فحصول جسم ما في مكان معيّن مع تشابه الأمكنة في الحقيقة والذات يستحيل أن يستند إلى فاعل موجَب، سواء كان طبعا أم غير ذلك . وبهذا يتمّ البرهان، وضمّ باقي المقدّمات للاستظهار وبيان كمال حكمة الصانع تبارك وتعالى .

(فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلى أَنْ يَذْهَبَا ، فَلِمَ يَرْجِعَانِ) . الفاء للبيان وزيادة التوضيح . والمراد بالذهاب: الولوج. والاستفهام إنكاري، أي فإن كان الولوج بقدرتهما واختيارهما لداع دعاهما إلى ذلك، استحال أن يرجعا إلى فوق الأرض؛ لأنّا نعلم أنّه ليس لهما نفع يدعوهما إلى دوام دورانهما، فهما مسخّران لغيرهما، وتجويز النفع لهما في ذلك كتجويز النفع للأنهار في جريانها، وللرياح في هبوبها. وهذا سفسطة .

(وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُضْطَرَّيْنِ ، فَلِمَ لاَ يَصِيرُ اللَّيْلُ نَهَارا ، وَالنَّهَارُ لَيْلاً) . الاستفهام إنكاري ، وقوله: «والنهار» بتقدير «ولا النهار »؛ أي إن كانا غير مسخّرين، وجب أن تقف الشمس مثلاً إمّا فوق الأرض، فيصير النهار سرمدا، وإمّا تحت الأرض، فيصير الليل سرمدا ، ويجوز أن لا يقدّر «لا» ويكون المراد صيرورة الليل نهارا في موضع دائما، وصيرورة النهار ليلاً في مقابله دائما .

(اضْطُرَّا _ وَاللّه ِ يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ _ إِلى دَوَامِهِمَا ، وَالَّذِي اضْطَرَّهُمَا أَحْكَمُ مِنْهُمَا) أي أكمل حكمةً ورعايةً لمصالح العباد ، أو أنفذُ حكما. وإثبات أصل الحكمة أو الحكم لهما بنوع من المجاز، نظير إثبات الطوع للسماء والأرض في قوله في سورة حمآ

ص: 25

السجدة : «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1) .

(وَأَكْبَرُ ) ؛ بالموحّدة، أي أعظم قدرةً بناءً على أنّ فعله بمحض «كُن ».

(فَقَالَ الزِّنْدِيقُ : صَدَقْتَ) ؛ بصيغة الخطاب إقرارٌ بربّ العالمين .

الدليل الثاني :

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) تقويةً للمدّعى حيث لم يصدر عن الزنديق التصريح بكلمة الإيمان، وأمكن أن يختلج بوهمه شبهة توهّم قِدم العالم، فتمنعه عن التصديق بما علم ، فاستدلّ عليه السلام على الحدوث بما يظهر به ظهورا واضحا الجوابُ عن الشبهة .

(يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، إِنَّ الَّذِي يَذْهَ_بُونَ(2) إِلَيْهِ) ؛ بصيغة الغيبة ، أي يذهب إليه القوم الزنادقة في سبب الحوادث، كالموت والحياة، والريح والسحاب ونحو ذلك . وسيجيء كثير منها في ثانيالباب.

وكونه بصيغة الحاضر لا يناسب قوله(3) سابقا : «صدقت»، ولا قوله(4) لاحقا: «يذهب بهم».

(وَيَظُنُّونَ)(5) ؛ بصيغة الغيبة أيضا . (أَنَّهُ) أي سبب الحوادث (الدَّهْرُ) ؛ بالفتح: ما مضى من الزمان باعتبار ما فيه من الحركات في أين أو وضع أو استعداد لشيء أو نحو ذلك . والدهريّة _ بالفتح ويضمّ _ : القائلون بأنّ الدهر أزلي، قالوا: إنّ الحوادث غير مستندة بلا واسطة إلى فاعل بتدبير يصحّ منه الفعل والترك، بل مستندة إلى موجب بواسطة الحركات والاستعدادات الغير المتناهية في جانب المبدأ الحاصلة في مادّة الأجسام ؛ قال تعالى في سورة الجاثية : «وَقَالُوا مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ»(6) .(7) .

ص: 26


1- فصّلت (41) : 11 .
2- في الكافي المطبوع : «تذهبون» .
3- أي الزنديق .
4- أي أبي عبد اللّه عليه السلام .
5- في الكافي المطبوع : «وتظنّون» .
6- الجاثية (45) : 24 .
7- اُنظر شرح العقيدة الطحاوية ، ص 85 .

واللام في قوله عليه السلام : «الدهر » داخلة على الخبر لإفادة الحصر المذكور في الآية في قوله : «إلاّ الدهر ».

وهذا الظنّ حاصل لهم بشبهة لهم على قدم العالم ذكرها رئيسهم في كتاب الشفاء في أوّل المقالة التاسعة من الإلهيّات، وحاصلها: أنّ الحركة لا تحدث بعدما لم تكن إلاّ لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلاّ بحركة مماسّة لهذه الحركة، ولا نُبالي أيَّ حادث كان ذلك الحادث، كان قصدا من الفاعل أو إرادةً أو علما أو طبعا أو آلةً أو حصولَ وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيّؤٍ أو استعداد للقابل لم يكن، أو وصول من المؤثّر لم يكن، فإنّه كيف كان فحدوثه متعلّق بالحركة، لا يمكن غير هذا؛ لأنّه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث البتّة أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أو لا وجوبه على ما كان، فلم يجز أن يحدث كائن(1) البتّة، وذلك الأمر لا يمكن أن يكون نفس العلّة الفاعليّة أو القابليّة؛ للزوم التسلسل لاجتماع الفواعل والقوابل في الوجود بخلاف ما يقرّب المعلول من العلّة من الحركة ،(2) فهو ما يقرّب المعلول من العلّة، وهو الحركة، فإذن قد كان قبل كلّ حركةٍ حركةٌ إلى ما لا نهاية له .(3)

فاستدلّ عليه السلام على نقيض مدّعاهم بحيث يصلح لأن يكون نقضا إجماليّا لشبهتهم، ويظهر به منع قولهم: «فلم يجز أن يحدث كائن البتّة» بقوله :

(إِنْ كَانَ الدَّهْرُ) . الجملة خبر «إنّ»، وفيه إقامة الدليل مقام المدلول ؛ أي باطل لأنّه إن كان، إلى آخره .

و«إن» هُنا وفيما بعد بمعنى «إذ» كما في حديث زيارة الموتى : «وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون».(4) ويحتمل كونها شرطيّة .

(يَذْهَبُ بِهِمْ) أي بالقوم الزنادقة. .

ص: 27


1- في «ج» : «الكائن» .
2- في «ج» : - «لاجتماع القواعل والقوابل في الموجود بخلاف ما يقرب المعلول من العلة من الحركة» .
3- الشفاء ، ص 373 ، الفصل 1 ، انتشارات ناصر خسرو، الطبعة الاُولى .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 229 ، باب زيارة القبور ، ح 7 و 8 ؛ الفقيه، ج 1، ص 179، ح 533 و 534؛ كامل الزيارات، ص 532، باب فضل زيارة المؤمنين، ح 12 و 15؛ وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 225 ، ح 3471 و 3472 .

(لِمَ لاَ يَرُدُّهُمْ؟) لِمَ لا يقع الردّ وقت الذهاب بهم بدلاً عنه ، وذلك بأن يكون الذهاب بهم قبل هذا الوقت الذي ذهب بهم فيه .

(وَإِنْ كَانَ يَرُدُّهُمْ ، لِمَ لاَ يَذْهَبُ بِهِمْ) أي لِمَ لا يقع الذهاب بهم وقت ردّهم بدلاً عنه، وذلك بأن يكون الذهاب بهم بعد هذا الوقت الذي ذهب بهم فيه، وتخصيص ذهابهم وردّهم بالذكر في المثال لأنّهما المذكوران في آية الجاثية صريحا .

وحاصل الدليل: أنّ من أجزاء العالم حوادث معلومة الحدوث بالحسّ والعيان يوما فيوما، ولا فاعل لها إلاّ اللّه تعالى بلا توسّط توقّف على حركة واستعداد ونحو ذلك ؛ لأنّ الحوادث لابدّ أن يكون فاعلها مختارا . أمّا أفعال الأحياء ذوي الأبدان كالمَلك والجنّ والإنس وسائر الحيوانات فمستندة إليهم ، وأمّا ما عداها _ وهي المعدودة من العالم كالموت والحياة، وكحدوث النبات في الأرض بعد موتها وفلق الحبّ والنوى ونحو ذلك ممّا يسنده الدهريّة إلى الدهر _ ففاعلها مدبّر للعالم نافذ الإرادة بلا علاج؛ فيكون العالم حادثا كما مرّ في شرح عنوان الباب.

ولا يمكن استنادها إلى الدهر، وإلاّ امتنع وجود حادث، وكذا انتفاؤه، ولم يرتبط حادث بقديم أصلاً ؛ لأنّه ليس للامتداد الزماني أجزاء متخالفة الماهيّة، وكذا حركة الأفلاك في الوضع ونحو ذلك.

مثلاً المادّة المتحرّكة في يومٍ أو شهر أو سنة في استعداد لحادث عند الدهريّة لا يحصل لها في أواخر زمان حركتها إلاّ ما يشارك ما كان حاصلاً لها في أوائله في تمام الماهيّة وفي التشخّص؛ فإنّ كلّ حركة متّصلةٍ قابلةٌ للقسمة إلى غير النهاية ، فلو تغيّرت المادّة، أو حدث حادث آخر في كلّ حدّ، لزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين وتغيّرُها، أو حدوث حادث آخر في بعض الحدود في الوسط والطرف دون باقيها يثبت المطلوب ، فإنّا نقول: بين كلّ حدّين تغيّرت المادّة فيهما، أو حدث حادث آخر فيهما حدود غير متناهية لم يتغيّر المادّة فيها، ولم يحدث حادث آخر فيها، والفاعل إذا لم يكن مختارا مدبّرا، امتنع أن يخصّص بعض الأجزاء المتشابهة في تمام الماهيّة عن

ص: 28

الباقية بإحداث الحادث فيه دون الباقية، سواء قرب المعلول من العلّة أم بعُدَ؛ لأنّ المفروض أنّهما ليسا بأمرين متخالفين في التشخّص فضلاً عن الماهيّة ، بل هما أمران اعتباريان ، ألا ترى أنّ مغناطيس مثلاً يمتنع أن يجذب طبعه حديدا دون حديد بمجرّد أنّ الأوّل ملك زيد، والثاني ملك عمرو، بخلاف ما إذا كان مختارا .

إن قلت : الحركة في الكيف ممكن وواقع، فللمتحرّك فيه في كلّ آن من زمان حركته كيفيّة مخالفة لما في الآنات السابقة واللاحقة، إمّا في الماهيّة بناءً على أنّها مختلفة بالشدّة والضعف، وقد تقرّر أنّ الأشدّ نوع مباين للأضعف ، وإمّا في التشخّص فقط، وإمّا في العارض الخارجي فقط .

قلت : لا نسلّم إمكان الحركة في نحو الكيف ممّا له وجودان في الخارج: وجود في نفسه، ووجود رابطي ، بل الانتقال فيه دفعي كالانتقال من البياض إلى السواد، ومنشأ الاشتباه قِصر زمان كلّ كيفيّة من الكيفيّات المتواردة ، والدليل عليه أنّه لولاه لزم انحصار ما لا يتناهى من الاُمور الموجودة في أنفسها بين حاصرين، أو كون المتحرِّك في الحرارة _ مثلاً_ خاليا عن الحرارة بالكلّيّة، وكلاهما خلاف البديهة، فلا حركة في العوارض الخارجيّة إلاّ فيما لا وجود له في الخارج إلاّ الوجود الرابطي كالأين والوضع والمحاذاة والكمّ والزمان والقُرب والبُعد ونحو ذلك، فإنّ انحصار ما لا يتناهى منه بين حاصرين ليس بديهيَّ الاستحالة؛ نظير اجتماع العلوم الغير المتناهية والقُدر الغير المتناهية في اللّه تعالى؛ إذ لا حاجة للاُمور التي ليس لها في الخارج إلاّ الوجود الرابطي إلى فاعل وإيجاد وإلاّ لزم أن يتعلّق بالإيجاد نفسه إيجاد آخر، ولا ينافي هذا أن يكون الحركة في بعض تلك الاُمور موجودةً في نفسها في الخارج بأن يكون للحركة في الأين _ مثلاً_ وجودان في الخارج: وجود في نفسه، ووجود رابطي .

(الْقَوْمُ مُضْطَرُّونَ) . المراد بالقوم الزنادقة ، والمقصود إمّا أنّه لا مندوحة(1) لهم عن .

ص: 29


1- في حاشية «أ» : الندح _ ويضمّ _ : الكثرة والسعة ، كالنّدحة والنُدحة والمندوحة . وانظر القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 252 (ندح) .

الإقرار بمدبّر للعالم، محدثٍ لهذه الحوادث، مثبتٍ لكلّ حادث منها في وقته دون سابقه ولاحقه؛ فإنكارهم وجحدهم مع إقرار قلبهم به . وإمّا أنّهم معذّبون في الآخرة، كقوله تعالى في سورة لقمان : «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ»(1) . وإمّا إشارة إلى حلّ شبهتهم التي نقلناها، فإنّ قولهم: «فلم يجز أن يحدث كائن البتّة»(2) مبنيّ على امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وهو ممنوع بل باطل ؛ لأنّه يستلزم أن يكون المختارون مضطرّين في فعلهم، فيلتزموا أنّهم أنفسهم مضطرّون، وهو مكابَرة.

ويحتمل أن يُراد بالقوم المسلمون، أي لا مندوحة لهم عن الإقرار .

الدليل الثالث :

(يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، لِمَ السَّمَاءُ مَرْفُوعَةٌ ، وَالاْءَرْضُ مَوْضُوعَةٌ) . ذكر السماء والأرض على سبيل المثال . أو المراد بالسماء ما فوق الأرض، فيشمل الهواء والماء وما فيهما ؛ يعني أنّ اختصاص كلّ جسم بمكان معيّن شخصا كما في الأرض، أو نوعا كما في الكواكب المتحرّكة في مسير خاصّ دون مسير آخر، وإلى جهة خاصّة دون اُخرى لا يمكن إلاّ بأنّ مدبّرا خلقه في ذلك المكان دون باقي الأمكنة، لأنّ الأمكنة متشابهة في تمام الماهيّة؛ لاتّصال الفضاء الموهوم وعدم امتياز بعضه عن بعض إلاّ بالتمكّن ، ولا يمكن أن يميّز غير المختار بعض المكان عن بعض لكون الجسم فيه دون غيره . أمّا إذا كان غير المختار نفس الجسم، أو جزءه، أو عارضه الشريكين له في المكان فظاهر؛ لبداهة افتراق الحادّ من المحدود، مع ما ذكرنا من تشابه الأمكنة في تمام الماهيّة ، وأمّا إذا كان خارجا، فلتشابه الأمكنة فقط .

إن قلت : يمكن أن يكون بعض الأمكنة دون بعض لازما عقليّا لجسم دون جسم، فلا يحتاج كونه فيه إلى جعل جاعل ، كما أنّ للعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة ونحوها من صفات الذات أفرادا متشابهة في تمام الماهيّة، وجملة من أفرادها لوازم .

ص: 30


1- لقمان (31) : 24 .
2- تقدم في كلام ابن سينا .

عقليّة لواجب الوجود لا يحتاج اتّصافه بها إلى جعل جاعل عندكم، وجملة اُخرى من أفرادها للممكنات .

قلت : اللازم العقلي لشيء ليس له أفراد حقيقيّة ؛ أي مختلفة في نفسها ، أي مع قطع النظر عن اختلاف موصوفها أو متعلّقها، إنّما له الحصص التي لا اختلاف بينها، إلاّ اختلاف موصوفها أو متعلّقها ؛ فكلّ من اتّصف بحصّة منها على سبيل اللزوم العقلي، أو بتأثير مؤثّر موجب يجب أن يكون متّصفا بكلّ واحدٍ من الحصص المختلفة باختلاف المتعلّق فقط ، ولا يمكن أن يتبدّل فيه حصّة منها بحصّة اُخرى ، ولذا يجب أن يكون الواجب الوجود تعالى متّصفا بالعلم بكلّ شيء، وبالقدرة على كلّ شيء، وبسماع كلّ صوت، وبإبصار كلّ مبصر، بخلاف الممكن، والمكانُ ليس كذلك ؛ لأنّه يمكن أن يتبدّل مكان جسم مع كون المتمكّن واحدا في الحالتين، فلو لم يكن اختلاف المكانين إلاّ باختلاف الموصوف أو المتعلّق، كاختلاف علمنا وعلم اللّه تعالى، وكاختلاف علم اللّه تعالى بوجود زيد وعلمه بوجود عمرو، لم يكن هذا التبدّل في المكان .

إن قلت : المكان بمعنى البُعد كالامتداد الزماني ؛ أي لا وجود له في الأعيان؛ لأنّه ليس جوهرا ولا عرضا، إنّما له فيها الثبوت النظير للوجود الذهني عند القائلين به، فلا نسلّم أنّه يتبدّل حقيقةً مكان جسم مع كون المتمكّن واحدا، فيجوز أن يكون الاختصاص بالمكان بتبعيّة الاختصاص بوضع معيّن شخصا أو نوعا بالنسبة إلى الأجسام الاُخرى ، ولهذا لا يتصوّر حركة الجسم المحيط بجميع ما عداه من الأجسام في الأين، ولا يتصوّر خلاء إلاّ في داخل الأجسام ، ويقال: أين زيد من عمرو ، والأوضاع مختلفة الحقائق، فيجوز أن يكون بعضها لازما عقليّا، أو مقتضى طبيعة لجسم دون بعض آخر، ودون الأجسام الاُخرى .

قلت : لا يجوز أن يكون الوضع لازما عقليّا؛ لما ذكرنا في المكان من جواز تبدّل أفراده مع بقاء الجسم بعينه .

ص: 31

ثمّ إنّ الوضع من قبيل النسبة، وهي فرع المنتسبين، فلا يكفي في تحقّقه بعض الأجسام، ومجموعها من حيث المجموع لا يمكن أن يجعل لنفسه الوضع بمعنى نسبة بعض أجزائه إلى بعض، لا بنفسه ولا بجزئه ولا بعارضه ؛ لأنّ للجزء والعارض أيضا وضعا، وافتراق الحادّ من المحدود والمؤلّف من المؤلّف بديهيّ .

إن قلت : اختصاص الجسم المحيط بما عداه بمكانه بسبب مقداره اللازم له عقلاً؛ فإنّه لا يسعه مكان آخر، فهكذا إلى الأرض .

قلت : ليس مقدار جسم ولا تشخّصه ولا وجوده لازما عقليّا لذاته؛ لتشابه المقادير في تمام الحقيقة بديهةً ، ويجيء تفصيله في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة ».

الدليل الرابع :

(لِمَ لاَ تَسْقُطُ السَّمَاءُ عَلَى الاْءَرْضِ؟). المراد بالسماء السحاب ، ويحتمل أن يُراد ما يشمل الأفلاك ، وحاصله: أنّا نرى كلاًّ من الماء والبَرَد والثلج ونحو ذلك _ إذا لم يكن تحته جسم يكون عمودا له ومانعا من حركته _ يتحرّك إلى سفلٍ، إمّا صريحٍ كما في الساقط، أو غير صريح كما في الجاري على وجه الأرض ، وإذا كان تحته جسم مانع، يحسّ منه مدافعة وميل إلى السفل، ونرى السحاب الثقال تسخّر في الجوّ بغير عمد نراها، سواء كان بمحض القدرة كما في السحاب الساكن، أم بالريح كما في المتحرّك، فإنّ الريح هواء متحرِّك غير مرئيّ، وليس حدوث الريح بنحو طبع الأجسام.

وما يُقال من أنّ سببه نحو التخلخل أو التكاثف ممّا يُضحك الثكلى، فاللّه تعالى هو الذي يُنشئ السحاب الثقال، كما في سورة الرعد(1) «وَ يُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاْءَرْضِ إِلاَّ .

ص: 32


1- مقتبس من سورة الرعد (13) : 2 . في حاشية «أ» : «قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد : «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» إلى آخره ، «عمد» أي أساطين جمع عماد كإهاب وأهب أو عمود ، وقرئ : عمد كرسل . «ترونها» صفة لعمد ، أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك ، وهو دليل على وجود الصانع الحكيم ؛ فإنّ ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية ، واختصاصها بما يقتضي ذلك لابدّ وأن يكون بمخصّص ليس بجسم ولا جسماني يرجّح بعض الممكنات على بعض بإرادته» . تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 332 .

بِإِذْنِهِ» كما في سورة الحجّ .(1)

ويُحتمل أن يُراد بالسماء المطر، وبسقوطها انحدارها مرّة واحدة لا بقطرات وتدريج . وفيه من الدلالة ما لا يخفى .

الدليل الخامس :

(لِمَ لاَ تَنْحَدِرُ الاْءَرْضُ فَوْقُ(2) طِبَاقِهَا) . الحدر _ بالفتح والمهملات _ : الحطّ من علو إلى سفل ، والحدر أيضا الإحاطة بالشيء .(3) والانحدار هنا إمّا مطاوع الأوّل ؛ أي لِمَ لا تنحطّ. وهو ناظر إلى مذهب من يقول : إنّ الأرض كانت كُرَة صغيرة، فدُحيت ومدّت وفرشت، فصارت كأنّها قطعة قريبة من الربع من وجه كرة عظيمة، فكان مجموع الأرض والماء كرة واحدة، مركزها في الماء، وهو مركز ثقل العالم . وإمّا مطاوع الثاني؛ أي لِمَ لا يحاط. وهو ناظر إلى مذهب من يقول من الزنادقة : إنّ الأرض كرة على حدة مركزها مركز ثقل العالم، وأنّ الماء محيط بثلاثة أرباع من الأرض تقريبا، وهو كرة ناقصة .(4)

و«فوق» بالرفع بدل بعض من الأرض .

و«طباق» بكسر المهملة جمع طبقة أو طبق بفتحتين، كرقبة ورقاب، وجبل وجبال .(5) قيل: والسماوات طباق طبقة فوق طبقة، أو طبق فوق طبق ؛ انتهى .(6)

وقيل : لمطابقة بعضها بعضا ؛ انتهى .(7)

وظاهره أنّه ليس بجمع بل مصدر وُصف به، وكأنّه لندور «فعال» في جمع «فعلة» .

ص: 33


1- الحجّ (22) : 65 .
2- في الكافي المطبوع: «فوقَ» بالفتح .
3- كتاب العين ، ج 3 ، ص 178 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 172 (حدر) .
4- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 479 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 354 .
5- كتاب العين ، ج 5 ، ص 108 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 210 (طبق) .
6- أساس البلاغة للزمخشري ، ص 383 (طبق) .
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 256 (طبق) .

الصفةِ كطبقة دون الاسم كرقبة الذي يجيء في «كتاب الزكاة» في رابع «باب منع الزكاة»(1) وتاسع عشره وهو الباب الثاني،(2) وفي «كتاب النكاح» في سادس «باب اللواط» وهو الباب المائة وستّة وثمانون ،(3) وثاني «باب من أمكن من نفسه» وهو الباب المائة وسبعة وثمانون : أنّ(4) للأرض التي نحن عليها سبعَ طبقات .(5)

والمشهور في كتب الفلاسفة ومَن تبعهم أنّ للأرض التي نحن عليها ثلاثَ طبقات متلاصقة بعضها فوق بعض : الاُولى: المخالطة بغيرها التي فيها الجبال والمعادن وكثير من الحيوانات والنباتات . الثانية: الطينيّة . الثالثة: المحيطة بالمركز .(6)

والمراد بقوله : «فوق طباقها» الاُولى، فإنّها الأنسب باستعمالات اللغة، وبمقام الاستدلال على الصانع .

وأمّا قوله تعالى في سورة الطلاق : «اللّه ُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ»(7) فيمكن أن يكون المراد بالأرض فيه ما تحت أقدام من في مكّة ، ويشمل كلّ ما تحت اُفق مكّة إلى منتهى المكان، وهي مبنيّة على أنّ السماوات السبع لم يحطن بأرضنا، وإنّما هنّ فوق اُفق مكّة، ولا حركة لهنّ ، والكواكب يسبحون فيهنّ كالحوت في الماء، والطير في الهواء ، وهنّ نصف مدار الكواكب، والنصف الآخر من مدارها سبع أرضين، وهنّ بعض الأرض، ومساوية للسماوات السبع في المقدار، ولا حركة لهنّ أيضا .

وحاصل الدليل : أنّا نرى الأرض أثقل من الماء، والماء أثقل من الهواء ، فإن كان مركز الأرض مركز العالم، فلِمَ لا يحيط الماء بجميع وجه الأرض، ولا يخرج الهواء .

ص: 34


1- الكافي، ج 3، ص 503، باب منع الزكاة، ح 4.
2- الكافي ، ج 3 ، ص 505 ، باب منع الزكاة ، ح 19 .
3- الكافي ، ج 5 ، ص 546 ، باب اللواط ، ح 6 .
4- في «ج» : - «أنّ» .
5- الكافي ، ج 5 ، ص 549 ، باب من أمكن من نفسه ، ح 2 .
6- حكاه العلاّمة في كشف المراد ، ص 12 عن المشهور عند الجمهور ؛ وحكاه العلاّمة المجلسي عن الحكماء في بحار الأنوار ، ج 56 ، ص 389 ، و ج 57 ، ص 97 .
7- الطلاق (65) : 12 .

منه ؟ وإن كان مركز الأرض غير مركز العالم، فلِمَ لا تنحطّ الأرض بحيث ينطبق مركزها على مركز العالم ؟ أي يظهر بذلك أنّ إمساك الماء أو الأرض ليس بفاعل موجب كطبع الماء والأرض ، بل بتدبير مدبّر العالم لتعيش مخلوقاته من الإنسان وسائر الحيوانات ، وقد أجرى عادته فيما أجرى لمصلحة وخرقها في غيره لمصلحة اُخرى ، وليعلم أنّه ربّ كلّ شيءٍ وخالقه.

ولم يقدر الزنادقة الطبيعيّون على تمجمج في دفع هذه الشناعة عن أنفسهم والحمد للّه ، فإنّهم إن قالوا: بعض الأرض أثقل من بعض بكثير، فمركز ثقل الأرض ليس في وسط حجمها، فانكشف بعضها ليبسها كالجزائر في البحر .

قلنا : من خفّف بعضها وثقّل بعضها ؟

وإن قالوا : الأرض كرتان إحداهما مصمتة، والاُخرى على وجه الاُولى كالمتمّم الحاوي والعناصر خمس .

قلنا : من رقّق بعض المتمّم، وغلّظ الباقي ، مع أنّ الطبع واحد ؟

(فَلاَ يَتَمَاسَكَانِ ، وَلاَ يَتَمَاسَكُ مَنْ عَلَيْهَا ؟) . الفاء للبيان، ولذا كان مدخولها مرفوعا، مثل : ألم تسأل الربع القواء فينطق .(1) والربع بالفتح: الدار، والقواء _ بكسر القاف والمدّ _ : الأرض الخالية عن أهلها .

والتماسك: التمالك . قال الجوهري : ما تماسك أن قال ذلك، أي ما تمالك.(2) يعني يبيّن ما ذكر من الأدلّة أنّ السماء والأرض لا يحفظان نفسيهما عن الزوال عن مكانيهما، ويحتاجان إلى مُمسك ، وأهل الأرض لا يحفظون أنفسهم عن الزوال عن أمكنتهم، ولذا يسقطون عن السطح، ويتردّون في البئر ، فكيف يمكن أن يكون أحد منهم .

ص: 35


1- حكاه الطوسي في التبيان ، ج 7 ، ص 336 عن الشاعر وتمامه : ألم تسأل الربع القواء فينطق *** وهل يخبرنك اليوم سملق وحكاه أيضا القرطبي في تفسيره ، ج 12 ، ص 91 ؛ والرضي في شرحه على الكافية ، ج 4 ، ص 66 / 649 ، وفي لسان العرب ، ج 1 ، ص 300 عن ثعلب .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1608 (مسك) .

ممسكا للسماء والأرض عن الزوال ؟ وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة فاطر : «إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيما غَفُورا»(1) بأن يكون «زالتا» بمعنى لم يمسكهما؛ تعبيرا عن الملزوم باللازم .

(قَالَ الزِّنْدِيقُ : أَمْسَكَهُمَا اللّه ُ رَبُّهُمَا وَسَيِّدُهُمَا . قَالَ : فَ_آمَنَ الزِّنْدِيقُ) أي صرّح بكلمة الإيمان؛ لأنّه بلغ الدليل في الوضوح إلى هذا الحدّ الذي لا مجال للكلام عليه .

(عَلى يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ حُمْرَانُ) ؛ هو ابن أعين : (جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنْ آمَنَتِ الزَّنَادِقَةُ عَلى يَدَيْكَ فَقَدْ آمَنَ الْكُفَّارُ) . الجزاء محذوف اُقيم دليله مقامه ؛ أي فلا تَعجُّبَ؛ لأنّه قد آمن الكفّار (عَلى يَدَيْ أَبِيكَ) . يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(فَقَالَ الْمُوءْمِنُ الَّذِي آمَنَ عَلى يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اجْعَلْنِي مِنْ تَلاَمِذَتِكَ) أي ممّن تفيدهم علم الدِّين .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ ، خُذْهُ إِلَيْكَ) ؛ أي ضمّه إليك .

(وَعَلِّمْهُ. فَعَلَّمَهُ هِشَامٌ ؛ وَكَانَ(2) مُعَلِّمَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ مِصْرَ الاْءِيمَانَ ) . هذا كلام عليّ بن منصور .

(وَحَسُنَتْ طَهَارَتُهُ حَتّى رَضِيَ بِهَا أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) . يمكن أن يكون من كلام عليّ، وأن يكون من كلام هشام .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَسِّنٍ) . في كتب الرجال أحمد بن الحسن .(3)

(الْمِيثَمِيِّ) ؛ بكسر الميم وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة .

(قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ الْمُتَطَبِّبِ) ؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعّل ، قالوا: .

ص: 36


1- فاطر (35) : 41 .
2- في الكافي المطبوع : «فكان» .
3- منتهى المقال ، ج 1 ، ص 242 ، الترجمة 126 .

ليس للتكلّف بل للمبالغة في تعلّم الطبّ .(1)

(فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي ، قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ) . اسمه عبد الكريم، كان من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة ؟ فقال : إنّ صاحبي كان مخلّطا، كان يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، وما أعلمه اعتقدَ مذهبا دامَ عليه ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» وهو الباب السادس .(2)

(وَعَبْدُ اللّه ِ بْنُ الْمُقَفَّعِ) ؛ بضمّ الميم وفتح القاف وفتح الفاء المشدّدة . وابن المقفّع أوّل من اعتنى في بلاد الإسلام بترجمة كتب أرسطو وغيره المنطقيّة لأبي جعفر المنصور ، وهو فارسي النسب، وله تأليفات اُخرى .(3)

(فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : تَرَوْنَ هذَا الْخَلْقَ ؟ _ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى مَوْضِعِ الطَّوَافِ _) أي أشار إلى أهل الطواف جميعا .

(مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ) ؛ بصيغة المتكلّم من باب الإفعال .

(لَهُ اسْمَ الاْءِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ ذلِكَ الشَّيْخُ الْجَالِسُ _ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللّه ِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام _ فَأَمَّا الْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ) ؛ كسحاب اسم جمع؛ أي الذين يخدمون بطعام بطونهم، ويتبعون كلّ أحد .(4)

(وَبَهَائِمُ) في البلادة .

(فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ : وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هذَا الاِسْمَ) أي اسم الإنسانيّة (لِهذَا الشَّيْخِ دُونَ هوءُلاَءِ ؟). يشير إلى أنّه لا فرق بينه وبينهم .

(قَالَ : لاِءَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ : لاَبُدَّ مِنِ اخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ) ؛ متعلّق ب_«قلت» . (مِنْهُ) ؛ متعلّق باختبار . .

ص: 37


1- حكى عكس ذلك الزبيدي في تاج العروس ، ج 2 ، ص 179 (طبب) .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 197 ، باب ابتلاء الخلق واختيارهم بالكعبة ، ج 1 .
3- عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ، ص 413 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 4 ، ص 140 (ابن المقفع) .
4- اُنظر لسان العرب ، ج 8 ، ص 128 (رعع) .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : لاَ تَفْعَلْ ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ) ؛ من الإفساد ، أو من باب نصر وضرب وحسن . (عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ) ؛ مفعول «يفسد» أو فاعله . والمراد ما كان يتمسّك به على مذهبه، أو نفس مذهبه .

(فَقَالَ : لَيْسَ ذَا) أي الخوف على هذا .

(رَأْيَكَ ، وَلكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب حسن ونصر .

(رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلاَلِكَ) ؛ بالمهملة . (إِيَّاهُ الْمَحَلَّ الَّذِي وَصَفْتَ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : أَمَّا) ؛ بفتح الهمزة وتشديد الميم للشرط والتأكيد والتفصيل، لكن اكتفى بذكر أحد الشقّين عن الآخر هنا؛ أو تخفيفها حرف تنبيه واستفتاح .

(إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هذَا) . «على» للإضرار؛ أي إذا أسأت توهّمك في حقّي .

(فَقُمْ) . الفاء _ على تشديد الميم _ قيل: جواب لأمّا ، و«إذا» على الأوّل للظرفيّة بدون شرط واستقبال بمعنى حين، وعلى تخفيفها جواب ل«إذا» الشرطيّة .

(إِلَيْهِ) ؛ متعلّق ب«قم» لتضمينه معنى المشي .

(وَتَحَفَّظْ) ؛ بصيغة الأمر من باب التفعّل؛ أي احفظ نفسك .

(مَا اسْتَطَعْتَ) . «ما» حرف مصدريّة زمانيّة بمعنى ما دام، نحو ما دمت حيّا، أصله: مدّة دوامي حيّا، فحذف(1) الظرف وخَلَفته ما وصلتها، كما جاء في المصدر الصريح: جئتك صلاةَ العصر، وآتيك قدومَ الحاجّ، ومنه: «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاْءِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ»(2) . ولو كان معنى كونها زمانيّةً أنّها تدلّ على الزمان بذاتها لا بالنيابة، لكانت اسما، ولم تكن مصدريّة .

(مِنَ الزَّلَلِ) ؛ متعلّق ب_«تحفّظ ». و«الزلل» بفتحتين من باب ضرب وعلم: النقصان، تقول : زلّت الدراهم، أي نقصت في الوزن ؛ وفي ميزانه زلل، أي نقصان . والمقصود أمره بسلاطة اللِّسان(3) وتواتر الكلام . والزلل أيضا الزلق في الرأي والمنطق ، ويُقال .

ص: 38


1- في «ج» : «فحذفت» .
2- هود (11) : 88 .
3- في حاشية «أ» : السلط والسليط : الشديد ، واللسان الطويل ، والطويل اللسان . وقد سلط _ ككرم وسمع _ سلاطة (من ق) . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 365 (سلط) .

أيضا: مقام زلل، أي يُزلُّ فيه .(1)

(وَلاَ تَثْنِي) ؛ بالمثلّثة والنون والخاتمة، بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب ضرب . وهذا خبر، أي أنا أعلم أنّك لا تعطف في مجلسه .

(عِنَانَكَ) ؛ بكسر المهملة، وهو ما يأخذه الراكب بيده من لجام الفرس ، شبّهه بالفرس أو براكبه. و«العنان» أيضا المعانّة، وهي المعارضة .

(إِلَى اسْتِرْسَالٍ) ؛ متعلّق ب«لا تثني »، يُقال : استرسل إليه: إذا انبسط واستأنس . والمراد به هنا الاستماع والإنصات .

(فَيُسَلِّمُكَ) ؛(2) بالرفع ، يُقال : سلّمت إليه الشيء تسليما وأسلمت، أو أعطيته إيّاه . ويُقال أيضا: أسلمه، أي أسَّرَهُ . والسلم بفتحتين: الأسير؛ لأنّه مستسلم أي منقاد . واستعماله مع «إلى» حينئذٍ لتضمين معنى الضمّ .

(إِلى عِقَالٍ) . العقل: الحبس ، والعقال _ بكسر المهملة وتخفيف القاف _ : حبل يشدّ به البعير، فلا يقدر على المشي ؛(3) وبضمّ المهملة وتشديد القاف: ظَلَعٌ(4) يأخذ في قوائم الدابّة .

(وَسِمَةِ مَا لَكَ وَعَلَيْكَ(5)) ؛ بكسر المهملة وفتح الميم والتاء: أثر الكيّ(6) في الحيوانات، وهو معطوف على عقال، ومضاف إلى ما الموصولة ؛ فالمعنى: ويسلّمك إلى قاعدة تعرف بها مالك وعليك؛ لئلاّ تتكلّم بما لا طائل تحته .

(قَالَ : فَقَامَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ ، وَبَقِيتُ أَنَا وَابْنُ الْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا ابْنُ أَبِي .

ص: 39


1- لسان العرب ، ج 11 ، ص 307 ؛ القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 389 (زلل) .
2- في الكافي المطبوع : «فَيُسَلِّمَكَ» بفتح الميم .
3- تاج العروس ، ج 15 ، ص 513 (عقل) .
4- ظلع البعير، كمنع : غمز في مشيه [ الظلاع] كغرب داء في قوائم الدابة لا من سير ولا تعب». القاموس ، ج 3 ، ص 60 (ظلع) .
5- في الكافي المطبوع : «وَسِمْهُ مالك أو عليك» .
6- كواه يكويه كيا : أحرق جلده بحديدة ونحوها . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 384 (كيى) .

الْعَوْجَاءِ ، قَالَ : وَيْلَكَ يَا ابْنَ الْمُقَفَّعِ) .

الويل: الموت فجأةً، وهو منصوب بإضمار حرف النداء ، وهذا دعاء على المخاطب ، وقد يَرِد للتعجّب، نحو : ويل اُمِّه مِسْعرَ(1) حَربٍ؛ تعجّبا من شجاعته وجرأته وإقدامه، ونصب «مسعر» على التمييز .

(مَا هذَا بِبَشَرٍ) ؛ تعجّبٌ من تفرّسه وإحاطته عليه السلام بأنواع الأدلّة .

(وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا) أي في الجسمانيّات .

(رَوحَانِيٌّ) ؛(2) بفتح الراء أو بضمّها نسبةً إلى الروح بضمّ الراء . والمراد عقل مجرّد من جملة العقول العشرة التي تُثبِتها الزنادقة وتعتقد ثبوت صور جميع الكائنات فيها .(3)

(يَتَجَسَّدُ) أي يتعلّق بالبدن .

(إِذَا شَاءَ ظَاهِرا) ؛ مفعول به ل«شاء» أو حال مؤكّدة عن فاعل «يتجسّد ».

(وَيَتَرَوَّحُ) أي يقطع التعلّق عن البدن .

(إِذَا شَاءَ بَاطِنا ، فَهُوَ هذَا ، قَالَ(4) لَهُ : وَكَيْفَ ذلِكَ ؟ فَقَالَ(5) : جَلَسْتُ إِلَيْهِ) ؛ متعلّق ب«جلست» لتضمينه معنى «توجّهت ».

(فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرِي ، ابْتَدَأَنِي ، فَقَالَ : إِنْ يَكُنِ الاْءَمْرُ عَلى) أي مبنيّا على (مَا يَقُولُ هوءُلاَءِ) من أنّ للعالم صانعا. هذا إلى آخره ردّ لقوله: «ما منهم أحدٌ اُوجِب له اسم الإنسانيّة» .

(وَهُوَ) أى هضءمر (عَلى مَا يَقُولُونَ ) . الجملة معترضة بين الشرط والجزاء .

(يَعْنِي أَهْلَ الطَّوَافِ) . كلام ابن أبي العوجاء، وهو لتفسير «هؤلاء» وضمير «يقولون ». .

ص: 40


1- والمسعر : موقد نار الحرب. القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 48 (سعر) .
2- في الكافي المطبوع : «رُوحاني» بضمّ الراء .
3- العقول العشرة فرضية فرضها المشّاؤون لتصحيح صدور الكثير من الواحد، وهي مبتنية على وجود الأفلاك التسعة وكونها ذوات نفوس مريدة.
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .
5- في الكافي المطبوع : «قال» .

(فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب علم . والعطب بفتحتين: الهلاك .

(وَإِنْ يَكُنِ الاْءَمْرُ عَلى مَا تَقُولُونَ) من أنّه ليس للعالم صانع .

(_ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ _) . استعملَ هنا الكاف بدل «على» لإفادة أنّ الحقّ لا يشبه قول الزنادقة أصلاً .

(فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ ، وَهُمْ. فَقُلْتُ لَهُ : يَرْحَمُكَ اللّه ُ) . هذا على عادة أهل الزمان، وقد يصدر عن الجاحد للّه تعالى ، ويجيء مثله في الحديث الآتي .

(وَأَيَّ شَيْءٍ نَقُولُ ؟ وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ ؟ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلاَّ وَاحِدا) . نصب خبر «ما» مع انتقاض النفي ب«إلاّ» ممّا جوّزه يونس(1) من النحاة وأنشد :

وما الدهر إلاّ منجنونا(2) بأهله وما صاحب الحاجات إلاّ مُعذّبا(2)

وجوّزه الفرّاء بشرط كون الخبر وصفا . وفي «باب القدرة» من التوحيد لابن بابويه «واحد» بالرفع.(3) أنكر الزنديق إنكاره(4) للصانع .

(فَقَالَ : وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِدا وَهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ لَهُمْ مَعَادا وَثَوَابا وَعِقَابا ، وَيَدِينُونَ) أي وذلك مبنيّ على أنّهم يدينون (بِأَنَّ فِي السَّمَاءِ(5) إِلها).

«في» هنا للظرفيّة المجازيّة، نحو قوله : «قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»(6) ، ونحو : اللّهُمَّ احفظني في أهلي ؛ أو للمصاحبة، وهي التي تحسن في موضعها «مع» نحو : «قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ»،(7) أي مع اُمم ونحو : «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ .

ص: 41


1- هو يونس بن حبيب اللغوي، كان عثماني الهوى كما في أمالي الشيخ الطوسي ص 608 ، ح 4 سؤال يونس النحوي من الخليل بن أحمد عن عليّ . وانظر قاموس الرجال ، ج 11 ، ص 164 . 2 . المنجنون : الدولاب يستقى عليه ، أو المحالة يسنى عليها . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 270 (جنن) .
2- حكاه الرضي في شرحه على الكافية ، ج 2 ، ص 187 ؛ عمدة القاري ، ج 9 ، ص 283 .
3- التوحيد ، ص 127 ، باب القدرة ، ح 4 .
4- في حاشية «أ» : «إنكاره مفعول به لأنكر» .
5- في حاشية «أ» : وفي باب القدرة من كتاب التوحيد «للسماء» بدل «في السماء» .
6- الشورى (42) : 23 .
7- الأعراف (7) : 38 .

فِي زِينَتِهِ»(1) أي معها .

(وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم مصدر كشكران وكفران وغفران، من عمر المكان كنصر وحسن وعلم عمارةً بالكسر: ضدّ خرب، فهو عامر؛ استعمل بمعنى الفاعل للمبالغة، لمّا كان الدار التي لها مدبّر عامرا، استعمل لفظ اللازم في الملزوم . والمراد أنّ لها مدبّرا وحافظا ، ويحتمل أن يكون المراد أنّها مسكن الملائكة .

(وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ) . الزعم مثلّثة من باب نصر: القول الحقّ والباطل، وأكثر ما يقال فيما يشكّ فيه .

(أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ) ؛ بفتح المعجمة مصدر خرب المكان كعلم: إذا فسد، فهو خرب ، ودار خربة؛ استعمل في الموضع الخرب .(2)

(لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ ؟!) . صفة «خراب» للتفسير، أو خبر آخر . والمراد بالأحد الإله أو الملك .

(قَالَ : فَاغْتَنَمْتُهَا) أي تلك الكلمة (مِنْهُ)؛ حيث لم يكتف بدعوى وجود الصانع، بل ضمّ إليه دعوى التكليف والمعاد والثواب والعقاب ، أو حيث ذكرها عليه السلام بدون تصريح منّي باعتقادي .

(فَقُلْتُ لَهُ : مَا مَنَعَهُ _ إِنْ كَانَ) . لم يقل «لو كان» خوفا من التصريح بالاعتقاد .

(الاْءَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ _) أي أهل الطواف .

(أَنْ يَظْهَرَ لِخَلْقِهِ) . يريد بالظهور نصب الدلائل الواضحة ، وهذا إشارة منه إلى أنّ اعتقادكم بوجود الصانع لم يحصل إلاّ بقول من ادّعى أنّه رسول منه، وأنتم تزعمون أنّ عليه دليلاً خفيّا .

ويحتمل أن يكون المراد بالظهور كونَه محسوسا مرئيّا ، وحينئذٍ كان قوله: «و كيف احتجب» من قبيل حمل كلام الخصم على غير مراده مبالغةً في امتناع مراده، كما يجيء .

ص: 42


1- القصص (28) : 79 .
2- في حاشية «أ» : «وفيه إشارة إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من استحالة الخرق والالتيام والسكون والحركة المستقيمة في الفلكيّات ومن أنّ إيجاد العالم بعنوان الإيجاب ، فلا يستحقّ موجده حمدا فضلاً عن العبادة» .

نظيره في سادس «باب في إبطال الرؤية» .

(وَيَدْعُوَهُمْ إِلى عِبَادَتِهِ) بعد نصب الدلائل الواضحة .

(حَتّى لاَ يَخْتَلِفَ مِنْهُمُ) : من خلقه (اثْنَانِ) . المراد بالاختلاف الاختلاف لأجل عدم الدليل الواضح .

(وَلِمَ احْتَجَبَ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ) أي لم ينصب دليلاً واضحا قبل إرسال الرسل على نفسه، وإنّما احتجّ على وجوده بقول الرسل وبيانهم لدليل خفيّ، كما زعم الفلاسفة ومَن تبعهم أنّه مبنيّ على إبطال التسلسل في الاُمور المتعاقبة، أو إثبات احتياج الممكن في البقاء إلى مؤثّر، ونحو ذلك من المقدّمات الدقيقة جدّا .(1)

(وَلَوْ بَاشَرَهُمْ بِنَفْسِهِ) أي لو نصب لهم أدلّة واضحة قبل إرسال الرُّسل . (كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الاْءِيمَانِ بِهِ ) .

هذا من قبيل دليل المعتزلة على وجوب اللطف على اللّه ،(2) ويجيء إبطاله في «باب الاستطاعة»، ولم يتعرّض عليه السلام هنا له لئلاّ يتوهّم أنّ الواقع خفاء الدليل .

(فَقَالَ لِي : وَيْلَكَ ، وَكَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ ؟!). يريد أنّه تعالى نصب أدلّة واضحة على أنّه المدبِّر للعالم قبل إرسال الرسل ؛ ومن تلك الدلائل ما في نفسك، ولم يقل: «أراك وجوب وجوده» بدل «أراك قدرته» إشارةً إلى أنّ إثبات الصانع بإثبات حدوث العالم عنه بالقدرة، لا بإثبات وجوب الوجود .

(نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ) . النشوء بضمّ النون والمعجمة والواو والهمز كالحدوث وَزْنا ومعنىً، مصدر نشأ كمنع وحسن، أي حيي. وهو منصوب على أنّه بدل تفصيل لقوله : «قدرته» والواو للحال أجرى الاتّصال مجرى المقارنة .

وهذا إلى آخره راجع إلى ما فصّلناه في الدليل الثاني من أوّل الباب، لكن أجراه في قسم من الحوادث التي ليست تحت مقدور المخلوقين، وهي ما في أنفسنا ليستنبط .

ص: 43


1- اُنظر المسالك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ معارج الفهم ، ص 212 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 12 .
2- حكاه في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 168 .

منها حكم سائرها، كما فيما يجيء في ثالث الباب(1) من قوله : «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي» إلى آخره .

ويحتمل أن يكون المراد علمنا برعايته المصالح مفصّلاً في كلّ حادث في أنفسنا، ونبني الكلام على هذا الاحتمال ؛ لظهور الأوّل، فنقول :

دلالة هذا على الصانع باعتبار أنّ تولّد الإنسان المصوَّر بالصورة، المبعّض إلى الأعضاء والأجزاء المشتملة على الحِكَم والمصالح، الذكرِ أو الاُنثى من المنيّ البسيط الذي يصلح لكلّ صورة وأجزاء، واُنثى وذكر، لا يمكن بديهةً أن يكون بسبب غير ذي علم وحكمة؛ فيكون عن قادر .

(وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان حين تولّده ليس قادرا على جلب المنافع ودفع المضارّ، والاغتذاء بكلّ غذاء ، فإعداد اللبن _ المناسب لبدنه باعتبار الرطوبة في ثدي اُمّه لمعاشه _ ، وإلهامه مصّ الثدي، وتحنين الوالدين عليه ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه كبر الإنسان _ ولولاه لم يَعِش طفل أصلاً _ ليس إلاّ بتدبير وحكمة وقدرة .

(وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان إذا كبر في الجملة، نبت له أضراس ليغتذي الغذاء المناسب لبدنه باعتبار اليبوسة القويّة المقوّية، وتهيّأ له أسباب القوّة على النسق المشاهد ليسعى في العمارة والزراعة والتجارة، ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه التمدّن، ولولاه لم يحصل للإنسان تعيّش، ولا يمكن أن يكون ذلك عن غير ذي علمٍ وقدرة وحكمة .

(وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ نقص القُوى حين الشيخوخة مشتمل على حكمة؛ لأنّه مذكِّر للموت ومُؤنسٌ له، ولو كان الإنسان باقيا على قوّة الشباب، لم يحصل لمن نشأ بعده دخلٌ في الدنيا، واستقلّ بالتصرّف في أمواله دون ولده، ولم يحتج إلى خادم، فيختلّ كثير من معاش الناس . وفيه من الحكمة ما لا يخفى ، فلا يصدر عن غير ذي علمٍ وقدرة وحكمة . .

ص: 44


1- أي الحديث 3 من باب حدوث العالم و إثبات المحدث .

(وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الأمراض أكثرها في الأعزّة المخدومين، دون المغفول عنهم، وفي موضع يوجد فيه الأطبّاء دون القرى والصحاري ، وقد وضع لكلّ مرض دلالات في بدن الإنسان، وعوارضُ باعتبار اللون والقارورة وحركة النبض ونحو ذلك؛ فهو بتدبير مدبّر.

(وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ حصول الصحّة ليس منوطا بالأدوية المستعملة عند الأطبّاء، بل ربّما كان المغفول عنه أقرب إلى الصحّة، والتصدّقات والأدعية أشدُّ تأثيرا في إزالة كثير من الأمراض؛ فليس ذلك إلاّ بتدبير مدبّر، كما في قوله تعالى حكاية: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»(1).

(وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يرضى بفعل لم يكن ليرضى به، بل يحلف على الاجتناب عنه، كالأفعال الخسيسة وكالصناعات الدنيّة؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد ينقلع عن مرضيّ له لم يكن ينقلع عنه؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَحَزَنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعرض له حزن لا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَفَرَحَكَ بَعْدَ حَزَنِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعرض له فرح لا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يحبّ شخصا مبغوضا له، ولا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يبغض محبوبا له، ولا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَعَزْمَكَ بَعْدَ أَنَاتِكَ) . يُقال: تأنّى في الأمر، أي تنظّر وترفّق، والاسم: الأناة مثل قناة، .

ص: 45


1- الشعراء (26) : 80 .

وأصل الهمزة الواو من الونى بفتح الواو وفتح النون والألف، وبسكون النون والخاتمة: الضعف والفتور.(1)

دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعزم على فعل لم يكن ليعزم عليه لمصالح نفسه، لا لغضبه له، فينكشف عن صلاح كالتجارات والأسفار النافعة للناس، وكثيرا ما يخرج الإنسان من بيت بلا سبب وفي غير وقت خروجه، فينهدم البيت؛ فعلم أنّ ذلك بتدبير مدبّر.

ولا يوجب ذلك الجبرَ، كما سيجيء في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة».(2)

(وَأَنَاتَكَ بَعْدَ عَزْمِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يفسخ عزما لم يكن ليفسخ، وأكثر ذلك حين إخباره غيره عن نفسه أنّه سيفعل كذا بدون استثناء؛ فعلم أنّ ذلك بتدبير مدبّر.

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه _ رحمه اللّه تعالى _ في «باب في أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به»:

أنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربّك؟ قال: «بفسخ العزم ونقض الهمّ، لمّا هممت فحِيلَ بيني وبين همّي، وعزمتُ فخالف القضاء عزمي، علمت أنّ المدبِّر غيري».(3)

(وَشَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهَتِكَ) ؛ بفتح الكاف من باب علم. دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يشتهي الطعام والشراب والجماع والنوم وغير ذلك، ولو كان كارها لهذه دائما لاختلّ النظام؛ ففي الاشتهاء رعاية مصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الاشتهاء لو كان دائميّا لاختلّ النظام؛ ففي الكراهة رعاية مصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ) . هما بالفتح من باب علم: الإرادة والخوف. دلالة هذا باعتبار .

ص: 46


1- تاج العروس ، ج 19 ، ص 172 (أنى) .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 149 ، باب في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- التوحيد ، ص 288 ، باب أنّه عزّوجلّ لا يعرف إلاّ به ، ح 6 .

أنّ الإنسان مجبول على أن يرغب في المنافع ولا يرهب، أي لا يخاف منها، ولو كان راهبا من كلّ شيء لاختلّ النظام؛ ففي الرغبة رعاية المصالح، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان مجبول على الخوف للمضارّ وما هو مظنّتها، كالمواضع المظلمة الموحشة؛ وفيه من المصالح ما لا يخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

والظاهر من العبارة أنّ المرغوب فيه والمرهوب شيءٌ واحد، والاختلاف في الأوقات، لكن رعاية المصلحة فيه غير معلومة لنا مفصّلاً.

(وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يرجو من غيره نفعا، فيراعي جانبه، وتترتّب عليه مصالح، فلولا الرجاء لاختلّ النظام؛ فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان لو كان راجيا من كلّ أحد، أو من أحد دائما ومن جميع الجهات لاختلّ النظام، وتحبّس كلّ نفس؛ ففي اليأس في الجملة راحة ومصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَخَاطِرَكَ) . أي وخطور خاطرك ببالك. والخاطر بصيغة اسم الفاعل: ما حصل في الذهن؛ من خطر ببالي كذا _ كنصر وضرب _ : إذا تحرّك في القلب ونشأ.

(بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهَمِكَ(1)) . الباء للسببيّة. والوهم بالفتح: الذهن.

وهذا إشارة إلى أنّ خطور الخاطر بالبال على قسمين:

الأوّل: ما كان بسبب حصول ملزومه أو مقتضيه ضرورةً(2) في البال، كخطور الزوجيّة بعد حصول الأربعة في الذهن.

الثاني: ما كان بسببٍ هو غير حاصل في البال، بل يخطر بغتةً.

والمقصود في الاستدلال القسم الثاني، فإنّه يدلّ على أنّه بسبب إلهام مدبّر.

(وَعُزُوبَ مَا أَنْتَ مُعْتَقِدُهُ عَنْ ذِهْنِكَ). العزوب _ بضمّ المهملة والزاي والموحّدة _ .

ص: 47


1- في الكافي المطبوع : «وَهْمِك» بالجزم .
2- في «ج» : - «ضرورة» .

مصدر باب نصر وضرب: الغيبة. والاعتقاد: شدّ الشيء بالقلب لئلاّ ينسى.

دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يصرّ على حفظ شيء وينساه؛ فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

روى ابن بابويه في كتابه في التوحيد في باب الاستطاعة عن عمرو _ رجلٍ من أصحابنا _ عمّن سأل أبا عبداللّه عليه السلام فقال له: إنّ لي أهلَ بيت قدريّة يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا، ونستطيع أن لا نعمل، قال: فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «قُل له: هل تستطيع أن لا تذكر ما تكره، وأن لا تنسى ما تحبّ؟ فإن قال: لا، فقد ترك قوله، وإن قال: نعم، فلا تكلّمه أبدا، فقد ادّعى الربوبيّة».(1)

(وَمَا زَالَ يُعَدِّدُ) . التعديد: التكثير في العدّ.

(عَلَيَّ) ؛ بفتح الياء المشدّدة.

(قُدْرَتَهُ) أي آثار قدرة الصانع، فإنّ المقصود بإثبات الصانع إثبات قدرته، كما سبق في شرح عنوان هذا الباب.

(الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِي، الَّتِي لاَ أَدْفَعُهَا) أي لا يمكنني دفعها وإنكارها؛ لضروريّتها.

(حَتّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ) أي صانع العالم (سَيَظْهَرُ) مشاهدا محسوسا (فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ).

هذا على سبيل المبالغة في الظهور بالبرهان، والحمد للّه الذي برهانه أن ليس شأن ليس فيه شأنه.

الثالث: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الاْءَسَدِيُّ _ رَحِمَهُ اللّه ُ(2) _ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة وفتح الميم؛ نسبةً إلى جدّ يحيى بن خالد، وهم البرامكة.(3)

(الرَّازِيِّ) ؛ بالمهملة والزاي؛ نسبةً إلى الريّ بغير قياس. .

ص: 48


1- التوحيد ، ص 352 ، باب الاستطاعة ، ح 22 .
2- في الكافي المطبوع : - «رحمه اللّه » .
3- وهو وزير هارون الرشيد ، سمّ مولانا الكاظم عليه السلام بأمر هارون العباسي . اُنظر قاموس الرجال ، ج 11، ص 46 ، الترجمة 8330 .

(عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بُرْدٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وسكون الراء المهملة والدال المهملة.

(الدِّينَوَرِيِّ)؛ بكسر المهملة وسكون الخاتمة وفتح النون وفتح الواو والمهملة؛ نسبةً إلى بلد قرب همذان.(1)

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْخُرَاسَانِيِّ خَادِمِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ عَلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) إيناسا للزنديق إلى الإصغاء إلى الحقّ.

(أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَ رَأَيْتَ) ؛ بهمزة الاستفهام وصيغة الخطاب، بمعنى «أخبرني».

(إِنْ كَانَ الْقَوْلُ) أي الحقّ (قَوْلَكُمْ) . هو نفي الصانع المترتّب عليه نفي الشرائع.

(وَلَيْسَ هُوَ) أي القول (كَمَا تَقُولُونَ) . زاد كاف التشبيه للدلالة على أنّ قولهم بعيد عن الحقّ.

(أَ لَسْنَا وَإِيَّاكُمْ) ؛ الواو بمعنى «مع».

(شَرَعا) ؛ بفتح المعجمة وفتح الراء، ويجوز سكونها أيضا، يُقال: هم في هذا الأمر شرع، أي متساوون، لا فضل لأحدهم على الآخر، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث.

(سَوَاءً)؛ بفتح المهملة والمدّ، يُقال: هما في هذا الأمر سواء، وإن شئت سواءان، و«هم سواء» للجمع، و«هم أسواء» أي متساوون.

(لاَ يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا) . «ما» مصدريّة.

(وَصُمْنَا، وَزَكَّيْنَا) . يُقال: زكّى ماله تزكية: إذا أدّى عنه زكاته.

(وَأَقْرَرْنَا؟) بوجود الصانع للعالم؛ وذلك لأنّ الحياة منقطعة، فبعد زوالها لا يبقى أثر، وفرق بين من فعل هذه الأشياء، ومن لم يفعل على رأي الزنادقة. .

ص: 49


1- دينور : مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين ، ينسب إليها خلق كثير ، وبين الدينور وهمذان نيف وعشرون فرسخا ، ومن الدينور إلى شهرزور أربع مراحل، وهي كثيرة الثمار والزروع، وأهلها أجود طبعا من أهل همذان . معجم البلدان ، ج 2 ، ص 545 .

(فَسَكَتَ الرَّجُلُ) للتأمّل فيما قال.

(ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) بعد مدّة ومُهلة لتأمّله (: وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ) أي الحقّ (قَوْلَنَا) وهو وجود الصانع المترتّب عليه بالمعجز ثبوت الشرائع، وأنّ منكري الصانع والشرائع مخلّدون في النار، والمصدّقين مخلّدون في الجنّة.

(وَهُوَ) أي القول الحقّ (قَوْلُنَا) . لم يزد كاف التشبيه هنا _ وقد زاد في السابق _ للدلالة على أنّ قولنا هو الحقّ بعينه، ليس إلاّ.

(أَلَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ وَنَجَوْنَا؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللّه ُ، أَوْجِدْنِي) ؛ من أفعال القلوب اُلغي بالاستفهام؛ أي أعلمني. (كَيْفَ هُوَ؟). اسم استفهام مأخوذ من الكيف بالفتح: القطع والفصل، وهو هنا سؤال عن الكيفيّة(1) بمعنى خصوصيّة لشيء موجودةٍ في نفسها في الخارج، عارضةٍ له؛ فهي غير الأين.

وقد يُطلق على أعمّ ممّا ذكر، كما يجيء في سادس الثاني(2) في شرح قوله: «فله كيفيّة» إلى آخره، ويجيء فيه أيضا قوله: «لأنّ الكيفيّة جهة الصفة والإحاطة» مع شرحه.

توهّم السائل أنّ المقرّين بالصانع يعتقدون أنّه جسم ذو كيفيّة.(3)

(وَأَيْنَ هُوَ؟). سؤالٌ عن صفة له، وهي خصوصيّة المكان. توهّم أنّ المقرّين بالصانع يعتقدون أنّه جسم في مكان دون مكان.

(قَالَ(4): وَيْلَكَ) . مرَّ معنى الويل في ثاني الباب.

(إِنَّ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ) من أنّا نعتقد أنّ الربّ ذو أين وكيفيّة (غَلَطٌ) .

استدلّ على كونه غلطا بقوله: (هُوَ أَيَّنَ) ؛ بشدّ الخاتمة بصيغة الماضي من باب .

ص: 50


1- كيف : سؤال عن الأحوال ؛ تقول : كيف زيد، تريد السؤال عن صحّته وسقمه وعسره ويسره . مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 90 (كيف) .
2- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في حاشية «أ» : «الأظهر ما في الصافي من أنّها خصوصيّة حاصلة للشيء بالنسبة إلى شيء آخر باعتبار تمكّنه من مكان» .
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .

التفعيل. والمراد بالتأيين إمّا تخصيص الشيء بمكان، وإمّا جعل المكان المخصوص مكانا لشيء. والمآل واحد.

(الاْءَيِّنَ(1)) ؛ إمّا بشدّ الخاتمة المكسورة على فيعل، ويمكن تخفيفها على أنّه كَسيِّدٍ وسَيْدٍ؛ أي المتمكّن في مكان محدود معيّن، وإمّا بتخفيفها على الأصل.

(وَكَيَّفَ) ؛ بشدّ الخاتمة مأخوذ من الكيف بالفتح: القطع، يُقال: كيّفه تكييفا إذا قطعه تقطيعا، وهو للمبالغة، والمراد بالتكييف هنا إمّا إعطاء كلّ شيء كيفيّةً،(2) وإمّا جعل كلّ كيفيّة كيفيّةً لشيء. والمآل واحد.

(الْكَيِّفَ(3)) ؛ إمّا بشدّ الخاتمة المكسورة على فيعل، ويمكن تخفيفها على أنّه كسيّد وسيدٍ؛ أي ذا الكيفيّة، وإمّا بتخفيفها على الأصل، أي الكيفيّة.

(بِلاَ كَيْفٍ) . الظرف متعلّق بكلّ من الفعلين على سبيل التنازع، و«كيف» بسكون الخاتمة بالجرّ والتنوين؛ أي مع عدم الكيف لتأيينه وتكييفه. أو مبنيّ على الفتح حكاية استفهام؛ أي بحيث لا يصحّ السؤال بكيف عن تأيينه وتكييفه، لأنّه ليس لهما خصوصيّة معلومة لنا على حِدة؛ لأنّهما ليسا من الأفعال البدنيّة العلاجيّة المحسوسة، بل بمحض نفوذ الإرادة.

فحاصل الدليل أنّه تعالى خالق كلّ ذي أين وكلّ ذي كيفيّة بمحض نفوذ الإرادة، وافتراق الخالق من مخلوقه بديهيّ، ويجيء توضيحه في سادس «باب جوامع التوحيد» عند قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه» إلى آخره.

ويحتمل على الجرّ والتنوين أن يكون المراد مع عدم الكيف له تعالى، وحينئذٍ يُقال: إنّ الظرف متعلّق بالفعل الثاني فقط. وأنّه لم يقل في الأوّل «بلا أين» إشارةً إلى أنّ نفي الأين .

ص: 51


1- في الكافي المطبوع : «الأيْن» بسكون الياء .
2- في حاشية «أ» : «وفي الصافي : التكييف إعطاء كيفيّة لشيء ، سواء كان بإحداث الكيفيّة في ذلك الشيء ، أو بإحداث ذلك الشيء الذي يتكيّف بتكييف هذا المحدث أو بتكييف غيره ، فلا يلزم من ذلك أن يكون العبد فاعلاً لحركاته» .
3- في الكافي المطبوع : «الكيف» بسكون الياء .

عنه في الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره، بخلاف نفي الكيف. ويوافق ذلك أنّه يجيء في أوّل «باب الكون والمكان» مثل هذه العبارة، ولم يترك فيه قوله «بلا أين» في الأوّل.(1)

إن قلت: ينافي هذا ما يجيء في سادس الباب الثاني(2) من قوله: «ولكن لابدّ من إثبات أنّ له كيفيّةً لا يستحقّها غيره؟»

قلت: لا منافاة؛ لأنّ الكيفيّة قد تُطلق مجازا على أعمّ ممّا مرّ، وهو المراد فيما يجيء.

(فَلاَ يُعْرَفُ بِالْكَيْفُوفِيَّةِ)(3) . تفريعٌ للنتيجة على الدليل باعتبار بداهة مغايرة الخالق لمخلوقه، وأصلها وأصل الكيفيّة من «كيف» في الاستفهام، وهو اسم مُبهم غير متمكّن مبنيّ على الفتح، وقد يستعمل استعمالَ الاسم المتمكّن في الذي يُقال في جواب كيف، ويدخل عليه الألف واللام، ويُعرب(4) بالحركات الثلاث، وقد يشتقّ منه المصدر بإدخال ياء النسبة إلى «كيف» والهاء المصدريّة، فيستعمل في الوصف المذكور، وهذا إمّا بدون تكرار لام الفعل كما في «الكيفيّة» وإمّا بتكرارها وتوسّط الواو بينهما كما في «الكيفوفيّة» ومثله «الكينونيّة». ويجيء في رابع «باب الكون والمكان».

(وَلاَ بِأَيْنُونِيَّةٍ) أي بالجواب عن السؤال بأين. واشتقاقها كما مرّ في الكيفوفيّة.

(وَلاَ يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ) . إشارةٌ إلى أنّ حكمك فيه تعالى بالكيف والأين مبنيّ على زعمك فيه تعالى(5) أنّه يُدرك بحاسّة.

(وَلاَ يُقَاسُ بِشَيْءٍ) . إشارةٌ إلى أنّ زعمك فيه تعالى أنّه يُدرك بحاسّة مبنيّ على قياسك إيّاه بالأشياء المدركة بالحواسّ.

(فَقَالَ الرَّجُلُ) استدلالاً على أنّه يُدرك بحاسّة. .

ص: 52


1- في حاشية «أ» : «ونقل هذا الحديث في العيون هكذا : هو أيّن الأين وكان بلا أين ، وكيّف الكيف وكان بلا كيف . وهو أحسن» . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 120 ، باب 11 ، ح 28 . وفيه : «هو أيّن الأين وكان ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف» .
2- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في حاشية «أ» : «الظاهر كما في نسخ التوحيد والعيون : «بكينونية منكرة» . وفي كلاهما كما في الكافي .
4- في «ج» : «ويعرف» .
5- في ج : - «فيه تعالى» .

(فَإِذا) . هي «إذن» بالنون؛ لأنّها حرف مكافاة وجواب، لكنّها كُتبت بالألف كما هو عند البصريّين إشعارا بصورة الوقف، لأنّك إذا وقفت على إذن، أبدلت من نونه ألفا؛ تشبيها لها بالمنوّن المنصوب.

وعند الكوفيّين أنّها تُكتب بالنون اعتبارا باللفظ، للفرق بينها وبين «إذا» الشرطيّة والفجائيّة في الصورة.

وقال بعضهم: يوقف عليها أيضا بالنون، وذهب بعض إلى أنّها اسم منوّن، وتنوينها عوض عن المضاف إليه، تأويلها: إذ(1) كان الأمر كما ذكرت.

ويحتمل أن يكون بالألف الليّنة لفظا أيضا للمفاجأة، نحو: خرجت فإذا زيدٌ قائم، وحينئذٍ لا تقع في الابتداء، فهي هنا جزاء شرط، كقوله تعالى: «ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الاْءَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».(2)

وحذف هنا الشرط لدلالة قوله: «إذا لم يدرك» إلى آخره عليه.

وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرّد، وظرف زمان عند الزجّاج.(3)

ويرجّح الأوّل قولهم: «خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب» بكسر «إنّ» لأنّ «إنّ» لا تعمل ما بعدها فيما قبلها.

(إِنَّهُ) ؛ بكسر الهمزة وشدّ(4) النون؛ لأنّ «إذا» تختصّ بالجملة. ويجوز الفتح على الابتداء، وتقديرُ خبر مبتدأ، أي «حاصل».

(لاَ شَيْءٌ(5)) ؛ بالرفع والتنوين خبرُ «إنّ»؛ لأنّهما جعلا كاسم واحد. والمراد بالشيء الموجودُ المعتدّ به، أي لا يصلح لأن يكون ربّا. ويحتمل أن يكون المراد به الموجودَ مطلقا.

(إِذَا لَمْ يُدْرَكْ بِحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ) . شرطيّة، وجزاؤها محذوف، يدلّ عليه سابقه؛ أي .

ص: 53


1- في «ج» : «إذا» .
2- الروم (30) : 25 .
3- اُنظر شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 39 .
4- في «ج» : «وتشديد» .
5- في الكافي المطبوع : «لا شيءَ» بالفتح .

إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ كان لا شيئا.

وهذا استدلال منه على نفي ربوبيّة ما زعمه المخاطب ربّا، ويحتمل أن يكون استدلالاً على نفي وجوده مطلقا.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : وَيْلَكَ، لَمَّا عَجَزَتْ حَوَاسُّكَ عَنْ إِدْرَاكِهِ، أَنْكَرْتَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَنَحْنُ إِذَا عَجَزَتْ حَوَاسُّنَا عَنْ إِدْرَاكِهِ، أَيْقَنَّا أَنَّهُ رَبُّنَا) .

حاصله منع أنّه إذا لم يدرك بحاسّة كان لا شيئا البتّة، أو منع دلالة عدم الإدراك بحاسّة على كونه لا شيئا مستندا بأنّ لازم أحد النقيضين أو شرطَه يستحيل أن يكون ملزوما، أو دليلاً على الآخر، وعدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة، وشرط لليقين بالربوبيّة، وليس مقصوده عليه السلام أنّ عدم الإدراك بالحواسّ دليل على الصانعيّة.

ولا يخفى أنّ هذا صريح في أنّه لا مجرّد سوى اللّه ، فيبطل قول الزنادقة بتجرّد العقول العشرة والنفوس الناطقة.(1)

(بِخِلاَفِ شَيْءٍ مِنَ الاْءَشْيَاءِ) . خبر آخر ل«أنّ» أو استئناف بياني، فهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو بخلاف، لمّا كان في الخلاف معنى النفي كان «شيء» نكرة في سياق النفي، أي ليس بينه وبين شيء مشتركٌ ذاتي، فلا يمكن أن تُدرِكه الحواسّ، كما يجيء بيانه في أوّل الثاني.(2)

(قَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي(3) مَتى كَانَ؟).

في «باب الردّ على الثنويّة والزنادقة»(4) من توحيد ابن بابويه،(5) وفي «باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد» من عيون أخبار الرضا عليه السلام بعد هذه العبارة هكذا:

(قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : أَخْبِرْنِي مَتى لَمْ يَكُنْ؛ فَأُخْبِرَكَ مَتى كَانَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا .

ص: 54


1- الشفاء ، ج 2 ، ص 264 (الطبعة الاولى) . وحكاه الإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 690 .
2- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في «ج» : - «فأخبرني» .
4- في «أ»: «باب القدرة» بدل من «باب الردّ على الثنوية والزنادقة» .
5- التوحيد ، ص 251 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 3 .

الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟) انتهى.(1)

وهذا ساقط من قلم ناسخ الكافي. وحاصله أنّ السؤال ب«متى كان» إنّما هو في الحوادث، وهو قديم.

(قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) في الدليل عليه:

(إِنِّي لَمَّا نَظَرْتُ إِلى جَسَدِي، وَلَمْ يُمْكِنِّي فِيهِ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ فِي الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْهُ، وَجَرِّ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِ، عَلِمْتُ أَنَّ لِهذَا الْبُنْيَانِ) أي الجسد أو العالم. والمآل واحد.

(بَانِيا، فَأَقْرَرْتُ بِهِ) . حاصله ما مضى في ثاني الباب.

(مَعَ مَا أَرى) . بعدما استدلّ بالآيات في الأنفس، شرع في الاستدلال بالآيات في الآفاق:

(مِنْ دَوَرَانِ الْفَلَكِ بِقُدْرَتِهِ) . الدوران _ بفتح المهملة وفتح الواو _ : الحركة في محيط الدائرة ونحوه، كحركة الشمس والقمر وسائر النجوم. والفلك _ بفتح الفاء وفتح اللام _ جمع فلكة بسكون اللام، وهي ما استدار شكله. والمراد هنا الشمس والقمر وسائر النجوم. ومضى بيانه في الدليل الأوّل من أوّل الباب.

ويبعد كون المراد بالفلك السماءَ المحيطةَ بالأرض؛ لأنّا لا نرى دورانها، بل لا دوران لها، كما مضى في شرح الدليل الخامس من أوّل الباب.

(وَإِنْشَاءِ السَّحَابِ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تغييرها من جهة إلى اُخرى، أو من مكان إلى آخر، فإنّ كلّ واحد من أمثال ذلك من الحوادث دالّ على محدث العالم المثبت، كما مضى في الدليل الرابع من أوّل الباب. وما ذكره الطبيعيّون من الأسباب الطبيعيّة للسحاب وللرياح كالتبخّر وكالتخلخل والتكاثف ممّا تضحك منه الثكلى.

(وَمَجْرَى) ؛ مصدر ميمي، أو اسم مكان.

(الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ) : السيّارات أو جميعها، فإنّ اختصاص كلّ منها بمجرى خاصّ مع تشابه الأمكنة والجهات في تمام الحقيقة _ كما مضى في الدليل الثالث من .

ص: 55


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 120 ، باب 11 ، ح 28 . وهذه العبارة موجود في أكثر مخطوطات الكافي والمطبوع منه .

أوّل الباب _ دليل على محدث العالم المثبت، وأنّ اللّه يأتي بالشمس من المشرق.

(وَغَيْرِ ذلِكَ مِنَ الاْآيَاتِ) أي الدلائل على قدرة فاعلها على كلّ شيء.

(الْعَجِيبَاتِ) أي الخارجة عن أن يتوهّم أنّها فعل الطبائع.

(الْمُبَيِّنَاتِ) ؛ بالموحّدة والخاتمة والنون بصيغة المفعول من باب التفعيل، أو الفاعل منه، أو من باب الإفعال.

(عَلِمْتُ) . إنشاء في موضع «شهدت» و«أشهد».

(أَنَّ لِهذَا) أي للنظام المشاهد في السماوات والأرض وما بينهما.

(مُقَدِّرا) ؛ أي مدبِّرا.

(وَمُنْشِئا) . اسم فاعل من الإنشاء، أي محدثا له من كتم العدم؛ لما مرَّ في عنوان الباب من أنّ المدبّر الفاعل لا يكون إلاّ محدثا.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخَفَّافِ، أَوْ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللّه ِ الدَّيَصَانِيَّ) ؛ بفتح المهملة وفتح الخاتمة والمهملة والألف والنون، أي الملحد، يُقال: داص يديص ديصانا، أي مالَ وحاد.(1)

(سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ رَبٌّ؟) أي فاعل مجرّد مدبّر لكلّ ما عداه، ولا مجرّد سواه، كما مضى في ثالث الباب من قوله عليه السلام : «إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا».

(فَقَالَ: بَلى) أي نعم. وإنّما قال «بلى» في جواب السؤال بالإثبات _ مع أنّها حرف وضعت لترك النفي _ لأنّ السائل يعتقد النفي.

(قَالَ: أَقَادِرٌ هُوَ؟) أي على كلّ شيء واقع. ومعنى القدرة استجماع العلّة التامّة للفعل، والعلّةِ التامّة للترك.

(قَالَ: نَعَمْ، قَادِرٌ قَاهِرٌ) . إنّما قال هنا «نعم» لأنّ السائل لم يعتقد نفي القدرة عن الربّ بعد فرض تحقّقه. .

ص: 56


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1040 ؛ القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 304 (داص) .

(قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ) أي على أن.

(يُدْخِلَ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال.

(الدُّنْيَا) ؛ مؤنّث الأدنى، أي القربى. والمراد بها السماء السابعة العُليا؛ لأنّها أعلى ممّا في جوفها، وكلّ أعلى أقرب إلى اللّه تعالى بنوع من المجاز، كما في قوله تعالى في سورة الصافّات: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».(1)

(كُلَّهَا الْبَيْضَةَ ) . هي مفعولٌ ثانٍ ل«يدخل» و«البيضة» واحد بيض الطائر، وهو شامل لبيض العصفور والحمام ونحوهما.

(لاَ يُكَبِّرُ(2)) ؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائب من باب التفعيل، والجملة حال عن فاعل «يدخل» أو للغائبة من باب حسن، والجملة حال عن البيضة، وإن كانت بدون واو الحال ولا ضمير مع اشتراط أحدهما في الجملة الحاليّة إذا كانت مضارعا منفيّا، وذلك لأنّ التكرار يقوم مقام الضمير كما في قوله تعالى: «الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ».(3)

(الْبَيْضَةَ(4)) ؛ مفعول به ل«يكبّر» أو فاعله.

(وَلاَ يُصَغِّرُ(5) الدُّنْيَا؟)؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب التفعيل، أو باب حسن، وهو عطف انسحاب فيجوز خلوّه عن الضمير وما يقوم مقامه على تقدير كون صاحب الحال «البيضة».

مقصود الديصاني الاستدلال على تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة ليبطل به القاعدة الإسلاميّة، وهي أنّه لا مجرّد سوى اللّه تعالى، وهذا الاستدلال مأخوذ من كلام أرسطو في كتاب النفس،(6) وحاصله: أنّه لو كان النفس الناطقة جسما لزم أن لا يعرف جسما أكبر .

ص: 57


1- الصافّات (37) : 6 .
2- في الكافي المطبوع : «تَكْبُرُ» .
3- الحاقّة (69) : 1 و 2 .
4- في الكافي المطبوع : «البيضةُ» بالضم .
5- في الكافي المطبوع : «تَصْغُرُ» .
6- حكاه في الشفاء (الطبيعيات) ، ج 2 ، ص 197 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 7 ، ص 189 ؛ المباحث المشرقية ، ج 2 ، ص 399 ؛ المحصّل ، ص 543 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 544 .

منها؛ لأنّه يستلزم دخول الأكبر كلّه في حيّز الأصغر بدون تكبير ولا تصغير، وهو محال بالذات؛ وذلك لأنّ إدراك الجسم جسما لا يتصوّر إلاّ بمماسّة الأوّل جميع أجزاء الثاني.

(قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ) ؛ بفتح النون وكسر المعجمة: التأخير والإمهال؛ أي أطلب منك النظرة.

(فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلاً) ؛ بالفتح، أي سنةً. توهّم أنّه لا يقدر على جوابه أحدٌ.

(ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ. فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ) أي للدخول عليه.

(فَأَذِنَ لَهُ) ؛ بفتح الهمزة أو ضمّها.

(فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ،(1) أَتَانِي عَبْدُ اللّه ِ الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ الْمُعَوَّلُ) ؛ مصدر ميمي من باب التفعيل.

(فِيهَا إِلاَّ عَلَى اللّه ِ وَعَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : عَمَّا ذَا سَأَلَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: كَيْتَ وَكَيْتَ) ؛ لفظ محمّد بن إسحاق، كنّى بهما عن الحكاية بتمامها، و«كيت» _ بفتح الكاف وسكون الخاتمة وفتح المثنّاة فوق وكسرها وضمّها _ لا تستعمل إلاّ مكرّرة بواو العطف.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا هِشَامُ،(2) كَمْ حَوَاسُّكَ؟ قَالَ: خَمْسٌ) . هي: الباصرة، واللامسة، والذائقة، والسامعة، والشامّة.

وظاهر هذا إبطال ما أثبته الفلاسفة من الحواسّ الخمس الباطنة، وزعموا أنّ الحواسّ عشر،(3) ويؤيّده ما يجيء في الآتي من قوله عليه السلام : «لا يدرك بالحواسّ الخمس».

(قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟ قَالَ: النَّاظِرُ) أي الباصرة. والناظر ما في المقلة من السواد الأصغر الذي فيه إنسان العين، وصِغره بالنسبة إلى محلّ اللامسة والذائقة ظاهر، وأمّا بالنسبة إلى محلّ السامعة والشامّة، فإمّا باعتبار أنّ فضاء الصِماخ والمنخر أكبر من الناظر، وهما محلاّن لهما في الظاهر، وإمّا باعتبار الحقيقة. .

ص: 58


1- في النسختين : + «صلى اللّه عليه و آله» .
2- في النسختين : - «يا هشام» .
3- حكاه في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 22 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 9 ، ص 56 .

(قَالَ: وَكَمْ) . تمييزه محذوف، أي كم ذرعا.

(قَدْرُ النَّاظِرِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا) . ويجيء في «كتاب الأطعمة» في ثاني «باب الحمّص»(1) وثالثه أنّ العدس هو الحمّص في لغة أهل الحجاز، وحَبٌّ معروف أصغر من الحمّص في لغة أهل العراق؛ يعني إنّي عارف بأنّه ليس ممّا يقاس بالذرع.

(فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، فَانْظُرْ أَمَامَكَ وَفَوْقَكَ وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَرى. فَقَالَ:) أي نظر، فقال:

(أَرى سَمَاءً وَأَرْضا وَدُورا) ؛ بضمّ المهملة وسكون الواو: جمع «دار».

(وَقُصُورا) ؛ جمع «قصر».

(وَبَرَارِيَ وَجِبَالاً وَأَنْهَارا. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاهُ الْعَدَسَةَ). المراد مثل العدسة.

(أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لاَ يُصَغِّرُ(2) الدُّنْيَا وَلاَ يُكَبِّرُ(3) الْبَيْضَةُ) .

(فَأَكَبَّ هِشَامٌ) . يُقال: كبّه كنصره وأكبّه، أي صرعه لوجهه فأكبّ هو. وهذا من النوادر أن يكون «فَعَلَ» متعدّيا البتّة، و«أفعل» لازما.

(عَلَيْهِ) : على أبي عبداللّه عليه السلام .

(وَقَبَّلَ يَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ: حَسْبِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ، وَانْصَرَفَ إِلى مَنْزِلِهِ) . حسبي _ بفتح الحاء وسكون السين المهملتين والموحّدة _ مضاف إلى ياء المتكلّم خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا كاف لي، يعني تفطّنت بما أشرتَ إليه، ولا حاجة لي إلى تفصيله.

حاصل الجواب: النقض الإجمالي بحيث يظهر منه الحلّ أيضا، وتقرير النقض أنّه لو تمّ هذا الاستدلال، لزم أن لا يدرك الناظر جسما أكبر منه؛ لأنّ الناظر جسم بالاتّفاق، وبطلان اللازم ضروري.

وتقرير الحلّ: أنّ إدراك الناظر جسما أكبر منه إن كان بدخول الأكبر في حيّز الأصغر .

ص: 59


1- الكافي ، ج 6 ، ص 342 ، باب الحمّص ، ح 2 .
2- في الكافي المطبوع : «تَصْغُرُ» .
3- في الكافي المطبوع : «تَكْبُرُ» .

باعتقاد الزنادقة، فليكن إدراك النفس الناطقة جسما أكبر منها كذلك، وإن كان بغير دخولٍ، ظهر منع قولهم: إنّ إدراك الجسم جسما لا يتصوّر إلاّ بمماسّة الأوّل لجميع(1) أجزاء الثاني.

(وَغَدَا عَلَيْهِ الدَّيَصَانِيُّ) أي أتاه بكرةً؛ لِما حدث في نفسه من الاضطراب والخوف من أن يجيب عنه أبو عبداللّه عليه السلام ، أو لإظهار التبختر والتعجيز.

والغدوة _ بالضمّ _ : ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والغدوّ نقيض الرواح.

(فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، إِنِّي جِئْتُكَ مُسَلِّما، وَلَمْ أَجِئْكَ مُتَقَاضِيا لِلْجَوَابِ. فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ) . زيادة «كنت» لنقل مدخول «إن» عن الاستقبال إلى الماضي.

(مُتَقَاضِيا، فَهَاكَ) . «ها» مقصورةً وممدودةً اسم فعل بمعنى «خذ» وتلحق بها كاف الخطاب.

(الْجَوَابَ)؛ منصوب على المفعوليّة.

(فَخَرَجَ الدَّيَصَانِيُّ عَنْهُ) بعد سماع الجواب.

(حَتّى أَتى بَابَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) ، لِما عرف من أنّ الجواب من عنده عليه السلام .

(فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ، قَالَ لَهُ: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلى مَعْبُودِي ) أي على ما تزعم أنّه يجب عليَّ عبادتهُ، وهو المحدث للعالم المثبت.

(فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا اسْمُكَ؟). إيناس له بالإصغاء إلى الدليل، وإشارة إلى أنّ العلم بالصانع مركوز في كلّ ذهن عاقل، وكلّ واحدٍ منهم ملهم بالنظر في برهان يفضي به إلى علم، وإنّما إنكار الجاحد له باللسان دون الجنان.

(فَخَرَجَ عَنْهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَيْفَ؟)(2) ؛ أي لِمَ لم تخبره باسمك؟

(قَالَ: لَوْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُ: عَبْدُ اللّه ِ، كَانَ يَقُولُ: مَنْ هذَا الَّذِي أَنْتَ لَهُ عَبْدٌ؟ فَقَالُوا لَهُ: عُدْ إِلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: يَدُلُّكَ عَلى مَعْبُودِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنِ اسْمِكَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلى مَعْبُودِي، وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنِ اسْمِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : «اجْلِسْ» وَإِذَا) ؛ .

ص: 60


1- في «ج»: «جميع».
2- في الكافي المطبوع : + «لَم تُخْبِرْه بِاسْمِكَ؟» .

للمفاجأة. (غُلاَمٌ) ؛ مبتدأ. (لَهُ) ؛ صفة للمبتدأ. (صَغِيرٌ ) ؛ صفة اُخرى. (فِي كَفِّهِ بَيْضَةٌ يَلْعَبُ بِهَا) ؛ الجملة خبر المبتدأ.

(فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَاوِلْنِي يَا غُلاَمُ الْبَيْضَةَ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا . فَقَالَ(1) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا دَيَصَانِيُّ، هذَا حِصْنٌ) . الحصن _ بكسر الحاء وسكون الصاد _ في الأصل كلّ موضع له سور مع سوره.

(مَكْنُونٌ) أي مستور من جميع الجهات ليس له باب أصلاً؛ لئلاّ يخرج منه مصلح ولا يدخل فيه مُفسد.

(لَهُ جِلْدٌ غَلِيظٌ) لئلاّ ينكسر بأدنى شيء، وليس غلظته بحيث لا ينكسر في وقت الانفلاق لخروج الفرخ.

(وَتَحْتَ الْجِلْدِ الْغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ ) لئلاّ يتحرّك ما فيه بشدّة تحريك البيضة، فلا يتشوّش ولا يختلط الماءآن غالبا.

(وَتَحْتَ الْجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ) فهي متشابهة الأجزاء.

(وَفِضَّةٌ ذَائِبَةٌ) فهي أيضا متشابهة الأجزاء، الميع والذوب واحد، وهو خلاف الانجماد، إلاّ أنّ الذائب أرقّ وأسرع سيلانا.

(فَلاَ) . الفاء للتفريع على ما قبله؛ لاشتماله على ذكر الجلد الرقيق وكون الذهبة أغلظ من الفضّة. أو للتعقيب والتعجّب باعتبار اشتمال ما قبله على المَيْع والذوب، والتعجّب في «ثمّ» يكون أكثر منه في الفاء.

(الذَّهَبَةُ الْمَائِعَةُ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ) بأن يتحرّك شيء من الفضّة إلى مكان الذهبة.(2)

(وَلاَ الفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ الْمَائِعَةِ) بأن يتحرّك شيء من الفضّة إلى مكان الذهبة.

(فَهِيَ عَلى حَالِهَا) أي الحصن. والتأنيث باعتبار البيضة، والفاء للتفريع على ما قبلها باعتبار اشتمالها على ذكر الكِنّ والجلدين. .

ص: 61


1- في الكافي المطبوع : + «له» .
2- في «ج» : «الذهبة إلى مكان الفضة» بدل من «الفضّة إلى مكان الذهبة» .

والمراد بحالها الحال اللائقة بها، الدالّة على حكمة فاعلها بقول: «كُن».

(لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا خَارِجٌ مُصْلِحٌ؛ فَيُخْبَرُ عَنْ صَلاَحِهَا، وَ لم يَدْخُلْ(1) دَخَلَ فِيهَا مُفْسِدٌ؛ فَيُخْبَرَ عَنْ فَسَادِهَا) . استئناف بياني لقوله: «فهي على حالها». والمراد أنّها غير فاقدة لشيء مصلح لها؛ أي شيء رُوعي فيه الحكمة، ولم تشتمل على مفسد؛ أي شيء هو خلاف مقتضى الحكمة.

وقوله: «فيخبر عن صلاحها» تفريع على النفي، فهو مرفوع مثل: لم يخرج من قلب زيد شرط للإيمان فيدخلُ الجنّة. والفعل بصيغة المجهول من باب الإفعال، والظرف نائب الفاعل. والمراد أنّ كلّ عاقل يخبر عن أنّها مشتملة على جميع ما ينبغي لها من المصالح.

وقوله: «فيخبر عن فسادها» تفريع على المنفيّ، فهو منصوب، مثل: لم يدخل في قلب زيد مناف للإيمان فيدخلَ النار. والفعل هنا أيضا بصيغة المجهول من باب الإفعال، والظرف نائب الفاعل. والمراد أنّه لا يخبر عاقل عن أنّها مشتملة على شيء لا يوافق حكمة فاعلها.

(لاَ يُدْرى ألِلذَّكَرِ(2) خُلِقَتْ أَمْ لِلاْءُنْثى) ، لتشابهها وتشابه جزءيها.

(وَ(3) تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ أَلْوَانِ الطَّوَاوِيسِ) ؛ جمع طاووس: طائرٌ معروف ذو ألوان عجيبة.

(أَتَرى لَهَا مُدَبِّرا؟) . الاستفهام تقريري؛ أي معلوم ضرورةَ أنّ هذه الاختلافاتِ في الكيف، الحاصلةَ في أجزاء منّي الديكة والدجاجة حين كونه حصنا، وحين كونه مثل الطواويس ليس من طبع المنّي، ولا من غيره ممّا لا علم له، كيف لا وقد رُوعي فيما نحن فيه جميع تلك الحِكَم والمصالح، وأنّه على تقدير القول بالمدبّر ليس مدبّرها الدجاجةَ الموكّلة بها، ولا الإنسانَ، ولا نحوَ ذلك من المباشرين، بل مدبّرها من ليس له في تدبيره آلة ومباشرة وفعل علاجي، فيستحيل عليه النقض بديهةً، ويكون قادرا على كلّ ممكن؛ لأنّ التعذّر نقص، فيكون كلّ جزء من العالم حادثا؛ لأنّ القديم غير مقدور كما مرّ في شرح عنوان الباب. .

ص: 62


1- في الكافي المطبوع : «ولا دَخَلَ» .
2- في الكافي المطبوع : «للذكر» .
3- في الكافي المطبوع : - «و» .

(فَأَطْرَقَ مَلِيّا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام وتشديد الخاتمة؛ أي طويلاً من الزمان ليتفكّر في الشقوق، ويتعرّف الحقّ.

(ثُمَّ) بعد مدّة (قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ(1) أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ إِمَامٌ وَحُجَّةٌ(2) مِنَ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ). عرف ذلك من مباحثاته قبل ذلك مع العلماء المنتسبين إلى الإسلام والفرق بين أجوبتهم وجوابه عليه السلام .

(وَأَنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ) من الزندقة.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ) ؛ بضمّ الفاء وفتح القاف وسكون الخاتمة نسبة إلى فقيم دارم، والنسبة إلى فقيم كنانة _ الذين هم نسَأة الشهور(3) في الجاهليّة _ فُقَمي بحذف الخاتمة.(4)

(عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي أَتى أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) قوله: (وَكَانَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام :) لفظُ هشام؛ كأنّ الزنديق قال قبل بيان حدوث العالم وإثبات المحدث: لو كان للعالم محدِث مثبتِ جاز كون المحدث المثبت له اثنين.

فاستدلّ عليه السلام على نفيه بثلاثة أدلّة: النظر في أوّلها: في قدرة المحدث، وفي ثانيها: في علمه، وفي ثالثها: في إرادته.

الدليل الأوّل:

(لاَ يَخْلُو قَوْلُكَ: «إِنَّهُمَا اثْنَانِ» مِنْ أَنْ يَكُونَا قَدِيمَيْنِ) . حاصله أنّ المحدث المثبت للعالم يستحيل بديهةً أن يكون ناقصا، والاثنينيّة فيه يستلزم النقص؛ لأنّه لو كانا اثنين فلا شكّ أنّ كلاًّ منهما قديم؛ لأنّ الاحتياج في الوجود إلى الغير أصل كلّ نقص، فلم يكن .

ص: 63


1- في الكافي المطبوع : - «أشهد» .
2- في النسختين : «حجّة» بدون الواو .
3- قال الجوهرى : «ورجل ناسئ وقوم نسأة ، مثل : فاسق وفسقة ، وذلك أنّهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يردّ لي قضاء ، فيقولون : أنسئنا شهر ، أي آخرّ عنّا حرمة المحرم واجعلها في صفر ؛ لأنّهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيّرون فيها ؛ لأنّ معاشهم كان من الغارة فيحلّ لهم المحرم». الصحاح ، ج 1 ، ص 77 (نسأ) .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 160 ؛ تاج العروس ، ج 17 ، ص 543 (فقم) .

أحد الشريكين من محدَثات الآخر. وهذا إشارة إلى إبطال مذهب المجوس في الاثنينيّة، وهو أنّ صانع الخيرات بلا آلة «يزدان» وهو اللّه تعالى، وصانع الشرور بلا آلة «أهرَمَنْ» وهو الشيطان. وأهرمن من محدثات يزدان، وكلّ منهما مستقلّ في القدرة على فعله.(1)

وحينئذٍ نقول: لا يخلو هذان القديمان من أن يكونا:

(قَوِيَّيْنِ) أي مستقلّين بالقدرة على كلّ ممكن في نفسه، سواء كان موافقا للمصلحة أم مخالفا.

(أَوْ يَكُونَا ضَعِيفَيْنِ) ولو في ممكن من الممكنات، أي غير مستقلّين بالقدرة على ممكنٍ مّا في نفسه.

(أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوِيّا) على كلّ ممكن في نفسه (وَالاْآخَرُ ضَعِيفا) في ممكن من الممكنات.

(فَإِنْ كَانَا قَوِيَّيْنِ، فَلِمَ لاَ يَدْفَعُ). الاستفهام للإنكار، أي يدفع البتّة (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ) عن الشركة (وَيَتَفَرَّدَ بِالتَّدْبِيرِ؟).

لأنّ كون كلّ منهما قويّا في مقدور واحد مشتملٌ على التدافع، أي التنافي، فضلاً عن كون كلّ منهما قويّا في كلّ ممكن؛ لأنّ معنى القوّة والقدرة بالاستقلال كون شخص بحيث لو أراد أيّ مقدور به من فعل وترك، لم يقدر غيره على منافي مراده، فقوّة كلّ منهما في كلّ ممكن مستلزمة لضعف الآخر في كلّ ممكن، وأن لا يصدر عن الآخر ممكن إلاّ بتمكين الأوّل إيّاه وعدم إرادته ضدّه، وهذا تفرّد بالتدبير في كلّ ممكن.

ويحتمل أن يُراد بدفع كلّ منهما صاحبَه دفعُه عن القوّة، أو عن إرادته ضدّ مراد الأوّل. ومآل الكلّ واحد.

وفي هذا إشارة إلى إبطال مذهب المجوس مرّةً اُخرى، وإلى إبطال مذهب أشباه المجوس من هذه الاُمّة، وهم المعتزلة القائلون باستقلال العبد في قدرته على .

ص: 64


1- مجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ معارج الفهم ، ص 379 ؛ المواقف ، ج 3 ، ص 65 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 44 ؛ نقد المحصّل ، ص 131 (طبع مصر) ؛ تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 113 .

فعله الاختياري.(1)

وإنّما التزموا ذلك لحكمهم بتقدّم قدرة العبد على وقت الفعل والترك ، والقدرة لا يمكن تحقّقها إلاّ مع استجماع العلّة التامّة حقيقةً أو حكما؛ وهو أن يكون ما لم يوجد بعدُ من المقدورات منها باختياره. وسيجيء تفصيل المبحث في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وثاني «باب الاستطاعة».

(وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَوِيٌّ) أي على كلّ ممكن في نفسه (وَالاْآخَرَ ضَعِيفٌ) أي في ممكن ما.

(ثَبَتَ أَنَّهُ) أي المحدث المثبت للعالم (وَاحِدٌ كَمَا نَقُولُ؛ لِلْعَجْزِ الظَّاهِرِ فِي الثَّانِي). يعني أنّ الضعف _ وإن كان مجامعا لأصل القدرة _ مستلزم للعجز عن ممكن ما في نفسه استلزاما ظاهرا؛ لأنّ القادر على فعلٍ الضعيفَ فيه عاجزٌ عن عدم ضدّه في وقته، أي هو باختيار غيره؛ إن شاء فعل الضدّ وأخرجه عن أصل القدرة، وإن شاء لم يفعل ويكون قادرا حينئذٍ. وظاهر أنّ العجز نقص، وبطلان الشقّ الثالث مستلزم لبطلان الشقّ الثاني بطريقٍ أولى، ولذا لم يذكره.

الدليل الثاني:

(وَإِنْ(2) قُلْتَ: إِنَّهُمَا اثْنَانِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ) أي أن يكون كلّ منهما محدثا لكلّ ما أحدثه الآخر. وبطلان هذا ظاهر؛ لأنّ تعلّق إيجادين بموجود واحد شخصي بسيط بديهيُّ الاستحالة، ولذا لم يتعرّض لإبطاله.

(أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ) أي أن لا يكون واحد منهما محدثا لشيء ممّا أحدثه الآخر أصلاً.

ولم يتعرّض لشقّ ثالث هو أن يكونا متّفقين من جهة ومفترقين من جهة؛ لأنّه .

ص: 65


1- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 262 .
2- في الكافي المطبوع : «فإن» .

شريك للأوّل في المفسدة، وللثاني أيضا.

(فَلَمَّا رَأَيْنَا). هذا لإبطال الشقّ الثاني.

(الْخَلْقَ) ؛ مصدر بمعنى المفعول، أي العالم، وهو الأجسام وصفاتها التي ليست باختيارنا.

(مُنْتَظِما، وَالْفُلْكَ(1)) ؛ بالضمّ: السفينة.(2)

(جَارِيا، وَالتَّدْبِيرَ وَاحِدا، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أي مجيء كلّ منهما خلف الآخر وزيادته ونقصانه.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، دَلَّ صِحَّةُ الاْءَمْرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَائْتِلاَفُ) ؛ بالرفع عطف على «صحّة».

(الاْءَمْرِ عَلى) ؛ صلة «دلّ».

(أَنَّ الْمُدَبِّرَ) أي المحدث للعالم بتدبير (وَاحِدٌ).

توضيحه: أنّ هذا الشقّ يستلزم أن يكون كلّ منهما جاهلاً بما يفعله الآخر، وبما يتركه، فيكون وجود كلّ جزء من العالم اتّفاقيّا لم يراع فاعله في فعله إيّاه حكمةً أصلاً، وهذا يؤدّي إلى أن لا يكون النظام المشاهد منتظما؛ لأنّه لولاه فإمّا أن يكون كلّ منهما عالما حين فعله شيئا من النظام المشاهد بأنّه لو تركه لفعله الآخر، لحكمة كلّ منهما، وإمّا أن يكون عالما بأنّه لو تركه لتركه الآخر أيضا.

وهما باطلان:

أمّا الأوّل فلأنّ إحداث أحدهما ذلك المعلول عبث حينئذٍ؛ لأنّ كلاًّ منهما مستقلّ بالقدرة، وإنّما يفعل للحكمة لا لنفع راجع إليه، فإحداث أحدهما ذلك المعلول ليس أولى بوجه من تركه إيّاه مع إحداث الآخر إيّاه. .

ص: 66


1- في الكافي المطبوع : «والفَلَكَ» . وفي حاشية «أ» : «الفُلك _ بضمّ فاء وسكون لام _ : كشتى ، واينجا استعاره شده براى معاش آدميان وسائر حيوانات ، بنابر تشبيه دنيا به دريا» .
2- في حاشية «أ» : «صحّ اتّصاف الفلك بالجاري بدون التاء، كما اتّصف بالمشحون في قوله تعالى في سورة الشعراء : «فَأَنجَيْنَ_هُ وَ مَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» قال الطبرسي رحمه الله في مجمعه : فخلّصناه ومن معه في السفينة المملوّة من الناس وغيرهم من الحيوانات» .

وأمّا الثاني فلأنّه يكون ترك الآخر له مع ترك الأوّل قبيحا وخلاف الحكمة، فيستلزم علم كلّ منهما بنقص في الآخر.

الدليل الثالث:

(ثُمَّ يَلْزَمُكَ) ؛ بفتح الخاتمة من باب علم. وإنّما زاد هذا ولم يقل: «وإن ادّعيت اثنين فلابدّ من فرجة» إلى آخره، إشارةً إلى أنّ هذا الدليل شريك مع الدليل الثاني في الشقّين، وإنّما الفرق في إبطال الشقّ الثاني منه بدليل آخر، فهو معطوف بالمعنى على قوله: «فلمّا رأينا الخلق» إلى آخره.

(إِنِ ادَّعَيْتَ) ؛ بكسر الهمز شرطيّة، أو بفتحها مصدريّة، والمصدر نائب ظرف الزمان؛ أي حين ادّعيت، أو بتقدير اللام، أي لأن ادّعيت.

(اثْنَيْنِ) مفترقين من كلّ جهة.

(فُرْجَةٌ) ؛ بالضمّ فاعل «يلزمك»، وأصلها الشقّ بين أجزاء الحائط. والمراد هنا ثالث يعيّن بعض أجزاء العالم لواحدٍ منهما، وبعضا آخر من أجزاء العالم للآخَر منهما، تشبيها لهما بجسمين بينهما جسم.

(مَّا) ؛ للإيهام.(1)

(بَيْنَهُمَا حَتّى يَكُونَا) أي المدبّران.

(اثْنَيْنِ) ؛ لامتناع الإرادة والترجيح من جهة الأوّلين، فإنّ كلاًّ منهما مستقلّ بالقدرة، غنيّ من كلّ جهة، إنّما يريد شيئا للحكمة لا لنفع راجع إليه، فلو لم يكن فرجة كان فعله هذا لبعض دون البعض الآخر ترجيحا بلا مرجّح، نظير ما فرضوه في نحو: رغيفي الجائع.

(فَصَارَتِ الْفُرْجَةُ ثَالِثا بَيْنَهُمَا، قَدِيما مَعَهُمَا ، فَيَلْزَمُكَ) بالخاتمة (ثَلاَثَةٌ) ؛ بالرفع، أي فيلزم خلاف الفرض، وهو أن يكون المدبّر ثلاثة، لأنّه لو لم يكن التعيين والتمييز صادرا عن الثالث على سبيل التدبير، كان على سبيل الإيجاب، كالتأثيرات الطبيعيّة عندهم؛ فيلزم أن لا يكون أحدهما قادرا أصلاً؛ لأنّ أثر الطبيعة لو أمكن تحقّقه وجب .

ص: 67


1- في «ج» قد تقرأ : «للإبهام» .

بوجوب سابق، وإلاّ لم يوجد. وأيضا يلزم أن يكون الثالث ناقصا ومن أجزاء العالم، وهذا باطل؛ لأنّه كالحاكم على الأوّلين، فهو أولى بأن يكون مدبّرا للعالم منهما.

(فَإِنِ ادَّعَيْتَ) أي بعد لزوم الثالث (ثَلاَثَةً، لَزِمَكَ مَا قُلْتُ فِي الاِثْنَيْنِ) ؛ أي ثمّ ننقل الكلام إلى الثلاثة، فنقول: لابدّ من الفرجة بينهم حتّى يكونوا ثلاثة.

(حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُمْ فُرْجَتَانِ(1)) أي فلابدّ من فرجتين بينهم إحداهما لتمييز أثر أوّلهم عن ثانيهم،(2) والاُخرى لتمييز أثر ثانيهم عن ثالثهم.(3)

(فَيَكُونُوا خَمْسَةً) أي فيلزم خلاف الفرض. وإنّما لم يكتف عليه السلام بعد نقل الكلام إلى الثلاثة بالاحتياج إلى فرجة واحدة للتمييزين حتّى يكون المجموع أربعة لا خمسة، وإن كان المطلوب _ وهو لزوم خلاف الفرض والإفضاء إلى التسلسل _ حاصلاً به أيضا؛ تشبيها لهم بالأجسام المترتّبة وضعا؛ أو لأنّ هناك ثلاثةَ تمييزات، وتخصيصُ واحد منها بمميّز كما هو اللازم أوّلاً، وإشراك اثنين منها بواحد مع اتّحاد النسبة تحكّم.

(ثُمَّ يَتَنَاهى) أي يبلغ (فِي الْعَدَدِ إِلى مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي الْكَثْرَةِ) أي ثمّ ننقل الكلام إلى الخمسة وهكذا، ويلزم خلاف الفرض في كلّ مرتبة، ويلزم التسلسل أيضا. هذه هي الأدلّة الثلاثة على نفي الشريك له تعالى في صنع العالم.(4) .

ص: 68


1- في الكافي المطبوع : «حتّى تكون بينهم فرجة» .
2- في حاشية «أ» : «وهو الفرجة المذكورة سابقا» .
3- في حاشية «أ» : «وأمّا تمييز أثر أوّلهم عن ثالثهم فهو فعل ثانيهم» .
4- في حاشية «أ» : «وأما الردّ على الثنوية من الكتاب فقوله عزّوجلّ : «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ و مِنْ إِلَ_هٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَ_هِ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» فأخبر اللّه تعالى أن لو كان معه آلهة لا نفرد كلّ منهم بخلقه، ولأبطل كلّ منهم فعل الآخر ، وحاول منازعته فأبطل تعالى إثبات إلهين خلاقين بالممانعة وغيرها ، ولو كان ذلك لثبت الاختلاف وطلب كلّ إله أن يعلو على صاحبه ، فإذا شاء أحدهم أن يخلق إنسانا وشاء الآخر أن يخلق بهيمة اختلفا وتباينا في حال واحد ، واضطرّهما ذلك إلى التضادّ والاختلاف والفساد ، وكلّ ذلك معدوم ، فإذا بطلت هذه الحال كذلك ثبتت الوحدانيّة بكون التدبير واحدا والخلق متّفقا غير متفاوت ، والنظام مستقيما . وأبان سبحانه لأجل هذه المقالة ومن قاربهم إلى أنّ الخلق لا يصلحون إلاّ بصانع واحد ، فقال : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» ثم نزّه نفسه فقال : «سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» فالدليل على أنّ الصانع واحد ، حكمة التدبير وبيان التقدير. رسالة المحكم والمتشابه لعلم الهدى رحمه اللّه » .

واعلم أنّ المشهور أنّ قوله تعالى في سورة الأنبياء: «أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الاْءَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا»(1)، وقوله تعالى في سورة المؤمنين: «مَا اتَّخَذَ اللّه ُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(2) لنفي الشريك في صنع العالم، وذلك بإرجاع قوله: «لفسدتا» وقوله: «لذهب» إلى الدليل الثاني، وإرجاع قوله: «ولعلا» إلى الدليل الأوّل.

وهو ممنوع؛ لاحتمال(3) كون الآيتين كقوله تعالى في سورة التوبة: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(4) نفيا للشريك في الحكم في اُمور الدِّين، ونهيا عن الاختلاف فيها،(5) بأن يُراد بالإله من يحكم فيها من عند نفسه، ويُتَّبعُ بدون إجازة الأعلى منه، وبالفساد ما يترتّب على الاختلاف فيها، وبالولد من يحكم فيها من عند نفسه مع الإجازة، وبالذهاب بما خلق الفرحُ به، كقوله تعالى في سورة المؤمنين: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(6)، وبالخَلَق الكذبُ، وبالعلوّ الاستعلاء، كقوله تعالى في سورة القَصَص: «تِلْكَ الدَّارُ الاْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(7).

(قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ مِنْ سُوءَالِ الزِّنْدِيقِ أَنْ قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟) يعني ثبت أنّه لو كان للعالم محدثِ مثبِت لكان واحدا، ولكن ما الدليل على أصل وجوده؟ .

ص: 69


1- الأنبياء (21) : 21 _ 22 .
2- المؤمنون (23) : 91 .
3- في حاشية «أ» : «قوله قدّس سرّه : (لاحتمال) إلى آخره . هذا الاحتمال موافق لما ذكره في توضيح خطبة عند قوله : وجعل بقاء أهل الصحّة والسلامة بالأدب والتعليم ؛ فتذكر . (مهدي)» .
4- التوبة (9) : 31 .
5- في حاشية «أ» : «في ثاني السادس والثلاثين من كتاب التوحيد لابن بابويه عن هشام بن الحكم قال : قلت لأبى عبد اللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد . قال : اتّصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال عزّوجلّ : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» ولا يبعد حمله على ما ذكره الشارح _ أيّده اللّه _ بأن يكون المراد أنّ اتصال التدبير وتمام الصنع يدلّ على وحدة الحاكم المستحقّ للعبادة ، ويؤيّده أنّ السائل إنّما سأل عن دليل وحدة المستحقّ للعبادة ، لا عن دليل وحدة صانع العالم» . التوحيد ، ص 250 باب (36) الردّ على الثنوية والزنادقة ، ح 2 .
6- المؤمنون (23) : 53 .
7- القصص (28) : 83 .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وُجُودُ)؛ مصدر «وجده»: إذا أدركه، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي الدليل وجود؛ أو مبتدأ.

(الاْءَفَاعِيلِ) ؛ جمع اُفعولة،(1) وهي الفعل العجيب؛ تقول: إنّ الرُشا تفعل الأفاعيل وتنسئ إبراهيم وإسماعيل؛ أي الأعاجيب.(2)

والمراد بها كلّ ما فيه الحكمة من العالم، فلا يمكن أن يكون بلا فاعل، ولا أن يكون فاعله بلا تدبير ككون الجبال أوتادا؛ أي لئلاّ يتحرّك الأرض التي جعل مركز ثقلها في وسطها؛ إمّا تقديرا، وذلك إن كانت الأرض كقطعة من وجه كرة، كما هو ظاهر الخطابات الشرعيّة كدحو الأرض(3) ومدّها وفرشها؛(4) وإمّا تحقيقا، وذلك إن كانت كرةً تامّة مصمتة، كما زعمه الفلاسفة(5) بالأمواج والعواصف(6) حركة وضعيّة هي الزلزلة، وذلك بجعل الجبال صخورا لا تتفتّت بالرياح، وجعلها أوتادا للأرض مغروزة في الهواء الذي فيه معاوقة في الجملة، وفي الماء الذي فيه معاوقة أكثر، فتجبر تلك المعاوقة باعتبار كثرة الجبال جدّا ما كاد(7) أن يحصل من الزلزلة بالرياح والأمواج، فإنّ زلزلة الأرض بجميعها تحتاج حينئذٍ إلى خرق هواء كثير وماء كثير جدّا، وإذا نسف اللّه الجبال نسفا(8) وقع زلزلة الساعةَ، وكخلق الهواء المعاوق في الجملة في الجوّ،(9) فإنّه لو .

ص: 70


1- في تاج العروس : «اُفعول» .
2- تاج العروس ، ج 15 ، ص 585 (فعل) .
3- دحا اللّه الأرض بدحوها ويدحاها دحوا : بسطها. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 327 (دحا) .
4- كما في سورة النازعات (79) : 30 ، وسورة الحجر (15) : 19 ، وسورة قآ (50) : 7 ، وسورة الذاريات (51) : 48 .
5- المواقف ، ج 2 ، ص 437 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 5 ، ص 169 ؛ المبدأ والمعاد ، ص 497 ؛ بحار الأنوار ، ج 56 ، ص 389 .
6- عصفت الريح تعصف : اشتدّت . وفي يوم عاصف ، أي تعصف فيه الريح ؛ فاعل بمعنى مفعول . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 176 (عصف) .
7- في حاشية «أ» : «مفعول : تجبر» .
8- نسف البناء ينسفه : قلعه من أصله . والجبال : دكّها وذرأها . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 199 (نسف) .
9- في حاشية «أ» : «الجوّ على ما في القاموس داخل البيت ، والمراد هنا بين السماء والأرض» .

كان خاليا لم يكن للطير طيران في الجوّ لا بصفٍّ(1) ولا بقبضٍ، فما يمسكهنّ إلاّ الرحمن، وكخلق الإنسان وأعضائه وعروقه وأحشائه وعضلاته وآلات القبض والبسط ونحو ذلك ممّا لا يتأتّى من شيء غير ذي علمٍ وحكمة.

ويحتمل أن يُراد بالأفاعيل الحوادث التي يعلم كلّ ناظر فيها أنّها ليست بسبب من الطبائع؛ لكمال ظهور أمرها كتصريف الرياح العواصف، وتسخير السُّحب الثقال القواصف(2) ونحو ذلك، سواء علم الحكمة فيه، أم لا.

ويحتمل أن يُراد بالأفاعيل كلّ حادثٍ من حوادث العالم. ويرجع الدليل إلى ما حرّرناه في الدليل الثاني من أوّل الباب.

(دَلَّتْ) .(3) استئناف بياني للجملة السابقة، أو خبر «وجود» والتأنيث باعتبار المضاف إليه.

(عَلى أَنَّ صَانِعا) أي صانعا عظيما، وهو ما لا يكون فعله بآلة ومباشرة وفعل علاجي، ولا يمكن فيه نقص.

(صَنَعَهَا، أَلاَ تَرى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلى بَنَاءٍ(4)) ؛ بفتح الموحّدة والنون والمدّ مصدر استعمل في المفعول، أي ما بني كقصر وبيت.

(مَشِيدٍ(5)) ؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة، أو بضمّ الميم وفتح المعجمة وتشديد الخاتمة المفتوحة. والشيد بالكسر: كلّ شيء طليتَ به الحائط من جصّ أو ملاط. وبالفتح المصدر تقول: شاده يشيده شيدا، أي جصَّصَه. والمشيد: المعمول بالشيد كقوله تعالى: «وَقَصْرٍ مَشِيدٍ»(6)، والمُشَيَّد بالتشديد: المطوّل(7) كقوله .

ص: 71


1- الصفّ : أن يبسط الطائر جناحيه . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 162 (صفف) .
2- قصف الرعد وغيره قصيفا : اشتدّ صوته . القاموس ، ج 3 ، ص 185 (قصف) .
3- في حاشية «أ» : «في كتاب التوحيد : (وجود الأفاعيل التي دلّت) فوجود خبر مبتدأ محذوف ودلّت صلة التي» .
4- في الكافي المطبوع : «بناء» بكسر الباء .
5- في الكافي المطبوع : «مُشَيَّد» .
6- الحجّ (22) : 45 .
7- غريب الحديث لابن سلام ، ج 2 ، ص 73 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 495 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 244 (شيد) .

تعالى: «فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ».(1)الشعراء (26) : 23 _ 27 .(2)

(مَبْنِيٍّ) أي مرعيّ في بنائه المصالحُ من التناظر بين أجزائه وأبوابه ونحو ذلك.

(عَلِمْتَ أَنَّ لَهُ بَانِيا) أي علمت أنّه ليس من فعل غير ذي علمٍ كالطبيعة، وأنّ له بانيا ماهرا في البناء.

(وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَرَ الْبَانِيَ وَلَمْ تُشَاهِدْهُ؟) . المشاهدة: المعاينة، وهي الرؤية المتكرّرة؛ أي لم تشاهد بناءه المبنيّ.(3)

(قَالَ: فَمَا هُوَ؟). سؤال عن حقيقته.

(قَالَ: شَيْءٌ) أي كائن في نفسه في الخارج.

(بِخِلاَفِ الاْءَشْيَاءِ) أي لا يعرف بحقيقته، إنّما يُعرف بنعوته؛ لأنّه خلاف الأشياء. وحاصل الدليل ما يجيء في أوّل الباب الثاني(4) في شرح قوله: «وكيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل» إلى آخره. ونظيره قوله تعالى حكايةً عن فرعون وموسى قال: «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ... قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ»(4)؛ لتوهّمه أنّ الجواب غير مطابق للسؤال، ومعنى المخالفة لها أن لا يكون بينهما مشترك ذاتي، وهو ما يفهم من قوله: «غير أنّه» إلى آخره.

(أَرْجِعْ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده، أي أقصد.

(بِقَوْلِي) أي بشيء بخلاف الأشياء.

(إِلى إِثْبَاتِ مَعْنىً) أي كائن في الخارج في نفسه.

(وَأَنَّهُ) أي وإلى أنّ ذلك المعنى وهو كالتفسير لقوله: «معنى».

(شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ) . إلى هنا مرجع قوله: «شيء» وما بعده مرجع قوله: «بخلاف الأشياء». .

ص: 72


1- النساء
2- : 78 .
3- في حاشية «أ» : «مفعول له لبنائه» .
4- أي الحديث 2 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

والمراد «بحقيقة الشيئيّة» أن يكون له مائيّةٌ وإنّيّة متغايران حقيقةً، أي أن لا يكون نفس الإنّيّة؛ لأنّها أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يمكن أن يقوم بنفسه.(1)

فهذا ردّ للقول بأنّه تعالى وجود قائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير.

ويحتمل أن يكون المراد بحقيقة الشيئيّة ما وضع له لفظ الشيئيّة في اللغة، وهو الذي يفهمه كلّ من عرف اللغة من الصبيان وغيرهم؛ إذ ليس حقيقة الشيئيّة وراء هذا المفهوم لكلّ أحد، وهو ثبوت الوجود لغيره.

فهذا ردّ للقول بأنّ لفظ «الشيء» و«الموجود» فيه تعالى مجاز،(2) وللقول بأنّ ما نفهمه من لفظ «الشيئيّة» و«الوجود» عرضي للأفراد، وحقيقة الشيئيّة والوجود أمرٌ آخر هو عين ذاته تعالى.(3) وسيجيء تفصيل إبطاله في سادس الباب الثاني.(4)

(غَيْرَ) ؛ بالنصب أو الفتح للاستثناء المنقطع، استدراك عمّا قبله لدفع ما تتسارع الأذهان العامّيّة(5) إليه بسبب إطلاق لفظ «شيء» عليه من التشبيه.

(أَنَّهُ) ؛ بالفتح والتشديد، والضمير للّه .

(لاَ جِسْمٌ) ؛ مرفوع على خبريّة «أنّ» و«لا» للنفي مهملة. والمراد بالجسم هذا الطويل العريض العميق، لا من حيث يلاحظ له شكل حسن، ولا لطافة وصفاء؛ فإنّه من حيث الشكل يسمّى «صورة» ومن حيث اللطافة والصفاء «جوهرا».

(وَلاَ صُورَةٌ) . أصل الصورة الشكل، وهو هيئة الإنسان وغيره. والمراد هنا الطويل العريض العميق من حيث إنّ له شكلاً حسنا. ويجيء في «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَلاَ يُحَسُّ) ؛ بالمهملتين مضاعف مبنيّ للمفعول من باب نصر، أو باب الإفعال، معطوف على قوله: «لا جسم»، استدلال على أنّه لا يصحّ السؤال عن حقيقته ب«ما هو» .

ص: 73


1- في «ج» : «هذا» .
2- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 349 .
3- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 349 .
4- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- في حاشية «أ» : «كذا أفاد سلمه اللّه » .

بأنّه لا يعقل كنه ذات ما ليس بجسماني ضرورةً؛ إذ طريق ضروريّة الذات منحصر في الإحساس وتنبّه المشاركات والمباينات في المحسوسات.

(وَلاَ يُجَسُّ) ، بالجيم مبنيّ للمفعول من باب نصر من جسّ: إذا تفحّص عن باطن الاُمور؛ أي لا يعقل كنه ذاته نظرا؛ إذ التعقّل النظري إنّما يُكتسب من التعقّل الضروري، وطريقه منحصر في الإجساس. وقد مرّ نفيه عنه تعالى آنفا، ويجيء في ثاني السابع(1) «غير محسوس ولا مجسوس».

(وَلاَ يُدْرَكُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال؛ أي لا يدرك شخصه. ويحتمل المعلوم.

(بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ) ؛ جمع حاسّة: السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس.

(لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ) أي لا تصيبه على حدة _ أي لا بدلالة أثره عليه، ولا بوحي إلى نبيّ _ خطراتُ القلوب، فَصَله؛(2) لأنّه دليل على أنّه لا يدرك بالحواسّ بطريقٍ أولى.

(وَلاَ تَنْقُصُهُ) . النقص من باب نصر يجيء متعدّيا كهذا، ولازما. والمراد به نحو الهَرَم بعد الشباب.

(الدُّهُورُ) ؛ جمع دهرٍ: الزمان الطويل.

(وَلاَ تُغَيِّرُهُ الاْءَزْمَانُ) . التغيّر هنا نحو الشباب بعد الصَبوة.(3) وللحديث تتمّة يجيء في سادس الباب الثاني.(4)

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي)؛ من زيادات التلامذة. (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: كَفى لاِءُولِي الاْءَلْبَابِ) . جمع «لبّ» بضمّ اللام: العقل. .

ص: 74


1- أي الحديث 6 من باب النسبة.
2- كذا في «أ». و في «ج» : «فضلة» واللّه أعلم .
3- «الصبوة» : جهلة الفتوة . والصبي: من لم يفطم بعد . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 351 (صبا) .
4- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

(بِخَلْقِ) . الخلق: التقدير، تقول: خلقت الأديم:(1) إذا قدّرته قبل القطع.(2)

(الرَّبِّ) . ربّ كلّ شيءٍ: مالكه. والربّ اسم من أسماء اللّه عزّ وجلّ، ومعناه ربّ العالمين، ولا يُقال في غيره إلاّ بإضافة.

(الْمُسَخِّرِ) ؛ بكسر المعجمة المشدّدة، صفة «خلق»؛ استدلال بتسخيره تعالى السحاب والرياح والشمس والقمر ونحو ذلك لمنافع الناس بلا آلة ومباشرة.

(ومَلْكِ(3) الرَّبِّ) ؛ الملك بفتح الميم وسكون اللام مصدر بمعنى العزّ والغلبة على المملكة، والاسم بضمّ الميم.

(الْقَاهِرِ) . صفة «ملك»؛ استدلال بملكوت السماوات والأرض كرفع السماء بغير عمدٍ وفرش الأرض، وأنّه لا يُبدِّل حكمته الوسائل، ويعجِز عن معارضته كلّ أحد.

(وَجَلاَلِ الرَّبِّ) . الجلال: العظمة.

(الظَّاهِرِ) . صفة «جلال»؛ استدلال بعظمته في مخلوقاته؛ أي خلقه اُمورا عظيمة، وهو ظاهر عند كلّ عاقل.

(وَنُورِ الرَّبِّ) أي النور الذي خلقه الربّ لمنافع الناس كنور الشمس والقمر والنجوم.

(الْبَاهِرِ) . صفة «نور» يُقال: بهرَ القمر: إذا أضاء حتّى غلب ضوؤه ضوءَ الكواكب. وبهرَ فلان أترابَه:(4) إذا غلبهم حُسنا.(5) استدلالٌ بالحِكَم المَرعيّة في خلق الأنوار الباهرة.

(وَبُرْهَانِ الرَّبِّ) . البرهان _ بضمّ الموحّدة وسكون المهملة _ : الحجّة، وقد برهن عليه، أي أقام عليه الحجّة.

(الصَّادِقِ) . صفة «برهان»؛ استدلالٌ بحججه على خلقه من الأنبياء والأئمّة .

ص: 75


1- «الأديم»: أجلد أو أحمره أو مدبوغه. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 73 (أدم) م ق .
2- الصحاح ، ج 4 ، 147 (خلق) .
3- في الكافي المطبوع : «ومُلك» بضمّ الميم .
4- الترب، بالكسر : من ولد معك ، وهي تربى . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 39 (ترب) .
5- تاج العروس ، ج 6 ، ص 120 (بهر) .

المعبّرين عنه، الصادقين في جميع أحكامهم، فإنّ خلقهم ليس على مجرى أفعال الطبيعة، وصدقهم في كلّ أحكام الشرع من الخوارق، كما قال تعالى: «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».(1) وهو من أعظم الدلائل على صانع العالم البريء من كلّ نقص.

(وَمَا أَنْطَقَ بِهِ أَلْسُنَ الْعِبَادِ) من اللغات واللهجات المختلفة، وآلات التنطّق بها، والمخارج للحروف والصوت المقارن بحيث يعرف الصبيّ في أوائل سنّه صوت اُمّه عن جميع ما عداها. والحكمة في هذا لا يخفى.

(وَمَا أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ) أي خوارق العادات المقارنة للدعوى؛ فإنّها دالّة على الصانع قبل إخبار الرسل به أيضا.

(وَمَا أَنْزَلَ عَلَى الْعِبَادِ ) من الاُمور الخارجة عن أفعال الطبيعة كالطوفان، وطير أبابيل، وحسر الفيل عن الحرم، والعذاب على الاُمم السالفة في الدنيا، ونحو ذلك.

(دَلِيلاً عَلَى الرَّبِّ) القادر على كلّ شيء. (عَزَّ وَجَلَّ) . .

ص: 76


1- التوبة (9) : 119 .

الباب الثاني: باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء

الباب الثاني بَابُ إِطْلاَقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ تعالى شَيْءٌ

فيه سبعة أحاديث.

الإطلاق: الإباحة؛ مأخوذ من الطلق بالكسر، وهو الحلال. والمصدر مضاف إلى المفعول، ومضى في الخطبة قول المصنّف: «على ما أطلقه العالم عليه السلام ». والإطلاق أيضا ضدّ التقييد.

و«الشيء» ذات ثبت له الكون الخارجي في نفسه.

ففي هذا الباب بيان أمرين:

الأوّل: أنّ له تعالى مائيّةً وإنّيّةً، أي ذاتا وكونا متغايرين حقيقةً؛ أي لا يحمل أحدهما على الآخر مواطاةً بدون تجوّز، وهو بإبطال التعطيل؛ أي إبطال القول بأنّه تعالى محض الكون، كما توهّمه المعتزلة والفلاسفة،(1) وصحّحه بعضهم بأنّه تعالى الوجود القائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير،(2) وهذا يستلزم القول بأنّه تعالى معدوم حقيقةً؛ لبداهة أنّ المفهوم لكلّ أحد من الكون ومرادفاته في اللغات أمرٌ اعتباري لا يحمل على الكائن في الخارج في نفسه مواطاةً، لا حملَ ذاتيٍّ، ولا حملَ عرضيٍّ.

الثاني: أنّه تعالى غير مقيّد بشيءٍ آخر، أي لا تحلّ فيه المعاني، كما توهّمه الأشاعرة؛ أو المراد أنّه غير مقيّد لا بحلول المعاني، ولا بأن يمكن لغيره تعالى تعيين ذاته، أي كنهُه غير معلوم لغيره، وكذا تشخّصه، فيثبت أنّ الحقّ في أسمائه وصفاته تعالى الأمر بين

ص: 77


1- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 15 ؛ المبدأ والمعاد ، ص 122 .
2- في حاشية النسختين : «هو الدواني في حاشية شرح التجريد (منه دام ظلّه)» .

الأمرين: مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، كما أنّ الحقّ في أفعال العباد الأمر بين الأمرين: الجبر والقدر. وسيجيء في «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وكما أنّ الحقّ في حقيقة الإيمان المنجي من الخلود في النار الأمر بين الأمرين: مذهب المرجئة(1) ومذهب الوعيديّة.(2) ومضى بيانه في «باب التقليد» من «كتاب العقل» لمّا كان التعطيل منافيا صريحا للإقرار بمحدث العالم ومثبته، ذكر هذا الباب عقيب الأوّل لكمال الربط.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ)؛ من زيادات التلامذة. (عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ) ؛ هو الجواد عليه السلام .

(عَنِ التَّوْحِيدِ) أي معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

(فَقُلْتُ). الفاء للتعقيب؛ أي بعد بيان معنى أحد بلا فصل.

(أَتَوَهَّمُ) . الهمزة للمتكلّم، والاستفهام مقدّر؛ أي أأتصوّر في مقام التوحيد.

(شَيْئا؟) أي ذاتا ثبت له الكون، فيكون له تعالى مائيّة وإنّيّة متغايران حقيقةً كسائر الأشياء، ومعادل الاستفهام أن يقول: أم هو نفس الكون والشيئيّة.

وحاصل السؤال أنّ اعتقاد أنّ اللّه تعالى شيء هل يجامع التوحيد المأمور به، أم لا؟

(فَقَالَ: نَعَمْ) . هذا لإبطال التعطيل، وما بعده إلى قوله: «في الأوهام» لإبطال التقييد.

(غَيْرَ) ؛ منصوب صفة «شيئا» لأنّ «نعم» في حكم تكرار الجملة، وهذا جارٍ مجرى الاستدراك عن قوله: «نعم».

(مَعْقُولٍ) . العقل ضدّ الإطلاق؛ من عقله كنصر وضرب: إذا أمسكه وحبسه؛ يعني أنّه تعالى غير متصوّر بنفسه وكنهه.

(وَلاَ مَحْدُودٍ) أي ولا محاط بسطح؛ وكأنّه إشارة إلى أنّه لو كان معقولاً لكان .

ص: 78


1- كلمة المرجئة تطلق على جماعة متعدّدة، والجماعة المناسبة هنا هي القائلة بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصيته كما لا تنفع مع الكفر الطاعة . وقيل : هم القائلون بتأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنّة أو من أهل النار . الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 139 .
2- هم القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لابدّ وأن يخلّد في النار . كشف المراد ، ص 562 ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 442 ، وفي طبعة تحقيق السبحاني، ص 280 .

محدودا، كما في قولك: زيد غير عاصٍ ولا معذّب. وهو المراد بما في أوّل خطبة من نهج البلاغة من قوله: «ومَن أشار إليه فقد حدّه»(1) إذ المراد بالإشارة إليه عقله.

وحاصل الجواب: أنّ توهّمه شيئا لا ينافي التوحيد المأمور به؛ إنّما ينافيه توهّمه شيئا معقولاً.

(فَمَا) . تفريعٌ على قوله: «غير معقول ولا محدود».

(وَقَعَ وَهْمُكَ عَلَيْهِ) أي أدركه وأصابه. «وهمُك» بمعنى «ذهنك».

(مِنْ شَيْءٍ) . «من» للتبيين، مثل: «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ»(2).

(فَهُوَ) أي الصانع تعالى (خِلاَفُهُ) .

خلاف الشيء: مغايره الذي ليس أمر ذاتي مشتركا بينهما. وهذا ناظر إلى قوله: «غير معقول». وإلى هذا اُشير فيما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو(3) مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ للّه تعالى زُبانيين فإنّ ذلك كمالها، وتتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمَن لا يتّصف بهما، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به» انتهى.(4)

فالمراد بالتمييز بالوهم إدراك الوهم إيّاه، والمراد بالوصف وصفه تعالى بأوهامهم، وهو المنهيّ عنه فيما يجيء في «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه» قال تعالى: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ»(5). ولقد زلَّ قدم مَن توهّم أنّ مراده عليه السلام أنّه لا اعتماد على اعتقاد أنّ اللّه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وهكذا في سائر الأسماء الحُسنى والصفات العلى، وإنّما كلّف الإنسان به لأنّه لا يسعه معرفة اللّه إلاّ بما عَرَفه وألِفه من كمالات نفسه، وذلك لأنّ هذا التوهّم ذهابٌ إلى مذهب .

ص: 79


1- نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 15 باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام .
2- البقرة (2) : 106 .
3- في «ج» : - «فهو» .
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ، ج 1 ، ص 110؛ بحار الأنوار، ج 66، ص 293 .
5- الصافّات (37) : 180 .

السوفسطائيّة(1) المنكِرين للعلوم.

(وَ(2)لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال؛ أي لا يماثله في الاسم الجامد المحض كالبلّور والزمرّد. وهذا ناظر إلى قوله: «ولا محدود».

(وَلاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ) . المراد بالأوهام هنا أذهان أهل البدع والأهواء، كالأشاعرة المدّعين أنّهم يرون اللّه بأعينهم في الآخرة.(3) وقد يستعمل الأوهام مطلقة.

(وَ(4)كَيْفَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ وَهُوَ خِلاَفُ مَا يُعْقَلُ، وَخِلاَفُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الاْءَوْهَامِ؟!). استدلال بقوله تعالى في سورة الأنعام: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»،(5)في حاشية «أ» : «محمّدبن إسماعيل هذا هو البرمكي صاحب الصومعة عند الصدوق رحمه الله ». الوافي ، ج 1 ، ص 333 .(6) ويجيء في التاسع والعاشر والحادي عشر من «باب في إبطال الرؤية».

والمراد ب«ما يعقل» ما يتصوّر في أذهان أهل الحقّ. وذكر قسمي الأذهان على حدة للإشارة إلى أنّه إذا لم يدركه أذهان أهل الحقّ، لم يدركه أذهان أهل الباطل بطريقٍ أولى.

(إِنَّمَا يُتَوَهَّمُ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلاَ مَحْدُودٍ) . إعادة للحقّ بعنوان الحصر ليثبت الأمر بين الأمرين بعد ما ثبت بطلان الأمرين؛ أي حدّي التعطيل والتقييد ليكون فذلكةً للمبحث، فهو استئناف بياني.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ،(6) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : يَجُوزُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم الغائب من باب نصر بتقدير القول والاستفهام. .

ص: 80


1- السفسطة : قياس مركّب من الوهميّات ، والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته . والسوفسطائية : فرقة ينكرون الحسيّات والبديهيّات وغيرها ، الواحد : سوفسطائي . المعجم الوسيط ، ج 1 ، ص 433 .
2- في الكافي المطبوع : - «و» .
3- اُنظر المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 158 و 160 و 175 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 117 و 121 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 338 ، ولا بأس بالنظر لكتاب رؤية اللّه في ضوء الكتاب والسنّة للسبحاني .
4- في الكافي المطبوع : - «و» .
5- الأنعام
6- : 103 .

(أَنْ يُقَالَ لِلّهِ: إِنَّهُ شَيْءٌ؟) أي ذات ثبت له الكون بدون اعتبار خصوصيّة في الذات، كما قالوا في مفهوم المشتقّات، فللاستفهام هنا معادلان:

الأوّل: أن يُقال: إنّه تعالى نفس الكون.

الثاني: أن تعتبر في ذاته خصوصيّة مدركة لنا.

(قَالَ: نَعَمْ، يُخْرِجُهُ) ؛ بالخاتمة للمضارع، والضميرُ المرفوع المستتر للقول، والمنصوبُ البارز للّه .

(مِنَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ التَّعْطِيلِ، وَحَدِّ التَّشْبِيهِ(1)) . الحدّ: الطرف، والتعطيل: الإخلاء وترك الشيء ضياعا. والمراد به الإخلاء من الوجود بأن يُقال: إنّه تعالى نفس الوجود؛ وذلك لبداهة أنّه لا يفهم من الوجود ومرادفاته في اللغات إلاّ أمر اعتباري مشترك معنوي بين جميع الموجودات، غير ممكن القيام بنفسه.

وإنكارُ هذا بالقول بأنّه تعالى وجودٌ قائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير، أو بالقول بأنّ الوجود مشترك(2) لفظي خروجٌ عن جبلّة الإنسان، والتشبيهُ القولُ بأنّه تعالى جسم، وذلك بالقول بأنّه يمكن لغيره تعالى إدراك ذاته تعالى كما فصّل في أوّل الباب.

والمراد بإخراجه من الحدَّين جعله بين الحدّين، وجملة «يخرجه» إلى آخره استئناف بيانيّ تعليلي، يعني لولا هذا القول لدخل في حدّ التعطيل أو حدّ التشبيه، ولو جعل معادل الاستفهام الأوّل فقط، كان المراد أنّه لولا هذا القول لم يخرج من الحدّين معا وإن كان خارجا من الثاني. .

ص: 81


1- في حاشية «أ» : «لما ذلّ السؤال على أنّ السائل إنّما نفى التشبيه عن اللّه _ جلّ جلاله _ أجاب عليه السلام بقوله : يخرجه من الحدّين ، وإلاّ فإطلاق الردّ عليه إخراج له من حدّ التعطيل فقط ، فينبغي أن يقال : شيء لا كالأشياء». الوافي ، ج 1 ، ص 334 .
2- بمعنى أنّ الوجود فيه تعالى غير الوجود في غيره .

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ) ؛ بفتح الميم وسكون المعجمة والمهملة والقصر أو المدّ، اسمه: حميد بن المثنّى.(1)

(رَفَعَهُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ: «إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ) . الخلو _ بكسر المعجمة وسكون اللام: الخالي، والمراد بالخلق المخلوق. والفقرة الاُولى ردّ على القائلين بحلول الحوادث فيه تعالى،(2) والفقرة الثانية ردّ على الحلوليّة من الصوفيّة القائلين بأنّه تعالى يحلّ في الأولياء،(3) ومن النصارى القائلين بأنّه تعالى حلَّ في عيسى،(4) وكلتا الفقرتين ردّ على الاتّحاديّة من الصوفيّة القائلين بأنّه تعالى متّحد مع كلّ مخلوق، ومن النصارى القائلين بأنّه تعالى متّحد مع عيسى.(5)

(وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ») أي كائن في نفسه (فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي محدث زمانا، سواءً كان باعتبار وجوده في نفسه في الخارج، أم في الذهن عند القائلين بالوجود الذهني.

(مَا خَلاَ اللّه َ) ؛ بالنصب على الاستثناء. وهذه الفقرة إبطال للتعطيل، فإنّها تدلّ على أنّه يقع عليه تعالى اسم «شيء» كما يقع على مخلوقه، فهو شيء بحقيقة الشيئيّة، أي له تعالى مائيّة وإنّيّة متغايران حقيقةً كالمخلوقات، وهي منضمّةً إلى سابقها تدلّ على إبطال حلول المعاني القديمة فيه تعالى.

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام .

ص: 82


1- رجال النجاشي ، ص 133 ، الترجمة 340 ؛ الفهرست للطوسي ، ص 114 ، الترجمة 236 ؛ رجال الطوسي ، ص 192 ، الترجمة 245 . وانظر معجم رجال الحديث ، ج 7 ، ص 309 ، الترجمة 4097 .
2- مثل الكرامية ، كما حكاه عنهم الأسفرائيني البغدادي في الفرق بين الفرق ، ص 173 ، والعلاّمة في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 361 .
3- حكاه عنهم الرازي في تفسيره الكبير ، ج 11 ، ص 191 ، و ج 24 ، ص 128 . وانظر الفتوحات المكيّة ، ج 2 ، ص 334 .
4- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 16 ، ص 28 .
5- تفصيل الكلام في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 363 ؛ تلخيص المحصّل للطوسي ، ص 260 .

يَقُولُ: إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ» مَا خَلاَ اللّه َ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ) . مضى معناه آنفا.

(وَاللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما خلا اللّه تعالى. وضمّ هذا للتصريح بأنّ المراد بقوله: «مخلوق» إنّه مخلوق للّه تعالى.

(تَبَارَكَ الَّذِي) . البركة بفتحتين: كثرة النماء والسعادة، ونقْله إلى التفاعل يفيد مبالغة، ويُقال: تبارك اللّه بمعنى اتّصف بكلّ كمال، كما أنّ «تعالى اللّه » بمعنى تنزّه عن كلّ نقص، فلا يستعملان في غير اللّه ، وضمّ هذا لدفع ما يتوهّم من السابق، وهو اشتراك الوجود معنىً بينه وبين خلقه من التشبيه، وللإشارة إلى حسن التجوّز في التعميم في خالق كلّ شيء، وهذا التعميم وقع في القرآن أيضا؛ أي ليس يُقاس تعالى بغيره، فهو مستثنى استثناءً ظاهرا وإن لم يذكر الاستثناء.

ونظير هذا ما رواه ابن بابويه في معاني الأخبار عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه سأله رجل عن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء(1) على ذي لهجةٍ(2) أصدق من أبي ذرّ» وقال: فأين رسول اللّه وأمير المؤمنين؟ وأين الحسن والحسين؟ قال عليه السلام : «إنّا أهلُ بيتٍ لا يُقاس بنا أحد».(3)

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . اقتباس من سورة الشورى،(4) والكاف للتشبيه.

و«مثل» مُقحمٌ للمبالغة وكونه كدعوى شيء ببرهانه كقولك: مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل لأنّك على صفةِ كذا، وكلّ من كان على صفةِ كذا لا يبخل، فهو كدعوى له ببرهان. ومثل الشيء ما كان متّفقا معه في كلّ واحدةٍ من صفاته بأن يكون علمه _ مثلاً _ على قدر علمه لا ينقص عنه، وكذا قدرته ونحوهما.

والمراد بشبيه مثله تعالى شيء يصلح لأن يكون زوجا له بأن يكون كلّ منهما جسمانيّا، أو يكون كلّ منهما مجرّدا، بقرينة قوله فيما قبل: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا .

ص: 83


1- الخضراء: كناية عن السماء . والغبراء. كناية عن الأرض . وأقلّت، أي حملت ورفعت .
2- في حاشية «أ» : «اللهجة، ويحرّك : اللسان» . الصحاح ، ج 1 ، ص 339 (لهج) .
3- معاني الأخبار ، ص 178 ، باب معنى قول النبي صلى الله عليه و آله ما أظلّت الخضراء و . . . ، ح 2 .
4- الشورى (42) : 11 .

وَمِنْ الاْءَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ».(1)

والبطلة يقولون: معنى الآية كما أنّه ليس مثله موجودا ليس شيء غيره موجودا، فيعطون «ليس» حكمَ «كان» التامّةِ، أو يقدّرون الخبر، واللام في «السميع البصير» تفيد الحصر، وهو تقوية للنفي ببيان أنّ السمع والبصر _ اللذين هما أظهر الحواسّ والكمالات وطرق العلم _ ليسا خالصين في غيره تعالى، فإنّهما فيه مشوبان بالصمم والعمى.

بيانه: أنّه ليس كلّ صوت مسموعا للإنسان _ مثلاً _ بل يحتاج سماعه إلى شروط مشهورة، وهو فيما تحقيق الشروط إنّما يسمعه بعد حدوثه بزمان قليل أو كثير بحسب قرب المسافة وبُعدها، فيظنّ أنّه حادث حين سمعه، وأنّه ليس كلّ جسم مرئيّا للإنسان، بل يحتاج رؤيته إلى شروط مشهورة، وهو فيما تحقّق الشروط إنّما يراه على قدر زاوية الجليديّة،(2) وهي مختلفة بحسب قُرب المسافة وبُعدها مع اتّحاد المرئيّ، فيظنّه على قدر ليس عليه كما في رؤيته الكواكب ونحوها، وكذا يختلف الظنّ بلون المرئيّ كثيرا بحسب اختلاف الليل والنهار والأوضاع كما هو المجرّب.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ) ؛ بفتح العين المهملة وكسر الطاء المهملة وتشديد الخاتمة.

(عَنْ خَيْثَمَةَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة.

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ» مَا خَلاَ اللّه َ تَعَالى، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَاللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . مضى معناه آنفا.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ حِينَ سَأَلَهُ) أي قال له سائلاً: (مَا هُوَ؟). الضمير للّه تعالى. .

ص: 84


1- الشورى (42) : 11 .
2- الجليدية هي رطوبة صافية كالبَرَد . والجليد مستديرة في العين ، بها يتحقّق البصر . قانون لابن سينا ، ج 2 ، ص 108 ، فصل في تشريح العين .

(قَالَ) تكرار للأوّل.

(هُوَ شَيْءٌ بِخِلاَفِ الاْءَشْيَاءِ، ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلى إِثْبَاتِ مَعْنىً، وَأَنَّهُ شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ جِسْمٌ وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ يُحَسُّ وَلاَ يُجَسُّ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ، وَلاَ تَنْقُصُهُ الدُّهُورُ، وَلاَ تُغَيِّرُهُ الاْءَزْمَانُ) .

مضى مع شرحه في خامس الأوّل؛(1) كرّره في هذا الباب؛ لأنّ قوله: «شيء» لإبطال التعطيل، وقوله: «بخلاف الأشياء» لإبطال التشبيه، وليظهر أنّ هذا مع ما مضى فيه رواية واحدة، وللرواية تتمّة اُخرى يجيء في أوّل أوّل كتاب الحجّة.(2)

(فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ). مقصوده الاعتراض على قوله: «لا جسم ولا صورة».

(فَتَقُولُ)؛ بتقدير الاستفهام، وبالخطاب.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ قَالَ: هُوَ سَمِيعٌ، بَصِيرٌ؛ سَمِيعٌ) أي لكن هو سميع (بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ) . المقصود أنّه سميع لا بجارحة، وبصير لا بآلة، وإنّما لم يجبه هكذا، مع أنّ فيه التصريحَ الذي لا يحتاج إلى التفسير الآتي، لأنّه ليس فيه تصريح ببطلان أن يكونا ببعضه الذي ليس بجارحة ولا آلة، أو بصفة موجودة في الخارج في نفسها، ويحتمل أن يكون وجهه أن يبيّن له تفسير ما يُقال أيضا في هذا المقام كثيرا، ولا تصريح فيه.

(بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ قَوْلِي: إِنَّهُ سَمِيعٌ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَبَصِيرٌ يُبْصِرُ) أي وبصير يبصر (بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ، وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ) أي مغايرٌ له حقيقةً لظاهر الباء، فإنّه يقتضي المغايرة بين الفاعل وما دخلت عليه.

(وَلكِنْ أَرَدْتُ عِبَارَةً) أي تعبيرا (عَنْ نَفْسِي) أي عمّا في نفسي بلفظ مع ضيق الألفاظ المستعملة لا في مجاز فيه.

(إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً، وَإِفْهَاما) ؛ عطف على «عبارةً».

(لَكَ؛ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً، فَأَقُولُ) أي فاُعبّر عمّا في نفسي بتعبير آخر حتّى ينضمّ إلى .

ص: 85


1- أي الحديث 5 من باب حدوث العالم .
2- أي الحديث 1 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

التعبير الأوّل ويتّضح المراد.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ بِكُلِّهِ) . لمّا كان لفظة «بكلّه» أبعد من احتمال أن يكون المراد منه ببعضه من لفظة «بنفسه» ضمّ ذلك.

(لاَ أَنَّ) . احتاط مرّةً اُخرى لئلاّ يتوهّم أنّ المراد بالكلّ ما هو مركّب من الأجزاء.

(الْكُلَّ مِنْهُ) ؛ اسم «أنّ»، و«من» بمعنى «في»، والضمير للّه .

(لَهُ بَعْضٌ ) . الضمير للكلّ، والجملة خبر «أنّ».

(وَلكِنِّي أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي) ؛ بكسر الجيم مصدر ميمي، أي قصدي (فِي ذلِكَ) أي في التعبير عمّا في نفسي.

(إِلاَّ إِلى أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْعَالِمُ الْخَبِيرُ ). ضمّ هذين على سبيل المثال والإشارة إلى أنّ ما قلنا في السمع والبصر جارٍ في جميع صفات ذاته.

(بِلاَ اخْتِلاَفِ الذَّاتِ) أي بدون أن يكون فيه جزء دون جزء.

(وَلاَ اخْتِلاَفِ الْمَعْنى) أي بدون أن يكون فيه موجود في نفسه في الخارج، دون موجود آخر في نفسه في الخارج، سواء كانا ذاتا وصفةً، أم غيرهما.

ويتحصّل من الكلام أنّ الباء للآلة المجازيّة تشبيها له تعالى بالآلة، ويكفي فيه التغاير الاعتباري.

(قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَمَا هُوَ؟) ليس مقصود السائل _ بإعادة هذا السؤال بعد ما ذكره سابقا وسمع الجواب بأنّه تعالى لا يعرف بكنهه _ السؤالَ عن كنهه تعالى، بل مقصوده السؤال عن أقرب أسمائه إلى كنهه، أي أسمائه المختصّة به تعالى، سواء كان فيها عَلَم شخصي _ كما هو المشهور بين المخالفين لنا في لفظة اللّه (1) _ أم لم يكن كما هو الحقّ.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ الرَّبُّ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ) أي المستحقّ للعبادة (وَهُوَ اللّه ُ) .

حاصل الجواب: أنّ من أقرب أسمائه ثلاثة، وهي نعوتٌ مختصّة به تعالى، واُمور اعتباريّة ليست بمعانٍ؛ بناءً على أنّ ثبوت نعت لشيء لا يستلزم ثبوت المثبَت في نفسه .

ص: 86


1- المواقف ، ج 3 ، ص 305 ؛ تفسير الرازي ، ج 12 ، ص 156 ؛ وج 21 ، ص 219 ؛ وج 32 ، ص 56 .

في الخارج، ومن تلك النعوت الربّ، بمعنى مالك كلّ شيء، وحاكم كلّ نزاع، ويكفي في أن يكون هو المعبودَ لا غيره، ومن تلك النعوت اللّه ، ولفظة «اللّه » أصلها إلآه على فعال بمعنى فاعل، أي مستحقّ للعبادة، ولام التعريف للعهد، ومفادها: الذي هو خالق الأجسام وصانعها.

(وَلَيْسَ قَوْلِيَ: «اللّه ُ») أي قولي: «وهو اللّه » (إِثْبَاتَ هذِهِ الْحُرُوفِ). المراد بإثبات هذه الحروف الحكم بأنّها دالّة عليه تعالى بلا توسّط نعت له تعالى بأن يكون المركّب منها عَلَما شخصيّا له.

(أَلِفٍ وَلاَمٍ وَهاءٍ ) ؛ مجروراتٍ؛ لأنّها بدل تفصيل ل«هذه الحروف» وألف تشمل(1) الهمزة في أوّل لفظة اللّه ، واللّيّنةَ التي قبل آخره.

(وَلاَ رَاءٍ وَلاَ بَاءٍ) . الواو الاُولى للحال، والثانية للعطف، و«لا» في الموضعين لنفي الجنس، وذكر الجملة الحاليّة دفعا لتوهّم أنّ المراد بإثبات هذه الحروف الحكم بوجودها في أنفسها في الخارج، ونصّا على ما ذكرنا في المراد منه، فإنّ المخالفين لنا لم يذهبوا إلى كون لفظة «الربّ» علما شخصيّا له تعالى.

(وَلكِن أرْجِعُ(2)) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب ضرب، أي أقصد بقولي: «هو اللّه ».

(إِلى مَعْنىً) أي إلى موجود في نفسه في الخارج.

(وَشَيْء خَالِقِ الاْءَشْيَاءِ وَصَانِعِهَا، وَنَعْتِ هذِهِ الْحُرُوفِ) ؛ قوله: «وشيء» _ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز _ عطف على «معنى» ومضاف، والمراد ب«خالق الأشياء» لفظ خالق الأشياء، وكذا المراد ب«صانعها» بالجرّ، والمراد ب«شيء خالق الأشياء» المفهوم الذي وضع له لفظ خالق الأشياء باعتبار أنّ اللفظ المهمل ليس له شيء، وكذا المراد بشيء صانعها.

وقوله: «ونعت» بفتح النون وسكون المهملة والمثنّاة فوق مضافٌ ومجرور بالعطف على شيء عطفَ التفسير. .

ص: 87


1- في «ج»: «تشتمل».
2- في الكافي المطبوع : «ارْجِعْ» .

وقوله: «هذه الحروف» تركيب توصيفي وإشارة إلى حروف لفظة «اللّه » أو لفظ «خالق الأشياء» أو لفظ «صانعها». ومآل الكلّ واحد؛ فإنّ الأخيرين كالمرادف للام العهد في «اللّه » والاكتفاء بهما اقتصارٌ اعتمادا على ظهور المراد وإشارةً إلى مناط دفع شبهة المخالفين حيث قالوا: لو لم يكن لفظة «اللّه » علما شخصيّا، لما أفاد قولنا: لا إله إلاّ اللّه التوحيد، والمقصود أنّ المعنى خارج عمّا وضع له هذه الحروف؛ إنّما هو مدلول التزامي لها كما هو مشهور بين أهل العربيّة من أنّ الذات خارج عن مفهوم وُضع له المشتقّات.

(وَهُوَ) ؛ مبتدأ، أي ما سألت عن أقرب أسمائه بما هو.

(الْمَعْنى) ؛ خبر المبتدأ، واللام للحصر؛ أي دون نعت هذه الحروف.

(سُمِّيَ بِهِ) ؛ خبر آخر، ونائب الفاعل ضمير مستتر راجع إلى المبتدأ، والضمير المجرور راجع إلى «نعت هذه الحروف» أي وُسِمَ به، وجعل مدلولاً عليه به. ويمكن أن يكون «هو» ضمير الشأن، و«المعنى» مبتدأً و«سمّي به» خبره.

(اللّه ُ، وَالرَّحْمنُ ، وَالرَّحِيمُ، وَالْعَزِيزُ ، وَأَشْبَاهُ ذلِكَ) ؛ مبتدأ ومعطوفات على المبتدأ.

(مِنْ أَسْمَائِهِ) ؛ خبر المبتدأ، والضمير للمعنى في قوله: «وهو المعنى».

والمقصود تأكيد أنّه لا فرق بين لفظة «اللّه » وبين سائر الأسماء في أنّه ليس علما شخصيّا.

(وَهُوَ الْمَعْبُودُ جَلَّ وَعَزَّ) . الضمير للمعنى، والمقصود أنّه لا يجوز عبادة اسم من أسمائه.

(قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ مَوْهُوما إِلاَّ مَخْلُوقا) . الفاء للتعقيب، و«إنّا» بكسر الهمزة وتشديد النون، والتقدير: «فأقول: إنّا».

و«لم نجد» بالجيم ومهملة من الوجدان بضمّ الواو وسكون الجيم.

والموهوم: ما تعلّق به الوهم، سواء كان بكنهه أم بوجهه، وسواء كان بالهذيّة أم بغيرها. مراده أنّ الوجدانيّات من أقسام الضروريّات، وكما نعلم بالوجدان حين تعلّق وهمنا بشيء أنّ لنا موهوما، نعلم بالوجدان أنّ ذلك الموهوم مخلوق، فيبطل قولكم في إثبات الصانع.

ص: 88

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لَوْ كَانَ ذلِكَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ التَّوْحِيدُ عَنَّا مُرْتَفِعا؛ لاِءَنَّا لَمْ نَكْلَفْ(1) غَيْرَ مَوْهُومٍ) . «ذلك» إشارة إلى الموهوم. و«كما تقول» عبارة عن المنحصر في معلوم المخلوقيّة بالوجدان، واللام في «التوحيد» للعهد الخارجي، وهو عبارة عن مضمون قوله عليه السلام : «هو الربّ، وهو المعبود، وهو اللّه » إلى آخره، أو عبارة عن مضمون جميع ما ذكر في جواب السائل في هذا الحديث.

والمرتفع بكسر الفاء: المسلوب والمنتفي.

و«لم نكلف» معلوم باب علم من الكَلف بالفتح، وهو ارتكاب العمل مع شغل قلب ومشقّة.(2) وفي كتاب التوحيد لابن بابويه: «لم نتكلّف».(3) ومآلهما واحد.

قال ابن الأثير في النهاية:

فيه: «اكْلفُوا من العمل ما تطيقون». يُقال: كَلِفت بهذا الأمر أكْلَف بهِ: إذا وَلِعْتَ به وأحببتهُ. وقال: وكلِفته: إذا تحمّلتُهُ، وقال: وتكلَّفت الشيء: إذا تجشّمته على مشقّة. وقال: والكَلْف: الولوع بالشيء مع شغل قلب ومشقّة.(4)

وحاصل الجواب: أنّه لو كان كلّ موهوم معلومَ المخلوقيّة بالوجدان، لكان ما صدر عنّا سابقا من التوحيد غيرَ صادر عنّا، لأنّه تعلّق وهمنا به، ولم نعلم(5) بالوجدان مخلوقيّته، والعلم بالوجدانيّات يجب أن يكون مشتركا بين جميع العقلاء، غير مختصّ ببعض دون بعض.

(وَلكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَوْهُومٍ بِالْحَوَاسِّ مُدْرَكٍ بِهِ(6) تَحُدُّهُ الْحَوَاسُّ وَتُمَثِّلُهُ؛ فَهُوَ مَخْلُوقٌ) . استدراك عن إنكار كون كلّ موهوم مخلوقا.

والمراد بالحواسّ الخمس: السمع، والبصر، والشمّ، والذوق، واللمس. .

ص: 89


1- في الكافي المطبوع: «نُكَلَّفْ» للمجهول.
2- لسان العرب ، ج 9 ، ص 307 (كلف) .
3- التوحيد ، ص 246 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1 . وفيه : «نكلف» بدل «نتكلف» .
4- النهاية ، ج 4 ، ص 197 (كلف) .
5- في «ج» : «تعلم» .
6- في الكافي المطبوع : «بها» .

و«مدرك به» اسم مفعول بالجرّ صفة موضحة ل_«موهوم بالحواسّ» والباء للآلة، وضمير «به» للوهم المذكور في ضمن موهوم.

و«تحدّه» بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة معلوم باب نصر، والجملة خبر المبتدأ، وتمثيل الحواسّ إيّاه أن يعلم بالحواسّ أنّ له شكلاً خاصّا.

والفاء للتفريع.

(إِذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الاْءِبْطَالَ وَالْعَدَمَ ، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: التَّشْبِيهُ؛ إِذْ كَانَ التَّشْبِيهُ هُوَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ الظَّاهِرِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ) .

الظاهر أنّه سقط من قلم الناسخين هنا شيء، وفي كتاب التوحيد لابن بابويه وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي هكذا: «وَلاَبُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ صَانِعٍ للاْءَشْيَاءِ خَارِج مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: النَّفْيُ؛ إِذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الاْءِبْطَالَ» إلى آخره،(1) ف_«إذ» في الموضعين لتعليل «مذمومتين»، «هو» في الموضعين ضمير الفصل؛ يجوز نصب «الإبطال» عند من يلغي ضمير الفصل، ورفعه على أنّه خبر «هو»(2) عند من لا يلغي.

و«العدم» بالضمّ وبضمّتين، وبفتحتين مصدر عدمه كعلم: إذا فقده.

و«الجهة» مثلّثة الجيم: الطرف. ومضى إخراجه تعالى من حدّي التعطيل والتشبيه في ثاني الباب.

«صفة» مصدر وصفه: إذا أخبر عنه، ويجوز نصبه ورفعه كما مرّ.

«المخلوق» مضاف إليه والإضافة إلى المفعول.

«الظاهر» بالجرّ صفة «المخلوق» أي الواضح التركيب بالجرّ على أنّه مضاف إليه لفظا وفاعل معنى.

و«التأليف» بالجرّ على العطف، أو بالنصب على أنّ الواو بمعنى «مع». والمراد المخلوق الذي ظاهر أنّه ركبه وألفه غيره. .

ص: 90


1- التوحيد ، ص 246 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1 . وفيه : «الأشياء» بدل «للأشياء» ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 70 ، وفيه : «الأشياء خارجا» بدل «للأشياء خارج» .
2- في «أ» : «وهو» .

وهنا أربعة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد بالتركيب جمع أجزائه بعضها مع بعض إلى أن يبلغ مقدارا خاصّا مع احتمال الزيادة والنقصان، كما يجيء توضيحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة» عند قوله: «الجسم محدود متناه» إلى آخره.

والمراد بالتأليف النضد، أي جمع كلّه مع الأجسام الاُخرى على نسبة خاصّة بتخصيص كلّ جسم بمكان خاصّ، كما مضى توضيحه في الدليل الثالث من أوّل الباب.

الثاني: أن يراد عكس ذلك.

الثالث: أن يُراد بكلّ منهما جمع الأجزاء.

الرابع: أن يُراد بكلّ منهما جمع كلّه مع الأجسام.

(فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ) . لمّا استدلّ على كون الصانع على تقدير وجوده خارجا من الجهتين، وكان دليل إبطال جهة التشبيه دليلاً على إثبات الصانع أيضا، فرّعه عليه.

(لِوُجُودِ الْمَصْنُوعِينَ) . الوجود مصدر «وجده» كوعده؛ أي أدركه، والإضافة إلى المفعول، أي لأنّا نجد المصنوعين وهم العقلاء من الأجسام والجسمانيّات الظاهرة التركيب والتأليف، أو المراد أعمّ، وغَلَّب العقلاء على غيرهم.

(وَالاِضْطِرَارِ) ؛ بالجرّ معطوف على «وجود» أي اضطرارنا.

(إِلَيْهِمْ) أي إلى المصنوعين.

(أَنَّهُمْ مَصْنُوعُونَ) ؛بفتح الهمزة بدل اشتمال عن الضمير في «إليهم» أي ولاضطرارنا إلى أنّهم مصنوعون، ومعناه: لعلمنا البتّة بكونهم مصنوعين، وحينئذٍ لا ينافي كون العلم نظريّا، إذ هو واضح الدليل، فكأنّ الدليل لوضوحه جَبَرَ على العلم، وقد اُشير إلى وضوح الدليل في قوله: «الظاهر التركيب». ويحتمل أن يكون معناه: لعلمنا الضروري بكونهم مصنوعين.

(وَأَنَّ صَانِعَهُمْ غَيْرُهُمْ) ؛ بفتح الهمزة والتشديد معطوف على «أنّهم» أو على «وجود».

(وَلَيْسَ مِثْلَهُمْ) . معطوف على «غيرهم» عطفَ تفسير؛ أي ليس محدودا ممثّلاً.

(إِذْ كَانَ مِثْلُهُمْ) . دليلٌ على قوله: «وليس مثلهم» أو على قوله: «وأنّ صانعهم» إلى آخره.

ص: 91

(شَبِيها بِهِمْ) أي شريكا لهم (فِي ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ) .

مضى معناه آنفا، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أو قوله: «ظاهر» منّون، وقوله: «التركيب» بدل، أو عطف بيان على ما جوّزه الزمخشري في قوله تعالى: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»(1)في «ج» : - «لا صانع» .(2)، مع كون الأوّل نكرة، والثاني معرفة.(3)

حاصل الدليل أنّ صانع الجسم لا من مادّة سبقت لا يمكن أن يكون جسما؛ لأنّه لا يجيء الأشياء للجسم إلاّ بالمباشرة والمعالجة، ولا صانع(3) لا من مادّة سبقت يجب أن لا يكون فيه نقص من وجه، فيجب أن يكون نافذ الإرادة، كما يجيء في آخر الحديث. ولو كان حاصل الدليل أنّه لو كان صانعه جسما لزم التسلسل، لم يتمّ الدليل إلاّ بإثبات أنّ الممكن يحتاج في البقاء إلى فاعله، أو امتناع التسلسل في المتعاقبة أيضا.

(وَفِيمَا يَجْرِي) . عطفٌ على «في ظاهر التركيب»، وهو بفتح ياء المضارعة من الجريان، والضمير المستتر ل«ما» ويجوز ضمّها من الإجراء والضمير المستتر لظاهر، والعائد المنصوب محذوف.

(عَلَيْهِمْ) أي بدون اختيارهم (مِنْ حُدُوثِهِمْ). بيانٌ لما.

(بَعْدَ إِذْ) أي بعد وقت، فهو تصريح بالحدوث الزماني لدفع توهّم كفاية الحدوث الدهري، المساوق للحدوث الذاتي، المساوق للإمكان الذاتي.

(لَمْ يَكُونُوا ) أي أصلاً، لا بصورتهم ولا بمادّتهم؛ لأنّ الدليل السابق جارٍ في كلّ واحدٍ من الجسمانيّات.

(وَتَنَقُّلِهِمْ) ؛ بالمثنّاة فوق وفتح النون وضمّ القاف المشدّدة، معطوف على «حدوثهم» أي وقابليّتهم للانتقال وإن لم ينتقلوا، أو جعل الجائز المقدور لصانعهم عليهم كالواقع، كقولك: الحمد للّه الذي صغّر جسم البعوض، وكبّر جسم الفيل، أو فيه تغليب الإنسان في مبتدأ فطرته إلى كماله على غيره. .

ص: 92


1- آل عمران
2- : 97 .
3- الكشّاف ، ج 1 ، ص 447 .

(مِن صِغَرٍ إِلى كِبَرٍ، وَسَوَادٍ إِلى بَيَاضٍ، وَقُوَّةٍ إِلى ضَعْفٍ، وَأَحْوَالٍ) . يجوز عطفها على «صغر» وعلى «كبر». والمآل واحد.

(مَوْجُودَةٍ) ؛ من الوجود المقابل للفقد؛ أي غير مجهولة لأحد.

(لاَ حَاجَةَ بِنَا إِلى تَفْسِيرِهَا؛ لِبَيَانِهَا) أي لظهورها.

(وَوُجُودِهَا) ؛ ضدّ الفقد، أي وعلم كلّ أحد بها، وهنا مقدّمة مطويّة؛ أي وهذا محال في خالق الأجسام لا من شيء؛ لأنّه نقص.

(قَالَ السَّائِلُ: فَقَدْ حَدَدْتَهُ إِذْ أَثْبَتَّ وُجُودَهُ). الحدّ بالفتح مصدر باب نصر: التمييز والإحاطة.

وهذا مناقشة في قوله عليه السلام : «فلم يكن بدّ من إثبات الصانع» بأنّه يتضمّن إثبات وجود له منضمّ إليه انضمام البياض إلى الجسم، فيتضمّن تمييزك إيّاه عن عارضه، أو إحاطة ذهنك به.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لَمْ أَحُدَّهُ) . لم يقل: «لم اُثبت وجوده» لأنّ إثبات مفهوم كما يُطلق على الحكم بكونه موجودا في نفسه في الخارج وهو المتبادر لغةً، يُطلق على الحكم بكونه قائما بشيء في الخارج، وهو عليه السلام قد أثبت وجوده بهذا المعنى، لكنّه لا يستلزم المحدوديّة؛ لأنّ قيام الاُمور الاعتباريّة بذاته تعالى لا يستلزم أن يكون تعالى محدودا، إذ ليس وجودها في الخارج وجودَها في أنفسها، بل وجودَها الرابطي فقط، والمحدوديّة إنّما يلزم إثبات الصفة بمعنى الحكم بوجود الصفة في نفسها في الخارج، لأنّها لا تكون إلاّ للجسمانيّات.

(وَلكِنِّي أَثْبَتُّهُ) ؛ بتشديد التاء بصيغة الماضي، فيه بيان الفرق بين إثبات ذاته وإثبات صفته بالمعنى المبتادر لغةً من الإثبات، وفيه إشارة إلى أنّه عليه السلام لم يثبت وجوده بهذا المعنى.

(إِذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالاْءِثْبَاتِ مَنْزِلَةٌ) . استدلالٌ على أنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة بأنّه لولاه لكان معدوما بحقيقة العدم؛ إذ ليس بين المنزلتين منزلة، والنزاع بين القائلين بالحال وغيرهم لفظي؛ لتخصيصهم «الموجود» و«المعدوم» بالذات اصطلاحا، دون غيرهم.

(قَالَ(1) السَّائِلُ: فَلَهُ) . الفاء للتفريع والاستفهام مقدّر. .

ص: 93


1- في الكافي المطبوع : + «له» .

(إِنِّ_يَّةٌ) ؛ بكسر الهمز والنون المشدّدة المكسورة والياء المشدّدة، منسوبٌ إلى «إنّ» للتحقيق مع الهاء المصدريّة، أي كونٌ.

(وَمَائِيَّةٌ؟). منسوبٌ إلى «ما» الاستفهام مع زيادة همزة بعد ألفها، والهاء المصدريّة بعد الياء المشدّدة، وقد يُقال لها: ماهيّة أيضا؛ أي أفله كون وذات متغايران؟ بأن لا يحمل أحدهما على الآخر مواطأةً حقيقة.

(قَالَ: نَعَمْ، لاَ يَثْبُتُ(1)) ؛ بصيغة المعلوم من باب نصر، أو المجهول من باب الإفعال من الإثبات الذي ليس بينه وبين النفي منزلة، والجملة استئناف للاستدلال على قوله: «نعم».

(الشَّيْءُ) سواء كان واجبا بالذات، أم ممكنا.

(إِلاَّ بِإِنِّ_يَّةٍ وَمَائِيَّةٍ) . أي متغايرين حقيقةً وإن كانا متّحدين مجازا، وهو المراد للمحقّقين من القائلين بعينيّة صفات ذاته تعالى له.(2)

(قَالَ(3) السَّائِلُ: فَلَهُ كَيْفِيَّةٌ؟). الفاء للتفريع على أن يكون له إنّيّة ومائيّة متغايرتان، ومضمونه خبر. والمراد بالكيفيّة الخصوصيّة التي يمتاز بها الشيء عن غيره، وهي على قسمين:

الأوّل: ما يمتاز به الشيء في نفسه، وباعتبار ذاته عن غيره من الذوات.

الثاني: ما يمتاز به الشيء في عارضه الموجود في الخارج عمّا ليس له هذا العارض.

(قَالَ عليه السلام : لاَ؛ لاِءَنَّ الْكَيْفِيَّةَ جِهَةُ الصِّفَةِ وَالاْءِحَاطَةِ) .

«لا» هنا لنفي ما بعدها؛ كما في قولك: أكرمت زيدا لا لأنّه فاضل، ولكن لخوفي منه.

و«الجهة» مثلّثة الجيم: الطريق. والمقصود نفي القسم الثاني من الكيفيّة، بناءً على أنّه لا يمكن أن يتحقّق إلاّ فيما يمكن صفته؛ أي بيان حقيقته باسم جامد. والإحاطة به أي إدراك الوهم إيّاه كالجسم.

(وَلكِنْ لاَبُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ جِهَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ) . استدراكٌ عن نفي القسم الثاني .

ص: 94


1- في الكافي المطبوع : «يُثْبَتُ» المجهول من باب الإفعال .
2- اُنظر نهج الحقّ وكشف الصدق ، ص 64 ، صفاته عين ذاته ؛ ومعارج الفهم ، ص 389 .
3- في الكافي المطبوع : + «له» .

من الكيفيّة لإثبات القسم الأوّل منها، وتقدير الكلام: ولكن لأنّه لابدّ.

والمقصود أنّه لو لم يكن له القسم الأوّل من الكيفيّة، لزم النفي والتعطيل، فقوله: «والتشبيه» إمّا بالجرّ عطف على «التعطيل» وإمّا بالنصب، والواو بمعنى «مع».

(لاِءَنَّ) . استدلالٌ على وجوب الخروج من الجهتين.

(مَنْ نَفَاهُ) أي من نفى أن يكون له كيفيّة بالمعنى الأوّل.

(فَقَدْ أَنْكَرَهُ وَدَفَعَ رُبُوبِيَّتَهُ وَأَبْطَلَهُ) . إنكاره جحد كونه مستحقّا للعبادة، وهو لازم لدفع الربوبيّة؛ أي دفع كونه مالكا لكلّ شيء، وهو لازم للإبطال؛ لأنّ المعدوم حقيقةً لا يكون ربّا، فلا يكون إلها.

(وَمَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ) ؛ بالقول بأنّ له كيفيّةً بالمعنى الثاني.

(فَقَدْ أَثْبَتَهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ الْمَصْنُوعِينَ) ؛ هي أن يكون جسما محدودا ممثّلاً.

(الَّذِينَ لاَ يَسْتَحِقُّونَ الرُّبُوبِيَّةَ) ؛ لأنّهم لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع دون مالكهم.

(وَلكِنْ) . هذا الكلام تكرار وبدل لقوله: «ولكن لابدّ من الخروج» إلى آخره، للتصريح على المراد.

(لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً) أي القسم الأوّل منها.

(لاَ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ) أي لا تتحقّق بتمامها في غيره.

(وَلاَ يُشَارَكُ فِيهَا) ؛ بفتح الراء إمّا بأن يكون فيه ضمير مستتر راجع إلى اللّه ، وإمّا بأن يكون الظرف قائما مقام الفاعل؛ أي ولا تتحقّق(1) ببعضها في غيره.

(وَلاَ يُحَاطُ بِهَا) . الظرف قائم مقام الفاعل؛ أي لا يحيط شيء بها إحاطةَ الجسم بجسم آخر، أو المكان بالمتمكّن، أو نحو ذلك.

(وَلاَ يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ) أي ولا يدرِك كنهها لا بالضرورة، ولا بالنظر.

(قَالَ السَّائِلُ: فَيُعَانِي الاْءَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ ؟). الفاء للتفريع على ما ذكره عليه السلام في قوله: «لوجود .

ص: 95


1- في «ج» : «يتحقّق» .

المصنوعين» إلى آخره، والاستفهام مقدّر. والمعاناة: تحمّل التعب في فعل.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ أَجَلُّ) ؛ يعني أنّ المعاناة نقص لا يمكن أن تتحقّق في صانع الجسم بلا مادّة سبقت، فمصنوعاته صادرةٌ عنه بلا معاناة.

(مِنْ أَنْ يُعَانِيَ الاْءَشْيَاءَ) أي من أن لا يكون فعله بمحض الإرادة والمشيئة بل (بِمُبَاشَرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ) ؛ إذ المباشرة فعل البدن، وكذا المعالجة.

وفيه دلالة على أنّ المعاناة لا يمكن إلاّ في البدن.

(لاِءَنَّ ذلِكَ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ) أي لأنّه صفة الأجسام المخلوقة، أي المدبّرة المحدودة في «أين» و«كم»، أو لأنّه نقص لا يكون في الخالق الذي قد دلّ الدليل على أنّه بريء من كلّ نقص.

(الَّذِي لاَ تَجِيءُ) أي(1) لا يأتي طائعا كما في قوله تعالى في سورة فصّلت: «فَقَالَ لَهَا وَلِلاْءَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).

(الاْءَشْيَاءُ لَهُ) أي إذا أرادها.

(إِلاَّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُعَالَجَةِ، وَهُوَ) أي صانع الجسم بلا مادّة سبقت (مُتَعَالٍ) أي عن كلّ نقص (نَافِذُ الاْءِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ) .

ذكر «المشيئة» بعد «الإرادة» هنا للترقّي؛ لأنّ المشيئة قبل الإرادة، كما يجيء في باب البداء.

(فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ) .

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللّه َ تعالى شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُخْرِجُهُ مِنَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ التَّعْطِيلِ، وَحَدِّ التَّشْبِيهِ) .

مضى شرحه في ثاني الباب. .

ص: 96


1- في «ج» : «أو» .
2- فصّلت (41) : 11 .

الباب الثالث: باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به

اشارة

الباب الثالث بَابُ أَنَّهُ تعالى لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِ

فيه ثلاثة أحاديث، وشرح من المصنّف.

و«يعرف» بصيغة المجهول من باب ضرب، وفيه ضمير راجع إلى اللّه تعالى. والباءللسببيّة، والاستثناء مفرّغ، أي لا يعرف ربوبيّته إلاّ بإلهامه تعالى كلَّ من بلغ حدّ التمييز ورأى السماء والأرض وسائر ما خَلَق اللّه من شيء ربوبيَّته، كما في قوله تعالى في سورة والشمس: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(1)، وقوله في سورة الأعراف: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا».(2)

وفي كلّ شيء له شاهد يدلّ على أنّه واحد(3)

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ السَّكَنِ) ، بفتح المهملة، وفتح الكاف.

ص: 97


1- الشمس (91) : 8 .
2- الأعراف (7) : 172 . 3 . هذا البيت محكي عن الشاعر أبي إسحاق إسماعيل بن القاسم الملقّب بأبي العتاهية المولود سنة 130ق بعين التمر. اُنظر تاج العروس ، ج 19 ، ص 62 ؛ أعيان الشيعة ، ج 3 ، ص 397 عن ديوانه ص 122 المطبوع في بيروت . وحكاه عن الشاعر عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ، ج 2 ، ص 267 ، والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 429 ؛ ومجمع البيان ، ج 9 ، ص 260 ؛ وج 10 ، ص 316 ، وابن المنير الإسكندري في كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشّاف ، ج 2 ، ص 526 .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : اعْرِفُوا اللّه َ بِاللّه ِ) . صورته أمر، ومعناه النهي عن الوسواس في تحصيل معرفة اللّه بتتبّع ما قاله الفلاسفة وأتباعهم من الدور والتسلسل ونحو ذلك.(1)

ويمكن أن يحمل عليه قوله تعالى في سورة الشورى: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»(2).

(وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ) أي بأنّ ربوبيّته تعالى يستلزم أن يرسل رسولاً إلى من لم يوحَ إليه، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل(3) من قوله: «إنّ من عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي(4) له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحيٍ أو رسولٍ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعةَ المفترضة».

(وَأُولِي الاْءَمْرِ بِالاْءَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالاْءِحْسَانِ) أي بأنّ ربوبيّته تعالى يستلزم أن ينصب بعد الرسل وقبل مجيء شريعة جديدة حجّةً للأمر بالمعروف والعدل والإحسان؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل، فيجب على الناس بعد الرسول طلب ذلك الحجّة، فإذا رأوه عرفوه، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل أيضا بعد ما سبق من قوله: «وقلت للناس: أليس تزعمون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان هو الحجّة من اللّه على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله (5) مَن كان الحجّةَ على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ(6) والقدري والزنديق .

ص: 98


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 73 ؛ وحكاه الرازي في المحصّل ، ص 342 ؛ والمحقّق في المسلك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 212 .
2- الشورى (42) : 16 .
3- أي الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
4- في المصدر : «فينبغي» .
5- في «ج» : - «رسول اللّه » .
6- المرجئة : فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضرّ مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة .

الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرِّجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقّا، فقلت لهم: مَن قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلَّه؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يُقال: إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّا صلوات اللّه عليه، وإذ كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّا عليه السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجّةَ على الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ».(1)

الشرح:

(وَ مَعْنى قَوْلِهِ عليه السلام : «اعْرِفُوا اللّه َ بِاللّه ِ»). هذا عنوان ما بعده، بقرينة ذكر «يعني» فيما بعده، وظاهر ذكر الواو في قوله: «ومعنى» أنّ المقصود بيان معنى آخر لمعرفة اللّه باللّه غيرِ ما يفهم منه، بقرينة ما بعده كما ذكرنا في شرحه.

وحاصله: أنّ المراد معرفة اللّه بتشبيهه بنفسه بمعنى نفي تشبيهه(2) بغيره، نظير قولهم: الجوهر ما قام بنفسه بمعنى أنّه لم يقم بغيره، وهذا المعنى هو الموافق لما يجيء في رابع الخامس عشر(3) من قوله: «من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب» إلى آخره.

(يَعْنِي أَنَّ اللّه َ خَلَقَ الاْءَشْخَاصَ) ؛ هي الأجسام العظيمة كالسماء ونحوها، يُقال: رجل شخيص، أي جسيم؛ أو المراد أفراد الإنسان.

(وَالاْءَنْوَارَ) ؛ هي الأجسام الظاهرة بنفسها، المظهرة لغيرها، كالشمس والقمر والكواكب والنار؛ أو المراد الحجج المعصومون.

(وَالْجَوَاهِرَ وَالاْءَعْيَانَ) . عبّر بهما عن روح الإنسان وسائر بدنه.

(فَالاْءَعْيَانُ: الاْءَبْدَانُ، وَالْجَوَاهِرُ: الاْءَرْوَاحُ) . نَشْرٌ على عكس ترتيب اللفّ، والنكتة

ص: 99


1- الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
2- في «ج» : «تشبيه» .
3- أي الحديث 4 من باب حدوث الأسماء .

الإشارة إلى أنّ مجموعهما لردّ مذهب واحد من المشبّهة هو تشبيهه تعالى بنحو الشابّ الموفّق في سنّ أبناء ثلاثين، كما يجيء في ثالث العاشر.(1)

(وَهُوَ _ جَلَّ وَعَزَّ _ لاَ يُشْبِهُ جِسْما) أي بدنا (وَلاَ رُوحا).

وأمّا قوله: (وَلَيْسَ لاِءَحَدٍ فِي خَلْقِ الرُّوحِ الْحَسَّاسِ الدَّرَّاكِ أَمْرٌ وَلاَ سَبَبٌ، هُوَ الْمُنْفَرِدُ(2) بِخَلْقِ الاْءَرْوَاحِ وَالاْءَجْسَامِ) ، فإنّما ذكره لدفع توهّم أن يكون لشيء من العالم خالق آخر مجرّد، فيتوهّم أن يكون اللّه تعالى شبيها به.

والأمر: الخلق بمحض الإرادة، مأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(3)

والسبب بفتحتين: الحبل وما يتوصّل به إلى غيره، والمراد به هنا الخلق بمباشرة ومعالجة.

(فَإِذَا نَفى) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب، وفيه ضمير راجع إلى العارف المفهوم من «اعرفوا».

(عَنْهُ الشَّبَهَيْنِ: شَبَهَ الاْءَبْدَانِ، وَشَبَهَ الاْءَرْوَاحِ) . هذا على سبيل المثال، وفيه إشعار بأنّ نفي الشبهين هو العمدة.

(فَقَدْ عَرَفَ اللّه َ بِاللّه ِ) أي بتشبيهه بنفسه. ومضى معناه.

(وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالرُّوحِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ النُّورِ) . لم يذكر الشبه بالأشخاص هنا أيضا للإشارة إلى ظهور بطلانه.

(فَلَمْ يَعْرِفِ اللّه َ بِاللّه ِ). قال ابن بابويه في كتابه في التوحيد في «باب أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به» بعد نقل هذا الشرح عن محمّد بن يعقوب، وبعد ذكر أحاديث لم يذكرها محمّد بن يعقوب في هذا الباب:

قال مصنّف هذا الكتاب رضى الله عنه : القول الصواب في هذا الباب هو أن يُقال: عرفنا اللّه باللّه لأنّا .

ص: 100


1- أي الحديث 3 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى.
2- في الكافي المطبوع: «المتفرِّد».
3- يآس (36) : 82 .

إن عرفناه بعقولنا، فهو عزّ وجلّ واهِبُها، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام ، فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ محدثها، فبه عرفناه.(1) وقد قال الصادق عليه السلام : «لولا اللّه ما عُرِفنا، ولولا نحن ما عُرِفَ اللّه ». ومعناه لولا الحجج ما عرف اللّه حقّ معرفته، ولولا اللّه ما عرف الحجج. انتهى.(2)

ثمّ قال ابن بابويه:

ولو استغنى في معرفة التوحيد بالنظر عن تعليم اللّه عزّ وجلّ وتعريفه، لما أنزل اللّه عزّ وجلّ ما أنزل من قوله: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَآ إِلَ_هَ إِلاَّ اللَّهُ»(3)، ومن قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(4)، إلى آخرها، ومن قوله: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ»إلى قوله: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(5)التوحيد ، ص 291 .(6)، وآخرِ الحشر وغيرِها من آيات التوحيد. انتهى.(6)

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ سِمْعَانَ) ؛ بكسر المهملة وفتحها، وسكون الميم والمهملة وألف ونون.

(عَنْ أَبِي رُبَيْحَةَ) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الموحّدة، وسكون الخاتمة ومهملة.

(مَوْلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . الظاهر أنّ اسمه: رباح بفتح المهملة والموحّدة والألف ومهملة.

(قَالَ: سُئِلَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: بِمَا عَرَّفَنِي نَفْسَهُ) . الباء أوّلاً وثانيا .

ص: 101


1- فى حاشية «أ» : « ويجيء في كتاب الحجّة في ثاني الثاني عشر أنّه قال أبو عبداللّه عليه السلام : الأوصياء هم أبواب اللّه عزّ وجلّ التي يؤتى منها ، ولولاهم ما عرف اللّه عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ اللّه _ تبارك وتعالى _ على خلقه . انتهى» .
2- التوحيد، ص 290، باب أنّه عزّوجلّ لا يرعف إلاّ به، ذيل ح 10.
3- محمّد (47) : 19 . وفي المخطوطين «هو» بدل «اللّه » .
4- الإخلاص (112): 1.
5- الأنعام
6- : 101 .

للسببيّة. «ربّك» أي إنّ لك ربّا لا يشرك في حكمه أحدا، ولا يجوز العبادة إلاّ له. «ما» مصدريّة. «عرّفني» معلوم باب التفعيل. «نفسه» بالنصب مفعول به.

(قِيلَ: وَكَيْفَ عَرَّفَكَ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ(1): لاَ يُشْبِهُهُ صُورَةٌ) . هذا إلى آخره بيان اللوازم البيّنة للربوبيّة.(2)

(وَلاَ يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ، قَرِيبٌ فِي بُعْدِهِ). «في» بمعنى «مع» أي لا يستلزم بُعده منّا _ بمعنى عدم الشبه بينه وبين خلقه _ أن لا يكون قريبا منّا بظهور الدلالة عليه، أو بعلمه بكلّ شيء.

(بَعِيدٌ فِي قُرْبِهِ) . إنّما ذكر ذلك مع أنّه معلوم من سابقه؛ احتياطا بتكرار نفي التشبيه ببيان أنّ قربه منّا لا يستلزم التشبيه.

(فَوْقُ(3) كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: شَيْءٌ فَوْقَهُ) . تصحيحٌ لبُعده. و«فوق» بالرفع من الظروف المتمكِّنة، والفوقيّة بالعلّيّة لكلّ شيء، أو بالقدرة على كلّ شيء، ومقول القول جملة قولِه: «شيء فوقه». وإنّما جاز وقوع النكرة مبتدأً لأنّها هنا في حكم ما في سياق النفي.

(أَمَامُ(4) كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: لَهُ أَمَامٌ) . تصحيحٌ أيضا لبعده تعالى. و«أمام» بفتح الهمزة بالرفع من الظروف المتمكّنة، أي قبل كلّ شيء بالزمان. ومقول القول جملة قولِه: «له أمام».

(دَاخِلٌ فِي الاْءَشْيَاءِ لاَ كَشَيْءٍ دَاخِلٍ فِي شَيْءٍ ) . تصحيحٌ أيضا لبُعده ببيان أنّ دخوله في الأشياء إنّما هو بكونه شيئا بحقيقة الشيئيّة، أو بعلمه بكلّ شيء، لا كجسماني داخل في جسماني.

(وَخَارِجٌ مِنَ الاْءَشْيَاءِ لاَ كَشَيْءٍ خَارِجٍ مِنْ شَيْءٍ) . تصحيحٌ أيضا لبعده بأنّ خروجه .

ص: 102


1- في الكافي المطبوع : «قال» .
2- في «ج» : «لشواهد الربوبيّة». وفي حاشية «أ» : «الشواهد الربوبيّة في الآفاق والأنفس» بدل «اللوازم البينة للربوبيّة» .
3- في الكافي المطبوع : «فوقَ» بفتح الأخير .
4- في الكافي المطبوع : «أمامَ» بفتح الأخير .

من الأشياء إنّما هو بتباين ذاته مع ذواتها، لا كجسماني خارج من جسماني.

(سُبْحَانَ مَنْ هُوَ هكَذَا وَلاَ هكَذَا غَيْرُهُ) . أي كلّ ما عداه تعالى له دخول مكاني وكذا خروجه، وقس عليهما الباقي.

(وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَبْتَدَأٌ(1)) ؛ بفتح المهملة، مرفوع على الابتداء، وخبره الظرف المتقدّم عليه. وإنّما ذكره ليكون دليلاً على قوله: «ولا هكذا غيره». والمراد بالمَبتدأ الحدّ، أي لكلّ شيء غيره تعالى حدّ معيّن يبتدأ منه وجوده، إمّا واحد كالكرة، وإمّا متعدّد كالمكعّب. وهذا لإبطال قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وبتجرّد العقول والنفوس.(2)

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنِّي نَاظَرْتُ قَوْما، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ اللّه َ _ جَلَّ جَلاَلُهُ _ أَجَلُّ) أي أظهر وأوضح؛ مأخوذ من الجلّ بالكسر ضدّ الدقّ، أو من الجليل ضدّ الحقير.(3)

(وَأَكْرَمُ) (4) أي أعزّ. كأنّ الخفيّ _ الذي يحتاج في إثباته إلى دقّة نظر وطول فكر ومناظرة _ فيه ذلّة.

(مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ) . الباء للآلة؛(5) أي من أن يعرف ربوبيّته بتعليم خلقه كالأنبياء والرُّسل ونحوهم.

(بَلِ) ؛ للإضراب والإبطال، كقوله سبحانه: «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ»(6).

(الْعِبَادُ) أي المصطفَون، وهم الرُّسل والأئمّة عليهم السلام .

(يُعْرَفُونَ بِاللّه ِ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب؛ أي يعرف رسالتهم وإمامتهم .

ص: 103


1- في الكافي المطبوع : «مُبتدأ» بضمّ الأوّل .
2- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 2 _ 7 لترى قول الفلاسفة في قدم العالم وحدوثه .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 350 (جلّ) .
4- في الكافي المطبوع : «وأعزّ وأكرم» بدل «وأكرم» .
5- في «ج» : «للسببية» .
6- الأنبياء (21) : 26 .

بمعرفة ربوبيّة اللّه ، كما بيّنّاه في شرح أوّل الباب.

ويحتمل أن يكون «يعرفون» بصيغة المعلوم؛ أي يعرفون اللّه باللّه ؛ ومضى معناه.

والأوّل أوفق بتتمّته التي تجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل(1) وخامس عشر الثامن.(2)

(فَقَالَ: رَحِمَكَ اللّه ُ). تصديقٌ لمناظرته. .

ص: 104


1- أي الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
2- أي الحديث 15 من باب فرض طاعة الأئمّة .

الباب الرابع: باب أدنى المعرفة

الباب الرابع بَابُ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ

فيه أربعة أحاديث.

المراد بالمعرفة هنا الاعتراف، أي الإقرار، وبأدناها ما لا يجتزأ في الحكم بالإسلام في باب معرفة الخالق بدونه؛ لكونه متعلّقا بضروريّات دين الإسلام، ومذكورا في محكمات القرآن ونحوها.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ(1)، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْهَمْدَانِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزيدَ(2)، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) . الفتح من أصحاب الرِّضا عليه السلام موافقا لما يجيء(3) في «كتاب النكاح» في ثالث «باب وقوع

ص: 105


1- في «أ» : «عن عليّ بن إبراهيم» بدل «وعليّ بن إبراهيم». وفي حاشية «أ» : «قوله : عن عليّ بن إبراهيم. وكذا في نسخ الشافي موافقا لأكثر المتون ، وفي شرح الفاضل المازندراني أصلح مآله «وعليّ» بالواو بدل «عن» وهو أصوب بدليل لفظ «جميعا» وأنّ المصنّف رحمه الله يروى عن عليّ بن إبراهيم بلا واسطة، وأنّ ما يجيء في باب وقوع الولد ، كتاب النكاح هكذا : عليّ بن إبراهيم عن المختار بن محمّد المختار ومحمّد بن الحسن عن عبد اللّه بن الحسن جميعا عن الفتح بن يزيد، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الشروط في المتعة ، الحديث . ويوافقه ما يجيء في أوّل الثاني عشر من هذا الكتاب (مهدي)» .
2- في الكافي المطبوع : - «بن يزيد» .
3- في حاشية «أ»: «ردّ على صاحب كشف الغمّة حيث عدّه من أصحاب الهادي عليه السلام (منه)» . وفي مكان آخر : «قوله : موافقا لما يجيء، إلى آخره، قد ذكرنا الحديث في الحاشية السابقة ، ثم إنّ الفاضل المازندراني أصلح مآله بعد نقل اختلاف أصحاب الرجال في أنّ أبا الحسن الذي روى عنه الفتح الرضا هو أمّ الهادي عليهماالسلام ، أيّد الأوّل بأنّ الصدوق رحمه الله روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا عليه السلام في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد ، ويظهر منه أنّه غفل أو تغافل عما قدّمه في الديباجة من أنّ المراد بأبي الحسن على الإطلاق هو الكاظم عليه السلام حيث قال فيه عند قول المصنف : «وقد قال العالم عليه السلام » : من دخل في الإيمان إلى آخره ، المراد بالعالم هنا موسى بن جعفر عليهماالسلام . وقيل : هو المراد من العالم إذا اطلق . ويقال : والكاظم أبو الحسن على الإطلاق وأبو الحسن الأوّل والعبد الصالح وأبو إبراهيم . ويقال : أبو الحسن الثاني للرضا عليه السلام ، وأبو الحسن الثالث للهادي عليه السلام ، وأبو عبد اللّه للصادق عليه السلام ، وأبو جعفر على الإطلاق وأبو جعفر الأوّل للباقر عليه السلام ، وأبو جفعر الثاني للجواد عليه السلام ، والماضي وأبو محمّد للعسكري عليه السلام انتهى . وقد عرفت الآن أنّ ما ذكره ثمّة ليس مطّردا . ويدلّ على عدم الإطّراد أيضا إنّا لم نجد من أصحاب الرجال من يجوّز أن يكون الفتح من أصحاب الكاظم عليه السلام (مهدي)» .

الولد»(1).

(قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَقَالَ: الاْءِقْرَارُ بِأَنَّهُ لاَ إِلهَ) أي لا مستحقّ للعبادة (غَيْرُهُ، وَلاَ شِبْهَ(2) لَهُ) . شبه الشيء _ بالكسر وبالتحريك، وكأمير _ ما يصلح لأن يكون زوجا له بأن يكون كلّ منهما جسمانيّا، أو يكون كلّ منهما مجرّدا. وهذا ردّ على المجسّمة والفلاسفة.

(وَلاَ نَظِيرَ لَهُ) ، النظير: المناظر؛ أي المضادّ. وهذا ردّ على المجوس؛ حيث جعلوا إبليس مضادّا للّه تعالى(3)، وعلى المعتزلة المفوّضة،(4) كما سيجيء في «باب الاستطاعة».

(وَأَنَّهُ) . تكراره هنا للإشارة إلى أنّ ما قبله صِفات سلبيّة، وما بعده ثبوتيّة.

(قَدِيمٌ) أي مستمرّ الكون(5) في جانب الماضي إلى غير النهاية. وهذا ردّ على من قال في حدوث العالم واختصّ الحدوث بوقته،(6) إذ لا وقت قبله مرادا به أنّه لا استمرار قبل العالم أصلاً.

(مُثْبِتٌ)(7) ؛ بكسر الباء؛ أي فعّال لما يريد؛ من أثبته: إذا شدّه بالثبات بالكسر، وهو .

ص: 106


1- الكافي ، ج 5 ، ص 464 ، باب وقوع الولد ، ح 3 .
2- في «ج» : «شبيه» .
3- نظريّة المجوس تجدها في رسائل المرتضى ، ج 3 ، ص 284 ؛ والمواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 65 ؛ ومجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ وتفسير الرازي ، ج 13 ، ص 113 .
4- لا بأس بمراجعة كتاب لبّ الأثر في الجبر والقدر (محاضرات الإمام الخميني رحمه الله ) للتعرف على نظريّة المفوّضة .
5- في «ج» : «الوجود» .
6- في حاشية «أ» : «القائل صاحب التجريد (منه)» .
7- في الكافي المطبوع : «مُثْبَتُ» بفتح الباء .

سير يشدّ به الرَّحْل. أو معناه عالم بما يفعل وما يترك؛ من أثبته: إذا عرفه حقّ المعرفة، فمعناه حكيم؛ أو بفتحها، أي أبديٌّ استُعير من الرَّحْل المشدود بالثبات. أو معناه أنّه محكوم عليه بأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة.

(مَوْجُودٌ) أي حاضر عند الشدائد، يُجيب دعوة الداع إذا دعاه، فالوجود هنا مقابل للفقد؛ يُقال: وجدتُ الشيء وأنا واجده، وهو موجود، وهذا مشتمل على أنّه سميعٌ بصير.

وقوله: (غَيْرُ فَقِيدٍ ) بيانٌ ل«موجود» للتصريح بالعموم.

(وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). مضى شرحه في رابع «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء».

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ طَاهِرِ بْنِ حَاتِمٍ) ؛ ابن ماهويه القزويني.

(فِي حَالِ اسْتِقَامَتِهِ). كان مستقيما ثمّ تغيّر وأظهر الغلوّ.

(أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الرَّجُلِ) ذكره الشيخ في أصحاب الرضا عليه السلام ،(1) وقال: غال كذّاب أخو فارس،(2) ثمّ ذكره في باب من لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام .(3)

(مَا الَّذِي لاَ يُجْتَزَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِدُونِهِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَمْ يَزَلْ عَالِما وَسَامِعا) أي سميعا، كما في كتاب التوحيد لابن بابويه،(4) فإنّ السماع من صفات الفعل، والسمع من صفات الذات. .

ص: 107


1- في حاشية «أ» : «قوله (في أصحاب الرضا عليه السلام ) يوافق ما ذكره الاُستاذ المحقّق رضى الله عنه في ضيافة الاخوان، وما في حواشي الفاضل النائيني لهذا الكتاب ، وما في كتابي الرجال للفاضل الإسترابادي رحمه الله عن طاهر بن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إلى الطيّب _ يعني أبا الحسن عليه السلام _ ، ما الذي لا يجتزأ في معرفة الخالق جلّ جلاله بدونه؟ فكتب : ليس كمثله شى ء ، لم يزل سميعا وعليما وبصيرا، وهو الفعّال لما يريد. ويظهر منه أنّ من روى عنه من هو غير سهل وغير اللذين نقل عنه كتاب الرجال . ثمّ الفاضل المازندراني _ أصلح اللّه مآله _ بعد ذكر نسب طاهر وتوضيح ماهويه _ بفتح الهاء والواو ومذهبه كما في المتن _ قال : وطاهر من أصحاب أبي عبد اللّه وأصحاب أبي الحسن موسى أخوه فارسي من أصحاب الرضا عليه السلام ، ثم قال في شرح الحديث كتب إلى الرجل هو الكاظم أو الصادق عليهماالسلام ، انتهى» .
2- رجال الشيخ ، ص 359 ، أصحاب أبي الحسن الرضا عليه السلام .
3- رجال الشيخ ، ص 428 ، باب ذكر أسماء من لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام .
4- التوحيد ، ص 197 ، ضمن الحديث 9 .

(وَبَصِيرا، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ) أي لما يريد فعله. والمعنى: أنّه نافذ الإرادة لا يمتنع عن إرادته شيء.

الثالث: (وَسُئِلَ(1) أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الَّذِي لاَ يُجْتَزَأُ بِدُونِ ذلِكَ) ؛ من وضع الظاهر موضع المضمر؛ أي بدونه.

(مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ، فَقَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، لَمْ يَزَلْ عَالِما، سَمِيعا، بَصِيرا) . ظهر معناه ممّا مرّ.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بَقَّاحٍ) ؛ بفتح الموحّدة، وشدّ القاف والألف والمهملة.

(عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ أَمْرَ اللّه ِ) أي أفعاله (كُلَّهُ عَجِيبٌ) أي حسن حكيم.

(إِلاَّ) ؛ بالكسر والتشديد عاطفة بمنزلة الواو؛ أي خصوصا، أو بالفتح والتخفيف تنبيه.

(أَنَّهُ) ؛ بالفتح أو الكسر.

(قَدِ احْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِمَا قَدْ عَرَّفَكُمْ) أي في محكمات القرآن ونحوها.

(مِنْ نَفْسِهِ) في صفاته وأفعاله.

وهذا الحديث هو المعيار لأدنى المعرفة، وجميع ما ذكر في الأحاديث السابقة من قبيل بيان الشيء بمثاله، وبهذا يندفع الاعتراض بأنّ الأحاديث في «باب أدنى المعرفة» مختلفة بالزيادة والنقصان، ولا يجوز الاختلاف في أدنى المعرفة. .

ص: 108


1- في حاشية «أ» : «قوله : (وسئل) إلى آخره . جوّز الفاضل النائيني _ رفع قدره _ أن يكون هذا من تتمّة مكاتبة طاهر بن حاتم ، وأن يكون حديثا مستأنفا مرسلاً . وقال الفاضل المازندراني : الظاهر أنّه ليس من تتمّة المكاتبة ، ويؤيّده أنّ الصدوق رحمه الله روى هذه المكاتبة بعينها ولم يذكر هذه اللاحقة. انتهى . وأنت عرفت كما نقلنا مخالفة التوقيع المروي من توحيد الصدوق كما في المتن (مهدي)» .

الباب الخامس: باب المعبود

الباب الخامس بَابُ الْمَعْبُودِ

فيه أربعة أحاديث.

لمّا كان تعيين ما يستحقّ العبادة من ذاته تعالى وأسمائه مناسبا للأبواب السابقة، ألحقه بها.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ ابْنِ رِئَابٍ ، وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ عَبَدَ اللّه َ بِالتَّوَهُّمِ(1)) أي بإيقاع الوهم عليه على وجه الإدراك له على حدة، أي لا بمحض التصوّر بالوجه.

(فَقَدْ كَفَرَ) أي لم يعبد اللّه أصلاً. وحصر عبادته في غيره تعالى كما يفهم من تقديم المفعول في قوله تعالى في سورة الزمر: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونَنِى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ»(2).

(وَمَنْ) أي ومن لم يعبد بالتوهّم لكن (عَبَدَ الاِسْمَ(3)) أي ما وضع له لفظ «اللّه » و«الخالق» و«العالم» ونحوها، وهو المفهوم الحاصل في الذهن وهو جزء الكلام النفسي المدلول عليه بالكلام اللفظي.

ص: 109


1- في حاشية «أ» : «بالتوهّم؛ يعني من غير جزم بوجوده ، أو بما يتوهّمه من مفهوم اللفظ ، أي عبد الصورة الوهميّة التي تحصل في ذهنه من مفهوم اللفظ» . الوافي ، ج 1 ، ص 346 .
2- الزمر (39) : 64 .
3- في حاشية «أ» : «ومن عبد الاسم ، أي اللفظ الدالّ على المسمّى ، أو ما يفهم من اللفظ من الأمر الذهني دون المعنى ، أي ما يصدق عليه اللفظ أعني المسمّى الموجود في خارج الذهن . والحاصل أنّ الإسم وما يفهم منه غير المسمّى ؛ فإنّ لفظ الإنسان مثلاً ليس بإنسان ، وكذا ما يفهم من هذا اللفظ ممّا يحصل في الذهن ؛ فإنّه ليس له جسميّة ولا حياة ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإنسانيّة» . الوافي ، ج 1 ، ص 346 .

(دُونَ الْمَعْنى) ؛ بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح النون والقصر: اسم مكان؛ أي المقصد، أو بكسر النون، وشدّ الخاتمة: اسم مفعول؛ أي المقصود، أي دون الموجود في نفسه في الخارج، المقصودِ تصوّره بالوجه بإيقاع الاسم عليه. فالفرق بين المعنى والمسمّى أنّه يعتبر في المعنى كون الاسم خارجا عنه، وجها من وجوهه، ولا يعتبر في المسمّى ذلك.

(فَقَدْ كَفَرَ) ؛ إذ لم يعبد اللّه أصلاً.

(وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى) . هذا حال من ادّعى أنّ صفاته تعالى موجودة في أنفسها في الخارج وهم الأشاعرة.(1)

(فَقَدْ أَشْرَكَ) مع اللّه غيره ممّا لا يستحقّ العبادة؛ لأنّ صفة الكمال الموجودة في نفسها في الموصوف أكبر من الموصوف، كما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(2)، وقد مرَّ بيانه في ثالث الثالث والعشرين من «كتاب العقل(3)» فهي أولى من ذات اللّه حينئذٍ باستحقاق العبادة.

(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى بِإِيقَاعِ الاْءَسْمَاءِ) أي حملها (عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ) . الباء للملابسة. والفرق بين الصفة والاسم أنّ الاسم ما يحمل على الشيء مواطأةً كالعالم وذو القوّة، والصفةَ ما يحمل على الشيء لا مواطأة، بل بتوسّط ما يشتقّ منه، أو بتوسّط «ذو» كالعلم والقوّة المحمولين بتوسّط حمل العالم وذو القوّة؛ أي مع إرادته صفاته لا يجعل بعض أسمائه علما لذاته.

(الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ) أي لم يتجاوز في المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلى وصفه بغير ما وصف به نفسه في محكمات القرآن بخصوصه كالعلم والقدرة، أو بعمومه كما في الأمر بسؤال أهل الذِّكر فيما لم يعلم بالبيّنات والزبر. وهذا ردّ على الذين يلحدون في أسمائه.(4) .

ص: 110


1- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 18 ؛ شرح العقيدة الطحاوية ، ص 129 . وانظر الفتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 680 .
2- المائدة (5) : 73 .
3- أي الحديث 3 من باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب .
4- فيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف (7) : 180 «وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىآ أَسْمَ_آئِهِ» .

(فَعَقَدَ) أي شدّ وربط، وفيه ضمير «مَن».

(عَلَيْهِ) . الضمير راجع إلى «المعنى». ويجوز رجوعه إلى مصدر «عبد» أو إلى «الإيقاع».

(قَلْبَهُ) ؛ مفعول «عقد». والمراد بعقد القلب إمّا الإخلاص في العبادة، وإمّا الطوع القلبي المعبَّر عنه في حدّ الإيمان بالتصديق، وهو غير العلم كما سيجيء في ثالث «باب في إبطال الرؤية».

(وَنَطَقَ بِهِ) . راجع إلى ما رجع إليه ضمير «عليه».

(لِسَانُهُ) ؛ فاعل «نطق». وهو إشارة إلى أنّ الإقرار معتبر في الإيمان الكامل، بقرينة قوله: «حقّا».

(فِي سِرِّ أمْرِهِ(1) وَعَلاَنِيَتِهِ) . نَشْرٌ على ترتيب اللفّ.

(فَأُولئِكَ أَصْحَابُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ حَقّا) .

الثاني: (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ بدل قوله: «فَأُولئِكَ أَصْحَابُ» إلى آخره : «أُولئِكَ هُمُ الْمُوءْمِنُونَ حَقّا») .

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَاشْتِقَاقِهَا). من قبيل: أعجبني زيد وحسنه؛ أي سأل عن اشتقاق أسماء اللّه .

ويحتمل أن يكون المسؤول عنه كلّ واحدٍ من نفس الأسماء واشتقاقها، وكأنّ ذلك بعد سماعه أنّ الأسماء ليست أسماء ذات بذاته بأن تكون أعلاما أو بعضها علما، بل هي مشتقّات، أي ملحوظ في وضعها وإطلاقها عليه تعالى دلالتها على الصفات.

ويحتمل أن يكون المراد بالاشتقاق معناه اللغوي؛ أي أخذها من أصل، سواء كانت أعلاما أم لا.

ويبعّده قوله: «والإله يقتضي مألوها» إلى آخره. .

ص: 111


1- في الكافي المطبوع : «سرائره» بدل «سرّ أمره» .

(اللّه ُ) ؛ بتقدير القول. إنّما خصّ اللّه بالذِّكر لكثرة الخلاف فيه بين الناس.

قال في القاموس: «واختلف فيه على عشرين قولاً ذكرتها في المباسيط أصحّها عَلَم غير مشتقّ» انتهى.(1)

وقال الجوهري:

لاه يليه ليها: تستّر. وجوّز سيبويه أن يكون لاهٌ أصل اسم اللّه ، قال الشاعر: لاهه الكبار، أي إلاهه(2). اُدخلت عليه الألف واللام، فجرى مجرى الاسم العَلَم كالعبّاس والحسن، إلاّ أنّه يخالف الأعلام من حيث كان صفة. انتهى.(3)

(مِمَّا) . متعلّقٌ ب«مشتقّ» أي من أيّ شيء. وإثبات ألفها مع دخول الجارّ عليه شاذّ.

(هُوَ مُشْتَقٌّ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا هِشَامُ، اللّه ُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ ) ؛ على وزن فعال بمعنى فاعل؛ من ألههم كنصر إذا استحقّ عبادتهم، اُدخل عليه في الجلالة حرف التعريف للعهد،(4) ».

ص: 112


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 280 (أله) .
2- في حاشية «أ» : «قوله : (لاهه الكبار) هذا جزء بيت لابن جني أو الأعشى وتمامه : حلفة من أبي رياح *** يسمعها لاهه الكبار الحلفة: واحد الحلف بمعنى القسم، ورواية القاف بدل الفاء تحريف . وأبو رياح : اسم رجل . والكبار _ بضمّ الكاف وتخفيف الباء _ بمعنى العظيم ، كما نصّ عليه العيني في شرح شواهد الألفية ، وهو نعت لاهه . وروي: «يشهدها» مكان «يسمعها» . وروي «لاهم» بالميم بدل الهاء الثانية . قال العيني : وفيه شذوذان ؛ أحدهما : استعماله في غير النداء ؛ لأنّه فاعل يسمعها ، والآخر تخفيف ميمه وأصله التشديد . انتهى . ولقائل أن يقول : لعلّ أصالة التشديد مختصّة بالنداء (مهدي)» .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2248 (ليه) .
4- في حاشية «أ»: «قوله: قدّس سرّه (للعهد)، إلى آخره المراد به إمّا العهد الخارجي، كما سيصرح به في الباب السادس عشر في شرح حديث الحسن بن راشد. وإمّا العهد العلمي، وهو الأنسب. ومآلهما واحد؛ فإنّ الثاني من أصناف الأوّل، بناءً على أنّ مرادهم بالعهد الخارجي القسيم للجنس والاستغراق. والعهد الذهني ما قصد يمد قوله فرد معين من الحقيقه، سواء كان التعيين بسبب سبق الذكر صريحا أو كناية، وهو المسمىّ بالعهد الذكري، وقد اجتمعا في قوله تعالى: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْءُنثَى» إذا الاُنثى إشارة إلى ما صرّح به سابقا في قولها: «رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى» والذكر إشارة إلى ما سبق ذكره كناية في قولها: «رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا» فإنّ «ما» وإن كان يعمّ الذكور والإناث، لكن التحرير _ وهو أن يعتق الولد لخدمة بيت المقدس _ إنّما كان للذكور؛ صرّح بذلك التفتازاني في المطوّل. أو كان التعيين بسبب حضور مدخولها، وهو المسمّى بالعهد الحضوري. وزعم بعض أنّها لا تدخل إلاّ على الزمان الحاضر، أو المنادي، أو المشار إليه نحو: الآن، ويا أيّها الرجل، وهذا الرجل. وتفصيله في مغني لابن هشام. أو كان التعيين لسبب سبق علم المتكلّم والمخاطب به، وهو المسمّى بالعهد العلمي، كما في قوله تعالى «بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ» وقوله تعالى: «تَحْتَ الشَّجَرَةِ» وقوله تعالى: «إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ» صرح بذلك الأزهري في التصريح (مهدي)».

فجرى مجرى العلم؛ أي الذي يستحقّ عبادة كلّ مَن سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته. ونظيره إمام مَن أمّهم: إذا تقدّمهم. وقيل: إله بمعنى مألوه. انتهى.(1)

وهذا كما قيل في إمام: إنّه بمعنى مفعول؛ أي من يؤتمُّ به.(2) ويبطله قوله:

(وَالاْءِلهُ) ؛ بالرفع على الابتداء، واللام للجنس.

(يَقْتَضِي) أي يستلزم استلزامَ أحد المتضايفين للآخر.

(مَأْلُوها) أي من عبادته واجبة مستحقّة بالفتح. استدلالٌ على أنّ هذا الاسم ليس عين المسمّى بأنّ الأمر النسبي لا يمكن أن يكون علميّا، ولا أن يكون ذاتا أو ذاتيّا لموجود في نفسه في الخارج.

وسيجيء في رابع «باب جوامع التوحيد»: «كان ربّا إذ لا مربوب، وإلها إذ لا مألوه» مع شرحه.

(وَالاِسْمُ غَيْرُ الْمُسَمّى) . لمّا بيّن أنّ اللّه ليس عين مسمّاه، أراد أن يعمّم ويبطل القول بأنّ اسما من أسمائه عين المسمّى، ومضى بيانه في أوّل الباب. وأمّا مغايرة اللفظ للمسمّى، فأظهر من أن يحتاج إلى بيان.

(فَمَنْ عَبَدَ) . تفريعٌ على قوله: «والاسم غير المسمّى».

(الاِسْمَ دُونَ المَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا) أي شيئا معتدّا به مستحقّا للعبادة؛ لأنّه مفهوم اعتباري غير موجود في الخارج في نفسه.

(وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ) أي شيئين معتدّا بهما بزعمه؛ .

ص: 113


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2223 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 469 (إله) .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2223 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 469 (إله) .

لاعتقاده أنّ الاسم موجود في نفسه في المعنى. ومضى بيانه في شرح أوّل الباب، أو شيئين مطلقا.

(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى دُونَ الاِسْمِ، فَذَاكَ التَّوْحِيدُ) أي فعمله التوحيدُ الحصرُ؛ لأنّ التوحيد يشتمل على أمرين:

الأوّل: الإقرار باستحقاق العبادة لمن يستحقّها. وهذا غير متحقّق فيمن عبد الاسم دون المعنى.

الثاني: الإقرار بأنّه لا يستحقّ العبادة إلاّ إله واحد. وهذا غير متحقّق فيمن عبد الاسم والمعنى.

(أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ:(1) زِدْنِي) بيانا. زاد عليه السلام البيانَ بالاستدلال على أنّه ليس كلّ اسم له تعالى ولا بعض أسمائه عينَ المسمّى.

(قَالَ: إِنَّ لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْما(2)) . تخصيص هذا العدد بالذِّكر مع أنّه يجيء أكثر منه في أوّل «باب حدوث الأسماء» مماشاةٌ مع المخالفين؛ لأنّه موافق لرواياتهم أيضا.

(فَلَوْ كَانَ الاِسْمُ هُوَ الْمُسَمّى، لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلها) أي لَتحقّق تسعة وتسعون إلها غير ذات اللّه .

وهذا الدليل مبنيّ على مقدّمات:

الاُولى: أنّ المفهومات التسعة والتسعين متغايرة ضرورةً.

الثانية: أنّه لو كان الاسم عين المسمّى، لكان المسمّى عين صفة فيه تعالى؛ لظهور بطلان كون اسم عين مسمّاه، والمسمّى عين ذاته تعالى، أو عين ذات مخلوقة له تعالى.

أمّا الأوّل، فلأنّه لم يحصل، بل لا يمكن لنا إدراك شخصه تعالى ولا إدراك كنه ذاته، مع أنّا ندعوه بكلّ من هذه الأسماء. وإليه يشير في قوله: «وكلّها غيره» إلى آخره. .

ص: 114


1- في «ج» : «قلت» .
2- في حاشية «أ» : «روى محمّد بن بابويه رحمه الله في الباب التاسع والعشرين بإسناده عن عليّ عليه السلام قال ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : للّه عزّوجلّ تسعة وتسعون اسما؛ من دعا اللّه بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنّة» . التوحيد ، ص 195 ، ح 9 .

وأمّا الثاني، فلأنّ كون اسم شيء عينَ مباينٍ له سفسطة.

الثالثة: أن يكون الصفة فيه تعالى يستلزم كونها قديمة وصفة كمال؛ لاستحالة حلول الحوادث فيه تعالى.

الرابعة: أنّ كمال الشيء لو كان صفة فيه، لكان أكبر وأولى باستحقاق العبادة من الموصوف. ومضى في أوّل الباب ما يوضح هذا الدليل.

(وَلكِنَّ اللّه َ مَعْنىً) أي مقصود التصوّر بالوجه.

(يُدَلُّ) ؛ بصيغة المجهول استئنافٌ لبيان كونه تعالى معنى، أو صفةً موضحة ل_«معنى».

(عَلَيْهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل.

(بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ) ؛ لأن يعلم بالوجه. وهذا إشارة إلى ما تقرّر من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه والعلم بوجه الشيء؛ بأنّ الثاني تصوّر بالكنه، بخلاف الأوّل؛ وإلى أنّ ما نحن فيه من الأوّل.

(وَكُلُّهَا) أي كلّ واحد منها (غَيْرُهُ) أي لا يمكن أن يكون اسم من أسمائه عينَ مسمّاه، والمسمّى عين ذاته تعالى.

(يَا هِشَامُ، الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ) . اللام في المأكول ونظائره للعهد.

وهذا استدلال على قوله: «وكلّها غيره» أي كلّ واحدٍ من هذه الأسماء عين الذات المسمّى؛ لأنّه من أسماء الأجناس، ويستحيل أن تتصادق في شيء واحد، ونعلم بديهةً أنّ اسما من أسماء اللّه تعالى ليس من هذا القبيل، فهو غير الذات.

(أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ، فَهْما تَدْفَعُ بِهِ) . إشارة إلى أنّ ذكر هذه الأسماء على سبيل المثال، فهكذا أعلام الأشخاص والأجناس.

(وَتُنَاضِلُ) ؛ بالنون والمعجمة؛ أي تجادل وتخاصم.

(بِهِ أَعْدَاءَنَا) . تسميتهم أعداءً أو نواصبَ كتسمية الذين قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة من النصارى أعداءَ اللّه مع دعواهم أنّهم أحبّ أحبّائه.

(وَالْمُلحِدينَ) في أسمائه تعالى.

ص: 115

(مَعَ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ غَيْرَهُ؟). استعمال «مع» هنا لتضمين «الملحدين» معنى «العابدين» أو نحو ذلك.

(قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: نَفَعَكَ اللّه ُ بِهِ، وَثَبَّتَكَ) ؛ بشدّ الموحّدة.

(يَا هِشَامُ . قَالَ هِشَامٌ: فَوَ اللّه ِ ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا) أي حتّى بلغت مرتبتي هذه ببركة دعائه، أو بيانه عليه السلام ، أو حتّى وقفت في هذا المكان، أي إلى الآنَ.

وهذا الحديث سيجيء بأدنى تغيير في «باب معاني الأسماء واشتقاقها».

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللّه ُ فِدَاكَ، نَعْبُدُ) ؛ بتقدير الاستفهام. (الرَّحْمنَ الرَّحِيمَ الْوَاحِدَ الاْءَحَدَ الصَّمَدَ؟)؛ يعني الأسماء، أو هو مجمل يحتمل المسمّى بها أيضا، فيحتاج إلى تفصيل في الجواب.

(قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ الاِسْمَ دُونَ الْمُسَمّى بِالاْءَسْمَاءِ ) أي دون أن يعبد الذات الخارج عن هذه الأسماء المتصوّر بهذه الأسماء تصوّرا بالوجه.

(فَقَدْ أَشْرَكَ) أي عبد متعدّدا؛ ضرورةَ تغاير المفهومات.

(وَكَفَرَ) أي لم يعبد المستحقّ للعبادة.

(وَجَحَدَ) المستحقّ للعبادة.

(وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا) أي شيئا معتدّا به، مستحقّا للعبادة. ومضى بيانه في أوّل الباب وثالثه.

(بَلِ اعْبُدِ) ؛ بصيغة الأمر من باب نصر.

(اللّه َ الْوَاحِدَ الاْءَحَدَ الصَّمَدَ) أي الذات المعهود الذي يصدق عليه الأسماء وكلّها غيره.

وفيه إشعار بأنّ لفظة «اللّه » جارٍ مجرى العَلَم؛ باعتبار أنّ اللام فيه للعهد، كما مرّ في ثالث الباب.

وللتصريح بهذا المعنى قال:

(الْمُسَمّى) ؛ بدل الكلّ، أو عطف البيان.

ص: 116

(بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ) الأربعة.

(دُونَ الاْءَسْمَاءِ) أي لا تعبد الأسماء.

(إِنَّ الاْءَسْمَاءَ صِفَاتٌ) أي ليس شيء منها ذاتا، وهو احتراز عن أن يكون اسم منها عين المسمّى، والمسمّى عينَ ذاته تعالى، أو عينَ ذات مخلوقة له تعالى.

(وَصَفَ) أي اللّه تعالى (بِهَا نَفْسَهُ) تعالى؛ أي ليست قديمة باعتبار وجودها في أنفسها. وهو احتراز عن أن يكون اسم عين المسمّى، والمسمّى عينَ صفة فيه تعالى، فتكون قديمةً. ومضى بيانه في أوّل الباب.

ص: 117

الباب السادس: باب الكون والمكان

الباب السادس بَابُ الْكَوْنِ وَالْمَكَانِ

فيه تسعة أحاديث.

«الكون» هنا مصدر «كان» التامّة، نحو: كان اللّه ولم يكن معه شيء. والمراد الإنّيّة.

و«المكان» بفتح الميم الزائدة ظرف الكون، مثل الامتداد الغير المتناهي الذي فيه كون اللّه تعالى، ويسمّى باعتبار الماضي أزلاً، وباعتبار المستقبل أبدا، ومثل الوقت والحين، وهو الامتداد المنقطع في جانب الماضي، سواء كان منقطعا في جانب المستقبل أيضا أم لا. ويجيء نفيه عن اللّه تعالى في ثالث الباب في قوله: «ولا ابتدع لمكانه مكانا». ومثل الموضع الذي يكون للجسم. ويجيء نفيه عن اللّه تعالى في سادس الباب وثامنه.(1)

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الاْءَزْرَقِ)؛ بسكون الزاي وفتح المهملة.

(أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ مَتى كَانَ؟ فَقَالَ: مَتى لَمْ يَكُنْ حَتّى أُخْبِرَكَ مَتى كَانَ؟). لمّا كان السؤال ب«متى» إنّما هو عن وقت حدوث الحادث، فإذا وقع عن قديم لم يستحقّ الجواب، كان ما ذكره عليه السلام في موضع الجواب بيانا لعدم استحقاق الجواب.

(سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَزَلْ) . إثبات لقدمه، وهي ناقصة.

(وَلاَ يَزَالُ) . إثباتٌ لدوامه، وهي أيضا ناقصة.

ص: 118


1- سيجيء بعد خمس صفحات .

(فَرْدا) . خبر «لم يزل» و«لا يزال» على سبيل التنازع؛ أي أحدا غير ذي أجزاء، ولا شريك في ذاته.

(صَمَدا) : سيّدا مصمودا إليه في القليل والكثير، كما سيجيء في أوّل(1) «باب تأويل الصمد». وهو مفعول فعل محذوف بتقدير «أعني». ويحتمل كون «فردا» خبرَ «لم يزل»، و«صمدا» خبرَ «لا يزال» على اللفّ والنشر المرتّب. ولو جعل «صمدا» هنا بمعنى «قادر» أو بمعنى «غنيّ» أمكن كونه خبرا ثانيا للفعلين.

(لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً) ؛ زوجة، أو المراد أمرٌ مشارك له في القدم، والتأنيث باعتبار السماء ونحو ذلك ممّا قالت الزنادقة بقدمه، وأنّه يتسبّبُ به إلى توليد الحوادث.

(وَلاَ وَلَدا) أي مشاركا له في الحقيقة حاصلاً منه، أو ما صدر عنه بالإيجاب، كما قالته الزنادقة في الحوادث اليوميّة.(2)

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام مِنْ وَرَاءِ نَهَرِ بَلْخَ ) . هو جيحون، وبلخ متّصل به في جانب خراسان، وفي جانبه الآخر بخارا وسمرقند وأمثالهما، وهي ما وراء النهر.(3)

(فَقَالَ : إِنِّي أَسأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَإِنْ أَجَبْتَنِي فِيهَا بِمَا عِنْدِي ) . الباء للمصاحبة، و«ما عندي» عبارة عن الشبهات المشهورة المنقولة عن الجبريّة والزنادقة الفلاسفة القائلين بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.(4)

(قُلْتُ بِإِمَامَتِكَ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : سَلْ عَمَّا شِئْتَ . فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مَتى) . .

ص: 119


1- في «أ» : - «أول» .
2- مراد الفلاسفة القائلين أنّ اللّه موجب لخلق الأشياء ، وهي موجودة قديمة بقدمه .
3- ذكر ذلك السيوطي في الديباج على مسلم ، ج 6 ، ص 185 ؛ وفيات الأعيان ، ج 6 ، ص 427 .
4- امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة أمر مسلّم بين الفلاسفة . راجع شرح الأسماء الحسنى للسبزواري ، ج 2 ، ص 29 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 301 ؛ وج 2 ، ص 58 و 109 .

بدلَه «أين» في رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد،(1) وكأنّه تحريف مبنيّ على الغفلة عمّا نذكره.

(كَانَ؟) أي قبل خلْق ما خلَق.

(وَكَيْفَ كَانَ؟ وَعَلى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ اعْتِمَادُهُ) في خلق ما خلق؟

وهذا إشارة إلى ما في شبههم من أنّه لا يمكن حدوث شيء إلاّ بحدوث شرط من أجزاء علّته التامّة.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَيَّنَ) ؛ بشدّ(2) الخاتمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، مشتقّ من الأين بسكون الخاتمة بمعنى الحين.

(الاْءَيِّنَ(3)) ؛ بشدّ الخاتمة المكسورة على وزن فيعل كسيّد؛ أي ذا الأين بسكون الخاتمة بمعنى ذي الحين.

(بِلاَ أَيْنٍ) ؛ بفتح الهمزة وكسرها، وسكون الخاتمة منوّنا؛ أي بلا حين. ففي القاموس: «الأين: الإعياء، والحيّة، والرجل، والحِمْل، والحين، ومصدر آن يئين أي حان، وآن أَينك ويكسر، وآنُك حان حينك» انتهى.(4)

ولذا يقابل بحيث في ثاني عشر «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى»؛ ويقابل بمكان في سابع «باب جوامع التوحيد».

(وَكَيَّفَ) ؛ بتشديد الخاتمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، مشتقّ من الكيف بسكون الخاتمة، وهو خصوصيّة لشيء كائنةٌ في نفسها في الخارج، عارضة له.

(الْكَيِّفَ)(5) ؛ بشدّ الخاتمة المكسورة. .

ص: 120


1- التوحيد ، ص 125 ، باب القدرة ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 107 ، باب ماجاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد ، ح 6 .
2- في «ج» : «بتشديد» .
3- في الكافي المطبوع : «الأيْنَ» بدون تشديد الياء .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 200 (الأين) .
5- في الكافي المطبوع : «الكيف» بدون تشديد الياء .

(بِلاَ كَيْفٍ) ؛ بسكون الخاتمة منوّنا، أو مبنيّ على الفتح حكايةً. والمآل واحد.

(وَكَانَ اعْتِمَادُهُ عَلى قُدْرَتِهِ) . حاصل الجواب: أنّ القدرة القديمة للعالم بكلّ شيء وكلّ مصلحة كافية في خلق أوّل الحوادث وما بعده، ولا حاجة إلى حدوث شرط. وهذا تحقيق الحقّ في ربط الحادث بالقديم.

(فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ، وَأَنَّ عَلِيّا وَصِيُّ رَسُولِ اللّه ِ ، وَالْقَيِّمُ بَعْدَهُ بِمَا أقَامَ(1) بِهِ) . وضمير «به» عائد إلى «ما».

(رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَأَنَّكُمُ الاْءَئِمَّةُ الصَّادِقُونَ، وَأَنَّكَ الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِهِمْ) .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مَحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مَتى كَانَ؟ فَقَالَ : وَيْلَكَ) . الويل: الموت فجأة، وهو منصوب بإضمار حرف النداء.

(إِنَّمَا يُقَالُ لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ) ؛ صفة ل«شيء».

(مَتى كَانَ) ؛ مقول القول.

(إِنَّ رَبِّي _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ كَانَ) . تامّةٌ للاستمرار في الماضي إلى غير النهاية، نحو كان اللّه ولم يكن معه شيء. والجملة استئناف لبيان عدم استحقاق هذا السؤال للجواب الحقيقي.

وأوضح عليه السلام الحقّ خمس مرّات ليرتفع اشتباه السائل بالكلّيّة،

الاُولى: قوله: (وَلَمْ يَزَلْ حَيّا) ؛ بفتح الزاي من الأفعال الناقصة، أو «كان» ناقصة «ولم يزل» معطوف على «كان» و«حيّا» خبر لهما على سبيل التنازع، وحينئذٍ ابتداء الاُولى من قوله: «إنّ ربّي» وإنّما ذكر هذا إلى آخره لئلاّ يحمل الكون هنا على الحدوث، ولدفع توهّمٍ هو أنّ الكون كما يستعمل في الوجود قد يستعمل في الحياة، فأراد عليه السلام أنّه كما لم يكن وجوده حادثا، كذلك لم يكن حياته حادثا، فلم يصحّ هذا السؤال باعتباره أيضا، .

ص: 121


1- في الكافي المطبوع : «قام» .

ولا ينافي ذلك تغيّر صفة فعله، كما يجيء في قوله: «قبل أن ينشئ» وقوله: «بعد إنشائه».

(بِلاَ كَيْفَ)(1) ؛ إمّا بالبناء على الفتح حكايةً، وإمّا بالجرّ والتنوين؛ أي بلا كيف لربّي تعالى أو لحياته. وتفسير الكيف مضى في شرح ثاني الباب.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ «كَانٌ»(2)) ؛ اسم منوّن مأخوذ من فعلٍ ماضٍ من الأفعال التامّة أو الناقصة كالقيل والقال، أو فعل محكيّ. والأوّل أنسب بما يجيء في «كتاب الحجّة» في تاسع «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله » عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان».

والمراد أنّ الكلام حادث ف_«كان» أيضا حادث. أو المراد أنّه لم يتغيّر في صفة ذات أصلاً، لا في الحياة ولا في غيرها؛ إذ لم يكن ممّن يُقال فيه: كان كذا فصار كذا، يقال في الوعظ: كأنّك واللّه قد كنتَ وصرتَ إلى كان وكنت، أي صرت إلى أن يقال عنك: كان فلان كذا،(3) وتقول: كنت كذا،(4) والكنتيّ ككرسيّ: الكبير العمر؛ لأنّه يقول كثيرا: كنت كذا وكذا.(5)

(وَلاَ كَانَ لِكَوْنِهِ) . اللام للسببيّة، والكون: الإنّيّة، والضمير للّه .(6)

(كَوْنُ كَيْفٍ) ؛ بالإضافة. وهذه الجملة لإبطال مذهب الصفاتيّة كالأشاعرة القائلين بأنّ صفاته تعالى كالعلم والقدرة كائنة في أنفسها في الخارج، ومن مقولة الكيف، وهي صادرة عنه بالإيجاب؛ أي كونها مترتّبة على محض كونه بدون توسّط قدرة وإرادة. وهذا المذهب قول بتعدّد القدماء.(7) وبطلانه واضح بالأدلّة العقليّة والنقليّة.

(وَلاَ كَانَ لَهُ) أي لربّي (أَيْنٌ) . مرفوعٌ منوّن؛ أي حين، كما مرّ في السابق. .

ص: 122


1- في الكافي المطبوع: «كَيْفٍ» بتنوين الكسر في آخره.
2- في الكافي المطبوع : «كانَ» .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 212 (كون) .
4- في «ج» : - «و» .
5- لسان العرب ، ج 13 ، ص 369 (كان) .
6- في حاشية «أ» : «والأولى الضمير لربّي ؛ لأنّه المذكور في اللفظ ، وهكذا في المواضع الخمس الآتية في الفقرة الثانية (مهدي)» .
7- حكاه عن الأشاعرة العلاّمة في كشف المراد ، ص 402 ؛ وفي طبعة تحقيق الزنجاني ص 314 .

(وَلاَ كَانَ فِي شَيْءٍ) محيط به.

(وَلاَ كَانَ عَلى شَيْءٍ) يكون ثقله عليه.

(وَلاَ ابْتَدَعَ لِمَكَانِهِ مَكَانا) . مضى معنى المكان في شرح عنوان الباب. والمراد إبطال قول من زعم أنّ اختصاص أوّل الحوادث بوقته؛ لأنّه ليس قبله وقت ولا امتداد وبقاء هو مكان اللّه تعالى، فمكانه ومكان الحوادث واحد، وتقدّمه على أوّل الحوادث تقدّم بالذات فقط.

(وَلاَ قَوِيَ) ؛ كرضي، أي ولا حصل له زيادة قدرة.

(بَعْدَ مَا) ؛ مصدريّة.

(كَوَّنَ الاْءَشْيَاءَ) ؛ بتشديد الواو.

(وَلاَ كَانَ ضَعِيفا) أي ناقص القدرة.

(قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَ شَيْئا) ؛ فهو ذو القوّة المتين، وقوّته قبل تكوين الأشياء كقوّته بعد تكوين الأشياء.

(وَلاَ كَانَ مُسْتَوْحِشا قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِعَ شَيْئا، وَلاَ يُشْبِهُ) ؛ بصيغة معلوم باب الإفعال.

(شَيْئا مَذْكُورا) أي محفوظا ذهنيّا بأن يكون متصوّرا في الأذهان بشخصه أو بكنهه.

وفي رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد بدل «مذكورا»: «مكوّنا».(1)

(وَلاَ كَانَ خِلْوا) ؛ بكسر المعجمة وسكون اللام، أي خاليا.

(مِنْ الْمُلْكِ) ؛ بضمّ الميم وسكون اللام: السلطنة.

(قَبْلَ إِنْشَائِهِ) ؛ لأنّ مناط الملك القدرة المعلومة، وهي حاصلة له قبل الإنشاء.

وفي رواية ابن بابويه: «خلوا من القدرة على الملك».(2)

وإضافة «إنشاء» إلى الضمير إضافة إلى المفعول، أي قبل إنشاء شيء.

(وَلاَ يَكُونُ مِنْهُ) : من الملك (خِلْوا بَعْدَ ذَهَابِهِ) أي ذهاب شيء، أو ذهاب كلّ شيء، .

ص: 123


1- التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان ، ح 2 . وفي حاشية «أ» : «مكنونا» .
2- التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان ، ح 2 .

فإنّه لمّا كان الذهاب كالنفي، كان «شيء» كالنكرة في سياق النفي.

ويجوز أن يكون الضمير في «ذهابه» راجعا إلى الإنشاء، ويكون ضمير «إنشائه» راجعا إلى اللّه بأن يكون إضافةً إلى الفاعل، ويكون المراد بذهاب الإنشاء ذهاب المُنشَأ.

الثانية: قوله:

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي ناقصة.

(حَيّا بِلاَ حَيَاةٍ) : كائنة في الخارج في نفسها حقيقة، أو باعتبار شرط لها غير الذات. وإنّما ذكر ذلك إشعارا بأنّ التغيّر في الحياة إنّما يتصوّر على تقدير وجودها.

(وَمَلِكا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام.

(قَادِرا) . صفة موضحة جارية مجرى التفسير.

(قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَ شَيْئا) . الظرف متعلّق ب«لم يزل» باعتبار كون خبره «ملكا قادرا».

(وَمَلِكا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام معطوفٌ على «ملكا» الأوّلِ.

(جَبَّارا) . صفة موضحة جارية مجرى التفسير. ومعنى الجبر هنا أنّ فعله بمحض نفوذ الإرادة ليس من الأفعال العلاجيّة.

(بَعْدَ إِنْشَائِهِ) . الظرف متعلّق ب«لم يزل» باعتبار كون خبره «ملكا جبّارا». وحين الإنشاء داخل في هذا الشقّ عرفا، والضمير للّه .

(لِلْكَوْنِ) . الظرف متعلّق بالإنشاء، واللام للعهد الخارجي؛ أي كون الممكن كالنظام المشاهد.

(فَلَيْسَ) . تفريعٌ على قوله: «لم يزل حيّا بلا حياة» إلى آخره.

(لِكَوْنِهِ كَيْفٌ) . مضى شرح مضمونه في الاُولى.

(وَلاَ لَهُ) أي للّه (أَيْنَ(1)) . مبنيٌّ على الفتح حكايةً، أو مرفوع.

(وَلاَ لَهُ) أي للّه (حَدٌّ) أي أن يحيط به مقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُعْرَفُ) أي اللّه (بِشَيْءٍ) أي بموجود، سواء كان جسمانيّا أم مجرّدا. .

ص: 124


1- في الكافي المطبوع : «أيْنٌ» .

(يُشْبِهُهُ) ؛ من باب الإفعال؛ أي يشاركه في معنى. ويجيء بيانه في أوّل السابع عشر(1) عند قوله: «إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا في الأسماء فهي واحدة».

وهذا التقييد للإشارة إلى أنّ معرفة ربوبيّته تحصل بالنظر في كلّ مخلوق، كما في سورة الأعراف: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ»(2).

(وَلاَ يَهْرَمُ لِطُولِ الْبَقَاءِ) ؛ كيعلم، والضمير للّه . والمقصود أنّه لا يختلف الصدور عنه صعوبةً وسهولة باعتبار الهرم وضدّه. والهَرَم محرّكةً: أقصى الكِبَر.(3) والمراد به هنا ضعف الهرم.

(وَلاَ يَصْعَقُ لِشَيْءٍ) ؛ كيعلم؛ أي لا يفزع لخوف فيضعف ويضطرب، أو لا يغشى عليه، أو لا يموت. والمعنى: لا يمكن أن يصعق.

(بَلْ لِخَوْفِهِ تَصْعَقُ الاْءَشْيَاءُ كُلُّهَا) . لام «الأشياء» للجنس، أو للعهد الخارجي.

وعلى الأوّل نسبة الخوف والصَعْق إلى الجمادات تمثيل لعظمته تعالى، كما في سورة الأحزاب: «إِنَّا عَرَضْنَا الاْءَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا».(4)

وعلى الثاني المراد بالأشياء الأشياء الصَعِقَة، وهي مَن في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء اللّه ، كما في سورة النمل: «وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الاْءَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللّه ُ»(5)، وفي سورة الزمر: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الاْءَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللّه ُ».(6)

الثالثة: قوله:

(كَانَ حَيّا) ؛ ناقصة. .

ص: 125


1- أي الحديث 2 من باب آخر وهو من الباب الأوّل.
2- الأعراف (7) : 185 .
3- لسان العرب ، ج 12 ، ص 607 (هرم) .
4- الأحزاب (33) : 72 .
5- النمل (27) : 87 .
6- النمل (27) : 68 .

(بِلاَ حَيَاةٍ حَادِثَةٍ) أي كائنةٍ في نفسها في الخارج. وهذا التعبير من قبيل وضع نفي اللازم في مقام نفي الملزوم للإشارة إلى اللزوم، كما يجيء بيانه في سادس الثاني والعشرين(1) عند قوله: «وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل».

(وَلاَ كَوْنٍ) . مصدر كان الناقصة أو التامّة. وعلى الأوّل المراد كونه حيّا.

(مَوْصُوفٍ) . صفة مقيّدة لكونٍ؛ أي متقدّر بقدر معيّن. ويجيء نظيره في حادي عشر العاشر(2) في قوله: «إنّ اللّه لا يوصف [وكيف يوصف؟(3)] وقد قال في كتابه: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4)في حاشية «أ» : «أي بفتح الهمزة وكسرها ، كما مرّ في ثاني هذا الباب . وهو مجرور؛ لكونه معطوفا على : لاحياة . (مهدي)» .(5)، فلا يوصف بقدر إلاّ كان أعظم من ذلك».

(وَلاَ كَيْفٍ) أي كيفيّة. ومضى تفسيرها وتقسيمها إلى قسمين في سادس الثاني(6) عند قوله: «فله كيفيّة؟ قال عليه السلام : لا لأنّ الكيفيّة جهة الصفة والإحاطة».

(مَحْدُودٍ) أي محاط، وهو صفة مقيّدة ل_«كيف» للاحتراز عن القسم الأوّل من قسمي الكيفيّة.

(وَلاَ أَيْنٍ) ؛ بالفتح والكسر(6) منوّنا؛ أي حين.

(مَوْقُوفٍ) أي محبوس (عَلَيْهِ) . الضمير للأين، والمعنى: أين لا يكون اللّه في غيره، وهو صفة موضحة ل«أين».

(وَلاَ مَكَانٍ جَاوَرَ شَيْئا) . مضى تفسير «المكان» في شرح عنوان الباب، وهو أعمّ من الموضع.

و«جاور» بالجيم والمهملة. و«شيئا» بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز، .

ص: 126


1- أي الحديث 6 من باب جوامع التوحيد .
2- أي الحديث 11 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- الأنعام
5- : 91 .
6- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

والجملة صفة مقيّدة ل«مكان» يعني ولا مكان محدود، فإنّ المحدود من جملة المكان مجاور لمكان ملاصق به ولما في ذلك المكان. فهذا(1) موافق لما يجيء في حادي عشر الثامن(2) من قوله: «هو في كلّ مكان، وليس في شيءٍ من المكان المحدود».

(بَلْ حَيٌّ يَعْرِفُ)(3) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب، صفة موضحة ل«حيّ» للإشارة إلى أنّ الكيف ونحوه ليس مناط حقيقة الحياة. ويجيء في ثاني الباب الآتي «عارف بالمجهول».

(وَمَلَكٌ) ؛ بالفتح، وككتف: ذو المُلك؛ بالضمّ.

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي ناقصة.

(لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْمُلْكُ) ؛ بالضمّ: السلطنة والعظمة.

(أَنْشَأَ مَا شَاءَ حِينَ شَاءَ بِمَشِيئَتِهِ ) . استئنافٌ لبيان تقدّم قدرته وملكه على وقت الفعل. ويجيء تفصيله في ثاني «باب الاستطاعة».

(لاَ يُحَدُّ) أي لا يحاط بمقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُبَعَّضُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل؛ أي لا ينقسم إلى أجزاء عقليّة، ولا إلى أجزاء مقداريّة.

(وَلاَ يَفْنى) . يُقال: فني فلان _ كرضي وسعى _ : إذا هرم. والفاني: الشيخ الكبير. وفنيالشيء: إذا عدم.

الرابعة: قوله:

(كَانَ أَوَّلاً بِلاَ كَيْفٍ، وَيَكُونُ آخِرا) أي باقيا بعد فناء ما عداه.

(بِلاَ أَيْنٍ) أي بلا حين. وتخصيص الكيف بالأوّل والأين بالآخر لأنّ معارضة الوهم للعقل قبل حدوث الأجسام أكثرها في الكيف، وبعد فنائها في الأين أيضا، فلمّا نفى .

ص: 127


1- في «ج» : «وهذا» .
2- أي الحديث 11 من باب النهي عن الكلام في الكيفيّة . ورقم الحديث في الكافي المطبوع : «9» وترقيم الحديث ب_ «11» خاصّ بملاّخليل القزويني .
3- في الكافي المطبوع : «يُعرَف» .

الكيف أوّلاً _ ويعلم منه نفيه آخرا أيضا _ اكتفى في الآخر بنفي الأين.

إن قلت: قوله: «ويكون» يدلّ على سبق الأوّليّة له على الآخريّة، وهذا مناف لما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «الذي لم يسبق له حالٌ حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا؟»(1).

قلت: سَبْق أوّليّته على آخريّته إمّا باعتبار سبق حال فيه من كيف وكمّ على حال اُخرى فيه، أو لا. والمراد بما في نهج البلاغة نفي الأوّل. ويجيء في خامس السادس عشر.(2) والمراد هنا إثبات الثاني.

(وَ«كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(3)). سيجيء تفسيره في أوّل «باب النوادر» وثانيه.

«لَهُ الْخَلْقُ». هذا إلى آخره اقتباس من سورة الأعراف.(4)تتمّة الآية 54 من سورة الأعراف .(5)

«الخلق»: التقدير؛ تقول: خلقت الأديم: إذا قدّرته قبل القطع(6). ولا يلزم أن يكون الخالق لشيء مكوّنا له، والمراد بإطلاق الخلق التقدير من جميع الوجوه، وهو مختصّ باللّه تعالى.

«وَالاْءَمْرُ» أي الحكم؛ إذ لا حكم إلاّ للّه . أو المراد كون الخلق بمحض نفوذ الإرادة بلا فعل علاجي وتعب؛ مأخوذا من قوله تعالى في سورة يآس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(7). وحينئذٍ يمكن أن يكون المراد بالخلق مطلق التدبير، ويكون التخصيص المفهوم من تقديم الظرف باعتبار المجموع.

«تَبَارَكَ اللّه ُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(7). .

ص: 128


1- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
2- أي الحديث 5 من باب معاني الأسماء واشتقاقها .
3- القصص (28) : 88 .
4- الأعراف
5- : 54 . وهذا ليس اقتباس ، بل هي آية ؛ إلاّ أن يكون مقصوده من الاقتباس إدراج الكلام القرآني في كلامه .
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1470 (خلق) .
7- يآس (36) : 82 .

الخامسة: قوله:

(وَيْلَكَ أَيُّهَا السَّائِلُ ، إِنَّ رَبِّي لاَ تَغْشَاهُ) أي لا تعرضه، أو لا تدركه (الاْءَوْهَامُ) ؛ جمع «وَهم» بالفتح، وهو الغلط في الحساب ونحوه؛ أو هو الخاطر.

(وَلاَ تَنْزِلُ بِهِ الشُّبَهَاتُ) ؛ بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة وإسكانها وضمّها، جمع «شبهة» بالضمّ: الالتباس. والمراد أنّ اللّه بالغ أمره، لا يشتبه عليه شيء.

(وَلاَ يُجَارُ) من شيء؛ بالجيم على ما في أكثر النسخ؛ إمّا بضمّ ياء المضارعة والألف من الإجارة، يُقال: أجاره اللّه من العذاب، أي أنقذه؛ وإمّا بفتحها والهمز، يقال: جأر _ كمنع _ جأرا وجؤارا:(1) إذا رفع صوته بالدعاء، وتضرّع واستغاث.(2) وفي بعض النسخ بالمهملة، وبفتح ياء المضارعة، من باب علم، من الحيرة.

(وَلاَ يُجَاوِرُهُ(3) شَيْءٌ ) أي مجاورة مكانيّة.

(وَلاَ تَنْزِلُ(4) بِهِ الاْءَحْدَاثُ) ؛ جمع حدث بفتحتين: نوائب الدهر وبلاياه.

(وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ) أي لا يجوز لأحد الاعتراضُ عليه في شيء فَعَلَه، أو الاستكشاف عن سرّ قدر ما قدَّر، وخلق ما خَلَقَ؛ لأنّه يتعالى عن أذهان الخلائق، ومعلوم أنّ ربّنا الذي أعطى كلّ شيءٍ خلقه، أي ما يليق به من الخلق والتدبير؛ لرعاية الحكمة في كلّ ما خلق.

(وَلاَ يَنْدَمُ عَلى شَيْءٍ) . جارٍ مجرى عطف التفسير.

(وَ«لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ») . اقتباس من آية الكرسيّ،(5) وهو فيها استئناف لبيان قوله: «القيّوم».

والسنة: الإعياءُ الحاصل من الأعمال الشاقّة، والنعاسُ. والأوّل أوفق بما سيجيء في .

ص: 129


1- في «ج» : «وجؤرا» .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 384 (جأر) .
3- في الكافي المطبوع : «ولا يجاوزه» .
4- في الكافي المطبوع : «ولا ينزل» .
5- البقرة (2) : 255 . والظاهر أنّ مقصوده من الاقتباس إدراج الكلام القرآني في كلامه .

«كتاب العشرة» في الثاني والرابع من «باب الجلوس».(1) وعلى الثاني المراد أنّه لا تصرفه عن كونه قيّوما _ أي قائما بكلّ ما يحتاج إليه كلّ شيء _ سنةُ المخلوقين، بل ولا نومهم؛ لأنّ المحتاج المخلوق له تعالى لا ينحصر في ذوات الأنفس، وحاجة ذوات الأنفس لا تنحصر فيما يعرضونه على اللّه ، ويطلبونه منه في يقظتهم، بل له كلّ شيء، كما يدلّ عليه الاستئناف البياني بقوله:

(«لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاْءَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَاتَحْتَ الثَّرى») . هذا مأخوذ من سورة طه.(2)

وفي القاموس: «الثرى: الندى والترابُ النَّدِيُّ، أو الذي إذا بُلَّ لم يَصِر طينا [لازبا[ كالثَرياء ممدودةً، والخيرُ، والأرضُ» انتهى.(3)

فيمكن أن يكون المراد هنا الخيرَ، ويكون عبارة عن القدرة، ويكون المراد بما تحت الثرى كلّ مقدور.

ولا ينافي هذا ما في «كتاب الروضة» في حديث الحوت على أيّ شيء هو؟ : أنّ الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على قرن ثور أملس، وهو على الثرى وعند ذلك ضلّ علم العلماء.(4) لكن لا يُوافق .

ص: 130


1- الكافي ، ج 2 ، ص 661 ، باب الجلوس ، ح 2 و 4 . وفي حاشية «أ» : «(قوله : في الثاني والرابع) إلى آخر ثاني ذلك الباب بعد الإسناد هكذا : عن أبي حمزة الثمالي قال : رأيت عليّ بن الحسين عليهماالسلام قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه ، فقلت : إنّ الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون : إنّها جلسة الربّ ، فقال : إنّي إنّما جلست هذه الجلسة للملالة ، والربّ لا يملّ ولا تأخذه سنة ولا نوم . وخامس ذلك الباب بعد الإسناد هكذا : عن حمّاد بن عثمان قال : جلس أبو عبد اللّه عليه السلام متورّكا رجله اليمني على فخذه اليسرى ، فقال له رجل : جعلت فداك هذه جلسة مكروهة . فقال : لا ، إنّما هو شيء قالته اليهود لما أن فرغ اللّه عزّوجلّ من خلق السموات والأرض واستوى على العرش جلس هذه الجلسة ليستريح . فأنزل اللّه عزّوجلّ : «اللَّهُ لاَآ إِلَ_هَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» وبقى أبو عبداللّه عليه السلام متورّكا كما هو (مهدي)» .
2- طآه (20) : 6 .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 308 (ثرى) .
4- الكافي ، ج 8 ، ص 89 ، ح 55 .

هذا(1) ما في «كتاب الروضة» في حديث زينب العطّارة(2)؛ واللّه أعلم.

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ، قَالَ: اجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ إِلى) . ضمّن «اجتمع» معنى «توجّه».

(رَأْسِ الْجَالُوتِ) . الرأس: سيّد القوم ومقدّمهم، و«جالوت» اسم أعجمي؛ أي مقدّم بني الجالوت في العلم.

(فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هذَا الرَّجُلَ عَالِمٌ فِي الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ فِي عِلْمِهِ أشْيَاء عَجِيبَةٌ(3) _ يَعْنُونَ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام _ فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ ؛ نَسْأَلْهُ) ؛ بالجزم، أي للامتحان أو الإلزام.

(فَأَتَوْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: هُوَ فِي الْقَصْرِ) ؛ بالفتح: المنزل، أو كلّ بيت من حجر.

(فَانْتَظَرُوهُ حَتّى خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ رَأْسُ الْجَالُوتِ: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ) ؛ بالرفع بإضمار «أن» وإهمالها، أي لأن نسألك؛ أو حال مقدّرة، أو استئناف بياني للتعليل، أو بالنصب على إضمار «أن» وإعمالها.

(قَالَ(4): سَلْ يَا يَهُودِيُّ، عَمَّا بَدَا لَكَ) أي سنح لك أن تسأل عنه.

(فَقَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ رَبِّكَ: مَتى كَانَ؟). ليس هذا السؤال مبنيّا على اعتقاد حدوث الربّ، بل هو مبنيّ على أنّ مذهب اليهود كالزنادقة الفلاسفة قِدَم العالم مستندا بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، وأنّه لو كان العالم حادثا _ كما ذهب إليه أهل الإسلام _ لزم أن يكون الربّ حادثا؛ إذ لو كان قديما لتوقّف حدوث أوّل الحوادث على حدوث شرط، كقصد أو شوق غاية، وهو خلاف الفرض ومستلزم للتسلسل؛ يعني إذا كان العالم حادثا _ كما زعمتم _ فمتى كان الربّ؟ .

ص: 131


1- في حاشية «أ» : «قوله : (لكن لايوافق) إلى آخره وذلك لأنّ في فقرات حديثها هكذا : والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فيه ومن عليه عند السماء الاُولى كحلقة في فلاة فيّ» .
2- الكافي ، ج 8 ، ص 153 ، ح 143 .
3- في الكافي المطبوع : - «في المسلمين يقال : في علمه أشياء عجيبة» .
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .

(فَقَالَ) أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه خمس جمل:

الاُولى: (كَانَ بِلاَ كَيْنُونِيَّةٍ) . «كان» تامّة، والكينون بفتح الكاف وسكون الخاتمة ونونين بينهما واو: الكائن الحادث، أصله الكيَّنون بفتح الخاتمة وتشديدها، فيعلول من الكون، كالديموم من الدوام، بدليل أنّه لولا ذلك لقيل: كونون ودوموم، لأنّهما من الواوي، وأيضا لم يثبت في كلامهم فعلول بالفتح، واُضيف إليه هنا ياء مشدّدة للنسبة، ثمّ تاء للمصدريّة، كما في الديموميّة، وكما في الكيفوفيّة والأينونيّة. وقد مضيا في ثالث الأوّل،(1) والمشهور في كتب اللغة «كينونة» و«ديمومة» بدون الياء المشدّدة؛(2) أي بلا حدوث. وهذا إشارة إلى نفي اللزوم الذي توهّمه السائل.

الثانية: (كَانَ بِلاَ كَيْفَ،(3) كَانَ) . «كان» في الموضعين تامّة، و«كيف» مبنيّ على الفتح. والمراد أنّ أذهان الخلائق قاصرة عن إدراك أزله بلا أزليّة العالم، كما يجيء في خامس الثاني والعشرين(4) من قوله عليه السلام : «أزله نهي(5) لمجاوِل الأفكار».

الثالثة: (لَمْ يَزَلْ بِلاَ كَمْ(6) وَبِلاَ كَيْفَ(7) كَانَ) ؛ «لم يزل» بفتح الزاي ناقصة خبرها الظرف. و«كم» بفتح الكاف وسكون الميم، استفهاميّة استعملت فيما يُقال في جواب الاستفهام الحقيقي، نحو: علمت أين زيد. و«كيف» مبنيّ على الفتح. و«كان» عاملُ كلٍّ مِن «كم» و«كيف». فالمراد: بلا كم كان، وبلا كيف كان.

الرابعة: (لَيْسَ لَهُ قَبْلٌ، هُوَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ وَلاَ غَايَةٍ وَلاَ مُنْتَهىً) .

«قبل» في المواضع الأربعة بفتح القاف وسكون الموحّدة، وفي الأوّل والرابع بمعنى شرط حادث يتوقّف عليه صدور أوّل الحوادث عنه. .

ص: 132


1- أي الحديث 3 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2190 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 364 (كون) .
3- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .
4- أي الحديث 5 من باب جوامع التوحيد .
5- في المصدر : «نهية» .
6- في الكافي المطبوع : «كَمٍّ» .
7- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .

وقوله: «هو قبل القبل بلا قبل» استئناف بياني للسابق؛ أي هو مقدّم على أوّل الحوادث بلا توقّف صدور أوّل الحوادث عنه على شرط حادث، كما مضى في ثاني الباب من قوله عليه السلام : «وكان اعتماده على قدرته».

وهذا مناط دفع شبه اليهود والفلاسفة، وبه يظهر جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة، وتفصيله في المقدّمة الثانية من الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(1)

و«لا» في قوله: «ولا غاية» وفي قوله: «ولا منتهى» مزيدة لتأكيد النفي. والغاية: النفع الحاصل للفاعل بسبب فعله.

و«منتهى» مجرور تقديرا ومنوّن، والمراد به الغاية المقصودة بالذات، ويُقال لها: غاية الغايات. ونفيه هنا بعد نفي الغاية من قبيل قوله تعالى في سورة يونس: «وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2)، وفي سورة القمر: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»(3)، وفي سورة المجادلة: «وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ»(4).

الخامسة: (انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْغَايَةُ وَهُوَ غَايَةُ كُلِّ غَايَةٍ) . هذه لتأكيد نفي الغاية المذكورِ(5) في الرابعة، وذلك لأنّ الأوهام العامّيّة تستبعد أن يكون فعل بلا غاية.

وقوله: «وهو غاية كلّ غاية» إشارة إلى ما في سورة التوبة من قوله تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنْ اللّه ِ أَكْبَرُ»(6). والمراد أنّ كلّ نفع دنيوي أو اُخروي للعباد سهل في جنب رضاه تعالى، ورضاه منتهى مراتب الغايات. .

ص: 133


1- الحاشية الاُولى للمصنّف على عدّة الاُصول غير مطبوعة . اُنظر مقدّمة عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 4 . وهي أوسع حواشي المصنّف على العدّة .
2- يونس (10) : 61 .
3- القمر (54) : 53 .
4- المجادلة (58) : 7 .
5- في حاشية «أ»: «صفة لنفي الغاية (سمع)».
6- التوبة (9) : 72 .

(فَقَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: امْضُوا بِنَا) ؛ الباء للملابسة.

(فَهُوَ أَعْلَمُ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ). الفاء للبيان، وقوله: «ممّا يقال فيه» لرعاية معنى «فهو أعلم»؛ لأنّه بمعنى: فعلمه أكثر. المتتبّع الخبير بأساليب الكلام يعرف أنّه لم يجتمع مثل هذه المعاني الكثيرة الدقيقة مع مثل هذه الألفاظ القليلة البليغة بعد كلام اللّه تعالى ورسوله عليه السلام في غير كلام أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر عليهم السلام .

الخامس: (وَ بِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ) ؛ بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر المهملة.(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: جَاءَ حِبْرٌ) ؛ بكسر المهملة وفتحها وسكون الموحّدة: العالم بتحبير الكلام والعلم، أي تحسينه.(2)

(مِنَ الاْءَحْبَارِ) أي من أحبار اليهود.

(إِلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّكَ؟)

(فَقَالَ لَهُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) . «الثكل» بالضمّ وبفتحتين مصدر باب علم: فقدان الولد؛ وامرأة ثاكل وثكلى.(3) وهذا دعاء عليه بالموت، وليس المقصود أن تكون له اُمّ ثاكل حقيقةً.

(وَمَتى لَمْ يَكُنْ حَتّى يُقَالَ: مَتى كَانَ؟ كَانَ رَبِّي قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ) . ظاهر ممّا مرّ في رابع الباب.

(وَبَعْدَ الْبَعْدِ) . «بعد» منصوب على الظرفيّة، وهو معطوف على «كان» لا على خبرها، فالمعنى: ويكون بعد البعد. والمراد بالبعد: آخر الحوادث المتسلسلة المعروفة.

(بِلاَ بَعْدٍ) ؛ لردّ توهّم أنّ انتفاء الحوادث المتسلسلة المعروفة بالمرّة(4) إنّما يكون .

ص: 134


1- في حاشية «أ» : «نسبة إلى الموصل كمجلس ، وهو أرض بين العراق والجزيرة . والموصلان هي والجزيرة على ما في القاموس» ج 4 ، ص 65 .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 158 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 444 (حبر) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 217 (ثكل) .
4- في حاشية «أ» : «متعلّقة بانتفاء ، يعني انتفاءها بتمام أجزائها وجزئيّاتها (مهدي)» .

لحدوث مانع عنها خارجٍ عن جنسها وعن سلسلتها. وفي نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده من كيّفه»(1) و«أنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عُدِمَتْ عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات» انتهى.(2)

لمّا كان لفظ الوقت والحين والزمان والأجل إنّما يطلق على هذا الامتداد باعتبار أنّه ظرف للحادث، فلا يستلزم نفيها نفي الامتداد رأسا بقرينة «ثمّ» في قوله بعده: «ثمّ يعيدها بعد الفناء» إذا لم تكن للتعجّب.

(وَلاَ غَايَةَ وَلاَ مُنْتَهى لِغَايَتِهِ) . ضمير «غايته» للّه ، وهو ظاهر ممّا مرّ في شرح رابع الباب.

(انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ) أي العلل الغائيّة المترتّبة التي تكون للعابدين في عباداتهم.

(عِنْدَهُ) أي عند ربّي.

(فَهُوَ) . تفريعٌ على الانقطاع عنده؛ أي فربّي تعالى.

(مُنْتَهى كُلِّ غَايَةٍ) أي غاية الغايات.

(فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، أَفَنَبِيٌّ أَنْتَ؟). أشارةٌ إلى أنّه لا يُعلم ذلك كذلك إلاّ بالوحي.

(فَقَالَ: وَيْلَكَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ) العبد كما يُطلق على العابد يُطلق على القنّ(3) ومعناه هنا مطيع كمال الإطاعة كالقِنّ.

(مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ) . فيه تصديق لما أشار إليه الحِبر،(4) وإثبات للواسطة.

السادس: (وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عليه السلام ). يحتمل رجوعه إلى أبي عبداللّه عليه السلام وإلى أمير المؤمنين عليه السلام .

(أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ سَمَاءً وَأَرْضا؟ فَقَالَ عليه السلام : أَيْنَ سُوءَالٌ عَنْ مَكَانٍ ) أي عن .

ص: 135


1- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .
3- في حاشية «أ» : «القِنّ بالكسر: عبدٌ مُلِكَ هو وأبواه ، للواحد والجمع ، أو هو يجمع أقنانا وأقِنّة ، أو هو الخالص العبودة بيّن القنونة والقنانة» . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 261 (قنّ) .
4- في «ج» : «الخبر» .

موضعِ ما لا يمكن كونه إلاّ في موضع.

(وَكَانَ اللّه ُ وَلاَ مَكَانَ) أي ولا موضع أصلاً؛ فليس اللّه ممّا لا يمكن كونه إلاّ في موضع، فلا يصحّ فيه هذا السؤال.

السابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ لِلْيَهُودِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيّا عليه السلام مِنْ أَجْدَلِ النَّاسِ) . الجدل: المناظرة.

(وَأَعْلَمِهِمْ، اذْهَبُوا بِنَا إِلَيْهِ لَعَلِّي أَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَأُخَطِّئُهُ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب التفعيل، أي أنسبه إلى الخطأ.

(فِيهَا) . يمكن أن يكون هذا الكلام صدر من مقدّم آخَرَ ليهود آخرين غير ما مضى في رابع الباب بأن يكون قبله أو بعده بزمان طويل.

(فَأَتَاهُ) مع اليهود (فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، قَالَ عليه السلام : سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّنَا؟ قَالَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ، إِنَّمَا يُقَالُ: «مَتى كَانَ» لِمَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكَانَ)؛ معطوف على «لم يكن».

(«مَتى كَانَ») . «متى» هنا ظرف ل«كان» للتعميم في الوقت، فهذا بمعنى في أيّ وقت كان؛ أي سواء كان زمان حدوثه قبل هذا الزمان الذي نحن فيه بقليل أم بكثير. ونظيره في التعميم في المكان أضرب زيدا أين كان، «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».(1)

(هُوَ كَائِنٌ). استئناف بياني.

(بِلاَ كَيْنُونِيَّةِ) . مضى في رابع الباب.

(كَائِنٍ) ؛ بالجرّ على الإضافة، أي بلا حدوث يكون للكائن، كأنّه عليه السلام توسّم من اليهودي إنكارا لذلك وتعجّبا وإرادة أن يقول: كيف يكون شيء أزليّا وبلا كينونيّة على تقدير حدوث العالم، فقال:

(كَانَ بِلاَ كَيْفَ(2) يَكُونُ) . «كيف» مبنيّ على الفتح للاستفهام الإنكاري؛ أي بلا تعجّب .

ص: 136


1- النساء (3) : 89 .
2- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .

وإنكار بأن يُقال: كيف يكون، أي كيف يمكن أو يتصوّر هذا.

(بَلى) . إثباتٌ لما توسّم منه إنكاره؛ أي بلى يكون (يَا يَهُودِيُّ، ثُمَّ بَلى) يكون (يَا يَهُودِيُّ، كَيْفَ يَكُونُ لَهُ قَبْلٌ؟!) استئنافٌ بياني لبيان قوله: «بلى».

(هُوَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ غَايَةٍ ، وَلاَ مُنْتَهى غَايَةٍ) . مضى في رابع الباب ما يوضحه.

(وَلاَ غَايَةٍ(1) إِلَيْهَا) . «غاية» بالجرّ والتنوين. و«إليها» بكسر الهمزة وفتح اللام وسكون الخاتمة، والضمير الراجع إلى «غاية» نعت لغاية. و«إلى» بمعنى «مع»، أي ليس له غايتان في مرتبة. ونفي هذا بعد نفي ما سبق كنفي منتهى الغاية بعد نفي الغاية. ومضى بيانه في رابع الباب.

(انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ عِنْدَهُ، هُوَ غَايَةُ كُلِّ غَايَةٍ) . مرَّ نظيره في خامس الباب.

(فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ دِينَكَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ مَن) . في بعض النسخ «ما».

(خَالَفَهُ بَاطِلٌ) . عرف ذلك بعلمه بأنّ العرب لا عهد لهم بكتاب، فضلاً عن تعلّم المسائل الإلهيّة، ولا سيّما الغامضات التي يدقّ خفاؤها(2) عن ذهن المشغولين بها بغير استناد إلى وحي كالفلاسفة، فعلم أنّه معجز.

ويمكن أن يكون المراد بدينه ما عليه الإماميّة، وعرف ذلك بامتحان الغاصبين لحقّه.

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : أَكَانَ اللّه ُ وَلاَ شَيْءَ غَيْرُهُ؟(3) قَالَ: نَعَمْ، كَانَ وَلاَ شَيْءَ . قُلْتُ: فَأَيْنَ كَانَ يَكُونُ؟). تقول: كان زيد يفعل كذا: إذا أخبرت عن استمرار فعله في جانب الماضي.

(قَالَ: وَكَانَ مُتَّكِئا فَاسْتَوى جَالِسا) ؛ لسماعه منه شيئا عظيما.

(وَقَالَ: أَحَلْتَ) أي قست اللّه تعالى على غيره، أو وصفته بمُحال؛ من(4) أحال الرجل: إذا أتى بالمحال وتكلّم به. .

ص: 137


1- في الكافي المطبوع : «غايةَ» .
2- في حاشية «أ» : «فاعل يدق ، والغرض المبالغة في الخفاء (سمع منه)» .
3- في الكافي المطبوع : - «غيره» .
4- في «ج» : - «من» .

(يَا زُرَارَةُ ، وَسَأَلْتَ عَنِ الْمَكَانِ) أي الموضع (إِذْ لاَ مَكَانَ) .

التاسع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: أَتى حِبْرٌ مِنَ الاْءَحْبَارِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ، إِنَّمَا يُقَالُ: «مَتى كَانَ» لِمَا لَمْ يَكُنْ) في وقت ما (فَأَمَّا مَا كَانَ) أي دائما (فَلاَ يُقَالُ: «مَتى كَانَ»، كَانَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ، وَبَعْدَ الْبَعْدِ بِلاَ بَعْدٍ، وَلاَ مُنْتَهى غَايَةٍ) : ولاغاية. مضى في خامس الباب.

(لِتَنْتَهِيَ غَايَتُهُ). اللام متعلّق بالمنفيّ، وهذا لدفع توهّم صحّة نفي منتهى غاية مطلقا، وذلك لأنّه تعالى منتهى غايات العابدين كما مرّ، وهذا القيد مراد في قوله: «ولا منتهى غاية» في سابع الباب.

(فَقَالَ لَهُ: أَنَبِيٌّ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لاِءُمِّكَ الْهَبَلُ) . دعاءٌ عليه بالموت. والهبل بفتح الهاء وفتح الموحّدة مصدر قولك: هبِلَتْهُ اُمّه _ كعلم _ أي ثكِلتهُ.(1)

(إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . .

ص: 138


1- النهاية ، ج 5 ، ص 240 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 686 (حبل) .

الباب السابع: باب النسبة

الباب السابع بَابُ النِّسْبَةِ

فيه أربعة أحاديث.

النسبة بكسر النون وسكون المهملة والموحّدة مصدر باب نصر وضرب، ذكر النسب كأن يُقال: زيد بن عمرو. والمراد هنا نسبة الربّ، وهي ذكر ما يقوم مقام نسبه كما في سورة الإخلاص؛ إذ لا نسب له حقيقةً.

ويجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر»: «اقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إلى قوله: اقرأ «إِنَّ_آ أَنزَلْنَ_هُ» فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة».(1)

الأوّل: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالُوا: انْسِبْ) ؛ كانصر واضرب.

(لَنَا رَبَّكَ) أي اذكر لنا ما يقوم مقام نسبه.

(فَلَبِثَ) ؛ كعلم.

(ثَلاَثا) أي ثلاث ساعات؛ ولو كان المقصود الأيّام لقال: ثلاثة.

(لاَ يُجِيبُهُمْ) . لعلّ المصلحة في تأخير الوحي بيانه تعالى للناس أنّه ينبغي للجاهل بشيء أن يسكت عنه ما دام لم يعلم.

ص: 139


1- الكافي ، ج 3 ، ص 485 ، باب النوادر ، ح 1 .

(ثُمَّ نَزَلَتْ: «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» إِلى آخِرِهَا) . يستفاد أنّ المقول لهم في قوله: «قل» اليهود، وأنّ الضمير راجع إلى النسب.

الثاني: (وَ رَوَاهُ) أي روى مضمونه (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى) . كذا في النسخ، والمظنون أنّ الواو هنا من زيادة الكاتب، وأنّ هذا استئناف سند الحديث الثاني، وما قبله متعلّق بالحديث الأوّل، فيكون المراد بقوله: «ورواه»: روى لفظه.

(عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو النَّصِيبِيِّ) ؛ بفتح النون وكسر المهملة وسكون الخاتمة والموحّدة، نسبةً إلى نصيبين على لفظ جمع نصيب، وهو اسم بلد.(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» فَقَالَ: نِسْبَةُ اللّه ِ) . تسميته نسبة اللّه ونسبة الربّ باعتبار أنّه مذكور جوابا عن السؤال عن نسبه تعالى.

(إِلى خَلْقِهِ أَحَدا، صَمَدا) ؛ منصوبان على التمييز، أو بفعل مقدّر؛ أي ذكر اللّه في نسبته أحدا صمدا. لمّا كان معنى الأحد الفرد المتفرّد، ومعنى الصمد المصمود إليه في الحوائج _ من صمده إذا قصده(2) _ وكان لهذين الوصفين لوازم، أراد أن يبيّن لوازمهما، فقوله:

(أَزَلِيّا) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» وهو منصوب بفعل مقدّر؛ أي يعني أزليّا، أو بالتفسير؛ أي أزليّا،(3) والمراد متفرّدا في الوجود عمّا عداه بالأزليّة. وقوله:

(صَمَدِيّا) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد، والنسبة للمبالغة كالأحمري؛ أي مستحقّا لأن يصمد إليه في الحوائج. وقوله:

(لاَ ظِلَّ لَهُ يُمْسِكُهُ ، وَهُوَ يُمْسِكُ الاْءَشْيَاءَ بِأَظِلَّتِهَا) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» يُقال: فلان .

ص: 140


1- هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، بينها وبين سنجار تسعة فراسخ ، وبينها وبين الموصل ستّة أيّام . معجم البلدان ، ج 5 ، ص 288 (نحيبين) .
2- الفروق اللغويّة لأبي هلال ، ص 289 ، الرقم 1157 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 258 (صمد) .
3- في النسختين : «أي أي أزليّا» .

يعيش في ظلّ فلان، أي في كنفه وحفظه، أي ليس له معين ينضمّ إليه ويحفظه، وهو يحفظ الأشياء مع حافظيها الظاهرة، أو بسببهم، كخلقه تعالى جبلّة الأبوين على العطوفة للولد ونحو ذلك.

وفيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدا للّه ِِ وَهُمْ دَاخِرُونَ»،(1) أفرد اليمين لأنّ المحافظ للشيء بقصد الخير أقلّ من محافظهِ لا بقصد الخير. وقوله:

(عَارِفٌ بِالْمَجْهُولِ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ كُلِّ جَاهِلٍ) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد.

ومعنى «عارف» عالم مجرّدا عن تجدّد العلم؛(2) أي عالم بما يجهله غيره من ضمائر .

ص: 141


1- النحل (16) : 48 . في حاشية «أ» : «أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كلّ واحد منها ؛ استعارة من يمين الإنسان وشماله . ولعلّ توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى ، كتوحيد الضمير في ضلاله ، وجمعه في قوله : «سُجَّدا للّه ِِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» وهما حالان من الضمير في ظلاله . والمراد من السجود الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، و «سجّدا» حال من الظلال. و«هم داخرون» حال من الضمير ، والمعنى : يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير اللّه تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدّر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة لها على هيئة الساجد . والأجرام في أنفسها أيضا داخرة ، أي صاغرة منقادة لأفعال اللّه تعالى فيها . وجمع «داخرون» بالواو؛ لأنّ من جملتها من يعقل ، أو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء . وقيل : المراد باليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقي ؛ لأنّ الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع ، وشماله هو الجانب الغربي المقابل له ؛ فإنّ الظلال في أوّل النهار يبتدي من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال يبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرفي من الأرض . (بيضاوي)» . أنوار التنزيل ، ج 2 ، ص 405 .
2- في حاشية «أ» : «قوله قدّس سرّه : مجرّدا عن تجدد العلم» لعلّه إشارة إلى بطلان ما زعمه التفتازاني في المطوّل و أضرابه في معني المعرفة حيث قال في أوائل الفنّ الأوّل : المعرفة يقال لإدراك الجزئي أو البسيط والعلم للكلّ أو المركب ، ولذا يقال : عرفت اللّه ، دون : علمته ، وأيضا المعرفة يقال لإدراك مسبوق بالعدم أو للأخير من الإدراكين ، شيء واحد إذا تخلل بينهما عدم بأن أدرك أولاً ثمّ ذهل عنه ثم أدرك ثانيا» . والعلم الإدراك المجرّد من هذين الاعتبارين ، ولذا يقال : اللّه تعالى عالم ، ولايقال : عارف ؛ انتهى . وذلك لأنّ كلام الإمام عليه السلام أعدل شاهد في هذا المقام وعديله في الشهادة ما في الخطبة الاُولى من نهج البلاغة في قوله عليه السلام : أحال الأشياء لأوقاتها ، إلى قوله عليه السلام : عارفا بقرائنها وأحنائها ؛ انتهى . والمعنى عارفا بما يقترن بها على وجه التركيب أو المجاورة أو العروض والأحناء بحاء مهملة والنون ، جمع : حنو بالكسر بمعنى الجانب ؛ فلا تغفل (مهدي)» .

الخلق وحوائجهم، وهو معروف عند كلّ جاهل به منكرٍ(1) له؛ لأنّ من ينكره إنّما ينكر بلسانه مع إقرار قلبه به،(2) كما في نهج البلاغة من قوله عليه السلام : «فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود»؛(3) فكلّ خلقه في الحقيقة يرفع حوائجه إليه في اضطراره إذا راجع قلبه. ويمكن أن يُراد بالجاهل نحو الأطفال المميّزين. وقوله:

(فَرْدَانِيّا، لاَ خَلْقُهُ فِيهِ، وَلاَ هُوَ فِي خَلْقِهِ، غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَلاَ مَجْسُوسٍ، لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد».

والفردانيّ نسبة إلى الفرد، وزيادة الألف والنون للمبالغة؛ أي فرد الذات ليس خلقه فيه بأن يكون موصوفا بصفة موجودة في الخارج في نفسها، وليس هو في خلقه لا بالحلول، ولا بالأين، ولا بالجزئيّة لمركّب حقيقي، ولا بالاتّحاد وأمثال ذلك.

قوله: «غير محسوس» بالحاء المهملة، أي لا يعقل ذاته ضرورة.

وقوله: «ولا مجسوس» بالجيم، أي ولا يعقل ذاته نظرا، كما مضى في خامس الأوّل.(4)

وقوله: «لا تدركه» استئنافٌ للإشارة إلى أنّه لو كان محسوسا لكان بالأبصار؛ لظهور بطلان تعلّق الحواسّ الاُخر به، أو تخصيص بعد تعميم للاهتمام؛ لوقوع الخلاف المشهور فيه.(5) وقوله:

(عَلاَ فَقَرُبَ ، وَدَنَا فَبَعُدَ، وَعُصِيَ فَغَفَرَ، وَأُطِيعَ فَشَكَرَ) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد؛ أي مع علوّه وربوبيّته قريب من أذهان الناظرين في ملكوت السماوات والأرض وما خلق اللّه .

ص: 142


1- في «ج» : «منكرا» .
2- في «ج» : - «به» .
3- نهج البلاغة ، ص 53 ، الخطبة 49 .
4- أي الحديث 5 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
5- في حاشية «أ» : «متعلّق بوقوع» .

من شيء، ومع دنوّه من أذهاننا بعيد عن صفاتنا الرذيلة وعمّا لا يليق به، كإثبات الشريك في التكوين بمحض قول: «كُن»، أو في استحقاق العبادة، أو في الاسم الجامد المحض. والفاء التعقيبيّة هنا باعتبار معرفتنا بذلك، وهو تعالى يغفر العصيان ويشكر الطاعة، فهو المستحقّ لرفع الحوائج إليه. وقوله:

(لاَ تَحْوِيهِ أَرْضُهُ، وَلاَ تُقِلُّهُ سَمَاوَاتُهُ، حَامِلُ الاْءَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ، دَيْمُومِيٌّ، أَزَلِيٌّ) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» يُقال: حواه بالمهملة إذا غلبه وملكه، وأجواه بالجيم إذا أحزنه، ويُقال: أقلّه إذا جعله مستقلاًّ مستبدّا، أي لا يحصل له بسبب معصية أهل أرضه مغلوبيّة أو حُزن، ولا يحصل له بسبب إطاعة أهل سماواته رفعة شأن؛ لأنّه حامل كلّ شيء لا بجارحة بل بقدرته؛ لأنّه ديمومي، أي لا يتغيّر؛ نسبة إلى «ديمومة» مصدر دام الشيء يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة، أي أبدي.

وتكرار «أزليٌّ» هنا لبيان «ديمومي» لأنّ ما ثبت(1) قدمه امتنع عدمه، أو لكمال مناسبته مع «ديمومي». وقوله:

(لاَ يَنْسى وَلاَ يَلْهُو، وَلاَ يَغْلَطُ وَلاَ يَلْعَبُ، وَلاَ لاِءِرَادَتِهِ فَصْلٌ، وَفَصْلُهُ جَزَاءٌ، وَأَمْرُهُ وَاقِعٌ) ، بيانٌ آخر لقوله: «لا تحويه» إلى آخره، أو ناظر إلى معنى الصمد؛ يُقال: نسِيَه _ كرضي _ : إذا ذهب علمه به عن ذهنه بالكلّيّة، ويُقال: لَها عنه _ كدعا ورضي _ : إذا غفل وترك ذكره، ويُقال: غلط _ كعلم _ في الحساب وغيره: إذا لم يعرف وجه الصواب فيه.

واللَعب _ بالفتح والكسر، وككتف مصدر باب علم _ : ضدّ الجدّ.

ومعنى «عدم فضل لإرادته» إن كان بالمعجمة أنّها تستلزم المراد، وإن كان بالمهملة أنّ إرادته ليست فاصلة بين شيء وشيء بأن تتعلّق بطاعة دون معصية، فإنّ كلّ(2) واقع بإرادته تعالى حتّى معاصي العباد، كما يجيء في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة». أو المراد أنّه قادر على كلّ شيء لا يمتنع عن إرادته شيء دون شيء. .

ص: 143


1- في «ج» : «يثبت» .
2- في «ج» : «كان» .

وقوله: «وفصله» بالمهملة، لمّا كان نفي الفصل المنسوب إلى الإرادة منسوبا إلى المريد، وقد نُسِب الفصل إلى اللّه تعالى في قوله تعالى: «إِنَّ اللّه َ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1)، وبه سمّي يومُ القيامة يومَ الفصل، قال: «وفصله جزاء» للمطيعين بالجنّة، وللعاصين بالنار؛ دفعا لتوهّم المناقضة.

ثمّ عاد إلى تقوية أن ليس لإرادته فصل وقال: «وأمره واقع»، والأمر مأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2)، ويجيء تحقيقه في حادي عشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين». والمراد بالوقوع وقوعه باعتبار المأمور والمأمور به، ومناسبة هذه الأوصاف لرفع الحوائج إليه ظاهرة.

ويجوز أن يكون قوله: «ولا لإرادته» إلى آخره، منفصلاً عمّا قبله، وتمهيدا لقوله بعده: «لم يلد» إلى آخره، والمعنى حينئذٍ أنّه ليس لإرادته شيئا فصلُ شيءٍ عن ذاته وإخراجه منها حتّى يمكن أن يكون بعض ما أراد ولدا له.

(«لَمْ يَلِدْ» فَيُورِثَ(3)) ؛ بكسر الراء.

(«وَلَمْ يُولَدْ»فَيُشَارِكَ(4)) ؛ بكسر الراء.

(«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ») .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ) ؛ كزبير، أو كأمير.

(قَالَ: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام عَنِ التَّوْحِيدِ) أي عن إفراد المعبود الحقّ بحيث يمتاز عن غيره: هل يمكن أن يكون بمعرفته بشخصه، أو بكنه ذاته، أم لا؟ بل يكتفى فيه بمعرفته بأسمائه وصفاته المختصّة به وكلّها غيره وهو مستور بها، فإنّها وجهه لا كنهه؟ .

ص: 144


1- الحجّ (22) : 17 .
2- يآس (36) : 82 .
3- في الكافي المطبوع : «فيورَث» بفتح الراء .
4- في الكافي المطبوع : «فيشارَك» بفتح الراء .

(فَقَالَ : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ مُتَعَمِّقُونَ) أي طالبون للنزول إلى عمق أسمائه وصفاته تعالى لإدراك كنه ذاته أو شخصه كالمجسّمة وكالأشاعرة الطالبين لرؤيته تعالى.

(فَأَنْزَلَ(1) تَعَالى «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» وَالاْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ إِلى قَوْلِهِ: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»(2)) يحتمل أن يكون أوّلها: «هو الأوّل» أو أوّل السورة، فهي قوله تعالى: «سَبَّحَ للّه ِِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ يُحْييِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الاْءَوَّلُ وَالاْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاْءَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللّه ُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَإِلَى اللّه ِ تُرْجَعُ الاْءُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(3).

(فَمَنْ رَامَ) أي قصد (وَرَاءَ ذلِكَ) أي خلف ذلك. والمراد شخصه وكنه ذاته تعالى المستور بهذه الأسماء والصفات المختصّة، فإنّ المستور بالشيء يكون خلفه. ويمكن أن يُراد ب«وراء» أمام بفتح الهمزة؛ فإنّه من الأضداد. والمآل واحد، والأخير أنسب بما مرّ في أوّل الأوّل(4) من قوله: «ولم تَجُرْ هناك فتعرف ما خلفهنّ».

(فَقَدْ هَلَكَ) . لأنّه لو كان حسنا لما اكتفى اللّه تعالى بالأسماء والصفات التي كلّها غيره. ويجيء مثله في سابع الباب الآتي.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي، قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام عَنِ التَّوْحِيدِ) أي عن مقدار ما يجب معرفته منه. .

ص: 145


1- في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
2- الحديد (57) : 1 _ 6 .
3- الحديد (57) : 1 _ 6 .
4- أي الحديث 1 من باب حدوث العالم واثبات المحدث .

(فَقَالَ: كُلُّ مَنْ قَرَأَ «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» وَآمَنَ بِهَا، فَقَدْ عَرَفَ التَّوْحِيدَ . قُلْتُ: كَيْفَ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ(1) النَّاسُ، وَزَادَ فِيهِ: كَذلِكَ اللّه ُ رَبِّي، كَذلِكَ اللّه ُ رَبِّي) .

كون «زاد» بلفظ الماضي دليل على أنّه تفسير لقوله: «آمن بها»، وليس من تتمّة الجواب وداخلاً في القراءة. .

ص: 146


1- في الكافي المطبوع : «يقرؤها» .

الباب الثامن :باب النهي عن الكلام في الكيفيّة

الباب الثامن بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْكَلاَمِ فِي الْكَيْفِيَّةِ

فيه اثنا عشر حديثا.

المراد بالكيفيّة ذات الصانع تعالى كما مرّ في سادس الثاني(1) من قوله عليه السلام : «ولكن لابدّ من إثبات أنّ له كيفيّة» إلى آخره.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللّه ِ، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا فِي اللّه ِ) أي في ذات اللّه .

(لأِنَّ الْكَلاَمَ فِي اللّه ِ لاَ يَزْدَادُ صَاحِبَهُ إِلاَّ تَحَيُّرا) أي لا يمكن لنا إدراكه.

الثاني: (وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرى، عَنْ حَرِيزٍ). هذا الحديث موقوف،(2) وحريز بفتح المهملة وآخره زاي من رجال أبي عبداللّه عليه السلام ، وقيل: أبي(3) الحسن عليه السلام أيضا.(4)

(تَكَلَّمُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا فِي ذَاتِ اللّه ِ) . «ذات» في الأصل مؤنّثُ ذو بمعنى الصاحب، وتقتضي شيئين: موصوفا ومضافا إليه؛ تقول: امرأة ذات مال، وللثنتين: ذواتا

ص: 147


1- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- وهو ما روي عن مصاحب المعصوم من قول أو فعل ، متّصلاً كان أو منقطعا ، وقد يطلق على غير المصاحب مقيّدا، مثل وقفه فلان على فلان . البداية في علم الدراية (رسائل في دراية الحديث) ، ج 1 ، ص 129 .
3- في «ج» : «لأبي» . وفي حاشية «أ» : «هو الكاظم عليه السلام كما في الرجال المتوسّط للفاضل الإسترابادي (منه)» .
4- رجال النجاشي ، ص 144 ، الترجمة 375 . وذكره الطوسي في رجاله ، ص 194 ، الترجمة 273 في أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ولم يذكره في أصحاب أبي الحسن عليه السلام .

مال، وللجماعة: ذوات مال(1) ثمّ اقتطعوا عنها مقتضيها، وأجروها مجرى الأسماء التامّة المستقلّة بأنفسها غير المقتضية لما سواها فقالوا: ذات متميّزة، وذاتان متميّزتان، وذوات متميّزات، ونسبوا إليها كما هي من غير تغيير علامةَ التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتيّة، واستعملوها استعمالَ «النفس» و«الشيء»(2)، وهو المراد هنا، فالمقصود(3) النهي عن الكلام في بيان كنه حقيقة اللّه .

وقد يستعمل «ذات اللّه » بمعنى «أمر اللّه » كما قيل في قول العرب: جعل اللّه ما بيننا في ذاته.(4) وعليه قول أبي تمّام: فيضرب في ذات الإله فيوجِعُ.(5) وهو المراد بما في آخر «كتاب الروضة» عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام أنّه كان يقول: «ويل اُمّه فاسقا من لا يزال مماريا، ويل اُمّه فاجرا من لا يزال مخاصما، ويل اُمّه آثما مَن كثر كلامه في غير ذاتِ اللّه عزّ وجلّ» انتهى.(6)

فالمقصود به النهي عن الكلام بالرأي في الأحكام الشرعيّة، فلا منافاة بينهما.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ:) في سورة النجم («وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى»(7) فَإِذَا انْتَهَى الْكَلاَمُ إِلَى اللّه ِ) أي إلى ذات اللّه (فَأَمْسِكُوا) . .

ص: 148


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2551 ؛ لسان العرب ، ج 15 ، ص 457 ؛ تاج العروس ، ج 20 ، ص 388 (ذو) .
2- البرهان للزركشي ، ج 4 ، ص 278 .
3- في «ج» : «والمقصود» .
4- في حاشية «أ» : «نقله في المغرب (منه دام ظله)» . وانظر البرهان للزركشي ، ج 4 ، ص 278 وحكاه السيّد علي خان في رياض السالكين ، ص 34 عن صاحب التكملة .
5- حكاه عنه الثعالبي في يتيمة الدهر ، ج 4 ، ص 148 ، والزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 278 ، وكلّ البيت : يقول فيبدع ويمشي فيسرع ويضرب في ذات الإله فيوجع وحكاه أيضا البغدادي في خزانة الأدب ، ج 1 ، ص 151 ، والمراد فيضرب بسبب أمر اللّه .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 391 ، ح 587 ، وفيه : «وَيْلُمِّه» بدل «ويل اُمّه»؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 237 ، ح 16185 .
7- النجم (53) : 42 .

تفسير للآية بأنّ «إلى» حرف جرّ قدّمت لإفادة الحصر. و«المنتهى» مصدر ميمي، ومدخول «إلى» يكون خارجا عن الحكم، كما أنّ مدخول «من» خارج عنه.

والمراد أنّ الكتاب الذي عُبّر عنه في سابق الآية ب«ذكرنا» في قوله: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا»(1) وهو المتولّى عنه في قوله في سابق الآية أيضا: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى»(2) تبيانٌ(3) لكلّ شيء سوى ذات اللّه تعالى، فالحجّة قائمة على من تولّى عن ذكر اللّه ، فلم يبق للإنسان المتولّي عن كتاب اللّه ، طريق الاعتذار لدفع الجزاء الأوفى عن نفسه بأنّ بعض الأحكام لم يكن مبيّنا في كتاب اللّه ، وذلك لأنّ محكمات كتاب اللّه اُمّ الكتاب، فهنّ دلالات صريحة على إمامٍ عالم بجميع المتشابهات والأحكام في كلّ زمانٍ، كما مرّ تفصيله في شرح الثاني عشر من أوّل «كتاب العقل». والحاصل أنّه لا انتهاء لتبيان كتاب اللّه إلاّ إلى ذات اللّه ، وإنّما لم يبيّن في كتاب اللّه لعدم إمكان علم الخلائق به.

ثمّ إنّ المشهور بين العامّة في تفسير الآية أنّ المراد أنّ انتهاء الخلائق بعد الموت والحشر إلى اللّه للحساب والثواب والعقاب.(4)

ولا يخفى أنّه على هذا يصير ذكرُ هذه الآية بعد قوله: «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الاْءَوْفَى»(5) قليل الفائدة.

الرابع: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ،(6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ النَّاسَ لاَ يَزَالُ لَهُمُ(7) الْمَنْطِقُ) أي جائزا لهم .

ص: 149


1- النجم (53) : 29 .
2- النجم (53): 33.
3- خبر «أنّ» في قوله : «والمراد أنّ الكتاب» .
4- جامع البيان للطبري ، ج 27 ، ص 98 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 9 ، ص 154 ؛ تفسير السمعاني ، ج 5 ، ص 301 ؛ تفسير البغوي ، ج 4 ، ص 255 .
5- النجم (53) : 40 _ 41 .
6- في «ج» : - «عن أبي أيّوب» .
7- في الكافي المطبوع : «بهم» .

المنطق، أو ثابتا لهم المنطق الصحيح.

(حَتّى يَتَكَلَّمُوا فِي اللّه ِ) أي في كنه ذات اللّه .

(فَإِذَا سَمِعْتُمْ ذلِكَ) أي كلامهم في كنه ذات اللّه .

(فَقُولُوا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . المراد: قولوا ذلك لهم نهيا لهم عن الكلام في اللّه ، وذلك لأنّه لو أمكن لنا إدراكه تعالى، لكان جسما كالأجسام، كما بيّنّا في أوّل الثاني(1) عند قوله: «فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه».

الخامس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : يَا زِيَادُ، إِيَّاكَ وَالْخُصُومَاتِ) . هي الكلام فيما لا ينفعهم في الآخرة، أو لا فيها ولا في الدنيا، أو هي التي تقع بين المرائين من طلبة العلم في المجالس، أو هي كثرة تتبّع الاحتمالات والإفراط في التدقيقات.

(فَإِنَّهَا تُورِثُ الشَّكَّ) فيما يجب الاعتناء به، أو في الضروريّات، أو في المعلومات من اُصول الدين. وهذا مجرّب قد يصرف الإنسان عمره فيما لا يعنيه، ولا يعلم ما يعنيه، وقد يمنع أحد في المجلس ضروريّا مخالفا لما ادّعاه، ويتتبّع احتمالات تورثه الشكّ في ذلك الضروري وفي اليقيني.

(وَتُحْبِطُ الْعَمَلَ) : تُبطل طلبَ العلم بحيث لا يبقى له ثواب عليه.

(وَتُرْدِئُ) ؛ إمّا بالهمز من رَدُؤَ كحَسُنَ، أي فسد؛ وأردأتُه: أفسدته.(2) وإمّا بالياء من ردي كعلم، أي هلك، وأرداه غيره: أهلكه.(3)

(صَاحِبَهَا) أي صاحب الخصومات، فإنّه غير مقبولٍ عند الناس، وهالك في الآخرة. .

ص: 150


1- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 52 (ردأ) .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2355 (ردي) .

(وَعَسى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الشَّيْءِ(1)) ، كذات اللّه تعالى. وفي بعض النسخ «بالشيء» كإنكار ما علم من الدين ضرورةً.

(فَلاَ يُغْفَرَ) هذا التكلّم (لَهُ؛ إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضى قَوْمٌ تَرَكُوا عِلْمَ مَا وُكِّلُوا بِهِ) ؛ بصيغة المجهول من التوكيل، يُقال: وكّلتُهُ بأمر كذا توكيلاً: إذا جعلتَه متولّيا له، محافظا عليه. ولو كان بتخفيف الكاف، لقال: ما وُكِل إليهم.

(فَطَلَبُوا(2) عِلْمَ مَا كُفُوهُ) ؛ بتخفيف الفاء بصيغة المجهول، من كفاه إيّاه يكفيه كفاية: إذا أغناه عن مؤونة طلبه؛ أي كفاهم اللّه إيّاه، أو كفاهم ما وكّلوا به إيّاه.

(حَتّى انْتَهى كَلاَمُهُمْ) فيما لا يعنيهم (إِلَى اللّه ِ فَتَحَيَّرُوا ، حَتّى) ؛ هي الداخلة على الجمل.

(إنْ)(3) ؛ بكسر الهمزة مخفّفة من المثقّلة واللام بعدها هي الفارقة، أي إنّه.

(كَانَ الرَّجُلُ لَيُدْعى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَيُجِيبُ مِنْ خَلْفِهِ، وَيُدْعى مِنْ خَلْفِهِ، فَيُجِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) . تمثيلٌ لعدم الربط في كلامهم.

السادس: (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى : حَتّى تَاهُوا فِي الاْءَرْضِ) . تمثيل لشدّة تحيّرهم، يُقال: تاه في الأرض يتيه تيها: إذا ذهب متحيّرا.(4)

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيَّاحٍ) ؛ بفتح الميم، وتشديد الخاتمة، والمهملة.

(عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ نَظَرَ فِي اللّه ِ: كَيْفَ هُوَ) أي من طلب إدراكه (هَلَكَ) . .

ص: 151


1- في الكافي المطبوع : «بالشيء» .
2- في الكافي المطبوع : «وطلبوا» .
3- في الكافي المطبوع : «أن» .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2229 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 203 (تيه) .

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ مَلِكا عَظِيمَ الشَّأْنِ كَانَ فِي مَجْلِسٍ لَهُ، فَتَنَاوَلَ الرَّبَّ،(1) فَفُقِدَ، فَمَا يُدْرى أَيْنَ هُوَ) .

«ملكا» بفتح الميم وكسر اللام، أي مسلّطا على جمع كثيرين في فنّ، كما يقال لإمرئ قيس: الملك الضلّيل؛ لأنّه كان مسلّطا على شعراء العرب في فنّ الشعر.(2)

«عظيم الشأن» مبالغة في تسلّطه.

«فتناول الربّ» أي أخذ في التكلّم في كنه ذاته.

«ففقد» بفاء وقاف ومهملة، مجهول باب ضرب؛ أي ففقده أصحابه.

الفاء في «فما» للبيان. «يدرى» مجهول، ناقص باب ضرب حكاية الحال الماضية.

ضمير «هو» للملك؛ أي فما يعلم أصحابه موقعه. والمراد أنّه خولط، فخرج كلامه عن الانتظام بعد ما كان منتظما في فنّه.

التاسع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْعَلاَءِ) ؛ بفتح المهملة والمدّ.

(بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي اللّه ِ) أي في كنه ذات اللّه .

(وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا فِي(3) عَظَمَتِهِ) . فيه إشعار بأنّ المتفكّر في اللّه قاصد للنظر في عظمته بوسيلة التفكّر فيه، كما قالوا في قوله تعالى في المشبّهة: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4) أي ما عظّموه حقّ تعظيمه.(5)

(فَانْظُرُوا إِلى عَظِيمِ خَلْقِهِ) . الخَلق هنا مصدر بمعنى التدبير، وإضافة «عظيم» من .

ص: 152


1- في الكافي المطبوع : + «تبارك وتعالى» .
2- لسان العرب ، ج 11 ، ص 394 (ضلال) .
3- في الكافي المطبوع : «إلى» .
4- الأنعام (6) : 91 .
5- القائل صاحب القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 114 (قدر) .

قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف كجرد قطيفة؛(1) أي إلى أنّه خالق كلّ مخلوق، فإنّ ذلك طريق النظر في عظمته، لا ما سلكتموه.

ويحتمل أن تكون الإضافة لاميّة، أو الخلق هنا بمعنى المخلوق، والإضافة بمعنى «من».

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ أَكَلَ قَلْبَكَ طَائِرٌ، لَمْ يُشْبِعْهُ) ؛ من باب الإفعال. وهذا كناية عن الصِّغر، وفيه إشعار بعدم تجرّد النفس الناطقة.

(وَبَصَرُكَ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهِ خَرْتُ إِبْرَةٍ) . الخَرْت _ بفتح المعجمة وقد تضمّ وسكون المهملة والمثنّاة فوق _ : ثقب الإبرة ونحوها.(2)

(لَغَطَّاهُ) . عبارة عن صغر الناظر.

(تُرِيدُ) أي تطلب بالفكر والنظر، وتدّعي إمكانَ (أَنْ تَعْرِفَ بِهِمَا) أي تدرك بالقلب والبصر.

(مَلَكُوتَ) ؛ بفتح الميم واللام: العزّ والسلطنة. والمضاف محذوف؛ أي ذا ملكوت.

(السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضِ؟ إِنْ كُنْتَ صَادِقا) في دعواك إمكان أن تعرف بالقلب والبصر ملكوت السماوات والأرض.

(فَهذِهِ الشَّمْسُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللّه ِ) . «الشمس» صفةٌ ل«هذه» والخبر «خلق»، أو خبرٌ و«خلق» خبر آخر، والجملة جزاء صورةً، وتمهيد للبدل وهو الجزاء حقيقةً، وهو قوله:

(فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَمْلاَءَ عَيْنَيْكَ مِنْهَا ، فَهُوَ كَمَا تَقُولُ) . تقدير الكلام فقدرت أن تملأ عينيك منها «وإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول» استدلال على عدم إمكان .

ص: 153


1- أي قطيفة جرد ، بمعني قطيفة بالية . والقطيفة : كساء له خمل كما في النهاية ، ج 4 ، ص 84 . وفي شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 244 : «جرد قطيفة كخاتم فضة . وجرد ، أي بال؛ إذ الجرد يحتمل أن يكون من القطيفة ومن غيرها، كما كان خاتم محتملاً أن يكون من الفضّة ومن غيرها» .
2- كتاب العين ، ج 4 ، ص 236 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 248 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 29 (خرت) .

إدراكنا ذاته بأنّ من يعجز عن إحساس مرتبة من كيفيّةٍ لجسماني إلاّ بخرق العادة يستحيل أن يدرك ما ليس بجسماني ولو بخرق العادة، وذكر الشمس للمناسبة باعتبار أنّها نورٌ جسماني، واللّه تعالى نور غير جسماني، فلو استدلّ عليه بأنّ الجسم الصغير إذا بعد بُعدا مفرِطا لا يمكنك إحساسه، فكيف يمكن أن تدرِك اللّه كان تماما.(1)

ويمكن أن يُقال: ليس المقصود الاستدلال على بطلان مدّعى الخصم، بل المقصود ما هو المتعارف بعد إبطال مدّعى شخص بالبرهان العقلي أو النقلي من التعجّب من دعواه، وبيان أنّه ليس هذا موضع التوهّم، فإنّ دواعي الغلط منتفية هنا، فإنّ الجهل المركّب ودعوى الأمر العظيم إنّما يتوهّم فيما كان المباشر عظيما، فيتوهّم منه أنّه يقدر على كذا، أو يكون قادرا على أشياء صعبة لم يعجز عنها، فيتوهّم منه أنّه يقدر على كذا أيضا، وليس ما نحن فيه كذلك. وهذا كأن يدّعي مريض أنّه إن صحّ لقدر على رفع الجبل، فتقول له بعد إبطال مدّعاه: إنّك تموت ضعفا، وتريد أن ترفع الجبل؟ فإن كنت صادقا فارفع هذا الكوز؛ تعني بذلك أنّ دواعي هذا الجهل المركّب _ أي توهّم رفع الجبل _ منتفية حين المرض.

وقوله: «فهو كما تقول» مماشاة؛ فإنّ عدم صحّة الدليل لا يستلزم عدم المدلول. ويمكن أن يحمل الصدق على موافقة الاعتقاد لا على مطابقة نفس الأمر، والمراد أنّ الدعوى هنا بدون اعتقاد.

الحادي عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْيَعْقُوبِيِّ(2))؛ بفتح الخاتمة.

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى مَوْلى آلِ سَامٍ) ؛ بالمهملة والألف والميم المخفّفة بطن من لؤي بن غالب.(3) .

ص: 154


1- في حاشية «أ» : «جواب فلو استدلّ» .
2- في الكافي المطبوع : «البعقوبي» بالباء .
3- رجال ابن داود ، ص 127 ، الترجمة 933 .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ يَهُودِيّا يُقَالُ لَهُ: «سُبُّخْت»(1)) ؛ بضمّ المهملة، وضمّ الموحّدة المشدّدة، وسكون المعجمة، وبالمثنّاة فوق.

وفي رواية ابن بابويه في توحيده أنّه كان فارسيّا، وكان من ملوك فارس.(2)

(جَاءَ إِلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّه ِ) ؛ على عادة ذلك الزمان.

(جِئْتُ أَسْأَلُكَ) ؛ بالرفع أو النصب، كما مرّ في رابع السادس.(3)

(عَنْ رَبِّكَ، فَإِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ) أي بجواب حقّ. والجزاء محذوف، أي آمنت بأنّك رسول اللّه ، أو كنت معك.

(وَإِلاَّ رَجَعْتَ(4)). بصيغة الخطاب، أي عن دعوى النبوّة؛ أو التكلّم، أي إلى وطني.

(قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: أَيْنَ رَبُّكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَكَانِ الْمَحْدُودِ) ؛ بالجرّ صفة المكان، أي المتميّز عن أمكنة غيره تعالى، كما مضى في ثالث السادس(5) من قوله: «ولا مكان جاوَرَ شيئا» فكونه في كلّ مكان يرجع إلى إحاطة علمه وحفظه بكلّ شيء: ظاهره وباطنه، موافقا لما في سورة الحديد: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(6)، وفي سورة النساء: «وَكَانَ اللّه ُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ مُحِيطا»(7)، وفي سورة سبأ: «وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ»(8).

(قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟)؛ سؤالٌ عن كنه ذاته.

(قَالَ: وَكَيْفَ) ؛ استفهام إنكار.

(أَصِفُ رَبِّي) أي اُبيّن كنه ذاته. .

ص: 155


1- في الكافي المطبوع : «سُبِحَت» وكذا في بقية الموارد إلى آخر الرواية .
2- التوحيد ، ص 311 ، باب حديث سبحت اليهودي ، ح 2 .
3- أي الحديث 4 من باب الكون والمكان .
4- في الكافي المطبوع : «رجعتُ» بضمّ الأخير .
5- أي الحديث 3 من باب الكون والمكان .
6- الحديد (57) : 4 .
7- النساء (4) : 126 .
8- سبأ (34) : 12 .

(بِالْكَيْفَ)(1) ؛ بالفتح، أي بما يقال على شيء في جواب السؤال عنه ب«كيف».

(وَالْكَيْفَ)(2) ؛ بالفتح.

(مَخْلُوقٌ) ؛ فإنّ كلّ مدرك محسوسٌ، كما مضى في أوّل الثاني،(3) وكلّ محسوس مخلوق.

(وَاللّه ُ لاَ يُوصَفُ بِخَلْقِهِ؟) أي لا يبيَّن كنه ذاته ببيان مخلوقه.

(قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ) أي فمن أيّ دليل.

(نَعْلَمُ(4) أَنَّكَ نَبِيُّ اللّه ِ؟ قَالَ: فَمَا بَقِيَ حَوْلَهُ حَجَرٌ وَلاَ غَيْرُ ذلِكَ إِلاَّ تَكَلَّمَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)؛ بخلق اللّه تعالى ذلك الصوت والكلام من جهته، أو جعله تعالى إيّاه ذا علم أيضا في ذلك الوقت.

(يَا سُبُّخْتَ) ، بتقدير القول.

(إِنَّهُ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ). زاد في الجواب على السؤال، فإنّ الرسالة فوق النبوّة.

(فَقَالَ سُبُّخْتَ : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ أَمْرا أَبْيَنَ مِنْ هذَا) . الكاف حرفيّة للتشبيه، أو اسميّة بمعنى مثل. وعلى الأوّل الظرف صفة لموصوف محذوف هو مفعول فيه بتقدير «يوما كاليوم»، وعلى الثاني الكاف منصوب المحلّ على الظرفيّة.

وقوله: «أمرا» بفتح الهمز وسكون الميم، أو بالهمز والألف وكسر الميم، وعلى الأوّل هو ضدّ النهي، أو بمعنى الحادثة.

وقوله: «أبين» بالموحّدة والخاتمة أفعل التفضيل بمعنى أوضح، أو بصيغة المضارع المعلوم المتكلّم من باب ضرب بمعنى أنفَصِلُ، وعلى الأوّل هو منصوب مفعولٌ ثانٍ ل«رأيت» أو صفة «أمرا». و«هذا» عبارة عن الأمر الواقع في اليوم.

والمراد بنفي رؤيته أبين منه في غير ذلك اليوم أنّه أبين من كلّ بيّن رأيته في غير .

ص: 156


1- في الكافي المطبوع : «بالكيفِ» .
2- في الكافي المطبوع : «والكيفُ» .
3- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
4- في الكافي المطبوع : «يُعلم» .

ذلك اليوم، كما يُقال: ما رأيت في البلد أفضل من زيد؛ أي هو أفضل من كلّ فاضل فيه.

أو عبارة عن المحسوس الحاضر القريب مطلقا؛ أي هو أظهر من كلّ مشاهد قريب.

ولا ينافي ذلك كون اسم الإشارة ونحوه موضوعا بوضع عامّ لموضوع له خاصّ، فإنّه قد يستعمل في العامّ ولو مجازا، كما يُقال في النداء: يا هذا، وفي الدعاء: يا هو.

وعلى الثاني هذا عبارة عن دين اليهود، وحينئذٍ الظرف في «كاليوم» مفعول ثان ل«رأيت» قدّم على المفعول الأوّل، وهو بتقدير كأمر اليوم. و«أمرا» مفعول أوّل اُخّر، والجملة بعده(1) استئناف بياني.

(ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللّه ِ) .

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَتِيكٍ) ؛ بفتح المهملة، وكسر المثنّاة فوق، وسكون الخاتمة.

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ) أي طلبت منه قليلاً (مِنَ الصِّفَةِ) أي بيان الكنه؛ مصدر قولك: وصفتُ فلانا: إذا ذكرتَ ما أدركتَ منه.

(فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَى الْجَبَّارُ، تَعَالَى الْجَبَّارُ) ، عن أن يوصف.

(مَنْ تَعَاطى) أي تناول (مَا ثَمَّةَ(2)) أي الكلام في صفته تعالى (هَلَكَ) . .

ص: 157


1- في حاشية «أ» : «أي الفعلية» .
2- في الكافي المطبوع : «ثمّ» .

الباب التاسع: باب في إبطال الروءية

الباب التاسع بَابٌ فِي إِبْطَالِ الرُّوءْيَةِ

فيه أحد عشر حديثا.

ونقل كلام عن هشام بن الحكم، وكأنّه في تبيين معنى رابع الباب، وفي تقوية التاسع والعاشر والحادي عشر. هذا الباب للردّ على الأشاعرة، وهم تابعون في ذلك للمجسّمة، ويجيء تحرير محلّ النزاع في رابع الباب.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ) ؛ هو الأرمني.(1)

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام ) ؛ هو الحسن العسكري عليه السلام .

(أَسْأَلُهُ: كَيْفَ يَعْبُدُ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ لاَ يَرَاهُ؟) أي بالبصر.

(فَوَقَّعَ عليه السلام )؛ بتشديد(2) القاف، أي كتب:

(يَا أَبَا يُوسُفَ، جَلَّ سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَالْمُنْعِمُ عَلَيَّ وَعَلى آبَائِي أَنْ يُرى) أي بالبصر؛ لأنّه يستلزم أن يكون ذا وضع، وسيجيء بيانه في رابع الباب.

(قَالَ: وَسَأَلْتُهُ) أي في الكتاب.

(هَلْ رَأى رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ؟) أي بالبصر ليلة المعراج كما زعمه الأشاعرة.

ص: 158


1- ذكره النمازي في مستدركات علم رجال الحديث ، ج 8 ، ص 269 ، الترجمة 16415 وقال : «لم يذكروه» ولم يذكر الأرمني .
2- في «ج» : «بشدّ» .

(فَوَقَّعَ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَرى رَسُولَهُ بِقَلْبِهِ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ مَا أَحَبَّ) . المراد بعظمته كونه أعظم من أن يرى بالبصر، وبنور عظمته الدلائل الدالّة عليها المنضمّة إلى ما سبقها من الدليل، أو عظيم خلقه كما مضى في تاسع الثامن.(1)

وقوله: «أرى» من مجاز المشاكلة(2) وقرينته «بقلبه». وحاصل الجواب: لم يره، بل رأى أنّه لا يراه، ولا يمكن لأحدٍ رؤيته.

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ) ؛ بضمّ القاف وشدّ المهملة.

(الْمُحَدِّثُ) ؛ بكسر المهملة المشدّدة.

(أَنْ أُدْخِلَهُ عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذلِكَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَالاْءَحْكَامِ حَتّى بَلَغَ سُوءَالُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ) أي تنزيه اللّه عمّا لا يليق به.

(فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: إِنَّا رُوِّينَا) ؛ بتشديد الواو بصيغة المجهول، تقول: روّيت الحديث روايةً: إذا حملته ونقلته، وروّيت زيدا الحديث ترويةً: إذا نقلت الحديث لزيد؛ أي روّينا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(أَنَّ اللّه َ قَسَّمَ(3)) ؛ بتشديد المهملة. والتقسيم: التفريق.

(الرُّوءْيَةَ وَالْكَلاَمَ) أي مجموعهما؛ فالعطف عطف انسحاب.

(بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ) ؛ كضرب، أي أفرز وأعطى.

(الْكَلاَمَ لِمُوسى) ، كما في قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللّه ُ مُوسَى تَكْلِيما»(4).

(وَلِمُحَمَّدٍ الرُّوءْيَةَ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : فَمَنِ) أي لو كانت هذه الرواية عن رسول اللّه .

ص: 159


1- أي الحديث 9 من باب النهي عن الكلام في الكيفية .
2- مجاز المشاكلة : هو ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته ذلك الغير تحقيقا أو تقديرا نحو : قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا ذكر خياطة الجبّة بلفظ الطبخ لمصاحبته طبخ الطعام . ونحو قوله تعالى : «تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ» .
3- في الكافي المطبوع : «قَسَمَ» بفتح السين .
4- النساء (4) : 146 .

صحيحة، فمن (الْمُبَلِّغُ عَنِ اللّه ِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالاْءنْسِ «لاَتُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ») هو في سورة الأنعام.(1)

(وَ«لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما») هو في سورة طه،(2) و«علما» تمييز، أي لا يحيط علمهم به؛ أي لا يدركونه.

(وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»؟) هو في سورة الشورى،(3) ومضى في رابع الثاني؛(4) يعني أنّ الرؤية يستلزم أن يكون جسما، كما سيجيء بيانه في رابع الباب، فيكون له مثل.

(أَ لَيْسَ مُحَمَّدٌ؟). رفعه على أنّه اسم «ليس» وخبره محذوف بتقدير: أليس محمّد المبلِّغ.

(قَالَ: بَلى) ، محمّد المبلِّغ.

(قَالَ: كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعا ، فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللّه ِ) : إلى طاعته (بِأَمْرِ اللّه ِ، فَيَقُولُ: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»، وَ«لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»وَ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي، وَأَحَطْتُ بِهِ عِلْما) .

إحاطة العلم به اللازمة للرؤية إدراكه على الوجه الجزئي الحقيقي والهذيّة.

(وَهُوَ عَلى صُورَةِ الْبَشَرِ؟!)، حكاية واقعة، فإنّ المخالفين ادّعوا ذلك في رواياتهم، كما يجيء في ثالث «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى».

ويحتمل أن يكون بناءً على أنّ المرئيّ لا يكون إلاّ ذا أين ووضع وشكل، وهو الصورة، فيكون له مثل من البشر مثلاً، والنشر على ترتيب اللفّ.

(أَمَا تَسْتَحْيُونَ(5)؟). الخطاب لأجل أنّ المخاطب كان معتقدا لصدق الروايات.

(مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ) . استئناف بياني. .

ص: 160


1- الأنعام (6) : 103 .
2- طآه (20) : 110 .
3- الشورى (42) : 11 .
4- أي الحديث 4 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- في «ج» : «يستحيون». وفي الكافي المطبوع : «تستحون» .

(أَنْ تَرْمِيَهُ) أي على أن ترميه.

(بِهذَا) . تقول: رميت زيدا بأمرٍ: إذا نسبته إلى زيد في الخصومة وقذفته.

(أَنْ يَكُونَ) ؛ بدل عن هذا.

(يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللّه ِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِخِلاَفِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ) . إشارةٌ إلى أنّه يصير ذا وجهين، وذا لسانين، والمخالفة باعتبار دلالة قوله: «لا تدركه» و«لا يحيطون» على امتناع الإدراك والإحاطة، فلفظة: «ثمّ» للتعجّب، أو على الاستمرار في المستقبل، ويكون الإخبار عن الرؤية بعدهما، فلفظة: «ثمّ» للتراخي في الزمان.

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ) في سورة النجم.

(«وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى»؟(1)) قالوا: أي مرّةً اُخرى، فَعْلَة من النزول اُقيمت مقام المرّة، ونصبت نصبَها؛ إشعارا بأنّ الرؤية في هذه المرّة كانت أيضا بنزول جبرئيل المفهوم من قوله قبل: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى»(2) توهّم أنّ الضمير المنصوب في «رآه» راجع إلى اللّه تعالى.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ بَعْدَ هذِهِ الاْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلى مَا رَأى؛ حَيْثُ) ؛ للتعليل.

(قَالَ: قبل قوله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى» «ماكَذَبَ الفُوءادُ ما رَأى»(3)) «ما» في الاُولى نافية، وفي الثانية موصولة بتقدير «فيما» أو مصدريّة نائبة عن ظرف الزمان؛ أي ما دام رأى. وعلى التقديرين «كذب» مأخوذ من كذبته نفسه: إذا منّته الأمانيّ وخيّلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وضمير «رأى» راجع إلى الفؤاد. واللام فيه للعهد على ظاهر ما يجيء، ويجوز أن تكون للجنس بأن يكون المراد أنّه لا يمكن أن يكون جزم الفؤاد بشيء جهلاً مركّبا، بل الجهل المركّب ظنّ، ولم يبلغ مرتبة الجزم.

وإنّما ذكر هذه مع أنّها ليست بعد هذه الآية ليعلم أنّ ما يدلّ على ما رأى غير متعلّق بالنزلة الاُخرى، وليست بيانا للمرئيّ باعتبارها، بل هو متعلّق بالنزلة التي سيق الكلام .

ص: 161


1- النجم (53) : 8 .
2- النجم (53) : 8 .
3- النجم (53) : 11 .

لإثباتها، وهي المتأخّرة زمانا المفهومة من قوله: «ماكَذَبَ الفُوءادُ ما رَأى»، لكن لمّا كان المرئيّ في كلّ من النزلتين عين المرئيّ في الاُخرى، كان الدالّ على المرئيّ في النزلة المسوق لها الكلام عينَ الدالّ على المرئيّ في النزلة الاُخرى.

(يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُوءَادُ مُحَمَّدٍ) . «ما» نافية، وظاهره أنّ اللام في الفؤاد للعهد الخارجي، ويمكن أن يكون من قبيل ذكر العمدة المسوق لها الكلام، فلا ينافي أن يكون اللام في الفؤاد للجنس.

(مَا رَأَتْ عَيْنَاهُ) . «ما» نافية، والجملة استئناف بياني للسابقة.

(ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا رَأى) أي بعد قوله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى»، وهذا موضع الاستشهاد.(1)

(فَقَالَ : «ولَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى»؛ اللام هي الموطّئة للقسم؛ أي واللّه لقد رأى الكبرى(2) من آياته. ويجوز أن تكون «الكبرى» صفةً للآيات على أنّ المفعول محذوف؛ أي ما رأى.

(فَآيَاتُ اللّه ِ غَيْرُهُ) . الفاء للبيان، حاصل الجواب إظهار غلط أبي قرّة بوجهين:

الأوّل: أنّ الرائي فؤاد محمّد، لا(3) عيناه.

والثاني: أنّ المرئيّ آية من آيات اللّه ، لا شخصه تعالى. وكأنّ تلك الآية الكبرى النصّ على إمامة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، ويجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث «باب أنّ الآيات التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ في كتابه هم الأئمّة عليهم السلام »كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «ما للّه عزّ وجلّ آية هي أكبر منّي». .

ص: 162


1- في حاشية «أ» : «في احتجاج الطبرسي رحمه الله في ذيل احتجاجات عليّ عليه السلام عند قوله : احتجاجه عليه السلام على زنديق جاء إليه مستدلاًّ بآي من القرآن متشابهة هكذا : وأمّا قوله : «وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى» يعنى محمّدا صلى الله عليه و آله حين كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق اللّه عزّوجلّ ، وقوله في آخر الآية : «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَ_تِ رَبِّهِ الْكُبْرَىآ» رأى جبرئيل في صورته مرّتين ، هذه المرّة ومرّة اُخرى ، وذلك أنّ خلق جبرئيل خلق عظيم ، فهو من الروحانيّين الذين لايدرك خلقهم ولا وصفهم إلاّ اللّه رب العالمين» . الاحتجاج ، ج 1 ، ص 243 .
2- في «ج» : + «أي» .
3- في «ج» : «ولا» .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ) أي ولا يجوز الاستناد إلى ما قلت مع هذه الآية.

(«وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»(1) فَإِذَا رَأَتْهُ الاْءَبْصَارُ ، فَقَدْ أحَاطَ(2) بِهِ الْعِلْمَ، وَوَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ) أي وقعت على ذاته تعالى.

(فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ) ؛ بشدّ المعجمة المكسورة.

(بِالرِّوَايَاتِ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، كَذَّبْتُهَا) . يُقال: كذّب به تكذيبا: إذا لم يؤمن به؛ وكذّبه تكذيبا: إذا أخبر أنّه كاذب. ففي كلام أبي قرّة إشارة إلى صدق الروايات، وفي كلامه عليه السلام تصريح بكذبها.

(وَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ) . عطف على القرآن.

(أَنَّهُ) أي من أنّه. ويمكن أن يكون «ما أجمع» مبتدأ و«أنّه» خبره.

(لاَ يُحَاطُ بِهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل.

(عِلْما) ؛ مفعول له، أو تمييز للفاعل المحذوف.

(وَ«لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»(3)حكاه ابن عبد البرّ في كتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء ، ص 82 عن الشافعي ، وحكاه الشهرستاني في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 100 عن الأشاعرة .(4) وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(5)) . المعنى أنّ المسلمين ما أوّلوا هذه الآيات، بل أجمعوا على ظواهرها، أو أنّهم أجمعوا على أنّها من القرآن.

الثالث: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوءْيَةِ وَمَا تَرْوِيهِ الْعَامَّةُ) ؛ هو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رآه ليلة المعراج(6)، وأنّ المؤمنين يرونه في الآخرة.(6)

(وَالْخَاصَّةُ) ؛ هو أنّه لا يمكن رؤيته أصلاً. .

ص: 163


1- طآه (20) : 110 .
2- في الكافي المطبوع : «أحاطت» .
3- الأنعام
4- : 103 .
5- الشورى (42) : 11 .
6- حكاه الفخر الرازي في تفسيره ، ج 25 ، ص 186 بلفظ «قيل» .

(وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَشْرَحَ لِي ذلِكَ) أي يبيّن بطلان ما ترويه العامّة، وصدقَ ما ترويه الخاصّة بدليل.

(فَكَتَبَ بِخَطِّهِ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ) أي جميع القائلين بجواز الرؤية بالعين.

(لاَ تَمَانُعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ) أي على أنّ.

(الْمَعْرِفَةَ) . اللام للعهد الخارجي؛ أي معرفة اللّه تعالى.

(مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ) . الظرف متعلّق ب«المعرفة».

(ضَرُورَةٌ) ؛ مرفوع، أي ضروريّة. والمراد أنّ فاعلها غير قابلها، بناءً على أنّها غير مولدة من الفكر في شيء.

(فَإِذَا جَازَ أَنْ يُرَى اللّه ُ بِالْعَيْنِ، وَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ ضَرُورَةً) . منصوبٌ حال عن المعرفة، أي اضطرارا؛(1) يعني فثبت بالإجماع المركّب صدقُ هذه الشرطيّة عند القائلين بجواز الرؤية، وعند المنكرين للجواز أيضا.

(ثُمَّ لَمْ تَخْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ) الاضطراريّة (مِنْ أَنْ تَكُونَ إِيمَانا) أي شرطا للإيمان الذي هو الطوع والانقياد.

(أَوْ لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ) أي ليست شرطا للإيمان.

(فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ إِيمَانا) أي شرطا للإيمان.

(فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ الاِكْتِسَابِ) أي من جهة الاختيار بأن يكون فاعلها قابلَها بناءً على أنّها مولدة من الفكر في شيء.

(لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ) أي ليست مقارنة للإيمان.

(لاِءَنَّهَا ضِدُّهُ) أي لأنّ المعرفة الاكتسابيّة ضدّ الإيمان، بناءً على أنّ المشروط بضدّ شيء ضدُّ ذلك الشيء، أو لأنّ الضرورة ضدّ الاكتساب، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد بالنسبة إلى عبد واحد اختياريّا واضطراريّا معا في وقت واحد.

(فَلاَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مُوءْمِنٌ) أي إلاّ من رآه في الدنيا، وهو نادر جدّا عند القائلين بالرؤية. .

ص: 164


1- في «ج» : «اضطرارية» .

(لاِءَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُا اللّه َ عَزَّ ذِكْرُهُ) أي لأنّ جميع المؤمنين لم يروه في الدنيا.

(وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ إِيمَانا، لَمْ تَخْلُ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الاِكْتِسَابِ) أي ما هو قبل الرؤية.

(أَنْ) أي عن أن (تَزُولَ) أي بعد الرؤية؛ لحدوث ضدّها، بناءً على اتّفاق الجميع والإجماع المركّب.

(وَلاَ تَزُولُ) ؛ بالرفع، والواو للحال. وهذا لبيان المقدّمة الاستثنائيّة، أي معلوم أنّ المعرفة الاكتسابيّة لا تزول بالرؤية.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه تعالى في كتاب عدّة الاُصول في فصل في حقيقة العلم وأقسامه:

والعلوم على ضربين: ضروريّ ومكتسب. فحدّ الضروري ما كان من فعل غير العالم به(1) على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشكٍّ أو شبهةٍ. وهذا الحدّ أولى ممّا قاله بعضهم من أنّه ما لا يمكن العالمَ دفعه عن نفسه بشكٍّ أو شبهة إذا انفرد، لأنّ ذلك تحرّز لمن اعتقد بقول النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ زيدا فيالدار، ثمّ(2) شاهده، فإنّه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه، ومع هذا فهو اكتساب، وهذا لا يصحّ عندنا؛ لأنّ العلم بالبلدان والوقائع وما جرى مجراهما هذا الحدُّ موجود فيه، وعند كثير من أصحابنا أنّه مكتسب قطعا، وعند بعضهم هو على الوقف، فلا يصحّ ذلك على الوجهين معا _ إلى قوله _ : وأمّا العلم المكتسب فحدّه أن يكون من فعل العالم به، وهذا الحدّ أولى؛ إلى آخره.(3)

(فِي الْمَعَادِ) . متعلّق بقوله: «لا تزول»؛ أي فضلاً عن أن تزول في الدنيا.

(فَهذَا دَلِيلٌ عَلى أَنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ(4) _ لاَ يُرى بِالْعَيْنِ؛ إِذِ الْعَيْنُ تُوءَدِّي إِلى مَا وَصَفْنَاهُ) من الأمر المعلوم البطلان، وهو انتفاء المؤمن في الدنيا، أو زوال المعرفة .

ص: 165


1- في المخطوطتين: «فيه». والمثبت عن المصدر.
2- في المخطوطتين : «في» . والمثبت عن المصدر .
3- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 13 ، وفي الطبعة الاُخرى، ج 1 ، ص 53 .
4- في الكافي المطبوع : - «ذكره» .

الاكتسابيّة بعد الرؤية.

الرابع: (وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الثَّالِثِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوءْيَةِ) أي عن الدليل على أنّه لا يمكن أن يرى اللّه تعالى أحد، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

(وَمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ(1)) أي وعن تحرير محلّ النزاع بين القائلين بإمكانه، والقائلين باستحالته عقلاً.

(فَكَتَبَ عليه السلام : لاَ يجُوزُ(2) الرُّوءْيَةُ) . هذا إلى قوله: «لم يصحّ الرؤية» تمهيد لتحرير محلّ النزاع؛ أي لا يمكن بحسب العادة رؤية أحدنا شيئا في الدنيا.

(مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ هَوَاءٌ) أي فضاء خال؛ شبّه به ما ليس فيه ما يمنع نفوذ البصر.

(يَنْفُذُهُ الْبَصَرُ) أي شعاع البصر، فظاهره يبطل مذهب الانطباع.(3) ويحتمل أن يُراد بنفوذ البصر في الهواء توسّله به إلى الرؤية ولو بالانطباع.

(فَإِذَا انْقَطَعَ الْهَوَاءُ عَنِ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ) . أي عن المجموع من حيث المجموع. وله في بادئ الرأي ثلاث صور: الاُولى: أن ينقطع عن كلّ منهما؛ الثانية: أن ينقطع عن الرائي فقط؛ الثالثة: أن ينقطع عن المرئيّ فقط.

(لَمْ يصِحَّ(4) الرُّوءْيَةُ) أي لم يصحّ عادةً في رؤية أحدنا شيئا، سواء كانت ممكنة بخرق العادة، أم لا.

(وَكَانَ) . عطفٌ على قوله: «لم يصحّ». وهذا إلى قوله: «وجب الاشتباه» تحرير لمحلّ النزاع. .

ص: 166


1- في الكافي المطبوع : «فيه الناس» .
2- في الكافي المطبوع : «تجوز» .
3- هو مذهب الطبيعيّين القائلين بأنّ الإبصار انطباع شبع المرئي في جزء من الرطوبة الجليوية التي يشبه البَرَد والجمد ؛ فإنّها مثل مرآة ، فإذا قابلها متلوّن مضيء انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة . الحكمة المتعالية ، ج 9 ، ص 178 .
4- في الكافي المطبوع : «تصحّ» .

(فِي ذلِكَ) أي في انقطاع الهواء عنهما (الاِشْتِبَاهُ) أي اشتباه الحقّ بالباطل على جمع من الناظرين واختلافهم في أنّه هل يجوز أن تتحقّق الصورة الثالثة أو الاُولى على خرْق العادة في رؤيتنا شيئا، أم لا؟

فمَن جوّز الثالثة، جوّز أن يرى اللّه أحد من عباده، ومَن جوّز الاُولى، جوّز أن يرى اللّه ذاته، ومَن لم يجوّز شيئا من الصورتين، لم يجوّز شيئا من الرؤيتين، وذلك مع اتّفاقهم على جواز الصورة الثانية، لا على العادة المستمرّة في رؤيتنا شيئا، فإنّ اللّه تعالى يرى الأجسام.

(لاِءَنَّ) . دليلٌ على أنّه محلّ الاشتباه ببيان ما به اشتبه الحقّ على منكريه.

(الرَّائِيَ مَتى سَاوَى الْمَرْئِيَّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ بَيْنَهُمَا فِي الرُّوءْيَةِ، وَجَبَ الاِشْتِبَاهُ) . يعني أنّ الناس إذا علموا أنّ العادة في رؤيتنا شيئا أن يكون الرائي كالمرئيّ في الاحتياج في الرؤية إلى اتّصال الهواء به، وعلموا جواز خلاف العادة في الرائي كما في الصورة المتّفق عليها، يحكم وهمهم بجوازه في المرئيّ أيضا بخرق العادة، وذلك بقياس الصورة الثالثة على الثانية، فمن تبع حكم وهمه هذا، اشتبه عليه الحقّ، وتوهّم جواز رؤية كلّ موجود بالعين. كما هو الواقع عند الأشاعرة في رؤية اللّه تعالى،(1) أو باليد والرجل ونحو ذلك كما هو احتمالٌ محضٌ عندهم، وذلك بخرق العادة.

ومعنى «الموجب» _ بكسر الجيم _ الرابطُ، والسبب الموجب هو الهواء، والمساواة فيه الاشتراك في الاحتياج إليه في الرؤية. والظرف متعلّق ب«الموجب».

ويحتمل أن يكون الموجَب بفتح الجيم، أي ما يحكم العقل بوجوبه عادةً في الرؤية، والظرف حينئذٍ مستقرّ حال عن السبب.

وتوضيح تحرير محلّ النزاع: أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة لها أنواع من الانكشاف، بعضها بواسطة إحدى الحواسّ الخمس الظاهرة بلا تصرّف، وبعضها بواسطة الحواسّ .

ص: 167


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 3 ، ص 50 ، وص 58 ؛ و ج 13 ، ص 126 _ 131 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 115 .

الخمس الظاهرة مع تصرّف ينسبه الفلاسفة إلى حواسَّ خمسٍ باطنةٍ،(1) وبعضها بلا واسطتهما، كانكشاف الإنسان عند نفسه.

وهذه الأنواع كما أنّها ممتاز بعضُها عن بعض باعتبار امتياز الآلة وعدم الآلة، وباعتبار امتياز بعض الآلات عن بعض يمتاز أيضا باعتبار نفس ذلك الانكشاف؛ مثلاً الانكشاف الحاصل لها لا بآلة ممتازٌ عمّا لها فيه آلةٌ، والانكشاف الحاصل لها بآلة البصر مثلاً ممتاز عن الانكشاف الحاصل لها بآلة اللمس.

والمراد بالرؤية هنا الانكشاف المخصوص بدون اعتبار الآلة المخصوصة، وإن كان لم يحصل لنا في الدنيا إلاّ بها.

فمذهب الأشاعرة أنّ هذا النوع من الانكشاف يجوز تعلّقه بكلّ موجود، فيجوز رؤية نحو الحرارة والأصوات والروائح والطعوم، ويصحّ أن يَرى أعمى صين بقّةَ أندلس، ويرى صوت طيرانها وريحها وطعمها ومزاجها، فقالوا: يجوز لنا أن نرى اللّه ، ونرى علمه وقدرته وسائر صفاته، كلّ ذلك بخرق العادة.(2)

(وَكَانَ ذلِكَ التَّشْبِيهَ) . هذا إلى آخره بيان للدليل العقلي على امتناع أن يرى اللّه أحد، وهو معطوف على قوله: «كان في ذلك الاشتباه».

وقوله: «ذلك» بالمعجمة على لفظ اسم الإشارة، إشارةٌ إلى الدليل العقلي، وهو الذي سأل السائل عنه أوّلاً، وهو اسم «كان» وخبرها «التشبيه». وإنّما أخّر عليه السلام بيان الدليل لأنّ الأولى في ترتيب البحث(3) تقديم تحرير محلّ النزاع على بيان الدليل على الحقّ؛ يعني وكان الدليل تشبيه دليل امتناع الرؤية عقلاً بدليل امتناع السمع واللمس والذوق والشمّ عقلاً.

بيان ذلك: أنّا نقول للقائل بجواز الرؤية على سبيل خرق العادة: هل تجوّز أنت أن .

ص: 168


1- حكاه العلاّمة في كشف المراد (تحقيق الآملي) ، ص 295 ، عن الأوائل .
2- حكاه عن الأشاعرة في المواقف ، ج 3 ، ص 199 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 138 .
3- في «ج» : «المبحث» .

يكون اللّه تعالى مسموعا وملموسا ومذوقا ومشموما على سبيل خَرْق العادة، أم لا؟ فإن قال: نعم، فقد كابر مقتضى عقله؛ لوضوح امتناعه. وإن قال: لا، نقول له: بأيّ دليل عرفت أنّه لا يجوز ولو بخرق العادة؟ ولابدّ له أن يقول: الدليل أنّه يجب في المسموع مثلاً أن يكون ذا وضع، وعَرَضا هو الصوت، فنقول له: هذا في عادتنا في السمع لِمَ لا يجوز أن يسمع غير ذي الوضع، أو غير العَرَض بخرق العادة؟ فإن قال: نعلم بالعقل أنّه لا يجوز ذلك ولو بخرق العادة، قلنا: في الرؤية مثله حرفا بحرف على مذهب من يقول: إنّ المرئيّ هو اللون والضوْء دون الجسم،(1) ونكتفي بذكر الوضع من كلامه على مذهب غيره، ونبدّل العرضَ بالجسم.

(لاِءَنَّ الاْءَسْبَابَ لاَ بُدَّ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْمُسَبِّبَاتِ(2)) . استدلالٌ على أنّ التشبيه دليل [كون[ المراد بالأسباب البراهين التي هي أسباب العلم والحكم بالنتائج، واتّصالها بالتاء المثنّاة المشدّدة المكسورة كما في النسخ. ويمكن أن يكون بسكون الخاتمة، والباء في «بالمسبّبات» بصيغة اسم فاعل باب التفعيل للإلصاق على الأوّل، وللآلة على الثاني، وهي عبارة عن مناطات دلالة البراهين على النتائج يعني أنّ البراهين العقليّة _ التي هي أسباب العلوم بالنتائج _ لابدّ من أن لاتفارق مناط سببيّتها للعلوم بالنتائج في كلّ موضع تحقّقت فيه، وهذا لضرورة وجوب اطّرادها باعتبار ما هو مناط الدلالة؛ مثلاً إذا سلّمتم أنّ زيدا حادث، وأنّ الدليل العقلي على حدوثه أنّه متغيّر، لزمكم أن تسلّموا أنّ عمرا حادث بهذا الدليل؛ إذ خصوصيّة زيد وعمرو لغو ليست داخلة في مناط الدلالة. وهذا نوع من إيناس الخصم بإصغاء الدليل.

فظهر أنّ القائلين بجواز الرؤية لم يذهب وهمهم إليه إلاّ لروايات(3) موضوعة وضع أكثرها المجسّمة، ولألفاظ من القرآن لم يفهموا معناها، فحملوا أنفسهم على المكابرة .

ص: 169


1- اُنظر شرح المواقف ، ج 8 ، ص 124 ؛ كشف المراد (تحقيق الآملي) ص 413 ، وفي طبعة الزنجاني ص 324 .
2- في الكافي المطبوع : «بالمسبَّبات» بفتح الباء المشدّدة .
3- في «ج» : «الروايات» .

لمقتضى العقل، وذلك كما تمسّكت المجسّمة بنحو قوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا»(1).

قال الزركشي من الأشاعرة في شرح جمع الجوامع:

وفي الصحيحين في حديث الرؤية «فيأتيهم اللّه في صورة لا يعرفونها فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم اللّه تعالى في صورته التي يعرفونها، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه».(2) قال الأئمّة: المعنى أنّهم يرون اللّه على ما كانوا يعتقدونه من الصفات التي هو عليها من تنزيهه وتقديسه. وفي حديث آخر: وكيف يعرفونه؟ قال: «إنّه لا شبيه له». انتهى.(3)

يا لهذا التأويل، سبحانه وتعالى عمّا يصفون، يجيء في كلام هشام ما يشبه أن يكون شرحا آخر غير ما ذكرنا لمثل هذا الحديث.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ) على بني اُميّة بدون إذن الأئمّة عليهم السلام .

(فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَيَّ شَيْءٍ تَعْبُدُ؟ قَالَ: اللّه َ تَعَالى.(4) قَالَ: رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: بَلْ) ؛ إضراب عن الرؤية. (لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ) أي بدون قصد مجاز.

(وَلكِنْ) . استدراكٌ لعدم مشاهدة الأبصار. (رَأَتْهُ الْقُلُوبُ) أي آمنت به (بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) ؛ جمع حقيقة، وهي الراية تكون في العسكر علامةً لهم، والمراد هنا علامات صحّة الإيمان موافقا لما مضى في «كتاب العقل» في أوّل «باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» وهو آخر الأبواب من قوله: «إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً»، وما يجيء في «كتاب .

ص: 170


1- الفجر (89) : 22 .
2- صحيح البخاري ، ج 7 ، ص 2 _ 5 كتاب الرقاق ؛ و ج 8 ، ص 179 كتاب التوحيد ؛ صحيح مسلم ، ج 1 ، ص 113 ، باب معرفة طريق الرؤية .
3- اُنظر شرح مسلم للنووي ، ج 3 ، ص 19 .
4- في «ج» : - «تعالى» .

الإيمان والكفر» في أحاديث «باب حقيقة الإيمان واليقين» وهو السابع والعشرون.(1)

(لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ) . استئناف بياني، تقول: قست الشيء بالشيء: إذا قدّرته على قدره؛ أي لا يعرف ذاته بالحدّ التامّ، ويمكن تخفيف الراء وتشديدها.

(وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُشَبَّهُ) . يجوز تخفيف الموحّدة بأن يكون بصيغة المعلوم، وتشديدُها بأن يكون بصيغة المجهول.

(بِالنَّاسِ) أي بشيء أصلاً. وتخصيصه بالذِّكر للسجع، ولأنّه الواقع عند المشبّهة، كما مضى في ثاني الباب من قوله: «وهو على صورة البشر»، والتشبيه القول بأنّ موجودا في الخارج مشترك معنى بينهما، كما يجيء في أوّل السابع عشر(2) من قوله: «إنّما التشبيه في المعاني» إلى آخره.

(مَوْصُوفٌ) ؛ من وصفت الشيء: إذا بيّنته بما فيه.

(بِالاْآيَاتِ) . الآية: العلاّمة، وجملة حروف من كتاب اللّه ، والأصل أَوَيَة بالتحريك، والأظهر هنا الثانية(3)، ليكون إشارة إلى النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه، وليكون قوله:

(مَعْرُوفٌ بِالْعَلاَمَاتِ) ، تأسيسا.

(لاَ يَجُورُ) ؛ بصيغة المعلوم من الجور، وهو الميل عن الصواب، أو بصيغة المجهول من التجوير، وهو النسبة إلى الجور.

(فِي حُكْمِهِ ) : في قضائه وقدره، ويدخل فيه الأحكام الشرعيّة أيضا.

(ذلِكَ اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(4))؛ بالإفراد في قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم، وبالجمع في قراءة الباقين.(5) .

ص: 171


1- الكافي ، ج 2 ، ص 52 ، باب حقيقة الإيمان واليقين .
2- أي الحديث 1 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2275 (أيا) .
4- الأنعام (6): 124.
5- حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان ، ج 4 ، ص 153 .

وهذا إشارة إلى أنّه عليه السلام من أهل بيت الرسالة العالمين بجميع رسالات اللّه تعالى.(1)

السادس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : جَاءَ حِبْرٌ) من أحبار اليهود (إِلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ حِينَ عَبَدْتَهُ؟) أي حين صرت عبدا له، أو حين شرعت في عبادته كالصلاة.

(قَالَ : فَقَالَ: وَيْلَكَ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ) . زيادة «كنت» للدلالة على أنّه يستقبح ذلك.

(رَبّا لَمْ أَرَهُ) . أخرج كلام السائل على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى المبالغة في استحالة الرؤية بالبصر، فكأنّه لا يقصد.

(قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ، لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ، وَلكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) . مضى شرحه آنفا.

السابع: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ،قَالَ) أي عاصم (ذَاكَرْتُ) . المذاكرة: المكالمة.

(أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِيمَا يَرْوُونَ) ؛ بواوين، أي يروي المخالفون عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وفي بعض النسخ بواو واحدة؛ أي يعتقد المخالفون.

(مِنَ الرُّوءْيَةِ، فَقَالَ: الشَّمْسُ) أي نورها (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْحِجَابِ، وَالْحِجَابُ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ السِّتْرِ) ؛ بكسر المهملة وسكون المثنّاة فوقُ. والفرق بين الحجاب والستر أنّ الحاجب للمَلِك قد يكون في داره بعيدا بأبواب عنه، والستر مرخى عنده، فاستُعيرا للقريب والأقرب مرتبةً، وهذا إلزام على المخالفين، فإنّه في رواياتهم،(2) ويجيء في ثالث .

ص: 172


1- في حاشية «أ»: «المراد بها على ما في الصافي كتب اللّه تعالى أو أجزاؤها كالسور والآيات» .
2- فتح الباري ، ج 13 ، ص 354 ، باب قول اللّه تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» ؛ تفسير ابن كثير ، ج 4 ، ص 290 ، تفسير سورة الرحمن ؛ الدر المنثور ، ج 6 ، ص 290 ، تفسير سورة القيامة .

الحادي عشر(1): «احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير سترٍ مستور». وتفسير العرش والكرسيّ يجيء في «باب العرش والكرسيّ».

(فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) في روايتهم. إشارةٌ إلى أنّهم كذبوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترويجا لرأيهم.

(فَلْيَمْلَؤُوا أَعْيُنَهُمْ مِنَ الشَّمْسِ) . مضى شرح مثله في عاشر «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة».

(لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) ؛ حاليّة. والدون: أدنى مكانا من الشيء. والسحاب بالفتح، إن اُريد به الغيم لم يناسب المقام، فلعلّ المراد به ما ينسحب على وجه الأرض من الأجزاء البخاريّة المتوسّطة بين الناظر والشمس بُعَيدَ الطلوع، وقُبيلَ الغروب، فإنّه يمكن أن يملأ العين من الشمس فيهما، فهو من سحبه _ كمنعه _ : إذا جرّه على وجه الأرض.

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لَمَّا أُسْرِيَ) ؛ بصيغة المجهول.

(بِي إِلَى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئِيلُ مَكَانا لَمْ يَطَأْهُ قَطُّ جَبْرَئِيلُ) . وضع الظاهر موضع الضمير لتفخيم المكان، فوطئه ببركته صلى الله عليه و آله ، أو بلغ به إلى حدّه.

(فَكُشِفَ لَهُ) ، بصيغة المجهول.

(فَأَرَاهُ اللّه ُ) ؛ من باب الالتفات؛ أي فكشف لي فأراني اللّه ، أو هو نقل بالمعنى.

(مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ) . المراد جسم هو أعجب ما يكون من الأجسام، وأَدَلُّها على عظمة اللّه تعالى موافقا لما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته».(2) أو المراد النور المنقسم إلى أنوار أربعة، كما يجيء في أوّل «باب العرش والكرسيّ». أو المراد النصّ على إمامة أمير المؤمنين موافقا لآية سورة النجم: «وَلَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى»(3)، ومضى في ثاني الباب. .

ص: 173


1- أي الحديث 3 من باب النهي عن الجسم والصورة .
2- الكافي، ج 1، ص 442، باب مولد النبي صلى الله عليه و آله ووفاته، ح 13.
3- النجم (53) : 18 .

(مَا أَحَبَّ) أي ما شاء اللّه ، أو ما أحبَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وهذا تكذيب لروايات المخالفين أنّه صلى الله عليه و آله رأى(1) اللّه ببصره.(2)

وأمّا قوله (فِي قَوْلِهِ تَعَالى(3): «لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»(4)القصص (28) : 79 .(5)) فقيل: إنّه كلام مستأنف من محمّد بن يعقوب عنوانا للأحاديث التي بعده؛ أي الكلام في قوله: «لا تدركه» انتهى.(6)

والأظهر على هذا أن يقدّم عليه ما يرويه عن هشام بن الحكم.

ويحتمل أن يكون تتمّة كلام الرضا عليه السلام ويكون «في» بمعنى «مع» نحو: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ».(6)

التاسع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ»(7) قَالَ: إِحَاطَةُ الْوَهْمِ) . يعني المراد بالأبصار ما يعمّ أبصار العيون وأبصار القلوب، وبالإدراك التخيّل والتمثّل عند القلوب بأن يجعل له حدّا كإدراكنا للبلاد البعيدة.

(أَ لاَ تَرى إِلى قَوْلِهِ). استشهادٌ بما بعد الآية في سورة الأنعام على أنّ البصر هنا غير حاسّة الرؤية التي في العين.

(«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ»؟ لَيْسَ يَعْنِي) بقوله: «بصائر» (بَصَرَ الْعُيُونِ) أي ما أخذ».

ص: 174


1- في «ج» : «أري» .
2- تفسير القرطبي ، ج 7 ، ص 56 .
3- فى النسختين: - «تعالى».
4- الأنعام
5- : 103 .
6- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد رحمه الله (منه)» . وانظر الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني ، ص 334 .
7- في حاشية «أ» : تمام الآية في سورة الأنعام هكذا «لاَّ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَ_رَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ى وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ».

من البصر بمعنى بصر العيون؛ أي حاسّة الرؤية التي في العيون، فإنّ البصائر جمع بصيرة بمعنى الحجّة أو الاستبصار، فليس مشتقّا من بصر العيون، كما في قوله: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاْءَبْصَارِ»(1)، وفي الدعاء: «يا مقلّب القلوب والأبصار».(2)

(«فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ») تتمّة الآية.

(لَيْسَ يَعْنِي) بقوله: «أبصر» المأخوذ (مِنَ الْبَصَرِ بِعَيْنِهِ) أي البصر الذي هو بعينه، أي في عينه. أو المراد أنّه ليس من البصر المعيّن المخصوص وهو حاسّة الرؤية. ويحتمل أن يكون الأصل من «أبصر بعينه» فما في النسخ تصحيف.

(«وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْها»)(3) تتمّة الآية.

(لَيْسَ يَعْنِي عَمَى الْعُيُونِ) .

وقوله: (إِنَّمَا عَنى إِحَاطَةَ الْوَهْمِ) ، تأكيدٌ لقوله: ليس يعني بصر العيون.

(كَمَا يُقَالُ). استشهادٌ له حين التأكيد.

(فُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالشِّعْرِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالْفِقْهِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالدَّرَاهِمِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالثِّيَابِ) . ومراد القائل مستبصر بها ببصر قلبه.

(اللّه ُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرى بِالْعَيْنِ) . فالاقتصار على عدم إدراك بصر العين اكتفاء ببيان أمرٍظاهرٍ كأنّه لا حاجة إلى بيانه.

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ اللّه ِ: هَلْ يُوصَفُ؟) أي هل يصفه العبد من عند نفسه بغير ما وصف تعالى به نفسه فيقول: إنّه جسم أو صورة؟

(فَقَالَ: أَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلى ، قَالَ: أَ مَا تَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالى: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ وَهُوَ .

ص: 175


1- الحشر (59) : 2 .
2- مصباح المتهجد ، ص 132 و 365 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 248 .
3- الأنعام (6) : 104 .

يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»؟(1) قُلْتُ: بَلى، قَالَ: فَتَعْرِفُونَ الاْءَبْصَارَ؟، قُلْتُ: بَلى، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: أَبْصَارُ الْعُيُونِ) أي حواسّ الرؤية التي هي في العيون.

(فَقَالَ: إِنَّ أَوْهَامَ الْقُلُوبِ) أي أبصار القلوب. وإنّما سمّاها أوهاما لأنّ الإدراك لا يستعمل إلاّ في التخيّل والتوهّم.

(أَكْبَرُ) ؛ بالموحّدة، أي أهمّ نفيا، أو أعمّ تعلّقا، كما يجيء في حادي عشر الباب.

(مِنْ أَبْصَارِ الْعُيُونِ، فَهُوَ) أي فاللّه ، أو فالمراد.

(لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَوْهَامَ) . مرّ شرحه في تاسع الباب.

الحادي عشر: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ) أي الثاني («لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»؟(2)). هو على سبيل الاستفهام التعجّبي، لا الإنكاري؛ أي ألا تدركه الأبصار؟

(فَقَالَ: يَا أَبَا هَاشِمٍ، أَوْهَامُ الْقُلُوبِ أَدَقُّ) أي ألطف وأسرع تعلّقا.

(مِنْ أَبْصَارِ الْعُيُونِ؛ أَنْتَ) . استئنافٌ بياني.

(قَدْ تُدْرِكُ بِوَهْمِكَ السِّنْدَ) ؛ بكسر السين: بلاد، أي تتصوّرها بحدودها ووضعها وقربها وبُعدها بالنسبة إلى مكانك وشكلها ونحو ذلك بالقياس إلى ما رأيته من البلاد.

(وَالْهِنْدَ) . هي أيضا بلاد.

(وَالْبُلْدَانَ) أي وسائر البلدان.

(الَّتِي) ؛ صفة البلدان.

(لَمْ تَدْخُلْهَا) . بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب نصر.

(وَلاَ تُدْرِكُهَا) . الواو للحال، أو للعطف على «تدرك» والضمير للبلدان.

(بِبَصَرِكَ) أي حين تدركها بوهمك. .

ص: 176


1- الأنعام (6) : 103 .
2- الأنعام (6) : 103 .

(وَأَوْهَامُ الْقُلُوبِ لاَ تُدْرِكُهُ، فَكَيْفَ أَبْصَارُ الْعُيُونِ؟!). حمل أبو هاشم الأبصار في نحو قوله تعالى: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ» على أبصار العيون، وتعجّب من عدم إدراك أبصار العيون له، فأجاب عليه السلام بما يرفع تعجّبه، ولم يتعرّض لكون المراد بالأبصار ما حمله عليه، أو أعمّ نقل كلام هشام بن الحكم.

(عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ) .(1) الظاهر أنّ صدر كلام هشام إلى قوله: «ولا في حَيّزه» تمهيد لشرح مثل ما مضى في رابع الباب، وقوله: «وإدراك البصر» إلى قوله: «في إنفاذ بصره» شرح لمثل ما مضى في رابع الباب، ولعلّه سمع مثله من بعض الأئمّة الماضين، فإنّه لم يبلغ زمن أبي الحسن الثالث عليه السلام ، ولكن شرحه من عند نفسه بغير ما ذكرنا في شرحه. وقوله: «فأمّا القلب» إلى آخره لعلّه لتقوية التاسع والعاشر والحادي عشر من الباب.

(قَالَ: الاْءَشْيَاءُ لاَ تُدْرَكُ) أي إدراكا على وجه الجزئي الحقيقي والهذيّة، أو على ما يجري مجرى ذلك كتخيّل البلدان كما مرَّ آنفا.

(إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ: بِالْحَوَاسِّ، وَالْقَلْبِ؛ وَالْحَوَاسُّ إِدْرَاكُهَا عَلى ثَلاَثَةِ مَعَانٍ) أي أقسام:

(إِدْرَاكا) ؛ منصوب ب«أعني» المقدّرة.

(بِالْمُدَاخَلَةِ ، وَإِدْرَاكا بِالْمُمَاسَّةِ، وَإِدْرَاكا بِلاَ مُدَاخَلَةٍ وَلاَ مُمَاسَّةٍ. فَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ الَّذِي بِالْمُدَاخَلَةِ، فَالاْءَصْوَاتُ) تدخل في الصماخ وتُدرك.

(وَالْمَشَامُّ) ؛ جمع مشمومٍ تنفصل من الجسم ذي الرائحة أجزاء لطيفة فتدخل المنخر فتدرك.

(وَالطُّعُومُ)؛ تنفصل من ذي الطعم أجزاء لطيفة، وتغوصُ في جرم اللسان مع الريق، فتدرك، أو يدخُل ذو الطعم نفسه في الفم. .

ص: 177


1- جاء في الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني ، ص 336 ما نصّه : «لما أورد الأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام في نفي الإبصار بالعيون وأوهام القلوب ، ذيّل الباب بما نقل عن هشام بن الحكم الذي هو رأس أصحاب الصادق عليه السلام ورئيسهم في الكلام الذي إنّما يظنّ به أنّ كلامه مأخوذ عن أحاديث أهل البيت وأقوالهم عليهم السلام » .

(وَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ بِالْمُمَاسَّةِ، فَمَعْرِفَةُ الاْءَشْكَالِ مِنَ التَّرْبِيعِ وَالتَّثْلِيثِ، وَمَعْرِفَةُ اللَّيِّنِ) ؛ بالكسر مصدر باب ضرب.

(وَالْخُشْنِ(1)) ؛ بضمّ الخاء وسكون الشين المعجمتين، مصدر باب حسن كالخشنة بالضمّ والخشونة.

(وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ بِلاَ مُمَاسَّةٍ وَلاَ مُدَاخَلَةٍ، فَالْبَصَرُ) أي فإدراك البصر (فَإِنَّهُ) أي البصر (يُدْرِكُ الاْءَشْيَاءَ بِلاَ مُمَاسَّةٍ وَلاَ مُدَاخَلَةٍ فِي حَيِّزِ غَيْرِهِ) ؛ بأن يصير شيء من البصر في حيّز المرئيّ.

(وَلاَ فِي حَيِّزِهِ) أي حيّز البصر، بأن يدخل شيء من المرئيّ في حيّز البصر.

(وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لَهُ سَبِيلٌ) أي ما يمكن حركة شعاع البصر فيه.

(وَسَبَبٌ) أي ما يتوصّل به إلى الرؤية.

(فَسَبِيلُهُ الْهَوَاءُ ) أي الفضاء الخالي، يُقال لكلّ خال: هواء؛ شُبّه المكان _ الذي فيه جسم شفّاف غير مرئيّ _ بالخالي.

(وَسَبَبُهُ الضِّيَاءُ، فَإِذَا كَانَ السَّبِيلُ مُتَّصِلاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ) أي لم يكن بينهما جسم كثيف أصلاً.

(وَالسَّبَبُ قَائِمٌ) أي موجود، وهي جملة حاليّة.

(أَدْرَكَ مَا يُلاَقِي) أي ما يلاقيه شعاعه.

(مِنَ الاْءَلْوَانِ وَالاْءَشْخَاصِ) أي الأجسام الكثيفة.

(فَإِذَا حُمِلَ الْبَصَرُ عَلى مَا لاَ سَبِيلَ لَهُ فِيهِ، رَجَعَ رَاجِعا ) . يُقال: حملت زيدا على كذا: إذا كلّفته به. والمعنى: على رؤية ما لا سبيل له فيه؛ أي ما ليس فيه مسامٌّ وفُرَجٌ صغيرة جدّا يدخل فيها شعاع البصر في الجملة، ف«ما» عبارة عن المرآة ونحوها، ولو كان بدل «فيه» «إليه» كان «ما» عبارةً عن باطن المرآة، وكان أوفق لقوله: «فإذا حمل القلب» إلى .

ص: 178


1- في الكافي المطبوع : «الخَشِن» بفتح الخاء وكسر الشين .

آخره، لكن ينتقض بصورة توسّط الجسم الكثيف بين المحمول والمحمول عليه.

(فَحَكى) أي رأى البصر، وسمّاه حكاية لأنّه بواسطة.

(مَا وَرَاءَهُ ) أي ما وراء البصر بمعنى شعاع البصر. و«ما وراءه» : ما يلاقيه في رجوعه وإن كان متوسّطا بين الناظر والمحمول عليه.

(كَالنَّاظِرِ فِي الْمِرْآةِ).

وقوله: (لاَ يَنْفُذُ بَصَرُهُ فِي الْمِرْآةِ) . استئنافٌ بياني.

(فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ، رَجَعَ رَاجِعا) . حالٌ باعتبار أنّ المراد نوعا(1) من الراجع، فإنّ الرجوعات متفاوتة بحسب تفاوت المَرائي والصفاء والجلاء، فكذلك الراجعات.

(يَحْكِي مَا وَرَاءَهُ ، وَكَذلِكَ النَّاظِرُ فِي الْمَاءِ الصَّافِي ) الذي لا يُرى تحتُه.

(يَرْجِعُ) أي يرجع شعاع بصره (رَاجِعا فَيَحْكِي مَا وَرَاءَهُ؛ إِذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ بَصَرِهِ).

لا يخفى أنّه إذا كان مراد هشام إقامة البرهان على عدم إمكان رؤية اللّه تعالى، لم يكد يتمّ؛ لأنّ ما ذكره على طبق العادة في رؤيتنا، والقائلون بإمكان رؤيته تعالى لا يقولون إنّه على طبق العادة.

(فَأَمَّا الْقَلْبُ فَإِنَّمَا سُلْطَانُهُ) أي سلطنته بالإدراك على الوجه(2) الجزئي، أو ما يجري مجراه من التخيّل.

(عَلَى الْهَوَاءِ) أي على ما في الهواء. والمراد بالهواء الفضاء مطلقا؛ أي البُعد الذي فيه الأجسام.

(فَهُوَ يُدْرِكُ جَمِيعَ مَا فِي الْهَوَاءِ وَيَتَوَهَّمُهُ، فَإِذَا حُمِلَ) ؛ بصيغة المجهول.

(الْقَلْبُ عَلى مَا لَيْسَ) أي على إدراك ما ليس (فِي الْهَوَاءِ مَوْجُودا، رَجَعَ رَاجِعا فَحَكى مَا فِي الْهَوَاءِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْمِلَ قَلْبَهُ عَلى) إدراكِ (مَا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الْهَوَاءِ مِنْ .

ص: 179


1- كذا في النسخ .
2- في «ج» : «وجه» .

أَمْرِ التَّوْحِيدِ) . الظرف متعلّق ب«ليس» أي من جهة أمر التوحيد، والمعنى أنّه لولا ذلك لما استقام أمر التوحيد.

(جَلَّ اللّه ُ وَعَزَّ) عن أن يكون في الهواء. وهو استئناف بياني لأمر التوحيد.

(فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذلِكَ، لَمْ يَتَوَهَّمْ إِلاَّ مَا فِي الْهَوَاءِ مَوْجُودٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي أَمْرِ الْبَصَرِ ؛ تَعَالَى اللّه ُ أَنْ يُشْبِهَهُ خَلْقُهُ).

لا يُقال: أمثال هذه قياسات شعريّة لا تصلح للاستدلال.

لأنّا نقول: ليس المقصود الاستدلال، بل التنظير والتقريب إلى الأفهام، والمقصود بالبيان وهو ما يفهم من قوله: «لا ينبغي للعاقل» إلى آخره. ومن قوله: «فإنّه إن فعل ذلك» إلى آخره، أمرٌ بيّن لا حاجة له إلى استدلال.

قيل: لا يُقال: ينتقض ذلك بإدراك النفس الناطقة ذاتها على وجه جزئي.

لأنّا نقول: الكلام في إدراك النفس الناطقة غيرها، أو الكلام في العلم الحصولي لا الحضوري، وهو الذي يكفي في تحقّقه مجرّد حضور المعلوم عند العالم؛ أي عدم غيبوبته عنه.

أو المراد أنّ القلب يتمكّن من إدراك(1) عالم الأجسام على وجه التخيّل والتمثيل، ولايتمكّن من إدراك غير عالم الأجسام على ذلك الوجه. انتهى.(2)

ويمكن الجواب أيضا بمنع تجرّد النفس الناطقة. .

ص: 180


1- في «ج» : + «غير» .
2- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 672 .

الباب العاشر: باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى

الباب العاشر بَابُ النَّهْيِ عَنِ الصِّفَةِ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ تَعَالى(1)

فيه اثنا عشر حديثا.

«الصفة» مصدر قولك: وصفت فلانا: إذا بيّنته، سواء كان باسم جامد محض، مثل: هذا بلّور، أم بمشتقّ، نحو: هذا فاضل، أم بما يجري مجرى المشتقّ، مثل: هذا الذي ضرب زيدا.

«غير» هنا بمعنى المنافي، نحو آية سورة النساء: «بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ».(2)

و«ما» الموصولة للعهد أو للجنس. وعلى الأوّل عبارة عن نحو قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(3) ممّا يدلّ على نفي تشبيهه تعالى بالأجسام، كأن يُقال: إنّه تعالى كالبلّورة ونحو ذلك، فليس المقصود بيان عدم استقلال العقل بمعرفة أنّه موجود وواجب الوجود، وأنّه بريءٌ من كلّ نقص في صفات ذاته وصفات فعله، وكذا أنّه عالم وقادر ونحو ذلك.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَتِيكٍ) ؛ بفتح المهملة، وكسر المثنّاة فوق، وسكون الخاتمة.

(الْقَصِيرِ، قَالَ: كَتَبْتُ عَلى يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّ قَوْما بِالْعِرَاقِ يَصِفُونَ اللّه َ بِالصُّورَةِ) أي بالشكل (وَبِالتَّخْطِيطِ) أي بامتياز الأعضاء بعضها عن بعض.

ص: 181


1- في النسختين : «جلّ تعالى» .
2- النساء (4) : 81 .
3- الشورى (42) : 11 .

(فَإِنْ رَأَيْتَ) ؛ من الرأي.

(جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّوْحِيدِ) أي من تنزيه اللّه تعالى عمّا يوجب شركا. وجزاء الشرط محذوف، أي فإن رأيت ذلك أحسنت.(1)

(فَكَتَبَ إِلَيَّ: سَأَلْتَ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ عَنِ التَّوْحِيدِ وَمَا) أي وعمّا.

(ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ) ؛ موصولة.

(قِبَلَكَ)؛ بكسر القاف وفتح الموحّدة، أي عندك. والعائد مبتدأ محذوف،(2) أي هو، والظرف خبر عنه.

(فَتَعَالَى) أي فالجواب تعالى (اللّه ُ) عن أن يوصف بالصورة وبالتخطيط.

(الَّذِي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(3)) . مضى شرحه في رابع الثاني.(4)

(تَعَالى عَمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، الْمُشَبِّهُونَ اللّه َ بِخَلْقِهِ) في الصورة والتخطيط ونحوهما.

(الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ) . لمّا فرغ من الجواب عن السؤال عمّا ذهب إليه مَنْ قِبلَهُ، شرَعَ في الجواب عن السؤال عن المذهب الصحيح، وقال:

(فَاعْلَمْ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي التَّوْحِيدِ مَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ صِفَاتِ اللّه ِ جَلَّ وَعَزَّ) . إشارةٌ إلى قاعدة مذكورة في قوله تعالى في سورة النحل: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ»(5)، فإنّه يدلّ على أنّ المسائل، أي القضايا الغير .

ص: 182


1- في حاشية «أ» : «قوله : أحسنت ، لعلّ معناه جدت بكتابته ، نظير قوله تعالى «أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» إذا لو كان معناه فعلت فعلاً حسنا كما في قولك : إن ضربت زيدا أحسنت ، لم يناسب المقام . ولو قدّر الجزاء كتبته أو مننت عليّ بكتابته أو نحوها كان أظهر كما لا يخفى (مهدي)» .
2- في حاشية «أ» : «قوله : مبتدأ محذوف إلى آخره ، الظاهر أنّه قدّر متعلّق الظرف مفردا ، فيكون التقدير : من هو حاصل قبلك ، إذ لو قدّره جملة لم يحتج إلى تقدير المبتدأ ، ويكون التقدير حينئذٍ من حصل قبلك ، ويكون العائد هو فاعل حصل . وهو أولى ممّا فعله قدّس سره ، إذ يلزم على ما قدّره حذف صدر صلة غير ، أي مع عدم طول الصلة . وهو ضعيف عند جمهور النحاة (مهدي)» .
3- الشورى (42) : 11 .
4- أي في الحديث 4 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- النحل (16) : 43 _ 44 .

الضروريّة(1) على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يمكن أن يستنبط من البيّنات، بحيث لا يبقى اختلاف حقيقي فيه بين المتخاصمين.

الثاني: ما ليس كذلك، وهو مذكور في الزبر؛ أي في محكمات القرآن.

الثالث: ما عدا الأوّلين.

وعلى(2) أنّ حكم الأوّل وجوب الرجوع إلى البيّنات، أو إلى الزبر إن وجدت فيه بخصوصه، أو إلى سؤال أهل الذكر إن تيسّر، أو السكوت. وحكم الثاني وجوب الرجوع إلى الزبر إن وجدت فيه بخصوصه، أو إلى سؤال أهل الذكر إن تيسّر، أو السكوت. وحكم الثالث وجوب سؤال أهل الذكر، أو السكوت. وأمّا قوله:

(فَانْفِ عَنِ اللّه ِ) ؛ إلى قوله: «الواصفون» لبيان(3) القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة.

(الْبُطْلاَنَ) أي أن يكون نفس فرد الوجود، ولا يكون له مائيّة وإنّيّة.

(وَالتَّشْبِيهَ) أي أن يكون كالأجسام في الصورة والتخطيط ونحوهما.

(فَلاَ نَفْيَ وَلاَ تَشْبِيهَ ) أي لا يصحّان.

(هُوَ اللّه ُ الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ) . ناظرٌ إلى النفي.

(تَعَالَى اللّه ُ عَمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ) . ناظرٌ إلى التشبيه. وأمّا قوله: _

(وَلاَ تَعْدُوا) ؛ بسكون العين المهملة وتخفيف الدال المهملة المضمومة، أي لا تخاصموا، أو(4) لا تجاوزوا في صفته.

(الْقُرْآنَ؛ فَتَضِلُّوا بَعْدَ الْبَيَانِ) _ فلبيان القسم الثاني الذي وجد فيه محكمات القرآن بخصوصه، والقسم الثالث الذي وجد فيه محكمات القرآن(5) بعمومه. .

ص: 183


1- في «ج» : «البديهية» .
2- عطف على «أنّ المسائل» إلى آخره .
3- في حاشية «أ» : «فلبيان ظ» .
4- في «ج» : «و» .
5- في «ج» : - «بخصوصه والقسم الثالث الذي وجد فيه محكمات القرآن» .

والمراد بالبيان بيان محكمات القرآن طريقة العلم فيهما، كما مرّ في آية سورة النحل، وبالضلال الحكم بدون سلوك طريقة العلم المذكورة في القرآن فيهما.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ اللّه َ لاَ يُوصَفُ بِمَحْدُودِيْهِ(1)) ؛ بسكون الخاتمة، والضمير الراجع إلى اللّه ، والباء للآلة؛ أي بقياسه على محدوديه؛ أي الأشخاص المقدّرة بمقدار لا تتجاوزه بتدبيره تعالى.

(عَظُمَ) ؛ كحسن.

(رَبُّنَا مِنَ(2) الصِّفَةِ) ، اللام للعهد؛ أي الوصف بمحدوديه.

(وَكَيْفَ(3) يُوصَفُ بِمَحْدُودِيْهِ(4) مَنْ لاَ يُحَدُّ) . الاستفهام للإنكار، والفعلان بصيغة المجهول.

وهذا استدلال على أنّه تعالى لا يوصف بالقياس على محدوديه، لو كان موصوفا كذلك لكان محدودا؛ أي ذا مقدار لم يتجاوزه؛ ضرورةَ أنّ المجرّد لا يقاس بالجسماني.

(وَ«لاَ تُدْرِكُهُ»). عطف تفسير للاستدلال من سورة الأنعام، على أنّه لا يحدّ يعني لا تصيبه على حدة.

(«الاْءَبْصَارُ») أي أبصار العيون وأبصار القلوب.

(«وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ»). اللام للحصر؛ أي هو المجرّد. ويجيء تفسير اللطيف في الأوّل والثاني من السابع عشر(5) بالفاعل بلا علاج، وهو يرجع إلى ما ذكرنا.

(«الْخَبِيرُ»(6)؟!) بكلّ شيء حتّى الغيب الذي لا يعلمه الجسماني من عند نفسه. .

ص: 184


1- في الكافي المطبوع : «بمحدوديّة» بتشديد الياء .
2- في الكافي المطبوع : «عن» .
3- في الكافي المطبوع : «فكيف» .
4- في الكافي المطبوع : «بحمدوديّة» بتشديد الياء .
5- أي الحديث 1 و 2 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .
6- الأنعام (6) : 103 .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازِ) ؛ بفتح المعجمة والزاءين المعجمتين اُولاهما مشدّدة وبينهما ألف: بيّاع الخزّ.

(وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالاَ: دَخَلْنَا عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَحَكَيْنَا لَهُ أَنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله رَأى رَبَّهُ فِي هَيْئَةِ(1) الشَّابِّ) أي حكينا له هذه الرواية تصديقا لها.

وظاهر هذا أنّ الراويين ذهبا إلى مذهب أبي الخطّاب في الغلوّ، حيث كان يقول: جعفر بن محمّد الصادق إله وأنا رسوله،(2) فتوهّما(3) موافقة هشام بن سالم وصاحبيه لهما، مع أنّهم بُرآء من هذا القول؛ فهذا الحديث لا يوجب قدحا فيهم.

(الْمُوَفَّقِ) ؛ بصيغة اسم المفعول، من التوفيق، وهو سلب المنافرة بين شيئين فصاعدا؛ أي المتوافق الأعضاء متناسبها الذي كلّ واحدٍ من أعضائه موافق للباقي ومناسب له. والأصل «الموفّق فيه».

(فِي سِنِّ أَبْنَاءِ ثَلاَثِينَ سَنَةً) . الظرف متعلّق بالموفّق، فإنّ التوفيق في كلّ سنّ غير التوفيق في سنٍّ آخَرَ؛ مثلاً إذا لم يكن على وجه ابن ثلاثين لحيةٌ، ما كان موفّقا.

(وَقُلْنَا: إِنَّ هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ وَصَاحِبَ الطَّاقِ) ؛ هو محمّد بن النعمان أبو جعفر الأحول الصرّاف في طاق المحامل بالكوفة.(4)

(وَالْمِيثَمِيَّ) ؛ بكسر الميم وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة: أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم.(5)

(يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَجْوَفُ إِلَى السُّرَّةِ وَالْبَقِيَّةُ) أي من السرّة إلى الرجلين. .

ص: 185


1- في الكافي المطبوع : + «في صورة» .
2- الوافي بالوفيات ، ج 13 ، ص 215 .
3- في «ج» : «وتوهّما» .
4- رجال النجاشي ، ص 325 ، الرقم 886 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 237 ، الرقم 12 ؛ رجال ابن داود ، ص 180 ، الرقم 1463 .
5- اختيار معرفة الرجال ، ج 2 ، ص 768 ، الرقم 889 ؛ رجال الطوسي ، ص 332 ، الرقم 29 .

(صَمَدٌ) أي مصمت ليس له جوف.

(فَخَرَّ سَاجِدا لِلّهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا عَرَفُوكَ) . ضمير الجمع للراويين وأمثالهما.

(وَمَا(1) وَحَّدُوكَ) أي ما أفردوك بالعبادة إذ(2) عبدوا جسما، وهو غيرك البتّة.

(فَمِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَصَفُوكَ) . الوصف إذا لم يتعدّ بالباء يُراد به بيان الشيء بالاسم الجامد المحض كالجسم، وإذا تعدّى بالباء يُراد به أعمّ من ذلك.

(سُبْحَانَكَ لَوْ عَرَفُوكَ، لَوَصَفُوكَ بِمَا وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ) أي في القرآن، وهو نفي البطلان والتشبيه، كما مرّ في أوّل الباب.

(سُبْحَانَكَ كَيْفَ طَاوَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ) ؛ مصدريّة. والمصدر نائب ظرف الزمان.

(شَبَّهُوكَ(3) بِغَيْرِكَ؟!) في الصورة والتخطيط والتجويف ونحو ذلك.

(اللّهُمَّ لاَ أَصِفُكَ إِلاَّ بِمَا وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ) أي في القرآن.

(وَلاَ أُشَبِّهُكَ بِخَلْقِكَ، أَنْتَ أَهْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ) أي أنت موفّق لكلّ خير، موافقا لما يجيء في سادس السادس والعشرين: وذاك أنّي أولى بحسناتك منك،(4) ومناسبا لآية سورة المدّثّر: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى»(5). أو المراد خير الأسماء كلّها لك، كالكريم والرحيم والقادر والعليم.

(فَلاَ تَجْعَلْنِي) بالخذلان (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَا تَوَهَّمْتُمْ) أي وقع وهمكم عليه، وباشره وهمكم بإدراك اسم جامد محض له.

(مِنْ شَيْءٍ فَتَوَهَّمُوا اللّه َ غَيْرَهُ) . هذا من قبيل مجاز المشاكلة.(6) والمراد: اعلموا أنّ اللّه غيره. .

ص: 186


1- في الكافي المطبوع : «لا» .
2- في «ج» : «أي» .
3- في الكافي المطبوع : «يُشَبِّهوكَ» .
4- أي الحديث 6 من باب المشيئة والإرادة .
5- المدثّر (74) : 56 .
6- تقدّم توضيحه .

(ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ آلَ) ؛ منصوب بالاختصاص،(1) أو مرفوع بالبدليّة أو الخبريّة.

(مُحَمَّدٍ النَّمَطُ الاْءَوْسَطُ) . النمط بفتحتين: القسم من الأقسام؛ والنمط: الجماعة من الناس أمرهم واحد(2) وكلّ منهما محتملٌ هنا.

(الَّذِي لاَ يُدْرِكُنَا الْغَالِي، وَلاَ يَسْبِقُنَا التَّالِي) . هذا شكاية بأنّ الناس مأمورون غاليهم بالرجوع إلى النمط الأوسط، وتاليهم باللحوق بالنمط الأوسط، ولكنّا النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي؛ أي لا يرجع إلينا فيدركنا، ولا يسبق إلينا التالي. وإنّما حذف «إلى» هنا واُوصل الفعل بنفسه للازدواج مع «يدركنا». وذكر ضمير المتكلّم مع الغير في مقام العائد إلى «الذي» لرعاية جانب المعنى؛ فإنّ اللفظ وإن كان مفردا وغائبا لكنّه عبارة عن جماعةٍ أحدهم المتكلّم.

وقال بعضهم في ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة»(3) إنّه من قبيل الالتفات من الغيبة إلى التكلّم.

(يَا مُحَمَّدُ) . لمّا أبطل اعتقاد المخالفين، أراد أن لا يكذّب لفظ الرواية التي رووه إمّا للمماشاة وفرض الصدق، فإنّ ذلك مظنّة الوصول إلى المخالفين، وتكذيبُ رواياتهم يشوشّهم جدّا ويتناقلونه، أو لغير ذلك، فقال:

(إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله حِينَ نَظَرَ إِلى عَظَمَةِ رَبِّهِ كَانَ فِي هَيْئَةِ الشَّابِّ الْمُوَفَّقِ، وَسِنِّ أَبْنَاءِ ثَلاَثِينَ سَنَةً) . حمل لفظ الرواية على معنى آخر غير ما فهمه المخالفون، وجعل الظرفين حالين لفاعل «رأى»، وجعل الظرف الثاني معطوفا على الأوّل بحذف .

ص: 187


1- في حاشية «أ» : «قوله آل منصوب إلى آخره ، فعلى أوّل الوجوه الثلاثة وثانيها يكون النمط خبرا ، وعلى ثالثها يكون إمّا خبرا ثانيا أو صفة لآل . هذا ، ويلزم على الوجه الثاني إبدال الظاهر في ظمير المتكلّم ، وهو غير جائز عند غير الأخفش . قال ابن الحاجب : ولا يبدّل ظاهر من مضمر بدل الكلّ إلاّ من الغائب ؛ فتأمّل (مهدي)» .
2- مختار الصحاح ، ص 347 .
3- روضة الواعظين ، ص 130 ؛ مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للكوفي ، ج 2 ، ص 500 ؛ مقاتل الطالبيين ، ص 14 . ونقله أحمد في مسنده ، 4 ، ص 52 ؛ ومسلم في صحيحه ، ج 5 ، ص 195 ؛ والحاكم في مستدركه ، ج 3 ، ص 39 . وعجز البيت : «كليث غابات كريه المنظرة» .

العاطف؛ أي وفي سنّ. وهذا حمل لروايتهم على أنّه قبل النبوّة والمعراج، ولو كان بدل الواو هنا «في» وكان الظرف الثاني متعلّقا بموفّق، لكان الحمل صحيحا أيضا، ولم يدلّ على أنّه قبل النبوّة والمعراج، لكنّ النسخ لا تساعد هذا.

(يَا مُحَمَّدُ، عَظُمَ رَبِّي وَجَلَّ أَنْ) أي عن أن (يَكُونَ فِي صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ) أي محمّد.

(قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَنْ كَانَتْ رِجْلاَهُ فِي خُضْرَةٍ؟). كأنّه كان مذكورا في تتمّة الرواية، فسأل: مَن هو؟

(قَالَ: ذاكَ مُحَمَّدٌ، كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ، جَعَلَهُ فِي نُورٍ مِثْلِ نُورِ الْحُجُبِ حَتّى يَسْتَبِينَ لَهُ مَا فِي الْحُجُبِ؛ إِنَّ نُورَ اللّه ِ: مِنْهُ أَخْضَرُ، وَمِنْهُ أَحْمَرُ، وَمِنْهُ أَبْيَضُ، وَمِنْهُ غَيْرُ ذلِكَ) . سيجيء في أوّل «باب العرش والكرسيّ» أنّ منه أصفر وسنبيّنهُ.

ولا يبعد أن يحمل «الحجب» هنا على الأنبياء والأئمّة عليهم السلام .

(يَا مُحَمَّدُ، مَا شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَنَحْنُ الْقَائِلُونَ بِهِ) . لا ينافي هذا الحصرَ في الكتاب؛ لأنّ السنّة تفسير للكتاب، وكشف عن المراد به.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ بِشْر) ؛ بكسر الموحّدة وسكون المعجمة والمهملة، وفي كتب الرجال «بشير» بالخاتمة بعد الشين.(1)

(الْبَرْقِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة. وفي كتاب الرجال لابن داود: «الرقّي» بدون الباء مع فتح المهملة، وتشديد القاف.(2)

(قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيُّ) ؛ بفتح القاف، وفتح المهملة والموحّدة، والنون.

(قَالَ: أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ الْجَهْمِ) ؛ بفتح الجيم، وسكون الهاء. .

ص: 188


1- رجال الطوسي ، ص 412 ، الرقم 55 ؛ نقد الرجال ، ج 1 ، ص 108 ، الرقم 19 .
2- رجال ابن داود ، ص 227 ، الرقم 21 و 22 .

(عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، قَالَ : قَالَ: لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ أَنْ يَصِفُوا اللّه َ بِعَظَمَتِهِ) أي بكنه ذاته، وهو اسمه الجامد المحض الذي عظم عن أن يناله أحدٌ من خلقه. أو المراد تفصيل كمالاته، موافقا لما يجيء في حادي عشر الباب.

(لَمْ يَقْدِرُوا) .

الخامس: (سَهْلٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيِّ) ؛ بفتح الميم والمعجمة.

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ) ؛ يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام .

(أءَنَّ مَنْ قِبَلَنَا) أي عندنا (مِنْ مَوَالِيكَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ): في التنزيه عن الشريك حيث قالوا بشيءٍ ينافيه.

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: جِسْمٌ) أي جسد غير مجوّف.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : صُورَةٌ) أي جسد مجوّف.

(فَكَتَبَ عليه السلام بِخَطِّهِ: سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ) أي لا يحيط به مقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُوصَفُ) ، أي لا يُدرك كنه ذاته.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . استدلال على أنّه لا يوصف ولا يحدّ لإبطال المذهبين.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ أَوْ قَالَ) بدل «العليم»: (الْبَصِيرُ) . كما في سورة الشورى.(1)

السادس: (سَهْلٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليهماالسلام إِلى أَبِي: «أَنَّ اللّه َ أَعْلى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ) ؛ بصيغة المجهول (كُنْهُ صِفَتِهِ) . كنه الشيء: حقيقته، وصفته بيانه باسم جامد محض، أو تفصيل كمالاته. وعلى الأوّل المراد أنّ كلّ بيانه باسم جامد محض باطل. وعلى الثاني المراد ما يجيء في حادي عشر الباب.

(فَصِفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) في القرآن.

(وَكُفُّوا عَمَّا سِوى ذلِكَ) أي عن طلب كنه صفته.1.

ص: 189


1- الشورى (42): 11.

السابع: (سَهْلٌ، عَنِ السِّنْدِيِّ) ؛ بكسر المهملة، وسكون النون، والمهملة، وشدّ الخاتمة.

(ابْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَفْصٍ أَخِي مُرَازِمٍ، عَنِ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: سَأَ لْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصِّفَةِ) أي من بيان اللّه تعالى باسم جامد محض.

(فَقَالَ : لاَ تَجَاوَزْ مَا فِي الْقُرْآنِ) . هو نفي الصفة؛ يعني أنّه لا يجوز الصفة حقيقةً.

الثامن: (سَهْلٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقَاسَانِيِّ ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ: أَنَّ مَنْ قِبَلَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ.قَالَ: فَكَتَبَ عليه السلام : سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ، وَلاَ يُوصَفُ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(1)) .

مضى شرحه في خامس الباب.

التاسع: (سَهْلٌ، عَنْ بَشِير) ؛ بفتح الموحّدة، وكسر المعجمة، والخاتمة.(2)

(بْنِ بَشَّارٍ) ؛ بفتح الموحّدة وشدّ المعجمة.

(النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ). قيل: الهادي عليه السلام .(3)

(أَنَّ مَنْ قِبَلَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(4) جِسْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(5) صُورَةٌ. فَكَتَبَ(6): «سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ وَلاَ يُوصَفُ، وَلاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(7)) .

مضى شرحه في خامس الباب. .

ص: 190


1- الشورى (42) : 11 .
2- في «ج» : «بشر ؛ بكسر الموحّدة ، وسكون المعجمة» بدل «بشير ؛ بفتح الموحّدة ، وكسر المعجمة ، والخاتمة» .
3- في حاشية «أ» : «ا م ن (منه)» . الظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادى في حاشية على الكافي . وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 3 ، ص 212 .
4- في الكافي المطبوع : + «هو» .
5- في الكافي المطبوع: + «هو».
6- في الكافي المطبوع : + «إليّ» .
7- الشورى (42) : 11 .

العاشر: (سَهْلٌ قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ: قَدِ اخْتَلَفَ يَا سَيِّدِي، أَصْحَابُنَا فِي التَّوْحِيدِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هو جِسْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(1) صُورَةٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَا سَيِّدِي، أَنْ تُعَلِّمَنِي مِنْ ذلِكَ مَا أَقِفُ عَلَيْهِ وَلاَ أَجُوزُهُ ، فَعَلْتَ مُتَطَوِّلاً عَلى عَبْدِكَ. فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ عليه السلام : سَأَلْتَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَهذَا عَنْكُمْ مَعْزُولٌ) . إنّما أدخل عليه السلام السائل في الخطاب لقوله: «من ذلك» فإنّه يدلّ ظاهره على أنّ التوحيد أحد المذكورين، أو لقوله: «أصحابنا».

(اللّه ُ وَاحِدٌ أَحَدٌ«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ»(2)، خَالِقٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، يَخْلُقُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مَا يَشَاءُ مِنَ الاْءَجْسَامِ وَغَيْرِ ذلِكَ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ، وَيُصَوِّرُ مَا يَشَاءُ وَلَيْسَ بِصُورَةٍ، جَلَّ ثَنَاوءُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاوءُهُ أَنْ) أي عن أن (يَكُونَ لَهُ شِبْهٌ) في الجسم أو الصورة. هو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو.

(هُوَ لاَ غَيْرُهُ) أي ليس شيء مدرك لنا كالجسم محمولاً عليه.

(«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌوَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(3)) .

مضى شرحه في خامس الباب.

الحادي عشر: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ) ؛ بضمّ الفاء، وفتح المعجمة، والخاتمة.

(بْنِ يَسَارٍ ) ؛ بفتح الخاتمة وتخفيف المهملة.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ اللّه َ لاَ يُوصَفُ، وَكَيْفَ يُوصَفُ وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ) في سورة الأنعام والزمر: («وَما قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4)؟! فَلاَ يُوَصَّفُ(5) بِقَدَرٍ إِلاَّ كَانَ أَعْظَمَ .

ص: 191


1- في الكافي المطبوع : + «هو» .
2- التوحيد (112) : 3 و 4 .
3- الشورى (42) : 11 .
4- الأنعام (6) : 91 ؛ الزمر (39) : 67 .
5- في الكافي المطبوع : «يوصَف» .

مِنْ ذلِكَ) . يجيء هذا مع تتمّة في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس عشر «باب المصافحة»(1) ويظهر منها أنّ «يُوَصَّف» بصيغة المجهول من باب التفعيل، أو باب ضرب. والمراد بالتوصيف أو الوصف: بلوغ أقصى الغاية في كمالاته التفصيليّة، وهو المراد بالقدر أيضا. فقوله: «فلا يوصّف بقدر» أي لا يوصّف بوصف تفصيليّ لكمالاته، وضمير «قدروا» للخلائق أجمعين، أو لجمعٍ سيق الكلام فيهم.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) . قيل: كأنّه الجوّاني.(2)

(عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ : إِنَّ اللّه َ عَظِيمٌ رَفِيعٌ، لاَ يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلى صِفَتِهِ) أي على تفصيل كمالاته، كما مرّ في السابق.

(وَلاَ يَبْلُغُونَ كُنْهَ عَظَمَتِهِ) . أي ما هو حقّه من تفصيل كمالاته.

(«لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(3)). مضى في ثاني الباب، وفيه إشارة إلى ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا اُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».(4)

(وَلاَ يُوصَفُ) أي لا يبيّن (بِكَيْفٍ) ؛ مجرور منوّن، أي بكيفيّة كائنة في نفسها في الخارج، ذاتيّة أو عارضة(5) له تعالى.

(وَلاَ أَيْنَ) ؛ بالفتح، ويكسر مجرور منوّن، أي ولا حين بأن يُقال: متى كان، كما مضى .

ص: 192


1- الكافي ، ج 2 ، ص 182 ، باب المصافحة ، ح 16 .
2- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد (منه)» .
3- الأنعام (6) : 103 .
4- في مصباح المتهجد ، ص 315 و 838 : «ولا اُحصي نعمتك ولا الثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» . وفي ص 346 بلفظ آخر . ورواه مسلم في صحيحه ، ج 2 ، ص 51 كما في المتن ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1263 ؛ سنن أبي داود ، ج 1 ، ص 201 ، ح 879 ، باب في دعاء في الركوع .
5- في «ج» : «عرضية» .

في ثاني السادس.(1)

(وَحَيْثٍ) ؛ مجرور منوّن، أي والكون في مكان. ولعلّ ترك تكرار «لا» هنا للإشعار بتلازم «أين» و«حيث» وكونهما من الاُمور الاعتباريّة، دون الكيف.

(وَكَيْفَ أَصِفُهُ بِالْكَيْفِ وَهُوَ الَّذِي كَيَّفَ)؛ بشدّ الخاتمة المفتوحة.

(الْكَيْفَ) ؛ بالفتح، أي الكيفيّة؛ أو بشدّ الخاتمة المكسورة، أي ذا الكيفيّة، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ كَيْفا، فَعُرِفَتِ الْكَيْفُ بِمَا كَيَّفَ لَنَا مِنَ الْكَيْفِ؟! أَمْ) ؛ منقطعة بمعنى «بل».

(كَيْفَ أَصِفُهُ بِأَيْنٍ) أي بحينٍ. (وَهُوَ الَّذِي أَيَّنَ الاْءَيْنَ) ؛ بالفتح، أي الحين؛ أو بشدّ الخاتمة المكسورة، أي ذا الحين، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ أَيْنا، فَعُرِفَتِ الاْءَيْنُ بِمَا أَيَّنَ لَنَا مِنَ الاْءَيْنِ؟! أَمْ كَيْفَ أَصِفُهُ بِحَيْثٍ وَهُوَ الَّذِي حَيَّثَ الْحَيْثَ)؛ بالفتح، أو بشدّ الخاتمة المكسورة، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ حَيْثا ، فَعُرِفَتِ الْحَيْثُ بِمَا حَيَّثَ لَنَا مِنَ الْحَيْثِ؟! فَاللّه ُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ دَاخِلٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ) لا بالمباشرة (وَخَارِجٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مكاني («لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ»). مضى في ثاني الباب.

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . إشارة إلى أنّ كمال التوحيد نفي تلك الصفات، وكذا كمال التعظيم.

(«وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(2)) . مضى في ثاني الباب. .

ص: 193


1- أي الحديث 2 من باب الكون والمكان .
2- الأنعام (6) : 103 .

الباب الحادي عشر: باب النهي عن الجسم و الصورة

الباب الحادي عشر بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْجِسْمِ وَ الصُّورَةِ

فيه ثمانية أحاديث.

الجسم بالكسر: الجسد الغير المجوّف؛ والصورة: الجسد المجوّف.

والمراد النهي عن القول بأنّه تعالى جسم، وعن القول بأنّه تعالى صورة.

الأوّل: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ يَرْوِي عَنْكُمْ) أي عن بعض قراباتكم.

ولعلّ المرويَّ عنه غير معصوم، فلا قدح فيه على هشام، ولو كان المراد أحد المعصومين، فالقدح راجع إلى ابن أبي حمزة، وهو البطائني. ولعلّه فهم من لفظ هشام هذا، ونقله بالمعنى، أو روى عن غيرهم، وتوهّم أنّه يروي عنهم.

(أَنَّ اللّه َ جِسْمٌ صَمَدِيٌّ) أي لا جوف له (نُورِيٌّ) أي جميل جدّا.

(مَعْرِفَتُهُ) ؛ مبتدأ.

(ضَرُورَةً(1)) أي ضروريّةً، وهو منصوب على أنّه صفة مفعول مطلق محذوف؛ أي معرفته معرفةً ضروريّةً حاصلةٌ بالرؤية.

(يَمُنُّ بِهَا عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ). الجملة خبر المبتدأ.

وهذا مبنيّ على أنّ المجوّزين للرؤية يقولون: إنّ المعرفة من جهة الرؤية ضرورة،

ص: 194


1- في الكافي المطبوع : «ضرورةٌ» بضمّ الأخير .

كما مضى في ثالث التاسع.(1)

ويجوز رفع «ضرورة» على أنّه خبر المبتدأ وكون الجملة بعده استئنافا بيانيّا، أو صفة بعد صفة. وهذا مبنيّ على أنّه على تقدير تجويز كون بعض الأجسام غير مخلوق لا يمكن معرفته بالاستدلال أصلاً، وما تمسّك به(2) الفلاسفة من إبطال الدور والتسلسل لإثبات الصانع للعالم(3) لا يتمّ؛ لأنّه لا يستلزم كونه صانعا، أي فاعلاً لا بالإيجاب، وأيضا هم يجوّزون التسلسل في الاُمور الغير المجتمعة في جانب المبدأ، ولم يقيموا قبل إثبات الصانع برهانا على احتياج الممكن في البقاء إلى بقاء فاعله.

(فَقَالَ عليه السلام : سُبْحَانَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفَ هُوَ) أي ذاته (إِلاَّ هُوَ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»لاَ يُحَدُّ)؛ بالمهملتين وشدّ الثانية، مجهول باب نصر؛ أي ليس محصورا في مقدار لا يتجاوزه. وهذا ناظر إلى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».

(وَلاَ يُحَسُّ)؛ بالمهملتين، وشدّ الثانية، معلوم باب نصر. والحسّ بالفتح: إلقاء السمع إلى الحسّ بالكسر، أي الصوت الخفيّ، وهو نوع من الحيلة للسماع، وهذا ناظر إلى السميع.

(وَلاَ يُجَسُّ)؛ بالجيم وشدّ المهملة، معلوم باب نصر. والجسّ بالفتح: إحداد النظر إلى شيء للاستثبات. وهذا ناظر إلى البصير.

(وَلاَ يُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ،(4) وَلاَ يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ) : سطح أو ذهن.

(وَلاَ جِسْمٌ وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ تَخْطِيطٌ وَلاَ تَحْدِيدٌ) . «لا» في المواضع الأربعة غير عاملة دخلت على الجملة الاسميّة، فوجب تكرارها. و«جسم» مرفوع منوّن على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي لا هو جسم، وكذا نظائره. .

ص: 195


1- أي الحديث 3 من باب في إبطال الرؤية .
2- في «ج» : - «به» .
3- حكاه عن المحقّقين العلاّمة في معارج الفهم ، ص 211 . وانظر المسلك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ والمحصّل للرازي ، ص 342 .
4- في الكافي المطبوع : «لا تدركه الأبصار ولا الحواسّ» .

والتخطيط _ بالمعجمة والمهملتين _ : تمييز أعضاء الجميل بعضِها عن بعض، من القاموس: «المخطّط كمعظّم: الجميل».(1) والمراد به هنا ذو التخطيط، وهو ناظر إلى قوله: «نوري».

والتحديد بالمهملات: تعيين الشيء في جهة ومكان، وذلك إذا كان مرئيّا. والمراد به هنا ذو تحديد، وهو ناظر إلى قوله: «معرفته ضرورة» إلى آخره.

ويحتمل كون «لا» في الأخيرين لنفي الجنس، فيكونا مبنيَّين على الفتح.(2)

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ) يعني الثالث عليه السلام . (أَسْأَلُهُ عَنِ الْجِسْمِ وَالصُّورَةِ، فَكَتَبَ: سُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ جِسْمٌ) . إمّا من قبيل زيد لا قائم، فيكون خبرا لمبتدأً محذوفٍ؛ وإمّا لبيان تفصيل «شيء».

(وَلاَ صُورَةٌ. وَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ) أي قال: «كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله» إلى آخره.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ) ؛ بفتح الموحّدة، وكسر الزاي، وسكون الخاتمة والمهملة.

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى الرِّضَا عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَأَمْلى عَلَيَّ). الإملاء أن يقول أحد شيئا ويكتب آخر.

(الْحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ الاْءَشْيَاءِ) . الفطر: الشقّ، والمراد هنا التمييز بين أنواع الأجسام بعد ما كان أصلُ جميعها الماءَ البسيطَ المتشابه الأجزاء، ومنه قوله تعالى في سورة فاطر: «الْحَمْدُ للّه ِِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(3)، ويُقال له: الفتق أيضا، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ كَانَتَا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ .

ص: 196


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 358 (خط).
2- من قوله : «لا في المواضع الأربعة» إلى هنا ليس في «ج» .
3- فاطر (35) : 1 .

شَىْ ءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ»(1).

(إِنْشَاءً) . مصدرٌ اُقيم مقام ظرف الزمان، مثل رأيته قدوم الحاجّ. والإنشاء: الاختراع، وهو الخلق بلا مادّة. والمراد أنّه لم يتوسّط زمان طويل بين الإنشاء والفطر.

(وَمُبْتَدِعِهَا) . الابتداع: الإحداث الذي ليس لاحتذاء مثال عن فاعلٍ آخَرَ. والبدعة ضدّ السنّة.

(ابتداءً) ؛ مصدر اُقيم مقام ظرف الزمان.

(بِقُدْرَتِهِ) . ناظر إلى «فاطر الأشياء إنشاءً» فإنّ الفطر مع الخلق بلا مادّة لا يكون إلاّ بكمال القدرة ونفاذ المشيئة. وفيه إشارة إلى الفرق بين قدرة اللّه وقدرة العباد؛ فإنّ تأثير قدرتهم لا يكون إلاّ مع سبق مادّة، بخلاف قدرة اللّه .

(وَحِكْمَتِهِ) أي علمه بوجوه المصلحة. ناظرٌ إلى «مبتدعها ابتداءً» فإنّ الخلق لا لاحتذاء مثال لا يكون إلاّ بكمال العلم بوجوه المصلحة. وفيه إشارة إلى إبطال قول مَن قال: إنّه لو كان العالم حادثا لزم تعطيله تعالى في الأزل.(2) فالنشر على ترتيب اللفّ.

(لاَ مِنْ شَيْءٍ) . الظرف مستقرّ، خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي إحداث الأشياء لا من مادّة.

(فَيَبْطُلَ الاِخْتِرَاعُ) أي الإنشاء؛ لأنّ فعله حينئذٍ بعد شأنيّة الوجود. وهذه الفقرة ناظرة إلى «فاطر الأشياء إنشاء».

(وَلاَ لِعِلَّةٍ) . العلّة _ بكسر المهملة _ : السبب؛ وبفتحها: العود إلى الشرب. والمراد على الأوّل المعدّات الغير المتناهية من جانب المبدأ، كما زعمته مشّائيّة الفلاسفة؛ وعلى الثاني الأمثال الغير المتناهية من جانب المبدأ، كما زعمته إشراقيّة الفلاسفة.(3) وسيجيء في «باب جوامع التوحيد» في شرح كلام المصنّف لتوضيح الحديث الأوّل.

(فَلاَ يَصِحَّ الاِبْتِدَاعُ) . هذه الفقرة ناظرة إلى «مبتدعها ابتداءً».8.

ص: 197


1- الأنبياء (21) : 30 .
2- حكى ذلك الإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 363 .
3- حكاه التفتازاني في شرح المقاصد، ج 1، ص 98.

(خَلَقَ) . الخلق: التقدير. والخالق في أسمائه تعالى: المخترع المبتدع؛ فهو استئناف بياني.

(مَا شَاءَ) . ناظرٌ إلى الاختراع؛ أي كلّ ما شاء. ومعناه الاستقلال بالقدرة على الخلق، وملاكه تقدّم القدرة على الخلق على وقت الخلق، كما سيجيء بيانه في ثاني «باب الاستطاعَة».

(كَيْفَ شَاءَ) . ناظرٌ إلى «الابتداع».

(مُتَوَحِّدا بِذلِكَ) أي بخلق ما شاء كيف شاء؛ يعني أنّ غيره من الخالقين لا يخلقون كلّ ما شاؤوا؛ لعدم عموم قدرتهم، ولا يخلقون ما خلقوا كيف شاؤوا؛ لأنّهم ليسوا مستقلّين بالقدرة أصلاً.

(لاِءِظْهَارِ حِكْمَتِهِ) . المقصود إظهار حكمته على الغير؛ لأن يُعلِمَها غيره.

(وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ) . عطفٌ على «حكمته». والحقيقة: ما يحقّ عليك أن تحميه. وربّ كلّ شيء: مالكه، والاسم «الربوبيّة» بالضمّ، وحقيقة ربوبيّته: أنّه خالق كلّ شيء وحاكم كلّ نزاع، فإنّه الذي يجب علينا أن نصدّق به، وندفع عنه الطعن من ربوبيّته.

(لاَ تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ) أي لا تحيط بمائيّته.

(وَلاَ يَبْلُغُهُ(1) الاْءَوْهَامُ ) . جمع وَهْم، وهي خطرات القلوب؛ أي ليس ممّا يلمع للقلوب ثمّ يغيب عنها، كما في بعض الأشياء الدقيقة. أو المراد: لا يُدرك شخصه على الوجه الجزئي، أو الجاري مجراه، كما في تخيّل البلاد البعيدة.

(وَلاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ) أي أبصار العيون بقرينة المقابلة. ويحتمل أن يُراد الأعمّ منها ومن أبصار القلوب، فيكون تعميما بعد تخصيص.

(وَلاَ يُحِيطُ بِهِ) أي لا يستوعبه.

(مِقْدَارٌ) . أكثر ما يطلق المقدار على الكمّ المتّصل؛ أي ليس محسوسا بغير البصر .

ص: 198


1- في الكافي المطبوع : «لا تبلغه» .

أيضا؛ لأنّه لا يمكن إلاّ فيما له مقدار. وقوله:

(عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الاْءَبْصَارُ، وَضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ) ، نشرٌ على ترتيب اللفّ؛ فالاُولى ناظرة إلى عدم ضبط العقول وعدم بلوغ الأوهام؛ أي لا يبلغ التعبير مائيّته، أو ولا شخصه. والثانية ناظرة إلى عدم إدراك الأبصار. والثالثة ناظرة إلى عدم إحاطة المقدار.

والصفات جمع الصفة بالمعنى المصدري؛ أي بيانه باسم جامد محض، كما أنّ «التصاريف» جمع التصريف بمعنى التغيير. وإنّما سمّي مراتب الصفات تغييراتٍ؛ لأنّ الواصف له بمرتبة من الوصف إذا وصفه وصفا آخر، انتقل من مرتبة إلى اُخرى، فغيّر صفة، أي مرتبة من صفته إلى صفة اُخرى، أي مرتبة اُخرى فوقها.

(احْتَجَبَ) أي اختفى هذا الخفاءَ الشديد.

(بِغَيْرِ حِجَابٍ) . الحَجْب: المنع عن الدخول؛ وحجاب الملك: ما يمنع الغير عن الدخول إليه بغير إذنه، سواء كان بوّابا أو سترا، أو غير ذلك.

(مَحْجُوبٍ) ؛ صفةٌ. وفيه إشارة إلى أنّ شدّة احتجاب ملوك أهل الدنيا لا يكون إلاّ بتعدّد الحُجّاب.

(وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ) . هو ما يسدَل على باب البيت الذي فيه الإنسان؛ لمنع الغير عن النظر إليه، أو لنحو ذلك.(1)

(مَسْتُورٍ) . هذا أيضا صفة، ومعناه ظاهر ممّا مرّ.

(عُرِفَ بِغَيْرِ رُوءْيَةٍ) ؛ بضمّ الراء وسكون الهمزة، أي عرف ربوبيّته من غير أن يكون مرئيّا، بل بالعلامات.

(وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ) . ليس الباء صلة للوصف، بل للسببيّة؛ أي لا بسبب صورة وهي بدن الإنسان ونحوه ممّا هو مجوّف؛ أي من غير أن يكون له صورة يوصف على حسبها، بل يوصف على استجماعه لصفات الكمال. .

ص: 199


1- في حاشية «أ» : «الستر _ بالكسر _ : واحد الستور . والأستار _ وبالفتح _ مصدر قولك : سترت الشيء : إذا غطيته» .

(وَنُعِتَ) . النعت بيان ما يختصّ به تعالى، ككونه خالق كلّ شيء. والوصف أعمّ، فيتناول نحو العلم.

(بِغَيْرِ جِسْمٍ) أي لا بسبب شيء مصمت غير مجوّف.

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ(1) الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) . أصله: المتعالي، حذفت الياء اكتفاءً بالكسرة، ثمّ يحذف الكسرة في الوقف.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُكَيمٍ(2)) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الكاف.

(قَالَ: وَصَفْتُ) أي مدحت (لاِءَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَوْلَ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ) أي ما يُنسَب إليه من أنّه تعالى صورة.

(الْجَوَالِيقِيِّ) : بيّاع الجواليق، بفتح الجيم، جمع جُوالَق بضمّ الجيم وفتح اللام، معرّب «جوال» وهو وعاء يُنسج من الصوف أو الشعر، ويُقال له: اللبيد.(3)

(وَحَكَيْتُ لَهُ قَوْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، إنَّهُ)؛ بالكسر، مقول قول؛ أو بالفتح، بدل «قول».

(جِسْمٌ). ذِكْر الوصف في الأوّل والحكاية في الثاني مبنيّ على(4) أنّ ابن حكيم كان من أصحاب أبي الخطّاب، وتوهّم أنّ ابن سالم يوافقه في التشبيه والصورة معا، وأنّ ابن حكيم يوافقه في التشبيه ويخالفه في الصورة. ويجيء في شرح سادس الباب أنّ الهشامين بريئان من هذين القولين.

(فَقَالَ :(5) لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، أَيُّ فُحْشٍ أَوْ خَنا) . الخنا _ بفتح المعجمة والنون والقصر _ : الهلاك. وخنا الدهر: آفاته. .

ص: 200


1- في الكافي المطبوع : «اللّه » .
2- في الكافي المطبوع : «حكيم» بفتح الحاء وكسر الكاف .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 287 (جلق) ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 388 (لبد) .
4- في «ج» : + «المراد بالوصف هنا المدح و» .
5- في الكافي المطبوع : + «إنّ اللّه تعالى» .

(أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَصِفُ خَالِقَ الاْءَشْيَاءِ بِجِسْمٍ) أي بأنّه جسم.

(أَوْ صُورَةٍ، أَوْ بِخِلْقَةٍ، أَوْ بِتَحْدِيدٍ) أي تمييز أعضائه بعضها عن بعض.

(وَأَعْضَاءٍ؟ تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا) .

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَجِ الرُّخجِيِّ) ؛ بضمّ المهملة وفتح المعجمة والجيم، نسبة إلى قرية بكرمان.(1) قال المطرزي في المغرب: «الرخج إعراب رخذ بوزن زفر، اسم كورة استولى عليها الترك».(2)

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَمَّا قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ فِي الجِسْمِ). هو أنّ الجسم أولى بالفاعليّة من الصورة على تقدير التشبيه؛ لأنّه أبسط.

(وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ فِي الصُّورَةِ). هو أنّ الصورة أولى بالفاعليّة من الجسم على تقدير التشبيه؛ لأنّها أشرف.

(فَكَتَبَ عليه السلام : دَعْ عَنْكَ حَيْرَةَ الْحَيْرَانِ، وَاسْتَعِذْ بِاللّه ِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لَيْسَ الْقَوْلُ مَا قَالَ الْهِشَامَانِ) . حيرة الحيران عبارةٌ عن الفكر في أمثال هذا من الوهميّات التقديريّة، فإنّه لا ينفع في الدين ولا في الدنيا. فالمراد بالقول القول النافع، و«ما» موصولة.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ ظَبْيَانَ) ؛ بفتح المعجمة، وسكون الموحّدة، والخاتمة.

(يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ يَقُولُ قَوْلاً عَظِيما) . هذا من تخليط يونس بن ظبيان وسوء فهمه، فإنّه كان من أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن مقلاص، وكان أبو الخطّاب يدّعي لأبي عبداللّه عليه السلام الربوبيّة، ولنفسه الرسالة، فكان .

ص: 201


1- قال البكري الأندلسي في معجم ما استعجم ، ج 2 ، ص 646 : «رخج بضمّ أوّله وتشديد ثانيه بعده جيم : كورة من كور فارس ، وأصله بالفارسية: رخذ ، فعرّب» . وفي لسان العرب ، ج 2 ، ص 283 : «كورة : مدينة من نواحي كابل ، معرب رفو» . ونقل في تاج العروس ، ج 3 ، ص 383 أنّها قرية ببغداد .
2- حكاه عن المغرب المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 3 ، ص 229 .

قائلاً بالصورة من مذهبي التشبيه،(1) وكان هشام بن الحكم يدفع مذهبه، بأنّه لو صحّ التشبيه لكان اللّه جسما، لا صورة؛ لأنّ الأشياء حينئذٍ شيئان إلى آخره، وحاصله: أنّ الجسم أبسط من الصورة، فهو أولى بالفاعليّة، وهي أولى بالمفعوليّة، وكان هشام بن سالم يعارضه ويقول: الصورة أولى بالفاعليّة حينئذٍ؛ لأنّها أشرف كما ذكر في شرح السابق.

والقرينة على هذا أشياء:

الأوّل: قوله عليه السلام : «والصورة محدودة متناهية» وذلك لأنّ هشاما لم يذهب إلى الصورة بل أبطلها.

الثاني: قول يونس: «فما أقول» فإنّه يدلّ على أنّ يونس كان قائلاً بالصورة.

الثالث: قوله عليه السلام : «كما يقولون»، فإنّ الضمير لأبي الخطّاب وأصحابه، ولو كان المقصود إبطال مذهب هشام كان بدله «كما يقول».

ويظهر بهذا أنّ قوله عليه السلام : «ويله»، إن كان بالضمير ومنادى مضافا، كان للتعجّب من مهارة هشام في الكلام، نظير قولهم: ويل اُمّه مِسعر حربٍ؛(2) تعجّبا من الشجاعة؛ وإن كان بالتاء كان مرفوعا، على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا الكلام من هشام ويلة وفضيحة لمذهبكم في الصورة؛ فالاستفهام في قوله: «أما علم» إنكاري؛ واللّه أعلم.

(إِلاَّ أَنِّي أَخْتَصِرُ لَكَ مِنْهُ أَحْرُفا، يَزْعَمُ(3) أَنَّ اللّه َ جِسْمٌ؛ لاِءَنَّ الاْءَشْيَاءَ شَيْئَانِ) أي منحصرة في شيئين لا ثالث لهما.

(جِسْمٌ، وَفِعْلُ الْجِسْمِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ) . الفاء للترتيب الذكري.

(الصَّانِعُ) أي لفظ الصانع.

(بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ) أي الفاعل لغيره، أو للممكنات. .

ص: 202


1- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 179 (الخطابية) .
2- قال ابن الأثير في النهاية ، ج 2 ، ص 367: «في حديث أبي بصير: «ويل اُمّه مسعر حرب لو كان له أصحاب» يقال : سعرت النار والحرب : إذا أو قدتهما . وسعرتهما بالتشديد للمبالغة . والمسعر والمسعار : ما تحرك به النار من آلة الحديد . وانظر ج 5 ، ص 236 . والمراد التعجّب من شجاعته .
3- في الكافي المطبوع : «فزعم» .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : «وَيْلَهُ،(1) أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ مُتَنَاهٍ) . الحدّ: المنع. ومنتهى الشيء، والتناهي: البلوغ إلى منتهى؛ يعني لكلّ جسم مقدار خاصّ ليس مقداره لازما لذاته عقلاً، فهو محدود؛ أي ممنوع عن الزيادة لم يتجاوز عن حدّه. و«متناه» أي بالغ حدّه لم يتقاصر عن حدّه مع إمكان التجاوز والتقاصر فيه بالنسبة إلى ذاته.

أمّا أنّ لكلّ جسم مقدارا خاصّا، فلبراهين تناهي الأبعاد.

وأمّا أنّه ليس مقداره لازما لذاته عقلاً، فلأنّ كلّ جسم إمّا مفرد وإمّا مركّب من المفردات، والجسم المفرد إمّا مركّب من أجزاء لا تتجزّى، وإمّا متّصل واحد قابل للقسمة الوهميّة لا إلى نهاية. والأوّل باطل لأدلّة إبطال الجزء الذي لا يتجزّى، والثاني ليس مقداره لازما لذاته عقلاً؛ لأنّ نصفه الوهمي مثلاً إذا حصل في الوهم يحمل عليه تمام مهيّة الكلّ، ولا يحمل عليه مقدار الكلّ، ولا الوجود الخارجي، ولا التشخّص الخارجي.

إن قلت: عدم لزوم المقدار لا يدلّ على كلّ من المحدوديّة والتناهي بل على أحدهما.

قلت: أحدهما كافٍ في المدّعى هنا، وإنّما ارتكب الزيادة في الدعوى للإشارة إلى أنّ كلاًّ منهما يستلزم الآخر؛ لتشابه المقادير في تمام المهيّة(2) ضرورةً.

(وَالصُّورَةَ مَحْدُودَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ؟). زيادة هذا للإشارة إلى ردّ قول هشام الجواليقي أيضا.

(فَإِذَا احْتَمَلَ الْحَدَّ، احْتَمَلَ) . الفاء للتفريع، والضميران للّه تعالى.

(الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ) . احتمال الحدّ إنّما يستلزم احتمال الزيادة أوّلاً، واحتمال النقصان ثانيا، بناءً على أنّ كلاًّ منهما يستلزم الآخر كما مرّ آنفاً.

والمراد بالزيادة التخلخل الحقيقي، وبالنقصان التكاثف الحقيقي، فلا يتغيّر معهما التشخّص. أو المراد بهما ما يعمّهما وما يتغيّر معه التشخّص. .

ص: 203


1- في الكافي المطبوع : «ويحه» .
2- في «ج» : «الماهية» .

(وَإِذَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، كَانَ مَخْلُوقا) أي كان تعيين هذا القدر دون قدر آخر مع احتمال الطبيعة المشتركة لكلّ منهما مستندا إلى خارجٍ عن هذا الجسم مدبّرٍ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون ذلك مستندا إلى الطبيعة؛ لما مرّ من اشتراكها(1) بين الجميع، ولا إلى موجبٍ آخَرَ؛ لتشابه المقادير في تمام المهيّة.

(قَالَ: قُلْتُ: فَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: لاَ جِسْمٌ) أي لا هو جسم، كما مضى في شرح أوّل الباب.

(وَلاَ صُورَةٌ، وَهُوَ مُجَسِّمُ الاْءَجْسَامِ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ ، لَمْ يَتَجَزَّأْ) أي غير منقسم، لا في وجود، ولا في عقل، ولا في وهم؛ لما مرّ آنفا من أنّ المخلوقيّة لازمة للقسمة.

(وَلَمْ يَتَنَاهَ،وَلَمْ يَتَزَايَدْ، وَلَمْ يَتَنَاقَصْ، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ) ؛ بصفة الخطاب أو الغيبة.

(لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَرْقٌ) أي كان الخالق مخلوقا.

(وَلاَ بَيْنَ الْمُنْشِئِ وَالْمُنْشَاَء) أي كان المنشئ منشأ. وإنّما ذكر ذلك لأنّ الخالق بحسب المفهوم أعمّ من المنشئ؛ لأنّ الخالق المدبّر، والمنشئ المحدث.

(لكِنْ هُوَ الْمُنْشِئُ) أي ليس غيره منشئَ جسم، وفاعلاً بلا علاج.

(فَرَّقَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، والجملة استئناف بياني.

(بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ) بأن جعل بعضه صغيرا وبعضه أصغر، وبعضه كبيرا وبعضه أكبر.

واختار لفظة «من» على(2) «ما» لأجل أنّهم جعلوه(3) جسما عالما، فأفاد أنّه الفارق بين الأجسام العالمة، وفيه دلالة على نفي تجرّد النفس الناطقة.

(وَصَوَّرَهُ) أي جعل بعضه على صورة حسنة، وبعضه على صورة شوهاء، ويقال: إنّ الأرواح على صور الأبدان، فتسمّى حين المفارقة أبدانا مثاليّة(4).

(وَأَنْشَأَهُ) أي جعل إنشاء بعضه مقدّما، وبعضه مؤخّرا.

(إِذْ كَانَ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُ هُوَ شَيْئا) . ظرف للحصر المفهوم من قوله: «لكن .

ص: 204


1- في «ج» : «اشتراكهما» .
2- في «ج» : + «بعضه» .
3- في «ج» : «جعلوا» .
4- اُنظر عمدة القاري ، ج 19 ، ص 33 ذيل الآية : «وَ يَسْ_ءَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» .

هو المنشئ» إلى آخره. والفعلان بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال، أي لو أشبهه شيء في التجرّد ونفوذ الإرادة، لأمكن أن يكون فارقا شريكا للّه ، فلا يصحّ الحصر.

وفيه دلالة على عدم مجرّد سوى اللّه ، ولو أشبه هو شيئا في الجسميّة لكان منشأ مفروقا، لا فارقا.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْحَمَّانِيِّ) . منسوبٌ إلى حمّان _ بفتح المهملة وشدّ الميم والنون _ اسم رجل. وقيل في ترجمة يحيى بن عبد الحميد: الحمّاني بكسر المهملة(1).

(قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام : إِنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ) أي ادّعى وقتا ما قبل وصوله إلى مجلس أبي عبداللّه عليه السلام ، ولو كان المراد بقاءَه عليه لكان القدح راجعا إلى الحسن؛ لأنّه نسب إليه ما ليس فيه، واتّقاه الإمام، أو لنحو ذلك.

(أَنَّ اللّه َ تَعَالى(2) جِسْمٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، عَالِمٌ، سَمِيعٌ ، بَصِيرٌ، قَادِرٌ، مُتَكَلِّمٌ، نَاطِقٌ) أي باللسان، فهو أخصّ من المتكلّم.

(وَالْكَلاَمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرى وَاحِدٍ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقا. فَقَالَ عليه السلام : قَاتَلَهُ اللّه ُ ) . قد يُراد بهذا «عاداه» أو «لعنه». وقد يُراد به التعجّب من الشيء، كقولهم: تَرِبَت يداه(3). ولا يُراد به حينئذٍ وقوع الأمر. والمراد به هنا الأخير. وإن اُريد أحد الأوّلين، فضمير «قاتله» راجع إلى القائل بهذا القول حين هو قائل به، لا مطلقا. و«فاعَلَ» يكون بين اثنين في الغالب، وقد يكون للواحد ك«سافرت» و«طارقت». .

ص: 205


1- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد في باب الكنى (منه دام ظله)» .
2- في الكافي المطبوع : - «تعالى» .
3- قال ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 184 : «عليك بذات الدين تربت يداك قرب الرجل إذا افتقر ، أي لصق بالتراب . وأترب : إذا استغنى . وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به كما يقولون : قاتله اللّه . وقيل : معناها : للّه درك . وقيل : أراد به المثل ليري المأمور بذلك الجدّ ، وإنّه إن خالفه فقد أساء» .

(أَ مَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ) أي فيناقض قوله بالجسميّة قولَه: «ليس كمثله شيء» كما مرّ في سادس الباب.

(وَالْكَلاَمَ) . منصوبٌ معطوف على الجسم.

(غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ؟). معطوفٌ على «محدود» يعني أنّ الكلام زائد على ذات المتكلِّم؛ لأنّه من صفات الفعل، فليس كالقدرة والعلم، فإنّهما من صفات الذات وعين ذاته تعالى، فالكلام مخلوق دونهما. لمّا كان إبطال كونه جسما مشتملاً على إبطال كونه ناطقا، لم يتعرّض له هنا صريحا.

(مَعَاذَ اللّه ِ) . مصدرٌ مضاف، معناه: أعوذ باللّه معاذا.

(وَأَبْرَأُ إِلَى اللّه ِ مِنْ هذَا الْقَوْلِ) . لم يقل هذا القائل إشارةً إلى رجوعه عنه.

قوله: (لاَ جِسْمٌ، وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ تَحْدِيدٌ) ، لإبطال الجسميّة.

وقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ) ، لإبطال كون الكلام كالعلم والقدرة.

وقوله: (إِنَّمَا يُكَوَّنُ(1) الاْءَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ كَلاَمٍ، وَلاَ تَرَدُّدٍ فِي نَفَسٍ) ؛ بفتح الفاء. (وَلاَ نُطْقٍ بِلِسَانٍ) ، لإبطال كونه ناطقا.

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: وَصَفْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَوْلَ هِشَامٍ الْجَوَالِيقِيِّ وَمَا يَقُولُ فِي الشَّابِّ الْمُوَفَّقِ) . مضى في ثالث العاشر.(2)

(وَوَصَفْتُ لَهُ قَوْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) . معناه ظاهر ممّا مضى في أحاديث الباب. ومعنى «يقول»: ينسب إليه أنّه يقول. وبالجملة جلالة قدر الرجلين يوجب تأويل الأحاديث إمّا بما ذكرنا، أو بنحو ذلك؛ للأحاديث الصريحة المعارضة؛ والعلم عند اللّه . .

ص: 206


1- في الكافي المطبوع : «تُكَوَّنُ» .
2- أي الحديث 3 من باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه تعالى .

الباب الثاني عشر: باب صفات الذات

الباب الثاني عشر بَابُ صِفَاتِ الذَّاتِ

فيه ستّة أحاديث.

أي صفات له تعالى وجوديّةٌ ليس لها مصداقٌ موجودٌ في نفسه في الخارج إلاّ ذاته تعالى، فيمتنع اتّصافه تعالى بضدّها، أو يُقال: صفات له وجوديّة يمتنع انفكاكها عنه تعالى.

وسيجيء بيان الحدّين في ذيل «باب الإرادة أنّها من صفات الفعل».

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الطَّيَالِسِيِّ) ؛ بفتح المهملة والخاتمة وكسر اللام والمهملة: منسوب إلى طيالسة، جمع «الطيلسان» مثلّثة اللام، وهو ثوب معروف من صوف، والنسبة للبيع.(1)

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ رَبُّنَا،(2) وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلُومَ) .

«لم يزل» بفتح الزاي من الأفعال الناقصة. و«اللّه » مرفوع، و«عزّ وجلّ» جملة معترضة. و«ربّنا» مرفوع بدل أو عطف بيان للّه .

وقوله: و«العلم ذاته» جملة حاليّة اُقيمت مقام خبر «لم يزل»، وهو كائنا نظير ضربي زيدا وهو قائم.

وقوله: «ولا معلوم» معطوف على الجملة الحاليّة، أو جملة حاليّة اُخرى قيد للاُولى.

ص: 207


1- اُنظر لسان العرب ، ج 6 ، ص 124 (طلس) .
2- في الكافي المطبوع : «ربَّنا» بفتح الباء .

ويمكن أن يكون «ربّنا» منصوبا خبر «لم يزل» فيكون راجعا إلى ما سيجيء في رابع «باب جوامع التوحيد» من قوله: «كان ربّا إذ لا مربوب». أو مرفوعا فاعل عزّ وجلّ، فيكون جزء الجملة المعترضة.

(وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ مَقْدُورَ) أي هذه الصفات صفات ذاته بالمعنى الذي مضى آنفا، لو كان المراد أنّ مفهوم العلم نفس ذاته لم يكن صحيحا؛ لأنّ مفهوم العلم متصوّر لنا، وذاته غير متصوّر لنا. ولو كان المراد أنّ لمفهوم العلم فردا حقيقيّا هو نفس ذاته تعالى، لم يصحّ؛ لبراهينَ: منها: أنّ مفهوم العلم مشترك معنوي بينه وبين خلقه بحمل الاشتقاق، وليس له في خلقه فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج، فليس له فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج أصلاً؛ لأنّ العقل لا يجوّز ذلك الاختلاف في المشترك المعنوي، وإلاّ لجوّز أن يكون جسم أبيضَ ببياض ليس له فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج.

وتفصيل ذلك في الحاشية(1) الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(2)

(فَلَمَّا أَحْدَثَ الاْءَشْيَاءَ وَكَانَ) ؛ تامّة.

(الْمَعْلُومُ، وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْلُومِ) .

المراد بوقوع العلم على المعلوم تجدّد نسبةٍ بين العلم والمعلوم، لولا تحقّقها لم يكن العلم علما به. وقد يعبّر عن هذا الوقوع بالعلم، وقس على هذا وقوع البصر وغيره.

ويمكن أن يُراد بالوقوع تجدّد وجود متعلّقه في الخارج على حسب ما تعلّق به.

وكأنّ هذا إشارة إلى تفسير آيات، ودفع الإشكال عنها مثل قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى»(3)، وقوله: «وَلَمَّا يَعْلَمْ اللّه ُ»(4)، وقوله: «فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ»(5) بأنّ العلم يُطلق .

ص: 208


1- في «ج» : «حاشية» .
2- الحاشية الاُولى للمصنّف على العدّة غير مطبوعة .
3- الكهف (18) : 12 .
4- آل عمران (3) : 142 .
5- الفتح (48) : 18 .

على معنيين: أحدهما: من صفات الذات. والآخر: من صفات الفعل، وهو وقوع العلم بالمعنى الأوّل على المعلوم.

وإشارة أيضا إلى ردّ ما يزعمه الفلاسفة من أنّ علمه تعالى حضوري لا يمكن إلاّ بوجود المعلوم في الخارج، ومن أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلاّ عند وقوعها، فأمّا قبل ذلك فإنّه لا يعلم إلاّ المهيّة.(1)

وإشارة أيضا إلى ردّ ما يزعمه اليهود والفلاسفة حيث قالوا: إنّ اللّه تعالى فرغ من الأمر بل علمه واقع على معلومه أزلاً وأبدا في ظرف الدهر، قالوا: أوعية الوجود ثلاثة: السرمد، والدهر، والزمان،(2) وإثبات البداء للّه تعالى لإبطال ذلك، كما يجيء في أحاديث «باب البداء».(3)

(وَالسَّمْعُ عَلَى الْمَسْمُوعِ) . يعبّر عن وقوع السمع على المسموع بالسماع.

(وَالْبَصَرُ عَلَى الْمُبْصَرِ) . يعبّر عن هذا الوقوع بالإبصار.

(وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ) .

إن قلت: تحقّق المقدور ليس محقّقا لكون القدرة قدرةً؛ فإنّها متعلّقة بالنقيضين.

قلت: ذلك بانضمام الحكمة، فإنّ الحكيم لو لم يفعل ما يقتضيه المصلحة، كان لعدم قدرته عليه.

(قَالَ: قُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُتَحَرِّكا؟). الفاء للتفريع، ويمكن أن يكون هذا بطريق الاستفهام، وأن يكون بطريق الحكم.

والمراد بالحركة الانتقال من صفة إلى اُخرى. توهّم السائل أنّ العلم إذا كان أزليّا ووقوعه على المعلوم حادثا، كان اللّه منتقلاً من علمٍ إلى آخر، وهذا مبنيّ على أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد غير العلم بوجوده حين يوجد، ويزول الأوّل بالثاني وذلك لتغاير6.

ص: 209


1- حكاه في شرح نهج البلاغة ، ج 7 ، ص 23 عن أرسطوطاليس ؛ والإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 108 عن الفلاسفة ؛ والجرجاني في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 74 .
2- شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 191 .
3- الكافي، ج 1، ص 146.

المعلومين، وكذا العلم بأنّ الشيء وجد قبل ذلك غير العلم بوجوده حين وجد، ويزول الثاني بالأوّل، فالعلم بالشيء بأنّه سيقع بعد عشر سنين غير العلم بأنّه سيقع بعد خمس سنين مثلاً، ويلزم من ذلك أن يكون اللّه تعالى منتقلاً أزلاً وأبدا من علمٍ إلى آخر، وقس على ذلك الانتقالَ من سمعٍ إلى سمع، ومن بصرٍ إلى بصر، ومن قدرةٍ إلى قدرة. ويمكن أن يكون توهّم السائل مخصوصا بالعلم، فإنّ هذا التوهّم في غيره بعيد جدّا.

(قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى اللّه ُ(1)) . حاصله أنّ العلم بأنّ الشيء سيقع عين(2) العلم بوقوعه حين يقع، وكذا السمع والبصر والقدرة. والدليل عليه أنّ زوال علم لا يمكن إلاّ بالجهل بما علمه بذلك العلم، واللّه يتعالى عن ذلك، وكذا زوال سمع وبصر وقدرة إنّما يكون بصمّ وعمى وعجز تقابلها، وأمّا الانتقال في حصص العلم _ مثلاً _ المختلفةِ باختلاف أمرٍ خارجٌ عن العلم والمعلوم، كالأزمنة الغير المتناهية، فهذا غير متنازع فيه.

(إِنَّ الْحَرَكَةَ) أي انتقال اللّه من صفة إلى صفة (صِفَةٌ) ؛ بالتنوين.

(مُحْدَثَةٌ) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب الإفعال، مرفوعٌ نعت «صفة».

(بِالْفَعْلِ(3)) . بفتح الفاء وسكون المهملة مصدر باب منع؛ أي بالتأثير. وهذا إشارة إلى أنّه يمتنع أن يكون القديم موجودا بتأثير مؤثّر ضرورةً، فالزنادقة والأشاعرة القائلون بتعدّد القدماء مكابرون لمقتضى عقولهم لشُبه واهية، ومعارضات وهميّة. وإلى هذا اُشير فيما رواه ابن بابويه في توحيده في باب مجلس الرِّضا عليه السلام مع سليمان المروزي إلى آخره، حيث قال: ثمّ قال الرضا عليه السلام : «يا سليمان، أسألك مسألة» قال: سَلْ جعلت فداك، قال: «أخبرني عنك وعن أصحابك يكلِّمون(4) الناس بما يفقهون ويعرفون، أو بما لا يفقهون ولا يعرفون؟» قال: بل بما يفقهون ويعلمون، قال الرضا عليه السلام : «فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل .

ص: 210


1- في الكافي المطبوع : + «عن ذلك» .
2- في «ج» : «حين» .
3- في الكافي المطبوع : «بالفِعل» بكسر الفاء .
4- في المصدر : «تكلّمون» .

قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيءٌ واحد».(1)

(قَالَ: قُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُتَكَلِّما؟). توهّم من أزليّة العلم ونحوه أزليّةَ التكلّم، قياسا على العلم ونحوه.

(قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ الْكَلاَمَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ بِأَزَلِيَّةٍ، كَانَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَلاَ مُتَكَلِّمَ) ؛ بكسر اللام أو فتحها، بمعنى المتكلّم به أو المصدر.

ولم يقل: إنّ التكلّم صفة محدثة إشارةً إلى أنّ المتكلّم قد يُطلق على القادر على الكلام، وقد يُطلق على العالم بمعاني الكلام، ولا نزاع لنا في أزليّتهما، لكنّهما داخلان في صفة القدرة والعلم، وما نحن فيه التكلّم بمعنى إحداث الكلام ليصير صفة اُخرى، والكلام صفة حادثة؛ فالتكلّم المساوق له حادث البتّة.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ اللّه ُ وَلاَ شَيْءَ غَيْرُهُ) ، أي لا شيء موجود في الخارج في نفسه غيره.

(وَلَمْ يَزَلْ عَالِما بِمَا يَكُونُ؛ فَعِلْمُهُ بِهِ) أي بما يكون (قَبْلَ كَوْنِهِ كَعِلْمِهِ بِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ) أي ليس بينهما تفاوت بالزيادة والنقصان، ولا بالإجمال والتفصيل. والإشارات فيه كما في أوّل الباب.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ الْكَاهِلِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام : فِي دُعَاءٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ مُنْتَهى عِلْمِهِ؟) أي حمدا ينتهي منتهى علمه.

(فَكَتَبَ إِلَيَّ: لاَ تَقُولَنَّ مُنْتَهى عِلْمِهِ؛ فَلَيْسَ لِعِلْمِهِ مُنْتَهىً، وَلكِنْ قُلْ: مُنْتَهى رِضَاهُ) . علومه تعالى غير متناهية؛ لعدم تناهي المفهومات، ولا يبطله برهان التطبيق ونحوه، فإنّها إنّما تبطل «لا تناهي» ما له مجموع، وهو الموجود في نفسه في الخارج، فلا يبطل .

ص: 211


1- التوحيد ، ص 446 ، باب مع سليمان المروزي ، ح 1 .

الموجودات الرابطيّة في الخارج، ولا الثابتات في الخارج المعدومة فيه، ولتفصيله محلّ آخر، ورضاه تعالى متناه، فإنّ الرِّضا إنّما يحصل بفعل المكلّف به وهو متناه.

ومناسبة الحديث بالباب باعتبار أنّه يدلّ على أنّ العلم من صفات الذات، إذ لو كان من صفات الفعل لكان متناهيا؛ إذ الحوادث الموجودة في الخارج في نفسها متناهية.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ: أَ كَانَ يَعْلَمُ الاْءَشْيَاءَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ) .

اشتهر بين الناس شُبَهٌ في العلم التفصيلي له تعالى بكلّ شيء أزلاً وأبدا، وهي الباعثة على هذا السؤال.

(وَكَوَّنَهَا) . الخلق: التقدير، وهو أعمّ من التكوين، وكلّ منهما حادث؛ أمّا التكوين فظاهر، وأمّا الخلق فقط، فلأنّه حينئذٍ عبارة عن فعل أو ترك يعلم تعالى معه صدور فعل أو ترك عن العبد باختياره، وأنّه لولاه لم يصدر عن العبد ذلك، والترك كالفعل تابع للداعي ومصنوع، فكلّ منهما حادث كما مرّ في شرح «باب حدوث العالم». ولا ينافي هذا كونُ عدم الفعل الأزليّ غير تابع للداعي.

(أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذلِكَ حَتّى خَلَقَهَا وَأَرَادَ خَلْقَهَا وَتَكْوِينَهَا) . يدلّ على أنّ الإرادة مع المراد، لا قبله.

(فَعَلِمَ مَا خَلَقَ عِنْدَ مَا خَلَقَ،(1) وَمَا كَوَّنَ عِنْدَ مَا كَوَّنَ؟). هذا ما ذهب إليه بعض الناس حين عجزه عن جواب الشّبه قال: علمه تعالى التفصيلي حادث شيئا فشيئا بحسب حدوث الأشياء، وهو حضوري؛ إذ حصول الصور فيه تعالى محال.

(فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ تَعَالى(2) عَالِما بِالاْءَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الاْءَشْيَاءَ كَعِلْمِهِ بِالاْءَشْيَاءِ بَعْدَ مَا خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ) . .

ص: 212


1- في «ج» : - «عند ما خلق» .
2- في الكافي المطبوع : - «تعالى» .

لم يتعرّض لدفع الشُّبه المشهورة إشارةً إلى أنّها واهية جدّا، إذ هي مبنيّة على قواعد الفلاسفة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، منضمّةٌ إلى معلوم هو أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ.

ولقد ذكرنا الشّبه وأجبنا عنها في الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ) ؛ هو أبو الحسن الثالث عليه السلام (أَسْأَلُهُ أَنَّ مَوَالِيَكَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما قَبْلَ فَعْلِ(1)) ؛ بفتح الفاء، وسكون المهملة.

(الاْءَشْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما؛ لاِءَنَّ مَعْنى «يَعْلَمُ» «يَفْعَلُ») . «معنى» مضاف إلى «يَعلم» و«يفعل» بصيغة المضارع الغائب. فالمراد بالمعنى ما يرجع إليه الشيء ولازمه، فالمراد بالمعنى المفهوم؛ لما علم هذا البعض أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ. وتوهُّمُ أنّ المشيّة المطلقة يساوق الوجود توهُّمُ أنّ علمه تعالى بغيره لا يمكن إلاّ مع وجود ذلك الغير في نفسه، وكلّ وجود الغير بفعلهِ تعالى.

(فَإِنْ) . الفاء لبيان الدلالة، أو للتفريع على الدليل.

(أَثْبَتْنَا الْعِلْمَ) أي في الأزل (فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الاْءَزَلِ مَعَهُ شَيْئا) أي موجودا في نفسه بدون أن يكون فعله تعالى، إن جعل الفاء في «فإن» للبيان؛ أو بأن يكون فعلَه تعالى إن جُعِلت للتفريع.

(فَإِنْ رَأَيْتَ _ جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ _ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِنْ ذلِكَ مَا أَقِفُ عَلَيْهِ وَلاَ أَجُوزُهُ.) . جزاؤه محذوف، أي تطوّلت.

(فَكَتَبَ بِخَطِّهِ عليه السلام : لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما تَبَارَكَ وَتَعَالى ذِكْرُهُ) .

لم يتعرّض لدفع الشُّبهة إشارةً إلى قبح الخوض في أمثال ذلك؛ لقيام البرهان العقلي والنقلي على علمه تعالى بكلّ شيء، والشبهة لا تفيد الجزم أصلاً، وإنّما تفيد معارضةء.

ص: 213


1- في الكافي المطبوع: «فِعل» بكسر الفاء.

وهميّة لا يُعبَأ بها؛ لأنّ الباطل لجلج مضطرب؛(1) أو إلى ظهور ورود المنع بأنّا لا نسلّم أنّ معنى «يعلم» «يفعل»؛ لجواز ثبوت المعدومات في الخارج.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ سُكَّرَةَ) ؛ بضمّ المهملة، وشدّ الكاف المفتوحة.

(قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعَلِّمَنِي هَلْ كَانَ اللّه ُ _ جَلَّ وَجْهُهُ _) . يجيء معنى الوجه في «باب النوادر».(2)

(يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَنَّهُ) ؛ بفتح الهمزة وشدّ النون، من الحروف المشبّهة بالفعل.

(وَحْدَهُ؟)؛ بفتح الواو وسكون الحاء المهملة والدال المهملة والضمير: مصدر باب ورث، منصوبٌ عند أهل الكوفة على الظرف، أي في وحده؛ وعند أهل البصرة على المصدر، أي يحد وحده.(3) وهو على التقديرين خبر «أنّ».

(فَقَدِ اخْتَلَفَ مَوَالِيكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ كَانَ يَعْلَمُ) أي ذلك (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئا مِنْ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنى «يَعْلَمُ» «يَفْعَلُ» ) أي مرجع قولنا: «يعلم غيره» أنّ الغير موجود حتّى يكون معلوما له، فيلزم ذلك أن يكون فعل صادرا عنه.

(فَهُوَ) . الفاء للتفريع إشارة إلى لزوم صدق هذا لما قبله.

(الْيَوْمَ) أي حين خلق الأشياء.

(يَعْلَمُ أَنَّهُ) ؛ بفتح الهمزة، من الحروف المشبّهة بالفعل.

(لاَ غَيْرُهُ) . «لا غير» مرفوع على أنّه خبر «أنّ» ومضاف إلى الضمير الراجع إلى اللّه . والمقصود أنّه لمّا أوجد الغير، علم وجود الغير، وعلم أنّه ليس غيره، أي لم يتّحد مع .

ص: 214


1- في «ج» : - «مضطرب» .
2- أي باب النوادر من كتاب التوحيد .
3- اُنظر تفسير النسفي ، ج 2 ، ص 288 ذيل الآية : «وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ» .

غيره، كما توهّمه القائلون بالاتّحاد كبعض النصارى حيث قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم،(1) وكبعض الصوفيّة،(2) وليس له جزء محمول عليه، ولا صفة موجودة في نفسها في الخارج محمولة عليه، بناءً على اتّحاد المبدأ والمشتقّ بالذات وتغايرهما بالاعتبار.

(قَبْلَ فِعْلِ الاْءَشْيَاءِ) ؛ يعني أنّ العلم نحو حكاية، والحكاية حادثة، والمحكيّ أزلي.

(فَقَالُوا) أي البعض الأخير. وضمير الجمع لرعاية جانب المعنى، والفاء للبيان، أي قالوا في بيان اللّزوم:

(إِنْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَالِما بِأَنَّهُ لاَ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَثْبَتْنَا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي أَزَلِيَّتِهِ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَا سَيِّدِي أَنْ تُعَلِّمَنِي مَا لاَ أَعْدُوهُ إِلى غَيْرِهِ. فَكَتَبَ عليه السلام : مَا زَالَ اللّه ُ عَالِما تَبَارَكَ وَتَعَالى ذِكْرُهُ) أي بكلّ شيء.

وحاصله منع أنّ معنى «يعلم» «يفعل»؛ لجواز ثبوت المعدومات في الخارج بدون وجود في الخارج، وبيانه تفصيلاً في الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(3) .

ص: 215


1- حكى القرآن الكريم ذلك عنهم في الآية 17 و 72 من سورة المائدة : «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآاْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...» .
2- حكى الفاضل المقداد في اللوامع الإلهيّة ، ص 160 عن جمع من المتصوّفة بحلوله في قلوب العارفين ، وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 360 عن بعض الصوفيّة .
3- الحاشية الاُولى على عدّة الاُصول للمصنّف غير مطبوعة .

الباب الثالث عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل

الباب الثالث عشر بَابٌ آخَرُ وَ هُوَ مِنَ الْبَابِ الاْءَوَّلِ

فيه حديثان.

والفرق بين هذا الباب والباب الأوّل _ أي الذي قبله _ أنّ المقصود بالذات في الباب الأوّل إثبات أنّ له تعالى صفاتِ ذاتٍ، والمقصود بالذات في هذا الباب أنّ صفات ذاته تعالى عين ذاته بالمعنى الذي ذكرناه في الباب الأوّل.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْقَدِيمِ: إِنَّهُ وَاحِدٌ، صَمَدٌ، أَحَدِيُّ الْمَعْنى) .

المراد بالمعنى: الموجود في نفسه في الخارج، فإنّه مقصود بحمل الصفات عليه، سواء كان ذاتا أو صفةً أو جزءا لأحدهما.

(لَيْسَ بِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ) . المراد بالمعاني هنا: الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج المحمولة عليه تعالى، أو ما يشمل الأجزاء أيضا، أو ما يشمل أيضا ما يقوله أهل الاتّحاد كبعض النصارى حيث قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم،(1) وكبعض الصوفيّة.(2)

لمّا كان الأهمّ هنا نفيَ كون صفاته تعالى موجودة في أنفسها في الخارج، جعل نفيه استئنافا مفسّرا ل «أحديّ المعنى»؛ أي ليس ببصير بصرا موجودا في الخارج، ولا

ص: 216


1- تقدّم قبل صفحتين .
2- تقدّم قبل صفحتين .

بسميع سمعا موجودا في الخارج، وعليه فقس.

(مُخْتَلِفَةٍ) أي متغايرة بالذات وحقيقةً، لا متغيّرة بالاعتبار حتّى يُقال: إنّكم أيضا قائلون بالمعاني الكثيرة؛ لأنّ ذات القديم تعالى من حيث إنّه عالم غير ذاته من حيث إنّه قادر وهو معنى.

(قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَزْعُمُ) أي يدّعي (قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِغَيْرِ الَّذِي يُبْصِرُ، وَيُبْصِرُ بِغَيْرِ الَّذِي يَسْمَعُ؟) يعني ما به يسمع وما به يبصر موجودان في الخارج في نفسهما، وهما متغايران.

(قَالَ: فَقَالَ: كَذَبُوا) في زَعمهم (وَأَلْحَدُوا) أي مالوا عن الحقّ في صفاته تعالى، إشارة إلى قوله تعالى: «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ»(1).

(وَشَبَّهُوا ) أي شبّهوه بخلقه.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ؛ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، يَسْمَعُ بِمَا يُبْصِرُ، وَيُبْصِرُ بِمَا يَسْمَعُ) أي بنفس ذاته.

(قَالَ: قُلْتُ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بَصِيرٌ عَلى) ؛ بنائيّة أو نهجيّة.

(مَا يَعْقِلُونَهُ؟)؛ بالمهملة والقاف.

توهّم السائل من قوله عليه السلام : «وشبّهوا» أنّ مراده التشبيه في الجسميّة والعين والاُذن، فقال: ليس مرادهم بما به يبصر العينَ، وبما به يسمع الاُذنَ حتّى يلزم تشبيه، بل مرادهم أمرٌ يعقلونه، فإنّهم يقولون: إنّ ما نعقله من مفهوم البصر ليس مفهوما اعتباريّا، بل هو موجود في الخارج في نفسه، وهو قائم به بدون آلة وجارحة، وكذا السمع.

(قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى اللّه ُ) أي هذا أيضا تشبيه ومرادي بالتشبيه هذا.

(إِنَّمَا يُعْقَلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ) . دليل على بطلان زعمهم، وحاصله أنّ البصر الذي يعقلونه مخلوق، فإنّه لا يعقل إلاّ ما كان مخلوقا، فلزم التشبيه أي اتّصافه تعالى بالحوادث كخلقه، كما سيجيء في سادس «باب جوامع التوحيد». .

ص: 217


1- الأعراف (7) : 180 .

(لَيْسَ(1) اللّه ُ كَذلِكَ) أي ليس بصيرا على ما يعقلونه، متّصفا بما كان بصفة المخلوق.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ : فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ _ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام _ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وتَقُولُ:(2) إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ قَوْلِي: إِنَّهُ سَمِيعٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلكِنِّي أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي؛ إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً ، وَإِفْهَاما لَكَ؛ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً، فَأَقُولُ: يَسْمَعُ بِكُلِّهِ لاَ أَنَّ كُلَّهُ لَهُ بَعْضٌ؛ لاِءَنَّ الْكُلَّ لَنَا لَهُ بَعْضٌ ، ولكِنْ أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ، وَالتَّعْبِيرَ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ إِلى أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، الْعَالِمُ الْخَبِيرُ، بِلاَ اخْتِلاَفِ الذَّاتِ، وَلاَ اخْتِلاَفِ مَعْنىً) .

هذا الحديث مضى في سادس «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء» وفيه تفاوت لا يحتاج إلى الشرح إلاّ قوله: «لأنّ الكلّ لنا له بعض»، وهو علّة للمنفيّ، أي لا يتوهّم من كون كلّنا ذا جزء كونُ كلّه ذا جزء. .

ص: 218


1- في الكافي المطبوع : «وليس» .
2- في الكافي المطبوع : «أتقول» بدل «وتقول» .

الباب الرابع عشر: باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، و سائر صفات الفعل

اشارة

الباب الرابع عشر بَابُ الاْءِرَادَةِ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَ سَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ

فيه سبعة أحاديث، وشرح من المصنّف.

أي باب بيان أنّ الإرادة من صفات الفعل أي حادثة بحدوث الفعل، فقوله: «أنّها» بفتح الهمزة بدل اشتمال للإرادة.

وقوله: «وسائر»، بالجرّ معطوف على «الإرادة» أو بالنصب معطوف على اسم «أنّ».

وتفسير صفات الفعل يجيء في كلام المصنّف في ذيل الباب.

وهذا الباب لردّ ما اختاره أبو الحسين(1) من أنّ الإرادة عين الداعي،(2) والأشاعرة من أنّها أمرٌ شبيه بالعزم قديم،(3) ولردّ نحو ذلك في سائر صفات فعله. ولابدّ من تحرير محلّ النزاع لئلاّ يكون النزاع لفظيّا.

فنقول: إنّ المشيئة والإرادة والكراهة والغضب والرحم والرضا والسخط والحبّ والبغض ونحو ذلك ألفاظ مستعملة لغةً وشرعا على طبق اللغة في المخلوقات وفي الخالق تعالى بالاشتراك المعنوي، فلكلّ منها معنى لغوي هو المراد هنا، فإنّه لو اصطلح كلّ منازع على معنى غير ما اصطلح عليه الآخر، لم يكن النزاع

ص: 219


1- هو أبو الحسين البصري المتكلّم على مذهب المعتزلة الساكن في بغداد والدارس فيها ، والمتوفّى سنة 436 هجريّة . تاريخ بغداد ، ج 3 ، ص 10 ؛ وفيات الأعيان ، ج 4 ، ص 271 .
2- حكاه عن أبي الحسين البصري الخواجة في تلخيص المحصّل ، ص 281 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 299 ؛ والمحقّق اللاهيجي في شوارق الإلهام ، ص 552 عن محقّقي المعتزلة .
3- حكاه عنهم الخواجة في تلخيص المحصّل ، ص 281 ؛ والعلاّمة في أنوار الملكوت ، ص 137 .

معنويّا، والذي يتلخّص من استعمالات أهل اللغة للإرادة أنّها نوع تخصيص لأحد البدلين بالوقوع.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الاْءَشْعَرِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ الاْءَهْوَازِيِّ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُرِيدا؟) أي للعالم فيما لا يزال.

(قَالَ: إِنَّ الْمُرِيدَ) أي لفعل نفسه (لاَ يَكُونُ) ؛ ناقصة.

(إِلاَّ لِمُرَادٍ) ؛ الظرف خبر «لا يكون» لأنّ الاستثناء مفرّغ، أي إلاّ مريدا لمراد.

(مَعَهُ) أي مع المريد وقت الإرادة.

إن قلت: ينتقض هذا بإرادة العبد شيئا بالعزم عليه.

قلت: هذا إنّما يرد لو جعل اللام في قوله: «المريد» للجنس، وأمّا إذا جعلت للعهد الخارجي، فالمقصود بيان موضع السؤال، وهو اللّه تعالى.

(لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما) ؛ بأنّه سيوجد العالم في وقت كذا، وبوجوه المصالح والمفاسد.

(قَادِرا) على الإيجاد في وقت سيوجده فيه، فإنّ قدرته تعالى على فعل في وقت تتقدّم عليه، بخلاف قدرة العباد. وضمّ هذا لدفع توهّم أنّ العلم ينافي القدرة، كما يجيء في آخر «باب البداء».

ويحتمل أن يُراد أنّه كان قادرا في كلّ وقت من الأزل على أن يفعل العالم فيه وإنّما أخّره لعلمه بوجوه المصالح والمفاسد.

(ثُمَّ أَرَادَ) أي العالم في وقته.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ) ؛ بفتح الموحّدة مكبّرا.

(بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : عِلْمُ اللّه ِ وَمَشِيئَتُهُ) ؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والهمز،

ص: 220

وقد تُقلب ياءً وتُدغم بمعنى مساوق للقدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول(1) من السبع المذكورة في الباب الخامس والعشرين.(2)

(هُمَا مُخْتَلِفَانِ) أي متباينان، لا يصدق أحدهما على الآخر أصلاً.

(أَوْ مُتَّفِقَانِ؟) أي يصدق أحدهما على الآخر في الجملة.

(فَقَالَ: الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ الْمَشِيئَةَ) أي لا شيء من العلم مشيئة، وإنّما عرّف الخبر لأنّ من زعم أنّهما متّفقان ذهب إلى أنّ بعض العلم كلّ المشيئة، أي كلّ مشيئة علمٌ، بدون العكس الكلّي؛ فإنّه زعم أنّ المشيئة هي الداعي، أي العلم بالمصلحة.

(أَ لاَ تَرى أَنَّكَ تَقُولُ: سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللّه ُ، وَلاَ تَقُولُ: سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ اللّه ُ) أي لو كان كلّ مشيئة علما، لاستلزم صحّةُ إن شاء اللّه صحّةَ إن علم اللّه ، وهو غير صحيح أي على الحقيقة دون المجاز؛ فلا ينافي صحّة الحكم بحدوث علمٍ استعمل مجازا في وقوع المعلوم، كما في قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ»(3)، ولمّا يعلم اللّه .

(فَقَوْلُكَ: «إِنْ شَاءَ اللّه ُ» دَلِيلٌ عَلى أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ) أي بعض أفراد المشيئة لم يصدر عنه(4) بعدُ؛ لأنّ «إن» ناقلة للماضي إلى المضارع، ولا ينافي ذلك صدور بعض أفراد المشيئة قبل ذلك، كما يجيء في أوّل «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

(فَإِذَا شَاءَ، كَانَ الَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ ) .

حاصل الدليل: أنّه إن كان المنازع اصطلح على أن يقول للعلم بالمصلحة إنّها مشيئة، فلا نزاع في الاصطلاح، وإن ادّعى أنّ المشيئة بالمعنى اللغوي الذي ورد عليه القرآن والحديث ليست في اللّه تعالى إلاّ العلم بالمصلحة، فهذا باطل؛ لأنّ العقلاء في محاوراتهم لا يستعملون المشيئة إلاّ في أمرٍ متجدّد صادر عن الشائي بتبعيّة داع، ألا».

ص: 221


1- في «ج» : - «الأوّل» .
2- أي في باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّبسبعة.
3- الكهف (18) : 12 .
4- في «ج»: «عنه لم يصدر».

ترى أنّك، إلى آخره.(1)

إن قلت: هذا الدليل يدلّ على أنّ بعض أفراد المشيئة _ وهو المشيئة لفعل الغير _ حادث والمنازع إنّما نزاعه في المشيئة لأفعال نفسه تعالى وتروكه.

قلت أوّلاً: لا يمكن حدوث مشيئة لفعل غيره إلاّ بحدوث مشيئة له لفعل نفسه أو تركه، ألا ترى أنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه ما أفضى إلى فعلي، ولا تقول: إن علم اللّه . ويجيء في رابع الباب ورابع «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» ما يوضحه.

وثانيا: إنّ انتفاء الفرق معلوم من استعمالات اللغة، فإنّه يتلخّص من استعمالاتها أنّها صادرة عن الشائي لداع كما مرَّ آنفا، ولذا يقولون: إنّه تعالى قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، واستعمالات القرآن على طبق ذلك، كما في قوله تعالى في سورة إبراهيم: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»(2).

والذي يتلخّص من استعمالات هذه اللفظة أنّ حدّها أنّها نوع تخصيص بسبب داع لأحد أمرين بينهما بدليّة بالوقوع،(3) وهو أعمّ مفهوما من العزم والإحداث والترك، ومن الأمر والنهي، والميل والشوق والتمنّي ونحو ذلك.

ومن استعمالاتها قوله تعالى في سورة النحل: «لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ»(4)، وقوله فيها: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ»(5).

(وَعِلْمُ اللّه ِ السَّابِقُ الْمَشِيئَةَ(6)) ؛ بالنصب على المفعوليّة لاسم الفاعل؛ لأنّه مع اللام.(7) ».

ص: 222


1- مراده من قوله : «ألاترى أنّك إلى آخره» أي : ألاترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم اللّه .
2- إبراهيم (14): 19 .
3- في حاشية «أ» : «متعلّق بتخصيص (سمع)» .
4- النحل (16) : 31 .
5- النحل (16) : 35 .
6- في الكافي المطبوع : «للمشيئة» .
7- في حاشية «أ»: «قوله: لأنّه مع اللام، إشارةٌ إلى دفع توهّم هو أنّه لايجوز النصب هنا، لأنّ اسم الفاعل هنا ماض معنى، ومثله لا يعمل النصب على الأصحّ. وحاصل الدفع أنّ عدم الجواز إنّما هو إذا كان اسم الفاعل مجرّدا عن اللام، ولما كان هنا مع اللام جاز عمله النصب على ما بيّن في محلّه؛ فتأمّل (مهدي)».

و«السابق» إمّا بالموحّدة وإمّا بالهمز من ساق يسوق.

فعلى الأوّل ينبغي أن يُراد قصر علم اللّه في السابق قصرَ قلبٍ أي ليس العلم نفس المشيئة، بل هو أمرٌ سابق عليها.

وعلى الثاني ينبغي أن يُراد قصر السائق في علم اللّه ؛ أي علم العباد ليس سائقا لمشيئتهم. فهو إشارة إلى دليل آخر على أنّ العلم ليس هو المشيئة.

تقريره: أنّه لو كان كذلك، لامتنع بالذات انفكاك المشيئة عن العلم. وليس كذلك؛ لأنّ العلم الذي يدّعى أنّه المشيئة إمّا الداعي مطلقا، أو الداعي القويّ. والأوّل باطل؛ لأنّ الداعيين قد يكونان متعارضين متعلّقين بطرفي الفعل والترك من جهتين، كما في قوله تعالى: «وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(1)في «ج» : - «منعه» .(2)، والمشيئة لا تتعلّق إلاّ بأحدهما. والثاني قد تتخلّف عنه المشيئة في العباد، فعلمهم بالمصلحة قد لا يسوق منعه(2) المشيئة، فتتعلّق مشيّتهم بما علموا أنّ نقيضه أحسن منه، فلا يتّحدان؛ فعلم أنّ وقوع مشيئة اللّه تعالى على طبق علمه إنّما هو لسوق علم اللّه مشيئته بدليل خارج هو حكمته وعدله، وليس لاتّحاد العلم والمشيئة.

الثالث: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) أي الرضا (أَخْبِرْنِي عَنِ الاْءِرَادَةِ) أي عن فرد الإرادة ومصداقها.

وليس المراد السؤال عن نفس مفهومها، فإنّها معلومة من اللغة كما مرّ آنفا، والمراد إرادة الفعل، فإنّ إرادة الترك يسمّى كراهة أي للفعل، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(3)، ولأنّها العمدة، ويعلم إرادة الترك بالمقايسة.

(مِنَ اللّه ِ) أي الصادرة من اللّه . .

ص: 223


1- البقرة
2- : 219 .
3- التوبة (9) : 46 .

(وَمِنَ الْخَلْقِ؟) أي وعن الإرادة من المخلوق، والسؤال عن إرادتهما لفعل نفسهما.

(فَقَالَ(1): الاْءِرَادَةُ مِنَ الْخَلْقِ الضَّمِيرُ) . هو الاسم من أضمرت شيئا في نفسي: إذا أخفيته فيها.

والمراد به هنا العزم، أو الأعمّ منه ومن الميل والشوق والتمنّي والحيلة في التوسّل إلى فعل لنفسه ونحو ذلك. وليس المراد أنّه لا يمكن إرادة شيء في العبد إلاّ بالضمير؛ فإنّه يلزم التسلسل؛ لأنّ الضمير بمعنى العزم من الأفعال الاختياريّة.

(وَمَا يَبْدُو لَهُمْ) أي وما يتجدّد للخلق أن يفعله(2) بدون لزوم واضطرار، فالعائد مستتر في «يبدو». وهو إشارة إلى أنّ الضمير لا يوجب الفعل؛ لجواز أن ينفسخ.

(بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الضمير زمانا.

(مِنَ) ؛ بيانيّة ل«ما».

(الْفَعْلِ(3)) ؛ بالفتح، أي الإحداث للمراد.

(وَأَمَّا مِنَ اللّه ِ تَعَالى، فَإِرَادَتُهُ إِحْدَاثُهُ) أي إحداثه المراد.

(لاَ غَيْرُ ذلِكَ) أي لا يتحقّق فيه ضمير أصلاً.

إن قلت: إذا كان مشيئته تعالى الإحداثَ، كان قولنا: إن شاء اللّه فعل كذا لغوا؛ لاتّحاد الشرط والجزاء فيه؟

قلت: المشيئة لشيء أعمّ من إحداث ذلك الشيء؛ لأنّها تتحقّق(4) بإحداث شيء آخر لأن يفضي إلى ذلك الشيء كما مرَّ آنفا، فلا اتّحاد.

(لاِءَنَّهُ لاَ يُرَوِّئ) ؛ بالمهملة وشدّ الواو والهمز، تقول: روّأت في الأمر تَرْوِئَةً وترويئا(5) بالهمز فيهما: إذا نظرت فيه ولم تعجّل بجواب. والاسم: الرويّة، بفتح الراء وكسر الواو».

ص: 224


1- في الكافي المطبوع : «قال : فقال» بدل «فقال» .
2- في حاشية «أ» : «يفعلوه» ظ .
3- في الكافي المطبوع : «الفِعل» بكسر الفاء .
4- في «ج»: «يتحقق».
5- في «ج»: «تروئا».

وشدّ الخاتمة،(1) جرت في كلامهم بغير همز، وأصلها الهمز.

(وَلاَ يَهُمُّ) ؛ بصيغة المعلوم من المجرّد، من همّ بالشيء يَهُمُّ بالضمّ همّا _ والاسم: الهمّة بكسر الهاء _ : إذا قصده.

(وَلاَ يَتَفَكَّرُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل. والتفكّر: الانتقال من ضميرٍ إلى ضمير.

(وَهذِهِ الصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ، وَهِيَ صِفَاتُ الْخَلْقِ) . أي المخلوق.

(فَإِرَادَةُ اللّه ِ الْفَعْلُ هِيَ(2)) ؛ بالفتح، أي الإحداث للمراد.

(لاَ غَيْرُ ذلِكَ؛ يَقُولُ لَهُ) أي للمراد: («كُنْ» فَيَكُونُ بِلاَ لَفْظٍ، وَلاَ نُطْقٍ بِلِسَانٍ) أي استعمال القول. و«كن» على سبيل الاستعارة التمثيليّة.

(وَلاَ هَمٍّ،(3) وَلاَ تَفَكُّرٍ) ؛ بالجرّ والتنوين.

(وَلاَ كَيْفَ لِذلِكَ) ؛ مبنيّ على الفتح، و«لا» لنفي الجنس، ويحتمل الجرّ والتنوين.

والكيف خصوصيّة موجودة في نفسها تعرض الشيء، يعني لا كيف لذلك القول؛ لأنّه ليس كلاما حقيقةً حتّى يكون موجودا في نفسه ومحلاًّ لموجود آخر، بل محض نفوذ الإرادة.

(كَمَا أَنَّهُ) . الكاف للتعليل، نحو: تجاوز اللّه عنه كما لا يعلم. وضمير «أنّه» للّه أو للشأن.

(لاَ كَيْفَ لَهُ) أي للّه .

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: خَلَقَ اللّه ُ الْمَشِيئَةَ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ بِالْمَشِيئَةِ) أي ليس المشيئة عين الداعي، بل هي أمرٌ تابع للداعي، وصادر بخلق وتدبير. والمشيئة: الإحداث كما مرّ في ثالث الباب. .

ص: 225


1- لسان العرب ، ج 1 ، ص 90 (روأ) .
2- في الكافي المطبوع : «الفِعلِ» بالكسر بدل «هي الفَعل» .
3- في الكافي المطبوع : «همّة» .

وقد بيّن ذلك بحيث يندفع به إشكال يورد في المشهور على حدوث الإحداث، وهو أنّه لو كان كذلك، لكان أيضا ممكنا حادثا محتاجا إلى إحداث آخر وهكذا، ويلزم التسلسل.

وحاصل الدفع: أنّ إحداث الإحداث بنفس ذلك الإحداث لا بإحداثٍ آخَرَ، وسرّه أنّ الصادر عن الفاعل حقيقةً هو المعلول، وليس الإحداث صادرا عنه حقيقةً، بل هو نفس المعلول لكن لا حقيقة، بل بمعنى أنّ مصداقه نفس المعلول، أي هو منتزع عن الفاعل في مرتبة صدور المعلول عنه تبعا للداعي، فإحداث المعلول حقيقةً منسوب إليه بالعرض.

وهذا الإشكال قويّ على أبي الحسين وأتباعه الذين تبعوا الفلاسفة في أنّ الإيجاد مقدّم بالذات على المعلول، فإنّ الإحداث إذا استقلّ بمرتبة على حدة، استحال تحقّقها بدون إحداثٍ آخَرَ يتعلّق به على حدة.

فجوابهم عن الإشكال بأنّ التأثير أمرٌ اعتباري لا حاجة له إلى تأثير، إنّما يتمّ على ما بيّنّاه لا على مذهبهم.

والباء هنا مثلها في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو.

ولفظة «ثمّ» للتعجّب باعتبار أنّ كون إيجادٍ واحدٍ منسوبا إلى حادثين باعتبارين: أحدهما نفسه، والآخر غيره، عجيبٌ.

واعلم أنّه يحتمل أن يكون المراد بالحديث دفع إشكال آخر هو للمعتزلة في قولنا: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فإنّهم يقولون: يستحيل أن يشاء اللّه قبيحا.

وحاصل الدفع: أنّ خلقه تعالى متعلّق بكلّ واقع من الأفعال والتروك، لكنّه على قسمين:

الأوّل: خلقه لأفعال نفسه أو تروكه تعالى، وهو بمشيئة متعلّقة بها أوّلاً وبالذات.

الثاني: خلقه لأفعال العباد أو تروكهم، وهو بمشيئة متعلّقة بها ثانيا وبالعرض؛ فمعنى مشيئة اللّه لمعاصي العباد أنّه خلق أشياءً بمشيئة لها أوّلاً وبالذات، وعلم أنّها يفضي إلى اختيار العباد المعاصي، فهذه المشيئة بعينها تنسب إلى المعاصي بالعرض؛ لا أنّ له تعالى مشيئةً على حدة منسوبةً على حدة إلى المعاصي.

ص: 226

وهذا الاحتمال ألصق بما روى ابن بابويه في كتاب التوحيد في «باب المشيئة والإرادة» قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام : «خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».(1)

إن قلت: كيف يتعلّق الخلق بالمشيئة والخلق أيضا من صفات الفعل؟

قلت: فيه مسامحة، والمراد تعلّقه بما شاء. ويمكن أن يكون المراد بالمشيئة مصداقَ المشيئة، وهو الماء الذي خلق أوّلاً، وكان مادّة سائر الأشياء، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب نادر فيه ذكر الغيب».(2)

الخامس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْمَشْرِقِيِّ) ؛ بفتح الميم، وسكون المعجمة، وكسر المهملة والقاف.

(حَمْزَةَ بْنِ الْمُرْتَفِعِ) ؛ بكسر الفاء.

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ) . هو من رؤساء المعتزلة،(3) ويجيء خبث عقيدته في «كتاب الجهاد» في «باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبداللّه عليه السلام ».(4)

(فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَوْلُ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى) في سورة طه: («وَ مَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوى»(5) مَا ذلِكَ الْغَضَبُ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : هُوَ الْعِقَابُ) أي لا الكيفيّة الموجودة في الخارج في نفسها تعتري الإنسان، وتسمّى بالطيش والنزق والخفّة ونحو ذلك.

(يَا عَمْرُو؛ إِنَّهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ قَدْ زَالَ مِنْ شَيْءٍ) أي من صفة موجودة في الخارج في نفسها هي الرحمة. .

ص: 227


1- التوحيد ، ص 339 ، باب المشيئة والإرادة ، ح 8 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 256 ، باب نادر فيه ذكر الغيب ، ح 2 .
3- ذكره ابن حبان في المجروحين ، ج 2 ،ص 69 وقال : «اعتزل مجلس الحسن ومعه جماعة فسمّوا المعتزلة ، وكان يشتم أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله ويكذب في الحديث» .
4- الكافي ، ج 5 ، ص 23 ، باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد اللّه عليه السلام .
5- طآه (20) : 81 .

(إِلى شَيْءٍ) أي صفة موجودة في الخارج في نفسها هي الطيش.

(فَقَدْ وَصَفَهُ صِفَةَ) ؛ مفعول مطلق، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي بصفة.

(مَخْلُوقٍ، وَ إِنَّ اللّه َ عَزَّوَجَلَّ(1) لاَ يَسْتَفِزُّهُ(2) شَيْءٌ؛ فَيُغَيِّرَهُ) . يُقال: استفزّه(3) الخوف، أي استخفّه وجعله غير مطمئنّ؛ يعني إنّما يكون الرحمة والغضب فيمن يخافُ من شيء، فلا يجريان في اللّه تعالى.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فَكَانَ مِنْ سُوءَالِهِ: أَنْ قَالَ لَهُ: فَلَهُ رِضا وَسُخْطٌ؟(4)) بالضمّ وضمّتين وفتحتين، مصدر باب علم: الغضب.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَعَمْ، وَلكِنْ لَيْسَ ذلِكَ عَلى) نهجيّة (مَا يُوجَدُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ) أي مصداقهما فيه غير مصداقهما في المخلوقين.

(وَذلِكَ أَنَّ) أي لأنّ (الرِّضَا) أي مصداق الرضا من المخلوق.

(حَالٌ) أي صفة موجودة في نفسها في الخارج.

(تَدْخُلُ عَلَيْهِ) أي على المخلوق.

(فَتَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ) هي مصداق السخط.

(إِلى حَالٍ) هي مصداق الرضا.

(لاِءَنَّ الْمَخْلُوقَ أَجْوَفُ) أي محلّ الصفات والتغييرات.

(مُعْتَمَلٌ(5)) . اسم مفعول من باب الافتعال؛ أي معمول من أصناف من الأجزاء.

(مُرَكَّبٌ) . اسم مفعول من باب التفعيل؛ أي جعل فيه صفات جبليّة كالجُبن والبُخل .

ص: 228


1- في الكافي المطبوع : «تعالى» .
2- في «ج» : «يستفذّه» .
3- في «ج» : «استفذّه» .
4- في الكافي المطبوع : «سَخَط» بفتحتين .
5- في الكافي المطبوع : «معتمِل» بكسر الميم .

والحسد ونحو ذلك وأضدادها.

(لِلاْءَشْيَاءِ فِيهِ مَدْخَلٌ) . هذا نتيجة للأوصاف الثلاثة. والمدخل مصدر ميمي؛ أي يتّصف بالأشياء بعدما لم يتّصف.

(وَخَالِقُنَا لاَ مَدْخَلَ لِلاْءَشْيَاءِ فِيهِ؛ لاِءَنَّهُ وَاحِدٌ) أي لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كما سيجيء بعد «باب حدوث الأسماء» في أوّل «باب آخر»(1) وهذا ناظر إلى «أجوف».

(وَأَحَدِيُّ الذَّاتِ) . الواو للعطف؛ أي ذاته أحديّ لا أجزاء فيه أصلاً، وهذا ناظر إلى «معتمل».

(وَأَحَدِيُّ الْمَعْنى) . المراد بالمعنى الموجود في نفسه في الخارج، أي ليس فيه صفة موجودة في الخارج في نفسها أصلاً كما أنّه لا جزء له. وهذا ناظر إلى «مركّب»، فالنشر على ترتيب اللفّ.

(فَرِضَاهُ ثَوَابُهُ، وَسَخَطُهُ عِقَابُهُ، مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَتَدَاخَلُهُ) أي يداخله. والمراد دخول كلّ جزء من أحدهما في جزء من الآخر.

(فَيُهَيِّجُهُ) ؛ بشدّ الخاتمة.

(وَيَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ) هي الاطمئنان (إِلى حَالٍ) هي الطيش.

(لاِءَنَّ ذلِكَ) أي الشيء المتداخل.

(مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ الْعَاجِزِينَ) : الخائفين من وقوع مضرّ يعجزون عن دفعه.

(الْمُحْتَاجِينَ) : الخائفين من فوت نفع يحتاجون إليه، فيستفزّهم الخوفان.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: الْمَشِيئَةُ مُحْدَثَةٌ) ؛ بفتح الدال المخفّفة، أي حادثة. .

ص: 229


1- أي الحديث 1 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .

وليس المراد أنّها يتعلّق بها إحداثٌ حقيقةً، إلاّ أن يُراد بالمشيئة مصداقها، وهو الماء، كما ذكرنا في شرح رابع الباب. وهذا للردّ على كونها نفس الداعي.

ويحتمل كسر الدال، أي يستحيل أن لا يحدث ما شاء اللّه كما شاء، فهو للردّ على التفويض. وسيجيء بيانه في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء» إلى آخره، لكن لا يناسب الباب.

الشرح

(جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ) . هذا إلى آخر الباب كلام المصنّف رحمه اللّه .

قيل:(1) حاصل الكلام أنّه ذكر معيارين للتمييز بين صفات الذات وبين صفات الفعل:

أحدهما: أنّ كلّ صفة من صفاته تعالى يوجد هي في حقّه تعالى دون نقيضها، فهي من صفات الذات؛ وكلّ صفة توجد هي ونقيضها في حقّه تعالى، فهي من صفات الفعل.

وثانيهما: أنّ كلّ صفة يمكن أن تتعلّق بها قدرته تعالى وإرادته، فهي من صفات الفعل، وكلّ صفة ليست كذلك، فهي من صفات الذات، انتهى.

(إِنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ) أي صفتين متقابلتين.

(وَصَفْتَ اللّه َ بِهِمَا) أي بكلّ منهما وصفا موافقا لنفس الأمر. وهذا للاحتراز عن شيئين لم يوصف إلاّ بأحدهما، فإنّهما إن كانا جميعا في الوجود، كان ما يوصف به منهما من صفات الذات كالعلم والجهل، وإن لم يكونا جميعا في الوجود، فإن كان ما يوصف به منهما الطرف الوجودي، كان من صفات الذات كالحياة وعدم الحياة، وإن كان ما يوصف به منهما الطرف العدمي، كان من صفات التمجيد والتقديس كالأين وعدم الأين، ولا يسمّى صفة فعل ولا صفة ذات.

ص: 230


1- في حاشية «أ» : «ا م ن (منه سلمه اللّه )». والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشيته على الكافي .

(وَكَانَا جَمِيعا فِي الْوُجُودِ). المراد بالوجود مقابل العدم، وبكونهما في الوجود أن يكون لكلّ منهما حصّة من جانب الوجود كالمتقابلين تقابلَ العدم والملكة، أو تقابل التضادّ، أو التضايف.

وهذا للاحتراز عن شيئين: أحدهما:(1) سلب محض للآخر؛ أي تقابلهما تقابل السلب والإيجاب كالعلم وعدم العلم، فإنّ اللّه تعالى يتّصف بكلّ منهما من جهتين، وليس شيء منهما من صفات الفعل، بل الوجودي من صفات الذات، والعدمي لا يسمّى باسم.

أمّا اتّصافه تعالى بالعلم فظاهر، وأمّا اتّصافه تعالى بعدم العلم فإنّه تعالى لا يعلم لنفسه شريكا؛ قال تعالى في سورة يونس: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ»(2)، وفي سورة الرعد: «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاْءَرْضِ»(3)، ولا يعلم في بعض الكفّار خيرا؛ قال تعالى: «لَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ»(4)، وليس كلّ صفات الذات كذلك، فإنّه تعالى لا يتّصف بنقيض الحياة أصلاً.

أو المراد بالوجود القدرة، ومنه الحديث: «لَيُّ الواجد يُحلّ عقوبتَه وعرضَه»(5) أي القادر على قضاء دينه. ويقال: أوجده بعد ضعف، أي قوّاه. فالمراد بكونهما في الوجود كونهما مقدورين للّه تعالى، أو المراد بالوجود المقدور مسامحةً، وبكونهما في الوجود تعلّقهما بمقدور.

إن قلت: هل يجوز أن يكون مراد المصنّف رحمه الله بكونهما في الوجود تعلّقهما .

ص: 231


1- في حاشية «أ» : «هذا مع ما بعده صفة شيئين» .
2- يونس (10) : 18 .
3- الرعد (13) : 33 .
4- الأنفال (8) : 23 .
5- الأمالي للطوسي ، ص 520 ، المجلس 18 ، ح 53 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 18 ، ص 333 ، ح 23792 ؛ تذكرة الفقهاء ، ج 14 ، ص 66 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 72 ، ح 44 . ورواه من العامّة أحمد في مسنده ، ج 4 ، ص 222 و ص 389 ؛ والبخاري في صحيحه ، ج 3 ، ص 85 ، كتاب الاستقراض ؛ وابن ماجة في سننه ، ج 2 ، ص 811 ، ح 2427 . والليّ : المطل ، والعقوبة حبسه ، والمغرض الإغلاظ له في القول .

بموجود(1) أو بثابت،(2) أو كون الوصف بكلّ منهما حقّا موافقا لنفس الأمر؟

قلت: لا يجوز؛ لأنّه يلزم أن يكون القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك من صفات الفعل؛ لأنّ نقيض قدرته تعالى يتعلّق بنفسه تعالى، وهو موجود وثابت.

(فَذلِكَ) أي كلّ منهما (صِفَةُ فِعْلٍ؛ وَتَفْسِيرُ هذِهِ الْجُمْلَةِ) أي توضيحها بالأمثلة لها ولقسيمها المعلوم منها بالمقايسة، أي صفات الذات.

(أَنَّكَ تُثْبِتُ) ؛ بضمّ تاء المضارعة، أي تَعْلَمُ.

(فِي الْوُجُودِ) أي فيما يتعلّق به الطرف الذي فيه حصّة من جانب الوجود.

(مَا يُرِيدُ) وهو كلّ كائن من الممكنات.

(وَمَا لاَ يُرِيدُ) وهو ما يكرهه، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(3).

(وَمَا يَرْضَاهُ وَمَا يَسْخَطُهُ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يُبْغِضُ). يجيء في سادس «باب النوادر»(4): تفسير للرضا والسخط ونحوهما. ويجيء في خامس «باب المشيّة والإرادة» قوله: «لم يحبّ أن يقال: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر».

(فَلَوْ كَانَتِ الاْءِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ) . هي الصفات التي كانت في الوجود، ووصفت اللّه بها ولم تصفه بمقابلاتها التي هي في الوجود.

(مِثْلِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، كَانَ مَا لاَ يُرِيدُ) أي إثبات ما لا يريد في الوجود.

(نَاقِضا لِتِلْكَ الصِّفَةِ) أي مناقضا لأصل إثباتها، فيلزم اجتماع النقيضين.

(وَلَوْ كَانَ مَا يُحِبُّ) ؛ أي حبّه.

(مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، كَانَ مَا يُبْغِضُ) أي البغض، أو إثبات ما يبغض. .

ص: 232


1- في حاشية «أ» : «أي في الخارج (سمع)» .
2- في حاشية «أ» : «أي فقي نفس الأمر بناءً على ثبوت المعدومات في نفس الأمر (سمع)» .
3- التوبة (9) : 46 .
4- أي باب النوادر من كتاب التوحيد .

(نَاقِضا لِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ أَ لاَ تَرى أَنَّا لاَ نَجِدُ فِي الْوُجُودِ مَا لاَ يَعْلَمُ) ؛ بصيغة المعلوم، وفيه ضمير اللّه ، أي مع قيد يخرجه عن السلب المحض، ويعطيه حصّة من جانب الوجود، كأن يُقال «لا يعلم» ومن شأنه أن يُعلَم.

وإنّما قال: «في الوجود» لئلاّ ينتقض بعدم علمه تعالى بالمنفيّ المحض كالشريك.

(وَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ) بأن يُقال: «لا يقدر عليه» ومن شأنه أن يكون مقدورا، ولولا قوله: «في الوجود» لانتقض بعدم قدرته، بمعنى صحّة الفعل والترك على نفسه.

(وَكَذلِكَ صِفَاتُ ذَاتِهِ تعالى) أي مثل ما قلنا في العلم والقدرة سائر صفات ذاته تعالى. وهو إشارة إلى الحدّ الذي ذكرنا آنفا لصفات الذات.

(الأزليّة). إشارة إلى فصل آخر في حدّ صفات الذات بدل قولنا: «ولم تصفه» إلى آخره. فيحصل حدّ آخر لصفات الذات، وهي صفاته التي كانت في الوجود، وكانت أزليّةً.

(لَسْنَا نَصِفُهُ) . استئناف لبيان الحدّين لصفات الذات؛ أي لا نصفه البتّة؛ لقبح هذا الوصف وبطلانه. وهذا ناظر إلى الحدّ الأوّل.

(بِقُدْرَةٍ) على بعض (وَعَجْزٍ) عن آخر. ومعنى العجز عدم القدرة على ما من شأنه أن يكون مقدورا.

(وَذِلَّةٍ(1))؛ بكسر المعجمة، هي عدم القدرة بالاستقلال على ما من شأنه أن يكون مقدورا بالاستقلال، فيجتمع مع أصل القدرة كما في العباد بالنسبة إلى أفعالهم الاختياريّة، ومقابلها العزّة. والمراد: لا نصفه بعزّة بالنسبة إلى بعض، وذلّة بالنسبة إلى آخر.

(وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ). عودٌ إلى مثال صفات الفعل لتوضيح الحدّ الأوّل لصفات الذات.

(يُحِبُّ مَنْ أَطَاعَهُ) أي ينصره، أو يأمر بإطاعته ويثيبه.

(وَيُبْغِضُ مَنْ عَصَاهُ) أي يخذله، أو ينهى عن عصيانه ويعاقبه. .

ص: 233


1- في الكافي المطبوع : «بقدرة وعجز ، وعلمٍ وجهلٍ ، وسفهٍ وحكمةٍ وخطاء ، وعزٍّ وذلة» .

(وَيُوَالِي) أي ينصر (مَنْ أَطَاعَهُ، وَيُعَادِي مَنْ عَصَاهُ، وَإِنَّهُ يَرْضى) عن بعض (وَيَسْخَطُ) على آخر.

(وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللّهُمَّ ارْضَ عَنِّي، وَلاَ تَسْخَطْ عَلَيَّ).(1) كأنّه لتوضيح الحدّ الثاني بأمثلة قسيمه قدّم على بيان نفس الحدّ الثاني؛ أي كلّ منهما مقدور للّه تعالى وبإرادته.

(وَلاَ يَجُوزُ) . هذا لبيان نفس الحدّ الثاني، وحاصله أنّ الأزلي ليس بقدرة اللّه تعالى ولا بإرادته.

(أَنْ يُقَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يَعْلَمَ) أي ما علمه.

(وَلاَ) ؛ للعطف، أي ولا أن يُقال: (يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ) أي ما لم يعلمه كالشريك.

وهذا تأسيس لكن ذكره بتقريب، فإنّ عدم العلم ليس من صفات الذات.

ويمكن أن يكون المراد أنّ عدم علمه بما علمه ليس بقدرته، فيكون تأكيدا؛ لأنّ القدرة نسبتها إلى الطرفين على سواء إلاّ عند الأشعري.(2)

(وَيَقْدِرُ) أي ولا يجوز أن يُقال: يقدر (أَنْ يَمْلِكَ، ولاَ) ؛ للعطف.

(يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَمْلِكَ، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزا حَكِيما، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ عَزِيزا حَكِيما، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ جَوَادا، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ جَوَادا، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ غَفُورا، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ غَفُورا) .

لفظة «لا» العاطفة غير موجودة في الفقرة الثانية أيضا من الأمثلة الأخيرة في بعض النسخ، والأولى حذفها في غير المثال الأوّل؛ لأنّ ذكرها في الفقرة الثانية مع حذفها في الاُولى غير حَسَن.

(ولاَ يَجُوزُ أَيْضا أَنْ يُقَالَ). هذا أيضا لتوضيح الحدّ الثاني.

(أَرَادَ أَنْ يَكُونَ رَبّا) . سيجيء تفسير الربّ وأزليّته في رابع «باب جوامع التوحيد». .

ص: 234


1- في الكافي المطبوع : + «وَتَوَلَّنِي وَلاَ تُعَادِنِي» .
2- حكاه عن الأشاعرة الخواجة نصير الدين الطوسي في تلخيص المحصّل ، ص 167 ؛ والعلاّمة الحلّي في معارج الفهم ، ص 274 .

(وَقَدِيما وَعَزِيزا وَحَكِيما وَمَالِكا وَعَالِما وَقَادِرا؛ لاِءَنَّ) أي ليس سرّه إلاّ أنّ (هذِهِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَالاْءِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ) .

وفيه ردّ على الأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّ قدرته تعالى تابعة لإرادته، كما قيل في تفسير سورة طه(1) عند قوله تعالى: «وَإِنْ تَجْهَرْ»(2).

إن قلت: لا يجوز أيضا أن يُقال: أراد أن يكون مريدا؛ للزوم التسلسل في الإرادات، فيلزم أن لا تكون الإرادة من صفات الفعل؟

قلت: لا يلزم؛ لأنّ هذا ليس حدّا على حدة لصفات الذات، بل لبيان الحدّ الثاني بأنّ كلّ أزليّ ممّا لا يمكن تعلّق الإرادة به، ولا يجب العكس كلّيّا، على أنّا لا نسلّم أنّه لا يجوز أن يُقال: أراد أن يكون مريدا؛ لما مرَّ في رابع الباب من أنّ إرادة الإرادة عين الإرادة.

(أَ لاَ تَرى أَنَّهُ يُقَالُ: أَرَادَ هذَا وَلَمْ يُرِدْ هذَا) أي ممّا من شأنه أن يُراد.

(وَصِفَاتُ الذَّاتِ) . عاد إلى بيان الحدّ الأوّل.

(يُنْفى(3)) ؛ بصيغة المجهول. والمراد أنّه ينفي بالكلّيّة، ولا يمكن أن يتحقّق أصلاً.

(عَنْهُ بِكُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا ضِدُّهَا) أي مقابلها الذي هو في الوجود.

(يُقَالُ: حَيٌّ وَعَالِمٌ وَسَمِيعٌ وَبَصِيرٌ وَعَزِيزٌ وَحَكِيمٌ، غَنِيٌّ). ظاهره جعل «عزيز» و«غنيّ» من صفات الذات، ولا ضير؛ لأنّه يختلف استعمالهما، وأراد بهما هنا ما في الوجود. ويحتمل بعيدا أن يكون اصطلاح المصنّف تعميم صفات الذات بحيث تشمل صفات التمجيد أيضا. .

ص: 235


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 70 قال : «ولمّا كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنقكّ عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليّات الاُمور وخفيّاتها على سواء ، فقال : «وَ إِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ و يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفَى» أي وإن تجهر بذكر اللّه ودعائه فاعلم أنّه غنّي عن جهرك ؛ فإنّه يعلم السرّ وأخفى منه ، وهو ضمير النفس» .
2- طآه (20) : 7 .
3- في الكافي المطبوع : «تَنْفِي» بصيغة المعلوم .

(مَلِكٌ، حَلِيمٌ، عَدْلٌ، كَرِيمٌ؛ فَالْعِلْمُ ضِدُّهُ الْجَهْلُ، وَالْقُدْرَةُ ضِدُّهَا الْعَجْزُ، وَالْحَيَاةُ ضِدُّهَا الْمَوْتُ، وَالْعِزَّةُ ضِدُّهَا الذِّلَّةُ، وَالْحِكْمَةُ) . هي مجموع الفهم، أي الفطانة والعقل، أي التأدّب بالآداب الحسنة بالفكر الصائب ونحوه، كما مضى في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل».(1)

(ضِدُّهَا الْخَطَأُ) أي في الفكر، فهو ضدّ لها باعتبار اشتمالها على العقل.

(وَضِدُّ الْحِلْمِ الْعَجَلَةُ وَالْجَهْلُ). هو مشترك بين ضدّ العلم وضدّ العقل وضدّ الحلم.

(وَضِدُّ الْعَدْلِ الْجَوْرُ وَالْظُّلْمُ). .

ص: 236


1- في حاشية «أ» : «في ذيل قوله عليه السلام : يا هشام إنّ اللّه يقول في كتابه : «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» يعني عقل ، وقال : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ» قال : الفهم والعقل» .

الباب الخامس عشر: باب حدوث الأسماء

الباب الخامس عشر بَابُ حُدُوثِ الاْءَسْمَاءِ

فيه أربعة أحاديث.

المراد بالأسماء ما هي أجزاء للكلام النفسي، وتحمل عليه تعالى مواطأةً كالعالم، وهي متّحدة بالذات مع الصفات التي هي مفهومات المبادئ كالعلم، مغايرة لها بالاعتبار.

ولا ينافي حدوث الأسماء بهذا الاعتبار قدمها باعتبار أنّها محكيّ الكلام النفسي، ولا وجود لها في نفسها أصلاً، كما مرّ في سادس الثاني(1) في شرح قوله: «لأنّا لم نكلّف غير موهوم».

وهذا الباب للردّ على الأشاعرة في قولهم بقدم الكلام النفسي من القرآن ونحوه؛(2) لأنّ إثبات حدوث الأسماء يثبت حدوث الكلام بطريقٍ أولى، كما أنّ قدم الكلام يستلزم قدم الأسماء بطريقٍ أولى؛ وللردّ على القائلين بأنّ بعض أسمائه تعالى علم لذاته؛(3) وللردّ على الأشاعرة في قولهم بقدم المعاني القائمة بذاته تعالى بناءً على وجود الأشياء بأنفسها في الأذهان؛(4) وللردّ على المعتزلة القائلين بعينيّة صفاته تعالى له حقيقةً.(5)

ص: 237


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنه شيء .
2- المواقف للإيجي، ج 3، ص 140 _ 143؛ حاشية الشريف الجرجاني على الكشّاف، ص 4؛ محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين، ص 250؛ الأربعون في اُصول الدين للرازي، ج 1، ص 249؛ شرح المواقف، ج 8، ص 93. وانظر معارج الفهم للعلاّمة، ص 307.
3- اُنظر تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 271 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 34 .
4- المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 85 و 138 و 302 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 36 و 98 و 207 .
5- حكاه عن جماعة من المعتزلة التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 . وانظر شرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 ؛ ومعارج الفهم للعلاّمة ، ص 389 .

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ)؛ بفتح الخاتمة. (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ خَلَقَ اسْما) . خلقنا الشيء: تقديرنا إيّاه قبل فعله، وهو في اللّه تعالى المستحيلِ عليه الفكُر إيجادُ أمر ليفضي إليه كإيجاده اللوح المحفوظ ليكتب فيه الإسم.

وقوله: «اسما» بصيغة المفرد؛ أي أمرا يصلح لأن يكون جزءا للكلام النفسي. وهو بيان صفة جامعة لصفاته تعالى جميعا، وهو الاسم الأعظم، وفي الدعاء: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ باسمك الأعظم الأعظم الأعظم».(1) ووجهه ما يفهم ممّا يجيء في هذا الحديث من أنّه أعظم من كلّ من الأجزاء الأربعة، وكلّ من ثلاثة منها أعظم من كلّ من أجزائه التي هي من الأركان الاثني عشر، وكلّ من الأركان الاثني عشر أعظم من أجزائه التي هي من الأسماء الثلاثمائة والستّين.

(بِالْحُرُوفِ) ؛ متعلّق بمتصوّت.

(غَيْرَ) ؛ بالنصب على أنّه صفة «اسما»، وكذا نظائره، وهو مضاف إلى:

(مُتَصَوَّتٍ) ؛ بالمهملة وفتح الواو المشدّدة والمثنّاة فوق؛ أي ليس خلقه الاسم بإيجاد صوت.

(وَبِاللَّفْظِ غَيْرَ مُنْطَقٍ ) ؛ بفتح المهملة المخفّفة، من أنطق بالشيء: إذا تلفّظ به، أو عرّضه للتلفّظ به.

(وَبِالشَّخْصِ) أي بالمعيّن من الموجود في نفسه في الخارج، أو بالجسم كبدن الإنسان والجنّ والملائكة.

(غَيْرَ مُجَسَّدٍ)؛ بفتح السين المشدّدة، يُقال: صوتٌ مجسّد؛ أي مرقوم على نغمات ولحنة.

(وَبِالتَّشْبِيهِ) باسم آخر له تعالى، أو لخلقه تعالى. .

ص: 238


1- الكافي ، ج 4 ، ص 452 _ 453 ، باب دعاء الدم ، ح 1 و 3 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 532 ، دعاء الطواف ؛ وص 568 ، ح 3158 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 96 ، ح 30 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 463 ، ح 18219 ؛ وص 465 ، ح 18221 .

(غَيْرَ مَوْصُوفٍ) أي غير مبيّن؛ من وصفه: إذا بيّنه. وذلك لأنّه أعظم من كلّ اسم، ولا يشبه الأعلى بالأدنى.

(وَبِاللَّوْنِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ) ؛ بالموحّدة والمعجمة، أو بالنون والمهملة. وعلى التقديرين المراد أنّه ليس مكتوبا، فإنّ غالب الكتابة بالمداد، وهذا من المجاز في النسبة، فإنّ الاسم إذا كتب لم يصر بذلك مصبوغا حقيقةً، وقوله:

(مَنْفِيٌّ عَنْهُ) ؛ مبتدأ.

(الاْءَقْطَارُ) . فاعل «منفيّ» قائم مقام الخبر، وهذا صحيح عند الأخفش والكوفيّين وإن لم يكن بعد النفي أو الاستفهام.(1) والأقطار جمع قطر بالضمّ: الناحية.

(مُبْعَدٌ) ؛ على لفظ اسم المفعول، من باب الإفعال أو التفعيل.

(عَنْهُ الْحُدُودُ) أي الأطراف.

(مَحْجُوبٌ) أي ممنوع.

(عَنْهُ حِسُّ كُلِّ مُتَوَهِّمٍ، مُسْتَتِرٌ) ؛ على لفظ اسم الفاعل؛ أي خفيّ.

(غَيْرُ مَسْتُورٍ) أي ليس خفاؤه بأمر سُتر عليه.

(فَجَعَلَهُ) . الفاء للبيان، والضمير المنصوب للاسم.

(كَلِمَةً تَامَّةً) أبي جامعة لجميع أسمائه تعالى.

(عَلى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ) أي مبنيّة على أربعة أجزاء.

(مَعا) ؛ اسمٌ بدليل التنوين، وهو حال عن أربعة أجزاء. ومعناه «جميعا» عند ابن مالك.(2) وقال ثعلب: إذا قلت: جاءا جميعا، احتمل أنّ فعلهما في وقت [واحد] أو في وقتين، وإذا قلت: جاءا معا، فالوقت واحد. انتهى.(3) فعلى الأوّل قوله:

(لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا(4) قَبْلَ الاْآخَرِ) ، مقيّدٌ لقوله: «معا». وعلى الثاني موضح له، وهو .

ص: 239


1- حكاه عنهما ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 444 .
2- حكاه عنه ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 439 .
3- حكاه عنه ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 439 . ومابين المعقوفين من المغني .
4- في الكافي المطبوع : «منها واحد» . وفي «ج» : «واحد منها» .

استئناف بياني أو حال اُخرى.

ومعنى القبليّة كونه جزءا لآخر.

(فَأَظْهَرَ مِنْهَا ثَلاَثَةَ أَسْمَاءٍ) أي أظهر على المكلّفين منها ثلاثة أجزاء بنصب الأدلّة الدالّة عليها، كوضع ثلاثة؛ ألفاظ لها وإثباتها له تعالى.

(لِفَاقَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهَا) . يعني أنّ المقصود بإظهارها أن يعرفوا صانعهم بالوجوه الثلاثة، فيدعوه بها ويعبدوه، لا أن يعرفوا نفس الوجوه الثلاثة؛ لما تبيّن في موضعه من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه، والعلم بوجه الشيء.

(وَحَجَبَ مِنْهَا) أي من الأربعة الأجزاء (وَاحِدا ) .

هذا هو المراد بما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «الحمد للّه الذي بطن خفيّات الاُمور» من قوله عليه السلام : «لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته».(1)

(وَهُوَ) أي الواحد المحجوب، أو الاسم الأعظم. ويبعّد هذا قولُه فيما بعد: «وحجب الاسم الواحد» إلى آخره.

(الاِسْمُ الْمَكْنُونُ الْمَخْزُونُ) أي ما اشتهر على ألسنة الداعين في قولهم: «اللّهمّ إنّي أسألك باسمك المكنون المخزون».(2)

والمراد أنّه محجوب عن العامّة، أو محجوب بعضه؛ فلا ينافي إظهار بعضه لخزّان علمه المقرّبين لديه. سيجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما اُعطي الأئمّة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم» أنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا، واُعطي منها آصف حرفا، واُعطي منها عيسى حرفين، وموسى أربعةً، وإبراهيم ثمانيةً، ونوح خمسة عشر، وآدم خمسة وعشرين، ومحمّد وأهل بيته عليهم السلام اثنين وسبعين، وحرف عند اللّه تبارك وتعالى .

ص: 240


1- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .
2- الفقيه ، ج 1 ، ص 324 ، ح 949 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 108 ، ح 178 ؛ معاني الأخبار ، ص 139 ، باب معنى المخبيات ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 485 ، ح 8506 .

استأثر به في علم الغيب.(1)

(فَهذِهِ) ؛ مبتدأ وإشارة إلى الثلاثة.

(الاْءَسْمَاءُ) ؛ خبر المبتدأ؛ أي يرجع إلى إحدى هذه الثلاثة كلّ واحدٍ من الأسماء. ويحتمل أن يكون صفة هذه.

(الَّتِي ظَهَرَتْ ) ؛ صفة الأسماء، أو خبر المبتدأ.

(فَالظَّاهِرُ هُوَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى) . يمكن توجيهه بوجهين:

الأوّل: أن يكون الفاء للتفريع على ما سبق باعتبار اشتماله على قوله: «لفاقة الخلق إليها» ويكون «الظاهر» مبتدأ، ويكون «هو» خبر المبتدأ وراجعا إلى ذات صانع العالم، فإنّه مقصود لكلّ ذهن، ويكون «اللّه » بدلاً عن الضمير الغائب أو عطف بيان له؛ أي فالظاهر بهذه الثلاثة؛ يعني فالمقصود بالظهور بالذات بهذه الثلاثة ذات صانع العالم بالوجوه الثلاثة. وإنّما خصّ لفظ «اللّه » لأنّه جارٍ مجرى العَلَم لذاته، وحينئذٍ قوله تبارك وتعالى ليس داخلاً في خبر المبتدأ.

قال ابن فهد في كتاب عدّة الداعي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا اُنصر به على الأعداء؟ فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلاّ هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: ياعليّ عُلِّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر». وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فلمّا فرغ قال: «يا هو، يا من لا هو إلاّ هو، اغفر لي، وانصرني على القوم الكافرين». وكان عليه السلام يقول ذلك يوم صفّين وهو يطارد. انتهى.(2)

الثاني: أن يكون الفاء للتعقيب والتفصيل، ويكون «هو» ضمير الفصل، ويكون خبر المبتدأ مجموعَ قوله: «اللّه تبارك وتعالى» يعني فالظاهر من جملة الأربعة ما يفهم من .

ص: 241


1- الكافي ، ج 1 ، ص 230 ، ح 2.
2- عدّة الداعي ، ص 262 ، في الأدعية التي تستدفع بها المكاره . وانظر التوحيد للصدوق ، ص 89 باب تفسير «قل هو اللّه أحد» إلى آخرها ، ح 2 ؛ مجمع البيان ، ج 10 ، ص 486 ، تفسير سورة الاخلاص .

هذا اللفظ من الأسماء فأحدها:(1) ما يدلّ عليه لفظ «اللّه »، وثانيها: ما يفهم من لفظ «تبارك»، وثالثها: ما يفهم من لفظ «تعالى». ولا بأس بكون الأخيرين بلفظ الجملة؛ لأنّه قد يحكى الاسم على ما هو المشهور في استعماله في القرآن ونحوه، كما يجيء في هذا الحديث من قوله: «لاَ تَأْخُذُهُو سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ»(2) ولذا كان الثالث مع حرف العطف دون الثاني. وكما في الدعاء المأثور: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ باسمك بسم اللّه الرحمن الرحيم».(3) ويؤيّد هذا وجود حرف العطف في الثاني أيضا في بعض النسخ الصحيحة من كتاب التوحيد لابن بابويه هكذا: «فالظاهر هو اللّه وتبارك وسبحان».(4)

وهذا موافق لما روى ابن بابويه في كتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة عن أبي القاسم بن روح قدّس اللّه روحه أنّه سأله رجل: ما معنى قول العبّاس للنبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ عمّك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمّل، وعقد بيده ثلاثة وستّين؟ فقال: عنى بذلك إله أحد جواد. انتهى.(5)

فإنّ إلها واللّه واحد، وكذا «جواد» و«تبارك» واحد، هو من أعطى كلّ شيءٍ خلقه؛ أي تدبيره اللائق به، وكذا «أحد» و«تعالى» واحد؛ فإنّ المراد بأحد المنفرد عمّا يوجب حاجة كالشريك أو الجزء أو نحو ذلك، وبالمتعالي المنزّهُ عن النقص.

قيل: «أحد»(6) يدلّ على مجامع صفات الجلال كما دلَّ «اللّه » على جميع صفات الكمال؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّه الذات عن أنحاء التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسميّة والتحيّز والمشاركة في الحقيقة وخواصّها كوجوب الوجود .

ص: 242


1- في «ج» : «فأحدهما» .
2- البقرة (2) : 255 .
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 114، دعاء أوّل يوم من شهر رمضان؛ وص 124، ح 268، وداع شهر رمضان؛ مصباح المتهجّد، ص 338، صلاة اُخرى للحاجة؛ وص 664، دعاء اوّل يوم من شهر رمضان.
4- التوحيد ، ص 191 ، باب أسماء اللّه ، ح 3 .
5- كمال الدين ، ص 520 ، الباب الخامس والأربعون ، ح 48 .
6- في «ج» : «أحدا» .

والقدرة الذاتيّة والحكمة التامّة المقتضية للاُلوهيّة. انتهى.(1)

فيشتمل هذه الأسماء الثلاثة إجمالاً على ما ظهر من جميع صفات الذات وجميع صفات الفعل وجميع صفات التمجيد.

وقول الرجل: «وعقد بيده ثلاثة وستّين» مبنيّ على قاعدة وضعها القدماء في صور أصابع اليدين لضبط الواحد إلى عشرة آلاف، وصورة الثلاثة والستّين أن يثني الخنصر والبنصر والوسطى من اليمنى للثلاثة، كما هو المعهود بين الناس في عدّ الواحد إلى الثلاثة، لكن يوضع رؤوس الأنامل في هذه العقود قريبة من اُصولها، وأن يوضع للستّين ظفر إبهام اليمنى على باطن العقدة الثانية للسبّابة، كما يفعله(2) الرُّماة.(3)

(وَسَخَّرَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ هذِهِ الاْءَسْمَاءِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ) . التسخير: التذليل، واستعير هنا للتفصيل؛ لأنّ الكلّ مبنيّ على الأجزاء، فكأنّ كلّ جزء منه حامل له كالمركوب للراكب؛ أي وفصل كلّ اسم من الأسماء الثلاثة على أربعة أسماء، كلّ اسم منها جزءٌ من أجزائه، والجزء يسمّى ركنا. ويمكن أن يكون تسميته ركنا باعتبار أنّه أصل للاثني عشر، كما يجيء بُعَيْدَ هذا. وهذا ألصق بقوله:

(فَذلِكَ اثْنَا عَشَرَ رُكْنا، ثُمَّ خَلَقَ لِكُلِّ رُكْنٍ مِنْهَا ثَلاَثِينَ اسْما فِعْلاً) . المراد بالفعل مقابل القوّة، أي ليس متّصلاً بسائر الأسماء حتّى يكون قوّة كنصف الجسم المفرد.

(مَنْسُوبا إِلَيْهَا) أي إلى الأسماء الثلاثة بأن يكون تفصيلاً وتابعا لها، وذلك بتوسّط الأركان الاثني عشر. أو الضمير راجع إلى الأركان باعتبار دلالة قوله: «كلّ ركن» عليها. ويبعّد هذا قوله فيما بعد: «فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة».

(فَهُوَ) . الضمير راجع إلى مرجع ضمير «هو» في قوله: «فالظاهر هو اللّه » أي فذات اللّه تبارك وتعالى. .

ص: 243


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 547 ، تفسير سورة الإخلاص .
2- في «ج» : «يفعل» .
3- نقل هذا الكلام مع تفصيل أكثر الشيخ عليّ أكبر غفاري فى حاشيته على معاني الأخبار ، ص 285 باب معنى إسلام أبي طالب بحساب الجمل من هامش النسخة التي تفضّل بها عليه السيد المرعشي .

(الرَّحْمنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ) ؛ بالموحّدة وكسر المهملة والهمز: ما لا يشابه مخلوقه.

(الْمُصَوِّرُ «الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» الْعَلِيمُ، الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْعَلِيُّ، الْعَظِيمُ، الْمُقْتَدِرُ، الْقَادِرُ، السَّلاَمُ، الْمُوءْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ ، الْبَارِي) ؛ بالموحّدة وكسر المهملة والخاتمة: المصلح؛ من برى السهم من باب ضرب: إذا نَحَتَهُ.

(الْمُنْشِئُ، الْبَدِيعُ، الرَّفِيعُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّازِقُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْبَاعِثُ، الْوَارِثُ. فَهذِهِ الاْءَسْمَاءُ وَمَا كَانَ مِنَ الاْءَسْمَاءِ الْحُسْنى حَتّى تَتِمَّ(1) ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ اسْما) ؛ حاصلة من ضرب الاثني عشر ركنا في ثلاثين اسما.

(فَهِيَ) . تكرار لقوله: «فهذه الأسماء» إلى آخره؛ لبُعد العهد.

(نِسْبَةٌ لِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ، وَهذِهِ الاْءَسْمَاءُ الثَّلاَثَةُ(2) أَرْكَانٌ) أي دالّة على فعل منسوب إليها.

(وَحَجَبَ الاِسْمَ الْوَاحِدَ) من الأربعة.

(الْمَكْنُونَ الْمَخْزُونَ بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ). الظرف متعلّق بقوله: «حجب» لما أظهر هذه ولم يظهره كانت كالستر عليه.

(وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى) أي مدلول قوله تعالى في سورة بني إسرائيل:

(«قُلِ ادْعُواْ اللّهَ») الذي هو جارٍ مجرى العَلَم للذات، أو أوّل الأركان الأوّليّة.

(«أَوِ ادْعُواْ الرَّحْم_نَ») الذي هو أوّل النسب الثلاثمائة والستّين.

(«أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْءَسْمَآءُ الْحُسْنَى»(3)) . هذا معنى الحديث.

وأمّا تعيين الأركان الاثني عشر، وتعيين كلّ أربعة أركان من الأركان الاثني عشر .

ص: 244


1- في «أ» : «يتمَّ» .
2- في المخطوطتين: - «وهذه الأسماء الثلاثة».
3- الإسراء (17) : 110 .

لواحد من الثلاثة بعينه، وتعيين الثلاثمائة والستّين اسما، وتعيين كلّ ثلاثين منها لواحد من الاثني عشر بعينه، فخارج عن المعنى الذي يقصد المتكلّم إلقاءه في ذهن السامع، ولعلّه من الغيب الذي لا يعلم بدون توقيف.

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَمُوسَى بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : هَلْ كَانَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَارِفا بِنَفْسِهِ) أي بحقيقتها وكنه ذاتها.

(قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: يَرَاهَا) ؛ بفتح الخاتمة للمضارعة والمهملة، أي هل كان يعرفها معرفةً محيطة بها كالرؤية، بأن تتعلّق بخصوصيّتها على الوجه الجزئي الحقيقي، أو بها وبكنه ذاتها أيضا.

وإنّما ذكر السائل ذلك لأنّ تلك المعرفة مصحّحة لتسمية نفسه باسمٍ عَلَمٍ لها، فهذا ليس مقصودا بالذات بالسؤال، بل هو تمهيد للسؤال في قوله:

(وَيُسْمِعُهَا؟(1)) بالخاتمة المضمومة للمضارعة، وسكون المهملة، وكسر الميم، ومهملة، والمفعول الثاني محذوف؛ أي يسمعها اسما لها. ويمكن أن يكون هنا تحريف من الناسخين بأن يكون الأصل «ويسمّيها».

(قَالَ: مَا كَانَ مُحْتَاجا إِلى ذلِكَ) أي إلى أن يسمعها، أو إلى أن يسمّيها.

(لاِءَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْأَلُهَا) أي شيئا.

(وَلاَ يَطْلُبُ مِنْهَا) أي ولم يكن يطلب منها شيئا؛ فهو عطف تفسير على قوله: «يسألها».

(هُوَ نَفْسُهُ، وَنَفْسُهُ هُوَ) . وقوله:

(قُدْرَتُهُ نَافِذَةٌ) ، استئنافٌ بياني؛ دفعا لتوهّم أن يُقال: إنّ الشخص قد يفكّر ويطلب من نفسه الإقدام على أمر تهجم عنه؛ لخوفها من العجز عنه، أو لمشقّةٍ لها فيه وإن كان .

ص: 245


1- في الكافي المطبوع : «وَيَسْمَعُها» .

لفظ الطلب فيه مجازا، وربّما سمّي نفسه حينئذٍ، مع أنّه نفسه ونفسه هو.

(فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلى أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ، وَ لكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً) ؛ جمع «اسم».

(لِغَيْرِهِ يَدْعُوهُ بِهَا) . المراد بالدعاء النداء، كقولنا: «يا اللّه ، يا رحمن، يا رحيم» حين العبادة وطلب الحاجة.

(لاِءَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْعُ بِاسْمِهِ، لَمْ يَعْرِفْ(1)) . الضمير المنصوب لغيره أو للشأن أو للّه ، والفعلان على الأوّل بصيغة المعلوم، وعلى الثاني بصيغة المعلوم أو المجهول، وعلى الثالث بصيغة المجهول. والمراد أنّ الداعي بغير اسمه إنّما يعرف غيره، وإنّما يعبد غيره كالمجسّمة؛ أو المراد أنّه تعالى يعرف نفسه بغير حاجة إلى اسم، بخلاف غيره.

(فَأَوَّلُ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ: الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . الفاء للتفصيل. والمراد أنّ الأوّل «العليّ» ثمّ «العظيم» الذي مضى في أوّل الباب يدلّ على أنّ أوّل أسمائه الاسم الأعظم، ثمّ الأربعة، ثمّ الاثنا عشر، وأنّ «العليّ العظيم» من الأسماء الثلاثمائة والستّين، فوجه الجمع بينهما أنّ الأوّليّة في أوّل الباب باعتبار جعل المبدأ أشمل الأسماء، وهنا باعتبار جعل المبدأ أقدم الأسماء التي يجعلها العبد وسيلة لمعرفة اللّه .

بيان ذلك: أنّ الإنسان إذا بلغ حدّ التمييز، وشرع في النظر في مخلوق بلا حركة ولا آلة ولا علاج، بل بمحض نفوذ الإرادة وقول «كُن» علم أوّلاً أنّ له خالقا برئا من كلّ نقص، وهو المراد بالعليّ، ومتّصفا بكلّ كمال، وهو المراد بالعظيم، ثمّ يتدرّج إلى تفصيل أسماء اللّه تعالى حتّى يبلغ مقصوده، وهو معرفة أنّه اللّه ، أي معرفة أنّه الذي خلق السماوات والأرض بقول «كُن»، وهو المعبود بالحقّ، وإذا بلغ ذلك بلغ أقصى المطلوب منه في معرفة الخالق، وهو معرفة المعبود بالحقّ.

(لاِءَنَّهُ أَعْلَى الاْءَشْيَاءِ كُلِّهَا) . الضمير للعليّ العظيم، و«أعلى» أفعل التفضيل، والمراد: أظهر، استعير من العلوّ المكاني باعتبار أنّ المتوجّه إلى بلد مثلاً إنّما يظهر عليه أوّلاً العمارات المرتفعة. والمراد بالأشياء: الأسماء التي تجعل وسيلة لمعرفة اللّه . .

ص: 246


1- في الكافي المطبوع : «لم يُدْعَ باسمه ، لم يُعرَفْ» بدل «لم يَدْعُ باسمه ، لم يَعْرف» .

(فَمَعْنَاهُ: اللّه ُ، وَاسْمُهُ: الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) . المراد بالمعنى: المطلوب بالذات، والضميران للّه ، أي فأقصى مطلوبه من غيره معرفة أنّه اللّه ، أي المعبود بالحقّ كما مرّ آنفا. و«اسمه» الذي اختاره لغيره ليكون وسيلة لمعرفة اللّه العليّ العظيم.

ويمكن أن يكون الضميران لغيره، أي فمقصود الغير الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتتبّع الأسماء معرفة اللّه . والاسم الذي يجعله ذلك الغير وسيلة لمعرفة ذلك المقصود هو العليّ العظيم.

(هُوَ أَوَّلُ أَسْمَائِهِ عَلاَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) . ضمير «هو» للعليّ العظيم، وضمير «أسمائه» للغير أو للّه ، والجملة استئناف بياني لقوله: «واسمه العليّ العظيم»، و«علا» فعل ماضٍ مستعار من العلوّ المكاني، والضمير المستتر للعليّ العظيم، و«على» حرف جرّ، و«كلّ شيء» بمعنى كلّ اسم. والمقصود أنّه ليس أوّليّته إلاّ لأنّه أظهر الأسماء عند الناظر في المخلوقات المتتبّع للأسماء.

الثالث: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ) أي أبا الحسن الرضا عليه السلام .

(عَنِ الاِسْمِ: مَا هُوَ؟ قَالَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ) . الصفة مصدر وصفه يصفه كضرب: إذا بيّنه ونعته. والمراد هنا ما يبيّن به، والمقصود أنّ كلّ اسم من أسمائه تعالى لبيان وجه من وجوهه، وليس شيء منها عَلَما ولا اسمَ جنس. ويمكن أن يُراد بالصفة ما قام بغيره كالعلم والقدرة، ويكون المقصود بيان أنّ المشتقّ والمبدأ متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار؛ فالعالم هو العلم باعتبار أنّه لذات موصوف به.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ) . قيل: الظاهر «عن خالد» كذا في كتاب التوحيد. انتهى.(1) .

ص: 247


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّد أمين رحمه الله (منه)» . وانظر التوحيد ، ص 192 ، باب أسماء اللّه ، ح 6 .

(ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ).

المقصود بهذا الحديث بيان خمسة اُمور:

الأوّل: أنّه ليس اسم من أسمائه تعالى مفهوما عَلَميّا، كما توهّمه الأشاعرة في اللّه أو الرحمن أيضا؛(1) ولا نفسَ ذاته تعالى حقيقةً، كما توهّمه المعتزلة حيث قالوا: هو تعالى العلم القائم بنفسه بمعنى عدم القيام بالغير، وكذا في سائر صفات ذاته.(2)

الثاني: أنّه ليس اسم من أسمائه تعالى موجودا في نفسه في الخارج، قائما به تعالى قياما حقيقيّا، كما توهّمه الأشاعرة القائلون بالمعاني القديمة.(3)

ويظهر بمجموع هذين الأمرين أنّ شيئا من أسمائه ليس قديما.

الثالث: أنّه لا يمكن معرفة كنه ذاته ولا شخصه ولو بأقصى ما بلغ إليه تدقيقات أذهان المخلوقين.

الرابع: أنّه ليس في الممكنات مجرّد، فليس كمثله شيء.

الخامس: بطلان قول الفلاسفة الزنادقة: إنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة قديمة متحرّكة لا ابتداء لحركتها، كما نقل عن ابن سينا في أوّل الأوّل(4) عند شرح الدليل الثاني.(5)

وأشار إلى الأمر الأوّل بقوله:

(اسْمُ اللّه ِ غَيْرُهُ) .(6) المراد بالاسم ما هو جزء للكلام النفسي، ويحمل عليه تعالى مواطأةً كالعالم. .

ص: 248


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 108 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 207 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 169 .
2- حكاه في تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 108 عن المعتزلة ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 207 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 169 .
3- حكاه عن الأشاعرة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 74 ؛ وج 20 ، ص 227 .
4- أي الحديث 1 من كتاب العقل والجهل .
5- الشفاء ، ص 373 ، فضل 1 ، انتشارات ناصر خسرو ، الطبعة الاُولى .
6- في حاشية «أ» : «اسم اللّه غيره ، سواء اُريد به اللفظ ، أو الكتابة ، أو المفهوم الذي يفتقر في وجوده وتعلّقه إلى غيره . وهذا الحكم ظاهر» الوافي ، ج 1 ، ص 468 ، ذيل ح 378 .

وهذا إبطال لكون اسم من أسمائه تعالى عين المسمّى، والمسمّى عينَ ذاته تعالى، كما مضى بيانه في أوّل الخامس.(1)

وأشار إلى الأمر الثاني بقوله:

(وَكُلُّ شَيْءٍ) أي موجود في نفسه.

(وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ»(2)) ؛ للتعميم من قبيل: «طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ»(3)في «ج» : «ظهره» .(4).

(فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي حادث، سواء كان باعتبار وجوده في نفسه في الأذهان، أم باعتبار وجوده في نفسه في الخارج.

وهذا إبطال لكون اسم من أسمائه عينَ المسمّى، والمسمّى معنىً قائما بذاته تعالى كما مضى بيانه في أوّل الخامس(5) أيضا.

(مَا خَلاَ اللّه َ) . لمّا كان هنا مظنّة أن يتوهّم أنّ الكلام في نحو الألفاظ، لا فيما وضعت الألفاظ له، أشار إلى دفع هذا التوهّم بقوله:

(فَأَمَّا مَا عَبَرَتْهُ(6) الاْءَلْسُنُ) . هو اللفظ، و«عبرت» بالمهملة والموحّدة ومهملة بصيغة المعلوم للغائبة من باب نصر؛ يُقال: عبر النهرَ: إذا مرَّ به وتجاوزه تدريجا. وهذا الوصف لتوضيح الحكم الذي بعده.

(أَوْ عَمِلَتِ الاْءَيْدِي) ؛ هو النقش والكتابة.

(فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي مخلوق البتّة، لا مجال لتوهّم أحد أنّه ليس بمخلوق. وليس كلامنا فيه.

(وَاللّه ُ) ؛ مبتدأ، أي ما وضع له لفظ اللّه . أجرى الكلام في اسم اللّه على سبيل المثال؛ لأنّه قد يتوهّم أنّه عَلَم، فإذا ظهر مغايرته، ظهر(6) مغايرة سائر الأسماء بطريقٍ أولى. .

ص: 249


1- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
2- في حاشية «أ» : «ما خلا اللّه ، أي ما خلا ذاته . ومعناه المسمّى باسم اللّه » . الوافي ، ج 1 ، ص 468 ، ذيل ح 378 .
3- الأنعام
4- : 38 .
5- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
6- في الكافي المطبوع : «عَبَّرَتْهُ» بالتشديد .

(غَايَةٌ) ؛ خبره. والغاية: الراية. والمراد هنا العلاّمة.

(مِنْ(1)) ؛ بكسر الميم للتبعيض.

(غَايَاتِهِ(2)) ؛ جمع غاية. والضمير راجع إلى اللّه المذكور في قوله: «اسم اللّه غيره».

عاد عليه السلام بعد دفع التوهّم إلى توضيح الأمر الأوّل بدفع توهّمٍ آخَرَ، هو أن يخصّص هذا الحكم بما عدا هذا الاسم، بأن يجعل نفسَ المسمّى أي عَلَما لذاته تعالى، كما توهّمه قوم؛(3) فأفاد أنّ اللّه _ أي ما وضع هذا اللفظ له وهو ما يفهم من إطلاقه _ غايةٌ من غاياته، أي صفة من صفاته كسائر أسمائه. استعار لفظ «الغاية» لصفة من لا يعرف إلاّ بالصفة؛ تشبيها لها بالراية التي هي علامة مَن هي له.

(وَالْمَعْنى(4)) . في بعض النسخ بفتح الميم وسكون المهملة والنون والألف؛ أي الموجود في نفسه الذي يقصد بالغاية. وفي بعض النسخ بضمّ الميم وفتح المعجمة وتشديد الخاتمة والألف، أو بسكون المعجمة وتخفيف الخاتمة والألف. يُقال: غيّيته وأغييتُهُ، أي جعلته ذا غاية؛ فمآل الجميع واحد.

(غَيْرُ الْغَايَةِ) . وقوله:

(وَالْغَايَةُ مَوْصُوفَةٌ) أي بحدٍّ مسمّى، بقرينة التقييد فيما يجيء. وهذا ابتداء دليل على أنّ ذا الغاية هنا غير الغاية؛ أي كلّ مفهوم وضع له لفظ _ وهو ما سمّيناه هنا غايةً _ موصوف؛ أي يمكن بيانه للغير بكنه ما وضع اللفظ له، فإنّ وضع الألفاظ إنّما يكون للإفادة والاستفادة.

(وَكُلُّ مَوْصُوفٍ) أي بحدٍّ مسمّى (مَصْنُوعٌ، وَصَانِعُ الاْءَشْيَاءِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِحَدٍّ مُسَمّىً) . .

ص: 250


1- في الكافي المطبوع : «مَنْ» بفتح الميم .
2- في الكافي المطبوع : «غاياه» .
3- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 1 ، ص 108 عن الحشوية والكرامية والأشعرية ؛ تفسير ابن كثير ، ج 1 ، ص 20 . وانظر تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 29 .
4- في الكافي المطبوع : «المغيا» .

الحَدّ بالفتح: تمييز الشيء عن الشيء، والحاجز بين شيئين، ومنتهى الشيء. والمراد هنا المائيّة. والمسمّى: المعيّن. والمراد بوصفه بحدّ مسمّى بيانه بشخصه، أو بكنه حقيقته. وهو احتراز عن وصفه بالمائيّة المطلقة، كما مرّ في سادس الثاني(1) من قوله: قال له السائل: فله إنّيّة ومائيّة؟ قال: «نعم لا يثبت الشيء إلاّ بإنّيّة ومائيّة» أي وصانع الأشياء غير مصنوع.

وإنّما عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة إشارةً إلى دليل على قوله: «وكلّ موصوف مصنوع» هو ما بيّنّاه في أوّل الثاني،(2) وحاصله: أنّ المراد بالموصوف المبيّنُ بحدّ مسمّى، وهو إمّا بيانه(3) بشخصه، أو بكنهه، وكلاهما باطل.

وأشار إلى بطلان الأوّل بقوله:

(لَمْ يَتَكَوَّنْ؛ فَيُعْرَفَ كَيْنُونِيَّتُهُ بِصُنْعِ غَيْرِهِ) . استئنافٌ بياني، والتكوّن:(4) التشكّل بشكل، وفي الحديث: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإنّ الشيطان لا يتكوّنني».(5) وفي رواية: «لا يتكوّن في صورتي»(6) أي لا يتشكّل بشكلي، وحقيقته لا يصير كائنا بشكلي. والكينون بفتح الكاف وسكون الخاتمة وضمّ النون: الكائن الحادث، والكينونيّة بزيادة ياء النسبة والتاء للمصدريّة:(7) الحدوث. ومضى في رابع «باب الكون والمكان». والمراد هنا شكله وتشخّصه. والصنع: التدبير، والظرف متعلّق إمّا ب«يعرف» وإمّا ب«كينونيّة». .

ص: 251


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- أي في الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في «ج» : «ببيانه» .
4- في «ج» : «التكوين» .
5- النهاية لابن الأثير ، ج 4 ، ص 211 (كون) ؛ مسند أبي يعلى ، ج 11 ، ص 405 ، ح 6530 ؛ الكامل لعبد اللّه بن عدى ، ج 4 ، ص 237 ، ح 1064 ؛ فتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 537 .
6- النهاية لابن الأثير ، ج 4 ، ص 211 (كون) ؛ مسند أبي يعلى ، ج 11 ، ص 405 ، ح 6530 ؛ الكامل لعبد اللّه بن عدى ، ج 4 ، ص 237 ، ح 1064 ؛ فتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 537 .
7- في حاشية «أ» : «متعلّق بزيادة (مهدي)» .

وأشار إلى بطلان الثاني بقوله:

(وَلَمْ يَتَنَاهَ إِلى غَايَةٍ إِلاَّ كَانَتْ غَيْرَهُ) أي ولم يكن له في سلسلة أجزاء المحمولات عليه وتتبّع دقائقها إلى أقصى تدقيق المخلوقين انتهاء إلى كنه ذاته، فلا يمكن العلم بكنه ذاته بالنظر.

(لاَ يَذِلُّ(1) مَنْ فَهِمَ هذَا الْحُكْمَ أَبَدا) . خبرٌ عن عدم مذلّته في الدنيا في المباحثات، أو فيها(2) وفي العقبى، أو جملة دعائيّة.

(وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ، فَارْعَوْهُ وَصَدِّقُوهُ) أي صدّقوا به.

(وَتَفَهَّمُوهُ) أي تفكّروا طلبا لفهمه؛ يُقال: تفهّم الكلام: إذا فهمه شيئا بعد شيء.

(بِإِذْنِ اللّه ِ). ذكْر هذا _ مع أنّه لا يكون شيء إلاّ بإذن اللّه _ تعليم أنّ المتفهّم ينبغي أن يعلم ذلك ويتوسّل به، ولا يجعل نفسه مستقلّة في الفكر والتفهّم ليتيسّر له ذلك.

وأشار إلى الأمر الثالث بقوله:

(مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ اللّه َ بِحِجَابٍ) أي بتشبيهه بحجاب، بكسر المهملة وتخفيف الجيم. وهو في الأصل ما يستتر به، والمراد هنا جسم نوراني يتلألأ ويذهب بالأبصار، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ».(3) ومضى نظيره في سابع التاسع.(4) أو المراد أمرٌ دقيق أدقّ ما بلغ إليه أذهان المخلوقين، وهو مستور عن كلّ ذهن سوى ذهن أوحَديّ الزمان، فكأنّه حجاب نفسه كالهيولى عند القائلين بأنّ كلّ جسم مركّبٌ من الهيولى والصورة.

(أَوْ بِصُورَةٍ) . الصورة بالضمّ: الشكل، والمراد هنا جسم ذو صورة أحسنَ ما يكون من الصور. .

ص: 252


1- في الكافي المطبوع : «يزلّ» .
2- في «أ» : «فيهما» .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 442 ، باب مولد النبي صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 13 .
4- أي في الحديث 7 من باب في إبطال الرؤية .

(أَوْ بِمِثَالٍ) . المثال بكسر الميم: المقدار، والمراد هنا جسم ذو مقدار أعظمَ ما يكون من المقادير.

(فَهُوَ مُشْرِكٌ) ؛ قد أشرك معه غيره في استحقاق العبادة.

(لاِءَنَّ حِجَابَهُ وَمِثَالَهُ وَصُورَتَهُ غَيْرُهُ) . الضمائر الثلاثة الاُوَل ل«من زعم» باعتبار أنّه معبوده، أو للّه باعتبار أنّه مخلوقه؛ لأنّه خالق كلّ شيء. وعلى التقديرين الضمير الرابع للّه .

(وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ) أي لا شريك له.

(مُوَحَّدٌ(1)) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل، أي يجب على المكلّفين نفي الشريك في استحقاق العبادة عنه.

(وَكَيْفَ(2) يُوَحِّدُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَيْرِهِ؟! وَإِنَّمَا عَرَفَ اللّه َ مَنْ عَرَفَهُ بِاللّه ِ) . أي بتشبيهه بنفسه بمعنى نفي تشبيهه بغيره. وقد مضى في شرح ذيل أوّل الثالث ما(3) يوضح هذا.

(فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِهِ، فَلَيْسَ يَعْرِفُهُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ) ؛ لأنّ اعتقاده يرجع إلى إنكار اللّه تعالى حقيقةً، كما يدلّ عليه الحصر المفهوم من تقديم المفعول في قوله تعالى في سورة الزمر: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ».(4)

وأشار إلى الأمر الرابع بقوله:

(لَيْسَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ شَيْءٌ) . استئناف لبيان أنّ غيره تعالى لا يكون إلاّ من الجسمانيّات حتّى يتصحّح أنّ معرفته بغيره إنكار لصانع العالم؛ أي لا واسطة بينه تعالى وبين الجسمانيّات، فثبت أنّه لا مجرّد إلاّ اللّه ، وليس كمثله شيء. واللام في «المخلوق» إمّا للعهد؛ أي الجسمانيّات، وإمّا للجنس بناءً على أنّ القائلين بالمجرّد قائلون بقدمه، سواء كان عقلاً أو نفسا. وقد ظهر امتناع مجرّد سوى اللّه ، وامتناع قديم سوى اللّه في .

ص: 253


1- في الكافي المطبوع : «مُتَوَحِّدٌ» .
2- في الكافي المطبوع : «فكيف» .
3- أي في الحديث 1 من باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به .
4- الزمر (39) : 64 .

شرح عنوان الباب الأوّل.(1) ويمكن أن يكون المراد أنّه ليس شيء مشتركا ذاتيّا بين الخالق والمخلوق.

وأشار إلى الأمر الخامس بقوله:

(وَاللّه ُ خَالِقُ الاْءَشْيَاءِ لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ) أي لا من مادّة قديمة؛ للزوم التسلسل في الحوادث المتعاقبة، وللزوم تعدّد الواجب الوجود؛ لما مرّ في شرح عنوان الباب الأوّل من أنّ القديم لا يتعلّق به إيجاد، فلا يكون المادّة قديمة.(2)

(وَاللّه ُ يُسَمّى بِأَسْمَائِهِ وَهُوَ غَيْرُ أَسْمَائِهِ، وَالاْءَسْمَاءُ غَيْرُهُ) . تأكيد وإعادة للأمر الأوّل. .

ص: 254


1- أي باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- في «ج» : «قديما» .

الباب السادس عشر: باب معاني الأسماء و اشتقاقها

الباب السادس عشر بَابُ مَعَانِي الاْءَسْمَاءِ وَ اشْتِقَاقِهَا

فيه اثنا عشر حديثا، أوّلها ينحلّ إلى حديثين، وكذا رابعها.

والمراد ب«معاني الأسماء» هنا المفهومات التي وضعت الأسماء لها. و«اشتقاقها» عطف على المعاني. والضمير للأسماء، أي بيان ما وضع له الأسماء، وبيان أنّ كلّ الأسماء من المشتقّات، أي ليس فيها عَلَم شخصي ولا اسم جنس.

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيى، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ تَفْسِيرِ «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيم» قَالَ(1): «الْبَاءُ بَهَاءُ اللّه ِ، وَالسِّينُ سَنَاءُ اللّه ِ، وَالْمِيمُ مَجْدُ اللّه ِ(2) _ وَرَوى بَعْضُهُمْ). الظاهر أنّ الضمير راجع إلى «عدّة»، والمقصود أنّه روى بدل «الميم مجدُ اللّه »:

(الْمِيمُ مُلْكُ اللّه ِ) . ليس المقصود أنّ هذه الحروف مستعملة في هذه المعاني، بل المقصود أنّ المتكلّم بكلام يستعمله في معنى قد يركّبه من حروف مناسبة لأوصافه، ويقصد أداء الأوصاف إلى ذهن المخاطب، كما تقول حكايةً عن بخيل لئيم: «بلّ فلان»(3).

ص: 255


1- في الكافي المطبوع : «فقال» .
2- في حاشية «أ» : «اُشير بهذا التفسير إلى علم الحروف ؛ فإنّه علم شريف يمكن أن يستنبط منه جميع العلوم والمعارف ، كلّ_يّاتها وجزئيّاتها ، إلاّ أنّه مكنون عند أهله ، وكان الرحمن إنّما هو من الرحمة التي وسعت كلّ شيء ، والرحيم من الرحمة التي يختصّ بها من يشاء من عباده» . الوافي ، ج 1 ، ص 469 ، ذيل ح 379 .
3- لا يخفى عليك أنّ الباء في «بلّ» مأخوذة من بخيل ، واللام مأخوذة من لئيم ، وقد تبدل هذه الكلمة ويستعمل غيرها أو قريب منها مثل «رطب» .

وقد يركّبه من حروف غير مناسبة لأوصافه؛ لعدم قصده إلى الأوصاف، كما تقول حكايةً عنه: «رطب فلان». ولا شكّ أنّ الكلام الأوّل أبلغ وأعلى مرتبةً من الثاني.

ونظير ذلك قوله تعالى في وصف الشجرة الملعونة في القرآن وهم بنو اُميّة: «وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانا كَبِيرا»(1).

وربّما يقصَدُ بكلام واحد معانٍ مختلفة غير متعارضة، وبذلك يصير في أعلى طبقات البلاغة، كما قالوا في تعدّد بطون القرآن.

(وَاللّه ُ إِلهُ كُلِّ شَيْءٍ) . ظاهره أنّ اللام هنا للعهد الخارجي.

(الرَّحْمنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ) أي مخلوقاته حيث يعطي كلاًّ منها ما يليق به من الخلق، أي التدبير.

(وَالرَّحِيمُ بِالْمُوءْمِنِينَ خَاصَّةً) ؛ حيث يسدّدهم ويغفر لهم ذنوبهم وهو وليّهم.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَاشْتِقَاقِهَا: اللّه ُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ؟ فَقَالَ: يَا هِشَامُ ، اللّه ُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ، وَإلهُ(2) يَقْتَضِي مَأْلُوها، وَالاِسْمُ غَيْرُ الْمُسَمّى، فَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ دُونَ الْمَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا؛ وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى، فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ؛ وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى دُونَ الاِسْمِ، فَذَاكَ التَّوْحِيدُ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟

قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِلّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْما، فَلَوْ كَانَ الاِسْمُ هُوَ الْمُسَمّى ، لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلها ، وَلكِنَّ اللّه َ مَعْنىً يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ.

يَا هِشَامُ، الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ؛ أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْما تَدْفَعُ بِهِ، وَتُنَاقِلُ(3) بِهِ أَعْدَاءَنَا) ؛ بالنون والقاف بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب المفاعلة، أو من باب التفاعل بحذف إحدى التاءين. .

ص: 256


1- الإسراء (17) : 60 .
2- في الكافي المطبوع : «الإله» .
3- في الكافي المطبوع : «تُناضِل» .

والمناقلة والتناقل: سرعة نقل الشيء من حالة إلى اُخرى، والمراد هنا الإسكات وإلزام الحقّ.

(الْمُلحِدِينَ(1) مَعَ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: نَفَعَكَ اللّه ُ بِهِ وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ .

قَالَ(2): فَوَ اللّه ِ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا). مضى هذا في ثالث «باب المعبود» بأدنى تغيير.

الثالث: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيى، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سُئِلَ عَنْ مَعْنَى اللّه ِ، فَقَالَ: اسْتَوْلى عَلى مَا دَقَّ وَجَلَّ) .(3) يعني أنّ اللام في «اللّه » للعهد الخارجي؛ أي الإله الذي خلق السماوات والأرض بقول: «كُن» وهو الغالب الذي بيده أزمّة الاُمور كلّها، صغيرها وكبيرها.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ هِلاَلٍ )، بكسر الهاء (قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ(4): «اللَّهُ نُورُ السَّمَوتِ وَالاْءَرْضِ»(5) فَقَالَ: هَادٍ لاِءَهْلِ السَّمواتِ،(6) وَهَادٍ لاِءَهْلِ الاْءَرْضِ) .

(وَفِي رِوَايَةِ الْبَرْقِيِّ: هُدى مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَهُدى مَنْ فِي الاْءَرْضِ) . مآل الروايتين واحد، والمراد بالهداية إراءة طريق العلم بأحكامه في الحلال والحرام ببعث الرُّسل، وإنزال الكتب، وتعيين الأوصياء، وإراءة حظر اتّباع الظنّ والاختلاف عن رأي، ونحو ذلك.

الخامس: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ .

ص: 257


1- في الكافي المطبوع : «المتّخذين» .
2- في الكافي المطبوع : + «هشام» .
3- في حاشية «أ» : «لما كان اللّه اسما للذات الأحديّة القيوميّة ، فسّر بما يختصّ به الذات ، وهو استيلاؤها على الدقيق والجليل» الوافي ، ج 1 ، ص 470 ، ذيل ح 380 .
4- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
5- النور (24): 35.
6- في الكافي المطبوع : «السماء» .

فُضَيْلِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الحديد:

(«هُوَ الاْءَوَّلُ وَ الاْآخِرُ»(1) وَقُلْتُ: أَمَّا «الاْءَوَّلُ» فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، وَأَمَّا «الاْآخِرُ» فَبَيِّنْ لَنَا تَفْسِيرَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلاَّ يَبِيدُ(2)) ؛ يُقال: باد الشيء: إذا هلك.

(أَوْ يَتَغَيَّرُ) أي يزيد في أجزائه وينقص.

(أَوْ يَدْخُلُهُ التَّغَيُّرُ) أي يمكن فيه أن يتغيّر من نقصان في أجزائه إلى زيادة، أو من زيادة في أجزائه إلى نقصان.

(وَالزَّوَالُ) أي يمكن فيه أن يبيد.

(أَوْ يَنْتَقِلُ مِنْ لَوْنٍ إِلى لَوْنٍ، وَمِنْ هَيْئَةٍ) أي شكل. وإنّما عُطف بالواو ولم يعطف ب«أو» كما سبق إشارةً إلى أنّ قوله: «أو ينتقل» إلى آخره قسيم لما قبله، فإنّ ما قبله باعتبار الأجزاء والذات، وهو إلى آخره باعتبار العوارض.

(إِلى هَيْئَةٍ، وَمِنْ صِفَةٍ) أي موجودة في نفسها في الخارج (إِلى صِفَةٍ، وَمِنْ زِيَادَةٍ) في صفته (إِلى نُقْصَانٍ، وَمِنْ نُقْصَانٍ) في صفته (إِلى زِيَادَةٍ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ بِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ) أي ليس فيه إمكان تغيّر(3) موجود في نفسه في الخارج.

(هُوَ الاْءَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الاْآخِرُ عَلى) نهجيّة (مَا لَمْ يَزَلْ) أي على ما كان أوّلاً؛ أي لا يمكن فيه التغيّر(4) بحسب ذاته. وهذا ناظر إلى قوله: «إلاّ يبيد» إلى قوله: «والزوال».

(وَلاَ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ) أي لا يمكن اختلاف صفة موجودة في الخارج فيه؛ لأنّه ليس له صفة كذلك. وهذا ناظر إلى قوله: «أو ينتقل» إلى قوله: «إلى زيادة».

(وَالاْءَسْمَاءُ(5)). وقوله: (كَمَا تَخْتَلِفُ عَلى غَيْرِهِ) ، إشارةٌ إلى دفع توهّم أنّه لا يتغيّر عليه .

ص: 258


1- الحديد (57) : 3 .
2- في الكافي المطبوع : «أن يبيدَ» بدل «يبيدُ» .
3- في «ج» : «تغيير» .
4- في «ج» : «التغيير» .
5- في «أ» : «للأسماء» .

الصفات والأسماء أصلاً، فإنّه يختلف عليه صفات الفعل وأسماء بحسبها.

فالمقصود أنّه لا يختلف عليه الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج.

(مِثْلُ الاْءِنْسَانِ) أي بدن الإنسان (الَّذِي يَكُونُ تُرَابا مَرَّةً، وَمَرَّةً لَحْما وَدَما، وَمَرَّةً رُفَاتا) . الرفات: كلّ ما دقَّ وكسر.

(وَرَمِيما) أي عظما باليا متفتّتا.

(وَكَالْبُسْرِ الَّذِي يَكُونُ مَرَّةً بَلَحا ، وَمَرَّةً بُسْرا، وَمَرَّةً رُطَبا وَمَرَّةً تَمْرا) .

التمر في أوّل بدوه يسمّى «طلعا» بفتح المهملة وسكون اللام ومهملة، ثمّ «خلالاً» بفتح المعجمة وتخفيف اللام، ثمّ «بلحا» بفتح الموحّدة وفتح اللام ومهملة، ثمّ «بسرا» بضمّ الموحّدة وسكون المهملة ومهملة، ثمّ «رطبا» ثمّ «تمرا».

وقيل: البلح قبل الخلال.(1)

(فَتَتَبَدَّلُ عَلَيْهِ الاْءَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَاللّه ُ _ عَزَّوَجَلَّ(2) _ بِخِلاَفِ ذلِكَ) . حاصل تفسيره إرجاع معنى الآخر إلى سلبي هو عدم التغيّر أصلاً، أو وجودي هو البقاء على ما كان أوّلاً.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ الْبَانِ) ؛ بالموحّدة والألف وتخفيف النون، وهو في الأصل اسم شجر لحَبّ ثمره دهن طيّب،(3) أو هو بتشديد النون من بنّ بالمكان من باب ضرب، أي أقام،(4) كأبَنَّ. والبَنّة بالفتح: الريح الطيّبة والمنتنة.(5)

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الاْءَوَّلِ وَالاْآخِرِ، فَقَالَ: الاْءَوَّلُ لاَ عَنْ أَوَّلٍ) ؛ بالجرّ والتنوين. .

ص: 259


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 356 (بلح) .
2- في الكافي المطبوع : «جلّ وعزّ» .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص203 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 398 (البون) .
4- معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 192 ؛ تاج العروس ، ج 18 ، ص 70 (بنن) .
5- كتاب العين ، ج 8 ، ص 372 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 157 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 58 (بنن) .

(قَبِلَهُ)(1) ، بصيغة الماضي المعلوم من باب علم، والضمير المستتر راجع إلى «اللّه » والبارز راجع إلى «أوّل»، والجملة نعتُ «أوّل».

والمقصود نفي أن يكون أوّليّته باعتبار أمر موجود في الخارج حلّ فيه تعالى في الزمان الماضي، ويفنى بعد ذلك.

(وَلاَ عَنْ بَدِيء(2)) ؛ بفتح الموحّدة وكسر المهملة وسكون الخاتمة والهمز، وقد يشدّد الخاتمة بعد قلب الهمز: الحادث المخلوق.

والمراد هنا أمر موجود في نفسه يحلّ فيه تعالى.

(سَبَقَهُ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر وضرب، والضمير المستتر راجع إلى «اللّه » والبارز إلى «بَدِيء»، والجملة نعت «بَدِيء».

والمقصود نفي أن يكون أوّليّته تعالى باعتبار سبق ذاته بدون صفة موجودة في نفسها على حدوث صفة موجودة في نفسها فيه تعالى.

(وَالاْآخِرُ لاَ عَنْ نِهَايَةٍ) ؛ بكسر النون والخاتمة والتاء: الغاية؛ أو بضمّ النون. وقيل: بكسرها والهمز والضمير الراجع إلى اللّه : الارتفاع. وحاصلهما واحد.

والمقصود نفي أن يكون آخريّته تعالى باعتبار بلوغه غاية وكمالاً لم يكن في الزمان الماضي.

(كَمَا يُعْقَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ) ، مثل قولنا: ما لابن آدم والفخر، إنّما أوّله منيّ، وآخره منيّة.

(وَلكِنْ قَدِيمٌ ، أَوَّلٌ، آخِرٌ، لَمْ يَزَلْ، وَلاَ يَزَالُ،(3) بِلاَ بَدْءٍ وَلاَ نِهَايَةٍ) ، يعني ليس أوّليّته قبل آخريّته، فإنّ المراد بمجموعهما عدم التغيّر(4) في حال من أحواله. ويوافق هذا ما في .

ص: 260


1- في الكافي المطبوع : «قَبْلَهُ» .
2- في الكافي المطبوع : «بَدْء» .
3- في الكافي المطبوع : «يزول» .
4- في «ج» : «التغيير» .

نهج البلاغة من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام : «الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا».(1)

(لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ ) . استئناف لبيان ما سبق، وهذا ناظر إلى قوله: «قديم». وإن جعل «الحدوث» جمع حادث كقُعود جمع قاعد(2)، كان ناظرا إلى «أوّلٌ، آخِرٌ». وقوله:

(وَلاَ يَحُولُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ) ، ناظرٌ إلى قوله: «أوّل، آخر»، ومعناه ما مرّ في خامس الباب.

(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . تحقيق لأوّليّته وآخريّته بالمعنى المذكور بأنّه لولا ذلك لم يكن خالقا لكلّ شيء.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ إِلى أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى، لَهُ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ فِي كِتَابِهِ) . مضى تفسير الأسماء والصفات في شرح أوّل الخامس،(3) ومضى في شرح ثالث الخامس عشر(4) أنّهما متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار.

(وَأَسْمَاوءُهُ) . في كتاب التوحيد لابن بابويه «فأسماؤه» بالفاء.(5)

(وَصِفَاتُهُ هِيَ هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : إِنَّ لِهذَا الْكَلاَمِ وَجْهَيْنِ) أي يحتمل هذا الكلام معنيين:

(إِنْ كُنْتَ تَقُولُ: «هِيَ هُوَ» ، أَيْ إِنَّهُ ذُو عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ) ، بأن يكون المراد حمل مفهومات تلك الألفاظ على ذاته حملَ الذاتي على الشيء حتّى يصير ذاته ذا أجزاء متعدّدة(6) كثيرة ضرورةَ تغاير مفهومات الألفاظ. .

ص: 261


1- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
2- في حاشية «أ» : «ومنه قوله تعالى في سورة البقرة «وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» (مهدي)» . والآية سورة البقرة (2) : 125 .
3- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
4- أي في الحديث 3 من باب حدوث الأسماء .
5- التوحيد ، ص 193 ، باب أسماء اللّه تعالى و . . . ، ح 7 .
6- في «ج» : «متعدد» .

(فَتَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ؛ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ: هذِهِ الصِّفَاتُ وَالاْءَسْمَاءُ لَمْ تَزَلْ) أي قديمة.

(فَإِنَّ) ؛ بكسر الهمزة وتشديد النون.

(«لَمْ تَزَلْ») أي لفظ «لم تزل» باعتبار ما يفهم منه.

(مُحْتَمِلٌ) ؛ بصيغة اسم الفاعل.

(مَعْنَيَيْنِ . فَإِنْ قُلْتَ) أي فإن أردت.

(لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ فِي عِلْمِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقُّهَا) أي مستحقّ الأسماء والصفات.

(فَنَعَمْ؛ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَزَلْ تَصْوِيرُهَا) أي جعلها ذات صور بإيجادها في نفسها في ذهن، أو في خارج الذهن.

(وَهِجَاوءُهَا) ؛ بكسر الهاء والجيم والمدّ مصدر ناقص باب نصر، أي عدّها واحدا فواحدا، كما يكون في الاُمور الموجودة في أنفسها.

(وَتَقْطِيعُ حُرُوفِهَا) أي تفصيل حدودها، وتمييز كلّ واحدٍ منها عن الباقي، كما يكون في الاُمور الموجودة في أنفسها.

(فَمَعَاذَ اللّه ِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ) موجود في نفسه (غَيْرُهُ، بَلْ كَانَ اللّه ُ وَلاَ خَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَهَا) أي الأسماء والصفات (وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، يَتَضَرَّعُونَ بِهَا إِلَيْهِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَهِيَ) أي الأسماء والصفات (ذِكْرُهُ، وَكَانَ اللّه ُ وَلاَ ذِكْرَ، وَالْمَذْكُورُ بِالذِّكْرِ هُوَ اللّه ُ الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، وَالاْءَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ، وَالْمَعَانِي) .

الواو بمعنى «مع». والمراد بالمعاني مفهومات سائر ألفاظ كتاب اللّه ، كمفهوم الأرض والسماء والبرّ والبحر ونحو ذلك. ولا يستلزم ذلك أن تكون الصفات الموجودة في الخارج وجودا(1) رابطيّا فقط، القائمة بذاته تعالى قياما حقيقيّا مخلوقات(2) كما تقرّر في محلّه.

(وَالْمَعْنِيُّ) ؛ بكسر النون وشدّ الخاتمة، أو بفتح النون والألف؛ أي المقصود بالذات. .

ص: 262


1- في حاشية «أ» : «مصدر للموجودة (مهدي)» .
2- في حاشية «أ» : «خبر تكون في قوله : أن تكون الصفات (مهدي)» .

(بِهَا) ؛ أي بالأسماء والصفات.

(هُوَ اللّه ُ) . مضى تفسيره في أوّل الخامس عشر(1) عند قوله: «فالظاهر هو اللّه ».

وهذا إشارة إلى ما تقرّر في محلّه من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه، والعلمِ بوجه الشيء، وإلى أنّ ما نحن فيه من الأوّل، لا الثاني.

(الَّذِي لاَ يَلِيقُ بِهِ الاِخْتِلاَفُ وَلاَ الاِئْتِلاَفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ وَيَأْتَلِفُ الْمُتَجَزِّئُ، فَلاَ يُقَالُ: اللّه ُ مُخْتَلِفُ وَلاَ(2) مُوءْتَلِفٌ، وَلاَ اللّه ُ قَلِيلٌ ولاَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّهُ الْقَدِيمُ فِي ذَاتِهِ) أي لو كان مؤتلفا وقليلاً أو كثيرا، لكان غير قديم ومخلوقا. وقوله:

(لاِءَنَّ) ، استدلالٌ على قوله: «لا يُقال: اللّه مختلف» إلى قوله: «ولا كثير».

(مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ) أي لا متجزّئ إلاّ ما لم يكن واحدا.

(وَاللّه ُ وَاحِدٌ، لاَ مُتَجَزِّئٌ وَلاَ مُتَوَهَّمٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ) أي ولا يتصوّر فيه القلّة والكثرة. وقوله:

(وَكُلَّ) ، ناظرٌ إلى قوله: «ولكنّه القديم في ذاته» ودليل عليه باعتبار ما فسّرناه به، فهو منصوب معطوف على اسم «إنّ».

(مُتَجَزِّئٍ أَوْ مُتَوَهَّمٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ دَالٌّ عَلى خَالِقٍ لَهُ؛ فَقَوْلُكَ). الفاء تفريعيّة؛ أي إذا ثبت أنّه ليس معهُ شيء غيره في الأزل أي موجود في نفسه، ثبت أنّ قولك:

(«إِنَّ اللّه َ قَدِيرٌ» خَبَّرْتَ) . التخبير والإخبار بمعنى، والعائد إلى المبتدأ محذوف، أي خبرّت به.

(أَنَّهُ لاَ يُعْجِزُهُ) ؛ من الإعجاز.

(شَيْءٌ، فَنَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ) أي بالكلام، كما تقول: كلمة التوحيد.

(الْعَجْزَ، وَجَعَلْتَ الْعَجْزَ سِوَاهُ) أي غير محمول عليه. وإنّما عبّر عن هذا بذاك لأنّ حمل القدرة التي تقابل العجز حمل لصفة الذات التي هي عين الذات بالمعنى الذي مضى ذكره. .

ص: 263


1- أي في الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
2- في الكافي المطبوع : - «مختلف ولا» .

(وَكَذلِكَ قَوْلُكَ: «عَالِمٌ» إِنَّمَا نَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ الْجَهْلَ ) أي إنّما المقصود بالكلمة نفي الجهل.

(وَجَعَلْتَ الْجَهْلَ سِوَاهُ) .

قد يتوهّم(1) من أمثال هاتين العبارتين أنّ المقصود أنّ القدرة والعلم ونحوهما من صفات ذاته تعالى يرجع إلى معان سلبيّة.

وهذا خلاف البديهة، بل مقصوده عليه السلام أنّه ليس إثبات القدرة أو العلم له تعالى إثباتا لآلة أو قلب، ولا إثباتا لأمرٍ موجود في نفسه قائم به، كما يشير إليه بقوله بعد ذلك: «لطيف بلا كيف»، بل إثبات محض ما يقابل العجز أو الجهل؛ أي أمر لولا ثبوته لكان العجز أو الجهل ثابتا؛ إذ لا واسطة بين القدرة والعجز، ولا بين العلم والجهل.

ويمكن أن يكون المراد الفرق بين علم اللّه وعلم العباد مع اشتراك العلم معنى بينهما، بأنّ إثبات العلم للعباد لا ينفي عنهم الجهل بالكلّيّة، بخلاف إثبات العلم للّه تعالى؛ فإنّ المتقابلين أي العلم والجهل يجتمعان في العباد من جهتين، بخلاف اللّه ؛ وكذا الكلام في القدرة.

(وَإِذَا أَفْنَى اللّه ُ الاْءَشْيَاءَ ) بعد ذلك. وهو الذي اُشير إليه في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده من كيّفه» من قول أمير المؤمنين عليه السلام «و أنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها» الخطبة.(2)

(أَفْنَى الصُّورَةَ وَالْهِجَاءَ وَالتَّقْطِيعَ) أي التي حدثت في أذهان العباد من صورة الأسماء والصفات وهجائها وتقطيع حروفها على ما مرّ تفسيره آنفا.

(وَلاَ يَزَالُ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَالِما) أي بلا كيف.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: فَكَيْفَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا سَمِيعا؟). الفاء في قوله: «فكيف» للتفريع؛ أي إذا لم يكن معه تعالى شيء غيره في الأزل لم يكن مسموع ولا سمع، فكيف يسمّى سميعا.

وهذا مبنيّ على الخلط بين السميع والسامع، وبين السمع المعقول في الرأس وغيره. .

ص: 264


1- في حاشية «أ» : «المتوهم مولانا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله » .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .

(فَقَالَ). أجاب عليه السلام ، فدفع توهّمه الأوّل بقوله:

(لاِءَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالاْءَسْمَاعِ) ، يعني ليس السميع من يسمع، بل من لو وقع مسموع لَسمع. ودفع توهّمه الثاني بقوله:

(وَلَمْ نَصِفْهُ بِالسَّمْعِ الْمَعْقُولِ) أي المعروف (فِي الرَّأْسِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَاهُ بَصِيرا؛ لاِءَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالاْءَبْصَارِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ شَخْصٍ) أي جسم (أَوْ غَيْرِ ذلِكَ) ، من نحو صِغَر وكِبَر، وقُرب وبُعد.

(وَلَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لَحْظَةِ الْعَيْنِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَاهُ لَطِيفا؛ لِعِلْمِهِ بِالشَّيْءِ اللَّطِيفِ مِثْلِ الْبَعُوضَةِ) ؛ واحدة البعوض، وهي البقّ.

(وَأَخْفى مِنْ ذلِكَ، وَمَوْضِعِ النُّشُوءِ) ؛ بالنون والمعجمة المضمومتين وسكون الواو والهمز، مصدر باب منع وحسن؛ أي موضع الحدوث، وهو آلة التوالد من الذَّكر والاُنثى ، ويمكن أن يكون بكسر النون وسكون المعجمة والواو بمعنى شمّ الريح، وموضعه الشامّة.

(مِنْهَا) أي من البعوضة وأخفى.

(وَالْعَقْلِ) بقدر ما تجلب به منافعها، وتدفع به مضارّها.

(وَالشَّهْوَةِ؛ لِلسِّفَادِ(1)) ؛ بكسر المهملة والفاء والألف والمهملة، مصدر باب ضرب وعلم: نزو الذكر على الاُنثى.(2)

(وَالْحَدَبِ) ؛ بفتح المهملتين والموحّدة، مصدر باب علم: التعطّف.

(عَلى نَسْلِهَا، وَإِقَامِ) ؛ بكسر الهمزة، مصدر قولك: أقام بالمكان إقامةً وإقاما: إذا لزم.

(بَعْضِهَا عَلى بَعْضٍ) أي على ولده لحفظه.

(وَنَقْلِهَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ إِلى أَوْلاَدِهَا فِي الْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ) ؛ جمع «مفازة» وهي البّريّة؛ سمّيت بذلك لأنّها مَهلكةُ مَن فاز أي هلك، أو تفاؤلاً بالسلامة. والفوز من فاز، .

ص: 265


1- في الكافي المطبوع : «السَّفاد» بفتح السين .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 489 (سفد) .

أي نجا وظفر بالخير.

(وَالاْءَوْدِيَةِ) ؛ جمع «واد» على غير قياس، إنّما يجمع على أفعلة فعيل مثل سريّ وأسرية للنهر.

(وَالْقِفَارِ) ؛ بكسر القاف والفاء جمع «قفر» بالفتح، وهو(1) المفازة التي لا نبات فيها ولا ماء.

(فَعَلِمْنَا أَنَّ خَالِقَهَا لَطِيفٌ بِلاَ كَيْفٍ) أي بلا أمر موجود في الخارج في نفسه عارض له تعالى، والظرف قيد للعلم لا للمعلوم.

(وَإِنَّمَا الْكَيْفِيَّةُ لِلْمَخْلُوقِ الْمُكَيَّفِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا قَوِيّا لاَ بِقُوَّةِ الْبَطْشِ). هو السطوة والأخذ بالعنف.

(الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَلَوْ كَانَتْ(2) قُوَّتُهُ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، لَوَقَعَ التَّشْبِيهُ) في الجسميّة.

(وَلاَحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ ) في مقدار جسمه.

(ومَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ احْتَمَلَ النُّقْصَانَ) . قد مرّ شرحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَمَا كَانَ نَاقِصا) أي ما احتمل النقصان.

(كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ) ؛ لأنّ ما ثبت قِدَمه امتنع عدمه.

(وَمَا كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ كَانَ عَاجِزا) ؛ لأنّه مخلوق مدبّر وجوده بقدرة خالقه الغالب عليه، لا يمكنه الامتناع عن تدبيره. وقد دلّ الدلائل على وجود صانع للعالم بريء من كلّ نقص.

(فَرَبُّنَا _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لاَ شِبْهَ لَهُ وَلاَ ضِدَّ، وَلاَ نِدَّ) أي لا مثل.

(وَلاَ كَيْفَ، وَلاَ نِهَايَةَ، وَلاَ بِبَصَّارِ(3) بَصَرٍ ) . الذي في النسخ بالموحّدتين: اُولاهما .

ص: 266


1- في «ج» : «وبالفتح هو» بدل «بالفتح وهو» .
2- في «ج» : «كان» .
3- في الكافي المطبوع : «ولا تَبْصارَ» .

مكسورة جارّة، وثانيتهما مفتوحة، وشدّ المهملة؛ أي ليس ببصّار بصر، وهو كلام برأسه؛ اُعطي «لا» حكم(1) «ليس»؛ لمضارعتها لها في النفي كقول الأخطل:

وشارب مُربحٍ بالكأس نادمني(2) لا بالحَصور(2) ولا فيها بساّآرٍ(3)

ولعلّه بالمثنّاة فوقُ المفتوحةِ، أو المكسورة وسكون الموحّدة، مصدر باب التفعيل، أو اسم المصدر كتكرار بالفتح والكسر، يُقال: بصر به كعلم وحسن: إذا رآه. وبصّر به بالتشديد للمبالغة.

(وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ تُمَثِّلَهُ) أي لا يتأتّى من القلوب تمثيله أي تصويره بصورة.

(وَعَلَى الاْءَوْهَامِ أَنْ تَحُدَّهُ، وَعَلَى الضَّمَائِرِ أَنْ تُكَوِّنَهُ ) أي أن تتصوّره على ما هو كائن عليه. والمعنى: أن يعلم مائيّته.

(جَلَّ وَعَزَّ عَنْ إِدَاتِ) . أصلها «إدوات» حذفت الواو لمناسبة «سمات».

(خَلْقِهِ ، وَسِمَاتِ بَرِيَّتِهِ، وَتَعَالى عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا) .

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: اللّه ُ أَكْبَرُ، فَقَالَ عليه السلام : اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : حَدَدْتَهُ) أي حصرت اللّه أكبر في بعض معناه؛ إذ معناه فوق هذا وأشمل منه.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ) أي من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته.

أفعل التفضيل قد يستعمل للمفاضلة بين شيئين محقّقين مشتركين في المشتقّ منه، .

ص: 267


1- في حاشية «أ» : «(لا) مفعول أول قائم مقام الفاعل، (حكم) مفعول ثان مهدي» . 2 . نادمه منادمة ونداما : جالسه على الشراب . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 180 (نوم) .
2- الحصور : الضيق الصدر . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 9 (حصر) .
3- ذكر صدره الخليل الفراهيدي في كتاب العين ، ج 3 ، ص 114 عن الأخطل ، وذكره بتمامه في ج 7 ، ص 289 ، وفيه : «بسوار» بدل «بسآر» . وذكره ابن السكّيت في ترتيب إصلاح المنطق ، ص 16 ، وفيه : «بسوار» ؛ وابن قتيبة في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 105 ؛ والجوهري في الصحاح ، ج 2 ، ص 632 .

كقولك: زيد أطول من عمرو، أو أقصر منه. وقد يستعمل للتبعيد عن وصف، كقولك: زيد أجلّ من أن يتكلّم فيه أو أدنى منه. والمفضّل عليه هنا غير محقّق بل مفروض، وهو نفس المفضّل باعتبارٍ آخَرَ، كأنّك تقول: هو أجلّ ممّن تصوّرته بالوصف الفلاني، وفرضته أنّه هو.

والمقصود هنا بيان أنّ لفظ «اللّه أكبر» لمّا كان مفتتح كلّ صلاة، ومفتتح الأذان والإقامة والتعقيب، وكان الاهتمام به أعظم من الاهتمام بما عداه من الأذكار، كان الأنسب به أن يكون من القسم الثاني؛ لأنّه لو كان من القسم الأوّل كان مفاده يسيرا سهلاً لا يصلح لهذا الاهتمام.

فالمراد أنّ اللّه أكبر من أن يعرف العباد قدر عظمته، كقوله: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(1). ومضى بيانه في سادس العاشر وحادي عشره وثاني عشره.(2)

فلا منافاة بين هذا الحديث وبين ما يجيء في «كتاب الحجّ» في ثاني «باب دخول المسجد الحرام» من قوله: «اللّه أكبر، أكبر من خلقه، وأكبر ممّن أخشى وأحذر».(3)

ولا ينافي أيضا قوله تعالى: «أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(4)؛ فإنّ خلاف طوائف الجبريّة باعث للاهتمام بإثبات خالق في الجملة في هذا المقام.

التاسع: (وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مَرْوَكِ) ؛ بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الواو، اسمه: صالح.(5)

(بْنِ عُبَيْدٍ) ، مصغّرا.

(عَنْ جُمَيْعِ) ؛ بضمّ الجيم، وفتح الميم، وسكون الخاتمة.

(بْنِ عُمَيْرٍ) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الميم، وسكون الخاتمة. .

ص: 268


1- الأنعام (6) : 91 .
2- أي في الحديث 6 و 11 و 12 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه .
3- الكافي ، ج 4 ، ص 404 ، باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه ، ح 2 .
4- المؤمنون (23) : 14 .
5- رجال النجاشي ، ص 425 ، الرقم 1142 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 281 ، الرقم 17 .

(قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّ شَيْءٍ اللّه ُ أَكْبَرُ؟) أي ما معناه.

(فَقُلْتُ: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: وَكَانَ ثَمَّ) أي في جنب كبريائه وعظمته تعالى (شَيْءٌ) يقاس بينه وبين اللّه .

(فَيَكُونَ) أي اللّه (أَكْبَرَ مِنْهُ؟). يعني إنّ هذا وإن كان حقّا، لكن ليس معناه منحصرا فيه لسهولته، فلا ينبغي الاهتمام به، كما مرَّ بيانه في شرح السابق.

(فَقُلْتُ: فَمَا هُوَ؟) أي فما معناه.

(قَال: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ) . مضى معناه آنفا.

العاشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ «سُبْحَانَ اللّه ِ» فَقَالَ: أَنَفَةٌ لِلّهِ) . الأنفة _ بالهمز والنون والفاء المفتوحات _ : الحميّة والغيرة؛ يُقال: أنف من الشيء كعلم أنفا وأنفةً: إذا كرهه وشرف نفسه عنه.(1) وبالقاف: التعجّب.(2)

وعلى الأوّل معنى الكلام: أنفة ثابتة لنا لأجل اللّه تعالى، وذلك حين نذكره تعالى بذلك ونريد أنّه منزّه عمّا يصفه الواصفون المشبّهون له بخلقه. ويحتمل أن يُقال: أنفة ثابتة للّه في تعليمه خلقه، أو التكلّم به في القرآن. وفي بعض النسخ «أنفة اللّه ».

وعلى الثاني(3) كان أوفق بما يجيء في «كتاب الصلاة» في خامس «باب أدنى ما يجزئ من التسبيح» من قوله: «ألا ترى أنّ الرجل إذا عجب من الشيء قال: سبحان اللّه ».(4)

الحادي عشر: (أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلى طِرْبَالٍ) ؛ بكسر الطاء، وسكون الراء المهملتين، والموحّدة.

(عَنْ هِشَامٍ الْجَوَالِيقِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ(5) : «سُبْحَانَ اللَّهِ» : مَا يُعْنى .

ص: 269


1- النهاية ، ج 1 ، ص 76 ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 15 (أنف) .
2- كتاب العين ، ج 5 ، ص 221 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1447 (أنق) .
3- في حاشية «أ» : «هو أن يكون بالقاف» .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 329 ، ح 5 .
5- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ». وفي «ج» : - «اللّه » .

بِهِ؟ قَالَ: تَنْزِيهُهُ) . أي عمّا يصفه الواصفون المشبّهون له بخلقه.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الثَّانِيَ عليه السلام : مَا مَعْنَى «الْوَاحِدِ»؟)

أي في أمثال آية سورة الرعد: «قُلْ اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(1).

(فَقَالَ: إِجْمَاعُ الاْءَلْسُنِ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، كَقَوْلِهِ(2): «وَ لَ_ل_ءِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»(3) ) .

«إجماع» مبتدأ، و«الألسن» جمع لسان، وعبارة عن ألسن المشركين، وذكر الألسن إشارة إلى أنّ أهل الألسن لايطاوعون(4) هذا الإجماع، فكأنّ ألسنَهم مقهورةٌ على هذا الإجماع من قهّار. وضمير «عليه» للّه .

و«بالوحدانيّة» خبر المبتدأ، والباء للسببيّة. و«الوحدانيّة» مبالغة الوحدة، وهي التفرّد في خلق كلّ شيء، أو في خلق ما وجوده بمحض نفوذ الإرادة، وقولِ: «كُن» يعني عليه السلام إنّ إجماع الألسن على الاعتراف بوجود اللّه وبأنّه خالقهم، إنّما هو بسبب تلك الوحدانيّة التي اُخذ منها الواحد، سئل عليه السلام عن المشتقّ فأجاب بتفسير مبدأ الاشتقاق؛ لظهور أنّ المقصود بالذات تفسير المبدأ، فإنّ معنى المشتقّ معلوم من اللغة لكلّ أحد. .

ص: 270


1- الرعد (13) : 16 .
2- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- الزخرف (43) : 87 .
4- في حاشية «أ» : «أي لا ينقادون لما يقولون ولا يرضون به ، فلا ينافي ذلك علمهم به كما في قوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُواْ بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ» (مهدي)» . والآية في سورة النمل (27) : 14 .

الباب السابع عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة و هو...

الباب السابع عشر بَابٌ آخَرُ وَ هُوَ مِنَ الْبَابِ الاْءَوَّلِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَ هُوَ الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَأَسْمَاءِالْمَخْلُوقِينَ

فيه حديثان.

«ما» موصولة بتقدير «فيما» أو مفعول «الفرق» وإن كان إعمال المصدر المعرّف باللام قليلاً نحو ضعيف النكايةِ أعداءَه؛(1) أو زائدة.

هذا الفرق هنا مقصود بالذات، دون الباب الأوّل، ولا ينافي ذلك كونه مذكورا في سابع الباب الأوّل؛ فإنّه بالتبع.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْهَمْدَانِيِّ) ؛ بسكون الميم والمهملة.

(وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ) ، بضمّ الجيم الاُولى وسكون المهملة، نسبة إلى جرجان معرّب گُرگان، وهو استرآباد وتوابعهُ؛ أو إلى جرجانيّة، وهي قصبة بلاد خوارزم.(2)

ص: 271


1- قال الرضي في شرحه على الكافية ، ج 3 ، ص 410 : «جوّز سيبويه والخليل إعمال المصدر المعرّف باللام مطلقا نحو قوله : ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل وانظر شرح ابن عقيل ، ج 2 ، ص 95 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 181 ؛ تاج العروس ، ج 3 ، ص 312 (جرج) .

(عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) ، هو الرضا عليه السلام .(1)

(قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ»(2)، لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ) أي الذين قالوا: إنّ اللّه جسم أو صورة كالمخلوقات.

(لَمْ يُعْرَفِ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ ، وَلاَ الْمُنْشِئُ مِنَ الْمُنْشَاَء، لكِنَّهُ الْمُنْشِئُ، فَرَقَ(3)) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، أو باب التفعيل للتكثير.

(بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ وَصَوَّرَهُ وَأَنْشَأَهُ؛ إِذْ كَانَ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُ هُوَ شَيْئا) . مضى شرحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(قُلْتُ: أَجَلْ) ؛ بالهمز والجيم المفتوحتين وسكون اللام، حرف تصديق.

(جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ لكِنَّكَ قُلْتَ: الاْءَحَدُ الصَّمَدُ، وَقُلْتَ: لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَاللّه ُ وَاحِدٌ، وَالاْءِنْسَانُ وَاحِدٌ، أَ لَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ؟). المراد بالأحد ما لا نظير له، وذكر «الصمد» هنا استطراد، والمراد بتشابه الوحدانيّة تساويها فيهما بأن لا يكون بمحض اشتراك اللفظ.

أشكل عليه أمران فذكرهما في سؤالين: الأوّل: أنّه كيف يكون أحدا والوحدانيّة متشابهةٌ. الثاني: أنّه كيف لا يشبهه شيء والوحدانيّة متشابهة؟

(قَالَ: يَا فَتْحُ، أَحَلْتَ) . يمكن أن يكون من باب الإفعال، إمّا من أحال الرجل: إذا أتى بالمحال وتكلّم به؛ وإمّا من أحال الشيء: إذا جعله حائل اللون، يُقال: حال لونه: إذا تغيّر واسوَدَّ وأحاله غيره؛ وإمّا من أحال الشيء من مكان إلى مكان: إذا نقله، يُقال: حال من مكان إلى آخر؛ أي تحوّل وأحاله غيره؛ وإمّا من أحال بدَينه على آخر. والاسم: الحوالة؛ تشبيها للقياس بالحوالة. .

ص: 272


1- في «ج» : «هو الهادي أو الرضا عليه السلام » بدل «هو الرضا عليه السلام » .
2- الإخلاص (112) : 4 و 5 .
3- في الكافي المطبوع : «فَرَّقَ» بتشديد الراء .

ويمكن أن يكون الهمزة للاستفهام، و«حُلتَ» بضمّ الحاء، أي صرت حائل اللون، أو تحوّلت من مكان إلى آخر.

ويؤيّد آخر الاحتمالات قوله:

(ثَبَّتَكَ اللّه ُ) ؛ جملة دعائيّة.

(إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي الْمَعَانِي) أي إنّما التشبيه المقصود بالنفي هنا التشبيه في المعاني، والمراد بالمعنى الموجودُ في الخارج في نفسه مطلقا، سواءً كان ذاتيّا كالجسميّة، أو عارضا كاللون؛ أي أن يكون موجودا في الخارج في نفسه، مشتركا بين هذا وذاك.

(فَأَمَّا فِي الاْءَسْمَاءِ) أي فأمّا التشبيه في مفهومات الألفاظ وما وضعت له لغةً من المفهومات الانتزاعيّة؛ أي التي ليس لمبادئ اشتقاقها فرد حقيقي إنّما لها الحصص فقط.

(فَهِيَ وَاحِدَةٌ) . هذا من إقامة دليل الشيء مقامه؛ أي فليس مقصودا بالنفي لأنّها واحدة، أي ألفاظ الأسماء مشتركة معنى بين اللّه وخلقه، وليس إطلاقها عليهما بالحقيقة والمجاز، ولا بالاشتراك اللفظي.

(وَهِيَ دَلاَلَةٌ عَلَى الْمُسَمّى) أي عنوانات له ليست داخلة في ذاته.

والمراد بالمسمّى المعنى الذي يدلّ عليه بهذه الأسماء، وهو ذات اللّه تعالى، كما مرّ في ثاني «باب المعبود» من قوله: «ولكنّ اللّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء».

(وَذلِكَ) . بيانٌ لاختلاف المعنى وذي العنوان.

(أَنَّ الاْءِنْسَانَ وَإِنْ قِيلَ: وَاحِدٌ ) بالمعنى اللغوي الحقيقي المشترك.

(فَإِنَّهُ يُخْبَرُ) ؛ هذا القول.

(أَنَّهُ جُثَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ بِاثْنَيْنِ) أي جثّتين.

(وَالاْءِنْسَانُ نَفْسُهُ) أي في حدّ ذاته (لَيْسَ بِوَاحِدٍ) أي غير منقسم أصلاً.

(لاِءَنَّ أَعْضَاءَهُ مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَلْوَانَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَنْ أَلْوَانُهُ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ) أي ليس غير منقسم أصلاً.

(وَهُوَ أَجْزَاءُ) ؛ أي مركّب من أجزاء.

ص: 273

(مُجَزَّأَةٍ(1)) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل، مضاف إليه.

(لَيْسَتْ بِسَوَاءٍ). الجملة صفة «أجزاء». و«ليست» من الأفعال الناقصة. و«بسواء» بحرف الجرّ وفتح المهملة والمدّ، أي بمتشابهة في الحقيقة. أو «ليست» بالموحّدة بصيغة الماضي المعلوم من باب علم، و«بسُوء» بضمّ الموحّدة وضمّ المهملة وسكون الواو والهمز، مصدر باب منع وعلم، مفعول «ليست» أي اُنسا وايتلافا.

(دَمُهُ غَيْرُ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ غَيْرُ دَمِهِ، وَعَصَبُهُ غَيْرُ عُرُوقِهِ، وَشَعْرُهُ غَيْرُ بَشَرِهِ، وَسَوَادُهُ غَيْرُ بَيَاضِهِ، وَكَذلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ الْخَلْقِ) . الكاف للتشبيه، فالمراد أنّ جميع الخلق لا يخلو عن اختلاف في أجزائه أو أعراضه الموجودة في الخارج في أنفسها، وظاهره إبطال المجرّدات.

والمراد بالسائر هنا البقيّة،(2) وقد يستعمل بمعنى الجميع. والأوّل من السؤر مهموز، والثاني من الأجوف.

(فَالاْءِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الاِسْمِ، وَلاَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنى، وَاللّه ُ _ جَلَّ جَلاَلُهُ _ هُوَ وَاحِدٌ) في المعني (لاَ وَاحِدَ) في المعنى (غَيْرُهُ، لاَ(3) اخْتِلاَفَ فِيهِ) أي ليس فيه أجزاءٌ مختلفة.

(وَلاَ تَفَاوُتَ) أي ليس له صفات متفاوتة.

(وَلاَ زِيَادَةَ وَلاَ نُقْصَانَ) في أجزائه الفرضيّة المقداريّة الغير المختلفة؛ إذ لا أجزاء له كذلك أيضا.

(فَأَمَّا الاْءِنْسَانُ الْمَخْلُوقُ) ؛ صفة الإنسان.

(الْمَصْنُوعُ) ؛ صفة بعد صفة.

(الْمُوءَلَّفُ) ؛ صفة اُخرى، أو جواب إمّا بتقدير القول والمبتدأ، أي فيقال: هو المؤلّف. قال ابن هشام في مُغني اللبيب بعد بيان وجوب الفاء في جواب أمّا:

فإن قلت: فقد حذفت في التنزيل في قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ .

ص: 274


1- في «أ» : «مجزَّءٍ» . وفي الكافي المطبوع : «أجزاءٌ مجزّاةٌ» .
2- في حاشية «أ» : «بقرينة إضافته إلى الجميع (سمع)» .
3- في «ج» : «ولا» .

أَكَفَرْتُمْ»(1)في حاشية «أ» : «المتوهّم مولانا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله تعالى (منه)» .(2). قلت: الأصل: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول استغناء بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف، وربّ شيء يصحّ تبعا ولا يصحّ استقلالاً.(3)

(مِنْ أَجْزَاءٍ) ؛ جواب «أمّا» أو لغو متعلّق بالمؤلّف.

(مُخْتَلِفَةٍ وَجَوَاهِرَ شَتّى غَيْرَ أَنَّهُ بِالاِجْتِمَاعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ) .

اعلم أنّه قد يتوهّم(3) من هذه العبارات وأمثالها أنّ إطلاق نحو «الواحد» على اللّه وعلى غيره بالاشتراك اللفظي، أو بالحقيقة والمجاز. وهذا خلاف البديهة، والمراد ما ذكرنا.

(قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ اللّه ُ عَنْكَ، فَقَوْلَكَ: اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فَسِّرْهُ لِي كَمَا فَسَّرْتَ الْوَاحِدَ) .

اللطف _ بضمّ اللام وسكون المهملة، مصدر باب حسن _ : الدقّة، وهو ضدّ الغلظة، سواء كان باعتبار العلم بدقائق الاُمور والنفوذ في بواطن ما في الدهور، أو باعتبار الجسم والصِغَر.

والخُبرُ _ بضمّ المعجمة وكسرها وسكون الموحّدة والمهملة، مصدر باب حسن _ : عِلمُ الفاعل بدقائق ما يتعلّق بفعله. فَهُما في اللّه تعالى متلازمان، فتفسير أحدهما يُغني عن تفسير الآخر.

(فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ لُطْفَهُ عَلى خِلاَفِ لُطْفِ خَلْقِهِ) أي مع علمي باشتراك اللطف بالمعنى اللغوي بينهما معنىً أعلم أنّه مقول بالتشكيك، فالحصّة التي فيه تعالى أقوى من حصص خلقه.

(لِلْفَصْلِ) أي بين ذاته وذواتهم، فإنّه خالق وهم مخلوقون.

ويحتمل أن تكون اللام للعهد؛ أي الفصل الذي ذكرت أنّه واحدٌ بالمعنى، لا واحد بالمعنى(4) غيره؛ فإنّه يفهم منه أنّه لا آلة له. .

ص: 275


1- آل عمران
2- : 186 .
3- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 56 (أمّا) .
4- في حاشية «أ» : «الأولى (في المعنى) في الموضعين» .

(غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَشْرَحَ ذلِكَ لِي، فَقَالَ: يَا فَتْحُ، إِنَّمَا قُلْنَا: اللَّطِيفُ؛ لِلْخَلْقِ اللَّطِيفِ) أي الدقيق.

(لِعِلْمِهِ(1)) ؛ متعلّق بالخلق.

(بِالشَّيْءِ اللَّطِيفِ) أي الدقيق.

(أَ وَلاَ تَرى) . الواو للعطف على مقدّر، كأنّه قال: ألا ترى دقائق خلقه في نحو السماوات والأرضين، فإنّها مع عِظَمها روعي في خلقها دقائق لا تُحصى ولا ترى.

(وَفَّقَكَ اللّه ُ وَثَبَّتَكَ إِلى أَثَرِ صُنْعِهِ فِي النَّبَاتِ اللَّطِيفِ) أي الصغير (وَغَيْرِ اللَّطِيفِ) ؛ فإنّ العروق الدقاق التي في الأوراق العظيمة ممّا يتحيّر الناظر فيه والمتأمّل له في لطف صانعه، ويعلم أنّها بلا علاج ولا أداة ولا آلة.

(وَمِنَ الْخَلْقِ اللَّطِيفِ) . دليل آخر، والواو للاستئناف النحوي، أو للعطف على «أولاترى» إلى آخره، عطفَ الخبر على الإنشاء. والظرفُ مستقرّ خبر مقدّم على المبتدأ.

(وَمِنَ الْحَيَوَانِ) . عطفٌ على «من الخلق» عطفَ المفصّل على المجمل.

(الصُّغَارِ) ؛ بضمّ الصاد، أي الصغير.

(وَمِنَ الْبَعُوضِ) ؛ بفتح الموحّدة، أي البقّ.

(وَالْجِرْجِسِ ) ؛ بكسر الجيم وسكون المهملة وكسر الجيم الثانية والمهملة: البعوض الصغار.(2)

(وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا) أي من الجرجس من أنواع البعوض، أو من حيوان آخر.

(مَا) ؛ موصولة، وهي مبتدأ مؤخّر.

(لاَ تَكَادُ(3)) . «كاد» من أفعال المقاربة وهو موضوع لدنوّ حصول الخبر، وهو من باب علم. .

ص: 276


1- في الكافي المطبوع : «ولعلمه» .
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 913 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 37 (جرجس) .
3- في الكافي المطبوع : «لا تكاد» .

وقال بعض النحاة: إنّ إثبات «كاد» نفي، ونفيه إثبات.(1)

والأوّل حقّ؛ لأنّ إثبات «كاد» دالّ على نفي مضمون خبره؛ لأنّ القرب من الفعل لا يكون إلاّ مع انتفاء الفعل. والثاني خطأ مبنيّ على الخلط بين نفي القرب وقرب النفي، أو على توهّم أنّ الإثبات هنا نفي مطلق، ونفي النفي المطلق يكون إثباتا.

والجواب: أنّ الإثبات هنا نفي خاصّ، ونفي النفي الخاصّ ليس إثباتا، بل ربّما كان من آكد النفي كما فيما نحن فيه.

وقد يستدلّ على أنّ نفيه إثبات بتخطئة الشعراء ذا الرمّة(2) في قوله:

إذا غيّر الهَجْر(3) المحبّين لم يكده(3) رسيس(4) الهوى من حبّ ميَّةَ يَبرَحُ(5)

بقولهم: نراه قد برح حتّى أدّى ذلك إلى أن غيَّر ذو الرمّة «لم يكد» إلى «لم أجد». والجواب أن نخطّئهم ونصوّب ذا الرمّة في بديهته، وقد خطّأ المخطّئين وذا الرمّة في رويّته من قال حين سمع تلك الحكاية: أصابت بديهتُه، وأخطأت رويّتُهُ.(6)

(تَسْتَبِينُهُ) . تقول: استبنت الشيء: إذا عرفته بيّنا.

(الْعُيُونُ) . اللام للعهد؛ أي العيون المعهودة الجارية في حدّتها على العادة.

(بَلْ لاَ يَكَادُ يُسْتَبَانُ) لعين أصلاً، ولو كانت أحدّ من العيون المعهودة. ونائب الفاعل ضمير مستتر راجع إلى «ما».

(لِصِغَرِهِ) . الضمير راجع إلى «الخلق اللطيف» وما عطف عليه، أو إلى «ما». .

ص: 277


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 223 ، دخول النفي على كاد .
2- هو غيلان بن عقبة بن مسعود الشاعر المعروف بذي الرمّة . وقد وردت أقوال في سبب تكنيته بذي الرمّة ، من أرادها فليرجع لترجمته في تاريخ مدينة دمشق ، ج 48 ، ص 142 ، الترجمة 5566 . 3 . في المصادر : «النأي» بدل «الهجر» .
3- في «ج» : «يكد» .
4- في حاشية «أ» : «الرسيس : ابتداء الحبّ» . و في كتاب العين ، ج 7 ، ص 191 هو الشيء الثابت اللازم مكانه .
5- حكاه في كتاب العين ، ج 7 ، ص 191 (الرسّ) ؛ غريب الحديث لابن سلام ، ج 4 ، ص 426 ؛ الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 12 ؛ الكشّاف ، ج 3 ، ص 69 .
6- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 225 ، دخول النفي على كاد .

(الذَّكَرُ) ؛ بالرفع بدل، أو عطف بيان ل«ما».

(مِنَ الاُْنْثى) . «من» للفصل، وهي الداخلة على ثاني المتضادّين، والظرف صفة للذكر؛ لأنّ اللام فيه للعهد الذهني.

ولو جعل الظرف لغوا متعلّقا بقوله: «يستبان» وجعل نائب الفاعل الذكر، لكان توجيه الترقّي في «بل» مشكلاً؛ لأنّه إذا لم تستبن العيون نفسه كان عدم استبانتها الذكر(1) من الاُنثى بطريقٍ أولى.

وإن اُريد عدم استبانته لعين أصلاً، لحصل التساوي؛ لتعارض الجهتين، فكيف يصحّ الترقّي؟ ولَناقَضَ(2) قوله: «لا تكاد تستبينه العيون» قولُهُ: «فلمّا رأينا» إلى آخره، إلاّ على قول من قال:(3) إنّ نفي «كاد» إثبات. وقد مرّ ما فيه.

وحاصل المعنى: ومن الخلق اللطيف وهو الحيوان الصغار إلى آخره، ذكره من حيث إنّه منفصل من الاُنثى أي ممتاز عنه، أو من أحوال الخلق اللطيف انفصال ذكره من الاُنثى، وكذا قوله:

(وَالْحَدَثُ) ؛ بالمهملتين المفتوحتين؛ أي الحادث.

(الْمَوْلُودُ مِنَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا رَأَيْنَا صِغَرَ ذلِكَ) . الإشارة إلى الحيوان الصغار والبعوض والجرجس وما هو أصغر منها.

(فِي لُطْفِهِ) أي لطف ذلك. و«في» بمعنى «مع» كما في قوله تعالى في سورة القصص: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ».(4)

والمراد بلطفه فعلُهُ الدالّ على اهتدائه للاُمور الدقيقة، ويفسّره قوله:

(وَاهْتِدَاءَهُ) . عطف على «لطفه» للبيان والتفصيل. .

ص: 278


1- مفعول لاستبانتها.
2- عطف على قوله : «لكان توجيه». وقوله: «قوله» معفول لناقض ، وفاعله قوله: «فلما رأينا» إلى آخره .
3- في حاشية «أ» : «لا يخفى أنّه على هذا الوجه لا يستقيم تعليل عدم الاستبانة بقوله : لصغره ؛ تأمل» .
4- القصص (28) : 79 .

(لِلسِّفَادِ(1)) ؛ بكسر المهملة: نَزْوُ الذكر على الاُنثى.(2)

(والْهَرَبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْجَمْعَ لِمَا يُصْلِحُهُ) ؛ من باب الإفعال ضدّ «يفسده». ويحتمل أن يكون من باب نصر، بأن يكون الأصل «يصلُحُ» له أي ينفعه.

(وَمَا فِي لُجَجِ الْبِحَارِ) . معطوفٌ على «ما يصلحه» للبيان والتفصيل، أو على «صغر ذلك» أي ورأيناها(3) في لجج البحار من ذلك.

(وَمَا فِي لِحَاءِ) ؛ بكسر اللام والمهملة والمدّ: قشر.(4)

(الاْءَشْجَارِ وَالْمَفَاوِزِ) أي وما في المفاوز.

(وَالْقِفَارِ) ؛ بكسر القاف جمع «قفر» بفتحها وسكون الفاء: الخلأ من الأرض.

(وَإِفْهَامَ) ؛ بكسر الهمزة، مصدر باب الإفعال للتعريض، مثل أولد الحامل:

إذا دنا وقت ولادتها.

وهذا إشارة إلى أنّ الحيوانات لا تفهم جميع مقاصد أمثالها في منطقها، إنّما تفهم قدرا يكفيها لمعاشها، وفوات الباقي عنها لا يُخِلّ بمعاشها.

ويمكن أن يكون بمعنى التفهيم وتبليغ الرسالة، كما يصدر عن عُمّال أمير النحل وعمّال أمير الحيتان ونحوهما.

وعلى التقديرين هو منصوب بالعطف على «صغر».

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه «وفهم».(5)

(بَعْضِهَا). الضمير راجع إلى مرجع ضمير «منها» أو «إليه» وإلى ما هو أصغر من الحيوانات.

(عَنْ بَعْضٍ مَنْطِقَهَا). استعار المنطق للأفعال الدالّة على مقاصدها من الأصوات .

ص: 279


1- في الكافي المطبوع : «للسَّفاد» بفتح السين .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 489 (سفد) .
3- في «ج» : «رأينا ما» بدل «رأيناها» .
4- النهاية ، ج 4 ، ص 243 (لحا) .
5- التوحيد ، ص 186 ، باب أسماء اللّه ، ح 1 .

ونحوها، كقوله: «عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ»(1).

(وَمَا يَفْهَمُ بِهِ أَوْلاَدُهَا عَنْهَا). عطفٌ على «منطقها» عطفَ الخاصّ على العامّ.

(وَنَقْلَهَا الْغِذَاءَ). عطفٌ على السفاد.

(إِلَيْهَا ) أي إلى أولادها.

(ثُمَّ)؛ للتعجّب.

(تَأْلِيفَ)؛ بالنصب معطوف على صِغَر.

(أَلْوَانِهَا ). وقوله:

(حُمْرَةٍ)؛ بالجرّ بيان ل «ألوانها».

(مَعَ صُفْرَةٍ ، وَبَيَاضٍ مَعَ حُمْرَةٍ). وفي كتاب التوحيد لابن بابويه «وبياضا» بالنصب،(2) وحينئذٍ «حمرة» أيضا منصوب على أنّه حال من ألوانها.

(وَأنْهِ مَا لاَ يَكَادُ(3) عُيُونُنَا تَسْتَبِينُهُ). الواو للاستئناف النحوي، وهذه إلى قوله: «أيدينا» معترضة.

و«أنْهِ» _ بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الهاء _ أمرٌ من(4) ناقص باب الإفعال، مأخوذٌ من النهي، ضدّ الأمر، ومعناه: اُترك. يُقال: أنهى الرجل كذا: إذا(5) انتهى عنه كأنّه جعله ناهيا له عن ارتكابه.

وقال ابن الأثير في النهاية:

وفيه: «قلت: يارسول اللّه ، هل من ساعة أقربُ إلى اللّه ؟ قال: نعم، جوف الليل الآخِر فصلِّ حتّى تصبح، ثمّ أَنْهِهْ حتّى تطلع الشمس». قوله: «أنهه» بمعنى انته، وقد أنهى الرجل إذا انتهى، فإذا أمرت قلت: أنهِهْ، فتزيد الهاء للسكت، كقوله تعالى: «فَبِهُدَاهُمُ .

ص: 280


1- النمل (27) : 16 .
2- اُنظر التوحيد، ص 186، باب أسماء اللّه ، ح 1.
3- في الكافي المطبوع : «وأنّهُ ما لا يكاد» .
4- في «ج» : - «من» .
5- في «ج» : «أي» .

اقْتَدِهْ»(1)، فأجرى الوصلَ مُجْرَى الوقفِ. انتهى.(2)

ومقصود الإمام عليه السلام أنّ في باطن تلك الحيوانات من الأحشاء وآلات القبض والبسط ونحوها اُمورا لا يمكنني بيانها لك مفصّلاً؛ لأنّها غير محسوسة، فلا يبلغها فهمك، فاتركها ولا تطلب منّي بيانها. وهذا نوع من الكلام فيه تهويل وتعظيم وإشارة إلى رعاية دقائق الحكمة بحيث لا يُعدّ ولا يُحصى.

ويمكن أن يكون مأخوذا من النهاية؛ يُقال: أنهى الرجل كذا: إذا أبلغه.(3)

والأوّل أنسب بالمقام.

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه بعد قوله: «مع حمرة»: «وما لا يكاد» إلى آخره،(4) وحينئذٍ هو معطوف على «تأليف» أو على «ألوانها» أي وتأليف أعضائها التي لا تكاد.

(لِدَمَامَةِ خَلْقِهَا لاَ تَرَاهُ عُيُونُنَا، وَلاَ تَلْمِسُهُ أَيْدِينَا). الظرف متعلّق ب«لا يكاد»(5) أو ب«لا تراه ولا تلمسه». وعلى الأوّل جملة «لا تراه» استئناف بياني، وعلى الثاني المجموع استئناف بياني.

و«الدمامة» بفتح المهملة: القِصَر والصِغَر. وضمير «خلقها» لمرجع ضمير «ألوانها». والضميران الآخران ل_«ما».

وقوله: «لا تلمسه أيدينا» أي لا يمكن معرفتُهُ باللمس.

(عَلِمْنَا)؛ جواب «فلمّا».

(أَنَّ خَالِقَ هذَا الْخَلْقِ لَطِيفٌ، لَطُفَ)؛ كحسن.

(بِخَلْقِ مَا سَمَّيْنَاهُ بِلاَ عِلاَجٍ) أي بلا جسم خارج عن البدن يكون وسيلة لفعلٍ كالدواء للطبيب، والقَدُوم للنجّار. .

ص: 281


1- الأنعام (6) : 90 .
2- النهاية ، ج 5 ، ص 139 (نها) .
3- النهاية ، ج 5 ، ص 139 (نها) .
4- التوحيد، ص 186، باب أسماء اللّه و... ، ح 1.
5- في «ج» : «لا تكاد» .

(وَلاَ أَدَاةٍ) أي وبلا جسم داخل في البدن يكون تحريكه وسيلة لفعلٍ كعضلات القبض والبسط والجوارح.

(وَلاَ آلَةٍ) أي وبلا حالة موجودة في نفسها في الخارج يكون إحداثها وسيلة لفعل كحركة الروح الإنساني لتحريك عَضَلةٍ وعضوٍ لاستعمال علاج مثلاً.

(وَإنَّ(1))؛ بكسر الهمزة للتحقيق، أو بفتحها للعطف على «أنّ خالق».

(كُلَّ صَانِعِ شَيْءٍ فَمِنْ شَيْءٍ) أي من مادّة (صَنَعَ، وَاللّه ُ الْخَالِقُ اللَّطِيفُ الْجَلِيلُ). ذكره لئلاّ يُتوهّم من اللطفِ الصِغَرُ.

(خَلَقَ وَصَنَعَ لاَ مِنْ شَيْءٍ): لا من مادّة.

وحاصل الفرق بين لطف اللّه ولطف خلقه بأمرين: الأوّل: عدم العلاج والأداة، بل بمحض القدرة التي لا يمتنع منها دقيق ولا جليل، والعلم الذي لا يخفى معه دقيق ولا جليل. الثاني: عدم المادّة.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ مُرْسَلاً، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: قَالَ: اعْلَمْ _ عَلَّمَكَ اللّه ُ الْخَيْرَ _ أَنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ قَدِيمٌ، وَالْقِدَمُ صِفَتُهُ الَّتِي دَلَّتِ الْعَاقِلَ) أي من عقل كنه المراد من القدم، وأنّه يرجع إلى معنى سلبي هو عدم انقطاع زمان وجوده في جانب الماضي، لا إلى معنى وجودي هو تحقّقه في زمان خاصّ يسمّى أزلاً، حتّى يتوهّم أنّه يمكن أن يوجد اللّه تعالى شيئا فيه، فيكون أثره أيضا قديما.

(عَلى أَنَّهُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ ) أي لم يصدر عن شيء.

(وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ) أي لم يصدر عنه شيء.

(فِي دَيْمُومَتِهِ(2))؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وضمّ الميم وسكون الواو وفتح الميم والمثنّاة فوقُ والضميرِ؛ أي في دوامه. والظرف متعلّق بالنفي الأخير.

والحاصل أنّ تعقّل مفهوم القدم يرشد إلى أنّه لا يمكن أن يكون ما هو قديم معلولاً .

ص: 282


1- في الكافي المطبوع : «وأنّ» بفتح الهمزة .
2- في الكافي المطبوع : «ديموميّته» .

لشيء، ولا علّة لقديمٍ آخَرَ، والنفي الثاني لازم للنفي الأوّل.

(فَقَدْ بَانَ) أي ظهر (لَنَا بِإِقْرَارِ الْعَامَّةِ) أي إقرار المخالفين بأنّه تعالى قديم.

(مُعَجِّزَةِ(1))؛ بالجرّ صفة للعامّة. وهي إمّا بالمهملة والجيم والمهملة، بصيغة اسم الفاعل، من باب التفعيل أو الإفعال. والتعجير والإعجار: التوسيع. وإمّا بالزاي بصيغة اسم المفعول، من باب التفعيل أو الإفعال. ومآل الكلّ واحد.

(الصِّفَةِ)؛ بالجرّ مضاف إليه لمعجرة. وعلى الأوّلين اللام للعهد الخارجي؛ أي الصفة التي هي القدم. والمراد القائلون بأنّ القدم يسع متعدّدا.

وعلى الأخيرين اللام للجنس، أو للاستغراق. والمراد القائلون بأنّ صفاته تعالى موجودات في أنفسها في الخارج، قائمة به، قديمة معه، لم تزل معه في ديمومته.

(أَنَّهُ لاَ شَيْءَ قَبْلَ اللّه ِ، وَلاَ شَيْءَ مَعَ اللّه ِ فِي بَقَائِهِ). يعني القول والإقرار بالقدم يستلزم ذلك.

(وَ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ).

الضمير في «قبله» و«معه» راجع إلى اللّه تعالى، فزعم أنّه كان قبله شيء مفروض استظهارا وإشارةً إلى أنّ زعْم أنّه معه شيء كزعم أنّه كان قبله شيء.

ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى القديم المطلق.

(وَذلِكَ). استدلالٌ على أنّ القدم إذا عُقل حقَّ تعقّله، عُلم أنّه ينافي التعدّد بأن يكون أحدهما معلولاً للآخر.

(أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ فِي بَقَائِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَالِقا لَهُ). المراد بالخالق هنا المؤثّر في وجود الشيء، سواء كان بالإيجاب أو بالاختيار. وإنّما لم يقل «فاعلاً» إشارةً إلى أنّ فعله لا يكون إلاّ بالاختيار، فهو رمز إلى دليل آخر على عدم تعداد القديم.

(لاِءَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقا لِمَنْ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ؟!). تصريحٌ بما أشار إليه بقوله: «للعاقل» يعني أنّه ليس مفهوم القدم أمرا وجوديّا بأن يكون للقديم ظرف معيّن يؤثّر .

ص: 283


1- في الكافي المطبوع : «مُعْجِزَةَ» .

فيه في قديم آخَرَ، بل مفهوم القدم أمرٌ عدمي هو عدم انقطاع زمان الوجود في جانب الماضي، وهو المراد بقوله: «لم يزل معه»، فلا يمكن التأثير فيه.

وينبّه عليه أنّه لو كان مع اللّه معلول له قديم، لكان تعالى مقدّما بالذات على استمرار معلوله بتقدّم واحد غير مستمرّ؛ أي باعتبار وجود واحد شخصي له تعالى من حيث إنّه مقدّم على الإيجاد واستمراره بحيث يكون كلّ جزء من الاستمرار بعد ذلك الوجود، فله تعالى باعتبار هذا التقدّم حصول في مرتبة من مراتب نفس الأمر، فحصوله من هذه الحيثيّة إمّا حين بقاء المعلول، أو حين حدوثه؛ إذ لا يخرج شيء على تقدير قدم استمرار الزمان عن مقارنة حدّ من الزمان وإن لم يكن زمانيّا. وهذا بديهيّ وقد اُشير إليه بقولهم أعمّ القضايا الفعليّة المطلقة العامّة.

والأوّل مُحال؛ لاستلزامه خلاف الفرض والفردَ المحال من تحصيل الحاصل. والثاني يستلزم أن يكون القديم حادثا.

(وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، كَانَ الاْءَوَّلَ ذلِكَ الشَّيْءُ ، لاَ هذَا ، وَكَانَ الاْءَوَّلُ) أي ذلك الشيء (أَوْلى بِأَنْ يَكُونَ خَالِقا للأوّل) أي لهذا الذي فرضناه أوّلاً أنّه أوّل. وهذا على سبيل الاستظهار والإشارة إلى عدم الفرق بين القبليّة والمعيّة، كما مرّ آنفا.

(ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ بِأَسْمَاءٍ). لمّا أثبت عليه السلام أنّ صفاته تعالى ليست موجودات في الخارج في أنفسها، أراد أن يدفع بذلك الشبهةَ الناشئة عن اشتراك الأسماء معنى بينه تعالى وبين خلقه.

وحاصل الشبهة أنّ ذلك الاشتراك يستلزم أن يكون له تعالى مثل.

وحاصل الدفع أنّ ذلك الاشتراك إنّما يستلزم المثليّة إذا كان مصداق الصفة الموجود في الخارج في نفسه مشتركا بينه تعالى وبين خلقه ثابتا له أزلاً ولخلقه فيما لا يزال، فينافي ما ذكرنا من استحالة أن يكون معه شيء في ديمومته. وليس كذلك، فإنّه اشتراك في مفهوم الصفات الانتزاعي، لا في معناها، أي مصداقها الموجود في الخارج في نفسه.

(دَعَا الْخَلْقَ _ إِذْ خَلَقَهُمْ وَتَعَبَّدَهُمْ). التعبّد: الاستعباد أي اتّخذهم عبيدا.

(وَابْتَلاَهُمْ _). سيجيء معنى الابتلاء في «باب الابتلاء والاختبار».

ص: 284

(إِلى أَنْ). الظرف متعلّق بقوله: «دعا» أي أمر الخلق بأن.

(يَدْعُوهُ بِهَا)؛ بأن يقولوا: يا اللّه ، يا سميع، ونحو ذلك.

(فَسَمّى نَفْسَهُ سَمِيعا، بَصِيرا، قَادِرا، قَائِما، نَاطِقا، ظَاهِرا، بَاطِنا، لَطِيفا، خَبِيرا، قَوِيّا، عَزِيزا ، حَكِيما، عَلِيما، وَمَا أَشْبَهَ هذِهِ الاْءَسْمَاءَ).

وقوله:

(فَلَمَّا رَأى ذلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ)، شروعٌ في تقرير الشبهة.

(الْغَالُونَ)؛ بالمعجمة _ أي الذين تجاوزوا في الأسماء حدّها حيث جعلوا مفهوماتها موجوداتٍ في الخارج في أنفسها _ أو بالقاف؛ أي المبغضون لنا أهلَ البيت.

(الْمُكَذِّبُونَ) بنا أهلَ البيت.

(وَقَدْ سَمِعُونَا نُحَدِّثُ عَنِ اللّه ِ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مِثْلُهُ)؛ بأن يثبت لهما أمر موجود في الخارج في نفسه.

(وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْخَلْقِ فِي حَالِهِ)؛ بأن يثبت للخلق جميع صفاته تعالى.

ويحتمل أن يكون المراد بالمعطوف هو المراد بالمعطوف عليه بأن يكون العطف للتفسير.

(قَالُوا: أَخْبِرُونَا إِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لاَ مِثْلَ لِلّهِ وَلاَ شِبْهَ لَهُ). نشر على ترتيب اللفّ، أو عطف تفسير.

(كَيْفَ شَارَكْتُمُوهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنى، فَتَسَمَّيْتُمْ بِجَمِيعِهَا؟! فَإِنَّ فِي ذلِكَ) أي التسمّي بأسمائه جميعا.

(دَلِيلاً عَلى أَنَّكُمْ مِثْلُهُ فِي حَالاَتِهِ كُلِّهَا). وهذا في صورة انحصار حالاته في هذه الأسماء.

(أَوْ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ). وهذا في صورة عدم الانحصار.

(إِذْ جَمَعْتُكُمُ الاْءَسْمَاءُ الطَّيِّبَةُ(1)). وقوله: .

ص: 285


1- في الكافي المطبوع : «جمعتم الأسماءَ الطيّبةَ» .

(قِيلَ لَهُمْ)، شروعٌ في تقرير الجواب.

(إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَلْزَمَ الْعِبَادَ) أي خلقهم على وجه يلزمهم.

(اسْما(1))؛ بصيغة المفرد، أو الجمع.

(مِنْ أَسْمَائِهِ) أي لا جميع الأسماء. وهذا دفع لأن يكون شيء من الخلق في حاله.

(عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعَانِي). ليس المراد بالمعاني مفهومات الأسماء، أي التي استعملت الأسماء فيها من حقائقها اللغويّة أو العرفيّة أو نحو ذلك؛ لأنّها مشتركة معنىً، وإنكاره مكابرة؛ بل المراد بالمعاني المصداقات، أي الاُمور الموجودة في الخارج في أنفسها، المصحّحة لحمل المفهومات على الذات كالخرت(2) في الإنسان، وكالذات في اللّه تعالى.

(وَذلِكَ كَمَا يَجْمَعُ الاِسْمُ الْوَاحِدُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ). الكاف للتشبيه، أي اختلاف المعنى فيما نحن فيه شبيه باختلاف المعنى في الحقيقة والمجاز، والفرق أنّ فيما نحن فيه اتّفاقا في المدلولين، أي فيما يستعمل فيه اللفظ، سواء كان معنىً حقيقيّا للّفظ كالعالم، أو مجازيّا كالقائم ونحوه، إنّما الاختلاف في المعنيين فقط، وفي الحقيقة والمجاز يختلف المعنيان والمدلولان معا.

(وَالدَّلِيلُ عَلى ذلِكَ) أي على المشبّه به.

(قَوْلُ النَّاسِ) أي تكلّمهم بالمجاز.

(الْجَائِزُ عِنْدَهُمُ الشَّائِعُ، وَهُوَ) أي المجاز.

(الَّذِي خَاطَبَ اللّه ُ بِهِ الْخَلْقَ، فَكَلَّمَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ) أي لولا أن يكون المجاز في كلامهم لما عقلوا.

(لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً فِي تَضْيِيعِ مَا ضَيَّعُوا). وقوله:

(فَقَدْ يُقَالُ)، بيانٌ لقول الناس.

(لِلرَّجُلِ: كَلْبٌ، وَحِمَارٌ، وَثَوْرٌ، وَسُكَّرَةٌ، وَعَلْقَمَةٌ) أي حنظل (وَأَسَدٌ، كُلُّ ذلِكَ) أي .

ص: 286


1- في الكافي المطبوع : «أسماءً» .
2- الخرت : ثقب الإبرة والفأس والاُذن ونحوها ، والجمع «خروت» و «أخرات» . الصحاح ، ج 1 ، ص 248 (خرت) .

الأسماء (عَلى خِلاَفِهِ)؛ أي واقع على خلاف معناه. والضمير ل_«كلّ».

(وَحَالاَتِهِ). الواو بمعنى «مع» أو هو على مذهب من يجوّز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ.(1) والمراد بالحالات المدلولاتُ التي استعمل فيها.

(لَمْ تَقَعِ الاْءَسَامِي عَلى مَعَانِيهَا الَّتِي كَانَتْ بُنِيَتْ عَلَيْهَا(2))؛ استئنافٌ بياني لقوله: «كلّ ذلك على خلافه وحالاته».

(لاِءَنَّ الاْءِنْسَانَ لَيْسَ بِأَسَدٍ وَلاَ كَلْبٍ). ومن أقوى أمارات المجاز صحّة السلب.

(فَافْهَمْ ذلِكَ) أي التشبيه (رَحِمَكَ اللّه ُ).

اعلم أنّه توهّم بعضٌ من أمثال هذه العبارات أنّ المعانيَ اللغويّة لتلك الأسماء مفقودة في حقّه تعالى، فإطلاق تلك الألفاظ عليه تعالى بطريق المجاز اللغوي أو العقليّ. انتهى.(3)

وهذا من أبعد البعيد في نحو العلم والقدرة.

(وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللّه ُ تَعَالى بِالْعِلْمِ). فيه وضْع المشتقّ منه موضعَ المشتقّ مسامحةً.

وهذا شروع في تفصيل بيان اختلاف المعنى فيما نحن فيه، وقد بيّن في العلم أنّ مصداقه نفس ذاته لا أمر ينضمّ إليه، فيصير بسببه عالما، وقد دلّ على ذلك بدليلين:

الأوّل: أنّ علمه تعالى ليس بحادث ليكون بسبب مصداق منضمّ، وهو في قوله: «وإنّما سمّي» إلى قوله: «إلى الجهل».

والثاني: أنّ علمه ليس مخصوصا ببعض المعلومات دون بعض، ليكون بسبب مصداق منضمّ، وهو في قوله: «وإنّما سُمّي» إلى آخره.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ حَادِثٍ عَلِمَ بِهِ الاْءَشْيَاءَ). الباء للاستعانة باعتبار التغاير الاعتباري. .

ص: 287


1- حكاه الرضي في شرحه على الكافية ، ج 1 ، ص 522 عن الكوفيّين حيث قال : «قال الكوفيّون : يجوز في السعة العطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجارّ ، والبصريّون يجوّزونه للضرورة، وأمّا في السعة فيجوّزونه بتكلّف» .
2- في «أ» : «عليه» .
3- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 4 ، ص 47 ؛ والحاشية على اُصول الكافي لرفيع النائيني ، ص 407 .

(وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلى حِفْظِ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِهِ) عن الفساد.

(وَالرَّوِيَّةِ)؛ بفتح المهملة وكسر الواو وشدّ الخاتمة، عطفٌ على «حفظ» للتبيين.

(فِيمَا يَخْلُقُ مِنْ خَلْقِهِ). وقوله:

(وَيَفْسِدُ(1))؛ بفتح ياء المضارعة وبرفع الفعل، جملةٌ معطوفة على «عَلِم به» فهي أيضا صفة «عِلْمٍ» والعائد إلى الموصوف اسم الإشارة.

(مَا مَضى مِمَّا أَفْنى)؛ بصيغة المعلوم، أي أفناه اللّه .

(مِنْ خَلْقِهِ، مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ ذلِكَ الْعِلْمُ). وقوله:

(وَتَغَيَّبَهُ(2))؛ بالمعجمة والخاتمة والموحّدة، بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعّل.(3) والضمير المستتر للّه ، والبارز لذلك العلم أي فقده؛ أو بالمهملة والنون بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال بالرفع، جملةٌ حالية عن «ذلك» بتقدير «وهو يعيّنه». والضمير المستتر ل«ذلك العلم» والبارز للّه ، وهو قيد للمنفيّ لا للنفي.

(كَانَ جَاهِلاً ضَعِيفا، كَمَا أَنَّا لَوْ)؛ مزيدة، كما في قولهم: أن لو كان كذا. وليست موجودة في كتاب التوحيد لابن بابويه.(4)

(رَأَيْنَا عُلَمَاءَ الْخَلْقِ إِنَّمَا سُمُّوا)؛ بصيغة المجهول.

(بِالْعِلْمِ لِعِلْمٍ حَادِثٍ؛ إِذْ كَانُوا قَبْلهُ(5) جَهَلَةً ، وَرُبَّمَا فَارَقَهُمُ الْعِلْمُ بِالاْءَشْيَاءِ، فَعَادُوا إِلَى الْجَهْلِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللّه ُ عَالِما؛ لاِءَنَّهُ لاَ يَجْهَلُ شَيْئا)، بخلاف العباد، فإنّ علمهم إنّما يتعلّق بما تحصل لهم أسباب علمهم به، فعلمهم يجتمع مع الجهل في الجملة.

(فَقَدْ جَمَعَ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ اسْمُ الْعَالِمِ)، ومدلوله لغةً. .

ص: 288


1- في الكافي المطبوع : «يُفْسِدُ» بضمّ الأوّل .
2- في الكافي المطبوع : «يغيبه» .
3- في «ج» : «التفعيل» .
4- التوحيد ، ص 188 ، باب أسماء اللّه تعالى و . . . ، ح 2 .
5- في الكافي المطبوع : «فيه» .

(وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى) أي المصداق.

(عَلى مَا رَأَيْتَ)؛ بصيغة المخاطب، أي علمت.

(وَسُمِّيَ رَبُّنَا سَمِيعا لاَ بِخَرْتٍ)؛ بفتح المعجمة _ وقد يُضمّ _ وسكون المهملة: الثقب في الاُذن وغيرها.(1)

(فِيهِ يَسْمَعُ بِهِ الصَّوْتَ وَلاَ يُبْصِرُ بِهِ، كَمَا أَنَّ خَرْتَنَا _ الَّذِي نَسْمَعُ بِهِ(2) _ لاَ نَقْوى بِهِ عَلَى الْبَصَرِ، وَلكِنَّهُ) أي تسمية ربّنا سميعا.

(أَخْبَرَ)؛ بصيغة المعلوم، أي دلّ على.

(أَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الاْءَصْوَاتِ) أي مصداق سمعه نفس ذاته، فيتعلّق بكلّ مسموع.

(لَيْسَ عَلى حَدِّ مَا سُمِّينَا)؛ بصيغة المجهول.

(نَحْنُ). تأكيدٌ للضمير المتّصل.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ بِالسَّمْعِ)، مع مدلوله اللغوي.

(وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى) أي المصداق، حيث إنّه فينا نحو الخرت، وفيه نفس الذات.

(وَهكَذَا الْبَصَرُ لاَ بِخَرْتٍ). الظرف متعلّق بقوله: «أَبْصَرَ».

(مِنْهُ). الظرف صفة «خَرْت» والضمير للّه تعالى.

(أَبْصَرَ، كَمَا أَنَّا نُبْصِرُ بِخَرْتٍ مِنَّا لاَ نَنْتَفِعُ بِهِ فِي غَيْرِهِ) أي في السمع.

(وَلكِنَّ اللّه َ بَصِيرٌ لاَ يَحْتَمِلُ شَخْصا مَنْظُورا إِلَيْهِ). يُقال: احتمله: إذا تكلّف المشقّة فيه؛ أي لا مشقّة له في إبصار شخص منظور إليه.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى. وَهُوَ قَائِمٌ) أي وقولنا: «هو قائم».

(لَيْسَ عَلى مَعْنَى انْتِصَابٍ وَقِيَامٍ عَلى سَاقٍ فِي كَبَدٍ)؛ بفتح الكاف وفتح الموحّدة والمهملة: الشِّدّةُ والضيق.(3) .

ص: 289


1- كتاب العين ، ج 4 ، ص 236 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 248 (خرت) .
2- في الكافي المطبوع : «به نسمع» بدل «نسمع به» .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 139 (كبد) .

(كَمَا قَامَتِ الاْءَشْيَاءُ)، يعني أنّ القيام موضوع لغةً للانتصاب، وهو القيام على ساق،(1) وهذا مختصّ بالخلق، ثمّ اُطلق عرفا، أو على طريقة عموم المجاز على أمرين مشتركين معنىً بين اللّه وخلقه؛ هما قيام حفظ وقيام كفاية، ولكلّ منهما مصداق في خلقه، وهو القيام الغير المشترك معنىً بينهما، وهو الانتصاب والقيام على ساق؛ لأنّ شيئا من الوجهين لا يتأتّى في الخلق بدون الانتصاب وإن احتاج إلى أشياء اُخرى غيره كالتلفّظ والمشي ونحو ذلك، ولكلّ منهما في اللّه تعالى مصداق آخر، فإنّ القيام بمعنى الحفظ، والقيامَ بمعنى الكفاية من صفات أفعاله، فمصداق كلّ منهما نفس الأثر.

وهذا ما أشار إليه بقوله:

(وَلكِنْ «قَائِمٌ») أي قولنا: هو تعالى قائم.

(يُخْبِرُ أَنَّهُ حَافِظٌ ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: الْقَائِمُ بِأَمْرِنَا فُلاَنٌ). تصريحٌ باشتراك هذا القيام معنى بين اللّه وخلقه.

(وَاللّه ُ هُوَ الْقَائِمُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) أي الحافظ لأفعالها، بيده أزمّتها وكلّها بمشيئته وإرادته وقدَره وقضائه.

(وَالْقَائِمُ أَيْضا فِي كَلاَمِ النَّاسِ: الْبَاقِي)؛ يعني يطلق القيام على أمرٍ مختصّ باللّه تعالى _ ليس مشتركا معنىً بين اللّه وخلقه _ هو الباقي، ولم يصرّح بعدم الاشتراك لأنّه قد يُطلق البقاء والقيام على الباقي في الجملة وإن كان منقطعا في جانب الماضي، بل فيه وفي جانب المستقبل أيضا وهو مشترك معنىً، لكن في إطلاقه على الخلق بدون قيد سوء أدب، ومصداقه في اللّه تعالى نفس ذاته، وهي غير مشتركة، وفي الخلق أجزاؤه وفاعله ونحو ذلك داخلة في المصداق، كما ذكره المتكلِّمون في بحث زيادة وجود الممكن على ذاته.(2) وللإشارة إلى هذا الذي ذكرنا غيّر اُسلوب هذه الفقرة عن سابقها ولاحقها.

(وَالْقَائِمُ أَيْضا يُخْبِرُ عَنِ الْكِفَايَةِ، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: قُمْ بِأَمْرِ بَنِي فُلاَنٍ، أَيِ اكْفِهِمْ، وَالْقَائِمُ .

ص: 290


1- كتاب العين، ج 5، ص 222 (قوم).
2- ينظر الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 243 ، في كون وجود الممكن زائدا على ماهيته عقلاً .

مِنَّا) أي سواء كان القيام قيام حفظ، أم قيام كفاية (قَائِمٌ عَلى سَاقٍ)، أي مصداقه القيام على ساق كما مرَّ آنفا.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ وَلَمْ يَجْمَعِ(1) الْمَعْنى. وَأَمَّا اللَّطِيفُ، فَلَيْسَ عَلى قِلَّةٍ وَقَضَافَةٍ وَصِغَرٍ، وَلكِنْ ذلِكَ عَلَى النَّفَاذِ فِي الاْءَشْيَاءِ وَالاِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُدْرَكَ).

يعني أنّ مناط اللطف _ وهو ضدّ الغلظ _ قد يكون القلّةَ بكسر القاف أي رقّة القوام كما في الهواء. والقَضَافة بفتح القاف والمعجمة، أي النحافة والصغر في الجرم،(2) وكلّ من الثلاثة مختصّ بالجسمانيّات.

وأمّا مناطه في اللّه تعالى فأمران متلازمان، ولازمان للتجرّد:

أحدهما: النفاذ في الأشياء بفتح النون والفاء والمعجمة مصدر باب نصر، أي كونه نافذا ماضيا باعتبار أنّه سخّر كلّ شيء بقول: «كُن» يُقال: رجل نافذ في أمره، أي ماضٍ.(3)

الثاني: الامتناع؛ أي الإباء من أن يدرك، بصيغة المجهول من باب الإفعال.

(كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ). مقصوده عليه السلام ذكر نظيرين هما في المخلوق لئلاّ يتوهّم أنّ اللطيف مشترك لفظي بين الخالق والمخلوق.

(لَطُفَ عَنِّي هذَا الاْءَمْرُ). تعدية «لطف» ب«عن» بتضمين معنى الصدور، والمراد أنّ هذا الأمر الصادر عنّي لطيف لا يبلغه وهم غيري، ولا يقدر عليه غيري من الناس.

(وَلَطُفَ فُلاَنٌ فِي مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ)؛ مجرور بالعطف على «مذهبه» أي ذهب فيهما بحيث لم يدركه أحد من الناس، كما يجيء في ثالث الثاني والعشرين(4) من قوله: «فلطفت في الوصول إليه».(5)

(يُخْبِرُكَ). استئنافٌ لبيان ما قبل النظرين. والضمير المستتر للّطيف من أسماء اللّه .

ص: 291


1- في الكافي المطبوع : «نجمع» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 98 ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 284 (قضف) .
3- في «ج» : - «يقال : رجل نافذ في أمره أي ماضي» .
4- أي في الحديث 3 من باب جوامع التوحيد .
5- في المصدر : «فتلطّفت الوصول إليه» .

تعالى، والإسناد مجازي.

(أَنَّهُ). الضمير للشأن أو للّه .

(غَمَضَ)؛ بالمعجمتين بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر وحسن؛ أي تاه. والغموض ضدّ الوضوح.

(فِيهِ). الضمير للّه .

(الْعَقْلُ)؛ مرفوع بالفاعليّة.

(وَفَاتَ). الضمير المستتر للّه .

(الطَّلَبَ(1))، بالنصب مفعول «فات» أي لم يدركه الطلب، والنسبة مجاز عقلي.

(وَعَادَ). الضمير للطلب.

(مُتَعَمِّقا مُتَلَطِّفا)؛ حالان لضمير «عاد» ضُمّنا معنى القول، ولذلك صار قوله:

(لاَ يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ)، مفعولَهما؛ يعني لم يحصل للطلب في التعمّق والتلطّف إلاّ العلم والقول بأنّه لا يدركه الوهم وإن بولغ في التعمّق والتلطّف.

(فَكَذلِكَ لَطُفَ اللّه ُ)؛ بطريق الإضافة، ويمكن أن يكون فعلاً ماضيا وفاعلاً.

(تَبَارَكَ وَتَعَالى عَنْ)؛ متعلّق ب«تعالى» أو ب«لطف».

(أَنْ يُدْرَكَ بِحَدٍّ، أَوْ يُحَدَّ بِوَصْفٍ). المراد بالإدراك بحدٍّ معرفةُ كنه ذاته بالحدّ التامّ، وبالحدّ بوصف أن يجعل أسماؤه المشتقّة وما يجري مجراها موصلةً إلى كنه ذاته.

(وَاللَّطَافَةُ مِنَّا : الصِّغَرُ وَالْقِلَّةُ). لم يذكر القضافة مسامحةً لظهوره ممّا سبق، أو لأنّ الثلاثة يرجع إلى معنى.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ مفهوم هذا المشترك فينا معنى مخصوص بالجسمانيّات، وفيه تعالى التجرّد عن علائق الجسمانيّات المستلزم للنفاذ والامتناع؛ وذلك لأنّ القدر المشترك الذي هو معنى حقيقي لغةً للعطف ليس بكمال؛ لأنّه يتحقّق في أحقر الأشياء أيضا. .

ص: 292


1- في الكافي المطبوع : «الطلبُ» بالضمّ .

(وَأَمَّا الْخَبِيرُ، فَالَّذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَفُوتُهُ) أي الخبير في أسمائه تعالى بمعنى الذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته.

(لَيْسَ لِلتَّجْرِبَةِ وَلاَ لِلاِعْتِبَارِ بِالاْءَشْيَاءِ). استئناف بياني، والضمير المستتر لمصدر الخبير؛ يعني أنّ الخبير وضع في اللغة لمن له العلم بالأخبار والأحوال،(1) ومناط هذا العلم في المخلوق التجربة والاعتبار. والمراد بالتجربة ما هو سبب العلم الضروري، وأصله استعمال الحواسّ الخمس الظاهرة. والمراد بالاعتبار ما هو سبب العلم النظري، وهو الحركة الفكريّة، بخلاف مناط هذا العلم في اللّه تعالى؛ فإنّه ذاته بذاته، ولذا لا يعزب عنه شيء ولا يفوته.

(فَعِنْدَ التَّجْرِبَةِ وَالاِعْتِبَارِ عِلْمَانِ وَلَوْلاَ هُمَا مَا عَلِمَ(2)). الفاء للبيان، والمراد بالعلمين: العلم الضروري والعلم النظري، وضمير «لولاهما» للتجربة(3) والاعتبار. و«علم» بصيغة الماضي المعلوم المجرّد، والضمير المستتر للّه تعالى، يعني لو كان اللّه تعالى خبيرا للتجربة والاعتبار، فعند تجربته واعتباره يحدث له علمان، ولولا تجربته واعتباره ما علم شيئا أصلاً، لا ضروريّا ولا نظريّا.

(لاِءَنَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ، كَانَ جَاهِلاً). تعليلٌ لقوله: «ما علم»؛ أي لأنّ كلّ من كان علمه حادثا عند التجربة والاعتبار كان جاهلاً قبل التجربة والاعتبار.

(وَاللّه ُ لَمْ يَزَلْ خَبِيرا بِمَا يَخْلُقُ)، بصيغة المجهول، أو المعلوم من باب نصر.

(وَالْخَبِيرُ مِنَ النَّاسِ الْمُسْتَخْبِرُ عَنْ جَهْلٍ)؛ بالجرّ والتنوين.

(الْمُتَعَلِّمُ)؛ بالرفع خبر آخَرُ للخبير.

(وَقَدْ(4) جَمَعْنَا الاِسْمَ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ المصداق فيه تعالى ذاته، وفي الخلق أسباب التعلّم، والاستخبار داخلة في المصداق. .

ص: 293


1- لسان العرب ، ج 4 ، ص 226 (خبر) .
2- في الكافي المطبوع : «عُلِمَ» .
3- في «ج» : «بالتجربة» .
4- في الكافي المطبوع : «فقد» .

(وَأَمَّا الظَّاهِرُ، فَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلاَ الاْءَشْيَاءَ بِرُكُوبٍ فَوْقَهَا، وَقُعُودٍ عَلَيْهَا، وَتَسَنُّمٍ لِذُرَاهَا، وَلكِنْ ذلِكَ لِقَهْرِهِ وَلِغَلَبَتِهِ الاْءَشْيَاءَ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: ظَهَرْتُ عَلى أَعْدَائِي، وَأَظْهَرَنِي اللّه ُ عَلى خَصْمِي، يُخْبِرُ عَنِ الْفَلْجِ)؛ بفتح الفاء وسكون اللام والجيم، مصدر باب نصر وضرب: الظفر.(1)

(وَالْغَلَبَةِ، فَهكَذَا ظُهُورُ اللّه ِ عَلَى الاْءَشْيَاءِ)؛ يعني أنّ «الظاهر» موضوع لغةً لأمرين: الأوّل: العالي على شيء بركوب ونحوه. والثاني: البارز بنفسه المعلوم بحدّه،(2) وشيء من الأمرين ليس مشتركا بين اللّه وخلقه، ثمّ اُطلق على أمرين مأخوذين من المعنيين مشتركين بين اللّه وخلقه؛ معنى الأوّل: الغالب، وهو مأخوذ من العالي، والثاني: مَن لا يخفى وجوده على الناظر فيه، وهو مأخوذ من البارز بنفسه. وإلى الثاني أشار بقوله:

(وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَلاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِكُلِّ مَا يُرى(3))؛ بصيغة المضارع المجهول من باب منع. والمراد ب«ما يرى» النظام المشاهَد في السماوات والأرضين وما بينهما.

(فَأَيُّ ظَاهِرٍ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنَ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى؟ لاِءَنَّكَ لاَ تَعْدَمُ صَنْعَتَهُ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَفِيكَ مِنْ آثَارِهِ مَا يُغْنِيكَ، وَالظَّاهِرُ مِنَّا الْبَارِزُ بِنَفْسِهِ، وَالْمَعْلُومُ بِحَدِّهِ، فَقَدْ جَمَعَنَا الاِسْمُ وَلَمْ يَجْمَعْنَا الْمَعْنى)؛ فإنّ مصداق ظهور الخلق علوّه مكانا ونحو ذلك، أو جسميّته ومقداره وأجزاؤه، بخلاف ظهوره تعالى.

(وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَلَيْسَ عَلى مَعْنَى الاِسْتِبْطَانِ لِلاْءَشْيَاءِ بِأَنْ يَغُورَ فِيهَا، وَلكِنْ ذلِكَ مِنْهُ عَلَى اسْتِبْطَانِهِ لِلاْءَشْيَاءِ عِلْما وَحِفْظا وَتَدْبِيرا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَبْطَنْتُهُ، يَعْنِي خَبَرْتُهُ)؛ بالمعجمة والموحّدة ومهملة كنصرته، أي اختبرته.

(وَعَلِمْتُ مَكْتُومَ سِرِّهِ، وَالْبَاطِنُ مِنَّا الْغَائِبُ فِي الشَّيْءِ، الْمُسْتَتِرُ، وَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ، .

ص: 294


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 335 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 448 (فلج) .
2- اُنظر النهاية ، ج 3 ، ص 164 (ظهر) .
3- في الكافي المطبوع : «ما برأ» .

وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ مصداق «الباطن» المشترك بين اللّه وخلقه _ وهو المصرّح به بقوله: «كقول القائل» إلى آخره _ في الخلق أن يكون جسما كداخل في شيء، فإنّه المتعارف في الإبطان، إذ لو لم يحضره معه في الخلوات ولم يفتّشه عن مكنون سرّه، لم يعلم ذلك بخلاف «الباطن في اللّه » فإنّ مصداقه ذاته تعالى.

(وَأَمَّا الْقَاهِرُ، فَلَيْسَ عَلى مَعْنى عِلاَجٍ) أي فعل بدني.

(وَنَصَبٍ)؛ أي تعب.

(وَاحْتِيَالٍ وَمُدَارَاةٍ )؛ بالمهملتين والهمز؛ أي دفع ضرر.

(وَمَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، وَالْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِرا، وَالْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُورا، وَلكِنْ ذلِكَ مِنَ اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عَلى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ) أي كلّ واحدٍ ممّا خلق.

(مُلْبَسٌ)؛ اسم مفعول من باب الإفعال.

(بِهِ). الضمير لجميع.

(الذُّلُّ)؛ نائب فاعل «ملبس».

(لِفَاعِلِهِ) أي فاعل الجميع، وهو اللّه . وفيه مسامحة بجعل «فاعل» فاعلَ الشيء كفاعل ذلك الشيء؛ لدخول أفعال العباد فيه.

(وَقِلَّةُ)؛ بكسر القاف وشدّ اللام والتاء، مصدر باب ضرب، مرفوع عطف على «الذلّ» أي وصِغَر وانقياد وقبول.

(الاِمْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِهِ) أي أراد الفاعل بالجميع. وسيجيء معنى الإرادة في «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

(لَمْ يَخْرُجْ) أي الجميع. وهو استئناف بياني.

(مِنْهُ) أي من لباس الذلّ والقلّة.

(طَرْفَةَ عَيْنٍ)؛ منصوب بالظرفيّة، أي مقدار طرفة عين من الزمان.

ص: 295

(أَنْ يَقُولَ لَهُ: «كُنْ» فَيَكُونُ ). استشهاد بآية سورة يس،(1) أو بدل عن الضمير في «منه». وعلى الثاني «فيكون» منصوب، ولو كان «نقول» بالنون كان استشهادا بآية سورة النحل.(2)

(وَالْقَاهِرُ مِنَّا عَلى مَا ذَكَرْتُ)؛ بصيغة المتكلِّم.

(وَوَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى. وَهكَذَا جَمِيعُ الاْءَسْمَاءِ وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْهَا كُلَّهَا ، فَقَدْ يَكْتَفِي بِالاِعْتِبَارِ(3) بِمَا أَلْقَيْنَا إِلَيْكَ، وَاللّه ُ عَوْنُكَ وَعَوْنُنَا فِي إِرْشَادِنَا وَتَوْفِيقِنَا). .

ص: 296


1- يآس (36) : 82 .
2- النحل (16) : 40 .
3- في الكافي المطبوع : «الاعتبار» .

الباب الثامن عشر: باب تأويل الصمد

اشارة

الباب الثامن عشر بَابُ تَأْوِيلِ الصَّمَدِ

فيه حديثان، وشرح لهما من المصنّف رحمه الله :

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ)؛ بفتح الواو وكسر اللام.

(وَلَقَبُهُ) أي لقب محمّد (شَبَابٌ)؛ بفتح المعجمة وتخفيف الموحّدة وألف وموحّدة.

(الصَّيْرَفِيُّ)؛ صفة محمّد.(1)

(عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا الصَّمَدُ؟ قَالَ: السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ). لمّا كان السؤال ب«ما» هنا لطلب شرح الاسم، أجاب بذكر مفهوم الاسم.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ السَّرِيِّ)؛ بفتح السين المهملة، وكسر الراء المهملة، وشدّ الخاتمة.(2)

(عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَتْ أَسْمَاوءُهُ الَّتِي يُدْعى بِهَا، وَتَعَالى فِي عُلُوِّ كُنْهِهِ _). كنه الشيء: قدره.

ص: 297


1- ترجمته في معجم رجال الحديث ، ج 18 ، ص 331 ، الرقم 11963 .
2- رجال النجاشي ، ص 47 ، الرقم 97 ؛ الفهرست ، ص 100 ، الرقم 14 ؛ نقد الرجال ، ج 2 ، ص 26 ، الرقم 59 .

(وَاحِدٌ) أي لا إله إلاّ هو.

(تَوَحَّدَ بِالتَّوْحِيدِ) أي لم يكن موحّد له غير نفسه.

(فِي تَوَحُّدِهِ) أي في وقت توحّده بالوجود قبل خلق العالم.

(ثُمَّ أَجْرَاهُ) أي أجرى التوحيد.

(عَلى خَلْقِهِ)؛ بأن كلّفهم بالتوحيد، أو جعلهم موحِّدين.

(فَهُوَ) أي فالآن نحن نوحِّده ونقول:

(وَاحِدٌ، صَمَدٌ، قُدُّوسٌ). وقوله:

(يَعْبُدُهُ كُلُّ شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى تفسير «واحد». وقوله:

(وَيَصْمُدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى تفسير «صمد». وقوله:

(وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْما). ناظرٌ إلى تفسير «قدّوس». فالنشر على ترتيب اللفّ.

الشرح:

(فَهذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ الصَّمَدِ، لاَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَبِّهَةُ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّمَدِ : الْمُصْمَتُ الَّذِي لاَ جَوْفَ لَهُ؛ لاِءَنَّ ذلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ صِفَةِ الْجِسْمِ، وَاللّه ُ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ مُتَعَالٍ عَنْ ذلِكَ، هُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقَعَ(1) الاْءَوْهَامُ عَلى صِفَتِهِ) أي على خصوصيّة ذاته، فإنّ المراد بوقوع الأوهام على الشيء إدراكه جزئيّا.

(أَوْ يُدْرَكَ(2) كُنْهُ عَظَمَتِهِ) أي مقدارها، ولو كان جسما لزم إمكان إدراك مقدار عظمته.

(وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الصَّمَدِ فِي صِفَةِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْمُصْمَتَ لَكَانَ مُخَالِفا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(3)؛ لاِءَنَّ ذلِكَ مِنْ صِفَةِ الاْءَجْسَامِ الْمُصْمَتَةِ الَّتِي لاَ أَجْوَافَ لَهَا، مِثْلِ الْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَسَائِرِ الاْءَشْيَاءِ الْمُصْمَتَةِ الَّتِي لاَ أَجْوَافَ لَهَا)؛ فتكون الجسميّة

ص: 298


1- في الكافي المطبوع : «تقع» .
2- في الكافي المطبوع : «تدرك» .
3- الشورى (42) : 11 .

والمصمتيّة مشتركةً بينهما.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا، فَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الاْءَخْبَارِ مِنْ ذلِكَ، فَالْعَالِمُ عليه السلام أَعْلَمُ بِمَا قَالَ). يمكن أن يكون تعبيرا عن السيّد المصمود إليه، فإنّ الأجوف قد يستعمل في الركيك في علمه أو عمله، والمصمت يقابله. واللّه تعالى ذو القوّة المتين العالم بكلّ شيء، فهو السيّد المصمود إليه.

(وَهذَا الَّذِي قَالَ عليه السلام _ أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ _ هُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».(1) وَالْمَصْمُودُ إِلَيْهِ: الْمَقْصُودُ فِي اللُّغَةِ.

قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَعْضِ مَا كَانَ يَمْدَحُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله مِنْ شِعْرِهِ:

وَ بِالْجَمْرَةِ الْقُصْوى إِذَا صَمَدُوا لَهَا يَوءُمُّونَ قَذْفا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ(2)

يَعْنِي قَصَدُوا نَحْوَهَا يَرْمُونَهَا بِالْجَنَادِلِ، يَعْنِي الْحُصِيَّ) بضمّ الحاء المهملة وكسر الصاد المهملة وشدّ الخاتمة، جمع «حصى» بفتح المهملتين وألف مقصورة، واحدها «حصاة».

(الصِّغَارَ)؛ بكسر المهملة، جمع «الصغير».

(الَّتِي تُسَمّى بِالْجِمَارِ.وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) أي قبل ظهور الإسلام وبعثة النبيّ صلى الله عليه و آله .

مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ بَيْتا ظَاهِرا لِلّهِ فِي أَكْنَافِ مَكَّةَ يُصْمَدُ

يَعْنِي: يُقْصَدُ.

(وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ)؛ بكسر الزاي وسكون الموحّدة وكسر المهملة والقاف، شاعر بني تميم جاء مع قومه المدينة سنة تسع من الهجرة وأسلموا.(2) وفي القاموس:

الزبرقان: القمر، والخفيف اللحية، ولقب الحصين بن بدر الصحابي لجماله، أو لصفرة .

ص: 299


1- الشورى (42) : 11 . 2 . السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 1 ، ص 177 ؛ السيرة النبويّة لابن كثير ، ج1 ، ص 487 . وذكر القصيدة كلّها نجم الدين العسكري في كتاب أبوطالب حامي الرسول صلى الله عليه و آله ، ص 108 عن ديوان أبي طالب عليه السلام في 106 بيتا .
2- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 4 ، ص 987 .

عمامته، أو لأنّه لبس حلّة وراح إلى ناديهم، فقالوا: زَبرَقَ حصين.(1)

([ ................................... ]وَ لاَ رَهِيبَةَ إِلاّ سَيِّدٌ صَمَدٌ(2)

وَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ:

عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ(3)

وَ مِثْلُ هذَا كَثِيرٌ، وَاللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي جَمِيعُ الْخَلْقِ _ مِنَ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ _ إِلَيْهِ يَصْمُدُونَ فِي الْحَوَائِجِ، وَإِلَيْهِ يَلْجَؤُونَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَمِنْهُ يَرْجُونَ الرَّخَاءَ وَدَوَامَ النَّعْمَاءِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الشَّدَائِدَ)..

ص: 300


1- القاموس المحيط ،ج 3 ، ص 240 ؛ تاج العروس ، ج 13 ، ص 187 (زبرق) . 2 . صدر البيت : «ما كان عمران ذاغش ولا حسد» . ورهيبة اسم رجل . 3 . حكاه الصدوق في التوحيد ، ص 197 ، ذيل ح 9 عن الشاعر ، وحكاه الجوهري في الصحاح ، ج 2 ، ص 499 (صمد) وحكاه السمعاني في تفسيره ، ج 6 ، ص 304 عن آخر ، وابن فارس في معجم مقاييس اللغة ، ج 3 ، ص 309 (صمد) .

الباب التاسع عشر: باب الحركة و الانتقال

الباب التاسع عشر بَابُ الْحَرَكَةِ وَ الاِنْتِقَالِ

فيه أحد عشر حديثا.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ الْخُرَاذِينِيِّ(1) )؛ بضمّ المعجمة وفتح المهملة المخفّفة والألف وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والنون: قرية بالريّ، وقيل بدل الخاء الجيم، والمشهور فيها الخاء، وأنّها بالزاي بدل الذال، واللامِ بدل النون، أو ما مع النون، كانت قرية اُخرى بجنب ما مع اللام.(2)

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ لاَ يَنْزِلُ) أي يستحيل عليه النزول.

(وَلاَ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَنْزِلَ) أي لا يفوت عنه بعدم النزول كمال. وقوله:

(إِنَّمَا مَنْزلُهُ(3) فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ سَوَاءٌ )، ناظرٌ إلى قوله: «لا ينزل» أي إنّما منزلته ونسبته إلى الأشياء في القُرب باعتبار العلم، كقوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(4)، وفي البُعد باعتبار الذات سواء، أي لا يتغيّر هذا القُربُ، ولا هذا البُعدُ.

ص: 301


1- في الكافي المطبوع : «الجراذينى» بفتح الجيم .
2- في حاشية «أ» : «القائل صاحب الخلاصة (منه)» .
3- في الكافي المطبوع : «منظره» .
4- سورة قآ (50) : 16 .

(لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَرِيبٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنْهُ بَعِيدٌ). جملة استئنافيّة للبيان والتفسير، يعني القريبُ بحسب العلم والإحاطة لا يبعد منه أصلاً بحسب العلم والإحاطة، وكذا البعيد بحسب الذات لا يقرب منه بحسب الذات أصلاً. وقوله:

(وَلَمْ يَحْتَجْ إِلى شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى قوله: «ولا يحتاج إلى أن ينزل». فالنشر على ترتيب اللفّ. وقوله:

(بَلْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ)؛ بصيغة المجهول، والظرف قائم مقام الفاعل.

(وَهُوَ ذُو الطَّوْلِ)؛ بالفتح: العطاء.(1)

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وهذا إشارة إلى الجواب عن قول المشبّهة: إنّه ينزل لقضاء حوائج السائلين؛ بأنّه ذو العطاء(2) بلا حاجة إلى نزول، ليس له شريك في الاُلوهيّة فيسبق.

(أَمَّا قَوْلُ الْوَاصِفِينَ) أي الذين يصفون اللّه تعالى بصفة المخلوقين.

(إِنَّهُ يَنْزِلُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، فَإِنَّمَا يَقُولُ ذلِكَ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلى نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ). استدلالٌ على بطلان قولهم: وذلك لأنّ المتحرّك في الأين لا يكون إلاّ جسما ذا مقدار، فيجوز عليه الزيادة والنقصان، فيكون مخلوقا كما مرّ في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْتَاجٌ إِلى مَنْ يُحَرِّكُهُ أَوْ يَتَحَرَّكُ بِهِ). استدلالٌ آخر على بطلان قولهم، وبيانه أنّ الحركة إمّا اضطراريّة وإمّا اختياريّة، والاُولى محتاجة إلى مَن يحرّك محلّها، والثانية محتاجة إلى قوّة جسمانيّة بها يعالج الحركة.

(فَمَنْ ظَنَّ بِاللّه ِ الظُّنُونَ) أي من قال على اللّه بغير علم. و«الظنون» جمع «ظنّ» ونصبه على المفعول المطلق، واللام للاستغراق، وهو تمثيل لحال المضطرب، نحو: أراك تقدّم رِجلاً، وتؤخّر اُخرى، فإنّ شأنه إذا كثر الاحتمالات أن يميل إلى كلّ احتمال، .

ص: 302


1- في «ج» : «الإعطاء» .
2- نقل ابن الجوزي الحنبلي في كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ، ص 92 أحاديث في نزول اللّه إلى السماء الدنيا ونقدها .

ويرجع عنه إلى آخر، وشأنه إذا كان الاحتمال منحصرا في اثنين أن يميل إلى أحدهما، ثمّ يميل إلى الآخر، ثمّ يرجع إلى الأوّل وهكذا.

وقال نجم الدين الرضيّ في بحث المفعول المطلق من شرح الكافية: إمّا أن يكون مصدرا مثنّى أو مجموعا لبيان اختلاف الأنواع، نحو: ضربته ضربتين؛ أي مختلفتين،(1) قال تعالى: «وَتَظُنُّونَ بِاللّه ِ الظُّنُونَا».(2)

(هَلَكَ؛ فَاحْذَرُوا فِي صِفَاتِهِ مِنْ أَنْ تَقِفُوا لَهُ عَلى حَدٍّ) أي من أن تجعلوا له حدّا.

(تَحُدُّونَهُ)؛ استئنافيّة بيان للأمر؛ أي لأنّكم تحدّونه حينئذٍ.

(بِنَقْصٍ، أَوْ زِيَادَةٍ). ناظرٌ إلى الدليل الأوّل.

(أَوْ تَحْرِيكٍ، أَوْ تَحَرُّكٍ). ناظرٌ إلى الدليل الثاني.

(أَوْ زَوَالٍ) عن مكان، أو إمكان زوال عن وجود.

(أَوِ اسْتِنْزَالٍ) أي نزول.

(أَوْ نُهُوضٍ) أي قيام.

(أَوْ قُعُودٍ؛ فَإِنَّ اللّه َ)؛ اسم «إنّ»، وخبرُه قوله:

(جَلَّ وَعَزَّ عَنْ صِفَةِ الْوَاصِفِينَ) أي الذين يصفون اللّه بصفة الأجسام.

(وَنَعْتِ النَّاعِتِينَ) أي الذين يصفون اللّه بالصورة والتخطيط.

(وَتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِينَ) أي الذين يزعمون أنّهم يدركون خصوصيّة ذاته بالرؤية ونحوها.

(«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِالرَّحِيمِ) ليوفّقك لترك ما حُذِّر منه.

(الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ»(3)). ترشيح للتوكّل بأنّه عالم بأحوالك. .

ص: 303


1- في المصدر: «ضربين أي مختلفين» بدل «ضربتين أي مختلفتين». وفي «ب»: «مختلفين» بدل «مختلفتين».
2- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 299 ، أنواع المفعول المطلق . والآية في سورة الأحزاب (33) : 10 .
3- الشعراء (26) : 217 _ 219 .

الثاني: (وَعَنْهُ). قيل: الظاهر أنّه من كلام تلامذة المصنّف، والضمير راجع إليه كما قلنا سابقا في «أخبرنا». ويؤيّده ما سيجيء كثيرا من الضمائر الراجعة إلى المصنّف. انتهى.(1)

(رَفَعَهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: لاَ أَقُولُ: إِنَّهُ قَائِمٌ؛ فَأُزِيلَهُ عَنْ مَكَانِهِ)؛ فإنّ «القائم» من قام عن مكان جلوسه في العرف.

(وَلاَ أَحُدُّهُ بِمَكَانٍ يَكُونُ فِيهِ) ولا يقوم عنه.

(وَلاَ أَحُدُّهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ) أي بأن يتحرّك.

(فِي شَيْءٍ) أي باعتبار شيء، كقوله تعالى: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»(2) أي إلاّ مودّتي باعتبار قرباي؛ أقام مودّة قرباه مقام مودّته، وكقول الداعي: اللّهُمَّ احفظني في أهلي، أي باعتبار أهلي؛ أقام حفظ أهله مقام حفظه.

(مِنَ الأَرْكَانِ) أي الأعضاء الرئيسة.

(وَالْجَوَارِحِ) أي سائر الأعضاء. وهذا إشارة إلى أنّ حركة الجزء يستلزم حركة المجموع من حيث المجموع.

(وَلاَ أَحُدُّهُ بِلَفْظِ)؛ مضاف إلى:

(شَقِّ)؛ بفتح المعجمة وشدّ القاف، واحد «الشقوق» وهو في الأصل مصدر، وهو مضاف إلى:

(فَمٍ، وَلكِنْ كَمَا قَالَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى : «كُن فَيَكُونُ»(3) بِمَشِيئَتِهِ) التقدير، ولكن يكون بمشيئته، كما قال تبارك وتعالى: «كُن».

ومعنى «كما قال» هنا أوّلَ قوله، أي لا يتخلّف الكون عن أمره أصلاً، وإنّما زيد الفاء لموافقة القرآن، أو للتأخير في الذكر؛ يُقال: كما جاء زيد ذهبتُ، أي كان ذهابي في أوّل مجيء زيد. .

ص: 304


1- في حاشية «أ» : «هو ميرزا محمّد الإسترابادي رحمه الله (منه)» .
2- الشورى (42) : 23 .
3- البقرة (2) : 117 .

(مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِي نَفْسٍ)؛ بفتح الفاء، أي من غير لفظ.

(صَمَدا)؛ منصوب بفعل مقدّر؛ أي أعني صمدا.

(فَرْدا، لَمْ يَحْتَجْ إِلى شَرِيكٍ) أي معاون.

(يذكِّرُ(1))؛ بشدّ الكاف المكسورة مأخوذ من الذكرة بضمّ الذال وسكون الكاف بمعنى الحدّة يقال: سيف مذكّر بشدّ الكاف المفتوحة، أي ذو حدّة وماء.(2) والضمير المستتر فيه عائد إلى الشريك.

(لَهُ) أي للّه .

(مُلْكَهُ)، بضمّ الميم وسكون اللام، أي ملك اللّه .

(وَلاَ يُفْتَحُ(3))؛ بصيغةِ مجهولِ باب منع، عطف على «لم يحتج».

(لَهُ) أي للشريك.

(أَبْوَابُ(4))؛ نائب فاعل «يفتح».

(عِلْمِهِ) أي علم اللّه . والمعنى أنّ الشريك ليس معلوما للّه ، فإنّه لا شيء محض. وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة يونس: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(5).

الثالث: (وَعَنْهُ ، عَنْ)؛ في بعض النسخ: «أي عن» (مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي بَعْضِ مَا كَانَ يُحَاوِرُهُ)؛ بالحاء المهملة والألف وواو وراء مهملة؛ أي يجاوبه، الذي يفهم من كتاب من لا يحضره الفقيه في «كتاب الحجّ» في .

ص: 305


1- في الكافي المطبوع : «يَذْكُرُ» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 358 ؛ تاج العروس ، ج 6 ، ص 444 (ذكر) .
3- في الكافي المطبوع : «ولا يَفتح» .
4- في الكافي المطبوع : «أبوابُ» .
5- يونس (10) : 18 .

«باب ابتداء الكعبة وفضلها وفضل الحرم» أنّ هذا الكلام من عبد الكريم ابن أبي العوجاء متّصل بما يجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» وهو الباب السادس من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم» إلى آخره.(1)

(ذَكَرْتَ اللّه َ، فَأَحَلْتَ عَلى غَائِبٍ). يُقال: أحال عليه بدَيْنه، والاسم: الحوالة.

لمّا فهم من كلامه عليه السلام أنّ فائدة الطاعات الثواب على اللّه تعالى، شبّه ذلك بالحوالة للدين على غائب لا يمكن الطلب والأخذ منه.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَيْلَكَ، كَيْفَ يَكُونُ غَائِبا مَنْ هُوَ مَعَ خَلْقِهِ شَاهِدٌ) أي إنّما لا يمكن الطلب من غائب يكون في مكان بعيد عن مكان الطالب، وليس اللّه كذلك.

(وَإِلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)؛ هو العِرْق الذي في صفحة العنق، وهما وريدان مكتنفان صفحتي العنق ممّا يلي مقدّمه، غليظان، ينتفخان عند الغضب.(2) ويُقال: إنّ الوريد والوتين والنَسْ ءُ عرق واحد يسمّى في العنق «وريدا» وفي القلب «وتينا» وفي الفخذ والساق «نَسأً».(3)

(يَسْمَعُ كَلاَمَهُمْ، وَيَرى أَشْخَاصَهُمْ، وَيَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ؟! فَقَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: أَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ أَ لَيْسَ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ، كَيْفَ يَكُونُ فِي الاْءَرْضِ؟!) أي لا يكون في الأرض. أعطى «كيف» للاستفهام الإنكاري حكمَ «لا» للنفي، وأقامها مقامها كأنّه ابتداء الكلام على أن يصرّح بالنفي، ثمّ خاف التصريح فأتى ب«كيف».

(وَإِذَا كَانَ فِي الاْءَرْضِ، كَيْفَ يَكُونُ) أي لا يكون.

(فِي السَّمَاءِ؟! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّمَا وَصَفْتَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانٍ، اشْتَغَلَ بِهِ مَكَانٌ، وَخَلاَ مِنْهُ مَكَانٌ، فَلاَ يَدْرِي فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَا يَحْدُثُ فِي .

ص: 306


1- الفقيه ، ج 2 ، ص 249 ، ح 2325 .
2- لسان العرب ، ج 3 ، ص 459 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 310 (ورد) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 18 .

الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَأَمَّا اللّه ُ _ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ، الْمَلِكُ، الدَّيَّانُ _ فَلاَ يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ ، وَلاَ يَكُونُ إِلى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلى مَكَانٍ).

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام : جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ يَا سَيِّدِي، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَنَّ اللّه َ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ). وقوله:

(عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، تتمّة المرويّ، وهو استئناف بياني؛ أي هذا الموضع الذي هو فيه هو العرش.

(وَأَنَّهُ) أي وروي لنا أنّه (يَنْزِلُ) أي من عرشه (كُلَّ لَيْلَةٍ فِي النِّصْفِ الاْءَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا).

(وَرُوِيَ). إشارة إلى أنّ سند الروايتين السابقتين متّحد، وغير سند هذه الرواية.

(أَنَّهُ يَنْزِلُ) أي من عرشه (عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَوَالِيكَ فِي ذلِكَ) أي في تكذيب الروايات، أو في الاستشكال عليها.

(إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ ،فَقَدْ يُلاَقِيهِ الْهَوَاءُ، وَيَتَكَنَّفُ عَلَيْهِ)؛ بالنون والفاء بصيغة المضارع المعلوم من باب التفعّل؛ أي يحيط به.

(وَالْهَوَاءُ جِسْمٌ رَقِيقٌ يَتَكَنَّفُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ) أي بقدر ذلك الشيء، يعني لا ينقص داخل الهواء عنه، فيتداخل ولا يزيد عليه، فيحصل خلأً.

(فَكَيْفَ يَتَكَنَّفُ عَلَيْهِ جَلَّ ثَنَاوءُهُ عَلى هذَا الْمِثَالِ؟!) أي على قدره.

(فَوَقَّعَ عليه السلام ) كان هذا التوقيع تحت قوله: «على العرش استوى».

(عِلْمُ ذلِكَ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لَهُ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ تَقْدِيرا ). «علم» مبتدأ ومضاف. و«ذلك» إشارة إلى العرش. و«عنده» خبر المبتدأ، والضمير للّه ، وضمير «هو» للّه . و«المقدّر» بصيغة اسم فاعل باب التفعيل: المدبّر، سواء كان موجدا وفاعلاً أم لا. وضمير «له» للعرش. والباء في «بما» للملابسة. و«ما» موصولة، وعبارة عن النظام، وضمير «هو» لما. و«تقديرا» تمييز للنسبة في «أحسن» يعني أنّ المراد بعرش اللّه

ص: 307

مجموع مخلوقاته، فإنّه مملكته.

والمراد باستوائه على العرش استيلاؤه على كلّ جزء من أجزائه بالسويّة؛ أي بلا تفاوت، وذلك بعلمه التامّ به وتدبيره إيّاه أحسن تدبير، فإنّه لا يخرج شيء من أفعال العباد حتّى كفر الكافر عن مشيئته تعالى وإرادته وقدره وقضائه وإذنه، كما يجيء في الباب الخامس والعشرين، ويجيء معنى استوائه تعالى على العرش في سادس الباب وسابعه وثامنه.

(وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَالأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهُ سَوَاءٌ عِلْما وقُدْرَةً وَمُلْكا وَإِحَاطَةً). «فهو» مبتدأ و«كما هو» خبر المبتدأ، أي لا يتغيّر، نظير «كُن كما أنت».

قال ابن هشام في مغني اللبيب في بيان أنّ الكاف قد يكون للاستعلاء:

قيل في كُن كما أنت: إنّ المعنى على ما أنت عليه، وللنحويّين في هذا المثال أعاريب:

أحدها: هذا وهو أنّ «ما» موصولة و«أنت» مبتدأ حذف خبره.

والثاني: أنّها موصولة، و«أنت» خبر حذف مبتدؤه؛ أي كالذي هو أنت، وقد قيل بذلك في قوله تعالى: «اجْعَل لَنَا إِلَها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ»(1) أي كالذي هو لهم آلهة.

والثالث: أنّ «ما» زائدة ملغاة والكاف أيضا جارّة كما في قوله:

وننصر مولانا ونعلم أنّه كما الناس مجروم عليه وجارم(2)

و«أنت» ضمير مرفوع اُنيب عن المجرور، كما في قوله: ما أنا كأنت، والمعنى: كن فيما تستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى.

والرابع: أنّ «ما» كافّة، و«أنت» مبتدأ حذف خبره، أي عليه أو كائن، وقد قيل في «كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» أنّ «ما» كافّة. وزعم صاحب المستوفى(2) أنّ الكاف لا تكفّ ب«ما» وردّ .

ص: 308


1- الأعراف (7) : 138 . 2 . حكاه ابن عقيل في شرحه ، ج 2 ، ص 34 ؛ والطريحي في مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 3 .
2- هو أبو سعد كمال الدين عليّ بن مسعود الفرغاني ، واسم كتابه المستوفى في النحو ، كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1675 .

عليه بقوله:

واعلَم أنّني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم(1)

وقوله:

أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه(2)

وإنّما يصحّ الاستدلال بهما إذا لم يثبت أنّ «ما» المصدريّة تُوصل بالجمل الاسميّة.

والخامس: أنّ «ما» كافّة أيضا، و«أنت» فاعل، والأصل: كما كنت، ثمّ حذفت «كان» فانفصل الضمير. وهذا بعيد، بل الظاهر أنّ «ما» على هذا التقدير مصدريّة. انتهى.(1)

و«على العرش» خبر ثان؛ يعني ليس كونه في السماء الدنيا مزيلاً له عمّا كان عليه، ولا مانعا عن كونه على العرش، فالمراد بنزوله إلى السماء الدنيا استجابته الدعاء ونحو ذلك، نظير قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الاْءَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا»(2) ومضى في سادس «باب فقد العلماء» من «كتاب العقل». وقوله: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا»(3)، وقوله: «والأشياء» إلى آخره إشارة إلى معنى الاستواء على العرش في الآية، موافقا لما يجيء في سادس الباب وسابعه وثامنه.

(وَ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى مِثْلُهُ).

(وَفِي قَوْلِهِ(4): «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ»(5)). هذا كلام المصنّف، وهو معطوف على الحركة والانتقال؛ أي وهذا الباب في قوله. .

ص: 309


1- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 177 .
2- الرعد (13) : 41 .
3- الفجر (89) : 22 .
4- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
5- المجادلة (58) : 7 .

الخامس: (عَنْهُ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالى: «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَل_ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَخَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ»(1) فَقَالَ: هُوَ وَاحِدٌ) أي لا إله إلاّ هو.

(وَأحَديُّ(2) الذَّاتِ)، بفتح الهمزة وفتح الحاء المهملة ودال مهملة قبل ياء النسبة، والواو للعطف؛ أي وغير منقسم في وجوده ولا عقل ولا وهم. ويمكن أن تكون الواو جزء الكلمة وبعدها ألف ليّنة والحاء مكسورة، وحرف العطف مقدّر كما في ما بعده؛ والمآل واحد.

(بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ) أي ليس كمثله شيء.

(وَبِذَاكَ) أي بالوحدة والأحديّة والبينونة.

(وَصَفَ نَفْسَهُ) في القرآن. والمقصود أنّه تعالى ليس جسمانيّا، فليس كونه معهم باعتبار المكان والذات.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ بِالاْءِشْرَافِ) أي بالعلوّ والقدرة. يُقال: أشرفت الشيء، أي علوته؛ وأشرفت عليه، أي اطّلعت عليه من فوق.

(وَالاْءِحَاطَةِ). ذكر ذلك اعتمادا على أنّ ما قبله وما بعده يفسّره أنّ المراد به القدرة، وإشارةً إلى أنّ إطلاق المحيط على هذا المعنى مشهور كقوله: «وَاللّه ُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ»(3).

(وَالْقُدْرَةِ). عطف تفسير.

(«لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِى السَّماواتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ»(4)) أي لا يغيب.

(بِالاْءِحَاطَةِ) أي بالقدرة، وهو متعلّق بالنفي لا المنفيّ. .

ص: 310


1- المجادلة (58) : 7 .
2- في الكافي المطبوع : «وَاحِدِىُ» .
3- البروج (85) : 20 .
4- سبأ (34) : 3 .

(وَالْعِلْمِ، لاَ بِالذَّاتِ) أي بأن يكون ذاته في مكانٍ قريب من مكانهم.

(لاِءَنَّ الاْءَمَاكِنَ مَحْدُودَةٌ)؛ لأدلّة تناهي الأبعاد.

(تَحْوِيهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ). هي: القدّام، والخلف، واليمين، واليسار؛ لم يذكر الفوق والتحت من الجهات الستّ لأنّ المحسوس لنا من أمثالنا غالبا أحد الأربع.

(فَإِذَا كَانَ) عدم العزوب (بِالذَّاتِ لَزِمَهَا) أي الذات (الْحَوَايَةُ). وحاصله تفسير كونه تعالى مع الثلاثة أو الخمسة بأنّه لا يعزب شيء عنه بالقدرة والعلم.

(فِي قَوْلِهِ: «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(1)).

هذا أيضا كلام المصنّف رحمه الله ، وهو أيضا معطوف على الحركة والانتقال لكن بحذف العاطف.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْخَشَّابِ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وشدّ الشين المعجمة، والموحّدة.

(عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة طه:

(«الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»؟ فَقَالَ: اسْتَوى عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ؛ فَلَيْسَ شَىْ ءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَىْ ءٍ).

ظاهره أنّ «على» للاستعلاء. والظرف متعلّق ب«استوى» وتعديته ب«على» لتضمين معنى الاستيلاء. والعرش عبارة عن كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء، كما يجيء بيانه في ثاني الآتي(2) عند قوله: «والعرش اسم علم وقدرة وعرش فيه كلّ شيء». والجملة خبر المبتدأ؛ يُقال: استوى على ظهر دابّته: إذا استقرّ؛ واستوى إلى الشيء: إذا قصده؛ واستوى على المملكة: إذا استولى على جميعها بحيث استوى نسبة كلّ جزء إليه.

وقوله: «فليس شيء أقرب إليه من شيء» ردّ على المعتزلة المفوّضة حيث قالوا: إنّ .

ص: 311


1- طآه (20) : 5 .
2- أي في الحديث 2 عن باب العرش والكرسي .

أفعال العباد ليست مقدورة للّه ، وليست بمشيئته وإرادته وقدره وقضائه وإذنه.(1)

ويجيء إبطال مذهبهم في أحاديث الخامس والعشرين والثلاثين.

السابع: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَارِدٍ)؛ بكسر المهملة ومهملة.

(أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»فَقَالَ: اسْتَوى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ). «من» في قوله: «من كلّ شيء» للنسبة، مثل: «أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى».

والاستواء على الشيء مشتمل على أمرين: الأوّل: الاستيلاء، الثاني: تساوي النسبة. وقد صرّح هنا بالثاني، وسكت عن الأوّل؛ لظهوره.

الثامن: (وَعَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»فَقَالَ: اسْتَوى فِي كُلِّ شَيْءٍ)؛ كما تصحّ تعدية «استوى» ب«على» باعتبار الاستيلاء وب«من» باعتبار النسبة تصحّ تعديته ب«في» باعتبار أنّ المراد بكلّ شيء خلق كلّ شيء، سواء كان خلقَ تقدير، أو خلقَ تكوين، نحو: تفوّق زيد في الكتابة، ويجوز أن يكون «في» بمعنى «على» كما قالوا في «لاَءُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ»(2).

(فَلَيْسَ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنْهُ قَرِيبٌ). المراد بالبعيد الممتنع بالذات، والمراد بالقريب الممكن بالذات؛ يعني لم يحدث بُعد بعيدٍ منه، ولا قُرب(3) قريبٍ منه، أو المراد أنّ كون بعض الممكنات بعيدا محتاجا إلى أسباب لم يحصل بعدُ، وبعضها قريبا إنّما هو بالنسبة إلينا، وأمّا بالنسبة إليه فليس بُعد وقُرب. .

ص: 312


1- حكاه في المواقف ، ج 3 ، ص 208 و 214 و 226 عن المعتزلة .
2- طآه (20) : 72 .
3- في «ج» : - «قرب» .

(اسْتَوى فِي كُلِّ شَيْءٍ). بيان لقوله: «لم يقرب منه قريب» أي استوى في خلق كلّ ممكن بالذات.

التاسع: (وَعَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ فِي شَيْءٍ، أَوْ عَلى شَيْءٍ، فَقَدْ كَفَرَ. قُلْتُ: فَسِّرْ لِي، قَالَ : أَعْنِي بِالْحَوَايَةِ). الظرف متعلّق بالظرف في قوله: «أو في شيء»؛ أي أعني بأنّ اللّه في شيء أنّه في شيء بالحواية، وذلك لئلاّ ينافي نحو قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(1).

(مِنَ الشَّيْءِ). «من» ابتدائيّة، والظرف مستقرّ صفة الحواية؛ لأنّها نكرة في المعنى أو حال عنها، واللام للعهد؛ لسبق ذكره في قوله: «في شيء».

(لَهُ) أي للّه .

(أَوْ بِإِمْسَاكٍ). الظرف متعلّق بالظرف في قوله: «أو على شيء»، والمراد نحو: إمساك السرير للسلطان، فإنّه إن وُهن السرير وسقط، سقط السلطان.

(لَهُ) أي للّه .

(أَوْ مِنْ شَيْءٍ سَبَقَهُ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، والنشر ليس على ترتيب اللفّ، قدّم في التفسير الأخيرين؛ لأنّهما أحوج إلى التفسير من الأوّل.

العاشر: (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ مِنْ شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مُحْدَثا؛ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَحْصُورا؛ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلى شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَحْمُولاً)، يعني شيء من الحديث، والمحصور والمحمول لا يصلح للاُلوهيّة.

(فِي قَوْلِهِ تَعَالى : «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَ_هٌ وَ فِى الاْءَرْضِ إِلَهٌ»(2)). هذا كلام المصنّف، وهو أيضا معطوف على الحركة والانتقال بحذف العاطف. .

ص: 313


1- الرحمن (55) : 29 .
2- الزخرف (43) : 84 .

الحادي عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: قَالَ أَبُو شَاكِرٍ الدَّيَصَانِيُّ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَةً هِيَ قَوْلُنَا) أي مؤيّد لاعتقادنا، وهو أنّه لا يوجد غير الجسم والجسمانيّات شيء مدبّر لها.

(قُلْتُ: مَا هِيَ؟ فَقَالَ: «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَ_هٌ وَ فِى الاْءَرْضِ إِلَ_هٌ»(1)). توهّم منه أنّ اللّه تعالى باعتقاد من يثبته مكانيٌّ وهو في السماء مرّةً، وفي الأرض اُخرى.

(فَلَمْ أَدْرِ بِمَا أُجِيبُهُ، فَحَجَجْتُ ، فَخَبَّرْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ : هذَا كَلاَمُ زِنْدِيقٍ خَبِيثٍ) أي راسخ في الزندقة؛ لخبث باطنه.

(إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: مَا اسْمُكَ بِالْكُوفَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فُلاَنٌ، فَقُلْ لَهُ: مَا اسْمُكَ بِالْبَصْرَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فُلاَنٌ، فَقُلْ: كَذلِكَ اللّه ُ رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ إِلهٌ، وَفِي الاْءَرْضِ إِلهٌ، وَفِي الْبِحَارِ إِلهٌ، وَفِي الْقِفَارِ إِلهٌ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ إِلهٌ)، يعني يستحقّ العبادة في كلّ مكان، ولا يقتضي هذا أن يكون نفسه مكانيّة، كما أنّ من اسمه بالكوفة فلان لا يجب أن يكون نفسه في الكوفة.

(قَالَ: فَقَدِمْتُ، فَأَتَيْتُ أَبَا شَاكِرٍ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: هذِهِ نُقِلَتْ مِنَ الْحِجَازِ) أي من مكّة. .

ص: 314


1- الزخرف (43) : 84 .

الباب العشرون: باب العرش و الكرسيّ

الباب العشرون بَابُ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِّ

فيه سبعة أحاديث.

«العرش» بالفتح في اللغة مصدر باب ضرب: رفع الكَرْم على العيدان،(1) كما في آية الأنعام: («وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ»(2)فاطر (35) : 41 .(3))، واستعير هنا لكتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء لجامع الإظهار والتصريح. وقد يستعمل العرش في سرير في غاية الكمال صنعهُ الجبّار وحمل ملائكته إيّاه يجلس عليه أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين.(4) كما ينقل في شرح أوّل الباب.

و«الكرسيّ» بالضمّ وقد يُكسر، في اللغة: الأصل الذي يبقى به نظام الشيء، كما يقال: الخبز كرسيّ البدن.(5) والمراد هنا حفظ اللّه تعالى وإمساكه الأشياء، كما في قوله تعالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا»(6)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ»(6).

ص: 315


1- اُنظر الصحاح ، ج 3 ، ص 1010 (عرش) .
2- الأنعام
3- : 141 .
4- الرواية في هذا المجال في الكافي ، ج 4 ، ص 585 باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام ، ح 4 ؛ و تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 85 ، ح 3 ؛ وعيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 290 ، ح 20 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 564 ، ح 19832 .
5- اُنظر لسان العرب ، ج 6 ، ص 194 (كرس) .
6- البقرة (2) : 255 .

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ رَفَعَهُ، قَالَ: سَأَلَ الْجَاثَلِيقُ)؛ بالجيم وفتح المثلّثة وكسر اللام وسكون الخاتمة والقاف: رئيس للنصارى في بلاد الإسلام مثل كوفة وبغداد، ويكون تحت يد بطريق إنطاكية، ثمّ المِطران تحت يده، ثمّ الاُسقُفُّ يكون في كلّ بلد من تحت المِطران، ثمّ القسّيس، ثمّ الشماس.(1)

(أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَحْمِلُ الْعَرْشَ أَمِ الْعَرْشُ يَحْمِلُهُ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : «اللّه ُ _ عَزَّ وجَلَّ _ حَامِلُ الْعَرْشِ وَالسَّمَاوَاتِ) عطف تفسير إن اُريد بالعرش جميع المخلوقات، وعطف انفكاك إن اُريد بالعرش ما يجلس عليه في الآخرة أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين.(2)

(وَالاْءَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذلِكَ قَوْلُ) أي وكون اللّه تعالى حاملاً للعرش مفاد قول:

(اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة فاطر:(«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_و تِ وَ الاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَ_ل_ءِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»(3)» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ) في سورة الحاقّة:

(«وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»(4)» فَكَيْفَ قَالَ ذلِكَ، وَقُلْتَ: إِنَّهُ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَالسَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟!)، يعني أنّ ما قلت من أنّه حامل للعرش ينافي هذه الآية، فإنّها تدلّ على أنّ حامل العرش غيره، فهو تعالى محمول له بالواسطة.

(فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِنَّ الْعَرْشَ خَلَقَهُ اللّه ُ تَعَالى مِنْ أَنْوَارٍ أَرْبَعَةٍ) أي بسبب أربعة أنواع من المصالح معلومةٍ له تعالى مقتضيةٍ لخلق ما خلق من جملة العرش.

(نُورٍ أَحْمَرَ ، مِنْهُ احْمَرَّتِ الْحُمْرَةُ). المراد بالحمرة الشدّة، يُقال: احمرّ الحرب، أي .

ص: 316


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 217 ؛ تاج العروس ، ج 13 ، ص 59 . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 5 ، ص 310 .
2- في «ج» : - «عطف تفسير إن اُريد بالعرش» إلى هنا .
3- فاطر (35) : 41 .
4- الحاقّة (69) : 17 .

اشتدّت؛ وموتٌ أحمر، أي شديد؛ وسنةٌ حمراء، أي شديدة مجدِبة.(1) وإسناد الفعل إلى المصدر مجاز.

والحمرة هنا عبارة عن مشيئته تعالى مشيّةَ حتم، أي متعلّقة بأفعاله تعالى كتكوين السماوات والأرض ونحوهما، دون ما تعلّق بأفعال عباده، فإنّه مشيئة عزم. ويجيء الفرق بين المشيئتين في رابع السادس والعشرين.(2)

(وَنُورٍ أَخْضَرَ ، مِنْهُ اخْضَرَّتِ الْخُضْرَةُ). المراد بالخضرة ما هو حال المخلوق الذي لم يستقرّ الإيمان ولا الكفر في قلبه، كالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وكالمجانين وكالأطفال الرُضّع ونحوهم، وكأنواع سائر الحيوانات تشبيها لهم بالنبات في أوائل ظهوره، واُصول أنواع الخضرة سبعة وثلاثون، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر».(3)

(وَنُورٍ أَصْفَرَ ، مِنْهُ اصْفَرَّتِ الصُّفْرَةُ). المراد بالصفرة ما هو حال الكافر الجاهل باللّه تعالى وبحججه وأحكامه عن عداوة، لا عن استضعاف؛ لما كان الإيمان حياةً، والكفر موتا، والصفرة لونَ الميّت ومن يقرب من الموت؛ عبّر عن الكفر بالصفرة.

(وَنُورٍ أَبْيَضَ ، مِنْهُ الْبَيَاضُ). المراد بالبياض الإيمان الخالص باللّه وحججه وأحكامه، والبياض يناسب الإيمان الذي لا كدورة فيه، ومنه الحواريّون، وهم خواصّ عيسى عليه السلام ، فإنّ الحوار: البياض، والتحوير: التبييض.

(وَهُوَ). الضمير للعرش.

(الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ اللّه ُ). المراد بالعلم كتاب اللّه ، فإنّه مفيد للعلم بتوسّط الآيات البيّنات المحكمات المخرجة من الظلمات إلى النور، و«حمّله» بالمهملة وشدّ الميم، والضمير مفعول ثان قدّم؛ لأنّه ضمير متّصل. .

ص: 317


1- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 101 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 438 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 210 (حمر) .
2- أي في الحديث 4 من باب المشيئة والإرادة .
3- الكافي ، ج 3 ، ص 482 ، باب النوادر ، ح 1 .

(الْحَمَلَةَ)؛ بفتح المهملة وفتح الميم، جمع «حامل» مفعول أوّل اُخّر. والمراد حَمَلة العرش، يعني أنّ حمل العرش هنا عبارة عن حمل العلم.

(وَذلِكَ) أي العلم المذكور (نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ) أي بسبب عظمته وكبريائه؛ يعني أنّ اللّه تعالى لعظمته أنزل الكتاب، منعا لمن يصلح للتكليف عن الاستبداد بالرأي، فلولا عظمته لم ينزل كتابا، ولولا الكتاب والتكليف لم يتميّز كلّ من المؤمنين والجاهلين ومَن في السماء والأرض عن الآخرين.

(فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُوءْمِنِينَ ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ عَادَاهُ الْجَاهِلُونَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ ابْتَغى مَنْ فِي السَّمَاءِ(1) وَالاْءَرْضِ مِنْ جَمِيعِ خَلاَئِقِهِ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بِالاْءَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالاْءَدْيَانِ الْمُشْتَبِهَةِ).

هذا بيان للنور الأخضر والنور الأصفر والنور الأبيض، والنشر فيه على عكس ترتيب اللفّ. ولم يبيّن النور الأحمر لأنّه لا نزاع للقدريّة فيه وفي مقتضاه.

و«أبصر» من اللازم. و«قلوب» مرفوع فاعل «أبصر». واستعير السماء للدِّين الحقّ، والأرض للدِّين الباطل، كما في آية سورة الأعراف: («وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْءَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»(2)).

والمراد بمن في السماء والأرض من هو بين الإيمان والكفر كالمستضعف، فإنّه إن كان مقلّدا لأهل الحقّ بدون بصيرة، لم يخرج الباطل من قلبه بالكلّيّة، فربّما مالَ إليه؛ وإن كان مقلّدا لأهل الباطل، لم يخرج الحقّ من قلبه بالكلّيّة، فربّما مالَ إليه، كما يدلّ عليه قوله: «والأديان المشبّهة».

و«من» في «من جميع» للتبعيض. وفي كتاب الروضة في حديث أبي الحسن موسى عليه السلام ما يشبه هذه الفقرة،(3) وله معنى آخر. .

ص: 318


1- في الكافي المطبوع : «السموات» .
2- الأعراف (7) : 176 .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 124 ، ح 95 .

(فَكُلُّ مَحْمُولٍ) أي إذا كان بعظمته ونوره إبصار قلوب المؤمنين ومعاداة الجاهلين وابتغاء من في السماء والأرض إليه الوسيلة، كان كلّ من المؤمنين والجاهلين ومن في السماء والأرض محمولاً.

(يَحْمِلُهُ اللّه ُ بِنُورِهِ وَعَظَمَتِهِ) أي بمصلحته المعلومة له وكبريائه. والجملة استئناف بياني للسابق.

(وَقُدْرَتِهِ). إشارة إلى ما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «لئن أمهل اللّه الظالم فلن يفوته أخذه، وهو له بالمرصاد».(1)

(لاَ يَسْتَطِيعُ). الضمير المستتر ل_ «كُلُّ» والجملة استئناف بياني للاستئناف السابق.

(لِنَفْسِهِ ضَرّا وَلاَ نَفْعا، وَلاَ مَوْتا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورا). الاستطاعة قدرة زائدة على ذات القادر لم تتعلّق مشيئة من لا يقع إلاّ ما يشاء بما ينافي المقدور بتلك القدرة. وسيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» أنّها لا تتعلّق إلاّ بالواقع من الفعل والترك في وقتهما، لا قبل وقتهما؛ فالمراد بنفي الاستطاعة نفي الاستطاعة ما دام لم يشأ اللّه ، أو قبل الوقت. وهذا ردّ على القدريّة المفوّضة، أي القائلين بأنّ العبد مستقلّ في القدرة، وأنّه يكون ما لا يشاء اللّه .(2)

(فَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ) أي إذا ثبت أنّ كلّ واحد من العباد محمول للّه ، ثبت أنّ فعله أيضا محمول للّه ، فثبت أنّ كلّ شيءٍ محمول للّه .

(وَاللّه ُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْمُمْسِكُ لَهُمَا) أي للسماوات والأرض.

(أَنْ تَزُولاَ، وَالْمُحِيطُ بِهِمَا) أي الحافظ لهما.

(مِنْ شَيْءٍ)؛ من للسببيّة، أي لأجل مصلحة.

(وَهُوَ). الضمير ل_ «شيء». .

ص: 319


1- نهج البلاغة ، ص 142 ، الخطبة 97 . وفيه : «يفوت» بدل «يفوته» .
2- قال في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 146 : «وقالت المعتزلة (أي أكثرهم) : الأفعال الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار» .

(حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَنُورُ كُلِّ شَيْءٍ) أي سبب بقاء النظام المشاهد الذي يشتمل على كلّ شيء ومصلحة ذلك النظام.

(«سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ» من أنّه محمول «عُلُوّاكَبِيرا»(1)).

(قَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : هُوَ هَاهُنَا، وَهَاهُنَا، وَفَوْقُ، وَتَحْتُ)؛ مبنيّان على الضمّ، أي وفوق ذلك، وتحت ذلك.

(مُحِيطٌ بِنَا) علما وقدرة (وَمَعَنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ) أي كونه محيطا بنا ومعنا مفاد قوله في سورة المجادلة:

(«مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَآ أَدْنَى مِن ذَ لِكَ وَ لاَآ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ»(2)). لمّا كان هذا السؤال من الجاثليق قبل إتمام جوابه عليه السلام عن الأوّل، أجاب عليه السلام عن هذا السؤال، ثمّ عاد إلى تتمّة الجواب عن الأوّل بقوله:

(فَالْكُرْسِيُّ). الفاء للتفريع، وفيه إشارة إلى تفسير الكرسيّ بالحمل والإمساك، وإليه يرجع ما ذكرنا في شرح عنوان الباب من أنّ المراد به حفظه تعالى الأشياء.

(مُحِيطٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرى «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى»،(3) وَذلِكَ) أي إحاطة الكرسيّ (قَوْلُهُ تَعَالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ وَلاَ يَ_ءُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ)(4) عن أن يجهل شيئا (الْعَظِيمُ»)؛ بيده ملكوت كلّ شيء.

(فَالَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ حَمَّلَهُمُ اللّه ُ عِلْمَهُ). الضمير للّه ، والمراد كتابه الذي أوحى إلى أنبيائه.

إن قلت: إذا كان معنى حمل العرش حمْلَ علمه، فما معنى قوله: «فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»؟(5) .

ص: 320


1- الإسراء (17) : 43 .
2- المجادلة (58) : 7 .
3- طآه (20) : 7 .
4- البقرة (2) : 256 .
5- الحاقّة (69) : 17 .

قلت: يحتمل أن يكون لحمل ذلك العلم مراتبُ متفاوتةٌ باعتبار العمل بمقتضاه شدّةً وضعفا، ويكون حمل هؤلاء الثمانية إيّاه فوق حمل سائر علماء الخلائق إيّاه شدّةً.

ثمّ يحتمل أن يكون التقييد بقوله: «يومئذٍ» باعتبار أنّهم يُعْطَوْن ثوابَ ذلك الحمل في ذلك اليوم بحيث يظهر لسائر الخلائق أنّهم الحاملون إيّاه ذلك الحملَ.

وأمّا ما يجيء في «كتاب الحجّ» في رابع «باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام » من قول أبي الحسن موسى عليه السلام : «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمان أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين؛ فأمّا الأربعة الذين هم من الأوّلين، فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، وأمّا الأربعة من الآخرين، فمحمّد وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام ، ثمّ يُمدّ الطعام،(1) فيقعد معنا من زار قبور الأئمّة عليهم السلام إلاّ أنّ أعلاهم درجةً وأقربَهم حبوةً زوّار قبر ولدي عليّ».(2) فهو سرير في غاية الكمال يجلس عليه الحاملون للعلم.

لا يخفى أنّ قوله عليه السلام : «معنا» إشارة إلى أنّ ذكر الأربعة من الآخرين باعتبار أنّهم كانوا موجودين في عصر نزول القرآن، فسائر الأئمّة عليهم السلام شريكهم في ذلك الحمل وما يترتّب عليه.

(وَلَيْسَ يَخْرُجُ عَنْ هذِهِ الاْءَرْبَعَةِ) أي الحمرة والخضرة والصفرة والبياض، أو المراد الأربعة الأنوار، بمعنى أنّه لا يخرج عن الاستناد إلى شيء من الأربعة الأنوار التي خلق العرش منها.

(شَيْءٌ خَلَقَ اللّه ُ فِي مَلَكُوتِهِ ). الملكوت _ بفتحتين _ في الأصل مصدر، وهو مبالغة الملك. والمراد هنا المملكة. ويمكن أن يكون المراد المعنى المصدريَّ بأن يكون «في» للسببيّة.

(وَهُوَ) أي ملكوته تعالى باعتبار أفعال العباد وكونها مخلوقة للّه تعالى حتّى معاصيهم وكفرهم. .

ص: 321


1- في المصدر والتهذيب : «المضمار». وفي العيون : «المطمار» .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 585 باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام ، ح 4 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 85 ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 290 ، ح 20 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 564 ، ح 19832 .

(الْمَلَكوُتُ الَّذِي أَرَاهُ اللّه ُ أَصْفِيَاءَهُ وَأَرَاهُ خَلِيلَهُ صلى الله عليه و آله )؛ وذلك لأنّ ملكوته تعالى باعتبار أفعال نفسه ظاهر عند كلّ أحد، ولا دخل لإراءته في الإيقان المطلوب هنا.

(فَقَالَ) في سورة الأنعام: («وَكَذَ لِكَ نُرِىآ إِبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضِ»). الواو للعطف على «قال» في قوله تعالى سابقا: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاما آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ»(1)الأنعام (6) : 75 .(2) والكاف للتعليل على مقدّم وجودا مثل: «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ»(3)، ومثل: «أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه ُ إِلَيْكَ»(4)؛ و«ذلك» إشارة إلى مصدر «قال».

وإراءة إبراهيم الملكوت هنا عبارة عن تأييد إبراهيم وإحداث الباعث على اطمئنان قلبه على الملكوت بعد إيمانه به، نظير قوله تعالى: «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(5). والمضارع في «نُرِيَ» حكاية للحال الماضية؛ لإفادة التكرار على حسب وقوع أنواع من الغلظة في كلام إبراهيم مع من جرى مجرى أبيه، ولا سيّما على قراءة من قرأ «آزر» بالرفع على النداء.(6)

(«وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»(6)). الواو للعطف على «كذلك» أي ونريه ليكون من الذين اطمأنّت قلوبهم على أنّ كلّ شيءٍ مخلوقٌ له خلقَ تكوينٍ أو خلقَ تدبير، وأنّ بيده أزمّةَ الاُمور من الخير والشرّ، فليَّنوا القول في إرشاد المشركين والفسّاق، ولذا خاطب إبراهيم من جرى مجرى أبيه قبل الإراءة بكلام فيه أنواع من الخشونة، حيث قال: «أَتَتَّخِذُ أَصْنَاما آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ»، وبعد الإراءة ليّن القول مع البُعداء الذين عبدوا الكواكب، وعدّ نفسه أوّلاً من جملتهم، حيث قال حين رأى كوكبا: «هَ_ذَا رَبِّى» تمهيدا لإرشادهم، ورعايةً لمصلحة، نظير قوله: «إِنِّى سَقِيمٌ»(7)، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ .

ص: 322


1- الأنعام
2- : 74 .
3- البقرة (2) : 198 .
4- القصص (28) : 77 .
5- البقرة (2) : 260 .
6- حكى ذلك الثعلبي في تفسيره ، ج 4 ، ص 160 عن الحسن وأبي زيد المدني ويعقوب الحضرمي .
7- الصافّات (37) : 89 .

كَبِيرُهُمْ»(1)، ونظير قول مؤذِّن يوسف: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ»(2)، ونسبهم إلى نفسه آخرا حيث قال: «إِنَّنِى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»(3).

والقول الليّن أحسن من الغير الليّن في مقام الإرشاد، كما في قوله تعالى في سورة طه: «فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى».(4)

(وَكَيْفَ يَحْمِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ) أي العلماء (اللّه َ ، وَبِحَيَاتِهِ حَيِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَبِنُورِهِ اهْتَدَوْا إِلى مَعْرِفَتِهِ؟!).

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَهُ عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَ فَتُقِرُّ أَنَّ اللّه َ مَحْمُولٌ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : كُلُّ مَحْمُولٍ مَفْعُولٌ بِهِ) أي منفعل عن غيره.

(مُضَافٌ إِلى غَيْرِهِ) أي تابع لغيره.

(مُحْتَاجٌ) إلى ذلك الغير.

(وَالْمَحْمُولُ اسْمُ نَقْصٍ). الاسم: العلاّمة، أي دليل نقص.

(فِي اللَّفْظِ) أي في صريح مدلول اللفظ بدون حاجة إلى تنقيب.

(وَالْحَامِلُ فَاعِلٌ وَهُوَ فِي اللَّفْظِ) أي في صريحه.

(مِدْحَةٌ)؛ بكسر الميم، مصدر باب منع؛ أي نوع من المدح. والمدحة أيضا ما يمدح به.

(وَكَذلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَوْقَ، وَتَحْتَ، وَأَعْلى، وَأَسْفَلَ)؛ فإنّ الفوق والأعلى مدحة في صريح مدلول اللفظ، والتحت والأسفل نقص فيه، ولا ينافي النقص من جهة المدحة من جهة اُخرى. .

ص: 323


1- الأنبياء (21) : 63 .
2- يوسف (12) : 70 .
3- الأنعام (6) : 19 .
4- طآه (20) : 44 .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ تَعَالى : وَلَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى)؛ نقل بالمعنى من سورة الأعراف،(1) فإنّ فيها «وللّه » بدل «وله» أي له أفضل المتقابلين في جميع الصفات.

(فَادْعُوهُ بِهَا. وَلَمْ يَقُلْ فِي كُتُبِهِ: إِنَّهُ الْمَحْمُولُ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ الْحَامِلُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالْمُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَالْمَحْمُولُ) أي له تعالى (مَا سِوَى اللّه ِ) أي كلّ واحد ممّا سوى اللّه ، كما مرّ في سابع «باب الحركة والانتقال» في تفسير قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(2).

(وَلَمْ يُسْمَعْ)؛ بصيغة المجهول.

(أَحَدٌ آمَنَ بِاللّه ِ وَعَظَمَتِهِ قَطُّ قَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا مَحْمُولُ).

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّهُ قَالَ ) في سورة الحاقّة: («وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»(3) وقَالَ) في سورة المؤمن: («الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ»(4)؟). مقصوده الردّ على قوله عليه السلام : «لم يقل في كتبه: إنّه المحمول» بأنّ هاتين الآيتين دالّتان على أنّه محمول بالواسطة. وهذا مبنيّ على توهّم أنّ المراد بالعرش السرير الذي يجلس عليه الملك، وأنّه تعالى جالس على العرش.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : الْعَرْشُ لَيْسَ هُوَ اللّه َ) أي ليس حمل العرش حملاً للّه من قبيل ما روي: «لا تسبّوا الدهر؛ فإنّ الدهر هو اللّه »(5) أي سبّ الدهر سبٌّ للّه ؛ لأنّه الطارق بالنوائب التي يشكون الدهر أو الفلك لأجلها، دون الدهر ودون الفلك.

(وَالْعَرْشُ اسْمُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ). «العرش» مبتدأ و«اسم» خبره(6) ومضاف، وهو بمعنى .

ص: 324


1- الأعراف (7) : 180 .
2- الرحمن (55) : 5 .
3- الحاقّة (69): 17.
4- المؤمن (غافر) (40) : 7 .
5- المجازات النبويّة ، ص 235 ، ح 190 ؛ الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 1 ، ص 34 ؛ الإيضاح للفضل بن شاذان ، ص 11 و 182 ؛ كنز الفوائد ، ص 10 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 56 ، ح 80 ؛ جامع الأخبار ، ص 160 .
6- في «ج» : «خبر» .

العلاّمة؛ يعني أنّ العرش كتاب اللّه الدالّ على كمال علم اللّه وقدرته، فإنّ فيه تبيان كلّ شيء مع قلّة لفظه، موافقا لقوله تعالى في سورة الحديد: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه ِ يَسِيرٌ»(1).

(وَعَرَشَ فِيهِ كلَّ(2) شَيْءٍ). «عرش» بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب، والضمير المستتر للّه . والعرش: الرفع، والمراد هنا التبيان. وضمير «فيه» لاسم. و«كلّ» منصوب على المفعوليّة.

وهذا من عطف الجملة الفعليّة على الاسميّة، وإشارة إلى وجه تسمية الكتاب بالعرش، يعني أوضح اللّه في كتابه كلّ شيء، كما في قوله في سورة النحل: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ».(3) ومضى بيانه في «كتاب العقل» في ثامن الحادي والعشرين.(4)

(ثُمَّ أَضَافَ الْحَمْلَ إِلى غَيْرِهِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ). «ثمّ» للتعجّب؛ فإنّ حمل أحد من الناس كتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء عجيب جدّا، خارق للعادة، دالّ على كمال قدرة الصانع تعالى شأنه، كما مرّ في «كتاب العقل» في سابع الباب الرابع عشر، وهو «باب استعمال العلم» من قوله: «خاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه عزّ وجلّ».

و«أضاف» بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال، معطوفٌ على «عَرَش». والضمير المستتر للّه . و«الحمل» منصوب على المفعوليّة. والمراد حمل العرش. وضمير «غيره» للّه ، و«خلق» مجرور وبدل «غيره» وعبارة عن الحجج المعصومين، سواءً كانوا أنبياء أم أوصياء. و«من» للتبعيض. وضمير «خلقه» للّه .

وهذا إشارة إلى قوله تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ»(5) وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ .

ص: 325


1- الحديد (57) : 22 .
2- في الكافي المطبوع : «وعَرْشٍ فيه كلُّ» بدل «عَرَشَ فيه كلَّ» .
3- النحل (16) : 89 .
4- أي في الحديث 8 من باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال و الحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة .
5- الحاقّة (69) : 17 .

الْعَرْشَ»(1).

(لاِءَنَّهُ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ بِحَمْلِ عَرْشِهِ وَهُمْ حَمَلَةُ عِلْمِهِ). «لأنّه» تعليل لقوله: «أضاف». والضمير للّه . و«استعبد» بالمهملة والموحّدة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم، من باب الاستفعال؛ يُقال: استعبده: إذا كلّفه بعمل العبد.

و«خلقه» منصوب على المفعوليّة. و«بحمل» بحرف الجرّ وصيغة المصدر المضاف والباء للتعليل.

والمراد أنّه لولا حمل خلق من خلقه عرشَه لم يستعبد خلقه؛ بناء على قبح استعبادهم بكتاب فيه أحكام، وليس فيهم عالم بجميع ذلك الكتاب.

وهذا إشارة إلى برهان على إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر عليهم السلام بلا واسطة؛ لإجماع الاُمّة على أنّ غاية دعوى سائر من يدّعي الإمامة ليس إلاّ دعوى الاجتهاد واتّباع الظنّ وتفسير القرآن بالظنّ. وضمير «هم» لخلق من خلقه. و«حملة» بفتح المهملة وفتح الميم جمع «حامل». وضمير «علمه» للّه ، والمراد بعلمه كتابه كما مرّ.

(وَخَلْقا يُسَبِّحُونَ حَوْلَ عَرْشِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِ). و«خلقا» عطف على «خلقه»؛ أي واستعبد خلقا.

وهذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى في سورة المؤمن: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»(2) بأنّ «من حوله» عطف على «الذين». و«يسبّحون» بالموحّدة من باب التفعيل؛ أي ينزّهون اللّه عمّا لا يليق، كقوله في سورة النور: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْآصَالِ* رِجَالٌ».(3) والتقدير: وخلقا يسبّحون حول عرشه بحمل عرشه، نظير آية سورة الطلاق: «وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَ الَّ_آ_ءِى لَمْ يَحِضْنَ»(4) فإنّه بتقدير: واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. .

ص: 326


1- غافر (40) : 7 .
2- غافر (40) : 7 .
3- النور (24) : 36 _ 37 .
4- الطلاق (65) : 4 .

وضمير «هم» ل«خلقا». وضمير «بعلمه» للّه ، يعني أنّ هؤلاء الخلقَ ليسوا بحملة العلم، بل تابعون لهم في التعلّم منهم بالغدوّ والآصال، والعمل بما سمعوا منهم، وهم طائفة من الشيعة الإماميّة، وهم في هذا الزمان خاصّةً موالي القائم الثلاثون المذكورون في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «باب في الغيبة» وتاسع عشره، والمراد أنّه لولا حمل خلق من خلقه عرشَه، لم يستعبد اللّه تعالى طائفة يسبّحون حول عرشه؛ لقبح الاستعباد حينئذٍ.

(وَمَلاَئِكَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ عِبَادِهِ). و«ملائكة» منصوب بالعطف على «خلقه»؛ أي واستعبد ملائكة. والمراد بالملائكة ملائكة اليمين والشمال، فإنّ لكلّ عبدٍ في كلّ يومٍ مَلَكين، وفي كلّ ليلة ملكين، يكتبان أعماله؛ يعني لولا حمل خلق من خلقه عرشَه، لم يستعبد اللّه تعالى الملائكة الكَتَبة للأعمال؛ لقُبح الاستعباد حينئذٍ؛ لأنّ حسن الأعمال وقبحها فرع التكليف، وإذا لم يكن حامل عرشه لقبح التكليف.

(وَاسْتَعْبَدَ أَهْلَ الاْءَرْضِ بِالطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِهِ). «واستعبد» جملة حاليّة بتقدير «قد».

وهذا توضيح وتقوية للمدّعى بذكر نظير. والباء في «بالطواف» للتعليل، يعني لو ارتفع طواف بيته لارتفع استعباد أهل الأرض لنزول العذاب على أهل الأرض حينئذٍ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في أحاديث «باب لو ترك الناس الحجّ لجاءهم العذاب».(1)

ثمّ إنّ أصل تكليف الناس بالحجّ إنّما هو لملاقاة الإمام العالم بجميع الأحكام الحامل للعرش، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث الباب الخامس والتسعين وهو «باب أنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام، فيسألونه عن معالم دينهم، ويعلّمونه ولايتهم ومودّتهم له».(2)

(وَاللّه ُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كَمَا قَالَ. وَالْعَرْشُ وَمَنْ يَحْمِلُهُ وَمَنْ حَوْلَ الْعَرْشِ ).

لمّا فرغ عليه السلام من بيان آية سورة الحاقّة وآية سورة المؤمن، بيّن آية سورة طه وأمثالها .

ص: 327


1- الكافي ، ج 4 ، ص 271 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 392 .

بأنّ المراد بالعرش فيها أيضا اسم علم وقدرة، وهو كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء. ومرَّ بيانه في سادس السابق وسابعه وثامنه.(1)

وهذا لا ينافي أنّ الثمانية الذين هم حَملة العرش أي حملة علمه صنع اللّه تعالى لهم عرشا؛ أي سريرا في غاية الكمال، وتحمل هذا العرش ملائكة، كما في الصحيفة الكاملة في دعائه عليه السلام في الصلاة على حَمَلَة العرش، وكلّ ملك مقرّب من قوله عليه السلام : «اللّهُمَّ وحَمَلة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك»(2) إلى آخره، وكما في أوّل خطب نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسةٌ دونه أبصارهم، ملتفِّعون(3) تحته بأجنحتهم» الخطبة.(4) فيجلسون عليه في الآخرة كما مضى في شرح أوّل الباب من قول أبي الحسن عليه السلام : «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين» إلى آخره.

وقوله: «كما قال» إشارة إلى أنّ مضمون هذا في عدّة سور، ففي طه: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»،(5) وفي الأعراف ويونس والرعد والفرقان والتنزيل والحديد: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».(6)

وقوله: «والعرش» مبتدأ. والواو في قوله: «ومن يحمله» بمعنى «مع»، وخبر المبتدأ مقدّر قبل الواو؛ أي مقرّون مع من يحمله؛ أو للعطف، وخبر المبتدأ مقدّر بعد الواو، أي الثلاثة مقرونة. .

ص: 328


1- أي في الحديث 6 و 7 و 8 من باب الحركة والانتقال .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 40 ، وفي طبعة الاُخرى، ص 33 .
3- تلفع بالثوب : إذا اشتمل به . النهاية ، ج 4 ، ص 261 .
4- نهج البلاغة ، ص 41 ، آخر الخطبة 1 .
5- طآه (20) : 5 .
6- الأعراف (7) : 54 ؛ يونس (10) : 3 ؛ الرعد (13) : 2 ؛ الفرقان (25) : 59 ؛ السجدة (التنزيل) (32) : 4 ؛ الحديد (57) : 4 .

وعلى الأوّل «يحمله» منصوب محلاًّ، وعلى الثاني مرفوع محلاًّ، كما قالوا في كلّ رجل وضيعتَه. وعلى التقديرين الواو في «ومن حول» للعطف.

ويجيء ذكر حول العرش في «كتاب الجنائز» في أوّل الباب الحادي والتسعين، وهو بعد «باب في أرواح المؤمنين»(1) وفي «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر» وهو الباب المائة.(2)

(وَاللّه ُ الْحَامِلُ لَهُمُ) أي لمن يحمله ولمن حول العرش.

(الْحَافِظُ لَهُمُ، الْمُمْسِكُ، الْقَائِمُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلا(3)). يكتب بالألف، فعل ماض. وفي بعض النسخ بالياء حرف جرّ.

(كُلَّ(4) شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: مَحْمُولٌ، وَلاَ أَسْفَلُ _ قَوْلاً مُفْرَدا لاَ يُوصَلُ بِشَيْءٍ _ فَيَفْسُدُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنى). يعني لو أوصل بشيء يكون قرينة على معنى صحيح، لكان المعنى صحيحا، واللفظ فاسدا؛ لأنّه ممّا فيه سوء أدب بدون إذن.

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَتْ: أَنَّ اللّه َ إِذَا غَضِبَ إِنَّمَا يُعْرَفُ غَضَبُهُ أَنَّ) أي بأن (الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ يَجِدُونَ ثِقَلَهُ عَلى كَوَاهِلِهِمْ)؛ جمع «كاهل» بكسر الهاء، وهو ما بين الكتفين.

(فَيَخِرُّونَ سُجَّدا، فَإِذَا ذَهَبَ الْغَضَبُ، خَفَّ وَرَجَعُوا إِلى مَوَاقِفِهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : «أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مُنْذُ لَعَنَ إِبْلِيسَ، إِلى يَوْمِكَ هذَا هُوَ غَضْبَانُ عَلَيْهِ، فَمَتى رَضِيَ؟) أي فليس يبقى وقت لذهاب الغضب والخفّة والرجوع إلى مواقفهم.

(وَهُوَ) مبتدأ، والواو للحال، والضمير للّه .

(فِي صِفَتِكَ) أي في بيانك ووصفك إيّاه. .

ص: 329


1- الكافي ، ج 3 ، ص 244 ، باب آخر في أرواح المؤمنين ، ح 1 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 482 ، ح 1 .
3- في الكافي المطبوع : «على» .
4- في الكافي المطبوع : «كلِّ» بالكسر .

(لَمْ يَزَلْ)؛ خبر المبتدأ.

(غَضْبَانا(1)). كذا في النسخ، وهو مبنيّ على أنّه منصرف؛ لمجيء غضبانة في مؤنّثه، ولا ينافيه مجيء غضبى أيضا.

(عَلَيْهِ) أي على إبليس.

(وَعَلى أَوْلِيَائِهِ وَعَلى أَتْبَاعِهِ) أي الذين يتجدّد منهم يوما فيوما، وساعةً فساعة، ولحظةً فلحظة أنواع القبائح، فإنّ الأرض لا تخلو في لحظة عن فسق وكفر متجدّد.

(كَيْفَ تَجْتَرِئُ أَنْ تَصِفَ رَبَّكَ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ) أي من صفة كائنة في الخارج إلى اُخرى كائنة في الخارج.

(وَأَنَّهُ) أي وبأنّه (يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَى الْمَخْلُوقِينَ؟!) من المحموليّة والجسميّة ونحو ذلك.

(سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، لَمْ يَزُلْ)؛ بضمّ الزاي من الأفعال التامّة.

(مَعَ الزَّائِلِينَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مَعَ الْمُتَغَيِّرِينَ، وَلَمْ يَتَبَدَّلْ مَعَ الْمُتَبَدِّلِينَ، وَمَنْ)؛ بفتح الميم.

(دُونَهُ فِي يَدِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّنْ سِوَاهُ).

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة البقرة: («وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ»(2) فَقَالَ: يَا فُضَيْلُ، كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ، السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ).

قد مضى في شرح عنوان الباب أنّ المراد بالكرسيّ الحفظ والإمساك. وقوله: «السماوات» مبتدأ، والجملة استئناف بياني للسابق، و«كلّ شيء» من قبيل عطف التفسير، و«في الكرسيّ» خبر المبتدأ. .

ص: 330


1- في الكافي المطبوع : «غضبانَ» .
2- البقرة (2) : 256 .

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ)؛ بفتح المهملة، وشدّ الجيم.

(عَنْ ثَعْلَبَةَ)؛ بفتح المثلّثة، وسكون المهملة.

(عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ»:(1)قال الفخر الرازي في تفسيره ، ج 7 ، ص 12 ذيل آية الكرسي : «قد جاء في الأخبار الصحيحة أنّه الكرسي جسم عظيم مستقلّ بذاته تحت العرش وفوق السماء السابعة ، ولا امتناع من القول به ، فوجب القول بإثباته» . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 4 ، ص 100 ، والمشهدي في تفسير كنز الدقائق ، ج 1 ، ص 608 بلفظ «قيل» .(2) السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَسِعْنَ الْكُرْسِيَّ، أَمِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟). ليس منشؤ السؤال الشكّ في المسؤول عنه؛ لأنّه صريح القرآن، بل منشؤه التعجّب الناشئ من توهّم أنّ الكرسيّ جسم مخصوص، كما ذهب إليه قوم.(2)

(فَقَالَ: بَلِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَالْعَرْشَ، وَكُلَّ(3) شَيْءٍ وَسِعَ الْكُرْسِيُّ).

«العرش» و«كلّ» منصوبان على المفعوليّة لقوله: «وسع». والمراد بالعرش كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء، فالمراد ب«كلّ شيء» ما تبيانه في الكتاب، موافقا لآية سورة النحل: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ».(4)

و«الكرسيّ» مرفوع وفاعل «وسع».

وحاصل الجواب أنّ المراد بالكرسيّ حفظه وإمساكه تعالى، فلا يخرج عنه شيء.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ» : السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَسِعْنَ الْكُرْسِيَّ، أَوِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟ فَقَالَ : إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ). ظاهر ممّا مرّ. .

ص: 331


1- البقرة
2- : 255 .
3- في الكافي المطبوع : «كلُّ» بالرفع .
4- النحل (16) : 89 .

السادس: (مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ _ وَالْعَرْشُ: الْعِلْمِ _) أي مجموع العلم الذي اُوحي إلى الأنبياء.

(ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنَّا، وَأَرْبَعَةٌ مِمَّنْ شَاءَ اللّه ُ تعالى). مضى في شرح أوّل الباب ما يدلّ على أنّ الأربعة الاُولى رسول اللّه وعليّ والحسن والحسين، وفي حكمهم الأئمّة من أولادهم صلوات الرحمن عليهم، وأنّ الأربعة الاُخرى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى.

وروى عليّ بن إبراهيم في تفسير سورة الحاقّة أنّ حَمَلة العرش ثمانية، أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين؛ فأمّا الأربعة من(1) الأوّلين: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأمّا من الآخرين: فمحمّدٌ وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام .(2)

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ كَثِيرٍ)؛ بفتح الكاف وكسر المثلّثة.

(عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ )؛ بفتح المهملة وشدّ القاف، نسبةً إلى رقّة بلدٍ قربَ الكوفة.

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة هود : («وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ»(3) فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ، وَالرَّبُّ فَوْقَهُ، فَقَالَ: كَذَبُوا، مَنْ زَعَمَ هذَا، فَقَدْ صَيَّرَ اللّه َ مَحْمُولاً، وَوَصَفَهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ، وَلَزِمَهُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْمِلُهُ أَقْوى مِنْهُ) ولو في جهة من الجهات.

(قُلْتُ: بَيِّنْ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ : إِنَّ اللّه َ حَمَّلَ دِينَهُ وَعِلْمَهُ الْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ،(4) أَوْ جِنٌّ أَوْ إِنْسٌ، أَوْ شَمْسٌ أَوْ قَمَرٌ).

«حمّل» بالمهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، أو باب ضرب. .

ص: 332


1- في «ج» : - «من» .
2- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 383 .
3- هود (11) : 7 .
4- في الكافي المطبوع : «أرض أو سماء» .

وعلى الأوّل «دينه» و«علمه» منصوبان، وعلى الثاني مرفوعان. وحاصلهما واحد، وهو أنّ اللّه تعالى جعل كتابه المشتمل على دينه وعلمه حاملاً للماء، بمعنى أنّه جعل بعض الماء في كمال النور والضياء لأجل كتابه، أي ليكون مادّة لحاملي كتابه من الأنبياء والأوصياء.

وعلى الأوّل تقديم «دينه» و«علمه» هنا وتأخيرهما فيما يأتي مبنيّ على أنّ الأوّل من مفعول «حمّل» حامل، والثاني محمول، فعرشه تعالى كان حاملاً للماء الذي هو مادّة الأنبياء والأوصياء؛ أي كان باعثا لرفعة الماء ثمّ صاروا حاملين لعرشه؛ أي عالمين وحافظين لعرشه.

(فَلَمَّا أَرَادَ اللّه ُ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ) أي بعد ما كوّن من الماء السماء والأرض ونحوهما وقبل أن يكوّن الخلق، أي ما عدا الأنبياء والأوصياء؛ فاللام للعهد.

(نَثَرَهُمْ). الضمير للأنبياء والأوصياء؛ فإنّهم مفهومون من قوله: «حمّل دينه وعلمه الماء». والمراد أنّه فرّق ذلك الماء بعدد الأنبياء والأوصياء.

(بَيْنَ يَدَيْهِ). هذا لبيان كمال قربهم وشرفهم.

(فَقَالَ لَهُمْ) أي للأنبياء والأوصياء:

(مَنْ رَبُّكُمْ؟ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وَأَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام وَالاْءَئِمَّةُ صلوات اللّه عليهم ، فَقَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا، فَحَمَّلَهُمُ)؛ بالمهملة من باب التفعيل، والضمير للأنبياء والأوصياء، أو لرسول اللّه وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام .

(الْعِلْمَ وَالدِّينَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ: هوءُلاَءِ حَمَلَةُ دِينِي وَعِلْمِي، وَأُمَنَائِي فِي خَلْقِي، وَهُمُ الْمَسْؤُولُونَ). إشارة إلى ما في قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1).

(ثُمَّ قَالَ لِبَنِي آدَمَ). المراد ما عدا الأنبياء والأوصياء. .

ص: 333


1- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

(أَقِرُّوا لِلّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلِهوءُلاَءِ النَّفَرِ بِالْوَلاَيَةِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبَّنَا أَقْرَرْنَا، فَقَالَ اللّه ُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اشْهَدُوا، فَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: شَهِدْنَا عَلى أَنْ لاَ يَقُولُوا غَدا: «إِنَّا كُنَّا عَنْ هَ_ذَا غَ_فِلِينَ»(1) أَوْ يَقُولُوا : «إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَافَعَلَ الْمُبْطِ_لُونَ»(2)). هذا من سورة الأعراف، ويجيء بيانه في رابع السادس «كتاب الإيمان والكفر».(3)

(يَا دَاوُدُ، وَلاَيَتُنَا مُوءَكَّدَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيثَاقِ).

إن قلت: ما فائدة هذا السؤال والجواب والإقرار والشهادة مع نسيان بني آدم ذلك؟

قلنا: فائدته الدلالة على ظهور الأمر، وأنّ المخالف مخالف عمدا مع إقرار قلبه به في الدنيا؛ فإنّ جميع ما أقرّوا به معلوم للمخالف، لم يبق إلاّ معارضة وهميّة لولاها لم يكن في التصديق ثواب عظيم، وإنّما خالفوا لاتّباع الهوى والآباء والسلاطين، وكسب الوظائف، والفراغ من ضيق الحقّ، كما يشاهد في كلّ زمان.

ولعلّ هذا مخصوص بما عدا المستضعفين والأطفال والمجانين ونحوهم من الطوائف السبع الذين ورد في الأحاديث أنّهم غير مؤاخذين بعدم الإقرار، بل يتعلّق بهم تكليف في الدار الآخرة، كما يجيء في «كتاب الجنائز» في «باب الأطفال» وعدل اللّه فيهم.(4) .

ص: 334


1- الأعراف (7): 172.
2- الأعراف (7) : 173 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 13 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ذيل ح 3 .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 248 ، باب الأطفال .

الباب الحادي والعشرون: باب الروح

الباب الحادي والعشرون بَابُ الرُّوحِ

فيه أربعة أحاديث:

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنِ الاْءَحْوَلِ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الرُّوحِ الَّتِي فِي آدَمَ، وَقَوْلِهِ:) في سورة صآ: («فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(1) قَالَ: هذِهِ رُوحٌ مَخْلُوقَةٌ، وَالرُّوحُ الَّتِي فِي عِيسى مَخْلُوقَةٌ). أي ليست نسبة الروح إليه تعالى كنسبة روح الإنسان إلى بدنه، كما يقال: روح زيد كذا وكذا، بل الإضافة لأنّها مختارة عنده.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ حُمْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ)(2) في سورة النساء: («وَرُوحٌ مِّنْهُ»(3) قَالَ: هِيَ رُوحُ اللّه ِ مَخْلُوقَةٌ، خَلَقَهَا اللّه ُ فِي آدَمَ وَعِيسى). ظاهر ممّا مرّ.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُرْوَةَ)؛ بضمّ العين، وسكون الراء المهملتين.

(عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الطَّائِيِّ)؛ بالمهملة والألف والهمز وياء النسبة، منسوب إلى طيّئ

ص: 335


1- صآ (38) : 72 .
2- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
3- النساء (4) : 171 .

على فيعل وهو أبو قبيلة، والقياس طيّئ حذفوا الياء الثانية كما قد يحذف من سيّد، فقلبوا الياء الساكنة ألفا.(1)

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ:) في سورة صآ: («وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(2): كَيْفَ هذَا النَّفْخُ؟). توهّم السائل(3) أنّ الروح مجرّد لا يمكن فيه نفخ.

(فَقَالَ : إِنَّ الرُّوحَ مُتَحَرِّكٌ كَالرِّيحِ) أي جسمٌ لطيف كالريح.

(وَإِنَّمَا سُمِّيَ رُوحا لاِءَنَّهُ اشْتَقَّ اسْمَهُ مِنَ الرِّيحِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ عَنْ لَفْظَةِ الرِّيحِ) أي وإنّما اشتقّ اسمه من الريح.

(لاِءَنَّ الرُّوحَ مُجَانِسٌ(4) لِلرِّيحِ) أي هي أيضا جسم هوائي.

(وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلى نَفْسِهِ لاِءَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلى سَائِرِ الاْءَرْوَاحِ، كَمَا قَالَ لِبَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ) هو الكعبة شرّفها اللّه تعالى.

(بَيْتِي، وَلِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ: خَلِيلِي). الخلّة بالضمّ: الصداقة الخالصة بين اثنين متناسبين، وهي ممّا يوهم التشبيه، واللّه تعالى بريءٌ منه، فهو بنوع من المجاز.

(وَأَشْبَاهِ ذلِكَ ، وَكُلُّ ذلِكَ مَخْلُوقٌ، مَصْنُوعٌ، مُحْدَثٌ، مَرْبُوبٌ، مُدَبَّرٌ). بتشديد الموحّدة المفتوحة، هذا الحديث وأمثاله صريح في أنّ النفس الناطقة ليست مجرّدة خلافا للزنادقة الفلاسفة(5) وأدلّتهم واهية، والعجب أنّ بعض الناصرين لهم يؤوّل هذه الأحاديث أنّ المراد غير النفس الناطقة.(6) .

ص: 336


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 61 (طوأ) .
2- ص (38) : 72 .
3- في «ج» : - «السائل» .
4- في الكافي المطبوع : «الأرواح مجانسة» بدل «الروح مجانس» .
5- الشفاء (الطبيعيّات) ، ج 2 ، ص 14 . وحكاه عن جمهور الحكماء العلاّمة في معارج الفهم ، ص 534 . وانظر كشف المراد (تحقيق الآملي) ، ص 277 ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 195 .
6- اُنظر شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 317 .

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ بَحْرٍ)؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة ومهملة.

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزّازِ(1))؛ بفتح المعجمة وشدّ الزاي، والألف والزاي.

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَمَّا يَرْوُونَ أَنَّ اللّه َ خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، فَقَالَ: هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ ، اصْطَفَاهَا اللّه ُ وَاخْتَارَهَا عَلى سَائِرِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَضَافَهَا إِلى نَفْسِهِ، كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلى نَفْسِهِ، وَالرُّوحَ إِلى نَفْسِهِ؛ فَقَالَ: «بَيْتِىَ»(2) وَ «نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(3)).

وقال بعض: إنّ الضمير في صورته راجع إلى آدم،(4) فقيل: أي صورته اللائقة به،(5) وقيل: أي لأجل صورته.5.

ص: 337


1- في الكافي المطبوع : «الخرّاز» .
2- في الكافي المطبوع : «وبيتي» .
3- ص (38) : 72 .
4- اُنظر كتاب دفع شبه التشبيه باكف التنزيه ، ص 144 ، حديث خلق اللّه آدم على صورته .
5- اُنظر تفسير الرازي، ج 1، ص 125.

الباب الثاني والعشرون: باب جوامع التوحيد

اشارة

الباب الثاني والعشرون بَابُ جَوَامِعِ التَّوْحِيدِ

فيه سبعة أحاديث. وشرح من المصنّف لأوّلها.

و«جوامع» جمع «جامعة». والتأنيث باعتبار الخطبة، أو الفقرة، أو الكلمة بمعنى الكلام.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى جَمِيعا ، رَفَعَاهُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام اسْتَنْهَضَ النَّاسَ) أي طلب نهوضهم وقيامهم.

(فِي حَرْبِ مُعَاوِيَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا حَشَدَ)؛ بالمهملة والمعجمة ومهملة، بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب؛(1) أي اجتمع.

(النَّاسُ قَامَ خَطِيبا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْوَاحِدِ) أي ليس له في الأشياء شبه، وليس له في الإلهيّة شريك.

(الاْءَحَدِ) أي ليس فيه موجودان في نفسهما في الخارج، سواء كانا ذاتيّين أم عرضيّين أم مختلفين.

(الصَّمَدِ) أي المصمود إليه في الحوائج.

(الْمُتَفَرِّدِ)؛ بصيغة اسم فاعل باب التفعّل للمبالغة؛ أي لا شريك له في كنه ذاته، ولا في القدم، ولا في الإيجاد بقول «كن».

(الَّذِي لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ، وَلاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ). الكون: الوجود والحدوث.

ص: 338


1- في «ج» : «ومهملة ماضي معلوم باب ضرب» بدل «ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب» .

والمراد في الأوّل الأوّل بقرينة تقديم الظرف، والمراد في الثاني الثاني؛ لأنّ «ما» للعموم، ومفاد تقديم الظرف هنا رفع الإيجاب الكلّي.

(قُدْرَةٌ)؛ مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي الخلق لا من شيء قدرة، والحمل مجاز، أو منصوب على أنّه مفعول له لقوله: «لا من شيء خلق» فإنّه يتضمّن أنّه خلق بعض ما كان لا من شيء.

(بَانَ بِهَا مِنَ الاْءَشْيَاءِ)؛ صفة «قدرة» أي لم يكن شريكا للأشياء في الأين، وإلاّ لم تكن قدرته بنفوذ الإرادة وقول «كُن».

(وَبَانَتِ الاْءَشْيَاءُ مِنْهُ) أي ولم يكن له في الأشياء شريك في التجرّد، وإلاّ كانت قدرته أيضا بنفوذ الإرادة وقول «كُن» في بعض ما صدر عنه.

(فَلَيْسَتْ)؛ تفريع على القدرة الموصوفة.

(لَهُ) أي للّه (صِفَةٌ) أي بيان عظمة (تُنَالُ)؛ بالنون والألف المنقلبة عن ياء بصيغة المضارع المجهول للغائبة من باب ضرب وعلم؛ أي تصاب وتعلم، وهو إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ».(1) ومضى بيانه في حادي عشر العاشر.(2)

(وَلاَ حَدٌّ). حدّ الشيء: ما ينتهي الشيء إليه ولا يتجاوزه، كما في إحاطة السطح بالجسم. والمراد هنا منتهى عظمته، أو كنه ذاته.

(يُضْرَبُ لَهُ فِيهِ). الضمير الأوّل للّه ، والثاني للحدّ، أو بالعكس.

(الأَمْثَالُ)؛ جمع «مثل» بفتح الميم وفتح المثلّثة، وهو الأمر العجيب بأن يقال: عظمته وكماله كذا وكذا.

(كَلَّ). الكلال: الإعياء.

(دُونَ) أي تحت (صِفَاتِهِ) أي أقسام بيان عظمته كما هو حقّه.

(تَحْبِيرُ اللُّغَاتِ). تحبير الخطّ والشعر: تحسينهما. والإضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل. .

ص: 339


1- الأنعام (6) : 91 .
2- أي في الحديث 11 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .

(وَضَلَّ هُنَاكَ) أي في اللّه تعالى.

(تَصَارِيفُ)؛ جمع «تصريف» بمعنى تغيير؛ أي أنواع تغيير.

(الصِّفَاتِ)؛ جمع «صفة» بمعنى بيان العظمة الصادرِ عن المخلوقين.

(وَحَارَ فِي مَلَكُوتِهِ). الملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة؛ أي في ملكه وعزّه. والمراد في قدر عظمته. ويحتمل أن يُراد بملكوته مملكته.

(عَمِيقَاتُ مَذَاهِبِ التَّفْكِيرِ)؛ فإنّ قدر عظمته ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه.

(وَانْقَطَعَ دُونَ) أي تحت (الرُّسُوخِ فِي عِلْمِهِ). الضمير للّه أو للملكوت؛ فالإضافة إلى المفعول.

(جَوَامِعُ التَّفْسِيرِ ) أي الكلمات الجامعة لأنواع التبيين.

(وَحَالَ دُونَ) أي تحت (غَيْبِهِ الْمَكْنُونِ) أي كنه ذاته، أو سرّ قدره في خلق ما خلق.

(حُجُبٌ مِنَ الْغُيُوبِ، تَاهَتْ فِي أَدْنى أَدَانِيهَا طَامِحَاتُ الْعُقُولِ فِي لَطِيفَاتِ الاْءُمُورِ) أي بين أذهان العباد وغيبه المكنون غيوب كثيرة هي حجب؛ أي لا يمكن العلم بغيبه المكنون إلاّ بعد العلم بتلك الغيوب، وتلك الغيوب مترتّبة متفاوتة؛ أي العلم ببعضها موقوف على العلم ببعض آخر وهكذا إلى غيب هو أدنى أدانيها، وقد تاه في هذا الغيب العقول الطامحات، في لطائف الاُمور أي دقائقها. يُقال: تاه في الأرض، أي ذهب متحيّرا. ويُقال: طمح بصري إليه، أي امتدّ وعلا. وطمح فلان: إذا أبعد في الطلب.(1)

والمراد الماضيات في الدقائق المبعدة في السير فيها والطلب لها.

(فَتَبَارَكَ اللّه ُ الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ). تفريعٌ على مجموع سابقه؛ أي لا يبلغ كنه ذاته، أو سرّه الهممُ البعيدة عن مبدأ فكرها لطلب الدقائق.

(وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ). هذا كسابقه.

(وَتَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْدُودٌ،(2) وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَحْدُودٌ). «وقت» .

ص: 340


1- النهاية ، ج 3 ، ص 138 (طمح) .
2- في حاشية «أ» : «أي داخل في العدد ، وذلك لتقدّسه تعالى عن إحاطة الزمان». الوافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل 353 .

مضاف أو موصوف، وكذا نظيراه.

وعلى الأوّل نقول: المراد بالوقت المدّة باعتبار أنّها ظرف للمتغيّرات. والمراد بالمعدود ما يعدّ مع غيره من جنسه كما يجيء في خامس الباب وسادسه من قوله: «ومَن عدّه فقد أبطل أزله».

والمراد بالأجل آخر المدّة، والمراد بالممدود الطويلُ المدّة بسبب فاعل.

والمراد بالنعت بيان الكيفيّة بالمعنى الذي مضى في شرح سادس الثاني.(1)

والمراد بالمحدود ما أحاط به الحدّ كالإنسان والبلّورة، يعني ليس معدودا فيكونَ له وقت، ولا ممدودا فيكون له أجل، ولا محدودا فيكون له نعت؛ ونظيره قولنا: ليس لزيد موت أجل، أي ليس له أجل فيموت.

وعلى الثاني نقول: الامتداد الزماني يسمّى وقتا وأجلاً باعتبار أنّه ظرف للمتغيّرات.

والمراد بالوقت المعدود الزمانُ باعتبار الابتداء أو القصير، وبالأجل الممدود الزمانُ باعتبار الانتهاء، أو الطويل المتناهي.

والمراد بالنعت الثناءُ والمدح بالكمالات كالعلم والقدرة ونحوهما، وبالمحدود المتناهي. أو المراد بالنعت المحدود نعتُ الأمر المحدود؛ لأنّ الشيء إذا أحاطه حدّ، كان ذلك الحدّ محيطا بما قام به أيضا.

(سُبْحَانَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ)؛ بالرفع والتنوين، والأوّل نقيض الآخِر، وأصله أوأل على أفعل مهموز الأوسط، قلبت الهمزة واوا واُدغم، وإذا جعلته صفة لم تصرفه تقول: لقيته عاما أوّلَ، أي أوّل من عامنا، وإذا لم تجعله صفة صرفته، فتقول: لقيته عاما أوّلاً(2): هو كالظرف كأنّك قلت: عاما قبل عامنا.

(مُبْتَدَأٌ)؛ بصيغة اسم الزمان والمكان مرفوع على أنّه بدل، أو وصف ل«أوّلٌ» أي(3) مبتدأ وجوده، وهو آن الحدوث، أو مبتدأ حصول كمالاته مثل ما يكون للإنسان حين».

ص: 341


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيّء .
2- الصحاح، ج 5، ص 1838؛ لسان العرب، ج 11، ص 717 (وأل).
3- فى «ج»: «أو».

الشروع في التعلّم. ولا ينافي هذا أن يكون له أوّل مبتدأ بصيغة اسم المفعول، فإنّ أوّل ما خلق اللّه الماء.

(وَلاَ غَايَةٌ) أي كمال. ومنه يسمّى ما يقصد بفعل شيء علّة غائيّة له.

وقال نجم الدين الرضيّ في شرح الكافية:

لفظ «الغاية» يستعمل بمعنى النهاية، وبمعنى المدى، كما أنّ الأمد والأجل أيضا يستعملان بالمعنيين، والغاية تستعمل في الزمان والمكان بخلاف الأمد والأجل؛ فإنّهما يستعملان في الزمان فقط.(1)

(مُنْتَهىً)؛ بصيغة اسم المكان من الناقص بدل أو وصف لغاية، أي ما انتهى إليه كماله ولم يتجاوزه كما يكون للإنسان في أزمنة حصول كمالاته؛ يعني أنّ كمالاته تعالى غير متناهية، فليس له غاية ونهاية في الكمال انتهى إليها ولم يتجاوزها.

(وَلاَ آخِرٌ)؛ بكسر المعجمة؛ ما يقابل الأوّل.

(بِفَنَاءٍ(2)) ؛ بكسر الموحّدة حرف الجرّ وفتح الفاء والنون والمدّ، والظرف صفة لآخِرٍ. والمراد بالفناء فناء نفسه تعالى، أو فناء ما سواه، وعلى الثاني المراد أنّه تعالى يبقى بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه».(3)

(سُبْحَانَهُ)؛ عن الفناء.

(هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ)، بنحو قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(4) وقوله: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»(5)الأنعام (6) : 91 .(6)، وقوله: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(6). .

ص: 342


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 63 .
2- في الكافي المطبوع : «يفنى» .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
4- الشورى (42) : 11 .
5- الأنعام
6- : 103 .

(وَالْوَاصِفُونَ) له بالعظمة (لاَ يَبْلُغُونَ نَعْتَهُ) أي قدر عظمته.

(حَدَّ(1) الاْءَشْيَاءَ). استئناف لبيان قوله: «لا يبلغون». ومضى معنى الحديث في سادس الحادي عشر.(2)

(كُلَّهَا). فيه دلالة على بطلان المجرّدات.

(عِنْدَ خَلْقِهِ إيَّاهَا(3) إِبَانَةً لَهَا مِنْ شِبْهِهِ، وَإِبَانَةً لَهُ مِنْ شِبْهِهَا). الشَبَه _ بفتحتين _ : الشباهة. وفيه دلالة على أنّه لو وجد مجرّد لوقع الشبه.

إن قلت: هذا يدلّ على أنّ خلق المجرّدات ممكن، فإنّ الإبانة هنا مفعول له، فيمكن أن لا تحدّ فلا تبان.

قلت: لا دلالة؛ لأنّ في التعليل في أمثال هذا تجوّزا، والمقصود ظهور دلالة المحدوديّة على البينونة والمخلوقيّة، كما مضى في سادس الحادي عشر؛(4) فكأنّه لم يحدّ إلاّ للإبانة. أو لأنّ المراد بالإبانة إظهار البينونة، ويمكنه أن لا يحدّ بأن لا يوجد شيئا؛ ألا ترى إلى قوله: «وإبانة له من شبهها» فإنّ المراد به نفي أن يكون تعالى مادّيا، كما أنّ المراد بالسابق نفي أن تكون الأشياء مجرّدة. ولا شكّ أنّ كونه تعالى مادّيا محال بالذات.

(فَلَمْ يَحْلُلْ فِيهَا)؛ بالمهملة، بصيغة معلوم باب نصر وضرب، والفاء للتفريع. والمراد بالحلول في الأشياء أن يكون مكانيّا، ومكانه جميع أمكنة الأشياء،(5) وبعضها بالتداخل. وسيجيء في تفسير المصنّف أنّ المراد بالحلول أن يكون من أعراض الأجسام.

(فَيُقَالَ: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا)؛ بسكون النون وفتح الهمز، أو بفتح النون وسكون الهمزة، بمضارع المعلوم الناقص باب منع، أي لم يبعد. والثاني مقلوب الأوّل؛ لأنّ مصدر كليهما النأي بفتح النون وسكون الهمز والخاتمة على ما قاله ابن الحاجب .

ص: 343


1- في الكافي المطبوع : «وحَدَّ» .
2- أي في الحديث 6 من باب النهي عن الجسم والصورة .
3- في الكافي المطبوع : - «إيّاها» .
4- أي في الحديث 6 من باب النهي عن الجسم والصورة .
5- في «ج» : «أو» .

في الشافية.(1)

والثاني أوفق برسم الخطّ؛ لأنّ سكون ما قبل الهمز يوجب حذفها في الرسم إذا كانت في آخر الكلمة.

والمراد بالبُعد عنها أن لا يكون شيء منها أصلاً تحت تصرّفه وخلقه.

(فَيُقَالَ: هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ)؛ بالموحّدة وكسر الهمز، أي أجنبيّ.

(وَلَمْ يَحُلْ(2) مِنْهَا)؛ بضمّ المهملة وسكون اللام، أجوف باب نصر، أي لم يتحوّل من صفة ذات كعلم وقدرة إلى اُخرى. «من» في «منها» للتعليل.

(فَيُقَالَ لَهُ: أَيْنَ)؛ بفتح الهمز وسكون الخاتمة، أي حين؛ والجملة نائب الفاعل. أو بالهمز والألف وكسر الهمزة المنقلبة عن ياء، أي ذو حين، والمفرد نائب الفاعل. ومآلهما واحد، وهو أنّ كلّ متحوّل حادث. وأمّا الأين بمعنى الحصول في المكان فاصطلاح فلسفي.(3)

(لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ، وَأَتْقَنَهَا صُنْعُهُ، وَأَحْصَاهَا حِفْظُهُ) أي إمساكه وتصرّفه، كما في قوله تعالى: («إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ»(4)). ومضى في أوّل العشرين.(5)

(لَمْ تَعْزُبْ)؛ بالمهملة والمعجمة والموحّدة معلومُ باب نصر وضرب؛ أي لم تغب.

(عَنْهُ خَفِيَّاتُ غُيُوبِ الْهَوى(6))؛ بفتحتين والقصر: ميل النفس.

(وَلاَ غَوَامِضُ مَكْنُونِ ظُلَمِ الدُّجى)؛ بضمّ المهملة والجيم والقصر قيل: الظلمة. وقال الأصمعي: إنّما هو إلباس كلّ شيء وليس من الظلمة، قال: ومنه قولهم: دجا الإسلام، أي .

ص: 344


1- شرح شافية لابن الحاجب، ج 1، ص 21 و 23؛ وج 4، ص 93.
2- في الكافي المطبوع : «لم يَخْلُ» .
3- قواعد المرام لابن ميثم البحراني ، ص 43 .
4- فاطر (35) : 41 .
5- أي في الحديث 1 من باب العرش والكرسي .
6- في الكافي المطبوع : «الهوا» .

قوي وألبس كلّ شيء.(1)

(وَلاَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلى إِلى)؛ بمعنى مع.

(الاْءَرَضِينَ السُّفْلى). وقوله:

(لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا حَافِظٌ وَرَقِيبٌ )،(2) استئنافٌ بياني، أي هو تعالى حافظ ورقيب لكلّ شيءٍ من الأشياء يحفظه عن الزوال في مدّة بقائه، ويدبّر أحواله في الكمال والنقصان ونحوهما.

(وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا بِشَيْءٍ مُحِيطٌ) أي بسرّ ومصلحة في خلقه محيط حتّى المعاصي؛ فإنّ إيجادها قبيح، ولكن خلقها حسن ومشتمل على مصلحة.

(وَالْمُحِيطُ بِمَا أَحَاطَ مِنْهَا) أي العالم بكلّ سرّ إحاطة الشيء منها.

(الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ) أي علمه مخصوص به.

(الَّذِي لاَ يُغَيِّرُهُ صُرُوفُ الاْءَزْمَانِ) أي تغيّراتها.

(وَلاَ يَتَكَأَّدُهُ). يُقال: تكأّدني وتكاءدني الشيء، أي شقَّ [عليّ]، على تفعّل وتفاعل بمعنى] واحد].(3)

(صُنْعُ شَيْءٍ كَانَ). وقوله:

(إِنَّمَا قَالَ لِمَا شَاءَ: «كُنْ» فَكَانَ)، استئنافٌ بياني لعدم التكأّد. وقوله:

(ابْتَدَعَ)، استئنافٌ بياني للاستئناف الأوّل. والابتداع فعل لا يكون باحتذاء مثالٍ.

(مَا خَلَقَ بِلاَ مِثَالٍ سَبَقَ، وَلاَ تَعَبٍ وَلاَ نَصَبٍ). التعب محرّكةً: الإعياء، وكذلك النصب محرّكةً، إلاّ أنّ الأوّل أبلغ. .

ص: 345


1- حكاه الجوهري فيالصحاح ، ج 6 ، ص 2334 (دجا) عن الأصمعي .
2- في حاشية «أ» : «إشارة إلى أنّ لكلّ ظاهر باطنا ، ولكلّ ملك ملكوتا ، ولكلّ شهادة غيبا . «وكلّ شيء منها بشيء محيط» إشارة إلى ترتّب الموجودات وكون بعضها مسبّبا للبعض وأنّه سبحانه مسبّب الأسباب». الوافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل ح 353 .
3- لسان العرب ، ج 3 ، ص 374 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 214 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 5 (كاد) .

(وَكُلُّ صَانِعِ شَيْءٍ فَمِنْ شَيْءٍ صَنَعَ، وَاللّه ُ لاَ مِنْ شَيْءٍ صَنَعَ مَا خَلَقَ، وَكُلُّ عَالِمٍ فَمِنْ بَعْدِ جَهْلٍ تَعَلَّمَ). إشارةٌ إلى قوله تعالى: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(1) على ما مضى في سابع العشرين.(2)

(وَاللّه ُ لَمْ يَجْهَلْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ). وقوله:

(أَحَاطَ بِالاْءَشْيَاءِ عِلْما قَبْلَ كَوْنِهَا، فَلَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهَا عِلْما)، استئنافٌ بياني لعدم جهله وتعلّمه. والكون في الموضعين من التامّة، وقوله:

(وَ(3)عِلْمُهُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهَا كَعِلْمِهِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا)، استئنافٌ بياني للاستئناف الأوّل؛ أي لا يتفاوت علمه قبلُ وبعدُ، لا بالإجمال والتفصيل ولا بغيرهما. وقوله:

(لَمْ يُكَوِّنْهَا) إلى آخره استئناف بياني لتكوينها، كأنّ سائلاً يقول: إذا لم يستفد بتكوينها علما فما الفائدة في تكوينها؟

(لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَلاَ خَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَلاَ نُقْصَانٍ، وَلاَ اسْتِعَانَةٍ عَلى ضِدٍّ مُثَاوِرٍ(4)). المثاورة _ بالمثلّثة والمهملة _ : المواثبة والمنازعة.

(وَلاَ نِدٍّ مُكَاثِرٍ). الندّ _ بالكسر _ : المثل والنظير. والمكاثرة _ بالمثلّثة والمهملة _ : المغالبة في كثرة الأتباع ونحو ذلك؛ يقال: كاثرناهم فكثرناهم، أي غلبناهم بالكثرة.(5)

(وَلاَ شَرِيكٍ مُكَابِرٍ). المكابرة _ بالموحّدة والمهملة _ : المغالبة في الكبر بالكسر: العظمة.

(لكِنْ خَلاَئِقُ). خبر مبتدأ محذوف؛ أي لكن ما عداه خلائق.

(مَرْبُوبُونَ، وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ). الدخور: الصغار والذلّ.(6) .

ص: 346


1- هود (11) : 7 .
2- أي في الحديث 7 من باب العرش والكرسي .
3- في «ج» و الكافي المطبوع : - «و» .
4- في الكافي المطبوع : «مناو» .
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 3 _ 8 (كثر) .
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 655 (دخر) .

(فَسُبْحَانَ). تفريع على عدم هذا النفع في فعله تعالى، فإنّ عدم الانتفاع إنّما يكون في فعل ليس لفاعله فيه مشقّة.

(الَّذِي لاَ يَؤُودُهُ). يُقال: آدني الحمل يؤودني أودا، أي أثقلني؛ وأنا مؤود كمقول.(1)

(خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا بَرَأَ). البرء بالفتح: الخلق لا عن مثال. ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلّما تستعمل في غير الحيوان، يُقال: برأ اللّه النسمة، وخلق السماوات والأرض.(2)

(وَلاَ مِنْ عَجْزٍ وَلاَ مِنْ فَتْرَةٍ)؛(3) بفتح الفاء وسكون المثنّاة فوق: الانكسار والضعف.

(بِمَا خَلَقَ اكْتَفى). الظرف متعلّق بالفعل بعده، وبعد هذا التعلّق يلاحظ تعلّق الظرفين السابقين بذلك الفعل.

(عَلِمَ مَا خَلَقَ). استئنافٌ بياني لقوله: «ولا مِن عجز» إلى آخره؛ أي علم المصلحة في خلق ما خلق.

(وَخَلَقَ مَا عَلِمَ) أي علم أنّ فيه المصلحةَ.

(لاَ بِالتَّفْكِيرِ فِي عِلْمٍ). «في» بمعنى اللام كما في «عُذّبتِ امرأة في هرّة».(4)

(حَادِثٍ أَصَابَ مَا خَلَقَ، وَلاَ شُبْهَةٌ)(5)؛ مرفوعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله:

(دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَخْلُقْ، لكِنْ قَضَاءٌ مُبْرَمٌ) أي لكنّ الفرق بين ما خلق وما لم يخلق، قضاء، أي بقضاء. .

ص: 347


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 442 (أود) .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 111 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 31 (برأ) .
3- في حاشية «أ» : «ولا من عجز ، أي ليس اكتفاؤه بما خلق عن عجز ولا من فتور ، بل إنّما هو لعدم إمكان الزائد عليه ونقص قابليّة ما خلق لأزيد ، فالنقصان في جانب القابل ، لا من جهة الفاعل تعالى شأنه» . الكافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل 353 .
4- مسند أحمد ، ج 2 ، ص 457 ، مسند أبي هريرة ؛ صحيح البخاري ، ج 3 ، ص 77 ، كتاب المساقاة ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 43 باب تحريم قتل الهرّة .
5- في الكافي المطبوع : «شبهةٍ» بتنوين كسر الأخير .

(وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ ، وَأَمْرٌ مُتْقَنٌ) أي لا يعلم سرّ ذلك غيره تعالى. وبيَّن ذلك بالاستئناف البياني بقوله:

(تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ) أي بالتدبير للعالم.

إن قلت: التوحّد يدلّ على أنّ الانفراد بالربوبيّة اختياري له وليس كذلك.

قلت: لا نسلّم الدلالة؛ لأنّ التفعّل هنا للمبالغة كما قالوا في المتطبّب، ولو سلّم أمكن أن يكون المقصود أنّه لم يطّلع غيره على سرّ الربوبيّة إجراءً للاطّلاع على مجرى التشريك.

إن قلت: اطّلاع الغير على سرّ الربوبيّة أيضا غير ممكن.

قلنا: لا نسلِّم(1) ذلك؛ إذ لعلّه يمكن أن يخلق خلقا يتأتّى منه تعالى اطّلاعه على سرّ الربوبيّة.

ويمكن الجواب: بأنّ المراد بالتوحيد إظهار الانفراد ونصب الدلائل عليه وهو اختياري، والربّ يُطلق في اللغة على المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والمتمِّم والمُنعم.(2)

(وَخَصَّ نَفْسَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ) أي بالانفراد بتدبير العالم، واللام فيها للعهد؛ لتقدّم ذكرها في قوله: «توحّد».

إن قلت: الوحدانيّة غير قابلة للشركة، فما وجه الخصوص هنا؟

قلت: لعلّ المراد به إظهار أنّه لا يمكن الوحدانيّة لأحد بدله.

(وَاسْتَخْلَصَ). الاستخلاص: مبالغة الخلوص.

(بِالْمَجْدِ) أي بالكرم بمعنى الشرف.

(وَالثَّنَاءِ) أي المدح.

(وَتَفَرَّدَ بِالتَّوْحِيدِ) أي التنزيه عن النقص. .

ص: 348


1- في حاشية «أ» : «يتمّ» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 381 (دب) .

(وَالْمَجْدِ وَالسَّنَاءِ)؛ بالفتح والمدّ: الرِّفعة.

(وَتَوَحَّدَ بِالتَّحْمِيدِ، وَتَمَجَّدَ بِالتَّمْجِيدِ). الفعلان للمبالغة، وذلك مبنيّ على أنّ معظم حمد العباد وتعظيمهم على أفعالهم الحسنة الاختياريّة راجع إليه؛ لأنّها بلطفه وتوفيقه، فكان حمد غيره وتعظيم غيره كالعدم.

(وَعَلاَ عَنِ اتِّخَاذِ الاْءَبْنَاءِ، وَتَطَهَّرَ وَتَقَدَّسَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ، وَعَزَّ و جَلَّ عَنْ مُجَاوَرَةِ الشُّرَكَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ فِيمَا خَلَقَ ضِدٌّ، وَلاَ لَهُ فِيمَا مَلَكَ نِدٌّ، وَلَمْ يَشْرَكْهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ، الْمِئْبَدُ(1) لِلاْءَبَدِ، وَالْوَارِثُ لِلاْءَمَدِ)، المئبد بكسر الميم وسكون الهمز وفتح الموحّدة ومهملة، اسم آلةٍ.

والأبد بالهمز والموحّدة والمهملة كجبل وكراكع: الدائم، وجمع الثاني كركّع، ومنه يُقال للوحوش: أوابد واُبّد كركّع؛ لزعمهم أنّها لا تموت حتفَ أنفها.(2) والأمد كجبل: منتهى الشيء، وكراكع وككتف: ما بلغ المنتهى وفني، وجمع الثاني كركّع؛ يعني أنّه تعالى سبب بقاء كلّ باق، ويبقى بعد فناء كلّ فان.

(الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ وَحْدَانِيّا)؛ بفتح الواو وسكون الحاء(3) المهملة منسوب إلى الوحد أو الوحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة.

(أَزَلِيّا قَبْلَ بَدِيِّ(4) الدُّهُورِ، وَبَعْدَ صُرُوفِ الاْءُمُورِ).

البَدِيّ بفتح الموحّدة وكسر المهملة وتشديد(5) الخاتمة أو تخفيفها من الناقص الواوي، فعيل بمعنى فاعل، أو مخفّف فاعل؛ من بدا الشيء من باب نصر: إذا ظهر. والمراد ما ظهر في الدهور من اُمور الدنيا المشوبة بالباطل.

والصروف بضمّ المهملتين جمع «صِرف» بالكسر، وهو الخالص من كلّ شيء. .

ص: 349


1- في الكافي المطبوع : «المبيد» .
2- حكاه في لسان العرب ، ج 3 ، ص 68 عن الأصمعي .
3- في «ج» : - «الحاء» .
4- في الكافي المطبوع : «بَدْءِ» .
5- في «ج» : «شدّ» .

والمراد بصروف الاُمور: اُمور الآخرة؛ فإنّها الخالصة، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(1).

(الَّذِي لاَ يَبِيدُ)؛ بالموحّدة والخاتمة والمهملة، معلومُ باب ضرب، أي لا يهلك.

(وَلاَ يَنْفَدُ)؛ بالنون والفاء والمهملة، معلومُ باب الإفعال، أي لا يفنى خزائنه بالإعطاء؛ يُقال: أنفد القوم: إذا فني زادهم ومالهم.(2)

(بِذلِكَ أَصِفُ رَبِّي) أي لا بما وصفه الواصفون له بصفات خلقه، المشبّهون له بخلقه.

(فَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ مِنْ)؛ للتبيين.

(عَظِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ! وَمِنْ جَلِيلٍ مَا أَجَلَّهُ! وَمِنْ عَزِيزٍ مَا أَعَزَّهُ!). الأفعال الثلاثة للتعجّب.

(وَتَعَالى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّا كَبِيرا).

الشرح

(وَ هذِهِ الْخُطْبَةُ مِنْ مَشْهُورَاتِ خُطَبِهِ عليه السلام حَتّى لَقَدِ ابْتَذَلَهَا الْعَامَّةُ). ابتذال الثوب وغيرِه: امتهانه، أي وقعت في أيديهم غير مصونة عنهم.

(وَهِيَ كَافِيَةٌ لِمَنْ طَلَبَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ إِذَا تَدَبَّرَهَا وَفَهِمَ مَا فِيهَا، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَلْسِنَةُ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ _ لَيْسَ فِيهَا لِسَانُ نَبِيٍّ _ عَلى أَنْ يُبَيِّنُوا التَّوْحِيدَ بِمِثْلِ مَا أَتى بِهِ بِأَبِي وَأُمِّي صلى الله عليه و آله ): فُدِي بأبي واُمّي صلى الله عليه و آله .

(مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ لاَ إِبَانَتُهُ عليه السلام ، مَا عَلِمَ النَّاسُ كَيْفَ يَسْلُكُونَ سَبِيلَ التَّوْحِيدِ). ذلك لأنّه لم ينقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعن غيره من الأئمّة كما نقل عنه عليه السلام .

(أَ لاَ تَرَوْنَ إِلى قَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ، وَلاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ» فَنَفى بِقَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ» مَعْنَى الْحُدُوثِ، وَكَيْفَ). عطف على «نفى» وليس من عطف الإنشاء على الإخبار، لأنّه ليس للاستفهام الحقيقي، نظير «أين» في «علمت أين زيد» لأنّ العلم ينافي الاستفهام الحقيقي.

ص: 350


1- الأنعام (6) : 32 .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 544 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 424 (نفد) .

(أَوْقَعَ عَلى مَا أَحْدَثَهُ صِفَةَ الْخَلْقِ) أي كيفيّته. و«الخلق» هنا مصدر.

(وَالاِخْتِرَاعَ)؛ منصوب عطف على «صفة» لتفسيرها.

(بِلاَ أَصْلٍ وَلاَ مِثَالٍ؛ نَفْيا)؛ مفعول له لقوله «أوقع».

(لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الاْءَشْيَاءَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ، بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ). هذا قول بعض الدهريّة، منهم الإشراقيّون من الفلاسفة؛ ذهبوا إلى أنّ الأشخاص كلّها حادثة، والمحدث مختصّ بدهر لم يوجد في دهر قبيله، ولا يوجد في دهر بعيده، والأنواع قديمة.(1)

(وَإِبْطَالاً لِقَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ)؛ بفتح المثلّثة وفتح النون، منسوب إلى الاثنين؛ لأنّه لو جاز أن يفرد لكان واحده «اثن» مثل «ابن» فالنسبة إليه «ثنوي» في قول من قال في ابن «بنوي»، و«اثنيّ» في قول من قال: «ابنيّ».(2)

والمراد بالثنويّة هنا بعض الدهريّة، ومنهم المشّائيّون من الفلاسفة القائلون بتعدّد القديم شخصا.(3)

وقد يطلق الثنويّة على القائلين بأنّ مدبّر العالم النور والظلمة، وأنّهما امتزجا بعد افتراقهما، فحَصَل منهما هذا العالم.(4)

وقد يطلق على ما يعمّ المجوس القائلين بأنّ الخير واقع من اللّه ، والشرّ واقع من الشيطان، واختلفوا في قِدَم الشيطان وحدوثه، فقال بعضهم: إنّه قديم، وقال بعضهم: إنّه حادث لا من اللّه ، فإنّه لا يصدر عنه الشرّ، فكيف يصدر عنه ما هو أصله، بل هو حادث من فكرة اللّه تعالى هي أنّه كيف يكون حالي لو نازعني غيري؟ فتولّد الشيطان(5) من هذه الفكرة.(6) .

ص: 351


1- اُنظر تقريب المعارف للحلبي ، ص 92 ؛ والمواقف ، ج 2 ، ص 608 و ص 616 .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2295 (ثنى) .
3- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 28 ، ص 184 ؛ وأبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف ، ص 92 عن الفلاسفة .
4- حكاه في المواقف ، ج 2 ، ص 608 و 616 .
5- قضيّة تولّد الشيطان مذكورة في شرح نهج البلاغة ، ج 5 ، ص 160 ؛ تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 116 .
6- جعل الشهرستاني في الملل والنحل ، ج 2 ، ص 254 الفصل الثاني في أصحاب الاثنين الأزليّين ، وذكر منهم المانوية والمزدكية والديصانية والمرقونية والكينونية والصيامية . ولا بأس بالنظر إلى كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ، ص 78 ، باب الكلام على أهل التثنية .

(الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ لاَ يُحْدِثُ شَيْئا إِلاَّ مِنْ أَصْلٍ) أي قالوا: كلّ حادث مسبوق بمادّة، وزعموا أنّ شخص المادّة قديم.(1)

(وَلاَ يُدَبِّرُ إِلاَّ بِاحْتِذَاءِ مِثَالٍ) أي وقالوا: إنّ كلّ حادث مسبوق بمدّة بالضمّ، اسم ما استمدّ به من العلل كالمعدّات؛ فلا يحدث شيئا إلاّ على طبق اقتضاء المعدّ المتّصل به، ولا يتمكّن من خرق العادة؛(2) يُقال: احتذى مثاله: إذا اقتدى به. والمعدّات عندهم الصور والأعراض الغير المتناهية من جانب المبدأ.

(فَدَفَعَ عليه السلام بِقَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ» جَمِيعَ حُجَجِ الثَّنَوِيَّةِ وَشُبَهِهِمْ؛ لاِءَنَّ أَكْثَرَ مَا يَعْتَمِدُ الثَّنَوِيَّةُ) أي هذه مقدّمة مأخوذة في أكثر شبههم، أو أنّها أكثر دورانا على ألسنتهم؛ لأنّها أقوى عندهم.

ويحتمل أن يُراد أنّ هذا منتهى فكرهم وما يعتمدون عليه.

(فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ) أي في الشبهة(3) في حدوث العالم. والشبهة في الشيء إنّما يكون بقصد إبطاله ونفيه.

(أَنْ يَقُولُوا: لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ مِنْ لاَ شَيْءٍ)؛ يعنون أنّ الإحداث منحصر في القسمين، والأوّل يثبت المطلوب، والثاني باطل؛ للتناقض.

وهذه المقدّمة مأخوذة في ثلاث شبه للقائلين بقدم العالم، هي أقوى شبههم:

الاُولى: أنّ جميع ما لابدّ منه في وجود أوّل حادث إن كان أزليّا كان الحادث أزليّا؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة؛ وإن كان بعض ما لابدّ منه حادثا، كان إحداث الحادث منه، وهو شيء أو لا شيء. .

ص: 352


1- حكاه التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 131 عن الفلاسفة ؛ والإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 626 .
2- حكاه العلاّمة في كشف المراد ، ص 123 (تحقيق الآملي) عن الفلاسفة ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 78 ؛ وحكاه أيضا التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 131 .
3- في «أ» : + «أي» .

الثانية: أنّ الحادث قبل حدوثه إمّا غير ممكن، وإمّا ممكن. والأوّل باطل؛ لاستحالة الانقلاب في الموادّ الثلاث، والثاني يستلزم أن يتحقّق قبل حدوث الحادث مادّة يقوم بها إمكانه الاستعدادي، ويكون إحداث الحادث منها وهي شيء أو لا شيء.

الثالثة: أنّ الحادث مسبوق بعلم خالقه به، والعلم إمّا حضوري وإمّا حصولي. والأوّل محال؛ لأنّه لا حضور للمعدوم. والثاني إمّا بحصول الصور في ذات الخلق، وإمّا في غيره. والأوّل محال؛ لأنّه ليس محلاًّ ولا حالاًّ، وعلى الثاني كان إحداث الحادث من محلّ الصور، وهو شيء أو لا شيء.(1)

(فَقَوْلُهُمْ). هذا من تتمّة قول الثنويّة، والضمير للقائلين بحدوث العالم.

(«مِنْ شَيْءٍ» خَطَأٌ) أي اعتراف بالخطأ في دعوى حدوث العالم، وأنّه يتحقّق خلق وخالق.

(وَقَوْلُهُمْ: «مِنْ لاَ شَيْءٍ» مُنَاقَضَةٌ وَإِحَالَةٌ) أي قول بالمحال.

(لاِءَنَّ «مِنْ») أي لفظة «من» (تُوجِبُ شَيْئا، وَ«لاَ شَيْءٍ») أي ولفظة «لا شيء» (تَنْفِيهِ). والحاصل إبطال كلّ من شقّي ترديدهم بإبطال الحصر فيهما ومنعِه.

(فَأَخْرَجَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام هذِهِ اللَّفْظَةَ) أي قوله: «لا من شيء خلق ما كان».

(عَلى) نهجيّة (أَبْلَغِ الاْءَلْفَاظِ وَأَصَحِّهَا، فَقَالَ عليه السلام : «لا مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ») أي كون الإحداث منحصرا في القسمين باطل.

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الاُولى، منع امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة في الفاعل المختار، وأمّا الفاعل الموجَب على القول بإمكان تحقّقه، فأثره يمتنع أن يكون متأخّرا عن حين حدوثه إلاّ إذا توقّف على أثر مختار.

وسرّه أنّ المختار يميّز بعض الأوقات المتشابهة في تمام الماهيّة عن بعض بحسب علمه القديم بالمصلحة لخلق أمر فيه دون غيره، بخلاف الموجَب، فإنّه محال فيه بديهة.(2) .

ص: 353


1- اُنظر معارج الفهم في شرح النظم للعلاّمة الحلي ، ص 133 .
2- في «ج» : «ضرورة» .

وذلك كما أنّ المختار يميّز بعض الأماكن المتشابهة في تمام الماهيّة عن بعض بحسب علمه بالمصلحة لإحداث جسم فيه دون غيره، بخلاف الموجب، فإنّه محال فيه بديهة،(1) كما مضى في أوّل «باب حدوث العالم وإثبات المحدث».

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الثانية اختيارُ الشقّ الثاني، ومنع أنّه يستلزم أن يتحقّق إلى آخره، إذ يكفي ثبوته بدون تحقّق مادّة، وتحقّق المادّة لا يكفي في دفع المفسدة؛ لأنّ الإمكان الذاتي غير الإمكان الاستعدادي، فتحقّق محلّ الثاني غير تحقّق محلّ الأوّل.

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الثالثة منع أنّ العلم إمّا حضوري وإمّا حصولي إن اُريد بالحضور وجود المعلوم حاضرا، ومنع أنّه لا حضور للمعدوم إن اُريد بالحضور ما يشمل الثبوت الأعمّ من الوجود، والتفصيل في الحاشية الاُولى من(2) حواشي العدّة.(3)

(فَنَفى «مِنْ») أي نفى ما يفهم من لفظة «من» وهو القدر المشترك بين شقّيهم.

(إِذْ كَانَتْ تُوجِبُ شَيْئا) أي لأنّ الشقّ الثاني ممّا يفهم من لفظة «من» باطل للمناقضة.

(وَنَفَى الشَّيْءَ). معطوفٌ بحسب المعنى على قوله: «توجب» أي وأبطل الشقّ الأوّل ممّا يفهم من لفظة «من».

(إِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقا مُحْدَثا، لاَ مِنْ أَصْلٍ). هذا على سبيل سند المنع، لا الاستدلال؛ فليس فيه مصادرة ولا شبه المصادرة.

(أَحْدَثَهُ الْخَالِقُ). الضمير راجع إلى «كلّ شيء». والجملة استئناف بياني.

(كَمَا قَالَتِ الثَّنَوِيَّةُ). التشبيه للمنفيّ في قوله: «لا من أصل».

(إِنَّهُ خَلَقَ مِنْ أَصْلٍ قَدِيمٍ، فَلاَ يَكُونُ تَدْبِيرٌ إِلاَّ بِاحْتِذَاءِ مِثَالٍ) أي بخلق صورة بدل صورة، وعَرَض بدل عرض، وهكذا متواردة على المادّة القديمة شخصا. ولتفصيل شُبه الفلاسفة في حدوث العالم والأجوبة عنها محلّ آخر. .

ص: 354


1- في «ج» : «ضرورة» .
2- في «أ» : - «الحاشية الأولى من» .
3- للخليل القزويني حواشي على العدّة ، والظاهر أنّ الحاشية الاُولى أوسع حواشيه عليها ، وقد أحال إليها عدّه مرّات في حاشيته على العدّة المطبوعة .

(ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام )؛ بالجرّ معطوفٌ على قوله: «لا من شيء كان» أي ثمّ ألا ترون إلى قوله:

(«لَيْسَتْ لَهُ صِفَةٌ تُنَالُ، وَلاَ حَدٌّ يُضْرَبُ لَهُ فِيهِ الاْءَمْثَالُ، كَلَّ دُونَ صِفَاتِهِ تَحْبِيرُ اللُّغَاتِ» فَنَفى عليه السلام أَقَاوِيلَ)؛ كأنّها جمع «اُقوولة»(1) مثل اُعجوبة وأعاجيب، واُحدوثة وأحاديث.

(الْمُشَبِّهَةِ حِينَ شَبَّهُوهُ بِالسَّبِيكَةِ). تقول: سبك الفضّة وغيرها كضرب: إذا أذابها ونقّاها. والفضّة: سبيكة.(2)

(وَالْبِلَّوْرَةِ)؛ واحدة «البلّور» بفتح الموحّدة وضمّ اللام المشدّدة وسكون الواو ومهملة، ويجوز كسر الموحّدة وفتح اللام: جوهر معروف.(3)

(وَغَيْرَ ذلِكَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ مِنَ الطُّولِ وَالاِسْتِوَاءِ) أي(4) في الأعضاء.

(وَقَوْلَهُمْ)؛ بالنصب، عطف على أقاويل المشبّهة.

(«مَتى مَا لَمْ تَعْقِدِ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلى كَيْفِيَّةٍ)؛ بصيغة المجهول من باب ضرب، يُقال: عقد زيد قلبه على كذا: إذا اعتقده. والمراد بالكيفيّة الكيفيّة المحسوسة.

(وَلَمْ تَرْجِعْ)؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب. والضمير للقلوب.

(إِلى إِثْبَاتِ هَيْئَةٍ، لَمْ تَعْقِلْ)؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب. والضمير للقلوب.

(شَيْئا). توهّموا أنّ كلّ شيءٍ محسوس.

(فَلَمْ تُثْبِتْ)؛ معلوم باب الإفعال. والضمير للقلوب.

(صَانِعا» فَفَسَّرَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ وَاحِدٌ بِلاَ كَيْفِيَّةٍ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ تَعْرِفُهُ بِلاَ تَصْوِيرٍ وَلاَ إِحَاطَةٍ). (ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام )؛ بالجرّ معطوف على قوله: «لا من شيء كان».

(«الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، وَتَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَحْدُودٌ»). .

ص: 355


1- في «أ» : «أقولة» .
2- مختار الصحاح ، ص 153 (سبك) .
3- القاموس الميحط ، ج 1 ، ص 377 (البلور) .
4- في «أ» : - «أي» .

(ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام ) بالجرّ. («لَمْ يَحْلُلْ فِي الاْءَشْيَاءِ؛ فَيُقَالَ: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا؛ فَيُقَالَ: هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ» فَنَفى عليه السلام عَنْهُ(1) بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ)؛ يعني قوله: «لم يحلل» إلى آخره.

(صِفَةَ الاْءَعْرَاضِ وَالاْءَجْسَامِ؛ لاِءَنَّ مِنْ صِفَةِ الاْءَجْسَامِ التَّبَاعُدَ وَالْمُبَايَنَةَ، وَمِنْ صِفَةِ الاْءَعْرَاضِ الْكَوْنَ فِي الاْءَجْسَامِ بِالْحُلُولِ). النشر على غير ترتيب اللفّ.

(عَلى غَيْرِ مُمَاسَّةٍ) أي مجاورة، والظرف متعلّق بالحلول.

(وَمُبَايَنَةِ) أي ولا مباينة.

(الاْءَجْسَامِ عَلى تَرَاخِي الْمَسَافَةِ). فإنّ أعراض الأجسام لاترى في مسافة بينها وبين الأجسام.

(ثُمَّ قَالَ عليه السلام : «لكِنْ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ، وَأَتْقَنَهَا صُنْعُهُ» أَيْ هُوَ فِي الاْءَشْيَاءِ بِالاْءِحَاطَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَ عَلى غَيْرِ مُلاَمَسَةٍ).

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ)؛ اسم «إنّ»، وخبره «شامخ الأركان» وما بينهما اعتراض.

(تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالى ذِكْرُهُ، وَجَلَّ ثَنَاوءُهُ)، وقوله:

(سُبْحَانَهُ) اعتراضٌ في اعتراض.

(وَتَقَدَّسَ)؛ معطوف على قوله: «تبارك اسمه». ويحتمل أن يكون معطوفا على «سبحانه».

(وَتَفَرَّدَ وَتَوَحَّدَ، وَلَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ )؛ من الأفعال الناقصة، وخبرهما «رفيعا».

(وَ«هُوَ الاْءَوَّلُ). حال عن فاعل «لم يزل ولا يزال».

(وَالاْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ»). مضى شرح الأسماء الأربعة في أوّل السابع عشر.(2) .

ص: 356


1- في الكافي المطبوع : - «عنه» .
2- أي في الحديث 1 من باب آخرو هو من الباب الأول إلاّ أنّ فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه وأسماء المخلوقين .

(فَلاَ أَوَّلَ لاِءَوَّلِيَّتِهِ). تفريعٌ على «لم يزل ولا يزال» باعتبار تقييدهما بالحال.

(رَفِيعا فِي أَعْلى عُلُوِّهِ). «أعلى» مضاف إلى علوّ، ومجموع المضاف والمضاف إليه مضاف إلى الضمير من قبيل: «حَبّ رمّانك».

(شَامِخُ الاْءَرْكَانِ). الجبال الشوامخ هي الشواهق، وقد شمخ الجبل كنصر فهو شامخ. وركن الشيء: جانبه الأقوى. وهو يأوي إلى ركنٍ شديد، أي عزٍّ ومَنَعة. والكلام استعارة.

(رَفِيعُ الْبُنْيَانِ، عَظِيمُ السُّلْطَانِ، مُنِيفُ الاْآ لاَءِ). يقال: أناف على الشيء: إذا أشرف. وأنافت الدراهم على المائة، أي زادت.(1) والآلاء النعمُ واحدها «اَءلى» بالفتح والكسر، وبفتحتين وبكسر الهمز وفتح اللام، وألو بالفتح.

(سَنِيُّ الْعَلْيَاءِ). السنا بالفتح والمدّ: الرِّفعة، والسنيّ: الرفيع. والعليا بفتح المهملة وسكون اللام والخاتمة والمدّ: السماء، وكلّ مكان مشرف.

(الَّذِي يَعْجِزُ الْوَاصِفُونَ) أي الذين حاولوا بيان عظمته.

(عَنْ كُنْهِ) أي قدر (صِفَتِهِ). مصدر قولك: وصفت فلانا. والمراد هنا عظمته.

(وَلاَ يُطِيقُونَ) أي لا يستطيعون (حَمْلَ مَعْرِفَةِ إِلهِيَّتِهِ) أي معبوديّته بالحقّ؛ لأنّهم لا يمكن أن يعرفوا طبقات الملائكة وأنواع عباداتهم ونحو ذلك.

(وَلاَ يَحُدُّونَ)؛ بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة، بصيغة المعلوم، من باب(2) نصر، أي لا يميّزون؛ أو بالجيم وتخفيف الدال(3) من باب ضرب من المثال، أي لا يعلمون.

(حُدُودَهُ). حدّ الشيء: منتهاه. والضمير لإلهيّته، والتذكير لأنّه مصدر، وجمع الحدود باعتبار أصناف عبادات الملائكة وغيرهم.

(لاِءَنَّهُ بِالْكَيْفِيَّةِ لاَ يُتَنَاهى إِلَيْهِ). الضميران لمصدر «يحدّون»، أو الأوّل للشأن. والمراد بالكيفيّة ما يقال في جواب السؤال بكيف. «لا يتناهى» بصيغة المجهول من .

ص: 357


1- تاج العروس ، ج 12 ، ص 517 (نوف) .
2- في «ج» : «بالمهملة وشدّ الثانية معلوم باب» بدل «بالحاء» إلى هنا .
3- في «ج» : «المهملة» بدل «الدال» .

باب(1) التفاعل، والظرف نائب الفاعل يعني لأنّ تمييز حدود إلهيّته لا يمكن الوصول إليه ببيان أحد إذا سئل بكيف عن كيفيّة إلهيّته، بناءً على أنّ إلهيّتة أعظم من أن يسعه البيان.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ، قَالَ: ضَمَّنِي وَأَبَا الْحَسَنِ عليه السلام ) أي الهادي أو(2) الرضا عليه السلام .

(الطَّرِيقُ)؛ فاعل «ضمّني».

(فِي مُنْصَرَفِي)؛ مصدر ميمي.

(مِنْ مَكَّةَ إِلى خُرَاسَانَ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى اللّه َ يُتَّقى؛ وَمَنْ أَطَاعَ اللّه َ يُطَاعُ). يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب الخوف والرجاء»: «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كلّ شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كلّ شيء».

إن قلت: نرى خلاف ذلك في الأنبياء والأئمّة والأولياء؟

قلت: المقصود أنّ التفاوت بين التقيّ وغير التقيّ، والمطيع وغير المطيع، واقع مع التساوي في الاُمور الخارجة، ولو صدر عن غير الأصفياء ما صدر عنهم _ ممّا ينافي أغراض الناس رئاءً وسمعةً ونحو ذلك _ لم يكن يهابون ويوقّرون أصلاً، والظالمون على أوليائه تعالى كانوا يخافون ويعظّمون ذلك، ولا ينافي ذلك ارتكابهم الظلم، وإظهارهم خلاف ما في قلوبهم، وأيضا يمكن أن يُقال: إنّ هذا هو الغالب في أوساط الناس، كما هو الظاهر من قوله عليه السلام بعد ذلك: «فقمنٌ». وابتلاء الخواصّ عظيم خارج عن طور سائرهم.

(فَلَطَفْتُ(3))؛ بالمهملة والفاء، بصيغة المعلوم للمتكلِّم، من باب نصر،(4) أي اختلت .

ص: 358


1- في «ج»: «لايتناهي مجهول باب» بدل «لايتناهي بصيغة المجهول من باب».
2- في «أ» : - «الهادي أو» .
3- في الكافي المطبوع : «فَتَلَطَّفْتُ» .
4- في «ج» : «بالمهملة والفاء معلوم متكلّم باب نصر» .

بما خفي على الناس لأجل التقيّة؛ أو من(1) بابِ حسن، أي دُققت وصغرت، وهو كناية عن الاختفاء.

(فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَوَصَلْتُ، وَسَلَّمْتُ(2) عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ ، ثُمَّ قَالَ: يَا فَتْحُ، مَنْ أَرْضَى الْخَالِقَ، لَمْ يُبَالِ بِسَخَطِ الْمَخْلُوقِ) أي والغالب فيمن لم يبال بسخط المخلوق أنّه لا يسلّط اللّه عليه سخط المخلوق، كأنّه عليه السلام عرف أنّ وصوله إليه لتعرّف حقيقة قوله: «من اتّقى اللّه » إلى آخره.

(وَمَنْ أَسْخَطَ الْخَالِقَ، فَقَمَنٌ). تقول: أنت قمن أن تفعل كذا بالتحريك،(3) أي خليقٌ وجديرٌ، لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث، وإن كسرت الميم أو قلت: قمين ثنّيت وجمعت.(4)

(أَنْ يُسَلِّطَ اللّه ُ عَلَيْهِ سَخَطَ الْمَخْلُوقِ، وَإِنَّ الْخَالِقَ لاَ يُوصَفُ إِلاَّ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ). مضى بيانه في أحاديث العاشر.(5)

(وَأَنّى يُوصَفُ الَّذِي يَعْجِزُ)؛ غائبة معلوم باب ضرب وعلم.(6)

(الْحَوَاسُّ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالاْءَوْهَامُ أَنْ تَنَالَهُ، وَالْخَطَرَاتُ)؛ بفتح المعجمة وفتح المهملتين، جمع «خطرة» بسكون الطاء، وهي ما يمرّ بالقلب.

(أَنْ تَحُدَّهُ، وَالاْءَبْصَارُ عَنِ الاْءِحَاطَةِ بِهِ، جَلَّ عَمَّا وَصَفَهُ الْوَاصِفُونَ) له بقدر من العظمة.

(وَتَعَالى عَمَّا يَنْعَتُهُ النَّاعِتُونَ) له بأنّه كالبلّور أو كالسبيكة.

(نَأى) أي بعُد عنّا ذاتا (فِي قُرْبِهِ)، بحسب الدليل عليه، أو بحسب إحاطة علمه بنا؛ لقوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(7). و«في» بمعنى «مع». .

ص: 359


1- في «ج» : - «من» .
2- في الكافي المطبوع : «فَسلَّمتُ» .
3- في «ج» : «بفتحتين» .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2184 ؛ النهاية ، ج 4 ، ص 111 (قمن) .
5- أي أحاديث باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .
6- في «أ» : - «غايبة معلوم باب ضرب وعلم» .
7- قآ (50) : 16 .

(وَقَرُبَ فِي نَأْيِهِ، فَهُوَ فِي نَأْيِهِ قَرِيبٌ، وَفِي قُرْبِهِ بَعِيدٌ). تكرار للمضمون للتأكيد. وأمّا قوله:

(كَيَّفَ الْكَيْفَ، فَلاَ يُقَالُ: كَيْفَ؟) أي فلا يسأل عنه بكيف للاستفهام.

(وَأَيَّنَ الاْءَيْنَ، فَلاَ يُقَالُ: أَيْنَ؟) أي فلا يسأل عنه بأين للاستفهام.

(إِذْ هُوَ مُنْقَطِعُ)؛ اسم مكان؛ أي لا يبلغه.

(الْكَيْفُوفِيَّةِ وَالاْءَيْنُونِيَّةِ). فمضى بيان مضمونه في ثالث الأوّل،(1) ويجيء توضيحه أيضا في سادس الباب عند قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه» إلى آخره.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: بَيْنَا). أصله «بين» اُشبعت الفتحة، فتولّدت ألف،(2) وهو ظرف زمانٍ مضافٌ إلى الجملة الخالية عن العائد إليه نظير: «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ»(3)، وعاملةُ «قام».

(أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام )؛ بالرفع على الابتداء.

(يَخْطُبُ عَلى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إِذْ)؛ للمفاجأة، وقد يحذف؛ لأنّ المفاجأة يفهم من «بينا».

(قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ _ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلِبٌ _ )؛ بكسر المعجمة وسكون المهملة وكسر اللام _ وقد تفتح _ والموحّدة؛ لُقّب به تشبيها بالناقة السريعة.(4)

(ذُو لِسَانٍ بَلِيغٍ فِي الْخُطَبِ ، شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّا لَمْ أَرَهُ) .

أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بحمل الرؤية في كلامه على العلم؛ إشعارا بأنّه لا ينبغي السؤال عن الرؤية بالبصر؛ لظهور استحالته. وهذا فنّ من البلاغة.

(فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ). لمّا كانت .

ص: 360


1- أي في الحديث 3 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 204 (بين) .
3- الأنعام (6) : 73 .
4- كتاب العين ، ج 2 ، ص 326 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 127 (ذعلب) .

الرؤية والعيون يطلق على العلم والقلوب، قيّد بقوله:

(بِمُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ)؛ بفتح الهمزة جمع بصر، والإضافة لاميّة؛ أو بكسر الهمزة مصدر، فالإضافة للبيان.

(وَلكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) أي علمته القلوب وصدّقت به بالتصديقات التي هي حقائق الإيمان؛ أي لا يتحقّق الإيمان بدونها، والباء للملابسة، ويحتمل الاستعانة؛ فإنّه لولا حقائق الإيمان، لكان العلم به كعدمه.

(وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفُ اللَّطَافَةِ لاَ يُوصَّفُ(1) بِاللُّطْفِ). اللطافة بفتح اللام واللطف بالضمّ مصدرا بابِ حسن بمعنىً مضى في أوّل السابع عشر.(2)

وقوله: «لطيف اللطافة» ونظائره الآتية لبيان المبالغة مثل: جدّ جدّهُ.

وقوله: «لا يوصَّف» في المواضع بصيغة المضارع المجهول من باب التفعيل(3) للمبالغة. والمقصود هنا أنّ العباد عاجزون عن بيان لطفه تعالى كما هو حقّه.

(عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لاَ يُوصَّفُ بِالْعِظَمِ)؛ بكسر المهملة، وفتح المعجمة.

(كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ لاَ يُوصَّفُ بِالْكِبَرِ). الكبرياء بكسر الكاف وسكون الموحّدة وكسر المهملة والخاتمة والمدّ، والكبر بالكسر: التكبّر.(4)

(جَلِيلُ الْجَلاَلَةِ لاَ يُوصَّفُ بِالْغِلَظِ). الجلالة بفتح الجيم مصدر باب ضرب: القهر والتعالي عمّا يقتضي ذلّة، وهو المداهنة في عقاب أعدائه الذين لا يستحقّون العفو أصلاً .

والغلظ _ بكسر المعجمة وفتح اللام ومعجمة مصدر باب ضرب وحسن _ : القهر . والمقصود أنّ قهره على أعدائه قاهر بحيث يعجز العباد عن بيانه كما هو حقّه، نظير قوله تعالى في سورة الزمر: «وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللّه ِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»(5). .

ص: 361


1- في الكافي المطبوع : «يُوصَفُ» في جميع المواضع .
2- أي في الحديث 1 من باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه وأسماء المخلوقين .
3- في «ج»: «في المواضع مضارع مجهول باب ضرب أو باب التفعيل».
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 801 (كبر) .
5- الزمر (39) : 47 .

(قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لاَ يُقَالُ: شَيْءٌ قَبْلَهُ)، وإن قصد القبليّة باعتبار وجوده تعالى اليوم؛ لأنّه يوهم المحال.

(وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ)، لفناء العالم وإن كان يعاد.

(لاَ يُقَالُ: لَهُ بَعْدٌ)، كما مرّ في القبل آنفا.

(شَاءٍ)؛ على وزن اسم الفاعل حذفت الياء لالتقاء الساكنين بعد إسكانها لثقل الضمّة.

(الاْءَشْيَاءَ لاَ بِهِمَّةٍ) أي لا بضمير.

(دَرَّاكٌ لاَ بِخَدِيعَةٍ). الدرك بفتحتين: الغلبة على العدوّ بعد لحاقه؛(1) أي غالب على عدوّه لا بحيلة، كما يقال: الحرب خدعة، مثلّثةً، وكهمزة،(2) أي تنقضي بخديعة.

(فِي الاْءَشْيَاءِ كُلِّهَا، غَيْرُ)؛ بالرفع خبر «إنّ» كسائر أخواته؛ أو بالنصب حال عن الضمير(3) المستتر في الظرف.

(مُتَمَازِجٍ بِهَا، وَلاَ بَائِنٍ)؛ بالجرّ عطف على «متمازج».

(مِنْهَا، ظَاهِرٌ)؛ بالرفع.

(لاَ بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ). البشرة والبشر: ظاهر جلد الإنسان، والمباشرة: الملاقاة وتولّيالرجل الأمر بنفسه، فإن اُريد بالظاهر المعلوم، فالمراد(4) بالمباشرة المعنى الأوّل؛ وإن اُريد به الغالب، فالمراد الثاني؛ أي لا بعلاج وفعل بدني.

(مُتَجَلٍّ لاَ بِاسْتِهْلاَلِ رُوءْيَةٍ). يُقال: تجلّى الشيء: إذا تكشّف وشُوهد عيانا. واستهلّ الهلال بصيغة المجهول، ويُقال أيضا: استهلّ هو بصيغة المعلوم: إذا تبيّن، واستهلّ وجه الرجل: إذا فرح وظهر فرحه من وجهه، وفائدة الإضافة إلى الرؤية إفادة المعنى الأوّل.

(نَاءٍ لاَ بِمَسَافَةٍ)، بل بذاته المباينة لكلّ ذات. .

ص: 362


1- لسان العرب ، ج 10 ، ص 419 (درك) .
2- في «ج» : «كما يجيء في كتاب الإيمان والنذور والكفّارات في أوّل آخر الأبواب من قوله : إنّ الحرب خدعة بتثليث المعجمة أو كهمزة» بدل «كما يقال : الحرب خدعة ، مثلّثة وكهمزة» .
3- في «ج» : - «عن الضمير» .
4- في «ج» : «المراد» .

(قَرِيبٌ لاَ بِمُدَانَاةٍ)؛ بالمهملة والنون والألف المنقلبة عن الواو؛ أي بقرب مكاني، بل بحسب الدليل على وجوده، أو بعلمه بكلّ شيء وإحاطته به.

(لَطِيفٌ لاَ بِتَجَسُّمٍ)؛ بالجيم والمهملة، أي لا بزيادة مقدار كما في الماء إذا انقلب هواءً، فإنّه يصير ألطف ممّا كان وأعظم منه مقدارا، كما هو المجرّب في الظرف الضيّق الرأس إذا جعل فيه ماء واُغلي. أو المراد لا بصغر في المقدار يكون في الأجسام.

(مَوْجُودٌ لاَ بَعْدَ عَدَمٍ). يقال: وجده كوعده: إذا عرفه؛ وعدمه كعلمه: إذا جهله. والمراد أنّه تعالى معروف عند كلّ مميّز لا يعد جهله به وإن كان جاهلاً بالنبيّ ونحوه، كما مضى في ثاني «باب النسبة» وهو السابع من قوله: «معروف عند كلّ جاهل».(1)

(فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَارٍ). يُقال: اضطرّ إلى الشيء بصيغة المجهول، أي اُلجيء إليه؛ واضطرّ إليه أيضا: إذا احتاج إليه. فإن اُريد الأوّل كان المراد أنّه فاعل لا لدفع ضرر عن نفسه، وإن اُريد الثاني كان المراد أنّه غير محتاج إلى آلة في فعله.

(مُقَدِّرٌ لاَ بِحَرَكَةٍ، مُرِيدٌ لاَ بِهِمَامَةٍ)؛ بكسر الهاء وتخفيف الميم، مصدر باب نصر من اللازم؛ يقال: همَّ بالشيء: إذا قصده من غيره بولاية له عليه أو من نفسه بجعله حرفة لها. وفعالة بكسر الفاء مصدر مطّرد في فعل مفتوح العين إذا كان لازما ودالاًّ على ولاية أو حرفة، نحو: أمر عليهم إمارة وتجر تجارة، كما ذكره ابن هشام في التوضيح؛ يعني أنّ إرادته تعالى ليست بضمير وقصد يكون في القلب.

(سَمِيعٌ لاَ بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لاَ بِأَدَاةٍ). الآلة: الشدّة، والأداة. والمراد هنا الأوّل بقرينة المقابلة. ويجيء بيان السمع(2) بلا شدّة في خامس الباب عند قوله: «السميع لا بتفريق آلة».

(لاَ تَحْوِيهِ الاْءَمَاكِنُ، وَلاَ تَضْمَنُهُ)؛ كيعلم. وفي بعض النسخ «لا تضمّه».

(الاْءَوْقَاتُ). الامتداد المنتزع من بقاء شيء يسمّى باعتبار أنّه ظرف للمتغيّرات وقتا،أي لا يشتمل عليه الأوقات بأن لا يوجد إلاّ في الأوقات، فيكون متغيّرا؛ بل كان .

ص: 363


1- في «أ» : - «يقال : وجده كوعده» إلى هنا .
2- في «ج» : «السميع» .

قبل الأوقات في الأزل.

(وَلاَ تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ)؛ بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة، من باب نصر؛ يعني لا يمكن بيان قدر عظمته ببيان من أقسام البيان، موافقا لما مرّ في أوّل الباب من قوله: «وضلّ هناك تصاريف الصفات». أو المراد ما يجيء في سادس الباب في شرح قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه».

(وَلاَ تَأْخُذُهُ السِّنَاتُ)؛ جمع «سنة». ومضى في ثالث السادس(1) ما يوضحه.

(سَبَقَ الاْءَوْقَاتَ)؛ بالنصب.

(كَوْنُهُ)؛ بالرفع. والجملة استئناف(2) بياني لقوله: «لا تضمنه الأوقات».

(وَالْعَدَمَ)؛ بالنصب.

(وُجُودُهُ)؛ بالرفع، أي سبق وجوده عدم نفسه؛ بمعنى أنّه لم يكن معدوما أصلاً.(3)

(وَالاِبْتِدَاءَ)؛ بالنصب.

(أَزَلُهُ)؛ بالرفع، أي لم يكن له ابتداء أصلاً.(4)

(بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ) أي بخلقه المشاعر كالسمع والبصر بنفوذ الإرادة وقول «كُن» لا بآلة وحركة.

(عُرِفَ)؛ بصيغة المجهول من باب(5) ضرب. والمراد بالمعرفة هنا وفي نظائره تذكّر ما علم قبلُ بالبرهان والاعتراف به. .

ص: 364


1- أي في الحديث 3 من باب الكون والمكان .
2- في «أ» : - «استئناف» .
3- في «ج» : «بالرفع . المراد بالعدم هنا فقد المحتاج إليه قبل إعطاء الغير إيّاه ، وهو حال الممكنات . والمراد بالوجود هنا وجدان جميع صفات الكمال بالذات بدون تأثير ، لامن الذات ولا من غيره ، وهو حال الواجب بالذات» بدل «بالرفع أي سبق» إلى هنا .
4- في «ج» : «بالرفع . المراد بالابتداء إحداث أوّل الممكنات . والأزل بفتحتين القدم ، وهو دوام الكون في الماضي . وهذا إبطال لتوهّم أنّه لم يكن قبل حدوث العالم بقاء لشيء إلى غير النهاية في جانب الماضي» بدل «بالرفع ، أي لم يكن له ابتداء أصلاً» .
5- في «ج» : «في المواضع مجهول باب ضرب» بدل «بصيغة المجهول من باب ضرب» .

(أَنْ لاَ مِشْعَرَ لَهُ)؛ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح المهملة ومهملة، اسم آلة؛ وبفتح الميم اسم مكان. والمراد أنّه مجرّد، فليس له مشعر.

(وَبِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ جَوْهَرَ لَهُ). التجهير: جعل الجوهر جوهرا، الكيفيّةُ إن وضعت عليها جبلة موصوفها تسمّى «جوهرا» بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الهاء معرّب گوهر، وتسمّى طينة وغريزة وطبيعة أيضا كالبرودة في الماء؛ وإلاّ تسمّى «عرضا» كالحرارة بمجاورة النار.

وقوله: «عرف» بصيغة المجهول(1) يعني أنّ واضع جبلة الأجسام على الكيفيّات بنفوذ الإرادة، وقولِ «كُن» مجرّد، فيمتنع أن يوضع جبلته على كيفيّة؛ لأنّ الكيفيّة من خواصّ المادّيات والمخلوقين، كما يجيء في سادس الباب، تعالى اللّه عنها.

(وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاْءَشْيَاءِ). المضادّة: المخالفة، وهي على قسمين: الأوّل: المشهوري، وهو ما بين نحو الأبيض والأسود. والثاني: الحقيقي، وهو ما بين نحوِ البياض والسواد. والمراد بالمضادّة هنا خلق المضادّين المشهوريين، فالمراد بالأشياء الأجسام، وهو اختياري له تعالى؛ لإمكان أن يخلق أحد المضادّين، ولا يخلق الآخر أصلاً.

(عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ) أي ليس له عارض موجود في نفسه في الخارج، فلا يمكن أن يكون له ضدّ.

(وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاْءَشْيَاءِ). المقارنة بالقاف والمهملة والنون: المناسبة والمصاحبة. والمراد هنا خلق المناسبين كالجسمين الأبيضين، فالمراد بالأشياء هنا أيضا الأجسام.

(عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ) أي ليس له عارض موجود في نفسه في الخارج، فلا يمكن أن يكون له قرين.

(ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ). استئنافٌ بياني لقوله: «وبمضادّته» إلى آخره. وهذا إلى قوله: «بالحرور» ناظر إلى قوله: «وبمضادّته» إلى قوله: «لا ضدَّ له». والمراد بالنور الجسم المنكشف بنفسه كالكواكب وكالقمر في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً .

ص: 365


1- في «ج» : «كالحرارة في الماء بمجاورة الهواء النار» بدل «كالحرارة» إلى هنا .

وَالْقَمَرَ نُورا»(1)في «ج» : «الثانية» بدل «الراء المهملة» .(2). والمراد بالظلمة ضدّ النور. ومضى بيان ذلك في أوّل الأوّل(3) عند قوله: «أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان» إلى آخره.(4)

(وَالْيَبَسَ(5))؛ بفتح الخاتمة وفتح الموحّدة والمهملة مصدر باب علم، اُطلق على اليابس للمبالغة، وبسكون الموحّدة: اليابس، وقرئ بهما قوله تعالى في سورة طه: «طَرِيقا فِى الْبَحْرِ يَبَسا»(6).(7)

(بِالْبَلَلِ)؛ بفتح الموحّدة وفتح اللام الاُولى مصدر باب علم: النداوة، اُطلق على اسم الفاعل للمبالغة؛ يُقال: بلّه بالماء كبصر، وبلّ هو كعلم، أي ابتلّ. ذهب البصريّون إلى أنّ فعل مكسور العين مطاوع فعل مفتوح العين، مثل ثلمه فثلم.(8)

(وَالْخَشِنَ)؛ بفتح الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة:(9) الأخرش من كلّ شيء.

(بِاللَّيِّنِ)؛ بفتح اللام وشدّ الخاتمة المكسورة وقد تخفّف وتسكّن: الأملس.

(وَالصَّرْدَ)؛ بفتح الصاد(10) المهملة وسكون الراء المهملة(10) ومهملة: الريح البارد، وقد تُطلق(11) على غير الريح أيضا، وهو معرّبُ «سرد».(12)

(بِالْحَرُورِ)؛ بفتح الحاء المهملة وضمّ الراء المهملة:(13) الريح الحارّ يكون بالليل، .

ص: 366


1- يونس
2- : 5 .
3- أي في الحديث 1 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
4- في «ج» : - «ومضى بيان ذلك» إلى هنا .
5- في الكافي المطبوع : «واليُبْس» بضمّ الياء وسكون الياء .
6- طآه (20) : 77 .
7- حكاه في الإنصاف فيما تضمنه الكشّاف ، ج 2 ، ص 546 .
8- فصّل الزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 139 البحث في أفعال المطاوعة عنوانه : «قاعدة في فعل المطاوعة» .
9- في «ج» : «الثانية» بدل «الشين المعجمة» .
10- في «ج» : - «الصاد» .
11- في «ج» : «يطلق» .
12- الصحاح ، ج 2 ، ص 496 (صرد) .
13- في «ج» : «بفتح المهملة وضمّ الثانية» .

وقد يُطلق على ما في النهار أيضا.

(مُوءَلَّفا(1) بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا)؛ بفتح اللام المشدّدة، حالٌ عن(2) الأشياء المذكورة الثمانية.

و«بين» نائب الفاعل، ويجوز في مثله فتح النون وضمّه نظير: «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ».(3)في الكافي المطبوع : «مُفرِّقٌ» .(4) وقيل: الظرف لا ينوب عن الفاعل، إنّما النائب في مثله المفعول المطلق،(5) وهو الضمير المستتر الراجع إلى المصدر، كما قالوا في حيل بين العير والنزوان.(6)

والمراد بالمتعاديات المتضادّات، وبالتأليف بينها جعل بعضها متّصلاً ببعض في المكان. والضمير للأشياء المذكورة.

(وَمُفَرَّقا(6) بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا)، بفتح المهملة حال اُخرى. والمراد بالتفريق الفصل بينها في المكان. والمراد بالمتدانيات المتماثلات، كالكواكب التي ترى مفرّقة وبينها المظلم من السماء.

(دَالَّةً)؛ حالٌ اُخرى.

(بِتَفْرِيقِهَا عَلى مُفَرِّقِهَا، وَبِتَأْلِيفِهَا عَلى مُوءلِّفِهَا)؛ فإنّهما ليسا بحسب الطبيعة بدون شعور، بل بتدبير الصانع للعالم الموسع الباني للسماء بأيدٍ.

(وَذلِكَ). هذا إلى قوله: «ولا بعد» معترضة، أي ومضمون ما ذكرت من قولي: «وبمضادّته بين الأشياء» إلى آخره مضمون: .

ص: 367


1- في الكافي المطبوع : «مُؤلِّفٌ» .
2- في «ج» : - «عن» .
3- الأنعام
4- : 94.
5- حكاه أبو حيان الأندلسي في التفسير المحيط ، ج 7 ، ص 281 .
6- هو مثل يضرب لمن قصد أمرا فعجز عنه ، ولم ينل مأربه منه . والعير : الحمار الوحشي والنزوان الوثوب . وأصل الكلام شعر لصخر بن عمرو الشريد أخ الخناء وتمامه : أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان لسان العرب ، ج 15 ، ص 319 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 304 (نزا) .

(قَوْلُهُ) في سورة الذاريات:

(«وَ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ). «من» للسببيّة، وهي هنا سببيّة الجزء للكلّ؛ أي ومن كلّ جسم من الأجسام، سواء كان سماويّة أو أرضيّة.

(خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)). الزوج المركّب من اثنين بينهما ربط في الجملة، سواء كان بالتماثل ككوكبين، أو باتّصال أحدهما بالآخر كاتّصال الكوكب بالجزء المظلم من السماء؛ أي جعلنا كلّ شيء جزءا لزوجين، أحدهما مركّب منه ومن مثله الغير المتّصل به، والآخر مركّب منه ومن ضدّه المتّصل به لتنظروا فيه، فيدلّكم على وجود مؤلّف للضدّين، مفرّق للمثلين، خارج عن المكان والمكانيّات، بريءٌ من كلّ نقصٍ، نافذ الإرادة، يقول «كُن» فيكون.

ومضى بيانه مفصّلاً في أوّل الأوّل(2) عند قوله: «يا أخا أهل مصر، لِمَ السماء مرفوعة» إلى آخره.

(فَفَرَقَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، أو باب التفعيل، تفريعٌ على مضمون الآية واستنباط منه.

(بَيْنَ قَبْلٍ وَبَعْدٍ)؛ بالجرّ والتنوين؛ أي بين سابق زماني، ولاحق زماني.

(لِيُعْلَمَ)؛ بصيغة المضارع المجهول المجرّد.

(أَنْ لاَ قَبْلَ لَهُ وَلاَ بَعْدَ). والحاصل أنّ الأزمنة متشابهة الحقيقة كالأمكنة، فكما يدلّ اختصاص كلّ زوج من الزوجين بمكان على الصانع بعنوان كُن فيكون، يدلّ اختصاص كلّ زمان عليه من الزوجين.(3)

(شَاهِدَةً(4)). حالٌ اُخرى عن الأشياء المذكورة الثمانية.

(بِغَرَائِزِهَا) الغريزة: الجوهر. ومضى بيانه آنفا. .

ص: 368


1- الذاريات (51) : 49 .
2- أي في الحديث 1 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
3- في «ج» : «يدلّ اختصاص كلّ زوج من الزوجين بزمان عليه» .
4- في الكافي المطبوع : «له شاهدة» بدل «شاهدة» .

(أَنْ) أي بأن (لاَ غَرِيزَةَ لِمُغْرِزِهَا)؛ بالمعجمة وشدّ المهملة المكسورة ومعجمة، أي خالق غريزتها.

(مُخْبِرَةً). حالٌ اُخرى.

(بِتَوْقِيتِهَا أَنْ) أي بأن (لاَ وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا)؛ بشدّ القاف المكسورة، أي جاعلها في وقت دون قبله وبعده.

(حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ). الحجْب كالنصر: المنع؛ أي أظهر عجز بعض الأشياء عن بعض، إمّا مطلقا وإمّا قبل وقت فعله، كما يجيء بيانه في «باب الاستطاعة».

(لِيُعْلَمَ أَنْ لاَ حِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ) أي ليتذكّر أنّه تعالى قادر على كلّ شيء قبل وقت فعله أيضا أزلاً، مستقلّ بالقدرة.

والحجاب بالكسر: المانع. والمراد هنا المانع العقلي، لا ما يشمل العلمي أيضا، بقرينة ما يجيء في خامس الباب.(1)

(كَانَ رَبّا إِذْ لاَ مَرْبُوبَ). استئنافٌ لبيان عدم الحجاب.

والربّ يُطلق في اللغة على المالك والمدبّر والسيّد والمربّي والمتمّم والمُنعم،(2) ولا يطلق غيرَ مضاف على غير اللّه تعالى؛ إذ المراد حينئذٍ ربّ كلّ شيء، وإذا اُطلق على غيره اُضيف إلى خاصّ، فيُقال: ربّ الدار مثلاً.

والمراد(3) هنا الأوّل، أي لم يكن للّه تعالى في خلق مخلوقاته حالة منتظرة يتوقّف عليه الخلق، ولا يمكنه بدونه، بل كان مالكا للمملوكات أي المخلوقات قبل وجودها؛ إذ الملك إنّما يختصّ بالمملوك الموجود فيمن ليس وجود مملوكه بقدرته، بل يتوقّف على حالة منتظرة، وهو تعالى قادر على كلّ شيء أزلاً وأبدا؛ إنّما يتأخّر فعله ويتأجّل خلقه لشيء لعلمه بالمصالح.

ويمكن أن يكون المراد أنّه مالك قبل الخلق أزلاً للخلق في وقت خلقه فيه؛ لأنّ .

ص: 369


1- في «ج» : «في الآتي» بدل «في خامس الباب» .
2- النهاية، ج 2، ص 179؛ لسان العرب، ج 1، ص 399 (ريب).
3- في «ج» : + «به» .

قدرته قبل وقت الفعل بخلاف قدرة العباد، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة».

(وَإِلها إِذْ لاَ مَأْلُوهَ). «إله» فعال بمعنى فاعل؛ من ألههم كنصر؛ أي استحقّ عبادتهم، وإطلاقه على الصنم بزعم من يعبده.

والمراد بالمألوه العابد، باعتبار أنّ عبادته مستحقّة بالفتح.

وفي الصحيفة الكاملة في دعاء يوم عرفة: «ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه».(1) وإنّما لم يقل «إذ لا بدعا» للإزدواج مع سابقه ولاحقه.

ومعنى استحقاقه العبادة قبل وجود العابد أنّ العابد في زمان عبادته يسبّحه ويقدّسه وينزّهه، لا باعتبار هذا الوقت فقط، كما في مدحنا للعباد بعد صدور فعل حسن عنهم، بل يسبّحه ويقدّسه وينزّهه عن النقص أزلاً وأبدا في ذاته وأفعاله وتروكه؛ إذ ليس الترك حينئذٍ إلاّ حسنا موافقا للمصلحة. وقيل: إذ لا مألوه أي لم يحصل العبادة بعد، ولم يخرج وصف المعبوديّة من القوّة إلى الفعل. انتهى.(2)

ويحتمل أن يُراد بالمألوه المعبود؛ أي كان معبودا إذ لا معبود غيره، وهو قبل خلق بني آدم، وحين كان يعبده الملائكة وحده.

ويحتمل أن يُراد أنّه كان قادرا على خلق العابدين وأمرهم بالعبادة بالاستحقاق، ولم تكن له حالة منتظرة يتوقّف عليها فعله، بل إنّما اُجّل للعلم بالمصلحة.

(وَعَالِما إِذْ لاَ مَعْلُومَ). يدلّ على ثبوت المعدومات في الخارج؛ لبداهة أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ.

(وَسَمِيعا إِذْ لاَ مَسْمُوعَ). السميع من صفات الذات، والسامع من صفات الأفعال، فيتقدّم الأوّل على الثاني.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ شَبَابٍ الصَّيْرَفِيِّ _ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ .

ص: 370


1- الصحيفة السجّادية (أبطحي) ، ص 316 ، دعاء عرفة ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 244 .
2- في حاشية «أ» : «ام ن (منه)» والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشيته، وقال به أيضا الطريحي في مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 95 (أله) .

الْوَلِيدِ _ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعِيسى شَلْقَانُ)؛ بفتح المعجمة وسكون اللام والقاف. والشلق _ بفتح الشين وسكون اللام _ : الضرب بالسوط وغيره، والجماع وخرق الاُذن طولاً.(1)

(عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فَابْتَدَأَنَا، فَقَالَ: عَجَبا)؛ بفتحتين، مصدر باب علم، وهو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي عجبت عجبا.

(لاِءَقْوَامٍ يَدَّعُونَ عَلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ قَطُّ)؛ كأنّهم ادّعوا عليه ما يوافق زعم بعض الفرق المخالفين من الفلاسفة الزنادقة والصوفيّة الشطحيّة والمعتزلة القدريّة والأشاعرة الصفاتيّة الجبريّة ونحوهم؛ كرواية الصوفيّة أنّه عليه السلام قال: «كان اللّه ولم يكن معه شيء والآن كما كان»(2) وكحملهم ما مضى في أوّل الثالث(3) من قوله: «اعرفوا اللّه باللّه »، وما مضى في ثالثه:(4) «إنّ اللّه جلّ جلاله أجلّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه»، على أنّ طريقة الأولياء الاستشهاد بالصانع على المصنوع، لا العكس، وبيّنّا حقّ معناهما.

(خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ بِالْكُوفَةِ). استئنافٌ لبيان بطلان ادّعائهم.

(فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُلْهِمِ عِبَادَهُ حَمْدَهُ، وَفَاطِرِهِمْ عَلى مَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ). ردٌّ على القدريّة في إنكارهم التوفيق والخذلان. ويجيء بيانه في رابع «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».

والإلهام: إلقاء تصوّر الشيء في القلب، والمراد به هنا التوفيق.

والمراد ب«عباده»: المخلصون، كما في قوله تعالى في سورة الفرقان: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْءَرْضِ هَوْنا»(5) الآيات. .

ص: 371


1- تاج العروس ، ج 3 ، ص 252 (شلق) .
2- حكاه محمّد بن حمزة الفناري في كتاب مصباح الاُنس بين المعقول والمشهود ، ص 179 و 352 ، وحكاه صدر الدين الشيرازي في الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 350 ، عن أبي القاسم الجنيد البغدادي .
3- أي في الحديث 1 من باب أنّه لا يعرف إلاّ به .
4- أي في الحديث 3 من باب أنّه لا يعرف إلاّ به .
5- الفرقان (25) : 63 .

والفطر بالفتح: الابتداء، و«على» نهجيّة والمعرفة: التصديق؛ أي على ما يفضي إلى معرفتهم.

والربوبيّة بضمّ المهملة وشدّ الخاتمة: المالكيّة لكلّ شيء؛ أي كون أزمّة الاُمور جميعا بيده تعالى. والإضافة للعهد.

(الدَّالِّ عَلى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلى أَزَلِهِ، وَبِإشْبَاهِهِمْ(1) عَلى أَنْ لاَ شِبْهَ لَهُ ). ردٌّ على الشطحيّة في إنكارهم وجود غيره تعالى،(2) وفي الفقرة الثانية تعريض بالفلاسفة القائلين بأزليّة بعض الممكنات(3).(4)

والدلالة هنا بالمعنى اللغوي، وهو أعمّ من الاستشهاد، ومن التذكير المقتضي للاعتراف.

والمراد بالخلق المخلوق، أي ما يدبّره كلّ يوم وليلة من الاُمور، كالحياة والموت والمرض والشفاء، فإنّه يتذكّر به وجوده تعالى.

وحدوث الخلق تجدّده يوما فيوما وليلةً فليلة.

والأزل بفتحتين: الامتداد الغير المتناهي المنتزع من موجود لا أوّل له، أو القِدم، وتذكير الأزل(5) بالحدوث لأنّ أحد الضدّين يذكّر الضدّ الآخر.

والإشباه بكسر الهمزة: المشابهة، والضمير للخلق باعتبار اشتماله على أفراد الإنسان. والشبه بالكسر وبفتحتين: المشابة؛(6) أي وبكون بعضهم ندّا لبعض، أو كفوا كالوالد والولد، أو كالذكر والاُنثى، يتذكّر أن لا ندّا ولا كفوا للّه تعالى. وهذا أيضا من تذكير الضدّ بالضدّ. .

ص: 372


1- في الكافي المطبوع : «وباشتباههم» .
2- منهم عبد الغني النابلسي صاحب القصيدة الشطحيّة ، والقصيدة منقولة في مواقف الشيعة ، ج 3 ، ص 279 ؛ أعيان الشيعة ، ج 2 ، ص 122 .
3- في «أ» : «كما يظهر في شرح قوله : والربّ من المربوبين» بدل «القائلين بأزليّة بعض الممكنات» .
4- اُنظر شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 46 ؛ أنوار الملكوت ، ص 39 .
5- فى «ج»: «الأوّل».
6- في «أ» : «المثابة» .

(الْمُسْتَشْهِدِ بِآيَاتِهِ عَلى قُدْرَتِهِ، الْمُمْتَنِعَةِ مِنَ الصِّفَاتِ ذَاتُهُ). ردٌّ على الشطحيّة في قولهم: إنّ طريقة الأولياء الاستشهاد بالصانع على المصنوع لا العكس، وعلى بعض المعتزلة حيث خصّصوا قدرته تعالى،(1) وعلى الأشاعرة في تجويزهم أن يكون اللّه تعالى مرئيّا حقيقةً.(2)

والآيات: الاُمور العظيمة كالسماء والأرض، وكخوارق العادة، فإنّه يعلم بها أنّ فاعلها لا نقص فيه أصلاً. وإضافة القدرة للعهد؛ أي القدرة على كلّ شيء، قال تعالى في سورة الطلاق: «اللّه ُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاْءَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(3)

وأصل الامتناع: الإباء الاختياري، والمراد هنا عدم القابليّة عقلاً.

والمراد بالصفات: أنواع البيان، وبذاته: كنه حقيقته، أو قدر عظمته. أو المراد بالصفات: الاُمور(4) الموجودة في أنفسها في الخارج، القائمة بغيرها وبذاته نفسه. وحينئذٍ يكون ردّا على القائلين بالمعاني القديمة كالأشاعرة.

(وَمِنَ الاْءَبْصَارِ رُوءْيَتُهُ). ردٌّ على الأشاعرة في الرؤية. والأبصار بفتح الهمزة جمع بصر: حسّ العين، يعني إنّما رؤيته بمعنىً مجازي، وهو معرفة القلوب إيّاه بحقائق الإيمان بشهادة آثاره تعالى.

(وَمِنَ الاْءَوْهَامِ الاْءِحَاطَةُ بِهِ). ردٌّ على الشطحيّة في قولهم: إنّ مراتب النفس الناطقة أربع: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد، والعقل بالفعل، وفي آخر المراتب يحصل له العلم بكلّ شيء تفصيلاً.(5) .

ص: 373


1- حكاه عنهم ابن ميثم في قواعد المرام في علم الكلام ، ص 96 ؛ والعلاّمة في شرح التجريد (الزنجاني) ، ص 308 ، وفي طبعة الآملي ، ص 395 .
2- حكاه عنهم الرازي في المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 2 ، ص 81 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 332 .
3- الطلاق (65) : 12 .
4- في «ج» : + «الخارجة» .
5- في حاشية «أ» : «قاله الشيخ ميثم البحراني في أوائل شرح نهج البلاغة» .

والأوهام: خطرات القلوب. والإحاطة: العلم التامّ؛ يعني أنّ الإحاطة بكنه ذاته، أو بقدر عظمته، أو بتفصيل كمالاته لا يتأتّى من غيره تعالى؛ إنّما يتأتّى منه، كما في قوله تعالى في سورة طآه: «وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»(1)، وفي سورة المصابيح: «أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ».(2)

(لاَ أَمَدَ لِكَوْنِهِ، وَلاَ غَايَةَ لِبَقَائِهِ). الأمد بفتحتين: المدّة المتناهية وما ينتهى إليه المدّة، وكذا الغاية. والمراد بالأمد هنا المدّة المتناهية باعتبار المبدأ أو مبدؤها، والمراد بالغاية هنا المدّة المتناهية باعتبار الآخر أو آخرها.

وهذا ردّ على متكلّمين تبعوا الفلاسفة في أنّ المدّة إنّما هي مقدار حركة الفلك، فقالوا بعد الإقرار بحدوث العالم زمانا: إنّه اختصّ الحدوث بوقته؛ إذ لا وقت قبله؛(3) يعنون أن لا امتداد أصلاً قبل وجود العالم، فليس له تعالى قبله استمرار وبقاء حقيقة.

وزعمهم هذا مبنيّ على عدم فهمهم معنى عدم كونه تعالى زمانيّا، إنّما معناه عدم التغيّر في ذاته وصفات ذاته، فإنّ الامتداد والمدّة إنّما يسمّى لغةً زمانا أو وقتا باعتبار كونه ظرفا للمتغيّرات.

(لاَ تَشْمُلُهُ الْمَشَاعِرُ). ردٌّ على الأشاعرة في الرؤية، يُقال: شمله كعلم ونصر: إذا أحاط به.

وتفسير المشاعر مضى في رابع الباب يعني «لا يحسّ».

(وَلاَ تَحْجُبُهُ الْحُجُبُ، وَالْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ). ردٌّ على الفلاسفة حيث قالوا: الممكن ما لم يجب بوجوبٍ سابق لم يوجد، وما لم يمتنع بامتناعٍ سابق لم يترك؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، فقالوا بقِدم العالم، وأنّ بين اللّه وبين كلّ حادث موانعَ عقليّةً غير متناهية هي أعدام الشروط والمعدّات التي هي من أجزاء علّته التامّة، وما لم يحصل تلك الشروط والمعدّات بالحركة لم يتكامل علّته التامّة، فلم يقدر اللّه تعالى عليه حينئذٍ، وقالوا: إنّ القول بحدوث العالم، وبجواز تخلّف مخلوق اللّه عنه1.

ص: 374


1- طآه (20) : 110 .
2- فصّلت (41) : 54 .
3- مباحث الحدوث مفصّلة في معارج الفهم للعلاّمة، ص 123 ومابعدها. وانظر المواقف، ج 1، ص 341.

تعالى مع استجماعه لعلّته التامّة يستلزم تعطيل اللّه عن جوده قبل وجود العالم، ونسبته تعالى إلى إمساك بعده أيضا.(1)

يُقال: حجبه كنصر عن فعل أو ترك حجبا بالفتح وحجابا بالكسر: إذا منعه من صدور ذلك الفعل أو الترك عنه. وحجّبه تحجيبا للمبالغة. وحجبه أيضا بالتخفيف والتشديد: إذا ستره. والحُجُب بضمّتين جمع الحجاب بالكسر: المانع، سمّي بالمصدر.

ويحتمل كون هذه الفقرة متعلّقة بالسابق؛ أي لا تستره عن المشاعر الستور الجسمانيّة، فيكون ابتداء الردّ على الفلاسفة من قوله: و«الحجاب» إلى آخره.

والخلق قد يُطلق بمعنى المخلوق وهو المراد في قوله: «وبين خلقه». وقد يُطلق بمعنى المصدر، أي التدبير والتقدير، وهو المراد في قوله: «خلقه إيّاهم». والضمير المنصوب للخلق بمعنى المخلوق باعتبار اشتماله على العقلاء؛ يعني ليس تأخّر صدور الحوادث عنه تعالى لمنع الموانع وعدم تكامل الشروط العقليّة والمعدّات، بل هو مستقلّ بالقدرة على كلّ حادث في كلّ وقت من الأوقات السابقة على وجود ذلك الحادث، إنّما المانع له من صدور ذلك الحادث عنه مانع علمي لا عقلي، وهو التدبير ورعاية المصالح على حسب ما اقتضته الحكمة في كلّ فعل وترك.

وهنا احتمالان: الأوّل: كون «يحجبه» من باب نصر والنفي؛ لكون المراد المنعَ العقليَّ، ويكون قوله: «والحجاب» إلى آخره مشتملاً على مجاز في النسبة أو في لفظ الحجاب.

ويؤيّد هذا قوله في رابع الباب: «لا حجاب بينه وبين خلقه». أو المراد أعمّ من العلمي والعقلي ويكون قوله: «والحجاب» بمنزلة الاستثناء، أو يكون النفي لتعدّد الحجب.

الثانى¨: يكون «يحجبه» من باب التفعيل والنفي للمبالغة، أو لما مرّ في الاحتمال الأوّل.

إن قلت: الخلق من صفات الفعل، فلا يكون حجابا. .

ص: 375


1- اُنظر شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 146 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 115 ؛ شرح المقاصد ، ج 3 ، ص 120 ؛ شرح المواقف ، ج 7 ، ص 229 .

قلت: المراد به ما يشمل الترك لمصلحة التأخير، وكما أنّ الإيجاد من صفات الفعل كذلك الترك، أو المراد به العلم بالمصالح، وليس من صفات الفعل.

(لاِمْتِنَاعِهِ مِمَّا يُمْكِنُ فِي ذَوَاتِهِمْ، وَلاِءِمْكَانٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ). هذا تفصيل «لخلقه إيّاهم» بحيث يدلّ على كونه حجابا بينه وبينهم.

والامتناع: الإباء، وهو فعل اختياري. والضمير للّه . و«ممّا» متعلّق ب«امتناعه». و«يمكن» بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب الإفعال،(1) والضمير المستتر لما. والمراد بالإمكان هنا الجواز، وما يمكن في ذواتهم عبارة عن وجودهم في الخارج. «ولإمكانٍ» بالتنوين. والمراد بالإمكان هنا ضدّ الإباء، والمراد ولإمكانٍ صادرٍ منه تعالى، والتنوين للتقليل بالنسبة إلى الامتناع، فإنّ امتناعه تعالى في المدّة الغير المتناهية، وإمكانه تعالى في المدّة المتناهية وهي قليلة بالنسبة إلى الاُولى وإن كانت آلاف آلاف سنة. و«ممّا» متعلّق ب«إمكان»، والضمير المستتر في «يمتنع» للّه تعالى، وضمير «منه» لما.

والمراد بما يمتنع منه وجودهم في الخارج؛ يعني أنّ خلقه وتدبيره تعالى إيّاهم منحلّ إلى جزءين:

الأوّل: امتناعه تعالى من وجودهم، الممكنُ فيهم في وقت اقتضت الحكمة الامتناع.

والثاني: إمكانه تعالى من وجودهم الذي كان يمتنع منه في وقت آخر اقتضت الحكمة وجودهم فيه، وليس الامتناع لانتفاء جزء من أجزاء العلّة التامّة، ولا الإمكانُ لحدوث العلّة التامّة.

وفي توحيد ابن بابويه في «باب التوحيد ونفي التشبيه» قريب من هذا الحديث وفيه: «ولإمكانِ ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته»(2). والذي في الكافي أصوب. .

ص: 376


1- في «ج» : «ويمكن مضارع غائب معلوم باب الإفعال» .
2- التوحيد ، ص 56 ، ح 14 .

(وَلاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ مِنَ الْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ مِنَ الْمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ مِنَ الْمَرْبُوبِ). افتراقُ شيء من شيء وجود الشيء الأوّل في زمان بدون وجود الشيء الثاني فيه.

والمراد بالصانع هنا الفاعل بتدبير وإرادة. والمراد ب«الحادّ» بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة:(1)

من يجعل شيئا على مقدار خاصّ مع إمكان النقصان عنه والزيادة عليه.

والمراد بالربّ: السيّد المالك، ولا يستعمل غيرَ مقيّد في غير اللّه تعالى؛ لأنّ المراد حينئذٍ القادر بالاستقلال على كلّ ما عداه.

وهذا بيان لثلاثة لوازمَ لخلقه إيّاهم، بحيث يدلّ كلّ منها على كون خلقه إيّاهم حجابا بينه وبينهم:

الأوّل: أنّ المصنوع يستحيل أن يكون قديما بخلاف الصانع، وذلك لأنّ كلّ أحد إذا خلّي عن الأوهام الموسوسة علم أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، كما مضى في شرح أوّل الثاني عشر(2) في رواية ابن بابويه عن الرضا عليه السلام .(3)

الثاني: أنّ كلّ مخلوقٍ محدودٌ في مقدار مع إمكان الزيادة والنقصان عليه، بناءً على أنّه لا مجرّد سوى اللّه ، وإلاّ لكان فاعلاً بنفوذ الإرادة وقول «كُن» في الجملة فكان كاملاً من جميع الوجوه، فلم يكن ممكنا؛ لأنّ الإمكان نقص، فيستحيل أن يكون المحدود قديما بخلاف الحادّ.

الثالث: أنّ كلّ مخلوق له تعالى مربوب له، فيستحيل أن يكون قديما معه، وإلاّ لم يكن قادرا عليه بالاستقلال وقبل فعله.

إن قلت: استحالة قِدَم المخلوق ينافي ما مضى في تفصيل خلقه إيّاهم من كون امتناعه تعالى ممّا يمكن فيهم اختياريّا له تعالى. .

ص: 377


1- في «ج» : «بالمهملة وشدّ الثانية» بدل «المهملة وشدّ الدال المهملة» .
2- أي في الحديث 1 من باب صفات الذات .
3- في «ج» : + «موافقا لما مضى في ثاني السابع عشر من قوله عليه السلام : لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنّه لم يزل معه ، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه» .

قلت: توهّم المنافاة مبنيّ على توهّم أنّ الأزل الذي هو ظرف القديم امتداد محصور وهو باطل، فيجوز أن يكون قدم المخلوق محالاً، ويكون المخلوق في كلّ قطعة من الامتداد الغير المتناهي مقدورا له تعالى.

(الْوَاحِدُ لاَ بِتَأوِيلِ(1) عَدَدٍ). التأويل: القصد. ومضى بيانه في شرح قوله: «كتاب التوحيد».

(وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنى حَرَكَةٍ). الخلق: التقدير. و«المعنى» مصدر ميمي من المجرّد: القصد. والحركة: الانتقال الذهني كما في الفكر، أو العضوي كما في الأفعال العلاجيّة.

(وَالْبَصِيرُ لاَ بِأَدَاةٍ، وَالسَّمِيعُ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَةٍ). التفريق: التسديد. والآلة: الشدّة. والمراد بتفريق الآلة أن يكون شدّة القرع أو القلع المحصّلة للصوت سببا لتفرّق الصوت في النواحي؛ يعني لا يحتاج سماعه تعالى إلى شدّة قرع أو قلع، بل هو تعالى يسمع ما لا يمكن أن يسمعه أحد غيره، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في حادي عشر «باب حجّ الأنبياء عليهم السلام »: «أنا أسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر».(2)

وفي توحيد ابن بابويه: «السميع لا بأداة، البصير لا بتفريق آلة».(3) وما فى¨ الكافي أصوب.

(وَالشَّاهِدُ). الشهادة: الحضور، والمراد هنا كونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد. ولمّا كان هذا موهما للتداخل في المكان قال:

(لاَ بِمُمَاسَّةٍ) أي لابأن يمسّ أجزاؤه أجزاءنا، وأجزاؤنا أجزاءه.

(وَالْبَاطِنُ لاَ بِاجْتِنَانٍ) أي المخفيّ كالغائب لا باستتار بجسم يستره.

(وَالظَّاهِرُ) أي الخارج من الأشياء.

(الْبَائِنُ) أي البعيد.

(لاَ بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ) أي لا يتباعد بينه وبين الأشياء تباعدا بسبب مسافة بينهما كما يكون بين الجسمين المتباعدين. .

ص: 378


1- في الكافي المطبوع : «بلا تأويل» .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 214 ، باب حجّ الأنبياء ، ح 11 .
3- التوحيد ، ص 56 ، ح 14 .

(أَزَلُهُ نَهْيٌ(1) لِمَجَاوِلِ الاْءَفْكَارِ). الأزل بفتحتين: المدّة الغير المتناهية في جانب الماضي، كما أنّ الأبد المدّة الغير المتناهية في جانب المستقبل. وقيل: الأزل القدم.(2) انتهى. «نهيٌ» بفتح النون وسكون الهاء، مصدر باب منع، استعمل في معنى اسم الفاعل للمبالغة، وهو تخييل أو ترشيح للاستعارة بالكناية، فإنّه شبّه الأزل بأمير، وأثبت له النهي، وهو من لوازم الأمير أو مناسباته.

ومجاول بفتح الميم والجيم، جمع «مجال» بفتح الميم بصيغة اسم المكان. والمراد بمجاول الأفكار الأذهان التي تجول فيها الأفكار القويّة. والمراد أنّ الأذهان التي هي ذوات الأفكار القويّة تتحيّر وتعجز عن إدراك أزله كما هو حقّه، ولذا توهّم كثير من العقلاء أنّ المدّة إنّما هي مقدار حركة الفلك، فلا مدّة قبل حدوث العالم،(3) قالوا: واختصّ حدوث العالم بوقته إذ لا وقت قبله،(4) ومرادهم أنّه لا مدّة قبله أصلاً.

وقس عليه قولَه:

(وَدَوَامُهُ رَدْعٌ لِطَامِحَاتِ الْعُقُولِ)؛ فإنّ الدوام كون الشيء أزليّا وأبديّا. والردع بالفتح والمهملات من باب منع: الكفّ والردّ، ويُقال: طمح بصره إلى الشيء كمنع، أي ارتفع؛ وكلّ مرتفع طامح؛ أي لا يمكن للعقول الرفيعة إدراك دوامه كما هو حقّه.

(قَدْ حَسَرَ كُنْهُهُ نَوَافِذَ الاْءَبْصَارِ). استئنافٌ لبيان قوله: «أزله نهي» إلى آخره، يُقال: حسره بالمهملات كضربه: إذا أعجزه من طول الاستعمال قبل الوصول إلى المطلوب.

وكُنه الشيء بالضمّ: وقته. والضمير للّه . و«نوافذ» بالنون والفاء والمعجمة جمع «نافذة». و«أبصار» بفتح الهمزة جمع «بصر» بمعنى بصيرة.

(وَقَمَعَ وُجُودُهُ جَوَائِلَ الاْءَوْهَامِ). القمع بالفتح من(5) باب منع: القهر والإذلال. .

ص: 379


1- في الكافي المطبوع : «نُهُيَةٌ» .
2- مختار الصحاح، ص 16 (أزل).
3- حكاه في المواقف ، ج 1، ص 542 عن أرسطو ، وحكاه المناوي في فيض القدير ، ج 4 ، ص 716 عن المشهور ، وحكاه الزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 122 بلفظ قيل . وفي تاج العروس ، ج 18 ، ص 263 عن الحكماء .
4- المواقف ، ج 1 ، ص 341 .
5- في «ج» : «مصدر» .

والوجود: إدراك الأشياء علما وقدرةً. والضمير للّه ، والإضافة إلى الفاعل. و«جوائل» بالجيم والهمز جمع «جائلة» أي دوّارة في الاُمور لإدراك شيء فقدته بدون التمسّك بسؤال أهل الذكر عنه. والأوهام: خطرات القلوب وأفكارها؛ يعني أنّ الأوهام الكثيرة الطلب لإدراكه من عند أنفسها لا تدركه ولا تحيط به.

(فَمَنْ وَصَفَ اللّه َ، فَقَدْ حَدَّهُ؛ وَمَنْ حَدَّهُ، فَقَدْ عَدَّهُ؛ وَمَنْ عَدَّهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ). الفاء الاُولى للتعقيب، أو للتفريع على مقدّمات لم ينقلها الراوي هنا. وتجيء مع شرحها في سادس الباب.

(وَمَنْ قَالَ: أَيْنَ؟ فَقَدْ عَنَّاهُ(1))؛ بالمهملة وشدّ النون؛ أي عدّه ذا نصب في فعله كالأرواح المتعلّقة بالأبدان، أو بالمعجمة وشدّ الخاتمة؛ أي عدّه غير حاضر، مأخوذٌ من الغاية بمعنى المسافة وذو الغاية البعيد منّا؛ فإنّ بيننا وبينه مسافة.

(وَمَنْ قَالَ: عَلاَمَ؟)؛ حرف جرّ، و«ما» للاستفهام حذف عنها الألف. والمقصود قول من قال إنّه جالس على نحو العرش.

(فَقَدْ أَخْلى مِنْهُ) أي أخلى الأرضين ونحوها من حضوره فيها حيث لم يجعل نسبته إلى جميع الأمكنة سواء.

(وَمَنْ قَالَ: فِيمَ؟ فَقَدْ ضَمَّنَهُ)؛ بالمعجمة وشدّ الميم والنون؛ أي جعله في ضمن وعاء يحفظه من التلف. وفي نهاية ابن الأثير في حديث عِكرمة: «لا تشتر لبن البقر والغنم مضمّنا، ولكن اشتره كيلاً مسمّى؛ أي لا تشتره وهو في الضرع؛ لأنّه في ضمنه» انتهى.(2)

السادس: (وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ فَتْحِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ مَوْلى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُلْهِمِ عِبَادَهُ حَمْدَهُ. وَ ذَكَرَ مِثْلَ مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ إِلى قَوْلِهِ: «وَقَمَعَ وُجُودُهُ .

ص: 380


1- في الكافي المطبوع : «غيّاه» .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 103 (ضمن) .

جَوَائِلَ الاْءَوْهَامِ». ثُمَّ زَادَ فِيهِ). إلى هنا كلام عليّ بن محمّد المذكور في صدر سند الحديث السابق.

(أَوَّلُ الدِّيَانَةِ بِهِ) أي أوّل الإيمان باللّه . والمراد بالأوّل هنا الجزء الذي يتوقّف عليه سائر الأجزاء.

(مَعْرِفَتُهُ) أي الاعتراف والتصديق بوجود اللّه . أي بأنّ في الوجود إلها يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته.

(وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدُهُ). كمال الشيء: القدر المشترك بين جزئه الأخير، ولازمه البيّن اللزوم وما لا ينتفع بالشيء إلاّ به. والتوحيد: الاعتراف بأن لا إله إلاّ اللّه .

(وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ). اللام للعهد الخارجي، والمراد الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج، وهي المعاني القديمة التي يثبتها الأشعريّة.

ولا ينافي ذلك صحّة وصفه بصفات هي في أذهاننا، كما مضى بيانه في أوّل الخامس،(1) وكما فيما يجيء من قوله: «وكذلك يوصف ربّنا».(2)

(بِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ). المراد بالشهادة شهادة الحال، والمراد بالغير المستقلّ بوجود على حدة يحتاج بسببه إلى فاعل على حدة إن لم يكن واجب الوجود لذاته، ويقابله العين بالمعنى المشهور في نحو العلم والقدرة والحياة من صفات ذاته تعالى أنّها عين ذاته تعالى بمعنى أنّه لا يحتاج انتزاعها عنه تعالى وحملها عليه تعالى إلى مصداق ومصحّح للانتزاع، والحمل موجود في نفسه في الخارج إلاّ ذاته تعالى.

(وَشَهَادَةِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ). في نهج البلاغة: «وشهادة كلّ موصوف» إلى آخره.(3)

وذكر هذه الفقرة إمّا لأنّه ليس المراد بالغير هنا معناه اللغويَّ حتّى يكون صدق .

ص: 381


1- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
2- ذيل هذا الحديث .
3- نهج البلاغة ، ص 39 ، الخطبة 1 .

العكس لازما بيّنا، بل المراد ما مرّ آنفا. وكون الصفة غير الموصوف بهذا المعنى لا يستلزم استلزاما بيّنا العكسَ؛(1) لجواز أن يتوهّم أحد قياس الغير على العين بهذا المعنى، فإنّ أبا الهذيل(2) من المعتزلة القائلين بنفي الصفات عنه تعالى؛ يقول: إنّه تعالى عالم بعلم هو ذاته، وذاته ليس بعلم. انتهى.(3) ونسبه الفخر الرازي إلى التناقض وليس متناقضا.

وإمّا للتصريح والتوضيح.

(وَشَهَادَتِهِمَا جَمِيعا). نصب على الحاليّة، أي مجموعا مؤلّفا كلّ واحد منهما مع الآخر بدون لزوم عقلي.

(بِالتَّثْنِيَةِ)؛ بفتح المثنّاة فوق وسكون المثلّثة وكسر النون والخاتمة: التأليف؛ أي بأنّ فاعلاً جمعهما وقرنهما بأن جعل أحدهما موصوفا بالآخر، والآخر صفة للأوّل، وذلك لأنّه يستحيل أن يكون صفة واجب الوجود لذاته، ويستحيل أن يتحقّق الممكن الموجود في نفسه بدون فاعل، فليس بينهما لزوم عقلي.

(الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ) أي من التثنية والتذكير؛ لأنّه مصدر.

(الاْءَزَلُ)؛ بالرفع فاعل «الممتنع» ودليله أنّ الفعل كلّه حادث، كما مضى توضيحه في شرح عنوان الباب الأوّل.(4)

(فَمَنْ وَصَّفَ(5) اللّه َ)؛ بشدّ المهملة للمبالغة؛ أي زعم أنّه له صفات موجودة في أنفسها في الخارج. وهذا تفريع على قوله: «الممتنع منه الأزل». وإنّما احتيج إلى هذا إلى آخره؛ .

ص: 382


1- في «ج» : «لا يستلزم العكس استلزاما بيّنا» بدل «لا يستلزم استلزاما بيّنا العكس» .
2- هو محمّد بن محمّد بن الهذيل العبدي مولى عبد القيس من أئمّة المعتزلة ، ولد في البصرة سنة 135 هجريّة ، واشتهر بعلم الكلام ، له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات ، له كتب كثيرة منها كتاب ميلاس على اسم مجوسي أسلم على يده . توفّي سنة 235 هجرية . الأعلام ، ج 7 ، ص 131 .
3- حكاه عنه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 653 و 660 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 379 ؛ الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 49 .
4- أي باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
5- في الكافي المطبوع : «وصف» بفتح الثلاث .

لأنّ بيان امتناع الأزل من التثنية لا يكفي في بيان امتناع الأزل من الموصوف، وهو المقصود هنا.

(فَقَدْ حَدَّهُ). الحدّ بالفتح من باب نصر: تمييز شيء عن شيء؛ أي جعل مدّة وجوده في جانب الماضي ذاتَ قطعاتٍ ممتاز بعضها عن بعض بحسب توارد أفراد صفته الحوادث عليه.

(وَمَنْ حَدَّهُ، فَقَدْ عَدَّهُ). العدّ بالفتح من باب نصر: الإحصاء؛ والعدد بفتحتين: سِنُو عمر الرجل التي يعدّها؛ أي أحصى قطعات عمره بحسب إحصاء أفراد صفته الحوادث المتواردة.

(وَمَنْ عَدَّهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ)؛ لامتناع خلوّه من صفات ذاته؛ لأنّها ليست إلاّ كماليّة، بخلاف صفات فعله، وامتناع التسلسل في الموجودات في أنفسها في الخارج وإن لم تكن مجتمعة لأنّ لها على هذا التقدير مجموعا بديهة،(1) وغير المتناهي لا مجموع له ببرهان التطبيق ونحوه، هنا مقدّمات يحتاج إليها في إثبات أنّ كمال توحيده نفي الصفات عنه، ثمّ إثبات أنّ كمال معرفته توحيده هي، ومن أبطل أزله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه أي لم يوحّده، ومَن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله أي لم يعرفه. وسنبيّنها بُعَيْدَ هذا.

اعلم أنّ بين ما في هذا الحديث وما في أوّل نهج البلاغة من قوله عليه السلام : «أوّل الدِّين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومَن جزّأه فقد جهله»(2) فرقا من أربعة وجوه:

الأوّل: أنّ المراد بالمعرفة في نهج البلاغة العلم لا التصديق، بقرينة ذكر التصديق .

ص: 383


1- في «ج» : «ضرورة» .
2- نهج البلاغة ، ص 39 ، الخطبة 1 .

على حدة؛ فالمراد بالأوّل فيه إمّا الظرف الخارج، وإمّا الجزء المقدَّم. ولا ينافي ذلك أن يكون العلم من قبيل الانفعال لا الفعل، فيستحيل تعلّق التكليف به، وذلك لأنّ التكليف بالمركّب _ وهو الدين أي الإيمان باللّه _ لا يستلزمه التكليف بكلّ جزء.

الثاني: أنّه ذكر الإخلاص في نهج البلاغة، ولم يذكر في هذا الحديث اقتصارا. ومعنى الإخلاص له تعالى أن لا يعبد إلها غيره.

الثالث: أنّ قوله في هذا الحديث: «وشهادتهما جميعا» إلى قوله: «فقد أبطل أزله» لم تذكر في نهج البلاغة اقتصارا، فمعنى قوله: «فقد قرنه» أنّه أبطل أزله، فجعله لاحقا بموجده غير منفكّ عنه. فالدليل عليه ما مرّ في هذا الحديث مع شرحه من قوله: «بشهادة كلّ صفة» إلى قوله: «فقد أبطل أزله» ففي نهج البلاغة اقتصار وطيٌّ لبعض المقدّمات، ولعلّه للاعتماد على ما ذكر في نهج البلاغة أيضا قبيل هذه الفقرات من قوله: «الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا نعتٌ موجود، ولا وقتٌ معدود، ولا أجلٌ ممدود» فإنّه إشارة بطريق الكناية إلى إبطال مذهب الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالمعاني،(1) ومذهب بعض المعتزلة وغيرهم من القائلين بأنّ الوجود والعلم والقدرة ونحوها يحمل على ذاته حملَ مواطأةٍ حقيقةً لغةً بدون مسامحة،(2) فقيامها به مجازي.

فقوله: «ليس لصفته حدٌّ محدود» إشارة إلى قضيّتين:

الاُولى: أنّه لو كان له صفة موجودة في نفسه في الخارج قائمة به قياما حقيقيّا، لكان لصفته حدّ أي مبدأ لزمان وجودها؛ لأنّ كلّ موجود في نفسه في الخارج غيره تعالى حادث.

الثانية: أنّه لو كان لصفته حدّ، لكان حدّه محدودا باعتبار الكمّ المنفصل؛ أي محصورا في عددٍ متناه بعدد الصفات الشخصيّة المتعاقبة من العلم مثلاً.

والقضيّة الاُولى مضمون قوله في هذا الحديث: «وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل، فمن وصف اللّه فقد حدّه». .

ص: 384


1- اُنظر شرح المقاصد، ج 2، ص 72؛ شرح المواقف، ج 8 ، ص 45.
2- اُنظر شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 .

والقضيّة الثانية مضمون قوله في هذا الحديث: «ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله». وكرّر مضمون القضيّتين بقوله: «ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود»؛ فهذه الفقرات الثلاث إشارة إلى ردّ مذهب الأشاعرة.(1)

وأمّا قوله: «ولا نعتٌ موجود» فإشارة إلى ردّ مذهب بعض المعتزلة بأنّه لو كان صفته نفس ذاته بهذا المعنى، لكان لصفته كلّ نعوته تعالى،(2) أي المحمولات المختصّة باللّه تعالى، فإنّ ذاته حينئذٍ علمه مثلاً، فعلمه عالم بكلّ شيء، وقادر على كلّ شيء، وواجب الوجود بالذات، وقيّوم ومعبود للعباد، وخالق كلّ شيء وهكذا. هذا خلف؛ لأنّا نعلم أنّه ليس لعلمه نعت فضلاً عن كلّ نعت.

وقوله: «موجود» أي معلوم لنا، أو إشارة إلى خلف آخر، أي لو(3) كان لصفته نعت، لكان كلّ من الصفة والنعت موجودا في نفسه في الخارج؛ لأنّ الصفة موجودة حينئذٍ، فإنّه لا معنى لوجود شيء بدون وجود ما يتّحد معه حقيقةً، فكذا النعت؛ لأنّه لا معنى لاتّحاد الصفة معه بدون اتّحاد النعت معه تعالى.

الرابع: أنّ قوله في نهج البلاغة: «فمن وصف اللّه فقد قرنه» إلى قوله: «فقد جهله»، غير مذكور في هذا الحديث. ومعنى قوله: «فقد ثنّاه» أنّه جعله ثاني اثنين إلهين، أي تابعا لآخَرَ في الاُلوهيّة؛ لأنّه يستحيل أن يكون المفعول إلها ولا يكون فاعله إلها أوّلاً.

ومعنى قوله: «فقد جزّأه» أنّه أعطاه شيئا قليلاً من العبادة؛ يُقال: جزّأه تجزئة: إذا أقنعه بالقليل؛ وذلك لأنّ الفاعل كما أنّه أولى بالاُلوهيّة من المفعول أكثرُ استحقاقا للعبادة من المفعول.

ومعنى قوله: «فقد جهله» أنّه لم يعرف ولم يعلم وجود اللّه ؛ لأنّ معنى اللّه من .

ص: 385


1- شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 . ونسبه للأشاعرة في المواقف ، ج 1 ، ص 437 ، و ج 3 ، ص 68 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 .
2- حكاه عنهم في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 ؛ والمواقف ، ج 1 ، ص 437 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 . وانظر معارج الفهم ، ص 389 .
3- في «ج» : «ولو» .

يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته، ولا يتصوّر أن يستحقّ المفعول عبادة الفاعل.

والكلام مبنيّ على تشبيه العلم الذي لم ينتفع به ولم يعمل بمقتضاه بالجهل، ويمكن أن يحمل على هذا البناء قوله تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّه ُ»(1).

(وَمَنْ قَالَ: كَيْفَ؟ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ). استفعل هنا لعدّ الشيء ذا كذا؛ يُقال: استقبحه: إذا عدّه ذا قبح؛ أي ومن طلب العلم بكنه ذاته تعالى فقد عدّه ذا صفة، فإنّ تجويز الكيفيّة يستلزم تجويز الصفة؛ لأنّ الكيفيّة لا يمكن إلاّ للجسم، وكلّ جسم لا يخلو عن صفة، وقد ثبت امتناع الصفة آنفا.

وفي نهج البلاغة: «ما وحّده مَن كيّفه».(2)

(وَمَنْ قَالَ: فِيمَا؟). هكذا في أكثر النسخ، والمشهور حذف الألف مع حروف الجرّ كما في نسخة هنا.

(فَقَدْ ضَمَّنَهُ). مضى شرحه في خامس الباب.

(وَمَنْ قَالَ: عَلى مَا؟ فَقَدْ حَمَّلَهُ(3))؛ بالمهملة وشدّ الميم، أي عدّه ضعيفا محمولاً؛ إذ لازمه أنّ الشيء الذي يحمله أقوى منه، كما مضى في سابع العشرين.(4)

(وَمَنْ قَالَ : أَيْنَ؟ فَقَدْ أَخْلى مِنْهُ) أي لم يعدّ نسبته إلى جميع الأمكنة على سواء.

(وَمَنْ قَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَدْ نَعَّتَهُ)؛ بالنون والمهملة والمثنّاة فوق بصيغة الماضي من باب(5) التفعيل، أي عدّ كنه ذاته قابلاً للبيان.

(وَمَنْ قَالَ إلى مَا ؟(6)) أي إلى متى وإلى أيّ زمان يكون موجودا. .

ص: 386


1- محمّد (47) : 19 .
2- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
3- في الكافي المطبوع : «ومن قال علامَ؟ فقد جَهِلَه» .
4- أي في الحديث 7 من باب العرش والكرسي .
5- في «ج» : «والمثناة ماضي باب التفعيل» بدل «والمثناة فوق بصيغة الماضي من باب التفعيل» .
6- في الكافي المطبوع : «إلا مَ» .

(فَقَدْ غَايَاهُ) أي حكم بهلاكه؛ مأخوذ من غايا القوم فوق رأسه بالسيف: إذا أظلّوا.(1)

(عَالِمٌ إِذْ لاَ مَعْلُومَ، وَخَالِقٌ إِذْ لاَ مَخْلُوقَ).

إن قلت: الخلق من صفات الأفعال، فإنّه تعالى يخلق ما يشاء دون ما لا يشاء، فهو حادث. وظاهر هذه الفقرة أنّه قديم.

قلت: لا نسلّم أنّ ظاهرها القدم؛ لأنّ معنى الخلق التدبير، والتدبير كما يكون لفعل شيء يكون لتركه.

والمراد بقوله: «إذ لا مخلوق» إذ لا مخلوق موجود في الخارج، فخلقه كان قبل حدوث العالم في التروك في كلّ وقت وقت من الأوقات الغير المتناهية في جانب الأزل، فكلّ خلقٍ حادثٌ وإن كان السلب المحض أزليّا. فالمراد أنّه كان قادرا على إيجاد المخلوق قبل الخلق في كلّ وقت وقت على حدة، ولم يكن له حالة منتظرة يتوقّف عليه الخلق، إنّما التأجيل للعلم بالمصلحة فقط، كما مضى في شرح خامس الباب عند قوله: «ولافتراق الصانع من المصنوع» إلى آخره.

(وَرَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبَ). مضى معناه في رابع الباب.

(وَكَذلِكَ يُوصَفُ رَبُّنَا ، وَ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ) له بصفات خلقه، أو بالصفات الموجودة في الخارج في أنفسها.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ وَغَيْرِهِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ)؛ بفتح المهملة، وكسر الموحّدة، وسكون الخاتمة ومهملة.

وفي القاموس: «وكأمير السبيع بن سبع أبو بطن من همدان، منهم الإمام أبو إسحاق عمرو بن عبداللّه ، ومحلّة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا».(2)

(عَنِ الْحَارِثِ الاْءَعْوَرِ، قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَوْما خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ، فَعَجِبَ .

ص: 387


1- غريب الحديث لابن سلام ، ج 1 ، ص 93 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 36 (سبع) .

النَّاسُ مِنْ حُسْنِ صِفَتِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللّه ِ جَلَّ جَلاَلُهُ؛ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لِلْحَارِثِ: أَ وَمَا حَفِظْتَهَا؟). الواو للعطف على مقدّر؛ أي أخَطَب مثل هذه الخطبة وما حفظتها؟ أو أما كتبتها وما حفظتها؟

(قَالَ: قَدْ كَتَبْتُهَا، فَأَمْلاَهَا عَلَيْنَا) أي قرأ علينا لنكتبه.

(مِنْ كِتَابِهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَلاَ يَنْقَضِي(1) عَجَائِبُهُ؛ لاِءَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ مِنْ إِحْدَاثِ بَدِيعٍ لَمْ يَكُنِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ؛ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكا). فتح الراء أقرب معنى، وكسرها أقرب لفظا للازدواج مع قوله: هالكا.

(وَلَمْ يُولَدْ؛ فَيَكُونَ مَوْرُوثا هَالِكا) أي بالإمكان.

(وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الاْءَوْهَامُ) بالإدراك الجزئي.

(فَتُقَدِّرَهُ شَبَحا مَاثِلاً). الشبح بفتح المعجمة وفتح الموحّدة ومهملة: سواد الإنسان وغيره تراه من بعد.(2) والماثل بكسر المثلّثة: القائم كالمنارة والطلول(3) ونحوها؛(4) أي جسما ممتازا عن سائر الأجسام.

(وَلَمْ تُدْرِكْهُ الاْءَبْصَارُ؛ فَيَكُونَ بَعْدَ انْتِقَالِهَا حَائِلاً). الحائل بالمهملة وكسر الهمزة: المتغيّرُ من حال إلى حال؛ أي فيمكن أن لا يكون باقيا على ما أدركته الأبصار عليه.

(الَّذِي لَيْسَتْ فِي أَوَّلِيَّتِهِ نِهَايَةٌ ، وَلاَ لاِآخِرِيَّتِهِ حَدٌّ وَلاَ غَايَةٌ). تفسيرٌ لقوله تعالى في سورة الحديد: «هُوَ الاْءَوَّلُ وَالاْآخِرُ»(5) بأنّه ليس المراد بأوّليّته وجودَه قبل وجود العالم، وبآخريّته وجودَه بعد فناء العالم قبل أن يعاد، فإنّ ذلك يوهم عدم وجوده مع وجود العالم، فيكون أوّليّته منتهيةً إلى نهاية هي مبدأ وجود العالم، ويكون لآخريّته حدّ هو .

ص: 388


1- في الكافي المطبوع : «ولا تنقضي» .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 377 (شبح) .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1816 ؛ لسان العرب ، ج 11، ص 614 (مثل) .
4- في «ج» : - «ونحوها» .
5- الحديد (57) : 3 .

منتهى وجود العالم، أو(1) غاية هي مبدأ إعادة العالم، ويكون أوّليّته قبل آخريّته؛ بل المراد بأوّليّته وآخريّته شيء واحد هو عدم تغيّره من حالٍ إلى حال.

وفي نهج البلاغة من خطبةٍ له عليه السلام : «الحمد للّه الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا»(2) إلى آخره. وفيه في خطبةٍ أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه»: «وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها» إلى قوله: «ثمّ يعيدها بعد الفناء».(3)

(الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وَقْتٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ زَمَانٌ، وَلاَ يَتَعَاوَرُهُ). التعاور: التداول والتناوب؛ من العارية.(4)

(زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِأَيْنٍ)(5) أي بما يُقال في جواب السؤال بأين.

(وَلاَ بِمَ) أي ولا بما يقال في جواب السؤال بما هو.

(وَلاَ مَكَانٍ)(6) أي ولا بمكان مطلقا وإن لم يكن مكانا معلوما لأحد.(7)

(الَّذِي بَطَنَ مِنْ خَفِيَّاتِ الاْءُمُورِ) أي ذاته ومائيّته أبطن من كلّ باطن ليس من جنس خفيّات الاُمور، بل هو غائبٌ عنها أيضا.

(وَظَهَرَ) وجوده (فِي الْعُقُولِ بِمَا يُرى)؛ بصيغة المجهول من باب منع.(8)

(فِي خَلْقِهِ مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ، الَّذِي سُئِلَتِ الاْءَنْبِيَاءُ عَنْهُ) أي عن مائيّته.

(فَلَمْ تَصِفْهُ بِحَدٍّ) أي بتمام مائيّته. .

ص: 389


1- في «ج» : «و» .
2- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
4- لسان العرب ، ج 4 ، ص 619 (عور) .
5- في «ج» : + «بفتح الهمز وكسرها وسكون الخاتمة وتنوين أي بحين أو بفتح الهمز وفتح النون» . وفي حاشية «أ» : «قوله بأين أي بحين وزمان ، بقرينة مقابلته بمكان ، كما تقدّم في شرح ثاني باب الكون والمكان (مهدي)» .
6- في «ج» : + «بالميم الزائدة» .
7- في «ج» : + «وبالميم الأصليّة ، أي ولا بمنزلة عند من هو أعلى منه ، كما توهّمه الفلاسفة الزنادقة في العقول» .
8- في «ج» : «مجهول باب منع» بدل «بصيغة المجهول من باب منع» .

(وَلاَ بِبَعْضٍ ) أي ببعض مائيّته.

(بَلْ وَصَفَتْهُ بِفِعَالِهِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ)، كما سأل فرعون موسى عليه السلام قال: «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(1).

(لاَ يَسْتَطِيعُ(2) عُقُولُ الْمُتَفَكِّرِينَ جَحْدَهُ)؛ بل جحدهم في لسانهم ولهواهم(3) مع إقرار قلبهم به، وذلك لظهور الأدلّة، لا للضروريّة، كما ترشد إليه لفظة «المتفكّرين».

(لاِءَنَّ مَنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ فِطْرَتَهُ). الفطرة بالكسر: الخلقة، وهذا وصف بالمصدر؛ أي مفطورات له.

(وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ) أي بلا شريك.

(فَلاَ مَدْفَعَ)؛ مصدر ميمي.

(لِقُدْرَتِهِ). فيه دلالة على أنّ معنى إثبات ذات الصانع إثباتُ أنّ للعالم صانعا قادرا، لا إثباتُ واجب الوجود(4) ونحو ذلك.

(الَّذِي نَأى). بالنون والهمز والألف، أي بعُد.

(مِنَ الْخَلْقِ، فَلاَ شَيْءَ كَمِثْلِهِ) أي ليس شيء من خلقه خاليا عن الصفات الموجودة في الخارج في أنفسها، كما أنّه خال، وليس هو متّصفا بصفات موجودة في الخارج في أنفسها، كما أنّ خلقه متّصفٌ بها.

(الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ لِعِبَادَتِهِ)؛ لقوله في سورة الذاريات: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(5). ولم يقل: «لعبادتهم» إيماءً إلى أنّ ضمير «يعبدون» للمؤمنين، والمشهور أنّه للجنّ والإنس.(6) .

ص: 390


1- الشعراء (26) : 23 _ 24 .
2- في الكافي المطبوع : «لا تستطيع» .
3- في «ج» : «وهواهم» .
4- في «ج» : + «بذاته» .
5- الذاريات (51) : 55 _ 56 .
6- تفسير السمرقندي ، ج 1 ، ص 580 .

(وَأَقْدَرَهُمْ عَلى طَاعَتِهِ بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ)، من الآلات وجميع ما يتوقّف عليه فعل الطاعة.

(وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ) أي الأنبياء والأئمّة، أو البراهين الهادية إلى النجدين.

(فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَبِمَنِّهِ)؛ بحرف الجرّ وفتح الميم وشدّ النون والضمير؛ أي بكرمه وإحسانه وتوفيقه.

وفي بعض النسخ «وعنه» أي وعن بيّنة، والتذكير باعتبار الدليل، أو لأنّ ما لا يكون تأنيثه حقيقيّا جاز تذكيره، كما قيل في قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَةَ اللّه ِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ»(1).(2)

وفي بعض النسخ: «وعن بيّنة» كما في توحيد ابن بابويه.(3)

(نَجَا مَنْ نَجَا). وهذا ردّ على المجبّرة الذين لم يعقلوا معنى قوله تعالى: «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ»(4) وتوهّموا أنّه لا لوم ولا محمدة عقلاً على فعل أصلاً.

(وَلِلّهِ الْفَضْلُ مُبْدِئا وَمُعِيدا) أي ليس منّه علينا باستحقاق، أو على قدر استحقاق، بل بفضله في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرة بالجنّة.

ولا يتوهّمن من ذلك إبطال قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، فإنّ الفضل لا يمكن أن يتحقّق إلاّ مع حسن ذلك الفضل، وذلك في المؤمنين. وسرّ تخصيص المؤمنين بالفضل في الدنيا ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه.

(ثُمَّ إِنَّ اللّه َ) وقوله:

(_ وَلَهُ الْحَمْدُ _) جملة معترضة.

(افْتَتَحَ الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ ). يحتمل أن يكون المراد حين ابتدأ خلق روح الإنسان حيث قال: «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّه ُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(5)؛ وذلك لأنّ الحمد هو الوصف .

ص: 391


1- الأعراف (7) : 56 .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 198 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 663 (قرب) ؛ تفسير القرطبي ، ج 7 ، ص 227 ؛ تفسير غريب القرآن للطريحي ، ص 119 .
3- التوحيد ، ص 32 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 1 .
4- الأنبياء (21) : 23 .
5- المؤمنون (23) : 14 .

بالجميل، سواء كان بلفظ الحمد أو لا. ويحتمل أن يكون المراد أنّه فتح باب الحمد وشرعه وأمر عباده به.

وفي توحيد ابن بابويه رحمه اللّه تعالى: «افتتح الكتاب بالحمد لنفسه».(1) وعلى هذا يحتمل أن يُراد به الابتداء بفاتحة الكتاب إن كان الابتداء بها في المصحف بتوقيف، ويحتمل أن يُراد به الابتداء بالبسملة، فإنّها أيضا حمدٌ كما مرَّ آنفا.

(وَخَتَمَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَمَحْلَ(2) الاْآخِرَةِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ). المحل بفتح الميم وسكون المهملة، مصدر مَحَلَ بفلان، كنصر وعلم وحسن: إذا سعى به إلى السلطان، وخاصمه وجادله عنده.(3) وهو منصوب معطوف على «أمْرَ». ولمّا كان المحل في الآخرة لاُمور وقعت في الدنيا، قارن بينهما، أي ختم ما يتعلّق بأمر الدنيا، وبالمحل في الآخرة من القضاء والحكم بالحقّ.

(فَقَالَ) في سورة الزمر:

(«وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ»(4)). في هذا الحمد من الرجاء ما لا يقدّر قدره.

(الْحَمْدُ لِلّهِ اللاَّبِسِ الْكِبْرِيَاءِ). هي العظمة والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلاّ اللّه سبحانه وتعالى.(5)

(بِلاَ تَجَسُّدٍ(6))، لدفع وهم الكبر بحسب المقدار، أو وهم اللباس.

(وَالْمُرْتَدِي بِالْجَلالِ بِلاَ تَمْثِيلٍ) أي بلا تشكّل، أو بلا قيام، وهو لدفع وهم الجلال بمعنى عدم النقص في الصورة، أو وهم الرداء. .

ص: 392


1- التوحيد ، ص 32 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 1 .
2- في الكافي المطبوع : «مَحَلَّ» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1817 ؛ النهاية ، ج 4 ، ص 303 (محل) .
4- الزمر (39) : 75 .
5- النهاية ، ج 4 ، ص 140 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 125 (كبر) .
6- في الكافي المطبوع : «تَجْسِيدٍ» .

(وَالْمُسْتَوِي عَلَى الْعَرْشِ بِغَيْرِ زَوَالٍ ). وهو لدفع أن يتوهّم من الاستواء الجلوسُ على جسم.

(وَالْمُتَعَالِي عَلَى الْخَلْقِ بِلاَ تَبَاعُدٍ مِنْهُمْ) بحسب المسافة.

(وَلاَ مُلاَمَسَةٍ مِنْهُ لَهُمْ) بالمجاورة.

لمّا كان التعالي على قسمين: الأوّل: التنزّه، والثاني: القهر والغلبة، وكان الأوّل محتاجا إلى دفع وهم بُعد المسافة، والثاني إلى دفع وهم المجاورة، ذكرهما معا.

(لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يُنْتَهى إِلى حَدِّهِ ) بصيغة المجهول.(1) والظرف نائب الفاعل، والجملة صفة «حدّ» وضع الظاهر فيها موضع الضمير. والحدّ: الطرف. وهذا لبيان قوله: «ولا ملامسة».

(وَ لاَ لَهُ مِثْلٌ؛ فَيُعْرَفَ بِمِثْلِهِ). هذا لبيان قوله: «بلا تباعد»، فالنشر على غير ترتيب اللفّ.

(ذَلَّ مَنْ تَجَبَّرَ غَيْرَهُ). «غير» هنا منصوب، وهو للاستثناء.

(وَصَغُرَ مَنْ تَكَبَّرَ دُونَهُ، وَتَوَاضَعَتِ الاْءَشْيَاءُ لِعَظَمَتِهِ، وَانْقَادَتْ لِسُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ، وَكَلَّتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ طُرُوفُ الْعُيُونِ) بالطاء والراء المهملتين(2) المضمومتين، جمع «طرف» بالكسر: الكريم الطرفين من غير الإنسان، استعير هنا لعَيْن لا ضعف فيها أصلاً.

(وَقَصُرَتْ دُونَ) أي قبل (بُلُوغِ صِفَتِهِ) أي بيان كنه ذاته، أو بيان قدر عظمته.

(أَوْهَامُ الْخَلاَئِقِ). ذكر الأوهام إشعار بأنّ العقول لا تطلبها؛ للعلم بعدم البلوغ إليها.

(الاْءَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ قَبْلَ لَهُ). أكّد لدفع توهّم أنّه قبل كلّ موجود الآنَ، فلا يلزم منه أنّه لم يكن له قبل أصلاً ممّا وجد قبل ذلك.

(وَالاْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ بَعْدَ لَهُ ) ممّا يوجد بعد ذلك.

(الظَّاهِرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِالْقَهْرِ لَهُ، وَالشَّاهِدِ(3) لِجَمِيعِ الاْءَمَاكِنِ بِلاَ انْتِقَالٍ إِلَيْهَا، لاَ تَلْمِسُهُ .

ص: 393


1- في «ج» : «مجهول ناقص باب الافتعال» بدل «بصيغة المجهول» .
2- في «ج» : «بالمهملتين» بدل «بالطاء والراء المهملتين» .
3- في الكافي المطبوع : «المُشاهد» .

لاَمِسَةٌ، وَلاَ تَحُسُّهُ حَاسَّةٌ «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الاْءَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ»(1) أَتْقَنَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الاْءَشْبَاحِ) أي الأجسام.

(كُلِّهَا). فيه دلالة على بطلان المجرّدات.

(لاَ بِمِثَالٍ سَبَقَ إِلَيْهِ). الضمير المستتر للمثال، والبارزُ للّه .

(وَلاَ لُغُوبٍ)؛ بضمّ اللام والمعجمة والموحّدة مصدر باب منع وعلم وحسن: التعب والإعياء.

(دَخَلَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لَدَيْهِ) أي لدي الخلق.

(ابْتَدَأَ مَا أَرَادَ ابْتِدَاءَهُ، وَأَنْشَأَ مَا أَرَادَ إِنْشَاءَهُ عَلى مَا أَرَادَ)؛ من الصفات والوقت.

(مِنَ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ؛ لِيَعْرِفُوا بِذلِكَ) أي بأنّهم على ما أراد اللّه ، لا على ما أرادوا.

(رُبُوبِيَّتَهُ، وَتَمَكَّنَ)؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائبة، من باب التفعّل(2) بحذف إحدى التاءين، منصوب.

(فِيهِمْ طَاعَتُهُ، نَحْمَدُهُ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ). جمع «مِحمَد» بكسر الميم الاُولى وفتح الثانية: ما يحمد به من صفات الكمال.

(كُلِّهَا). لا يمكن ذلك في اللّه تعالى إلاّ على طريق الإجمال.

(عَلى جَمِيعِ نَعْمَائِهِ). النعمة بالكسر: ما أنعم اللّه به عليك، وكذلك النُعمى بالضمّ والقصر، فإن فتحت النون مددت قلت: النعماء.(3)

(كُلِّهَا، وَنَسْتَهْدِيهِ لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا). المراشد: مقاصد الطرق؛ أي الطرق المستقيمة التي فيها الرشد والوصول إلى البغية، والطريق الأرشد أي الأقصد.

(وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَنَسْتَغْفِرُهُ لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَّا، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّا دَالاًّ عَلَيْهِ)؛ صفة «نبيّا» أو حال اُخرى. .

ص: 394


1- الزخرف (43) : 84 .
2- في «ج» : «مضارع معلوم غائبة باب التفعّل» بدل «بصيغة المضارع المعلوم للغائبة من باب التفعّل» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2041 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 580 (نعم) .

والضمير للّه ، أو حال عن اللّه ، والضمير للنبيّ، وكذا قوله:

(وَهَادِيا إِلَيْهِ، فَهَدى) أي اللّه (بِهِ)؛ أي بالرسول (مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَاسْتَنْقَذَنَا بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ)؛ ذلك بسبب ترادف الألطاف والتوفيقات، وكثرة أهل الحقّ بسببه، وليس المراد أنّه لم يكن قبل بعثته شرع وتكليف، فإنّ أهل الحقّ في شرع من قبلنا كانوا حينئذٍ أيضا على الحقّ وإن كانوا قليلين.

(«مَنْ يُطِعِ اللّه َ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزا عَظِيما»(1) وَنَالَ ثَوَابا جَزِيلاً؛ وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا، وَاسْتَحَقَّ عَذَابا أَلِيما، فَأَنْجِعُوا)؛ بالنون والجيم والمهملة، بصيغة الأمر من باب(2) الإفعال، يُقال: أنجع أي أفلح. والفاء للتفريع إشارة إلى ما في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(3)لسان العرب ، ج 2 ، ص 615 (نصح) .(4).

(بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكُمْ) أي يجب عليكم حقّا. والحقّ: الثابت.

(مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) لاُولي الأمر (وَإِخْلاَصِ النَّصِيحَةِ).

أصل النصح في اللغة: الخلوص؛ يُقال: نصحته ونصحت له.(4) ومعنى النصيحة لاُولي الأمر أن يطيعهم حقّ الإطاعة. ويجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟».(5) فإخلاص النصيحة جعل نصيحة اُولي الأمر لمحض رضا اللّه ، لا للدنيا؛ أو هو مبالغة فيها.

(وَحُسْنِ الْمُوءَازَرَةِ ). هي المعاونة وتحمّل الثقل. والوزر بالكسر: الحمل والثقل. ويسمّى الذنب وزرا لأنّه يُثقل ظهر المذنب.(6)

(وَأَعِينُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ذلّلوا أنفسكم لترك العتوّ واتّباع الهوى. وفي الدعاء: «ربِّ .

ص: 395


1- الأحزاب (33) : 71 .
2- في «ج» : «أمر باب الإفعال» بدل «بصيغة الأمر من باب الإفعال» .
3- النساء
4- : 59 .
5- الكافي ، ج 1 ، ص 403 .
6- لسان العرب ، ج 5 ، ص 282 (وزر) .

أعنّي ولا تعن عليَّ»(1) أي لا تعن خصمي عليَّ.

(بِلُزُومِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ). هي المذهب الصحيح في اُولي الأمر.

(وَهَجْرِ)؛ بفتح الهاء وسكون الجيم، مصدر باب نصر؛ أي ترك.

(الاْءُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ)، أي القبيحة، وهي المذاهب الباطلة في اُولي الأمر.

(وَتَعَاطَوُا الْحَقَّ بَيْنَكُمْ). لمّا فرغ ممّا يتعلّق باُولي الأمر، شرع فيما يتعلّق ببعضهم بالنسبة إلى بعض.

والتعاطي: التناول؛ أي استمسكوا بالحقّ بينكم.

(وَتَعَاوَنُوا). يُقال: تعاون القوم: إذا أعان بعضهم بعضا.

(بِهِ) أي بالحقّ، أو بالتعاطي؛ وذلك لأنّ تابع الحقّ في المعاملات قلّما يجادله أحد، فهو معاون لغيره على ترك الجدال.

(دُونِي) أي لئلاّ تحتاجوا إلى الترافع إليَّ.

(وَخُذُوا عَلى يَدِ الظَّالِمِ السَّفِيهِ). أمرٌ بإغاثة الملهوف وإعانة المظلوم فيما لا يحتاج إلى الرفع إلى اُولي الأمر.

(وَمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاعْرِفُوا لِذَوِي الْفَضْلِ فَضْلَهُمْ). أمرٌ بالتسليم لأهل الفضل وترك الجدال معهم باتّباع الرأي، وإشارةٌ إلى آية سورة النساء: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(2).

(عَصَمَنَا اللّه ُ وَإِيَّاكُمْ بِالْهُدى، وَثَبَّتَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى التَّقْوى، وَأَسْتَغْفِرُ اللّه َ لِي وَلَكُمْ). .

ص: 396


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2169 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 299 (عنن) .
2- النساء (4) : 54 .

الباب الثالث والعشرون: باب النوادر

الباب الثالث والعشرون بَابُ النَّوَادِرِ

وفيه أحد عشر حديثا.

المراد بالنوادر أحاديثُ لا يجمع جميعها عنوان واحد.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ النَّصْرِيِّ)؛ بفتح النون وسكون الصاد المهملة.

(قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عزَّ وجلّ) في سورة القصص:

(«كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ(1)»(2) فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ) أي المخالفون (فِيهِ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ وَجْهَ اللّه ِ). جعلوا الوجه بمعنى الجارحة أو الذات.

(فَقَالَ: سُبْحَانَ اللّه ِ! لَقَدْ قَالُوا قَوْلاً عَظِيما)؛ حيث جعلوا له جارحة، أو حيث فسّروا برأيهم الوجه بغير ما اُريد به.

(إِنَّمَا عَنى)؛ بصيغة المعلوم أو المجهول.

(بِذلِكَ وَجْهَ اللّه ِ الَّذِي يُوءْتى مِنْهُ)؛ بصيغة المجهول؛ أي المراد بالوجه الجهة التي اُمر الناس أن يسلكوا فيها إلى اللّه ، وهي الطريقة المستقيمة في سؤال اُولي الأمر وإطاعتهم. والمراد باسم الفاعل الدوام؛ أي كلّ طريق باطل إلاّ ما أمر به من الطرق.

ص: 397


1- القصص (28) : 88 .
2- في «ج» : + «الهالك : البائر والمبير ، يتعدّى ولا يتعدّى . ودار البوار : جهنم» .

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ الْجَمَّالِ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» قَالَ: مَنْ أَتَى اللّه َ بِمَا أُمِرَ بِهِ(1) مِنْ طَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ). يشمل هذا طاعة اُولي الأمر وغير ذلك من الأحكام.

(فَهُوَ) أي فما أتى به (الْوَجْهُ الَّذِي لاَ يَهْلِكُ).(2) ظاهره أنّ اسم الفاعل بمعنى الاستقبال.

(وَكَذلِكَ قَالَ:(3) «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ») أي ما في سورة النور(4) أيضا كما نحن فيه، حيث جعل فيه إطاعته إطاعة نفسه، كما جعل فيما نحن فيه وجهه وجه نفسه.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي سَلامٍ)(5)؛ بفتح المهملة وتخفيف اللام.

(النَّحَّاسِ)(6)؛ بفتح النون وشدّ المهملة ومهملة.(7)

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: نَحْنُ الْمَثَانِي الَّتِي أَعْطَاها اللّه ُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ).

المثاني جمع «مثناة» بفتح الميم وسكون المثلّثة بصيغة اسم المكان للكثرة.(8) والمراد بها آيات فيها(9) الثناء العظيم على اللّه تعالى، وليس فيها أمرٌ ولا نهي صريحا، ».

ص: 398


1- في «ج» : + «معلوم باب نصر أو مجهوله» .
2- في «ج» : + «معلوم باب ضرب أو منع أو علم ، أو مجهول باب التفعيل . الهلاك بفتح الهاء : البوار . والتهليك : عدّ الشيء هالكا» .
3- في «أ» : - «قال» .
4- النور (24) : 80 .
5- في الكافي المطبوع : «سلاّم» بتشديد اللام .
6- في الكافي المطبوع : «النخّاس» .
7- في «ج» : + «بيّاع الدوابّ والرقيق» .
8- في «ج»: «بفتح الميم أو كسرها وسكون المثلثة، اسم مكان أو اسم آلة للثناء بفتح المثلثة والمدّ» بدل «بفتح الميم وسكون» إلى هنا.
9- فى «ج»: «فيهنّ».

ومنها سورة الفاتحة وهي سبع آيات.

وقال عليّ بن إبراهيم في تفسير آية سورة الحجر: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(1)؛ يعني فاتحة الكتاب.(2)

فيمكن أن يكون المراد بهذا الحديث نحن المذكورون في قوله تعالى في سورة الفاتحة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»(3)، وصراطنا الصراط المستقيم. أو المراد نحن شروط الثناء على اللّه في الآيات المثاني، ولولا الاعتراف بإمامتنا لم يقبل الثناء على اللّه عزّ وجلّ، نظير ما يجيء في رابع الباب: «نحن واللّه الأسماء الحسنى»، ونظير ما يجيء في أوّل أوّل «كتاب فضل القرآن» في تفسير قوله تعالى في سورة العنكبوت: «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه ِ أَكْبَرُ»(4): «نحن ذكر اللّه ونحن أكبر(5)».(6)

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب في تفسير قول اللّه عزّ وجلّ: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(7)»: «معنى قوله عليه السلام : نحن المثاني أي نحن الذين قرننا النبيّ صلى الله عليه و آله إلى القرآن، .

ص: 399


1- الحجر (15) : 87 .
2- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 377 .
3- الفاتحة (1) : 5 _ 6 .
4- العنكبوت (29) : 45 .
5- في «ج» : بدل قوله : «وليس فيها أمر ولا نهي صريحا ، إلى هنا يوجد قوله : «لما فيهنّ من التوحيد الحقيقي ، وهنّ الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ؛ فإنّ المتغافل عين المتعامي عنهنّ مشترك حقيقة كشرك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ؛ والمقصود أنّه لولا نحن لما أنزل اللّه المثاني على نبينا صلى الله عليه و آله كما في آية سورة الزمر : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَ_بًا مُّتَشَ_بِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» ؛ وفي سورة الرعد : «الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ تَطْمَ_ل_ءِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَ_ل_ءِنُّ الْقُلُوبُ »؛ وفي سورة العنكبوت : «إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَ الْمُنكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . ويجي في أول «كتاب فضل القرآن» . فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال ونحن ذكر اللّه ونحن أكبر . والمراد أنّ الصلاة باعتبار اشتمالها على فاتحة الكتاب التي هي سبع من المثاني تنهى عن اتّباع أئمّة الضلالة الذين غاية دعواهم اتّباع الظنّ والاجتهاد والعدول عن الصراط المستقيم» .
6- الكافي ، ج 2 ، ص 598 ، كتاب فضل القرآن ، ح 1 .
7- القصص (28) : 88 .

وأوصى بالتمسّك بالقرآن وبنا، وأخبر اُمّته أنّا لا نفترق حتّى نرد عليه حوضَه».(1)

(وَ نَحْنُ وَجْهُ اللّه ِ)؛ فإنّهم عليهم السلام الجهة التي أمر اللّه بها.(2)

(نَتَقَلَّبُ فِي الاْءَرْضِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) أي بينكم. وأصله في الإقامة بين القوم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، ومعناه أنّ ظهرا منهم قدّامه، وظهرا وراءه، وظهرا على يمينه، وظهرا على شماله، فهو مكنون من جوانبه، ثمّ كثر حتّى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا.

(وَنَحْنُ عَيْنُ اللّه ِ فِي خَلْقِهِ). العين: الإنسان، وخيار الشيء، والديدبان، والجاسوس؛ وأنّهم عليهم السلام أكمل أفراد الإنسان، وخيار خلق اللّه ، والحافظون لدين اللّه ، وأشهاد يوم القيامة.

(وَيَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ بِالرَّحْمَةِ عَلى عِبَادِهِ) أي نعمته؛ فإنّهم عليهم السلام وسيلة بقاء العباد، وكلّ نعمة من اللّه للعباد.

(عَرَفَنَا(3))؛ بفتح الراء والفاء.

(مَنْ عَرَفَنَا)؛ بفتح الراء والفاء أيضا.

(وَجَهِلَنَا(4))؛ بكسر الهاء وفتح اللام.

(مَنْ جَهِلَنَا)؛ بكسر الهاء وفتح اللام أيضا.

(وَإِمَامَةَ الْمُتَّقِينَ)؛ بالنصب معطوف على الضمير كالعطف في قولنا: أعجبني زيد وعلمه.

وفي توحيد ابن بابويه في «باب تفسير قول اللّه عزّ وجلّ: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»: «ومن جهلنا فأمامه اليقين».(5) .

ص: 400


1- التوحيد ، ص 151 ، باب تفسير قول اللّه : «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» ، ح 6 . وفيه : «فأخبر اُمّته بأن» بدل «وأخبر اُمّته أنّا» .
2- في «ج» : + «كما مرّ في أوّل الباب وثانيه» .
3- في الكافي المطبوع : «عَرَفْنا» بسكون الفاء .
4- في الكافي المطبوع : «وجَهِلْنا» بسكون اللام .
5- التوحيد ، ص 150 ، باب تفسير قول اللّه : «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» ، ح 6 .

الرابع: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى جَمِيعا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدَانَ)؛ لقب واسمه عبد الرحمن،(1) وهو بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة: نبت من أفضل المرعى وله شوك؛ وبضمّ السين: اسم للإسعاد.(2)

(بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأعراف:

(«وَلِلَّهِ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا»(3) قَالَ : نَحْنُ _ وَاللّه ِ _ الاْءَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي لاَ يَقْبَلُ اللّه ُ مِنَ الْعِبَادِ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَتِنَا) أي نحن كالأسماء الحسنى التي لا يقبل الدعاء إلاّ بها، بمعنى أنّ معرفتنا شرط قبول معرفة اللّه بأسمائه الحسنى ودعائه بها وسائر الأعمال.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ صَبَّاحٍ،(4) قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ خَلَقَنَا، فَأَحْسَنَ خَلْقَنَا؛ وَصَوَّرَنَا، فَأَحْسَنَ صُوَرَنَا؛ وَجَعَلَنَا عَيْنَهُ فِي عِبَادِهِ، وَلِسَانَهُ النَّاطِقَ فِي خَلْقِهِ)، لأنّهم يعبّرون عن اللّه .

(وَيَدَهُ الْمَبْسُوطَةَ عَلى عِبَادِهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَوَجْهَهُ الَّذِي يُوءْتى مِنْهُ، وَبَابَهُ الَّذِي يَدُلُّ)؛ بصيغة المعلوم.

(عَلَيْهِ، وَخُزَّانَهُ فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ) أي نزول المنافع من السماء وإخراج الأرض منافعها بوسيلتنا.

(بِنَا أَثْمَرَتِ الاْءَشْجَارُ). استئنافٌ بياني.

(وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ) أي نضجت.

(وَجَرَتِ الاْءَنْهَارُ؛ وَبِنَا يَنْزِلُ غَيْثُ السَّمَاءِ ، وَيَنْبُتُ عُشْبُ الاْءَرْضِ؛ وَبِعِبَادَتِنَا عُبِدَ اللّه ُ)؛».

ص: 401


1- رجال النجاشي ، ص 192 ، الرقم 515 ؛ الفهرست ، ص 140 ، الرقم 1 ؛ إيضاح الاشتباه ، ص 199 .
2- لسان العرب ، ج 3 ، ص 216 (سعد) .
3- الأعراف (7) : 180 .
4- في هامش النسختين: «صالح. خ».

بصيغة المجهول، أي المعتنى بها عبادتنا.

(وَلَوْ لا نَحْنُ مَا عُبِدَ اللّه ُ)؛ بصيغة(1) مجهول باب نصر، أو معلوم باب التفعيل. والمراد: لم يكن مكلّف ولا تكليف، أو المراد: لم يكن اللّه معبودا حقّ عبادته، فكأنّ عبادة غيرنا معدوم، أو المراد أنّ عبادة شيعتنا لاتّباعنا، وغيرهم ليسوا عابدين أصلاً.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الزخرف:

(«فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا). يُقال: أسف عليه كعلم أسفا، أي غضب. وآسفه، أي أغضبه.

(انتَقَمْنَا مِنْهُمْ»(2) فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لاَ يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا، وَلكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ ، وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ؛ لاِءَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ، وَالاْءَدِلاَّءَ عَلَيْهِ، فَلِذلِكَ صَارُوا كَذلِكَ) أي لجعله إيّاهم الدُّعاةَ جعل رضاهم رضا نفسه.

(وَلَيْسَ أَنَّ)؛ بفتح الهمز وشدّ النون؛ أي وليس معناه أنّ.

(ذلِكَ) أي الأسف (يَصِلُ إِلَى اللّه ِ كَمَا يَصِلُ إِلى خَلْقِهِ) أي ليس إذا أسفوا أسف اللّه لأسفهم كما يأسف المحبّ المخلوق يأسف المحبوب.

(لكِنْ هذَا مَعْنى مَا قَالَ مِنْ ذلِكَ) أي من ذلك النوع؛ فهو مجاز في الإسناد فيه، وفي كلّ كلام شبه ذلك.

(وَقَدْ قَالَ ) في الحديث القدسي:

(مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَدَعَانِي إِلَيْهَا. وَقَالَ) في سورة النساء(3):

(«مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(4)) أي إطاعته كإطاعته. ويمكن هنا الحمل على .

ص: 402


1- في «ج» : - «بصيغة» .
2- الزخرف (43) : 55 .
3- في المخطوطتين : «سورة النور» وهو سهو .
4- النساء (4) : 80 .

الحقيقة أيضا، لكن هذا المجاز أبلغ.

(وَقَالَ) في سورة الفتح:

(«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1)). جعل يد الرسول كيَد نفسه.

(فَكُلُّ هذَا وَشِبْهُهُ عَلى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَهكَذَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الاْءَشْيَاءِ(2) مِمَّا يُشَاكِلُ ذلِكَ) أي جميعها مجازات.

(وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إِلَى اللّه ِ الاْءَسَفُ وَالضَّجَرُ)؛ محرّكةً: القلق من الغمّ.

(_ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَأَنْشَأَهُمَا _ لَجَازَ لِقَائِلِ هذَا) القول (أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْخَالِقَ يَبِيدُ) أي يهلك.

(يَوْما مَا) أي لم يكن مضمون كلامه ممتنعا بالذات.

(لاِءَنَّهُ إِذَا دَخَلَهُ الْغَضَبُ وَالضَّجَرُ، دَخَلَهُ التَّغَيُّرُ ، وَإِذَا دَخَلَهُ التَّغَيُّرُ لَمْ يُوءْمَنْ(3) عَلَيْهِ الاْءِبَادَةُ) أي الإهلاك، فإنّ كلّ متغيّر حادث؛ لما مرّ في خامس «باب جوامع التوحيد» وكلّ حادثٍ ممكن الوجود والعدم.

(ثُمَّ لَمْ يُعْرَفِ)؛ بصيغة مجهول باب ضرب.

(الْمُكَوِّنُ)؛ بكسر الواو.

(مِنَ الْمُكَوَّنِ )؛ بفتح الواو، أي يلزم أن يكون محدث الأشياء محدثا؛ لما مرّ آنفا من أنّه يلزم حدوثه.

(وَلاَ الْقَادِرُ) على كلّ شيء.

(مِنَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلاَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ). ظاهرٌ ممّا مرّ آنفا.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ عُلُوّا كَبِيرا؛ بَلْ هُوَ الْخَالِقُ لِلاْءَشْيَاءِ لاَ لِحَاجَةٍ) إلى عبادتهم. .

ص: 403


1- الفتح (48) : 10 .
2- في «ج»: - «من الأشياء».
3- في «ج» : «تؤمن» .

(فَإِذَا كَانَ لاَ لِحَاجَةٍ، اسْتَحَالَ الْحَدُّ) أي أن يتحدّد زمان وجوده بحسب حدود أزمنة الصفات المتعاقبة، كما مرّ في سادس «باب جوامع التوحيد».

(وَالْكَيْفُ فِيهِ) أي الصفة الموجودة في الخارج في نفسها. ويحتمل أن يكون اللام في الحدّ والكيف للعهد؛ أي الأسف والضجر، والاستدلال بعدم الحاجة عليه؛ لأنّ الأسف والضجر إنّما يعرض لمن يخاف فوت نفع له يحتاج إليه، وأمّا من لا حاجة له إلى شيء ولا يخاف فوت شيء، فيمتنع اتّصافه بهما.

(فَافْهَمْ إِنْ شَاءَ اللّه ُ تَعَالى).

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَسْوَدَ بْنِ سَعِيدٍ ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ _ ابْتِدَاءً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْأَلَهُ _ : نَحْنُ حُجَّةُ اللّه ِ ، وَنَحْنُ بَابُ اللّه ِ، وَنَحْنُ لِسَانُ اللّه ِ، وَ نَحْنُ وَجْهُ اللّه ِ، وَنَحْنُ عَيْنُ اللّه ِ فِي خَلْقِهِ). متعلّقٌ بالجميع، أو بالأخير.

(وَ نَحْنُ وُلاَةُ أَمْرِ اللّه ِ فِي عِبَادِهِ). الولاة بضمّ الواو جمع «الوالي» بمعنى المتولّي . والأمر: الشأن؛ أي نحن خلفاء اللّه في عباده، حكمنا كحكمه.

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَسَّانَ)؛ بفتح الحاء المهملة، وشدّ السين المهملة.(1)

(الْجَمَّالِ)؛ بفتح الجيم، وشدّ الميم.

(قَالَ : حَدَّثَنِي هَاشِمُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ الجِيْبِي(2))؛ نسبة إلى جيب بكسر الجيم وسكون الخاتمة والموحّدة: حصنين بين القدس ونابلس.(3)

(قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: أَنَا عَيْنُ اللّه ِ، وَأَنَا يَدُ اللّه ِ، وَأَنَا جَنْبُ اللّه ِ). مرّ تفسيره بُعيدَ هذا. .

ص: 404


1- في «ج» : «بفتح المهملة وشدّ الثانية» بدل «بفتح الحاء المهملة وشدّ السين المهملة» .
2- في الكافي المطبوع : «الجَنْبِي» .
3- تاج العروس ، ج 1 ، ص 390 (جيب) .

(وَأَنَا بَابُ اللّه ِ) أي لا يمكن الوصول إلى اللّه إلاّ من جهتي، كما لا يمكن الوصول إلى بلد أو دار إلاّ من بابه.

التاسع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ)؛ بفتح الموحّدة، وكسر المعجمة، وسكون الخاتمة، ومهملة.

(عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ: عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الزمر:

(«يَ_حَسْرَتَى عَلَى مَافَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ»(1) قَالَ: جَنْبُ اللّه ِ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، وَكَذلِكَ مَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الاْءَوْصِيَاءِ بِالْمَكَانِ)؛ الظرف خبر «كان».

(الرَّفِيعِ) أي بمكان العصمة والإمامة.

(إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ الاْءَمْرُ إِلى آخِرِهِمْ). فإنّه يكون الدين واحدا ولا تفريط حينئذٍ، أو المراد أنّ الآخر أيضا كذلك قبل استقرار الدين.

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب معنى جنب اللّه عزّ وجلّ»:

الجنب: الطاعة في لغة العرب، يُقال: هذا صغير في جنب اللّه ؛ أي طاعة اللّه عزّ وجلّ؛ فمعنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : «أنا جنب اللّه » أي أنا الذي ولايتي طاعة اللّه ، قال اللّه عزّ وجلّ: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِى جَنْبِ اللّه ِ»(2) أي في طاعة اللّه عزّ وجلّ.(3)

العاشر: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الصَّلْتِ)؛ بفتح المهملة وسكون اللام والمثنّاة فوق.

(عَنِ الْحَكَمِ وَإِسْمَاعِيلَ ابْنَيْ حَبِيبٍ، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: بِنَا عُبِدَ اللّه ُ، وَبِنَا عُرِفَ اللّه ُ، وَبِنَا وُحِّدَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَمُحَمَّدٌ حِجَابُ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى) .

ص: 405


1- الزمر (39) : 56 .
2- الزمر (39) : 56 .
3- التوحيد ، ص 165 ، ح 2 .

أي رسوله.

الحادي عشر: (بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بِشْرٍ)؛ بكسر الموحّدة، وسكون المعجمة، والمهملة.

(عَنْ مُوسَى بْنِ قَادِمٍ)؛ بالقاف، وكسر المهملة.

(عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأعراف، وهي مكيّة:

(«وَ مَا ظَ_لَمُونَا وَ لَ_كِن كَانُوآاْ أَنفُسَهُمْ يَظْ_لِمُونَ»(1)). يُقال: ظلمه حقَّه: إذا أخذه جبرا. وأصله وضع الشيء في غير موضعه. ومعنى الكلام: أنّهم ظلمونا ولكن كان ظلمهم إيّانا راجعا في الحقيقة إلى ظلمهم أنفسهم؛ لأنّ دائرته ترجع إليهم.

(قَالَ: إِنَّ اللّه َ تَعَالى أَعْظَمُ وَأَعَزُّ وَأَجَلُّ وَأَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُظْلَمَ)؛ بصيغة المجهول.

(وَلكِنَّهُ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ) أي جعل الأمر المنسوب إلينا منسوبا إلى نفسه من باب المجاز في الإسناد؛ أو المراد أنّه أدخلنا مع نفسه في ضمير المتكلِّم مع الغير.

(فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ، وَوَلاَيَتَنَا وَلاَيَتَهُ). الولاية بفتح الواو وكسرها: السلطان والنصرة، أي حكومتنا وتولّينا لأمر الإمامة حكومته.

(حَيْثُ يَقُولُ) في سورة المائدة، وهي مدنيّة:

(«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ»(2)) أي الحاكم عليكم هؤلاء. لمّا كان حكومة الرسول والأئمّة بأمر اللّه خلط نفسه بهم.

(يَعْنِي) من الذين آمنوا (الاْءَئِمَّةَ مِنَّا): من أهل البيت.

(ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(3)) أي قال في سورة البقرة، وهي مدنيّة. .

ص: 406


1- الأعراف (7) : 160 .
2- المائدة (5) : 55 .
3- البقرة (2) : 57 .

والتراخي بالنسبة إلى ما في سورة الأعراف، فإنّ نزول سورة البقرة قبل نزول سورة المائدة.

(ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ) أي ذكر اللّه في سورة النساء مثل ما في سورة المائدة في قوله: «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ».(1) والتراخي بالنسبة إلى ما في سورة البقرة، أو إلى ما في سورة المائدة أيضا، فإنّ نزول سورة النساء قبل نزول سورة المائدة في رواية، وبعدها في رواية اُخرى رواهما صاحب مجمع البيان في تفسير سورة الإنسان.(2)

والحاصل أنّ نسبة اللّه تعالى المظلوميّة إلى نفسه في سورتي الأعراف والبقرة مبنيّة على خلطنا بنفسه؛ نظير أنّ إثباته الولاية لنفسه ولرسوله في سورة المائدة، وأمره تعالى بإطاعة اللّه وإطاعة رسوله في سورة النساء مبنيّان على خلطنا بنفسه وبرسوله، فإنّ إثباته الولاية لنفسه ولرسوله في القرآن كتحصيل الحاصل، وكذا أمره بإطاعة نفسه وإطاعة رسوله.

فمراده تعالى تأكيد الأمر باتّباع اُولي الأمر بأنّ ولاية اُولي الأمر بعد الرسول ولاية اللّه وولاية رسوله، وإطاعة اُولي الأمر(3) بعد الرسول إطاعة اللّه وإطاعة رسوله.

وإنّما خصَّ بالذكر الخلطَ في إثبات الولاية والخلط في الأمر بالإطاعة لأنّهما مقتضيان للخلط في المظلوميّة في سورة إنكار الولاية وترك الإطاعة.ا.

ص: 407


1- النساء (4) : 59 .
2- مجمع البيان ، ج 10 ، ص 211 .
3- في «ج» : - «بأنّ ولاية اُولي الأمر» إلى هنا.

الباب الرابع والعشرون: باب البداء

الباب الرابع والعشرون بَابُ الْبَدَاءِ

فيه سبعة عشر حديثا.

وهذا الباب للردّ على اليهود والفلاسفة وبعض المتكلِّمين.

والبداء بفتح الموحّدة والمهملة والمدّ، في اللغة مصدر قولك: بدا له في هذا الأمر يبدو، أي نشأ له فيه رأي.(1)

والمراد به هنا تجدّد أثره تعالى باعتبار الصدور عنه بالقدرة؛ أي أن تكون الأفعال الصادرة عنه تعالى المترتّبة زمانا مترتّبة أيضا من حيث إنّها صادرة عنه بحسب ذلك الترتيب الزماني، وهو تعالى قادر على تغيير الترتيب، وعلى عدم إمضاء ما دبّر على ما دبّر، وإن كان ذلك التغيير وعدم الإمضاء ممتنعا امتناعا لاحقا. وحقيقة القدرة التمكّن من الشيء وتركُه، وقد يعبّر عنها بصحّة الفعل والترك، وقد تُطلق القدرة على كون الشخص بحيث إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل.(2)

وليس مرادنا هنا هذا المعنى، والقدرة بالمعنى الأخير تتعلّق بالمحال بالذات أيضا.

إن قلت: كيف صحّ أن يسمّى هذا بداءً؟

قلت: السبب في صحّته أنّه إذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهما في قدرته عليهما على السواء، ولكلّ منهما داعٍ مختصّ به، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر،

ص: 408


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2278 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 27 (بدا) .
2- اُنظر المسلك في اُصول الدين ، ص 42 ؛ الأسرار الخفيّة للعلاّمة ، ص 524 ؛ معارج الفهم ، ص 234 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 3 ، ص 9 .

فجعل صرفه عنه كنقله منه بحدوث رأي، وهذا كما صحّ أن تقول: سبحان من صغّر جسم البعوض، وكبّر جسم الفيل، وقولك للحفّار: ضيّق فم الركيّة، ووسّع أسفلها، وليس ثَمَّ نقل من كِبَر إلى صِغَر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من سعة إلى ضيق، ولا من ضيق إلى سعة، وإنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات بالقدرة بمعنى صحّة الفعل والترك.

وقيل: معنى البداء للّه تعالى أن يتجدّد عنه أثر لم يعلم أحد من خلقه قبل صدوره عنه أنّه يصدر عنه. انتهى.(1)

وهذا بعض إطلاقاته، وإنّما يطلق عليه بقرينة، كما في تاسع الباب.

وقد يُطلق البداء له تعالى على تجدّد أثر لم يعلم بعض خلقه قبل صدوره أنّه يصدر عنه، وإنّما يطلق عليه البداء بالنسبة إلى هذا البعض.

وربّما اعتبر في البداء ظنّه بأنّه لا يصدر، ومن نسب إلينا من مخالفينا إثباتَ بداء الندامة للّه تعالى، فقد غفل أو تغافل.

ومذهب اليهود نفي البداء عن اللّه تعالى؛ قالوا: إنّ اللّه تعالى فرغ من الأمر، وليس كلّ يومٍ هو في شأن، ويد اللّه مغلولة، وكذلك الزنادقة الفلاسفة(2) قالوا: إنّ اللّه أوجد جميع معلولاته دفعةً واحدة دهريّة لا تترتّب باعتبار الصدور عنه، بل إنّما ترتّبها في الزمان فقط، كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زمانا في الزمان، إنّما ترتّبها في المكان فقط.

وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني في ترجمة النظّام من المعتزلة:

من مذهبه إنّ اللّه تعالى خلق الموجودات دفعةً واحدة على ما هي عليه الآنَ معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، لم يتقدّم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أنّ اللّه تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدّم والتأخّر إنّما يقع في ظهورها من مَكامِنِها دون حدوثها ووجودها. انتهى.(3) .

ص: 409


1- في حاشية «أ» : «ا م ن» منه . والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشية على اُصول الكافي .
2- في «ج» : + «الذين قالوا : الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد والذين» .
3- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 56 .

ولمنكري البداء شُبه:

الاُولى: أنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال، فجميع الأزمنة والزمانيّات مجتمعة في الدهر، فهي غير مترتّبة في الصدور عنه تعالى، وغير متخلّفة عن علمه، والقول بالبداء يتضمّن الترتّب في الصدور.

والجواب أوّلاً: منع استحالة التخلّف، وثانيا: منع أنّ استحالة التخلّف يستلزم الاجتماع في الدهر، بل إنّما يستلزم كون ذاته تعالى واجب الإفضاء إلى الزمانيّات وجوبا سابقا.

الثانية: أنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال؛ فذاته تعالى واجب الإفضاء إلى كلّ حادث وجوبا سابقا، فليس تعالى قادرا على تغيير الترتيب، والقول بالبداء يتضمّن قدرته على تغيير الترتيب.

والجواب: منع استحالة التخلّف، وأمّا منع استلزام استحالة التخلّف لعدم قدرته على تغيّر الترتيب، فمكابرة.

الثالثة: أنّ القول بالبداء لمّا اشتمل على القول بترتّب الحوادث الزمانيّة في الصدور عن فاعلها، استلزم التغيّر في علمه تعالى بالحوادث الزمانيّة؛ لأنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد غير العلم بوجوده حين يوجد، وهو محال.

والجواب: أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد ليس غير العلم بوجوده حين يوجد، فإنّ الترتّب إنّما يستلزم التغيّر في المعلوم لا في العلم.

الرابعة: أنّ القول بالبداء لمّا اشتمل على قدرته تعالى على تغيير الترتيب، والتغييرُ ملزوم لانقلاب علمه تعالى جهلاً، استلزم قدرته تعالى على قلب علمه الأزلي جهلاً، وهو محال.

والجواب: منع أنّ التغيير ملزوم لانقلاب علمه تعالى جهلاً؛ بل ملزوم لكون علمه علما بترتيب آخر، وهو ليس بممتنع. وسرّه أنّ المقدّم على شيء زمانا إذا كان تابعا له، كان كالمجتمع معه، بل كالمؤخّر عنه. وقد بيّنّا تفصيل الأجوبة في محلّه في حواشينا على عدّة الاُصول.

ص: 410

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ)؛ بفتح المثلّثة، وسكون المهملة، وفتح اللام، وموحّدة.

(عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَحَدِهِمَا عليهماالسلام ، قَالَ: مَا عُبِدَ)؛ بصيغة مجهول باب نصر، أو معلوم باب التفعيل.

(اللّه ُ بِشَيْءٍ مِثْلِ الْبَدَاءِ) أي مثل التصديق بالبداء والإذعان له؛ وذلك لأنّ إنكار البداء يتضمّن القول بعدم قدرته تعالى على تغيير الترتيب؛ لوجوب صدور كلّ ما صدر عنه بالوجوب السابق، وذلك يستلزم أن لا يكون اللّه تعالى مستحقّا للمحمدة، فضلاً عن العبادة وطلب الحاجة المأمور به في قوله تعالى في سورة الفرقان: «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ»(1)؛ فالتصديق بالبداء عبادة هي أصل كلّ عبادة.

الثاني: (وَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا عُظِّمَ)؛ بصيغة المجهول. وتعظيمه تعالى: الإقرار بقدرته الكاملة على كلّ شيء.

(اللّه ُ بِمِثْلِ الْبَدَاءِ) أي بمثل القول بالبداء فإنّ إنكار البداء يستلزم القول بعدم قدرته تعالى، فالقول به تعظيم هو أصل كلّ تعظيم.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَحَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ)؛ بفتح الموحّدة وسكون المعجمة وفتح المثنّاة فوق ومهملة، منسوب إلى البخترة، وهي مِشْيةٌ حسنة.(2)

(وَغَيْرِهِمَا: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام ، وهو كلام الراوي عنه.

(فِي هذِهِ الاْآيَةِ) في سورة الرعد:

(«يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَ يُثْبِتُ») أي في تفسيرها. ومجموع الآية هكذا: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ لِكُلِّ أَجَلٍ .

ص: 411


1- الفرقان (25) : 77 .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 48 ؛ تاج العروس ، ج 6 ، ص 62 (بختر) .

كِتَابٌ * يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ».(1) وهذه الآية لبيان أنّه إذا وقع الاختلاف من جهة أهل الأزواج والذرّيّة ونحو ذلك في الإمام بعد الرسول يجب الرجوع إلى اُمّ الكتاب، فإنّه يظهر به الإمام الحقّ في كلّ زمان إلى يوم القيامة.

(قَالَ) أي الراوي عنه عليه السلام ، وهو كلام ابن أبي عمير،(2) وزيادته للإشارة إلى أنّه أسقط بعضٌ الرواية، وهو ما قاله عليه السلام في التفسير.

ويحتمل أن يكون الساقط بيانَ أنّ المراد بآية وصيّ رسول، وبيانَ أنّ المراد بأجل زمان شريعة على حدة، وتلك الشرائع ستّ: شريعة آدم، وشريعة نوح، وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمّد صلّى اللّه عليهم؛ وبيانَ أنّ المراد بكتاب نحو التوراة والإنجيل والقرآن، وبيانَ أنّ المراد بالمحو ما يشمل نسخ بعض أحكام اللّه تعالى، والمرادَ بالإثبات ما يشمل الإتيان بالناسخ من أحكامه تعالى، وبيانَ أنّ المراد أنّ اُمّ الكتاب محفوظٌ عنده؛ أي لا يتعلّق به نسخ في شريعة من شرائع الرُّسل، وهو عبارة عن المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة، كما في سورة آل عمران: «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ»(3) ومضى بيانه في شرح ثاني عشر أوّل «كتاب العقل».

وقد يُطلق اُمّ الكتاب على قاطبة ظرف نفس الأمر؛ أي ظرف ثبوت محكيّ كلّ قضيّة حقّة، وكلّ معدوم في الخارج، ويجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى في «كتاب الحجّة» في شرح ثالث الرابع والأربعين، وهو «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام ».

(فَقَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام وهو كلام الراوي عنه. .

ص: 412


1- الرعد (13) : 38 _ 39 .
2- المراجع لصدر الرواية يرى أنّ الراوي مباشرة عن الإمام عليه السلام هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما ، لا ابن أبي عمير .
3- آل عمران (3) : 7 .

(وَهَلْ يُمْحى)؛ بصيغة مجهول باب نصر.

(إِلاَّ مَا كَانَ ثَابِتا؟) أي موجودا.

(وَهَلْ يُثْبَتُ)؛ بصيغة مجهول باب الإفعال. والإثبات: التكوين.

(إِلاَّ مَا لَمْ يَكُنْ؟) أي إلاّ غير الموجود قبله.

وحاصله أنّ الآية دالّة على تجدّد آثاره تعالى باعتبار صدورها عنه، وأنّ ذلك التجدّد بمشيئته وقدرته، وبعلمه المحيط بحسن كلّ حَسَن، وقبح كلّ قبيح.

الرابع: (عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا بَعَثَ اللّه ُ نَبِيّا حَتّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ خِصَالٍ). يُقال: أخذه عليه: إذا شرطه عليه. والخصلة بفتح المعجمة وسكون المهملة: الصفة الجميلة.

(الاْءِقْرَارَ)؛ بالنصب، أي التصديق والإذعان، وهو الخضوع والانقياد والطوع للشيء.

(بِالْعُبُودِيَّةِ(1))؛ بضمّ المهملة [و] الموحّدة وسكون الواو وكسر المهملة وشدّ الخاتمة: الخشوع والذلّ عند اللّه تعالى.

(وَخَلْعِ)؛ بالجرّ عطف على «العبوديّة»، يُقال: خلع زيد ثوبه كمنع خلعا بفتح المعجمة وسكون اللام، أي نزع. والمراد الإقرار بخلع اللّه تعالى.

(الاْءَنْدَادِ)؛ جمع «ندّ» بكسر النون، وهو المِثْل.

والخلع هنا يحتمل معنيين: الأوّل: أن يكون مجازا عن أنّه ليس له تعالى ندّ. الثاني: نهيه تعالى عن أن يعبد غيره فيجعل ندّا له.

وعطف «خلع» على «الإقرار» وجعله صفة للعبد أي الكفر بالأنداد، لا يلائم قوله:

(وَأَنَّ اللّه َ)؛ فإنّه معطوف على العبوديّة.

(يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ، وَيُوءَخِّرُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخَّر وأخّر المقدَّم. ولم يخرج الحوادث بمجرّد علمه بالمصلحة في الترتيب والنظام الذي دبّر الأشياء عليه عن قدرته تعالى على تغيير الترتيب، كما يجيء فيما قبل آخر «باب طينة المؤمن والكافر» .

ص: 413


1- في الكافي المطبوع : «له بالعبوديّة» .

من «كتاب الإيمان والكفر». وذلك لأنّ الوجوب بالنسبة إلى العلم والتدبير وجوب لاحق، لا سابق؛ فهذا يدلّ على تجدّد الحوادث باعتبار صدوره عنه مع قدرته، وإلاّ لم يكن قادرا على تغيير الترتيب.

وفي بعض النسخ «من يشاء» بدل «ما يشاء» في الموضعين، وهو كقوله تعالى: «تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ»(1)الأنعام (6) : 2 .(2). وينبغي إرجاعه في هذا المقام إلى ما يناسب ما ذكرنا.

إن قلت: يجيء في «كتاب الحجّة» في الثالث والعشرين من «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله » من أبواب التاريخ: «أنّ عبد المطّلب أوّل من قال بالبداء».(3)

قلت: لعلّ المراد أنّه أوّل من استعمل هذه اللفظة في غير معناها اللغوي، أي في اللّه تعالى؛ أو أوّل من عرفه بدون توقيف.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأنعام:

(«قَضَىآ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ»(3)؟ قَالَ : هُمَا أَجَلاَنِ: أَجَلٌ مَحْتُومٌ، وَأَجَلٌ مَوْقُوفٌ). الأجل: عمر الإنسان ونحوه.

والمراد أنّ الأوّل محتوم؛ لأنّه قضى، وإذا قضى اللّه شيئا أمضاه، فلم يبق له تعالى فيه البداء وصار مبرما، كما يجيء في آخر الباب وذلك لأنّه لمن مضى، والقدرة على ما مضى غير معقول.

والثانيَ موقوف؛ لأنّه لمن بقي ولمن يأتي. والمراد بالموقوف ما لم يُقض بعدُ، ولكنّه مسمّى، أي معيّن في علم اللّه أنّه سيقع، وما لم يقع بعدُ لم يخرج عن القدرة. و«مسمّى» وصفٌ للمبتدأ النكرة، والظرف خبر، أو خبرٌ والظرف متعلّق به.

والمقصود أنّ الفرق بين الأجلين بذلك يدلّ على البداء، وإلاّ فكلّ من الأجلين محتوم. .

ص: 414


1- آل عمران
2- : 26 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 447 ، ح 23 .

السادس: (أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ)(1)؛ نسبةً إلى جهينة _ بضمّ الجيم وفتح الهاء _ : قبيلة.(2)

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَ لَمْ يَرَ الاْءِنسَ_نُ أَنَّا خَلَقْنَ_هُ مِن قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْ_ءًا). في سورة مريم: «أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ»(3)؛ فهذا نقل بالمعنى، أو قراءة غير مشهورة.

(فَقَالَ:(4) لاَ مُقَدَّرا وَلاَ مُكَوَّنا). ظاهر تقديم نفي التقدير على نفي التكوين أنّ المراد بالتقدير ما هو حين تمام أعضائه وشقّ سمعه وبصره ونحو ذلك ممّا هو قُبَيْلَ نفخ الروح فيه، وأنّ المراد بالتكوين جعله في قرارٍ مكين حين كونه نطفة.

(قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ : «هَلْ أَتَى عَلَى الاْءِنسَ_نِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْ_ءًا مَّذْكُورًا»(5) فَقَالَ: كَانَ مُقَدَّرا غَيْرَ مَذْكُورٍ). يعني أنّ النفي راجع إلى القيد، والاستفهام للتقرير، فيرجع إلى معنى «قد».

والمراد بالمذكور الذي ينسب إليه فعل، فكونه مذكورا إنّما هو بعد نفخ الروح فيه، وظهور حركاته في الرحم لاُمّه.

دلالة هذا الحديث على البداء باعتبار دلالته على أنّ بالنسبة إليه تعالى حالاً وماضيا ومستقبلاً، ودلالته على صدور خلق الإنسان عنه بعد أن لم يكن شيئا بتكوينه ثمّ تقديره ثمّ جعله مذكورا بنفخ الروح فيه مترتّبا باعتبار الصدور عنه تعالى.1.

ص: 415


1- هو مالك بن أعين الجهني ، ترجمته في نقد الرجال ، ج 4 ، ص 79 ، الرقم 4315 ؛ معجم رجال الحديث ، ج 15 ، ص 161 ، الرقم 9816 .
2- مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 571 .
3- مريم (19) : 67 .
4- في الكافي المطبوع : «قال : فقال» .
5- الإنسان (76): 1.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ)؛ الفاء للتفصيل.

(عِنْدَ اللّه ِ مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ)؛ من باب الإفعال.

(عَلَيْهِ أَحَدا مِنْ خَلْقِهِ؛ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ)؛ من باب التفعيل.

(مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ) أي بحيث لا يكون فيه احتمال تعليقٍ بشرط ونحوه، فإنّه ينافي علمهم.

(فَمَا عَلَّمَهُ مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ) أي على وفق اعتقادهم.

(لاَ يُكَذِّبُ)؛ من باب التفعيل.

(نَفْسَهُ) في إخباره للملائكة.

(وَلاَ مَلاَئِكَتَهُ) في تبليغهم إلى الأنبياء.

(وَلاَ رُسُلَهُ) في تبليغهم إلى الناس.

(وَعِلْمٌ عِنْدَهُ مَخْزُونٌ، يُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخّر في اعتقاد غيره.

(وَيُوءَخِّرُ(1) مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أخّر المقدّم في اعتقاد غيره.

(وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أوجد ما اعتقد غيرُه أنّه لا يوجده. وليس المقصود الفرق بين العلمين بخروج المعلوم الأوّل عن قدرته تعالى وعن أن يكون له فيه البداء،دون الثاني؛ بل المقصود أنّه لا يقبح عنه تعالى أن يخالف اعتقاد غيره في الثاني، دون الأوّل؛ فإنّ المخالفة فيه قبيح.

ودلالة الحديث على البداء باعتبار دلالته على أنّ كلاًّ من التقديم والتأخير والإيجاد متجدّد باعتبار صدوره عنه تعالى، لأنّه لم يخرج بعدُ عن قدرته تعالى، وإن كان قبيحا في الأوّل دون الثاني. وسيجيء في ثاني «باب نادر فيه ذكر الغيب» من «كتاب الحجّة»(2) ما يوافق هذا.2.

ص: 416


1- في الكافي المطبوع : + «منه» .
2- الكافي، ج 1، ص 333، باب نادر في حال الغيبة، ح 2.

الثامن: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: مِنَ الاْءُمُورِ أُمُورٌ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ اللّه ِ) أي لم يطلع عليها أحدا من خلقه.

(يُقَدِّمُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخّر باعتقاد غيره.

(وَيُوءَخِّرُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أخّر المقدّم باعتقاد غيره. والمعنى أنّه لا يقبح منه تعالى ذلك التقديم والتأخير.

ودلالة الحديث على البداء كما مرّ في سابع الباب.

ويحتمل أن يكون المراد بالموقوفة ما لم يقع بعدُ، وبمقابلها الواقعةَ المقضيّة. ودلالة الحديث على البداء حينئذٍ كما مرّ في خامس الباب.

التاسع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ،(1) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ لِلّهِ عِلْمَيْنِ) أي قسمين من العلم:

(عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ)، كالعلم بسرّ اللّه تعالى في القدر، فإنّه وردت روايات كثيرة بأنّ القدر سرٌّ من سرّ اللّه لا يطّلع عليه إلاّ اللّه الواحد الفرد.(2)

(مِنْ ذلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ). «من» سببيّة، يعني تجدّدُ الفعل بعد الفعل من اللّه بقدرته وتدبيره بعد ما لم يعلمه أحد غيره، ليس مستندا إلاّ إلى ذلك العلم.

(وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ). يعني لا يكون بداؤه تعالى مستندا إلى هذا القسم من العلم.

وكأنّ هذا إشارة إلى أنّه يمكن أن يعتقد الملائكة والرُّسل والأنبياء والأوصياء بدون توقيفٍ أنّه سيقع كذا ولا يقع، ويجوز أن يخبروا بوقوعه بدون الاستناد إلى التوقيف بحيث لا يلزم منه القول على اللّه بغير علم، كالخبر بمجيء زيد من السفر غدا ولا يقع أي لا يقضي اللّه تعالى وقوعه في الغد. .

ص: 417


1- في الكافي المطبوع : + «ووهيب بن حفص عن أبي بصير» .
2- التوحيد ، ص 383 ، باب القضاء والقدر و . . . ، ح 32 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 97 ، ح 23 .

وقد نقل أمثال ذلك عن الأنبياء، كما يجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب أنّ الصدقة تدفع البلاء» أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ هذا اليهودي يَعَضُّه أسودُ في قفاه فيقتله، ثمّ لم يقع، ففتّش عن حطب كان على كتفه، فإذا أسود عاضّ على عود».(1)

وكذلك كان اعتقاد الملائكة أنّ اللّه تعالى ليس بجاعل في الأرض خليفة، فلمّا أخبر اللّه تعالى بذلك قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(2) الآية في سورة البقرة، وسيجيء الفرق بين الرسول والنبيّ في «كتاب الحجّة» في «باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام ».(3)

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا بَدَا لِلّهِ فِي شَيْءٍ). الضمير المستتر في «بدا» راجع إلى المصدر بنوع من المجاز، نظير: جدَّ جدّه، ونظير: حيل بين العير والنزوان؛(4) أي ما وقع بداء للّه تعالى في شيء.

(إِلاَّ كَانَ). الضمير المستتر راجع إلى مصدر «بدا» أو إلى «شيء».

(فِي عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ).

هذا ردّ على من توهّم من لفظ البداء أنّ نسبته إلى اللّه تعالى نسبة بداء ندامة، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؛ وعلى اليهود حيث زعموا أنّ اللّه ندم على خلق بني آدم فأرسل إليهم الطوفان، ثمّ ندم على الطوفان؛ أو ردّ على من زعم أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلاّ حين وقوعها، وأمّا قبل الوقوع فلا يعلم إلاّ المهيّة،(5) كما يجيء في سابع عشر الباب. .

ص: 418


1- الكافي ، ج 4 ، ص 5 ، ح 3 مع اختلاف يسير .
2- البقرة (2) : 30 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 174 .
4- تقدّم توضيحه .
5- في حاشية «أ» : «لعلّه الفخر الرازي في المحصّل (منه)». اُنظر المحصّل ، ص 483 ؛ تفسير الرازي ، ج 2 ، ص 158 ؛ معارج الفهم ، ص 283 .

الحادي عشر: (عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْجُهَنِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ لَمْ يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ).

ردٌّ على من توهّم أنّ نسبة البداء إليه تعالى نسبة بداء ندامة، وعلى من نسب الندامة إليه تعالى.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ اللّه ِ بِالاْءَمْسِ؟ قَالَ: لاَ) أي لا يكون.

(مَنْ قَالَ هذَا). يحتمل أن يكون الإشارة إشارةً إلى أن يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه ، وأن يكون إشارةً إلى مبنى السؤال؛ كأنّه عليه السلام علم أنّ سؤاله هذا مبنيّ على نسبة المخالفين إلينا إنّا قائلون ببداء الندامة.

(فَأَخْزَاهُ اللّه ُ) أي أذلّه وفضحه.

(قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ). لمّا كان السؤال الأوّل مختصّا بمثال، أراد السؤال صريحا عن العامّ.

(مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ اللّه ِ؟). إن اُريد بيوم القيامة الزمان المخصوص، فيحتمل أن يكون سؤاله سؤالاً عن كلّ واحد من الكائنات وعن مجموعها؛ وإن اُريد به الزمان الغير المتناهي وقد يستعمل فيه عرفا، فالسؤال إنّما هو عن كلّ واحد؛ لأنّ غير المتناهي الموجود في نفسه في الخارج لا مجموع له، بمعنى أنّه ليس لمفهوم المجموع فيه فرد حقيقي. وتحقيقه في محلّ آخر.

(قَالَ: بَلى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ). أي المخلوق.

الثالث عشر: (عَلِيٌّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْقَوْلِ بِالْبَدَاءِ مِنَ الاْءَجْرِ). مضى في أوّل الباب وثانيه.

(مَا فَتَرُوا). «ما» نافية. والفترة والفتور: الانكسار والضعف، وفتر كنصر. وذلك لأنّ كلّ عمل تكثر الدواعي إليه وتقوى لا يحصل لفاعله فيه فتور وإن شقّ.

ص: 419

(عَنِ). لتضمين الفتور معنى العدول.

(الْكَلاَمِ فِيهِ).

الرابع عشر: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ أَخِي يَحْيى، عَنْ مُرَازِمِ بْنِ حَكِيمٍ)؛ بفتح المهملة.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: مَا)؛ نافية.

(تَنَبَّأَ)؛ بالهمز، أي صار نبيّا. ويُقال أيضا: تنبّأ مسيلمة، أي تكلّف النبوّة.

(نَبِيءٌ(1))؛ بالهمز لغة أهل مكّة، وشدّ الياء لغة سائر العرب.(2)

(قَطُّ)؛ بفتح القاف وشدّ المهملة مبنيّةً على الضمّ، ظرف زمان لاستغراق ما مضى بالنفي، وبُنيت لتضمّنها معنى «مذ» و«إلى» و«إذ». المعنى: مذ خلق العالم إلى الآن، وبناؤها على حركة لئلاّ يلتقي الساكنان، وكانت الضمّةَ تشبيها بالغايات، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد يتبع قافُه طاءه في الضمّ، وقد يخفّف طاؤه مع ضمّها أو إسكانها.(3)

(حَتّى يُقِرَّ لِلّهِ بِخَمْسٍ(4): بِالْبَدَاءِ). وهذا ردّ على اليهود والفلاسفة وبعض المتكلّمين كما مرّ في الباب.

(وَالْمَشِيئَةِ)؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والهمز، ويجوز قلب الهمزة والإدغام؛ أي وبأنّه لا يجري في ملكه من طاعة أو عصيان إلاّ ما شاء، فما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن.

وهذا ردّ على المجوس والمعتزلة حيث قالوا: إنّ المعصية ليست بمشيئة اللّه ، أي إنّه ليس في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالعاصي لأطاع.(5) .

ص: 420


1- في الكافي المطبوع : «نَبِيٌّ» .
2- النهاية ، ج 5 ، ص 3 (نبأ) .
3- عمدة القارى ء ، ج 1 ، ص 53 .
4- في الكافي المطبوع : + «خصال» .
5- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسه ، ص 316. و حكاه عن المعتزلة العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 .

وسيجيء تحقيقه في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة».

(وَالسُّجُودِ) أي وبأنّه يسجد له ما في السماوات والأرض؛ أي ينقاد، وقدرته نافذة في جميعه.

وهذا ردّ على الفلاسفة حيث قالوا: إنّ الأفلاك غير قابلة للخرق والالتئام.(1)

وعلى المعتزلة حيث قالوا: إنّ قدرة العبد على فعل في وقت تتقدّم على هذا الوقت، فالعبد مستقلّ بالقدرة، وليس فعله موقوفا على الإذن من اللّه .(2) وسيجيء تحقيق هذا أيضا في أوّل «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

وعلى بعض المعتزلة حيث قال: إنّه تعالى ليس قادرا على شخص مقدور العبد،(3) وبعضهم قال: لا يقدر على مثل مقدور العبد أيضا.(4)

(وَالْعُبُودِيَّةِ)؛ بضمّ المهملة والموحّدة وسكون الواو وكسر المهملة وشدّ الخاتمة، أي وبأنّ الخلائق جميعهم عبادُ اللّه .

وهذا ردّ على النصارى حيث قالوا في عيسى عليه السلام : إنّه ابن اللّه ، فقال تعالى: «لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدا للّه ِِ»(5).

(وَالطَّاعَةِ) أي وبأنّه لا يسقط التكليف عن أحد لكمال، بل تكليف الأنبياء بطاعتهم وتحمّل أعباء النبوّة كان أعظم، ثمّ الأوصياء ثمّ الأمثل فالأمثل. .

ص: 421


1- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 22 ، ص 167 عن جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة ، ومثله حكى المجلسي في بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 129 .
2- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه عنهم السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في نهج الحقّ ، ص 129 .
3- حكاه العلاّمة في معارج الفهم، ص 255 عن جماعة من المعتزلة.
4- حكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 254 عن البلخي . وانظر المواقف ، ص 283 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 60 .
5- النساء (4) : 172 .

وهذا ردّ على بعض الصوفيّة حيث قالوا: إنّ الأعمال الشرعيّة ساقطة عن الكاملين، فإنّها بمنزلة أعمال أهل الكيمياء، إنّما يحتاج إليها النحّاس ما لم يصر ذهبا، وبمنزلة معالجات الأطبّاء للمرضى، إنّما يحتاج إليها المريض ما لم يصر صحيحا.

وليس لهم استدلال على عقائدهم إلاّ بالشعريات.

الخامس عشر: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي جَهْمَةَ)؛ بفتح الجيم وسكون الهاء.

وفي كتاب الرجال: «ابن أبي جهم» بدون الهاء أخيرا.(1)

وفي النجاشي: «جهيم بن أبي جهيم، ويُقال: ابن أبي جهيمة».(2)

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَخْبَرَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِمَا كَانَ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا).

«مذ» و«منذ» قد تليهما الجملة الفعليّة أو الاسميّة، والمشهور أنّهما حينئذٍ ظرفان مضافان قيل إلى الجملة، وقيل: إلى زمن مضاف إلى الجملة، وقيل: مبتدآن، فيجب تقدير زمن مضاف للجملة يكون هو الخبر.(3)

(وَبِمَا يَكُونُ إِلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَهُ بِالْمَحْتُومِ)؛ بالمهملة؛(4) من حتمه كضربه: إذا أوجبه عليه. والحتم أيضا إحكام الأمر، والحتم أيضا القضاء الذي لا اختيار للخلق في مقضيّه.

(مِنْ ذلِكَ). الإشارة إلى مجموع ما كان ويكون، والمحتوم منه ما كان؛ لأنّه مضى، فليس للّه تعالى فيه البداء، فهو كالواجب الذي فاعله مجبور فيه، أو الإشارة إلى ما .

ص: 422


1- رجال الطوسي ، ص 333 ، الرقم 3 .
2- رجال النجاشي ، ص 132 ، الرقم 338 . وفيه: «جهيم بن أبي جهم ويقال : ابن أبي جهمة». وانظر معجم رجال الحديث ، ج 5 ، ص 153 .
3- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 336 (منذ ، مذ). وانظر القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 359 (مذ) .
4- في «أ» : «المهملة» .

يكون، ويرجع إلى مضمون تاسع الباب.

(وَاسْتَثْنى)؛ بصيغة المعلوم، وفيه ضمير اللّه .

(عَلَيْهِ) أي على محمّد صلى الله عليه و آله .

(فِيمَا سِوَاهُ). الضمير للمحتوم، ومعنى الاستثناء بيان أنّه ليس محتوما، بل بمشيّتي، إن شئت خلقت، وإن لم أشأ لم أخلق.

واستعمال «على» هنا للدلالة على أنّه أخذ منه الإقرار بذلك، وشرطه(1) عليه.

وهذا الاستثناء يدلّ على البداء، أي ترتّب الأشياء باعتبار الصدور عنه تعالى بالقدرة.

السادس عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّيَّانِ)؛ بفتح المهملة، وشدّ الخاتمة.

(بْنِ الصَّلْتِ)؛ بفتح المهملة، وسكون اللام، والمثنّاة.

(قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: مَا بَعَثَ اللّه ُ نَبِيّا قَطُّ إِلاَّ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ). ردٌّ على المخالفين حيث قالوا: إنّ الخمر كان في شرع موسى حلالاً، وكأنّه ردّ عليهم أيضا في قولهم: إنّ الخمر كان في صدر الإسلام حلالاً ثمّ نسخ، وينقلون في ذلك حكايات.(2)

(وَأَنْ يُقِرَّ لِلّهِ بِالْبَدَاءِ). ظاهر ممّا سبق في الباب من الأحاديث.

السابع عشر: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى)؛ بضمّ الميم، وفتح المهملة، وشدّ اللام المفتوحة.

(بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سُئِلَ الْعَالِمُ عليه السلام ). المراد صاحب الزمان عليه السلام بتوسّط أحد السفراء، أو بلا توسّط، أو الحديث مرسل بناءً على أنّ «معلّى» ممّن لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام أي بلا واسطة. .

ص: 423


1- في «ج» : «وشرط» .
2- اُنظر تفسير مقاتل بن سليمان ، ج 1 ، ص 319 ، ذيل الآية 90 من سورة المائدة ؛ جامع البيان للطبري ، ج 2 ، ص 491 ؛ وج 7 ، ص 45 ؛ تفسير أبي حاتم الرازي ، ج 2 ، ص 389 .

(كَيْفَ عَلِمَ اللّه ُ؟(1))؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد؛ أي كيف علم اللّه الأشياء قبل خلقها.

ويحتمل أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل، كأنّه اختلج في ذهن السائل بعض شبه المنكرين للبداء له تعالى، وقد مضت في الباب مع أجوبتها.

ويحتمل أن يكون المختلج في ذهن السائل شبهة المنكرين لعلمه تعالى بالجزئيّات الحوادث، وهي أنّه يستلزم أن يكون مجبورا في خلقها، فإنّ القدرة ملزومة لجواز عدم وقوع المقدور، والعلم ملزوم لوجوب وقوع المعلوم، فإنّه لو جاز عدم وقوع المعلوم لزم أن يكون العلم جهلاً، وتنافي اللوازم يستلزم تنافي الملزومات.(2)

والجواب منع قولهم: إنّه لو جاز عدم وقوع المعلوم لزم أن يكون العلم جهلاً، مستندا بالفرق بين الجواز المقابل للوجوب السابق والامتناع السابق، والجوازِ المقابل للوجوب اللاحق والامتناع اللاحق. ومعنى الوجوب السابق وجوب الشيء بالنسبة إلى ما يتوقّف ذلك الشيء عليه، ومعنى الامتناع السابق امتناع الشيء لعدم ما يتوقّف ذلك الشيء عليه، ومعنى الوجوب اللاحق وجوب الشيء بالنسبة إلى تابعه، أو إذا أخذ بشرط تحقّقه. ويسمّى القسم الثاني من الوجوب اللاحق وجوبا بشرط المحمول، ومعنى الامتناع اللاحق امتناع الشيء لأجل تابع عدمه.

وأجاب عليه السلام بتحقيق الحقّ بحيث يعلم منه إجمالاً الإشارة إلى منع مقدّماتهم، فإنّ قوله عليه السلام هو الحجّة والبرهان، ولا يبقى معه شيء من الشبه التي لم تورث ظنّا فضلاً عن العلم، إنّما أورثت معارضة وهميّة.

(قَالَ: عَلِمَ)؛ بصيغة المعلوم المجرّد، أي علم كلّ جزئي من جزئيّات الحوادث قبل وقوعه، وجميع وجوه المصالح والمفاسد فيه.

(وَشَاءَ، وَأَرَادَ وَقَدَّرَ، وَقَضى وَأَمْضى ). المقصود أنّ قدرته تعالى على خلق ما خلق لا يرتفع بعلمه به، ولا بمجموع علمه به ومشيّته، ولا بمجموع الاثنين وإرادته له، ولا .

ص: 424


1- في الكافي المطبوع : «عِلْمُ اللّه ِ» بالمصدر المضاف إلى الفاعل .
2- اُنظر المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 11 و 21 و 103 ؛ قواعد المرام لابن ميثم ، ص 98 . وحكاه عن الحكماء العلاّمة في النافع يوم الحشر ، ص 39 ؛ وكشف المراد ، ص 400 ، تحقيق الآملي ؛ وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 311 .

بمجموع الثلاثة وتقديره له، ولا بمجموع الأربعة وقضائه له؛ إنّما يرتفع إذا انضمّ إلى هذا المجموع إمضاؤه له؛ لأنّ القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك لا تتعلّق بالمحال من حيث إنّه محال، والإمضاء يجعل الشيء ماضيا، ورفع الشيء الواقع في الزمان الماضي عن الزمان الماضي محال بالذات.

واعلم أنّ جوابه عليه السلام في ضمن مثال هو خلقه تعالى الأرض وما فيها من الإنسان وسائر الحيوانات وغير ذلك، وبيّن أنّ خلقها في أربع نوبات، وبيّن أنّ اليوم الأوّل يوم المشيّة، واليوم الثاني يوم الإرادة، واليوم الثالث يوم التقدير، واليوم الرابع يوم القضاء، وبيّن أنّ بقاء هذا النظام في الأرض إمضاء، وهو متأخّر عن أصل خلقها، وخارج عن الأيّام الأربعة.

وتوضيح ذلك: أنّ لكلّ فاعل مختار في فعله مشيّةً وإرادةً، وتقديرا وقضاءً.

والمشيّة في أصل اللغة من شاءه: إذا مال إلى كونه شيئا إمّا بجعله شيئا، وإمّا بتسبيب سبب يفضي إلى شيئيّته مع العلم بالإفضاء، وإمّا بغير ذلك؛ فهي تدبير متعلّق بشيء من حيث إنّه شيء.(1)

والإرادة في أصل اللغة من أراده: إذا شاء ورجّحه على بدله، ومنها الارتياد، أي طلب الأحرى، فهي مركّبة مفهوما من المشيّة وقيدٍ هو الترجيح على البدل، فحدّها أنّها نوع ترجيح لوقوع أحد أمرين بينهما بدليّة على وقوع الآخر لداع.(2)

والتقدير في أصل اللغة من قدّره: إذا أراده وعيَّن قَدَرهُ من طول وعرض ونحوهما؛ فهو مركّب مفهوما من الإرادة وقيدٍ هو تعيين القدر.(3)

والقضاء في أصل اللغة من قضاه: إذا دبّره من جميع الوجوه الميسّرة له، وختمه أي جعله بحيث لا يحتاج إلى عود إلى تدبيره وتجديد تدبير آخر له، فهو مركّب مفهوما .

ص: 425


1- النهاية ، ج 2 ، ص 517 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 103 (شيئا) ؛ الفروق اللغوية ، ص 35 ، الفرق بين الإرادة والمشيئة .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 478 ؛ الفروق اللغويّة ، ص 35 ، الفرق بين الإرادة والمشيئة .
3- الفروق اللغويّة ، ص 38 و 422 ، الفرق بين القدر والقضاء ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 62 .

من التقدير وقيدٍ هو الختم.(1) ويتصادق هذه المفهومات الأربعة في فعل لم يتقدّمه مفض إليه لولاه لم يتحقّق هذا الفعل، أو تقدّمه ولم يلاحظ المقدّم.

ولذا فسّر أهل اللغة كلاًّ من المشيئة والإرادة بالاُخرى، ويتصادق بعضها في فعل تقدّمه مفض أو مفضيان، أو لوحظ ذلك فقط، وتتفارق فيما تقدّمه اُمور كلّ واحدٍ منها مفض إليه لولاها لم يتحقّق.

ولوحظ ذلك إلى أقسام أربعة؛ لأنّ الاُمور إمّا اُمور مقدّمة زمانا على الفعل، وإمّا مجتمعة معه زمانا، والمقدّمة المتعدّدة لها أوّل وآخِر ووسط، فتخصّص أوّلها بلفظ المشيّة؛ لأنّها أبسط مفهوما، فيناسب تخصيصها بالأوّل، وتخصّص الوسط بلفظ الإرادة؛ لأنّها أبسط مفهوما بعد المشيّة، وتخصّص الآخر بلفظ التقدير؛ لأنّه أبسط مفهوما بعد الإرادة، وتخصّص المجتمع مع الفعل بلفظ القضاء؛ لأنّه أشدّ تركيبا، وفيه الختم، فيناسب تخصيصه بالآخر.

ولعلّ هذه التخصيصات مَجازات لغةً.

إن قلت: إذا كان القدر والقضاء متلازمين، فما معنى ما روى ابن بابويه في كتاب التوحيد في «باب القضاء والقدر» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّ وجلّ» حين عدل من عند حائط مائل إلى حائطٍ آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء اللّه ؟(2)

قلت: إنّما تلازمهما إذا تعلّقا بشيءٍ واحد.

ومعنى الحديث: أفرّ الآنَ من أن يقضى عَلَيَّ بعد الآنَ _ أي في وقت الفعل _ سقوطُ الحائط عليَّ إلى أن يقدّر لي الآنَ _ أي قبل وقت الفعل _ عدمُ سقوطه عَلَيَّ في وقت الفعل. وهذا بيان أنّ القدر والقضاء من اللّه تعالى لا يوجب جبر العبد على أفعاله الاختياريّة كما سنفصّله في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وفي أحاديث .

ص: 426


1- الفروق اللغويّة ، ص 38 و 422 ، الفرق بين القدر والقضاء ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 62 .
2- التوحيد ، ص 369 ، ح 8 .

«باب الاستطاعة». ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس «باب فضل اليقين»(1) عدمُ فراره عليه السلام من هذا وأشباهه.

وليعلم أنّ المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء قد يتعلّق بالفعل الاختياري للغير، فتجري فيه أيضا الأقسام الأربعة باعتبار أقسام المقضيّ إليه، كما نوضحه في باب بعد هذا الباب.

بيّن عليه السلام الترتيب بين الخصال بقوله:

(فَأَمْضى مَا قَضى، وَقَضى مَا قَدَّرَ، وَقَدَّرَ مَا أَرَادَ). فيه اقتصار، فإنّ تتمّته المحذوفة: «وأراد ما شاء وشاء ما علم». والمقصود أنّه لم يتعلّق إمضاؤه وقضاؤه إلاّ بما تعلّق به علمه، والإمضاء والقضاء متعلّقان بالجزئيّات من حيث هي جزئيّات، فعلمه أيضا متعلّقٌ بها من هذه الحيثيّة.

وهذا ردّ لما توهّمه السائل من نفي العلم بالجزئيّات من حيث هي جزئيّات، ثمّ أكّد بيان الترتيب بقوله:

(فَبِعِلْمِهِ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ، وَبِمَشِيئَتِهِ كَانَتِ الاْءِرَادَةُ، وَبِإِرَادَتِهِ كَانَ التَّقْدِيرُ، وَبِتَقْدِيرِهِ كَانَ الْقَضَاءُ ، وَبِقَضَائِهِ كَانَ الاْءِمْضَاءُ ).

الباء في المواضع للاستعانة، والمقصود أنّه لولا علمه بالجزئي من حيث إنّه جزئي،لم يتعلّق قضاؤه وإمضاؤه بالجزئي من حيث إنّه جزئي؛ ردّا لما توهّمه السائل، وذلك لأنّه لولا تعلّق علمه بالجزئي، لم تتعلّق به مشيّته، ولولا تعلّق مشيّته بالجزئي، لم تتعلّق به إرادته، ولولا تعلّق إرادته بالجزئي، لم يتعلّق به تقديره، ولولا تعلّق تقديره بالجزئي، لم يتعلّق به قضاؤه، ولولا تعلّق قضائه بالجزئي، لم يتعلّق به إمضاؤه؛ وذلك لاءنّ جعل الشيء ماضيا فعل اختياري، فإنّه لو لم يفعل في وقته لم يصر من الاُمور الماضية.

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لولا المشيّة لم تكن إرادة أصلاً؛ لأنّ الكاشف هنا دائر مع المكشوف عنه وجودا وعدما؛ أي وقوعه يكشف عن وقوعه، وعدمه عن عدمه.5.

ص: 427


1- الكافي، ج 2، ص 58، ح 5.

ثمّ أكّد الترتيب بقوله:

(وَالْعِلْمُ) أي بالجزئي من حيث إنّه جزئي.

(مُتَقَدِّمٌ(1) الْمَشِيئَةَ، وَالْمَشِيئَةُ ثَانِيَةٌ) إمّا بلفظ تأنيثِ «ثاني» وإمّا بلفظ إضافة ثاني إلى ضمير العلم. وكذا في قوله:

(وَالاْءِرَادَةُ ثَالِثَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَاقِعٌ عَلَى الْقَضَاءِ). «على» نهجيّة لا بنائيّة، وإلاّ أفاد عكس الترتيب.

(بِالاْءِمْضَاءِ). ذكر الباء هنا إشارة إلى أنّ القضاء لا يمكن ذاتا انفكاكه عن إمضاء في الجملة، بخلاف المراتب الاُول، فإنّ استحالة الانفكاك بينها للعلم بالمصلحة لا ذاتا. ويوافق ذلك ما يجيء في أوّل «باب المشيّة والإرادة» من قوله عليه السلام : «إذا قضى أمضاه».

(فَلِلّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْبَدَاءُ فِيمَا عَلِمَ مَتى شَاءَ). تفريعٌ لقدرته على الجزئيّات المعلومة على الترتيب، واللام للملكيّة.

و«ما علم» عبارة عن المعلوم الذي سيقضيه ويمضيه. والبداء في المعلوم أن يتجدّد منه تعالى كاشف عن عدم وقوع المعلوم.

ومعنى «متى شاء»: حين شاء المعلوم. والمقصود أنّه قادر حين المشيّة له أن لا يشاء؛ وذلك لأنّ الوجوب بالنسبة إلى العلم وجوب لاحق، لا سابق؛ فلا ينافي القدرة على عدمه.

(وَفِيمَا أَرَادَ). فيه اقتصار، والمقصود: وفيما شاء متى أراد وفيما أراد.

(لِتَقْدِيرِ الاْءَشْيَاءِ). اللام بمعنى «عند» كقولهم: كتبته لخمس خلون من شهر كذا. والمراد لتقديره. وإنّما أضافه إلى «الأشياء» إشارة إلى أنّ ما علم مركّب من أشياء؛ لأنّ المراد به الأرض وما فيها. وفيه اقتصار، أي وفيما قدّر إذا قضى.

(فَإِذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ بِالاْءِمْضَاءِ). فيه أيضا إشارة إلى أنّ القضاء لا ينفكّ عنه الإمضاء كما مرَّ آنفا. .

ص: 428


1- في الكافي المطبوع : + «على» .

(فَلاَ بَدَاءَ) أي لا بداء في هذا المعلوم؛ لأنّ الماضي خارج عن القدرة، بمعنى صحّة الفعل والترك.

(فَالْعِلْمُ فِي الْمَعْلُومِ(1)). «في» هنا وفي نظائره للظرفيّة المجازيّة، أي متعلّق بالمعلوم الجزئي من حيث إنّه جزئي كأنّه حاصل فيه.

(قَبْلَ كَوْنِهِ). هذا إنّما يتصحّح بالقول بثبوت المعدومات في الخارج؛ لبداهة أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ، وتفصيله في محلّه. وكأنّ في استعمال «في» الدالّةِ في الأصل على الظرفيّة ونحو من المتبوعيّة إشارةً إليه، وخبر المبتدأ الجارّ والمجرور. ويحتمل أن يكون الخبر «قبل كونه» وقس عليه قوله:

(وَالْمَشِيئَةُ فِي الْمُنْشَاَء)؛ بضمّ الميم وسكون النون وفتح المعجمة والهمز؛ أي في المشي، وإنّما عبّر عنه بالمنشأ إشارةً إلى أنّ المشيّةَ ابتداء فعل كاشف عنه، فكأنّه أحدثه حين المشيّة.

(قَبْلَ عَيْنِهِ) أي وجوده العيني، وهو حين القضاء.

(وَالاْءِرَادَةُ فِي الْمُرَادِ قَبْلَ قِيَامِهِ) أي بقائه، وهو حين الإمضاء؛ يُقال: أقام الشيء، أي أدامه؛ من قوله تعالى: «وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ».(2)

لمّا كانت الإرادة إدامةً للمشيّة وبقاءً عليها، والإمضاء إدامةً للقضاء، ناسب ذكر أنّ الإرادة قبل الإمضاء، كما ناسب أن يُقال: إنّ المشيّة قبل القضاء.

(وَالتَّقْدِيرُ لِهذِهِ الْمَعْلُومَاتِ قَبْلَ تَفْصِيلِهَا وَتَوْصِيلِهَا عِيَانا وَوَقْتا) أي قبل وجودها الخارجي؛ فإنّ المفعولات قد ينفصل بعضها عن بعض في الوجود الخارجي، إمّا بحسب المعاينة والوضع كجسم في المشرق وآخَرَ في المغرب، وإمّا بحسب الوقت كآدم ونوح؛ وقد يتّصل إمّا بحسب المعاينة والوضع كجسمين متلاصقين، وإمّا بحسب الوقت كالاُمور المجتمعة في آنٍ واحدٍ. .

ص: 429


1- في الكافي المطبوع : «بالمعلوم» .
2- البقرة (2) : 3 .

لمّا كان التقدير تعيينَ القدر والوضع _ بمعنى نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض مكانا وزمانا باعتبار أوّل الحدوث _ ناسب ذكره مع الوضع بمعنى نسبته إلى الاُمور الخارجة مكانا وزمانا.

(وَالْقَضَاءُ بِالاْءِمْضَاءِ هُوَ الْمُبْرَمُ). ذكر ضمير الفصل وتعريف الخبر باللام لإفادة الحصر، والمقصود أنّه في المبرم دون ما تقدّمه من العلم والمشيّة والإرادة والتقدير والقضاء مع قطع النظر عن الإمضاء، بناءً على ما اشتهر من أنّ الممكن في وقت وجوده ليس ضروريّا وغير مقدور، إنّما يصير ضروريّا وغير مقدور لشرط وجوده وبعد مضيّه؛ فالحمل في قوله: «هو المبرم» بنوع من المجاز، كما في قولنا: زيد الدارَ، بمعنى أنّه في الدار لا يفارقها.

والقرينة على تقدير «في» هنا التصريحُ بفي في الفقرات السابقة من قوله: «فالعلم في المعلوم» إلى آخره.

و«المبرم» اسم مفعول من أبرم الأمرَ: إذا أحكمه.

(مِنَ الْمَفْعُولاتِ). «من» لبيان المبرم، أي هو ما فعل ووقع له عين ووجود في الخارج.

(ذَوَاتِ الاْءَجْسَامِ). «ذوات» جمع «ذات» بمعنى صاحبة، وهي بالجرّ عطف بيان أو صفة موضحة للمفعولات. والمراد بها ما ليس لها روح، فكأنّها لا تملك إلاّ أنفسها، إذ ليست إلاّ أجساما، نظير قولنا: لا يملك زيد إلاّ نفسه، وليس زيد إلاّ شيئا، أي ليس له مال ولا كمال.

(الْمُدْرَكَاتِ بِالْحَوَاسِّ مِنْ ذَوِي لَوْنٍ وَرِيحٍ وَوَزْنٍ وَكَيْلٍ، وَمَا). معطوفٌ على «ذوات الأجسام» المراد به ذوات الأرواح.

(دَبَّ وَدَرَجَ). يُقال: دبّ على الأرض يدبّ بالكسر دبيبا: إذا مشى على هينة،(1) كمشي النمل على أرجله، والحيّة على بطنها، والطفل على اِسته. ودرج الرجل كنصر).

ص: 430


1- الصحاح، ج 1، ص 124 (دبب).

دروجا، أي مشى بسعة الخطوات.(1)

(مِنْ إنْسٍ). اسمُ جنس «إنسى».

(وَجِنٍّ). اسمُ جنس «جنّي».

(وَطَيْرٍ). جمع «طائر».

(وَسِبَاعٍ). جمع «سبع».

(وغير ذلك). الإشارة إلى المذكور، وهو(2) القسمان: «ذوات الأجسام» و«ما دبّ ودرج» وغيرهما الأعراض الموجودة في الخارج في أنفسها. ويحتمل أن يكون «ذلك» إشارةً إلى الإنس والجنّ والطير والسباع «وغيرُه» الملائكةَ وسائر الحيوانات.

(مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، فَلِلّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ فِيهِ). الفاء للتفريع على قوله: «والقضاء بالإمضاء هو المبرم». والضمير راجع إلى المبرم، أو إلى كلّ واحدٍ من المعلوم ونظائره في قوله: «فالعلم في المعلوم» إلى آخره. ومآلهما واحد.

(الْبَدَاءُ). مبتدأ خبره الظرف الأوّل، والظرف الثاني متعلّق به.

(مِمَّا لاَ عَيْنَ لَهُ). «من» بمعنى «في» و«ما» مصدريّة نائبة عن الزمان. قال نجم الدين الرضيّ رحمه اللّه تعالى في شرح الكافية في بحث حروف المصدر:

وصلة «ما» المصدريّة لا تكون عند سيبويه إلاّ فعليّة، وجوّز غيره الاسميّة أيضا، وهو الحقّ وإن كان ذلك قليلاً كما في نهج البلاغة: «بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية(3)».(4)

(فَإِذَا وَقَعَ الْعَيْنُ الْمَفْهُومُ) أي المعلوم بالعقل.

(الْمُدْرَكُ) أي بالحواسّ. والمراد وقوعه مع الإمضاء كما مرّ.

(فَلاَ بَدَاءَ، وَاللّه ُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). يحتمل أن يكون استدراكا لدفع أن يتوهّم ممّا سبق .

ص: 431


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 313 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 266 (درج) .
2- في «ج» : «وهما» .
3- نهج البلاغة ، ص 90 ، الخطبة: 52 . وفيه: «عُمِّرْتُم» بدل «بقوا» .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 441 (الحروف المصدرية) .

من أنّ له تعالى البداءَ في المراتب إلى وقوع القضاء بالإمضاء، أنّه قد يقع خلاف ما شاء. ويحتمل أن يكون استدلالاً بالقرآن على البداء، وعدم الجبر في أفعاله تعالى.

(فَبِالْعِلْمِ). الباء فيه كالباء في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو، أي ما به يحكم بأنّ الشيء هو هو.

(عَلِمَ)؛ بصيغة معلوم المجرّد.

(الاْءَشْيَاءَ). المراد بها الأجسام وصفاتها.

(قَبْلَ كَوْنِهَا) أي حدوث شيء منها في الخارج.

(وَبِالْمَشِيئَةِ عَرَّفَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل من العرف بالفتح: الرائحة.

(صِفَاتِهَا) أي خلق لها أصلاً مشتركا من غير تمييز بعضه عن بعض، وكان ذلك الأصل ماءً.

(وَحُدُودَهَا) أي حقائقها وأنواعها.

(وَأَنْشَأَهَا)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال، ويحتمل أن يكون بصيغة المصدر منه. والإنشاء: ابتداء الفعل الذي فيه تدريج.

(قَبْلَ إِظْهَارِهَا) أي قبل تعيين أنواعها ووجودها الخارجي بخصوصيّاتها.

(وَبِالاْءِرَادَةِ مَيَّزَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل.

(أَنْفُسَهَا) أي ذواتها بأن خلق لبعض المادّة المشتركة _ وهي الماء _ العذوبةَ حتّى يخلق منه الجنّة وأهل الطاعة، ولبعضها المُلُوحةَ حتّى يخلق منه النار وأهل المعصية، كما يجيء في ثاني «كتاب الإيمان والكفر».(1)

(فِي أَلْوَانِهَا) أي أنواعها.

(وَصِفَاتِهَا) أي صفاتها الخاصّة التي بها يمتاز الأنواع بعضها عن بعض. .

ص: 432


1- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل ، ح 1 .

(وَبِالتَّقْدِيرِ قَدَّرَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل.

(أَقْوَاتَهَا). جمع «قوت» بضمّ القاف، وهو ما يحفظ به الشيء، ومنه قوت الإنسان، وهو ما يقوم ويحفظ به بدنه من الطعام. قيل: منه قوله تعالى: «وَكَانَ اللّه ُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ مُقِيتا»(1)الواقعة (56) : 75 .(2) أي حافظا، وقيل: أي قادرا،(3) وذلك بخلق أنواع النبات والشجر ونحو ذلك.

(وَعَرَّفَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم.

(أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا) أي جعل آخرها قريبا من الوجود وملحقا بأوّلها، فكان كلّ منهما تشمّ رائحة الآخر.

(وَبِالْقَضَاءِ أَبَانَ لِلنَّاسِ) أي خلق الناس من بعض تلك الأنواع وهو التراب، فأبان. وهو المقصود بالذات من خلق الثلاثة المتقدّمة، كقوله تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا»(4).

(أَمَاكِنَهَا) أي أمكنتها ومواضعها التي جعلها اللّه لها، وخصّص كلاًّ منها بما يناسبه.

ويحتمل أن يُراد بالأماكن المراتب والمنازل في الشرف ونحو ذلك، نظير قوله تعالى: «فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ»(4).

(وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا) أي على الحِكَم والمصالح التي روعي فيها.

(وَبِالاْءِمْضَاءِ). شروعٌ في بيان إبقاء النظام للتكليف والثواب [و] العقاب.

(شَرَحَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع.

(عِلَلَهَا) أي كشف عن عللها الغائيّة كشفا فوق الإبانة المذكورة سابقا، فإنّ تكرّر المشاهدة وترتّب الفوائد يوضح عن الحِكَم أشدّ توضيح. .

ص: 433


1- النساء
2- : 85 .
3- الفروق اللغويّة للعسكري ، ص 507 ، الفرق بين المقيت والقادر ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 262 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 38 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 75 (قوت) .
4- البقرة (2) : 29 .

(وَأَبَانَ أَمْرَهَا) أي الحكمة المرعيّة فيها، وهي التكليف وبعث الرُّسل وإنزال الكتب، وهي إبانة على إبانة.

(وَذلِكَ) أي جميع ما ذكر في قوله: «وبالمشيّة عرّف» إلى آخره، وقيل: أي التدريج في الخلق مع أنّه قادر على خلق الجميع في أقلّ من لحظة.(1)

(تَقْدِيرُ) أي تدبير.

(الْعَزِيزِ): البالغ في القدرة.

(الْعَلِيمِ): البالغ في العلم. وهذا اقتباس من سورة الأنعام ويآس وفصّلت.(2) .

ص: 434


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 17 ، ص 11 .
2- الأنعام (6) : 96؛ يآس (36) : 38 ؛ فصّلت (41) : 12 .

الباب الخامس والعشرون: باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة

الباب الخامس والعشرون بَابٌ فِي أنَّهُ لاَ يَكُونُ شَيْءٌ فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إِلاَّ بِسَبْعَةٍ(1)

فيه حديثان.

والمقصود بهذا الباب غير المقصود بآخر باب البداء، لأنّ هذا لبيان أفعال العباد للردّ على المعتزلة في الخمسة الاُول من السبعة، وعلى الزنادقة أو على الأشاعرة في السادسة منها، وعلى الزنادقة في السابعة منها، دون أفعال اللّه تعالى.

والمقصود بآخر باب البداء بيان أفعاله تعالى الواقعة بعد الأسباب العاديّة للردّ على الفلاسفة وأمثالهم من منكري البداء كما مرّ.

والقرينة أنّ أفعاله تعالى لا تتوقّف على الإذن، وأنّ فعله تعالى الإبداعيَّ ليس مسبوقا بالخصال الأربع الاُول، وأيضا الخلاف الذي يجري فيه تكفير المخالف ليس في أفعاله تعالى في «الخصال الخمس الاُول، فيأبي عنه قوله في أوّل الباب: «فمَن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

وحينئذٍ يمكن أن يكون المراد بالأرض والسماء المعصيةَ والطاعةَ، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: «وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْءَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»(2)، وأن يكون المراد بهما معناهما المشهورَ، ويكون العامّ مخصّصا.

ص: 435


1- في الكافي المطبوع : «في السماء والأرض» بدل «في الأرض ولا في السماء» . وفي حاشية «أ» : «أي لا يحدث شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ ما يتوسّط ويدخل في كونه سبعة أشياء ، وكلّ واحد منها يسبقة . (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، لميرزا رفيعا ، ص 483 .
2- الأعراف (7) : 176 .

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ جَمِيعا، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ)؛ بضمّ المهملة، وتخفيف الميم.

(عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَعَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُسْكَانَ جَمِيعا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَكُونُ)؛ بصيغة المعلوم المجرّد.

(شَيْءٌ) أي فعل أو ترك صادر عن عبد.

(فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ). الظرف لغو متعلّق بالكون. ومضى معنى الأرض والسماء في شرح عنوان الباب.

(إِلاَّ بِهذِهِ). الباء للملابسة.

(الْخِصَالِ السَّبْعِ)؛(1) جمع «خصلة» بالفتح، وهي الصفة؛ فإنّ كلاًّ من هذه السبع يوجب للفعل صفة اعتباريّة هي كونه بحيث يتعلّق به كذا.

(بِمَشِيئَةٍ، وَإِرَادَةٍ، وَقَدَرٍ، وَقَضَاءٍ ) أي من اللّه تعالى متعلّقة بالفعل أو الترك. .

ص: 436


1- في حاشية «أ» : «قوله : إلاّ بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة إلى آخره ، لمّا كانت المشيئة أوّل ما له اختصاص بشيء دون شيء ، أخذ في عدّ سوابق وجود الأشياء وصدورها منه سبحانه من المشيئة ، وبعدها الإرادة ، وبعدها القدر ، وبعده القضاء بالترتيب الذي في الحديث . وأمّا الإذن فهو الإعلام وإفاضة العلم _ والكتاب _ وهو ما يثبت فيه الأشياء وتقرر فيه _ والأجل _ وهو المدّة المعيّنة الموقّتة للأشياء _ فهي داخلة في الإرادة والقدر ؛ أو متخلّلة بين الأربعة بأن يكون الإذن متخللاًّ بين المشيئة والإرادة، والكتاب بينهما وبين القدر، والأجل بين القدر والقضاء ، أو كلّ واحد من هذه الثلاثة داخل في كلّ واحد من الثلاثة الاول من الأربعة . وذكر ثلاثة مع الأربعة على تقدير الدخول للدلالة على دخولها في الأربعة وثبوت الوساطة في الإيجاد لها كما للأربعة . وعلى تقدير التخلّل للدلالة على ترتّب هذه الثلاثة على الثلاثة الأول من الأربعة ، فهي كالتتمّة لها . وقوله : فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة ، أي إسقاطها من مقدّمات الإيجاد وجعلها أقلّ من سبعة فقد كفر ؛ لأنّه كذّب على اللّه وقال فيه خلاف الحقّ ، وردّ على اللّه حيث أنكر ما بيّنه في كتاب المبين . فمفاد هذا الكلام وكلام العالم عليه السلام في الحديث الثاني من هذا الباب واحد . وفي بعض النسخ : «نقض واحدة» بالضّاد المعجمه ، أي الردّ على واحدة منها وتغيير مقتضاها ومكابرتها ومعارضتها . وهذه النسخة بقوله : «فقد كفر» أنسب . والنسخة الاُولى للغرض المسبوق له الكلام وللحديث الثاني أوفق . (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 483 _ 485 .

اعلم أنّ المعتزلة ومَن جرى على أثرهم وسّعوا دائرة قدرة العبد، فذهبوا إلى التفويض من جهتين، وصاروا بهما قدريّةً مرّتين.(1)

بيان ذلك: أنّ معنى التفويض إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث يخرج عن يده تعالى أزمّة الفعل المقدور للعبد ما دام هذا الإقدار، وهذا معنى استقلال العبد في القدرة، وللتفويض بهذا المعنى فردان هو القدر المشترك بينهما، ويحصل بكلّ منهما استقلال للعبد في قدرته من جهة:

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث لا يكون في مقدوره تعالى من المقرّبات إلى الفعل أو إلى الترك ما لو فعله بالعبد لاختار غير ما اختاره من الفعل أو الترك، فيلزمه أن لا يكون اللّه تعالى مقلّب القلوب والأبصار، وأن يصدر عن العبد ما يختاره وإن شاء اللّه أن لا يصدر، وذلك لقولهم(2) بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه تعالى، فإنّه يلزمه أنّه لو كان في مقدوره تعالى لطف ناجع للكافر _ مثلاً _ لَفعل؛ لأنّه تعالى لا يترك الواجب عليه مع قدرته عليه، فلم يتحقّق كفر الكافر إلاّ لعدم قدرته تعالى على اللطف الناجع، وكذا الكلام في إيمان المؤمن؛ لضروريّة عدم الفرق بينهما في الإقدار.

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على فعل في ثاني الوقت.

إذا تمهّد هذا، فنقول: إثبات هذه الخصال الأربع في الخصال السبع للردّ على المعتزلة ومن تبعهم في قولهم بالتفويض الأوّل، والمراد هنا بمشيّة اللّه تعالى لفعل عبد _ مثلاً _ أن يصدر عنه تعالى باختياره تعالى قبل وقت ذلك الفعل من العبد أوّل ما علم تعالى أنّه يفضي تحقّقه إلى اختيار العبد ذلك الفعلَ في وقته؛ أي مع قدرة العبد على تركه فيه، ويفضي عدم تحقّقه إلى اختيار العبد ترك ذلك الفعلِ في وقته، أي مع قدرة العبد على ذلك الفعل فيه، سواء كان ما يصدر عنه تعالى فعلاً أم تركا أم اختيارا لأحد .

ص: 437


1- حكاه عنهم ابن حجر في فتح الباري ، ج 1 ، ص 109 ؛ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 427 ؛ والإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 145 ؛ وج 3 ، ص 208 و 213 و 226 .
2- في «ج» : «بقولهم» .

فعلين على الآخر، أو لأحد تركين على الآخر، وقس عليه مشيّته تعالى لترك عبد. ويسمّى تلك المشيّة مشيّة عزم _ كما يظهر ممّا يجيء في رابع «باب المشيّة والإرادة» _ ومشيّةَ اختيار أيضا كما يظهر ممّا يجيء في ثالث «باب الاستطاعة» ويعبّر عنها في أحاديثهم عليهم السلام بالذكر، الأوّل، كما يجيء في رابع «باب الجبر والقدر» وبالهمّ بالشيء وبابتداء الفعل كما يجيء في أوّل «باب المشيّة والإرادة». وقيل: «مشيّته تعالى في المعاصي نهيه عنها». انتهى.(1)

وفيه: أنّه إن أراد بمشيّته تعالى في المعاصي مشيّته تعالى لفعل المعاصي، فهذا إنّما يتّضح إذا جاز أن يُقال: إنّه جاء في لغة أو عرف شئت كذا، أي نهيتُ عنه؛ فيكون قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاَءَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ»(2))؛ بمعنى، ولكن أمر اللّه بانبعاثهم فثبّطهم.(3)

وفيه ما فيه.

وإن أراد بها مشيّته لترك المعاصي كما في قوله تعالى في سورة الأنعام: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَىْ ءٍ»(4)، وقوله تعالى في سورة الزخرف: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»(5)، فهذا بعض إطلاقاتها، وليس الكلام فيه كما سيظهر في رابع الباب الآتي من قوله: «ينهى وهو يشاء» إلى آخره.

والمراد بالإرادة هنا أن يصدر عنه تعالى باختياره ثانيا _ أي بعد المشيّة وقبل وقت يظنّ فيه تحقّق قدرة العبد على فعله بعد ذلك _ مؤكّد للمشيّة في الإفضاء إلى فعل العبد .

ص: 438


1- في حاشية «أ» : «أي ابن بابويه في باب القضاء والقدر من كتاب التوحيد (منه)» . التوحيد ، ص 369 ، باب القضاء والقدر ، ذيل ح 9 .
2- التوبة (9) : 46 .
3- في «ج» : - «فيكون قوله تعالى في سورة التوبة» إلى هنا .
4- الأنعام (6) : 148 .
5- الزخرف (43) : 20 .

مثلاً؛ أي ما علم تعالى أنّه يفضي تحقّقه إلى اختيار العبد ذلك الفعل في وقته إلى آخر ما ذكرنا آنفا في المشيّة.

وتسمّى تلك الإرادة إرادة عزم وإرادة اختيار أيضا، ويعبّر عنها في أحاديثهم عليهم السلام بالإتمام على المشيّة، وبالعزيمة على ما يشاء، وبالثبوت عليه أي الجدّ فيه.

والمراد بالقدر هنا ما ذكرنا في حدّ الإرادة، إلاّ أنّ القدر في وقت يظنّ فيه قدرة العبد على الفعل والترك بعد ذلك، فهو قبيل وقت الفعل والترك متّصلاً به.

والمراد بالقضاء هنا ما ذكرنا في حدّ الإرادة، إلاّ أنّ القضاء في وقت الفعل والترك والحاجة إلى اعتبار الإرادة، ثمّ اعتبار القدر، ثمّ اعتبار القضاء بعد المشيّة بيان أنّ فعل العبد أو تركه لم يخرج بمجرّد المشيّة، أو مع الإرادة أيضا، أو مع القدر أيضا عن قدرة اللّه تعالى على التصرّف فيه؛ لأنّ الوجوب بالنسبة إلى هذه الاُمور وجوب لاحق، كما يجيء في ثالث «باب الاستطاعة» وتقسيم طرقه تعالى إلى إيمان الكافر مثلاً إلى هذه الأربعة، مع أنّ له طرقا لا تعدّ ولا تحصى للتقريب إلى الفهم، ووجه مناسبة تخصيص هذه الألفاظ الأربعة بالمعاني الأربعة كما مرّ في آخر «باب البداء».

ومذهب المعتزلة أنّه لا فرد لمشيّته تعالى لفعل العبد أو تركه إلاّ الأمر به، مع كونه تعالى بحيث إن قدر على ما يفضي إليه من اللطف لفعل، فمشيّته متعلّقة بإيمان الكافر وإن لم يكن واقعا، فلم يصدق: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء، بل قد يكون ما شاء إبليس، ولا يكون ما شاء اللّه تعالى.(1)

وهذا باطل لوجهين:

الأوّل: أنّه يستلزم إخراج اللّه تعالى من سلطانه ومضادّته في ملكه، وسيجيء تفصيل بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

الثاني: أنّ الفرد الذي أثبتوه للّه تعالى من المشيّة من صفات المخلوق الذي يكون فيه شوق إلى شيء ثمّ قد يحرم منه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؛ إنّما فرد مشيّته تعالى .

ص: 439


1- اُنظر إفحام المخاصم ، ص 31 .

أفعال خاصّة أو تروك خاصّة، وذلك كغضبه ورحمه ونحو ذلك، سواء قلنا: إنّها مَجازات لغويّة، أم حقائق لغويّة. وقد مرّ في ثالث «باب الإرادة أنّها من صفات الفعل».

وتسمية المعتزلة «قدريّة» لإثباتهم جميع القدر في فعلهم وتركهم لأنفسهم حيث كذّبوا بقدر اللّه تعالى وجحدوه فيهما.

إن قلت: لِمَ خصّوا باسم القدريّة وهم كما أنكروا قَدَرَهُ تعالى أنكروا مشيّته تعالى وإرادته تعالى وقضاءه تعالى، وأنكروا أيضا إذنه تعالى كما سيجيء بُعيدَ هذا؟

قلت: لأنّهم لم ينسبوا التدبير الذي نفوه عن اللّه تعالى إلى أنفسهم إلاّ من وقت قدرتهم على الفعل بزعمهم، أي قُبيل وقت الفعل، وهو وقت القدر كما مرَّ، ووشمُهُم بأوّل خلافهم أولى من وَسمهِم بما بعده، وجمهورهم ينفون القدرة عن أنفسهم في وقت الفعل، ولا معنى لتوقّف فعلهم على إذن أنفسهم.

ويمكن أن يكون المراد بالقدر في تسميتهم بالقدريّة ما يساوق القضاء، ويعمّ الخصال الخمس. وقد تُطلق الإرادة على هذا الأعمّ وكذا المشيّة، وقد تُطلق المشيّة على الأعمّ ممّا ذكرنا في حدّها أوّلاً وثانيا وممّا ذكره المعتزلة في حدّها.

وبهذا يصير النزاع معنويّا بيننا وبينهم في قولنا: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، وقولهم: بعض ما شاء اللّه لم يكن وبعض ما لم يشأ كان.

بيان ذلك: أنّا إذا حملنا المشيّة في هذا النزاع على ما ذكرنا في حدّها أوّلاً، أو على الأعمّ من الخصال الخمس، لم يتصوّر نزاعهم معنىً في قولنا: ما شاء اللّه تعالى كان، وإنّما يتصوّر النزاع المعنوي في قولنا: ما لم يشأ لم يكن فقط. وإذا حملنا المشيّة في هذا النزاع على ما ذكره المعتزلة في حدّها، لم يصحّ قولنا: ما شاء اللّه كان، ويصحّ كلام المعتزلة فيه سلبا لا عدولاً أيضا كما هو مذهبهم؛ لأنّ الموجبة إنّما تصدق إذا صدق العنوان على فرد، والمشيّة بهذا المعنى غير متحقّقة في اللّه تعالى بالنسبة إلى شيء أصلاً،لأنّها من صفات الخلق كما مرَّ آنفا، فلم يصحّ أيضا قولنا: ما لم يشأ لم يكن. وأيضا المعاصي الكائنة لم تتعلّق بها المشيّة بهذا المعنى اتّفاقا بيننا وبين المعتزلة، فيجب حمل المشيّة على الأعمّ ليصحّ النزاع معنويّا، وقد يذكر في هذين النزاعين بدلَ

ص: 440

المشيّة الإرادةُ، ويجري كلّ ما ذكرنا فيها أيضا.

(وَإِذْنٍ ). الإذن له معان، والمراد به هاهنا(1) عدم إحداثه تعالى المانع العقلي عن فعل العبد أو تركه في وقتهما، كفعل الضدّ وإعدام العبد ونحوهما ممّا ينافي قدرة العبد، مع علمه تعالى بأنّه إذا لم يقع الإحداث حينئذٍ عنه تعالى لصدر الفعل أو الترك عن العبد حينئذٍ باختياره ومع قدرته تعالى على الإحداث حينئذٍ.

وقد يجعل المانع في حدّ الإذن في غير هذا الموضع أعمَّ من المانع العقلي، أي المخرج للعبد عن القدرة، والمانع العلمي وهو ما يعلم تعالى معه عدم اختيار العبد الفعل أو تركه، فيندرج القضاء تحت الإذن حينئذٍ اندراجَ الجزء في الكلّ، أو اندراجَ الجزئي في الكلّي.(2)

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على المعتزلة، وهم القدريّة في قولهم بالتفويض الثاني أي بتقدّم قدرة العبد على فعل في وقت على ذلك الوقت، قالوا: إنّ العبد قادر في الحال على الفعل والترك في ثاني الحال، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» استدلالُ قدريٍّ على ذلك بقوله تعالى: «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3) وجوابُ أبي عبداللّه عليه السلام عنه.

وحاصله: أنّه ليس المراد بالاستطاعة هنا القدرة، بل المراد آلة للحجّ يظنّ معها تحقّق القدرة عليه في وقته إن لم يترك باختياره شيئا ممّا يتوقّف عليه وكان باختياره، فلا ينافي التوقّف على الإذن المعلوم بالبراهين القاطعة. وسيجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة» تفصيل بيانه.

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون إثبات الإذن في الخصال السبع للردّ أيضا على الأشاعرة .

ص: 441


1- في «ج» : «المراد بالإذن هاهنا» بدل «الإذن له معان والمراد به هاهنا» .
2- في «ج» : «تحت الكلّ ، نحو : «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ»» بدل «في الكلّ أو اندراج الجزئي في الكلّي» .
3- آل عمران (3) : 97 .

والجهميّة القائلين بأنّ أفعال العباد وتروكهم صادرة عن اللّه ، وذلك لأنّه لا معنى لإذن أحد فيما يصدر عن نفسه.

(وَكِتَابٍ). المراد به كتابة صحيفة أعمال العباد، كما في قوله تعالى في سورة الكهف: «مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرا»(1)، وفي سورة القمر: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ».(2)

أو المراد بالكتاب وجوب خلق كلّ كائن عليه تعالى عقلاً؛ إمّا خلق تقدير، كما في أفعال العباد وتروكهم، وهو ما نحن فيه؛ وإمّا خلق تكوين، كما في أفعاله تعالى، وهو غير ما نحن فيه.

وخلق التقدير لأفعال العباد وتروكهم إنّما يكون بالخصال الخمس المتقدّمة.

والتعبير عن الوجوب بالكتاب محتمل في قوله تعالى في سورة البقرة: «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»(3) بناءً على أن يكون المراد بالكتاب وجوبَ التربّص أربعةَ أشهر وعشرا، وبأجله آخرَ مدّته. وقد اُشير إلى وجوب خلق كلّ كائن عليه تعالى _ سواء كان فعلاً أم تركا؛ لاشتمال خلقه على الحِكَم والمصالح التي لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب _ وإلى أنّه ليس خلق شيء منها على صفة المباح، في قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: «وَإِنْ مِنْ شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».(4)

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على منكري الأديان، أو على المجبّرة وهم الأشاعرة ومن والاهم، وهم الجهميّة، فإنّ الجهميّة نفوا قدرة العبد رأسا،(5) والأشاعرة ضيّقوا دائرة قدرة العبد في مقابلة ما وسّعت القدريّة، دائرة قدرته،(6) كما مرّ .

ص: 442


1- الكهف (18) : 49 .
2- القمر (54) : 52 _ 53 .
3- البقرة (2) : 235 .
4- الإسراء (17) : 44 .
5- حكاه في المواقف ، ج 2، ص 117 عن الجهميّة ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .
6- حكاه في المواقف ، ج 2 ، ص 117 عن القدريّة ، وحكاه ابن ميثم في قواعد المرام ، ص 108 ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .

في الإذن. والحقّ الأمر بين الأمرين.

قالت الأشاعرة: قدرة العبد على فعل مساوقة لاتّصافه به تبعا لداعيه إلى الفعل، والمؤثّر في الفعل هو اللّه تعالى وقدرته على تركٍ مساوقةٌ لاتّصافه به تبعا لداعيه إلى الترك، والتارك هو اللّه تعالى، فإنّ معنى الترك عدم الفعل ممّن من شأنه التأثير في الفعل، لا العدمُ مطلقا، ولذا لا يسمّى الجدار تاركا للصلاة قال(1): إنّ المؤمن لا يقدر على الكفر، والكافر لا يقدر على الإيمان. فأنكرت الجهميّة والأشاعرة لذلك التحسين والتقبيح العقليّين، وزعموا أنّه لا يجب على اللّه تعالى شيء،(2) والأمر بين الأمرين أنّ العبد قادر على كلّ من الفعل والترك ردّا على المجبّرة أي الجهميّة، والأشاعرة، وأنّ قدرته على فعل في وقت(3) لا تتقدّم على ذلك الوقت ردّا على القدريّة المفوّضة.

واعلم أنّ في أفعال العباد مذهبا حصل من مزج الفلسفة بالاعتزال، وهو أنّ تخلّف فعل العبد عن علّته التامّة محال، وأنّ قدرته على فعل في وقت يتقدّم على ذلك الوقت، ويجب على اللّه كلّ لطف ناجع. وهذا مذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة ومن تبعه.(4) وهذا قول بالجبر بمعنى رفع اللوم عن فعل العبد من جهة، وبالتفويض من جهتين اُخريين.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ اُصول المذاهب في أفعال العباد خمسة.

(وَأَجَلٍ). المراد به وقت الحساب للأعمال يوم القيامة، فإنّه كأجل الديون المكتوبة في الصكوك بين الناس؛ أو المراد بالأجل الوقت المعيّن لوجوب خلق الكائن على اللّه .

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على منكري الحشر والحساب والجزاء، أو على منكري البداء من اليهود والفلاسفة القائلين بأنّ جميع معلولاته تعالى صادرة عنه تعالى دفعةً واحدة دهريّة، لا ترتّب لها بحسب الصدور عنه زمانا، كما مرّ تفصيله في الباب السابق. .

ص: 443


1- في «ج» : «قالوا» .
2- فصَّل ذلك الشيخ جعفر سبحاني في رسالة في التحسين والتقبيح العقليّين ، ص 61 ، وخصّص الفصل العاشر لأدلّة المنكرين .
3- في «ج» : «وقت في فعل» .
4- حكاه في المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .

ويحتمل أن يكون المراد بالأجل آخر مدّة الكائن، وحينئذٍ إثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على الزنادقة الفلاسفة في قولهم بدوام حركات الفلكيّات الصادرة عن نفوسها بزعمهم ودوام أنواع أفعال العباد ونحوهم.(1)

هذا والردّ عليهم في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه» في قوله عليه السلام : «وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عُدِمَتْ عند ذلك الآجالُ والأوقات، وزالت السنون والساعات» إلى قوله: «ثمّ يعيدها بعد الفناء».(2)

(فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ) أي بدليل.

(عَلى نَقْضِ)؛ بالمعجمة، وصحّح بعضهم بالمهملة بحكّ النقطة، ولعلّه رآه في نسخة فأعجبه، و«نقص» حينئذٍ من المتعدّي. ويمكن أن تكون «على» نهجيّةً، وصلةَ «يقدر» مقدّرا و يكون «نقص» من اللازم ومعناه: فمن زعم أنّه يقدر على فعل مع نقصان.

(وَاحِدَةٍ) من الخصال السبع (فَقَدْ كَفَرَ).

(وَ رَوَاهُ) أي روى هذا المضمون (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَابْنِ مُسْكَانَ مِثْلَهُ). أي حال كونه مثل الحديث السابق في اللفظ بلا تغيّر أصلاً عن أبي عبداللّه عليه السلام .

الثاني: (وَرَوَاهُ) أي وروى عليّ بن إبراهيم مضمونه.

(أَيْضا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام ، قَالَ: لاَ يَكُونُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاْءَرْضِ إِلاَّ بِسَبْعٍ) أي سبع خصال:

(بِقَضَاءٍ، وَقَدَرٍ،(3) وَإِرَادَةٍ، وَمَشِيئَةٍ). ترتيب هذه الخصال على عكس أزمنة وقوعها، .

ص: 444


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 614 .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .
3- في حاشية «أ» : «قوله: إلاّ بسبع بقضاء وقدر إلى آخره ، الكلام في هذا الحديث كالكلام في الحديث الأوّل إلاّ أنّه اُخذ في هذا الحديث من أقرب الاُمور والخصال من المعلول ووجوده ، وفي الحديث السابق من أقربها من المبدأ (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 485 .

لأنّه ربّما كان أوضحَ في ذهن بعض المخاطبين.(1)

(وَكِتَابٍ، وَأَجَلٍ، وَإِذْنٍ). تأخير الإذن عن الكتاب والأجل للفصل بينه وبين الخصال الأربع؛ إشارةً إلى أنّ إثبات الإذن في الخصال السبع للردّ على المعتزلة القدريّة في خلافٍ آخَرَ غير الخلاف الذي إثبات الخصال الأربع الاُول للردّ عليهم فيه.

(فَمَنْ زَعَمَ) أي ادّعى (غَيْرَ هذَا، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ، أَوْ رَدَّ عَلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ). الشكّ من الراوي، ومعنى الردّ على اللّه أنّه ينافي ما في القرآن صريحا في آيات كثيرة. .

ص: 445


1- في «ج» : «المخالفين» .

الباب السادس والعشرون: باب المشيئة و الإرادة

الباب السادس والعشرون بَابُ الْمَشِيئَةِ وَ الاْءِرَادَةِ

فيه ستّة أحاديث.

أي ما يوضح معنى المشيئة والإرادة، ويدلّ المتأمّلَ على استنباط معناهما، وفيه اقتصار أي «وأخويهما وهما القدر والقضاء».

وهذا الباب كالشرح لبعض ما في الباب السابق، وللردّ على المعتزلة في خلافَيْهم المذكورين في الباب السابق.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليهماالسلام يَقُولُ: لاَ يَكُونُ شَيْءٌ)؛ أي فعل أو ترك اختياري للعباد.

(إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى. قُلْتُ: مَا مَعْنى «شَاءَ»؟). المقصود بالذات السؤال عن المشيئة؛ لأنّ معنى المشتقّ معلوم لغةً، ولذا:

(قَالَ: «ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ»(1)) أي فعل العبد مثلاً، فإنّ الحكم يتناول تركه أيضا، وابتداؤه أوّل فعل أو ترك يفضي إلى اختيار العبد إيّاه، وكأنّه سقط من قلم نسّاخ الكافي هنا شيء،

ص: 446


1- في حاشية «أ» : «قوله: ما معنى شاء قال : ابتداء الفعل ، أي المشيّة ابتداء الفعل، أي أوّل ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول . وقوله : تقدير الشيء من طوله و عرضه ، أي من التحديدات والتعيينات بالأوصاف والأحوال كالطول والعرض . وقوله : إذا قضاه أمضاه ، أي إذا أوجبه باستكمال شرائط وجوده وجميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده . وذلك الذي لا مردّ له ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التامّ (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 486 .

فإنّ في «باب الإرادة والمشيئة» من كتاب المحاسن للبرقي _ رحمه اللّه تعالى _ في هذه الرواية بعد هذا «قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه» انتهى.(1) وهو أحسن وأوفق بما يجيء في رابع الثلاثين.(2) ومعنى «الثبوت عليه» البقاء على الابتداء، وهو أن يصدر عنه تعالى _ بعد المشيئة وقبل وقت قدرة العبد بزعم المعتزلة _ فعل أو ترك موافق للمشيئة في الإفضاء إلى اختيار العبد الفعلَ، والحاجةُ إلى اعتبار الإرادة بيانُ أنّ الفعل لم يخرج بمجرّد مشيئة اللّه له عن قدرة اللّه على التصرّف فيه، لأنّ الوجوب بالنسبة إلى المشيئة ليس وجوبا سابقا، بل هو وجوب لاحق، كما يجيء في ثالث «باب الاستطاعة».

(قُلْتُ: مَا مَعْنى «قَدَّرَ»؟). المراد ما معنى التقدير كما مرّ.

(قَالَ : «تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ») أي معناه معلوم من اللغة، فإنّ الذي يظنّ قدرته على فعل بعد الحال يقدّر في نفسه ما يتعلّق بالفعل، كما في الحذّاء يقدّر قبل قطع الأديم طولَ ما يقطع منه وعرضَه.

ويفهم من ذلك أنّ معنى التقدير تعيين جهات الفعل وصفاته باعتبار زيادته ونقصانه، وباعتبار شدّته وضعفه قبل وقت الفعل متّصلاً به، وأنّ معنى تقدير اللّه لفعل العبد مثلاً فعلٌ أو ترك صادر من اللّه قُبيلَ وقت فعل العبد، موافق للمشيئة والإرادة في الإفضاء إلى فعل العبد، والحاجةُ إلى اعتبار التقدير ظاهر ممّا مرّ في الحاجة إلى اعتبار الإرادة.

(قُلْتُ: مَا مَعْنى «قَضى»؟ قَالَ : إِذَا قَضى أَمْضَاهُ) أي معناه التدبير في وقت الفعل، وهو الذي يتعقّبه بلا فصل الإمضاء؛ أي جعل الفعل ماضيا وهو اختياري، فإنّه لولا القضاء لم يصر الفعل ماضيا. والحاجةُ إلى اعتبار القضاء بيان أنّ الفعل لم يخرج بمجرّد المشيّة والإرادة والتقدير عن قدرة اللّه على التصرّف فيه؛ لأنّ الوجوب بالنسبة إلى الثلاثة وجوب لاحق.

(فَذلِكَ) أي ما تعلّق به القضاء والإمضاء. .

ص: 447


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، باب الإرادة والمشيئة، ح 237 .
2- أي في الحديث 4 من باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين .

(الَّذِي لاَ مَرَدَّ)؛ بالميم والراء المهملة المفتوحتين وشدّ الدال المهملة، مصدر ميمي.

(لَهُ)؛ لأنّ القدرة على الماضي بمعنى صحّة الفعل، والتركُ في الزمان الماضي غير معقول، فيصير محتوما.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : شَاءَ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى؟). المفعول محذوف؛ أي كلَّ صادر عن العباد من فعل وترك.

(قَالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: وَأَحَبَّ؟) أي كلَّ صادر عن العباد.

(قَالَ: «لاَ». قُلْتُ: وَكَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ ، وَقَدَّرَ وَقَضى وَلَمْ يُحِبَّ؟!).

لمّا كان لفظ المحبّة يستعمل في العباد مساوقا للمشيئة والإرادة وأخويهما، اشتبه على السائل، وقاس استعماله في اللّه على استعماله في الخلق، مع أنّ مشيئة اللّه ليس كمشيئة الخلق، ومحبّة اللّه ليس كمحبّة الخلق، فإنّه تعالى لا يتّصف بالشوق والميل ونحو ذلك من صفات الخلق، فالمشيئة فيه تعالى يرجع إلى أفعال خاصّة أو تروك خاصّة سبق بيانها في أوّل الباب، وكذا أخواتها، ومحبّة اللّه لفعل العبد _ مثلاً _ طلبه منه ومدحه وثوابه عليه، أو عدم نهيه عنه، فليس استعمال المحبّة فيه تعالى على مساوقة المشيئة ونحوها.

(قَالَ: «هكَذَا خَرَجَ إِلَيْنَا»(1)). يعني ليس هذا نزاعا في المعنى، إنّما هو أمرٌ راجع إلى .

ص: 448


1- في حاشية «أ» : « قوله : هكذا خرج إلينا، أي هكذا نُقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله ووصل منه إلينا . ولمّا كان فهمه يحتاج إلى لطف قريحةٍ ، والحكمةُ مقتضية لعدم بيانه للسائل ، اكتفى ببيان المأخذ النقلي عن التبيين العقلي . ولعلّ عدم المنافاة بين تعلّق الإرادة والمشيّة بشيء وأن لا يحبّه ؛ لأنّ تعلّق المشيّة والإرادة بما لا يحبّه بتعلّقهما بوقوع ما يتعلّق به إرادة العباد بإرادتهم وترتّبه عليها ، فتعلّقهما بالذات بكونهم قادرين مريدين لأفعالهم وترتّبها على إرادتهم وتعلّقهما بما هو مرادهم بالتبع ، ولا حَجْر في كون متعلّقهما بالتبع شرّا غيرَ محبوب له ؛ فإنّ دخول الشرّ وما لا يحبّه في متعلّق مشيّته وإرادته بالعرض جائز ، فإنّ كلّ مَن تعلّق مشيّته وإرادته بخير وعَلم لزومَ شرّ له شرّيّةً لا تقاوم خيريّتَه تعلّقتا بذلك الشرّ بالتبع ، وذلك التعلّق بالتبع لا ينافي أن يكون المريد خيّرا محضا ولا يكون شرّيرا ومحبّا للشرّ (ميرزا رحمه اللّه )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 486 .

استعمال الألفاظ، وقد خرج إلينا في استعمالات القرآن هكذا؛ حيث قال تعالى في سورة البقرة: «وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ»(1)النساء (2) : 148 .(3)، وقال في سورة النساء: «لاَ يُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ»(2)، وقال في سورة الدهر والتكوير: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(4)، وفي سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(4)، وفي سورة الأنعام: «فَمَنْ يُرِدْ اللّه ُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّه»(5)هود (11) : 34 .(6)، وقال تعالى في سورة هود حكايةً عن نوح: «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(6)، وأمثال ذلك كثيرة.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ)؛ بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الموحّدة، ومهملة.

(عَنْ وَاصِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَرَ اللّه ُ وَلَمْ يَشَأْ، وَشَاءَ وَلَمْ يَأْمُرْ(7))؛ يعني ليس المشيئة مساوقةً لأمره تعالى؛ لتحقّق كلّ منهما بدون الآخر.

وهذا ردّ على المعتزلة في أوّل خلافَيْهم معنا، وقد مرَّ تحقيقه في أوّل الخامس والعشرين.(8)

(أَمَرَ إِبْلِيسَ أَنْ يَسْجُدَ لاِآدَمَ، وَشَاءَ أَنْ لاَ يَسْجُدَ). استئنافٌ بياني. .

ص: 449


1- البقرة
2- التوبة (9) : 46 .
3- : 205 .
4- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29 .
5- الأنعام
6- : 125 .
7- في حاشية «أ» : «قوله : أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر أي أمر اللّه بشيء لم يشأه مشيّةً منجرّة إلى وقوعه ، وشاء مشيّةً منجرّةً إلى وقوع المُشاء ولو بالتبع ولم يأمر ، كما أمر إبليس بالسجود لآدم عليه السلام ولم يشأ أن يسجد ، بل شاء أن لا يسجد بالتبع مشيّةً منجرّة إلى الوقوع ، ولو شاءه كذلك لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة ولم يشأ تركه ، بل شاء أن يأكل بالتبع ، ولو لم يشأ لم يأكل (ميرزا رحمه الله تعالى)» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 487 .
8- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(وَلَوْ شَاءَ لَسَجَدَ )؛ يعني ولو تحقّق مشيئته تعالى للسجدة في ضمن فردها الذي هو موافق لمذهب المعتزلة _ وهو أن يكون بحيث إذا قدر على اللطف المفضي إلى اختيار السجدة لفعل _ لصدر السجدة عن إبليس.

(وَنَهى آدَمَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَشَاءَ أَنْ يَأْكُلَ،(1) وَلَوْ لَمْ يَشَأْ) أي لو شاء عدم الأكل في ضمن الفرد الموافق لمذهب المعتزلة.

(لَمْ يَأْكُلْ). أوّل الشيخ ميثم البحراني في شرحه الكبير لنهج البلاغة نهيَ آدم وزوجَته بنهي أولادهما عن قرب شجرة العصيان، والجنّةَ برضوان اللّه ؛ لأنّ هذا أقرب من جعل النهي للتنزيه مع قوله: «عَصَىآ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى»(2) ونحو ذلك.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيِّ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ) أي الرضا عليه السلام .

(قَالَ: إِنَّ لِلّهِ اِءِرَادَتَيْنِ وَمَشِيئَتَيْنِ: إِرَادَةَ حَتْمٍ، وَإِرَادَةَ عَزْمٍ).(3)

دفع شبهتين للمعتزلة: .

ص: 450


1- في الكافي المطبوع : + «منها» .
2- طآه (20) : 125 .
3- في حاشية «أ» : «قوله : إرادةَ حتم وإرادة عزم ، لعلّ المراد بإرادة الحتم الإرادةُ المستجمعة لشرائط التأثير المنجرّة إلى الإيجاب والإيجاد وكذا المشيّة . والمراد بإرادة العزم الإرادةُ المنتهية إلى طلب المراد والأمر أو النهي ، وينفكّ أحدهما عن الآخر ؛ ينهى عن الشيء ويريد تركه ويطلبه وهو يشاء المنهيّ ، ويتعلّق مشيّته المستجمعة لشرائط التأثير به ولو بالتبع ؛ ويأمر بالشيء ويطلبه ويريد فعله وهو لا يشاء فعله تلك المشيّة ، كما أنّه نهى آدم و زوجتَه عن الأكل من الشجرة ويشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكل ، أو شاء تركَ الأكل ، لم يغلب إرادتهما ومشيّتهما مشيّةَ اللّه . وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلب مشيّةُ إبراهيم تركَ ذبحه مشيّةَ اللّه في ذبحه . وفي هذه الرواية دلالة على أنّ الأمر بذَبح إسحاق وأنّه عليه السلام لم يشأه ، وأمّا على أنّ ما وقع من الإقدام على الذَبح والفداء بالنسبة إليه فلا . ويحتمل وقوع هذا الأمر ونسخه وتغييره إلى الأمر بذبح إسماعيل و وقوعَ الإقدام على الذبح ومقدّماته بالنسبة إليه (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 488 .

الاُولى: أنّه لو أراد اللّه عصيان العاصي لكان تكليفه بالطاعة تكليفا بغير المقدور.(1)

الثانية: أنّ إرادة العصيان قبيحة لا تصدر عن اللّه .(2) والظاهر من رواية ابن بابويه هذا في كتاب التوحيد في «باب التوحيد ونفي التشبيه»(3) أنّه لدفع الثانية.

وتقرير الدفع: أنّ للّه تعالى إرادتين: إحداهما: إرادة حتم؛ أي لا تبقى معها للعبد قدرة واختيار، بل يصير المراد محتوما كإرادة مرض العبد وصحّته. وثانيتهما: إرادة عزم؛ أي يبقى للعبد معها اختيار وعزم. وقد مرّ بيان الثانية في أوّل الخامس والعشرين.(4)

وإرادة اللّه لعصيان العاصي إرادة عزم لا إرادة حتم؛ لاستحالة تعلّقها مع بقاء التكليف، فلا يلزم تكليف ما لا يُطاق؛ لأنّ وجوب العصيان بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالى للعصيان وجوب لاحق لا سابق، ولا يلزم أيضا أن يصدر عن اللّه قبيح، وقس على ذلك مشيئته تعالى لعصيان العاصي.

(يَنْهى) أي قد ينهى عن شيء.

(وَهُوَ يَشَاءُ) أي المنهيَّ عنه مشيئةَ عزم. وهذا كاف في الجواب عن شبهتي المعتزلة، وأمّا قوله:

(وَيَأْمُرُ) أي وقد يأمر بشيء.

(وَهُوَ لاَ يَشَاءُ) أي المأمور به. ومعناه أنّه يشاء عدم المأمور به بقرينة قوله في آخر الحديث: «مشيئة اللّه » فالمراد به بيان مشيئة الحتم ليتّضح الأمران.

(أَ وَمَا رَأَيْتَ). نشر على ترتيب اللفّ. وهذا ناظر إلى قوله: «ينهى، وهو يشاء»، .

ص: 451


1- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 عن المعتزلة .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 عن المعتزلة .
3- التوحيد ، ص 30 .
4- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

والهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو للعطف على مقدّر للإشارة إلى كثرة الأدلّة، فكأنّه قال: أما رأيت كذا وكذا وما رأيت.

(أَنَّهُ نَهى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ أَنْ يَأْكُلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَشَاءَ ذلِكَ؟) أي أن يأكلا من الشجرة.

(وَلَوْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْكُلاَ) أي ولو شاء أن لا يأكلا، بقرينة قوله:

(لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمَا) أي للأكل (مَشِيئَةَ اللّه ِ) أي لعدم الأكل.

والمراد بالمشيئة لعدم الأكل ما مرّ في ثالث الباب من تحقّقها في ضمن الفرد الذي يزعمه المعتزلة. ففيه ردّ عليهم بأنّه يستلزم إخراج اللّه من سلطانه، وسيجيء بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

وقال ابن بابويه في كتابه في التوحيد في الباب المذكور:

إنّ اللّه _ تبارك وتعالى _ نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة، وقد علم أنّهما يأكلان منها، لكنّه عزّ وجلّ شاء أن لا يحُول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر، فهذا معنى مشيئته فيهما، ولو شاء اللّه _ عزّ وجلّ _ منعهما من الأكل بالجبر ثمّ أكلا منها، لكانت مشيئتهما قد غلبت مشيئته كما قال العالم عليه السلام ، تعالى اللّه عن العجز علوّا كبيرا. انتهى.(1)

وفيه ما فيه.

ذهب جمع إلى أنّ «لو» تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا.

وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين، ونصّ عليه جماعة من النحويّين، والمتبادر في الاستعمال عند عدم القرينة الصارفة.

وذهب آخرون إلى أنّ «لو» إنّما تفيد امتناع الشرط، ولا تفيد امتناع الجواب؛ تمسّكا بقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْ ءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا»(2)، وقوله: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْءَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ .

ص: 452


1- التوحيد ، ص 65 ، ذيل ح 18 .
2- الأنعام (6) : 111 .

أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه ِ»(1)،(2) وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في بنت اُمّ سلمة: «إنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي؛ إنّها لاَبنة أخي من الرضاعة»(3) وأمثال ذلك.

فنقول هنا على القول الأوّل: يجب تأويل ما نحن فيه بأحد أمرين:

الأوّل _ : وهو الأظهر _ : أنّ فيه وضعَ اللازم المنفيّ موضعَ الملزوم المنفيّ، تقديره: ولو لم يشأ أن يأكلا لم يأكلا؛ إذ لو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة اللّه . والمراد بالشرطيّة الثانية أنّه لو أكلا حين لم يشأ أن يأكلا لغلبت، كما قالوا في قوله تعالى: «لَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا»(4).

الثاني: أنّ المراد لو لم يشأ أن يأكلا لاجتمع ذلك مع عدم غلبة مشيئتهما مشيئة اللّه .

ومثل هذا التأويل جارٍ في جميع ما تمسّك به أهل القول الثاني.

(وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ). هذا ناظر إلى قوله: «ويأمر وهو لا يشاء».

(أَنْ يَذْبَحَ). فيه مسامحة؛ لأنّ المأمور به في الحقيقة أخذ السكّين باليد وتحريك اليد مع السكّين على النحو المعهود على حلق أحد، فإن ترتّب عليه انقطاع الأوداج سمّي ذبحا، وإلاّ فلا. وقطع الأوداج من الأفعال المولّدة، وفاعل الأفعال المولّدة هو اللّه عند المحقّقين؛(5) لأنّها بتبعيّة داعي اللّه لا بتبعيّة داعي العبد، وفعله تعالى ذلك عقيب تحريك اليد بإجراء العادة، وهو تعالى قادر على عدمه بخرق العادة. ولمّا كان عادته تعالى فعلَ القطع عقيب التحريك، سمّي الأمر بالتحريك أمرا بالذبح مسامحةً، فإنّ الأمر بغير المقدور حقيقةً غير جائز. وقد دلّ الدليل على أنّ النسخ قبل وقت الفعل غير جائز.(6) .

ص: 453


1- لقمان (31) : 27 .
2- مغنى اللبيب ، ج 1 ، ص 257 .
3- صحيح البخاري ، ج 6 ، ص 125 ، كتاب النكاح ؛ و ص 195 كتاب النفقات ؛ صحيح مسلم ، ج 4 ، ص 165 ، باب تحريم الربيبة ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 624 ، ح 1939 ، باب ما يحرم من الرضا عليه السلام .
4- الأنفال (8) : 22 .
5- المواقف ، ج 2 ، ص 131 .
6- اُنظر عدّة الاُصول ، ج 2 ، ص 520 ، فصل 5 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ج 3 ، ص 37 ، فصل: إذا نسخ الشيء قبل وقت فعله .

وسيجيء في «كتاب الحجّ» في تاسع(1) «باب حجّ إبراهيم وإسماعيل» قوله: «ثمّ أخذ المدية(2) فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، ثمّ انتحى عليه،(3) فقلبها جبرئيل على حلقه».(4)

(إِسْحَاقَ). يجيء في عاشر(5) «باب حجّ إبراهيم وإسماعيل» ما يدلّ أيضا على أنّ الذبيح إسحاق،(6) وفي خامسه(7) ذكر الخلاف فيه.(8)

وروى ابن بابويه في معاني الأخبار في «باب نوادر المعاني» عن أبي عبداللّه عليه السلام الاستدلال بالقرآن على أنّ الذبيح إسماعيل، وفي آخرها: «فمن زعم أنّ إسحاق أكبر من اءسماعيل وأنّ الذبيح إسحاق فقد كذب بما أنزل اللّه عزّ وجلّ في القرآن من نبئهما» انتهى.(9)

وقال في كتاب الخصال في «باب الاثنين»:

قد اختلفت الروايات في الذبيح، فمنها: ما ورد بأنّه إسماعيل، ومنها: ما ورد بأنّه إسحاق. ولا سبيل إلى ردّ الأخبار متى صحّ طرقها، وكان الذبيح إسماعيل، لكن إسحاق لمّا ولد بعد ذلك تمنّى أن يكون هو الذي اُمر أبوه بذبحه، فكان يصبر لأمر اللّه ، ويسلّم له كصبر أخيه وتسليمه، فينال بذلك درجته في الثواب، فعلم اللّه _ عزّ وجلّ _ ذلك من قلبه فسمّاه اللّه _ عزّ وجلّ _ بين ملائكته ذبيحا؛ لتمنّيه ذلك. انتهى.(10)

(وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَلَوْ شَاءَ) أي أن يذبحه.

(لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَةُ إِبْرَاهِيمَ) أي لعدم الذبح. .

ص: 454


1- في «أ» : «عاشر» .
2- المدية هي السكين والشفرة . النهاية ، ج 4 ، ص 310 (مدا) .
3- الانتحاء : الاعتماد والميل على الشيء ؛ يقال : انتحى على سيفه : إذا اعتمد عليه .
4- الكافي ، ج 4 ، ص 208 .
5- في «ج» : «تاسع» .
6- الكافي ، ج 4 ، ص 208 ، ح 9 و 10 .
7- في «ج» : «وفي ذيل رابعه» بدل «وفي خامسه» .
8- الكافي ، ج 4 ، ص 205 ، ح 4 و 5 .
9- معاني الأخبار ، ص 391 ، باب نوادر المعاني ، ذيل ح 34 .
10- الخصال ، ص 57 ، ذيل ح 78 .

(مَشِيئَةَ اللّه ِ) أي للذبح. هذا أيضا من وضع اللازم المنفيّ موضع الملزوم المنفيّ، لكنّ اللزوم فيه بواسطة تقدير الكلام، ولو شاء أن يذبحه لما وقع عدم الذبح؛ إذ لو وقع عدم الذبح حينئذٍ لوقع بمشيئة إبراهيم، ولو وقع عدم الذبح بمشيئة إبراهيم حينئذٍ لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه .

ويمكن أن يُقال: إنّ المراد بمشيئة إبراهيم عدمَ الذبح تمنّيه في نفسه عدمَ ترتّب قطع الأوداج على التحريك؛ لرقّة الاُبوّة، وحينئذٍ فاللزوم بلا واسطة.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: «شَاءَ وَأَرَادَ، وَلَمْ يُحِبَّ وَلَمْ يَرْضَ) أي قد تتعلّق مشيّته تعالى وإرادته بشيء لا يتعلّق به حبّه ورضاه، فليست مشيّته وإرادته مساوقتين لحبّه ورضاه.

وهذا ردّ على المعتزلة في ثاني خلافَيْهم معنا، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين.(1)

(شَاءَ أَنْ لاَ يَكُونَ)؛(2) تامّة، ويحتمل كونها ناقصةً وخبرها قولَه: «بعلمه»، وقولُه: «شاء» مبتدأ محكيّ والمضاف مقدّر؛ أي معنى شاء، والمقصود معنى المشيئة، لأنّ معنى المشتقّ معلوم لأهل اللغة، فقوله: «أن لا يكون» خبر المبتدأ، و«أن» مخفّفة من المثقّلة، أو مفسّرة عند من لا يشترط تقدّم(3) الجملة على «أن» المفسّرِة. ويجعل(4) منها قوله: «وآخر دعواهم أن الحمد للّه ربّ العالمين» فقوله: «لا يكون» بالرفع. .

ص: 455


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- في حاشية «أ» : «قوله : شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه، أي شاء بالمشيّة الحتميّة أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه ، وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها . وأراد بالإرادة الحتميّة مثل ذلك و لم يحبّ الشرور اللازمة التابعة للخير والأصلح ، كأن يقال : ثالث ثلاثة ، وإن يكفر به ، ولم يرض بها (ميرزا رحمه الله تعالى)» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 488 .
3- في «ج» : «بعدم» .
4- في «ج» : «ويحتمل» .

وفي رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد «شاء أن لا يكون في ملكه».(1)

(شَيْءٌ) أي فعل أو ترك صادر عن العباد، فإنّه المقصود بالبيان وإن كان الحكم عامّا.

(إِلاَّ بِعِلْمِهِ). الباء للسببيّة. والمراد «بعلمه» ما يصدر عنه معلوما أنّه المصلحة أو للملابسة؛ أي إلاّ مع علمه تعالى بوجوه ما يفضي إلى كونه(2) وبوجوه ما يفضي إلى عدمه. والمقصود أنّه ليس بمغلوبيّته تعالى ولا غفلته؛ تقول: فعلت كذا بعلم وعلى علم، أي لا بإكراه ولا غفلة، قال تعالى في سورة فاطر: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ»(3)، وفي سورة الدخان: «وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ»(4)، وفي سورة الجاثية: «وَأَضَلَّهُ اللّه ُ عَلَى عِلْمٍ»(5).

(وَأَرَادَ)؛ مبتدأ محكيّ.

(مِثْلُ)؛ خبر.

(ذلِكَ). الإشارة إلى أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه. والمراد بمثله إمّا عينه، فيتّحد معنى المشيئة والإرادة كما هو في بعض استعمالاتهما، وإمّا ما يغايره ويشابهه، فيكون الفرق بينهما أنّ المشيئة باعتبار الابتداء، والإرادةَ باعتبار ما بعده وقبل وقت القدر، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين.(6)

(وَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُقَالَ: ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ). معنى الحبّ هنا عدم النهي، فقول النصارى: «إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(7) ليس محبوبا عند اللّه وإن كان بمشيئته.

(وَلَمْ يَرْضَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ). معنى الرضا أيضا هنا عدم النهي، فكفر الكافر ليس مرضيّا عند اللّه وإن كان بمشيئته. .

ص: 456


1- التوحيد ، ص 343 ، باب المشيئة والإرادة ، ح 12 .
2- في «أ»: + «وبوجوه ما يفضي إلى كونه» .
3- فاطر (35) : 11 .
4- الدخان (44) : 32 .
5- الجاثية (45) : 23 .
6- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
7- المائدة (5) : 73 .

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : قَالَ اللّه ُ). يمكن أن يكون القول حديثا قدسيّا، وهو ما كان لفظه من اللّه تعالى وليس اللفظ جزءا من القرآن، وقيل: ما كان من اللّه لا بتوسّط جبرئيل. انتهى.

ويمكن أن يكون نقلاً من القرآن باعتبار أنّه مذكور بالمعنى في القرآن.

(ابْنَ آدَمَ )؛ بتقدير حرف النداء.

(بِمَشِيئَتِي). تقديم الظرف للحصر؛ أي لا بغلبتك عليَّ. وهذا ردّ للتفويض الأوّل من تفويضي المعتزلة، وقد مرّ بيانهما وبيان معنى المشيئة في أوّل الباب السابق.

(كُنْتَ)؛ بضمير الخطاب.

(أَنْتَ)؛ ضمير الفصل.

(الَّذِي تَشَاءُ). اُقيم في العائد ضمير المخاطب موضع الغائب، كما اُقيم ضمير المتكلّم موضعه في ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة».(1)

(لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ).(2) اللام للانتفاع، وهو شامل للطاعة والعصيان؛ لأنّ كلّ فعل أو ترك .

ص: 457


1- الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 126 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 4 ، المجلس 1 ، ح 2 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 130 ؛ الخرائج والجرائح ، ج 1 ، ص 218 .
2- في حاشية «أ» : «قوله : بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء إلى آخره ، أي بالمشيّة التي خلقتها فيك، وجعلتك ذا مشيّة _ وهي من آثار مشيّة اللّه سبحانه _ كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك على وفق هواها ما تشاء، وبالقوّة التي خلقتها فيك _ وهي من آثار قوّة اللّه ، ولعلّ المراد بها القوّة العقلانيّة _ أدّيتَ فريضتي، وبنعمتي التي أنعمتها عليك من قدرتك على ما تشاء، والقوى الشهوانيّةِ والغضبيّةِ _ التي بها حفظ الأبدان والأنواع وصلاحها _ قويتَ على معصيتي. وقوله: جعلتك سميعا بصيرا قويّا. السمعُ والبصر ناظر إلى الفقرة الثانية، والقوّةُ إلى الفقرة الثالثة. وقوله: ما أصابك من حسنة فمن اللّه ؛ لأنّه من آثار ما اُفيض عليه من جانب اللّه . وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، لأنّه من طغيانها بهواه. وقوله: وذاك أنّي أولى بحسناتك منك إلى آخره، بيان للفرق، مع أنّ الكلّ مستند إليه ومُنْتَهٍ به بالأخرة، وللعبد في الكلّ مدخل بالترتّب على مشيّته وقواه العقلانيّةِ والنفسانيّةِ بأنّ ما يؤدّي إلى الحسنات منها أولى به سبحانه؛ لأنّه من مقتضيات خيريّته سبحانه وآثارِه الفائضة من ذلك الجناب بلا مدخليّة للنفوس إلاّ القابليّة لها، وما يؤدّي إلى السيّئات منها أولى بالأنفس؛ لأنّها مَناقصُ، من آثار نقصها لا تستند إلاّ إلى ما فيه منقصة. وقوله: وذاك أنّني لا أُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون، بيان لكونه أولى بالحسنات بأنّ ما يصدر ويفاض من الخير المحض من الجهة الفائضة منه، لا يسأل عنه ولا يؤاخذ به؛ فإنّه لا مؤاخذة بالخير الصرف، وما ينسب إلى غير الخير المحض ومَن فيه شرّيّة ينبعث منه الشرّ يؤاخذ بالشرّ، فالشرور وإن كانت من حيث وجودها منتسبةً إلى خالقها، فمِن حيث شرّيّتها منتسبةٌ إلى مُنشئها وأسبابها القريبة المادّيّة؛ صدق اللّه العظيم (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 489 .

اختياري موقوف على الداعي، قال تعالى في سورة المدّثّر: «إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(1)، وفي سورة الإنسان: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(2)، ولعلّه لم يقل بمشيّئتي تشاء لنفسك ما تشاء مع أنّه أخصر إشارةً إلى أنّ ابن آدم يجعل نفسه معتدّا بها، ومشارا إليها في مشيّئته الأفعال الحسنة لنفسه.

(وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي) أي بالقوّة التي جعلتها فيك بالتوفيق للقبول منّي ووضع ثقل العمل كما يجيء في ثاني «باب السعادة والشقاء». وتقديم الظرف هنا أيضا للحصر كما مرّ، لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

(وَبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلى مَعْصِيَتِي). أشار بتغيير الاُسلوب إلى أنّه تعالى لا يفعل ما يقوّي معصية العاصي لأجل عصيانه، بل لمصلحة اُخرى أوجبته، بخلاف ما يقوّي جانب الطاعة.

(جَعَلْتُكَ سَمِيعا بَصِيرا قَوِيّا). بيانٌ لبعض النعمة على سبيل المثال، وهو في أكثر المكلّفين.

والمراد بالقوّة قوّة البدن الحاصلةُ بالصحّة ونحوها، أو القوّة الحاصلة بكثرة الأتباع.

(«مَا أَصَابَكَ). استئناف لبيان ما يتفرّع على قوله: «وبقوّتي» إلى آخره. وهذا مذكور بلفظه في سورة النساء.(3) و«ما» موصولة متضمّنة معنى الشرط. .

ص: 458


1- المدثر (74) : 54 _ 56 .
2- الإنسان (76) : 29 _ 30 .
3- في حاشية «أ» : «والمخاطب فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله (مهدي)» .

(مِنْ)؛ للتعليل نحو: «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا»(1)، وقيل: للتبيين.(2)

(حَسَنَةٍ) أي حسن من الأفعال أو التروك، والتأنيث باعتبار الصفة والخصلة، فالمراد ب«ما» جزاء الحسنة في الدنيا أو الآخرة.

(فَمِنَ اللّه ِ) أي ليس مبنيّا على استحقاقك إيّاه بالمكافأة، بل هو فوق المكافأة، ومبنيّ على الكرم.

(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ)؛ للتعليل، وقيل: للتبيين.(3)

(سَيِّئَةٍ) أي قبيح من الأفعال أو التروك.

(فَمِنْ نَفْسِكَ»(4)) أي مبنيّ على استحقاقك إيّاه بالمكافأة، بل هو دون المكافأة؛ قال تعالى في سورة حآم عآسق: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ».(5)

يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب نادر أيضا»(6) ما يدلّ على أنّ هذه الآية ليست في المعصومين، فما أصابهم لأسباب اُخرى منها تعريضهم للأجر العظيم بالصبر عليه.

(وَذَاكَ). تعليلٌ لقوله: «ما أصابك» إلى آخره.

(أَنِّي) أي لأنّي (أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ) أي أعمالك الصالحة (مِنْكَ).

معنى كونه تعالى أولى بها من العبد أنّ الفعل الحسن قد يكون في مقابلة نعمة سابقة، وقد يكون لطلب ثواب لاحق. ولو بنى معاملته تعالى مع المطيع على المكافأة، كان جعل حسناته في مقابلة النعم السابقة أولى من جعلها لطلب ثواب لاحق؛ فالمراد بالأولويّة الأولويّة على تقدير فرض المكافأة، لا مطلقا؛ فلا ينافي ذلك وجوب الثواب .

ص: 459


1- نوح (71) : 25 .
2- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 137 .
3- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 137 .
4- النساء (4) : 79 .
5- الشورى (42) : 30 .
6- الكافي ، ج 2 ، ص 450 ، ح 3 .

عليه تعالى في قضيّة الكرم وإن يستحقّ المطيع الثواب عليها بهذا الاعتبار وإن لم يستحقّه عليها باعتبار المكافأة. وقد دلَّ البرهان، على أنّه لا يصدر عنه تعالى ثواب ولا عقاب ولا فعل غير ذلك ولا ترك إلاّ بصفة الوجوب.

(وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي).

معنى الأولويّة هنا أنّ القبيح قد يتجاوز عنه لملاحظة ما يجبره من الحسنات السابقة أو اللاحقة الفارغة للجبر، وقد يعاقب عليه لعدم مقارنته ما يجبره، فيبقى على فاعله، ولو بنى معاملته تعالى مع المسيء على المكافأة، كان جعل سيّئة ممّا يبقى على فاعله أولى من جعله ممّا يتجاوز عنه، سواء كانت السيّئة من المقرّبين، أو من غيرهم؛ لأنّ حسنات المقرّبين غير فارغة للجبر؛ لأنّ اللّه أولى بها من العبد كما مرّ آنفا.

فالمراد بالأولويّة هنا أيضا الأولويّة على تقدير فرض المكافأة، فلا ينافي وجوب العفو عن بعض العُصاة في قضيّة الكرم، ووجوب عقاب بعض العصاة؛ لأنّ العفو عنه ظلم شديد «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ».(1)

(وَذَاكَ). تعليلٌ للتعليل السابق.

(أَنَّنِي) أي لأنّني. يجوز فيه حذف نون الوقاية _ كما سبق _ وذكرُها كما هنا.

(لاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) أي لا اُحاسب على معاملتي مع عبادي في التكليف والثواب والعقاب، والعباد يحاسبون على معاملتهم معي في الخير والشرّ.

وهذا من الكناية، والمقصود أنّي أكرم الأكرمين، أترك من حقّي في معاملتي مع عبادي أكثر ممّا آخذ أضعافا مضاعفة، فلا يصلح لعبدي _ سواءً كان مطيعا أم عاصيا، معذّبا أم معفوّا عنه _ أن يحاسبني بأن يطلب حقّه منّي على المكافأة، فإنّ هذا لا ينفعه ويضرّه؛ وذلك لأنّ حسنة العبد بعد ما أنعم اللّه تعالى عليه بما لا يعدّ ولا يحصى، فلو عمل تعالى مع المطيع بالمكافأة دون الكرم، لذهب بجميع ما كدح له وجملة ما سعى .

ص: 460


1- آل عمران (3) : 182 .

فيه جزاءً للصغرى من أياديه تعالى ومننه، ولبقي رهينا بين يديه تعالى بسائر نعمه، فلا يستحقّ شيئا من ثوابه إن لم يستحقّ العقاب؛ هذا حال المطيع.

فأمّا العاصي أمرَه تعالى والمواقع نهيَه تعالى فإنّ اللّه تعالى لم يعاجله بعقوبته، مع أنّ عصيانه بعد نعمه تعالى التي لا تعدّ ولا تحصى، ولقد كان يستحقّ في أوّل ما همَّ بعصيانه كلّ ما أعدَّ لجميع خلقه من العقوبة، كما في الصحيفة الكاملة «من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر».(1) وأمّا أنّ العباد يحاسبون فلأنّهم يضيّعون حقوقا كثيرة للّه تعالى، ويأتون بما ليس لهم أن يأتوا به.

وإنّما خصَّ الفعل بالذكر مع أنّه تعالى لا يسأل عمّا يترك أيضا وهم يسألون، لأنّه الأهمّ، والتركُ يعلم بالمقايسة.

وهذا مأخوذٌ من قوله تعالى في سورة الأنبياء: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه ِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(2) أي ليس فيهما له شركاء بأن يكون لهم أن يقولوا في الدين بغير إذنه بل بآرائهم، ويكون عليه أن يرضى كما في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا من قوله عليه السلام : «أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى».(3)

وقوله: «لا يسأل» إلى آخره، كالوعيد، أي ليس لأحدٍ على اللّه حقّ في معاملة التكليف وغيره كما مرَّ آنفا، فيداريه على ما يقول بغير إذنه ويتّخذه شريكا، وله تعالى الحقّ على كلّ أحد، فلو عامل مع النبيّين والصدِّيقين لا بالكرم بل بالمكافأة، لاستحقّوا العقوبة.

ولا ينافي ذلك عصمتهم ولا قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، بل هو مبنيّ على وجوب شكر المُنعم عقلاً، وعلى أنّه ما من أحد إلاّ وهو مقصّر عن تأدية حقّ الشكر. .

ص: 461


1- الصحيفة السجّاديّة (أبطحي) ، ص 183 ، الدعاء 98 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 184 .
2- الأنبياء (21) : 22 _ 23 .
3- نهج البلاغة ، ص 61 ، الخطبة 18 .

الباب السابع والعشرون: باب الابتلاء و الاختبار

الباب السابع والعشرون بَابُ الاِبْتِلاَءِ وَ الاِخْتِبَارِ

فيه حديثان.

الابتلاء والاختبار: الامتحان، والمراد هنا فعل أو ترك صادر من اللّه تعالى لحكمة ومصلحة يقرّب العبد إلى العصيان؛ قال تعالى في سورة المؤمنين: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»(1)، ويقال له: البلاء؛ قال تعالى في سورة القلم: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ».(2) والجميع مَجازات في حقّه تعالى، والمراد ضدّ اللطف في الاقتضاء لا في المحلّ، فيجوز اجتماعه معه في محلّ، فيكون العبد حينئذٍ قريبا إلى المعصية من جهة، وبعيدا عنه من جهة اُخرى؛ أي باب أنّه لا تكليف إلاّ مع الابتلاء والاختبار، أو باب أنّه قد يكون التكليف مع الابتلاء والاختبار.

وهذا الباب للردّ على المعتزلة في قولهم: إنّه لا يجوز على اللّه تعالى ضدّ اللطف،(3) وهو من فروع أوّل خلافيهم معنا، وقد مضى في أوّل الخامس والعشرين.(4)

ومن الدليل على إبطال مذهب المعتزلة أنّا نعلم في أهل الثروة والسلطنة ضدّ

ص: 462


1- المؤمنون (23) : 30 .
2- القلم (68) : 17 .
3- المغني في أبواب العدل والتوحيد، ص 116.
4- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

اللطف بديهة، ولا يأمن مكر اللّه إلاّ القوم الخاسرون.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَّارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا مِنْ قَبْضٍ وَلاَ بَسْطٍ).(1)

يُقال: قبضه كضربه: إذا تناوله؛ وعليه بيده: إذا أمسكه؛ ويده عنه: إذا امتنع عن إمساكه.

والبسط: مدّ اليد إلى الشيء لإدراكه؛ يعني ما من امتناع عن المأمور به، ولا ارتكاب للمنهيّ عنه.

(إِلاَّ وَلِلّهِ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَقَضَاءٌ). مضى معناهما في أوّل الخامس والعشرين.

(وَابْتِلاَءٌ). مضى معناه آنفا. وهذا للردّ على المعتزلة في أوّل خلافيهم معنا، وقد مضى في الباب المذكور. أمّا في المشيئة والقضاء فظاهر، وأمّا في الابتلاء فإنّه مقرّب إلى العصيان، فهو ضدّ اللطف وهم لا يجوّزون ترك اللطف الناجع، فضلاً عن ضدّ اللطف.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ(2) الطَّيَّارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ فِيهِ قَبْضٌ أَوْ بَسْطٌ مِمَّا)؛ صفة «شيء» و«من» بيانيّة أو تبعيضيّة.

(أَمَرَ اللّه ُ بِهِ أَوْ نَهى عَنْهُ). النشر على ترتيب اللفّ.

(إِلاَّ وَفِيهِ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ابْتِلاَءٌ وَقَضَاءٌ) . معناه ظاهر من أوّل الباب. .

ص: 463


1- في حاشية «أ» : «قوله : ما من قبض ولا بسط إلى آخره ، أي ما من تضييق ولا توسعة إلاّ للّه فيه مشيّة وقضاء لذلك القبض أو البسط ، أو لما يؤدّي إليه ، وابتلاءٌ واختبار لعباده . والحديث الذي بعده كهذا الحديث إلاّ أنّه خصّ بما أمر اللّه به أو نهى عنه ، ولعلّه ليس لاختصاص الحكم به ، بل لبيان الحكم في الخاصّ وإن لم يختصّ به (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 490
2- في الكافي المطبوع : + «محمّد» .

الباب الثامن والعشرون: باب السعادة و الشقاء

الباب الثامن والعشرون بَابُ السَّعَادَةِ وَ الشَّقَاءِ

فيه ثلاثة أحاديث.

والسعادة بفتح السين المهملة من باب نصر: الرخاء والسعة، والمراد هنا ما يفضي بصاحبه إلى حسن الخاتمة بدون جبر. والشقاء بفتح المعجمة والقصر _ وقد يمدّ _ من باب علم: الشدّة والعُسر، والمراد هنا ما يفضي بصاحبه إلى سوء الخاتمة بدون جبر.

وهذا الباب للردّ على مَن قال:(1) إنّ الأمر مستأنف بمشيئة العبد، والسعادة والشقاء ليسا إلاّ مساوقين لفعله الحسن وفعله القبيح في بدنه.

نقل الشهرستاني في كتاب الملل والنحل عن النظّام(2) من المعتزلة أنّه كذّب ابن مسعود رضى الله عنه في روايته: «السعيد مَن سعد في بطن اُمّه، والشقيّ مَن شقي في بطن اُمّه».(3)

ومن الدليل على إبطال مذهب المعتزلة أنّا نعلم بديهةً أنّ فعل العصيان وتكرّره يورث مَلَكة وهيئة تبعث صاحبها على البقاء على العصيان وانتهاك حرمات اللّه ، وقد تبقى إلى آخر عمره، وليس هذه المَلكة من فعل العبد، بل هي فعلٌ فعل اللّه باختيار وهي الشقاء، لكنّها تختلف شدّةً وضعفا.

ص: 464


1- في «ج» : «على المعتزلة في قولهم» بدل «على من قال» .
2- النظام هو أبو اسحاق إبراهيم بن سيار البصري ابن اُخت أبي هذيل العلاف، شيخ المعتزلة ، كان في أيّام هارون الرشيد ، توفّي النظام سنة 231 هجرية . تاريخ المعتزلة لفالح الربيعي ، ص 97 .
3- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 57 .

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خَلَقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ)(1) أي قبل خلق شيء من الأبدان، ويحتمل أن يُراد قبل نفخ الروح في بطن الاُمّ، والمراد أصل السعادة والشقاء بدون شدّة، فإنّ الشديد منهما إنّما يحدث بتكرّر العصيان بعد التكليف في الأبدان، فليسا مساوقين للأفعال الحسنة والقبيحة في الأبدان. ولعلّ ذلك بعد خلق الأرواح وتكليفهم يوم الميثاق وإطاعة بعضهم ومعصية آخرين مع تسوية اللطف فيه بين السعيد والشقيّ.

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ذيل «باب طينة المؤمن والكافر» في أوّل «بابٌ آخر منه، وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل» قوله: «فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية».(2)

ويمكن أن يُقال: خلق السعادة والشقاء قبل هذا حين خلق مادّة كلّ روح، فجعل بعض المادّة ماءً عذبا، وبعضها ماءً اُجاجا، وخلق بعضهم من علّيّين، وبعضهم من سجّين ونحو ذلك، كما يجيء في الباب المذكور من قول أبي جعفر عليه السلام : «إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ قبل أن يخلق الخلق قال: كُن ماءً عذبا أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي، وكُن ملحا اُجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي» الحديث.(3)

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب طينة المؤمن والكافر» قول أبي جعفر عليه السلام : «وقلوبهم تهوي إلينا؛ لأنّها خلقت ممّا خلقنا».(4) .

ص: 465


1- في حاشية «أ» : «قوله : إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة إلى آخره ، أي قدّرهما لعباده تقديرا سابقا على الخلق، فمن خَلَقه اللّه سعيدا على وفق تقديره لم يُبغضه أبدا؛ إنّما يبغض عمله _ إن عمل سوءاً _ و لم يبغضه، ومَن قدّره شقيّا وخلقه شقيّا على وفق تقديره لم يحبّه أبدا، وإن عمل عملاً صالحا أحبّ عمله؛ لأنّه يحبّ الخير والصلاح، وأبغضه لشقاوته ولما يصير إليه من عدم الثبات على الإيمان، فإذا أحبّ اللّه شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض اللّه شيئا لم يحبّه أبدا؛ فإنّ كلّ خير وصلاح محبوبه، وكلَّ شرّ وفَساد مبغوض له أبدا (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 491 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، ح 1 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، ح 1 .
4- الكافي ، ج 2 ، ص 4 ، ح 4 .

وهذا لا يقتضي الجبر؛ لأنّ الهوي إلى شى ء لا ينافي القدرة على ضدّه؛ ففي التعليل مسامحة، وهو من قبيل تعليل الشيء بالكاشف عنه وبالعلّة لإثباته، لا لثبوته؛ كأن يقال: تهوي إلينا لأنّ اللّه علم منهم ذلك، والعلم تابع وكاشف.

وأمّا قولهم عليهم السلام في ذلك الباب: «لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء» فسيجيء تحقيقه في ثاني «باب الاستطاعة».

(فَمَنْ خَلَقَهُ اللّه ُ سَعِيدا، لَمْ يُبْغِضْهُ) أي لم يكله إلى نفسه، ولم يحدث فيه شقاء.

(أَبَدا ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّا ، أَبْغَضَ عَمَلَهُ(1)). المراد ببغضه تعالى العملَ النهيُ عنه باعتبار استمرار ذلك النهي وتعلّقه به.

(وَلَمْ يُبْغِضْهُ)؛ فإنّه إن أبغضه _ أي وكله إلى نفسه _ رسخ فيه حبُّ عمل الشرّ، وصار إلى سوء الخاتمة.

والمعتزلة _ القائلون بأنّ السعادة والشقاء مساوقان للعمل الحسن والقبيح في الأبدان، وينكرون خلق السعادة _ يقولون: إنّ من عمل شرّا أبغضه اللّه ، فإن عمل خيرا انقلب بغضه حبّا.

(وَإِنْ كَانَ شَقِيّا) أي ومَن خلقه اللّه شقيّا.

(لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا) أي لم يحدث فيه سعادة.

(وَإِنْ عَمِلَ صَالِحا، أَحَبَّ عَمَلَهُ). المراد بحبّه تعالى العملَ الأمرُ به باعتبار استمرار ذلك الأمر وتعلّقه به.

(وَأَبْغَضَهُ) أي وكله إلى نفسه.

(لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ) أي لعلمه بما يصير إليه من حسن الخاتمة وسوء الخاتمة.

(فَإِذَا أَحَبَّ اللّه ُ شَيْئا، لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَدا، وَإِذَا أَبْغَضَ شَيْئا، لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا) . تصريحٌ بالفذلكة.

إن قلت: قال تعالى في سورة الفتح: «لَقَدْ رَضِىَ اللّه ُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ .

ص: 466


1- في «ج» : «عليه» .

الشَّجَرَةِ»(1) وقال: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ»(2). وروى الزمخشري عن جابر بن عبداللّه أنّه قال: بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحدٌ منّا البيعة إلاّ جدّ بن قيس وكان منافقا اختبأ تحت إبط بعيره ولم يَسِرْ مع القوم. انتهى.(3) وقد فرَّ قوم بعد بيعة الرضوان في غزوة خيبر؛ روى البخاري عن البراء بن عازب أنّه قيل له: طوبى لك صحبت رسول اللّه صلى الله عليه و سلم وبايعته تحت الشجرة، فقال: يابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده. انتهى.(4)

إن أرجع ضمير «بعده» إلى المذكور من البيعة، فكأنّه يشير إلى من فرَّ يوم خيبر، وإلى أنّه لا يجوز الاعتماد على محض صورة الصحبة والبيعة، وإن أرجع ضمير «بعده» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فالمعنى ظاهر. وهذا يدلّ على أنّ الرضا منه تعالى ينقلب، والحبّ والرضا واحد.

قلت: لعلّه لم يقل اللّه تعالى: «لقد رضي اللّه عن الذين بايعوك تحت الشجرة» مع أنّه أخصر للإشعار بأنّه لم يرض عن جميع المبايعين، فيكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أهلَ السعادة.

إن قلت: ذكر «إذ» في قوله: «إذ يبايعونك» يدلّ على أنّه لم يكن راضيا عنهم قبل ذلك، فهذا يدلّ على حدوث الرضا بالأعمال الصالحة، والحديث يدلّ على خلاف ذلك.

قلت: قد ذكر في الحديث أنّ الحبّ قد يتعلّق بالشخص لسعادته، وقد يتعلّق بالعمل لموافقته الأمر، وأنّ المتعلّق بالعمل يحدث بحدوث العمل، وينتفي بانتفائه، فلعلّ ما في الآية من القسم الثاني، وإنّما علّق بهم إشعارا بأنّه اجتمع فيه القسمان، فيكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أيضا أهل السعادة، أو هو تعليق مجازي، ولا حجر في .

ص: 467


1- الفتح (48) : 18 .
2- الفتح (48) : 10 .
3- الكشّاف ، ج 3 ، ص 543 .
4- صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 66 .

المجاز، فيمكن أن يكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أعمّ من أهل السعادة، وذلك على مذهب من يجوّز الارتداد في المؤمن حقيقةً، وفيه خلاف مشهور في علم الكلام.

إن قلت: قد ورد في الأدعية المأثورة طلب تبديل الشقاء بالسعادة، كما في أدعية شهر رمضان من التهذيب في «باب الدعاء بين الركعات» بعد الثماني ركعات التي بعد المغرب، عن ذريح، عن أبي عبداللّه عليه السلام : «يا ذا المنّ لا مَنَّ عليك، يا ذا الطَوْل لا إله إلاّ أنت، ظهير اللاجئين، ومأمَن الخائفين، وجار المستجيرين إن كان في اُمّ الكتاب عندك أنّي شقيّ أو محروم أو مقتّر عليَّ رزقي، فامح من اُمّ الكتاب شقائي وحرماني وإقتار رزقي، واكتبني عندك سعيدا موفّقا للخير، موسّعا عَليَّ رزقك، فإنّك قلت في كتابك المنزل على نبيّك المُرسل صلواتك عليه وآله: «يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)» الدعاء(2) وطلب الماضي غير معقول؟

قلت: هاهنا فائدة مهمّة لابدّ من معرفتها، وهي أنّ باب الدعاء باب واسع يسع من الشعريات _ التي تسمّى في باب الدعاء انقطاعا إلى اللّه _ ما لا يسعه غيره لبيان المسائل، فلا نسلّم أنّه طلب حقيقة، بل هو إظهار للرضا بالسعادة، ويترتّب عليه ثواب، وله نظائر كثيرة:

منها: «إلهي لئن طالبتني بذنبي لاُطالبنّك بكرمك، وإن طالبتني بجريرتي لاُطالبنّك بعفوك، ولئن أمرتني إلى النار لاُخبرنّ أهلها أنّي كنت أقول: لا إله إلاّ اللّه ، محمّدٌ رسول اللّه ».(3)

ومنها الدعاء: «إن كنتُ من أهل النار فأسألُك أن تجعلني فداء اُمّة محمّد، وتشغلَ النار بي حتّى يبرّ يمينك، ولا تسعَ النار لأحدٍ غيري».(4)

ومنها: ما في الصحيفة الكاملة من نسبة الذنوب إلى المعصوم، كما في دعائه في .

ص: 468


1- الرعد (13) : 39 .
2- تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 72 ، ح 4 .
3- الأمالي للصدوق ، ص 357 ، المجلس 57 ، ح 2 ؛ روضة الواعظين ، ج 2 ، ص 329 ؛ مفتاح الفلاح ، ص 24 بتفاوت يسير .
4- تفسير الرازي ، ج 22 ، ص 106 بالمضمون .

الاستقالة،(1) ومثل ذلك اللعن على الظالمين، فإنّه إظهار للخروج عن حزبهم وتبرّى ء منهم، بقرينة أنّ طلب العذاب لشخص إن كان مع العلم بأنّه لا يعفو اللّه عنه البتّة كان عبثا، وإن كان بدون ذلك كان قبيحا.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام جَالِسا وَقَدْ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ، مِنْ أَيْنَ). «من» للابتداء. و«أين» للاستفهام عن المكان، والمقصود هنا بأيّ سبب.

(لَحِقَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم؛ يُقال: لحقه كعلم ولحق به لحاقا بالفتح، أي أدركه.

(الشَّقَاءُ)؛ بالرفع، أي الميل إلى المعصية بالطبع والجبلّة.

(أَهْلَ)؛ بالنصب.

(الْمَعْصِيَةِ) أي الذين خاتمتهم السوء والمعصية.

(حَتّى). هي للتعليل، نحو آية سورة الفرقان: «وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ»(2).

(حَكَمَ اللّه ُ لَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، وفيه ضمير اللّه ، واللام للاستحقاق، نحو آية سورة الأنفال: «وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ»(3) أي ختم لهم.

(فِي عِلْمِهِ). «في» هذه للظرفيّة المجازيّة، نحو: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»(4)؛ فالمعنى أنّ هذا الحكم في جملة علمه الأزلي وفرد من أفراده، لا في حكمه في وحيه إلى رسله.

(بِالْعَذَابِ عَلى عَمَلِهِمْ؟) أي بأنّ العذاب واجب في قضيّة الحكمة على عملهم،(5) لا يجوز العفو عنهم؛ لأنّ العفو عنهم ظلم؛ أي وضع للشيء في غير موضعه، بل ظلاميّة، .

ص: 469


1- الصحيفة السجّاديّة (ابطحي) ، ص 99 ، الدعاء 9 .
2- الفرقان (25) : 18 .
3- الأنفال (8) : 14 .
4- البقرة (2) : 179 .
5- في «ج» : «علمهم» .

كما في قوله تعالى في سورة الأنفال: «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ».(1)

هذا السؤال مبنيّ على صدق قضيّتين:

الاُولى: أنّ حكمه تعالى في علمه الأزلي بعذاب أهل المعصية على عملهم بسبب لحوق الشقاء بهم في الأوّل.

الثانية: أنّ لحوق الشقاء بهم بسبب من الأسباب والسؤال عن خصوصيّة هذا السبب.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّهَا السَّائِلُ). فيه تعنيف وإشارة إلى تجاسر السائل ببناء سؤاله على حكمه بصدق القضيّة الاُولى من القضيّتين المذكورتين مع ظهور فسادها.

(حُكْمُ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ).(2) مصدر مضاف، والمراد به هنا حكمه تعالى في علمه الأزلي بكلّ شيء، سواء كان حكمه للأشقياء بالعذاب على عملهم، أم حكمه للسعداء بالثواب على عملهم، أم غيرهما. وهو مبتدأ خبره قوله:

(لاَ يَقُومُ لَهُ) أي للحكم.

(أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بِحَقِّهِ). الحقّ مصدر باب نصر: الإيجاب والإثبات، والضمير لحكمر.

ص: 470


1- الأنفال (8) : 181 _ 182 .
2- في حاشية «أ»: «قوله: حكم اللّه تعالى لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه إلى آخره، لمّا سأل السائل عمّا يستند إليه حكم اللّه بعذاب أهل الشقاء، وأنّه لابدّ أن يكون لحوق الشقاء لهم مقدّما على حكم اللّه في علمه حتّى يترتّب عليه ذلك الحكم، وعمّا يستند إليه لحوق الشقاء [سابقا على حكمه في علمه، وأنّه لا شيء قبل علمه ليستند إليه لحوقُ الشقاء] لهم، أجاب عليه السلام بأنّ حكم اللّه تعالى لا يقوم له أحد من خلقه بموجبه وبيان سببه، أو بما يليق به، وبأن يكون بيانا لسببه ولا بإدراكه وفهمه، وما هو كذلك فحقيق بأن لا يُتعرّض لبيانه، والسكوتُ عمّا يعجز اللسان عن بيانه أولى من التعرّض للبيان. ثمّ بيّن بقوله: فلمّا حكم بذلك إلى آخره، أنّ حكمه بذلك في علمه يترتّب عليه إعطاء المعرفة لأهل السعادة وأهلِ المحبة، ووضعُ ثقل العمل عنهم بثبوت ما هم أهلُه، وإعطاءُ أهل الشقاء والمعصية القوّةَ على معصيتهم لما علمه فيهم من الشقاء، ومنعهم ولم يعطهم إطاقة القبول منهم، فواقعوا ما سبق لهم في علمه من السعادة والشقاوة وتوابعهما، ولم يقدروا على الإتيان بحال لهم تنجّيهم من عذابه؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق والوقوع، وقوله: وهو معنى شاء ما شاء، أي ما ذكرناه من أنّه لا يقوم لحكم اللّه أحد من خلقه بحقّه معنى شاء ماشاء، وهو سرّه الذي لم يطّلع عليه أحد من خلقه (ميرزا رفعيا رفع اللّه قدره ورحمه)». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 491 _ 492. ومابين المعقوفين من المصدر.

اللّه ؛ أي ليس وجود أحد من المخلوقين حاقّا لحكم اللّه في علمه الأزلي، فضلاً عن لحوق الشقاء بذلك المخلوق، فإنّه أيضا مخلوق حادث، والحادث لا يكون حاقّا للقديم الأزلي.

إن قلت: العلم بلا شيء محضٍ محال، يجوز قِدم علمه تعالى بكلّ شيء مع حدوث كلّ مخلوق.

قلت: إن اُريد بالشيء الموجودُ في الخارج أو في الذهن، فلا نسلّم استحالة العلم بلا شيء محض، وإن اُريد به أعمّ من الثابت في الخارج بدون وجود، فيجوز علمه تعالى أزلاً بكلّ شيء؛ لثبوت المعدومات في الخارج أزلاً وأبدا بدون تأثير وخلق. وتفصيله في حواشينا على عدّة الاُصول.

(فَلَمَّا حَكَمَ بِذلِكَ، وَهَبَ لاِءَهْلِ مَحَبَّتِهِ الْقُوَّةَ عَلى مَعْرِفَتِهِ). «لمّا» هنا ك«لّما» في قولك: لمّا أكرمتني أمس أكرمتك اليوم. و«حَكَمَ» بصيغة ماضي معلوم باب نصر. والباء للمصاحبة، نحو: اهبط بسلام؛ أي معه. والإشارة إلى عدم القيام المفهوم من قوله: «لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه».

والمراد بأهل محبّته: الذين حكم في علمه الأزلي بأنّهم يحبّونه، فإضافة المصدر إلى المفعول كما في «معرفته».

ومعرفتُه الاعتراف بربوبيّته يوم قال: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى».(1) والمراد بالقوّة على معرفته: انشراح صدورهم للإسلام بعد تعلّقهم بالأبدان، كما في قوله في سورة الأنعام: «فَمَنْ يُرِدْ اللّه ُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلاَمِ»(2).

(وَوَضَعَ عَنْهُمْ ثِقَلَ الْعَمَلِ). عطفُ تفسير، والمراد بالعمل المعرفة، فإنّها من أعمال القلب، فهذا لا ينافي ما يجيء في «كتاب الجنائز» في أوّل «باب العلّة في غسل الميّت غسل الجنابة» من قول أبي جعفر عليه السلام لمخالف استبصر: «أما أنّ عبادتك يومئذٍ كانت .

ص: 471


1- الأعراف (7) : 172 .
2- الأنعام (6) : 125 .

أخفّ عليك من عبادتك اليوم، لأنّ الحقّ ثقيل، والشيطان موكّل بشيعتنا».(1)

(بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُهُ). فيه إشارة إلى تفاوت السعداء في هبة القوّة ووضع الثقل. والحقيقة: المقدار؛ أي وهب لكلّ من أهل محبّته القوّةَ بمقدار ما هو أهله، لا زائدا ولا ناقصا؛ فكذا وضع الثقل عنهم.

(وَوَهَبَ). إشارةٌ إلى أنّ ذلك باستحقاقهم، فكأنّهم طلبوه فاُعطوا، والهبة بعد تعلّقهم بالأبدان.

(لاِءَهْلِ الْمَعْصِيَةِ) أي الذين حكم لهم في علمه الأزلي بمعصيتهم بعد تعلّقهم بالأبدان وإنكارهم المعرفة التي صدرت عنهم يوم التكليف الأوّل.

(الْقُوَّةَ عَلى مَعْصِيَتِهِمْ) أي انشراح صدورهم للكفر وضيقها عن الإسلام، كما في قوله تعالى في سورة النحل: «وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللّه ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(2)، وفي سورة الأنعام: «وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ»(3).

(لِسَبْقِ عِلْمِهِ فِيهِمْ) أي لعلمه السابق الأزلي بأنّهم يستحقّون هبة القوّة على معصيتهم.

(وَمَنَعَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد.

(إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْهُ) أي انشراح صدورهم للقبول من اللّه ؛ يُقال: أطقت الشيء وهو في طوقي، أي في وسعي. وطوّقني اللّه أداء حقّك، أي قوّاني؛(4) قال تعالى في سورة البقرة: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ»(5).

(فَوَاقَعُوا)؛ بالقاف والمهملة؛ أي خالطوا وفعلوا باختيارهم. وفي نسخة بالفاء .

ص: 472


1- الكافي ، ج 3 ، ص 161 ، ح 1 .
2- النحل (16) : 106 .
3- الأنعام (6) : 125 .
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1519 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 233 (طوق) .
5- البقرة (2) : 286 .

والقاف، وهي الموافقة لرواية ابن بابويه في توحيده.(1)

(مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ) يعني معصيتهم المعلومة له أزلاً.

(وَلَمْ يُقْدَرُوا(2))؛ بصيغة المضارع المجهول من باب نصر وضرب، مأخوذ من القدر بمعنى التدبير مطلقا. والفاعل هو اللّه تعالى. وقدر اللّه تعالى غير عمله تعالى.

(أَنْ يَأْتُوا حَالاً تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ)؛ مرفوع على أنّه بدل اشتمال من الضمير؛ تقول: أتيت الأمر، أي فعلته. والمقصود أنّ قدر اللّه تعالى تعلّق بمعصيتهم ولم يتعلّق بحال تنجيهم من عذابه.

(لاِءَنَّ)؛ تعليل لقوله: «لم يقدروا» إلى آخره.

(عِلْمَهُ) أي علمه الأزلي بأنّهم أهل المعصية على تقدير تسوية اللطف بين جميع المكلّفين.

(أَوْلى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ) أي أولى بأن يعمل بمقتضاه كما هو حقّه.

(وَهُوَ). راجعٌ إلى ما يفهم من قوله: «ووهب لأهل المعصية» إلى آخره، أو من قوله: «فواقعوا» إلى آخره، أو من قوله: «وهب لأهل محبّته» إلى آخره. ومآل الكلّ واحد.

(مَعْنى «شَاءَ مَا شَاءَ»). الضميران المستتران للّه ، و«ما» نافية، والجملة الثانية معطوفة على الاُولى بحذف العاطف، والنشر على ترتيب اللفّ؛ يعني أنّ هبته تعالى لأهل المعصية القوّة على معصيتهم معنى مشيئته تعالى لمعصيتهم، ومنعه تعالى إيّاهم إطاقة القبول منه معنى عدم مشيئته تعالى لقبولهم منه.

وهذا إشارة إلى تفسير أمثال قوله تعالى في سورة الدهر والتكوير: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(3)، وفي سورة يونس: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا وَلاَ نَفْعا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ»(4). .

ص: 473


1- التوحيد ، ص 354 ، باب السعادة والشقاوة ، ح 1 .
2- في الكافي المطبوع : «يَقْدِرُوا» بالمعلوم .
3- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29 .
4- يونس (10) : 49 .

(وَهُوَ سِرُّهُ). الضمير المرفوع راجع إلى «معنى شاء ما شاء»، والضمير المجرور راجع إلى اللّه تعالى؛ يعني أنّ هذا المعنى لشاء ما شاء سرُّ اللّه الذي أودعه صدور أوليائه من أهل بيت نبيّه صلّى اللّه عليهم، ولا يعلمه إلاّ العالم منهم، أو من علّمه العالم منهم، كما يجيء في عاشر الباب الآتي، فلا تذيعوه عند المخالفين وأهل الضلال، فإنّ المجبّرة منهم يفسّرون مشيئته تعالى في أمثال «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ» بما يفضي إلى الجبر،(1) والقدريّة منهم يفسّرون مشيئته تعالى بمحض علمه، ويجعلون العبد مستقلاًّ في قدرته.

والحقّ الأمر بين الأمرين، كما يجيء في الباب الآتي.

ونظير هذا السرّ ما يجيء في «كتاب الحيض» في أوّل «باب معرفة دم الحيض والعذرة والقرحة» من قول أبي الحسن موسى عليه السلام : «يا خلف، سرّ اللّه سرّ اللّه فلا تذيعوه، ولا تعلّموا هذا الخلق اُصول دين اللّه ، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال».(2)

حاصل الجواب: أنّ اللّه تعالى علم في الأزل أنّ مقتضى الحكمة أن يخلق فيما لا(3) يزال أقواما من الإنس والجنّ، ويكلّفهم بأشياء بعد الإقرار والتمكين وإزاحة العلّة ببعث الرُّسل وإنزال الكتب، وعلم أيضا أنّه على تقدير تسوية اللطف بين جميع المكلّفين يختار بعضهم الطاعة بدون جبر، ويختار بعضهم العصيان بدون جبر، فخلقهما فيما لا يزال، ووهب للأوّلين القوّة على معرفته، ووضع عنهم ثقل العمل، مع قدرته تعالى على ما يصرفهم عن ذلك باختيارهم خلاف ذلك، ووهب للآخرين القوّة على معصيتهم، ومنعهم قوّة القبول منه، مع قدرته تعالى على ما يصرفهم عن ذلك باختيارهم خلاف ذلك؛ فلا جور في مشيئته تعالى عند خلق السعادة للأوّلين والشقاء للآخرين.

ويتلخّص من هذا الجواب أنّه إذا قال السائل: من أين لحق الشقاء أهلَ المعصية في».

ص: 474


1- اُنظر تفسير الكبير ، ج 13 ، ص 152 ؛ وج 14 ، ص 178 ؛ و ج 30 ، ص 210 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 92 ، ح 1 .
3- فى «ج»: - «لا».

بطون اُمّهاتهم مثلاً؟ فالجواب: من علم اللّه الأزلي بأنّهم أهل المعصية. وإن قال: من أين لحقت المعصية أهل المعصية بعد تكليفهم في الأبدان؟ فالجواب: من سوء اختيارهم لأنفسهم مع قدرتهم أن يأتوا حالاً تنجيهم، فإنّ معصيتهم ليست واجبة بالوجوب السابق، إنّما هي واجبة بالوجوب اللاحق.

وتفصيل دفع الشكوك عن هذا في حواشينا على عدّة الاُصول.

الثالث: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ، عَنْ مُعَلّى أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، أَنَّهُ قَالَ: يُسْلَكُ بِالسَّعِيدِ). «سلك» يستعمل لازما ومتعدّيا، فإن جعل هنا من اللازم، فهو بصيغة المضارع المجهول، والباء للتعدية، والظرف قائم مقام الفاعل، أو المعلوم والباء للتعدية، وفيه ضمير راجع إلى اللّه ؛ وإن جعل من المتعدّي من المجهول، فالباء لتقوية الإلصاق، والظرف قائم مقام الفاعل، أو المعلوم والباء للتقوية، وفيه ضمير اللّه .

(فِي طَرِيقِ الاْءَشْقِيَاءِ) أي الطريق الذي يكون غالبا للأشقياء، وهو طريق المعاصي.

(حَتّى يَقُولَ النَّاسُ). يجوز في «يقول» الرفع كقراءة نافع «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ»(1)طآه (20) : 91 .(2) فتكون «حتّى» الابتدائيّة الداخلة على الجمل وما بعدها حاليّةً محكيّة، أي حتّى حاله حينئذٍ أنّ الناس يقولون. ويجوز النصب كقراءة الباقين، فتكون «حتّى» جارّةً بمعنى «إلى» نحو «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى».(2)

(مَا أَشْبَهَهُ)؛ فعل تعجّب.

(بِهِمْ). إنّما يقولونه حين ظنّوا أنّه ليس منهم.

(بَلْ هُوَ مِنْهُمْ!) أي بل حتّى يقولوا: هو منهم، وهذا إنّما يقولونه حين ظنّوا أنّه منهم. ويحتمل أن يكون لفظة «بل» أيضا من كلام الناس.

(ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ) أي يلحقه ويأخذه عن هذا الطريق. والفعل المنسوب إلى واحد إذا .

ص: 475


1- حكاه في التبيان، ج 2، ص 197؛ مجمع البيان، ج 2، ص 67. والآية في سورة البقرة
2- : 214.

نقل إلى باب التفاعل أفاد المبالغة، باعتبار أنّ الغالب فيما فيه مغالبة المبالغة.

(السَّعَادَةُ) التي خلقها اللّه تعالى فيه في بطن اُمّه مثلاً.

(وَقَدْ يُسْلَكُ بِالشَّقِيِّ طَرِيقَ السُّعَدَاءِ حَتّى يَقُولَ النَّاسُ: مَا أَشْبَهَهُ بِهِمْ، بَلْ هُوَ مِنْهُمْ! ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ الشَّقَاءُ) أي يغلب عليه ويأخذه من هذا الطريق، كقوله تعالى حكايةً: «رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا».(1)

ونسبة التدارك إلى السعادة والشقاء مجاز، والمقصود التوفيق والخذلان على وفق ما خلق فيه بدون جبر ووجوب سابق، كما ذكرنا في شرح ثاني الباب.

(إِنَّ مَنْ كَتَبَهُ اللّه ُ سَعِيدا). استئنافٌ بياني؛ أي من ثبت اسمه في صحيفة السعداء، مثل ما يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر»: «وأنّ في البيت المعمور لرقّا من نور، فيه كتابٌ من نور، فيه اسم محمّد وعليٍّ والحسن والحسين والأئمّة عليهم السلام وشيعتهم إلى يوم القيامة، لا يزيد فيهم رجل ولا ينقص منهم رجل».(2)

(وَإِنْ)؛ وصليّة.

(لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا) أي من عمره في الدنيا.

(إِلاَّ فُوَاقُ)(3)؛ بضمّ الفاء _ وقد يفتح _ : ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.(4)

(نَاقَةٍ خَتَمَ)؛ بالمعجمة والمثنّاة فوقُ بصيغة ماضي معلوم باب ضرب، وفيه ضمير اللّه . ويحتمل المجهول. .

ص: 476


1- المؤمنون (23) : 106 .
2- الكافي، ج 3 ، ص 482 ، ح 1 .
3- فى حاشية «أ»: «قوله: إلاّ فواق ناقة، الفواق _ كغراب _ : ما بين الحلبتين من الوقت؛ لانّها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، أو مابين فتح يدك وقبضها على الضرع، وفي الحديث: العيادة قدر فواق ناقة (ميرزا رحمه الله )». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 492. والحديث في الكافي، ج 3، ص 117، باب كم يعاد المريض و... ، ح 2.
4- لسان العرب ، ج 10 ، ص 316 (فوق) .

(لَهُ بِالسَّعَادَةِ) أي بفعل يناسب سعادته، وذلك بالتوفيق.

وفي الكلام اقتصار، أي ومن كتبه اللّه شقيّا وإن لم يبق من الدنيا إلاّ فواق ناقة ختم له بالشقاء. ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته» عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناس، ثمّ رفع يده اليمنى قابضا على كفّه، ثمّ قال: أتدرون أيُّها الناس ما في كفّي؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل الجنّة،وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثمّ رفع يده الشمال فقال: أيّها الناس أتدرون ما في كفّي؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثمّ قال: حكم اللّه وعدل حكم اللّه وعدل «فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ».(1) .

ص: 477


1- الكافي ، ج 1 ، ص 444 ، ح 16 . والآية في سورة الشورى (42) : 7 .

الباب التاسع والعشرون: باب الخير و الشرّ

الباب التاسع والعشرون بَابُ الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ

فيه ثلاثة أحاديث.

وهذا الباب للردّ على القدريّة المعتزلة في قولهم: إنّ نحو قوله تعالى: «خَ__لِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(1) مخصَّص بما عدا أفعال العباد.(2) وهذا من فروع خلافَيْهم اللذين مضيا في أوّل الخامس والعشرين.(3)

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا أَوْحَى اللّه ُ إِلى مُوسى عليه السلام ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ). ذكر الإنزال بعد الوحي بيان لطريق الوحي، ويحتمل أن يكون تأسيسا، فيكون المراد أنّه كرّر على موسى هذا البيان لشدّة الاحتياج إلى معرفته، فأوحى إليه أوّلاً وكأنّه حين كلّمه تكليما، وأنزل ثانيا في الألواح التي كتب فيها التوراة:

(أَنِّي أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا ، خَلَقْتُ الْخَلْقَ) أي العباد خلقَ تكوينٍ.

(وَخَلَقْتُ الْخَيْرَ)(4) أي الفعل الحسن. وخلقه ليس بإيجاده تعالى إيّاه، بل بالمشيئة

ص: 478


1- الأنعام (6) : 102 ؛ الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62 ؛ غافر (40) : 62 .
2- اُنظر معارج الفهم ، ص 408 ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
4- فى حاشية «أ»: «قوله: خلقت الخلق وخلقت الخير إلى آخره، لعلّ المراد بالخلق الموجود العيني القارّ الوجود، وبالخير والشرّ ما هو من الأعمال والأقوال، وكلّ الموجودات بأقسامها مستند الوجود إليه سبحانه. واستناد بعضها إلى من يفعله باعتبار جريانه على يده ووقوعه تبع قدرته وإرادته بالمدخليّة لا بالإيجاد، وإنّما إعطاء الوجود من الواجب بذاته، الموجب الموجد للأشياء كما هي في عمله بمشيته وإرادته وقدره وقضاءه، فلأفعال العباد موجد موجب وشرائط وأسباب، فالموجد الموجب هو الواجب الوجود بذاته وهو خالقها وخالق كلّ شيء، وما قدرته وإرادته من شرائطها وأسبابها هو العامل لها، فهي بين موجب موجد وشرائط وأسباب مقرّبة لها إلى الوجود، ووجودها وجهة خيريتها من ذلك المبدأ الفاعل وظهورها على يد عاملها، وجهات شرّيتها من شرائطها وأسبابها التي هي من أحوال عاملها، وواسطة ظهورها يجريها على يده وبقدرته وإرادته سبحانه، فينتسب إلى العامل بهذه الجهة، فخالقها وموجدها هو اللّه سبحانه، وعاملها والمتكلّف بكسبها بقدرته وإرادته، وسائر قواه وجوارحه هو من جرت هي على يده بقدرته وإرادته. وسيجيء ما يغنيك لتحقيق هذا إن شاء اللّه . والحديثان الآخران كهذا الحديث إلاّ أنّه زاد فيهما الوعيد على المنكر لما قاله والمتشّكل فيه (ميرزا رفيعا رفع اللّه قدره ورحمه بالنبي والوصي وغفر له)». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 493.

والإرادة والقدر والقضاء والإذن، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين،(1) ويسمّى خلقَ تقديرٍ. وأمّا خلق التكوين، فهو الإيجاد.

(وَأَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْ)؛ تثنية «يد» بحذف النون للإضافة.

(مَنْ أُحِبُّ)؛ بصيغة متكلّم باب الإفعال، أي اُحبّ إجراءه على يديه. ويحتمل أن يُراد مَن اُحبّه، أي عبادي الصالحين.

(فَطُوبى)؛ فُعْلى من الطيب، قلبوا الياء واوا للضمّة قبلها. و«طوبى» أيضا اسم شجرة في الجنّة،(2) وقيل: اسم الجنّة،(3) وهو مبتدأ خبره:

(لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ، وَأَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَلَقْتُ الْخَلْقَ) أي العباد خلقَ تكوين.

(وَخَلَقْتُ الشَّرَّ) أي خلقَ تقدير.

(وَأَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْ مَنْ أُرِيدُهُ) أي اُريد إجراءه على يديه.

(فَوَيْلٌ). كلمة عذاب، وهي مبتدأ.

(لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ) .

إن قلت: وقع في دعاء العديلة: «أزاح العلل في التكليف، وسوّى في التوفيق بين .

ص: 479


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء، في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 173 (طيب) .
3- لسان العرب ، ج 1 ، ص 565 (طيب) .

الضعيف والشريف، مكّن أداء المأمور، وسهّل سبيل اجتناب المحظور».(1)

قلت: لعلّ المراد بالتوفيق هنا إعطاء جميع ما يتوقّف عليه المكلّف به، سواء كان فعلاً أو تركا، مع اللطف المزيح للعلّة، كبعث الرسل وإنزال الكتب. وتسوية التوفيق بين الضعيف والشريف للردّ على المجبّرة القائلين بأنّ السعيد غير قادر على العصيان؛لفقد بعض أجزاء العلّة التامّة للعصيان فيه، والشقيّ غير قادر على الطاعة؛ لفقد بعض أجزاء العلّة(2) التامّة للطاعة فيه.(3)

وهذا باطل، إنّما التفاوت بينهما لحسن اختيار أحدهما وسوء اختيار الآخر مع قطع النظر عمّا هو خارج عن العلّة التامّة وعلمه تعالى أزلاً باختيارين، كما يظهر ممّا مضى في ثاني الباب السابق.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ فِي بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنْ كُتُبِهِ: أَنِّي أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَلَقْتُ الْخَيْرَ، وَخَلَقْتُ الشَّرَّ، فَطُوبى لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الشَّرَّ). ظهر معناه من سابقه.

(وَوَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ: كَيْفَ ذَا؟) أي لِمَ اُجرِيَ الخير في يدي هذا.

(وَكَيْفَ ذَا؟) أي لِمَ اُجري الشرّ على يدي.

هذا تصريح بأنّه لا يجوز الاستكشاف عن تفصيل سرّ خلقه تعالى للخير والشرّ؛ وذلك لعدم قابليّة العباد لمعرفته، وربّما أدّى إلى إنكارهم خلقه تعالى للخير والشرّ، كالقدريّة المعتزلة.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ بَكَّارِ)؛ بفتح .

ص: 480


1- قال في الذريعة ، ج 8 ، ص 192 : «دعاء العديلة من إنشاء بعض العلماء قد شرح فيه العقائد الحقّة مع الإقرار بها والتصديق بحقيتها فصلّ فيه ما أجمل ذكره في دعاء الوصية والعهد الذي رواه الكليني» .
2- في «ج» : - «العلة» .
3- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 9 ، ص 375 .

الموحّدة، وشدّ الكاف، ومهملة.

(بْنِ كُرْدُمٍ)؛ بضمّ الكاف، وسكون الراء المهملة، وضمّ الدال المهملة.

(عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ)؛ بضمّ المهملة، وفتح الميم.

(وَعَبْدِ الْمُوءْمِنِ الاْءَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَطُوبى لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الشَّرَّ). ظهر معناه من سابقه.

(وَوَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ: كَيْفَ هذَا؟(1)). أي لِمَ خصّ بعضَنا بالخير، وبعضنا بالشرّ.

(قَالَ يُونُسُ). هذا كلام محمّد بن عيسى.

(يَعْنِي) أي بقوله: «من يقول: كيف هذا».

(مَنْ يُنْكِرُ هذَا الاْءَمْرَ) أي خلق اللّه الخير والشرّ، وتخصيص بعض بالخير وبعض بالشرّ.

(بِتَفَقُّهٍ فِيهِ)؛ بحرف الجرّ وصيغة مصدر باب التفعّل. وفي بعض النسخ بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب التفعّل. وعلى التقديرين حال عن فاعل «ينكر». والضمير المجرور ل«هذا الأمر» أو للإنكار. والتفقّه: تكلّف الفقه.

وظاهر هذا الشرح ليونس أنّ أصل السؤال بدون إنكار ليس منهيّا عنه، وهذا منافٍ لأحاديث كثيرة، منها: ما رواه ابن بابويه في «باب القضاء والقدر» في توحيده من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اللّه » إلى قوله: «فمن تطلّع عليها فقد ضادّ اللّه » الحديث.(2)

وكأنّه مستنبط أيضا من قوله تعالى في سورة الأنبياء: «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(3)، فليحمل على أنّ التفكّر على سبيل الوسوسة في خلق اللّه تعالى الخير .

ص: 481


1- في الكافي المطبوع : «كيف ذا؟ وكيف هذا؟» .
2- التوحيد ، ص 383 ، ح 32 .
3- الأنبياء (21) : 22 _ 23 .

والشرّ في أهلهما بدون قصد متأكّد، ولا سؤال متكرّر، ليس منهيّا عنه؛ لما يجيء(1) في «كتاب الروضة» قُبيل(2) حديث آدم مع الشجرة عن أبي عبداللّه عليه السلام : «ثلاثة لم ينجُ منها نبيّ فمن دونه: التفكّر في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد؛ إلاّ أنّ المؤمن لا يستعمل حسده».(3) .

ص: 482


1- في «ج» : - «يجيء» .
2- في «ج» : «قبل» .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 108 ، ح 86 .

الباب الثلاثون: باب الجبر و القدر و الأمر بين الأمرين

الباب الثلاثون بَابُ الْجَبْرِ وَ الْقَدَرِ وَ الاْءَمْرِ بَيْنَ الاْءَمْرَيْنِ

فيه أربعة عشر حديثا.

المذاهب في أفعال العباد خمسة، اثنان للجبريّة، وهما مذهب جهم بن صفوان الترمذي _ بكسر المثنّاة فوق(1) وسكون المهملة وكسر الميم ومهملة(2) _ ومَن تبعه، ومذهب الأشاعرة، وواحد للقدريّة وهم المعتزلة، وواحد لأهل الأمر بين الأمرين، أي بين الجبر والقدر، وهم أهل الحقّ، وواحد حدث من مزج الفلسفة بقواعد المعتزلة، وهو مذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة ومن تبعه، وهذا قولٌ بالجبر والقدر معا.

مذهب جهم: أنّ حركة الماشي كحركة المرتعش وكحركة الورق في الشجر، وفاعل الجميع هو اللّه بلا مقارنة قدرة في العبد أصلاً، وأنّه لا يستحقّ العبد مدحا ولا ذمّا عقلاً.(3) وهذا غلوّ في الجبر.

ومذهب الأشاعرة: أنّ فاعل الجميع هو اللّه ، لكن حركة الماشي ليست كحركة المرتعش، فإنّ الاُولى مجامعة لقدرة في العبد غير مؤثّرة، بخلاف الثانية، فالاُولى بكسب العبد دون الثانية، ومعنى الكسب أنّ الفعل أو الترك مقارنة القدرة(4) في العبد غير

ص: 483


1- في «ج» : - «فوق» .
2- هو جهم بن صفوان العبدي السمرقندي من بني راسب ، وهو أوّل من قال بالجبر ، قتله نصر بن سيار سنة 128 هجرية . الكامل في التاريخ ، حوادث سنة 128 هجرية ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 141 .
3- حكاه عنه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 408 . وانظر شرح العيون في شرح رسالد ابن زيدون لابن نباتة ، ص 162 .
4- في «ج» : «لقدرة» .

مؤثّرة بالفعل؛ لمقارنتها تأثير قدرة اللّه التي هي أقوى منها، ومن شأنها التأثير أي علم اللّه تعالى أنّه لو لم تجامع قدرته تأثير قدرة اللّه ، لأثّرت على وفق ما أثّرت قدرة اللّه فيه من الفعل أو الترك، وأنّه لا يستحقّ العبد مدحا ولا ذمّا عقلاً.(1)

ومذهب القدريّة: أنّ العبد مؤثّر في الفعل والترك، وقادر على كليهما، وأنّه يستحقّ المدح أو الذمّ عقلاً، وأنّه لم يبق للّه تعالى طريق إلى إطاعة العاصي في ذلك الوقت إلاّ القسر والإلجاء، فإنّه يجب على اللّه تعالى كلّ لطف ناجع، فليس في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالعاصي في وقتٍ لأطاع فيه، فليس فعل العبد ولا تركه بمشيئة اللّه ولا إرادته ولا قدره ولا قضائه. وقد مرّ معنى الجميع في أوّل الخامس والعشرين،(2) وأنّ قدرته على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت، فهو مستقلّ بالقدرة غير متوقّف فعله ولا تركه على الإذن من اللّه .(3)

ومذهب أهل الأمر بين الأمرين: أنّ العبد مؤثّر في فعله وتركه، وقادر على كليهما، ويستحقّ المدح أو الذمّ عقلاً، وأنّ للّه تعالى طرقا لا تُعدّ ولا تحصى إلى اختيار العاصي في وقت للطاعة فيه، فما من فعلٍ أو ترك من العبد إلاّ بمشيئة اللّه وإرادته وقدره وقضائه، وأنّ قدرته على فعل أو ترك في وقت لا تتقدّم على ذلك الوقت، فلا يستقلّ العبد بالقدرة، بل يتوقّف فعله وتركه على الإذن من اللّه .

ومذهب أبي الحسين هو مذهب المعتزلة بعينه، مع ضمّ قاعدة من الفلسفة هي أنّ الشيء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.(4)

والمراد بالوجوب السابق الوجوب بالنسبة إلى الموقوف عليه، فهو جبري قدري؛ أمّا كونه جبريّا فلأنّ هذه القاعدة شريكة لمذهب جهم والأشاعرة في استلزام ارتفاع .

ص: 484


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع للأشعري ، ص 72 ؛ الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 89 . وحكاه العلاّمة في نهج الحقّ وكشف الصدق ، ص 97 ومناهج اليقين ، ص 366 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 235 .
2- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وانظر الرسالة السعديّة للعلاّمة ، ص 97 .
4- حكاه عنه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 409 .

الحُسن والقبح العقليّين، فقد وقع فيما فرَّ منه من ثمرة الجبر، بل نقول: إنّ لفظ الجبر أنسب بهذا المذهب لغةً وتفصيله في محلّه، وأمّا كونه قدريّا فظاهر.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا رَفَعُوهُ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام جَالِسا بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ)؛ مصدر ميمي، أي انصرافه.

(مِنْ صِفِّينَ)؛ بكسر المهملة وكسر الفاء المشدّدة؛ من صفن الفرس: إذا ثنى حافره، كسجّين من سجن اسم موضع قرب الرقّة شاطئ الفرات، كانت به الواقعة العظمى بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين معاوية.(1)

(إِذْ)؛ للمفاجأة.

(أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا)؛ بالجيم والمثلّثة كدعا ورمى؛ أي فجلس على ركبتيه.

(بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ(2): يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلى أَهْلِ الشَّامِ)، أي معاوية وعسكره.

(أَ بِقَضَاءٍ مِنَ اللّه ِ وَقَدَرٍ؟). ليس المراد بالقضاء والقدر هنا ما يُراد بهما إذا عدّا في الخصال السبع التي مرّ تفسيرها في أوّل الخامس والعشرين،(3) بل المراد بكلّ منهما هنا أعمّ من الخصال الخمس الاُول المذكورة فيه؛ وهي المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإذن، فنقول: التدبير من اللّه للواقع من فعل عبد أو تركه له اعتبارُ أنّ الأوّل كونه قطعا وفصلاً؛ أي لا يرجع عنه بندم ونحوه، والثاني كونه موافقا للحكمة والمقدار اللائق، فبالاعتبار الأوّل يسمّى قضاءً، وبالاعتبار الثاني يسمّى قدرا، فالقضاء والقدر هنا متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار والمفهوم.

(فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَجَلْ)؛ بالهمز والجيم المفتوحتين وسكون اللام، جوابٌ مثل «نعم». .

ص: 485


1- اُنظر القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 242 .
2- في الكافي المطبوع : + «له» .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شى ء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً)؛ بفتح المثنّاة فوق وسكون اللام ومهملة: ما ارتفع من الأرض؛ من تلع النهار كمنع، أي ارتفع. وقيل: التلاع: مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية.(1)

(وَلاَ هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ). بطن الوادي: ما بين طرفيه من الأرض المنخفض.

(إِلاَّ بِقَضَاءٍ مِنَ اللّه ِ وَقَدَرٍ). ليس ذلك مقصورا على محلّ السؤال، ففي نهج البلاغة: «اللّهُمَّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك» إلى قوله: «وإن صبّت عليهم المصائب لجاؤوا إلى الاستجارة بك علما بأنَّ أزمّة الاُمور بيدك، ومصادرها عن قضائك».(2)

(فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: عِنْدَ اللّه ِ أَحْتَسِبُ)؛ بصيغة المتكلِّم وحده من المضارع. والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ. وإنّما يُقال لمن ينوي بعمله وجهَ اللّه : احتسبه؛ لأنّ له حينئذٍ أن يعتدّ ب«عمله»، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّه معتدّ به.

واحتساب الشيء عند اللّه كما يكون في الأعمال الصالحات، يكون عند نزول البلايا والمكروهات، وهو عند المكروهات، البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. هذا أصله، وقد يُستعمل في مجرّد إظهار الكراهة والتضجّر.

وكلام الشيخ من الأوّل؛ لأنّه ذكر ذلك حين سمع ما يوهم الغلط من الإمام، ولم يخرج عن موالاته صبرا وانتظارا للفرج بالكشف عن الحقّ. أو من الثاني؛ لأنّه ذكر ذلك حين اعتقد أنّه لا أجر لعبدٍ على عمل؛ لأنّ العبد في فعله مجبور، إنّما له العوض، والسعي للعوض سهل.

(عَنَائِي)؛ بفتح المهملة والنون والمدّ: النصب والتعب يُريد تعبه في سماع الجواب، أو في المسير إلى(3) الشام، فإنّه لم يترتّب باعتقاده ما قصده به من الأجر.

(يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ)؛ بفتح الميم وسكون الهاء، اسم فعل بمعنى اسكت، .

ص: 486


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1192 ؛ تاج العروس ، ج 11 ، ص 47 (تلح) .
2- نهج البلاغة ، ص 349 ، ح 227 .
3- في «ج» : + «أهل» .

وقيل: اكفف؛(1) أي مه عن مثل هذا الكلام الدالّ على توهّم أنّه لا أجر لعبدٍ في عمل.

(يَا شَيْخُ، فَوَ اللّه ِ، لَقَدْ عَظَّمَ)؛ بشدّ الظاء.

(اللّه ُ لَكُمُ الاْءَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ). مصدر ميمي؛ أي إلى أهل الشام.

(وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ) أي فاعل السير أنتم، لا غيركم. وهو لردّ توهّم الجبر على مذهب جهم، أو مذهب الأشاعرة.

(وَفِي مُقَامِكُمْ)؛ بضمّ الميم مصدر ميمي؛ أي لبثكم بحذاء العدوّ بصفّين.

(وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ)، لا غيركم.

(وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ)؛ بفتح الراء، مصدر ميمي.

(وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ) لا غيركم، وأمّا قوله:

(وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاَتِكُمْ) أي المسير والمقام والمنصرف (مُكْرَهِينَ)، بفتح الراء.

(وَلاَ إِلَيْهِ) أي إلى شيء من حالاتكم (مُضْطَرِّينَ)؛ فلردّ توهّم الجبر الذي هو مذهب أبي الحسين كما مرَّ آنفا، وليس المقصود بيان العلّة للأجر وتعظيمه، وإلاّ لكان الأنسب حذفَ الواو؛ لكمال الاتّصال.

والإكراه والاضطرار واحد إلاّ أنّ الأوّل أشدّ من الثاني، ولذا نفى الأضعف بعد نفي الأشدّ، ولمّا كان القول بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة مستلزما للقول بأنّ العبد الفاعل لأفعال نفسه مضطرّ مكروه في صورة مختار، ويستلزم ذلك أيضا بطلان الأجر كمذهب جهم والأشاعرة، احتيج إلى الردّ على هذا القول أيضا بعد الردّ على قولهما.

(فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: وَكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاَتِنَا مُكْرَهِينَ، وَلاَ إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ ). علم الشيخ من ثبوت تعظيم الأجر مع ثبوت القضاء والقدر بطلانَ مذهب جهم والأشاعرة، وذلك لأنّ الضرورة قاضية باستلزامهما نفي الثواب والعقاب، وإنّما حصلت لهم شبهة .

ص: 487


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2250 (مه) .

عجزوا عن جوابها، فارتكبوا خلاف الضرورة، لكن توهّم الشيخ استلزام ثبوت القضاء والقدر حينئذٍ لمذهب أبي الحسين وهو كون فعل اللّه موجبا بالوجوب السابق لفعل العبد الصادر منه، وظهورُ منافاته لأمر الثواب والعقاب ليس في مرتبة ظهور منافاة مذهب جهم والأشاعرة، ولذا ذهب أبو الحسين وأتباعه إلى قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين دون جهم والأشاعرة.(1)

(وَكَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَمُنْقَلَبُنَا). مصدر ميمي؛ أي انقلابنا في الحرب مع العدوّ من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال.

(وَمُنْصَرَفُنَا؟! فَقَالَ لَهُ: وَتَظُنُّ). الواو للعطف على مقدّر، وفيه استفهام للإنكار؛ أي أظننت قبل هذا الجواب المشتمل على إثبات الأجر مع القضاء والقدر، وتظنّ بعده:

(أَنَّهُ) أي أنّ ما تعلّق بمسيركم إلى أهل الشام من القضاء والقدر.

(كَانَ قَضَاءً حَتْما )؛ بفتح المهملة وسكون المثنّاة فوق، مصدر قولك: حتمت عليه الشيء، أي أوجبت، والوصف بالمصدر للمبالغة، والمراد موجبا للفعل على العبد بحيث لم يكن له سبيل إلى تركه أصلاً؛ لفقده العلّة التامّة للترك، كأن يكون الفعل واجبا بالوجوب السابق.

(وَقَدَرا لاَزِما) أي ممتنع التغيّر لوجوبه بالنسبة إلى علّته التامّة بالوجوب السابق، كما هو مقتضى قاعدة الفلاسفة.(2) وفي نهج البلاغة: «لعلّك ظننت قضاءً لازما، وقدرا حاتما».(3) ومعنى العبارتين واحد.

(إِنَّهُ). الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير «أنّه كان».

(لَوْ كَانَ كَذلِكَ) أي لو كان قضاءً حتما، وقدرا لازما. .

ص: 488


1- حكى ذلك عن أبي الحسين وعن جهم والأشاعرة العلاّمة في مناهج اليقين ، ص 358 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 230 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 400 .
2- أي قولهم باستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .
3- نهج البلاغة ، ص 481 ، ح 78 .

(لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ). دليل على إبطال مذهب أبي الحسين، ويبطل به مذهب جهم والأشاعرة: أيضا، وتقريره: أنّ الثواب هو الأجر، وهو نفع مقارن للتعظيم والمحمدة، والعقاب ضرّ مقارن للإهانة واللوم، ولا يتصوّران مع شيء من معاني الجبر، لأنّ كلاًّ منهما مع بيّنة وحجّة بالغة، وإلاّ كان سفها يتعالى عنه.

وبهذا يحصل الفرق بين الأجر والعوض؛ ففي نهج البلاغة: وقال عليه السلام لبعض أصحابه في علّة اعتلّها: «جعل اللّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، ولكنّه يحطّ السيّئات، ويحتّها حتّ الأوراق، وإنّما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام، وأنّ اللّه سبحانه يُدخِل بصدق النيّة والسريرة الصالحة مَن يشاء من عباده الجنّة».(1)

وقال فيه السيّد الرضيّ رحمه الله :

وأقول: صدق عليه السلام إنّ المرض لا أجر فيه؛ لأنّه من قبيل ما يستحقّ عليه العوض؛ لأنّ العوض يستحقّ على ما كان في مقابلة فعل اللّه تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقّان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه عليه السلام كما يقتضيه علمه الثاقب، ورأيه الصائب. انتهى.(2)

ويندفع بهذا التقرير ما قيل في تجويز العقاب على النسيان أو الخطأ من أنّ الذنوب كالسموم، فكما أنّ تناولها يؤدّي إلى الهلاك وإن كان خطأً، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة. انتهى.(3) يريد أنّها كسائر العادّيّات المترتّبة على أسبابها من غير لزوم عقلي ولا اتّجاه سؤال.

وفيه: أنّ لوم المجبور سفاهة، فيتوجّه فوق السؤال، وكذا يندفع ما يقال من أنّ عقاب الكافر كإحراق الحطب، وثوابَ المؤمن كَلفِّ الجوهرة في الحرير؛ كلّ منهما يقتضي(4) ».

ص: 489


1- نهج البلاغة ، ص 476 ، الحكمة 42 .
2- نهج البلاغة ، ص 476 ، ذيل الحكمة 42 .
3- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 586 ذيل الآية : «رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ» .
4- في «ج»: «مقتض».

طبع الكافر والمسلم وذواتهما،(1) ولذا يُقال: فلان سيّء الذات، وفلان حسن الذات. انتهى. وذلك لأنّ لوم الحطب ومحمدة الجوهرة سفاهة، وأيّ سفاهة، فالقياس مع الفارق، وسوء الذات وحسنه مجاز عن تمكّن حبّ الشرّ وحبّ الخير كما مرَّ في أحاديث «باب السعادة والشقاء» فإنّ اختلاف الذات بغير هذا بين أفراد الإنسان غير معلوم لأحدهم.

(وَالاْءَمْرُ وَالنَّهْيُ). دليل آخر تقريره: أنّ الأمر والنهي طلب، ولا يصحّ الطلب في المجبور بأحد المعاني الثلاثة؛ لأنّ طلب ما ليس فعله أو موجبه بالوجوب السابق إلاّ في يد الطالب سفه، فليس الأمر كتسبيب سائر الأسباب المفضية إلى الأفعال عادةً، بأن يجبر اللّه العبد عقيب ذلك الطلب، كما يحرق عقيب مماسّة النار عادةً، فإنّ الأوّل قبيح في نفسه وسفاهة يتعالى عنه، بخلاف الثاني، وليس أيضا وقوع المأمور عقيب الأمر عاديا.

(وَالزَّجْرُ). دليل آخر، وهو من زجر الإبل: إذا حثّها وحملها على السرعة. وزواجر اللّه تعالى: بلاياه النازلة على العُصاة ووعده(2) وأحكامه في القصاص والحدود ونحو ذلك.

تقرير الدليل: أنّ زجر المجبور بأحد المعاني الثلاثة سفه وقبيح في نفسه يتعالى عنه، فليس هذا أيضا كتتميم سائر الأسباب المفضية إلى الأفعال عادةً.

(مِنَ اللّه ِ). الظرف مستقرّ وهو حال عن كلّ من الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، وفائدته أنّه لا يلزم من الجبر بطلان الثواب ونحوه مطلقا؛ لجواز أن يأتي به السفيه في مقابلة فعل جبري.

(وَسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ). دليل آخر، والمراد بمعنى الوعد مناطه ومحسّنه.

(وَالْوَعِيدِ) أي مطلقا، سواء كان وعد اللّه ووعيده، أم وعد العباد ووعيدهم.

(فَلَمْ تَكُنْ لاَئِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلاَ مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ). الفاء تدلّ على أنّ فرد معنى الوعد ثبوت المحمدة، وفرد معنى الوعيد ثبوت اللائمة، فسقوط المعنيين يستلزم عدمهما. واللام في «للمذنب» و«للمحسن» للاختصاص. .

ص: 490


1- في «ج» : «ذاتهما» .
2- في «ج» : + «ووعيده» .

وتقرير الدليل: أنّ اللائمة _ وهي التثريب والتنديم _ معلوم بديهةَ أنّه لا يستحقّها المجبور، وأنّها ليست كالذمّ بالآفة والعاهة، وكذا الكلام في المحمدة، فإنّها ليست كالمدح برشاقة القدّ،(1) وصباحة الخدّ ونحوهما، وثبوت اللائمة للمذنب معلوم عقلاً وشرعا؛ أمّا الأوّل فلأنّه مركوز في ذهن كلّ عاقل حتّى الأطفال يلومون من أساء، وأمّا الثاني فلآيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة المؤمنين: «قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا»(2) الآيات.

(وَلَكَانَ). دليل آخر، وهو معطوف على قوله: «لبطل». وزيادة اللام هنا للإشعار بأنّ الأدلّة السابقة متشابهة الجنس، وهذا الدليل ليس من جنسها، وبأنّ مفسدته أشدّ من مفسدتها.

(المُذْنِبُ أَوْلى بِالاْءِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ، وَلَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ).

حاصله: أنّه لو كان جبر مع تحقّق ثواب وعقاب _ كما هو المتّفق عليه بين كلّ المسلمين _ لكان المذنب إلى آخره، وهو باطل.

ولا يجوز للخصم أن يقول: إنّ فرض الثواب والعقاب مع الجبر فرض محال.

وذلك لأنّه إقرار بفساد الجبر؛ لأنّ ثبوت الثواب والعقاب متّفق عليه ومعلوم.

ويحتمل أن يُراد بالإحسان النفع، وبالعقوبة الإيلام مطلقا، ووجه الأولويّتين أنّ المذنب قد اُجبر على قبيح وهو شرّ، والمحسن قد اُجبر على حسن وهو خير، فحسبهما هذا الشرّ وهذا الخير، فلو كان مع الجبر ثواب وعقاب، أو نفع وضرر، لكان الأولى التلاقيَ وجبر الجبرين على هذا الفرض للمحال أو الممكن.

إن قلت: قد حصل للمذنب راحة في الدنيا، وللمُحسن تعب تكلّف الأعمال الشرعيّة؟

قلت: نرى المتّقين الراضين بقضاء اللّه تعالى أوسعَ معيشةً من المذنبين الساخطين للقضاء؛ لأنّهم دائما في تعب نفساني، بل وجسماني حتّى ملوكهم، وقد أخبر اللّه تعالى عن الكفّار بأنّ لهم معيشةً ضنكى، ولكن إبليس قد لبّس عليهم، ولا يلتفتون إلى تعبهم، ولا .

ص: 491


1- في «ج» : «القدر» .
2- المؤمنون (23) : 108 _ 109 .

يخلّصون أنفسهم من ذلك التعب، والأعمال الشرعيّة ليست كبيرة على الخاشعين، وأثقل شيء عليهم المعاصي؛ على أنّه يكفي في الدليل كون المذنب المفلس السقيم الوضيع بين أهله، والناس أولى بالإحسان من المحسن الغنيّ الصحيح الرفيع بين أهله والناس.

(تِلْكَ) أي كون القضاء حتما، والقدر لازما. والتأنيث باعتبار الخبر.

(مَقَالَةُ) أي قول (إِخْوَانِ)؛ جمع أخ، والاُخوّة هنا بمعنى المشابهة.

(عَبَدَةِ الاْءَوْثَانِ)، هم مشركو العرب النافون للبعثة والبعث والعقاب والثواب، وكانوا مفوّضةً؛ لقوله تعالى في سورة الروم: «هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ»(1)، الآية. وقد أوضحناه في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل».

وروي عن ابن بابويه في توحيده في «باب القضاء والقدر» عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(2)».(3)

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركوا قريش إلى النبى¨ّ صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في هذا القدر، فنزلت هذه الآية: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ» إلى: «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(4).(5)

ويحتمل أن يُقال: إنّ المراد بعَبَدة الأوثان هنا الجبريّة من المشركين، وكان فيهم جبريّة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكون المراد بعبدة الأوثان هنا الجبريّة منهم موافق لكلام أكثر أصحابنا المتكلِّمين.(6) .

ص: 492


1- الروم (30) : 28 .
2- القمر (54) : 48 و 49 .
3- التوحيد ، ص 382 ، ح 29 .
4- القمر (54) : 47 _ 49 .
5- صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 52 .
6- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 5 ، ص 9 .

(وَخُصَمَاءِ الرَّحْمنِ). معطوفٌ على «عَبَدة الأوثان» لا على «إخوان». والمراد بهم المفوّضة، وهم مَن على رأي المعتزلة في مسألة القدر، سواء كانوا من المعتزلة، أم من أهل المذاهب الاُخرى؛ رووا عن النبيّ عليه السلام أنّه قال: «القدريّة خصماء اللّه في القدر»(1) ولا يتصوّر الخصومة في القدر إلاّ على رأي المفوّضة، وقد تكرّر في الحديث «إنّ المفوّضة مضادّوا اللّه في ملكه» كما يجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

وتخصيص اسم الرحمان بالذكر لأنّ معناه من أعطى كلّ شيءٍ خلقه؛ أي ما يليق به من التدبير، فهو خالق كلّ شيء على وفق الحكمة، غير عاجز عن شيء كاللطف الناجع بالنسبة إلى العاصي. فهذا التخصيص كالتخصيص في قوله تعالى في سورة الفرقان: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ»(2)، وفي سورة الملك: «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ».(3)

والاُخوّة بين الجبريّة والمفوّضة باعتبار أنّ كلاًّ منهما على طرف خارج عن الحقّ الذي بينهما، ويقال للمتقابلين: إنّهما متشابهان كما قيل: إنّ قصّة سورة براءة تشابه قصّة الأنفال وتناسبها؛ لأنّ في الأنفال ذكرَ العهود، وفي براءة نبذَها، فضمّت إليها. انتهى.(4)

وظاهر الحديث أنّ القول بالتفويض أشدّ مخالفةً للحقّ من القول بالجبر.

(وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَقَدَرِيَّةِ هذِهِ الاْءُمَّةِ وَمَجُوسِهَا).

هذه الثلاثة أوصاف أيضا للمفوّضة، فهي معطوفات على «خصماء الرحمن» عطفَ انسحاب؛ فالمعنى أنّ تلك مقالة إخوان طائفتين: الاُولى: عَبدة الأوثان، والثانية: الطائفة الجامعة لهذه الأوصاف الأربعة وهم المفوّضة.

إن قلت: لِمَ عطفت الأوصاف الأربعة على «عَبَدة الأوثان» ولم تعطفها ولا بعضها .

ص: 493


1- في حاشية «أ» : «رواه الشهرستاني في الملل والنحل (منه)» . الملل والنحل ، ج 1 ، ص 43 ؛ معارج اليقين في اُصول الدين ، ص 459 .
2- الفرقان (25) : 60 .
3- المُلك (67) : 3 .
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 127 .

على «إخوان»، فتكون الأوصاف الأربعة، أو بعضها أوصافا للجبريّة، موافقة لكلام محقّقي(1) مشهوري أصحابنا المتكلِّمين في تفسير القدريّة بالجبريّة، وتصحيح مذهب المعتزلة؟

قلت: لاُمور:

الأوّل: أنّه لو(2) كانت هي أو بعضها معطوفة على «إخوان» صار المعطوف عليه أبعد ولو باعتبار الابتداء فقط.

الثاني: أنّه حينئذٍ يصير ذو الفاصلة المعطوف أقصر من ذي الفاصلة المعطوف عليه، وهو خلاف الأولى ما لم تدع إليه ضرورة.

الثالث _ وهو العمدة لفظا _ : تعرّضه عليه السلام في الاستئناف البياني في قوله: «إنّ اللّه تبارك وتعالى» إلى آخره، لإبطال مذهب المفوّضة أيضا متوسّطا بين إبطال زعم الجبريّة وإبطال ظنّ عَبَدة الأوثان. وهذا تصريح بأنّ المراد بالقدريّة ونحوها هنا المفوّضة، وأنّ إبطال التفويض ليس استطرادا.

الرابع _ وهو العمدة معنى _ : كثرة الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام في ذمّ المفوّضة المكذّبين بقدر اللّه في فعل العبد، وأنّهم هم القدريّة ومجوس هذه الاُمّة، يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب اُصول الكفر وأركانه»: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «خمسة لَعَنْتُهُم وكلُّ نبيٍّ مجاب: الزائدُ في كتاب اللّه ، والتارك لسنّتي، والمكذِّب بقدر اللّه » الحديث.(3) وفي «كتاب الحجّة» في «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين»: «قدريّ يقول: لا يكون ما شاء اللّه عزّ وجلّ، ويكون ما شاء إبليس» الحديث.(4) وأمثال ذلك كثيرة.

ونحن بعد ما دلّنا البراهين العقليّة والنقليّة _ التي سنذكرها في شرح ثاني «باب .

ص: 494


1- في «ج» : - «محققي» .
2- في «ج» : «أو» .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 293 ، ح 14 .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 403 ، ح 2 .

الاستطاعة» _ على بطلان كلّ من الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره بُعيدَ هذا عند قوله عليه السلام : «ولم يملِّك مفوِّضا» أوثَقُ بأحاديثهم عليهم السلام في تفسير هذه اللفظة بالمفوّضة منّا بكلام هؤلاء المشهورين في تفسيرها بالجبريّة، وإن كانت الأحاديث أخبار آحاد نرى هؤلاء المشهورين قد خالفوا من هو أقدم منهم من أصحابنا كالمصنّف، من تصريحاته أنّه قال: «باب الجبر والقدر، والأمر بين الأمرين».

وعليّ بن إبراهيم بن هاشم قال في مقدّمات تفسير القرآن:

وأمّا الردّ على المعتزلة فإنّ الردّ في القرآن عليهم كثير؛ وذلك أنّ المعتزلة قالوا: نحن نخلق أفعالنا، وليس للّه فيها صنع ولا مشيئة ولا إرادة، ويكون ما شاء إبليس، ولا يكون ما شاء اللّه . انتهى.(1)

والفضل بن شاذان قال في كتاب الإيضاح كما قال عليّ بن إبراهيم(2)، وقد عدّ أصحاب كتب الرجال من كتب هشام بن الحكم كتابَ الجبر والقدر، وكتابَ الردّ على المعتزلة(3)، وأمثال ذلك كثيرة.

ونرى من ذكرتم من المشهورين لم يستندوا في تفسيرها بالجبريّة إلاّ إلى اُمور:

الأوّل: تصريح هذا الحديث به، وهو مبنيّ على عطف الأوصاف الأربعة أو بعضها على «إخوان».

فالجواب: أنّهم إن رضوا فيه رأسا برأس كان خيرا لهم، وإنّما جرّهم إلى ذلك قلّة مبالاتهم بأحاديث الاُصول، والتأمّل في معانيها، وفي المراد بالتفويض، وفي المراد بالواسطة بين الجبر والتفويض، ولذا قال بعضهم: إنّ هذا حديث الأصبغ(4) إنّما حديث الأصبغ قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ألا إنّ القدر سرٌّ من سرّ اللّه ، وسترٌ من ستر اللّه » إلى آخر .

ص: 495


1- تفسير القمّي ، ج 1 ، 23 .
2- الإيضاح ، ص 6 و 7 .
3- رجال النجاشي ، ص 433 ، الرقم 1164 .
4- في حاشية «أ» : «العلاّمة في شرح التجريد (منه)» . كشف المراد ، ص 433 ، وفي طبعة الزنجاني ، ص 341 ، وفي طبعة السبحاني ، ص 88 .

الحديث المرويّ في كتاب التوحيد لابن بابويه.(1)

وقال بعضهم في بيان الجبر والتفويض: والواسطة _ الذي ينظر إلى أسباب الأوّل، ويعلم أنّها ليست بقدرة العبد ولا بإرادته _ يحكم بالجبر، وهو غير صحيح مطلقا؛ لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وإرادته، والذي ينظر إلى السبب القريب ينظر بالاختيار، وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا؛ لأنّ الفعل لم يحصل بأسباب كلّها مقدورة ومرادة، والحقّ ما قال بعضهم: لا جبر ولا تفويض ولكن(2) أمرٌ بين أمرين. انتهى.(3)

وقد أبطلنا مبنى هذا في حواشينا على عدّة الاُصول، وبيّنّا أنّه قول بالجبر والتفويض معا، وسننقل في حادي عشر الباب ما قال بعضهم أيضا في معنى التفويض والواسطة.

الثاني: ما روي عن الحسن عن حذيفة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «لُعنت القدريّة والمرجئة على لسان سبعين نبيّا» قال: قيل: ومَن القدريّة يارسول اللّه ؟ قال: «قومٌ يزعمون أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها».(4)

وعن الحسن أنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه و آله إلى العرب وهم قدريّة مجبّرة يحمّلون ذنوبهم على اللّه ، وتصديقه في قول اللّه تعالى: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه ُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّه َ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ».(5)الاحتجاج ، ج 1 ، ص 251 .(6) انتهى.(7)

فالجواب: أنّ الحسن البصري سامريّ هذه الاُمّة كما نقله الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام ،(7) ويجيء في ثاني «باب الاستطاعة» طعن الحسن بن .

ص: 496


1- التوحيد ، ص 383 ، بيانه في تفسير الأجل ، ح 32 .
2- في «أ» : «ولكنّه» .
3- حكاه صدر الدين الشيرازي في الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 331 عن المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم ، بتفاوت يسير .
4- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ، ص 344 ؛ وعنه في البحار ، ج 5 ، ص 47 ، ح 73 ؛ متشابه القرآن لابن شهر آشوب ، ج 1 ، ص 202 ؛ الصراط المستقيم ، ج 1 ، ص 39 .
5- الأعراف
6- : 28 .
7- الكشّاف ، ج 2 ، ص 75 .

عليّ عليهماالسلام عليه، ويجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» أنّ ابن أبي العوجاء كان من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك، ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال: إنّ صاحبي كان مخلّطا، كان يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه. انتهى.(1) فلا يعبأ بنقله واستنباطه؛ إذ هو خبيث جمع بين خُبثَين: التصوّف، والاعتزال.

الثالث: أنّ الشيء إنّما ينسب إليه مصدّقه لا مكذّبه، والمعتزلة جاحدون لقدر اللّه ، وهو مبنيّ على أنّ من يفسّرها بالمفوّضة يقول: مفهوم القدريّة مكذّبوا قدر اللّه .

فالجواب: أنّ وجه تسميتهم بالقدريّة أنّهم لمّا قالوا: إنّه ليس للّه قدر أصلاً في أفعالنا في وقتِ إقدارنا عليها، نسبوا جميع القدر فيها إلى أنفسهم، فنسبوا إلى ما نسبوه بالكلّيّة إلى أنفسهم.

إن قلت: يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» عن أبي الحسن موسى عليه السلام أنّه قال لهشام بن سالم: «لا إلى المرجئة، ولا إلى القدريّة، ولا إلى الزيديّة، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ» الحديث.(2) وظاهر المقابلة أنّ القدريّة غير المعتزلة.

قلت: هذا في جواب كلام هشام وعلى طبقه، وتوجيه كلامه أنّ للمعتزلة قواعدَ قد شاركهم في كلّ منها جمع من غيرهم، وأخصّ قواعدهم بهم هي التي سُمّوا بسببها معتزلةً، وهي القول بالوعيد؛ أي أنّ صاحب كبيرة بلا توبة خارج عن الإيمان ومخلّد في النار، وبها اعتزل واصل بن عطاء مع جماعة عن مجلس استاذه الحسن البصري، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل.(3) واستعمال لفظ المعتزلة في كلامه باعتبار هذه القاعدة، فكأنّه قال: ولا إلى الوعيديّة؛ فمقابلهم هنا المرجئة لا القدريّة، فإنّ مذهب .

ص: 497


1- الكافي، ج 4، ص 197، ح 1.
2- الكافي، ج 1، ص 352، ح 7.
3- الوافي بالوفيات ، ج 27 ، ص 245 .

المرجئة أنّ الإيمان المنجي عن الخلود في النار هو العلم بصدق جميع ما جاء به النبيّ، أو هو والإقرار باللسان، فلا يخرج العالم المقرّ به عن الإيمان، وإن فعل كلّ كبيرة وخرج عن الدنيا بلا توبة، فهما على طرفي الإفراط والتفريط.

والحقّ الأمر بين الأمرين في هذا أيضا، وهو أنّ الإيمان الطوع لجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله ، وعلامته سوء السيّئة وسرور الحسنة.

وقال الكشّي في ترجمة الزهّاد الثمانية: «والحسن كان يلقى كلّ أهل فرقة بما يهوون، وكان يتصنّع للرياسة وكان رئيس القدريّة» انتهى.(1)

والمتعصّبون للمعتزلة إن أجابوا عن البراهين على إبطال ما نسمّيه تفويضا، أو جوّزوا أن لا يكون التفويض بهذا المعنى مذهبا للمعتزلة، سامحناهم في التفسير، وإلاّ قلنا: المعتزلة قدريّة مرّتين؛ لقولهم بكلا فردي التفويض، كما سيظهر بُعيد هذا.

قيل: المراد أنّ القول بأنّ كون الحوادث بقدر اللّه وقضائه يستلزم أن يكون العباد مجبورين مقالة طائفتين: إحداهما: الأشاعرة، والاُخرى: المعتزلة، ثمّ قيل: القدريّة والأشاعرة زعموا أنّ القدر والقضاء لا يكونان إلاّ بطريق الإلجاء، فنفاهما المعتزلة، وأثبتهما الأشاعرة. انتهى.

وهذا مبنيّ على أنّ الأوصاف الأربعة أو بعضها معطوفة على «إخوان»، وليست أوصافا للجبريّة، فاحتيج إلى هذا التأويل، ووجه كون المفوّضة حزب الشيطان أنّهم قالوا كالمجوس: إنّ الشيطان مستقلّ بالقدرة على فعله، وفعله مفوّض إليه، وقد يقع ما شاء شيطان دون ما شاء اللّه .(2) وقد وضعت المجوس حكايات في أنّه وقع الحرب بين اللّه والشيطان.(3)

ويحتمل أن يكون الأوّلان من الأوصاف الأربعة للمجوس، والأخيران للمعتزلة .

ص: 498


1- اختيار معرفة الرجال ، ج 1 ، ص 315 ، ح 154 .
2- اُنظر المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 65 ؛ مجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ معارج الفهم ، ص 379 .
3- حكى ذلك العلاّمة في معارج الفهم ، ص 379 . وفي الملخّص في اُصول الدين ، ص 289 إشارات إلى ذاك .

وأضرابهم من المنتسبين إلى الإسلام، فلا يكون العطف في قوله: وقدريّة، عطفَ انسحاب، وتكون للأشاعرة ثلاثة إخوة. وظاهر(1) قوله عليه السلام : «وقدريّة هذه الاُمّة» أنّ لفظة القدريّة كانت في الأصل واقعة على المجوس نقلت إلى المفوّضة.

(إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى). استئنافٌ لبيان بطلان مقالة الجبريّة أوّلاً؛ لأنّ أصل الكلام فيها، ثمّ بيان بطلان زعم المفوّضة، ثمّ بيان بطلان القدر المشترك بينهما.

(كَلَّفَ تَخْيِيرا، وَنَهى تَحْذِيرا، وَأَعْطى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرا).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان الجبر، والمراد بالتكليف الأمر، وبالتخيير تعيين الخير من الفعل والترك للقادر على كلّ منهما أنّه الفعل، فالتخيير يستحيل أن يكون مع عدم قدرة المأمور على الفعل أو على الترك، ويلزم من كلّ من مذاهب الجبر الثلاثةِ عدمُ تمكّن فاعل شيء من تركه، ولا تارك شيء من فعله.

والمراد بالتحذير تعيين المحذور من الفعل والترك للقادر على كلّ منهما أنّه الفعل، فلا يجامع الجبر؛ لما مرّ آنفا.

والمراد بإعطاء الكثير على القليل الوعد له عليه للترغيب في أعمال الخير للقادر على الخير والشرّ، فلا يجامع الجبر؛ لما مرَّ آنفا.

(وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوبا، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَها، وَلَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضا).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان زعم خصماء الرحمن والقدريّة المذكورين سابقا بتقريب إخوانهم.

اعلم أنّ التفويض في اللغة ردّ الأمر في شيء إلى أحد، وجعْله حاكما فيه، كما أنّ الوكل صرف الأمر في شيء إلى أحد، وجعله معتمدا عليه فيه،(2) وفي اصطلاح المتكلّمين نوع من الإقدار، وهو إقدار اللّه تعالى العبد بحيث يخرج عن يده تعالى أزمّة المقدور في وقت هذا الإقدار.(3) .

ص: 499


1- في «ج» : «فظاهر» .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 479 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 210 (فوض) .
3- المواقف ، ج 3 ، ص 221 .

وللتفويض بهذا المعنى فردان هو القدر المشترك بينهما:

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبدَ على فعل بحيث لا يكون في مقدوره تعالى من المقرّبات إلى الفعل أو إلى الترك ما لو فعله بالعبد لاختار غير ما اختاره من الفعل والترك، فيلزمه أن يصدر عن العبد ما يختاره وإن شاء اللّه أن لا يصدر. وقد بيّنّا في تحرير محلّ النزاع بيننا وبين المعتزلة معنى مشيئة اللّه في أوّل الخامس والعشرين.(1)

وهذا مذهب المعتزلة؛ لقولهم بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه تعالى.(2)

ويلزم من ذلك أنّ العبد إن اختار العصيان كان عاصيا بغلبة على اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فإنّه لو كان في مقدوره تعالى لطف ناجع لفعل؛ لأنّه لا يترك الواجب عليه مع قدرته عليه، وعندهم أنّ كلّ لطف ناجع يجب عليه، فلم يتحقّق العصيان إلاّ لعدم قدرته على اللطف الناجع.

ويلزم من ذلك أيضا أنّ العبد إن اختار الطاعة كان مطيعا بإكراه؛ بمعنى أنّه بحيث إن شاء اللّه تعالى على فرض المحال تركَ الطاعة، ربّما لم يقدر على صرفه عن اختياره الطاعة إلى اختياره تركها؛ لعدم الفرق بين الإقدار على الطاعة، والإقدار على العصيان بديهةً واتّفاقا.

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبدَ في وقت على فعل في ثاني الوقت، ويلزم من ذلك أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة غير موقوف فعله على الإذن من اللّه . وقد مضى أيضا معنى الاستقلال ومعنى الإذن في أوّل الخامس والعشرين.(3) وهذا أيضا مذهب المعتزلة حتّى أنّ أكثرهم يقولون: لا تبقى القدرة في وقت الفعل.(4) .

ص: 500


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 ؛ وحكاه عنهم الرازي في كتاب المحصّل ، ص 481 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .
4- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

واعلم أنّ المعتزلة قدريّة مرّتين؛ لأنّهم لمّا قالوا بالتفويض الأوّل، أنكروا قسما من قدرة اللّه على التصرّف في فعلهم، فأنكروا قسما من قدرته(1) تعالى أي تدبيره وتقديره تعالى؛ لأنّه لا يتأتّى التدبير في شيء من جهة إلاّ من القادر على وجوه التصرّف فيه من هذه الجهة، فنسبوا جميع القدر الذي يكون من هذه الجهة إلى أنفسهم.

ولمّا قالوا بالتفويض الثاني أنكروا قسما آخر من قدرة اللّه تعالى على التصرّف في فعلهم، فأنكروا قسما آخر من قَدَرِهِ وتدبيره في فعلهم، فنسبوا جميع القدر الذي يكون من هذه الجهة إلى أنفسهم.

وقوله: «لم يعص» بصيغة المجهول، وفيه ضمير اللّه ، وكذا قوله: «لم يطع». وقوله: «مكرها» بفتح الراء. وقوله؛ «لم يملّك» بشدّ اللام المكسورة، ومعنى التمليك هنا الإقدار.

وقوله: «مفوّضا» بشدّ الواو المكسورة. ويحتمل أن يكون المراد بالتفويض هنا الفردَ الثانيَ من التفويض، من قبيل استعمال العامّ في الخاصّ مجازا، فيكون كلّ من الفقرات الثلاث نفيا لاعتقاد من المفوّضة غيرِ منفيّ بالاُخريين. ويحتمل أن يكون المراد به الأعمَّ، فيكون تعميما بعد تخصيص، وفي سورة يونس: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ»(2).

(وَلَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، وَلَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ عَبَثا «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»(3)).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان القدر المشترك بين الجبر والتفويض، فإنّه يلزم على كلّ منهما بطلان الأمر والنهي والثواب والعقاب؛ أمّا على الجبر، فلما مرّ من قوله: «لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي»، وأمّا على التفويض، فلما يجيء في حادي عشر الباب من قوله: «لو فوّض إليهم لم يحصُرْهم بالأمر والنهي». فعلى .

ص: 501


1- في «ج» : «قدره» .
2- يونس (10) : 49 .
3- صآ (38) : 27 .

التقديرين يلزم كون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، وكون بعث النبيّين عبثا، فقوله: «ذلك» إشارة إلى القدر المشترك بين الجبر والتفويض الملزوم لكون الخلق باطلاً، والبعث عبثا.

وهذه الفقرة إشارة إلى ما في قوله تعالى في سورة صآ: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاْءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْءَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(1).

(فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ:

أَنْتَ الاْءِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمنِ غُفْرَانا

أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِسا جَزَاكَ رَبُّكَ بِالاْءِحْسَانِ إِحْسَانا).

الثاني: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ زَعَمَ) أي ادّعى. وأكثر ما يستعمل في دعوى الباطل.

(أَنَّ اللّه َ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). قال تعالى في سورة الأعراف: «قُلْ إِنَّ اللّه َ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»(2)، ويجيء في «كتاب الحجّة» في تاسع «باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل» ما يدلّ على أنّ المراد بالأمر التكليف، وأنّ المراد بالفاحشة الايتمام بأئمّة الجور.(3) والمقصود هنا(4) الردّ على المذاهب الثلاثة: الجبريّةِ مذهبِ جهم بن صفوان، والأشاعرةِ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة بطريق الكناية، فإنّ الجبر على الفحشاء أشدّ قبحا من الأمر بالفحشاء، فكذب دعوى الأمر بالفحشاء يستلزم كذب دعوى .

ص: 502


1- صآ (38) : 27 _ 28 .
2- الأعراف (7) : 28 .
3- في «ج» : «الفحشاء: الخصلة المخالفة للعقل والنقل الصريح . والمراد هنا التصديق بأنّ اللّه جبر عباده على أفعالهم، ومع هذا يعذّب العاصي ويثيب المطيع» بدل «قال تعالى في سورة الأعراف» إلى هنا .
4- في «ج» : - «هنا» .

الجبر على الفحشاء بطريقٍ أولى.(1)

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَيْهِ ) أي مفوّضٌ إليه بأحد فردي التفويض المذكورين في(2) أوّل الباب.

(فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المعتزلة وعلى أبي الحسين البصري.

إن قلت: ورد في الدعاء المأثور: «الخير في يديك، والشرّ ليس إليك».(3)

قلت: معناه أنّ الشرّ ليس متوجّها إليك، وهو إشارة إلى أنّ اللّه أولى بحسنات العبد منه، والعبد أولى بسيّئاته من اللّه . وقد مرَّ تفسيره في آخر «باب المشيئة والإرادة».

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الشرّ لا يتقرّب به إليك، ولا يبتغي به وجهك، أو أنّ الشرّ لا يصعد إليك، وإنّما يصعد إليك الخير، كما في قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»(4).

الثالث: (الْحُسَيْنُ،(5) عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: اللّه ُ فَوَّضَ الاْءَمْرَ) أي العمل في الطاعة والمعصية ونحوهما، والاستفهام مقدّر.

(إِلَى الْعِبَادِ؟) أي إلى كلّ منهم باعتبار أمر نفسهِ.

(قَالَ: اللّه ُ أَعَزُّ) أي أغلب قدرةً، وأقوى ملكا (مِنْ ذلِكَ) أي من أن يفوّض.

وهو إشارة إلى دليل عقلي على بطلان كلّ فردي التفويض بأنّه يستلزم إخراج اللّه من سلطانه، وسيجيء تحريره في شرح ثاني «باب الاستطاعة». .

ص: 503


1- في «ج» : - «بطريق الكناية» إلى هنا .
2- في «ج» : + «شرح» .
3- الكافي ، ج 3 ، ص 310 ، باب افتتاح الصلاة والحدّ في التكبير ، ح 7 ؛ الفقيه ، ج 1 ، ص 303 ، ذيل ح 916 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 67 ، ح 12 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 24 ، ح 7247 .
4- فاطر (35) : 10 .
5- في الكافي المطبوع : + «بن محمّد» .

(قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟). الاستفهام مقدّر، والفاء للتفريع، وذِكْر المعاصي _ مع أنّ الطاعات كالمعاصي فيما نحن فيه _ مبنيّ على أنّ السائل اعتقد التفويض استدلالاً بأنّه لولاه لزم قبيح، وهو الجبر على المعاصي، لا الجبر على الطاعات؛ لأنّ قبحه غير ظاهر.

(فَقَالَ(1): اللّه ُ أَعْدَلُ وَأَحْكَمُ)؛ من الحكمة.

(مِنْ ذلِكَ) أي من أن يجبر على المعاصي. وهو إشارة على أنّ الجبر على المعاصي التي نهى اللّه تعالى عنها ظلم؛ أي وضع للشيء في غير موضعه وسفه بدون العقاب، فضلاً عن أن يكون معه عقاب.

(قَالَ: ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللّه ُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي؛ عَمِلْتَ)؛ بصيغة الخطاب.

(الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ). هذا لإثبات الواسطة بين التفويض والجبر، ومضى تفسيره في آخر «باب المشيئة والإرادة».

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : يَا يُونُسُ، لاَ تَقُلْ).

يونس بن عبد الرحمن من فضلاء متكلِّمي أصحابنا وكأنّ الإمام عليه السلام استشعر منه أنّه يحترز عن أن يقول: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن،(2) لتوهّمه أنّ ذلك يستلزم الجبر، أو أنّ مشيئة المعاصي قبيحة، أو أنّ النهي عمّا يشاء قبيح، فمهّد عليه السلام أوّلاً نفي التفويض لينجرّ الكلام إلى إثبات ما يحترز عنه. ويحتمل أنّه عليه السلام استشعر منه الميل إلى التفويض أيضا.

(بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ). هم مَن على رأي المعتزلة في مسألة القدر كما مرّ في أوّل الباب، .

ص: 504


1- في الكافي المطبوع : «قال» .
2- شرح المقاصد في علم الكلام ، ج 2 ، ص 97 و 145 .

والمراد بقولهم هنا الفرد الأوّل من التفويض، وهو أنّه لم يبق للّه تعالى طريق إلى صرف العبد عن الشرّ الواقع منه إلاّ القسر والإلجاء؛ لوجوب كلّ لطف ناجع عليه بزعمهم، فينكرون خلق الشقاء، وكون شرّ مع الخذلان فضلاً عن كون كلّ شرّ معه، وكذا ينكرون التوفيق في بعض الخير، كما مرّ في أوّل الباب في شرح قوله: «ولم يطع مكرها».

(فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ). حاصل الكلام الاستدلال على بطلان قول القدريّة بآيات ثلاث حكى اللّه تعالى فيها أقوال أهل الجنّة وأهل النار وإبليس على سبيل التقرير.

(لَمْ يَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وهو أنّ كلّ خير مع التوفيق. وفي رواية البرقي في كتاب المحاسن في باب الإرادة والمشيئة هكذا: «لم يقولوا بقول اللّه : وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ، ولا قالوا بقول أهل الجنّة».(1)

(وَلاَ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ) وهو أنّ كلّ شرّ مع الخذلان، وأنّ اللّه تعالى خلق الشقاء.

(وَلاَ بِقَوْلِ إِبْلِيسَ) وهو أنّ اللّه يخلق الشقاء. ومعنى الشقاء أن يكون أحد بحسب الجبلّة كثيرَ الميل إلى الشرّ بدون جبر له على الشرّ، ومع علم اللّه تعالى أنّ ذلك يفضيه إلى سوء الخاتمة نعوذ باللّه منه، وقد مرّ في «باب السعادة والشقاء» ما يتعلّق به.

(فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ قَالُوا:«الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَينَا) أي وفّقنا (لِهَ_ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ) أي ولم نهتد البتّة (لَوْلآَ أَنْ هَدَينَا اللّهُ»(2)).

يدلّ على أنّ الخير الموجب للجنّة لا يكون إلاّ مع توفيق اللّه .

(وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ : «رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) أي جذبتنا إلى الشرّ. والمقصود أنّهم فعلوا ما تدعو إليه الشقوة، فهو مجاز في النسبة.

(وَ كُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ»(3)) أي أشقياء. .

ص: 505


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، ح 238 .
2- الأعراف (7) : 43 .
3- المؤمنون (23) : 106 .

(وَقَالَ إِبْلِيسُ: «رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى»(1)) أي أشقيتني، فإنّ الغاوي هو الشقيّ، ولَيس فعل الشرّ من الشقيّ بالجبر وإن كان فيه وجوب لاحق. وفي رواية البرقي بعد هذا هكذا: «ولا قالوا بقول نوح: «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2)».(3)

(فَقُلْتُ: وَاللّه ِ، مَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ) أي بأنّه لم يبق طريق للّه تعالى إلى إيمان الكافر إلاّ الجبر. والمقصود أنّي لا اُوافقهم في القول بالتفويض.

(وَلكِنِّي). استدراكٌ عمّا يفهم من نفي التفويض من القول بأنّ مشيئة اللّه تتعلّق بالمعاصي.

(أَقُولُ: لاَ يَكُونُ) أي شيء في الأرض ولا في السماء من أفعال العباد ونحوهم.

(إِلاَّ بِمَا شَاءَ اللّه ُ) أي إلاّ بسبب أمر آخر شاءه اللّه ، وهو أفضى إلى اختيار العبد المعصيةَ أو الطاعة بدون جبر. ومقصوده بإدخال الباء الجارّة في قوله: «بما شاء» أن يأتي بكلام يدلّ على نفي التفويض بدون أن يشتمل على أنّ مشيئته تعالى تتعلّق بالمعاصي.

والإنصاف أنّ هذا التدقيق من يونس تدقيق عجيب وإن كان مدفوعا؛ لغفلة يونس عن تدقيق فوق هذا التدقيق، كما سيظهر في جوابه عليه السلام وإقرار يونس بالغفلة.

(وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى، فَقَالَ: يَا يُونُسُ ، لَيْسَ هكَذَا) أي ليس الحقّ الصريح هكذا.

وهذا متعارف في ردّ الكلام الذي ظاهره حقّ، ومقصود المتكلّم به ضمّ أمر آخر غير حقّ إليه كما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لمّا قال بعض الخوارج ردّا عليه في الرضا بالتحكيم: لا حكم إلاّ للّه ، قال عليه السلام : «كلمة حقّ اُريد بها باطل».(4) .

ص: 506


1- الحجر (15) : 39 .
2- هود (11) : 34 .
3- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، ح 238 .
4- نهج البلاغة ، ص 82 ، ح 40 . و فيه «يريد» بدل «اُريد» .

(لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى). استئنافٌ لبيان أنّ الحقّ الصريح في إسقاط الباء الجارّة لا في إدخالها، فإنّ إسقاطها يجعل اللفظ جامعا(1) لنفي التفويض وبيان أنّ وقوع المعاصي مع علمه تعالى بإفضاء ما يفضي إليها ممّا صدر عنه تعالى، ألا يرى أنّ الغافل عن أنّ فعله يؤدّي إلى إيذاء الحاكم إيّاه يُقال فيه: ما وقع الإيذاء إلاّ بما شاء، ولا يُقال فيه: شاء وقوع الإيذاء، بخلاف العالم فإنّه يقال فيه: إنّه شاء وقوع الإيذاء وإن كان كارها له من جهة اُخرى، وهكذا اللّه تعالى شاء للمعاصي باعتبار أنّه عالم بأنّها تقع بما شاء، وكارِهٌ لها باعتبار أنّه نهى عنها. وقد بيّنّا في ثاني «باب الإرادة» أنّها من صفات الفعل ما يظهر منه أنّ هذا الاستعمال حقيقة لغةً، ولو كان مجازا لم يكن فيه حجر؛ لأنّه على طبق استعمال الشرع.

(يَا يُونُسُ). شروعٌ في بيان فائدة إسقاط الباء.

(تَعْلَمُ مَا الْمَشِيئَةُ؟). يُحتمل أن يُراد به تعلم ما فائدة القول بالمشيئة و أنّها تتعلّق بالمعاصي مثلاً بإسقاط الباء، ويحتمل أن يُراد ما معنى مشيئة اللّه لفعل المعصية مثلاً المعدودة مع الخصال البواقي.

(قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هِيَ الذِّكْرُ الاْءَوَّلُ). الذكر بالكسر والضمّ: الالتفات إلى ما علم قبلُ، نحو: «أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ»(2)، واستعير هنا للعمل بمقتضى العلم الأزلي فيما لا يزال، وذلك إحداث شيء يفضي إلى المعلوم بالعلم الأزلي، فالذكر الأوّل لعصيان زيد _ مثلاً _ إحداث الماء الذي هو أوّل مخلوق ومادّة سائر الحوادث المعلومة في الأزل.

(فَتَعْلَمُ مَا الاْءِرَادَةُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هِيَ الْعَزِيمَةُ) أي البقاء والجدّ (عَلى مَا يَشَاءُ).

«ما» إمّا مصدريّة أي على المشيئة، وهي الذكر؛ أي أن يكون ذاكرا في وقت أفضى(3) الحادث بعد المفضي الأوّل. وإمّا موصولة، فيكون معنى الإرادة تأكّد المشيئة لما يشاء؛».

ص: 507


1- في «أ» : «جامعها» .
2- مريم (19) : 67 .
3- في «ج»: «المفضى».

أي فعل أو ترك بعد المشيئة موافق لها في أنّه مفض إلى فعل العبد، مجامع للعلم بالإفضاء.

(فَتَعْلَمُ مَا الْقَدَرُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ : هِيَ) أي القدر، والتأنيث باعتبار الخبر.

(الْهَنْدَسَةُ)؛ على وزن الدهرجة، معرّب «اندازه» أي المقدار، ونقل إلى تعيين المقدار. وقيل: المُهندِس مقدّر(1) مجاري الماء حيث تحفر، والاسم الهندسة، مشتقّ من الهنداز، معرّب «آب انداز» فاُبدلت الزاي [سينا] لأنّه ليس لهم دال بعده زاي. انتهى.(2)

(وَوَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالْفَنَاءِ). بيّن عليه السلام القدر في ضمن مثال صنعة الصانع من العباد كالحذّاء والخيّاط ونحوهما، فإنّ الحذّاء _ مثلاً _ إذا ظنّ أنّه يقدر على صنعة حذاء بعد ذلك، وعزم عليها، عيّن في نفسه المقدار اللائق بالحذاء الذي عزمه، وعيّن أيضا البقاء والفناء، أي إن أراد طول بقاء الحذاء عزم على صنعة مستحكمة بقدر ما أراد من حدود البقاء، وإلاّ تسامح بقدر ما يريد من حدود الفناء.

والمقصود أنّ فائدة اعتبار قدر اللّه وتعلّقه بالمعاصي _ مثلاً _ عدم نسيانه للإفضاء في وقت هندسة العبد، أو المقصود أنّ قدر اللّه تعالى لمعصية عبد _ مثلاً _ فعل أو ترك اختياري يعلم تعالى أنّه يفضي إلى فعل العبد اختيارا، وهو مجامع لقدر العبد _ أي هندسته ووضعه _ الحدودَ، وإنّما يكون حين ظنّه بنفسه القدرةَ بعد ذلك على الفعل، وهذا الحين هو الوقت الذي زعم المعتزلة أنّ العبد قادر فيه على الفعل بعده؛ فالعبد يدبّر، واللّه يقدّر.(3)

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ: وَالْقَضَاءُ هُوَ الاْءِبْرَامُ وَإِقَامَةُ الْعَيْنِ) أي فائدة اعتبار قضائه تعالى لمعصية العبد _ مثلاً _ بيان عدم نسيانه حين الإبرام، أو المقصود أنّ معنى قضائه الإبرام أي فعل أو ترك من اللّه تعالى اختياري يعلم تعالى أنّه يفعل العبد معه ذلك الفعل. .

ص: 508


1- في «ج» : «المقدّر» .
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 260 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 251 (هندس) .
3- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وانظر نهج الحقّ للعلاّمة الحلّي ، ص 129 .

والمراد بالإبرام ما يصير الشيء معه بحيث يخرج عن تعلّق القدرة به، وهو بإقامة العين أي إيجاد الشيء في الأعيان أي الموجودات الخارجيّة، وكلّ مفضٍ مبرمٌ لا مطلقا، بل حين مضى وقته، أو إذا أخذ بشرط القضاء، كما مرّ في آخر «باب البداء» عند قوله: «والقضاء بالإمضاء» هو المبرم. وأمّا بدونهما فليس مبرما، لا على العبد؛ لأنّ القضاء قضاء عزم لا قضاء حتم وقد مرّ معناهما في أوّل الباب، ولا على اللّه ؛ لأنّه مختار في القضاء.

ويظهر هذا الفرق من بيانهم الفرقَ بين الضرورة بشرط الوصف، والضرورة حين الوصف.

(قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَهُ، وَقُلْتُ: فَتَحْتَ لِي شَيْئا كُنْتُ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ). ذلك لتوهّمه أنّ تعلّق مشيئته تعالى بالمعاصي قبيح، أو يوجب الجبر، فلمّا علم معنى المشيئة، علم أنّها تتعلّق بكلّ كائن بدون جبر وقبيح، وكذا الكلام في الإرادة والقدر والقضاء.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خَلَقَ الْخَلْقَ) أي المخلوقين.

(فَعَلِمَ). الفاء للتعقيب باعتبار ضمِّ «وأمرهم ونهاهم» أو للتفريع للدلالة على أنّ الخلق دليل العلم، قال تعالى: «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ»(1).

(مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ) من القدرة على كلّ من الفعل والترك.

(وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ) أي لم يكتف بعلمه هذا.

(فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلى تَرْكِهِ). ردٌّ على المجبّرة، والفاء للتفريع.

(وَلاَ يَكُونُونَ آخِذِينَ) أي فاعلين لشيء. .

ص: 509


1- المُلك (67) : 14 .

(وَلاَ تَارِكِينَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ) أي بعدم إحداثه مانعا عقليّا، أي مخرجا عن القدرة في وقت الفعل.

وهذا ردّ على المعتزلة في قولهم: إنّ القدرة على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت.(1)

ويمكن أن يُراد بالإذن هنا عدم إحداث المانع العقلي، أي المخرج عن القدرة، ولا المانع العلمي، أي ما يعلم تعالى معه عدم الأخذ أو الترك اختيارا، فيعمّ الخصال الخمس الاُول من الخصال السبع، ويكون ردّا على المعتزلة في كلا خلافيهم معنا، كما مضى في أوّل الخامس والعشرين.(2)

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ قُرْطٍ)؛ بضمّ القاف، وسكون الراء المهملة، ومهملة.

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المجبّرة، ومضى معناه في ثاني الباب.

والسوء بضمّ المهملة: الاسم للسوء بفتحها، مصدر ساءه يسووه سوءا ومساءةً ومسائية، نقيض: سرّه.

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللّه ِ، فَقَدْ أَخْرَجَ اللّه َ مِنْ سُلْطَانِهِ). ردٌّ على المعتزلة في أوّل خلافيهم معنا المذكورَيْن في أوّل الخامس والعشرين.

والمراد بالخير والشرّ الطاعات والمعاصي كقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَه»(3)؛ لأنّه لم يزعم أحد أنّ نحو الصحّة والمرض بغير مشيئة اللّه .

وقيل: يعني بالخير والشرّ الصحّة والمرض، وذلك قوله عزّ وجلّ: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ .

ص: 510


1- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 262 .
2- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء ، في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- الزلزلة (99) : 7 _ 8 .

وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»(1). انتهى.(2)

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِغَيْرِ قُوَّةِ اللّه ِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المعتزلة في قولهم: إنّ كلّ لطف ناجع واجب على اللّه تعالى، فيستحيل عليه ضدّ اللطف.(3) ومضى في ثالث الباب: «عملتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتُها فيك».

قيل: ردّ على الأشاعرة حيث زعموا أنّ المعاصي فعل اللّه لا بقوّة خلقها. انتهى.(4)

(وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ، أَدْخَلَهُ(5) النَّارَ) ؛ متعلّقٌ بالجميع.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِالْقَدَرِ(6)) أي بأن قدر فعل العبد له فقط، وليس للّه معه شركة في قدر فعله. وهو قول المعتزلة، ومبنيّ على قولهم: إنّه لم يبق طريق للّه تعالى إلى نحو إيمان الكافر إلاّ القسر والإلجاء، وعليه وعلى قولهم: قدرة العبد على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت من فردي التفويض.(7)

(وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا هذَا). نداءٌ على سبيل الاستخفاف.

(أسْأَلُكَ؟). خبر أو بتقدير الاستفهام للاستيذان.

(قَالَ: سَلْ ، قُلْتُ: يَكُونُ)؛ بتقدير الاستفهام الإنكاري.

(فِي مُلْكِ)؛ بضمّ الميم وسكون اللام، أي سلطان.

(اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مَا لاَ يُرِيدُ؟). يعني أليس كون شيء لا يريده منافيا لسلطانه .

ص: 511


1- الأنبياء (21) : 35 .
2- في حاشية «أ» : «القائل ابن بابويه في كتاب التوحيد (منه)» . التوحيد ، ص 359 ، باب نفي الجبر والتفويض ، ح 2 .
3- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 . وحكاه عنهم العلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .
4- في حاشية «أ» : «ام من رحمه الله (منه)» . والظاهر أنّ المراد منه محمّدأمين الإسترابادي في حاشيته على الكافي .
5- في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
6- في الكافي المطبوع : «في القدر» .
7- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

تعالى، ومخرجا له تعالى عن غيره. وسيجيء بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

والمراد بالإرادة هنا أعمّ من الخصال الخمس الاُول التي مرَّ بيانها في أوّل الخامس والعشرين.

(قَالَ: فَأَطْرَقَ) أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، أو المراد سكت ولم يتكلّم.

(طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ ، فَقَالَ: يَا هذَا، لَئِنْ قُلْتُ)؛ بصيغة المتكلّم.

(إِنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، إِنَّهُ لَمَقْهُورٌ) أي لزم أن أقول: إنّه لمقهور.

(وَلَئِنْ قُلْتُ : لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلاَّ مَا يُرِيدُ ، أَقْرَرْتُ لَكَ بِالْمَعَاصِي) أي بأنّ المعاصي بإرادة اللّه . وهو رجوع عن مذهب القدريّة .

(قَالَ : فَقُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : سَأَلْتُ هذَا الْقَدَرِيَّ ، فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : لِنَفْسِهِ نَظَرَ ) أي تأمّل واحتاط لنفع نفسه .

(أَمَا) ؛ بتخفيف الميم ، حرف تنبيه .

(لَوْ قَالَ غَيْرَ مَا قَالَ) أي لو حكم بمذهبه، ولم يرجع عنه، ولم يتردّد فيه .

(لَهَلَكَ) . باستحقاقه النار .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ زَعْلاَنَ )؛ بفتح الزاي وسكون المهملة، من زعل كفرح: إذا نشط .

(عَنْ أَبِي طَالِبٍ الْقُمِّيِّ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ : أَجَبَرَ) ؛ بهمزة الاستفهام، أو من باب الإفعال وتقدير الاستفهام ؛ يُقال: جبره على الأمر وأجبره: إذا أكرهه عليه .

(اللّه ُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ : «لاَ» . قال : قُلْتُ : فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الاْءَمْرَ؟). مضى بيان معنى التفويض في أوّل الباب .

(قَالَ : «لاَ» .(1) قُلْتُ : فَمَا ذَا؟) أي فما الذي هو ثالث الجبر والتفويض ؟ أبينهما أم في .

ص: 512


1- في الكافي المطبوع : + «قال» .

طرف منهما ؟

(قَالَ : لُطْفٌ) ؛ بضمّ اللام وسكون المهملة، وفتحُ اللام والطاء لغةٌ فيه: ضدّ الغلظ .(1) والمراد به هنا فعل يدلّ على علم فاعله بلطائف الاُمور أي دقائقها وخفاياها .

وقيل: اللطف: الرفق في الفعل، والعلمُ بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه ؛ يُقال: لطف به وله _ بالفتح _ يلطف لطفا: إذا رفق به . انتهى .(2)

وقيل : أي التكليف، أي الأمر والنهي، كما سيجيء . انتهى .(3) أشار إلى حادي عشر الباب، أو إلى ثالث عشره أيضا .

(مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذلِكَ) أي بين المذكور من الجبر والتفويض، فهو إقدار فوق ما يقوله المجبّرة وتحت إقدارَيِ التفويض .

بيان ذلك: أنّ المجبّرة ضيّقوا دائرة قدرة العبد، فقال الجهم من المجبّرة : لا قدرة في العبد بل حركة الماشي كحركة المرتعش ،(4) والأشاعرةَ من المجبّرة يقولون: قدرة العبد على فعلٍ مساوقة لاتّصافه به تبعا للداعي إليه، وقدرته على تركه مساوقة لاتّصافه به تبعا للداعي إليه ،(5) فقدرة العبد لا تتعلّق عندهم بكلّ من طرفي الفعل والترك .

وأبو الحسين من المجبّرة يقول بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة،(6) فيلزمه عدم تمكّن العبد إمّا من الفعل، وإمّا من الترك؛ لعدم سبيل له إليه ، وهذان مستلزمان لعدم القدرة في العبد حقيقة. وتفصيله في محلّه .

والمفوّضة _ أي القائلون بتفويض اللّه تعالى الفعل والترك إلى العبد، وهم جمهور .

ص: 513


1- لسان العرب، ج 9، ص 316 (لطف).
2- النهاية ، ج 4 ، ص 251 (لطف) .
3- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله تعالى ساكن مكّة المشرّفة (منه)» .
4- حكاه ابن أبي العزّ الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية ، ص 493 عن جهم بن صفوان .
5- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، ص 152 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 353 ؛ شرح المواقف ، ج 6 ، ص 88 .
6- اُنظر قواعد المرام ، ص 107 .

المعتزلة، ووافقهم أبو الحسين ومن تبعه _ وسّعوا دائرة قدرة العبد، وذهبوا إلى أنّ فعله مفوّض إليه بكلّ من فردي التفويض ، فإنّ التفويض القدر المشترك بين إقدارين كلّ منهما فرده:

الأوّل : إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث لا يقدر تعالى على صرف العبد عن ذلك الفعل مع هذا الإقدار، فيلزمه أن يصدر عن العبد وإن شاء اللّه أن لا يصدر عنه .

الثاني : إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على فعل في ثاني الوقت، فيلزمه أن يكون العبد قادرا عليه بالاستقلال، غير موقوف فعله على الإذن من اللّه ، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين .(1)

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليهماالسلام ، قَالاَ : إِنَّ اللّه َ أَرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَهُ عَلَى الذُّنُوبِ ، ثُمَّ)؛ للتعجّب وتراخي الرتبة .

(يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا) . المقصود أنّ التعذيب على الذنوب مع الجبر ظلم وقبيح في نفسه . وهذا للردّ على المجبّرة وهم ثلاث طوائفَ كما مرَّ آنفا .

(وَاللّه ُ أَعَزُّ) أي أقدر وأغلب (مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْرا فَلاَ يَكُونَ) .

هذا للردّ على طائفتي المفوّضةِ كما ذكرنا آنفا .

والمراد بالإرادة هنا القدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول التي سبقت في أوّل الخامس والعشرين، وبين كونه تعالى بالنسبة إلى أمر بحيث إذا قدر على ما يفضي إليه لَفعل ؛ وذلك ليصير النزاع بيننا وبين المفوّضة معنويّا، وتحقيق أنّ ذلك ينافي عزّ اللّه ، ويستلزم عجزه في الجملة سيجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة» .

(قَالَ : فَسُئِلاَ عليهماالسلام : هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالاَ : نَعَمْ) . هي الإقدار فوق ما يقوله المجبّرة ودون إقداري المفوّضة كما مرَّ آنفا . .

ص: 514


1- اُنظر قواعد المرام في علم الكلام ، ص 96 .

(أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ) . كأنّه لأنّ كلّ خلائقه من الإنس والجنّ والملائكة وغيرهم _ ممّن هو فاعل في الجملة _ مخلوقون على هذه الواسطة ؛ لأنّ كلّ فاعل مختار . وتفصيله في محلّه .

ويحتمل أن يكون الوسعة باعتبار أنّه لا ضيق فيها بمعارضة دليل عقلي ولا نقلي، ويتوافق فيها ظواهر الآيات والأحاديث التي توهّموا تعارض ظواهرها من استدلال المجبّرة ببعضها، واستدلال المفوّضة ببعض آخر منها .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ،(1) عَنْ صَالِحِ بْنِ سَهْلٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) أي والتفويض .

(فَقَالَ : لاَ جَبْرَ وَلاَ قَدَرَ ، وَلكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيهَا الْحَقُّ) أي القول بها هو الحقّ، لا غيره من الأقوال؛ جعلها كالظرف للقول بها .

(الَّتِي) . مبتدأ وموصوفها المقدّر «المنزلةُ».

(بَيْنَهُمَا) ؛ صلة .

(لاَ يَعْلَمُهَا) ؛ خبر .

(إِلاَّ الْعَالِمُ) أي من أهل البيت .

(أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاهُ الْعَالِمُ) . قد تعلّمنا منهم عليهم السلام أنّها الإقدار فوق ما يقوله طوائف المجبّرة الثلاثُ، ودون ما يقوله المفوّضتان، كما مرّ في ثامن الباب .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ عِدَّةٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ). الضمير لكلّ واحد من العدّة .

(قَالَ لَهُ رَجُلٌ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَجَبَرَ اللّه ُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ ) أي أبو عبداللّه عليه السلام : (اللّه ُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ، ثُمَّ) ؛ للتعجّب .

(يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا) . .

ص: 515


1- في الكافي المطبوع : + «بن عبد الرحمن» .

(فَقَالَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَفَوَّضَ اللّه ُ إِلَى الْعِبَادِ؟). التفويض: الإقدار بحيث لا يكون بيده تعالى أزمّة الاُمور ، وقد مرّ أنّه القدر المشترك بين إقدارين في ثامن الباب .

والظاهر أنّ مراد السائل هنا الفرد الأوّل منه ، ويحتمل القدر المشترك بين الفردين .

(قَالَ : فَقَالَ : لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ ، لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالاْءَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الحصر بالحاء والصاد والراء المهملات من باب نصر وضرب: المنع والحبس ؛ يعني لو فوّض إليهم لجرى في ملكه ما لا يشاء، فكان عاجزا مثلهم، فلم يكن ربّا لهم، ولم يكونوا مربوبين له، فلم يصحّ منه أمرهم ونهيهم بالأصالة إنّما صحّ بالخلافة كما في الأنبياء والأوصياء ، وهذا ظاهر الفساد .

قيل: يعني الحكمة التي اقتضت حصرهم بالأمر والنهي تأبى عن التفويض، وقول المعتزلة حيث قالوا: العباد ما شاؤوا صنعوا . انتهى .(1)

وقيل : قال الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين ». عنى بذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجبر عباده على المعاصي، ولم يفوّض إليهم أمر الدين حتّى يقولوا فيه بآرائهم ومقاييسهم ؛ فإنّه عزّ وجلّ قد حدّ ووظف وشرّع وفرض وسنّ وأكمل لهم الدين، فلا تفويض مع التحديد والتوظيف والشرع والفرض وإكمال الدين . انتهى .(2)

(فَقَالَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ؟ قَالَ : فَقَالَ : نَعَمْ ، أَوْسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلى الاْءَرْضِ(3)) . مضى معناه في تاسع الباب .

الثاني عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ وَغَيْرُهُ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ بِالْجَبْرِ ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ بِالاِسْتِطَاعَةِ) أي بالاستطاعة للفعل وتركه معا. .

ص: 516


1- حكاه في قواعد المرام، ص 96.
2- في حاشية «أ» : «القائل ابن بابويه رحمه الله كتاب التوحيد من باب أسماء اللّه تعالى في معنى الجبّار (منه)» . التوحيد ، ص 206 .
3- في الكافي المطبوع : «أوسع ممّا بين السماء والأرض» .

الاستطاعة لا تستعمل إلاّ في المخلوقين ، وتُطلق على معنيين :

الأوّل: سعة القدرة مطلقا، والقدرة التمكّن، وهو مفهوم بديهيّ .

الثاني: القدرة على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيئة من لا يكون إلاّ ما شاء.

وقد تُطلق على معنى ثالث، كما يجيء في شرح عنوان الباب الآتي .

والمراد بها هنا الثاني مقيّدا بتعلّقه بالفعل والترك معا ، وهو موافق لقول المعتزلة في الأوّل من فردي التفويض، ولا تعجب من القول بالجبر، أو القول بالاستطاعة في أصحابنا؛ إنّ أكثر أهل زماننا من أصحابنا يقولون بالجبر والاستطاعة معا؛ لاختيارهم مذهب أبي الحسين البصري .(1)

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام لِي : اكْتُبْ : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا ابْنَ آدَمَ ، بِمَشِيئَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ ، وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ إِلَيَّ فَرَائِضِي ، وَبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلى مَعْصِيَتِي ؛ جَعَلْتُكَ سَمِيعا بَصِيرا«مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه ِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»،(2) وَذلِكَ أَنِّي أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي ، وَذلِكَ أَنِّي لاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .

مضى شرحه في سادس «باب المشيئة والإرادة » وحاصله إبطال الجبر وإبطال الاستطاعة واختيار الواسطة، كما مرّ مرارا .

(قَدْ نَظَمْتُ لَكَ كُلَّ شَيْءٍ تُرِيدُ) . من كلام الرضا عليه السلام .

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لاَ جَبْرَ وَلاَ تَفْوِيضَ) . الجبر القدر المشترك بين مذهب جهم ومذهب الأشاعرة ومذهب الفلاسفة ،(3) والتفويض مذهب المعتزلة ومن .

ص: 517


1- اُنظر معارج الفهم ، ص 408 .
2- النساء (4) : 79 .
3- اُنظر شرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة ، ص 162 ؛ ومعارج الفهم ، ص 409 .

تبعهم،(1) كما مضى في شرح ثامن الباب .

(وَلكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ(2). قُلْتُ : وَمَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ : مَثَلُ ذلِكَ)؛ بالميم والمثلّثة المفتوحتين ؛ أي نظير ما نحن فيه الذي يظهر به ما نحن فيه، وليس ممّا نحن فيه .

(رَجُلٌ) أي حال رجل (رَأَيْتَهُ عَلى مَعْصِيَةٍ) أي مشرفا عليها مريدا لها . وهذا نظير علم اللّه بأنّ عبدا يعصي بعد ذلك .

(فَنَهَيْتَهُ). هذا نظير عدم تفويض اللّه تعالى(3) الأمر إلى عباده .

(فَلَمْ يَنْتَهِ ، فَتَرَكْتَهُ ، فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ) . هذا نظير(4) الأمر بين الأمرين . والمراد بتركه الرجل أن لا يصدر عنه ما يفضي إلى اختيار الرجل ترك المعصية من الألطاف والإنعامات على تركها مع قدرته على المفضي .

(فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ(5) كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ) . هذا نظير عدم جبر اللّه تعالى العباد على أفعالهم .

والفاء للتفريع على نظير عدم التفويض . و«أمرته» بتخفيف الميم، وأمره الرجل بالمعصية نظير جبر اللّه العباد على المعصية، كما يظهر ممّا سننقل في شرح ثاني «باب الاستطاعة» من قول الحسن بن عليّ عليهماالسلام «وإن لم يفعل، فليس هو حملهم عليها إجبارا» .

قيل : قوله : كنت أنت الذي أمرته بالمعصية ؛ يعني كما لا يستلزم الأمر بالمعصية لا يستلزم التفويض انتهى .(6)

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب أسماء اللّه تعالى» في معنى الجبّار :

قال الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين » عنى بذلك أنّ اللّه _ تبارك .

ص: 518


1- اُنظر منهاج اليقين ، ص 366 ، وفي طبعة اُخرى ، ص 235 ؛ وكتاب المحصّل للرازي ، ص 455 .
2- في الكافي المطبوع : + «قال» .
3- في «ج» : - «تعالى» .
4- في «ج» : + «علم اللّه بأنّ» .
5- في الكافي المطبوع : + «فَتَرَكْتَهُ» .
6- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّد أمين الإسترابادي في حواشي الكافي (منه)» .

وتعالى _ لم يجبر عباده على المعاصي، ولم يفوّض إليهم أمر الدين حتّى يقولوا فيه بآرائهم ومقاييسهم، فإنّه عزّ وجلّ قد حدّ ووظّف وشرع وفرض وسنّ وأكمل لهم الدين، فلا تفويض مع التحديد والتوظيف والشرع والفرض والسنّة وإكمال الدين . انتهى .(1)

الرابع عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : اللّه ُ أَكْرَمُ) ؛ من الكرم، نقيض اللؤم والنقص .

(مِنْ أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لاَ يُطِيقُونَ) أي لا يقدرون عليه . يُقال: طاقه طوقا وأطاقه، وعليه، والاسم الطاقة. وقد تُطلق على غير هذا المعنى، كما يجيء في «كتاب الجهاد» في «باب كراهة التعرّض لما لا يطيق» .(2)

وهذا لإبطال مذاهب الجبريّة، فإنّ مذهبهم إمّا عدم القدرة، وإمّا مستلزم لعدم القدرة، كما مرّ في ثامن الباب .

(وَاللّه ُ أَعَزُّ) ؛ من العزّ بمعنى القدرة والغلبة .

(مِنْ أَنْ يَكُونَ) ؛ تامّة .

(فِي سُلْطَانِهِ) ؛ مصدر بمعنى سلطنته ، أي ملكه وغلبته .

(مَا لاَ يُرِيدُ) . المراد بالإرادة هنا ما مرّ في بيانها في الخصال السبع في أوّل الخامس والعشرين ،(3) أو الأعمّ من الخصال الأربع الاُول منها؛ فتكون هذه الفقرة ردّا على المفوّضة في الفرد الأوّل من التفويض .

ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة أعمّ ممّا ذكر ومن الإذن، فتكون ردّا على المفوّضة في كلا فردي التفويض . وسيجيء تفصيل بيان منافاتهما لسلطان اللّه تعالى وعزّه في شرح ثاني «باب الاستطاعة ».

ويحتمل أن يُراد ب«ما لا يريد» ما يريد عدمه، ولا يمكن هذا إلاّ بحمل الإرادة على .

ص: 519


1- التوحيد ، ص 206 ، بيانه في تفسير أسماء اللّه تعالى .
2- الكافي ، ج 5 ، ص 63 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

الأعمّ ممّا ذكر، ومن كونه تعالى بالنسبة إلى فعل بحيث إذا قدر على الوسيلة المفضية إليه لفعل تلك الوسيلة؛ لإفضائه إليه، وذلك ليصير النزاع بيننا وبين المعتزلة معنويّا في قولهم: بعض ما أراد اللّه لم يكن، وقولنا: كلّ ما أراد اللّه كان .

ص: 520

الباب الحادي والثلاثون: باب الاستطاعة

الباب الحادي والثلاثون بَابُ الاِسْتِطَاعَةِ

فيه أربعة أحاديث ، الثلاثة الاُول منها لإبطال التفويض كلا فرديه ، ورابعها لإبطال الجبر أوّلاً، ثمّ إبطال التفويض الأوّل ثانيا ، ومعنى التفويض الأوّل ثانيا، ومعنى التفويض القدر المشترك بين إقدارين :

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبدَ على شيء، بحيث لا يكون تعالى قادرا على صرف العبد عن ذلك الشيء مع هذا الإقدار _ أي بغير القسر والإلجاء _ فيلزمه أن يصدر عن العبد وإن شاء اللّه أن لا يصدر .

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على شيء في ثاني الوقت، ويلزمه أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة لا يتوقّف فعله على إذن من اللّه . وقد ذهبت المعتزلة إلى كلّ من الفردين، فهم مفوّضة مرّتين.

والاستطاعة سعة قدرة من ليست قدرته بمحض نفوذ الإرادة وقول «كُن» فتتعلّق ببعض دون بعض ، وقول الحواريّين: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآل_ءِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ»(1) صدر عنهم، ولم يكونوا بعدُ على تحقيق واستحكام معرفة ، وقد عاتبهم عيسى عليه السلام «قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».(2)

وهي على معنيين :

الأوّل : سعة قدرة المخلوق مطلقا، والقدرة: التمكّن من شيء، وهو مفهوم بديهيّ

ص: 521


1- المائدة (5): 112.
2- المائدة (5) : 112 .

يسمّى في الفارسيّة: «توان وتوانايى». وأهل اللغة والمجبّرة يستعملونها دائما بهذا المعنى إلاّ بقرينة .

الثاني: القدرة على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيئة من لا يكون إلاّ ما شاء اللّه ، ومعنى المشيّة هنا ما ذكرنا في تحرير محلّ النزاع بيننا وبين المعتزلة في قولنا: «ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن» في أوّل الخامس والعشرين.(1)

ومشيّة اللّه تعالى عندنا هي مشيّة من لا يكون إلاّ ما شاء، وليست عند المعتزلة كذلك ، ولذا لم نقل في الحدّ: لم تتعلّق بمنافيه مشيّة اللّه ، فإنّه يصير النزاع الآتي في أحاديث الباب بيننا وبين المعتزلة _ في نحو أنّ المؤمن المستمرّ على الإيمان إلى آخر عمره هل هو مستطيع للكفر كما هو عندهم، أم لا كما هو عندنا _ حينئذٍ لفظيّا، فاستطاعة الإيمان بهذا المعنى مساوقة للتوفيق ، واستطاعة الكفر بهذا المعنى مساوقة للخذلان .

وقد حمل على المعنى الثاني للاستطاعة قوله تعالى في سورة الكهف : «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرا»(2) ، وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : «فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً»(3) ، وما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب طينة المؤمن والكافر» من قوله عليه السلام : «لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء».(4) وفي الصحيفة الكاملة من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر: «لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه، ولا أن ترضى عنه باستيجابه ؛ فمن غفرتَ له فبطَوْلك، ومَن رضيتَ عنه فبفَضْلك، تشكر يسيرَ ما تشكر به،(5) وتُثيب على قليل ما تُطاع فيه حتّى كأنّ شكر عبادك الذي أوجبتَ عليه ثوابَهم، وأعظمتَ عنه جزاءهم أمرٌ ملكوا استطاعةَ الامتناع منه دونك فكافَيْتَهم، أولم يكن سببه بيدك فجازَيْتَهم، بل ملكتَ يا إلهي أمْرَهم .

ص: 522


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- الكهف (18) : 67 .
3- الفرقان (25) : 9 .
4- الكافي، ج 2، ص 6، ذيل باب طينة المؤمن والكافر: باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل، ح 1.
5- في المصدر : «ما شكرتَه» .

قبل أن يَمْلِكوا عبادتك» إلى آخره .(1)

والمفوّضة يستعملون الاستطاعة دائما بهذا المعنى إلاّ بقرينة . والمراد بالاستطاعة في رابع الباب المعنى الأوّل ؛ لأنّه على طبق اللغة، وفيه الردّ على المجبّرة أوّلاً، وفي الثلاثة الاُخرى المعنى الثاني، لأنّها للردّ على المفوّضة، فليحمل عنوان الباب على بيان كلّ منهما .

وقد يستعمل لفظ الاستطاعة في معنى ثالث، وهو آلة سعة قدرة المخلوق على شيء، أي آلة يظنّ معها في الحال أنّه سيتحقّق القدرة في ذي الآلة على شيء في حال بعد تلك الحال إن لم يترك ذو الآلة باختياره شيئا ممّا يقدر عليه من الشروط لذلك الشيء .

وهو محتمل في قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(2)الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .(3) ، ويجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» .(3)

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) . مراده الاستطاعة بالمعنى الثاني لأفعال الجوارح كالزّني والمشي ونحو ذلك .

(فَقَالَ : يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ) أي لأفعال الجوارح (بَعْدَ أَرْبَعِ خِصَالٍ)؛ بكسر المعجمة جمع «خَصلة» بفتحها، وهي الحالة. والصفة الاُولى :

(أَنْ يَكُونَ مُخَلَّى) ؛ بالمعجمة بصيغة اسم مفعول باب التفعيل .

(السِّرْبِ) ؛ بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الراء المهملة وموحّدة: الطريق؛ أي لا يمنعه أحد من الناس عن الفعل كالحاكم ؛ وبكسر السين المهملة: البال والنفس ؛ أي فارغ البال . الثانية: أن يكون:

(صَحِيحَ الْجِسْمِ) أي لا يكون به مرض لا يقدر معه على الفعل . الثالثة: أن يكون: (سَلِيمَ الْجَوَارِحِ) ؛ بفتح الجيم ؛ أي ليس في الجارحة التي يحتاج إليها في الفعل آفة، .

ص: 523


1- الصحيفة السجّادية ، ص 163 ، الدعاء 37 .
2- آل عمران
3- : 97 .

كالمقطوع الذكر في مثال الزنى أو العنّين، أو نحو ذلك ، فإنّها لا ينافي الصحّة في البدن . الرابعة : أن يكون: (لَهُ سَبَبٌ وَارِدٌ مِنَ اللّه ِ) . المراد بالسبب إذنه تعالى بالمعنى الذي مضى بيانه في شرح أوّل الخامس والعشرين، ومشيّته مشيّة عزم، وهي القدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول من الخصال السبع التي مضى بيانها أيضا في شرح أوّل الخامس والعشرين .

(قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَسِّرْ لِي) أي أوضح لي في مثال (هذَا) أي عدم تحقّق الاستطاعة بدون سبب وارد من اللّه مع تحقّق الثلاث .

(قَالَ : أَنْ يَكُونَ) أي مثاله أن يكون (الْعَبْدُ مُخَلَّى السِّرْبِ ، صَحِيحَ الْجِسْمِ ، سَلِيمَ الْجَوَارِحِ يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ) . أي يعزم في الحال على أن يزني في ثاني الحال عزما بلا فتور .

(فَلاَ يَجِدُ) أي في ثاني الحال (امْرَأَةً) . مثالٌ لتخلّف الإذن عن الثلاث، وبيان لأنّ العبد حينئذٍ ليس قادرا أصلاً، فضلاً عن أن يكون مستطيعا .

وهذا ردّ للفرد الثاني من تفويضي المعتزلة، ولمذهب من يقول: الاستطاعة والقدرة نفس سلامة الجوارح، كبشر بن المعتمر(1) من المعتزلة؛ ولمذهب من يقول: إنّهما الصحّة، ولنحو ذلك من المذاهب .(2)

(ثُمَّ يَجِدُهَا) أي وبعد ذلك نفرض أنّه يجدها .

(فَإِمَّا أَنْ) . هذا إلى آخره إبطال للفرد الأوّل من تفويضي المعتزلة .

(يُعْصَمَ نَفْسُهُ) ؛ بصيغة مجهول باب ضرب ، والعاصم هو اللّه بمشيّته لتركه الزنى مشيّة عزم.

ومشيّة اللّه لترك عبدٍ المعصيةَ تسمّى «عصمةً» كما تسمّى مشيّته تعالى لفعل الطاعة «توفيقا» . .

ص: 524


1- هو أبو سهل الكوفي ثمّ البغدادي ، شيخ المعتزلة . كان يقع في أبي الهذيل العلاف وينسبه إلى النفاق . وله كتاب تأويل المتشابه وكتاب الردّ على الجهّال . مات سنة عشرين ومائيتن . سير أعلام النبلاء ، ج 10 ، ص 203 .
2- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 121 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 477 ؛ شرح العقائد النسفية ، ج 1 ، ص 120 ؛ أنوار الملكوت ، ص 140 .

(فَيَمْتَنِعَ كَمَا امْتَنَعَ يُوسُفُ عليه السلام ) أي مع قدرته على الزنى لا يستطيع للزنى؛ لأنّه تعلّقت بمنافيه مشيّة من لا يكون إلاّ ما شاء. والتشبيه إنّما هو في أصل الامتناع من الزنى، لا في سبق العزم أيضا .

(أَوْ يُخَلَّي) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِرَادَتِهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل، ويجوز نصبه؛ لأنّه لازم الظرفيّة، ويجوز الرفع أيضا .

(فَيَزْنِيَ ) . هذا صورة اجتماع الثلاث مع الرابعة، وهي صورة تحقّق الاستطاعة . والمراد بالتخلية عدم العصمة ؛ أي عدم مشيّة الترك، وليس المراد بالتخلية هنا الإذنَ، إلاّ أن يعمّم الإذن بحيث يشمل الخمس الاُول من الخصال السبع .

(فَيُسْمى(1) زَانِيا) ؛ بصيغة مجهول باب نصر أو باب الإفعال أو التفعيل . والسمو بالفتح والإسماء والتسمية: جعل الشيء ذا علامة الزاني(2) من الحدّ وردّ شهادته ونحوهما . والمقصود أنّ الزنى فعله الاختياري، لا فعل اللّه ولا بجبره .

(وَلَمْ يُطِعِ اللّه َ بِإِكْرَاهٍ) . ناظرٌ إلى قوله : «فإمّا أن يعصم» وفاعل الإكراه العبد . ومضى معناه في أوّل «باب الجبر والقدر» وكذا معنى قوله :

(وَلَمْ يَعْصِهِ بِغَلَبَةٍ) . ناظرٌ إلى قوله : «أو يخلّى» . فالنشر على ترتيب اللفّ .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ وَعَبْدِ اللّه ِ بْنِ يَزِيدَ جَمِيعا ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) بالمعنى الثاني الذي مضى بيانه في شرح عنوان الباب.

سؤاله عن أنّ الاستطاعة بأيّ شيء تحصل في العبد؟ وأنّه هل تحصل الاستطاعة لفعل أو ترك مجامعةً لعدم ذلك الفعل أو الترك أم لا؟ ولمّا كان اجتماع الاستطاعة مع .

ص: 525


1- في الكافي المطبوع : «فيُسَمّى» بتشديد الميم .
2- في «ج» : + «أي يوضع علامة الزاني» .

عدم المستطاع له يتصوّر في بادئ الرأي على ثلاثة وجوه ، سأل عليه السلام عن واحد واحد .

(فَقَالَ أَبو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَ تَسْتَطِيعُ) أي في وقت (أَنْ) أي لأن (تَعْمَلَ) أي في ذلك الوقت (مَا لَمْ يُكَوَّنْ؟)؛ بصيغة(1) مجهول غائب باب التفعيل ؛ أي ما لم يوجد قبل ذلك الوقت .

والمعنى: أتستطيع في وقت أن توقع في ذلك الوقت ما لم يقع قبل ذلك الوقت في ذلك القبل . ويحتمل هنا أن يكون «لم يكون» بصيغة معلوم الحاضر، لكن لا يناسب ما بعده .

(قَالَ : لاَ) . الأنسب بظاهر سياق السابق أن يقول : قلت: لا ، وقس عليه نظائره الآتية . فهذا من قبيل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، أو عبارة عليّ بن الحكم وعبداللّه بن يزيد، أو من قبيل تغليب حال الحكاية على حال المحكيّ، نظير ما يجيء في «كتاب الصلاة» في ثاني الأوّل: «نادى إبليس: يا ويله»(2) أقرّ ببطلان استطاعته لفعل بعد زمانه .

(قَالَ : فَتَسْتَطِيعُ) أي أفتستطيع في وقت (أَنْ تَنْتَهِيَ) أي في ذلك الوقت (عَمَّا قَدْ كُوِّنَ؟)؛ بصيغة(3) مجهول باب التفعيل ، أي وجد قبل ذلك الوقت .

والمعنى: أتستطيع في وقت أن تسلب في ذلك الوقت ما وجد قبله من ذلك القبل. وإنّما لم يقل بدل «أن تنتهي»: «أن لا تعمل» لأنّ السلب المحض ليس من فعل العبد، ولو كان من فعله لكان مستطاعا له؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين . والفاء للتعقيب .

(قَالَ : لاَ) . هذا النفي بديهيّ ومتّفق عليه؛ لبداهة أنّ القدرة على الماضي محال، فضلاً عن الاستطاعة له؛ فالسؤال لحصر الأقسام .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَمَتى أَنْتَ مُسْتَطِيعٌ؟ ) . بعد ما أقرّ بأنّه لا تتحقّق الاستطاعة لفعل أو ترك بعد وقتهما، سأل عليه السلام عن وقت الاستطاعة: أهو وقت الفعل أو الترك أو قبل وقتهما ؟ .

ص: 526


1- في «ج» : - «بصيغة» .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 264 ، باب فضل الصلاة ، ح 2 . وفيه: «يا ويلاه» بدل «ياويله» .
3- في «ج» : - «بصيغة» .

ويجيء تفسير وقت الفعل والترك بُعيد هذا .

(قَالَ : لاَ أَدْرِي) . أظهر السائل أنّ مقصوده محض استعلام الحقّ، وليس في ذهنه اعتقاد الباطل .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ خَلَقَ خَلْقا) أي مخلوقين. ولم يجمع؛ لأنّ أصله المصدر .

(فَجَعَلَ فِيهِمْ) أي قبل وقت الفعل وفي وقت الفعل .

(آلَةَ الاِسْتِطَاعَةِ)(1) أي ما قد يفضي إلى الاستطاعة لفعل مثلاً، ويظنّ معه حصول الاستطاعة بعده من الاُمور التي يتوقّف عليها الاستطاعة، وهي تخلية السرب وصحّة الجسم وسلامة الجوارح ونحو ذلك على حسب الأفعال المستطاع لها .

(ثُمَّ) . للتعجّب أو لتراخي الفعل المكلّف به عن حصول الآلة بزمان .

(لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ) أي لم يفوّض الفعل إليهم بشيء من فردي التفويض. ومرَّ بيانهما في شرح عنوان الباب .

(فَهُمْ) . الفاء للتفريع .

(مُسْتَطِيعُونَ) ؛ بالمعنى الثاني للاستطاعة .

(لِلْفِعْلِ). ذكره على سبيل المثال ، فكذا الترك . والمراد توضيح المطلب في مجموع فعل مستمرّ ذي أجزاء كالصلاة والزنى ويُعرف حكم غيره منه .

(وَقْتَ الْفِعْلِ مَعَ الْفِعْلِ إِذَا فَعَلُوا ذلِكَ الْفِعْلَ(2)) .

بيّن عليه السلام أنّه لا تتحقّق الاستطاعة بالمعنى الثاني لفعل ذي أجزاء مترتّبة في الزمان كالصلاة إلاّ مع ثلاثة اُمور :

الأوّل : أن يكون في وقت الفعل لا قبله أو بعده ، والمراد بوقت الفعل الوقت الذي اعتبرت نسبة الاستطاعة إليه باعتبار وقوعه فيه، سواء كان الفعل واقعا فيه أم لا . .

ص: 527


1- في «ج» : + «بعد» .
2- في المخطوطتين : - «ذلك الفعل» .

الثاني : أن يكون مع الفعل ، أي لا مع الترك بالكلّيّة .

الثالث : أن يكون الفعل مستمرّ الوقوع إلى آخر أجزائه، وذلك لأنّ وقت الفعل مع الفعل يُطلق على أيّ جزء من أجزاء مجموع الزمان المنطبق على مجموع الفعل ، فأشار عليه السلام إلى عدم تحقّق الاستطاعة لمجموع الفعل في وقت الفعل مع الفعل بهذا المعنى، وإلاّ يلزم تقدّم الاستطاعة للتتمّة على وقتها، وليست القدرة على التتمّة مقدّمة عليها فضلاً عن الاستطاعة ، بل إنّما الاستطاعة ذات امتداد كالفعل، كلّ جزء من الاستطاعة متعلّق بجزء من الفعل، منطبق عليه في الزمان .

(فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوهُ) ؛ تفريع على الثالث لبيانه؛ فإنّه أحوج إلى البيان ؛ أي فحين لم يفعلوا مجموع الفعل أي بقي تتمّة لم يفعلوها بعدا وأصلاً .

(فِي مُلْكِهِ ،(1) لَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ) في وقت الفعل مع الفعل .

(أَنْ) أي لأن (يَفْعَلُوا) أي بعد ذلك أو مطلقا (فِعْلاً لَمْ يَفْعَلُوهُ ) أي جزءا من الفعل لم يفعلوه بعدا وأصلاً .

(لاِءَنَّ) . استدلالٌ على قوله : «ثمّ لم يفوّض إليهم» لأنّه إذا ثبت ذلك كان تفريع ما فرّع عليه معلوما .

(اللّه َ _ عَزَّ وجَلَّ _ أَعَزُّ) أي أغلب قدرةً، وأقهر سلطانا .

(مِنْ أَنْ يُضَادَّهُ فِي مُلْكِهِ) ؛ بضمّ الميم، أي سلطنته وكونه ربّ العالمين .

(أَحَدٌ) . هذا الدليل ما اُشير إليه في قوله تعالى في سورة الروم : «هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».(2)

وقد أوضحناه في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل». وتفصيله أنّ كلاًّ من فردي التفويض يستلزم أن يكون الشيطان أو العبد مضادّا للّه في سلطنته . .

ص: 528


1- في المخطوطتين : - «في ملكه» .
2- الروم (30) : 28 .

بيان ذلك: أمّا في التفويض الأوّل _ وهو إقداره تعالى عبدا على شيء بحيث لا يقدر تعالى على ما يصرف ذلك العبد عن اختيار ما اختاره من الفعل أو الترك إلى اختيار ضدّه _ فبأدلّة :

الدليل الأوّل : أنّ عدم القدرة المذكورة إمّا لعدم إمكان ذات ما يقرّب إلى اختياره الضدّ ، وإمّا لعدم إمكان إفضائه إلى اختياره الضدّ بدون قسر وإلجاء ، وإمّا لعدم علمه بوجوه المفضي إلى اختياره الفعل وإلى اختياره ضدّه ، وإمّا لعدم تعلّق إفضائه إلى اختيار الضدّ لقدرة اللّه . والثلاثة الاُولى باطلة، والرابع يستلزم إمكان المضادّة :

أمّا بطلان الأوّل، فلأنّا نعلم إمكان أن يجعل لمن يؤمن بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضّة ، أو يمنع الكافرين الصحّة والثروة، ويُعلمهم أنّ المنع لكفرهم، وأنّها تعود بإيمانهم .

وأمّا بطلان الثاني، فلأنّا نعلم إمكان أن يفضي ذلك إلى إيمان من في الأرض جميعا بدون قسر وإلجاء، نظير ما قالوا في سورة الزخرف : «وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فَضَّةٍ»(1) ؛ وذلك حين يشاء اللّه تعالى اختيارهم الإيمان، كما في قوله تعالى في سورة الشعراء : «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(2) ، فلا ينتقض بقوله تعالى في سورة الأنعام : «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ»(3) الآيات .

وأمّا بطلان الثالث، فبالاتّفاق وأنّه ضروريُّ دين الإسلام .

وأمّا كون الرابع مستلزما لإمكان المضادّة، فلأنّا لا نعني بالمضادّة إلاّ الإخراج له تعالى من سلطانه وملكه ، أي من أن يكون بيده أزمّة الاُمور الممكنة .

قال الزمخشري من المعتزلة في الكشّاف في تفسير قوله تعالى في سورة ألم .

ص: 529


1- الزخرف (43) : 33 .
2- الشعراء (26) : 3 _ 4 .
3- الأنعام (6) : 109 .

السجدة : «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الاْءَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْءَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1) :

فإن قلت : من أين صحّ تفسير الرجوع بالتوبة ولعلّ من اللّه إرادة، وإذا أراد اللّه شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم ممّا لا يكون ؛ ألا ترى أنّها لو كانت ممّا يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟

قلت : إرادة اللّه تتعلّق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع للاقتدار وخلوص الداعي ، وأمّا أفعال عباده فإمّا أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرّون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم، فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنّهم لا يختارونها، لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها؛ لأنّ اختياره لا يتعلّق بقدرتك، وإذا لم يتعلّق بقدرتك لم يكن فقده دالاًّ على عجزك . انتهى .(2)

وفيه: أنّه إن أراد بالاقتدار القدرة على أفعاله _ كما يظهر من قياسه على(3) العبد _ فهذا خارج عمّا فيه الكلام ، وإن أراد به ملك السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما، فذلك يقدح في اقتداره البتّة، كيف لا وقد تعلّقت باختيارهم إرادته ولم يقدر على تصرّف في اختيارهم، وقياسه من أقبح قول . وقوله: «فحكمها حكم أفعاله» يجيء بُعيد هذا ما فيه .

الدليل الثاني _ ولا حاجة فيه إلى إبطال الشقّين الأوّلين من الدليل الأوّل _ أن يُقال: صدور الإيمان باختيار عن الكافر _ مثلاً _ ممكن(4) في نفسه ككفره، وإذا كان كلّ منهما مفوّضا إلى الكافر بحيث يقع منه إن شاء اللّه ، وإن لم يشأ لم يكن بيده تعالى أزمّة الاُمور، ولم يكن تعالى مالكا لما ملّك العباد إيّاه، ولا قادرا على ما أقدرهم عليه ؛ أي ما دام التمليك والإقدار، وهذا نقص في الملك والسلطنة، ونقص الملك ممتنع عليه عقلاً؛ لما مرّ في شرح عنوان «باب حدوث العالم وإثبات المحدث» من أنّ كلّ دليل يدلّ على إثبات الصانع يدلّ على أنّه كامل من جميع الجهات، ولا نقص فيه أصلاً، وبديهيّ أنّ .

ص: 530


1- السجدة (32) : 21 .
2- الكشّاف ، ج 3 ، ص 245 .
3- في «ج» : «إلى» .
4- في «ج» : «يمكن» .

النقص في الملك وفي التصرّف في بعض الممكنات في أنفسها نقص في الجملة وإن كانت الوسيلة ممتنعة في نفسها .

الدليل الثالث : أنّه يستلزم أن يكون اللّه تعالى معزولاً عن أن يطلب منه التوفيق أو العصمة أو اللطف أو الإعاذة من شرّ الشيطان ونحو ذلك؛ لأنّ جميع ذلك طلب لما يقدر عليه، أو لما يجب عليه بدون طلب أيضا، فيكون الطلب طلبا(1) لمحال، أو لغوا وتحصيلاً للحاصل بدون هذا التحصيل؛ وهذا نقص في الملك، وقد مرَّ آنفا امتناعه .

الدليل الرابع : أنّه يستلزم أن يكون معزولاً عن أن يتوكّل عليه في كلّ الاُمور، وعن أن يطلب منه النصر على العدوّ في الحرب ونحو ذلك، فإنّه ربّما كان عاجزا عن النصر ونحوه بعد إقدار كلّ من المتحاربين على ما أقدر «وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ» .(2)الأنعام (3) : 102 ؛ الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62 ؛ المؤمن (40) : 62 .(4)

الدليل الخامس : ما في الكتاب والسنّة ممّا يدلّ على أنّ هذا التفويض ينافي ملكوته تعالى، وهو مشتمل على أدلّة لا تحصى، كما ورد في الشرع من الدعاء وطلب التوفيق ونحوه من الاُمور المذكورة آنفا، والقول بأنّ جميع ذلك خارج عن حقيقة الطلب والدعاء مكابرة، وكذا ورد الأمر بالتوكّل في كلّ الاُمور عليه تعالى وتفويض كلّها إليه .

والآيات القرآنيّة في الردّ على التفويض الأوّل أكثر من أن تحصى كما في سورة الأنعام والرعد والزمر والمؤمن: «خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(3) وفي سورة المؤمنين: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»(5) ، وفي سورة يآس : «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6) ، وفي سورة المدّثّر : «فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(6) ، وفي سورة الأنعام : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكُوا»(7) ، وفي سورة .

ص: 531


1- في «ج» : «طلب» .
2- آل عمران
3- المدثّر (74) : 55 _ 56 .
4- : 126 .
5- المؤمنون (23) : 88 .
6- يآس (36) : 83 .
7- الأنعام (6) : 107 .

يونس : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»(1) ، وفي سورة هود حكاية عن نوح : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2) ، وفيها : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(3) ، وفي سورة النحل : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(4) ، وفي سورة ألم السجدة : «وَلَوْ شِئْنَا لاَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لاَءَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(5) ، وفي سورة الشورى : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ»(6) ، ونحو ذلك من الآيات .

وقد استدلّ ببعضها الأشاعرة على إبطال مذهب المعتزلة، وقد أصابوا في ذلك ؛ كما أنّ المعتزلة أصابوا في الاستدلال بآيات كثيرة على إبطال مذهب الأشاعرة ، وفي المثل: نزاع السارقين مبارك لصاحب المال يظهر أنّ الحقّ لثالث، اُنظر إلى نزاع الزمخشري والفخر الرازي في تفسيريهما وغيرهما من المعتزلة والأشاعرة، فإنّك ترى كلاًّ من الفريقين يضيّق خناق الآخر، والحمد للّه .

ثمّ إنّ الزمخشري أجاب عن آيات المشيّة والإرادة بأنّ المراد بمشيّة الإيمان والهدى الإلجاء إليهما، وبإرادة الإغواء عدم الإلجاء إلى الإيمان .(7)

وفيه: أنّه إن أراد بالإلجاء ما لا يبقى معه اختيار أصلاً بأن يصدر الإيمان عن العبد بدون تبعيّته لداعيه _ كما يقال في إحراق النار _ فهو باطل؛ لأنّه من مذاهب الزنادقة .

ص: 532


1- يونس (10) : 99 .
2- هود (11) : 34 .
3- هود (11) : 118 .
4- النحل (16) : 93 .
5- السجدة (32) : 13 .
6- الشورى (42) : 8 .
7- الكشّاف ، ج 2 ، ص 360 .

الفلاسفة، وعند المسلمين أنّه يستحيل أن لا يكون الفاعل مختارا ، وقد دللنا عليه بدليلين في حاشية العدّة في المقدّمة الثانية في ذيل الشكّ الرابع من اُولى الحواشي ،(1) ولأنّه حينئذٍ لا يسمّى إيمانا ولا هدى.

وإن أراد بالإلجاء أن يصدر عن العبد باختياره لكن مع لطف يقوّي الدواعي بحيث يكون شبيها بما لا اختيار فيه، فهذا ينافي مذهبه في وجوب كلّ لطف ناجع على اللّه ، ويوافق مذهبنا، فيجعل النزاع لفظيّا .

وإن أراد بالإلجاء أن يكون الإيمان فعل اللّه وغير صادر عن العبد أصلاً، فإن كان بناؤه على أنّ المؤمن هو العبد لأنّه كاسب، فهذا ينافي مذهبه في أفعال العباد، وينافي مذهبنا أيضا ، وإن كان بناؤه على أنّ المؤمن هو اللّه ، كان سفسطةً .

واعلم أنّ الباعث للمعتزلة وأتباعهم على القول بهذا الفرد من التفويض شُبَهٌ:

الشبهة الاُولى: قولهم بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه ، ومعنى اللطف المقرّب للطاعة أو المبعّد عن المعصية بدون إلجاء .

وتحرير محلّ النزاع أنّ اللطف على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما لا يزاح علّة المكلّف إلاّ به بالاتّفاق، كالإقدار وإرسال الرسل مبشّرين بمن بعدهم من أوصيائهم العالمين بجميع الأحكام ومتشابهات كتب اللّه ، ومنذرين على مخالفة الأوصياء إلى رسول آخر وانقراض الدنيا ونحو ذلك .

ولا خلاف في وجوبه على اللّه بالنسبة إلى المكلّفين .

الثاني : ما يزاح علّة المكلّف بدونه وهو غير ناجع ؛ أي علم اللّه تعالى أنّه لا ينفع ولا يؤثّر في المكلّف.

ولا خلاف لأحدٍ في عدم وجوبه على اللّه .

الثالث : ما يزاح علّة المكلّف بدونه وهو ناجع.

والخلاف بيننا وبين المعتزلة في وجوب القسم الثالث، وهو على قسمين ؛ فإنّه إمّا4.

ص: 533


1- أشار إلى ذلك المصنّف في حاشيته على عدّة الاُصول، ج 1، ص 94.

مُفْضٍ إلى الطاعة ويسمّى «توفيقا» ، وإمّا مفض إلى ترك المعصية ويسمّى «عصمة». وقد يُطلق كلّ من التوفيق والعصمة على القدر المشترك بين القسمين .

واستدلّت المعتزلة على وجوبه باُمور :

منها: ما نقله شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس سره في التبيان في تفسير قوله تعالى في سورة النساء : «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(1)التوحيد ، ص 382 ، ح 29 .(2) ؛ عن أبي عليّ الجبائي أنّه قال: ذلك يفسد قول من قال في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن، لأنّه لو كان الأمر على ما قالوه، لكان لهم الحجّة بذلك على اللّه قائمة . انتهى .(3)

والجواب: أنّه في لطف تعيين الأئمّة؛ ألا ترى إلى قوله: «بعد الرسل» فهذا خلط بين القسم الأوّل والثالث من اللطف، أو قياس للثالث على الأوّل .

ومنها : أنّا نعلم أنّه صدر عنه تعالى اللطف الناجع بالنسبة إلى بعض المكلّفين، فتركه بالنسبة إلى بعض مع قدرته عليه ينافي العدل .

والجواب منع أنّه ينافي العدل، إنّما ينافيه لو أخلى البعض عن القدرة . نعم ، يحتاج إلى سرّ ومخصّص، وتفصيل سرّ قدر اللّه وقضائه ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه، والاستكشاف عنه قبيح ومنهيٌّ عنه، كما مرّ في أحاديث «باب الخير والشرّ» .

وأمّا مجمله فقد مضى الإشارة إليه في شرح ثاني «باب السعادة والشقاء» روى ابن بابويه في توحيده في «باب القضاء والقدر» عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(4)» انتهى.(4) والآية في سورة القمر .

ومنها : أنّ اللطف الناجع يحصل به غرض المكلّف بكسر اللام، فيكون واجبا، وإلاّ .

ص: 534


1- النساء
2- : 165 .
3- التبيان ، ج 3 ، ص 395 .
4- القمر (54) : 48 _ 49 .

لزم نقض الغَرَض. بيان الملازمة: أنّ المكلّف إذا علم أنّ المكلَّف لا يطيع إلاّ باللطف، فلو كلّفه من دونه، كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعامه، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعا من التأدّب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدّب، كان ناقضا لغرضه، ونقض الغرض قبيح في نفسه كالكذب ولوم المجبور، فيمتنع على اللّه تعالى مطلقا ؛ أي وإن عارضه مصالح ومفاسد كما حُقّق في محلّه .

والجواب: أنّ غرض المكلّف التعريض للثواب والعقاب لا نفس العبادة؛ بدليل أنّه لو كان الغرض نفس العبادة، لاستحال عدم وقوعها من أحد من المكلّفين، فإنّ عدم ترتّب العلّة الغائيّة على المُغيّا لا يجوز في فعل الحكيم تعالى ، ولذا قلنا: إنّ قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) _ على تقدير إرجاع الضمير إلى الجنّ والإنس، لا إلى المؤمنين المذكورين قبله _ أنّ الغاية بالذات فيها طلب العبادة، ونفس العبادة غاية بالعرض اُقيمت مقام طلبها؛ تشبيها للمطلوب بالغاية بغاية الغاية، وغرضُ الداعي قد يكون نفس المجيء، فيقبح ترك التأدّب، وقد لا يكون، فلا يقبح .

ومنها : أنّ اللّه تعالى رؤوف بعباده أكثر من الأب والاُمّ بالولد، ونعلم قطعا أنّ الأب الحكيم الرؤوف بولده إذا علم من ولده أنّه يلقي نفسه في النار مع عدم لطفه به وقد قدر على لطف يمنعه من اختيار ذلك، لفعل ذلك اللطف البتّة، وإلاّ كان سفيها أو غير رؤوف .

والجواب: أوّلاً: النقض بأنّه يلزم أن لا يكون تعالى قادرا على سلب القدرة على المعصية عن العبد؛ لأنّ الأب إذا علم من ولده أنّه لا يمتنع من إلقاء نفسه في النار إلاّ بشدّ رجليه ونحوه _ ممّا يزيل قدرته وقد قدر على ذلك _ لفعل ذلك ، ثمّ إنّه لو علم أنّه لا يقدر على ذلك وكان قادرا على عدم ولادته، لم يلده البتّة ، واللّه تعالى خلق الكفّار على علم . ثمّ إنّه إن أذنب ولده كلّ ذنب، لم يرض بأن يعذّبه بالنار أبد الآبدين، واللّه تعالى ليس كذلك .

وثانيا: أنّا نرى ضدّ اللطف، فإنّه تعالى يخلق بعض الناس مائلين بحسب الجبلّة إلى .

ص: 535


1- الذاريات (51) : 56 .

الشرّ، ويعطيهم قوّة الشهوة والثروة والملك والصحّة ونحو ذلك من المقرّبات إلى النار وسوء العاقبة، ويستدرجهم، ويمكر بهم ، والأب الحكيم الرؤوف بولده لا يفعل ذلك به وإن صدر عنه كلّ قبيح .

وثالثا: الحلّ بأنّ هذا قياس مع الفارق، فإنّ رأفة الأب والاُمّ غالبة على علمهما وحكمتهما، بخلاف اللّه تعالى الخالق لكلّ شيء، والمُعطي لكلّ شيء ما يليق به من الخلق، هل رأيت أبا حكيما رؤوفا قتل ولده الصغير بدون ذنب ولا عجز عن نفقته ، واللّه تعالى يميت الأطفال بعد ما يبتليهم بأنواع الأمراض ؛ قال تعالى في سورة النحل : «وَعَلَى اللّه ِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) فليس على اللّه تعالى إلاّ الأصلح بمعنى الأوفق للحكمة في نفس الأمر في كلّ من طرفي النقيض، كما ذهب إليه معتزلة بغداد،(2) ولا يعلمه إلاّ هو، وليس عليه الأصلح للعباد بمعنى الأنفع لهم، كما توهّمه معتزلة البصرة،(3) فإنّه ربّما كان مخالفا للحكمة التي لا يعلمها إلاّ الخلاّق للعالمين ، فكان ظلما أي وضعا للشيء في غير موضعه «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»(4) «وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَ_وَ تُ وَ الاْءَرْضُ» ،(5) وأين الأب من هذا؟ إنّما رأفته تبعثه على فعل فيه نفع الولد، غافلاً عن جميع الجهات الغير المتناهية في فعله هذا ، فلا يجوز هذا القياس ؛ قال تعالى في سورة النحل :«أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ».(6)

ومنها : أنّ فعل اللطف الناجع إزاحة لعذر المكلّف، فوجب كالتمكين .

والجواب: منع أنّ كلّ لطف ناجع إزاحة كالتمكين، وما كان من اللطف إزاحة لا يعتبر في وجوبه عليه تعالى أن يكون ناجعا، كما مرّ في تحرير محلّ النزاع . .

ص: 536


1- النحل (16) : 9 .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 .
3- المصدر .
4- آل عمران (3): 182.
5- المؤمنون (23) : 71 .
6- النحل (16) : 17 .

الشبهة الثانية : أنّ الاستطاعة للفعل قد تكون مع تركه، كما في قوله تعالى : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) فإنّ كثيرا ممّن يجب عليه الحجّ لا يحجّ .

وجوابها : أنّ الاستطاعة هنا مستعملة في غير ما اصطلحتم عليه كما مرّ في بيان عنوان الباب .

الشبهة الثالثة : أنّ الرضا بقضاء اللّه تعالى واجب، ولو كان الكفر بقضائه، لوجب الرضا به، لكنّ الرضا بالكفر كفر .

وجوابها : أنّ الكفر ليس نفس القضاء، بل متعلّق القضاء، فنحن نرضى بالقضاء لا بالمقضيّ .

واعلم أنّ هذا الجواب لا يمكن أن يتمسّك به مَن يفسّر القضاء بالإيجاد كالأشاعرة، ولا من يفسّره بالعلم .

أمّا الأوّل، فلأنّه لا يتصوّر حينئذٍ انفكاك الرضا بالقضاء عن الرضا بالمقضيّ .

وأمّا الثاني، فلأنّ العلم من صفات الذات، وليس من صفات الأفعال حتّى يتصوّر فيه رضا وسخط .

قيل : هذا الجواب ليس بشيء، فإنّ القائل رضيت بقضاء اللّه لا يعني به رضاه بصفة من صفات اللّه ، إنّما يريد به رضاه بما يقتضي تلك الصفة وهو المقضيّ .

والجواب الصحيح أنّ الرضا بالكفر من حيث هو من قضاء اللّه طاعةٌ، ولا من هذه الحيثيّة كفر . انتهى .(2)

وفيه: أنّ قوله : «لا يعني» إلى آخره ، ممنوع، وهو مبنيّ على تفسير هذا القائل القضاءَ بالعلم، وهو باطل ؛ فإنّ الأوّل من صفات الفعل، والثاني من صفات الذات، وقياس صفة الفعل على صفة الذات أيضا ظاهر البطلان . وقوله : «الرضا بالكفر من حيث» إلى آخره .

ص: 537


1- آل عمران (3) : 97 .
2- في حاشية «أ» : «القائل المحقّق الطوسي في تلخيص المحصّل في مسألة أنّه تعالى مريد لجميع الكائنات (منه)» . تلخيص المحصّل ، ص 281 .

باطل؛ لأنّه لا معنى للرضا بشيء إلاّ الرضا بما تعلّق به من صفات الفعل، كالإيجاد والقضاء ونحوهما .

الشبهة الرابعة : أنّ الطاعة موافقة الإرادة ، فلو أراد اللّه تعالى كفر الكافر، لكان الكافر مطيعا له بكفره .

وجوابها : أنّ لفظ الإرادة قد يُطلق على الطلب، وهو المراد في تفسير الطاعة ، والمراد به في هذا النزاع معنى آخر، كما مرّ بيانه في شرح أوّل الخامس والعشرين .(1)

الشبهة الخامسة : أنّ الأمر يدلّ على الإرادة، فإيمان الكافر مراد اللّه تعالى .

وجوابها : أنّ الأمر إنّما يدلّ على الإرادة بمعنى الطلب، وهو غير مراد كما مرّ آنفا .

الشبهة السادسة : أنّ مشيّة المعاصي قبيحة في نفسها، فتمتنع على اللّه تعالى .

وجوابها : أنّ الحكم بقبحها مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة، وقد مرّ بيانه في رابع «باب الجبر والقدر» عند قوله عليه السلام : «هي الذكر الأوّل» ويجيء في ثاني الباب أيضا .

الشبهة السابعة : أنّ الأمر بما لا يشاء والنهيَ عمّا يشاء قبيح .

وجوابها : أنّ هذا أيضا مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة .

الشبهة الثامنة : أنّه لو لم يقع إلاّ ما شاء اللّه ، لكان العباد مجبورين .

وجوابها: أنّ هذا أيضا مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة، وتوهّم أنّ كلّ مشيّة حتم . ويجيء بُعيد هذا بيانه .

واعلم أنّ الخمسة الأخيرة من شبههم على تقدير تمامها لا يثبت مطلوبهم المتنازعَ فيه هنا، وهو التفويض الأوّل، كما يظهر بالرجوع إلى ما مضى في رابع «باب الجبر والقدر» .

الشبهة التاسعة : تمسّكهم بقوله تعالى في سورة الأنعام : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَىْ ءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا .

ص: 538


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) ، وقوله تعالى في سورة النحل : «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللّه َ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» إلى قوله : «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ»(2) ، وقوله تعالى في سورة الزخرف : «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ»(3) .

وجوابها : أنّ مراد المشركين بالمشيّة في المحكيّ بهذه الآيات الجدّ في التكليف بعدم الإشراك ببيان جميع الأحكام في محكمات الكتاب وعدم إدخال المتشابهات في بيان الأحكام، لا ما نحن فيه؛ بقرينة نحو قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكُوا» ، ومرادهم بالإشراك الاختلاف واتّباع الظنّ بالاجتهادات، فإنّه كإشراك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، فمقصودهم الاستدلال على جواز الإشراك، أي الاجتهاد دائما بأنّه لو شاء اللّه عدم إشراكنا لأتى الرسل في جميع الأحكام بالمحكمات، فما اضطررنا إلى الإشراك فيما أشركنا ؛ ففيه وضع اللازم موضع الملزوم .

ويظهر في تتمّة الآيات ثلاثة أجوبة عن استدلالهم هذا:

الأوّل : أنّه تكذيب لجميع الرسل في دعواهم في محكمات كتبهم أنّهم ما بُعثوا إلاّ لرفع الاختلاف ببيان المختلف فيه .

الثاني : أنّه حكم بالظنّ والخرص في مسألة أصليّة، ففيه أقبح مصادرة بالمطلوب .

الثالث : الحلّ بمنع قولهم: «لو شاء اللّه عدم إشراكنا لأتى» إلى آخره ؛ لأنّه يكفي الإتيان في بعض الأحكام بالمحكمات، وحوالةُ باقيها إلى العالم بجميع المتشابهات .

ص: 539


1- الأنعام (6) : 148 _ 149 .
2- النحل (16) : 35 _ 39 .
3- الزخرف (43) : 20 _ 21 .

المعلوم شخصه في كلّ زمان بدلالة المحكمات الناهية عن الحكم بالظنّ والاجتهاد، وظهور أنّ غاية دعوى غيره الاجتهادُ ، فالجمهور المشركون إنّما أتوا من قبل أنفسهم، والأقلّون سكتوا في زمننا إلى ظهور الحجّة ، ولو انحصر الدنيا فيهم أو كثروا، لخرب الدنيا، أو ظهر الحجّة عليه السلام .

واعلم أنّه يحتمل أن يكون لفظة «شاء» في كلام المشركين جاريا مجرى اللازم ، فمقصودهم أنّه تعالى موجَب كما زعمته الفلاسفة الزنادقة، وأنّ الموجَب لا يستحقّ عبادة بدون شريك من العقول _ مثلاً _ وهم الملائكة عندهم . ثمّ إنّه يجيء في ثالث «باب الهداية أنّها من اللّه » ما يظهر به الجواب عن شبهة اُخرى لهم .

وأمّا في التفويض الثاني _ وهو الإقدار في الحال على فعل في ثاني الحال _ فبأدلّة:

الدليل الأوّل: أنّه يستلزم أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة ، أي أن لا يقدر تعالى على أن يسلب في ثاني الحال بدون مشيّة العبد شيئا ممّا يتوقّف عليه مقدور العبد، وكونُه مضادّة للّه تعالى في ملكه ظاهر .

أمّا بيان اللزوم فبأنّ معنى القدرة هو التمكّن الذي هو مناط جواز التكليف الواقعي، أي الذي لو خولف استحقّ عليه العقاب، وهو مفهوم بديهيّ نسبيّ يختلف باختلاف ما نسب إليه، فإنّ العبد متمكّن من فعلٍ غيرُ متمكّن من آخر، وهو مشترك معنىً بين اللّه المتمكّن من كلّ شيء وعبده بالنسبة إلى ما هو متمكّن منه .

فنقول : هذا المعنى لا يتحقّق في شخص بالنسبة إلى فعل إلاّ مع استجماعه للعلّة التامّة لصدور ذلك الفعل عنه؛ إمّا استجماعا حقيقةً، وهو ظاهر ؛ وإمّا استجماعا حكما، وهو أن يكون ما لم يتحقّق بعدُ من أجزاء العلّة التامّة واجبَ التحقّق بالذات كبقاء اللّه تعالى، أوبالنظر إلى علّته، كما هو عند بعض المجبّرة القائلين بأنّ كلّ حادث له وجوب سابق ،(1) أو أن يكون ذلك الشخص مستجمعا حقيقةً للعلّة التامّة لصدور ما لم يتحقّق .

ص: 540


1- اُنظر شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة ، ص 88 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

بعدُ عنه إن كان ما لم يتحقّق واحدا أو غير مترتّب، وإن تعدّد مترتّبا كان ما ذكرنا من الاستجماع حقيقةً؛ لعلّة الأوّل، ثمّ بتوسّطها كان مستجمعا حكما؛ لعلّة الثاني وهكذا ؛ لأنّ التمكّن من الموقوف بدون التمكّن من الموقوف عليه _ الذي لم يحصل بعد، وكان ممكنا بالإمكان المقابل للوجوب الذاتي والوجوب السابق معا _ بديهيّ الاستحالة .

ونقول في التنبيه عليه: إنّه لو تحقّق مع عدم الاستجماع حقيقةً ولا حكما، لكان بمحض حصول بعض الأجزاء في الحال، وجواز حصول الباقي في ثاني الحال، فيلزم أن يكون فاقد القوّة والصحّة والآلة في الحال قادرا في الحال على فعل يتوقّف على القوّة والصحّة والآلة في ثاني الحال؛ لجواز حصول القوّة والصحّة والآلة له في ثاني الحال، فيكون زيد قادرا في الحال على الطيران في ثاني الحال؛ لجواز حصول الجناح له في ثاني الحال. وهذا سفسطة .

إن قلت : لا يكفي جواز الحصول في ثاني الحال، بل يعتبر ظنّ القادر، أو علم اللّه تعالى في الحال بالحصول في ثاني الحال.

قلت: قد ذكرنا أنّ معنى القدرة مفهوم بديهىّ هو التمكّن، والتمكّن في الحال من فعل في ثاني الحال لا يختلف باختلاف الظنّ أو العلم في الحال بحصول شيء في ثاني الحال. وهذا بديهيّ .

ثمّ نقول: والاستجماع حقيقة في الحال للعلّة التامّة لفعل في ثاني الحال غير ممكن ؛ لأنّ من أجزاء العلّة التامّة له بقاء الفاعل إلى ثاني الحال، وعدم المانع فيه، وعدم النسيان للفعل فيه ونحو ذلك، ولم يحصل بعدُ.

والاستجماع حكما في الحال للعلّة التامّة لفعل في ثاني الحال إمّا بانحصار ما لم يحصل بعد من أجزاء العلّة التامّة في الواجب التحقّق بالذات، أو بالوجوب السابق. وهذا باطل في أفعال العباد؛ لأنّ بقاءهم وذكرهم ليس واجبا بالذات وهو ظاهر، ولا بالوجوب السابق؛ لما مرّ في أوّل «باب الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين» من أنّ ذلك يستلزم عدم استحقاق فاعله المحمدة ، وقد فصّلناه في حواشي العدّة . وإمّا بغيره، وهو يستلزم الاستقلال بديهةً، ودعواه دعوى الربوبيّة .

ص: 541

روى ابن بابويه في توحيده في «باب الاستطاعة» عمّن سأل أبا عبداللّه عليه السلام فقال له : إنّ لي أهلَ بيت قدريّة يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا، ونستطيع أن لا نعمل؟ قال : فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «قل له: أتستطيع(1) أن لا تذكر ما تكره، ولا تنسى(2) ما تحبّ؟ فإن قال: لا، فقد ترك قوله ، وإن قال: نعم، فلا تكلّمه أبدا، فقد ادّعى الربوبيّة» انتهى .(3)

وقولهم : نستطيع أن نعمل معناه: نستطيع الحالَ أن نعمل في ثاني الحال .

إن قلت : ليس مذهب المعتزلة أنّا نتمكّن في الحال على فعل في ثاني الحال تمكّنا يكون مع استجماع العلّة التامّة له حقيقةً أو حكما؛ إنّما مذهبهم تقدّم آلة التمكّن، وهي ما يظنّ معه حصول التمكّن في وقت الفعل كما ذكرتم عند قوله عليه السلام : «فجعل فيهم آلة الاستطاعة »، وهذا مناط صحّة تعلّق التكليف الظاهري ، ولذا وجب الشروع في السير إلى مكّة على من استطاع له وإن علم اللّه منه أنّه يموت قبل الوصول . وأمّا التمكّن الذي هو مناط صحّة تعلّق التكليف الواقعي المنجّز الذي يدور معه استحقاق العقاب على المخالفة وجودا وعدما، فلا يحصل إلاّ في وقت الفعل .

قلت : هذا توجيه حسن من جانبهم لو رضوا بذلك، ولم يصرّحوا بنقيضه، ولا يبقى لنا حينئذٍ نزاع معهم فيه، ولكن صرّحوا بالنقيض؛ فإنّ جماهيرهم يقولون: لا تتحقّق القدرة في وقت الفعل، وباقيهم يقول: إنّه تبقى القدرة إلى وقت الفعل، لكنّ الفعل لا يصدر عن الفاعل بها؛ إنّما يصدر بالقدرة المقدّمةُ كما ذكره شارح المواقف،(4) وسيظهر من اُولى شبههم وثانيتها . فعلى هذا التوجيه يلزم أن لا يتحقّق في المكلّفين في الواقع التمكّنُ _ الذي هو مناط جواز التكليف الواقعي أصلاً على رأي جماهيرهم _ ويتحقَّقَ على احتمال لغوا على رأي باقيهم . .

ص: 542


1- في «ج» : «تستطيع» بدون همزة الاستفهام . وفي المصدر : «هل تستطيع» .
2- في المصدر : «وأن لا تنسى» .
3- التوحيد ، ص 352 ، ح 22 .
4- شرح المواقف ، ج 6 ، ص 154 .

الدليل الثاني _ وهو مشتمل على أدلّة لا تحصى _ : ما ورد في الشرع ممّا يدلّ على أنّ العبد أعجز من أن يكون مستقلاًّ في القدرة، وأنّه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا. وهو أكثر من أن يحصى، كقوله تعالى في سورة الكهف : «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَىْ ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ»(1) ، وقوله تعالى في سورة لقمان : «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا»(2) .

واعلم أنّ الباعث للمعتزلة وأتباعهم على القول بالتفويض الثاني شُبَهٌ:

الاُولى: أنّ القدرة وكونها مع الفعل متنافيان؛ لأنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها لأن يدخل الفعل من العدم إلى الوجود، وكونها مع الفعل يلزمه أن يستغنى عنها ؛ لأنّ الفعل في حال وجوده صار موجودا، فلا حاجة إليها لأن يدخل من العدم إلى الوجود، وتنافي الملزومات لازم للتنافي بين اللوازم ؛ فالقدرة لا تكون مع الفعل .

والجواب: النقض بالفاعل ونحوه . والحلّ: منع قولهم: «إنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها» إلى آخره؛ إذ فيه خلط بين آلة القدرة ونفس القدرة . ثمّ منع قولهم: «فلا حاجة» إلى آخره . ثمّ إنّ هذا مبنيّ على عدم معرفتهم معنى وقت الفعل وقد بيّنّاه عند قوله عليه السلام : «وقت الفعل مع الفعل» إلى آخره .

الثانية: أنّ القدرة يلزمها إمكان صدور الفعل وإمكان صدور الترك، فلا تتحقّق في وقت الفعل ؛ لأنّه إن كان الواقع فيه الفعلَ امتنع الترك، وإن كان الواقع فيه التركَ امتنع الفعل ؛ فالقدرة في الحال على الفعل في ثاني الحال .

والجواب: منع امتناع شيء من الفعل والترك في وقت يكون الواقع فيه الآخر . نعم يمتنع بشرط الآخر، والفرق بينهما بيّن لا يخفى .

ثمّ لا نسلّم أنّ هذا الامتناع ينافي القدرة، فإنّه ليس امتناعا سابقا .

الثالثة : أنّه لولاه لزم حدوث قدرة اللّه . .

ص: 543


1- الكهف (18) : 23 _ 24 .
2- لقمان (31) : 34 .

والجواب: أنّ المتنازع فيه قدرة العبد .

الرابعة : ما ذكرنا عند قوله : «أفتستطيع أن تنتهي عمّا قد كُوّنَ؟ قال : لا ».

والجواب : ما ذكرنا أيضا عنده .

الخامسة : أنّ استطاعة الحجّ تتقدّم على وقت الحجّ؛ لقوله تعالى : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» ،(1)الصحاح ، ج 1 ، ص 303 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 29 (حج) .(2) فالمكلّف مستطيع في شهر رمضان _ مثلاً _ لأفعال الحجّ .

والجواب : أنّ المستطاع هنا السبيل إلى حجّ البيت، وهو الزاد والراحلة _ مثلاً _ أو أنّ الاستطاعة هنا مستعملة مجازا في آلة الاستطاعة، كما مضى في شرح عنوان الباب؛ فلا ينافي التوقّف على الإذن ، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» استدلالُ قدريّ بهذه الآية ، وجوابُ أبي عبداللّه عليه السلام عنه بقوله : «ويحك إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة ليس استطاعة البدن » انتهى .(3) وهو محتمل للوجهين .

ويمكن الجواب أيضا بأنّ الحجّ لغةً القصد،(3) فيجوز أن يكون هو المراد هنا ، فالمعنى: للّه على الناس قصد البيت من استطاع متوجّها إليه سلوك سبيل ؛ فالاستطاعة متعلّقة بسلوك السبيل، لا بالأفعال المعهودة، فهي غير متقدّمة على وقت المستطاع له، وهو السلوك المحقّق للقصد، فإنّ السلوك كما يُطلق على الحركة بمعنى القطع _ أي المجموع المركّب المنطبق على مجموع المسافة _ يُطلق على الحركة بمعنى التوسّط الحاصلة في كلّ حدّ من حدود المسافة، والاستطاعة للاُولى في مجموع الوقت وجزءٍ منها متحقّق في أوّل الوقت ، والاستطاعة للثانية حاصلةٍ في أوّل الوقت، وفي كلّ جزء بعده .

السادسة : أنّه لو لم تكن الأفعال المعهودة في الحجّ مقدورة في شهر رمضان _ مثلاً _ لم تكن واجبة فيه، فلم تجب فيه مقدّمتها، وهي السلوك؛ لأنّ المقدّمة إنّما تجب بتبعيّة .

ص: 544


1- آل عمران
2- : 97 .
3- الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .

وجوبها، فلم يكن التارك للسلوك الواجِدُ للزاد والراحلة وغيرهما آثما .

والجواب : أنّ معنى وجوب الأفعال المعهودة في شهر رمضان ما يساوق العلم فيه بتعلّق التكليف الظاهري فيه بفعلها في ذي الحجّة، وحينئذٍ قولكم: «لو لم تكن الأفعال المعهودة مقدورة في شهر رمضان لم تكن واجبة فيه» ممنوع.

وإن أردتم بوجوب الأفعال المعهودة معنى آخر، فلا ، نسلِّم أنّ المقدّمة، إنّما تجب بتبعيّة وجوبها بالمعنى الذي أردتم .

السابعة : أنّه لو لم تكن القدرة إلاّ في وقت الفعل، لم يكن الكافر المستمرّ على كفره إلى آخر عمره قادرا على الإيمان، فلا يكون مكلّفا .

والجواب : أنّه لا يثبت مطلوبكم المتنازع فيه هنا؛ إنّما يثبت أنّ القدرة تتحقّق مع ترك المقدور، ومرادنا بوقت الفعل ما اعتبرت نسبة القدرة إلى الفعل باعتبار وقوعه فيه، سواء كان الفعل واقعا فيه أم لا .

(قَالَ الْبَصْرِيُّ : فَالنَّاسُ مَجْبُورُونَ؟). توهّم من نفي تعلّق الاستطاعة بكلّ من الفعل والترك لزومَ نفي تعلّق القدرة بكلّ منهما، فتوهّم الجبر لخفاء الواسطة .

(قَالَ : لَوْ كَانُوا مَجْبُورِينَ ، كَانُوا مَعْذُورِينَ) . نفى عليه السلام الجبر، وذكر عليه دليلاً بأنّه يلزم أن لا يكون للّه تعالى الحجّة البالغة على العُصاة .

(قَالَ : فَفَوَّضَ إِلَيْهِمْ؟). توهّم أنّه لا واسطة، فلو لم يكونوا مجبورين كانوا مفوّضا إليهم، فسأل عن ذلك .

(قَالَ : «لاَ») . أجاب عليه السلام بنفي التفويض أيضا، ولم يذكر عليه دليلاً اكتفاءً بما مرّ من قوله : «لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعزّ» إلى آخره ، فعرّفه أنّ الواسطة هي الحقّ .

(قَالَ : فَمَا هُمْ؟) أي إذا لم يكونوا مجبورين ولا مفوّضا إليهم، فما الذي هم عليه من المنزلة الثالثة لهما ؟

ويحتمل أن يكون المراد أنّهم إذا لم يكونوا مفوّضا إليهم، فما الذي هم عليه حتّى لا يلزم جبر ؟

ص: 545

(قَالَ : عَلِمَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد، وفيه ضمير اللّه .

(مِنْهُمْ فِعْلاً) أي علم اللّه تعالى من المكلّفين أنّهم يختارون فعل كذا إذا جعل فيهم أمر كذا، فيصير الأمر آلة لفعلهم بدون أن يكون موجبا لفعلهم بالوجوب السابق، سواء كان الأمر وجوديّا كخلق الشمس والبصر لعابديها، أو عدميّا كترك جعله للمؤمنين باللّه الموحِّدين له لبيوتهم سقفا من فضّة، وعلم اللّه تعالى من المكلّفين أنّهم يختارون ضدّ ذلك الفعل إذا جعل فيهم أمرا آخر بدل الأوّل، فيصير الأمر الآخر آلةً لفعلهم الضدّ بدون وجوب سابق .

(فَجَعَلَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع. وفيه ضمير اللّه ، أي فخلق باختياره وعلمه بوجوه المصالح والمفاسد .

(فِيهِمْ) . إنّما قال ذلك مع أنّ الآلة قد تكون أمرا مباينا لهم كالشمس بالنسبة إلى عابديها؛ لأنّ المباين لا يصير آلة إلاّ باعتبار وصف فيهم كالبصر ونحو ذلك .

(آلَةَ الْفِعْلِ) أي ما أفضى إلى الفعل بدون وجوب سابق، مع قدرته تعالى على آلة ضدّ ذلك الفعل.

ولا يجوز الاقتراح بالسؤال عليه تعالى بأنّه إذا علم منهم فعلاً قبيحا، فلِمَ جعل فيهم آلتَهُ، كما مضى الإشارة إليه في شرح ثاني «باب السعادة والشقاء» وثاني «باب الخير والشرّ » ومعلومٌ لنا أنّه تعالى لا يفعل إلاّ الأوفق بالحكمة، والراجح على ضدّه في نفس الأمر من آلتي الفعل وضدّه.

وهذه الفقرة مشتملة على نفي الفرد الأوّل من التفويض .

(فَإِذَا فَعَلُوهُ(1) كَانُوا مَعَ الْفِعْلِ) أي لا قبله (مُسْتَطِيعِينَ) أي قادرين على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيّة اللّه .

وهذه الفقرة مشتملة على نفي الفرد الثاني من التفويض .

(قَالَ الْبَصْرِيُّ : أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ ، وَأَنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ) . سمع البصريّ .

ص: 546


1- في الكافي المطبوع : «فعلوا» .

مقالات قدريّة البصرة كالحسن البصري وأصحابه، وقولهم: إنّا قبل وقت الفعل نستطيع أن نعمل كذا ونستطيع أن لا نعمل ، وسمع شبههم، وعرف من هذا البيان أنّه ليس على مجرى العادة في أفكار المتكلّمين من عند أنفسهم، بل هو مستندٌ إلى سرّ مستودَع من مشكاة النبوّة والرسالة، وأنّه بيان للحقّ الذي لا يعلمه إلاّ العالم أو من علّمه إيّاه العالم، كما مضى في عاشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».

وفيه دلالة على أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة

فاُقسم لولا أنّكم سبل الهدى لضلّ الورى عن لاحب(1) النهج ظاهر(1)

وقال صاحب كتاب الجواهر من المعتزلة :

قيل : إنّ الحسن البصري كتب إلى الإمام الحسن بن عليّ عليهماالسلام : من الحسن البصري إلى الحسن بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمّا بعد، فإنّكم معاشرَ بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، والأئمّة القادة، الذين مَن تبعهم نجا، والسفينة التي تؤول إليها المؤمنون، وتنجو فيها المتمسّكون، قد كثر يابن رسول اللّه عندنا الكلام في القدر، واختلافنا في الاستطاعة، فتُعلمنا ما ترى عليه رأيك ورأي آبائك، فإنّكم ذرّيّةٌ بعضها من بعض، من عِلم اللّه علِمتُم، وهو الشاهد عليكم وأنتم الشهداء على الناس؛ والسلام .

فأجابه الحسن بن عليّ عليهماالسلام : «من الحسن بن عليّ إلى الحسن البصري: أمّا بعد، فقد انتهى إليَّ كتابك عند حيرتك وحيرة مَن زعمت من اُمّتنا، وكيف ترجعون إلينا وأنتم بالقول دون العمل ، واعلم أنّه لولا ما تناهى إليَّ من حيرتك وحيرة الاُمّة من قِبلك، لأمسكتُ عن الجواب، ولكنّي الناصح بن الناصح الأمين، والذي أنا عليه أنّه من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على اللّه عزّ وجلّ فقد فجر، إنّ اللّه سبحانه لا يُطاع بإكراه، ولا يُعصى بغلبة، ولا أهمل العباد من الملكة، ولكنّه عزّ وجلّ المالك لما ملّكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن اللّه عزّ وجلّ لهم صادّا، ولا عنها مانعا ، وإن ائتمروا بالمعصية، فشاء سبحانه أن يمنَّ عليهم، .

ص: 547


1- الروضة المختارة (شرح القصائد العلويّات السبع) لابن أبي الحديد المعتزلي ، ص 132 .

فيحُول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلهم عليها إجبارا، ولا ألزمهم بها إكراها، بل احتجاجه جلّ ذكره عليهم أن عرّفهم، وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه، وترك ما نهاهم عنه، وللّه الحجّة البالغة، والسلام » انتهى .(1)

وهذا المقام من مزالّ الأقدام، فقد قيل: هذا الحديث والذي بعده ليس موافقا للحقّ، فهو من باب التقيّة . انتهى .(2) يعني حديثي البصري والنيلي .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعا ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ صَالِحٍ النِّيلِيِّ) ؛ بكسر النون وسكون الخاتمة، منسوبٌ إلى قرية بالكوفة، أو بلد بين واسط وبغداد .(3)

(قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هَلْ لِلْعِبَادِ) أي قبل وقت الفعل والترك . ويحتمل أن يكون مراده الأعمّ منه ومن وقتهما .

(مِنَ الاِسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ؟) أي قليل أو كثير بأن تكون الاستطاعة مقولة بالتشكيك .

(قَالَ : فَقَالَ لِي : إِذَا فَعَلُوا الْفِعْلَ ، كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ) . فيه جواب عن سؤاله بأنّه ليس قبل وقت الفعل والترك استطاعة، وزيادة على جواب السؤال؛ حيث بيّن أنّها في وقت الفعل والترك لا تتعلّق بكليهما . ويحتمل أن لا تكون زيادة .

(بِالاِسْتِطَاعَةِ) . الباء فيه كالباء في قولنا: زيد شريف بالشرف الكثير، وأصلها السببيّة، كان مبدأ الاشتقاق علّة لصدق المشتقّ . ويحتمل الملابسة باعتبار التغاير الاعتباري، ومن نظائر هذه ما في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو .

(الَّتِي جَعَلَهَا اللّه ُ فِيهِمْ) أي أحدثها فيهم حين الفعل . .

ص: 548


1- رواه الكراجكى في كنز الفوائد ، ص 170 ؛ ورواه ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول ، ص 231 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 40 .
2- في حاشية «أ» : «القائل هو مولانا محمّد أمين الإسترابادي في حواشى الكافي (منه)» .
3- معجم البلدان ، ج 5 ، ص 348 (واسط) .

وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهةٍ ومعارضةٍ وهميّة تعتري القدريّة، وهي أنّ القدرة تتقدّم على وقت الفعل؛ لأنّا نعلم فيمن صلّى الظهر في آخر وقته بدون عذر أنّه لا تزول عنه من أوّل وقت الظهر إلى المغرب القدرةُ على صلاة الظهر في آخر الوقت .

والجواب: أنّ القدرة أمرٌ اعتباري ليس لها فرد حقيقي موجود في الخارج، إنّما لها الحصص، وحصصها غير متناهية متعدّدة بتعدّد المقدورات والأوقات، فيزول بعضها ويحدث آخر، والشبهة إنّما حصلت بخلط بعضها ببعض .

(قَالَ : قُلْتُ : وَمَا هِيَ؟) أي وما الاستطاعة التي أحدثها فيهم حين الفعل، ولم تتعلّق بالترك ؟

(قَالَ : الاْآلَةُ) . هي ما ذكره في ثاني الباب بقوله : «فجعل فيهم آلة الفعل» أي الأمر الذي علم اللّه تعالى أنّه مفض إلى الفعل بدون وجوب سابق .

والظاهر أنّ في حمل الآلة على الاستطاعة مسامحةً، وأنّ الاستطاعة مترتّبة على الآلة .

(مِثْلُ الزَّنِيِّ(1)) ؛ بفتح الزاي وكسر النون وشدّ الخاتمة، فعيل بمعنى فاعل . وفي بعض النسخ: «الزاني» بألف وتخفيف الخاتمة، بيان مثال لقوله : «إذا فعلوا الفعل» إلى آخره ، وليس مثالاً لتفسير الاستطاعة .

(إِذَا زَنى) . استئناف لبيان قوله: «مثل الزَّنيّ ».

(كَانَ مُسْتَطِيعا لِلزِّنى) أي لا لتركه .

(حِينَ الزنى(2):) أي لم تتحقّق الاستطاعة قبل هذا الحين متعلّقةً بهذا الحين .

(وَلَوْ أَنَّهُ) . الضمير للزنى؛ لأنّ «لو» تبدّل المثبت منفيّا، والمنفيّ مثبتا .

(تَرَكَ الزِّنى) أي في مجموع الوقت الذي زنى فيه .

(وَلَمْ يَزْنِ) أي أصلاً، لا في مجموع هذا الوقت، ولا في جزئه . .

ص: 549


1- في الكافي المطبوع : «الزاني» .
2- في الكافي المطبوع : «زَنى» .

(كَانَ) أي في مجموع هذا الوقت .

(مُسْتَطِيعا لِتَرْكِهِ) أي لا لفعل الزنى .

(إِذَا تَرَكَ) أي حين ترك لا قبله .

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ لَهُ) أي للزنىّ .

(مِنَ الاِسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ قَلِيلٌ وَلاَ كَثِيرٌ) . بيان لفذلكة المبحث، وتصريح بالجواب عمّا سأل السائل عنه، ووجهه أنّ القدرة المعتبرة في مفهوم الاستطاعة هي التمكّن من الشيء، وهذا لو تحقّق قبل وقت الفعل قويّا أو ضعيفا، لزم مضادّة اللّه في ملكه، كما مرّ في شرح ثاني الباب .

(وَلكِنْ مَعَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ) أي في وقت الفعل والترك ، والمراد الوقت الذي اعتبرت نسبة الاستطاعة إلى فعل الزنى وتركه باعتبار هذا الوقت، سواء كان الواقع فيه الفعل أو الترك .

(كَانَ مُسْتَطِيعا) أي لأحدهما .

(قُلْتُ : فَعَلى مَاذَا يُعَذِّبُهُ؟). الضمير المنصوب للزنيّ ، ويحتمل العاصي المطلق.

توهّم من نفي استطاعة الزاني لترك الزنى نفي قدرته على ترك الزنى، أي فبأيّ علّة يعذّبه وهو غير مستطيع للترك ؟

(قَالَ : بِالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ وَالاْآلَةِ الَّتِي رَكَّبَ فِيهِمْ) أي بوجود المقتضي للعذاب وعدم المانع.

أمّا المقتضي، فالحجّة البالغة للّه تعالى، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال : «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»(1) فإنّ ظاهره أنّ العفو عنهم ظلم ؛ أي وضع للشيء في غير موضعه بل ظلاميّة . وتفصيله في محلّه . وعدم علمنا بخصوصيّات حججه البالغة لا يستلزم عدمها .

وأمّا عدم المانع، فلأنّه لا يتصوّر هنا مانع يكون بديهيَّ المنع إلاّ الجبر، والجبر منتف بالآلة ، والمراد بها هنا جميع ما يتوقّف عليه الفعل، وجميع ما يتوقّف عليه .

ص: 550


1- آل عمران (3) : 181 _ 182 .

الترك، أي العلّة التامّة للفعل، والعلّة التامّة للترك، وهي مساوقة للقدرة ؛ يُقال: ركّب الفصّ في الخاتم تركيبا: إذا جعله فيه ، وحمله عليه .

(إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة استئنافٌ لبيان عدم المانع .

(اللّه َ لَمْ يَجْبُرْ أَحَدا عَلى مَعْصِيَتِهِ) ، بصيغة معلوم باب نصر، أو باب الإفعال، وهذا لدفع توهّم مذهب جهم والأشاعرة، وهو أنّ فاعل أفعالنا هو اللّه تعالى .(1)

(وَلاَ أَرَادَ إِرَادَةَ حَتْمٍ) ؛ بفتح المهملة، وسكون المثنّاة فوق .

(الْكُفْرَ مِنْ أَحَدٍ) . هذا لدفع توهّم مذهب أبي الحسين البصري تبعا للفلاسفة، وهو أنّ أفعالنا صادرة عنّا، لكن يجب صدورها عنّا وجوبا سابقا؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .(2)

والمراد بإرادة الحتم ما لا يكون معه سبيل للعبد إلى غير ما أراد اللّه ، بأن لا يكون مستجمعا لعلّته التامّة، لا حقيقة ولا حكما .

والسرّ في أنّ العبد غير مجبور على ما أراده اللّه تعالى إرادة عزم لا حتم أنّ تحقّق المانع العلمي عن شيء لا ينافي ارتفاع جميع الموانع العقليّة، ولا حصول جميع الشرائط والاُمور المحتاج إليها عقلاً ؛ وبالجملة لا ينافي تحقّق علّته التامّة .

(وَلكِنْ حِينَ كَفَرَ) أي لمّا كفر باختياره بدون جبر .

(كَانَ فِي إِرَادَةِ اللّه ِ أَنْ يَكْفُرَ) ؛ يعني أنّ إرادة اللّه الكفر من أحد تابع لكفره، وإن كان الكفر تابعا لإرادة اللّه من حيثيّة اُخرى .

وتوضيح ذلك: أنّ المراد هنا بإرادة اللّه فعلاً من عبدٍ فعلُه تعالى أو تركه المفضي إلى فعل عبد المجتمِعُ مع علمه تعالى بأنّ العبد _ مع استجماعه للعلّة التامّة للفعل، وللعلّة التامّة للترك _ يختار ذلك الفعل، مع قدرته تعالى على ما علم أنّه لو صدر عنه تعالى بدلَ .

ص: 551


1- حكاه السيّد المرتضى في رسائله ، ج 2 ، ص 180 عن جهم ، وفي ج 3 ، ص 187 عن المجبرة . وانظر تفسير الرازي ، ج 12 ، 238 ، وج 15 ، ص 60 ، وص 128 ، وج 19 ، ص 32 .
2- حكاه عنه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 221 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 153 .

ذلك الفعل أو الترك من الأفعال أو التروك، اختار العبد ترك ذلك الفعل ، فإطلاقنا الإرادة على هذا الفعل من اللّه أو الترك منه تعالى إنّما هو باعتبار اجتماعه مع هذا العلم وهذه القدرة ، وكذا قولنا: إنّ إرادة اللّه لفعل عبدٍ يستلزم ذلك الفعل إنّما هو باعتبار اجتماعه مع هذا العلم بدليل أنّ الفعل أو الترك من اللّه تعالى إذا كان خارجا عن العلّة التامّة لفعل عبد لا يوجب ذلك الفعل من العبد إذا لم يكن معه العلم بالإفضاء، ولا شكّ أنّ التابع لأمر إذا اعتبر في مفهوم شيء، كان ذلك الشيء تابعا لذلك الأمر من هذه الحيثيّة، وإن كان متبوعا له باعتبار آخر، وهو هنا جزؤه، أي أصل الفعل أو الترك المفضي إلى فعل العبد بلا جبر بدون ملاحظة انضمام العلم إليه .

(وَهُمْ) . ضمير الجمع لرعاية جانب المعنى .

(فِي إِرَادَةِ اللّه ِ وَفِي عِلْمِهِ أَنْ لاَ يَصِيرُوا إِلى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ) . ذكر قوله: «وفي علمه» للإشارة إلى ما ذكرنا آنفا من أنّ العلم معتبر في مفهوم الإرادة، وأنّ وجوب المراد بالنسبة إلى الإرادة وجوب لاحق؛ فإنّ الوجوب هنا باعتبار اشتمال الإرادة على العلم فقط .

(قُلْتُ : أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا؟). الاستفهام مقدّر؛ لما كان مصداق إرادة العباد فعل غيرهم بدون طلبهم له الشوق والميل ونحو ذلك، أطلقها السائل في هذا السؤال على أحد هذه المعاني، فإنّه المتبادر إلى أذهان الذين لم يعرفوا غيره حقّ المعرفة، كما أنّ الخبز إذا اُطلق عند من يتناول خبز الاُرزّ ولم ير خبز الحنطة، لم ينصرف ذهنه إلاّ إلى خبز الاُرزّ .

(قَالَ : لَيْسَ هكَذَا أَقُولُ) أي ليس قولي هكذا، اُقيم الفعل مقام المصدر، كما في قولهم : «تسمع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه». والمعنى: لا أقول هذا اللفظ بهذا المعنى الذي استعملت أنت فيه .

(وَلكِنِّي أَقُولُ : عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَكْفُرُونَ) أي باختيارهم مع استجماعهم للعلّة التامّة لكلّ من الكفر والإيمان، وبسبب فعل أو ترك من اللّه خارج عن العلّة التامّة .

(فَأَرَادَ الْكُفْرَ ) أي فتحقّقت إرادته للكفر بهذا المعنى .

ص: 552

(لِعِلْمِهِ فِيهِمْ) أي ليس إطلاق الإرادة على فعل اللّه أو تركه إلاّ لاجتماعه مع هذا العلم،وليست الإرادة موجبة للكفر إلاّ باعتبار اشتمال مفهومها على هذا العلم، وليس المراد بالإرادة ما أراد السائل بها .

(وَلَيْسَتْ(1) إِرَادَةَ حَتْمٍ ، إِنَّمَا هِيَ إِرَادَةُ اخْتِيَارٍ) ؛ بالمعجمة والخاتمة ومهملة .

وإرادة الحتم ما يكون مع عدم استجماع العبد العلّة التامّة لصدور ضدّ ما أراد اللّه صدورَهُ عن العبد أصلاً، لا حقيقةً ولا حكما .

وإرادة الاختيار ما يكون مع الاستجماع حقيقةً أو حكما .

وفي بعض النسخ بالموحّدة بدل الخاتمة، وهو الابتلاء والفتنة في التكاليف، فإنّ اللّه تعالى قد يشدّد الفتنة في تكليف، فيكفر جمع أكثر من أن يعدّ ويحصى. وليس للمعتزلة عليه تعالى اعتراض، تبارك وتعالى عمّا يصفون .

واعلم أنّه قد يُظنّ المنافاة بين هذين الحديثين _ أي ثاني الباب وثالثه _ وبين روايات كثيرة رواها ابن بابويه في كتاب التوحيد ذكر فيها أنّ الاستطاعة تتعلّق بكلّ من الفعل والترك،(2) وذلك لظنّ أنّ الاستطاعة فيهما وفيها بمعنى واحد.

وليس كذلك ؛ لأنّ الاستطاعة فيها بالمعنى الأوّل، فيصحّ أنّها تتعلّق بكلّ من الفعل والترك ردّا على المجبّرة، وفيهما بالمعنى الثاني. ومرّ بيان المعنيين في شرح عنوان الباب؛ فلا منافاة .

إن قلت : في بعضها منافاة اُخرى مع الحديثين؛ لأنّه يدلّ على أنّ القدرة تتقدّم على حال الفعل والترك:

من ذلك ما رواه عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ما كلّف اللّه العباد كَلْفَة فِعلٍ، ولا نهاهم عن شيء حتّى جعل لهم استطاعة، ثمّ أمرهم ونهاهم؛ فلا يكون العبد آخِذا ولا تاركا إلاّ باستطاعة متقدّمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك، وقبل .

ص: 553


1- في الكافي المطبوع : + «هي» .
2- التوحيد ، ص 346 ، بيانه في مشيّة اللّه تعالى وإرادته .

القبض والبسط» .(1)

وعن عوف بن عبداللّه الأزدي عن عمّه قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الاستطاعة، فقال : «وقد فعلوا؟» فقلت : نعم زعموا أنّها لا تكون إلاّ عند الفعل واردة في حال الفعل لا قبله ، فقال : «أشرك القوم».(2)

قلت : لا منافاة ؛ لأنّ هذا أيضا للردّ على المجبّرة في قولهم: إنّه لا تتحقّق القدرة على الفعل مع الترك؛ فإنّه يستلزم ذلك أن لا يكون المصلّي لصلاة الظهر في آخر وقتها قادرا في أوّل وقتها على فرد من صلاة الظهر أصلاً، لا في أوّل الوقت، ولا في آخر الوقت. وهذا باطل ؛ لأنّ الحقّ أنّه قادر في أوّل الوقت على الصلاة في أوّل الوقت، وهو قبل وقتٍ صلاّها فيه، وإن لم يكن قادرا في أوّل الوقت على الصلاة في آخر الوقت. والفرق بين المعنيين ظاهر. وليس المراد بقوله: «عند الفعل» و«حال الفعل» هنا المعنى الذي ذكرناه في شرح ثاني الباب لقوله: «وقت الفعل »، بل المراد هنا حال وقوع الفعل، بخلاف ماثّمة .

إن قلت: بينهما وبينها منافاة من جهة اُخرى، فإنّها تدلّ على أنّ القدرة تتقدّم على الأمر والنهي البتّة، ومعلوم أنّ الأمر هو الطلب في وقت لفعل في وقت بعده، وإذا كانت القدرة قبل الأمر البتّة، كانت متعلّقة بفعل بعد ذلك .

قلت : المراد بالأمر والنهي هنا تعلّقهما، لا نفس الخطابات الشرعيّة؛ لأنّها قبل تولّد أكثر المكلّفين فضلاً عن قدرتهم، وتعلّقهما لا يتحقّق إلاّ في وقت طلب الشارع الفعل أو الترك فيه ، وهذا التعلّق تابع للقدرة وإن كان مجتمعا معها في الزمان ، فكونها قبل الأمر والنهي باعتبار القبليّة الذاتيّة والرتبيّة، لا باعتبار القبليّة الزمانيّة .

إن قلت : الأمر بالشيء قد يتعلّق به قبل وقته، كما في وجوب الحجّ على المستطيع قبل خروجه من بلده . .

ص: 554


1- التوحيد ، ص 352 ، باب الاستطاعة ، ح 19 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 38 ، ح 57 .
2- التوحيد ، ص 350 ، باب الاستطاعة ، ح 12 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 34 ، ح 44 .

قلت : لم يتعلّق إلاّ الأمر بمقدّمات أفعال الحجّ بتلك المقدّمات، وينسب إلى أفعال الحجّ مجازا، باعتبار أنّ ترك المقدّمات مشتمل على جميع إثم ترك الأفعال، لأنّه يفضي إلى ترك الأفعال مع مظنّة القدرة عليها في وقتها ، ولعلّ إطلاق الواجب على الواجب المطلق الذي حان وقت مقدّماته دونه مجازٌ. أو يُقال: الحجّ لغةً القصدُ،(1) وقد تعلّق الأمر به لا بأفعاله المعهودة، ومحقّق القصد هو الشروع في المقدّمات، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ».(2) قريب من هذا السؤال مع جوابه .

وقوله: «وقد فعلوا» معناه، وقد حدث مذهب الجبر بين أصحابنا أيضا .

وقيل : ويمكن الجمع بين الأخبار بما ذكرناه في الحواشي السابقة من أنّ الاستطاعة قسمان: ظاهريّة، وباطنيّة ؛ وأنّ الظاهريّة مناط التكليف، وأنّها متقدّمة على التكليف .(3) ألا ترى أنّ الحجّ يجب على من يموت في طريق مكّة، وأنّ الاستطاعة الجامعة للظاهريّة والباطنيّة إنّما تحصل في وقت الفعل والترك . انتهى .(4)

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ حُمْرَانَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) . المراد بها القدرة المطلقة، كما هو في إطلاقات أهل اللغة .(5)

(فَلَمْ يُجِبْنِي) . لعلّ ذلك لمّا استشعر منه أنّه على اعتقاد الحقّ، وإنّما أزعجه اشتباه اللفظ .

(فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ دَخْلَةً) أي دخولاً (أُخْرى ، فَقُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهَا) أي من الاستطاعة (شَيْءٌ) أي وهم (لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ شَيْءٌ أَسْمَعُهُ مِنْكَ).

(قَالَ : فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ مَا كَانَ فِي قَلْبِكَ) ؛ لأنّه محض اشتباه لفظ، فإنّ القدريّة يطلقون .

ص: 555


1- لسان العرب ، ج 2 ، ص 364 (حجج) .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .
3- في حاشية «أ»: «القائل هو مولانا محمدأمين الاسترابادي في حواشي الكافي (منه)».
4- حكاه في مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 72 .
5- النهاية ، ج 3 ، ص 142 (طوع) .

الاستطاعة على ما لا يجوز تعلّقه بطرفي الفعل والترك، فنفى أصحابنا تعلّقها بالطرفين ردّا عليهم، وصار ذلك باعثا على الاشتباه على السائل .

(قُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنِّي أَقُولُ : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَمْ يُكَلِّفِ الْعِبَادَ مَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ) . هذا إبطال لمذاهب المجبّرة، ومراده بالاستطاعة وبالإطاقة القدرة المطلقة بدليل قوله :

(وَأَنَّهُمْ لاَ يَصْنَعُونَ شَيْئا مِنْ ذلِكَ) أي من فعلهم، سواء كان طاعةً أم معصيةً ؛ أو المراد من المكلّف به .

(إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللّه ِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ) . يمكن أن يكون المراد بكلّ منها(1) ما ذكرنا في حدّه في الخصال السبع في شرح أوّل الخامس والعشرين، لكن لم(2) يراع الترتيب .

ويمكن أن يكون المراد بكلّ منها الأعمّ من الخصال الأربع الاُول من الخصال السبع التي مضت فيه، وهذا إبطال للأوّل من فردي التفويض .

(قَالَ : فَقَالَ : هذَا دِينُ اللّه ِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ وَآبَائِي . أَوْ كَمَا قَالَ) . شكّ الراوي أنّه قال معنى قوله: «هذا دين اللّه » إلى آخره ، بهذا اللفظ، أو بلفظ آخر . .

ص: 556


1- في «ج» : «منها» .
2- في «ج» : «لا» .

الباب الثاني والثلاثون: باب البيان و التعريف و لزوم الحجّة

الباب الثاني والثلاثون بَابُ الْبَيَانِ وَ التَّعْرِيفِ وَ لُزُومِ الْحُجَّةِ

فيه ستّة أحاديث، ويحتمل سبعةً إن جعل الثالث اثنين .

هذا على ما في النسخ ، والأظهر إخراج الحديث الأخير من هذا الباب وجعل عنوان الباب الرابع والثلاثين قبله، فيكون أحاديث هذا الباب خمسة أو ستّة، ويكون في «باب حجج اللّه على خلقه» حديث واحد هو آخر(1) هذا الباب، ويكون في باب هو الثالث والثلاثون خمسةُ أحاديث، فكأنّ التقديم والتأخير سهو(2) من الناسخين، واللّه أعلم.

«البيان» بالفتح مصدر «بنته» بالكسر والفتح: إذا أوضحته، ف«بان» متعدّ لازم . والمراد به هنا توضيح اللّه تعالى للبالغ العاقل الواضحات العقليّة، وهي الضروريّات كقولنا: الواحد نصف الاثنين، وما يجري مجراها من النظريات التي تُعلم بمحض العقل، أي بدون توقيف.

والمعرفة علم يحصل بنوع مشقّة . والمراد «بالتعريف» تعليم اللّه تعالى للبالغ العاقل المسائل التي فيها خلاف حقيقي مستقرّ ، أي لا تعلم إلاّ بتوقيف، وهي نحو الأحكام الشرعيّة.

و«الحجّة» بالضمّ ما يقصد به الغلبة على أحد من البرهان ونحوه . والمراد بلزومها ما يقابل بطلانها .

ص: 557


1- في «ج» : «أخير» .
2- في «ج» : - «سهو» .

والمقصود بهذا الباب أنّ اللّه بيّن وعرّف لمن أراد تكليفه، ولولا بيانه وتعريفه لدحضت حجّته .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، عَنِ ابْنِ الطَّيَّارِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ) . «ما» مصدريّة أو موصولة ، والمفعول الثاني محذوف فيهما، وهو العائد إلى الموصول؛ أي آتاهم إيّاه وعرّفهم إيّاه ؛ يُقال: آتى زيد فلانا شيئا على أفعل، أي أعطى .

وهذا إشارة إلى أمثال قوله تعالى في سورة البلد : «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(1)، أي نجد الخير والشرّ، كما يجيء في رابع الباب .

وهذا ردّ على الأشاعرة في قولهم: يجوز التكليف بما لا يطاق،(2) وفي قولهم: الوجوب عندنا ثابت بالشرع، نظر أو لم ينظر، ثبت الشرع أو لم يثبت ؛ لأنّ تحقّق الوجوب لا يتوقّف على العلم به، وإلاّ لزم الدور. وليس ذلك من تكليف الغافل في شيء، فإنّه يفهم التكليف وإن لم يصدّق به . انتهى .(3)

وأرادوا بالدور شبه الدور في الاستحالة؛ لأنّ العلم لا يتوقّف على المعلوم، بل هو تابع له.

واستدلالهم هذا سخيف؛ لأنّ عدم توقّف الوجوب على العلم به لا ينافي توقّفه على مقتضى للعلم به كالبيان والتعريف والنظر ونحو ذلك «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ»(4) ولم يدحض احتجاجه تعالى على أهل النار .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي2.

ص: 558


1- البلد (90) : 8 _ 10 .
2- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 201 و 230 . وحكاه عن الأشاعرة العلاّمة في نهج الحقّ ، ص 136 .
3- في حاشية «أ» : «قاله شارح مختصر الاُصول (منه)» .
4- الأنفال (8): 42.

عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الْمَعْرِفَةُ) أي المعرفة التي لا يلزم حجّته تعالى إلاّ بها، وهي معرفة الأحكام التكليفيّة التي يعذّب ويُثاب على مخالفتها وموافقتها .

(مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ؟) أي أهي ممّا يمكن للعباد تحصيلها وكسبها بعقولهم ونظرهم بدون توقيف من اللّه تعالى أم لا؟

و«من» الاُولى بكسر الميم حرف جرّ، والثانية بفتحها اسم استفهام مجرور المحلّ بالإضافة.

وقوله: «هي» مبتدأ، والظرف قبله خبره، والمجموع خبر «المعرفة ». ويحتمل أن يكون «هي» فاعلَ الظرف .

(قَالَ : مِنْ صُنْعِ اللّه ِ ، لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ) أي لا يمكن إلاّ بتعريف اللّه وتوقيفه .

وفيه ردّ على المعتزلة وعلى جمع توهّموا من صدق قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين أنّ العقل يستقلّ بمعرفة الأحكام العقليّة الواقعيّة بل الشرعيّة أيضا.(1) وتفصيله في محلّه .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَّارِ : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة التوبة :

(«وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَل_هُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ»(2)). يُقال : ما كان زيد ليفعل كذا: إذا بعد صدوره عنه لقبح الفعل وحكمة الفاعل . واللام لتأكيد النفي .

(قَالَ : حَتّى يُعَرِّفَهُمْ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل .

(مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ) . كلّ من «يرضيه» و«يسخطه» من باب الإفعال ، فالمستتر .

ص: 559


1- اُنظر الوافية للفاضل التوني ، ص 171 . ولا بأس بالنظر لرسالة في التحسين والتقبيح للشيخ جعفر السبحاني ، ص 120 .
2- التوبة (9) : 115 .

المرفوع ل«ما» والبارز المنصوب للّه . ويمكن أن يكونا من المجرّد ، فالمستتر المرفوع للّه والبارز المنصوب ل«ما».

و«رضيه» كعلمه: ضدّ «سخطه»؛ وأرضاه: ضدّ أسخطه؛ وسخطه كعلمه ، أي كرهه؛ وأسخطه، أي أغضبه.

ظاهره أنّ المراد بالهداية البيان، أي التعمير إلى البلوغ وإعطاء العقل، وبالتبيين التعريف، أي إرسال الرُّسل وإنزال الكتب ، والمراد بالإضلال إمّا مقابل التعريف، فيكون «حتّى» للاستثناء المنقطع الذي لا يمكن فيه تسليط العامل، نحو: ما زاد هذا إلاّ ما نقص ، وكقول الشاعر :

واللّه لا يذهب شيخي باطلاً حتّى أبير مالكا وكاهلاً(1)

فيكون مفاد الآية ما يجيء في أوّل «كتاب الحجّة» من الاضطرار إلى الحجّة ،(1) ويكون أفعل بمعناه الحقيقي.

وإمّا الاحتجاج على العصاة، فيكون أفعل بمعنى عدّ الشيء ذا صفة، وهو الأنسب بعنوان الباب ، ولذا يُقال : المراد أنّ اللّه لا يحتجّ على قوم ولا يحكم بضلالتهم بعد إذ هداهم إلى الإيمان إلاّ بعد أن يعلمهم . انتهى(2) مضمونه. فما بعد حتّى خارج عن حكم ما قبلها .

(وَقَالَ). هذا من كلام ثعلبة، وضميره راجع إلى حمزة؛ أي وسأله عن قوله تعالى في سورة الشمس :

(«فَأَلْهَمَهَا) أي النفس (فُجُورَهَا وَ تَقْوَل_هَا»،(3) قَالَ : بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي وَمَا تَتْرُكُ) . يعني المراد بالإلهام البيان والتوقيف بالوحي ، والمراد بفجورها ما فيه فجورها وهو ما تترك، أي ما يجب عليها أن تترك، وبتقواها ما فيه تقواها، وهو ما تأتي، أي ما يجب عليها أن .

ص: 560


1- الكافي، ج 1، ص 168، باب الاضطرار إلى الحجّة.
2- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين الإسترابادي في الفوائد المدنيّة (منه)» . الفوائد المدنيّة ، ص 429 و 431 .
3- الشمس (91) : 8 .

تفعله ؛ فلفظ «تأتي» و«تترك» خبر، ومعناهما كالأمر. والنشر على غير ترتيب اللفّ .

(وَقَالَ ) في سورة الإنسان :

(«إِنَّا هَدَيْنَ_هُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا»،(1) قَالَ : عَرَّفْنَاهُ ) ؛ من باب التفعيل .

(إِمَّا آخِذٌ) أي أخذ سبيل الحقّ (وَإِمَّا تَارِكٌ) .

والرفع في «آخذ» و«تارك» في الحديث للإشارة إلى أنّ آخذا وتاركا في الآية حالان مقدّرتان عن الضمير المنصوب في «هديناه»، فإنّ الهداية قبل نفس الشكر والكفران .

(وَعَنْ قَوْلِهِ). من كلام ثعلبة ؛ أي وسأله عن قوله في سورة فصّلت :

(«وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَ_هُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»،(2) قَالَ : عَرَّفْنَاهُمْ) ؛ من باب التفعيل والمفعول محذوف، أي سبيل الحقّ .

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي لم يعملوا على وفق التعريف، فهم استحبّوا عدمه على وجوده .

(وَهُمْ يَعْرِفُونَ) . أي سبيل الحقّ . والتعدية ب«على» لتضمين الاستحباب معنى الترجيح .

(وَفِي رِوَايَةٍ : بَيَّنَّا لَهُمْ) . أي بدل «عرّفناهم».

كلّ من الهداية والتعريف قد يستعمل في التوفيق وقد يستعمل في بيان الحكم، والبيان لا يستعمل في التوفيق إلاّ نادرا بقرينة.

إن جعلنا هذا حديثا على حِدة، كان أحاديث الباب سبعةً .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ) في سورة البلد :

(«وَ هَدَيْنَ_هُ النَّجْدَيْنِ»؟(3) قَالَ : نَجْدَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) . النجد : الطريق الواضح المرتفع ، .

ص: 561


1- الإنسان (76) : 3 .
2- فصّلت (41) : 17 .
3- البلد (90) : 10 .

ونجد الخير: التصديق بربوبيّة ربّ العالمين ولوازمه، كالكفر بالطاغوت . ونجد الشرّ: إنكار ربوبيّة ربّ العالمين ولوازمه، كالإيمان بالطاغوت .

الخامس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، هَلْ جُعِلَ) ؛ بصيغة المجهول ، ويحتمل المعلوم، فيكون فيه ضمير اللّه .

(فِي النَّاسِ أَدَاةٌ يَنَالُونَ بِهَا الْمَعْرِفَةَ؟) أي معرفة الأحكام الشرعيّة التكليفيّة التي يحتجّ اللّه على مخالفها .

والمقصود السؤال عن استقلال عقول الناس بمعرفتها بدون توقيف وعدم استقلالها .

والأداة: الآلة ، والمراد بها هنا العقل وقوّة الذكاء والفطنة ونحو ذلك .

(قَالَ : فَقَالَ : «لاَ») . ردٌّ على المعتزلة، كما مضى في شرح ثاني الباب .

(قُلْتُ : فَهَلْ كُلِّفُوا) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(الْمَعْرِفَةَ؟). مقصوده السؤال عن جواز التكليف بها، مع أنّها لا تطاق وإن كان اللفظ ظاهرا في السؤال عن الوقوع .

(قَالَ : لاَ) . ردٌّ على الأشاعرة، كما مضى في شرح أوّل الباب .

(عَلَى اللّه ِ الْبَيَانُ) . استئنافٌ بياني لقوله : لا ؛ أي يجب على اللّه في التكليف بيان الحكم التكليفي بإيصال الأمر الصريح مثلاً إلى المكلّف .

(«لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّوُسْعَهَا»(1)الطلاق (65) : 7 .(2)) . استئنافٌ لبيان الاستئناف السابق باستشهاد من سورة البقرة .

(وَ«لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءَاتَ_ل_هَا»(2)) . العائد(3) إلى «ما» محذوف هو المفعول الثاني، .

ص: 562


1- البقرة
2- : 286 .
3- في «ج» : «والعائد» .

أي ما آتاها إيّاه ؛ والمراد: ما أقدرها عليه . والاستشهاد من سورة الطلاق .

(قَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ(1) : «وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْما بَعْدَ إِذْ هَدَل_هُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ»(2) قَالَ : حَتّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ) . مضى في ثالث الباب .

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ سَعْدَانَ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ لَمْ يُنْعِمْ) ؛ بصيغة معلوم باب الإفعال .

(عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً إِلاَّ وَقَدْ أَلْزَمَهُ فِيهَا الْحُجَّةَ مِنَ اللّه ِ) أي زاد بسببها تكليفا له، فزاد إلزام الحجّة فيها عليه بعد البيان والتعريف .

(فَمَنْ) ؛ الفاء للتفصيل، و«من» موصولة .

(مَنَّ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من المضاعف . يُقال : منَّ عليه منّا، أي أنعم عليه. ومنه «المنّان» من أسماء اللّه تعالى .

(اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ قَوِيّا) أي في بدنه .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا كَلَّفَهُ) ، كالجهاد والحجّ ونحوهما من الاُمور التي لا تتأتّى عن الضعيف، فلا يكلّف بها إلاّ القويّ.

جعل المكلّف به نفسَ الحجّة مجازا، باعتبار أنّه باعث الحجّة باعتبار الترك، أو باعتبار الفعل أيضا إن جعلنا الحجّة أعمّ من بيّنة(3) هلاك الهالك ونجاة الناجي .

(وَاحْتِمَالُ) ؛ بالرفع عطفٌ على القيام ؛ أي تحمّل ثقل .

(مَنْ هُوَ دُونَهُ) أي من هو قريب منه، كالجار والولد والرعيّة .

(مِمَّنْ) أي مِن(4) جملة مَن (هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ) .

المقصود أنّه يجب(5) عليه احتمال كلّ ضعيف ، بل كلّ قويّ يحتمل من يناسبه . .

ص: 563


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- التوبة (9) : 115 .
3- في «ج» : «إن جعلها الحجّة أعمّ عن بيّنة» بدل «إن جعلنا الحجّة أعمّ من بيّنة» .
4- في «أ» : «ممّن» .
5- في «ج» : «لا يجب» .

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لا يقتصر في الاحتمال على احتمال الضعيف المتهالك كما في إغاثة المستغيث، بل يجب عليه احتمال من كان أقرب الضعفاء إليه قوّة أيضا، كما في دفع القويّ من الخصم عن الضعيف من المسلمين في الجهاد إذا أحسّ من نفسه رباطة جأش وقوّة بدن أكثر .

(وَمَنْ مَنَّ اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ مُوَسَّعا) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل .

(عَلَيْهِ) . قائم مقام الفاعل، والمفعول به أيضا محذوف، وهو الرزق .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ مَالُهُ ) أي الحقوق الماليّة المفروضة من الزكاة والخمس والحجّ .

(ثُمَّ تَعَاهُدُهُ الْفُقَرَاءَ) أي عدم نسيانه إيّاهم .

(بَعْدُ) . مبنيّ على الضمّ؛ لأنّها من الغايات المقطوعة عن الإضافة، أي بعد أداء المفروضات، فإنّ في المال حقوقا سوى الزكاة كما يجيء في «كتاب الزكاة» في «باب فرض الزكاة، وما يجب في المال من الحقوق» .(1)

(بِنَوَافِلِهِ) أي عطاياه. وهي لغةً أعمّ من أن تكون مفروضة شرعا، كما في سفر الحجّ فيه كثرة المُشاة الفقراء المحتاجين إلى عطيّة من معه أكثر من نفقته المحتاج إليها، ولولاها لهلكوا .

(وَمَنْ مَنَّ اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ شَرِيفا) أي كريما بأن يكون من العلماء، كما مرّ في «كتاب العقل» في «باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه ».

ويحتمل أن يكون المراد أعمّ من كمال العلم وغيره من الكمالات .

(فِي بَيْتِهِ) أي عند أهل بيته، أو عند الناس في جملة أهل بيته .

(جَمِيلاً فِي صُورَتِهِ) أي عزيزا غير ذليل .

والجمال في الصورة كصباحة الوجه يُطلق على معنيين :

الأوّل : كون الشخص مشهورا بالصفات الحسنة، عزيزا بين الناس .

والثاني : أن يكون على قيافة حسناء لا شوهاء . وقد فسّر بهما قولهم في إمامة .

ص: 564


1- الكافي ، ج 3 ، ص 496 .

الصلاة أنّه مع التساوي يقدّم الأصبح وجها .

والأوّل هنا أنسب بقوله : «الضعفاء» .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللّه َ(1) عَلى ذلِكَ) أي يعترف بأنّه نعمة من اللّه ساقها إليه قضاؤه وقدره، ولو شاء لذهب بها؛ فيقيم بحقوق هذه النعمة، كإرشاد المسترشد، وإعانة الضعيف، والترحّم عليه .

(وَلاَ يَتَطَاوَلَ(2)) أي لا ينظر نظرَ إهانةٍ، ولا يفتخر، كمن قال: «إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ»(3) وأصله طلب الطَوْل والزيادة كالاستطالة .

(عَلى غَيْرِهِ ؛ فَيَمْنَعَ) أي التطاول سبب لأن يمنع .

(حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ) ؛ هي إكرام مؤمنيهم وزيارتهم، وعيادة مريضهم، ونحو ذلك . ويحتمل أن يكون المراد إرشاد ضالّهم، وإدراك لهيفهم، ونحو ذلك .

(لِحَالِ شَرَفِهِ وَجَمَالِهِ) . إشارةٌ إلى أنّ الشرف والجمال أوجب زيادة في رعاية الحقوق كما مضى في «كتاب العقل» في سادس «باب صفة العلماء» من حكاية عيسى عليه السلام ؛ فلا يجعله سببا للنقصان في رعاية الحقوق .9.

ص: 565


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- في الكافي المطبوع : «وأن لا يتطاول» .
3- القصص (28): 78؛ الزمر (39): 49.

الباب الثالث والثلاثون

الباب الثالث والثلاثون (1)

باب فيه حديث واحد .

المقصود بهذا الباب بيان أمرين :

الأوّل : أنّ كلّ معرفة _ أي سواء كانت من قبيل معرفة الأحكام الشرعيّة التي لا تحصل إلاّ بالوحي إلى الرسل كما مضى الكلام فيه في الباب السابق، أم من غيرها كالضروريّات والنظريّات التي تستقلّ عقول العباد بها بالنظر بدون توقيف _ هي فعل اللّه تعالى، أي ليس شيء منها فعل العباد ؛ فحصول النظري منها بعد النظر الصحيح إنّما هو بإجراء عادة اللّه ليس باللزوم العقلي، وكذا حصول الضروري منها للعاقل بإجراء العادة .

وهذا للردّ على من زعم أنّ العلم النظري فعل النفس اختيارا.(2)

ويبطله أنّ وقت العلم النظري بعد تمام النظر، ولا قدرة للعبد قبل وقت فعل على ذلك قبل الفعل في ذلك الوقت، كما مرّ في أحاديث «باب الاستطاعة»، وبعد تمام النظر لا يمكنهم دفع علم يحصل، ولا فعل علم لا يحصل .

الثاني : أنّه ليس أيضا شيء من أفراد مطلق المعرفة مولّدا من فعل اختياري للعباد بحيث يكون كقطع اللحم عند إمرارهم السكّين إمرارا مخصوصا عليه، فإنّ صحّة النظر ليس باختيار العباد؛ لأنّ تذكّر مقدّمات يحتاج إليها وعدمَ نسيانها إلى آخر النظر ليس باختيارهم .

ص: 566


1- في الكافي المطبوع : + «باب اختلاف الحجّة على عباده» .
2- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 229 ؛ والفخر الرازي في تفسيره ، ج 10 ، ص 8 ؛ والقاضي في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 164 .

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سِتَّةُ أَشْيَاءَ) أي ممّا يتوهّم أنّه يكون للعباد فيها صنع؛ لئلاّ ينتقض الحصر بنحو الصحّة والمرض .

(لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ) أي تدبير .

والتدبير في شيء موجود _ مثلاً _ على أحد أمرين : الأوّل : إيجاده اختيارا ؛ الثاني : إيجاد ما جرى العادة بتحقّقه عقيبه اختيارا .

(الْمَعْرِفَةُ) أي العلم، أعمّ من التصديقي والتصوّري. وذلك لأنّها تتخلّف كثيرا وبحسب العادة عمّا باختيار العباد من وسائلها .

(وَالْجَهْلُ) أي عدم العلم عمّا من شأنه العلم، أعمّ من أن يكون جهلاً بسيطا أو مركّبا. وذلك لأنّ وجود شيء إذا لم يكن باختيار أحد، امتنع أن يكون عدمه باختياره . وقيل : يعني الجهل المركّب ، أي الصورة الإدراكيّة الغير المطابقة للواقع . انتهى .(1)

(وَالرِّضَا) . المراد ضدّ الغضب، وقد يُطلق على ضدّ السخط، كما في الرضا بقضاء اللّه تعالى، وهو ليس ممّا نحن فيه؛ لأنّه مكلّف به .

(وَالْغَضَبُ ، وَالنَّوْمُ ، وَالْيَقَظَةُ) . ظاهر ممّا ذكرنا في المعرفة . .

ص: 567


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين الإسترابادي في حواشي الكافي (منه)» .

الباب الرابع والثلاثون: باب حجج اللّه على خلقه

الباب الرابع والثلاثون بَابُ حُجَجِ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ

فيه أربعة أحاديث .

المقصود بهذا الباب بيان أنّه لا حجّة للّه على الجاهل فيما جهل، سواء كان جهله ممّا لا يرتفع بغير توقيف كجهله بالأحكام الشرعيّة اُصولها وفروعها ، أم ممّا يرتفع بغيره كجهله بأنّ للعالم صانعا، وأنّ محمّدا نبيّ ونحو ذلك ، فإنّ جهله بالحكم الشرعي الذي سمعه من النبيّ عليه السلام حينئذٍ يرتفع بغير توقيف أي خطاب جديد .

وبهذا يحصل الفرق بين مقصود هذا الباب ومقصود باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ الْمَحَامِلِيِّ) ؛ بفتح الميم الاُولى والمهملة وكسر الميم ثانيا .(1) ومحمل كمجلس: شقّان على البعير يحمل فيهما العديلان ، والجمع «محامل»، والنسبة إليها للبيع .(2)

(عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لَيْسَ لِلّهِ عَلى خَلْقِهِ أَنْ يَعْرِفُوا) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب حذف مفعوله للعموم ، أي أيّ شيء كان ممّا من شأنه التكليف به .

(وَلِلْخَلْقِ عَلَى اللّه ِ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل ، أي أن يعرف كلّ أحد ما

ص: 568


1- في «ج» : «الثانية» .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 361 ؛ تاج العروس ، ج 14 ، ص 171 (حمل) .

يكلّفه به، وذلك بصرف دواعيه إلى النظر فيما يعلم به الصانع للعالم، وفي معجزة النبيّ، بحيث يحصل عقيبَهما العلم بهما، ثمّ إيصال الخطاب التكليفي بوجوب التصديق أي الطوع لما علم ونحو ذلك .

(وَلِلّهِ عَلَى الْخَلْقِ إِذَا عَرَّفَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا) أي يعملوا به . وقيل : أن يعترفوا بذلك، ويقرّوا به . انتهى .(1)

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَجَّالِ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب، أو مجهول باب التفعيل .

(شَيْئا) أي مطلقا؛ فيرجع إلى السلب الكلّي . ويحتمل أن يكون المراد شيئا مفروضا، فيرجع إلى السلب الجزئي .

(هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟) أي من الإثم مطلقا، أو في ذلك الشيء .

(قَالَ : «لاَ») .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيى ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا حَجَبَ اللّه ُ عَنِ الْعِبَادِ) أي لم يعرّفهم إيّاه من الأحكام الواقعيّة .

(فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ) أي لا إثم لهم في عدم العمل به .

الرابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبَانِ الاْءَحْمَرِ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الطَّيَّارِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ لِي : «اكْتُبْ») . مفعوله محذوف، أي ما أقول .

(فَأَمْلى) . الإملاء أن يقول أحد شيئا، ويكتبه آخر .

(عَلَيَّ : إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة وشدّ النون ، ويحتمل الفتح والتخفيف بأن تكون مفسّرة؛ .

ص: 569


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين في حواشي الكافي (منه)» .

لأنّ الإملاء يتضمّن معنى القول. ويكون حينئذٍ من كلام حمزة .

(مِنْ قَوْلِنَا). إشارةٌ إلى خلاف من خالف .

(إِنَّ اللّه َ يَحْتَجُّ عَلَى الْعِبَادِ) أي في يوم القيامة .

(بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ) . مضى في أوّل الثاني والثلاثين .(1)

(ثُمَّ) ؛ بضمّ المثلّثة للتراخي، إشارة إلى أنّ للّه حجّتين: حجّةً باطنة(2) هي العقول ولوازمها ، وحجّة ظاهرة هي الرسل والكتب ولوازمها، كما يظهر ممّا مضى في «كتاب العقل» في ثاني عشر الأوّل ؛(3) وإلى أنّ الحجّة الظاهرة بعد الحجّة الباطنة بزمان حتّى يتمكّن الباطنة(4) فيهم، ويتمّ احتجاج اللّه .

(أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ) . لمّا كان الإنزال على النبيّ للتبليغ إليهم قال «عليهم». ويحتمل أن يكون من قبيل نسبة شيء متعلّق بواحد من جنس إلى ذلك الجنس، كما في قوله : «فَنَادَتْهُ الْمَلَ_آل_ءِكَةُ» .(5)

(فَأَمَرَ فِيهِ وَنَهى : أَمَرَ فِيهِ بِالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ) . تخصيصهما بالذكر. لأنّهما العمدة، أو لأنّهما أعمّ تكليفا من غيرهما من أفعال الجوارح .

(فَنَامَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله عَنِ الصَّلاَةِ ) . تعديته ب«عن» لتضمينه معنى الغفلة، يجيء في «كتاب الصلاة» في تاسع «باب من نام عن الصلاة أو سها عنها» أنّها كانت صلاةَ الصبح .(6)

(فَقَالَ) أي اللّه تعالى : (أَنَا أُنِيمُكَ ، وَأَنَا أُوقِظُكَ ) ؛ كلاهما بصيغة المعلوم المضارع المتكلّم من باب الإفعال، ومضى في الباب الثاني والثلاثين ما يظهر به معناهما .

(فَإِذَا قُمْتَ) أي من نوم فاتك فيه صلاة مثل هذا النوم. ويعلم منه حكم هذا أيضا . .

ص: 570


1- أي في الحديث 1 من باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .
2- في «ج» : + «على» .
3- أي في الحديث 12 من كتاب العقل والجهل .
4- في «ج» : «الباطن» .
5- آل عمران (3) : 39 .
6- الكافي ، ج 3 ، ص 294 ، ح 9 .

(فَصَلِّ ؛ لِيَعْلَمُوا) أي الاُمّة (إِذَا أَصَابَهُمْ ذلِكَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ ، لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ : إِذَا نَامَ عَنْهَا هَلَكَ ) . إشارةٌ إلى بطلان استبعاد عوامّ الناس أن ينام رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن صلاة فريضة .

(وَكَذلِكَ الصِّيَامُ) ؛ من تتمّة قول اللّه .

(أَنَا أُمْرِضُكَ ، وَأَنَا أُصِحُّكَ) . استئنافٌ لبيان أنّ حال الصوم مع المرض كحال الصلاة مع النوم، وكلاهما من باب الإفعال بصيغة المعلوم من المضارع المتكلّم .

(فَإِذَا شَفَيْتُكَ فَاقْضِهِ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَكَذلِكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي جَمِيعِ الاْءَشْيَاءِ ، لَمْ تَجِدْ أَحَدا) أي من العُصاة ، ويحتمل المكلّفين .

(فِي ضِيقٍ) . هو تكليف الغافل وتأثيمه على المخالفة، أو تكليف المجبور .

(وَلَمْ تَجِدْ أَحَدا) أي من العصاة .

(إِلاَّ وَلِلّهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ) . إشارةٌ إلى أنّه لو كان ضيق كتكليف الغافل أو المجبور جبر جهم بن صفوان(1) أو الأشاعرة، أو أبي الحسين،(2) لم يكن للّه في القيامة إتمام حجّة ولا لوم .

(وَلِلّهِ فِيهِ) . المقصود أنّه مع عدم الضيق ليس فيه تفويض أيضا .

(الْمَشِيئَةُ) . المراد بها ما يشمل الخصال الأربع الاُول من السبع التي ذكرت في أوّل الخامس والعشرين(3) أو اُولاها.

وهذا لدفع أوّل تفويضي المعتزلة كما مضى في شرح أوّل الخامس والعشرين .

(وَلاَ أَقُولُ : إِنَّهُمْ مَا شَاؤُوا) أي كلّ ما شاؤا في وقت أن يصنعوه في ثاني الوقت .

(صَنَعُوا) أي البتّة في ثاني الوقت بدون توقّف على الإذن، يعني ليسوا مستقلّين في القدرة.

وهذا لدفع ثاني تفويضي المعتزلة . .

ص: 571


1- هو جهم بن صفوان السمرقندي رأس الجهميّة، كان ينكر الصفات ويقول بخلق القرآن . قال الذهبي : الضالّ المبدع ، هلك في زمان صغار التابعين، وقد زرع شرّا عظيما، وكانت ولادته سنة 128 هجريّة . ميزان الاعتدال ، ج 1 ، ص 426 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 141 .
2- الظاهر أنّ المراد أبو الحسين البصري المعتزلي كما يظهر من استعمالات المتكلّمين .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللّه َ يَهْدِي وَيُضِلُّ) . استئنافٌ لبيان قوله : «وللّه فيه المشيّة» أي يوفّق ويخذل بدون جبر.

ويحتمل أن يكون المراد: يخلق السعادة والشقاء بدون جبر، كما مضى في أحاديث «باب السعادة والشقاء» .

(وَقَالَ : وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ بِدُونِ سَعَتِهِمْ) أي الهداية والإضلال لا يكون بالجبر، بل مع كمال القدرة ودون السعة .

(وَكُلُّ شَيْءٍ أُمِرَ النَّاسُ بِهِ ، فَهُمْ يَسَعُونَ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَسَعُونَ لَهُ) ؛ بفتح السين المهملة فيهما .

(فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ ، وَلكِنَّ النَّاسَ) أي العصاة، أو أكثر الناس .

(لاَ خَيْرَ فِيهِمْ) ؛ لسوء اختيارهم المخالفةَ مع سعتهم للطاعة .

(ثُمَّ تَلاَ عليه السلام ) من سورة التوبة لتصوير أنّ كلّ شيء لا يسعون له، فهو موضوع عنهم في ضمن مثال .

(«لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ»(1)) : ضيق في ترك الجهاد .

(فَوُضِعَ عَنْهُمْ) ؛ بصيغة المجهول، وفيه ضمير التكليف؛ أو المعلومِ، وفيه ضمير اللّه . وهذا كلام الإمام لتفسير الآية .

(«مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» .(2) هذا من الآية وبينه وبين السابق واسطة هي إذا نصحوا للّه ورسوله ، ولم تنقل هنا للإشارة إلى أنّ قوله: «ولا على الذين» عطف على قوله: «ما على المحسنين» لا على سابقه .

(قَالَ : فَوُضِعَ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم .

(عَنْهُمْ ؛ لاِءَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ) .2.

ص: 572


1- التوبة (9) : 91 .
2- التوبة (9): 91 _ 92.

الباب الخامس والثلاثون: باب الهداية أنّها من اللّه

الباب الخامس والثلاثون بَابُ الْهِدَايَةِ أَنَّهَا مِنَ اللّه ِ(1)

فيه أربعة أحاديث .

المراد بالهداية هنا التوفيق ، أي فعل أو ترك منه تعالى يعلم تعالى أنّ العبد يختار به الطاعة، أو يمتنع به عن المعصية أي بدون قسر وإلجاء.

وقوله «أنّها» بفتح الهمزة بدل اشتمال للهداية . والمراد بكونها من اللّه أنّها لا يقدر عليها غيره تعالى ، بمعنى أنّ الناصح لفاسق لا يقدر على ما يعلم(2) ذلك الناصح قبله(3) فعله أنّه لو فعله به لاهتدى باختياره البتّة . نعم ، قد يكون ذلك التوفيق من اللّه بنصيحة شخص، ولكنّ النصيحة بدون التوفيق لا يفيد أصلاً، كما في قوله تعالى حكايةً عن نوح في سورة هود : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(4) .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ(5) السَّرَّاجِ ) . الظاهر _ كما في بعض النسخ _ : عن أبي إسماعيل، فإنّ مضمون هذا الحديث يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب في ترك دعاء الناس»

ص: 573


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
2- في «ج» : «ما لم يعلم» .
3- في «ج»: «قبل».
4- هود (11) : 34 .
5- في الكافي المطبوع : «عن أبي إسماعيل» .

وفيه: «عن أبي إسماعيل». واسمه عبداللّه بن عثمان،(1) كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الصلاة» في سادس «باب صلاة الحوائج» .(2)

(عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ ثَابِتٍ أَبِي سَعِيدٍ) . الظاهر «عن ثابت أبي سعيد»(3) وهو الموافق لما في «كتاب الإيمان والكفر ».(4) وفي بعض النسخ: «ثابت بن أبي سعيد» .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا ثَابِتُ ، مَا لَكُمْ وَلِلنَّاسِ) ؛ تبعيد، كما يُقال : ما لابن آدم وللفخر .

(كُفُّوا) أي أنفسكم (عَنِ النَّاسِ) أي عن اختلاطهم للإرشاد .

(وَلاَ تَدْعُوا أَحَدا إِلى أَمْرِكُمْ) أي دينكم . المراد النهي عن ذلك في زمن التقيّة .

(فَوَ اللّه ِ) . هذا تسلية لهم، وحاصل التسلية أنّ فائدة دعوتكم إمّا للثواب على العمل الصالح المطلوب للشارع ، وإمّا محض إيمان المدعوّ .

والأوّل منتف في زمن التقيّة ونحوها ، والنهي عن التغرير بالنفس، بل فوق التغرير بالنفس، وهو التغرير بالإمام عليه السلام .

والثاني باطل؛ لأنّه إن علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم البتّة وإن لم تدعوهم، وإن لم يعلم اللّه فيهم خيرا فلا يؤمنوا بدعوتكم، كما في قوله تعالى حكايةً عن نوح في سورة هود : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» ،(5) وقوله في سورة الرعد : «أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللّه ُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعا»(6) ، ففعلكم لهذه الفائدة عبث . وإلى هذا أشار بقوله :

(لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الاْءَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَهْدُوا عَبْدا يُرِيدُ اللّه ُ ضَلاَلَتَهُ ، مَا .

ص: 574


1- الكافي ، ج 2 ، ص 313 ، ح 2 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 478 ، ح 6 .
3- في «ج» : «عن ثابت بن أبي سعيد» .
4- الكافي ، ج 2 ، ص 213 ، باب في ترك دعاء الناس ، ح 2 .
5- هود (11) : 34 .
6- الرعد (13) : 31 .

اسْتَطَاعُوا). المراد بالاستطاعة القدرة، فعدّي ب«على» في قوله :

(عَلى أَنْ يَهْدُوهُ ؛ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الاْءَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يُضِلُّوا عَبْدا يُرِيدُ اللّه ُ هُدَاهُ ،(1) مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ) أي على أن ، أو لأن (يُضِلُّوهُ ، كُفُّوا عَنِ النَّاسِ ، وَلاَ يَقُولُ) . خبر في معنى النهي .

(أَحَدٌ : عَمِّي وَأَخِي وَابْنُ عَمِّي وَجَارِي ؛ فَإِنَّ اللّه َ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، طَيَّبَ) ؛ بشدّ الخاتمة بصيغة المعلوم، ويحتمل المجهول .

(رُوحَهُ) . كنايةٌ عن خلق السعادة . وقد مرّ في «باب السعادة والشقاء» أنّهما من خلق اللّه .

(فَلاَ يَسْمَعُ مَعْرُوفا) أي مقبولاً في نفس الأمر، وفي عقله .

(إِلاَّ عَرَفَهُ) أي مالَ إليه .

(وَلاَ مُنْكَرا) أي مكروها في نفس الأمر، وفي عقله .

(إِلاَّ أَنْكَرَهُ) أي كرهه، ومال إلى تركه .

(ثُمَّ يَقْذِفُ اللّه ُ) بالتوفيق .

(فِي قَلْبِهِ كَلِمَةً) ؛ هي كلمة التقوى .

(يَجْمَعُ) ؛ بصيغة المعلوم. وفيه ضمير اللّه أو عبد . ويحتمل المجهول .

(بِهَا أَمْرَهُ) أي يتجاوز عن مرتبة الميل إلى الحقّ إلى مرتبة كونه في حاقّ الحقّ، فيجمع متشتّت أمر دينه بذلك .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : إِنَّ اللّه َ(2) إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، نَكَتَ) ؛ بالنون والمثنّاة فوق، بصيغة معلوم باب نصر . وأصل النكت أن يضرب بطرف قضيب في الأرض، فيؤثّر فيها . .

ص: 575


1- في الكافي المطبوع : «هدايته» .
2- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

(فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً) ؛ بضمّ النون وسكون الكاف كالنقطة، وهي أثر النكت؛ ونصبها على المفعوليّة . ويحتمل المصدريّة بمسامحة .

(مِنْ نُورٍ) . كنايةٌ عن خلق السعادة .

(وَفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِهِ) . كنايةٌ عن سماعه للحقّ .

(وَوَكَّلَ بِهِ) ؛ بشدّ الكاف .

(مَلَكا يُسَدِّدُهُ ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءا ، نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ ، وَسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِهِ ، وَوَكَّلَ بِهِ شَيْطَانا يُضِلُّهُ) . جميع هذه مع بقاء قدرتهما على الطاعة والعصيان ، وويل لمن قال: كيف هذا وكيف هذا، كما مرّ في «باب الخير والشرّ» .

(ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الاْآيَةَ) من سورة الأنعام ؛ بيانا لكون خلق السعادة والشقاء من اللّه :

(«فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلَ_مِ وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ»(1)) .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ :(2) اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ) أي دينكم (لِلّهِ ) أي لثوابه ورضاه .

(وَلاَ تَجْعَلُوهُ لِلنَّاسِ) أي لإظهار الكمال والغلبة على الخصم في الجدال .

(فَإِنَّهُ مَا كَانَ لِلّهِ ) أي ما كان قصد فاعله أن يكون للّه .

(فَهُوَ لِلّهِ ) أي يقبله اللّه ، ويصعد إليه .

(وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ ، فَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللّه ِ ، وَلاَ تُخَاصِمُوا النَّاسَ) أي المخالفين (لِدِينِكُمْ) أي لميلهم إلى دينكم .

(فَإِنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ) ؛ بفتح الميم الاُولى وسكون الثانية وفتح المهملة .

ص: 576


1- الأنعام (6) : 125 .
2- في الكافي المطبوع : «عن أبيه ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول» بدل «عن أبيه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام . قال : سمعته يقول» .

ومعجمة، اسم مكان للكثرة .

(لِلْقَلْبِ) أي يكون مرض القلب في المخاصمة كثيرا، فإنّ معنى المخاصمة أن يتجاوز في دعاء أهل الباطل إلى الحقّ حدَّ النصيحة ، وهذا يجعل أهل الباطل أشدّ انهماكا في الباطل ؛ فالمراد بالقلب قلب الناس . ويحتمل أن يكون المراد قلب المخاطبين ، ويؤيّده ما مضى في خامس «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة» من قوله : «وتردي صاحبها» .

(إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَ(1)تَعَالى) ؛ تسلية لهم ليتركوا اتّباع دواعي المجادلة .

(قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) في سورة القصص : («إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَ_كِنَّ اللّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ»(2)) ؛ أي المراد بالهداية في الموضعين من الآية التوفيق، وهو أن يفعل ما يعلم فاعله أن(3) لو فعله لاختار الموفّق الطاعة بدون جبر، ولا يقدر على هذا غير من بيده ملكوت السماوات والأرض، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة، وإذا عجز عنه نبيّه صلى الله عليه و آله ، ولذا دعاه اللّه واُمّته إلى الإعراض إذا سمعوا من المخالفين اللغو فأنتم عنه أعجز .

(وَقَالَ) في سورة النحل : («أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ»(4)) .

ظاهر ذكر هذه الآية هنا أنّ المراد بالإيمان في قوله تعالى : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»(5) الإيمان بالاختيار، كما هو ظاهر قوله : «لآمن» ، وظاهر ترتيب الإكراه بالفاء على عدم المشيّة المدلول عليه ب«لو»، فإنّه يدلّ على أنّ جذبك إيّاهم إلى الإيمان مع عدم مشيّة اللّه اختيارهم الإيمان لا يتصوّر إلاّ بإكراهك قلوبهم على الإيمان؛ لاستحالة وقوع ما لم يشأ اللّه تعالى، وهو هنا اختيارهم الإيمان، وأنت لا تقدر على الإكراه لقلوبهم على ذلك، فلا تجاوز في الدعاء إلى الإيمان حدّ المأمور به، ولا تتعب .

ص: 577


1- في الكافي المطبوع : - «تبارك و» .
2- القصص (26) : 56 .
3- في «ج» : «أنّه» .
4- يونس (10) : 99 .
5- يونس (10) : 99 .

نفسك بشدّة الحرص على إيمانهم والأسف على عدمه .

قيل : وهو دليل على القدريّة، فإنّه(1) تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وإنّ من شاء إيمانه يؤمن لا محالة ، والتقييد بمشيّة الإلجاء خلاف الظاهر . انتهى .

إن قلت : ينافي هذا ما رواه ابن بابويه في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : سأل المأمون يوما عليّ بن موسى الرضا عليه السلام فقال له : يا ابن رسول اللّه ما معنى قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ»(2)؟ فقال الرضا عليه السلام : «حدّثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السلام [قال:] إنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : لو أكرهت يارسول اللّه مَن قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدوّنا .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما كنت لاقي(3) اللّه عزّ وجلّ ببدعة لم يحدث لي(4) فيها شيئا، وما أنا من المتكلّفين ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : يا محمّد «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثوابا ولا مدحا ، ولكنّي اُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين ليستحقّوا منّي الزُّلفى والكرامة ودوام الخير(5) في جنّة الخُلد «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . وأمّا قوله عزّ وجلّ : «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ»[فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، ولكن على».

ص: 578


1- في «ج» : «في أنّه» بدل من «فإنّه» .
2- يونس (10) : 99 _ 100 .
3- في المصدر : «لألقي» .
4- في المصدر : «إليّ» .
5- في المصدر: «الخلود».

معني أنّها ما كانت لتؤمن إلاّ بإذن اللّه ، و(1)] إذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة متعبّدة، وإلجاؤها [إيّاها] إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبّد عنها».

فقال المأمون : فرّجت عنّي يا أبا الحسن، فرّج اللّه عنك .(2)

قلت أوّلاً: ظاهر لفظ «آمنوا» والفاء يأبى عن ذلك، وقال تعالى في سورة بني إسرائيل : «مَنْ كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً»(3) ، وأخبار الآحاد في الاُصول لا معتبر بها إلاّ لاشتمالها على دليل ونحو ذلك، وفي موضع اعتبارها من الفروع لا يعمل بها إذا عارض ظاهر القرآن .

وثانيا: إنّ المأمون كان معتزليّا، ولذا قال : فرّجت عنّي . ونقل عنه أنّه قال : وجدت أربعة في أربعة : الزهد في المعتزلة إلى آخره ،(4) وهذا نوع مصانعة معه باستعمال لفظ الإلجاء والاضطرار في الرهبة الغالبة عليهم، أو الرغبة المائلة بهم، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في ثاني «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة».(5) وقد أشار إلى المراد بقوله: كما يؤمنون عند المعاينة؛ فإنّ إيمانهم عندها اختياري لهم، وغاية ما نسلّمه أنّهم لا يختارون عدمه؛ لشدّة قوّة الدواعي،(6) ولو كان شدّة الدواعي والعلم بالقبح مخرجا عن القدرة، لكان اللّه غير قادر على القبائح، فيكون صدور الحسن عنه لا باختيار ؛ تعالى عن ذلك .

وممّا يدلّ على أنّ إيمان من يؤمن من الآخرة ليس بالإلجاء الظواهرُ الدالّة على أنّ بعض الكفّار لا يؤمنون في الآخرة أيضا، بل يصيرون كالمنافقين ؛ قال تعالى في سورة الأنعام : «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللّه ِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»(7) ، وقال في سورة .

ص: 579


1- ما بين المعقوفين من المصدر .
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 123 ، ح 33 .
3- الإسراء (17) : 72 .
4- في حاشية «أ» : «نقله عنه شارح المقاصد في مبحث الإمامة (منه)» . شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 284 .
5- الكافي ، ج 4 ، ص 198 ، ح 2 .
6- في «ج» : «الداعي» .
7- الأنعام (6) : 23 .

المجادلة : «يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّه ُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْ ءٍ»(1) ، ويؤنس بذلك أنّه قال في سورة المؤمن : «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه ِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا»(2) ولم يقل: فلمّا رأوا بأسنا آمنوا .

وثالثا : إنّ الحديث معلّل؛ لأنّه إن اُريد بالإكراه في قولهم : «لو أكرهت» الدعاء إلى الإيمان بالسيف ونحوه، فلا يصحّ نفيه بقوله : «أفأنت» ، لأنّه كان يقع من النبيّ صلى الله عليه و آله . وإن اُريد به إلجاء القلب وقلبه إلى الإيمان، فلا يصحّ قوله : «ما كنت لاقي اللّه » إلى آخره ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يعلم أنّه بيد مقلّب القلوب تعالى شأنه، لا غير . وأيضا لو كان المراد بالأمر في تفسير الإذن التكليف _ كما هو رأي المعتزلة _ لصار مضمون الآية كاللغو .

إن قلت : هل فيه _ على تقدير صحّة الرواية، وعدم كونه مصانعةً _ دلالةٌ على رأي المعتزلة أنّه ليس للّه طريق إلى إيمان الكافر إلاّ القسر والإلجاء ؟

قلت : لا ، إلاّ بالمفهوم، وهو غير مراد؛ لدلالة الأدلّة العقليّة والأحاديث المتواترة معنى على خلافه، كما مرّ في شرح ثاني «باب الاستطاعة» .

(ذَرُوا النَّاسَ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنِ النَّاسِ ) أي عن كبرائهم، وهم أئمّة الضلالة، أو عن أمثالهم من المخالفين للحقّ .

(وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي بما جاء به من محكمات القرآن الناهية عن اتّباع الظنّ، أو بقوله في أهل بيته: «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» وأمثاله الكثيرة المسلّمة عند الفريقين ؛ فالمأخوذ عن أهل البيت مأخوذ عنه عليه السلام .

(إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِذَا كَتَبَ عَلى عَبْدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِي هذَا الاْءَمْرِ ، كَانَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّيْرِ إِلى وَكْرِهِ) . كنايةٌ عن قبوله هذا الأمر آخرا أشدّ قبول . ووكر الطائر بفتح الواو وسكون الكاف ومهملة: العُشُّ له . .

ص: 580


1- المجادلة (58) : 18 .
2- المؤمن (40) : 84 _ 85 .

الرابع : (أَبُو عَلِيٍّ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَدْعُو النَّاسَ إِلى هذَا الاْءَمْرِ؟). سؤالٌ عن إفشاء الدعوة وعدم المبالاة .

(فَقَالَ : لاَ) ؛ وجهه وجوب التقيّة .

(يَا فُضَيْلُ ، إِنَّ اللّه َ) ؛ تسلية له .

(إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، أَمَرَ مَلَكا فَأَخَذَ بِعُنُقِهِ ، فَأَدْخَلَهُ فِي هذَا الاْءَمْرِ طَائِعا أَوْ كَارِها) . عبارة عن التوفيق .

(تَمَّ كِتَابُ(1) التَّوْحِيدِ مِنْ كِتَابِ الْكَافِي ، وَيَتْلُوهُ كِتَابُ الْحُجَّةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْكَافِي تَأْلِيفِ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيِّ رَحِمَه اللّه ُ تَعَالى(2)) .

من تصرّفات الناسخين .

الحمد للّه على التوفيق لإتمام شرح الجزء الأوّل من الكافي، ونسأله التوفيق لإتمام شرح كلّه حقَّ الشرح . وكان الفراغ منه على يد مؤلّفه في سلخ ذي الحجّة سنة سبع وخمسين وألف هجريّة [1057] في مكّة شرّفها اللّه تعالى ، وصلّى اللّه على محمّد وآله وصحبه الأخيار .(3) .

ص: 581


1- في الكافي المطبوع : + «والعقل والعلم و» .
2- في الكافي المطبوع : «رحمة اللّه عليه» .
3- في حاشية «أ» : «قد خطّت هذه النسخة من نسخة الشارح دام ظلّه، اُمّ النسخ ، وقوبلت معها، وصحّحت بعد الوسع والطاقة في مجالس آخرها يوم الثلاثاء السادس من شهر محرّم الحرام من شهور سنة 1086 ستّ و ثمانين بعد الألف ، الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة على محمّد و آله أجمعين» .

ص: 582

فهرس المطالب

كتاب التوحيد

الباب الأوّل: باب حدوث العالم وإثبات المحدث............... 11

الباب الثاني: باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء............... 77

الباب الثالث: باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به............... 97

الشرح............... 99

الباب الرابع: باب أدنى المعرفة............... 105

الباب الخامس: باب المعبود............... 109

الباب السادس: باب الكون والمكان............... 118

الباب السابع: باب النسبة............... 139

الباب الثامن: باب النهي عن الكلام في الكيفيّة............... 147

الباب التاسع: باب في إبطال الروءية............... 158

الباب العاشر: باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى............... 181

الباب الحادي عشر: باب النهي عن الجسم و الصورة............... 194

الباب الثاني عشر: باب صفات الذات............... 207

الباب الثالث عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل............... 216

الباب الرابع عشر: باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، و سائر صفات الفعل............... 219

الشرح............... 230

الباب الخامس عشر: باب حدوث الأسماء............... 237

ص: 583

الباب السادس عشر: باب معاني الأسماء و اشتقاقها............... 255

الباب السابع عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة و هو.................. 271

الباب الثامن عشر: باب تأويل الصمد............... 297

الشرح............... 298

الباب التاسع عشر: باب الحركة و الانتقال............... 301

الباب العشرون: باب العرش و الكرسيّ............... 315

الباب الحادي والعشرون: باب الروح............... 335

الباب الثاني والعشرون: باب جوامع التوحيد............... 338

الشرح............... 350

الباب الثالث والعشرون: باب النوادر............... 397

الباب الرابع والعشرون: باب البداء............... 408

الباب الخامس والعشرون: باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة............... 435

الباب السادس والعشرون: باب المشيئة و الإرادة............... 446

الباب السابع والعشرون: باب الابتلاء و الاختبار............... 462

الباب الثامن والعشرون: باب السعادة و الشقاء............... 464

الباب التاسع والعشرون: باب الخير و الشرّ............... 478

الباب الثلاثون: باب الجبر و القدر و الأمر بين الأمرين............... 483

الباب الحادي والثلاثون: باب الاستطاعة............... 521

الباب الثاني والثلاثون : باب البيان و التعريف و لزوم الحجّة............... 557

الباب الثالث والثلاثون : الباب الثالث والثلاثون............... 566

الباب الرابع والثلاثون : باب حجج اللّه على خلقه............... 568

الباب الخامس والثلاثون : باب الهداية أنّها من اللّه ............... 573

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.