ثقافة النزاهة في نهج البلاغة

هوية الکتاب

عنوان المؤلف

سيد حسين السيد علي الأعرجي

أستراليا: أديلايد

Hussein AL-Aaraji

4 Claines AVE Morphettville

SA-5043

Mob: 0061402661755

email:al-aaraji@ hotmail.com

Australia - Adelaide

C جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1432ه- / 2011م

ISBN:978-614-426-024-1

دار المحبة البيضاء

الطباعة والشرق التوقيع

الرويس - مفرق محلات محفوظ ستورز - بناية رمّال

ص.ب: 14/542 - هاتف: 03/287179 - 01/541211 تلفاكس: 01/552847 - E-mail almahajja@terra.net.lb

www.daralmahaja.com info@daralmahaja.com

ص: 1

اشاره

ثقافة النزاهة في نهج البلاغة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ثقافة النزاهة

في نهج البلاغة

سيد حسين السيد علي الأعرجي

دار المحجة البيضاء

ص: 4

الإهداء

إلى أصحاب النفوس العالية ...

و من لم تُغرهم البيضاء أو الصفراء، ولم يتجاوزوا على الحقوق، وإنّما حافظوا عليها.

أولئك أهلُ الفضائل، نُزِّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلت في الرخاء، و عظُم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم.

نفوسهم قانعة، و إيمانهم حريز.

إليهم أهدي كتابي

سيد حسين الأعرجي

ص: 5

ص: 6

تنويه

لنا كتاب «خمسُ لآلىء من كنوز نهج البلاغة» طُبع سنة 2010 م، في دار المحجّة البيضاء ومؤلفي هذا «ثقافة النزاهة في نهج البلاغة»، هو البحث الثاني من سلسلة بحوثي في هذا الكتاب العظيم، مع العزم على الاستمرار في هذا الطريق بالاعتماد على المعونة الإلهية في تسهيل حَزَنه، وتذليل صعبه، و تيسير مطالبه.

و كنت قد ادخرت كتابَي «خطابات مغترب» طبع سنة 2006 م في دار العلوم، و «تراتيل روحيّة في محبّة أهل البيت علیهم السلام»، طُبع سنة 2010م في دار المحجة البيضاء راجياً أن تكون هذه المؤلفات وما يوفقني لسواها سبحانه في المستقبل ذخيرتي فيما يُنتفع به بعد انقطاع العمل، وما ذاك إلّا بهدي منه سبحانه.

المؤلف

ص: 7

ص: 8

فكرة الكتاب

تحقيقاً لما أخذنا على أنفسنا أنْ نبذل الجهد كلّه للاستقصاء والبحث عن كنوز نهج البلاغة واستخراج ما يمكن استخراجه من الدرر واللآلىء المكنونة فيه، واستحصال الفوائد المرجوّة منه والوصول قدر المستطاع إلى الغاية التي من أجلها كان نهج البلاغة. التقطنا من بعض زواياه هذا البحث المهم، والذي أولاه أمير المؤمنين علیه السلام أهميّة خاصة، نجدها واضحة من خلال أطروحاته وتوجيهاته التي كان يرسلها لعمّاله أو أصحابه، والتي تضمّنتها رسائله وكتبه وخطبه، سطّر بها أسمى وأعلى مفاهيم النزاهة، واضعاً الخطوط العريضة والأسس القويمة لهذه المفاهيم المهمّة والأساسية والجوهرية في نجاح تجربة الحكم، تحقيقاً للعدالة والحق والمساواة في المجتمع، ورفع المظالم، ودفع المفاسد ونزع المطامع من النفوس.

نحن نعلم أنّ الفساد الإداري، والطمع وحبّ الاستحواذ وغياب القناعة من أخطر الأمراض التي تصيب المجتمعات، وتنخر في عمودها الفقري، فتحيلها إلى خراب، وتدفع بها إلى هاوية التمايز، و ظهور الفوارق الطبقية، و منها تبدأ رحلة عذاب الشعوب. وتعمل على بروز الظواهر السلبيّة والأمراض الاجتماعية و العلل المهلكة لكيان المجتمعات من تخلّف وأمراض ومشاكل. و الفساد الإداري موجودٌ منذ القدم، حدّته تتفاوت بين حينٍ وآخر، وبين مجتمعٍ وآخر.

ص: 9

وهو أكثر ظهوراً في المجملات المتخلّفة والفقيرة ثقافيّاً، ليزيد من هموم تلك المجتمعات، ويضيف إليها معوّقاً قد يكون من أصعب المعوّقات في طريق التقدّم والنهوض والرفعة والتطوّر والرقي. وإذا كان لقادة أي مجتمع ومصلحوه من همومٍ ومسؤوليات في بناء مجتمعاتهم والنهوض بها إلى ما يرفعها لمصاف المجتمعات المتقدّمة، فإنّ همّ الفساد الإداري وغياب النزاهة من أكبر وأصعب وأشد تلك الهموم والمسؤوليات أولوية، وأكثرها حضوراً في مسيرة عملهم، وأخطرها أثراً في نتائج جهودهم - فقد تكون النزاهة معياراً حقيقيّاً في تقييم نجاح القادة، وحصولهم على احترام شعوبهم واحترام الآخرين، ودليل نجاح تجربة الحكم والإدارة والسياسة، وبالتالي فهو المعيار الفيصل في نجاح الأمم والشاهد على رقي شعوبها.

من هذه المنزلة البالغة الأهميّة لمفهوم النزاهة، اعتمدت الأخذ بهذا البحث وسبر أغواره وتعقّب منافذه وتتبع مخارجه، وصولاً للهدف في الأخذ بأسباب النهوض بمجتمعنا، وتثبيت موضع قدمٍ توصل إلى برّ الأمان والتحفّز والطموح لنيل مراتب الرقيّ والتقدم والتحرر من قيود الركود والتخلف والخروج من الزوايا الضيّقة في التفكير والتي جعلتنا في مصاف الأمم المتخلّفة، فعزلت شعوبنا عن التقدم والحضارة والازدهار.

لقد وضعت نصب عيني الاهتمام بدراسة الموضوع، ومراجعة أسبابه، مقدماته، آثاره نتائجه وسبل علاجه.

وقد اعتمدت ما رشح من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في نهج البلاغة فيما يخصُّ هذا الموضوع الحسّاس والمهم والجوهري في مساع بناء الإنسان وقيام المجتمعات ونهوضها وتأسيسها على أسس سليمة.

ص: 10

أولى سلام الله عليه موضوع النزاهة ومحاربة الفساد أهميّة بالغة سنستشعرها من خلال جواهره التي صاغها على هيئة رسائل أو كتب أودعها عقول الناس ليأخذوا منها دروساً مهمّة، وعلاجات ناجعة، ومناهج مفيدة في مجال مناهضة الفساد ومحاربته، والقضاء على آفته التي أمرضت وأفسدت كل شيء.

وأأكد أني رغم اعتمادي طَرْق سبل البحث من جميع جوانبه - وأرجو أنْ أكون موفّقاً في هذا - إلّا أنّه كان بأسلوب سلس ومختصر في طرح المواضيع دون الدخول في تفاصيل تُشغل القارىء عن صلب البحث وغايته لينحصر التركيز في موضوع النزاهة خصوصاً. وتسهيل الوصول إلى أهداف الكتاب وتحصيل المنافع فيه بإذن الله.

ص: 11

ص: 12

كلمة المؤلف

إنّ أكثر عظماء التأريخ اقترنت أسماؤهم بالنزاهة، و كانت مفاهيم النزاهة مصاحبة لهم أينما حلّوا أو ارتحلوا. وهم في مسيرة حياتهم، و آثار أعمالهم، ومواطن عطائهم، عنوانٌ لهذا المفهوم الخلقي الراقي وترجمان التعاليمه، ومنافذ لمعانيه وبيان لمداركه.

إن مواقف الشعوب وآرائهم في عظمائهم مرايا عاكسة لمنازل ومراتب أولئك العظماء والألسن الناطقة عنهم، والأقلام التي تسجّل تأريخهم، والحقائق التي تثبت رفعتهم، وتخلّد ذكرهم. وما وجدنا شعباً أو أمّةً تحترم قادتها وهم والنزاهة على خلاف، وقلّما نجد أمّة تسنّمت مراتب الرقيّ والتطوّر ووصلت منازل الرفعة والحضارة من غير نزاهة قادتها، وابتعادهم عن المطامع والفساد والأثَرة والاختلاس. وإن ابتليت الشعوب والأمم بشتّى الابتلاءات فإنّ الفساد الإداري والرشوة والاختلاس، وسرقة الحقوق من أشدّ وأبلغ الابتلاءات وأكثرها ضرراً في المجتمعات. وفي حال استشرائها فإنّها تكون من أخطر المشاكل وأصعبهاحلّا، وأسؤها أثراً، وقد تكون آثارها ممتدّة إلى آمادِ بعيدة وسلبياتها في مواقع كثيرة تفوق التصوّر.

وما أتعب المصلحون جهد أكثر من الجهد الذي بذلوه من أجل كبح جماح شهوة الفساد و اقتلاع جذوره واستئصال شأفته، ونبذ فكره،

ص: 13

وإشاعة ثقافة النزاهة، وترسيخ خلق العفّة والقناعة والرضا ونكران الذات والعدل وعدم هضم الحقوق.

من هذا المنطلق فإنّ الفكر البشري والذهن الإنساني كان ولا يزال وسيبقى بحاجة كبيرة إلى طرح المفاهيم الموصلة إلى ثقافة النزاهة، وخلق الأجواء المناسبة لتقبّل دعوات نبذ الفساد الإداري أو الفساد لكلّ أنواعه والارتقاء بالذات الآدميّة إلى مراتب العلو والرفعة والطهارة و إبعادها عن مساوىء الطمع وسوء استخدامه وخطورة آثاره. ورسم الخطوط الثابتة والمتوازنة لدراسة هذه الظاهرة وإحالتها إلى البحث والتحليل الجدّيّ والاهتمام بجميع أبعادها، والأخذ بنظر الاعتبار الموضوعية والمصداقية والمهنية والشفافية في مثل هذه الدراسة، للوصول إلى البغية منها، وخلق الشعور النابذ لها والترغيب في نقيضها من العفة والنزاهة والأمانة والقناعة. فلو ألقينا نظرة فاحصة لتأريخنا، لوجدنا أنّ أكثر أسباب النجاح في إدارة الدول والمجتمعات كان في نزاهة قادة ومصلحي ومسيّسي تلك الدول، وابتعادهم عن الفساد ونبذه وشيوع العفّة ومكارم الأخلاق في النفوس، وانعكاساته على سائر المجتمع في رقيه وصلاحه وعلوّ شأنه.

وما من كتاب منزل أو نبيِّ مرسل أو وليّ عارف أو صاحب مبدأ إصلاحي إلّا وكان أولى وصاياه المحافظة على الأمانة و أدائها وصون العدل و الإنصاف في الحقوق و النزاهة في الحق العام و في غيره و عدم الغبن في التعامل والالتزام بمكارم الأخلاق.

سُئل أمير المؤمنين علیه السلام: أيهما أفضل العدل أو الجود؟ فقالعلیه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها والجود يُخرجها من جهتها والعدلُ

ص: 14

سائسٌ عام والجودُ عارضٌ خاص. فالعدل أشرفها وأفضلها (1).

وهذا كلامٌ شريف جليل القدر، فضّل فيه العدل بأمرين:

الأوّل: إنّ العدل يضع الأمور مواضعها، أي أنّه إذا تمَّ العدل أصبح المجتمع جاهز ومنظّم ويغلق الطريق أمام العوز أو الحاجة أو المساعدة من جواد أو غيره.

والجواد لا يهب إلّا للمحتاج فإن كان المجتمع قد ساد العدل فيه ففيما الحاجة للمساعدة أو غيرها؟ مثل أن لا يوجد في البدن عضوٌ ناقص أو مريض يستدعي العون والمساعدة من سائر الأعضاء.

والثاني: العدل سائسٌ عام والجودُ عارضٌ خاص: فالعدالة قانون عام يدير شؤون المجتمع بأجمعها فهو طريق يسلكه الجميع. أمّا الجود فهو حالة استثنائية خاصة لا يمكن أن تصبح قانوناً عاماً أو تُعمّم، فإنّه لو كان كذلك لم يُحسب جواداً آنذاك.

لذا استنتج علیه السلام فقال: فالعدل أفضلها وأشرفها، حيث كانت التربية والمعرفة عند الإمام وعند المصلحين تقدّم الأصول والمبادىء الاجتماعيّة، على الأصول والمبادىء الفردية وجعل الأولى هي الأصل، والثانية الفرع. فالعدل عنده هو الأصل الذي يصون المجتمع ويحافظ على توازنه.

والإمام علیه السلام يحسب العدل وظيفة الهيّة، بل ناموساً إلهيّاً، فلا يصح أن يقف الإنسان المحترم الإنسانيته وقفة المتفرّج إذا تُرك العدل.

وهو أيضاً لا يُهادن في موضوع العدل والإصلاح ومحاربة الفساد،

ص: 15


1- في باب المختار من حكم أمير المؤمنينعلیه السلام من نهج البلاغة، رقم (431) الصفحة (723)

من أجل مصلحة معينة أو تعليل لظرفٍ خاص، فلا مواسم للعدل، ولا ظرف ولا مناسبة.

وكذلك المصلحون لا نصيب عندهم للانحياز عن جادة العدل، إن اقتضت المداهنة، أو السياسة، أو الظروف ذلك.

«فالحقُّ القديم لا يبطله شيء» ... [ إن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ] (1).

ويقول علیه السلام: [ يا أسرى الرغبة! أقصروا فإنّ المعرّج على الدنيا لا يروعه منها إلّا صريف أنياب الحِدْثان. أيها الناس! تولّوا من أنفسكم تأديبها و اعدلوا بها عن ضراوة عاداتها ] (2)

الرغبة: الطمع. وأقصروا أكفوا. و المعرّج: المائل إليها، أو المعوّل عليها، أو المقيم بها. يروعه: يفزعه. الصريف: صوت الأسنان عند اصطكاكها. والحِدْثان: النوائب. الضراوة: اللهج بالشيء والولوع به. أي كفوا أنفسكم عن أتباع ما تدفع إليه عاداتها، و كسر عادية عادات السوء المكتسبة فيها.

فهو علیه السلام يدعو إلى الكفّ عن طلب الطمع، و تحرير النفس من قیوده واعتبار آفة لا ينوب أسيره سوى النوائب، و يطلب تأديب النفس و ترويضها و كسر جماح الطمع الموصل إلى تلك النوائب.

وأيّ إنسان استحوذ عليه الطمع، و أسرته الرغبة، فقد وضع قدمه على أوّل الطريق المؤدّي إلى الفساد المغاير في الاتجاه عن النزاهة ومكارم الأخلاق.

ص: 16


1- من كلام له علیه السلام رقم (15) الصفحة (67)، في نهج البلاغة
2- في باب المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (358)، الصفحة (706)، نهج البلاغة

فإذا كانت القناعة كنز لا ينفد فإنّ المال مادة الشهوات. قال رجل لبقراط وقد رآه يأكل العُشب: لو خدمت الملك لم تحتج إلى أنْ تأكل الحشيش، فقال له بقراط: وأنت إنْ أكلت الحشيش لم تحتج أنْ تخدم الملك.

و من كلام أحد الحكماء: قاهر الغنى بالتعفّف، وقاوم الفقر بالقناعة، وطاول عناء الحاسد بحسن الصنع، وغالب الموت بالذكر الجميل.

وقال آخر: الناس رجلان واجدٌ لا يكتفي، وطالبٌ لا يجد وقد أخذه الشاعر فقال:

وما الناسُ إلّا واجدٌ لا يكتفى *** بأرزاقه أو طالبٌ غيرُ واجدِ

وقد كثر قول الناس عن المال. فمنه:

قول أعرابي لبنيه: اجمعوا الدراهم فإنها تُلبس اليلمق، وتُطعمُ الجردق. واليلمق: الفباء «فارسيٌّ معرّب».

والجردق: الرغيف «فارسيٌّ معرّب».

وقال أعرابي وقد نظر إلى دينا:ر قاتلك الله ما أصغر قمّتك وأكبر همّتك.

ومن كلام الحكماء: ما اخترتَ أن تحيا به فمت دونه. و قد سُئل أفلاطون عن المال فقال: ما أقول في شيء يُعطيه الحظُّ، ويحفظه اللّوم، ويبلغه الكرم!

وكان يُقال: ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم: تاجرُ البحر، والمقاتل بالأجر، والمرتشي في الحكم، وهو شرّهم، لأنّ الأولين ربّما سَلِما، ولا سلامة للثالث من الإثم.

ص: 17

وقالوا أيضاً: المالُ لا ينفعنا لكي تفارقه. والمالُ مثل الماء غادٍ ورائح طبعه كطبع الصبيّ، لا يُوقف على سبب رضاه ولا سخطه.

ومن أهميّة موضوع النزاهة اعتمدنا الأخذ به عنواناً لمضمون كتابنا الجديد. وقد وضعنا نصب أعيننا أهميّة التركيز على المفاهيم ذات العلاقة بموضوع النزاهة من نهج البلاغة والأخذ بثوابت ثقافة النزاهة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام مع استلهام الدروس المهمّة في هذا الباب الحيوي والجوهري من أبواب النجاح في أيّ مسعاً أو تجربة يعتملها بناة المجتمع وقادة الأمّة. وصولاً لما يُرجى في هذه المساعي من تسريع الخُطى نحو الرقيّ والازدهار و البناء وتجنّب أسباب الفشل ومعالجة معوقات النجاح.

مع إيماننا أنّ مجتمعاتنا الإسلامية والعربية على وجه العموم، والمجتمع العراقي على وجه الخصوص - ضمن مقومات نجاح تجربته الجديدة - بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأطروحات، كعامل مهم في بناء نهضتها و الارتقاء بها إلى مصاف المجتمعات المتحضرة والراقية.

ووضع الأسس السليمة في بنائها، واعتماد الأهداف القويمة لنجاحها وعلو شأنها. ثم الأخذ بأسباب هذا النجاح، خروجاً من حالة الفشل والشعور باليأس والإحباط ومقاومة الركون إلى الدعة وعدم المبالاة، ومجابهة الإهمال في العلاج، وإيجاد السبل لردم أيّ هوّة تخذّل الهمّة، وتحبط العزيمة، وتقف بوجه التقدم.

إنّ الفساد الإداري، حالة مرضية شأنه شأن باقي الأمراض الأخرى، فهو بحاجة إلى التشخيص والعلاج. وهو من أشد الحالات المرضيّة وأصعبها وأخطرها، إلّا أنّ ذلك لا يجعلنا مكتوفي الأيدي، أو يمنع من السعي والأخذ بشتّى السبل والوسائل للوصول إلى الشفاء والتعافي من هذا الداء الوبيل.

ص: 18

رغم أنّ موضوع النزاهة، ومعالجة الفساد الإداري، شائكٌ وله من الجوانب والنوافذ ما يصعب حصرها، إلّا أنّنى حاولت مواكبة أكثرها أهميّة، وأبعدها أثراً، وأشدّها التصاقاً بالموضوع. وانتهاج مسلك التشخيص والمعالجة لا مبدأ التحليل والمباحثة فقط. فالغاية تحصيل الحلول واستثمار الفائدة وإيجاد أسباب النجاح.

و من منهج البحث أنْ لا نترك شاردة أو واردة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، له صلة بثقافة النزاهة، إلّا وأخذنا به من خطب ورسائل وكتب وحِكَم الإمام علیه السلام.

وقد اعتمدنا كتاب نهج البلاغة بطبعته الأولى المصححة لمؤسسة الأعلمي للمطبوعات لسنة 1413ه- - 1993م - وذكر الكلام وأرقام الصفحات من تلك النسخة، مع الأخذ من مصادر أو نسخ أخرى إذا اقتضت الضرورة، أو كان فيه فائدة.

إنّ في تقصّي التجارب، رغم الاختلاف بين الأمس واليوم، وامتداد هذا الاختلاف بقدر المسافة الزمنيّة الفاصلة بينها فائدة كبيرة و عِبَرواضحة والإنسان هو الإنسان، وما الحاضر إلّا ابنٌ للماضي، وأبٌ للمستقبل، والبعض يأخذ من البعض والكلُّ عائد للجبّلة البشريّة، والفطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها، من نبذ السيئ وتقبّل الحسن.

وقد دفعني حرصي في تحصيل رضا الله تعالى، أن أقدّم هذا الجهد المفيد والنافع، بإذنه تعالى بين يدي القارىء العزيز، معتمداً ذوقه الرفيع فيّ تقدير الغثّ من السمين وتقييم نفعه إن استحق ذلك. ودعواتي من الله أنْ يُلهمني الصواب، ويبعدني عن المزالق وينزّه قلمي

ص: 19

من الزلل، ويثبّت قلبي ويهدي بصيرتي لنوال رضاه أوّلاً وآخراً. وآخر دعواي أن الحمد لله ربّ العالمين والصلاة على سيدنا محمد المصطفى وآله أهل الوفى، وصحبه النجباء الشرفاء.

ص: 20

النزاهة في اللغة

اشارة

جاء في كتاب العين للفراهيدي، في باب نزه: مکانٌ نزه، وتنزّهت عن كذا، أي رفعت نفسي عنه تكرّماً ورغبة عنه.

وتنزيه الله: تسبيحه، وهو تبرئته عمّا يصف المشركون.

وفي معنى النزاهة: البعد عن السوء وترك الشبات.

ونزيه: بعيد عن كلّ مكروه - يتنزّه عن الأقذار و الرذائل.

والنازه: العفيف المتكرّم.

والنزيهة التي تزيّنت وتصوّنت وبدت عمّا يُشين، وتنزّهت عن الرذائل.

وجاء في المعجم الوسيط في معنى النزاهة: البعد عن الكذب. العفة.

ونَزِهَ نزاهةً ونزاهية: ابتعد عن المكروه. عفَّ عن المعاصي: أبعدها عنه، امتنع عن ممارستها.

والتَّزه: البعد عن المساوىء.

مفهوم النزاهة من الآيات القرآنية

لا يسعنا في هذه الإطلالة السريعة خلال الآيات القرآنية الكريمة،

ص: 21

من حصر جميع الآيات الداعية إلى محاربة الفساد، والنهي عنه، فلا تكاد سورة من سور القرآن الكريم تخلو من هذا المفهوم، أو تنظّر له، أو تشرّع لمكارم الأخلاق، و إشاعة مفاهيم العدل و النزاهة و الأمانة ونبذ الفساد والظلم والتحذير من خيانة الأمانة.

و ما كانت أهداف الرسالات السماوية و بعثة الأنبياء، إلّا لهذه الغاية النبيلة، لتعيش المجتمعات حياة الخير و العدالة والاطمئنان والابتعاد عن الظلم والفساد والخوف والحرمان.

الله سبحانه لا يحبُّ المفسدين، وقد ذكر جلّ وعلا هذه المفردة لأكثر من عشرين مرّة، وفي مواطن متعددة، يحذّر من الفساد، و يتوعد المفسدين بأشدّ العقاب.

(وَ لَا نَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة 60 الأعراف 74 هود 85] (وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة 64]. (إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77].

و قوله تعالى: ﴿وَ أنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف 86]

وقوله سبحانه: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف103 النمل 14] وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس 81]. و ﴿وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف 142].

وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعدَ إصْلَاحِهَا) [الأعراف56، 85] و قوله عزّ وجلّ (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [ البقرة.27]. و﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)

[الشعراء 151 - 152].

ص: 22

وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة 205].

وآيات أخريات تطرقت إلى رفض الفساد وتحريمه والوعيد عليه بأشدّ العقاب، لما له من آثار سلبية في حياة الناس و المجتمع، وما يؤول إليه ذلك الأثر من تدمير وتخريب وتهديم.

وإن كان إشارة الآيات إلى الفساد تتوسّع وتشمل مفاهيم أخرى ومطالب غير الفساد الذي هو نقيض النزاهة. إلّا أنّ الفساد هو الفساد ورفضه قائم في الآيات القرآنية والتعاليم السماوية، بجميع غاياته وشؤونه ومواطنه.

وكثيرةٌ هي الآيات المحفّزة على الوفاء وأداء الأمانة، ونبذ الخيانة واهتضام الحقوق.

يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [ البقرة281 آل عمران 161]

وقوله تعالى: (بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران 76] وقوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد 20].

والنزاهة وعدم الفساد في أي مهمّة يوكل بها الإنسان من الوفاء بالعهد، وعدم نقض المواثيق، والتي واعد سبحانه بالجزاء عليها.

وقوله عزّ من قائل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء 34]. والله يحاسب من لا يفي بالعهد فكل عهد مسؤول. أمام الناس وأمام الله واجب الوفاء، ومحاسبٌ به أو عليه. كذلك في صون الأمانة والحفاظ عليها إشارات باهرة في كتاب الله العزيز. قال سبحانه: ﴿إِنَّا

ص: 23

رَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الاحزاب (72] وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة 283].

وأداء الأمانة المشار إليها في الآية الكريمة، تنعكس على كلّ أمانة وليست لموضوع الدّين وما يتصل به فقط. فواجب أداء الأمانة والنزاهة فيها، من مصاديق هذه الآية الكريمة، وغيرها من الآيات.

وقد ذكر صاحب الميزان أنّ في هذه الآية والتي سبقتها والمسمّاة: آية الدَيْن، وهي أطول آية في القرآن الكريم أنّهما تدلّان على ما يقرب من عشرين حكماً من أصول أحكام الدَيْن و الرهن وغيرهما.

يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ [النساء 58]. والآية الكريمة وإنْ وردت لسببٍ خاص، فعمومها معتبر بقرينة الجمع.

وقوله عزّ وجلّ: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ [الأنفال 27] التي اؤتمنتم عليها من دَيْن أو عمل أو منصب أو مركز أو أيّ شيءٍ وكّل إليكم وتعاقدتم عليه وعلى أداء أمانته.

وقوله عزّ وجل:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون 8، المعارج 32]. فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الله من صلاة وغيرها. راعون حافظون.

وكثيرة الآيات القرآنية الداعية إلى التقوى والمحفّزة عليها، وما واعد الله به المتقين من وافر النّعم وعظيم الجزاء، وطيب المآل، وحسن الثواب.

قال تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم 63].

ص: 24

و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران 102]. و (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة 197].

وقوله سبحانه: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة.8]. وقوله عزّ من قائل: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد 17]

وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس 7، 8] بيّن لها طريقي الخير والشرّ، فالنفس وما اختارت وحسابها بموجب اختيارها.

وقوله سبحانه: ﴿هَٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ ص 49].

أي المرجع في الآخرة.

وقوله سبحانه: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه 132].

وغيرها من الآيات البيِّنات تذكر التقوى و المتقين وتبشّرهم بالنّعيم وطيب المرجع، وتتوعد من لا تقوى لهم بأشدّ العقاب وأمر العذاب.

ومن الآيات التي تحذّر من البخس، وتعتبره مفسدة في الأرض توجب المقت والنقد والحساب.

ففي سورة الأعراف الآية 85: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

والبخس: النقص، ولا ينحصر النهي عن البخس في مسألة الميزان والمكيال وما يتعلق بهما، ولكن يمكن سوقه على أمور أخرى، فيما

ص: 25

يتعلق بحقوق الناس ومصالحهم ومنافعهم، وفي كثير من الحالات.

فالموظف مثلاً، منهيّ عن البخس في حقوق الناس، إذ يفترض أنّه قد استُخدم في وظيفته لإنجاز معاملات الناس، وتأدية مطالبهم لقاء أجر خصص له لأجل ذلك. فإنّ كلّ تقصير أو إهمال أو إيغال في هذه الحاجات أو المطالب، بخسٌ لحقوقهم، يوجب المسألة والحساب والعقاب.

وفي سورة هود الآية:85: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

من عثِيَ بكسر المثلثة: أي أفسد و مفسدون مؤكد لمعنى عاملها: تعثوا، وفسّر البعض العثي: أشدّ الفساد والخراب.

وفي الآية 183 في سورة الشعراء: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وفسّر بعضهم البخس: بالظلم، و منه المثل: تحسبها حمقاء وهي باخس.

وآيات تنهى عن أكل الأموال بالباطل، وتصف ذلك الأكل بالإثم أو الفعل الموجب للإثم. أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحُل كالرشوة أو الاختلاس أو خيانة الأمانة.

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 188].

ص: 26

بأنْ يحكم الحاكم بالظاهر وکان الأمر في الباطن بخلافه. «و أنتم تعلمون» أنّ ذلك المال ليس بحقّ لكم، و مع ذلك تقدمون على أخذه، وهذا أشدّ في الزجر، لذا فإنّ الإقدام على الفساد مع العلم به أو التمكن من العلم، أعظم إثماً وأكبر ذنباً.

ص: 27

ص: 28

مفهوم النزاهة في الحديث النبوي الشريف

في الحديث النبوي الشريف إشارات لا تخفى عن نبذ الفساد واستهجانه، وتوبيخ المفسدين أو الساعين إلى الفساد، أو العاملين به والمشجعين عليه، وحثٌّ على الأمانة والنزاهة وحفظ الحقوق، والعمل بالعدل وموازين القسط.

وليس الغرض هنا حصر واستيعاب الأحاديث النبوية الشريفة الداعية لنبذ الفساد وتشجيع ثقافة النزاهة والدعوة لمكارم الأخلاق فهذا ما يستدعي بحثاً مستقلًّا، ولكن وجبت الإشارة إليه، للتنوّر بالمفاهيم النبويّة والأحاديث العطرة من خلال هذه الإشارة السريعة والمختصرة.

في الحديث المرفوع: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك (1)

وعن ابن عمر قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وحسن الخلق

وعفّة مطعم (2).

ص: 29


1- الجامع الصغير (240)
2- الجامع الصغير (875)

وهناك أحاديث كثيرة تحثُّ على حفظ الأمانة، وأدائها، وعدم التفريط بها، وإنّما اقتصرنا بهذين الحديثين للاختصار.

ومن الأحاديث الشريفة فيها تنفير وتحذير من الغش أو الخيانة وهي تنسحب بكل تأكيد على كثير من الأمور كالغش في العمل، أو في إدارة الوظائف و المسؤوليات المناطة بالإنسان، وتتوعّد بالجزاء عليها، واعتبارها من الرذائل وأعمال الفساد والمظالم.

وفي الحديث أنّه قال صلی الله علیه و آله و سلم: ليس منّا من غش (1)

وفي حديث آخر، يعتبر الخيانة من الأعمال المستوجبة للعقاب ودخول النار. يقول صلی الله علیه و آله و سلم: المكر والخديعة والخيانة في النار (2).

وفي الحديث المرفوع: اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فبئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة (3).

ويقول صلی الله علیه و آله و سلم: إنّ الدنيا حلوة خضرة وإنّ الله مستخلفكم فيها، فناظرٌ كيف تعملون (4).

فمن جملة ما استخلف الله سبحانه به عباده أنْ مكّنهم من أمور الناس، أو شؤون الحكم، أو أمانة المسؤولية. وهو سبحانه بجازي على العمل، فإن كان خير فبخير، وإن كان شرّ فشر وليس حبّ الدنيا

ص: 30


1- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم (102) والترمذي وأبو داود في كتاب البيوع (3452) وابن ماجه
2- أخرجه أبو داود في المراسيل (165) وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (7820) والسيوطي في الجامع الصغير (9233)
3- أخرجه النسائي في كتاب الاستعاذة (4568) وأبو داود كتاب الصلاة (1547)
4- أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه في الفتن (4000)

وحلاوتها وخضرتها يشفع للاغترار بها والعمل بغير ما يُرضي الله بإتيان المفاسد أو الظلم أو هدر حقوق الناس والمسؤولية أو الولاية أو الحكم، أو أي عمل يُناط بالإنسان القيام به، مقابل ما يتقاضاه من الأجر، ما هي إلّا أمانة في عنقه واجبٌ عليه احترامها وأدائها بالوجه الذي يبعدْ عن الفساد، ويقرّبه من العدل والنزاهة.

في الحديث المرفوع ما من والٍ يلي شيئاً من أمر «أمتي» إلّا اُتي به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق، ثمّ يُنشر كتابه، فإنْ كان عادلاً نجا وإنْ كان جائراً هوى (1).

وفي حديث آخر بنفس المعنى واختلاف الألفاظ: ليس أحدٌ يحكم بين الناس إلّا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكّه العدل وأسلمه الجور (2).

و يُحذّر صلی الله علیه و آله و سلم من الطمع الآفة المهلكة والمرض الفتّاك الذي يصيب النفوس الضعيفة فيهينها، ويُصغر شأنها، ويُفقرها ويحطّ من

قدرها.

يقول صلی الله علیه و آله و سلم: الطمع الفقر الحاضر (3).

وفي النهي عن الطمع حديث آخر، بلفظ مختلف: إيّاك والطمع فإنّه فقر حاضر (4).

ص: 31


1- أخرجه الحاكم في المستدرك (7069)، وأحمد في مسنده (22275)، والدارمي كتاب السير، باب التشديد في الإمارة (2515)
2- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (420/6)
3- أخرجه الحاكم في المستدرك(7928) والطبراني في الأوسط (7753)، والديلمي في مسند الفردوس (4069)
4- أخرجه الطبراني في الكبير(312) والبيهقي في الزهد الكبير (101)، والهيثمي في مجمع الزوائد (221/4)

في الحديث المرفوع: اجملوا في الطّلب، فإنّه ليس لعبد إلّا ما كُتب له، ولن يخرج من الدنيا حتى يأتيه ما كُتب له فيها، وهي

راغمة (1).

وفي حديث آخر بنفس مقصد الحديث السابق بألفاظ مختلفة: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاجملوا في الطّلب (2).

وهناك أحاديث كثيرة تنبه عن السحت وهو المال الحرام، المأخوذ بغير حقّه كالرشوة أو الاختلاس أو السرقة والاعتداء على المال العام أو استغلال المنصب والوظيفة والعمل للكسب الحرام والسحت الممجوج.

في الحديث المرفوع: لا يدخل الجنّة لحم نبت من السحت النار أولى به (3).

وفي الحديث أيضاً لو أنّ لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ عين ابن آدم إلّا التراب (4).

ولن تهمل الأحاديث النبوية الشريفة صغيرة أو كبيرة في مجال مكافحة الفساد ونبذه وإفشاء ثقافة النزاهة والعدل والإنصاف. فهذا الحديث ينهى عن الاحتكار ويلعن المحتكر لما في الاحتكار من فساد وخراب اقتصادي وتبعة سلبية في حياة الناس والمجتمع وأحواله المادية والنفسية والتربوية.

ص: 32


1- أخرج نحوه ابن ماجه والبيهقي في السنن الكبرى (10147)
2- أخرجه الطبراني في الكبير (7694) وابن أبي شيبة في المصنف (34332)، والبزاز في المسند (2914) والبيهقي في (الشعب) (1185)
3- أخرجه الترمذي، وأحمد في مسنده (14032) والدارمي في الرقاق (2776)
4- أخرجه البخاري ومسلم والترمذي في كتاب الزهد (2337)، وأحمد في باقي مسند المكثرين (12306)

يقول صلی الله علیه و آله و سلم: الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون (1).

وعن جابر بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: اتقوا الظلم، فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، رواه مسلم.

وعن أبي ذرّ صلی الله علیه و آله و سلم عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنّه قال يا عبادي إنّي حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّماً، فلا تظالموا رواه مسلم.

وفي الحديث: أطب كسبك تُستجب دعوتك (2)

جاعلاً طيب المأكل من شروط قبول الدعاء والاستجابة له.

وجاء عنه صلی الله علیه و آله و سلم: من اكتسب مالاً في نهاوش، أذهبه الله في نهابر. والنهاوش: المظالم بأنواعها كالرشا و الاختلاس و السرقات وسلب حقوق الناس.

والنهابر: المهالك. وقد لمسنا مصاديق ذهاب المال الحرام والسحت وعواقبه بالتجارب، وما حكته الأيام والظروف.

وإن اقتصرنا على هذه الدرر الثمينة من الكنز النبوي، «فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى ... سيرته القصد، وسنّته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل» (3).

ص: 33


1- أخرجه ابن ماجه في التجارات (2153)، والدارمي في كتاب البيوع (2544)
2- أخرجه الطبراني في الأوسط (6495)
3- من خطبة لأمير المؤمنين في صفة الأنبياء رقم (93) الصفحة (213) من نهج البلاغة

ص: 34

مدخل

جاءت الآية الكريمة 29 من سورة الأعراف: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بعد قوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) (1). فلما بيّن سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء، وهو اسمٌ جامعٌ للقبائح والسيئات، عقّبه ببيان ما يأمر به من القسط، وهو اسمٌ جامعٌ للفضائل والخيرات، وجاء القول بفعل الأمر على العمل بالقسط وتتدرج في مصاديقه الاستقامة والعدل والنزاهة وأداء الأمانة ونبذ الفساد مع ما فيه من دلائل أوسع هذا: كالتوحيد وقول لا إله إلّا الله أو الاعتدال أو ما يجمع من الطاعات و القرب. وفي الآية 25 من سورة الحديد: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَب وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي العدل، والمراد: و أمرنا بالعدل، كقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (2)

أي: وأنزل الله العدل. والميزان عبارة عن العدل كنّى به عنه وإنّما سمّي العدل ميزاناً لأنّ الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الناس. مع ما به من معانٍ أخرى: كالدين المشتمل عليه الكتاب.

فلقدسيّة العدل، جُعل هدفاً لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو

ص: 35


1- سورة الأعراف الآية 28
2- سورة الشورى الآية (17)

أسمى مهام الأنبياء وأولى غاياتهم. وكذلك أهداف جميع المصلحين، والمهتمين ببناء المجتمعات وأصحاب الرسالات السامية، والداعية إلى خدمة الإنسان ومنحه الدرجة التي يستحقها من الكرامة والاحترام والتقدير، مثلما أرادها له خالقه، إذ فضله على سائر المخلوقات، وأورثه الأرض وما عليها، ليقوم بإعمارها وإصلاحها والعمل فيها.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (1)

و حتى يتم إجراء القسط في الأرض وبين الخلق، لا بدّ من قائمٍ يقوم بهذه المهمة، وهو الإنسان ولا بدّ من قوانين وأحكام موجّهة ليستطيع ذلك الإنسان من أداء المهمة بصورتها الصحيحة الحقّة. وهذه المهمة ما هى إلّا وسيلة لإجراء العدل وإحقاق الحق، وإنصاف وخدمة الخلق.

ومع أنّ المفاهيم التربوية لا تكون متطابقة أو متشابهة تماماً في أفكار الناس وتقييمهم، وحتى بين أبناء العصر الواحد، فمع اختلاف الناس وتنوّع مشاربهم، تتفاوت النظرة للمفاهيم أو المبادىء بينهم، وتختلف أساليب التفكير ومجالاتها، وتتباين الأحكام والتواصيف فيها ولكنهم في المسائل العمومية، يتقارب الجميع ويلتقون في كثير من النقاط، وتتشابه إلى حدٍّ بعيد أحكامهم و تعريفاتهم لها. فالحقّ بيّن و الباطل كذلك.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يَخْفَ على المرتادين ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين ] (2).

ص: 36


1- سورة الإسراء، الآية (70)
2- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (50) الصفحة (123) نهج البلاغة

فالحقّ لو كان خالياً من ممازجة الباطل ومشابهته لكان ظاهراً لمن طلبه. إنّما بينهما الشبهة: [وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى «أي طريقته»، و أما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال، ودليلهم العمي] (1).

لذلك فإنّ ما يحتجّ به أهل الحقّ يسمّى دليلاً، وما يحتجّ به أهل الباطل يسمّى شبهة.

و يظهر فساد الشبهة وتنحل لمن يراعي اليقين، ويطلب المقدمات المعلومة قطعاً، ويعتبر ويعتبر مقدمات الشبهة. أما من ينظر للشبهة من غير أن يراعي الأمور اليقينّة ولا يراعي المقدمات ويحللها، بل تغلب عليه العصبيّة، و الأثرة، وحبّ الذات، فذلك هو العمى والضلال الذي ذكره علیه السلام فلا تنحل له الشبهة، و تزداد عقيدته فساداً.

ويقول صلی الله علیه و آله و سلم: [حقٌّ وباطل، ولكلِّ أهل ] (2) فما يمكن أنْ يكون عليه الناس ينحصر في أمرين: إمّا حقّ أو باطل، وهكذا فالعالم لا يخلو منهما. وللحقّ أهل وللباطل أهل ورغم كثرة أهل الباطل وتمكّنهم إلّا أنّ ذلك لا يدفع أهل الحقّ إلى الاستيحاش، أو الشعور بالضعف، أو الهوان. فلا تستوحشوا في طريق الحقّ لقلّة سالكيه، كما يقول علیه السلام.

وليست المعادلة الصحيحة أنْ تعرف الحقّ بالرجال، وإنّما يُعرف الرجال بالحقّ. يقول علیه السلام: [إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه ] (3).

ص: 37


1- من خطبة الأمير المؤمنين (4) رقم (38) الصفحة (112)، نهج البلاغة
2- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلاملما بويع له رقم (16) الصفحة (69) نهج البلاغة.
3- في باب حكم الأمير المؤمنين علیه السلام رقم (264) الصفحة (686)، نهج البلاغة

فلا يغرنّك منزلة الرجل أو مكانته في أنّ كلّ ما يأتي به هو الصواب، فربّما يكون منها الباطل أو الخطأ، ومنزلته ومقامه يصوران لك أنّه الحقّ. فإنْ عرفت الحقّ وميّزته عن نقيضه تعرف أهله وبنفس المعادلة تعرف أهل الباطل أيضاً.

ثم يحذّر علیه السلام فيقول: [ولا تُرخّصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظّلمة ] (1). أي لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية، ولا تسامحوها وترخصوا إليها في ارتكاب الصغائر والمحفزات من الأخطاء، فتهيج بكم على كبائرها، لأنّ من مرن على أمرٍ تدرّج من صغيره إلى كبيره. وهذا من أعلى وأشرف الكلام في تدريب النفس وترويضها وتعويدها على نبذ المفاسد والابتعاد عنها والتخويف من صغيرها حتى لا يقع في كبيرها

ويعتبر أنّ أتباع الهوى يصدُّ عن الحقّ، فيقول: [فأمّا أتباع الهوى فيصدّ عن الحق] (2) وذلك صحيح لا ريب فيه، لأنّ الهوى يعمي البصيرة، وما زال الهوى مردياً قتّالاً، ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ) (3)

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع وإعجاب المرء بنفسه (4).

وهو يحذّر من مقاومة الحقّ ومجابهته، وإبداء العداء

ص: 38


1- من خطبة الأمير المؤمنين (4) رقم (85) الصفحة (178)، نهج البلاغة
2- من خطبة الأمير المؤمنين علیه السلام رقم (42) الصفحة (116)، نهج البلاغة
3- سورة النازعات، الآية (40)
4- أخرجه الطبراني في الأوسط، (5452) والشهاب من مسنده (325)، والبيهقي في شعب الإيمان (745) و ابن المبارك في الزهد (123)

والمحاربة له يقول: [ من أبدى صفحته للحق هلك] (1) وإبداء الصفحة: إظهار الوجه أي ظهر بمقاومة الحقّ.

وقد يكون المعنى: منْ أعرض عن الحقّ وإبداء الصفحة من معانيها: أنّ الصفحة تظهر عند الإعراض بالجانب.

و يقول أيضاً: [من صارع الحق صرعه] (2)، بالحجّة، فإن الحق حجته قائمة وواضحة تفلج في كل حال.

أو المراد أنّ الصرعة تأتي بعد حين أو بالعاقبة.

ويدعو إلى التعوّد على مقالة الحقّ، وعدم الكفّ عنها مع عدم استثقال من تُعرض عليه. يقول: [فإنّه من استثقل الحقّ أنْ

يُقال له أو العدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق أو مشورةٍ بعدل ] (3) وهذه أيضاً من أعلى وأجل التشريعات في مجال العمل الديمقراطي والشراكة في الرأي وفي القرار، وفي التوجيهات الأساسيّة بخصوص العلاقة بين الناس والمسؤول أو بين الحاكم والمحكوم. بأن لا يمتنع المرء من قول الحقّ و إبداء الرأي، أو المشورة العادلة.

والمسؤول لا يستثقل من سماع كلمة الحقِّ تُقال له أو مشورة العدل تُعرض عليه. فلو حصل ذلك الاستثقال، كان العمل بالحقّ والعدل عليه أثقل.

وهو يصف العلاقة الطبيعية بين الحاكم والمحكوم، والتي يُفترض أن تكون عليها من غير حواجز، أو اصطناع أو تكليف.

ص: 39


1- في باب حكم أمير المؤمنين ورقم (188) الصفحة (668)، نهج البلاغة
2- في باب حكم أمير المؤمنين رقم (402) الصفحة (717)، نهج البلاغة
3- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام بصفين، رقم (214) الصفحة (452، 453) نهج البلاغة

يقول علیه السلام: [ ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ] (1).

وأهل البادرة هم أهل الغضب، والمصانعة المداراة.

فهو ينهى عن المخاطبة بالألقاب التي يلقّب بها الجبابرة، وينهى كذلك من التحفّظ منه بالتزام الذلّة و الموافقة على الرأي صواباً كان أو خطأً، كما يُفعل مع الظلمة وأهل البادرة، فلا الظلمة وأهل البادرة فلا يُعرض عليه إلّا ما يُرضيه ولا يغضبه، فتأتي المصانعة من ذلك، وتكون الأخطاء، ويكون حينها الفساد.

إنّ طاعة الناس وانسجامهم مع المسؤول، منوطة بما يقدمه ذلك المسؤول من أعمال مفيدة، أعمال مفيدة وخدمات منتجة وما يؤديه من الواجب الذي على عاتقه والحقوق التي عليه الفراغ من أدائها والفرائض التي لا بدّ من إمضائها.

لا لمجرد تسنّمه مسؤوليته، ليكون ذلك حاجزاً بينه وبين من يردُّ عليه أو يعترض طريقه أو يرشده لما هو صواب. ولا أن يُبيح عمل ما يحلو له أو ما يتّفق وهواه ومصالحه فقط. لذا فالواجب أن يعتقد أنّه بعين الرقيب، وذلك الرقيب لا يغفل عن شيء، وإنْ تغاضى عنه، فهو مبديه بعد حين وسيخضع ما يبديه لأثر التراكمات، وتكرر الأخطاء، وتوالي العثرات ومن هذا يتولّد الانفجار، أو التعبير والانفعال. حتى تكون قابلية التدارك والتصحيح ضعيفة وفي كثير من الأحيان غير مجدية. وكان باستطاعته النأي عن ذلك كلّه بالمبادرة في أوّل الوقت، وعدم إرجاء ما يجب عليه، وما يُفترض به.

ص: 40


1- نفس المصدر السابق، الصفحة (452)

يقول علیه السلام: [و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس، أنْ يُظنَّ بهم حبُّ الفخر، ويوضع أمرهم على الكِبْر ] (1). أصل السخف: رقّة العقل. والمراد: أنّه من أضعف حالات الولاة أنْ يُظنّ بهم حبّهم للفخر وميلهم لسماع الإطراء، أو المبالغة في الثناء، وبناء أمورهم على أساس الكبر. وهذا القول منه علیه السلام، فيه ما لا يخفى من الرفعة وسمو النفس، وجلال القدر، والترفّع عن الصغائر.

يقول علیه السلام: [فلا تثنوا عليَّ بجميل ثناءٍ لإخراجي نفسي إلى الله و إليكم من التقيّة في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بدّ من إمضائها ] (2).

ما أجمل هذا القول وأجمعه. لإخراجي متعلق بتثنوا.

و التقيّة: الخوف أي إني أُخرج نفسي من عقاب الله في قضاء الفرائض وأداء الحقوق، فلا حاجة للثناء على ذلك، وإنّما أنا وَقَيت نفسي فيها، وعملت لسعادتي بأدائها. أو باعترافي بين يدي الله وبمحضرٍ منكم، أنّ عليَّ حقوقاً في إبالتكم، لم أقم بها بعد، وواجب عليَّ أنْ أعملها، وأرجو من الله ذلك. وإنّما الثناء بعد البلاء، فلو كان الثناء سائغ وغير قبيح، لما جاز لكم أن تثنوا عليَّ في وجهي ولا أنْ أسمعه منكم، وعليَّ بقيّةٌ من فرائض وحقوق لم أنتهي من إمضائها والفراغ منها.

وهذا كلامٌ عالٍ بعيدٌ في غوره عميقٌ في معناه شريفٌ في غايته.

ص: 41


1- نفس المصدر السابق
2- نفس المصدر السابق

ص: 42

هداية و دليل

اشارة

لا شكَّ أنّ المتتبّع والدارس لنهج البلاغة، يجد فيه من الهدي الشيء الكثير، وما جالسه أحد إلّا وقام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة من معرفة وهدي أو نقصان من حيرةٍ وضلال. ولا غربة فإنّ صاحب النهج جليس القرآن: الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدّث الذي لا يكذب.

وما جالسه أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادةٍ من هدى أو نقصانٍ من عمى، كما يقول علیه السلام. (1)

وهو تلميذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إمام المتكلّمين، وأبلغ الناطقين صلی الله علیه و آله و سلم لنحاول من بين هذا العنوان أن نستهدي ببعض أغراضه ومفاهيمه ونروي بشيءٍ من غديره ونغتذي منموائده بتناول بعض ما يخص موضوع العدالة والنزاهة وثقافتها.

ما له وما عليه:

يقول علیه السلام: [فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّا بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ] (2).

ص: 43


1- من خطبة الأمير المؤمنين علیه السلام رقم (174) الصفحة (353)، نهج البلاغة
2- من خطبة الأمير المؤمنين رقم (214) الصفحة (449)، نهج البلاغة

أمّا حقّه عليهم بعد ولايته أمرهم هو وجوب الطاعة وأمّا حقّهم عليه، فهو يوجب معدلته فيهم.

فتتكافأ الحقوق بين الوالي والرعيّة. وهذه الحقوق فرضها الله سبحانه لكلِّ وعلى الكل، فجعلها نظاماً لإلفتهم وتوطيداً لعزّتهم. وعندما تؤدّى هذه الحقوق من الطرفين يعزّ الحقّ بينهم، وتقوم معالم العدل، فيصلح بذلك الزمان، ويُطمع في بقاء الدولة، وييأس من مطامع الأعداء.

وإذا أجحف الوالي الرعية وغلبت الرعية الوالي اختلفت: الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال، وتركت محاجّ السنن..

فيُعمل بالهوى، وتُعطل الأحكام، وتزداد علل النفوس.

والأمر متصل بالعلاقة بين المسؤول والناس، وكيف لهذه العلاقة أنْ تسير وتقوم. فلا مناص من حاجة بعضهم إلى بعض والإعانة والمساعدة بينهما.

يقول علیه السلام: [ وليس امرؤٌ وإنْ عظمت في الحقّ منزلته، وتقدّمت في الدين فضيلته بفوق أنْ يُعانَ على ما حمَّله الله من حقّه، ولا امرؤٌ وإنْ صغّرته النفوس، واقتحمته العيون بدون أن يُعينَ على ذلك أو يُعانَ عليه ] (1) فليس أحدٌ بأعلى من أن يحتاج إلى الإعانة أو يستغني عن المساعدة. ولا أحدٌ اقتحمته أي احتقرته العيون بأعجز أن يساعد غيره.

وهو كلام جليل القدر، رفيع المعنى، لا يأتي إلّا من عظيم النفس سامي المنزلة صافي الروح و الوجدان.

ص: 44


1- من خطبة الأمير المؤمنين رقم (214) الصفحة (451)، نهج البلاغة

بين القول والعمل

يقول علیه السلام: [و الحقّ أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف ] (1).

فكلّ أحدٍ يصف الحقّ ويذكر محاسنه و وجوبه، ويقول: لو ولّيتُ لعدلت. فهو في الوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيّق. أي قولٌ بغير عمل. فيتّسع القول في وصفه، فإذا وجب الحقّ على الواصف فرّ منه ومن أدائه، ولم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها.

ثم يقول علیه السلام: [لا يجري لأحدٌ إلا جرى عليه، ولا يجري عليه، ولا یجری علیه إلا جرى له] (2).

فإنّه لا يوجد أحدٌ فوق الحقِّ أو بأعلى من أن يُجرى عليه.

و الناس يتكافؤون في وجوه الحقّ، فكما يأخذ أحدهم حقه ولا يُبخس منه شيئاً، كذلك لو كان عليه الحقّ، فيؤخذ منه.

وهذه هي العدالة الحقّة التي لا مواربة فيها ولا تمييز.

كقوله: [إنّ من أحبّ عباد الله إليه ... قد ألزم نفسه العدل ... يصف الحقّ ويعمل به ] (3).

و قوله علیه السلام: [ إنّ أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحقّ أحبَّ إليه - وإِنْ نَقصه وكَرَثَهُ - من الباطل وإنْ جرَّ إليه وزاده ] (4).

ص: 45


1- من نفس الخطبة، الصفحة (449)
2- نفس المصدر السابق
3- مأخوذ من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (86)، الصفحة (179) و ما تلاها
4- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام في التحكيم رقم (123)، الصفحة (270، 271) نهج البلاغة

كرثه: اشتدّ عليه و بلغ منه المشقّة، فإنّ الحزن بالحقّ مسرّة لديه، والمسرّة بالباطل عاقبتها الغمّ الدائم.

ربيع العدل

يجري على ألسن العظماء و المصلحين ما يعتلج في نفوسهم، وما يعتقدونه ويصوّبونه من الآراء. وتتحدّد قيمة هذه الآراء من قيمة المفاهيم والدروس التي تطرحها، و درجة التفاعل معها، و الأثر الذي تتركه في النفوس، وما تعوذ من نتائج في الإصلاح والتربية. ولو قارنا كتاب نهج البلاغة مع كثير من الكتب و الآثار الفكرية للمسنا من قريب تميّز هذا الأثر الكبير عن سائره في العطاء، وتفوّقه على غيره بدرجاتٍ بعيدة في فحوى المباحث، وروح المناهج واستحقاق الثناء. فإذا وجدنا في غيره بصيص ضياء ففيه ضياعات وشموس وإن شعرنا في سواه هبّة نسيم في قائظ، فهو الربيع الدائم.

وفي مجال البحث في ثقافة النزاهة ومحاربة الفساد، ومُسامات المدارس التربوية و المناهج الإصلاحية، و تنقيب مسالك العمل الاجتماعي، فإنّك تجد بغيتك، و تهتدي إلى ضالتك، في طروحات نهج البلاغة.

وفيما ذكرناه وما نذكره لاحقاً من أقوال وحِكَم وخطب الإمام علیه السلام فيما يخصّ موضوع الإصلاح عموماً نقطف أزهاراً من ربيع هذا الأثر المعرفي الخالد ينعش بها الفكر وترتوي منها القلوب، حيث لها في كل غاية عَلَمٌ مُشرع وآثارها في نفوس المريدين واضحة، و العقل في قبولها والإقناع بها أسرع.

في عهده علیه السلام إلى مالك الأشتر عند تكليفه بولاية مصر يقول علیه السلام: [و أشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم، واللطف

ص: 46

بهم ... فإنّهم صنفان إما أخٌ لک في الدين، وإما نظيرٌ في الخلق ] (1).

أي اجعل الرحمة من قلبك كالشعار له و هو الثوب الملاصق للجسد. فالرعية: إما من نفس دينك، فهو أخ لك من ناحية الدين، أو إنسان مثلك، فيقتضي الطبع البشري أنْ تشعر معه بالرحمة والميول إليه. و هو من أعلى وأرفع مبادىء حقوق الإنسان والمساواة، دون النظر إلى التمايز أو الأثرة ولأيّ سبب أو غاية. فالحقّ وإجراء العدل يستحقه الجميع برابط الإنسانية الذي يربط الجميع.

يقول علیه السلام: [إنّ أفضل عباد الله، عند الله، إمام عادل] (2) يحقق إرادة الله في إجراء العدل، وإنصاف الخلق، وينقّذ أمر الله بذلك، و هو القائل سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (3)

ثم يقول علیه السلام: [و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامةُ العدل في البلاد ] (4). فإن استقام العدل، انتظمت أمور الناس، وهدأت شكاياتهم، وانصرفوا لأعمالهم وشؤونهم، وفي ذلك صلاح البلاد، وقرّة عين الولاة.

ويقول علیه السلام: [ وبالسيرة العادلة يُقهر المناوىء] (5)

.

ص: 47


1- من العهد الذي كتبه أمير المؤمنين علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (572)، نهج البلاغة
2- من كلام لأمير المؤمنين رقم (162) الصفحة (331)، نهج البلاغة
3- سورة الحديد، الآية (25)
4- من العهد الذي أرسله أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر الصفحة (580)، نهج البلاغة
5- في باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (225) الصفحة (675)، نهج البلاغة

وهو المخالف، أو المعاند بكلّ أشكاله، فإنّ السيرة إذا كانت عادلة تنتفي الحاجة للمخالفة أو العناد أو الاعتراض. و إنْ حصل فسيجد من يقف بوجهه ويردعه ويمنعه، حفاظاً على مكاسب السيرة العادلة، فتصبح سلاحاً بوجه المصاعب والمتاعب إنْ وجدت.

ويقول أيضاً: [من تعدّى الحقّ ضاق مذهبُه ] (1).

وأراد بمذهبه هنا: طريقته، وهذه من الاستعارة ومعناها أنّ طريق الحقّ لا مشقّة فيها لسالكها، بعكس الباطل فيها المشقّة والمضار. وسالك الباطل كسالك طريقة ضيقة يتعثّر فيها، ويتخبّط في سلوكها.

يقول علیه السلام، في كتاب أرسله إلى عامله على آذربيجان [وإنّ عملك ليس لك بطعمة و لكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعّى لمن فوقك، ليس لك أن تفتاتَ أي تستبد في رعيّة، و لا تُخاطر إلّا بوثيقة ] (2)

الطعمة: المأكلة، يقال فلان خبيث الطعمة أي رديء الكسب. عملك أمانة في عنقك للناس الذين تعمل لخدمتهم.

وأنت مسترعًى: أي يرعاك ويراقبك المسؤول الذي هو فوقك، فليس لك أن تستبدّ في الناس أو تظلمهم، أو تقصّر في حقّهم. ولا تخاطر وتقدم على أمرٍ مخوف فيما يتعلق بالمال الذي تتولّاه أو سائر أعمالك، إلّا أن تتوثق أي تحتاط للأمر، أنْ تقع في الخطأ، أو تأتي بما يوجب محاسبتك.

و هذا الكتاب نموذج لعشرات الكتب التي كان يرسلها إلى عمّاله

ص: 48


1- من وصية لأمير المؤمنين علیه السلام إلى ولده الإمام الحسن علیه السلام رقم (269)، الصفحة (542)، نهج البلاغة
2- من كتاب أرسله أمير المؤمنين علیه السلام إلى عامله على آذربیجان، رقم (243)، الصفحة (494)، نهج البلاغة

و أصحاب الولايات توضّح مدى اهتمامه ورقابته ومتابعته إليهم، و تحذيره لهم من ارتكاب الأخطاء، أو الإخلال في أداء الأمانة، ويُرشد من يحتاج للإرشاد إلى العمل بالنزاهة و قوانين إجراء العدل و إبلاغ الحقوق.

و بعض ما يصف «الإمام الحق» قوله: [ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع ] (1)

و المقاطع: الحدود، وهو ما ينتهي الحقّ إليه. أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل ما أُخذ من الرشوة عليها. ذلك ما للرشوة من أثر في ضياع الحقوق و فساد المجتمع.

و في الحديث المرفوع: ما من قومٍ يظهر فيهم الرشا إلّا أخذوا بالرعب.

و أختم هذا الجزء بنفحة طيبة من هدي صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، الذين ربّاهم القرآن وعلّمهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم حتى صاروا قدوة و ملاذاً لكل طالب دليل أو هداية.

روى الربيع بن زياد، قال: قدمت على عمر بمالٍ من البحرين، فصلّيت معه العشاء ثم سلّمت عليه فقال: ما قدمت به؟ قلت: خمسمائة ألف، قال: ويحك! إنّما قدمت بخمسين ألفاً قلت: بل خمسمائة ألف. قال: أطيّب هو؟ قلت: نعم، لا أعلم إلّا ذلك، واستشار الصحابة فيه، فأُشير عليه بنصب الديوان فنُصب، وقسّم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة فجمع المهاجرين و الأنصار، وفيهم علي بن أبي طالب و قال للناس: ما ترون فيما فضل من المال؟ فقال

ص: 49


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (129) الصفحة (279)، نهج البلاغة

الناس: يا أمير المؤمنين إنّا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك وعملك، فهو لك. فالتفت إلى عليّ فقال: ما تقول أنت؟ قال: قد أشاروا عليك، قال: فقل أنت، فقال له: لم تجعل يقينك ظنّاً؟ فلم يفهم عمر قوله، فقال: لتخرجنّ ممّا قلت قال أجل و الله لأخرجنّ منه أتذكر حين بعثك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ساعياً، فأتيت العباس بن عبدالمطلب، فمنعك صدقته فكان بينكما شيء، فجئتما إليّ وقلتما: انطلق معنا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجئنا إليه فوجدناه خاثراً (1) فرجعنا ثم غدونا عليه فوجدناه طيّب النفس، فأخبرته بالذي صنع العباس، فقال لك: يا عمر، علمت أنّ عمّ الرجل صنوُ أبيه! فذكرنا له ما رأينا من خُثوره في اليوم الأول، وطيب نفسه في اليوم الثاني فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول، وقد بقي عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم خثوري لذلك و أتيتم في اليوم الثاني وقد وجّهتهما فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي. أشیر عليك ألّا تأخذ من هذا الفضل هذا الفضل شيئاً، وأن تفضّه على فقراء المسلمين فقال عمر: صدقت و الله لأشكرنّ لك الأولى والأخيرة (2).

ص: 50


1- خاثر النفس: ثقيلها غير طيّب ولا نشيط، لسان العرب
2- شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة الجزء (12) الصفحة (242، 243)

مدرسة الطمع

من يقدر أن يُبرىء نفسه من الطمع فيُقرض في الكلام عنه وعن أهله دون أن يعنيه الكلام هو مثل غيره!

وهل يوجد في الدنيا من لا يحبّ الدنيا؟ و إذا كان حب الدنيا - و الناس أبناؤها - من الأمور التي ينطبق عليها وصف الطمع، فهل يُلام المرء على حب أمّه (1)؟ و الشاعر يقول:

و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها *** و ما كنتَ منه فهو شيءٌ محبَّبُ

وهل يُطلب من المرء - حتى لا يقع في شَرَكِ الطمع - أن يكون زاهداً منقطعاً مكتفياً فيما يُقيم صلبه و يعينه على استمرار حياته، فلا يجد أو يجتهد، أو يعمل وينجح في عمله ويطوّر نفسه، ويأخذ من الدنيا ما يريد؟ أمْ يكتفي بقناعته، ورضاه بما في يديه، ولا يكترث بما في أيدي الآخرين؟ فيكون بذلك قد رضي عن نفسه، وخرج من خطّة الطامعين، وتبرّأ من الانتماء إليهم.

إنّ من خلق الطامع أنّه لا يُنظر لما هو فيه، ولا يدعو له، حتى لا يشاركه غيره فيما هو فيه، ويظنّ أنّ الدنيا خلقت له وحده وليس للآخرين سهمٌ فيها.

ص: 51


1- من الكلام المنسوب إلى علي علیه السلام: الناس أبناء الدنيا ولا يُلام الرجل على حبّ أمّه. في الحكمة رقم (305) الصفحة (696)، نهج البلاغة

فهو يحيا في عالم منغلق، يأخذ ما يحب وما يجد، ولا يدع ما لا يحب أو ما لا يجده.

يتخيّل أنّه سيّد نفسه ومن حوله، وهو قابعٌ في رقّ مؤبّد(1).

ويحسب عقله راجحاً، وعقله مصروع تحت بروق مطامعه (2).

يقول الشاعر:

و إيّاك و الأطماع إنّ عودها *** رقارِقُ آلٍ أو بوارقُ خُلَّبِ

ويتوهّم أنّه يحترم نفسه، وهو من أزرى بها (3).

و يقول: إنّي قويٌّ عزيز وهو موثقٌ بوثاق الذلّ (4) ویری أنه في منعة وحصانة و أمان، ومطايا الطمع توجف به مناهل الهلكة (5).

ويظنّ أنّ طمعه ضامن له وما هو إلّا وارد هُلْكِ لم يصدر عنه.(6)

وهو يعتقد أنّه أدرك من الدنيا ما يريد، وربما كان هلاكه فيما أدرك منها (7).

ص: 52


1- من حكم أمير المؤمنين رقم (180) الصفحة (667) في نهج البلاغة، قوله: «الطمع رقّ مؤبده»
2- من حكم أمير المؤمنين رقم (220) الصفحة (674) قوله: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع
3- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (2) الصفحة (627)، قوله: «أزرى بنفسه (أي احتقرها) من استشعر الطمع (أي تبطنه وتخلّق به)»
4- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (227) نهج البلاغة (675) قوله: الطامع في وثاق الذّل»
5- من وصيته للإمام الحسن علیه السلام الصفحة (538)، قوله: «وإيّاك أن توجف (أي تُسرع) بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة.»
6- من حكمه علیه السلام جزء من الحکمة رقم (277)، الصفحة (690)، قوله: «إنّ الطمع موردٌ غیر مصدر وضامنٌ غير وفي
7- من وصيته لولده الحسن علیه السلام، الصفحة (542) قوله: «قد يكون اليأس إدراكاً، إذا كان الطمع هلاكاً»

وإذا كان الطمع يعني الاستزادة من الشيء، فهو لا يعني أنّ كلّ طلب للاستزادة مرفوض و منكر. بل إنّ منها ما هو راجحٌ وفيه المعروف. كالطمع في رحمة الله وغفرانه وثوابه وجنّته، ومن آياته بنزول المطر، وما إلى ذلك.

والملفت للنظر أنّ «جذر الطمع» ذكر في القرآن الكريم اثنا عشر مرّة وجميعها في المباح وفيما لا يُنكر سوى آيةٍ واحدة، والآيات الإحدى عشرة هي:

﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (1).

(أَفَتَطْمَعُونَ) (أيها المؤمنون) (أَن يُؤْمِنُوا لَكُم) (أي اليهود) (وقد كان فريق منهم) (أحبارهم) (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ) (2)

وَ نَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (3)

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) (4)

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (5)

(وَمَهَّدتُّ) (بسطت) (له) (من العيش و العمر والولد) (تَمْهِيدًا) (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (لا أزيده على ذلك) (6).

(لمْ يَدْخُلُوهَا) (الجنّة) ﴿وَ هُمْ يَطْمَعُونَ) (فى دخولها) (7)

ص: 53


1- سورة الشعراء، الآية (82)
2- سورة البقرة، الآية (75)
3- سورة المائدة، الآية (84)
4- سورة الشعراء، الآية (51)
5- سورة المعارج، الآية (38)
6- سورة المدثر الآيتان (14، 15)
7- سورة الأعراف الآية (46)

﴿ وَ ادْعُوهُ خَوْفًا) (من عقابه) (وَطَمَعًا) (في جنّته) (1)

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا) (من الصواعق) (وَطَمَعًا) (في المطر) (2).

(وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا) (من الصواعق) ﴿وَطَمَعًا) (في المطر) (3).

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا) (من ناره) (في جنته) (4).

فقط جاء في الآية (32)، من سورة الأحزاب: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وهو فقدانه قوّة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء.

وكان ورود كلمة «الطمع» في هذه الآية فقط في حالته السلبية، خلافاً لسائر الآيات السابقة.

على هذا لا يكون «الطمع» منكراً بالمطلق. فكما في الفتنة، كونها لفظٌ مشترك، فتارة تطلق على البليّة والمصيبة، تقول: فُتن زيدٌ إذا أصابته مصيبة في مالٍ أو فقدان ولد أو غير ذلك. وتارة تطلق على العذاب قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (5) أي عذّبوهم.

ومرّة على الإمتحان والاختبار تقول فتنتُ الذهب، إذا أدخلته النار لتعلم جودته. و تارة تطلق على الإحراق، كقوله تعالى: (ويَوْمَ هُم عَلَى

ص: 54


1- سورة الأعراف الآية (56)
2- سورة الرعد الآية (12)
3- سورة الروم، الآية (24)
4- سورة السجدة، الآية (16)
5- سورة البروج، الآية (10)

النَّارِ يُفْتَنُونَ) (1) أي يُحرقون. وتطلق أيضاً على الضّلال يقال: رجل فاتن أي مضلّ عن الحقّ. قال تعالى: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) (أي بمضلّين) (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) (2)

فلو كان التعوّذ من الفتنة يُراد بها البليّة أو الإحراق أو الضّلال أو العذاب فلا بأس. ولكن من أراد بها الامتحان أو الاختبار فغير جائز، لأنّ الله أعلم بالمصلحة وله أنْ يختبرعباده لا ليعلم حالهم، فهو عالم بكلّ شيء، ولكن ليعلم عباده حال بعضهم البعض.

لهذا يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [لا يقولن أحدكم: اللّهمّ إني أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحدٌ إلّا وهو مشتمل عليها، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن. فإنّ الله سبحانه يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (3). ومعنى ذلك أنّه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسْمِه، وإنْ كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ] (4)

لهذا أيضاً فإنّ الغايات و الإرادات هي التي تحدد الطمع المنكر من غيره. فما الضير من طمع الإنسان في نزول المطر، وحلول الخير، أو طمعه برحمة الله وغفرانه وعفوه وجنّته فالمدار إذاً في قدرة النفس من انتزاع الشرور منها كما يقتلع صاحب الزرع النبت السَّيئ والخبيث من بين زرعه. (كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (5).

ص: 55


1- سورة الذاريات، الآية (13)
2- سورة الصافات، الآيتان (162، 163)
3- سورة الأنفال، الآية (28)
4- في باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (93) الصفحة (645)، نهج البلاغة
5- سورة الأعراف الآية (58)

والآية تقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) (تربتة عذبة) (يَخْرُجُ نَبَاتُهُ) (حسناً) (بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ) (ترابه) (لَا يَخْرُجُ) (نباته) (إِلَّا نَكِدًا) (عسراً في مشقّة) (1).

و هذان مثلان: للمؤمن يسمع الموعظة و ينتفع بها، و للكافر، أصم لا يسمع. فالأرض لها جنس واحد، إلّا أنّ منها عذبة خصبة تلين بالمطر، فتخرج نباتاً حسناً. ومنها سبخة وإن سقط عليها المطر فلا تنبت، و إذا أنبتت، فهو ممّا لا يُنتفع فيه. كذلك قلوب الناس، منشؤها من لحم ودم، فمنها تلين للوعظ وتقبله، ومنها قاسٍ لا يقبل الوعظ.

أو (كَمَثَلِ غَيْثٍ) (مطر) (أَعْجَبَ الكُفَّارَ) (ما ظهر من الزرع) (نَبَاتُهُ) (الناشيء عنه) (ثُمَّ يَهِيجُ) (ييبس) (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) (تذروه الرياح) (2)

ومن الآيات البيّنات أمثالٌ تُضرب للموعظة، وهي للقلوب دليل. يقول تعالى: ﴿وَ اضْرِب) (صیّر) (لَهُمْ) (یا محمد) (مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) (نسبت بذلك الماء نباتٌ التفَّ بعضه ببعض يروق حسناً ونضارة) (نفَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) (3)

فإنّ التغيّر والتبدّل في أحوال الدنيا كانقلاب وتغيّر هذا النبات، فالنبات الحسن يروق ما خالطه ذلك الماء، فإذا انقطع عنه عاد هشيماً متفتّتاً لا نفع فيه.

والإنسان إذا ما أراد أنْ يطمع في شيء، ويحب أنْ يستزيد منه،

ص: 56


1- سورة الأعراف الآية (58)
2- سورة الحديد، الآية (20)
3- سورة الكهف، الآية (45)

فلتكن استزادته وطمعه في شيء ثابت و دائم، لا كالريح الهشيم. و ليكن نافعاً مفيداً، لا ييساً حطاماً أو طيّباً حسناً، لا خبيثاً نكداً.

و كلّ هشيم أو حطام أو خبيث، فهو إلى زوال و عاقبته إلى ندامة وحسرة. و ذلك مدعاة إلى أن يُكره ويُنفر منه. وكلّ ثابت ونافع وطيّب، فهو إلى بقاء، وعاقبته خير ونعيم. وذلك مدعاة إلى أن يُرغب فيه، ويُتقرّب إليه.

فربَّ طلب جرَّ إلى حَرَبٍ، كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام (1): و ما خيرُ خيرٍ لا يُنالُ إلّا بشر، ويُسرٍ لا يُنالُ إِلّا بعسر (2).

فأيُّ خيرٍ في شيءٍ سمّاه الناس خيراً، و هو مما لا يُنال إلّا بالشر. فإنْ كان الطريق إليه شرّاً، فمن أين يكون خيراً؟ و إنّ الخوف من العسر و الحاجة، يدفع للرذائل، فلو جعل الرذيل وسيلةً للحصول على اليسر (أي السعة و المكسب) فما الفائدة منه، وهو لا يحميه من النقيصة وقد وقع أول الأمر فيما يهرب منه.

ص: 57


1- من وصية لأمير المؤمنين علیه السلام للإمام الحسن علیه السلام الصفحة (537)، نهج البلاغة. والحَرَب بالتحريك: يعني سلب المال
2- من وصية لأمير المؤمنين علیه السلام للإمام الحسن علیه السلام الصفحة (538)، نهج البلاغة

ص: 58

مدرسة القناعة

كلُّ مُقْتَصَرٍ عليه كافٍ (1).

إنّ من اقتصر على شيء، وقنعت به نفسه فقد كفاه، واستغنى به عن الفضول التي يرغب فيها المترفون. والإنسان يرغب في أشياء ويُريد أشياء. فإذا لم ينل الكثير منها يتحمّل الهموم لذلك، والشعور بالخيبة والحرمان وانشغال البال. فهو يضيف بذلك خسارة إلى ما يظنّه من خسارته بفوت ما كان يأمله وعمد إدراك ما كان يريده.

ولو أنّه لم يحمل همّاً لذلك، ولم يبالِ للدهر ولا يكترث بما يعكس عليه من غرضه، ويحرمه من أمله ويهون ما لم يكن فيما أراده وتمنّاه وقنع كيف كان وعلى أيّ حالٍ هو فيه فقد غلب وانتصر بإراحته نفسه عناء الهمّ من الهمّ و الشعور بالغبن أو الخسارة وجاوز ما لم يستطيعه إلى ما يستطيعه ويقدر عليه. على رأي الشاعر:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيعُ

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [إذا لم يكن ما تريد فلا تُبَلْ ما كنت ] (2).

ص: 59


1- في القصار من كلمات أمير المؤمنين رقم (393)، الصفحة (716)، نهج البلاغة
2- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (69) الصفحة (640)، نهج البلاغة

ذلك الذي عجز عن مراده، ثمّ رضي بالحال الذي كان.

و قريبٌ منه قوله علیه السلام: [لا تسأل عمّا لم يكن ففي الذي كان لك شغل] (1).

أي لا تتمنَّ من الأمور بعيدها، و كفاك من قريبها ما يُشغلك.

ومن هذا الباب قول أبي الطيّب:

خُذْ ما تراهُ ودَعْ شيئاً سمعتَ به *** في طلعةِ البدر ما يُغنيك عن زُحَلِ

وقد كان بعض الحكماء يقول: حدُّ القناعة هو الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار على الزهيد (أي القليل)، و هما متقاربان. وفي الأغلب يكون الزهد رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها. أمّا القناعة: فهو إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها. و كل زهد حصل عن قناعة فهو تزهّد، و ليس بزهد.

و لو أراد الإنسان أنْ يكون زاهداً، فهو بحاجة إلى قدع نفسه، و تخصيصها بالقناعة أوّلاً.

و القناعة في حقيقتها هي الغنى، لأنّ الناس كلهم فقراء من جهتين:

الأولى: لافتقارهم إلى الله سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) (2). ﴿ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) (3)

و الثانية: لكثرة حاجات الناس وتعددها، وما في سدّها كلّها مطمع. فمن سدّها بالاستغناء عنها، سوى الضروريّ منها فهو الغني.

ص: 60


1- من حكم من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (363) الصفحة (707)، نهج البلاغة
2- سورة فاطر، الآية (15)
3- سورة محمد، الآية (38)

يقول علیه السلام: [ولا كنز أغنى القناعة ] (1).

وقد سُئل أمير المؤمنين علیه السلام، عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (2)، قال: القناعة (3).

وقال: [كفى بالقناعة مُلكاً ] (4).

وقال: [القناعة مالٌ لا ينفد ] (5)، و قد روي هذا الكلام عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

و كان يُقال: الناس رجلان: واجدٌ لا يكتفي، وطالبٌ لا يجد. و قد أخذه الشاعر فقال:

وما الناس إلّا واجدٌ غيرُ قانعٍ *** بأرزاقه أو طالبٌ غيرُ واجدِ

إنّ الطبيعة البشرية مجبولة على حبّ الازدياد. و إنّما يقهرها أهل التوفيق، وأصحاب الإرادات والعزائم، فتنشأ منها قناعة تملأُ القلوب والعيون غنًى.

لا أنْ يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين. إنْ أُعطي منها لم يشبع، وإن مُنع منها لم يقنع (6).

و الدنيا دار عافية لمن فهم عنها (7). وهي متجر يُكتسب فيه:

ص: 61


1- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (369) الصفحة (709، 710) نهج البلاغة
2- سورة النحل، الآية (97)
3- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (231) الصفحة (676)، نهج البلاغة
4- من حكم أمير المؤمنين رقم (230)، الصفحة (676) نهج البلاغة.
5- من حكم أمير المؤمنين رقم (57) الصفحة (639)، نهج البلاغة
6- في القصار من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام وقد سأله رجل أن يعظه، الصفحة (662) نهج البلاغة
7- من حکمه علیه السلام وقد سمع رجلاً يذمّ الدنيا، رقم (132)، الصفحة (656)

الرحمة والعافية و الجنّة. وقد جاء عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قوله: الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقّها بورك له فيها (1).

وما من غضاضة على المرء في حبّه للدنيا و سعيه فيها، وتزوّده منها، وإنّما خُلقت لذلك. يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [ إنّ الدنيا دار صدقٍ لمن صَدَقَها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنًى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة] (2).

ما أجمعه وأجمله من كلام ورب قائل يقول: وهذا الكلام في مدح الدنيا، مع أنّ سائر كلامه في ذمّها! يقول ابن أبي الحديد في شرحه للنهج في الجزء (18)، الصفحة (348): وهو يُنبي عن اقتداره علیه السلام على ما يريد من المعاني، لأنّ كلامه كلّه في ذمّ الدنيا، وهو الآن يمدحها، وهو صادقٌ في ذاك وفي هذا».

الدنيا دار عافية وصدق وغنّى لمن فهم عنها وبركة لمن أخذها بحقّها. يقول الشاعر:

إذا استغنيت عن شيءٍ فدعه *** وخذ ما أنت محتاجٌ إليه

فإذا كانت الدنيا كذلك، فلم الإصرار على صرفها لغير غاياتها، وتصريفها بخلاف طرقها! ونحن بذلك نُسيء إلى أنفسنا قبل الإساءة إليها.

ص: 62


1- أخرجه بالشطر الأول، مسلم والترمذي في كتاب الفتن (2191) وأحمد في مسنده وبالشطر الثاني: ابن حبان في صحيحه (2892) والطبراني في الأوسط (8359)
2- في القصار من كلماته علیه السلام رقم (132) الصفحة (656)، نهج البلاغة

قال الحسن لرجل: إن استطعت ألّا تسيء إلى أحدٍ ممن تحبّه فافعل قال الرجل يا أبا سعيد أوَ يُسيءُ المرء إلى من يُحبّه؟ قال: نعم نفسك أحبُّ النفوس إليك، فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها.

وقال أيضاً: يابن آدم إنّما أنت أيامٌ مجموعة كلّما ذهب يومٌ ذهب بعضك.

يقول أبو العتاهية:

أرى المرءَ وثّاباً على كلّ فرصةٍ *** وللمرءِ يوماً لا محالةَ مصرعُ

يُنازِلُ ما لا يملكُ الملكَ غيرُه *** متى تنقَضي حاجات منْ ليس يشبعُ

و أيُّ امرىءٍ في غايةٍ ليس نفسه *** إلى غايةٍ أخرى سِواها تطلَّعُ

وقال أحدهم: فلله آثاركم! قدّموا بعضاً يكن لكم، ولا تؤخروا كلّا فيكون عليكم.

و لأبي العتاهية أيضاً:

سَلِ الأيامَ عن أُممٍ تقضَّتُ *** ستُخبركَ المعالمُ والرسومُ

ترومُ الخلدَ في دار التَّفاني *** وكمْ قد رامَ قبلكَ ما ترومُ

تنامُ ولم تَنَمْ عنكَ المنايا *** تنبَّة للمنيَّةِ يانؤومُ

إلى ديّانِ يومِ الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصومُ

ص: 63

ص: 64

الفساد الإداري وأسبابه

عند تناول موضوع النزاهة، يلزم أولاً معرفة أسباب الفساد لتسهل سبل العلاج، أو الحدّ من شراسة الفساد، وحصر مساحات الضرر، أو تقليل الخسائر الحاصلة منه.

ولا يُظنّ أنّ الخسائر - في حال استشراء الفساد - تكون محصورة في جهة دون أخرى أو أنّ لآثارها مدة محدودة، بل ستمتد إلى زمن أبعد ومدى أكبر، وهي تخصُّ المجتمع بكلّ مفاصله ولا تستثني منه أحد. وإنّ الإهمال أو التأخر عن معالجة الفساد و آثاره و التلكؤ في التعامل معه، من أكبر أسباب الفشل و الخروج عن السيطرة و الإرباك، وربّما حصول الإحباط واليأس.

ليس صعباً أن يتعرّف كلّ أحدٍ على أسباب الفساد الإداري وغياب ا النزاهة، ذلك أنّ هذه الحالة معاشة، والإحساس بها ليس ببعيد، فالناس في مجتمعاتنا يشاهدون حالات الفساد و يشخصونها باستمرار، إنْ لم يكن يومياً، وهم يلاحظون آثارها في أنفسهم وأحوالهم المعيشية ووضعهم الاجتماعي، ويلمسونها في جميع مفردات حياتهم. ويشاهدون أيضاً آثارها في مفردات حياة المفسدين.

ولم يكن أحدٌ في المجتمع - إلا ما ندر - بمنأى عن المسؤولية فيما يحدث من فساد أو سوء إدارة أو غياب نزاهة.

ص: 65

وبحكم تواجد الفرد في المجتمع، هو مسؤول بدرجة أو بأخرى عن تشخيص هذه الحالات ووضع اليد عليها وبيانها مهما كانت النتائج. ومن أسوء وأخطر الأمور السكوت أو عدم المبالاة أو الخوف أو الاتّكال وعدم الشعور بالمسؤولية، أو حتى التأخير في الرفض والشجب والامتعاض والاعتراض على أيّ تصرّف يقوم به المسؤول، مهما كان صغير، وفيه علامة من فساد. ومهما تكن درجة هذا المسؤول.

و الفرد في المجتمع المنفتح - ولو بعض الشيء - ديمقراطيّاً له أثر مهم في وصول المسؤول إلى مراتب المسؤولية، لهذا عليه أولاً حسن الاختيار والتنقيب قبل الاختيار، أو الاعتماد على أصحاب الرأي والتجربة في اختياره، ووضع مصلحة المجتمع نصب عينه قبل المصالح المحدودة: شخصية كانت أو حزبية أو مذهبية أو فئوية، أو أيِّ من هذه التسميات.

ولا يُظنّ أنّ المجتمع خال من عناصر البناء أو الأيادي النظيفة، فذلك من الإجحاف ومجاذبة الواقع، فالظروف السياسية والصراعات الحزبية وأمور أخرى أبعدت هؤلاء عن مواقع المسؤولية وحجّمت أدوارهم، ليتفرّد عناصر الفساد في النفوذ ويمعنوا بالفساد، لتمكّنهم على أدوات الفساد وعناوين سوء الإدارة.

ومن الملفت للنظر والمثير للاستغراب، مع وجود مقوّمات الاختيار كالانتخابات ومنظمات المجتمع المدني ووجود درجات لا بأس بها من مفاهيم الديمقراطية في مجتمعنا وزوال حاجز الخوف، وتطوّر الإعلام وانتشار وسائل التثقيف التي كانت غائبة تقريباً، نجد رغم ذلك البعض يقع وفي أكثر من مرّة في مطبّ سوء الاختيار وعدم الوصول إلى مدارك المعرفة في ثقافة الانتخاب. ولا يُبرّىء المواطن أنّه خارج من

ص: 66

تجربة قاسية يسمّيها «الدكتاتورية» أو القيود، وما إلى ذلك. الزمنية كافية لشعب ذي حضارات عريقة أنَّه يتحسّس الصح من الخطأ، ويهتدي الطريق الموصل إلى الأهداف. فالفترة

إنّ الكثير يقع في مستنقع الولاءات: الحزبية أو المذهبيّة، أو الفئوية، التي أريد له أن يقع فيها، كي لا يُحسن الاختيار ويُصحّح ما فسد، ويضع قدمه على أوّل طريق الإصلاح والبناء والتقدم.

إنّ مرض الفساد الإداري وغياب النزاهة في النفس، حالة تربوية تعود إلى مقومات تلك النفس و استعدادها.

و هي ليست عائدة إلى دين أو مذهب أو فئة أو تنظيم، بل هو ما تعلّمته تلك النفس و ما لم تتعلّمه ما تربَّت به أو جبلت عليه وما تعودته.

وليس الحرمان وليس الانتماء أو الاعتقاد أو الوضع الاجتماعي و العائلي، وليس قساوة التجربة أو الفشل، وليس الطمع والتسابق واستغلال الفرص، و لا قلّة الكفاءة و ضعف المعرفة، و لا غياب التوجيه و النصح والإرشاد ... ليس كلّ ذلك و لوحده يدفع الإنسان إلى الفساد و يبعده عن ثقافة النزاهة. فهذه بعض الأسباب، و ربّما تكون من مقدماتها، إلّا أنّ هناك من الأسباب ما هو أشدّ تأثيراً وأبعد أثراً.

قبل كل شيء لا يمكن تجاوز تأثيرات المحتل، وما زرعه متعمداً أسباب إفساد المجتمع و انحلاله وتحويل مقوماته إلى خراب وخلق السبل لتمزيق أركانه وتفريق أطيافه بإثارة نعرات الفئوية والمذهب والدين والعنصر تلك المفردات المقيتة التي وجدت لها أذهان جاهزة وعقول التقطتها بسرعة وصارت من أساسيات اهتماماتها وأولوياتها. وأهملت الأهم في تغليب المصلحة العامة وإشاعة مفاهيم التعاون

ص: 67

والتعايش السلمي على أساس النظرة الواحدة للجميع، بجمعهم مصلحة وبناء الأرض التي يعيش عليها الجميع.

والملفت للنظر أنّ شَرَك المحتل، وقع فيه حتى من يعتقد نفسه من النخبة المثقفة، أو يرى حاله في مقدمة الصفوف.

بينما يُفترض في هؤلاء أنْ يكونوا أوّل المتنبّهين لهذا الخطر، والحذر من الوقوع فيه، ويكونوا قدوة لغيرهم باعتبار فارق الثقافة والمعرفة. ولكنّ العكس هو الذي حصل، فقد نجد من بسطاء الناس من تنبّه للخطر و نأى بنفسه عنه.

فنجد الكثير منهم أبعد حاله عن مزالق السياسة واختار الانعزال الانغلاق على الذات، وإنْ كان هذا من الخطأ، لأنّه فسح الطريق وسهل مهمّة المستغلّين وأصحاب الغايات الغير سامية للوصول إلى تلك الغايات وحصولهم على ما يبغون.

وآخر ساعد على استشراء الفساد بقصدٍ أو دون قصد، ذلك بانسياقه وراء قادته دون أدنى مبادرة من رأي أو مشورة أو انتقاد أو ممانعة بل إن البعض كان عون للفساد وجزء منه أو معرفته بحالات الفساد ويقوم بتبريرها وإيجاد الأعذار لمرتكبيها، فيكون محامياً بالمجّان للمفسد ومدافعاً عنه.

ومن دواعي الاستغراب عزوف الإعلام عن إظهار حالات الفساد وإبرازها للناس وتوضيح أسبابها - إلّا ما ندر - باعتبار أولى رسالات الإعلام وأهمّها مكافحة الفساد والمفسدين والعمل على بناء المجتمع الصالح القويم. مع افتراض خروج الإعلام من عنق الزجاجة وتحرره من التحجيم والتقييد والترهيب والانعتاق إلى إعلامٍ حرِّ متقدم والعمل بالرسالة الإعلامية السامية والنبيلة. وإن وجدت مبادرات إعلامية في هذا

ص: 68

المجال، فهي مبادرات فقيرة لا ترمى إلى مستوى الحالة التي يعيشها مجتمعنا من انتشار حالات الفساد وكثرة المفسدين.

ومع ما يُفترض من تعطّش الإعلام بعد تحرره من قيوده ليبادر في أنْ يكون في الصدارة بعملية الإصلاح والبناء، نرى الكثير من أدوات إعلامنا تبنّت مهمّة الدعايات الحزبية والحروب الإعلامية الانتخابية وإشاعة ثقافة التسقيط والإشهار لغايات الكسب الحزبي أو الفئوي وأصبح ذلك شعاراً لها وهدفاً تنطلق منه في مجال عملها و أهملت مهمتها الرئيسية والمعوّل القيام بها.

ومن أسباب نشوء الفساد، ضعف الرقابة أو انعدامها ما يفسح المجال أمام المفسدين. وإنْ وجدت الرقابة فهي دون المستوى المطلوب مع غياب المحاسبة أو ضعفها بما لا يتناسب وحجم الجريمة وفشل الإدارة الرقابية أو فسادها أيضاً. وسوء الإدارة القضائية أو عدم أمانتها وهذا من أشدّ وأصعب الحالات المساعدة على نمو الفساد وانتشاره.

إنّ توسّع الانفتاح السياسي، وكثرة وجود العناوين السياسية أو الفئوية، أوجد الحاجة للمساومات والترضيات والمحاصصة المذهبية أو الحزبية، وكان له أثر بالغ في تعميق حالات الفساد وخلقه في بعض الأحيان.

وقد دفعت المحاصصة البعض على التنازل عن مبادئه و التنصّل عن شعاراته إرضاءً للآخرين ولتهدئة المواقف مع القوى السياسية المناوئة الأخرى، للبقاء في السلطة والمراكز المتقدمة فترة أطول. وبالمقابل فإنّ هذه القوى المناوئة تجتهد في المناورة والاعتراض والمشاكسة، من أجل إفشال وإفساد أيّ مشروع غير المشروع الذي تتبنّاه هي لتقليل فترة

ص: 69

ابتعادها عن مركز المسؤولية وتسريع الوصول إليه. والضحية الوحيدة بين هذا وذاك، المواطن العادي والوطن والمجتمع والإنسان.

ولا يخلو الموقف من أيادي لاعبة في الخفاء، وحتى في العلن تعمل على إرساء دعائم هذا الخلاف وتوسيعه وإفشاء ثقافة الفرقة و النزاع والتخالف، بدل ثقافة الحوار والوحدة والتآلف. ترسيخ روح الأنا والذات والطمع والرغبة، بدل العمل سويّة من أجل تحقيق الأهداف السامية في البناء و التقدم ليتسنّى لهذه القوى و الأيادي العبث في المقدرات والحصول على المكاسب، والوصول للغايات من خلال الشرخ الحاصل بين القوى السياسيّة، و التلاعب بهذه القوى كيف شاءت ومتى شاءت.

ثمّ إنّ ضعف التجربة وغياب الثقافات الاجتماعية و الأكاديمية و الأسرية، وحتى الدينية، أثر آخر في شيوع الفساد و تهيئة أسبابه. فالتجربة مهمّة في إعداد الكوادر و تدريب العناصر وإصدار القوانين و تشريع الأنظمة و تثبيت دعائم الحكم و تهيئة أدواته بين العاملين في الدولة، ليكونوا مهيئين للعمل وجاهزين لأداء المسؤولية، لا كالضرير الذي يقود الأعمى في الدرب المظلم. وبغياب التجربة وضعف المعرفة، يقوى احتمال الوقوع بالأخطاء و الاستمرار على تلك الأخطاء، و شيوع الفساد و تردّي الحالة لأدنى المستويات.

و في هذا المجال، إنّ غياب القدوة من الأمور الفاعلة في إرساء دعائم الفساد الاجتماعي والإداري.

و القدوة أمرٌ مهمٌ في المجتمع. فلو كان من يُفترض أن يكون قدوة قد انغمس في الفساد و أباح لنفسه ما حرّمته عليه مكارم الأخلاق والأمانة وقداسة المسؤولية. فذاك ما يُبكى عليه دماً بدل الدموع، وما لا

ص: 70

يُرجى صلاحه وما يبعث على الأسى و اليأس و يدعو إلى الفشل بل الموت و الخرب. خصوصاً لو كانت القدوة المفترضة من أهل الشعارات الدينية أو المذهبية أو الحزبية و المؤثرة في عامة الناس. لا لأجل إيصال مفاهيم هذه الشعارات و تطبيقها في الواقع، بل لأجل استغفال الناس و اتّخاذهم أدوات لتحقيق أغراضهم و وسائل للوصول إلى غاياتهم.

ثمّ إنّ للمؤسسة الدينية في مجتمع مثل مجتمعنا، أثرٌ بالغ وأساسي في النفوس، لأنّه يحاكي الضمير والوجدان والقلب. فبدل أن يكون لهذه المؤسسات الدور الجوهري في نشر وتعميق مفاهيم العدل والنزاهة والأمانة نجد أنّ أكثر فعالياتها اتّجهت في منحاً آخر وكان جلّ اهتمامها بالأمور الفئوية الضيقة، و أهملت ما هو أكثر ضرورة في التربية و البناء و الإرشاد. فالناس ليسوا بعيدين عن ممارساتهم المذهبية أو الموسمية، و هم في تفاعل مستمر و تعايش مع هذه الشعائر و الممارسات. و بحاجة إلى تقويم و تهذيب هذه الشعائر، لا إلى زيادتها بالكمِّ و إهمال الفائدة. هم بحاجة إلى الإرشاد و التوجيه و وضع المناهج التربوية الخلّاقة وإعداد الكوادر المثقفة الواعية المتعلمة، لا الوعّاظ الخائبين. الناس بحاجة إلى مواجهة القيادات الدينية والسماع إليهم و التفاعل معهم. لا إلى العلاقة المنقطعة إلّا ما كان من وراء الحجب وبعض الإعلانات والقليل من الكتب. هم بأمس الحاجة للقاء النخبة و التعرّف من قريب على آرائهم و رؤية آثارهم.

أنْ يسمعوا منهم، لا أنّ يسمعوا عنهم. أنْ يُحاكوهم لا أنْ يتحاكوا عنهم. أن يعتمدوا عليهم أكثر من اعتمادهم على ممثليهم المتحدّثين بأسمائهم. أنْ يسعون إلى الناس لا أن تسعى الناس إليهم. هذه هي رسالتهم و من أجلها وجدوا وعليها اعتمدهم الناس واعتقدوا بهم.

ص: 71

و إذا كان بوسع المواطن العادي أنْ يُعذَر لسكوته عن الخطأ و مسايرته الوضع الفاسد ليُجنّب نفسه وأهله المصاعب والمتاعب. فما هو عذر رجل الدين في أمرٍ كهذا؟

وما وجوده، وهو لا يحارب الفساد و المفسدين، ولا يدافع عن المظلومين، أو يحارب الظلم والظالمين؟

و أيّ عذرٍ أيضاً للنخبة المثقفة من أدباء و شعراء ومفكّرين في سكوتهم أو عدم المبادرة في اتّخاذ المواقف المسؤولة بوجه الفساد و صنّاع الفساد. حتى لا يكون لأحد منهم شاغل سوى هذا الواجب، و لا دافع للنطق بكلمة واحدة، و المجتمع تأكله جرثومة الفساد وتنخر في جسده وتهوي به إلى مدارك الهلاك و هوّة الانحطاط السحيقة. فما بالك بنخبة محسوبة على الثقافة و قد استهوتها الشعارات الحزبية أو الفئوية، فما أن أسرعوا إلى الانخراط في هذه المتاهات و تركوا ما تعاهدوا عليه من المهام لأداء رسالاتهم التي هي أساس وجودهم في خدمة الإنسان، و دورهم في البناء ومحاربة الفساد.

ص: 72

التحدّيات

إنّ طريق الوصول إلى مجتمعٍ نزيه خالٍ من الفساد، والمفسدين ليس بالطريق السهل، ولا هو مفروش بالورود. إنما هو طريق صعب بسبب صعوبة المهمة وخطورتها.

والتحديات فيه كثيرة وكبيرة ومتعلقة بمفاصل الحياة المختلفة من قريبٍ أو من بعيد.

إنّ مسؤولية الإصلاح الاجتماعي، و خصوصاً في حالة إصلاح الفساد الإداري ونشر ثقافة النزاهة، مسؤولية شاملة لا يُعفى منها أيّ أحد. و يكاد يكون مرض الفساد الإداري من عديد الأمراض التي تحتاج إلى علاجاتٍ جماعية وجهد جماعي و الاستمرارية في العمل و عدم التسويف و المماطلة و التأخير في الجهد الإصلاحي و تقديم التضحيات و الصبر وتوقّع حدوث المفاجآت.

و لكلّ عمل تحدّيات ... والتحدّيات تكون بحجم العمل وأهميته وخطورته. والتحديات في موضوع محاربة الفساد كثيرة لا يسعنا إحاطتها بالكلية إنّما نشير إلى بعضها مما نعتقد في أهميته و ارتباطه بالموضوع من قريب.

أ - مخلّفات الماضي:

لا يُنكر أنّ الحاضر كما هو أبو المستقبل، فهو ابن الماضي.

ص: 73

وماضي أيّ شيء له تأثيره ولا يمكن إهمال هذا التأثير إنّ مجتمعاتنا العربية عموماً، و المجتمع العراقي على وجه الخصوص، عاشت تاريخاً و ماضياً صعباً و في غاية الصعوبة و المشاكل والأشواك. فقد عاثت فيها سياسات المستعمر وخربت ما خربت وعبثت فيه، حتى أوصلته إلى ما هو عليه من التخلف و الفقر والمرض والتمزق.

ولسنا هنا في سبيل بحث جرائم المستعمر وجعله شمّاعة نعلّق عليها أخطاءنا. وهل هذا المستعمر هو الوحيد الذي صنع الخراب أو التمزيق و التخلّف؟

أم أنّ هناك من أعانه وسهّل له السبل إلى ما أراد؟ بل وابتكر دونه الأفعال في التخريب وجاوز ما لم يجرؤ عليه ذلك المستعمر أو يجسر فيه. و هل أنّ الشعوب التي طردت هذا المستعمر وأبعدته عن بلادها وظنّت أنها زاحت خطره، استراحت من مكائده؟ أم أنّ وجوده قائم في كل حين و في كل مكان من بلداننا، و لكن بأيدٍ «وطنية» وسواعد «عربية». و هل أنّ المناهج التي كان بحاجة إليها في فترة وجوده في بلادنا عفا عليها الزمن و انتهت؟ أم تحولت إلى مناهج بنفس المفاهيم و الطرح و الغايات، لكنّها بأسماءٍ جديدة وشعارات برّاقة يوظّفها أصحابها لخدمة الأسياد بالدرجة الأولى، ثمّ تمرير سياسات و أجندات بعيدة كل البعد عن الناس وأحلامهم و متطلباتهم و تطلعاتهم. ومن بعد ذلك تخدم مصالح فئوية، حتى لو أضرت بالوطن و المواطن.

نحن نعلم أنّ الوطن العربي بأغلب أقطاره غنيٌّ بالنفط و الثروات، والغرب لا يتركونه أبداً. و هذه الثروات بدل أنْ تكون عامل سعادة الإنسان، صارت سبباً في تعاسته و بؤسه وحرمانه. فبدل أن تُستغل هذه الثروة في مجالات تطوير البناء و التعليم والصحة والزراعة والصناعة

ص: 74

والثقافة والخدمات، وسائر المعارف والعلوم، كانت أدوات بيد الحكّام لشراء السلاح و شنّ الحروب وخلق النزاعات، أو مادة للترف المبتذل وإشاعة الفساد. والاتّكال على موارد النفط و ترك أساسيات البناء الاقتصادي و جهل قواعد و مرتكزات ذلك البناء، و إهمال إعداد البنى التحتية و إنشاء الأسس القوية الراسخة و السليمة لاقتصادٍ عربي شامل و متكامل ومتكافل، و الاعتماد على النفس و ترك الاعتماد الكلّي على الغير، و السير في دروب التصنيع و التصدير لا الاستيراد والاستهلاك. النظر إلى المستقبل، لا الاعتماد على الحاضر فقط.

لا يوجد مجتمع كالمجتمع العربي يعتمد كليّاً في غذائه على منافذ الاستيراد ولا يلجأ للاكتفاء الذاتي من موارده الزراعية والإنتاجية المحلية مع توفر مستلزمات النجاح: من تربة وماء وأموال وأيادي عاملة وخبرات. بل إنّ الكثير من الحكومات باتت تُدخل سياساتها في محاربة الإنتاج المحلي و القطاع الخاص، إنْ كان زراعياً أو صناعياً، و تلجؤ إلى الاستيراد لأقلّ المواد أهميّة إمعاناً في التخريب و تمريراً للسياسات وإنْ حدثت مشكلة كالمجاعة أو الجفاف أو ضعف الموارد أو الكوارث البيئيّة ومثيل ذلك تجد تلك الحكومات عاجزة في معالجة أيِّ من هذه المشاكل أو إيجاد السبل لمواجهتها أو تقليل أضرارها. ذلك لعجزها وعدم استعدادها وتخلّفها عن وضع الخطط و الدراسات وإعداد المناهج العلمية و عدم التحسّب لكلّ طارىء.

و ليس هذا موضوع بحثنا، و لكن اقتضت الحاجة إلى الإشارة إليه باختصار.

إنّ آثار ثقافات الماضي لا زالت قائمة، و ستبقى ما بقي الحال على ما هو عليه رغم حصول بعض التغيرات المهمّة في المجتمع

ص: 75

العربي من ثورات وانتفاضات فاجأت الكثيرين، إلّا أنّها لم تفاجىء الواقع. لأنّ ما حصل كان لا بدّ له أن يحدث، و سيكون ما لا يتوقه البعض من تغيّرات جذرية و جوهرية في هذا المجتمع على يد الإنسان العربي.

إنّ الفساد و الإفساد و خصوصاً في مراكز القوى و السلطات استشرى و أصبح في حال لا يمكن السكوت عليه، يضاف إليه ما في الإنسان العربي من حرمان و عوز بسبب سياسات الحكّام الجائرة و الغير منصفة.

إنّ البعض من الحكّام يعملون على تسفيه شعوبهم و تجهيلهم و تخديرهم. وجعل الإنسان العربي يركن إلى الدعة والسكون والسكوت وعدم المطالبة بالحقوق. الحاكم يريد من شعبه أنْ يكون أعمى لا يرى، كي لا ينظر مشاهد الترف المفرط و البذخ المبتذل. و يريده أصم لا یسمع حتى لا تصل إليه الأرقام المذهلة لأرصدته في البنوك. و يريده أخرس لا ينبس ببنت شفة أو يتكلّم بحرف من حروف الهجاء التي قد تترتب فتصبح كلمة أو جزء من كلمة تُزعج مزاجه أو تُقلق راحته.

و يريده عاجز لا يتحرك فلا يرفع يده أو يطالب بشيء أو يمشي إلى غاية لا تنسجم و ما يريده هو.

لقد عملت رواسب الماضي عملها في العقل العربي وفعلت من التخريب والتدمير وتشويه الأفكار ما فعلت. فصار ذلك العقل لا يفكر إلّا في ساعته وأسباب بقائه وسبل معيشته. فهو لا ينظر أبعد من مجال خياله، خوفاً من الحاضر والمستقبل. و زُرعت فيه حالات اليأس والإحباط، وأصبح غاية أمله الحصول على منفذ يخرجه من واقعه، ليستبدل به واقعاًآخر حتى إذا اضطر إلى الهروب. هو يبحث عن فرصة تبعده عن الحرمان أو الموت.

ص: 76

إنّ الإنسان العربي بحاجة ماسّة إلى فرصة تعيد الثقة به، و قبلها تعيد ثقته في نفسه و تمنحه الأمل في التخلص من قيوده والنهوض إلى الأمام.

وما نهضة الشعوب العربية أخيراً، إلّا دليل على أنّ الفرصة قائمة و الأمل موجود، و المهم من يستغل الفرصة ويتسلّح بالأمل ويقدم إلى العمل بعد أنْ ينفض غبار الماضي، ويكسر قيوده ويتجاوز حدود ذلك الماضي ويثبت أنّه جدير باحترام وتقدير الآخرين، ويعبّر بالفعل والعمل عن شعاراته في ماضيه و مجده الذي طالما ردّده وافتخر به.

ب - تحديات الذات:

إنّ للإنسان حاجات ضرورية في الحياة، ومع تطور أساليب لمعيشة و زيادة متطلباتها، ازدادت وتيرة هذه الحاجيات وأصبح الحصول عليها لكثير من الناس صعباً و مضنياً، و ربما مستحيلاً. وهنا يكون التحدي الكبير واستعداد نفس الإنسان و قابليته على التحمّل و الصبر والرضا. و السؤال الذي يطرح نفسه هل أنّ الحاجة تبيح لمن لا قدرة له على تحقيقها الأخذ بالوسائل المنحرفة للحصول عليها؟ أم يتسلح بالصبر و الثبات على مبادئه وأخلاقه و حصانة نفسه من الانزلاق و الخطأ؟ أو ماذا يعمل؟

إنّ الإجابة على مثل هذه الأسئلة لا تكون مقنعة وذات فائدة، إلّا إذا جاءت من نفس الإنسان الممتحن بها. فيسأل نفسه: ما يمكن أن أربحه لو استخدمت وسائل لا تُرضي ذاتي ولا تُقنع وجداني وحصلت على منيتي؟ و ما هي الخسارة لو فقدت احترامي لنفسي وثقتي بها؟ أو كيف أكون و أنا أرى وأسمع وأحسّ نظرات الاحتقار و الامتعاض من المجتمع لما أقدمت عليه؟

ص: 77

و بعد تقييم الربح و الخسارة، والاستدلال على النتائج المحتملة، سيصل إلى القرار الصحيح بأسرع ما يكون.

إنّ تحديات الذات كثيرة و لا يمكن حصرهابعجالة، ولكن من المهم الإشارة إليها في هذا الموضوع فمحاربة الفساد ونشر ثقافة النزاهة في أول الأمر وآخره متعلق بالذات البشرية، وبدرجة صلاح الذات يكون تسلّحها بثوابت المعرفة. و تقويم النفس و تربيتها و إصلاحها، من أهم أسباب النجاح في محاربة الفساد. و ذلك متعلق بكثير من الأمور و التحديات التي بمعالجتها نصل إلى صلاح النفس وتصحيح مسارها.

ج- - البطالة

البطالة مرض جرثومته تنخر في جسد المجتمع وتسلب قواه وتحيله إلى جسد خارٍ لا فائدة ولا أمل فيه. إنّ فئة الشباب هم العصب المحرّك لعجلة التقدم والرقيّ و الازدهار. فإذا ما عُطّلت هذه الطاقة، ولم توظّف في مجالها المفترض، تكون العواقب وخيمة والأضرار مؤثرة في عموم المجتمع وكيانه. وما من كيان أو دولة تُبنى بمعزل عن سواعد أبنائها وقدراتهم وإمكاناتهم، و لا يمكن أن تتطور وتسلك طريق الرقيّ، وقادتها بعيدين عن معالجة ظاهرة البطالة، أو لم يعيروا هذه المشكلة الحقيقية الاهتمام اللازم و اعتبارها من أولويات أعمالهم و مساعيهم ومسؤولياتهم.

لن يكون تأثير البطالة مقتصر على العاطلين عن العمل، ولكن يمتد هذا التأثير لأبعد من ذلك، فيشمل مرافق كثيرة في المجتمع، وتتعمق سلبيات هذا التأثير حتى يصبح خطره حقيقي يهدد كيان المجتمع و وجوده.

و البطالة من دوافع ظهور الفساد وتعميقه وترسيخه، ومعالجتها

ص: 78

تصبُّ في معالجة الفساد و الأثر الإيجابي لمعالجة البطالة سيكون واضح في عملية الإصلاح والبناء ونشر ثقافة النزاهة.

د - عدم العدالة في توزيع الثروات:

إنّ عدم العدالة في التوزيع من الوسائل القديمة التي لجأ إليها الحكّام لإخضاع شعوبهم و استحواذ خيراتهم واستغلالهم.

والأَثَرة في التوزيع من سوء الإدارة والغبن الذي يبعث على المقت، ويؤدي لأبشع النتائج. وله آثار سلبية آنية ومستقبلية لا يسهل إزالتها، ومع مرور الوقت تتحوّل هذه الآثار إلى أزمات حقيقية. فبعد أنْ تتعمّق الفوارق الطبقية و تتجذّر الهوّة بين الطبقات، يتحول الحال إلى صراع وتسابق على المادة وتكالب للحاق بركب هذا التمايز، ما يدفع بشدة على الفساد و الانحراف وارتكاب الأخطاء.

إنّ سوء الإدارة في أدوات الحكم، يدفع إلى تبذير المال العام و تصريفه في غير غاياته. فبدل توجيهه لإنجاز المشاريع و تحقيق النهوض الاقتصادي و استحداث الخطط وإعادة البنى الأساسية و تطوير المرافق العامة و الخدمات و تشغيل الأيدي العاطلة و استثمار القدرات الخلّاقة و إشراك الجميع في عملية البناء و التعمير و النهوض. بدل هذا نلاحظ أنّ المال يُصرف في الترف و البذخ و الاستهلاك، أو يُهدر في مشاريع فاشلة، أو غير مجدية أو مشاريع و هميّة. و فتح فرص الهدر و التبذير و الإتلاف بلا وازع أو رادع، ذلك لغياب الخطط و الدراسات الاقتصادية و انشغال الكلّ بالصراعات السياسية و الهموم الفئوية أو الحزبية، و إهمال مشاكل و هموم الناس وعدم السعي لإيجاد الحلول والاهتمام بهذه المشاكل والهموم.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [فانصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا

ص: 79

لحوائجهم، فإنّكم خزّان الرعية، ووکلاء الأمّة، وسفراء الأئمّة ] (1) وهذه إحدى وصاياه إلى عماله على الخراج. وفي عهده إلى مالك الأشتر يقول: [و تفقّد أمر الخراج بما يُصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحاً لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم إلّا بهم] (2).

و الناس كلهم عيالٌ على الخراج. فلم تكن الغاية من جمع المال أو تحصيل الضرائب أو ما يسمى بالناتج القومي للبلاد، إتخام خزينة الدولة و إشباع العاملين عليها، و إنّما لتوزيعه بالعدل و صرفه في محالّه الصحيحة ووجوهه الحقّة.

كُتب على خاتم أنوشِروان: لا يكونُ عمرانٌ، حيث يجور السلطان.

ه- - الاختيار:

يقول أمير المؤمنين علیه السلام في بعض ما جاء في عهده إلى مالك الأشتر: [ ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممّن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلّة ... ولا تُشرف نفسه على طمع] (3).

الإشراف على الشيء: الاطّلاع عليه من فوق. فالطمع من سافلات الأمور، من نظر إليه و هو في أعلى منزلة النزاهة لحقته و صمة النقيصة، فما ظنّك بمن هبط إليه وتناوله!

ص: 80


1- من كتاب أمير المؤمنين علیه السلام إلى عماله على الخراج رقم (289)، الصفحة (569)، نهج البلاغة
2- في عهد أمير المؤمنين علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (583، 584) نهج البلاغة
3- في الصفحة (581، 582) من نهج البلاغة

ثم يقول علیه السلام: [ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباةً و أَثَرَة، فإنّهما جُماعٌ من شُعَب الجور و الخيانة] (1). أنْ يكون تعيين الولاة و العمال و الوظائف بالاختبار و الامتحان لا بالأهواء أو الأثرة، فذاك من الظلم ومن الخيانة.

[وتوخّ منهم أهل التجربة و الحياء، من أهل البيوتات الصالحة ... فإنّهم أكرم أخلاقاً ... و أقلُّ في المطامع إشراقاً ] (2)

ليكن اختيارك من أهل التجربة و الحيء، و من البيوتات الصالحة، لكرم أخلاقهم. و إشراقاً: أي ظهوراً أو حضوراً. لا أنّ تكون تولية المناصب و المسؤوليات بالأثَرة أو المحسوبيّة أو الانتماء أو الولاءات أو المحاصصة. دون النظر إلى الكفاءة و الاختصاص و الأحقية، فتضيع الحقوق و تسوء الإدارة و يتأخر الإنتاج، مع ما يلحق أهل الخبرات و المستحقّين من غبن و ظلم و تهميش.

و يقول علیه السلام: [ثمّ إنّ للوالي خاصّة و بطانة، فيهم استثثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ] (3).

خاصة المسؤول و بطانته، هم الصورة التي من خلالها ينظر الناس إلى المسؤول، فإذا حسنوا حسنت الصورة و إذا أساءوا كانوا وبالاً على المسؤول و على الناس. و في الأرجح يكون فيهم استئثار و تطاول و قلّة إنصاف في معاملتهم للآخرين، استقواءاً برؤسئهم. لهذا فالإمام يوصي بقطع أسباب تلك الأحوال، و ذلك بعدم تمكينهم من ظلم الناس بمنحهم

ص: 81


1- من عهده علیه السلام إلى مالك الأشتر رقم الصفحة (583)، نهج البلاغة
2- نفس المصدر السابق
3- المصدر السابق، الصفحة (591) نهج البلاغة

الصلاحيات المفرطة، و دفع شرورهم و محاسبتهم على صغائر تجاوزاتهم فضلاً عن كبائرها، و مراقبتهم في عملهم و تعهّد الأمور المهمّة أو الحساسة بنفسه دون الاتّكال كليّاً على الخاصة أو البطانة أو المعاونين، و الأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

ص: 82

إشارات إصلاحيّة

اشارة

إنّ الكثير من الدول المتقدمة في مجال العدالة الاجتماعية و التي بلغت مراحل متطورة من الحضارة و التقدم والازدهار واحترام حقوق الإنسان لم تصل إلى ما وصلت إليه بالقوة أو السلاح، إنّما هو نتاج خطط إصلاحية وبرامج تربوية، استغرقت الكثير من الجهد والوقت.

و اشترك في ذلك الجميع كي تثمر تلك الجهود إلى ما وصلوا إليه. وأدركوا حالة التوازن والتناغم مع الإصلاح، وصولاً لجني ثماره في الرقيّ و التقدم والرفاه.

لقد أصبح الإصلاح الذي سعوا لأجل تحقيقه نمطاً حياتياً اعتادوا عليه و دافعوا عنه و حرسوا أنْ لا يفقدوه، فتمسكوا به واستمتعوا بجنيه وثماره.

ومن قراءة لكلام أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه و الذي يقول فيه: [فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه، و أدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، و جرت على أذلالها السنن (أي على وجوهها) فصلح بذلك الزمن، و طُمع في بقاء الدولة، و يئست مطامع الأعداء ] (1).

و هو ما جرى في المجتمعات التي ذكرناها والتي جنت ما جنت من الخير والصلاح.

ص: 83


1- من خطبة الأمير المؤمنين علیه السلام رقم (214) الصفحة (450)، نهج البلاغة

ثمّ يقول: [وإذا غلبت الرعيّة و اليها، و أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، و ظهرت معالم الجور، و كثر الإدغال (أي ما يُفسد)، و تُركت محاجّ السنن (أي أوساط طرقها)، فعُمل بالهوى و عطّلت الأحكام، و كثرت علل النفوس] (1).

و هذا ما ينطبق على مجتمعات كثيرة، في مقدمتها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مع أننا أحق من غيرنا وأجدر أنْ نسير على المنهج المضروب مثله في قول الإمام الأول لقربنا من هذا المنهج و التساقنا به و معرفتنا له أكثر من غيرنا.

إنّ الموظف أو المسؤول مطلوب منه حسن الأداء و العمل بآليات الصلاح و البناء والقيام بواجبه في تلبية حاجات الناس و تحقيق راحتهم. مع أن أكثر هذه الحاجات مما لا مؤنة فيها عليه من شكاة مظلمة أو طلب إنصافٍ في معاملة (2).

و بمثل هذا التوجيه من الإمام علیه السلام نصل إلى أدوات التوازن في العلاقة بين المواطن و المسؤول، و اعتماد الطرق السليمة في التعامل و تجنّب الوقوع في الأخطاء و حدوث المفاسد، وصولاً لتحقيق الأهداف.

وفي تفسيره علیه السلام للآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ (3). قال: [العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضّل ] (4)

ص: 84


1- نفس المصدر السابق الصفحة (451، 452)
2- مقتبسة من عهد الإمام علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (590، 591)، نهج البلاغة
3- سورة النحل، الآية (90)
4- في القصار من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام رقم (233)، الصفحة (676) نهج البلاغة

فإنْ تعدل فذاك ما يُطلب منك ... وإنْ تعدل وتُحسن، فذاك إنصاف و تفضّل، ومن المروءة ومكارم الخلق.

مردوده أكبر و عاقبته أجل.

العدل

وصف أمير المؤمنين علیه السلام العدل بالإنصاف. ونحن عندما نتطرق لمفهوم العدل لأهميّته و ارتباطه مع ثقافة النزاهة و محاربة الفساد. و هل الإنصاف إلّا إحقاق الحقّ ودفع المظالم عن الخلق و إجراء العدل في المجتمع و تثبيت أركانه؟ ومن الثابت أنّ المجتمعات باختلاف مذاهبها، لا تحيا أو تنشط وتتقدم إلّا بالعدل وفي ظلّه. و لأجل إقرار العدل و الحفاظ عليه لا بدّ من وجود العوامل المؤدية إلى ذلك واكتمال المعادلة فيه.

إنّ العوامل الخلّاقة في إقرار العدل و تحقيقه كثيرة ومتشعبة ولكن من أهمّها و أكثرها تأثيراً وباختصار:

أ - إيمان الحاكم أو المسؤول بالعدالة و العمل على التطبيق من خلال صلاحياته المناطة إليه بحكم سلطته أو مسؤوليته.

ب - إيمان الأفراد بحقهم في العدالة و الدفاع عنها و مناهضة من يحاول سلبهم هذا الحق.

ج- - تثقيف النفوس و تعويدها على ممارسة العدل وزرع ثقافته فيها.

د- وجود القوة الرادعة التي تقف بوجه الظلم و الظالم و توقفه عن ممارسة ظلمه أو التمادي فيه، لأنّ الظالم نادراً ما ينتصح أو يرتدع من نفسه.

ص: 85

ه- - وجود الدساتير و القوانين والتشريعات التي من خلالها وتحت ضوابطها يتم تقييم العدل وإجرائه.

إنّ من الصعب بمكان في مجتمعات كمجتمعاتنا فيها ما فيها من المواريث و الأخطاء و الرواسب أنْ نحصل على العدل المطلق، أو الوصول لدرجة الامتياز فيه و لكنّ عملية إدراك السبل والوسائل المؤدية للإمساك و بأول الخيط والاهتداء إلى الطريق في مهمة إعداد و بناء ثقافة العدل و النزاهة وترسيخها في النفوس والمثابرة والاستعداد للخطوات التالية، و عدم إهمال الوقت و الأسباب والعوامل والثوابت الهادية إلى النجاح. سيكون له الأثر المنتج ولو بعد حين.

نعم إنّ المطلوب من الموظف أو المسؤول أو صاحب القرار، العدل و الإنصاف فيما يتصل بحاجات الناس و خدماتهم و همومهم و رغباتهم. ولكي نكون واقعيين ولا نسرح في الخيال أو الأمنيات، فليس المطلوب من المسؤول أو صاحب القرار أن يكون صورة طبق الأصل من علي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو عمر بن عبدالعزيز وأمير المؤمنين علیه السلام يقول: [ألا وإنّكم لا تقدرن على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد] (1).

و لكن ليس صعباً التعامل مع مبدأ العدل و الإنصاف وأداء الأمانة و النزاهة بالاجتهاد في فهم هذه الثوابت و استيعابها بالورع والعفّة و وضوح الرأي.

و في سياسة الإمام العدلية، ترويض وتدريب للنفس، حتى تكون مهيئة للإدارة وإنجاز المهمات بالوجه الصحيح، بعيداً عن الفساد والظلم والتخريب والاستغلال.

ص: 86


1- من كتاب لأمير المؤمنين إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف رقم (283) الصفحة (559)، نهج البلاغة

ومن دروس النفس الترويضية تعويدها على الصدق في العمل ونبذ المناورة في التعامل، كإطلاق المبررات الخاطئة لبعض الأعمال أو المراوغة والتسويف أو المماطلة، ما يدفع أصحاب الحاجات إلى اللجوء لاستخدام الوسائل الأخرى لإنجاز طلباتهم، مثل الرشوة أو التوسط أو غيرهما فصاحب الحاجة أعمى لا يرى إلّا قضاها. أو الكذب على المواطن والاحتجاج بالروتين و أساليبه الملتوية والجائزة أحياناً ودفع المواطن لارتكاب الأخطاء بالمقابل وسلوك الطرق الملتوية أحياناً. فالإنسان العادي لا يقوى على إدراك الجزئيات و الالتزام بها و الوقوف عند حدودها.

يقول علیه السلام: سياسة النفس أفضل سياسة.

ما يطلب الإدراك و المعرفة في التعامل مع الناس واستخدام اللياقة والشفافية معهم، وصولاً للتوافق بين المسؤول والمواطن. بالمقابل فإنّ المواطن مطلوب منه أن لا يطلب المستحيل ويقنع بالمعقول، خصوصاً في فترة الإصلاح الانتقالية وعند أولى خطوات بناء المجتمع و تطويره. ويحاول أنْ يكون عوناً في عملية البناء والإصلاح، لا حجر عثرة أو أداة العوامل الفشل والإحباط.

إنّ الموظف أو المسؤول على كل حال هو من عامّة الناس وينتمي إليهم، فهو ابن المجتمع وأحد عناصره ومقومات بقائه. فيفترض أن يكون حريصاً على مجتمعه ويعمل للحفاظ على مصالح أبناء جلدته ويسعى إلى راحتهم وسعادتهم، فيفرحه ما يفرحهم ويسوؤه ما يسوؤهم.

يقول الإمام الحسين علیه السلام: أعجبُ من الرجل يكون من القوم، كيف له قلبٌ يقسو عليهم!

وهو عندما يمارس أي ظلم أو فساد إنّما هو يُفري جلده ويظلم نفسه والتبعة لازمة له ومحسوبة عليه.

ص: 87

الطبقات

إنّ من ضرورات الحياة وديمومتها ودوران عجلة العمل والخدمات تنوّع الطبقات في المجامع. ولا يقوم المجتمع إلّا بالتعاون و تبادل الأدوار وتعدّد الأعمال، وإلّا لكان الناس كلهم صنف واحد و انتفت الأدوار الخدمية بين الناس. وعند ذلك يقوم الفرد بتلبية جميع أموره بنفسه وهذا من المستحيل.

ومن المؤكّد وجود التفاوت بين تلك الطبقات بالقدرة و الفكر والاستعداد، فلا بدّ لها من رابط ينظم العلاقة فيما بينها، ليكون التوازن و الانسجام مع بعضها.

و بالإضافة إلى أنّ عملية التنظيم وظيفة إدارية فهي بحاجة إلى تشريع القوانين و وضع الأنظمة و سنّ الدساتير وغيرها من الأمور الضرورية. والدولة هي التي تقوم بهذه المهمة وكيف ما يكون صلاح الدولة بمؤسساتها، فذلك ينعكس بالإيجاب على عموم طبقات المجتمع و يؤثر في سلوكيات الأفراد.

ولكلّ دولة مَنْ يُدير شؤونها، متمثلة بالحكومة المنتخبة أو المعيَّنة، و لهذه الحكومة برنامج و خطة عمل أو خارطة طريق، و نجاح عمل الحكومة مرتبط بالمباشر مع صلاح برنامجها وملائمته للواقع الاجتماعي و قدرته على تلبية حاجات الأفراد و تحقيق طموحاتهم، مع العمل بالخطط المستقبلية للنهوض بالمجتمع والبلاد عموماً. فلو كان اختيار الحكومة من صميم واقع المواطنين و تبعاً لقناعاتهم كما هو حاصل في المجتمعات الديمقراطية فسيكون بالتأكيد البرنامج الحكومي منبثق من تطلعات المواطن و رغباته وسيحقق طموحاته ولكن في حال غياب الديمقراطية وغياب ثقافة الاختيار، لا يكون للمواطن أدنى صلة في

ص: 88

الحكومة و اختيارها أو في برنامجها أو خططها. و لهذا فإنّ هذه البرامج أو الخطط ستكون بعيدة عن طموحاته و قناعاته واحتياجه. و هي تحقق بالدرجة الأولى طموحات فئة محدودة هي الفئة التي شكلت هذه الحكومة و من يدور في فلكها أو ينضوي تحت عباءتها. و ذلك عكس ما يحصل في المجتمعات الديمقراطية.

إنّ على الجميع أنْ يدركوا أنّ الناس هم مادّة الحكم. والحكّام جزءٌ من هذه المادة، فإذا لم يُشرك صاحب السهم الأوفر في إدارة المجتمع، و اقتصرت المشاركة على الجزء الأقل، سيكون الأمر منحصر بتطلعات و قناعات الأقليّة، وحرمان أو تهميش أو ظلم الأكثريّة.

وعلى هذا تتحقق مصالح الأقلية على حساب مصلحة البلد والمواطنين عموماً، وهو من الإجحاف و عدم الإنصاف وضياع الحقوق.

وعند استمرار الحال وتكريسه من الممكن حصول الاعتراضات أنْ ينفد صبر الناس، و تتطور هذه الاعتراضات لتتحول إلى صدامات و عنف، ما يعمل على التسريع في تفجير الثورات. و ليس هذا من وحي التخمين و التوقّعات إنّما حصل ذلك في بعض مجتمعاتنا العربية، وحتى في المجتمعات المحكومة بالنار و الحديد، والتي مورس معها أشدّ و أفظع أساليب العنف والترهيب والقتل. و التي كانت فاقدة لأدنى حقوق المواطنة و العيش الكريم، و القابعة في آخر مراتب الأمم، مع ما بها من حرمان ومرض وعوز.

فكانت ردّة الفعل شديدة بشدّة الظلم الذي مورس معها. والصدمة عاصفة قوية، بقوّة أسبابها. بعد أن استنفدت الجماهير كل الوسائل و الأسباب التي توصلها لأهدافها بكسر قيود الجور والتسلّط. وإنْ تأخرت كثيراً ردّة فعل الإنسان العربي ضد من ظلمه و سلب حقوقه.

ص: 89

فهذا الإنسان له مقوّمات النهوض و العمل، وما ظهر منه في ردّة فعله ما يُبهر العقول و يثير الدهشة. فقد ظنّ الكثيرون أنّ هذا الإنسان لا أمل منه ولا رجاء، لطول مدة انصياعه و سكوته، فإذا به يظهر بأبهى صورة، ويقوم بأجلِّ مقام. وما هذه النهضة إلّا نذيرٌ من النذر و هي رسالة لجميع من تسمح له نفسه ممارسة الظلم و إحلال الفساد. و الطريق مشرع أمام باقي الشعوب التي تكتوي بلهيب جور حكامها، وتأنُّ من الفقر والعوز والمرض لتأخذ طريقها في النهوض، وتثبت جدارتها بالحياة والحرية والكرامة.

و لسان حال كل إنسان، المزارع في مزرعته و العامل في معمله و التاجر في متجره والمعلم مع تلامذته، و المرأة مع إخوانها وكلّ فرد في المجتمع يتوق إلى أن يتنفس هواء الحرية، و يشمَّ رائحة الأمل. الجميع بلسان واحد، وتطلّع واحد، لا للفساد لا للظلم لا للأثرة والاستغلال.

نعم للنزاهة والعدل والحق والبناء.

نعم للإصلاح. نعم للخير.

الرقيب الذاتي

«إنّك لن يُتقبّل من عملك إلّا ما أخلصتَ فيه» لا يتحقق الإخلاص في العمل بالدرجة المثلى، فقط بالمراقبة أو المحاسبة أو تهيئة ظروف العمل الضرورية. إنّما للرقيب الذاتي ومحاسبة النفس أثرٌ بالغ فيه، والرقابة الذاتية تختلف من شخص لآخر باختلاف الثقافات والتربية و الأثر الاجتماعي. ولكن من المؤكّد أنّه لا توجد ذات بشرية لا تشعر بالخطأ وتميّزه عن الصواب، وهى مجبولة للإنحياز لجنسها والإيناس معه و عدم الرغبة في إلحاق الضرر به أو الامه.

ص: 90

فالنفس في طبعها و فطرتها تكره الشرّ و تنفر منه، و تحبّ الخير و تأنس إليه. إنّما هي تتأثّر بما يُزرعُ فيها، و ما تكتسبه و تتلقفه من محيطها، فتتخلّق بذلك وتتعوّد عليه، ثم لا تقدر على الانفلات مما اكتسبته، ويصبح ذلك جزء منها. وإذا ترك الحال كما هو من دون اللجوء إلى الوسائل الإصلاحية و محاولة تصحيح الأخطاء وتقويم الاعوجاج و رفد النفس بالتوجيه والنصح والإرشاد، تتحول النفوس شيئاً فشيئاً - إن كان بالتطبّع أو العدوى أو التقليد - إلى حاضنات لتلك الأخلاقيات السلبية، و يصبح من الصعب الخلاص منها. و من مستلزمات نجاح العمل تفعيل الرقابة والمحاسبة و الجزاء، ليكون رافداً مهماً لسير عملية الإصلاح نحو تحقيق أهدافها.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر ومن خاف أمن ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم. (1)

فإنّ عائد محاسبة النفس يفوق كل التوقعات، و يعطي من النتائج ما لا يعطيه شيء آخر، بعكس الغفلة التي تدفع النفس للزلل وارتكاب الأخطاء. والخوف من العواقب أمانٌ من الزلل والخطأ والاعتبار بالمثلات والتبصّر في الاعتبار وفهم المقاصد ليحصل العلم و عندها تنشط محاسبة النفس وتؤدي دورها.

يقول علیه السلام: [فهو على الناس طاعن و لنفسه مداهن ... يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره ] (2)

وهو كلام جليل وفيه من الحكمة والإرشاد دليل.

ص: 91


1- في باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (209) الصفحة (671)، نهج البلاغة
2- في القصار من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام رقم (150) الصفحة (663) نهج البلاغة

فمن ينظر إلى أخطاء الناس ويطعن عليهم أخطاءهم و يتبع زلاتهم و لا يرضى هفواتهم، يجب عليه قبلها أن يحاسب نفسه أولاً ولا يداهنها ويزيّن لها الأخطاء. وأن يحكم عليها بمثل ما يحكم على الناس لنفسه.

يقول علیه السلام: [كفى أدباً لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك ] (1).

وفي وجوب تجنّب الإنسان ما يكرهه من غيره، قال بعض الحكماء: إذا أحببت أخلاق امرىءٍ فكنْهُ وإنْ أبغضتَها فلا تكنْهُ. وقد أخذ ذلك أحد الشعراء فقال:

إذا أعجبتك خصالُ امرىءٍ *** فكُنّه يكنْ منكَ ما يُعجبُكْ

فليس على المجد والمكرمات *** إذا جئتَها حاجبٌ يحجبُكْ

وقال علیه السلام: [من رضي عن نفسه، كثر السّاخط عليه ] (2).

فالذي لا يحاسب نفسه، و يؤنّبها عند الخطأ، و يعتقد أنه لا يُخطىء، تكثر أخطاءه و تتفاقم فيكثر سخط الناس عليه. يقول الشاعر:

أرى كلَّ إنسانٍ يرى عيبَ غيره *** و يعمى عن العيب الذي هو فيه

وما خيرُ من تخفى عليه عيوبُه *** ويبدو له العيب الذي بأخيهِ

إنّ تأديب النفس و ترويضها طريق لبنائها ونزع الخواطر الظلامية منها، ورفع الأفكار المفسدة عنها.

و معلّمُ نفسه ومؤدّبها أحقُّ بالإجلال والتقدير من معلم الناس ومؤدّبهم، كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 92


1- في القصار من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام رقم (364) الصفحة (707)، نهج البلاغة
2- من الحكمة رقم (5) الصفحة (628) من حكم أمير المؤمنين علیه السلام نهج البلاغة

رابطنا مع نهج البلاغة

اشارة

عُرف نهج البلاغة على أنّه منتخب خطب أمير المؤمنين علیه السلام و رسائله ووصاياه وكلماته وحِكَمه. جمعها السيّد الشريف الرضي علیه الرحمه قبل ألف عام تقريباً.

ولم تكن هذه المجموعة التي وصل إليها الرضي، هي جميع كلام أمير المؤمنين الذي حفظه الناس منه ونقله عنه.

فصاحب «مروج الذهب»، المسعودي ذكر في الجزء الثاني من كتابه أكثر من أربعمائة و ثمانون خطبة للإمام علیه السلام، في حين أن المذكور من الخطب في النهج لا يتجاوز نصف هذا العدد. و المهم أنّ الأمر لا يتعلق بالكمّ من كلامه علیه السلام ولكن في حدود معرفتنا له. ففي زمن ليس بالبعيد لم تكن هذه المعرفة تتجاوز التنقيب عن الوعظ و الإرشاد والدعاء، أو الفنون البلاغية و الصور الإبداعية في علم الكلام وفصاحة اللسان.

أمّا الأسرار الخفية و المباحث الفكرية و المفاهيم المنطوية فيکلامه و الروح والمحتوى في مدرسته، والمعارف والعلوم و المناهج المطروحة، فلم تحظى بالاهتمام و الدراسة والمتابعة التي تستحقها. ولم تكن - ولزمن قريب - مكتشفة و مشار إليها بالملاحظة، إلّا في بعض المقامات و المواضع، و بما لا يرقى لمستوى الحاجة إلى تلك الدراسات. و رغم هذا التقصير مع نهج البلاغة، فلموافقة مفاهيمه لكثير

ص: 93

من الظروف التي نعيشها و سلامة الحلول المطروحة في تلك المفاهيم لكثير من مشاكل المجتمع و وجود الحاجة إليه في مختلف المواقف و الظروف، نجده يفرض نفسه أمام الأحداث ويدفع للإنتباه إليه لما فيه من الفوائد والمطالب والمقامات.

ففيه ضالّة كل باحث ومتتبّع ودليل لكلّ مصلح أو صاحب رسالة، و به إجابات لكثير من الأسئلة و توافق الحلول الموجودة فيه مع الواقع والظرف والزمن. ومفاهيمه آخذة بالاكتشاف شيئاً فشيئاً، بل قل أنّه أخذ بافتتاح الحواجز و الوصول إلى المدارك والعقول.

إنّ نظرة فاحصة إلى العهد الذي كتبه علیه السلام لمالك الأشتر، يُنبي لذوي الإختصاص بعلم الإجتماع و الإدارة والسياسة والمشرعين، الأسلوب المتقدم في هذه المعارف والمناهج المتطورة المطروحة وما ينطوي عليه هذا العهد من وعي وإدراك الأصول إدارة المجتمع وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وتصنيف طبقات الناس ووسائل الارتباط بين هذه الطبقات وأسباب التفاعل بينها وواجبات وحقوق كلّ طبقة والتنسيق والتوازن بين الواجبات والحقوق ومهام السلطات وترتيب أحوالها والمحرّك لها. ويشير إلى عوامل النجاح وحوافزه وسبل الإرتقاء بمكونات المجتمع ورفع الحيف والظلم وإحقاق الحقوق وإرسال ثقافة النزاهة والعمل الإصلاحي. مع ما به من تشريعات متكاملة في موضوع حقوق الإنسان واحترام الجنس البشري، ورفض التعصّب والأثَرة أو الاستغلال وسوء الإدارة. وغير ذلك من المعارف والعلوم الاجتماعية المنطوية على الإبداع والمبادرة.

وهو ما ينطبق على سائر كلامه علیه السلام و وصاياه ورسائله إلى العاملين في الدولة أو سائر صنوف المجتمع.

ص: 94

إنّ البحث في مناهج مدرسة الإمام علیه السلام لا يثمر و يؤتي أكله بمجهود فردي أو محاولات يتيمة. إنّما هو عمل جماعي وجهد كبير ومشترك، تقوم به مؤسسات و منظمات وعلماء متخصصين ومتنوعين بتنوّع موارده. كلُّ واختصاصه والمبحث الذي يبتغيه والغاية التي يريد إدراكها فتحصل الفائدة المرجوّة بجهد منظّم ومدروس.

أثر كلامه:

إذا كانت حِكَم أمير المؤمنين علیه السلام تنفذ إلى القلب وتؤثّر في النفوس. وإذا كانت مواعظه تهزّ الأرواح فتخشع وتحرك المشاعر فتحيلها إلى دموع و تنبه الأحاسيس فتقشعر الجلود. كذلك كلّ كلامه بمختلف موارده ومبانيه، أثره ظاهر و تأثيره خالد مع تعاقب السنين ومرورها.

فلا تخلو خطبة من خطبه أو حكمة من حكمه و سائر كلامه من علامات التأثر و التفاعل التي تحدثها و تجدها مرسومة في وجوه مستمعيه تترجمها شدة الانتباه و رجفان القلوب وبكاء العيون. و مثله نراه في أعماق القارىء العارف لمعاني الكلمات المتحسس لمواطن الإبداع ورقي الفكرة، اختلاف الثقافات ومرور الأزمان.

يقول السيد الرضي عند ذكره خطبة الإمام المعروفة «بالغراء» (1): «لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب.»

و بعد قرون من الزمن يصوّر الشيخ محمد عبدة، و يصف كلام الإمام بنفس لروح و الأثر و التعجّب، رغم مرور الزمن الطويل

ص: 95


1- الخطبة رقم (82) من خطب الإمام علي علیه السلام الصفحة (160) نهج البلاغة

والاختلاف في المدارس والمناهج والتغيّر الحاصل في الأفكار والمجتمعات. فعند قراءته لبعض ما جاء في النهج يقول: كأنّي أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، و أولياء أمور الأمّة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب ويحذّرهم مزالق الاضطراب، ویر شدهم إلى دقائق السياسة، و يهديهم طرق الكياسة، و يرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، ويُصعدهم شُرف التدبير، ويُشرف بهم على حسن المصير» (1).

بمثل هذه العبارات صوّر هذا العالم الجليل تقييمه إلى كلام الإمام. و بعد كل هذه السنين و تطور فنون المعارف و استحداث علوم الكلام و البيان. قرأ كلامه وتأثّر به هذا التأثر، ودفعته الرغبة الجامحة أنْ يقوم بشرحه وبيان ما به من فنون الفصاحة و البلاغة مع اعتقاده أنّه لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلّا أصبه، ولم يدع للفكر ممرّاً إلّا جابه.

ولسنا في معرض ذكر من قرّض نهج البلاغة و جاهد في وصفه. فما قيل فيه يفوق في الحجم و الكمّ ما في النهج آلاف المرات. ولا مفر من التعرّف على بعض آثاره وتوقيعات كلامه في النفوس. إنْ أحد أصحابه و هو همّام بن شريح حين طلب من الإمام أن يصف له المتقين، وقد أعرض الإمام علیه السلام عن إجابة طلبه أول الأمر لمعرفته بهمّام وتأثره فيما يقوله.

فقال له الإمام: اتّق الله يا همّام وأحسن، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون. وبعد أنْ كرّر عليه الطّلب، ذكر له الإمام صفات المتقين. و كلّما صعّد الإمام في كلامه ازداد اضطراب همّام حتى صعق

ص: 96


1- بعض ما جاء في تقييم الشيخ محمد عبدة لكلام أمير المؤمنين علیه السلام في شرحه لنهج البلاغة

ومات في مكانه من فرط تأثره في كلام الإمام، ووعيه ومعرفته به وانشغال قلبه فيه. فقال علیه السلام: أما والله لقد كنت أخافها عليه (أي الصعقة) ... هكذا تفعل المواعظ البالغة بأهلها ] (1).

ولم يكن التأثر بكلامه علیه السلام مقتصر بأصحابه، بل وفي نفوس أعدائه والمخالفين له.

روي أنه علیه السلام كان جالساً في أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم فقال علیه السلام: [ إنّ أبصار هذه الفحول طوامح (طمح البصر: إذا ارتفع و أبعد في الطلب)، و إنّ ذلك سبب هَّابها (أي هيجانها) فإذا نظر أحدكم إلى امرأةٍ تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأة ] (2).

فقال رجل من الخوارج «قاتله الله كافراً ما أفقهه».

فوثب القوم ليردّوه فقال علیه السلام: رويداً إنّما هو سبّ بسب، أو عفوٌ عن ذنب.

ويصف أحد مخالفيه، مقطع من كلامه لا يزيد على أربع كلمات: إنها شافية وكافية ومجزية ومغنية، بل و فاضلة على الكفاية وغير مقصّرة على الغاية.

وإذا كان القول فيه من أرباب علم الكلام وأهل الفصاحة والبلاغة والبيان، أنَّه مَشْرع الفصاحة و موردها ومشأ البلاغة و مولدها، و منه ظهر مكنونها، و عنه أخذت قوانينها، و على أمثلته حذا كلُّ قائلٍ خطيب،

ص: 97


1- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين رقم (191)، الصفحة (417)، نهج البلاغة
2- من كلماته القصار، رقم (415) الصفحة (720) نهج البلاغة

وبكلامه استعان كلُّ واعظٍ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدّم وتأخروا لأنّ كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.

فقول أهل علم الإجتماع و السياسة والاقتصاد والعلوم الإلهية وعلم الفلك والتربية، وسائر المعارف والعلوم بمثل ذلك و أكثر. ولو أنّ أرباب هذه العلوم والمتخصصين أولو هذا الكنز الثمين اهتمامهم أكثر، لكان النفع أكبر. ولاختصروا الزمن و الجهود والنتائج في بحوثهم و دراساتهم.

وقد عرف له أعداءه الفضل في العلم والمعرفة، ولا يجسر منهم أحد في الانتقاص من حقه في ذلك، و من يأمر به يُفتضح ولا يُعنى به ولا بكلامه.

عندما قُتل الأشتر غيلة و هو بطريقه إلى مصر عُثر على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين علیه السلام له. ووصل هذا العهد إلى يد معاوية، فقرأه بحضور عمرو بن العاص، فطلب ابن العاص من معاوية أنْ يمزّقه ويتخلّص منه فكان جواب معاوية له: إنّ ذلك من سفه الرأي، وضعف المشورة و قلّة المعرفة. فالعهد ينطوي على دروس و معارف وعلوم لا تحصى و لا تُحصر فوائده، فكيف يطلب منه التخلص من كنز كهذا وقع بين يديه؟ وإن كان من صنع عدوّه و الفطنة تقتضي الحفاظ عليه الاستفادة منه و هو أكبر غنيمة يحصل عليها.

و نستطيع أن نقول ويملء الفم: إنّ كلامه علیه السلام وفي مختلف مناحيه و أبوابه ومفاهيمه ومقاصده فاعلٌ لا منفعل ومؤثر لا متأثر وفيه من العجائب ما تبهر العقول، وتحيّر الأفهام.

ص: 98

من ميادين النهج:

إنّ المباني الفكرية في كلام أمير المؤمنين علیه السلام متنوعة وكثيرة. وهي ليست في باب واحد أو علم واحد وهذه إحدى الميزات الجليلة فيه. و ميزاته لا تقتصر في البلاغة و البيان و مناهج الفصاحة و علم الكلام، إنّما هي ميّزات في المفاهيم والمدارك والمعارف كما قلنا سابقاً. والمتتبع يجد في جميع مبانيه صفاء الرأي و سحر البيان وعمق الفكرة وطهارة الوجدان والسمو والرفعة والنصرة للمظلوم والتعصّب للحق والدعوة لمكارم الأخلاق والأمانة والنزاهة والعدل.

وحيث إنّ الإمام لذلك الإنسان المتكامل الجامع لمراتب العزّ والفضائل، كذلك كلماته لا تنحصر ببعدٍ واحد، وتمتد لأبعاد كثيرة وتنطوي على عوامل عديدة. و الكلام عند أمير المؤمنين علیه السلام لم يكن هدفاً أو وسيلة ليبدي به مهارته في الكلام و فصاحته في العبارات و الجمل بل هو وسيلة إلى أهدافه يستعمله لتوضيح و شرح تلك الأهداف والمباني التي من أجلها أنشأ الكلام.

و هو بذلك يخاطب الإنسان كونه إنسان، بصرف النظر عن النوع و الشكل و المكان أو الزمان. لهذا تأثيرات كلامه لا يُبطلها تطاول الأزمنة أو اختلاف الأمكنة أو تنوّع الأذواق، وتباين الأذهان والمفاهيم.

وفيما يخص المقامات التربوية في المدرسة العلوية فهي زاخرة بالمعرفة و المناهج الهادفة و الأفكار الداعية إلى إصلاح النفس البشرية و الارتقاء بها إلى مراتب الرفعة والكرامة والعمل على إشاعة ثقافة النزاهة و العدل ونبذ الظلم والفساد.

ص: 99

الحاكم والمحكوم

أولى أمير المؤمنين علیه السلام المسألة الحكومة أهمية بالغة. و من أولويات توجيهاته في رسائله و كتبه وعهوده إلى العمال وأصحاب الخراج و أهل القضاء ما يتعلق بالشؤون الإدارية والأمور الاجتماعية، و علاقة الحاكم بالرعية وطرق معاملتهم، تأكيده على أداء الأمانة و العمل بسيرة العدل و إحقاق الحق، وإنصاف الخلق.

ومن أهمية الحكومة ولزومها لتنظيم أمور المجتمع، و ترتيب أحوال الناس و الخراج والدفاع والبناء والعطاء والقضاء وغيرها من متعلقات الفرد وأمور البلاد، يتحرك الكلام عند أمير المؤمنين علیه السلام ليضع النقاط على الحروف ويجيب على الكثير من الإشكالات أو التصورات الخاطئة، ويعرّف بواجبات الإمام وصاحب الأمر وأصحاب الوظائف بالدولة والرعيّة، كلُّ حسب واجبه ومسؤوليته. وأنّ الغاية في ذلك إقرار العدل وإجراء الحق، وهو الهدف الإلهي في إرسال الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الناس كما نصّت عليه الآية (25) من سورة الحديد: ﴿للَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

وما يُفترض من وجود حكومة مستقيمة غير محرّفة عن هدفها تعمل بهذا الاتجاه، ووفق منهج القيام بالقسط.

يقول علیه السلام: [ وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، و يبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي ] (1).

ص: 100


1- من كلام الأمير المؤمنين علیه السلام في الخوارج رقم (40) الصفحة (114) نهج البلاغة

و مع افتراض عدم وجود حکومة صالحه، فوجود الحكومة بحدِّ ذاتها خیر من قانون الغاب و الفوضى.

وإنْ كان هذا القول منه علیه السلام ردّاً على طرح الخوارج الفاسد. حين رفعوا شعار: «لا حكم إلا لله» إلّا أنّه قانون عام لمسألة الحكومة، و ضرورتها في تسيير أمور البلاد و العباد. إنّ الحكومة في تقييم المصلحين و دعاة العدل، ليست مقاماً دنيوياً، و لا هدفاً في الحياة. إنما هي واجب و تكليف ووظيفة إلهية غايتها إجراء العدل وإنصاف الناس.

والحكومة لا تقوم إلّا بشروطها و أول وأهم هذه الشروط قبول الناس بها. وأنْ تكون منبثقة من إرادتهم ووالية لتطلعاتهم، لتحقق آمالهم وتستجيب لرغباتهم.

لا أنّ تكون غريبة عنهم وبعيدة منهم، تشكّل في الخفاء و تعمل ما تشاء، دون النظر إلى الناس و حاجاتهم، بل تنظر فقط إلى حاجاتها هي وحاجات من يسير في فلكها وإنْ كانوا القلّة القليلة. فيضيع بذلك حقّ الأكثرية من الناس على حساب مجموعة من المنتفعين أو الموصوليين، وتفقد الحكومة أسباب وجودها أو الغاية من قيامها.

إنّ الكثير من الحكومات تعمل على سدّ حاجيات الناس من مأكل وملبس ومسكن وغيرها من الأمور الحياتية ولكن هل هذا وحده يكفي وهل به وحده أيضاً يحصل الرضا عن الحكومةوعملها أو تُقيّم بأنّها حكومة ناجحة صالحة؟ إنّ الأهم من ذلك نظرة الحكومة إلى شعبها و تقييمها له ودرجة معرفتها لثقافة الحكم وآليات إدارة البلاد وسياسة العباد. هل هذه الحكومة تنظر إلى الناس على أنهم تابعين لها، أو عبيد و هي المالكة؟ أم أنّهم أصحاب حقوق في جميع الأمور، وهي أي الحكومة مؤتمنة عليهم كفيلة بأداء الأمانة، وذلك برعايتهم وخدمتهم

ص: 101

و تحقيق آمالهم. و أنّ هذا الواجب ليس حكراً، إنّما هو واجب عام يصلح له الجميع، وهو من حقّ الجميع.

لذا فإنّ اعتراف الحكومة بحقوق الناس وحذرها من أي عمل يشعرهم بنفي حقوقهم أو الانتقاص منها، سيوطّد العلاقة بينهما، ويقوّي عوامل الثقة والاطمئنان عند الناس وعندها يحصل الرضا الذي منه يكون استتاب الحال وانشغال الكلّ بالبناء و التطوير، ما ينعكس بالإيجاب على حركة النهوض والتقدم عموماً.

و بطبيعة الحال فإنّ لكلّ حكومة برنامج عمل وخطّة وسياسة لإدارة البلاد وإنجاز المهمّة، و هذا لا يعني النظر فقط إلى عبارات أو مصطلحات برنامج الحكومة و ما تطلقه من شعارات وما تعطيه من وعود. ولكن العمل والإنجاز وما يلمسه المواطن على الأرض هو المهم في تقييم الحكومة والحكم عليها فهي المسؤولة، والمواطن هو الرقيب، و عمل الحكومة هو الحاكم والدليل.

إنّ الأقوال والوعود والشعارات ليس أسهل منها، إنّما العمل والأداء والنتائج هو المهم، وما ينتظره المواطن ويصبو عليه. فإنّك لن تجد حكومة لا تقول إنّها ستعمل وتنجز، ولكنّ الفعل هو الذي يُصدّق قولها أو يكذّبه.

يقول علیه السلام: الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف (1).

أي أنّ كلّ أحد يصف الحقّ ويذكر محاسنه ووجوبه ويقول: لو

ص: 102


1- من خطبة الأمير المؤمنين علیه السلام في منصرفه من صفين، رقم (214)، الصفحة (449)، نهج البلاغة

ولّيتُ لعدلت ولكنّه بعد ذلك يتنصّل ويعمل بغير ما يقول. فالحقّ باللسان وسيع، وبالفعل ضيّق.

وكذلك من واجب الحكومة تقوية أواصر الصلة مع الناس، و عدم الابتعاد و الاحتجاب عنهم، بل التقرب منهم وسماع همومهم وشكاواهم ومعرفتها عن قرب، وعدم الاعتماد بالكليّة على البطانة أو الخاصة، وقد يكون منهم عدم الدقة أو عدم الصدق والأمانة في نقل المعلومات، أو تصویرها بعكس حقائقها.

وأكثرهم كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام: [فيهم استئثار وتطاول، و قلّة إنصاف في معاملة ] (1).

وهم (أي البطانة)، لا ينقلون السَّيئ من الأمور إلى مسؤوليهم، لأنّ تبعة ذلك يقع عليهم، فما من سيّئٍ أو تقصير إلّا من صنع أيديهم وأيدي المقربين منهم. فتضيع الأمانة في نقل المعلومات إلى المسؤول، فلا يعرف مواضع الخلل حتى يعالجها، أو يستدل على السلبيات ويعمل على إزالتها. فلو كان المسؤول يعمل بالحقّ ولا يظلم الخلق، ففيم احتجابه عن الناس والابتعاد عنهم؟

يقول علیه السلام: فلا تطوّلنّ احتجابك عن رعيتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضّيق وقلّةُ علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علمَ ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصغير و يقبُحُ الحسن، ويحسُنُ القبيح، ويُشابُ الحقُّ بالباطل، وإنّما الوالي بشرٌ لا يعرفُ ما تَوارى عنه الناس به من الأمور ] (2).

ص: 103


1- من عهد الإمام إلى مالك الأشتر الصفحة (591) نهج البلاغة
2- نفس العهد المذكور، الصفحة (590)

إنّ وضع الحواجز بين المسؤول و المواطن، له آثار سلبية في عمل المسؤول وفي مصالح الناس أيضاً، ويمنع كثيراً في إرساء الثقة في نفس المواطن تجاه حكومته، مع ما يؤخر من إنجاز الأعمال وتنفيذ الخطط. ومن المفيد مع وجود المستشارين للحكومة وأهل الاختصاص، أخذ رأي المواطن والاستماع إليه فيما يبديه من ملاحظات هو أقرب إليها وأكثر تماسّاً معها. وأيضاً حتى لا تُخلق حالة من التحفّظ عند المواطن من الحكومة أو الخوف فيستثقل من قول الحق أو إبداء الرأي.

يقول علیه السلام: [فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا منّي بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة (أي أهل الغضب)، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقِّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقَّ أن يُقال له أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل. فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل ] (1).

وكان يُقال: من أعطي الاستشارة لم يُمنع الصواب. وفي كلام أمير المؤمنين علیه السلام حثٌّ على المشورة، وعلى المسؤول قبولها ودراستها وعدم الاستثقال منها أو الترفّع والتبكّر عن سماعها و الأخذ بها.

فإنّ من أسخف حالات الولاة أن يُظنّ بهم حبُّ الفخر ويوضع أمرهم على الكِبر. (2)

ص: 104


1- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام خطبها في منصرفه من صفين رقم (214) الصفحة (452، 453) نهج البلاغة
2- من كلام أمير المؤمنين في الخطبة رقم (214) الصفحة (452)، نهج البلاغة

ومن أقوال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا یدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّةٍ من كِبْر (1).

وبالمقابل فإنّ على المواطن في حال منحه حقوق الممارسة الديمقراطية، أن يُحسن استخدام هذه الحقوق ويضع الأمور مواضعها، ولا يضيّع فرصة في استحصالها وبالطرق السليمة و الوسائل الصحيحة، دون اللجوء إلى ما يبعدْ عن الممارسة الحقّة للديمقراطية، أو يُقحم نفسه في أمور مخالفة للقوانين والأنظمة السليمة والتحلّي بمبادىء ثقافة الديمقراطية والسعي للعمل بروح المصلحة العامة وتغليبها على المصالح الفردية أو الآنيّة والنظر إلى مشاكل المجتمع والبلد لا إلى مشاكل الأفراد فقط فإنّ في بناء المجتمع وحلّ مشاكله وسير عجلة التعمير والخدمات والمشاريع حلٌّ جذري لمشاكل الأفراد من بطالة أو فقر أو مرض أو أمور أخرى متعلقة بحياتهم.

يقول علیه السلام: [الولايات مضامير الرجال ] (2)

أي تُعرف بها الرجال كما تُعرف الخيل بالمضمار، وهو الموضع أو المدّة التي تُضمَّر فيها الخيل ليعرف الجواد الأصيل من دونه والمسؤولية أشبه ما تكون بالمضمار، وهو اختبار و امتحان تُعرف به الرجال و يميز أصحاب النفوس الرفيعة والأخلاق السامية من ضعاف النفوس وأهل الفساد.

ومن كلامٍ لأمير المؤمنين علیه السلام قاله لأحد الولاة على سبيل

ص: 105


1- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان و الترمذي في كتاب البر و الصلة (1998)، و ابن ماجه في كتاب الزهد باب البراءة من الكبر و التواضع (4173)
2- في باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (435) الصفحة (724) نهج البلاغة

التوجيه والمراقبة [واحذر العَسفَ و الحيْفَ، فإنّ العَسْفَ يعودُ بالجلاءِ، والحيفَ يدعو إلى السيف ] (1).

العسف: الشدّة في غير الحق. الجلاء: التفرّق والتشتت. والحيف: الميل عن العدل إلى الظلم.

إذاً فالإمام يحذره من استعمال الشدة في معالجة الأمور فإنّ الشدة تدعو للفرقة والتشتت. و أنّ الميل عن العدل إلى الظلم ينزع المظلومين إلى القتال والدفاع عن حقوقهم ودفع الظلم عنهم لإنقاذ أنفسهم.

و إنّ استمرار الظلم على الناس يدفعهم إلى القيام بما لا يتصوره الظالمون ولا يتوقعونه و المظلوم يصل إلى مرحلة تهون عليه نفسه التي أعزّ شيءٍ يملكه، وعندها سيكون ثمن حياته التيجان والعروش.

«البوعزيزي»، شابٌ تونسي أحرق نفسه احتجاجاً و رفضاً فأحرق نظاماً بأكمله. فكم عملية إحراق يحتاجه المجتمع العربي، حتى يطهر من الطغاة؟

ص: 106


1- في القصار من كلماته علیه السلام رقم (469) الصفحة (731)، نهج البلاغة

نهج البلاغة و ثقافة النزاهة

نتناول في هذا الجزء من الكتاب، تقريرات أمير المؤمنين علیه السلام و التي قدّمها على هيئة وصايا وتوجيهات وأوامر جاءت في خطبه و رسائله و حِكَمه و كتبه إلى عماله و الولاة و أهل الخراج و القضاء، يصوّر فيها آراءه الصائبة في الحكم و الإدارة وقواعد العدل الاجتماعي وحقوق الإنسان. و هي تنمُّ عن عقل فريد وعلم وخبرة بالناس والمجتمعات والأحداث. وما نتناوله من النهج متعلق بموضوع كتابنا ثقافة النزاهة. وفلسفة الإمام الاجتماعية وما بنى عليه من آراء في العدل والأخلاق والحكم والإدارة، وعلاقة الحاكم بالرعية وطبقات المجتمع وحقوق الأفراد والسياسة، وأداء الأمانة و محاربة الفساد.

دروس ومناهج يُعرّف بها مواقع الصواب، و يرشد إلى طريق الهداية، و يحذّر من المزالق و الأخطاء، و يوصل إلى مواطن النزاهة و الصلاح.

اختصّ كلامه علیه السلام بمميزات تخفق بالحياة وتنعم بدفء التجربة، وتكشف عن فلسفة أخلاقية من رحم تجاربه وشخصيته وممارسته للحياة والحُكم. غايتها غرس الفضيلة في النفوس و استئصال الرذيلة منها.

إنّه يقدّم مناهج و معالجات جذرية للأمور المشكلة و المبهمات، مبنية على نظر فلسفي عميق و معرفة كاملة بكنه الحياة وحقيقتها. ومن

ص: 107

رسائله تصدر أحكام و تقريرات ترسم الخطوط العامة للإدارة وتنظيم المجتمع و أصول الحكم والقضاء، ومعاملة الناس وحقوق الإنسان.

و هو في جميعها يُراعي تقوى الله و الورع، ومظاهرة الحق على الباطل، و نصرة الخير على الشر، ومؤازرة العفّة على الفساد. ولم يهمل صغيرة ولا كبيرة من أمور الناس والمجتمع إلّا وتصدّى لها مدافعاً عن المستضعفين ومناصراً للمحرومين ومجالداً للظلم والظالمين. وكان أكبر همّه في توجيه الولاة والعاملين بالدولة إلى مراعاة عامّة الناس والميل إليهم والعمل على إسعادهم ودفع الضيم عنهم.

إنّ بعض ما جاء في عهده إلى مالك الأشتر يقول علیه السلام: [وإنّما عماد الدين و جماع المسلمين و العدّة للأعداء العامّة من الأمّة، فليكنْ صغوكَ لهم وميلك معهم] (1).

معتبراً العامّة من الناس هم العماد و جماع الأمر. و أوجب على من يرعى شؤون الدولة و الأمّة، أن يجعل جلَّ اهتمامه و رعايته و صغوه إليهم. ويُعرّف أنّ قانون الإدارة و الحكم الإجتهاد في رضا العامّة. ولا مبالاة بسخط الخاصة مع رضا العامّة لأنّ العامّة لا غنى عنهم ولا بدل منهم، ولأنّهم إذا شغبوا على الدولة و الحكم كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب فلا يقف بوجهه أحد.

لذلك يقول: [فإنّ سُخْطَ العامّة يُجْحِفُ برضا الخاصّة، وإنّ سُخْطَ الخاصّة يُغتفرُ مع رضا العامّة ] (2).

إنّ كلمات الإمام علیه السلام تكتشف مواطن التأثير في النفس الإنسانية،

ص: 108


1- من عهد أمير المؤمنين علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (574) نهج البلاغة
2- نفس المصدر السابق ونفس الصفحة

وهي تنفذ إليها بشكلٍ مباشر، لذا فإن عمل هذه الكلمات في النفوس يكون مباشراً أيضاً وجوهرياً. و أن المتلقّي لها يحسُّ أنّها يتجلّى فيها الإخلاص والصدق والأمانة في المبنى والجرأة والصراحة في الطرح، والقوّة والرزانة والسمو في التفكير. فيقبلها برضا وقناعة وعن إيمان وثقة.

لذلك عاشت أفكاره و آراءه والمناهج التي أسّس عليها في عموم المجالات، وخصوصاً علم الاجتماع والسياسة والحكم في أذهان التأريخ ووجدان الناس أينما كانوا ومن كانوا.

لقد تهيّأت لأمير المؤمنين علیه السلام من معرفته العميقة بعلوم القرآن و مخالطته رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يمنحُ من علمه و سحر بيانه و معارفه، ومن كفاحه منذ صغره بجنانه ولسانه وجميع جوارحه ما لم يتهيأ لغيره. تتفجر فيه الإمكانات و الملكات ويصدر من كلامه فيضُ من آيات الحكمة والعلوم والمعارف. تتسع بها دراسات الدارسين وتأملات العارفين وبحوث العلماء والمتخصصين بجميع مرافق ومعاقل العلم والمعرفة.

من هذه النظرة الواقعية وجدنا أنّ أفضل ما نلجؤ إليه في تحصيل البغية في أصول البحث فيما نحن فيه، بما يخصُّ ثقافة النزاهة و محاربة الفساد، أنْ نأخذ من كلام أمير المؤمنين علیه السلام المتعلّق بهذا الموضوع المهم و الحيوي. و نعتمد منهاجه و تقريراته وآرائه الصائبة السليمة، لملاءمتها كل عصر و استيعابها جميع العقول، وأنّها تتحدّى الزمان والمكان في التواصل و الحضور.

و ربّما يُعاد الكلام أو الموضوع خلال البحث، وما ذاك إلّا للضرورة، أو تشابك بعض المواضيع مع بعضها. فيقتضي التكرار. مع أنّ القارىء لا يشعر بالملل من تكرّر كلامه علیه السلام لكونه تهيّأت به للناظر

ص: 109

فيه قبسات من نور الكلام الإلهي و الهدي النبوي، فهو مصباح هداية و رشاد، ودليل معرفة وصواب.

فضلاً عن كونها دراسة مضافة في سلسلة بحوثنا في علوم نهج البلاغة، أرجو من الله سبحانه أنْ سبحانه أنْ يوفقني فيها ويرشدني في الاستمرار بها، وأنْ لا تكون الأخيرة في فسحة العمر الباقية. فهو المستعان وهو ولي التوفيق.

ص: 110

صفة خلق آدم علیه السلام

في بعض ما جاء في الخطبة الأولى في نهج البلاغة عن صفة ابتداء خلق آدم علیه السلام و كيف جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربةً سنّها بالماء حتى خلصت ولاطها بالبلّة حتى الزبت (1) ... ثمّ جعلها صلبة متينة حتى صلصلت (أي يبست)، ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً. ولمّا كان خلق الإنسان من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسيخها فهو تبع لذلك مركب من طباع مختلفة، وفيه استعداد للخير والشر والحسن والقبيح.

يقول: [ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهانٍ يُجيلها، وفكرٍ يتصرّفُ بها وجوارح يختدمها ... و معرفة يفْرُقُ بها بين الحق و الباطل ] (2).

مَثُل: أي قام وانتصب والأذهان قوى التعقّل. يجيلها: يحركها في المعقولات، ويختدمها: يجعلها في مآربه كالخادم الذي يستخدمه.

ومنحه سبحانه معرفة يهتدي بها ويفرق بين الحق والباطل.

قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (3) وقد منح

ص: 111


1- مقتبسة من الخطبة رقم (1) الصفحة (40) في نهج البلاغة
2- من الخطبة رقم (1) الصفحة (41) نهج البلاغة
3- سورة الإنسان، الآية (3)

سبحانه الإنسان أذهان يحركها وفکر يتصرف بها، ليميز بين الصواب والخطأ والصالح والفاسد. فإذا اختار الطريق الأمثل في سبل هذه المعرفة، فإنّه يصل إلى ذلك التمييز فيقدم على الصواب ويتجنب الأخطاء.

وفي ذلك يحصل على سعادته، ويحقق كرامته التي أرادها له خالقه، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (1).

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية (70)

شروط التصدّي

قوله علیه السلام: [وما أخذ الله على العلماء أنْ لا يُقارّوا على كِظّة ظالم ولا سعب مظلوم ] (1).

والكِظّة: بكسر الكاف ما يعتري الإنسان من الثقل عند الامتلاء من الطعام والمراد استئثار الظالم بالحقوق.

والسغب: شدّة الجوع والمراد منه هظم حقوق المظلوم.

وكلمة العلماء: يعني بها نفسه أو كل أولي الأمر وأصحاب المسؤوليات والمتصدّين. فالكلّ مكلّف، ومأخوذٌ عليه أنْ لا يمكّنوا الظالم من ظلمه، ولا يسكتوا أو يتهاونوا إذا هُظم حقّ المظلوم.

لقد جاءت هذه الفقرة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية. ولسنا هنا في معرض التعرض لهذه الخطبة، وإنما لتأشير ما تلمح إليه هذه العبارة فيما يعنينا من موضوع النزاهة ومحاربة الظلم ومعونة المظلوم. وما فُرض على أئمة العدل أن لا يمكّنوا الظالم من ظلمه ويعملوا عند توفّر شروط العمل على التصدّي والقيام بواجبهم في نصرة الحق وإعلاء كلمته.

لهذا فهو علیه السلام يقول: [لو لا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ... إلى آخر كلامه ] (2).

ص: 113


1- من خطبته رقم (3) المعروفة «بالخطبة الشقشقية» الصفحة (56)، نهج البلاغة
2- نفس المصدر السابق

وهي الشروط المهيئة للقيام بالأمر والتصدّي.

فحضورالحاضر، يُريد به من حضرالبيعة، ومن حضره ممّن يستعين بهم فتكون الحجّة عليه إذا ما تخلّف عن القيام بواجبه، لوجود من ينصره.

ثمّ ما أوجبه الله سبحانه على أولي الأمر من النهوض في مسؤولياتهم تجاه مجتمعهم ومبادئهم وأنفسهم.

ص: 114

الإمرة

قوله: [هذا ماءٌ آجنٌ، ولُقمةٌ يَغَصُّ بها آكلُها ] (1).

والآجن: المتغيّر الفاسد يقال ماءٌ آجنٌ: أي متغيّر اللون والطعم لا يُستساغ وهو إشارة للخلافة أو الإمرة، بمعنى أنّ الإمرة أو المسؤولية على الناس وولاية شؤونهم ممّا لا يهنأ لصاحبه، وإنّما هو أمر يشبه تناول الماء الآجن، يجد شاربه مشقّة وكدر. وأيضاً لا تحمد عواقبه مثل اللقمة يغصُّ بها آكلها فيموت بها.

إنّ من يعتقد أنّ الإمرة أو الوظيفة أو أي منصب، هو مسؤولية وواجب ومطلوب أداء تلك المسؤولية وأداء ذلك الواجب كما ينبغي، وأنّها تكليف للصلاحية والأهلية الموجودة في الشخص لأداء عمل معيّن هو من يصف الإمرة أو المسؤولية بالماء الآجن واللقمة التي يغصُّ بها آكلها وليست غاية أو هدفاً يصل إليه فيكون كل مراده و مبتغاه.

وقد جاء كلام أمير المؤمنين علیه السلام لمّا قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخاطبه العباس بن عبدالمطلب وأبو سفيان بن حرب في أنْ يُبايعا له بالخلافة، فكان هذا القول بعضٌ من كلام تكلم به إليهما بحضور الناس، بيّن رأيه في الإمرة، وكيف أنه ينظر إليها، ومثّلها بما مثّلها وهي كذلك.

ص: 115


1- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (5) الصفحة (60)، نهج البلاغة

ص: 116

في ذمّ أتباع الشيطان

اشارة

قوله علیه السلام: [اتّخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له أشراكاً فياض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودَرَجَ في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل ] (1).

ملاك الشيء: قوامه الذي يملك به.

أشراكاً: جميع شريك، فيكون بمعنى، جعلهم شركاءه أو يأتي بمعنى شَرَك، وهو ما يُصاد به فيكون بمعنى أنّهم آلة الشيطان في الضلال.

باض وفرّخ: كناية عن طول مكثه في صدورهم، ذلك أنّ الطير لا يبيض أو يفرّخ إلا في الأماكن التي هي مسكنه ووطنه. وهي استعارة للوسوسة والإغواء.

دبّ ودرج كالطفل يتربّى في حجر والده حتى يكبر ويتقوّى.

الزلل: الخطأ. و الخطل: القول الفاسد أو الخطأ القبيح. أراد أنّه لشدّة اتحاد الشيطان بتلك النفوس وامتزاجه بهم صار كمن ينظر بأعينهم وينطق بألسنتهم، أي صار الاثنان كالواحد.

فمن يتخذ الشيطان وليّاً ويلّكه أمره ونفسه، سوف يشاركه الشيطان

ص: 117


1- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (7) الصفحة (62، 63) نهج البلاغة

بجمیع أموره، ويتمكّن منه في الوسوسة والإغواء، ويهوّن عليه ارتكاب الأخطاء ويزيّن له الفساد، حتى يتطبّع به ويكون جزء من أخلاقه وصفاته.

في العدل سعة

من كلام أمير المؤمنين علیه السلام فيما ردّه إلى بيت المال من القطائع: [والله لو وجدته قد تُزوّج به النِّساء، ومُلك به الإماء لرددته فإنّ في العدل سعة. و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ] (1).

القطائع: ما منح للبعض من الأراضي.

فمن عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو عن التدبير بالجور والظلم أعجز، لأنّ الجور مظنّة أن يقاومه أحد، أو يعترض عليه وهذا غير حاصل في العدل. لهذا فالعمل بالعدل أوسع وأكثر أماناً واطمئناناً.

ومن دروس هذا الكلام، أن الحقوق المسلوبة أن الحقوق المسلوبة، يجب استرجاعها إلى جهتها التي أخذت منها، وأنّ الزمن وإنْ طال لا يمنع من ذلك، والحق القديم لا يبطله شيء.

كذلك الامتيازات أو العطاءات التي يهبها الحاكم أو المسؤول إلى أقاربه أو معارفه و أتباعه من غير دواع تدعو لذلك أو وجه حقّ، سوى الأثرة والتمييز. أو ما يقطعه لنفسه وأهله فهو من نصيب الحقّ العام ولا أحقيّة للمسؤول فيه وواجب إرجاعه يقع على من يخلفه وعلى الناس أيضاً عدم تركه والإغفال عنه أو التهاون فيه.

ص: 118


1- من كلام لأمير المؤمنينعلیه السلام ورقم (15) الصفحة (67)، نهج البلاغة

الخطايا والتقوى

اشارة

من كلام لأمير المؤمنينعلیه السلام لما بويع في المدينة: [ألا وإنّ الخطايا خيلٌ شُمُسٌ، حُمل عليها أهلها وخُلعت لجُمُها فتقحمّت بهم في النار. ألا وإنّ التقوى مطايا ذُلُلٌ حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمّتها، فأورتهم الجنّة حقٌّ وباطل، ولكلِّ أهل ] (1).

خيلٌ شُمُسٌ: الخيل الشرسة تمنع ظهرها أن يُركب، والشُمُس: جمع شَموس.

شبّه علیه السلام الخطيئة بالفرس الجموح وقد خُلعت لجامها كذلك منْ لم يلجم نفسه بالتقوى، أو بحدود الشرع والأخلاق، تنفعه لارتكاب الآثام و الخطايا، و تورده موارد الفساد. ومن يقدم على الخطيئة، إنّما لغاية زُيّنت له فيحاول الوصول إليها، فهو كراكب الفرس يجري به إلى غايته، فلو كان هذا الفرس جموحاً شرساً ومن غير لجام فسوف يوقع به في مهاوي التهلكة والردى.

أمّا السائر في طريق الخير والصواب ويُراعي الله ويتقه في كلّ حركاته مثّل تقواه وصلاحه بالمطايا الذلل فالتقوى تحفظ النفس من الردى ومن النكوب عن الصراط، فصاحبها يسير على طريق مستقيم ولا يزال على جادة الصواب حتى يوافي غرضه وغايته.

ص: 119


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (16) الصفحة (69)، نهج البلاغة

والذلل: جمع ذلول، وهو السهل السلس. ومطايا ذلل: هي المروضة الطائعة والسهلة القياد بيد صاحبها.

و ذكر علیه السلام: الحق والباطل، أي أنّ ما يمكن أن يكون عليه الإنسان، إمّا حقاً أو باطلاً، ولا يخلو أي أمر أو نزاع منهما. وللحق أصحابه، كذلك للباطل أعوانه.

وجاء في كلامه علیه السلام قوله: [مَنْ أبدى صفحته للحقّ هلك ] (1) أي من خاصم الحقّ هلك.

وجاءت هذه الكلمة بعبارة أخرى وهي: من أبدى صفحته للحقّ هلك عند جهلة الناس. أي من نَصَر الحقّ غلبته الجهلة بكثرتهم فهم أعوان الباطل. والرواية الأولى هي الصحيحة لتوافقها مع سائر الحديث وهدفه، وهو ما أكده مفسروا النهج كابن أبي الحديد وقد ذكره في شرحه للنهج في الجزء الأول في الصفحة (187) وكذلك ذكر ذلك الشيخ محمد عبدة في شرحه للنهج في الصفحة (71).

من روائع مواعظه

قوله علیه السلام: [فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنّما يُنتظر بأوّلكم آخركم] (2).

الغاية: إمّا نعيم وإما شقاء، فالواجب العدّة لهذه الغاية، والعمل بما يوصل الإنسان إلى الغاية الطيبة المفرحة، وهو الثواب الجزيل والابتعاد عن الشقاء والحزن والسوء، وهو العقاب. ثمّ إنّ الساعة التي توصلكم لهذه الغاية كأنّها تسوقكم إلى ما تسيرون إليه، فلا تستبطئوها.

ص: 120


1- نفس المصدر السابق، الصفحة (71)
2- من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (21) الصفحة (79)، نهج البلاغة

وقوله تخفّفوا تلحقوا: فإنّ من كان خفيف الحمل سريع الحركة، فهو إلى الوصول أسرع من صاحب الحمل الثقيل. والتخفّف هنا من الأوزار والأعمال الموجبة للحساب واللحاق، نتيجة للتخفّف وسرعة الحركة والوصول فمن أراد أن يلحق بالذين سبقوا إلى الحسنى، والذين فازوا بالنعيم وهي غايتهم عليه التخفف من أثقال الفساد وارتكاب الآثام والأخطاء.

يقول الشريف الرضي تعليقاً على هذه المقطوعة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لمال به راجحاً، وبرِّز عليه سابقاً، فأمّا قوله علیه السلام (تخفّفوا تلحقوا) فما سُمع كلام أقلُّ منه مسموعاً، ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها (الغور: العمق) من كلمة، وأنقع (ما أرواه للظمأ) نطفتها (الماء الصافي) من حكمة» (1).

و أما قوله: يُنتظر بأولكم آخركم: يعني به البعث فينتظر بعث الذين ماتوا أوّلاً حتى يلحق بهم من يموتون بعدهم فيُبعثون جميعاً للحساب.

ص: 121


1- في الصفحة (79) من نهج البلاغة

ص: 122

قسمة الأرزاق

يقول علیه السلام [فإن المرءَ المسلمَ المبريءَ من الخيانة ما لم يغْشَ دناءَةً تظهرُ فيخشعُ لها إذا ذُكرت، ويُغرى بها لئامُ الناس، كان كالفالج اليسار الذي ينتظر أوَّلَ فورةٍ من قِداحه توجبُ له المغنم، ويُرفع بها عنه المغرم.

وكذلك المرءُ المسلم البريءُ من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين إما داعي الله فما عند الله خيرٌ له، وإمّا رزقَ الله فإذا هو ذو أهلٍ ومالٍ ومعه دينه وحَسَبُه ] (1).

الفالج: الظافر. و الياسر: المقامر، الذي يلعب بقداح الميسر. وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره كالياسر الفالج. أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها.

والمعنى: أنّ المرء إذا لم يأت فعلاً دنيئاً يخجل منه إذا ظهر أو ذُكر أو تكلّم به الناس، يكون كلاعب القداح المحظوظ في لعبه لا ينتظر إلّا الفوز. فالمرء البريء من العمل الدنيء أو الخيانة أو الفساد، لا ينتظر إلّا إحدى الحسنيين، إما داعي الله وما عند الله خير وأبقى وذاك نعيم الآخر وثوابها. أو نعيم الدنيا والآخرة معاً، فإنْ فاته شيء من الدنيا، لم يفته نصيبه من الآخرة. وإذا علم أنّ الأرزاق بيد واهبها له أنّ

ص: 123


1- من خطبة له علیه السلام رقم (23) الصفحة (81، 82) نهج البلاغة

يُعطي أو يمنع لمصلحة هو أعلم بها فهو أسمى من أنْ يحسد أحداً على رزقٍ ساقه الله له، أو يعترض على منعٍ مُنعه من أرزاق الدنيا. فلا يأسف على شيءٍ من هذا.

وهي من توجيهاته التربوية، و مفاهيمه الإصلاحية المصيبة. فالإنسان السوي والبريء من المساوىء أو المخجلات من الأمور، لا يرضى لنفسه الانحراف في تحصيل الكاسب، فيشوّه روحه ويهتك ستره ويُغري به اللثام من الناس ومَنْ يتربّص للسقطات. وذكر الزلّات فيحيى باليد البيضاء والصحيفة النظيفة، فيكون الرابح الظافر في جميع أحواله.

ص: 124

المضمار و السباق

من خطبة له علیه السلام في الحث على التزود للآخرة يقول: [ألا و إنّ اليومَ المضمار، و غداً السّباق و السَّبَقَةُ الجنّة، والغايةُ النار ... فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله، نفعه عمله ولم يضْرُرْهُ أجله، و من قصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله وضرّه أجله. ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة ] (1).

المضمار: المكان و الزمان الذي تضمّر فيه الخيل، والتضمير هو إحداث الضمور، أي خفّة اللحم، وهو الهزال. وطريقة تضمير الخيل أن توضع في مرابطها و يُزاد علفها وماؤها حتى تسمن، ثمّ يمنع عنها العلف و الماء إلّا القليل منه، وتجري في الميدان حتى تهزل. يُفعل في الخيل ذلك لتكون خفيفة سريعة الجري يوم السباق. وهذا من تدريبها وتهيئتها.

كذلك الإنسان يعمل في دنياه لينال الرضا في الآخرة. قالدنيا بمثابة المضمار الذي يُهيء الإنسان به نفسه لبلوغ المطلوب و الحصول على المحبوب.

و السَّبَقة: الغاية المطلوب الوصول إليها في السباق و يكون من معانيها المرّة من السبق. وفي رواية «السُّبْقة» جاءت بضمّ السين وتسكين الباء، وقد فسّرها الرضي: اسم عندهم لما يُجعل للسّباق من

ص: 125


1- من الخطبة رقم (28) الصفحة (93، 94)، نهج البلاغة

جائزة أو رهنٍ إذا سبق المتسابق. وعلى كلا الحالين فقد ذكر السبقة الجنّة، وإنّما تكون السبقة لشيءٍ محبوب، وذكر الغاية النار ولم يقل والسبقة النار والنار ليس بالشيء المحبوب، أما الغاية فقد ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء أو من يسرّه ذلك. لذا خالف بين اللفظتين لاختلاف المعنيين.

ثم يؤكّد أنّ منْ عمل في حياته و أيام أمله وادّخر صالح الأعمال لما بعد ذلك وقبل حضور الأجل والانتقال من الدّنيا حيث لا عمل بعدها هو المنتفع من عمله وما ادّخره منه و لا ضرر عليه في حلول أجله لأنّه لديه ما ينفعه ويرفعه من الأعمال. وبعكسه من لم يدّخر من العمل وقصّر فيه في الدنيا وفي أيام الأمل وقبل أن تحضر ساعة الأجل حيث لا عمل بعد ذلك، فقد خسر عمله، لأنّه لم يُحسن الاختيار فيه و لم يأخذ بالنافع منه الموصل إلى السبقة و الجائزة. وضرّه حلول الأجل لتفويته الفرصة الممنوحة له في أيام الأمل ولم يستغلّها، حتى باغته الأجل الذي لا مفرّ منه.

قال الشريف الرضي رحمة الله عن هذا الكلام:

لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد ويضطرُّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام. و كفي به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتّعاظ والازدجار ... وإنّ فيه مع فخامة اللفظ، و عِظَم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبيه سرًّا عجيباً، ومعنىً لطيفاً.

وذكر توضيحه وشرحه لمعاني الكلمات.

وأما قوله علیه السلام: فاعملوا في الرغبة، كما تعملون في الرهبة أي لا تصرفكم النعَم عن الخشية من الله فاعملوا في سرّائكم كما في ضرّائكم. ومن المعتاد أنّ المرء لو أصابه ضرٌّ من خوف أو مرض أو

ص: 126

عدو، فهو شديد الإخلاص في العمل والعبادة والتضرّع حاله مثل راكب السفينة تتلاعب بها الأمواج ويهدّدها الغرق والهلاك.

فهو منقطع إلى الله لاجيءٌ إليه ومجرد وصول السفينة إلى شاطىء الأمان عاد إلى ما كان عليه.

فهو علیه السلام يوجّه المكلّف أنْ يعمل في الأيام الخالية من الخوف بمثل الانقطاع و الإخلاص والجدّيّة في أيام الخوف والعوارض وحلول الصعاب.

وممّا يؤثر عن أبي حازم الأعرج - عاش في أيام عمر بن عبدالعزيز و قد قال له: يا أبا حازم إنّي أخاف الله ممّا دخلتُ فيه - يقصد تولّيه الخلافة - فقال له أبو حازم: لستُ أخافُ عليك أنْ تخاف وإنّما أخافُ عليكَ ألّا تخاف.

ونقل عن بكر المزنيّ قوله: ما الدنيا ليت شعري، أمّا ما مضى منها فحلم، وأما ما بقي فأمانيّ.

ومن كلام سفيان الثوري: جوارحك سلاح الله عليك بأيّها شاء قتلك.

ومن قول علي علیه السلام: منْ لم يستقم به الهدى، يجُرَّ به الضَّلالُ إلى الردى.

ص: 127

ص: 128

أصناف النّاس

اشارة

يقول علیه السلام: [ فالناسُ على أربعة أصنافٍ: منهم من لا يمنعه الفسادَ في الأرض إلّا مهانةُ نفسه وكلالةُ حدّه، ونضيضُ وَفْره. ومنهم المصلتُ لسيفه، والمعلنُ بشرّه ... قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطامٍ ينتهزه أو مِقنَبٍ يقوده أو منبرٍ يفرعُه ...

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه ... واتَّخذ سرّ الله ذريعةً إلى المعصية.

ومنهم منْ أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه ... فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة و ليس من ذلك في مراحٍ ولا مغدّى ] (1).

هذه أصناف أربعة، ثمّ ذكر قسم خامس فقال: [وبقي رجالٌ غضَّ أبصارهم ذكْر المرجِع] (2). فالأقسام الأربعة للناس المعروفين عند العامة. أمّا القسم الخامس فلا يعرفهم إلّا أمثالهم، و الذين هم بنفس أحوالهم. لذا ميّزهم عن باقي الأصناف وأفردهم. وهم الذين غضّوا أبصارهم عن مطامع الدنيا خوفاً من الله وتحسّباً للآخرة والحساب.

أمّا الأقسام الأربعة فهي لطلّاب الإمرة والساعين إليها فيكون:

ص: 129


1- من خطبة له في جور الزمان رقم (32) الصفحة (100، 101)، نهج البلاغة
2- نفس المصدر السابق، الصفحة (101)

القسم الأول: الذي يمنعه عن الطلب الإمرة، حقارة نفسه وضعفها. فلا يجد من يعينه أو ينصره. وكلالة الحدّ: ضعف السلاح، وعدم قدرته عن القطع في الأعداء. يُقال كلَّ السيف، إذا لم يقطع كناية عن عدم وجود السلاح أو ضعف استعماله.

ونضيض وفْره قلّة ماله، فالنضيض الشح أو القلْة والوفر: المال.

والقسم الثاني: طالب الإمرة والرئاسة وهي ليست من حقّه ولا من شأنه، فيلجأ إلى سيفه ليسلّه على كل من يعترضه أو لا يسمع السلطان الباطل. والمعلن بشرّه: أي يُظهر هذا الشر ويهيء نفسه ويعدّها للفساد بالأرض. أو لسوء العاقبة فيوبق دينه: أي يهلكه لأجل الحطام وهو المال، وأصله ما تكسّر من اليابس تهويناً له وحطّاً لقدره كونه لا يدوم. و المقنب: المجموعة من الخيل بين الثلاثين و الأربعين يقودها لطلب العزّة والتكبّر على الناس. ومنبراً يفرعه: أي يعتليه ويخطب على الناس وما في اعتلاء المنابر عند البعض من الرفعة و السمعة. و هذا القسم قد أضاع دينه و أفسد الناس معه في طلب هذه الأمور لأجل إشباع الشهوات وإرضاء المطامع.

والقسم الثالث: من يُظهر ناموس الدّين ويطلب به الدنيا، فهو يؤدّي الأمور الدينية لا لأجل كونها واجبة الأداء، و تحميه من عذابات الآخرة و حسابها ويعمل بأعمال الدنيا من بيع أو شراءٍ أو خدمة يؤديها، لا لأجل الآخرة أو ما يوصله إلى ثواب تلك الأعمال وصدقها وأمانتها، وإنّما لإشباع رغباته وإرضاء نفسه. طامن من شخصه: أي خفّض ومشى رويداً، وقصّر من ثوبه و نمّق وزيّن وزخرف من نفسه للأمانة من غير صدقٍ في عمله أو جدّ، ومَنْ حاله كذلك يظنُّ أنّ عبادته ستر له فيتّخذ ذلك وسيلة المعاصيه وفساده.

ص: 130

والقسم الرابع: هو منْ تنقطع أسبابه كلّها، فيخلد إلى القناعة ويتحلّى بحلية الزهادة عن الدنيا، لعدم قدرته على الحركة و يحسب نفسه زاهداً وليس منها ولا هو بزاهد على الحقيقة. وأمّا القسم الذي أفرده ولم يجعله مع الأقسام الأربعة فهم الأبرار الأتقياء والعارفين الأصفياء. ولتمايزهم واختلافهم عن سواهم في كلّ شيء جعلهم لوحدهم، فطريقهم وغايتهم وطلبهم غير طريق وغاية وطلب الآخرين.

خاصف النعل:

قال عبدالله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين علیه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: [ما قيمة هذا النعل؟] فقلت: لا قيمة لها. فقال علیه السلام: [ والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أُقيمَ حقًّا أو أدفع باطلاً ] (1).

حصل هذا وأمير المؤمنين علیه السلام حاكم على دولة امتدّت أطرافها شرق الأرض و غربها. وكان يُجبى لها الخراج من كلّ مكان وتدخلها الأموال الكثيرة، وخزائنها عامرة.

بالطبع فإنّه لا يُطلب من أحدٍ أنْ يخصف نعله بيده. ولم يكن الأمر متعلق بالحالة ذاتها ولكنّها عبرة يقتضي التنبه لها ومعرفة أبعادها ومدلولاتها، فيعزف البعض عن قليل من الترف الزائف و البذخ المبالغ و يأخذوا ببعض أحكام وثقافة القناعة ونظافة الروح وسمو الأخلاق وحسن الطباع.

روی محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة، عن زاذان قال: انطلقت مع قنبر غلام علي علیه السلام فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين، فقد

ص: 131


1- من كلام قاله علیه السلام عند خروجه إلى البصرة رقم (33)، الصفحة (103)، نهج البلاغة

خبأتُ لك خبيئاً، قال: وما هو ويحك! قال: قم معي، فانطلق به إلى بيته وإذا بغراوة مملوءة من جاماتٍ ذهباً وفضّة فقال يا أمير المؤمنين رأيتك لا تترك شيئاً إلّاقسمته فادّخرت لك هذا من بيت المال، فقال علیه السلام: ويحك يا قنبر! لقد أحببتَ أن تُدخل بيتي ناراً عظيمة. ثمّ سلّ سيفه و ضربه ضربات فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه وآخر ثلثه ونحو ذلك، ثمّ دعا بالناس فقال: أقسموه بالحصص، ثمّ قام إلى بيت المال فقسَّم ما وجد فيه ورأى في البيت أبراً ومسالّ فقال: ولتقسموا هذا، فقالوا: لا حاجة لنا فيه فضحك و قال ليؤخذنْ شرّه مع خيره (1).

وروى مجمّع التيميّ قال: كان علي علیه السلام يكنس بيت المال كل جمعة ويصلّي فيه ركعتين و يقول: ليشهد لي يوم القيامة (2).

وروى مُجمّع عن أبي رجاء، قال: أخرج عليّ علیه السلام سيفاً إلى السوق فقال من يشتري منّي هذا؟ فوالذي نفسُ عليّ بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته فقلت له أنا أبيعك إزاراً وأُنسئُكَ ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطاءه، دفع إليّ ثمن الإزار (3).

وروى هارون بن سعيد قال: قال عبدالله بن جعفر بن أبي طالب لعلي علیه السلام: يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فوالله ما لي نفقة إلّا أن أبيع دابّتي فقال: لا والله ما أجد لك شيئاً إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك (4)

ص: 132


1- شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة طباعة الدار اللبنانية للنشر، الجزء الثاني الصفحة (355، 356)
2- شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة طباعة الدار اللبنانية للنشر، الجزء الثاني الصفحة (355، 356)
3- فس المصدر السابق، الصفحة (356)
4- نفس المصدر السابق، الصفحة (356)

وروى بكر بن عيسى قال كان علي علیه السلام يقول: يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجتُ من عندكم بغير راحلتي و رحلي وغلامي فلان فأنا خائن. فكانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة بينبع، وكان يُطعم الناس منها الخبز و اللحم، ويأكل هو الثريد بالزيت (1)

ص: 133


1- نفس المصدر السابق، الصفحة (356)

ص: 134

الضعيف و القوي

يقول علیه السلام: [الذليلُ عندي عزيز حتى آخذ الحقَّ له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتى آخذ الحقَّ منه ] (1).

أي أنّه يقوم بإعزاز المظلوم ونصره ويقوّي يده حتى يأخذ له الحقّ من الذي ظلمه أو ذلّه، ثمّ يعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أنْ يعزّه وينصره.

وكذلك القوي الظالم، يقهره ويذلّه إلى أنْ يأخذ الحقِّ منه ويعيده إلى من ظلمه، ثمّ يعود أيضاً إلى حاله قبل أنْ يُقهره ويستضعفه.

وهذه صفة الحاكم العادل الذي لا تأخذه في إحقاق الحق وإجراء العدل لومة لائم، و لا يهادن في نصرة المظلوم و الوقوف إلى جانبه حتى يأخذ له حقّه من ظالميه، ويُطبّق هذا حتى على نفسه أو المقربين منه فهم في إجراء العدل سواء. ولا أَثَرة أو مهادنة أو تسامح في الحقوق والكل سواء أمام حكم العدل وقانون الحقّ.

ص: 135


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (37) الصفحة (111)، نهج البلاغة

ص: 136

معنى الزهد

قوله علیه السلام: [الزهادة قصرُ الأمل والشكر عند النّعم، والورع عند المحارم. فإنْ عَزَبَ ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ولا تنسوا عند النّعم شكركم ] (1).

فسر علیه السلام الزهد بثلاث أمور. قصر الأمل، أي الاستعداد إلى الموت بالعمل، وليس المراد انتظاره بالبطالة.

والثانية: الشكر عند النعم: بالاعتراف أن جميع النّعم من الله سبحانه، ثمّ التصرّف بتلك النعم حسب ما أمر الله من الحلال ووفق أداء حقوقها.

والورع عند المحارم: بالكفّ عن الشبهات فضلاً عن المحرمات. فإِنْ عَزَبَ عنكم: أي بعد عنكم وفاتكم، والمقصود به «قصر الأمل» فلا بدّ من اثنين وهما: الورع وشكر النعم، فقد جعلهما أهم من قصر الأمل. ذلك أنّ عدم الشكر يدفع إلى البطر وارتكاب الحرام. وعدم الورع يُفسد نظام الحياة.

فإذا اجتمع البطر والفساد، يكون مجابة للنّقم في الدنيا والشقاء والحساب في الآخرة.

ص: 137


1- من كلام أمير المؤمنين علیه السلام رقم (80) الصفحة (158)، نهج البلاغة

قيل لعلي بن الحسين علیه السلام: من أعظم الناس خطراً؟ قال: من لم ير الدنيا لنفسه خطراً.

وعن محمد بن الحنفية قوله: من عزّت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.

وقال المأمون: لو سُئلت الدنيا عن نفسها لم تسطِع أن تصف نفسها بأحسن من قول الشاعر:

إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشَّفتْ *** له عن عدوِّ في ثياب صديقِ

ص: 138

صفة الدنيا

اشارة

قوله علیه السلام: [ من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته ] (1).

عقّب الرضي رحمه الله على هذا الكلام فقال: وإذا تأمّل المتأمّل قوله علیه السلام: ومن أبصر بها بصّرته وجد تحته من المعنى العجيب، والغرض البعيد ما لا يُبلغ غايته ولا يُدرك غوره، لا سيما إذا قُرن إليه قله ومن أبصر إليها أعمته. فإنّه يجد الفرق بين «أبصر بها» و«أبصر إليها» واضحاً نيّراً، وعجيباً باهراً.

وأبصر بها: أي اعتبر وجعل الدنيا مرآة تكشف له مواطن الخير والعمل الصالح وتوضح عواقب أهل الشر والفساد. فتكون الدنيا بمثابة البصر له وتصبح من خلال هذا البصر الحوادث و المثلات عبر يعتبر بها.

والذي أبصر إليها وألهاهُ زبرجها واشتغل بها، فإنّه يعمى عن النظر إلى العواقب ولا يعتبر.

نظر ابن أبي الحديد إلى قوله هذا فقال:

دنياكَ مثلُ الشمس تُدني إلي- *** -ك الضوءَ لكن دعوة المهلكْ

إنْ أنتَ أبصرتَ إلى نورها *** تَعْشَ، وإنْ تبْصِر به تُدركْ

ص: 139


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (81) الصفحة (159)، نهج البلاغة

وعن الدنيا ولذاتها قال الحمد الشعراء:

حلاوةُ الدنيا و لذاتُها *** تكلّفُ العاقلَ ما لا يُريدْ

التسوية:

قوله علیه السلام: [ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف، وهو يرفعُ صاحبه في الدنيا و يضعهُ في الآخرة، ويُكرّمه في الناس ويُهينُهُ عند الله ولم يضع امرؤٌ ماله في غير حقّه ولا عند غير أهله إلّا حَرَمَهُ الله شکرهم، وكان لغيره ودّهم] (1).

إنّ من الأمور المؤثرة في نفس الإنسان الشعور بالغين والإحساس بالفوارق المصطنعة والحواجز التي يختلقها البعض بأيديهم. ويتأتّى هذا الشعور من سوء التوزيع للثروات والتمايز والتفريق الحصل، لا على أساس الجهد أو الكفاءة ولكن بلحاظ الأثَرة والمحسوبية أو الولاء والانتساب. فتحصل الفوارق في المستوى المعاشي للمجتمع الواحد بصورته الحادّة والمؤثرة، وتترسّخ هذه الفوارق فتتحول إلى أمر واقع ليصبح معولاً يهدم دعائم وكيان المجتمع.

ولا يخفى ما تصنعه هذه الفوارق من أمراض اجتماعية و متاعب نفسيّة عند الناس والمجتمع ومشاكل اقتصادية وسياسية لتصل إلى درجة الصراع والخراب.

إنّ الأخطاء التي يقع بها المشرعون وواضعو الأنظمة والقوانين في بلداننا وخصوصاً في مجال الاقتصاد والمال لها أثرها السلبي والكبير، ما يتطلب الانتباه المبكّر والإسراع في معالجة هذه الآثار و تدارك الضرر الحاصل منها. فالفوارق الهائلة في الأجور وبين طبقات

ص: 140


1- من كلام أمير المؤمنين علیه السلام رقم (124) الصفحة (272)، نهج البلاغة

الوظائف الحكومية والأرقام المخيفة لرواتب المراكز السيادية وما يُدعى بالنّخبة من أفدح وأسوء الأخطاء التي مارسها المشرع في مجال الاقتصاد. فبالإضافة إلى ما تخلفه هذه الأرقام من العبء الثقيل على ميزانية الدولة فهي في طريق خلق طبقة أرستقراطية وقوّة مالية للأفراد ووضع لم يكن مجتمعنا وأقصد العراقي متعوّد عليه، أو قابل للتعايش مع حالته والرضوخ إليه. و المخاوف من الإمكانات والوسائل التي ستملكها هذه الطبقة وقدرتها على تحريك الأمور لصالحها والمجتمع في أوّل خطواته في طريق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وسيكون من الصعب والعسير التراجع أو التخفيض من تلك الأرقام ومحاصرتها.

ونحن عندما نتناول موضوع الراوتب، لا يعني أنّ هذه المسألة أكبر الهموم الاقتصادية و الأخطاءالمرتكبة ولكنّه مثلٌ قدّمناه لمجموعة لا يُستهان بها من المشاكل والمعوقات الموجودة والتي لا يمكن نكرانها، مع أنّ مثل هذه المواضيع تحتاج لبحوث منفردة و مجهودات ليست باليسيرة.

ومن وجهة نظرنا لمجموع الأسباب والعوامل الدافعة إلى إفشاء الفساد الإداري في مفاصل الدولة و المجتمع، أقدمنا على ذكر هذا الموضوع ورجّحنا أهميته في ثقافة النزاهة ومشروع الإصلاح الاجتماعي عموماً.

إنّ الدول في بداية نهوضها و أول مراحل بنائها و تأسيس مرافق مجتمعها المدني، تحتاج إلى عمل ومجهود جبّار، فتقوم حكوماتها باستنفار كل الطاقات واستغلال جميع الإمكانات البشرية والمادية وغيرها في هذا السبيل. واعتبار أول اهتماماتها عدم التفريط في الناتج القومي و ما يدخل للبلد من واردات. خصوصاً وأنّ بلادنا تعتمد بالدرجة الأولى

ص: 141

على النفط في وارداتها المالية وقلّة البدائل أو انعدامها في بعض البلدان بهذا المجال.

من هذا الواقع فإنّ عملية التقنين في المصروف يجب أن تكون على أفضل ما يكون، وبدرجة عالية من الالتزام والحذر والدراسة.

فإذا جمعنا الحاجة الكبيرة لإعادة البنى التحتية و تحسين الخدمات وتأخيل المشاريع والإعمار مع حساسية و أحادية الوارد المالي للبلد، صار لزاماً اعتماد مبدأ الأهم ثمّ المهم. و الانتباه الشديد عند صرف المال لوضعه في محلّه الذي يستحق والذي يجب أن يكون فيه.

لا يخفى على أحد أنّ بلدنا تنقصه أشياء كثيرة جداً، أشياء كثيرة جداً، ومن الصعوبة إنجاز ما يحتاجه البلد دفعة واحدة والأمر بحاجة إلى الصبر والانتظار.

ولكن المنجز على الأرض والواقع بعد مرور سنواتٍ لیست بالقليلة شُكّلت فيها حكومات جاءت بالاقتراح لكي تعمل على إنجاز ما عُهد إليها من مهام، ثمّ تأتي حكومات أخرى لتنجز مهام أخرى و هكذا حتى يتم البناء وتزول المعوقات. هذا المنجز المتوقع كان أقلّ من القليل، وفي كثير من أحواله أهمل أموراً في غاية الأهمية والحساسية لتماسّها مع الناس مباشرة و تأثيرها فيهم.

كمشاكل التصحّر وانحسار الزراعة وتأخر الإنتاج الزراعي والحيواني والغذائي في البلد ومسألة إعادة تأهيل الأهوار وبناء السدود والمشاريع الإروائية ومكافحة شحّة الماء، وعزوف أصحاب المشاريع الزراعية وتربية الحيوانات والدواجن وغيرها عن إعادة وتأهيل أو إنشاء مثل هذه المشاريع الحيوية المهمة لعدم توفّر أدنى شروط العمل والاستمرار فيه بهذا المجال. و البطء الشديد في تأخيل المصانع والمشاريع الصناعية الكبرى والموانيء والطرق والجسور والكهرباء.

ص: 142

والإخفاق المخجل في معالجة مشكلة الإسكان وعدم الالتفات إليها إلّا ما ندر من المشاريع البسيطة التي لا ترقى إلى حجم المشكلة المستديمة والمزمنة.

حتى أصبح سعر العقارات عندنا أعلى بمراحل من جميع بلدان العالم بما فيها بلاد الغرب وأوروبا.

ثم الإجحاف و التقصير الكبير في القطاع الصحي، وضعف الموارد المنشّطة لهذا القطاع الحيوي و المتعلق بأرواح الناس و صحتهم وعدم وجود الدراسات العلمية للمسح السرطاني في عموم البلاد مع الارتفاع الملحوظ للإصابة بالأمراض السرطانية، و تأثيرات الحروب واستخدام الأسلحة ومخلفات هذه الأسلحة وعملها في مجال الإصابة بهذه الأمراض الخطيرة.

و الاهتمامات اليتيمة و الغير مجدية في بعضها في مجال الرعاية الاجتماعية و احتواء الأعداد الكبيرة من المقعدين و العاجزين والمحتاجين مع الارتفاع الكبير بنسبتهم في البلاد وكذلك نسبة الأرامل و اليتامى، وهو واقع طبيعي للحروب والنزاعات التي أُقحم البلد فيها. ما يستدعي اهتماماً استثنائياً، وذلك لحجم المشكلة وحساسيتها وعلاقتها بمشاعر الناس وكرامتهم، وحقّهم في العيش الكريم وعدم الاحتياج أو الحرمان.

ص: 143

ص: 144

أداء الأمانة

يقول علیه السلام: ثمَّ أداء الأمانةِ فقد خاب من ليس من أهلها (1).

الأمانة: كلّ شيء اؤتمنت عليه و أدائها: عقدها الواجب الوفاء به. و الأمانة ثقيلة و حاملها في خطر عظيم. و خطرها من مسؤولية أدائها و هي من الثقل وصعوبة المحمل ما لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لامتنعت من حملها.

كما تذكر الآية الشريفة (2) وعرضها على السماوات والأرض والجبال وهي من الجمادات لتعظيم شأنها كما تقول: هذا الأمر لا تحمله الجبال.

إنّ كلّ أمر أو مسؤولية تعرض على الإنسان أمانة وهو ملزم بأدائها. فالعمل أمانة والوظيفة أمانة والمنصب أمانة وتشريع القوانين و الأنظمة أمانة و الأموال أمانة.

ومن امتُحن بإحدى هذه الأمور أو غيرها من الأمانات و تعاقد عليها كان لزاماً عليه أنْ يؤدّيها على وجهها الصحيح، و دون أن يُخلَّ بشيءٍ من شروطها أو بنودها أو أحوالها.

ص: 145


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام يوصي به أصحابه رقم (197)، الصفحة (432)، نهج البلاغة
2- سورة الأحزاب، الآية (72).

إنّ خيانة الأمانة توجب المذمّة وسوء العاقبة والخيبة والخسران كما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا) (1). وقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (2) أي حافظون.

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 146


1- سورة النساء، الآية (58)
2- سورة المؤمنون، الآية (8)

ائمَّة العدل

قال علیه السلام: إنّ الله فرض على أئمَّة العدل أنْ يقدّروا أنفسهم بضعفةِ الناس كيلا يتبيَّغ بالفقير فقرُهُ (1)

يقدّروا أنفسهم أي يشبّهوا أنفسهم بالفقراء.

يتبيّغ: يهيج.

إن تشبّه أئمة العدل بالضعفاء والتمثّل بهم مدعاة للأغنياء أنْ يقتصدوا ويعدلوا عن الترف والإسراف. ويعملوا على صرف الأموال في مضانّها وفي أعمال الخير والصلاح. وحتى لا يهيج بالفقير ألم الفقر و الحاجة والحرمان لأنّه إذا رأى الفقير إمامه على تلك الحالة من المطعم والملبس يسلو عن اللذات وما في أيدي الأغنياء من الترف ويرضى ويقنع بالحال الذي هو فيه. نعم إنّما يُراد من الإمام أو الحاكم أو المسؤول عدله وإنصافه وأمانته، إلّا أنّ الإسراف في الترف يثير مشاعر الذين لا يجدون من أسباب الحياة الطبيعية الكريمة شيئاً، فضلاً عن مادة الترف وشؤونها.

والله سبحانه لم يحرّم مطعماً أو ملبساً، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (2) وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (3)

ص: 147


1- من كلامه علیه السلام رقم (207) الصفحة (440)، نهج البلاغة
2- سورة الأعراف الآية (32)
3- سورة الضحى، الآية (11)

إلّا أن التوازن وانتهاج الطريقة الوسطى وعدم المبالغة في الإنفاق هو المطلوب، والأمثل في الإنسان.

ونحن نرى بوضوح مآثر المترفين واضحة في عيون الجياع و مشاهدات الموت الجماعي واليومي في مناطق من العالم. و المناظر المأساويّة التي أقلّ ما يُقال عنها أنّها مخجلة في سجل الإنسانية ومرعبة في خواطر البشر، ومؤلمة في حسابات الزمن والتأريخ. ومن الدول الكبرى من تعمل على رفع أسعار الحبوب و الغذاء، أو تختلق الأزمات الماليّة وتصدّرها لعموم العالم وسكان الأرض، فيجني ثمار هذه الأزمات وتبعاتها الضعفاء. وإذا أُقيم مقامٌ للحديث عن حقوق الإنسان والعدل كانوا أوّل المتحدّثين والمنظّرين. ثمّ يتدخلوا في مصائر الشعوب و مقدراتهم، ويصل تدخّلهم إلى إجبار حكام هذه الدول على رفع أسعار الغذاء والبضائع والخدمات إمعاناً بإذلال الناس، وتأكيداً لقدرتهم وعنجهيّتهم في السيطرة والتّكبر.

ص: 148

التبرّؤ من الظلم

اشارة

قوله علیه السلام: [ والله لأنْ أبيتَ على حَسَكِ السَّعْدانِ مُسهَّداً وأُجَرُّ في الأغلالِ مُصفَّداً، أحبُّ إليَّ منْ أنْ ألقى الله ورسولهُ يومَ القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام ] (1).

السعدان: نبتٌ ترعاه الإبل له أشواك يقال له: حَسَك وحَسَكه السعدان. مسهّداً الذي لا ينام. والأغلال: القيود. ومصفداً: أي مكبّل. والحطام: متاع الدنيا وعروضها. وشبّه متاع الدنيا بالحطام لسرعة ذهابه كتحطّم وتكسّر العيدان.

ثم يقول علیه السلام: والله لو أُعطيتُ الأقاليم السَّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ الله في نملةٍ أسلبُها جِلبَ شعيرةٍ ما فعلت (2).

لو أعطيت وما بعدها: كناية عن عظم ما لو يُعطى.

والجِلب بكسر الجيم: القشرة، والجُلب أصله قشرة الجرح أو ما يعلوه من الجلدة. و يُسمّى أيضاً غطاء القتب جُلبة.

هذين المقطعين من ضمن كلامٍ له علیه السلام يصف فيه حال أخيه عقيل و أولاده، وهو يراه قد أملق حتى استماحه من البرّ صاعاً - و الصاع أربعة

ص: 149


1- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (221)، الصفحة (467)، نهج البلاغة
2- نفس المصدر السابق، الصفحة (468، 469)

أمداد، والمدُّ رطل وثلث الرطل ممجموع ذلك خمسة أرطال وثلث الرطل - ورأى صبيانه شعث الشعور غير الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم (والعظلم الوسمة، أو نبتٌ يُصنع به ما يُراد: اسوداده) ويعاوده مؤكداً ويكرر القول عليه مردّداً، فيصغي إليه سمعه، حتى ظنَّ أنّه يبيعه دينه، ويتبع قياده مفارقاً لطريقته.

فأحمى له حديدة، ثم أدناها من جسمه ليعتبر بها، فضجَّ ضجيج ذي دنفٍ (أي ذي سقم) من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها (أي المكواة).

فقال له: ثكلتك الثواكل: أتئنُّ من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نارِ سجّرها جبّارها لغضبه! أتئنُّ من الأذى، ولا أثنُّ من لظى؟ (لظى اسم لجهنم).

بهذا الحزم من الأمانة و النزاهة عامل أمير المؤمنين علیه السلام عقيل. فليس لعقيل و لا لغيره عند الحاكم العادل غير ما يستحق. ولن تكون صلة القرابة أو غيرها حافزاً له ليعطيه ما يطلب أو يخالف طريقته في إجراء العدل و المساواة بين الخلق. هي إذاً العدالة المطلقة و النزاهة الكاملة و الأمانة، يُجريها سمو الخلق و رفعة النفس وسلامة الضمير و الوجدان.

وليس يُطلب من كلّ حاكم أن يتعامل بمثل ما تعامل به أمير المؤمنين مع أخيه. و ذاك من الصعب تحقيقه، لكنّه درسٌ في مسيرة الحياة الإنسانية، يهدي إلى سمو النفس وقدرتها على أداء الواجب و تحقيق شروط الأمانة التي التزمتها بهذا الشكل المثالي والروح والعزيمة القوية المتمكنّة.

هو إيقاظ للنفوس النائمة على فرش الترف، والعقول المتخمة

ص: 150

بأحلام البقاء، و الأرواح المولعة بعشق المال والعقار. هو أيضاً لحظة نأمّل للشعوب المحرومة المبتلاة لتجد مبرراً حتى تسأل الحكّام والمترفين: كيف ومن أين ومتى جمعوا كم إنسان ظلموا وحرموا حتى صار عندهم كل هذا الخزين؟ كم كان بخلهم حتى وصلوا لهذا المقدار من المال؟

والراصد يسأل: ماذا صنعت هذه الخزائن؟ ولو كان الخازنون وما هم فيه يُفتدى بجميعه لما بخلوا به الآن والآن فقط. ولات حين مناص، فقد ضاع الخازن و المخزون ولم تبقى سوى ذكرى، ويا لها من ذكرى! وهل يتذكر إلّا أولي الألباب؟

وللزمن في عقيل عبرة.

ويذكر علیه السلام في نفس الخطبة من جاءه يريد استمالته بالهدية لغرض دنيوي، وهو يفطن لذلك وإلّا لقبل الهدية وقد قبل النبي صلی الله علیه و آله و سلم الهدية، وهو علیه السلام قبلها أيضاً. يُذكر أنّه دعاه بعض من كان يأنسُ إليه من أهل التقوى إلى حلواءَ عملها يوم نوروز فأكل و قال: لم عملتَ هذا؟ فقال: لأنّه يوم نوروز، فضحك وقال: نورزوا لنا في كلّ يوم إن استطعتم.

فكان علیه السلام من اللطافة وسماحة الخلق والشّيم على قاعدةٍ عجيبة لكنّه كان ينفر ممّن يحاول أنْ يصانعه بالهدية عن مال المسلمين. وهيهات حتى يلين لضرس الماضخ الحجر.

فيصف علیه السلام هذه الحالة ويقول: [وأعجب من ذلك طارقٌ] طرقنا بملفوفة في وعائها (حلواء أهداها إليه الأشعث)، ومعجونة شنتتُها (أي كرهتها)، كأنّما عُجنت بريق حيّة أو قيئها (كناية عن نفرته من أكلها) فقلت: أصِلة أمْ زكاة أمْ صدقة، فذلك محرّم علينا أهلَ البيت.

فقال: الاذا ولا ذاك ولكنّها هدية فقلت: هبِلتك الهَبول (دعاء له

ص: 151

بالفناء)، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، امخْتَبِطٌ أنت (أي مصروع)، أمْ ذو جِنّة (المجنون)، أمْ تهجر (أي تهذو). و الله لو أعطيت الأقاليم ...] (1) وأكمل الحديث الذي ذكرناه.

لكنّ البعض يصرّف الرشوة بتصريف مغاير لحقيقتها، كي يُبيحها لنفسه ويطمئن بها، و ما كانت الهدية المقدمة للموظف أو المسؤول ويُراد بها غاية معينة إلّا رشوة محرّمة وما يتقبّلها إلّا طامع لا مروءة له، أو ناكل للأمانة التي بين يديه.

وما بال من يُقدم على الظلم بدم بارد يرقد مغمض العين، فوق نسائج القزّ، لا حَسَك السعدان من غير أنْ يفكر بلقاء الله وهو ظالمٌ لعبيده، أو غاصب للحطام!

لا للمحاباة

قدم على أمير المؤمنين في خلافته، عبدالله بن زمعة، وهو من شيعته يطلب منه مالاً فقال علیه السلام: إنَّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فيءٌ للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثلُ حظّهم، وإلّا فجناةُ أيديهم لا تكون لغير أفواههم (2).

الفيء: الغنيمة أو الخراج والجلب: المال المجلوب.

وروي أن شريح بن الحارث أحد قضاته، اشترى على عهده داراً فبلغه ذلك فاستدعاه وقال له: [بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً، وأشهدت فيه شهوداً.

ص: 152


1- من كلامه علیه السلام رقم (221)، الصفحة (468)، نهج البلاغة
2- من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (229)، الصفحة (477)، نهج البلاغة

فقال له شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فنظر إليه نظر مغضب وقال له: ... فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك (1).

الإمام يتعامل مع أتباعه و العاملين في الدولة بهذه الصرامة و قوة المراقبة والمحاسبة، ليروّضهم ويؤدّبهم بآدابه وآداب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ويعوّدهم على العفّة والنزاهة وصيانة الأمانة وعدم الانصياع لرغبات النفس وشهواتها حتى لا تبعدهم عن طريق الحقّ و العدل.

وهو في كل هذا يسبقهم إلى ذلك ويعمل به هو وأولاده و أقرباءه. يقول علیه السلام: لا أنهاكم عن شيء إلّا وكنت أول المنهيين عنه. ولا آمركم بشيء إلّا وكنت أول العاملين به فهو قدوة لهم، ويريدهم أن يكونوا قدوة للآخرين.

إنّ شراء دار أو بيعها لا بأس فيه ولا ضرر إلّا أنّ مفاهيم المدرسة العلوية تريد من طلابها أصحاب أيادٍ بيضاء منصفة تحيا في العفّة والصلاح، لتعمل على البناء والإصلاح.

وأصحاب نفوس روّضتها روح التقوى والأمان، و درّبتها قيم العدل والضمير. وقد تُرجمت هذه المفاهيم بالقول والعمل، منه ومن أقرب الناس إليه. يقول علیه السلام أيضاً: [ إنّي والله ما أحثكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها ] (2)

ص: 153


1- من كتاب له كتبه لشريح قاضيه رقم (241) الصفحة (492)، نهج البلاغة
2- من خطبة له في الموعظة رقم (173) الصفحة (352)، نهج البلاغة

ص: 154

كتبه و الأمانة

اشارة

إن الذي أُمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أُحلَّ لكم أكثر مما حرّم عليكم. فذروا ما قل لما كثُر، وما ضاق لما اتّسع» (1)

بهذه اللهجة المتفائلة والعبارات الصافية، يُخاطب الناس و یر شدهم إلى الصواب ويمنحهم فرص الخلاص.

مناهج ينتشل بها الأرواح من جماحها في التيه، ويُنير بصائرها إلى التقوى، ليصونوها ويتصوّنوا بها. ويهديهم أن يكونوا نُزّاهاً في الدنيا، والعمل الصالح حرزهم والورع جُنّتهم.

نتناول مجموعة من كتب أمير المؤمنين إلى عماله اخترناها من بين كتبه ورسائله الكثيرة، وهي تصبُّ في مواضيع متعلقة بعملهم وأماناتهم، ومراقبته وتوجيهه وإرشاده.لهم. وهي بنفس الحال دليل إرشادٍ لكل نفس تسعى إلى الصلاح وتعمل بروح النزاهة و العدل.

من كتاب له علیه السلام إلى عامله على آذربيجان الأشعث بن قيس يقول فيه: [وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة، وأنت مُسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في الرعية، ولا تخاطر إلّا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عزّ وجلّ وأنت من خزّانه، حتى تسلّمه إليّ، ولعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام] (2).

ص: 155


1- من خطبة له رقم (113) الصفحة (252)، نهج البلاغة
2- . من كتاب له رقم (243) الصفحة (494)، نهج البلاغة.

الطعمة: المأكلة يقال: فلان خبیث الطعمة، أي رديء الكسب. وتفتات: تستبد.

يقول له: عملك أمانة في عنقك و أنت رعية لمن فوقك وهو الخليفة، فلا يحق لك أن تستبد في الرعية الذين ترعاهم ولا تأكل أموالهم فالمال ليس لك طعمة فتأكلها.

ولا تقدم على أمر فيه شبهة أو تخاف منه وعليك أن تحتاط في أمر المال فهو مال الله وأنت خازن له.

ومن تولّى أمر الناس فهو حارس على حقوقهم مسؤول أمامهم، وهو مؤتمن والناس أمانته وأداء الأمانة أداء الحقوق.

سُئل أنوشيروان: أيُّ الجُنن أوقى قال: الدين وأيُّ العُدد أقوى، قال: العدل.

ومن كتاب له إلى زياد، وقد خلف عبد الله بن عباس على البصرة: [ وإني أُقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدّنَّ عليك شدّةً تدعكَ قليلُ الوفْر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر والسلام (1). يهدّده بالأخذ واستصفاء المال إنْ وجد عنده خيانة في أموال الناس مهما كان صغيراً، تدعه قليل الوفر: أي فقيراً بأخذ المال الذي في حوزته وثقيل الظهر: أي عاجز عن مؤونة نفسه. ضئيل الأمر: خامل الذكر ضعيف الحال.

ومن كتاب له أيضاً: [فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك. أترجو أن يُعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين!

ص: 156


1- من كتاب له رقم (258) الصفحة (508)، نهج البلاغة

وتطمع - وأنت متمرّغ في النعيم تمنعُه الضعيف والأرملة - أن يوجب لك ثواب المتصدّقين! وإنّما المرء مجزيٌّ بما أسلف، وقادمٌ على ما قدّم. والسلام ] (1).

ينهاه علیه السلام عن الإسراف في الإنفاق وعدم هدر الأموال، إلّا بقدر الحاجة والضرورة وأنْ يُمسك منه إلى ما تدعو الحاجة إليه. وحذّره من التمرّغ في النّعيم، ويُحرم أصحاب الحاجة من الفقراء والأرامل من المال.

ومن وصية له علیه السلام و كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات. فقد كان علیه السلام يُقيم عماد الحق ويشرّع أمثلة العدل في صغير الأمور و كبيرها يقول: [انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ولا تروّعنّ مسلماً ولا تجتازنَّ عليه كارهاً ولا تأخذنَّ منه أكثر من حق الله في ماله ... في وصف طويل، ثم ينتهي بالقول: لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيّه ] (2).

وفي كتاب آخر لبعض عماله وقد بعثه على الصدقة: [ وآمره أنْ لا يَجْبَهَهُم، ولا يَعْضَهَهُم، ولا يرغب عنهم تفضّلاً بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدين والأعوانُ على استخراج الحقوق - ويأمره بصون الأمانة - ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة، ولم يُنزّه نفسه ودينه عنها، فقد أحلَّ بنفسه في الدنيا الذلّ و الخزي، وهو في الآخرة أذلّ وأخزى. و إنّ أعظمَ الخيانةِ خيانةُ الأمّة، وأفظع الغشّ غشُّ الأئمّة ] (3)

ص: 157


1- من كتاب له علیه السلام رقم (259) الصفحة (508، 509)، نهج البلاغة
2- من وصية له علیه السلام رقم (263) الصفحة (512، 514)، نهج البلاغة
3- من كتاب لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (264) الصفحة (515 516)،

لا يجبههم: لا يواجههم بما یکرهونه. وأصلها: الجبهة.

أو يعضههم: لا يبهتهم أو يرميهم بالكذب.

يأمر صاحب الصدقات أن لا يخاشن الناس أو يقرعهم عند استحصال الصدقات ولا يحقّر أحد بادعائه التفضّل عليهم بالإمرة. ولا يُكذِّب أحداً اعتذر بأمرٍ ما ولا يتعالى عليهم.

وحذّر من الخيانة و الغش فإنّ الساعي في الصدقة إذا خان، فقد خان الأمّة كلها، و إذا غشّ فقد غشّ الإمام الذي وجّهه عليها، أي على الصدقة.

ومن كتاب بعثه إلى بعض عماله: [فقد بلغني عنك أمرٌ إنْ كنتَ فعلته فقد أسخطت ربّك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك و أكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس ] (1).

أخزيت أمانتك: أفسدتها وأذللتها.

و جرّدت الأرض: كناية عن أخذه المال وإخراب الضباع و نسبه للخيانة.

ومن حِكَم أبرويز قوله لخازن بيت المال: إنّي لا أحتملك على خيانة درهم ولا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم، لأنّكَ إنما تحقِن بذلك دمَك، وتعمُر به أمانتك و أنّك إنْ كنتَ قليلاً خنت كثيراً فاحترس من خصلتين من النقصان فيما تأخذ و من الزيادة فيما تُعطي واعلم أنّي لم أجعلك على ذخائر الملك، وعمارة المملكة و العدّة على العدو، إلّا وأنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه و من خواتمها

ص: 158


1- من كتاب له إلى بعض عماله رقم (278) الصفحة (552)، نهج البلاغة

التي هي عليها فحقّق ظنّني في اختياري إيّاك أحقق ظنّك في رجائك لي. ولا تتعوّض بخيرٍ شرّاً، ولا برفعةٍ ضعة ولا بسلامةٍ ندامة ولا بأمانةٍ خيانة (1).

ومرّ عمر ببناءِ يُبنى بآجرٌ جِصّ لبعض عماله فقال: أبت الدراهم إلّا أن تخرج أعناقها، وكان عمر يقول: على كلّ عاملٍ أمينان: الماءُ والطين.

و بنى رجل من عمّال علي علیه السلام بناءً كبيراً فقال: أطلعت الورق رؤوسها، إنّ البناء يصف لك الغنى (2) أي يدلُّ عليه.

ومن كتاب آخر إلى بعض عماله فيه تأنيبٌ وتقريع، وتهديد بالمحاسبة على خيانته في أخذه الأموال بغير حق.

يقول علیه السلام: [فلمّا أمكنتك الشدّةُ في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف الذئب الأزلِّ، داميةَ المعزى الكسيرة ... كيف تُسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلمُ أنّك تأكلُ حراماً وتشربُ حراماً؟ ... فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك لأعذرنَّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار.

ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثلَ الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا منّي بإرادة حتى آخذ الحقّ منهما، و أُريحَ الباطلَ عن مظلمتهما] (3).

ص: 159


1- عن ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، الجزء (16)، الصفحة (281)
2- في باب القصار من كلماته علیه السلام رقم (354) الصفحة (705)، نهج البلاغة
3- من كتاب له إلى بعض عماله رقم (279)، الصفحة (553، 554)، نهج البلاغة

أمكنتك الشدة: أي الحملة کنایة عن التمكّن و القدرة.

و الذئب الأزلّ: الخفيف الحركة، سريع الوثبة.

إذاً فلا هوادة في قانون العدل و إجرائه، حتى مع الولد أو القريب. والكلّ في ميزانه سواء، و إنّ محاسبة الأقرب وازعٌ للأبعد أن يتّعظ ويعتبر.

وقد دلّت التجارب على أنّ أكثر فساد الحكّام و أقرب الأسباب في فشلهم ترك أولادهم وأقربائهم يتحكمون في أمور الدولة بأهوائهم ومن دون رقيب أو محاسبة.

دخل عمر على ابنه عبدالله فوجد عنده لحماً عبيطاً معلقاً، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: اشتهيتَ فاشتريت فقال: أوَ كلّما اشتهيت شيئاً أكلتَه! كفى بالمرء سَرَفاً أن أكلَ كلَّ ما اشتهاه.

وخطب يوم استُخلف: أيّها الناس. إنّه ليس فيكم أحدٌ أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحقّ له، ولا أضعف من القوي. حتى آخذ الحق منه.

ومن كتابه الذي كتبه إلى مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ، عامله على أردشير خرّة، وهي بلدة من بلاد فرس.

يقول علیه السلام: بلغني عنكَ أمرٌ إنْ كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيتَ إمامك، إنّك تقسمُ فيءَ المسلمين - الذي حازته رماحُهم وخيولهم، و أُريقت عليه دماؤُهم - في من اعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبّة و بَرأَ النَّسَمَة، لئن كان ذلك حقاً، لتجدنَّ لك عليَّ هواناً، ولتخفَّنَّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحقّ ربّك، ولا تُصلح دنياك يمحق دينك] (1).

ص: 160


1- من كتاب لأمير المؤمنين علیه السلام كتبه إلى عامله على أردشير خرّة، رقم (281) الصفحة (556) نهج البلاغة

اعتامك: اختارك، وأصل العلم: العِيمة، وهو خيار المال.

ينهاه علیه السلام أن يؤثر أهله وقومه وأقاربه بمال الفيء، و يُحرمه عامّة الناس ويمنعه عنهم، وهو حقٌّ للجميع، والكلُّ فيه سواء.

وهناك مراقبة للعمال من نوعٍ آخر، وهي تشمل حتى أصغر الأمور، وأقلّها أهمية في نظر الآخرين ولكنّها في ميزان التربية والإصلاح لها شأن كبير عند أمير المؤمنين علیه السلام وعند دعاة الإصلاح وسفراء العدل.

وما مراقبة عمر إلى عاملٍ عنده يبني بناءٌ، ويخشى أن تكون أمواله من غير حِلّ. ويعاتب ولده على شراء اللحم حين اشتهاه، ويعتبر هذا من الإسراف وفي الناس من لا قدرة له على الرغيف أحياناً.

فبهذه الطريقة الصارمة والحديّة في العدل، يتعامل الحاكم العادل، ليقطع الطريق أمام كلّ خطيئةٍ، وليدفع عن نفسه وأهله

الشبهات.

من كتاب أرسله إلى عثمان بن حُنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة فمضى إليها، يقول فيه علیه السلام: [فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاكَ إلى مأدبةٍ، فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ، وتُنقلُ إليكَ الجِفان، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قومٍ عائلُهُم مجفوٌّ، وغنيُّهم مدعوٌّ، فانظر إلى ما تقضَمُهُ من هذا المَقْضَم، فما اشتبه عليكَ علمُهُ فالفِظْهُ وما أيقنتُ بطيبِ وجوهه فنل منه ] (1).

ص: 161


1- من كتاب لأمير المؤمنين علیه السلام رقم (283) الصفحة (558، 559)، نهج البلاغة

يأمره أن يترك ما فيه شبهه إلى شبهة فيه.

ويعظه ليتخيّر الأطعمة ويتعرّف على حلّيتها وطيب وجوهها في طرق كسبها، ويلفظ أو يُعرض عن الطعام إذا اشتبه عليه حلّه من حرمته.

روي عن جويرية بن أسماء قال: كان بيد عمر بن عبدالعزيز قبل أن يكون خليفة صنيعة تعرف بالسّهلة ولها غلّة عظيمة. فلمّا وليّ الخلافة قال لمزاحم مولاه - وكان رجلاً فاضلاً - إنّي عزمت أن أردَّ السهلة إلى بيت المال فذكّره مزاحم أنّها مصدر عيشه وعيش عياله. فدمعت عيناه و قال: عيالي أكلهم إلى الله.

ثمّ دخل مزاحم على عبدالملك، وهو أحد أولاد عمر، و أخبره بعزم والده على ردّ الصنيعة. فقال له عبدالملك: فما قلتَ له؟ قال: ذكرت له ولده، فقال: بئس الناصح أنت.

و دخل عبدالملك على أبيه و قال له: على ماذا عزمت؟ قال: أردّ السهلة قال: فلا تؤخر ذلك، قم الآن، قال: فجعل عمر يرفع يديه و يقول: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. قال: نعم يا بني أصلّي الظهر، ثمّ أصعد المنبر فأردّها علانية على رؤوس الناس، فقال له عبدالملك: ومن لك أن تعيش إلى الظهر! ثم مَنْ لك أن تسلَم نيّتك إلى الظهر إنْ عشت إليها! فقام عمر فصعد المنبر، فخطب الناس وردّ السّهلة (1).

عهده إلى مالك الأشتر

كتبه علیه السلام إليه لمّا ولّاه على مصر و أعمالها، وهو أطولُ عهوده و أجمعها للمحاسن.

ص: 162


1- عن ابن أبي الحديد في شرحه النهج الجزء (17)، الصفحة (64)

وهو خزين لكثير من المعارف و المناهج التي ترسم الخطوط العامة للحكم والإدارة وشؤون المجتمع بجميع مفاصله وأحواله ومعالجات لمشاكله تستند على وحدة الغايات والوسائل. ويؤسّسُ إلى رؤية فلسفية راقية الأصول نظام الحكم وتثبيت دعائم الدولة على أسس صحيحة وسليمة. وتنمُّ عن معرفة كاملة بأحوال الناس والمجتمعات.

لا يمكن لأيّ كلام أن يفي بحق هذا العهد، و يكفيه إشارة وإشادة أنّ الكثير من بنود و لوائح حقوق الإنسان وعلوم الإجتماع ونظم المجتمعات المدنية، و غيرها - وبعد كل هذه السنين - مأخوذٌ من منه جلّ المفاهيم و المناهج و الطروح. وتكلّم أصحاب الإختصاصات عنه الكثير، وجرت البحوث والدراسات، ورشح الوفير من التقييم والتثمين، وحتى من أعداء الإمام والمخالفين له. وعندما وقع مكتوب العهد في يد معاوية ابن أبي سفيان بعد مقتل الأشتر رحمه الله طلب إليه عمرو بن العاص أن يمزّقه ويتخلّص منه، فلم يلتفت إليه معاوية بل لامه و اعتبر تنفيذ طلبه خسارة كبيرة لما في العهد من فوائد جمّة، وأنّه كنزٌ ثمين في أبوابه.

أوّل ما يأمر به علیه السلام، تقوى الله وإيثار طاعته وأنْ يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، ولا يخالف الحقّ ويعمل به.

ويعرّفه أسباب المهمة التي بُعث إليها بولايته مصر وأعمالها: من جباية خراجها وجهاد عدوّها و استصلاح أهلها وعمارة بلادها. ويدعوه أن يكون أحبّ الذخائر إليه ذخيرة العمل الصالح، وأنْ يملك هواه ويشحَّ بنفسه عمّا لا يحلّ له. ثم يطلب منه الرحمة بالرعية والمحبة له واللطف بهم من غير تمييز أو أثَرَة ولا تفضيل لأحدٍ على أحد.

فالناس صنفان: إمّا أخٌ في الدين، أو نظيرٌ في الخلق.

و يأمره: أن أنصِف الله، أي قُم بما فرض عليك من واجبات.

ص: 163

و أنصف الناس من نفسك، و من ولدك وأقربائك وممّن تميل إليهم، وإنْ لم تفعل ذلك فأنت ظالم.

ويُعلمه أنّ قانون الإدارة والحكم: الإجتهاد في رضا العامة من الناس، ويقدّم رضاهم على رضا خاصته، فإنّ سخط الخاصة لا يضرّ عند رضا العامة أمّا رضا الخاصة لا ينفعه بسخط العامة و لا يدفع عنه تنكرهم، ولا غنى عن العامة ولا بدل عنهم - وينصحه أنْ لا يُدخل في مشورته البخيل والجبان والحريص، فالبخل والجبن والحرص، طبائع متفرقة يجمعها سوء الظنّ بكرم الله وفضله.

ونهاه من اتّخاذ بطانة ممّن كانوا عوناً للظلمة، ذلك أنّ الظلم أصبح ملكة ثابتة في أنفسهم، ولا يقدرون الخلّص منه فهو عندهم كالخلق الغريزيّ لتعودهم عليه.

وأنْ يجعل خاصّته ومعاونيه من أهل الورع والصدق.

ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءةِ على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه ] (1).

و كان يُقال: قضاءُ حقّ المحسن أدبٌ للمسيء، وعقوبة المسيء جزاءٌ للمحسن.

وأمره بالإحسان إلى الناس وتخفيف المؤونات عليهم، فذلك مدعاة لحسن ظنّه بهم، فإنْ أحسن إليهم انقادوا له فيحسن ظنه بهم أمّا الإساءة تسبب العداوة و البغضاء، فيسعون لعصيانه فيسوء ظنّه بهم.

ص: 164


1- من عهده إلى الأشتر، الصفحة (576)، نهج البلاغة

و اعلمْ أنّ الرعيّة طبقات لا يصلُحُ بعضُها إلّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض (1).

ويعدّ له هذه الطبقات: فمنها جنود الله، ومنها كتّابُ العامّة والخاصة، وقضاةُ العدل وعمّال الإنصاف والرفق، وأهل الجزية والخراج والتجار وأهل الصناعات وذوي الحاجة والمسكنة. و كلّا له نصيبه من الحقّ.

ثمّ ذكر أعمال وواجبات كل طبقة من هذه الطبقات: فالجند لحماية البلد و درء المخاطر عنه، و الخراج للنقمات و مصاريف الجند و القضاة والكتّاب و العمّال لما يحكمونه من المعاقد و التجار للبيع و الشراء، و أرباب الصناعات كالحدّاد و البنّاء والنجّار و غيرهم، للقيام بهذه المهن التي لا بدّ منها. ثمّ أهل الحاجة و الفقراء الذين تجب مساعدتهم و تقديم العون إليهم.

و ذكر طبقة طبقة، و أوصاه في كلّ صنف ما يليق بحاله، وكأنّه مهّد في هذا التقسيم كالفهرست لهذه الطبقات ليذكر له تفاصيل أخرى بخصوصها.

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، و أنقاهم جيباً، و أفضلهم حلماً ... ثمّ الصّقُ بذوي المروءات و الأحساب، و أهل البيوتات الصالحة، و السوابق الحسنة ... ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من و لدهما ... ثم اعرف لكلّ امرىء ما أبلى] (2).

ص: 165


1- نفس المصدر السابق، الصفحة (577)
2- من عهد الإمام علیه السلام إلى الأشتر الصفحة (579، 580)

وقد اختص هذا الفصل بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش، وأنْ يختار الأمين العفيف الناصح. وأن يُكرم ذوي الأحساب. ويتفقّد أمر الجند ويرعاهم رعاية الأبوين لولدهما. وأن يقدّر ذوي البلاء منهم وذكر الأمور على حقيقتها، فلا يعظّم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا يحقّر بلاء ذوي الضّعَة لضعة أنسابهم.

ثم يأمره أنْ يُحسن الاختيار للحكم و القضاء، فيختار من أفضل الناس، ممّن لا تضيق به الأمور، و لا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، أي أنه إذا أخطأ رجع و أناب ولا تشفق نفسه، أي يخاف، ولا يكتفي بأدنى فهم، بل يستقصي ويبحث وأنْ لا يتضجّر من مراجعة الخصم، فإنّ القلق والضجر والتبرّم أقبح ما يكون من القضاة. وأن يكون صارماً، ولا يستخفّه المدح والإطراء والتحريض.

وأمره أنْ يتعهد أحكامه، ويُفرض العطاء الواسع ليملأ عينه، ويتعفّف من الرشا. و يكون قريباً من مكان القضاء، وكثير

الاختصاص به.

ومن وصاية عمر في القضاء: البيّنة العادلة أو اليمين القاطعة للخصمين وتقريب الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب حتى يأخذ حقّه والمساواة بين الخصوم في اللحظ واللفظ والصلح بين الناس ما لم يستبن فصل القضاء. وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد. (1)

بعد أن انتهى من أمر القضاة أخذ في شأن العمّال، و هم عمّال الصدقات والوقوف والمصالح وغيرها. أن يكون تعيينهم بعد اختبارهم،

ص: 166


1- من عهده لمالك الأشتر الصفحة (580)

و على أساس الكفاءة و الاستحقاق لا أثَرة أو محاباة و اعتبرهما أي الأثَرة والمحاباة جِماعٌ من شعب الجور و الخيانة. و جماع الجور و الخيانة، أي يجمعهما، كقول النبي علیه السلام: الخمر جّماع الإثم (1).

و شُعب: وهي الأقسام والأجزاء. و المعنى أنّه إذا لم يكن اختياره بلحاظ الاستحقاق ففيه جور على المستحق. و أمّا الخيانة، فلأنّ الأمانة توجب اختيار الأكفأ فعند اختيار غيره فقد خان من ائتمنه. وليكن اختياره لنوّابه وعمّاله على النواحي و التخوم من أهل البيوتات الصالحة وذوي الأخلاق الكريمة، و الذين ينظرون في عواقب الأمور، وأن يعطيهم ما يكفيهم من الأرزاق، ليكون ذلك حجّة عليهم لو خانوا، وأمره أنْ يتابع أحوالهم و يراقب أعمالهم، و يبعث عليهم الرقباء من أهل الصدق و الوفاء، فذلك حثٌّ لهم على الإخلاص في العمل، والرفق بالناس.

و أمره بمحاسبة من تثبت عدم أمانته والاقتصاص منه.

ولمّا فرغ من العمال وشؤونهم توجّه إلى الخراج وأمره.

يقول علیه السلام: وتفقّد أمر الخراج بما يُصلح أهله. (2)

أنْ يكون اهتمامه ونظره في عمارة الأرض واستصلاحها، أبلغ من نظره في جلب الخراج، لأنّ الخراج لا يُدرَك إلّا بالعمارة، ومن دونها خواب البلاد والعباد.

و في حال حدوث الطوارىء، مثل انقطاع الماء أو إصابة الغلة بالآفات كالجراد أو البرد أو الغرق وغيرها أمره أن يخفّف عنهم ولا

ص: 167


1- أخرجه القضاعي في مسنده، والعجلوني في كشف الخفاء (460/1) والزيلعي في نصب الراية (36/2)
2- من عهد الإمام علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (583)

يُثقل في الطلب، فذلك ذخرٌ سیعودون به عند تحسن الأحوال وزوال الأثقال.

[وإنّما يؤنى خرابُ الأرض من إعواز أهلها ] (1). أي فقرهم. وسبب ذلك طمع الولاة وجمع الأموال لهم ولمن ولّاهم يظنّون طول البقاء وينسون المعاد، أو يتوقعون العزل فينتهزون الفرص بأخذ الأموال، ويذرون إعمار الأرض.

وبعد الخراج أخذ بالنظر في حال الكتّاب وهم الذين يتولون المكاتبات بينه و بين عمّاله وأمرائه، ويقومون بأمور الديوان والعقود والمعاهدات وغيرها.

أمره أنْ يكون اختيارهم بالاعتماد على التجربة وأصحابها وأهل الأمانة وأحسنهم أثراً وليس على الظن وحسن النظر، أو الثقة والميل الخاص للأشخاص. ويختار منهم لمكاتباته و أسراره، أجمعهم للأخلاق الحميدة، و ممّن لا يقصّر في عمله بإطلاعه على ما يرد إليه من مكاتبات، ولا في إصدار أجوبتها، وأنْ يكون حذراً ونبيهاً يتابع مكاتباته بدقّة تامّة، خبيراً بإجراء العهود وإحكام العقود.

ويعرف قدر نفسه، فالجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. و أنْ يقسّم بينهم ضروب الكتابة وفنونها، فيتعود كلّ واحدٍ على الفن الذي عمل فيه، ككتابة العقود وإرسال الرسائل وأجوبة العمال وغيرها.

ثمّ انتقل بالكلام من الكتّاب إلى التجّار وأصحاب الصناعات. واستوصاه بهم خيراً، وطلب منه أن يوصي عمّاله وأمرائه أنْ يتعاملوا معهم بالخير أيضاً.

ص: 168


1- من نفس العهد، الصفحة (585)

وقسّم علیه السلام الموصي بهم وهم التجار والصنّاع. قسمين للتجار وهما الأول المقيم والثاني المضطرب بماله، وهو المسافر الذي يضرب في الأرض سعياً في تجارته.

وقسم الأرباب الصناعات وأنّهم أي التجار والصنّاع مسالمون فلا تُخشى منهم داهية أو عصياناً.

وأعلمه أنّ في كثير من التجار بعض البخل والشح واحتكار الأقوات وزيادة في الأسعار. وطلب منه محاربة الاحتكار ومنعه وكذلك مراقبة الأسعار، وأنْ يكون البيع بيعاً سمحاً، وفي موازين العدل وبأسعارٍ لا تُجحفُ بالبائع والمشتري.

و انتقل إلى الطبقة السفلى من الفقراء والمساكين و المحتاجين و أهل البؤسى والزمني. أهل البؤسى: شديدي الفقر. والزمني ذوي العاهات التي تمنعهم من الاكتساب والعمل. وأمره أنْ يكفيهم من بيت المال، و يُعطى الأدنى منهم والأقصى. ولا تهمل التافه من أمور هذه الطبقة، لقيامك بالأمور المهمة والكثيرة، وأنّك لا تُعذر بذلك.

و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون (أي تزدريه) وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك (أي اجعل ممن تثق بأمانتهم وتقواهم)، من أهل الخشية و التواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه (بعمل الواجب معهم ومساعدتهم)، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوجُ إلى الإنصاف من غيرهم، وكلٌّ فأعذر إلى الله في تأدية حقّه (أي جميع الناس تجب عليك رعايتهم وأنت مسؤول أمام الله عنهم) وتعهّد أهل اليُتم وذوي الرقّة في السّنِّ (أي المتقدمون في العمر) ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه (أي يتعفّف)] (1).

ص: 169


1- من عهده إلى مالك الأشتر الصفحة (588)

كان بعض أهل العدل يجلس بنفسه للمظالم، ولا يعتمد على أحدٍ غيره في هذا الأمر. فيستمع شكواهم ويقوم بإجابة مطالبهم، ولمّا أُصيب بالصمم وأصبح غير قادر على الاستماع لهم. نادى مناديه: يقول لكم الحاكم أني إنْ أُصبت بالصمم، فلم أُصب في بصري من عنده ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. وجلس لهم في شرفة ليرى أصحاب الظلامات فيقوم بردّها.

و أمره أنْ يتفرّغ بنفسه لذوي الحاجات والمتظلّمين، ويُخصّص لهم وقتاً معيّناً للنظر في حوائجهم، وأنْ يمنع عنهم حرسه وأعوانه، فيتكلّم من يريد التكلّم من دون تردد أو خوف. و يحتمل جاهلهم والعاجز عن النطق، ولا يضجر من ذلك، ومن دون ضيق أو استنكاف أو تكبّر.

وبيّن له أن لا بدّ من جلوسه لهم لأمور أخرى: منها أنّ كثير من حاجيات الناس تضيق لها صدور أعوانه وحاشيته، ومنهم يحبون المماطلة في قضائهاوالممانعة إمّا استعلاء أو جلباً للمنفعة.

[وامْضِ لكلٍّ يومٍ عملَهُ فإنّ لكلِّ يومٍ ما فيه] (1). أي لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد فذلك يُتعبك، ويُضجر الناس منك.

وبعد أنْ انتهى من وصيته بأمور الناس وواجباته تجاه الرعية أخذ يوصيه بأداء ما فُرض عليه من العبادات.

وجعل بعض وقته لله سبحانه وتعالى: [وإن كانت كلّها لله ] (2).

معتبراً خدمة الناس، و أداء الأعمال والأمانة كالعبادة بل هي

ص: 170


1- من عهد الإمام علیه السلام الصفحة (589)
2- من نفس العهد، الصفحة (589)

العبادة الحقيقية و هي أساس فلسفه الدين ومغزى التعبد و الإيمان.

إنّما الدين المعاملة.

و أمره أن يؤدي واجبه تجاه الله سبحانه [كاملاً غير مثلوم] (1). أي لا يمنعك سلطانك و مشاغلك من أداء الفرائض على وجهها الصحيح والأكمل، وإن أتعبك هذا.

وإنّما العبادة والمواظبة عليها والقيام بها وبشروطها، تُقرّب الحاكم من الله وتُصفي باله وضميره وتُنشط عنده ملكة العدل والإنصاف وتدفعه للإخلاص في عمله.

ثمّ ينتقل إلى الاحتجاب، ويحذره من عدم لقاء الرعية والاستماع إليهم، فذلك يمنع من وصول الأخبار إليه فيعمى عليه أحوال عمله. فلِمَ الاحتجاب، وأنَّ أكثر ما يُسألُ منه ما لا مؤونة عليه في ماله مثل إنصاف الخصوم أو ردّ المظالم!

قال أبو العتاهية:

متى يُفلحُ الغادي إليك لحاجةٍ *** ونصفكَ محجوبٌ، ونصفكَ نائمُ

فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضّيق، وقلّةُ علمٍ بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظُمُ الصغير، ويَقبحُ الحسن، ويَحسُنُ القبيح، ويُشابُ الحقّ بالباطل (2).

ص: 171


1- من عهده علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (590)
2- من عهده علیه السلام إلى مالك الأشتر الصفحة (590)

[ثمّ إنّ للوالي خاصة وبطانه، فيهم استئثار وتطاول، وقلّة إنصاف في معاملة ] (1).

يشدّد على منعه لبطانته وخاصته من ظلم الناس والتعدّي عليهم بالأخذ على أيديهم ومنعهم من الاستئثار والتطاول، ومحاسبتهم عند الزلّة أو العدوان.

ا ولا تقطعنَّ لأحدٍ من حاشيتك وحامتك قطيعة ] (2).

منعه من منح خاصته و أقاربه الأراضي و الإقطاعات، لمجرد صلة القرابة أو الإختصاص، فتكون منفعة ذلك لهم دونه، ووزره واقعٌ عليه، والعيب والذم لاحق به في الدنيا والآخرة.

والزم الحقَّ من لزمه من القريب والبعيد (3).

ويقول: [ و إنْ ظنّت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ] (4).

يقول له: لو اتهمك أحد من الرعية بالجور فاكشف ما لديك من أعذار وما عندك ظاهراً غير مستور تُبعد به ظنونهم وتُقيم لك العذر.

وطلب منه قبول الصلح إذا دعاه إليه عدو، ففي الصلح يرتاح الجند، و تأمن البلاد مع الحذر من العدو بعد الصلح، فلربّما قاربك ليطلب غفلتك، ولا تركن إلى حسن ظنّك به. و أمره بالوفاء بالعهود، ولتكن نفسك جُنّة، أي لو ذهبت نفسك فلا تغدر. فإنّ عاقبة الغدر وبيلة.

ولا تمكر أو تخدع عدوك وأنت تعاهده.

ص: 172


1- من العهد نفسه، الصفحة (591)
2-
3-
4- من العهد نفسه، الصفحة (591)

[فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه ] (1).

الإدغال الإفساد والمدالسة: الخيانة.

[ولا تعقد عقداً تجوّز فيه العلل (أي تتأوّل فيه) ولا تعوّلنّ على لحن القول بعد التأكد والتَّوثقة (نهاه عن نقض العقد معوّلاً على التأويل)، ولا يدعونّك ضيقُ أمرٍ لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق] (2)

فتخاف أنْ تتوجّب عليه المطالبة من الله بحقه في الوفاء لو غدرت به.

إياك والدمّاء وسفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيءٌ أدعى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى بزوال نعمةٍ، وانقطاع مدّة، من سفك الدّماء بغير حقّها (3).

ورد في الخبر المرفوع، أنّ أوّل ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء.

إنّ جميع الشرائع السماوية تنهى عن سفك الدماء والعدوان ولا يسيغه عقل أو نظام أو قانون وليس أدعى إلى حلول النقم، وزوال النعم وانتقال الدول من سفك الدم الحرام.

ونهاهُ علیه السلام من قتل العمد، ففيه قَوَدَ البَدَن، أي القتل مقابل القتل.

ثم ينتقل إلى وصايا في الأخلاق والمعاملة منها:

[ و إيّاك والإعجاب بنفسك ... وحبَّ الإطراء ... وإيّاك والمنَّ

ص: 173


1- من العهد الذي كتبه إلى الأشتر، الصفحة (593)
2- من العهد الذي كتبه إلى الأشتر، الصفحة (593)
3- من العهد الصفحة (593)

على رعيتك بإحسانك ... أو أنْ تعدهم فتُتْبع موعدك بخُلفك ... وإيّاك والعجلة بالأمور قبل أوانها ... وإيّاك والاستئثار بما الناس فيه أُسوة ... أملك حميّة أنفك وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك ] (1)

فالعُجب في الإنسان يمحق الإحسان بما يتبعه من الغرور و التعالي. وفي الحديث: الا وحشة أشدُّ من العُجب (2) ونهاه عن حبّ الإطراء والاستماع إليه. وحذّر من المنّ.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ) (3). وكان يُقال: المنُّ محبّة للنفس مفسدة للصّنع. ونهاه عن الخُلف بالوعد، فهو يوجب المقت. ونهاه عن العجلة في الأمور قبل التثبت. وحذّره من الاستئثار بالمال أو الغنائم وإشراك الناس فيه بمثل ماله ولأولاده. ونهاه عن الغضب، وأنْ لا يحكم بحكم وهو غضبان حتى يهدأ ويسكن غضبه. ونهاه عن إطلاق لسانه من سباب ونحوه، وإطلاق اللسان عند الغضب يزيده والسكوت يُطفئه.

والاحتراس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السطوة. وأكّد عليه أن يجتهد لنفسه في اتّباع ما عهد إليه من عهد واستوثق به الحجّة عليه، لكيلا تكون له علّة عند تسرّع نفسه إلى هواها.

ويختم عهده بالتضرّع إلى الله بالتوفيق سبحانه. وإقامة العذر الواضح إليه وإلى خلقه (أي الاجتهاد وبذل الوسع من العمل والطاعة

ص: 174


1- من العهد نفسه الصفحة (594، 595)
2- ذكره الهيثمي في المجمع الزوائد (1 / 90)، والترمذي في نوادر الأصول» (2 / 7)، والديلمي في المسند الفردوس» (2 / 8 8)
3- سورة البقرة، الآية (264)

وإقامة العدل. ومن بذل جهده فقد أعذر) مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة (أي زيادتها أضعافاً)، وأن يختم لنا بالسّعادة والشهادة، وإنّا إليه راغبون.

ولم تحتوي وثيقة بمثل محتوى هذا العهد الكبير.

لما فيه من المناهج و الوصايا والمعارف، وخصوصاً فيما يتعلق بنظام الحكم وإدارة الدولة وتنظيم المجتمع، وحقوق الإنسان، وتقسيم الناس وطبقاتهم وتبيان حقوقهم وواجباتهم.

وتشريع القوانين وإعداد المراسيم وتصريف الأعمال وتهيئة العوامل والأسباب لبناء الدولة والمجتمع والإنسان، وعلى أعلى درجات الوعي والإدراك والمعرفة لحقيقة النفس البشرية وعلمٍ بكنه الإنسان وحاجاته، ليأخذ مكانه الطبيعي في الحياة بتحقيق كرامته وإنسانيته.

وما أحوج مجتمعات اليوم لوعي تشريعات وتعاليم هذا العهد السامي والأخذ بها فهي قبسّ من نور الكلام الإلهي، وفرعٌ من دوحة العلم النّبوي.

في الحقّ سواء

من كتاب له علیه السلام إلى صاحب الجند في حُلوان: [فإنّ الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمرُ الناس عندك في الحق سواء، فإنّه ليس في الجور عوضٌ من العدل، فاجتنب ما تُنكر أمثاله ... و من الحقّ عليك حفظُ نفسك، و الإحتساب على الرعيّة بجهدك (1).

ص: 175


1- من كتاب له علیه السلام إلى الأسود بن قطيبة رقم (297)، الصفحة (601، 602)، نهج البلاغة

واختلاف الهوى جريانه مع عرض النفس، وهذا يمنع كثيراً من العدل، لأنّ الوالي أو الحاكم إذا لم يتساوى الخصمان عنده، جار وظلم. ولا عوض في الجور من العدل وعكسه فكل العوض في العدل من الجور. فاجتنب الجور الذي تنكره لو صدر من غيرك.

والاحتساب على الرعية مراقبة أعمالهم وإصلاح الفاسد منها، وتقييم الصالح.

ومن كتاب له إلى قُثم بن العباس وهو عامله على مكة، يوصيه كيف يعمل فيما اجتمع عنده من المال وطرق صرفه [ فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة و الخلّات، وما فضل عن ذلك، فاحمله إلينا لنقْسمه في من قبلنا ] (1)

قدّم علیه السلام ذوي العيال والمجاعة في صرف الأموال، لسدّ حاجات هؤلاء وتلبية استحقاقهم ورفع الفاقة عنهم، فالإنسان لا يكون أكثر شغباً وخلافاً من الجائع الذي لا يجد ما يسدّ جوعه ويرفع فاقته، فهو عندما يعطيهم إنّما يُصيب مواقع الاستقرار و الأمان بعدم شعبهم على الدولة وإرباكها. [ ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إنْ ذِيدتْ عن أبوابك في أوّل وِرْدها لم تُحمد فيما بعد على قضائها ] (2).

ذيدت: دفعت. وفي التأخّر في إنجاز الحاجات وتلبيتها ما يوجب الذم والتذمّر.

ذُكر أنّ أبو عبّاد ثابت بن يحيى وهو كاتب المأمون إذا سُئل

ص: 176


1- من كتاب له علیه السلام إلى قثم بن العباس، رقم (305) الصفحة (613، 614)، نهج البلاغة
2- من كتاب له علیه السلام إلى قثم بن العباس، رقم (305) الصفحة (613، 614)، نهج البلاغة

حاجة، يشتم السائل ويبكّته ويُخجله، ثمّ يأمر له بقضاء حاجته. حتى قال فيه الشاعر:

لعن الله أبا عبّاد لعناً يتوالى *** يوسع السائل شتماً ثمّ يعطيه السؤالا

و قال فيه شاعر آخر:

قل للخليفة يابن عمّ محمدٍ *** قيّد وزيرك إنّه ركّالُ

فلسوطه بین الرؤوس مسالكٌ *** ولرجله بین الصدور مجالُ

ومن كتاب له علیه السلام إلى المنذر بن الجارود العبديّ، وقد ولّاه بعض النواحي، فخانه في أمانته: [تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خيرٌ منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُعلى له قدر، أو يُشرك في أمانه، أو يؤمن على جباية ] (1).

وقد بلغ أمير المؤمنين علیه السلام أنّ المنذر كان يقتطع الأموال والمنافع و يُعطيها أقاربه وأبناء عشيرته دون باقي الناس فعنّفه وزجره وذكره بالجمل، فإنّ العرب تضرب المثل في الهوان بالجمل. وأما شسع النعل فضرب المثل في الاستهانة به مشهور لوطئه بالأقدام - وهذا شأن من يخون الأمانة - ولمّا كانت البلاد والعبادأمانه، فمن يتولّاه الولاية فقد كُلّف أمانةً والجباية: استجلاب الخراج.

وكان من بعض ما يكتب إلى الأمراء والعمال لمّا استُخلف: أما بعد، فإنّما أُهلك من كان قبلكم أنّهم منعوا الناس الحقّ فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه.

ص: 177


1- من كتاب أمير المؤمنين علیه السلام رقم (309) الصفحة (618)، نهج البلاغة

أي حجبوا عن الناس حنونه، فاضطر الناس لشرائها منهم بالرشوة، وهذا هو قصده «فاشتروه».

وكلّفوهم بإتيان الباطل فأتوه وصار قدوة يتبعها الأبناء بعد الآباء، وممن الأقوال الحكميّة: احذر كلّ عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكرهه لعامّة الناس واحذر كلّ عمل يُعمل في السرّ، ويُستحيا منه في العلانية، واحذر كلّ عمل إذا سُئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه.

و في المثل المنسوب إلى أمير المؤمنين علیه السلام: إياك وما يُعتذرُ منه.

ص: 178

نماذج من الحِكَم

اشارة

تزخر حِكَم أمير المؤمنين علیه السلام ومواعظه والقصار كلماته، من بأبوابٍ عديدةٍ وأغراضٍ شتّى من الأمور الحكمية والمواضيع التربوية و المفاهيم التي تستند على فلسفة أخلاقية تؤسّسُ إلى غرس الفضائل في النفوس، وتحارب الفساد والرذيلة، وتعمل على استئصالها من الحياة فكراً وعملاً.

وسوف نتناول منها ما يخصُّ موضوع كتابنا، ونترك باقي الأغراض لحاجة كل غرض فيها إلى بحوث منفردة، ولتجنب التكرار وإعادة بعض ما تناولناه في الخطب والرسائل والكتب، اعتمدنا اختصار الأمثلة، وأخذ البعض منها، لتتم الفائدة في تتبّع كتاب نهج البلاغة من أوّله إلى آخره فيما له علاقة بثقافة النزاهة، ومحاربة الفساد ومناهج الإصلاح.

الطمع

يقول علیه السلام: [أزرى بنفسه من استشعر الطمع] (1).

أزرى بنفسه: أي حقرها، أو قصّر بها.

و استشعر: جعله شعاراً، أي لازمه وتخلّق به.

ص: 179


1- في المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (2) الصفحة (627)، نهج البلاغة

وفي الحديث المرفوع: الطمع الفقر الحاضر (1).

ومن الأقوال في الطمع: العبيد ثلاثة: عبد رقّ وعبد شهوة:: وعبد طمع. وقال بعضهم: أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع.

وقال الشاعر:

رأيت مخيلة فطمعت فيها *** وفي الطّمع المذلّةُ للرقابِ

ومن كلام أمير المؤمنين علیه السلام يصف فيه قلب الإنسان و أنّ فيه موادّ من الحِكمة و أضداداً من خلافها، فإذا ظهر له الرجاء أذلّه الطمع، وإنْ هاج به الطمع أهلكه الحرص. (2)

أي أن قلب الإنسان يعْتوره المتضادّات فمنها الحكمة و ما ينافي الحكمة، كالكرم وينافي الكرم البخل، والأمانة وينافيها الخيانة، وهكذا والمرء إذا اشتدّ به الرجاء وطول الأمل اعتوره الطمع.

و الفرق بين الرجاء والطمع: أنّ الرجاء توقّع نفع ممّن يُرتجى منه ذلك، والطمع نفس التوقع ولكن ممّن يُستبعد منه النّفع. والطمع يتبع الرجاء، و الحرص يتبعه. لذا قال: وإنْ هاج به الطمع أهلكه الحرص.

وقال أيضاً: [الطمعُ رقٌّ مؤبّد ] (3).

وجميلٌ قول الشاعر:

تعفّف وعشْ حرّاً ولا تكُ طامعاً *** فما قطَّع الأعناق إلّا المطامعُ

وقال علیه السلام أيضاً: [أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع] (4).

ص: 180


1- أخرجه الحاكم في المستدرك (7928)، والطبري في الأوسط (7753)، والديلمي في مسند الفردوس (4069)
2- جاءت في الحكمة رقم (109) الصفحة (649) من نهج البلاغة
3- في القصار من كلماته علیه السلام رقم (180) الصفحة (667) نهج البلاغة
4- في القصار من كلماته علیه السلام رقم (220) الصفحة (674) نهج البلاغة

وقال: [الطامعُ في وثاق الذّل] (1)

وقال: [إنّ الطمع موردٌ غير مُصدر، وضامنٌ غير وفي ] (2)

أي أنّ من ورد الطمع هلك ولم يرجع.

الولايات مضامير الرجال

(3)

وقد جرى الحديث عن ما يُماثله فيما مضى والمضامير جمع مضمار، وهو المكان أو المدة التي تضمَّر بها الخيول، وذلك بتقديم العلف والماء لها، ثمّ يُمنع عنها إلّا القليل منه، وتجري في الميدان، يُفعل بها هكذا لمرات لتهزل وتجهز للسباق. فمثّل الولاية أو الإمارة بهذا، فمنهم من يظهر منه الأخلاق الحميدة و الصفات الرشيدة و ذلك من يفوز في الاختبار. ومنهم من يظهر فيه الأخلاق الذميمة بخلاف الحالة الأولى. و من أقوال الشعراء في الولاية و الإمارة، قول أحدهم:

يابنَ وَهْبٍ والمرء في دولة السل- *** -طانِ أعمي ما دام يُدعى أميرا

فإذا زالت الولايةُ عنه *** واستوى بالرجال عادَ بصيرا

وقد دلّت الأحداث على أنّ الولايات كذلك، يُمتحن بها الرجال ويُختبرون، وتتبيّن عندها المعادن.

فمنهم من يدخل في أمر ليس منه فتفرزه الحوادث، وتزدريه الأعين، حينها يكون مصداقاً للمثل القائل: حنّ قدح ليس منها (4).

ص: 181


1- في القصار من كلماته علیه السلام رقم (227) الصفحة (675) نهج البلاغة
2- في القصار من كلمانه علیه السلام رقم (277) الصفحة (690) نهج البلاغة
3- من حكم أمير المؤمنين علیه السلام رقم (435) الصفحة (724) نهج البلاغة
4- يُنسب هذا المثل إلى عمر بن الخطاب. ويعني: صوت السهم مخالفٌ للسهام، و عند الرمي يخالف صوته أصواتها يُضرب لمن يدعي نفسه لقومٍ وهو ليس منهم

وفيهم من يعوجّ غرضه فيميل عن الاستقامة لطلبه، كما يقول المثل: فدع عنك من مالت به الرمية.

وآخر يُقادُ كالجمل المخشوش، حتى يُجبر على فعل الشيء وهو لا يريده.

والبعض ينعش بها وهو الذليل.

وقليل يصدق الظَّنّ به و يجتاز الاختبار و عندها تعرف الرجال وتمتاز.

ص: 182

خاتمة

وصلت بفضل الله إلى نهاية ما استخلصته في نهج البلاغة من بدائع أمير المؤمنين علیه السلام لما له علاقة في ثقافة النزاهة ومحاربة الفساد، والمناهج الإصلاحية والمباني التربوية الهادفة إلى بناء المجتمع على نظم العدل والخير والصلاح والارتقاء بالإنسان إلى مرافىء الكرامة و الرفعة. وما رشح من كلماته وخطبه ورسائله علیه السلام من توقيعات وتوجيهات بنّاءة، تستوعب بنظرتها الشاملة وروحيتها النبيلة الصافية كلّ الوجود، دليل هداية ورشاد ومراتع ريع ونماء وأعلام معرفة وبيان. يستطيع أن ينعم بها ويستفيد منها كلّ إنسان وبصرف النظر عن جنسه أو نوعه، وأينما كان.

إنّ النظرة الإصلاحيّة في فلسفة مدرسة الإمام علیه السلام نظرة شمولية تزخر بالمفاهيم المتطورة والمتجدّدة وهي تصلح لكلّ زمان ويعايش معها كلّ فكر وأيّ إنسان.

وهذه الروح المتفتحة والشفافة تختزل الحواجز وتتعدّى الفوارق وتتآلف مع الجوهر والأصل.

فما دام الإنسان وقد خلقه الله سبحانه من عنصر واحد، فهو في مدارك هذه المدرسة على سواء وتماثل.

إنسانيّته مصانة وحقوقه محفوظة وله الحقّ في تحصيل حقوقه ما دام لا يخلّ بواجباته.

ص: 183

ولرحابة تلك المدرسة وأصالتها فهي تؤدّي دورها الفاعل في النفس البشرية مهما اختلفت الألوان والظروف والأماكن إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق (1).

إنّ التأكيد الحاصل في موارد كلام أمير المؤمنين علیه السلام على تعاليم الإصلاح ونشر ثقافته يوضح أنّ التحدي الكبير في عمل المصلحين والساعين إلى بناء المجتمعات وتأسيس الدول، هو الفساد الإداري وكيفية محاربته ومعرفة سبل استئصاله أو انحساره. وأنّ التحدي الأكبر هو التحمّل والصبر والاستعداد للمواجهة و القدرة على المداومة في كفاح هذه الظاهرة وعدم الإهمال أو المساومة.

فمع تغليب المادة وكثرة الاحتياج إليها والإزدياد الانفجاري في المخترعات ووسائل الترفيه وأمور الحياة عموماً، كان من نتائجها نمو هذه الظاهرة وتغلغلها في النفوس ما يجعل الحاجة أكبر لجهود الإصلاح وإزالة آثارها.

وإذا ما تمكّنت هذه الظاهرة من أيّ مجتمع، فإنّها ستكون بمثابة المعول الذي يهدم أركانه حتى يأتي على خرابه.

إنّ ما قدمناه من بحث أو دراسة في ثقافة النزاهة ومحاربة الفساد في كتابنا نرجو أنْ يكون علامة في أوّل الطريق يمكن أنْ تؤدّي دورها وتأتي أُكلها، ما دمنا معتمدين في كلّ خطوة وهمسة على التسديد الإلهي، ورجاءنا في الله سبحانه وتعالى ولا رجاء فيمن سواه لیثبّت خطانا ويهدي سبلنا، ويُنجح طلبتنا. و أن يجعل كل عمل نعمله خالصاً لوجهه نرجو فيه رضاه ومنّه.

ص: 184


1- جاءت في عهد أمير المؤمنين علیه السلام الذي كتبه إلى مالك الأشتر عندما ولّاه على مصر، الصفحة (572) نهج البلاغة

ولما أخذنا على أنفسنا أنْ نجتهد في البحث عن كنوز نهج البلاغة و علومه، ونرجع إلى سنن غرضنا في دراسته واتّباعه، فإلى دراسة قادمة أخرى فيه إن شاء الله نصرةٌ للعلم والبحث والمعرفة.

ص: 185

ص: 186

المحتويات

الإهداء ... 5

تنويه ... 7

فكرة الكتاب ... 9

كلمة المؤلف ... 13

النزاهة في اللغة ... 21

مفهوم النزاهة من الآيات القرآنية ... 21

مفهوم النزاهة في الحديث النبوي الشريف ... 29

مدخل ... 35

هداية و دليل ... 43

ما له وما عليه ... 43

بين القول والعمل ... 45

ربيع العدل ... 46

مدرسة الطمع ... 51

مدرسة القناعة ... 59

الفساد الإداري و أسبابه ... 65

التحدّيات ... 73

إشارات إصلاحية ... 83

العدل ... 85

الطبقات ... 88

الرقيب الذاتي ... 90

رابطنا مع نهج البلاغة ... 93

أثر كلامه ... 95

من ميادين النهج ... 99

الحاكم والمحكوم ... 100

نهج البلاغة وثقافة النزاهة ... 107

صفة خلق آدم علیه السلام ... 111

شروط التصدّي ... 113

الإمرة ... 115

في ذمّ اتباع الشيطان ... 117

في العدل سعة ... 118

الخطايا والتقوى ... 119

ص: 188

من روائع مواعظه ... 120

قسمة الأرزاق ... 123

المضمار والسباق ... 125

أصناف النّاس ... 129

خاصف النعل ... 131

الضعيف والقوي ... 135

معنى الزهد ... 137

صفة الدنيا ... 139

التسوية ... 140

أداء الأمانة ... 145

أئمّة العدل ... 147

التبرؤ من الظلم ... 149

لا للمحاباة ... 152

كتبه والأمانة ... 155

عهده إلى مالك الأشتر ... 162

في الحق سواء ... 175

نماذج من الحِكَم ... 179

الطمع ... 179

ص: 189

الولايات مضامير الرجال ... 181

خاتمة ... 183

المحتويات ... 187

ص: 190

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.