البدعة مفهومها وحدودها

هوية الکتاب

البدعة مفهومها وحدودها

الاستاذ محمد هادي الأسدي

تحظي إصدارات المرکز

بالمتابعة والتقويم والإشراف العلمي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

اشارة

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأكرم محمد المصطفى الأمين وآله الطيبين الطاهرين وأصحابهم المنتجبين.

إنَّ الحفاظ على مصادر التشريع الإسلامي من كلِّ وافد غريب مهمة تقع على عاتق كلّ أفراد هذه الاُمّة دون استثناء سيما علماؤها ومثقفوها ، وذلك لأجل الحفاظ على معالم العقيدة الصحيحة التي تشكل حجر الزاوية في بناء الإنسان فكرياً وحضارياً.

إنَّ التشريع الإسلامي يستند إلى عدة أركان وثيقة تستوعب مختلف جوانب الحياة وأبعادها ، وتمتلك مقومات الحصانة والبقاء والاستمرار ، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » ، ولم يرحل خاتم الأنبياء والمرسلين (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ وقد اكتملت معالم الدين الإسلامي الحنيف بأبعادها المختلفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) وبعد تمام الدين واكماله وتحديد الرسول الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم) مصادر التشريع التي أمر بها الله تعالى ، ليس ثمة أحد يمتلك حق الزيادة أو النقصان في أمر الدين القويم وشريعته السمحة ، ومن يحاول ذلك فهو مبتدع ومفترٍ ومقدّم بين يدي الله ورسوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذَّب بآياته إنّه لا يفلح الظالمون ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).

إنَّ الإحداث في الدين معول هدّام في صرح التشريع الإسلامي الوثيق ، وهو من أخطر ما يهدد كيان الاُمّة بالانهيار والفرقة.

ومن هنا أكد الشرع القويم على خطورة البدعة على معالم الدين ووحدة المسلمين ، وأكد على ضرورة مجابهتها البدعة باعتبارها نداً مقابلاً للسُنّة وضداً لايلتقي معها أبداً ، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أدى إلى أُمتي حديثاً يقام به سُنّة أو يثلم به بدعة فله الجنة » وبدون هذه المواجهة ستصبح البدعة بضاعة رائجة في سوق التشريع والتعامل تؤدي إلى ضياع

ص: 5

السُنّة وبيعها بثمنٍ بخسٍ هو ثمن الأهواء والتعصب قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « لا يذهب من السُنّة شيء حتى يظهر من البدعة مثله ». ولذلك أمر الشارع المقدس بمقاطعة المبتدع في الدين قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أتى ذا بدعة فعظّمهُ فانما يسعى في هدم الإسلام » وأمر أيضاً باظهار العلم مقابل الكذب والافتراء ليكون حدّاً فاصلاً بين السُنّة والبدعة قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « إذا ظهرت البدع في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله ». ومع ذلك كلّه فقد حدثت بدعٌ كثيرة بعد زمان رسول الإسلام (صلی الله عليه وآله وسلم) وبقيت مستمرة ولها أتباع كثيرون حتى اليوم .. فهي افتراءات على الله سبحانه وضلالات عن الدين الحنيف وإنْ حاول أُولئك الأتباع الدفاع عنها تحت عنوان « الاجتهاد ».

وهناك في المقابل قوم آخرون من أهل البدع ، توسّعوا في مفهوم البدعة فزعموا شموله لكلِّ أمر حادث في الحياة بعد رسول الله أو بعد ثلاثة قرون منذ عصره (صلی الله عليه وآله وسلم) وهم في ذلك يدّعون الحرص على الدين والتقيد بالسُنّة النبوية الشريفة ، وبذلك عزلوا الشريعة السمحة عن التفاعل مع حياة الناس فجعلوها جامدة وكأنها لا تمتلك مقومات الديمومة والاستمرار، وتناقض التطور والمدنية وتقف عاجزة أمام الحوادث المستجدة .. وأيضاً أطلقوا عنوان « البدعة » على بعض الممارسات التي هي من صميم الدين ، واتخذوا ذلك وسيلة للتشنيع وبث عوامل الفرقة بين الفصائل الإسلامية المختلفة وتسديد سهام النقد والتشويه لبعض العقائد المستمدة من الوحي الالهي قرآناً وسُنّة.

والحق أن هؤلاء وأُولئك خالفوا تعاليم الشريعة الغرّاء فضلّوا وأضلّوا ، لذا أصبح من الضرورة بمكان دراسة هذا المفهوم دراسة موضوعية وافية تكشف مختلف جوانبه وأبعاده.

ولتحقيق هذا الهدف فقد عُني هذا البحث - رغم كونه مختصراً - بمعالجة هذه المسألة وفق منهج علمي دقيق واسلوب مناسب يستعين بهدي الكتاب والسُنّة وأمثلة السيرة والتاريخ ، وقد انتهى إلى نتائج ومعالجات دقيقة وموفقة.

ومنه تعالى نستمد العون والسداد لاحياء السُنن واماتة البدع

مقدمة المركز

ص: 6

المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خير خلقه محمد المصطفى الأمين وآله الطيبين الطاهرين وصحبهم المنتجبين.

قال تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (1).

تعتبر البدعة من المعاصي الكبيرة التي نصَّ على حرمتها الكتاب الكريم وسُنّة المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي ضلالة تؤدي بصاحبها إلى سواء الجحيم ، ذلك لأن المبتدع في الدين مفترٍ على الله ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (2) ولانه يسوق الاُمّة وفقاً لأهوائه إلى سبيل منحرف ينتهي إلى الفرقة والتناحر والاقتتال ، بدلاً عن السبيل السوي الذي اختاره تعالى لسعادة البشرية (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (3) لذا نرى من الواجب المناط بأهل العلم والمعرفة رسم الصورة الحقيقية للسُنّة المباركة وتخليصها من كلِّ دخيل وتمحيصها من الابتداع والاحداث في الدين بالعرض على الكتاب والسُنّة ، دون ان يكون لدواعي الهوى وآراء المذاهب المختلفة أثر في اعتبارات البدعة ومواردها المختلفة.

ص: 7


1- النحل 16 : 116.
2- الانعام 6 : 21.
3- الانعام 6 : 153.

من هنا حاولنا في هذا البحث رسم الصورة الواقعية لمفهوم البدعة من خلال دراسة وافية تقترن ببيان الموارد الصحيحة والمصاديق الحقيقية لها وفقاً لما جاء في كتاب الله وسُنّة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وهدي أئمة الهدى (عليهم السلام) .

وقد سلطنا الضوء على هذا المفهوم من جوانبه المختلفة مع شيء من الاختصار وفقاً للفصول التالية :

الفصل الأول : تعريف البدعة لغةً واصطلاحاً وبيان دلالتها في القرآن والسُنّة ، واستعراض ما ورد من آيات قرآنية وأحاديث شريفة في حرمة الابتداع في الدين وخطورته وضرورة مواجهته بشتى الوسائل.

الفصل الثاني : بيان مفهوم البدعة وشروطها وحدودها وتقسيمها.

الفصل الثالث : استعراض الاسباب التي أدت إلى نشوء البدع وانتشارها ، وقد حصرناها في ثلاثة أسباب رئيسية هي : 1 - توهم المبالغة في التعبد لله تعالى ، 2 - اتباع الهوى ، 3 - التسليم لغير المعصوم.

الفصل الرابع : ذكرنا فيه دور أهل البيت (عليهم السلام) واسهامهم في مجابهة البدع ومحدثات الاُمور ، ويدور البحث فيه على محاور رئيسية ، هي : قول الأئمة (عليهم السلام) في : الجبر والتفويض ، والقياس والرأي ، والتصوف والرهبنة ، ومسألة التشبيه والتجسيم ، ومحاربة الغلو والغلاة.

الفصل الخامس : نقلنا فيه البحث النظري المتقدم إلى ساحة التطبيق العملي ، مبيّنين أهم البدع المحدثة ، ذاكرين بعض الممارسات والعقائد التي نسبت إلى البدعة وليست هي كذلك.

نرجو أن نكون قد أفدنا في هذا البحث ووفقنا لما فيه الخير والرشاد.

ومن الله نستمد العون والسداد وهو يهدي من يشاء إلى سواء السبيل

ص: 8

الفصل الأول: البدعة دلالتها في القرآن والسُنّة البدعة في اللغة :

اشارة

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : ( البَدع : إحداثُ شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة ) (1).

ويقول الراغب : ( الابداع : هو إنشاء صفةٍ بلا احتذاء واقتداء ) (2) ، والابداع أصلٌ ثانٍ للبدعة ، وهو مأخوذ من « أبدع ».

وينصّ الأزهري على أنّ « الابداع » أكثر استعمالاً من « البَدع » وهذا لا يعني أنّ استعمال « البدع » خطأ ، فيقول في ذلك : ( و « أبدع » أكثر في الكلام من « بَدَعَ » ولو استعمل « بَدَعَ » لم يكن خطأ ) (3).

وقال ابن فارس : ( البدع له أصلان : ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال ، والآخر الانقطاع والكلال ) (4).

وقال الفيروزآبادي : ( البِدعة : الحدث في الدين بعد الاكمال ، أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال ) (5).

ص: 9


1- العين ، للفراهيدي 2 : 54.
2- معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، للراغب الاصفهاني : 36.
3- تهذيب اللغة ، للازهري 2 : 241.
4- المقاييس ، لابن فارس 1 : 209 مادة ( بَدَع ).
5- القاموس ، للفيروزآبادي 3 : 6 مادة ( بَدَعَ ).

وعلى هذا الأساس تقول من « البَدع » : ( بدعتُ الشيء إذا انشأته ) (1).

كما تقول من ( الابداع ) : ابتدع الشيء : أي « أنشأه وبدأه » (2) وتقول أيضاً : ( أبدعتُ الشيء أي اخترعته لا على مثال ) (3).

و « أبدعَ » الله تعالى الخلق « إبداعاً » : أي خلقهم لا على مثال سابق ، و « أبدعتُ » الشيء و « ابتدعته » استخرجته وأحدثته ، ومن ذلك قيل للحالة المخالفة « بدعة » ، وهي اسم من « الابتداع » ، كالرفعة من الارتفاع (4).

ومن أسماء الله تعالى « البديع » : وهو الذي فطر الخلق مُبدِعاً لا على مثال سابق (5).

يقول سبحانه وتعالى : ( بَدِيعُ السَمَوَاتِ والاَرضِ ) أي مبتدعها ومبتدئها لا على مثال سابق (6).

إنّ الامعان في التعريفات المارة لكلمة « البدعة » يوضح بجلاء أنّ معناها في اللغة : هو الشيء الذي يبتكر ويخترع من دون مثال سابق ويبتدأ به بعد أن لم يكن موجوداً في السابق.

ص: 10


1- جمهرة اللغة ، لابن دريد 1 : 298.
2- لسان العرب ، لابن منظور 8 : 6 مادة ( بدع ).
3- الصحاح ، للجوهري 3 : 1183 مادة ( بدع ).
4- المصباح المنير ، للفيومي1 : 38 مادة ( بدع ).
5- مجمع البحرين ، للطريحي 1 : 163 مادة ( بدع ).
6- النهاية ، لابن الاثير 1 : 106. والآية من سورة البقرة 2 : 117.

البدعة في الاصطلاح :

مع أنّ « البدعة » في المعنى اللغوي المتقدم تشمل كل جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين ، أم في العادات ، كأنواع الأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات وغيرها من الممارسات الحياتية عند الناس ، لكن البدعة التي ورد النصّ بتحريمها هي : ( إيراد قولٍ أو فعلٍ لم يُستَنَّ فيه بصاحب الشريعة وأُصولها المتقنة ) (1).

وبعبارة أُخرى هي : ( الحدث في الدين بعد الاكمال ) (2).

وفي الموضوع تعريفات كثيرة ، تكاد تتفق لفظاً ومضموناً ، وان اختلفت في زيادات أوردها البعض لمزيد من البيان :

ابن رجب الحنبلي عرّف البدعة بأنّها :

( ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدّل عليه ، أما ما كان له أصل من الشرع يدّل عليه فليس ببدعة شرعاً وإنْ كان بدعة لغةً ) (3).

وقال ابن حجر العسقلاني في « فتح الباري » : ( أصلها ما أُحدِثَ على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السُنّة فتكون مذمومة .. ) (4).

وقال : ( المحدثات جمع محدثة ، والمراد بها - أي في حديث « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ » - : ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمّى في عرف الشرع بدعة ، وما كان له أصل يدلُّ عليه الشرع

ص: 11


1- انظر : المفردات ، للراغب : 28.
2- القاموس ، للفيروزآبادي 3 : 6.
3- جامع العلوم والحكم ، لابن رجب الحنبلي : 160 طبع الهند.
4- فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني 5 : 156.

فليس ببدعة ) (1) ؟.

ويرى ابن حجر الهيتمي أنّ البدعة : ( ما أُحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص أو العام ) (2).

ويرى الشاطبي : ( البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها ما يُقصد بالطريقة الشرعية - وقال في مكان آخر - يُقصد بالسلوك عليها : المبالغة في التعبّد لله تعالى ) (3).

وقال السيد المرتضى : ( البدعة : الزيادة في الدين أو نقصان منه من غير إسناد إلى الدين .. ) (4).

وقال الطريحي في مجمع البحرين : ( البدعة : الحدثُ في الدين ، وما ليس له أصل في كتاب ولا سُنّة ، وإنّما سُميّت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها هو نفسه ) (5) ..

أما العلاّمة المجلسي فإنّه عرّفَ البِدعة في الاصطلاح الشرعي بأنّها : ( ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ على الخصوص ، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات ، مثل بناء المدارس وأمثالها الداخلة في عمومات إيواء المسلمين وإسكانهم وإعانتهم ، وكإنشاء بعض الكتب العلمية ، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية ، وكالألبسة التي لم تكن في

ص: 12


1- فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني 17 : 9.
2- التبيين بشرح الاربعين ، لابن حجر الهيتمي : 221.
3- الاعتصام ، للشاطبي 1 : 37.
4- الرسائل ، للشريف المرتضى 3 : 83.
5- مجمع البحرين ، للطريحي 1 : 163 مادة ( بدع ).

عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأطعمة المحدثة فإنّها داخلة في عمومات الحلّية ولم يرد فيها نهي.

وما يُفعل منها على وجه العموم إذا قُصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة ، كما أنّ الصلاة خير موضوع ويُستحب فعلها في كل وقت ، ولو عيّن ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معين صارت بدعة، وكما إذا عيّن أحدٌ سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنّها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت ، بلا نصّ ورد فيها ، كانت بدعة.

وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نص ، بدعة ، سواء كان أصلها مبتدعاً أو خصوصيتها مبتدعة .. ) (1).

وقال المحدّث البحراني : ( الظاهر المتبادر من البدعة ، لا سيّما بالنسبة إلى العبادات ، إنّما هو المحرّم ، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين (عليهما السلام) : « إنّ كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها النار » ) (2).

وقال المحقق الاشتياني : ( البدعة : إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ، ولكن يفعله بأنّه أمَرَ به الشارع .. ) (3).

وقال السيد محسن الامين العاملي : ( البدعة : إدخال ما ليس من الدين في الدين ، كإباحة محرّم أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب أو

ص: 13


1- بحار الانوار ، للمجلسي 74 : 202 - 203.
2- الحدائق الناضرة ، للشيخ يوسف البحراني 10 : 180.
3- بحر الفوائد ، للاشتياني : 80.

ندبه، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها ، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له .. ) (1).

هذه جملة مما ورد في تعريف البدعة بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، وقد أفاد أغلبها أنّ البدعة بالمعنى الشرعي ، هي : زيادة شيء في الدين على أنّه منه وهو ليس منه.

واختص تعريف الشريف المرتضى وكذا تعريف السيد محسن الامين من بين تلك التعريفات بذكر النقصان من الدين على أنّه يدخل ضمن البدعة أيضاً.

ومن هنا فإنّ تعريف الشريف المرتضى هو أجمع التعاريف وأكثرها دلالة على حد البدعة ومفهومها.

البدعة في القرآن الكريم

اشارة

وردت البدعة بمعناها اللغوي والاصطلاحي الشرعي في عدة مواضع من القرآن الكريم.

والملاحظ أنّها وردت في بعض المواضع من القرآن الكريم بصورة مباشرة ، وبعضها الآخر ورد من خلال دلالة الجملة القرآنية على مفهوم ( التغيير في الدين ) زيادة وإنقاصاً ، وسنورد أمثلةً عن كلا الصورتين.

الصورة الاُولى :

1 - ( .. ورَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيهِمْ إلاّ ابتِغَآءَ رِضوَانِ اللهِ فَمَا

ص: 14


1- كشف الارتياب للسيد محسن الامين العاملي : 143.

رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ... ) (1).

الآية الشريفة هنا توضح أنَّ « الرهبانية » كانت من مبتدعات الرهبان ، وأنّها لم تكن مفروضة عليهم من قبل ، وإنّما تكلّفوها من عند أنفسهم.

2 - ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ... ) (2).

وهناك اتجاهان في تفسير الآية الشريفة ، يذهب أحدهما إلى أنّ المقصود هو أنّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليس أول رسول يرسله الله إلى قومه برسالته.

ويذهب الآخر إلى أنّ المراد : ما كنتُ مبدِعاً في أقوالي وأفعالي مالم يسبقني إليه أحد من الرسل.

وقد ذهب العلاّمة الطباطبائي في تفسيره « الميزان » إلى ترجيح الاتجاه الثاني بقوله : ( والمعنى الأول لا يلائم السياق .. فثاني المعنيين هو الأنسب ، وعليه فالمعنى : لستُ أُخالف الرُسل السابقين في صورة أو سيرة وفي قول أو فعل ، بل أنا بشر مثلهم فيَّ من آثار البشرية ما فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي ) (3).

3 - قوله تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (4).

ص: 15


1- الحديد 57 : 27.
2- الاحقاف 46 : 9.
3- الميزان في تفسير القران ، للطباطبائي 18 : 190.
4- البقرة 2 : 117.

4 - وقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ.. ) (1).

والآيتان المتقدمتان تفيدان معنى الخلق لا على مثال سابق وهو المعنى اللغوي لكلمة « بَدَع » ، التي مرّت الاشارة إليها فيما تقدم.

الصورة الثانية :

أما ما ورد في القرآن الشريف من إشارة إلى البدعة بمعنى « التغيير في الدين » فهو كثير ، لكننا نشير إلى بعض الآيات الشريفة :

1 - ( قُلْ أرَأيتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُل ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفتَرُونَ ) (2).

والآية واضحة في دلالتها على التحريف زيادة أو إنقاصاً ، وقد وردت الآية في وصف عمل المشركين حين حرّموا بعض ما أنزل الله عليهم من الرزق وحلّلوا البعض الآخر ، فقد حرّموا السائبة والبَحيرة والوَصيلة من غير أن يأتيهم بذلك أمر إلهي ، ويوضح هذه الحقيقة قوله تعالى في ذيل الآية المتقدمة : ( ءَآللهُ أذِنَ لَكُم أمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ).

2 - كما جاء ما يدل على التحريف في قوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) (3).

والآية الشريفة واضحة الدلالة مثل سابقتها على مفهوم التحريف

ص: 16


1- الانعام 6 : 101.
2- يونس 10 : 59.
3- النحل 16 : 116.

والافتراء كذباً على الله سبحانه وتعالى شأنه.

3 - إنّ تحريف النصّ الالهي أمر خطير حتى جاء في القرآن الشريف على لسان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : ( ..قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1).

وفي الآية الشريفة دلالة واضحة وصريحة على قُدسية الأمر الالهي الوارد عبر الوحي ، وأنَّ تحريف هذا النصّ أو تبديله أمرٌ خطير يورد صاحبه موارد الهلكة والخسران المبين إلى الدرجة التي يقول فيها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

4 - وجاء في القرآن الكريم ما يدل على تحقّق الابتداع بدعوى الزيادة أو النقصان في الأحكام الإسلامية كما في قوله تعالى : ( وَمَنْ أظلَمُ مِمِنَّ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أو كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالِمُون ) (2).

إنَّ الكذب من المحرمات والموبقات التي وعد الله عليها النار ، والبدعة من أفحش الكذب ، لإنّها افتراء على الله ورسوله ، والمفتري مبتدع لأنه يريد أن يقول عن شيء ليس من الدين إنّه من الدين ، فيزيد فيه ما ليس منه ، أو يقول عن شيء إنّه ليس من الدين وهو من الدين ، فينقص من الدين شيئاً هو منه.

البدعة في السُنّة المطهّرة

فيما تقدم استعرضنا بصورة موجزة الآيات القرآنية الشريفة الدالة على

ص: 17


1- يونس 10 : 15.
2- الانعام 6 : 21.

مفهوم البدعة والتحذير منها ، وسنستعرض في هذا الفصل ما ورد من أحاديث وروايات منقولة عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) . وسوف لن يقتصر إيرادنا للأحاديث المروية عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) على فريق معيّن من المسلمين بل سنحاول ذكر الروايات الواردة عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عن طريق الفريقين.

1 - ورد عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « لا يذهب من السُنّة شيء حتى يظهر من البدعة مثله ، حتى تذهب السُنّة وتظهر البدعة ، حتى يستوفي البدعة من لا يعرف السُنّة ، فمن أحيى ميتاً من سنتي قد أمُيتت ، كان له أجرُها وأجرُ من عمل بها ، من غير أن ينقص من أُجورهم شيئاً ، ومَنْ أبدَعَ بدعة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص من أوزارهم شيئاً » (1).

2 - وعن جابر قال : خطبنا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال : « أما بعد فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأنّ أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الاُمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة .. » (2).

3 - وورد عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله : « لا ترجعنَّ بعدي كفاراً ، مرتدين ، متأولين للكتاب على غير معرفة ، وتبتدعون السُنّة بالهوى لأن كل سُنّة وحدث وكلام خالف القرآن فهو ردّ وباطل » (3).

4 - وعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « يأتي على الناس زمان وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين ، السُنّة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم

ص: 18


1- كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي 1 : 222 / 1119.
2- مسند أحمد 3 : 310 طبعة دار الفكر - بيروت. سنن ابن ماجه 1 : 21 باب اجتناب البدع والجدل طبعة دار الجيل - بيروت. جامع الاُصول ، لابن الاَثير : 5 الفصل الخامس الخطبة 3974.
3- خصائص الأئمة ، للشريف الرضي : 75.

سُنّة » (1) .

5 - وعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أدى إلى أُمتي حديثاً يُقام به سُنّة ، أو يثلم به بدعة، فله الجنة » (2).

6 - وجاء عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « إياك أن تسنَّ سنة بدعة ، فإنّ العبد إذا سنَّ سنةً سيئة ، لحقهُ وزرها ، ووزر من عمل بها .. » (3).

7 - وعن عرباض بن سارية قال : صلّى بنا رسول الله الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة .. قال : « أوصيكم بتقوى الله .. وإيّاكم ومحدثات الامور ، فإنّ كلَّ محدثة بدعة ، وإنّ كلَّ بدعة ضلالة » (4).

8 - وروى مسلم في صحيحه : كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيشٍ ، يقول : « صبّحكم ومسّاكم - ويقول - بُعثِتُ أنا والساعة كهاتين - ويقرن بين إصبعيه : السبابة والوسطى ، ويقول - أما بعد ، فإنَّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هَديُ محمد ، وشرّ الاُمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة - ثم يقول - أنا أولى بكلِّ مؤمن من نفسهِ ، من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليَّ وعليّ » .. (5).

9 - وروى ابن ماجه : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « لا يقبل الله لصاحب بدعة

ص: 19


1- جامع الاخبار ، لتاج الدين الشعيري : 125.
2- بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 152 / 43 باب 19.
3- بحار الانوار ، للمجلسي 74 : 104 / 1 باب 5.
4- مسند أحمد 4 : 126 - 127. وبحار الانوار 2 : 263 فقد وردت نفس النصوص مع زيادة « وكل ضلالة في النار ».
5- جامع الاصول ، لابن الاثير : 5. الفصل : 5 الخطبة 3974.

صوماً ، ولا صلاة ، ولا صدقة ، ولا حجّاً ، ولا عمرة ، ولا جهاداً » (1).

10 - وروى مسلم عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ » (2).

11 - وعن جرير بن عبد الله عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله : « من سنَّ في الإسلام سُنّة حسنة فعُمل بها بعده ، كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم شيء ، ومن سنَّ في الإسلام سُنّة سيئة فعمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء .. » (3).

12 - وعن حذيفة انه قال : يا رسول الله هل بعد هذا الخير شرّ ؟ قال : « نعم ، قوم يستّنون بغير سنّتي ويهتدون بغير هداي .. » (4).

13 - وعن مالك في موطأه عن أبي هريرة قال : إنّ رسول الله خرج إلى المقبرة فقال : « السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون - إلى أن قال - فلُيذادنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلّم ! ألا هلّم ! ألا هلّم ! فيقال : إنّهم قد بدّلوا بعدك ، فأقول : فسحقاً ، فسحقاً، فسحقاً .. » (5).

14 - وروى الكليني عن محمد بن جمهور رفعهُ ، قال: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « إذا ظهرت البدع في أُمتي فليُظهِر العالِم علمه ، فمن لم يفعل

ص: 20


1- سنن ابن ماجه 1 : 25 باب اجتناب البدع والجدل.
2- صحيح مسلم 5 : 132 ، كتاب الاقضية الباب 8. ومسند أحمد 6 : 270.
3- صحيح مسلم 8 : 61 كتاب العلم.
4- صحيح مسلم 5 : 206 كتاب الامارة.
5- موطأ مالك : كتاب الصلاة باب جامع الوضوء / 26. وصحيح مسلم 1 : 150.

فعليه لعنة الله » (1).

15 - وبهذا الاسناد قال : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أتى ذا بدعةٍ فعظّمهُ فإنما يسعى في هدم الإسلام » (2).

16 - وبالاسناد السابق قال : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة » قيل: يا رسول الله ، وكيف ذلك ؟ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « انّه اُشرِبَ في قلبه حبّها » (3).

17 - وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال : أيُّها الناس إنّما بَدْءُ وقوع الفتن ، أهواءٌ تُتَّبع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالف فيها كتاب الله ، يتولى فيها رجال رجالاً ، فلو أنّ الباطل خلص لم يُخف على ذي حجى ، ولو أنّ الحق خلص لم يكن اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى » (4).

18 - الحسن بن محبوب رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّه قال : « إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ لرجلين : رجل وكلّه الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن أفتتن به ، ضال عن هَدي من كان قبله ، مضل لمن اقتدى به في حياته

ص: 21


1- الكافي ، للكليني 1 : 54 / 2 باب البدع.
2- المصدر السابق : ح 3.
3- الكافي ، للكليني 1 : 54 / 4.
4- المصدر السابق 1 : 55 / 1 الباب السابق.

وبعد موته ، حمّال خطايا غيره ، رهنٌ بخطيئته » (1).

19 - وروى عمر بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنّه قال : « لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم ، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : المرءُ على دين خليله وقرينه » (2).

20 - وروى داود بن سرحان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : « قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة .. » (3).

21 - وعنه (عليه السلام) قال : « ما أُحدثت بدعة إلاّ ترك بها سُنّة ، فاتقوا البدع والزموا المَهْيَع ، إنَّ عوازم الاُمور أفضلها وإنّ محدثاتها شرارها » (4).

22 - وعن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه » (5).

23 - وعنه (عليه السلام) أنّه قال : « من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام » (6).

24 - وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله : « .. فاعلم أنَّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادلٌ هُدِيَ وهَدى فأقام سُنّةً

ص: 22


1- الكافي ، للكليني 1 : 54 / 6 باب البدع.
2- الكافي ، للكليني 2 : 375 / 3 باب مجالسة أهل المعاصي.
3- الكافي ، للكليني 2 : 375 / 4 باب مجالسة أهل المعاصي.
4- بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 264 / 15. نهج البلاغة : خطبة 145. والمَهْيَع : الطريق البيّن.
5- المصدر السابق 8 : 23 الطبعة القديمة.
6- المصدر السابق 2 : 304 / 45.

معلومةً وأمات بدعةً مجهولةً ، وأنّ السُنن لنيرةٌ ، لها أعلامٌ ، وأنّ البدع لظاهرةٌ ، لها أعلام. وأنَّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به ، فأمات سُنّةً مأخوذةً ، وأحيا بدعةً متروكةً » (1).

25 - وقال (عليه السلام) : « أوِّهِ على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدّبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السُنّة وأماتوا البدعة » (2).

26 - وقال (عليه السلام) : « إنّما الناس رجلان : متبع شرعة ، ومُبتدع بدعة » (3).

27 - وقال (عليه السلام) أيضاً : « طوبى لِمَن ذلّ في نفسهِ وطاب كَسبُه - إلى أنْ قال - وعزل عن الناس شرّه ووَسَعته السُنّة ولم يُنسَب إلى البدعة .. » (4).

28 - وقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه ، فإنّ الله ليبغض كل مبتدع ولا يجوز أحد منهم على الصراط ، ولكن يتهافتون في النار مثل الجراد والذباب » (5).

29 - وعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « من غشّ أُمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، قالوا : يا رسول الله وما الغش ؟ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : ان يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها .. » (6).

30 - وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله : « من أحدث حدثاً ، أو آوى محدثاً ،

ص: 23


1- نهج البلاغة : الخطبة 164.
2- نهج البلاغة : الخطبة 182.
3- المصدر السابق : الخطبة 176.
4- المصدر السابق : قسم الحكم ، الرقم 123.
5- جامع الاصول ، لابن الاثير 9 : 566. كنز العمّال ، للمتقي الهندي 1 : 221 / 1118.
6- المصدر السابق.

فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يُقبل منه عدل ولا صرف يوم القيامة ، فقيل : يا رسول الله : ما الحدث ؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من قتل نفساً بغير نفسٍ ، أو مثَّل مثلة بغير قودٍ ، أو ابتدع بدعة بغير سنة » (1).

31 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : « وأما أهل السُنّة فالمتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله ، وإن قلّوا ، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله تعالى وكتابه ولرسوله ، والعاملون برأيهم وأهوائهم ، وإنْ كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الاول ، وبقيت أفواج ، وعلى الله فضُّها واستيصالها عن جدبة الأرض .. » (2).

32 - وسأل رجل أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) عن السُنّة ، والبدعة ، والفرقة والجماعة ، فقال (عليه السلام) : « أمّا السُنّة : فسنّة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمّا البدعة ، فما خالفها ، وأمّا الفرقة ، فأهل الباطل وإنْ كثروا ، وأمّا الجماعة ، فأهل الحق وإن قلّوا .. » (3).

33 - وعنه (عليه السلام) : « .. أدنى ما يكون به العبدُ كافراً ، مَنْ زَعم أنَّ شيئاً نهى الله عنه ، أنَّ الله أمر به ونصبه ديناً يتولّى عليه ، ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به ، وإنّما يعبد الشيطان » (4).

34 - وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) : « أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً ، فيحبُّ عليه ويُبغض .. » (5).

ص: 24


1- معاني الاخبار ، للصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري : 265.
2- كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي 16 : 184 / 44216.
3- تحف العقول ، للحرّاني ، تحقيق علي أكبر الغفاري : 211.
4- الكافي ، للكليني 2 : 414 / 1 باب ادنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً.
5- ثواب الاعمال وعقابها ، للصدوق ، تحقيق علي أكبر الغفاري : 578 / 3.

كانت تلك طائفة من الاحاديث المروية عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت : ، أكد بعضها على حرمة الابتداع في الدين ، وبعضها الآخر حدد أسلوب التعامل الاجتماعي مع صاحب البدعة ، وحذَّرت طائفة أُخرى من التعامل مع صاحب البدعة.

وكل ذلك يؤكد خطورة البدعة على الدين ووحدة المسلمين.

ونجد من المناسب بعد إيراد الروايات المتقدمة استعراض ما دلّت عليه ، في نقاط :

1 - إنّ كلَّ بدعة ضلالة ، وإنّ كلَّ ضلالة في النار.

2 - روى مسلم عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان إذا خطب احمرّت عيناه .. إلى أن يقول وخير الهدي هدي محمد .. الخ ، وهذا يوضح أنَّ ثورة الغضب عند رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلوّ صوته ليس إلاّ للتصرّف المبتدع في رسالته ، وليس في مطلق شؤون الحياة.

3 - جاء في الرواية إنّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لقوم بدّلوا بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « فسحقاً » يكررها ثلاث مرات ، والمقصود بالتبديل أنهم بدّلوا في دين الله الذي جاء به الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

4 - دلّت الروايات المتقدمة على أنّ البدع إذا ظهرت فإن على العالم أن يُظهر علمه ، ليُسهم في كشف البدع وزيفها ومواجهتها ، وإلاّ فعليه لعنة الله.

5 - كما دلت على عدم قبول توبة صاحب البدعة.

6 - ودلّت أيضاً على أنَّ انتشار البدع وظهورها سيؤدي ذلك إلى ترك السُنّة وضياعها التدريجي.

ص: 25

ص: 26

الفصل الثاني: مفهوم البدعة وشروطها

اشارة

تقدّم أنَّ البدعة هي : ( إدخال ما ليس من الدين في الدين ) وبهذا يكون مفهوم البدعة متقوّماً بأمرين هما :

1 - الاختصاص بالاَُمور الشرعية.

2 - عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين.

أولاً : الاختصاص بالاَُمور الشرعية

اشارة

يختص مفهوم « البدعة » ، بالاَُمور الشرعية زيادة أو نقصاناً ، ولا يتعدى ذلك إلى الاَُمور والعادات المتغيرة ، والمباحات ، والاَعراف المتباينة لدى الناس ، ما دامت لا تُعد جزءً من الشريعة ، وعلى سبيل المثال فإنّ استعمال الإنسان الآن للأجهزة المتطورة في الكتابة كجهاز الحاسوب أو غيره من أجهزة الكتابة بعد أن كان يستخدم الدواة والقلم لا يُعدّ « بدعة » بمفهومها الشرعي ، وكذلك الأمر الآن في ركوب السيارات والطائرات بعد ركوب الدواب ، وغير ذلك.

وقد اختلفت طريقة تعامل الإنسان مع الأشياء بناءً على التطور الحاصل في جميع مرافق الحياة ، كتدوين الحديث ، وتصنيفه ، وتبويبه.

ص: 27

والاستماع إلى القرآن ، وتشييد الأماكن المقدسة ، وإقامة التجمعات الدينية ، وإنشاء المدارس والمؤسسات الإسلامية وغير ذلك مما يلبي حاجة الإنسان في زماننا المعاصر.

وهذه الاَُمور كلها لا علاقة لها بالابتداع ، وإنْ كانت أُموراً حادثةً وغير موجودة في عصر التشريع الأول ؛ لأنها مما ترك لاختيار الانسان وذوقه في انتخاب ما يناسب اسلوبه في الحياة ومرتبطة بطريقته في التعامل مع الأشياء وبقدرته على تسخير الطاقات الكامنة في هذا الوجود وتطويعها لخدمته.

وقد حاول البعض توسيع معنى « البدعة » إلى مدى أوسع ليشمل كلَّ أمرٍ حادث لم يكن قد وقع في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى وإن كان بنحوٍ من الأنحاء يهدف إلى خدمة الدين وأهدافه المقدسة.

فقد دفع التحجّر بعض هؤلاء ممن قصروا عن فهم الدين والسُنّة النبوية الشريفة إلى الاعتقاد بأنّ كل أمرٍ لا بدَّ أن يأتي فيه النص الخاص الذي يشير إليه بشكل صريح ، وأنّ كلّ ما لم يرد بشأنه دليل شرعي خاص فإنّه يندرج في قائمة الابتداع ، وكأنّ الشريعة الاسلامية عقيمة جامدة لا تمتلك الضوابط العامة والقوانين الكلية التي يمكن تطبيقها على الموضوعات والحوادث المستجدة والمتنوعة.

جاء في دائرة المعارف الإسلامية : وتطور مدلول كلمة « البدعة » ، وانقسم الناس حياله الى فريقين : الأول محافظ ، والآخر : مجدد ، وكان أتباع الفريق المحافظ أول الأمر الحنابلة بنوعٍ خاص ، ويمثلهم الآن الوهابيون ، وهذا الفريق آخذ في الزوال ، ويذهب هذا الفريق إلى أنّه

ص: 28

يجب على المؤمن أن يأخذ بالاتّباع « إتّباع السُنّة » ، وأن يرفض الابتداع ، وفريق آخر يسلّم بتغيّر البيئة والأحوال (1).

فهناك إذاً توجه متطرّف في فهم « البدعة » وإعطائه معنىً شاملاً وواسعاً ، مناقضاً للمعنى الوارد في القرآن والسُنّة النبوية الشريفة ، ومناقضاً أيضاً لمنطق العقل وسُنّة الخلق ، فهذا الاتجاه كما قلنا يطبّق مفهوم البدعة على كل أمر حادث في حياة المسلمين ويوسع دلالتها إلى مختلف شؤون الحياة بدعاوى الحرص على الدين والتقيد والاتّباع للسُنّة النبوية المطهّرة.

وهذا اللون من الفهم المغلوط والتفكير السقيم لا يعني سوى الانغلاق الكامل عن الحياة، والانزواء المطبق الذي يعزل الشريعة عن التفاعل مع حياة الناس ، بل وقيادتهم في خضم الصراعات الكبرى التي تواجهها الإنسانية.

ولكي يقف القارئ الكريم على الفهم المغلوط لمفهوم البدعة ، نورد له في هذا الباب جملة من الحوادث والروايات لرجال وأشخاص فهموا البدعة على أنّها كل أمر حادث لم يكن في عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

1 - جاء في ( الاعتصام ) أنَّ أبا نعيم الحافظ روى عن محمد بن أسلم أنّه وُلد له ولد ، قال - محمد بن القاسم الطوسي - فقال : اشترِ لي كبشين عظيمين ، ودفع لي دراهم فاشتريت له ، وأعطاني عشرة أُخرى ، وقال لي: اشتر بها دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه !

ص: 29


1- دائرة المعارف الإسلامية ، دار المعرفة 3 : 456.

قال : فنخلت الدقيق وخبزته ، ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟! وأعطاني عشرة أُخرى ، وقال اشترِ به دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه ! فخبزته وحملته إليه ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، العقيقة سُنّة ، ونخل الدقيق بدعة ! ولا ينبغي أن يكون في السُنّة بدعة ، ولم أُحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة (1).

2 - وروي أن رجلاً قال لابي بكر بن عياش : كيف أصبحت ؟ فما أجابه ، وقال دعونا من هذه البدعة (2).

3 - وروي عن أبي مصعب صاحب مالك أنّه قال : قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلّى ووضَعَ رداءه بينَ يدي الصف ، فلمّا سلَّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ، وكان قد صلّى خلف الامام ، فلّما سلَّم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ! فحُبس ، فقيل له : إنّه ابن مهدي ، فوجّه إليه وقال له : أما خفتَ الله واتّقيته أن وضعت ثوبكَ بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ؟ فبكى ابن مهدي ، وآلى على نفسه أن لايفعل ذلك أبداً في مسجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا في غيره (3).

4 - ويقول ابن الحاج : وقد منع علماؤنا رحمة الله عليهم المراوح ، إذ

ص: 30


1- الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 2 : 74.
2- احياء علوم الدين ، لابي حامد الغزالي 2 : 251 كتاب العزلة.
3- الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 116.

إنَّ اتخاذها في المساجد بدعة (1) !!

5 - ويقول أيضاً : إنّ المصافحة بعد الصلاة بدعة ، وينبغي له - يقصد إمام الجماعة - أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الجمعة ، بل زاد بعضهم في هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمسة ، وذلك كله بدعة (2) !!

ومما تقدم من الشواهد والأمثلة تتوضح معالم الفهم الخاطئ لمعنى البدعة ، وأنّه ناشئ من الاعتقاد بأن كل أمر حادث لم يكن موجوداً في عصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم يرد بخصوصه نصٌّ معين يخصّه بالذكر ، فهو داخل في دائرة الابتداع.

ومن هنا صار نخلُ الدقيق وتنقيته من الشوائب من البدع في الدين ، وكذلك وضع الرداء بين يدي الصف في الصلاة من البدع التي تاب عن فعلها صاحبها !! ويلحق بذلك عند هؤلاء التحية بعبارة ( كيف أصبحت ) والمصافحة بعد الصلاة ، واستخدام المراوح في المساجد أيضاً ، فهذه وأمثالها عندهم كلها بدع.

أصل هذا الفهم :

إنّ هذا الفهم الخاطئ « للبدعة » لم يتأت من فراغ ، بل جاء من الاعتقاد بنظرية غريبة ، وهي أنّ البدعة هي ما لم يكن موجوداً في القرون الثلاثة بعد رحيل النبي

ص: 31


1- المدخل ، لابن الحاج 2 : 217.
2- المصدر السابق 2 : 219.

يقول صاحب الهديّة السنية : « ومما نحن عليه ، أنّ البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال: حسنة وقبيحة ، ولمن قسّمها خمسة أقسام ، إلاّ إن أمكن الجمع بأن يقال : الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة ، وتكون تسميتها بدعة مجازاً ، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة والمكروهة ، فلا بأس بهذا الجمع .. » (1).

إنّ هذه النظرية الشاذة الغريبة اعتمدت حسب ما يبدو على روايات وردت في فضل أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقد روى البخاري عن عمران بن الحصين ، يقول : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : خير أُمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثم إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ (2).

وروى أيضاً عن عبد الله إنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ، قال : قال إبراهيم : وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار ) (3).

ص: 32


1- الهدية السنية ، الرسالة الثانية : 51.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني 7 : 6 باب فضائل أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .
3- المصدر السابق.

إنّ الاحتجاج بهذه الروايات على أنّها الميزان في تمييز البدعة عن السُنّة باطل من عدّة وجوه :

الأول : إنّ القرن في اللغة هو النسل (1) ، وقد استُعمل هذا المعنى في القرآن الكريم ، قال سبحانه وتعالى : ( فَأهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأنشأنَا مِنْ بَعدِهِم قَرناً آخَرِينَ ) (2).

والمتعارف أنّ معدل عمر كل نسلٍ أو جيل هو الستون أو السبعون من السنين ، فيكون المراد من تلك الروايات ، مجموع تلك السنين وهو يتراوح بين 180 و 210 سنة فأين ذلك من تفسير الحديث المار بثلاثمائة سنة.

الثاني : إنّ شرّاح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية ، ومع ذلك فإنّ كلّ التفاسير لا يستفاد منها ما تبنّاه الكاتب من أن القرون الثلاثة هي ثلاثمائة سنة ، فهناك من يقول إنّ المراد في قوله : « قرني » هو أصحابه ومن « الذين يلونهم » أبناءهم ومن « الثالث » أبناء أبنائهم .. وغيره يقول بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته ، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه ، ثم كذلك.

ويقول ثالث : إنّ قرنه هم الصحابة ، والثاني التابعون ، والثالث تابعوهم (3).

وعلى كلِّ التفاسير المارة فإنّ المدّة المفترضة هي أقل من ثلاثمائة سنة، فإذا أخذنا بالقول الأخير وهو أعم الأقوال وأكثرها سعة من ناحية الامتداد الزمني ، فإنَّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته ، فقد قيل أنّه توفي في سنة 120 ه أو قبلها أو

ص: 33


1- العين ، للخليل. اللسان ، لابن منظور ، مادة ( قران ).
2- الانعام 6 : 6.
3- شرح صحيح مسلم ، للنووي 16 : 85.

بعدها بقليل ، وأما قرن التابعين فآخر من توفي منهم كان عام 170 ه أو 180 ه وآخر من عاش من أتباع التابعين ممن يُقبل قوله قد توفي حدود سنة 220 ه ، فيقل تاريخ وفاته بثمانين سنة عن الثلاثمائة سنة وهو زمن كثير. وهذا مااعتمده ابن حجر العسقلاني ، فقال : وفي هذا الوقت « 220 ه » ظهرت البدع فاشياً ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رؤوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الأمر في نقصٍ إلى الآن (1).

ويزيد الأمر وضوحاً أنّ الحديث المروي قد اعتمد في تمييز القرن عن القرن الآخر الأشخاص حسب طبقاتهم ، حيثُ قال : « خير أُمتي قرني » ولم يقل القرن الأول ، ثم قال : « ثم الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثاني ، وأخيراً قال : « ثم الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثالث ، والأمر هنا واضح الدلالة بما لا مزيد عليه من أنّ المحور في تعيين القرن هم الأشخاص.

الثالث : ماذا يُراد من خير القرون وشرّها ، وما هو المقياس في الوصف بالخير والشر ؟

إنّ هناك ثلاثة مقاييس يمكن استخدامها في وصف أمرٍ بالخير أو بالشر هي : -

1 - إنّ أهل القرن الأول كانوا خير القرون لأنّهم لم يختلفوا في الاُصول والعقائد.

2 - إنّهم خير القرون لأنّهم كانوا جميعاً يعيشون تحت ظل الأمن

ص: 34


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني 7 : 4.

والسلم والطمأنينة.

3 - إنّهم خير القرون لأنّهم تمسكوا بأهداف الدين وحققوا أهدافه على الصعيد العملي والتطبيقي.

إنّ كلّ واحد من هذه الافتراضات بكذبه القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ووقائع التاريخ.

فإذا كان المقياس هو العقائد الصحيحة ، وأنَّ المسلمين كانوا كلهم متمسكين بمعتقد واحد صحيح طيلة القرون الثلاثة الاُولى ، وأنّ العقائد الباطلة والفاسدة ظهرت بعد تلك القرون ، فإنّ تاريخ ظهور الملل والنحل في المجتمع الإسلامي يكذّب ذلك الادعاء والتفسير ، فقد ظهر الخوارج في أواخر الثلاثينات الهجرية وكانت لهم عقائد سخيفة خضّبوا بسببها وجه الأرض بالدم وقتلوا الاَبرياء ، ولم تكتمل المائة الاُولى حتى ظهرت المرجئة الذين دعوا المسلمين إلى التحلل من الضوابط والالتزامات الشرعية ، رافعين عقيرتهم بالنداء بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية !

ولم يمضِ وقت طويل على ظهورهم حتى ظهر المعتزلة عام 105 ه قبل وفاة الحسن البصري بقليل ، فتوسع الشقاق بين المسلمين.

لقد شهدت المائة الهجرية الثانية توسع الأبحاث الكلامية وانبعاث المذاهب المتعددة ، وأصبحت حواضر العالم الإسلامي ميداناً واسعاً لتضارب الآراء وصراع الأفكار.

فمن متزمتٍ يقتصر في وصفه سبحانه وتعالى على الألفاظ الواردة في القرآن الكريم ويفسّرها بمعانيها الحرفية ، من دون إمعان أو تدبر فلا يخجل من الادعاء بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقر على عرشه

ص: 35

كما يستقر أي موجود مادي.

إلى مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول بل ويقدّمه ، ويؤخر العمل ويسوق الاُمّة إلى التحلل الخلقي وترك الفرائض والواجبات ، إلى محكِّم يُكفّر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته ، إلى معتزلي يؤوّل الكتاب والسُنّة إلى ما يوافق معتقده وعقليته ، إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي طعنت وحدة الاُمّة الإسلامية بالصميم.

وأما إذا كان المقياس هو سيادة الأمن والاستقرار والسلم والطمأنينة على المجتمع الإسلامي ، فإنَّ وقائع التاريخ تكذّب ذلك أيما تكذيب ، فقد كان القرن الأول صفحة تلطّخت بالدم الذي سال من المسلمين ، ففي هذا القرن وقعت حرب الجمل ، وفيه خرج معاوية على إمام زمانه أمير المؤمنين (عليه السلام) فوقعت معركة صفين ، وفيه قُتل في محرابه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

وفيه ظهر الخوارج وارتكبوا ما ارتكبوا من أبشع الجرائم.

وفيه أيضاً قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) سبط الرسول الاَعظم وسيد شباب أهل الجنة.

وفيه استبيحت المدينة بأمر يزيد بن معاوية فقتل من الصحابة والتابعين عدد كبير ونهبت الأموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض.

وفيه حوصرت مكة وضربت الكعبة بالمنجنيق.

لقد وقع كل ذلك قبل أن تتم المائة الاُولى سنينها ، فكيف يمكن أن

ص: 36

يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها ، صحيح إنَّ في وجود الرسول الأكرم والطاهرين من أهل بيته والصالحين من أصحابه الخير كل الخير ، لكن الحديث المذكور يشير إلى الأشخاص « الأصحاب » الذين كانوا هم أنفسهم وراء الكثير من الأحداث الدموية.

وإذا كان المقياس هو التمسك بالدين والالتزام بالتعاليم التي جاء بها الرسول الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلا ندري هل نصدّق الحديثين السابقين اللذين رواهما الشيخان ، أم نصدّق بما أخرجاه معاً في مكان آخر ، قالا : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فَيُحَلَّؤون عن الحوض ، فأقول : يا ربي أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري » (1).

أم نؤمن بالحديث الذي تقدم في فصول الكتاب من أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لجملة من أصحابه يوم القيامة : « فسحقاً » يكررها ثلاث مرات ؟

وكيف نؤمن بذلك والقرآن الذي نزل تعرّض إلى جملة ممن عاصروا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فوصفهم بالمنافقين (2) ، والمختفين به (3) ، ومرضى القلوب (4) ، والسماعين ، كالريشة في مهب الريح (5) ، والمشرفين على الارتداد (6) ، والمسلمين غير المؤمنين (7) ، والمؤلفة

ص: 37


1- جامع الاصول ، لابن الاثير 10 : 469 / 7998 طبعة دار الفكر.
2- المنافقون 63 : 1 - 8.
3- التوبة 9 : 101.
4- الاحزاب 33 : 12.
5- التوبة 9 : 45 - 47.
6- آل عمران 3 : 154.
7- الحجرات 49 : 14.

قلوبهم (1) ، والمولّين أدبارهم أمام الكفار (2) ، والفاسقين (3).

وكيف يا ترى مع وجود كل هذه النعوت والاوصاف التي أطلقها القرآن الكريم على أشخاص أو مجموعات من الناس كانت تعيش في أوساط المسلمين وتجتمع باجتماعهم ، يصف الرسول تلك القرون بأنّها خير القرون ؟!

إنّ الذي يبدو واضحاً أنّ الحديث موضوع من أجل هدف خطير ، وهو تصحيح كل أفعال السلف وجعلهم معياراً فاصلاً بين الحق والباطل ، فما فعلوه فهو الحق وما تركوه هو الباطل !!

ونحن نعتقد أنّ عمل السلف ليس مصدراً من مصادر التشريع كما صوّره البعض وبنوا عليه كثيراً من الأحكام الشرعية التفصيلية ، مع أنّه ليس هناك أي دليل يشير إلى اعتبار فعل السلف وحجيته في مجال الأحكام الشرعية.

إنّ قبول ذلك المعيار يعني استسلام الشريعة المقدسة إلى البدع والمحدثات ، واختلاط الحرام بالحلال ، والوقوع في تناقضات أفعال السلف التي طفحت بها كتب الرواية والحديث والوقائع التاريخية.

والأمر الوحيد الذي نمتلكه بهذا الصدد ، هو أنّ فعل المتشرعة الذين يمثلون الطبقة الطليعية في المجتمع الإسلامي ، والذين يحكي تصرفهم وسلوكهم عن واقع الأحكام الشرعية ، باعتبار حرصهم على تطبيق

ص: 38


1- التوبة 9 : 60.
2- الانفال 8 : 16.
3- الحجرات 49 : 6.

تعاليمها ، والجري على منهجها ، إنّما هو حجة من ناحية كونه كاشفاً عن تلقّي الأمر عن مصدر التشريع.

ومن الواضح إنَّ هذه الدائرة لا يمكن أن تشمل في إطارها جميع أفعال السلف ، بل انّها تقتصر في حجيتها على حدود خاصة منهم.

إنَّ افتراض الحجية لجميع أفعال السلف كلهم ، يتناقض مع كونهم لم يقدّموا للاُمّة أمراً أجمعوا رأيهم عليه بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ومن يتصفح كتب التاريخ الإسلامي والوقائع والأحداث ونشوء المدارس وتنوع الاجتهادات وتضاربها لا يخالطه في ذلك ريب.

فكيف يكون المختلفون كلهم حجة على من أعقبهم من الاُمّة ، مع أنّ الاختلاف بينهم كان بعضه بمقدار ما بين الجنة والنار من مسافة واختلاف ؟!

ثانياً : عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين

اشارة

وهذا القيد يعتبر من أوضح القيود التي تشخّص البدعة وتحددها ، إذ إنّ من الشروط الأساسية التي تُدخل « الأمر الحادث » ضمن دائرة الابتداع هو أن لا يكون لهذا العمل أصل في الدين لا على نحو الخصوص ولا على وجه العموم ..

قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (1).

ص: 39


1- الانعام 6 : 21.

ويقول عزَّ من قائل : (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (1).

وواضحة دلالة الآيتين الشريفتين على أن هناك من يحاول إدخال ما ليس من الدين أو الشرع أو أوامر الله سبحانه وتعالى في الدين.

إنّ « الأمر الحادث » هو الأمر الذي يقع في زمن غياب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بحيث لا نملك اتجاهه سُنّة نبوية معروفة ، وإلاّ لكان من السُنّة وخرج عن كونه أمراً حادثاً ، ولذا فإن وجدنا دليلاً خاصاً ينطبق عليه ويحدد الموقف منه فإنَّ هذا الدليل يُخرج هذا الأمر عن دائرة الابتداع ، ويدخله ضمن دائرة السُنّة والتشريع.

وكذلك الأمر لو وجدنا دليلاً عاماً يمكن تطبيقه على هذا الأمر الحادث ، فإنّه سيخرجه عن حدِّ الابتداع أيضاً.

وكلّ ذلك منوط بصحة الأدلة الخاصة والعامّة وصحة صدورها من الشارع المقدّس ، لكي يتحقق ارتباط الأمر الحادث بالدين على نحو القطع واليقين.

ولتوضيح فكرة الدليل الخاص والدليل العام على الأمر الحادث سنورد المثال التالي :

استثناء ما ورد فيه دليل خاص :

إنّ ورود دليل شرعي خاص بخصوص أمرٍ معيّن ، وإن لم يقع في حياة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإنَّ هذا الأمر يأخذ موقعه في كونه جزءاً من التشريع بالعنوان الذي يذكره الدليل الخاص ، ويخرج بذلك عن دائرة الابتداع ، إذ

ص: 40


1- يونس 10 : 59.

المقياس ليس وقوعه أو عدم وقوعه في عصر التشريع، بل المقياس هو انطباق الدليل الخاص عليه أم عدمه.

وسنوضح هذه الفكرة من خلال عدّة نماذج :

1 - تعتبر صلاة الآيات بالأدلة الشرعية واجبة عند حدوث الظواهر الطبيعية المخوفة كالزلزال وغيره ، فإذا افترضنا أنّ زلزالاً لم يقع طيلة حياة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) أو طيلة عصر التشريع ، وأنّ هذا الزلزال وقع بعد حياته (صلی الله عليه وآله وسلم) وانقطاع الوحي الإلهي ، فإنّ القول بوجوب أداء صلاة الآيات والمتعلقة في هذه الحالة « بالزلزلة » لا يُعدّ بدعة بحجة أنّ هذا الأمر حادث ولم يقع في زمن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) !! ، بل إنّه هنا من صميم السُنّة الشريفة ، لأنه وجب عن طريق الدليل الشرعي الخاص ، غاية الأمر أنّه لم يقع في زمن التشريع أو في زمن حياة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) .

2 - ومن أمثلة الدليل الخاص أيضاً ما ورد من النصوص الشرعية التي تحرّم على الرجل أن يتزيّى بزي النساء ، وتحرم على المرأة ان تتزيّى بزي الرجال.

عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إنّه قال : « لعنَ اللهُ الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل » (1).

وعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) : « ليس منّا من تشبّه بالرجال من النساء ، ولا من تشبّه بالنساء من الرجال » (2).

ص: 41


1- كنز العمال 8 : 323 / 41235.
2- كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي 8 : 324 / 41237.

إنّ تشبّه الرجال بالنساء ، وتشبّه النساء بالرجال أخذ عنوانه الشرعي بالحرمة من خلال نصه الخاص ، وتحريمه بعد وقوعه عقب زمن التشريع لا معنى لجعله ضمن دائرة « البدعة » ، بل إنّ تحريمه يُعتبر من صميم التشريع لورود الدليل الخاص فيه.

وخلاصة القول : إنّ النصّ الخاص هو جزء من التشريع ، وإن كان الأمر الذي ورد فيه ذلك النص لم يحدث إلاّ بعد عصر التشريع.

ص: 42

تقسيم البدعة

لقد تقدّم في تعريف البدعة أنّها الزيادة في الدين أو النقصان منه ، وبعبارة أُخرى إدخال ما ليس من الدين في الدين كاباحة محرّم أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب. وهو كما ترى يعتمد على محور الاضافة والحذف.

ومع هذا التعريف هل يمكن تقسيم البدعة الى حسنة وسيئة ؟

وقبل الاجابة التفصيلية على هذا السؤال يحسن أن نشير إلى أنَّ القول بتقسيم البدعة الى حسنة وسيئة يقوم على أساس عدم التفريق ، أو الخلط بين البدعة بمعناها اللغوي - والتي هي بمعنى إحداث شيء ليس على مثال سابق - وبين معناها الاصطلاحي الشرعي ، والذي هو بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وإنقاص أمر من الدين على أنه ليس منه.

إنَّ الأمر المحدث لا على مثال سابق يحتمل أن يكون مذموماً وأن يكون ممدوحاً أيضاً حسب موقعه انسجاماً أو تقاطعاً مع تعاليم الشريعة المقدسة.

إنّ البدعة بمعناها اللغوي تنسجم مع طبيعة تطور الحياة وتنوع حاجات الإنسان على مرّ العصور ، فما كان سائداً من طريقة للكتابة وأدواتها في العصور الاَُولى تطور عبر الازمان والاعصار وأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم.

ص: 43

إنّ البدعة بالمعنى اللغوي قد تكون لها علاقة بالدين وقد لا تكون كذلك ، وهي تنقسم إلى قسمين ، إذ إن كلّ شيء محدث مفيد للحياة الانسانية من العادات والتقاليد والرسوم إذا تم أداءه من دون اعتباره جزء من الدين ولم يكن محرّماً « بذاته » كان بدعة حسنة ، مثل الاحتفال بيوم الاستقلال ، أو الاجتماع للبراءة من المشركين ، أو الاحتفال التأبيني لتكريم بطل من أبطال الاُمّة ، وبشكل عام فإنّ ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتفق عليه الاُمّة وتتخذه عادة متبعةً في المناسبات ، ما لم يرد فيه نهي فهو بهذا المعنى بدعة لغوية.

أما إذا كان محرّماً « بالذات » مثل سفور النساء أمام الرجال ، فلو أصبح ذلك رائجاً واتخذ عادة وتقليداً ، فانّه أمر محرّم بالذات ، أي أنّه عصيان للأمر الإلهي والتشريع ، وهذه الحرمة لا تتأتى من كونه بدعة بالمعنى الشرعي بمعنى التدخل في أمر الدين وإنكار أنّ الحجاب جزء من التشريع الديني ، فالقائلون بالسفور يحتجون بأنّ ذلك جزء من مقتضيات العصر والحضارة مع الاعتراف بأنّه مخالف للشريعة ، ولو قيل أنّ السفور بدعة قبيحة فذلك بمعناها اللغوي لا بمعناها الشرعي.

ويتضح من خلال ذلك أنَّ أكثر الذين أطنبوا في الحديث في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة قد خلطوا بين المعنى اللغوي للبدعة وبين معناها الشرعي ، مستشهدين بذلك بأمثلة زاعمين أنّها من البدع بمعناها الشرعي مع أنّ أمرها يدور بين أمرين :

فهي أما أن يُعمل بها باسم الدين والشريعة ، ويكون لها أصل فيهما ، فتخرج بذلك عن دائرة البدعة ، مثل تدوين الكتاب والسُنّة إذا توفرت الخشية عليهما من التلف والضياع ، وبناء المدارس وغيرها ، فمثّلوا

ص: 44

للبدعة الواجبة بالتدوين ، وللبدعة المستحبة ببناء المدارس ، مع أنّهما ليسا من البدعة بمعناها الشرعي ، لوجود أصل صالح لهما في الشريعة.

أو أنّها عمل عادي يتم العمل بها ليس باسم الدين بل من أجل ضرورات تطور الحياة وطلب الراحة ، فتكون خارجة عن موضوع البدعة بمعناها الشرعي أيضاً مثل نخل الدقيق ، فقد ورد أنّ أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) اتخاذ المناخل ولين العيش من المباحات. وهذه حالة يصح إطلاق البدعة عليها بمعناها اللغوي ، أي الاتيان بشيء جديد لاعلى مثال سابق.

وقد وافق هذا القول جملة من المحققين منهم الشاطبي ، قال : إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يُذم ، إذ لايصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع .. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور ، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها إذ لو قال الشارع : « المحدثة الفلانية حسنة » لصارت مشروعة ، ولمّا ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل حيثُ اتصف بها المتصف ، فهو إذن المذموم على الحقيقة ، والذم خاصة التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الاطلاق والعموم (1) .

ص: 45


1- الاعتصام ، للشاطبي 1 : 142.

وقال العلاّمة المجلسي : إحداث أمر لم يرد فيه نص بدعة ، سواء كان أصلهُ مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فما يقال : إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمرٌ باطل ، إذ لا تطلق البدعة إلاّ على ما كان محرّماً كما قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار » (1).

أدلة عدم جواز تقسيم البدعة :

وأما الأدلة على عدم جواز تقسيم البدعة فسوف نعرض أهمها ، وكما يأتي :

الدليل الأول : إنّ التدقيق في المعنى الاصطلاحي لمفهوم البدعة الذي ورد مستفيضاً في النصوص الشرعية ، يقضي بعدم إمكانية تقسيم البدعة ، فالبدعة في الاصطلاح الشرعي هي : « إدخال ما ليس من الدين فيه » وقد مرَّ ذلك ، ويعني هذا أنّ البدعة إنّما تكون « بدعة » عندما تأخذ صفة التشريع الوضعي في مقابل التشريع الإلهي المقدس ، فهل يمكن أن نتصور أنّ هناك قسماً من « البدعة » ممدوح ، وهو يمثل محاولة لتقويض الدين وقوانينه ؟ وهل يدخل تحت واحد من الأحكام الشرعية الخمسة سوى التحريم ؟

إنّ شأن الابتداع في المصطلح الشرعي شأن الكذب على الله ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فهل يعقل أن يكون هناك لون ممدوح من الكذب على الله ورسوله ؟

إنّ البدعة في الاصطلاح الشرعي تأبى التقسيم ، وهي محرّمة مطلقاً

ص: 46


1- البحار ، للمجلسي 2 : 303 / 43.

لأنها - كما علمت - تدخّل صريح في التشريع الإلهي وتلاعب فيه.

الدليل الثاني : إنَّ جوّ النصوص التي تحدثت عن البدعة ، جوّ يفيض بالذمّ والتهديد والوعيد للمبتدع ، فقد مرّت علينا النصوص التي جعلت البدعة ندّاً مقابلاً للسنة ، وضداً لا يلتقي معها أبداً ، وذمت المبتدع وكالت له أنواع الذم والتوبيخ والتقريع والتهديد ، وأوعدته بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، بل دعت الناس إلى مقاطعته وهجرانه وهددت بالعذاب من يلقاه بوجه صبوح ، وقالت بعدم قبول توبته ، وهذا من أقسى أنواع التهديد والعقاب. ومع وجود كلّ هذه الألوان من التهديد والوعيد ، فهل يمكن أن يكون هناك نوع ممدوح من البدعة ؟ إنّ البدعة معصية ولم يسمع أحد أنّ الله أو رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد مدح المعصية.

واقتصار النصوص الواردة في ذكر البدعة على الذمّ والانتقاد الشديد يبطل مقولة البدعة الحسنة فلو كان هناك نحو من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة حتى لو كانت جزئية ، لما تجاوزتها الشريعة المقدسة أو تجاهلتها.

إنّ هناك صفات وأعمالاً تناولتها النصوص الصريحة من الكتاب والسُنّة الشريفة ، بالذم الشديد والتحذير لفاعليها ، مثل صفة « الكذب » إلاّ أنّ الشريعة لم تتجاهل في الوقت نفسه بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم ، حتى إننا نرى أنَّ هناك نصوصاً في الشريعة شديدة الصراحة على استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم ، إذ قد يخرج الكذب من دائرة التحريم الى دائرة الوجوب ، فيما لو توقف عليه صيانة نفس مؤمنة من القتل أو الهلاك.

ص: 47

وكذلك الأمر مع « الغيبة » هذه الخصلة المذمومة الممقوتة في نظر الشريعة ، إذ ورد الحكم في جوازها في بعض الموارد كجواز اغتياب الفاسق المتجاهر بالفسق.

الدليل الثالث : ورد في الحديث المتّفق عليه عند الفريقين أنَّ الرسول محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: « .. ألا وكل بدعة ضلالة ، ألا وكل ضلالة في النار » (1). وورد بلفظ آخر : « فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة تسير إلى النار » (2).

ودلالة الحديث بلفظيه على شمول جميع أنواع البدع بإنّها ضلالة لا تحتاج منا إلى المزيد من الايضاح ، ولا تقبل الجدل والإنكار.

مواقف العلماء من تقسيم البدعة

ما تقدم كان استعراضاً للأدلة على عدم جواز تقسيم البدعة إلى مذمومة وحسنة ، وننقل القارئ الكريم الآن إلى مطالعة النصوص التالية لعلماء من الفريقين قالوا بعدم جواز تقسيم البدعة :

1 - الحافظ ابن رجب الحنبلي ، قال : « والمراد بالبدعة : ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه ، فليس ببدعة شرعاً ، وإن كان بدعة لغة » (3). ويضيف قائلاً : « فقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) « كلّ بدعة ضلالة » من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أحدث في أمرنا هذا

ص: 48


1- بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 263 / 12 كتاب العلم باب 32.
2- كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي 1 : 221 / 1113.
3- الاساس في السُنة وفقهها ، لسعيد حوّى : 361 ، عن جوامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي : 333.

ما ليس منه فهو ردٌّ » ، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء من ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة » (1).

2 - ابن حجر العسقلاني ، قال : المحدَثات ، جمع مُحدَثة ، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع ( بدعة ) ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فإنّ كل شيء أُحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً ، وكذا القول في المحدثة ، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة : ( ما أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) (2).

3 - أبو اسحاق الشاطبي : يقول بشأن النصوص الشرعية التي تناولت مفهوم البدعة بالذم : « إنّها جاءت مطلقة عامة على كثرتها ، لم يقع فيها استثناء البته ، ولم يأتِ فيها مما يقتضي أنَّ منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كل بدعةٍ ضلالة إلاّ كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك مُحدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان ، أو أنّها لاحقة بالمشروعات لذُكر ذلك في آيةٍ أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدلَّ على أنّ تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها في الكلّية ، التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد .. إنَّ متعقَّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن

ص: 49


1- البدعة - تعريفها - أنواعها - أحكامها ، لصالح الفوزان : 8.
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني 4 : 252.

ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يُمدح وما يُذم » (1).

ثم يقول منتقداً رأي القائلين بتقسيم البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة : « إنَّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي ، لامن نصوص الشرع ، ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ ، أو إباحةٍ ، لما كان ثَمَّ بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها ، أو المُخيّر فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً ، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها ، أو ندبها ، أو إباحتها ، جمع بين مُتنافيين » (2).

4 - الشهيد الأول : قال في ( قواعده ) : « محدثات الاَُمور بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تنقسم أقساماً ، لا تطلق اسم البدعة عندنا إلاّ على ما هو محرم منها .. » (3).

5 - العلاّمة الشيخ محمد باقر المجلسي ، يقول في توضيح قوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « كل بدعة ضلالة » « يدلُّ على أنَّ قسمة بعض أصحابنا البدعة إلى أقسام تبعاً للعامة باطل فإنها إنما تطلق في الشرع على قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ قرر في الدين ، ولم يرد فيه من الشارع شيء ، لاخصوصاً ولا عموماً ، ومثل هذا لا يكون إلاّ حراماً ، أو افتراءً على الله ورسوله .. » (4).

ص: 50


1- الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 141.
2- الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 191 - 192.
3- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ، لمحمدباقر المجلسي 1 : 193.
4- بحار الانوار ، للمجلسي 71 : 203.

الفصل الثالث: أسباب نشوء البدعة

اشارة

إنّ ما قدمناه من الأحاديث والروايات قد يعطينا تصوراً كاملاً عن خطورة هذا الأمر من خلال شدّة التحذير من الابتداع ، بل وحتى من مرافقة المبتدعين .. كل ذلك من أجل أن تعي الاُمّة أيَّ خطر يتهددها إنْ هي سارت وراء المبتدعين والمحدِثين في الدين.

روي عن ابن مسعود أنّه قال : « خط رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خطاً بيده ، ثم قال : « هذا سبيل الله مستقيماً » ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك وعن شماله ثم قال : « وهذه السُبل ، ليس من سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ : ( وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ) » (1).

ويروى عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يذكّر الاُمّة بالسنن التاريخية وما جرى على الاُمم السابقة ، قوله : « كل ما كان في الاُمم السالفة فإنَّه يكون في هذه الاُمّة مثله، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة » (2).

ص: 51


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، لجلال الدين السيوطي 3 : 56. والآية من سورة الانعام 6 : 153.
2- بحار الانوار ، للمجلسي 28 : 10 / 15 باب 1. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : حذو النعل بالنعل والقُذّة«، «مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان» والقُذّة: ريشة الطائر کالنسر والصقر.

ويقول (صلی الله عليه وآله وسلم) مفسراً قوله تعالى : ( لَتَركَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) « حالاً بعد حال ، لتركبنَّ سُنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقُذّة بالقُذّة ، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ ، شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتى إنّه لو كان مَن قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله ؟ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : فمن أعني ؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الاَمانة ، وآخره الصلاة » (1).

لقد بلّغ الرسول الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) الرسالة على أكمل وجه وكانت أفعاله وسنّته الشريفة محطّ أنظار المسلمين مما لا يدع المجال للاجتهادات الشخصية أو الاختلاف ، فلماذا إذن حدثت البدع من بعده ؟

هذا هو السؤال الذي سنحاول اكتشاف جوابه في النقاط الآتية :

أولاً : توّهم المبالغة في التعبّد لله تعالى :

ونعني بذلك الخروج عن الحدّ المعقول في التعبّد لله تعالى ، أو بعبارة أُخرى الاتيان بشيء مخالف لتعاليم الشريعة تحت عنوان الاجتهاد في العبادة لله تعالى ومن أمثلة ذلك :

1 - استأذن عثمان بن مظعون النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في الاستخصاء ، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : « ليس منّا من خصي أو اختصى ، إنَّ اختصاء أُمّتي الصيام ، إلى أن قال : ائذن لي في الترهب ، قال : إنَّ ترّهب أُمتي الجلوس في

ص: 52


1- بحار الانوار ، للمجلسي 28 : 80 / 11 باب 1 كتاب الفتن والمحن. والآية من سورة الانشقاق 4 : 19.

المساجد لانتظار الصلاة » (1).

ونحن نسأل عن هذا الدافع الذي يدفع ابن مظعون ليطلب من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يخصي نفسه أو أن يترهب ! إنّه ليس له من دافع سوى أنّه يرى أنّ ممارسة الحياة الاجتماعية على طبيعتها إنّما يكون سبباً لانصراف الانسان عن التوجه نحو العبودية لله سبحانه وتعالى ! لكن أليس ذلك تطرّفاً في فهم العبودية لله ؟ كل ذلك يجري والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيٌّ بينهم وهم يشهدون سيرته وهو أعظم الناس عبودية لربّه وأعظمهم معرفة به وقرباً إليه.

2 - ونظير ذلك ما رواه الكليني عن الامام الصادق (عليه السلام) قال : .. « إنَّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر ، فشرب وأفطر ، ثم أفطر الناس معه ، وثَمَّ أُناس على صومهم ، فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) » (2).

فهل في موقف هؤلاء العجيب ما يمكن تفسيره سوى ظنّهم أنَّهم ببقائهم على صيامهم يتقربون أكثر إلى الله ؟! وهم إنّما يخالفون حكماً حكم به رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) !

3 - روى جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان في سفر فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « ما هذا ؟» قالوا : صائم ، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « ليس من البرِّ الصيام في السفر » (3).

ص: 53


1- الاعتصام ، للشاطبي 1 : 325.
2- الكافي ، للكليني 4 : 127 / 5 باب كراهية الصوم في السفر.
3- مسند أحمد 3 : 319 و 399.

إنّ الانسان الساذج الذي لا يفهم الدين بصورة صحيحة يتخيّل أنّه لو بقي على صيامه في السفر فإنَّ عمله سيكون أكثر قبولاً عند الله تبارك وتعالى ، لأنه تحمل فيه مشقّة أكبر !

4 - والأعجب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ : إنّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : « ما بال هذا » ؟ قالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظلّ من الشمس ، ولا يجلس ، ويصوم. فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « مروه فليتكلم وليستظلّ وليجلس وليتم صيامه » (1).

5 - وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم : دخل أبو بكر على امرأة .. فرآها لا تكلَّمُ فقال : ما لها لا تَكلَّمُ ؟ قالوا : حجَّت مُصمتة ، قال لها : تكلمي فإنّ هذا لا يحلّ ، هذا من عمل الجاهلية فتكلّمت .. (2).

6 - وروي عن الزبير بن بكّار أنّه قال : « سمعتُ مالك بن أنس وقد أتاهُ رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة ، من حيثُ أحرم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) .. ، قال : فإنّي أُريد أن اُحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإنّي أخشى عليك الفتنة. فقال : وأي فتنةٍ هذه ؟ إنّما هي أميال أزيدها ! قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنّك سبقتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟ إنّي سمعتُ الله يقول : ( .. فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أليمٌ ) (3).

7 - « روي أن سلمان الفارسي 2 جاء زائراً لأبي الدرداء فوجد أُمَّ

ص: 54


1- موطأ مالك : 309 / 9 كتاب الايمان والنذور ، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت.
2- صحيح البخاري 5 : 52 باب أيام الجاهلية ، ط مؤسسة التاريخ العربي.
3- الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 132. والآية من سورة النور 24 : 63.

الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنكِ ؟ قالت : إن أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا.

فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقرَّب إليه طعاماً ، فقال لسلمان : أطعم ، فقال : إنّي صائم. قال : أقسمت عليك إلاّ ما طعمت. فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل ، وبات عنده ، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء ، فحبسه سلمان ، وقال : يا أبا الدرداء ، إنّ لربّك عليكَ حقاً ، وانَّ لجسدك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فصُم وافطر ، وصلِّ ونم ، واعطِ كلَّ ذي حقٍ حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فأخبره بما قال سلمان ، فقال له مثل قول سلمان » (1).

8 - في حديث طويل عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الصحابي سعد بن أشجع قال : إنّي أُشهد الله ، وأُشهد رسوله ، ومن حضرني ، أنّ نوم الليل عليَّ حرام ، والأكل بالنهار عليَّ حرام ، ولباس الليل عليَّ حرام ، ومخالطة الناس عليَّ حرام ، وإتيان النساء عليَّ حرام ، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا سعد لم تصنع شيئاً ، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، إذا لم تخالط الناس ، وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة ، نَمْ بالليل ، وكُل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً، أو حريراً ، أو معصفراً ، وآتِ النساء .. » (2).

9 - روي عن أنس أنّه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، يسألون عن عبادة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما أُخبروا ، كأنّهم استقلّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ، قال أحدهم :

ص: 55


1- بحار الانوار ، للمجلسي 67 : 128 / 14 باب 51 عن تنبيه الخواطر 1 : 2.
2- بحار الانوار ، للمجلسي 67 : 128 - 129 / 15 باب 51 عن نوادر الراوندي : 25 - 26.

أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال : « أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنّي لاَخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم ، وأفطر ، وأُصلي ، وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .. » (1).

هكذا يتوهّم هؤلاء أنّهم بقيامهم ببعض الأعمال ذات الطابع العبادي ، يجهدون بها أنفسهم ، إنّما يتقربون بذلك إلى الله أكثر مما لو اقتصروا على ماجاءت به الشريعة من الأعمال العبادية.

ومثلما يتحدث القرآن الكريم عن الجهاد في سبيل الله ، فإنّه يتحدث أيضاً عن نصيب الحياة الذي يجب ان يأخذه الإنسان من دُنياه : ( قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُلْ هِيَ للَّذينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ .. ) (2).

إنَّ القرآن الكريم وفي أماكن متعددة يشجب ظاهرة الرهبنة وتحميل النفس للمشاق والصعوبات البالغة مما لم يأمر به الله سبحانه وتعالى ، وفي مقابل ذلك وجّه الانسان والمجتمع نحو السلوك المتوازن الذي يحفظ معاً حقّ الله وحقَّ الناس وحقّ النفس.

إنَّ ظاهرة الرهبنة تعبّر عن أوضح صورة لاعتزال الحياة وبالتالي انصراف الانسان عن دوره الرسالي التغييري ، وهي تنشأ عادةً لدى الأفراد بسبب الاعتقاد بأنَّ تكثيف الجانب الروحي العبادي على حساب

ص: 56


1- صحيح البخاري 7 : 2 كتاب النكاح ، طبعة مؤسّسة التاريخ العربي - بيروت.
2- الاعراف 7 : 32.

الجوانب الاُخرى هو الموجب للاقتراب من رضى الله سبحانه وتعالى .. ولعلَّ للرهبنة دوافع أُخرى :

عن ابن مسعود قال : كنتُ رديف رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) على حمار ، فقال : « يا ابن أُمّ عبد ، هل تدري من أين أحدثت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى ، يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الايمان ، فقاتلوهم ، فهُزم أهل الايمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلاّ القليل ، فقالوا : إنْ ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحدٌ يدعو إليه ، فتعالوا نتفرق في الأرض ، إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى - يعنون محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) - فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (1)، ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا ابن أُمّ عبد ، أتدري ما رهبانية أُمتي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة .. » (2).

وقد انتشرت ظاهرة الاعتزال والرهبنة في المجتمع الاسلامي لأسباب ودواعي كثيرة ، من بينها تفشي الظلم والفساد ووقوع الفتن والاضطرابات.

ثانياً : اتّباع الهوى :

إنَّ استعراض تاريخ حياة المتنبئين كذباً والكثير من المبتدعين يكشف بوضوح عن الدور الكبير للاهواء وحبّ الظهور والرئاسة أو السمعة في

ص: 57


1- الحديد 57 : 27.
2- مجمع البيان ، للطبرسي 9 : 308.

دفع هؤلاء إلى الابتداع.

إنَّ المبتدع وإنْ لم يكن متنبئاً أو مُدّعياً للنبوّة إلاّ أنَّ عمله يُعدُّ نوعاً من أنواع التنبؤ ، لأنه يأتي بدين جديد ، أو بشيء لم تفرضه الشريعة جزءاً من الدين ، أو يحذف شيئاً جعلته الشريعة جزءاً من الدين ، وقد دلّت روايات كثيرة على هذا المعنى.

إنَّ بعض البدع تنشأ من الهوى ، فقد خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الناس ، فقال : « أيُّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن : أهواءٌ تُتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالَف فيها كتاب الله ، يتولى فيها رجالٌ رجالاً .. » (1).

إنَّ رغبة الظهور تلعبُ دوراً كبيراً في حياة الانسان ، وإذا ما انفلتت هذه الرغبة من القيود الشرعية ، وتُركت تنمو وتتصاعد حتى تسيطر على مشاعر الانسان وتتدخل في رسم سلوكه العام فإنّها في نهاية المطاف ستدفع بصاحبها إلى ادعاء المقامات الرفيعة التي تختص بالانبياء.

روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنَّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) مرَّ بقتلى الخوارج بعد معركة النهروان فقال : « بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم ، فقيل له : من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال (عليه السلام) : الشيطان المُضلّ ، والنفس الأمارة بالسوء ، غرتهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار » (2).

قال تعالى : ( .. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ .. ) (3).

ص: 58


1- الكافي ، للكليني 1 : 54 / 1 باب البدع.
2- شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 19 : 235.
3- القصص 28 : 50.

وقال عزَّ من قائل : ( .. وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (1).

وروي عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « ما تحت ظِلِّ السماء من إلهٍ يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتّبع » (2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إنّما أخافُ عليكم أثنتين : اتبّاع الهوى ، وطول الأمل ، أما اتّباع الهوى فإنّه يصدُّ عن الحق ، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة » (3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم » (4).

وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « يقول الله عزَّ وجل ، وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ، ونوري ، وعلوّي ، وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواه على هواي ، إلاّ شتّتُ عليه أمره ، ولبّستُ عليه دنياه ، وشغلتُ قلبه بها ، ولم أوته منها إلاّ ما قدّرت له .. » (5).

لقد شهد تاريخ الاسلام منذ قرون معارك وحروباً وانحرافات ومذاهب وفرقاً وبدعاً جاءت كلها بسبب اتّباع الأهواء والابتعاد عن جادة الصواب ..

ص: 59


1- ص 38 : 26.
2- مجمع الزوائد ، لنور الدين الهيثمي 1 : 188 باب في البدع والاهواء.
3- اصول الكافي ، للكليني 2 : 335 / 3 باب اتباع الهوى.
4- اصول الكافي ، للكليني 2 : 335 / 1 باب اتباع الهوى.
5- اُصول الكافي ، للكليني 2 : 335 / 2 باب اتّباع الهوى.

ولذلك كلّه كانت التأكيدات النبوية على محاربة هوى النفس ، لأن من تمكن من نفسه وسيطر على هواه يكون في منجاة من كل أنواع الضلالة والهلكة.

ثالثاً : التسليم لغير المعصوم :

إنّ من أسباب نشوء البدع : التسليم لمن هو دون المعصوم ، وجعله في مصاف مصادر التشريع ، لأن غير المعصوم يصيب ويخطئ ، وقد يكذب أحياناً فيكون التسليم لقوله واتّباعه سبباً للانحراف والابتداع والكذب على الله ورسوله.

إنَّ النبي الأكرم محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين ، وكتابه القرآن الكريم خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا حكم إلاّ ما حكم به ، ولا سُنّة إلاّ ماسنّهُ ، والخروج عن هذا الاطار يمهد الطريق للمبتدعين.

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم » (1).

إنَّ هناك ظاهرة في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تستحق التأمل ، وهي أنّ أي واحد منهم لم يتلق العلم كما يتلقاه الناس بالتطواف على المدن والحواضر والمدارس وحلقات الحديث ، بل إنّهم يتوارثون العلم أباً عن جدٍ حتى يتصلون بعلمهم برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي شواهد حياتهم ما يبعث العجب للدارس المحايد ، حتى لقد تمكن الامام الجواد (عليه السلام) من أن يُفحم

ص: 60


1- بصائر الدرجات ، لابن فروخ الصفار : 318 / 1 باب 14. والاختصاص ، للمفيد : 280 طبعة مؤسّسة الأعلمي - بيروت.

- وهو الذي كان لم يتجاوز من عمره عقده الأول - فحول العلماء والمحدّثين في زمن المأمون ممن طعنوا بإمامته .. وقصة حواره معروفة دوّنتها كتب التاريخ (1).

وهذا يعني أنَّ هؤلاء الأئمة الطاهرين هم الطريق الصحيح الموصل إلى المصدر الصافي والمعين النقي للسُنّة النبوية الشريفة وعلم الكتاب وتأويل القرآن وفهم التشريع.

وعندما تنكّبت الاُمّة هذا الطريق والمحجة كثرت البدع والضلالات.

ص: 61


1- الاحتجاج ، للطبرسي 2 : 465 - 482 ، باب احتجاجات الإمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد (عليهما السلام) .

ص: 62

الفصل الرابع: دور أهل البيت عليهم السلام في محاربة البدع

اشارة

يطول بنا المقام حين نحاول استقصاء دور أئمة أهل البيت : في مواجهة البدع ومحدثات الاَُمور والضلالات التي نشأت منذ أول يوم ارتحل فيه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الملأ الأعلى ، فقد كانوا وخلال مختلف الأدوار التي مرّت بها الاُمّة الملاذ والمنهل الذي يجد عنده الصادي الرواء ، والمتعطش للعلم والمعرفة ما يروي به حبّه للعلم من مصادره الأصيلة الحيّة المتصلة برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) .

إنّ في حياة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ومواقفه قبل خلافته وتسلّمه العملي للسلطة وفي حياة ابنه الامام الحسن (عليه السلام) والامام الحسين (عليه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين آيات باهرات من المواقف التي بقيت خالدة على مرَّ التاريخ. لكننا مع ذلك نكتفي - وانسجاماً مع طبيعة الاختصار في هذا البحث - بإيراد مجموعة من النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) والتي عالجت أو تصدّت لبدعة محدثة من الاَُمور ليست من الدين في شيء ، وسوف نوزع تلك النصوص الشريفة على موضوعاتها المتعلقة بها تيسيراً للتناول.

أولاً : الجبر والتفويض :

من المقولات المحدثة في هذه الاُمّة مقولة الجبر التي روّج لها

ص: 63

الأمويون لتثبيت سلطانهم ، وتبنّتها طائفة من المسلمين ، الأمر الذي دعا إلى ظهور مقولة مضادة تقف في الطرف الآخر منها ، وهي مقولة التفويض المطلق التي قال بها المعتزلة ، وطال النزاع الكلامي بين أصحاب المقولتين ، فكان لكلِّ منها أتباع يروّجون لها ، فكانتا سبباً في اضطراب عقيدي كبير وفتن واسعة ، فتصدى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للمقولتين معاً ، في دور طويل من الكفاح في دفع الشبهات ، وهداية الناس إلى المحجة البيضاء والصراط المستقيم ، ومن كلماتهم : في هذين المقولتين :

1 - عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا : « إنَّ الله عزَّ وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقهُ على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون قالَ فسُئلا (عليهما السلام) : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع مما بين السماء والأرض » (1).

2 - عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : « الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد » (2).

3 - عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه ، رجل يزعم أنَّ الله عزّ وجل أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ، ورجل يزعم أنَّ الأمر مفوّض اليهم ، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يزعم أنَّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا

ص: 64


1- التوحيد ، للصدوق : 360 / 3 باب 59.
2- التوحيد ، للصدوق : 360 / 4 باب 59.

مسلم بالغ .. » (1).

4 - عن محمد بن عجلان قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : فوَّض الله الأمر إلى العباد ؟ فقال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم ، قلتُ : فأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ فقال : اللهُ أعدل من أن يجبر عبداً على فعلٍ ثم يعذّبه عليه » (2).

5 - عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، وقد ذُكر عنده الجبر والتفويض ، فقال (عليه السلام) : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه ؟ قلنا : إنّ رأيت ذلك ، فقال (عليه السلام) : إنّ الله عزَّ وجل لم يُطَع باكراه ، ولم يُعصَ بغلبة ، ولم يُهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه - ثم قال (عليه السلام) - من يضبط حدود هذا الكلام فقد خَصَم من خالفه » (3).

ثانياً : القياس والرأي :

من المقولات الحادثة ما اعتمد أصلاً في فهم الشريعة واستنباط الأحكام الشرعية ، كالقياس والرأي ، فما هو موقف أهل البيت (عليهم السلام) من هذا الأمر ؟

1 - عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : « إنّ أصحاب المقائيس طلبوا

ص: 65


1- التوحيد ، للصدوق : 360 - 361 / 5 باب 59.
2- التوحيد ، للصدوق : 361 / 6 باب 59.
3- التوحيد ، للصدوق : 361 / 7 باب 59.

العلم بالمقائيس ، فلم تزدهم المقائيس من الحق إلاّ بعداً ، وإنَّ دين الله لا يُصاب بالمقائيس » (1).

2 - وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال : إنَّ السُنّة لا تُقاس ، وكيف تُقاس السُنّة ، والحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة (2).

3 - عن سعيد الأعرج قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنَّ من عندنا من يتفقّه يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ، ولا في السُنّة ، نقول فيه برأينا ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : « كذبوا ، ليس شيء إلاّ وقد جاءَ في الكتاب ، وجاءت فيه السُنّة » (3).

4 - وعن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن القياس ، فقال : « ما لكم والقياس ، إنَّ الله لا يُسأل كيف أحلَّ وكيف حرّم » (4).

5 - عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال : « من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس » (5).

6 - وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال : « من أفتى الناس برأيه ، فقد دانَ اللهَ بما لا يعلم ، ومَنْ دانَ اللهَ بما لا يعلم ، فقد ضادَّ الله حيثُ أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم » (6).

ص: 66


1- اصول الكافي ، للكليني 1 : 56 / 7 باب البدع والرأي والمقائيس.
2- المحاسن ، لابي جعفر البرقي 1 : 338 / 95.
3- بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 304 / 47 باب 34.
4- اُصول الكافي ، للكليني 1 : 57 / 16 باب البدع والرأي والمقائيس.
5- اُصول الكافي ، للكليني 1 : 57 - 58 / 17 باب البدع والرأي والمقائيس.
6- اُصول الكافي ، للكليني 1 : 58 / 17 باب البدع والرأي والمقائيس.

ثالثاً : التشبيه والتجسيم :

اشارة

من أخطر ما وقعت به بعض طوائف المسلمين عقيدتا التشبيه والتجسيم الصادرتان عن قصور في الفهم وجمود في الفكر ، فنسبت إلى الله تعالى صفات الأجسام المحدودة والأحياء المخلوقة ، فكان لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) دورهم المناسب في كشف خطأ هاتين المقولتين ، وإرشاد المسلمين إلى الفهم الصحيح المنسجم مع عظمة الله تعالى وقدسيته :

1 - عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال في صفته سبحانه وتعالى : « ... ومن قال : أين ، فقد أخلى منه ، ومن قال : إلى مَ فقد وقتَّه » (1).

2 - وعن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال في وصفه جلّ شأنه : « من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر .. » (2).

3 - جاء يهودي إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين متى كان ربُّنا ؟ فقال له (عليه السلام) : « إنما يقال : متى كان لشيء لم يكن فكان ، وربُّنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونة كائنٍ ، كان بلا كيف يكون ، كائن لم يزل بلا لم يزل ، وبلا كيف يكون ، كان لم يزل ليس له قبل، هو قبل القبل بلاقبل وبلا غايةٍ ولا منتهى ، غايةٌ ولا غاية إليها ، غايةٌ انقطعت الغايات عنه، فهو غاية كلِّ غاية » (3).

4 - روي عن العباسي أنّه قال لأبي الحسن (عليه السلام) : جعلتُ فداك أمرَني بعض مواليك أن أسألك عن مسألةٍ ، قال (عليه السلام) : « ومن هو ؟ قلتُ : الحسن

ص: 67


1- التوحيد ، للصدوق : 57 / 14 باب 2.
2- التوحيد ، للصدوق : 69 / 25 باب 2.
3- التوحيد ، للصدوق : 77 / 33 باب 2.

بن سهل ، قال (عليه السلام) : في أيِّ شيءٍ المسألة ؟ قلتُ : في التوحيد ، قال (عليه السلام) : وأيُّ شيء من التوحيد ؟ قلتُ : يسألك عن الله جسم أو لا جسم ، فقال لي (عليه السلام) : إنَّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب ، مذهب إثبات بتشبيه ، ومذهب النفي ، ومذهب إثبات بلا تشبيه ، فمذهب الاثبات بتشبيه لا يجوز ، ومذهب النفي لا يجوز، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه » (1).

5 - وروي عن علي بن محمد وعن أبي جعفر الجواد (عليهما السلام) إنّهما قالا : « من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ، ولا تصلّوا وراءه » (2).

تأويل ظواهر الآيات والأحاديث الدالة على التشبيه والتجسيم :

1 - الوجه :

عن أبي حمزة قال قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله عزَّ وجل : ( كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ ) ؟ فقال (عليه السلام) : « فيهلك كل شيء ويبقى الوجه ؟ إنَّ الله عزَّ وجلَّ أعظم من أنْ يوصف بالوجه ولكن معناه : كلّ شيء هالك إلاّ دينه ، والوجه الذي يؤتى منه » (3).

2 - اليدان :

عن محمد بن مسلم قال : سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) فقلتُ : قوله عزَّ وجلَّ : ( يَا إبلِيسُ مَا مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَي ) (4)، فقال (عليه السلام) : « اليدُ في

ص: 68


1- التوحيد ، للصدوق : 100 - 101 / 10 باب 6.
2- التوحيد ، للصدوق : 101 / 11 باب 6.
3- التوحيد : 149 / 1 باب 12.
4- ص 38 : 75.

كلام العرب القوة والنعمة ، قال : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ) (1) وقال : ( والسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأيدٍ ) (2) ، أي بقوة ، وقال : ( وَأيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنه ) (3) ، أي : قوّة ، ويُقال : لفلان عندي أيادي كثيرة ، أي فواضل وإحسان ، وله عندي يد بيضاء ، أي : نعمة » (4).

وعن محمد بن عبيدة قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجلَّ لابليس: ( ما مَنَعَكَ أنْ تَسجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَي ) ، فقال (عليه السلام) : « يعني بقدرتي وقوتي » (5).

عن سليمان بن مهران قال : سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عزَّ وجلَّ : ( والاَرضُ جَمِيعاً قَبضَتُهُ يَومَ القِيَامَةِ ) (6)، فقال (عليه السلام) : « يعني ملكه ، لا يملكها معه أحد ، والقبضُ من الله تبارك وتعالى في موضع آخر : المنع ، والبسط منه: الاعطاء والتوسيع ، كما قال عزَّ وجل : ( واللهُ يَقْبِضُ وَيَبسُطُ وإليهِ تُرْجَعُونَ ) (7) ، يعني : يعطي ويوّسع ، ويمنع ويضيِّق ، والقبض منه عزَّ وجلَّ في وجه آخر : الأخذُ ، والأخذُ في وجهٍ : القبول منه كما قال : ( ويَأخُذُ الصَّدَقَاتِ ) (8) ، أي : يقبلها من أهلها ويثيب عليها ، قال : قلتُ : فقوله عزَّ وجلَّ : ( والسَّمَواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ؟ فقال (عليه السلام) اليمين اليد ،

ص: 69


1- ص 38 : 17.
2- الذاريات 51 : 47.
3- المجادلة 58 : 22.
4- التوحيد : 153 / 1 باب 13.
5- التوحيد : 153 - 154 / 2 باب 13.
6- الزمر 39 : 67.
7- البقرة 2 : 245.
8- التوبة 9 : 104.

واليد : القدرة والقوة : يقول الله عزَّ وجلَّ : والسموات مطويات بقدرته وبقوته ، سبحانه وتعالى عما يُشركون » (1).

3 - الاستواء :

عن عبد الرحمن الحجاج ، قال : سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ( الرَّحَمنُ عَلَى العَرشِ استَوَى ) ، فقال (عليه السلام) : «استوى في كلِّ شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء ، لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ، استوى في كلِّ شيء .. » (2).

4 - الغضب والرضا :

من الحوار الذي دار بين أبي قرّة المحدّث صاحب شبرمة وبين الامام الرضا (عليه السلام) . قال أبو قرّة للإمام (عليه السلام) : .. أفتكذّب بالرواية : ( إنَّ الله إذا غضب إنَّما يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله على كواهلهم ، فيخرّون سجداً ، فإذا ذهب الغضب ، خفَّ فرجعوا إلى مواقفهم ) ؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) : « أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن ابليس إلى يومك هذا وإلى يوم القيامة غضبان هو على ابليس وأوليائه ، أو راضٍ عنهم ؟ فقال : نعم هو غضبان. قال (عليه السلام) : فمتى رضي فخفَّ ، وهو في صفتك لم يزل غضباناً عليه وعلى أتباعه ؟ - ثم قال (عليه السلام) - ويحك ! كيف تجترئُ أن تصفَ رَّبكَ بالتغيّر من حالٍ إلى حال ، وإنّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟! سبحانه لم يزل مع الزائلين ، ولم يتغير مع المتغيّرين ». قال صفوان : فتحيّر أبو قرّة ولم يحر جواباً حتى قام

ص: 70


1- التوحيد : 161 - 162 / 2 باب 17.
2- اُصول الكافي 1 : 128 / 8 باب الحركة والانتقال.

وخرج (1) ..

رابعاً : نفي الرؤية :

والقول برؤية الله تعالى يوم القيامة هو واحد من نماذج القصور في الفهم التي وقع فيها أصحاب التشبيه وغيرهم ، فلننظر إلى دور أهل البيت : في تصحيح الاعتقاد في هذه الناحية أيضاً :

1 - عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال : حضرتُ أبا جعفر (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أيَّ شيء تعبد ؟ قال (عليه السلام) : « الله ، قال : رأيته ؟ قال (عليه السلام) : لَمْ تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، لا يُعرف بالقياس ، ولا يُدرك بالحواس ، ولا يشبه الناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو » ، قال : فخرج الرجل وهو يقول : اللهُ أعلم حيثُ يجعل رسالته (2).

2 - عن أحمد بن اسحاق ، قال : كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما فيه الناس ، فكتب (عليه السلام) : « لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ ينفذهُ البصر ، فإذا انقطع الهواء وعُدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه ، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان في ذلك التشبيه لأن الأسباب لابدَّ من اتصالها بالمسببات » (3).

ص: 71


1- الاحتجاج ، للطبرسي 2 : 379 / 285.
2- التوحيد ، للصدوق : 108 / 5 باب 8.
3- التوحيد ، للصدوق : 109 / 7 باب 8.

3 - وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ : ( وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ، قال : « يعني مُشرقة تنتظر ثواب ربها » (2).

4 - عن أبي هاشم الجعفري قال : سألتُ أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الله عزَّ وجل هل يوصف فقال (عليه السلام) : « .. أما تقرأ قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ) (3) قلتُ : بلى ، قال (عليه السلام) : فتعرفون الأبصار ؟ قلتُ : بلى ، قال (عليه السلام) : وما هي ؟ قلتُ : أبصار العيون ، فقال (عليه السلام) : إنّ أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الاوهام وهو يدرك الاوهام » (4).

خامساً : التصوّف والرهبنة :

1 - دخل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على العلاء بن زياد الحارثي - يعوده - فلما رأى سعة داره قال (عليه السلام) : « ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتُطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، قال (عليه السلام) : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخّلى عن الدنيا ، قال : عليَّ به - فلما

ص: 72


1- القيامة 75 : 22 - 23.
2- التوحيد ، للصدوق : 116 / 19 باب 8.
3- الانعام 6 : 103.
4- التوحيد ، للصدوق : 112 - 113 / 11 باب 8.

جاء قال (عليه السلام) - يا عُديَّ نفسه ! لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلَّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك.

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ؟ قال (عليه السلام) : ويحك ، إنّي لستُ كأنت ، إنّ الله تعالى فرضَ على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفةِ الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره » (1).

2 - عن علي بن جعفر قال : سألتُ أخي موسى (عليه السلام) عن الرجل المسلم هل يصلح له أن يسيح في الأرض أو يترّهب في بيت لا يخرج منه ؟ قال (عليه السلام) : « لا » (2).

سادساً : مواجهة حركة الغلاة :

لقد واجه أهل البيت : الغلاة وحاربوهم وأفسدوا إدعاءاتهم الباطلة بعدّة أساليب منها : -

الأول : البراءة منهم ولعنهم. فحين أظهر أبو الجارود بدعته ، تبرّأ منه الإمام الباقر (عليه السلام) وسمّاه باسم الشيطان سرحوب ، مبالغة في التنفير منه (3).

ولعنه الإمام الصادق (عليه السلام) ولعن معه كثير النوّاء وسالم بن أبي حفصة ، فقال (عليه السلام) : « كذّابون مكذّبون كفار ، عليهم لعنة الله » (4).

وهكذا لعنوا المغيرة بن سعيد ، وأبا الخطّاب ، وبيان وغيرهم ، ولمّا

ص: 73


1- نهج البلاغة : الخطبة 209.
2- مسائل علي بن جعفر : 116 / 50.
3- رجال الكشي 2 : 495 / 413.
4- رجال الكشي 2 : 496 / 416.

وقفوا على بدعة ابن كيّال تبرّأوا منه ولعنوه (1).

الثاني : التحذير منهم وكشف أكاذيبهم. كلما ظهر رجل مغالي أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه ، ثم أمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته (2) ثم نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غيرهم إلى أنّ هؤلاء كذّابون يفترون على أهل البيت (عليهم السلام) الأباطيل وينسبون إليهم ما لم يقولوا به :

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذر على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدّس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة ، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذلك ما دسّه المغيرة ابن سعيد في كتبهم » (3).

ومن جانب آخر يبين الامام الصادق (عليه السلام) لشيعته الطريق الأمثل لتشخيص أقوال المغالين من خلال عرض ما يأتيهم من أحاديث منسوبة لأهل البيت : على الكتاب والسُنّة ومقارنتها بأحاديثهم المتقدمة فيقول (عليه السلام) : - « لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ماخالف قول ربّنا تعالى وسُنّة نبيّنا (صلی الله عليه وآله وسلم) فإنا إذا حدّثنا قلنا : قال الله

ص: 74


1- الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 161 ، وهو أحمد بن كيّال ، وأصحابه الكيّالية ، من فرق الغلاة.
2- الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 161. رجال الكشي 2 : 493 / 405.
3- رجال الكشي 2 : 491 / 402.

عزَّوجلَّ ، وقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) » (1).

فكان أصحابهم من ذوي البصيرة وذوي التحقيق يدّققون النظر في كتب الحديث ، فربّما تحسسّوا الدخيل فيها ، وربما عرضوها على الأئمة أنفسهم فأثبتوا الصحيح منها وأسقطوا الدخيل.

يقول يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فانكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام) وقال لي : « إن أبا الخطّاب (2) كذّب على أبي عبد الله (عليه السلام) لعن الله أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب ، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السُنة إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصدّق كلام آخرنا ، فإذا آتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كلِّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان » (3).

وكان ذوو الذوق السليم والايمان الصحيح يتحسّسون ذلك أيضاً ، جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقر (عليه السلام) فانشده :

ص: 75


1- رجال الكشي 2 : 489 / 401.
2- اختلفوا في اسمه واشتهر بكنيته .. قال بعضهم : اسمه محمد ، وآخرون قالوا : اسمه زيد وهو من الموالي ومن زعماء الغلاة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) .
3- رجال الكشي 2 : 489 - 491 / 401.

أبا جعفر أنت الوليّ أحبّهُ***وأرضى بما ترضى به وأتابعُ

أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ***أحاديث قد ضاقت بهنَّ الأضالعُ

أحاديث أفشاها المغيرةُ فيهمُ***وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (1)

الثالث : الردّ على مقالاتهم الباطلة. لقد كان أولئك الغلاة يكذبون على أهل البيت (عليهم السلام) وكانوا يتحاشون ذلك ، فلما أراد ابن أبي العوجاء الزنديق أن يناظر الإمام الصادق (عليه السلام) حذّره ابن المقفع ، وقال له : لا تفعل ، فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك (2).

وكان أهل البيت : إذا بلغتهم المقالة الفاسدة من الغلاة فيهم خاصة ردّوها جهرة وأثبتو للناس الحق الذي في خلافها.

ادعى كثير من الغلاة تأليه الأئمة : ، أو حلول الروح الالهية فيهم ، فكان من ردّهم على هذه الدعوى قول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لعن الله من ازالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا » (3).

وردّ الإمام الصادق (عليه السلام) دعوى اولئك الذين قالوا : إنّ الله خلق الأئمة ثم جعل بايديهم الخلق والرزق ، إذ جاء نفر من أصحابه (عليه السلام) فقالوا له : ( زعم أبو هارون المكفوف إنّك قلت له : إن كنت تريد القديم فذاك لا يدركه أحد ، وإن كنت تريد الذي خلق ورزق فذاك محمد بن علي ! يعني الباقر (عليه السلام) ).

ص: 76


1- عيون الاخبار ، لابن قتيبة 2 : 151 كتاب العلم والبيان.
2- الكافي ، للكليني 1 : 74 / 2 كتاب التوحيد.
3- رجال الكشي 2 : 489 / 400.

فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « كذب عليَّ ، عليه لعنة الله ، والله ما من خالق إلاّ الله وحده لا شريك له ، حقّ على الله أن يذيقنا الموت ، والذي لا يهلك هو الله خالق وبارئ البرية » (1).

ص: 77


1- رجال الكشي 2 : 488 / 398. ولمزيد من التفصيل راجع كتاب تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي - مسار الإسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب ، للاُستاذ صائب عبد الحميد : 817 - 827.

ص: 78

الفصل الخامس: تطبيقات حول البدعة

اشارة

لقد تقدم القول إنّ البدعة في المعنى الاصطلاحي الشرعي هي إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وهذا التعريف ، أي الادخال في الدين ، يحتمل معنى الزيادة ومعنى الانقاص أيضاً.

وسوف نتعرض في هذا الفصل وهو خاتمة البحث في موضوع البدعة إلى عددٍ من الأمثلة والنماذج هي عند البعض تعني الزيادة في الدين وعند البعض الآخر تعني الانقاص في الدين.

إنَّ هناك الكثير من النماذج والأمثلة يمكن أن نخضعها للمناقشة والتطبيق على ضوء التعريف المتقدم لكننا خشية الاطالة نقتصر على ذكر عدد قليل من النماذج التطبيقية.

إنَّ الهدف من ذكر هذه الأمثلة التطبيقية هو نقل البحث النظري المتقدم إلى مساحة التطبيق العملي ورائدنا في ذلك المناقشة الموضوعية العلمية.

أولاً : النهي عن متعة الحج :

اشارة

الحج باتفاق الفقهاء ينقسم من ناحية النوع إلى ثلاثة أنواع : تمتّع ،

ص: 79

وقران ، وإفراد.

والمقصود من حج التمتع هو : إحرام الشخص بالحج في أشهره المعروفة « شوال ، وذي القعدة ، وذي الحجة » والاتيان بأعمالها ، وهو الاحرام من الميقات بالعمرة إلى الحج ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت سبعة أشواط ، ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم يقُصّر ، بأن يقلم شيئاً من أظفاره ، أو يأخذ شيئاً من شعره فيحلّ له حينئذٍ جميع ما حرّم عليه بالاحرام.

ثم ينشيء بعد ذلك إحراماً للحج من مكة يوم التروية والاتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والافاضة إلى المشعر الحرام .. الخ.

ويصحّ هذا النوع من الحج ممن كان آفاقياً ، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام بحيث يبتعد بيته عن مكة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة ، والمسافة هي عند الإمامية 48 ميلاً من كل جانب وهي لا تتجاوز عن 16 فرسخاً.

وقد تظافرت الرّوايات المروية عند الفريقين أنّ متعة الحج ورد ذكرها وأحكامها في القرآن ، وهو قوله تعالى : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (1).

وتفسير الآية الشريفة : إنّ من ( تَمَتّعَ ) بسبب الاتيان ( بِالعُمْرَةِ ) بما

ص: 80


1- البقرة 2 : 196.

يحرم على المحرم ، كالطيب ، والمخيط ، والنساء ومتوجهاً (إِلَى الْحَجِّ) (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي عليه ما استيسر من الهدي من البدنة أو البقرة أو الشاة ، ثم تبيّن الآية الشريفة حكم من لم يقدر على ذلك ، وهو الصيام عشرة أيام ، وكيفية الصيام هي ( ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِ ) متواليات و ( سَبْعَة إذَا رَجَعْتُم ) إلى أوطانكم ( تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ، ( ذَلِكَ ) أي التمتع بالعمرة إلى الحج فرض ( لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ) أي لم يكن من أهل مكة وقراها ( واتَّقُوا اللهَ ) فيما أمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج ( واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدَ العِقَابِ ).

والآية صريحة في جواز التمتّع بمحظورات الاحرام بعد الاتيان بأعمال العمرة وقبل الاحرام للحج ، ولم يدّع أحد أنّ الآية نُسخت بآية أُخرى أو قول أو فعل من قبل النبي الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بل أنّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أكدها وأمر بها.

فقد روى أهل السير والتاريخ : إنّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، وقالت عائشة : لا يذكُر ولا يذكّر الناسُ إلاّ الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) معه الهدي ، وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلّو بعمرة إلاّ من ساق الهدي - إلى أن قالت - : ودخل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) مكة ، فحلّ كل من كان لا هدي معه ، وحلّ نساؤه بعمرة ، .. لمّا أمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) نساؤه أن يحللن بعمرة قلن : فما يمنعك يا رسول الله أن تحلَّ معنا ؟ فقال : « إني أهديتُ فلا أحلّ حتى أنحر هديي » (1).

ص: 81


1- السيرة النبوية ، لابن هشام 4 : 248 - 249 حجة الوداع.

وتظافرت الروايات حول هذه الواقعة وما أمر به النبي وسنأتي هنا على قسم منها.

1 - روى ابن داود أنّ النبي أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصِّروا ويُحلّوا إلاّ من كان معهُ الهدي ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر ! فبلغ ذلك رسول الله فقال : « أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديتُ ، ولولا أنّ معي الهدي لأحللت » (1).

2 - عن أبي رجاء قال : « قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ثمَّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى مات .. » (2).

متى ظهر النهي عن متعة الحج :

لقد تقدّم من بعض الروايات أنّ بعض المسلمين حين نزل التشريع بمتعة الحج وأمرهم الرسول بذلك ، استغربوا الأمر وتساءلوا فجاءهم التأكيد على الأمر من قبل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، كما تقدم القول فإنَّ الآية الخاصة بذلك لم تُنسخ حتى وفاة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وإكمال الدين وإتمام النعمة.

وهي بذلك أصبحت جزءاً من الدين ، لكنَّ عمر بن الخطاب كان أول من نهى عنها ، وبهذا تواترت ، ومنها :

1 - عن ابن عباس قال : « سمعتُ عمر يقول : والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يعني العمرة في

ص: 82


1- سنن أبي داود 1 : 283 كتاب المناسك ، باب افراد الحج ، ط دار الكتاب العربي.
2- صحيح مسلم 4 : 48 - 49 كتاب الحج ، باب جواز التمتع.

الحج .. » (1).

2 - عن سعيد بن المسيّب : « إنّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنها وذلك أنَّ أحدكم يأتي من أُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيتهُ في عمرته ثمَّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلُّ ويلبس ويتطيَّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلّبي بحجة لاشعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوماً والحجُ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنَّ تحت الآراك .. » (2).

3 - روى ابن حزم بسنده قال : قال عمر بن الخطاب : « متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما - ثم قال - هذا لغط أيوب ، وفي رواية خالد ، أنا أنهي عنهما وأُعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج » (3).

ولا نريد الاستطراد أكثر من هذا في ذكر الروايات التي أكّدت أنّ عمر ابن الخطاب نهى عن متعة الحج وأنّه كان يعاقب عليها ، وهي جزء من التشريع وسُنّة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) .

موقف المسلمين من النهي :

وقد عارض المسلمون هذا النهي الصريح ، وإليك الروايات مختصرة :

ص: 83


1- سنن النسائي 5 : 153.
2- جمع الجوامع ، للسيوطي 3 : 32.
3- المحلى ، لابن حزم 7 : 107. الجامع للاحكام ، للقرطبي 2 : 392.

1 - روى مالك عن محمد بن عبد الله : « انّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحّاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجل ! فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ! فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه » (1).

وللقارئ أن يمعن جيداً في قول الضحّاك : « لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجلّ » ، إذ إن التمتع بالعمرة إلى الحج هي من أوامر الله الصريحة في القرآن الكريم لكنها أصبحت عنده بسبب نهي عمر عنها مخالفة لأمر الله !! وهذا من أسوأ آثار البدعة في الدين إذ تتحول الشريعة إلى بدعة عند الجهلة.

2 - روى الترمذي عن سالم بن عبد الله : « أنّه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال عبد الله بن عمر : حلال. فقال الشامي : إن أباك قد نهى عنها !

فقال عبد الله بن عمر : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أأمرُ أبي نتّبع ، أم أمر رسول الله ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله. فقال : لقد صنعها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) » (2).

3 - وعن ابن عباس أيضاً أنّه قال لمن كان يعارضه في متعة الحج بأبي ة.

ص: 84


1- موطأ مالك 1 : 233 كتاب الحج رقم 60 ، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت. سنن الترمذي : كتاب الحج رقم 823.
2- صحيح الترمذي 4 : 38 كتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة.

بكر وعمر : « يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وتقولون : قال أبو بكر وعمر » (1).

4 - عن الحسن : أنَّ عمر أراد أن ينهى عن متعة الحج ، فقال له أُبيّ بن كعب : « ليس ذلك لك ، قد تمتعنا مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم ينهنا عن ذلك ، فأضرب عن ذلك عمر .. » (2).

لكن هذا الإضراب كان مؤقتاً ، فقد نهى عنها فيما بعد كما تقدّم من الروايات.

لقد كان ذلك نموذجاً - أي النهي عن متعة الحج - بارزاً على الانقاص من الدين ، وهو بدعة بلاشك ولا ريب.

ثانياً : إقامة صلاة التراويح جماعة :

اشارة

من المتفق عليه بين الفقهاء وجود نوافل خاصّة بشهر رمضان المبارك في الشريعة المقدّسة ، فهي سُنّة مؤكدة ، وإنّ أوّل من عمل بها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد قال : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه » (3) ..

لكن النقاش في جواز إقامتها جماعة ، هل هي سُنّة أم بدعة ؟

1 - سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله ( الصادق ) (عليهما السلام) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة ، فقالا :

ص: 85


1- زاد المعاد ، لابن القيّم 1 : 215.
2- مجمع الزوائد ، للهيثمي 3 : 246 نقلاً عن أحمد.
3- صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان رقم 2008. صحيح مسلم 2 : 176 باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.

« إنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي ، فاصطف الناس خلفهُ فهرب منهم الى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال فقام (صلی الله عليه وآله وسلم) في اليوم الثالث على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيُّها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ، ألا فإن كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثم نزل (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يقول : قليل في سُنّة خير من كثير في بدعة » (1).

2 - عن عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : « كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة صلّى بعدها ، يقوم الناس خلفهُ فيدخل ويدعهم ، ثم يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدخل ويدعهم مراراً » (2).

3 - روى البخاري قال : « حدثني يحيى بن بكير : حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب : أخبرني عروة : أنَّ عائشة أخبرته أنَّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج ليلة في جوف الليل فصلّى في المسجد ، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا ، فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى فصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة. فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فصلّى فصلَّوا بصلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح ، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم ه.

ص: 86


1- الفقيه ، للصدوق 2 : 87 / 1 باب 45 الصلاة في شهر رمضان.
2- تهذيب الاحكام ، للطوسي 3 : 61 / 208 باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه.

قال : أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكني خشيتُ أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها ، فتوفي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك » (1).

4 - وجاء في كنز العمال : « سُئل عمر عن الصلاة في المسجد فقال : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « الفريضة في المسجد ، والتطوّع في البيت » » (2).

5 - وجاء في المغني لابن قدامة : « وقال مالك والشافعي : قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب الينا لما روى زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حجيرة بخصفة أو حصير ، فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فيها فتتبع إليه رجال وجاؤوا يُصلّون بصلاته ، قال : ثم جاؤوا ليلة فحضروا ، وأبطأ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عنهم ، فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم ، وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) مغضباً فقال : « ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنَّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » (3).

ومن خلال التأمل في الروايات المتقدمة تراها أجمعت على النهي عن أداء صلاة التراويح جماعة ، غاية الأمر أنَّ بعض الروايات أرجعت النهي إلى أسباب خشية رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أن « تكتب عليهم » أي أنْ تفرض عليهم فتكون جزءاً من التشريع بتلك الكيفية.

وأرجعت روايات أُخرى أمر النهي إلى أنَّ إقامتها جماعة « بدعة » بنص 0.

ص: 87


1- أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح ، صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان، ونحوه 2 : 63 باب التهجد بالليل. صحيح مسلم 6 : 41.
2- كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي 8 : 384 / 23363.
3- المغني ، لموفق الدين بن قدامة 1 : 800.

قول رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في رواية زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل ، وأنَّ إقامتها منفردة في البيت أفضل من إقامتها في المسجد ، وذهب إلى ذلك أيضاً مالك والشافعي كما في رواية المغني التي تقدّمت.

واتفقت أغلب الروايات على أنَّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) توفي والتراويح تقام فرادى وليس جماعة .. فمن الذي فرضها جماعة في المسجد ؟ هذا ما سنتعرف عليه في ما يأتي :

أوّل من أمر بإقامة التراويح جماعة :

أجمعت الروايات على أنَّ عمر بن الخطاب كان أول من أمر بإقامة صلاة التراويح جماعة ، ومنع الناس من أدائها منفردة.

1 - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال : « خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً في رمضان الى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل.

ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجتُ معه ليلةً أُخرى ، والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعمَ البدعةُ هذهِ ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ! يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوّله » (1).

2 - عن أُبي بن كعب : « أن عمر بن الخطاب أمره أن يصلّي بالليل في

ص: 88


1- صحيح البخاري 3 : 58. وموطأ مالك : 73.

رمضان ، فقال : إنَّ الناس يصومون النهار ، ولا يحسنون أن يقرأوا ، فلو قرأت عليهم بالليل ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ! فقال : قد علمتُ ، ولكنه حسن ، فصلّى بهم عشرين ركعة » (1).

3 - روى البخاري : « توفي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) والناسُ على ذلك ( يعني انهم يصلّون التراويح فرادى ) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر » (2).

4 - قال ابن سعد في ترجمة عمر : « هو أول من سنَّ قيام شهر رمضان بالتراويح وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة » (3).

5 - وقال ابن عبدالبر في ترجمة عمر : « وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه » (4).

6 - وقال أبو الوليد محمد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه : « هو أول من نهى عن بيع أُمهات الأولاد .. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح » (5).

وأخيراً فإنَّ قول عمر حين رأى الناس يصلّون بصلاة قارئ واحد كما تقدم في رواية عبد الرحمن بن عبد القاري : « نعمت البدعة هذه » دليلٌ 0.

ص: 89


1- كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي 8 : 409 / 23471.
2- صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان / 2010.
3- الطبقات الكبرى ، لابن سعد 3 : 281.
4- الاستيعاب 3 : 1145 رقم 1878.
5- روضة المناظر كما في النص والاجتهاد ، للسيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي : 250.

ليس بعده دليل على أنّها سنّة ابتدعها عمر لم تكن موجودة في عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا في عهد أبي بكر.

موقف المسلمين من بدعة الجماعة في التراويح :

لا نريد هنا أن نستقصي مواقف الصحابة الاُول وغيرهم من أمر عمر بإقامة التراويح جماعة ، بل نحاول أن نتعرض بإيجاز لهذه المواقف لتساعد القارئ على تكوين صورة واضحة عن طبيعة الموقف تجاهها في العصور الاولى :

1 - عن أبي أُمامة الباهلي 2 أنّه قال : « أحدثتم قيام شهر رمضان ، ولم يُكتب عليكم ، إنما كُتب عليكم الصيام » (1).

وفي ذلك دلالة واضحة وصريحة على الاعتراض على الجماعة في صلاة التراويح.

2 - عن نافع مولى عبد الله بن عمر : « أنّ ابن عمر كان لا يصلّي خلف الامام في شهر رمضان » (2).

3 - وقد نهى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خلافته الناس عن أداء صلاة التراويح جماعة لأنها بدعة ، فقد روي أنّه : « لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة سألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، فزجرهم ، وعرّفهم أنَّ ذلك خلاف السُنّة ، فتركوه واجتمعوا، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليهم

ص: 90


1- الاعتصام ، للشاطبي 1 : 291.
2- نصب الراية ، للزيلعي 2 : 154.

المسجد ومعهُ الدّرة ، فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا : واعمراه » (1).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : « لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس : لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ، فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين ، فلّما سمع الناس مقالة الحسن بن علي (عليه السلام) صاحوا : واعمراه ، واعمراه ! فلّما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له : ما هذا الصوت ؟ - قال - : يا أمير المؤمنين ، الناسُ يصيحون : واعمراه ، واعمراه - فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - : قل لهم : صلّوا » (2).

فهل في قوله (عليه السلام) : « قُلْ لهم صلّوا » إقرار على الجماعة في التراويح ، أم أن هناك أسباباً أُخرى ؟ هذا ما يكشف عنه النص الآتي المروي عنه (عليه السلام) : « قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ، ولو حملتُ الناس على تركها .. إذاً لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غُيّرت سنة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً ، ولقد خفتُ أن يثوروا في ناحيةً جانب عسكري .. » (3).

وحسب القارئ اللبيب أن يرى أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) يصف الاجتماع في شهر رمضان على غير الفريضة بأنّه « بدعة ».

ص: 91


1- شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 12 : 283.
2- التهذيب ، للطوسي 3 : 70 / 227.
3- الكافي ، للكليني 8 : 51 - 52.

ويرى القارئ الكريم في قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يكفي لوصف الحال حين نهاهم عن « البدعة » حتى أنّه (عليه السلام) خاف ان يثوروا في جانب عسكره ، فالى أي مدى كانت هذه البدعة قد استشرت في النفوس واتسعت في الممارسة حتى عدّ الجهلاء النهي عنها منعاً للسُنّة ؟

ثالثاً : صلاة الضُحى :

اشارة

مع أنَّ صلاة الضحى قد ورد لها ذكر كثير في كتب الفقه والحديث عند أهل السُنّة فإنّها مجهولة متروكة عند الكثير منهم.

وسنحاول في هذا المختصر أن نلقي نظرة سريعة حول ما يتعلق بها من أُمور.

ما هو حكمها : يرى الحنابلة والحنفيّة والشافعية أنَّ صلاة الضُحى سُنّة وترى المالكية أنّها مندوبة (1) تستحب المداومة عليها.

ورأى بعض علمائهم أنّها بدعة (2).

وقتها : وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى زوالها ، والأفضل عندهم أن يبدأها بعد ربع النهار ، وجاء في وقتها قولهم : « وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتدّ حرّها ويمتّد وقتها إلى زوال الشمس ، وأوله حين تبيّض الشمس » (3).

ص: 92


1- الفرق بين ما هو سُنّة وبين ما هو مندوب : هو إنَّ السُنّة ما واظب عليه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الراشدين ، والمندوب هو ما أمر به النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم يواظب عليه. اُنظر الفقه على المذاهب الخمسة ، للشيخ محمد جواد مغنيه : 78.
2- الشرح الكبير على المغني ، لابن قدامة المقدسي 1 : 775. والفقه على المذاهب الاربعة ، لعبدالرحمن الجزيري 1 : 332. وفقه السُنّه 1 : 185. وزاد المعاد ، لابن قيّم الجوزية 1 : 116 - 119. ونيل الاوطار ، للشوكاني 3 : 62.
3- المصدر السابق.

عدد ركعاتها : اختلفوا في تحديد عدد ركعاتها ، فقالت الحنفية : أكثرها ستّ عشرة ، وذهب بعض الشافعية والطبري إلى أنّه لا حدَّ لأكثرها. وقال آخرون أقلها ركعتان وأكثرها ثمانية ، وقيل اثنتا عشرة ركعة.

وقالوا بأنّه « يكره أن يصلّى في نفل النهار زيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة » (1).

ما ورد فيها من الأثر عندهم :

يمكن تصنيف ما ورد في صلاة الضحى من أحاديث إلى ثلاثة أصناف : أحاديث مجملة ، وأُخرى ضعيفة أو موضوعة ، وأُخر معارضة ، فلنقف على نماذج من هذه الاصناف الثلاثة :

1 - الأحاديث المجملة :

أ - عن نعيم بن همّاز ، قال : « سمعتُ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : قال الله عزَّ وجل : يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أوّل نهارك أكفك آخره » (2).

وبالتأمّل البسيط في هذه الرواية يتّضح أنّه ليس فيه دلالة خاصة على أنّ المقصود من الركعات الأربع هو صلاة الضحى ، واحتمل بعضهم أنّ المقصود من الأربع هو فريضة الفجر ونافلتها كما اختار ذلك ابن القيم وابن تيميّة (3) ، واحتمله الشوكاني والعراقي (4).

ب - قال أبو هريرة : « أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهنَّ حتى أموت :

ص: 93


1- المصدر السابق.
2- التاج الجامع للاُصول 1 : 321.
3- زاد المعاد 1 : 260.
4- نيل الاوطار 3 : 64.

صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر » (1).

ونكتفي في التعليق على هذا الحديث بما قاله ابن القيّم : « وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها ، كحديث أبي هريرة وأبي ذر ، لا يدّل على أنّها سُنّة راتبة لكلِّ أحد ، وإنّما أوصى أبا هريرة بذلك ، لأنه قد روي أنّ أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل ، ولهذا أمره ألاّ ينام حتى يوتر ، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة » (2).

ج - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : « دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقرّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه فلما جاء يرفأ تأخرتُ فصففنا وراءه » (3).

والهاجرة لغة « بمعنى نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر » (4) على المشهور فسبحة الهاجرة إذاً تنطبق على نافلة الظهر هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى فإنّ عمل عمر مجهول العنوان فما يدرينا بأنه كان يصلي الضُحى ؟ سيّما وأنّ ابنه عبد الله يشهد بأنّه لم يكن يصلّيها كما سيأتي.

د - عن أبي هريرة قال : « ما رأيت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلّي الضُحى قط إلاّ مرّة » (5).

ص: 94


1- صحيح البخاري 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاريخ العربي - بيروت.
2- زاد المعاد 1 : 268.
3- موطأ مالك 1 : 112. يرفأ : اسم خادم عمر.
4- لسان العرب ، مادة هجر.
5- مسند أحمد 2 : 446.

والرواية مجملة أيضاً في الدلالة على خصوص صلاة الضحى ، لاحتمال أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) صلّى في ذلك الوقت لحاجة أو غيرها وخفي على أبي هريرة أمرها.

ه - عن أنس أنّه قال : « رأيت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في سفر صلّى سبحة الضحى ثماني ركعات ، فلّما انصرف قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « إنّي صليت صلاة رهبة ورغبة ، سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني اثنين ومنعني واحدة. سألته أن لا يبتلي أُمتي بالسنين ففعل. وسألته ألاّ يظهر عليهم عدوهم ففعل ، وسألته ألا يلبسهم شيعاً فأبى عليَّ » (1).

والحديث كما ترى مجمل لا خصوصية له في الدلالة على صلاة الضحى الراتبة ، كما أنّه يتناقض مع الواقع التاريخي الذي مرّت به الاُمّة الإسلامية ، فقد أصيبت بالسنين وتسلط عليها عدوها سنين طوال وما زالت كذلك وهذا يدفعنا إلى الاطمئنان إلى أنّ الرواية موضوعة مختلقة.

2 - الأحاديث الضعيفة والموضوعة :

قال ابن قيّم الجوزيّة عن أحاديث صلاة الضُحى : « وبعضها موضوع لا يحلّ الاحتجاج به » (2) ، ثم ذكر عدّة أحاديث صرّح علماء الرجال بأنّ رواتها وضّاعين كذبة ، منها :

أ - ما روي عن أنس مرفوعاً : « من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلاّ عن علّة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر نور » وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد.

ص: 95


1- فقه السُنّة 1 : 185.
2- زاد المعاد 1 : 266.

ب - عن يعلى بن أشدق عن عبد الله بن جراد : عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال : « من صلّى منكم صلاة الضحى فليصلّها متعبداً ، فإنّ الرجل ليصلّيها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحنُ إليه كما تحنُّ الناقة على ولدها إذا فقدته ».

وفي يعلى بن الاشدق ، راوي هذا الحديث ، قال ابن عدي : روى يعلى بن الاشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمّه غير معروفين.

وقال أبو حاتم : « لقي يعلى عبد الله بن جراد ، فلّما كَبُر اجتمع عليه من لا دين له ، فوضعوا له شبَهاً بمائتي حديث فجعل يحدّث بها ولا يدري ! لا تحلّ الرواية عنه بحال (1) ».

3 - الاحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحى :

هناك طائفة من الاحاديث التي نفت مشروعية هذه الصلاة ، فهي على خلاف الروايات المثبتة لصلاة الضحى ، قوية في سندها ودلالتها ، وقد رجحها جملة من علماء أهل السُنّة على غيرها ، كما صرّح بذلك ابن القيم، حيثُ قال : « وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ورجّحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها » (2) ، منها :

أ - ما رواه البخاري بسنده عن مورّق قال : «قلتُ لابن عمر : أتصلي الضحى ؟ قال : لا. قلت : فعمر ؟ قال : لا. قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا. قلتُ : فالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟ قال : لا أخاله » (3). ت.

ص: 96


1- راجع حول الاحاديث الموضوعة ورواتها ، زاد المعاد 1 : 266 - 267.
2- زاد المعاد 1 : 264.
3- صحيح البخاري 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاريخ العربي - بيروت.

ب - ما رواه البخاري بسنده عن عائشة ، قالت : « ما رأيتُ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) سبّح سبحة الضحى ، وإنّي لأسبّحها » (1).

قال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى ، وقال قوم : « إنها بدعة » (2) ، أما قول عائشة بأني أُسبّحها بعد قولها عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) « ما رأيت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) سبّح سبحة الضحى » فلا قيمة له في مجال الدليل الشرعي.

ج - وما رواه البخاري أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى إنّه قال : « ما حدّثنا أحدٌّ أنّه رأى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلّي الضحى ، غير أم هانئ ، فإنّها قالت : إنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثماني ركعات فلم أرَ صلاة قطّ أخف منها غير أنّه يتم الركوع والسجود » (3).

وهذا الحديث ينفي ما تقدمّ من أحاديث رؤية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحى ، أما رواية أم هاني فهي كما ترى لا دلالة صريحة فيها على أنّ الصلاة التي صلاّها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بثمان ركعات هي صلاة الضحى ، بل يُحتمل أنّها صلاة شكر لله تعالى على ما منَّ على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالفتح المبين.

د - ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال : « رأى أبو بكرة ناساً يصلّون الضحى فقال : إنّهم ليصلون صلاة ما صلاّها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا عامّة أصحابه رضي الله عنهم » (4). 5.

ص: 97


1- صحيح البخاري 2 : 73. ومسند أحمد 6 : 209.
2- زاد المعاد 1 : 264.
3- صحيح البخاري 2 : 73.
4- مسند أحمد 5 : 45.

ه - روى البخاري بسنده عن مجاهد ، قال : « دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فاذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أُناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم ؟ فقال : بدعة » (1).

ما تقدم كان دراسة مختصرة عن صلاة الضحى استقينا رواياتها من طرق أهل السُنّة وتبيّن أنّها ليست إلاّ بدعة.

أما موقف الامامية الاثنى عشرية فهي عند فقهاءهم بدعة لا يجوز فعلها. وقد أجمعوا على هذا الرأي كما صرّح بذلك الشريف المرتضى في رسائله (2) ، والشيخ الطوسي في الخلاف (3) ، والعلاّمة الحلي في المنتهى(4) ، والعلاّمة المجلسي في البحار (5) ، والمحدّث البحراني في الحدائق الناضرة (6).

وقد وردت الأخبار عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) نافية لمشروعية صلاة الضُحى ، كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لرجل من الأنصار سأله عن صلاة الضحى فقال (عليه السلام) : « أول من ابتدعها قومك الأنصار سمعوا قول رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة ، فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلّون ، فبلغ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فنهاهم عنه » (7). 9.

ص: 98


1- صحيح البخاري 3 : 3 باب العمرة.
2- رسائل الشريف المرتضى 1 : 221.
3- الخلاف ، موسوعة الينابيع الفقهية 28 : 220.
4- بحار الانوار 80 : 158.
5- المصدر السابق : 155.
6- الحدائق الناضرة 6 : 77.
7- المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملي : 53 عن كتاب السنن والمبتدعات : 138 - 139.

نماذج أُخرى من البدع :

ثمّة نماذج أُخرى من البدع ، اشتهرت ورَسخت حتى حلّت محلّ السُنن ، نذكرها استطراداً دون تفصيل بعد ان قدمنا تلك النماذج المفصلة ، ومن هذه البدع :

1 - غسل الرجلين في الوضوء ، بدلاً من مسحهما الذي جاء به القرآن والسُنّة ، وقد جاء في حديث أنس بن مالك ، أنّه قد خطب الحجاج ابن يوسف الثقفي فقال : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس : صدق الله ، وكذب الحجاج ! قال الله : (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (1).

2 - الأذان الثالث يوم الجمعة ، وقد اتفقوا على أنه قد شرعه عثمان ، ولم يكن قبله (2).

3 - ذكر أسماء الخلفاء في خطبة صلاة الجمعة.

ص: 99


1- الدر المنثور 3 : 28 - 29 عن : سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير.
2- صحيح البخاري 2 : 10 باب الأذان يوم الجمعة.

أعمال نُسبت إلى البدعة وليست كذلك

إنّ من مساحات الاختلاف الفقهي بين المسلمين ؛ ما يعدّ عند بعضهم مشروعاً ، بل مندوباً ، فيما يراه الآخر عملاً مبتدعاً ينبغي محاربته .. ولقد أثار هذا النوع من الخلاف جدلاً كبيراً وصراعاً طائفياً متجدداً ، لا سيّما مع طائفة من الأعمال التي تغلغلت في قلوب أصحابها حتى مازجت معتقداتهم ، فتجاوزت إطارها الفقهي لتأخذ بُعداً عقيدياً لدى مشرعيها ولدى مخالفيها على حدٍ سواء ، بخلاف تلك النماذج التي سبق الحديث عنها ، كمتعة الحج ، وصلاة التراويح ، وصلاة الضُحى.

ومن أمثلة هذا النوع من الأعمال :

أولاً : الاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الإسلامية :

لا ريب أنّ الاحتفال بمولد النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وفق الضوابط والأصول الشرعية يُعبّر عن الحبّ والولاء والمتابعة للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو بالتالي تعظيم للرسالة الإسلامية الغرّاء.

ولقد تقدم القول في أنّ الملاك في نسبة الشيء إلى البدعة : هو كونها إضافة ما ليس من الدين إلى الدين أو إنقاص مما هو فيه ، وقد تقدم أيضاً مصاديق ذلك في الأمثلة المتقدمة.

وإنّ فِعْلَ ما لم يكن في عهد الرسول يصحُّ أن يكون ابتداعاً بالمعنى

ص: 100

اللغوي الذي يعني الإتيان بشيء ليس على مثالٍ سابق ، طالما لم يتعارض هذا الشيء مع التشريع.

وذكرنا أيضاً أنَّ عدم وجود الدليل الخاص على أمرٍ ما لا يعني أنّه يدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام في الدليل العام مجال لشموله بمفرداته.

والمسلمون يعلمون جميعاً أنَّ هناك أدلة كثيرة أكدت على ضرورة احترام النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) وتبجيله وتوقيره ، حيّاً وميتّاً ، وقد ورد الشيء نفسه في حق أهل البيت :.

وإذا كان الأوّلون يعبّرون عن حبهم لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته فإنّ للآخرين أن يعبروا عن هذا الحب أيضاً بالطريقة المناسبة بحيث لا تتعارض مع التشريع.

من هنا نجد مدى النكارة في ما قاله محمد بن عبدالسلام الشقيري : « بدعة منكرة ضلالة ، لم يرد بها شرعٌ ولا عقل ، ولو كان في هذا اليوم خيرٌ كيف يغفل عنه أبو بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي وسائر الصحابة ، والتابعون وتابعيهم والأئمة وأتباعهم » (1).

وحسبه تعصباً وجهلاً أن يقول : « لم يرد بها شرع » وكأنَّ أحداً من الناس قال إنّها - أي الاحتفالات بهذا الشكل الخاص المعمول به الآن - جزءٌ من الشريعة حتى يأتي هو لينفي كونها منه.

ص: 101


1- المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملي : 53 ، عن منهاج الفرقة الناجية ، عن كتاب السنن والمبتدعات : 138 - 139.

والغريب أنَّ بعض الذين عدّوا الاحتفال بمولده (صلی الله عليه وآله وسلم) بدعة ، إنّما فعلوا ذلك لأن الاحتفال ترافقه بعض الأعمال المُبتدعة ، من قبيل قول ( ابن الحاج ) : « ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات ، وإظهار الشعائر ، ما يفعلونه في شهر ربيع الأول في يوم المولد ، وقد احتوى على بدع ومحرّمات جمة » (1).

ومع أننا نستنكر كل عمل محرم يأتي به أحد في هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بين الأفعال المحرمة وبين الاحتفال بمولده (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يلغي أصل العمل ، ولا يؤدي إلى تحريمه بالضرورة ، إذ إنَّ القول بذلك يستلزم بطلان الكثير من أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بفعل محرم .. مع أنَّ الصحيح أنْ يقال إنَّ الفعل الفلاني محرّم لا يجوز الاتيان به ، بل يلزم المعاقبة عليه مع القدرة ، لا أن يلغي أصل العمل.

إنّ حبَّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أصل من أصول الاسلام ليس لأحدٍ إنكاره ، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن يُعبّر عن حبه للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) بأي صورة كانت شريطة أنْ لا تتعارض مع الشريعة.

ولا شك أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يمثل صورة من صور التكريم والتعظيم والاحترام لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يتدارس فيه الناس سيرته العطرة ويستخلصون الدروس العظيمة والنافعة.

وإلى جانب أهمية وضرورة حبّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد وفاته وتجسيد ذلك الحب في السلوك والعمل من خلال الالتزام بالتعاليم الإسلامية ، فقد أكّد الرسول الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) على حب أهل بيته :

ص: 102


1- المدخل ، لابن الحاج 2 : 2.

وعدّ حبهم حبّاً له هو (صلی الله عليه وآله وسلم) .

فقد ورد عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « أُذكركم الله في أهل بيتي » وكررها ثلاث مرات (1).

وعن ابن عباس عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي » (2).

واستقصاء أحاديثه (صلی الله عليه وآله وسلم) في دفع الاُمّة إلى الالتزام بحب أهل بيته : وتوقيرهم وتعظيمهم خارج عن طاقة هذا البحث.

إنّ المحصّل مما تقدم يوضح لنا أنّ التعبير عن الحب والتعظيم للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته : ليس أمراً ممنوعاً ، بل هو مرغوب فيه.

وقد أيد ذلك بعض علماء السُنّة وعدّوا الاحتفال بيوم مولده (صلی الله عليه وآله وسلم) عملاً حسناً أو « بدعة حسنة » بمعناها اللغوي ، نظير ما قاله ابن حجر « عمل المولد بدعة ، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها ، فمن تحرّى في عملها المحاسن ، وتجنَّب ضدها كان بدعةً حسنةً ، وإلاّ فلا » (3).

وقول أبي شامة : « ومن أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كل عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده (صلی الله عليه وآله وسلم) ، من الصدقات ، والمعروف ، وإظهار).

ص: 103


1- صحيح مسلم بشرح النووي 15 : 180 من كتاب ( فضائل الصحابة ) باب فضائل علي بن أبي طالب 4 : 1873.
2- سنن الترمذي : 622 / 3789 تحقيق أحمد محمد شاكر.
3- المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملي : 62 عن رسالة المقصد المطبوعة مع ( النعمة الكبرى على العالم ) و ( التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين : 114 ).

الزينة ، والسرور ، فإنَّ ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقراء مشعر بمحبته (صلی الله عليه وآله وسلم) وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكر الله على ما منَّ به من إيجاد رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي أرسلهُ رحمة للعالمين » (1).

وقول السيوطي : « عندي أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يمدّ لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها ، لما فيه من تعظيم قدر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف .. » (2).

وقال ابن تيميّة : « قال المروزي : سألتُ أبا عبد الله عن القوم يبيتون ، فيقرأ قارئ ، ويدعون حتى يصبحوا ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس .. وقال أبو السري الحربي : قال أبو عبد الله : وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلّون ويذكرون ما أنعم الله عليهم كما قالت الأنصار » ؟ وأضاف « وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد : حدثنا اسماعيل ، أنبأنا أيوب عن محمد ابن سيرين قال : نبئت أنّ الأنصار قبل قدوم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المدينة قالوا : لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : فيوم الأحد ، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم ، قالوا : فيوم العروبة ، وكانوا يسمّون الجمعة بيوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن

ص: 104


1- المصدر السابق : 63 عن السيرة الحلبية 1 : 83 - 84.
2- كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر ، لسعيد حوّى. السيرة بلغة الحب والشعر : 42.

زرارة ، فذبحت لهم شاة فكفتهم » (1).

إنّ أتباع أهل البيت : وعامة المسلمين يحتفلون بمولد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبمواليد الأئمة الطاهرين من ذريته وبالمناسبات والذكريات الاسلامية العظيمة ، ولا يتجاوزون في احتفالاتهم قراءة القرآن وسيرة الرسول وأهل بيته الطاهرين والدروس العظيمة والعبر من الذكريات الاسلامية.

وغريب جداً أن يعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حديث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أو إنشاء القصائد في مدحة بدعة بمعناها الاصطلاحي ، وأمامهم عشرات الأمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول شعراً في مدحه فما منعهم عن ذلك ، فما المانع أن ينشد الشعر في يوم مولده مدحاً له وإشادة برسالته العظيمة ؟

فهذا كعب بن زهير يُنشد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو بحضرته :

مهلاً هداك الذي أعطاك نا***فلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

إنَّ الرسول لنور يستضاء به***مهنّد من سيوف الله مسلول (2)

أو قول حسان بن ثابت في رثاء الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) :

يدلُّ على الرحمن من يقتدي به***ويُنقذ من هول الخزايا ويُرشد

إمام لهم يهديهم الحقَّ جاهداً***معلّم صدقٍ إن يطيعوه يُسْعدوا (3)

ولا نريد هنا الاستقصاء .. لكن هنا لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ هذين

ص: 105


1- اقتضاء الصراط المستقيم ، لابن تيمية : 304.
2- السيرة النبوية ، لابن هشام 4 : 154 - 155.
3- المصدر السابق 4 : 318.

الشاعرين وغيرهم من الشعراء أنشدوا شعرهم في اجتماع من الناس ولم ينشدوه بينهم وبين أنفسهم .. لكن أحداً لم يقل لهم إنّ إنشادكم في اجتماع الناس بدعة !

ثانياً : شدّ الرحال لزيارة قبر النبي والأئمة والصالحين :

اتفق علماء المسلمين على جواز زيارة القبور عامةً وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين خاصّة ، إلاّ ما نُسب إلى ابن سيرين والنخعي والشعبي ، على أنّ النسبة غير ثابتة.

وقد زار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله وقال : « .. استأذنته في أن أزور قبرها فأُذِن لي فزوروا القبور فإنّها تُذكِّر الموت » (1).

وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » (2).

وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً : « من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي ، كان كمن زارني في حياتي » (3). وقد وردت عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) عشرات الأحاديث في هذا المضمار من طرق الفريقين.

ويشكك ابن تيمية في مندوبية زيارة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويذهب في « منهاج السُنّة » وغيره إلى أن ما ورد في زيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ضعيف بل موضوع.

إلاّ أن المقدسي يذكر أنَّ ابن تيمية كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم ،

ص: 106


1- صحيح مسلم 3 : 65 باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه.
2- الغدير ، للاميني 5 : 93 عن أكثر من أربعين راوياً من أئمة المذاهب الأربعة.
3- المصدر السابق 5 : 98 - 100 عن خمسة وعشرين محدّثاً.

ونقل عنه قوله : إذا أشرف على مدينة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم ، فاذا دخل استحب له أن يغتسل ، نصّ عليه الامام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى ، وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله ، اللهم أغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلى بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاضّ الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ، ثم يقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين .. » (1).

ومع هذا الكلام فان ابن تيمية يعتبر « شدّ الرحال » لزيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمراً حراماً ، معتمداً في ذلك فهماً خاطئاً لما روي عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الاقصى » (2) وفي لفظٍ آخر : « إنما يُسافر الى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيليا » (3).

وسوف نتناول مناقشة هذا الأمر من جانبين : ي.

ص: 107


1- الصارم المنكي في الرد على السبكي ، للمقدسي : 7 ، ط 1 ، القاهرة ، المطبعة الخيرية.
2- صحيح مسلم 4 : 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال. سنن أبي داود 1 : 469 كتاب الحج. سنن النسائي 2 : 37 - 38 المطبوع مع شرح السيوطي.
3- صحيح مسلم 4 : 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال. سنن أبي داود 1 : 469 كتاب الحج. سنن النسائي 2 : 37 - 38 المطبوع مع شرح السيوطي.

الجانب الأول : إيراد أقوال وأحاديث تؤكد استحباب السفر لزيارة قبره (صلی الله عليه وآله وسلم) .

والجانب الثاني : دراسة وتحليل الحديث الذي اعتبره ابن تيمية دالاً على حرمة السفر إلى قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) :

يمكن الاستدلال على استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدّة وجوه ، لكننا هنا نقتصر على ذكر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزيارة ، بل عدّها بعضهم واجبة ، وليس لاَحد أن ينكر أنَّ السلف من علماء الاُمّة وعامتها سافروا لزيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقد أشار إلى هذا الواقع الامام السبكي ، بقوله : « إنّ الناس لا يزالون في كلَّ عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (صلی الله عليه وآله وسلم) ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة .. وذلك أمر لا يُرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المُهَج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرَّ السنين ، وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزَّ وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير ، مع تأسفه عليه ووده لو تيسر له ، ومن أدّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ » (1).

ص: 108


1- شفاء السقام في زيارة خير الانام ، للسبكي : 100.

وإلى جانب ما جاء به السبكي في معارضة القائلين بالتحريم ، فقد شاركه عدد غفير من العلماء في ذلك ، وإليك بعض النصوص.

1 - قال أبو الحسن الماوردي ( ت / 450 ه ) : « فإذا عاد ولي الحاج ، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ليجمع لهم بين حج بيت الله عزَّوجلَّ وزيارة قبر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة » (1).

2 - قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ( ت / 737 ه ) : « وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليّتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون .. » (2).

وابن الحاج هنا - كما ترى - لا يقصر مشروعية الزيارة على نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بل يعممها على الأنبياء والرسل أيضاً.

3 - روي أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس ، جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : « هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال : نعم » (3).

ص: 109


1- الاحكام السلطانية ، للماوردي : 105.
2- المدخل ، لابن الحاج 1 : 257 فضل زيارة القبور.
3- شرح المواهب ، للزرقاني المالكي المصري 8 : 299.

دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) :

اشارة

اعتمد القائلون بتحريم شدّ الرحال لغير المساجد الثلاثة ( مسجد الرسول ومكة وبيت المقدس ) بشكل خاص على الرواية المتقدّمة ، ولنا في دلالة الحديث أو الأحاديث المارة مناقشة ، تقوم على أساس تحديد المستثنى منه ، وهو واحد من اثنين :

1 - لا تشدُّ الرحال إلى « مسجد » غير المساجد الثلاثة.

2 - لا تشدُّ الرحال إلى « مكان » غير المساجد الثلاثة.

فلو كان المقصود بالرواية المستثنى الأول كما هو الظاهر ، فإنّ معنى الحديث يكون : الأمر بعدم شدّ الرحال إلى أي مسجد من المساجد ما عدا المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن هذا « المكان » مسجداً ، فالحديث إذن بهذا المعنى لايتعرض بحال لشدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأئمة الطاهرين والأولياء والصالحين ، لأن قبورهم ليست مساجد ، ولأنّ الحديث يتعرض في نفيه وإثباته للمساجد خاصة ، ولذلك فإنّ الاستدلال به على حرمة شدّ الرحال إلى غير المساجد باطل.

أما الحالة الثانية ، وهي البناء على الاستثناء من عموم الأمكنة ، فلا يمكن الأخذ بها ، إذ تستتبع حرمة جميع الاسفار سواء كان السفر لزيارة مسجد أو غيره من الامكنة ، ولا يقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء.

ومن جهة ثانية : فإنّ النهي عن شدِّ الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً « تحريمياً » وإنّما هو إرشاد الى عدم الجدوى في سفر كهذا ، وذلك لأن المساجد الاُخرى لا تختلف من حيثُ الفضيلة ،

ص: 110

فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة وإنّ من العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع آخر في بلد آخر مع أنهما متماثلان.

يقول الغزالي بهذا الصدد : « القسم الثاني ، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد .. ويدخل في جملته : زيارة قبور الأنبياء (عليهم السلام) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكل من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : « لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى » ، لأن ذلك في المساجد ، فإنّها متماثلة في الفضيلة ، بعد هذه المساجد » (1).

ويقول الدكتور الشيخ عبدالملك السعدي : « إنَّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الاَُخرى لأجل أنَّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب ، لأنها في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لأن العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الاقصى بخمسمائة ، فزيادة الثواب تحبّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقيّة المساجد » (2).

ومن جهة ثالثة : فإنّ هناك دليلاً آخر على أنّ السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس محرّماً ، وهو ما نكتشفه من سيرة النبي الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد روى أصحاب الصحاح والسنن : « كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يأتي مسجد قباء

ص: 111


1- احياء علوم الدين ، للغزالي 2 : 247 كتاب آداب السفر ، طبعة دار احياء التراث العربي - بيروت.
2- البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي : 60.

راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين » (1).

مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم :

لابن تيمية فتوى بالتحريم عمم فيها الحرمة بزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ، مع أنّ المستثنى هو المساجد فقال في الفتاوى ، معتمداً في فتواه على القياس : « فاذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله ، حتى إنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله » (2).

ولو صحّ هذا النقل عن ابن تيمية ففي كلامه مؤاخذات شتى ، فقد قال: « إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاث ليس بمشروع ».

المؤاخذة عليه هي أنّه من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم ، وقد تقدّم أنّ النهي ليس نهياً تحريمياً مولوياً ، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولذلك فإنّه لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز ذلك السفر مثلما عرفت من سفر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى مسجد قباء مراراً.

وقال أيضاً بأنّ عدم المشروعية اتفق عليه الأئمة الأربعة :

ويؤاخذ عليه : أننا لم نجد نصّاً منهم على التحريم ، وإيرادهم للحديث في صحاحهم ليس دليلاً على أنّهم فسروا الحديث بمثل ما فسرّه هو.

ص: 112


1- الفتاوى ، لابن تيمية. البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي.
2- الفتاوى ، لابن تيمية. البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي.

وأيضاً : فإنّ قياسه زيارة قبور الأنبياء والصالحين على زيارة عامّة المساجد ، قياس باطل خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوى السفر إلى شيء من هذه المساجد العامة ، لعدم تحقق أي فائدة سوى تحمّل العناء والتعب ، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في بلدٍ آخر ، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر إليه.

وأما قوله : « إنَّ المسلمين يتخذون قبور الأولياء أوثاناً وأعياداً ، ويُشْرَك بها » فهذا افتراء كبير على المسلمين الموحّدين ، فكيف يكون مشركاً من يشهد كل يوم بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وكيف يتخذ من يشهد بذلك قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وثناً ؟ أما ما يصدر من الجهلة المتوهمين للعبادة بما قد يعدّ من الشرك ، فليس بموقوف على هذه الأماكن ، بل قد يصدر منهم أنفسهم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي أيضاً ! فلا يصحّ اتخاذه ذريعة للتحريم ، وإلاّ لوجب تحريم دخول المساجد كلّها لأجل مايفعل أمثال هؤلاء ، بل وتحريم الحج نفسه ! وهذا باطل لا يقول به عاقل.

تم ما أردنا إيراده عن البدعة مفهوماً وشروطاً ومصاديق.

والحمد لله ربِّ العالمين

ص: 113

ص: 114

المحتويات

مقدمة المركز... 5

المقدِّمة... 7

الفصل الأول

البدعة دلالتها في القرآن والسُنّة... 9

البدعة في اللغة... 9

البدعة في الاصطلاح... 11

البدعة في القرآن الكريم... 14

الصورة الاُولى... 14

الصورة الثانية... 16

البدعة في السُنّة المطهّرة... 17

الفصل الثاني

مفهوم البدعة وشروطها... 27

أولاً : الاختصاص بالاَُمور الشرعية... 27

أصل هذا الفهم... 31

ثانياً : عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين... 39

استثناء ما ورد فيه دليل خاص... 40

تقسيم البدعة... 43

أدلة عدم جواز تقسيم البدعة... 46

مواقف العلماء من تقسيم البدعة... 48

الفصل الثالث

أسباب نشوء البدعة... 51

أولاً : توّهم المبالغة في التعبّد لله تعالى... 52

ثانياً : اتّباع الهوى... 57

ص: 115

ثالثاً : التسليم لغير المعصوم... 60

الفصل الرابع

دور أهل البيت (عليهم السلام) في محاربة البدع... 63

أولاً : الجبر والتفويض... 63

ثانياً : القياس والرأي... 65

ثالثاً : التشبيه والتجسيم... 67

تأويل ظواهر الآيات والأحاديث الدالة على التشبيه والتجسيم... 68

رابعاً : نفي الرؤية... 71

خامساً : التصوّف والرهبنة... 72

سادساً : مواجهة حركة الغلاة... 73

الفصل الخامس

تطبيقات حول البدعة... 79

أولاً : النهي عن متعة الحج... 79

متى ظهر النهي عن متعة الحج... 82

موقف المسلمين من النهي... 83

ثانياً : إقامة صلاة التراويح جماعة... 85

أوّل من أمر بإقامة التراويح جماعة... 88

موقف المسلمين من بدعة الجماعة في التراويح... 90

ثالثاً : صلاة الضُحى... 92

نماذج أُخرى من البدع... 99

أعمال نُسبت إلى البدعة... 100

وليست كذلك... 100

أولاً : الاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الإسلامية... 100

ثانياً : شدّ الرحال لزيارة قبر النبي والأئمة والصالحين... 106

استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 108

دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 110

ص: 116

مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم... 112

ص: 117

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.