نقد فلسفة دارون

هویة الکتاب

نقد فلسفة دارون

تأليف

آية اللّه العظمى أبي المجد الشيخ محمد الرضا

النجفي الإصفهاني

[في الردّ على فلسفة النشوء و الارتقاء]

ص: 1

اشارة

ص: 2

القسم الأوّل: في الردّ على فلسفة النشوء و الارتقاء

مقدّمة

كلمة نجلب إليها أنظار عموم القرّاء

لم نتعمد في هذا الكتاب تحسين العبارة، ولا استعمال النكات البديعية الاّ ما جادت القريحة بها من غير رَوّية . وكثيراً ما توخّينا فيه من البيان ما كان أقرب إلى أفهام أهل العصر ، وأشبه بما ألِفَتْها طباعهم من المسالك الحديثة . ولذلك جرّدنا الأدلّة والأجوبة عن الإِيْراداتِ(1) المنطقية ، وألبسناهما حللاً عصريةً . وكثيراً ما ألجأَنا مقتضى الحال إلى استعمال ألفاظ دخيلة في اللغة ، أو مبذولة عاميّة وإلى جُمل لا تساعد عليها قواعد العربية . وأنا وإن كنت لا أُبَرِّئُ نفسي من اللحن ، ولكن ما كان فيه من الأغلاط الواضحة التي لا تقع في كلام صغار المتكلّمين باللغة العربية نحو: «كبرُ القدّ وصغره»، ونحو: «ألم ليس فقط وحده»، ونحوهما؛ فتلك واقعة في كلام الخصم فأَبقيناها على حالها، أو رعاية المتابعة أَلْجأتنا إلى التعبير لدى الجواب بمثلها، وتجنّبنا غالباً ذكر البراهين الدقيقة المبتنية على الفلسفة العالية والحكمة المتعالية للسبب الذي قدّمناه، ولأن يعمّ نفعه عمومَ المطّلعين عليه وتتمّ الحجة حتّى على /3/ جَهلة المطّلعين به .

ثمّ انّي لا أكلف القرّاء أن يتعصّبوا لِي في الباطل ، أو يقولوا بقولي قبل تمحيص ما اعتمدت عليه من الدليل ، بل وَايْم اللّه لا أحبّ ذلك، ولكن أَمَلِي منهم لحسن ظنّي بهم أن يُبعدوا عن أذهانهم الرعْبَ الذي خامرها من هؤلاء، و يرفضوا العصبية

ص: 3


1- الاصل: الايراد.

للآراء والأهوآء. ثمّ ينظروا إلى كلامَيِ المتناظِرَيْنِ لا إلى المناظِرِينَ، ويرونا لدى الحكومة خصمَينِ متساويينِ، وهذا هو المحبوب لديّ ، وهذه الحكومة هي المقبولة لي وعليّ، وهذا حقيّ الذي أطالب به القرّاء بجامعة الإنسانية، إن لم يكن تجمعني معهم الجامعتان الشريفتان الدينية والوطنية .

وأملى أيضاً أنّه إذا تحقق لديهم خَطئى في دليل أو جواب أن بُيّنوا لي ذلك ويرشدوني فيه إلى الصواب إمّا برسالة خصوصية أو بدَرْجهٍ في مجلّة علمية يمكنني الاطّلاع عليها . لاِءسُدَّ ما في كتابي من الخلل وأقوِّم ما اعتراه من الخطل،(1) والكمال للّه تعالى وحده .

كلمة خاصّة بالمؤمنين أعلى اللّه كلمتهم

اشارة

الغرض الذي أنشأنا هذه الرسالة له هو: دفع شبهات المعطّلين من أهل هذه الأهوآء ، وإيضاح أنّ التوحيد هو المقصد الوحيد الذي ينتهي إليه جميع الآراء، وبيان أنّ وجود الصانع أظهر من أن يخالفه رأي فلسفي ، أونظر علمي؛ وإنّ هذه الآراء لو تمتّ فلا تفضي إلى التعطيل ، ومفترضاتهم إن صحّت فلا تغني عن الخالق الجليل . فكان أقرب مسالك الكلام إلى ما قصدناه وألصقها بما أردناه هو الجريُ على أصولهم ما أمكن وان كانت فاسدة، وتسليمها وان كانت غير مسلّمة ، ودفع شبهاتهم على مقتضيات أصولهم ومقررات رؤسائهم . فإذا بنيتُ الردّ على أصل ، أو التزمتُ بفرض لدى النقض، فلا يلزم اعتقادي بذلك الأصل أو الفرض . فكثيراً ما أجري فيها على أمور لا أعتقدها، لأنّها أقرب إلى أفهامهم وأنسب بما ألِفَتْهُ نفوسهم

ص: 4


1- الخطل: المنطق الفاسد، الاضطراب.

من مقرّراتهم . وتراني أعظم فيها الأسباب، ولكنّي وجلال مسببّها لا أراها إلاّ أستاراً لقوم قاصرين ، لم تستطع أبصارهم النظر إلى صنع ربّ العالمين . وأحيد عن خرق نواميس الطبيعة وأنا أعلم أنّ القادر على خلقها لا يعجز عن خرقها ، ولكن بناءُ الكلام على هذه الأصول يكون على نمط آخر من البيان . تناسبه رسالة أخرى تصنّف لقوم آخرين . وهذه موضوعة لقوم لا تطمئنُّ قلوبهم بغير قوى الطبيعة ولا يسلّمون إلاّ ما يطابق نواميسها المعلومة .

ولهذا السبب بعينه ربما اخترت فيها للجواب من مذاهب علماء الدين ما كان أقرب إلى أفهامهم وأقوى على حسم شبهاتهم، وإن كان مذهبي سواه واعتمادي على غيره .

ثمّ إنّ نفى ضرورة الدين عن أمر لا يستلزم عدم الاعتقاد به ولا عدم ثبوته فيه . إذ الأمور الثابتة في الدين لا تحصى كثرةً، مع أنّ الضروريات منها محصورة معدودة .

تبيين موقف الكتاب ضدّ اللادين المحض

وليعلم أنّ كتابي هذا موضوع للدفاع عن الدين المطلق، في قبال اللا دين المحض ، لا للانتصار لدينٍ على دينٍ والانتصاف لبعضه من بعض . ولهذا تراني أدفع ما استطعت عن أديان لا أنتحلها، ومذاهب لا أقول بها؛ لأنّ أحد هؤلاء لا يثلب ديناً إلاّ وقصدُه ثلب الأديان عامّة . ولا يُزري على شريعة إلاّ ليسري إزراءه(1) إلى الشرائع قاطبةً . فيقع في النصرانية ليطفئ أُوارَ(2) غيظه من الحنيفية، ويعترض على الحنيفية ليشفي أحاح(3) نفسه من النصرانية، ولا يذمّ غيرهما الاّ ليسري الذمّ بزعمه

ص: 5


1- الإزراء: الصير.
2- الأوار: مِنْ مَعانِيه العَطَشُ و اللَّهَبُ.
3- الأحاح: العطش، اشتداد الحرّ.

إلى جميع الشرائع الإلهية . فمن الحزم أن نردّ على وجهه هذا الباب، ونستأصل شأفة الطعن على مطلق الدين في هذا الكتاب .

وفذلكة هذه الكلمة أنّ معتقداتي الخاصّة لا تُستكشف من هذه الرسالة ، ولا يحلّ لأحد أن ينسب إليّ ما يجد فيها مخالفاً لمذاهب أصحابنا - أيّدهم اللّه تعالى - وقد قال المحقّق الطوسي رحمه الله : «إنّ معتقداتي لا تؤخذ من شرح الإشارات؛ لأنّه موضوع للجواب عن اعتراضات فخرالدين على الحكماء، بل تؤخذ من التجريد»(1) . وأنا أقتدي بهذا الإمام وأقول إِنَّ معتقدي لا يؤخذ من هذه الرسالة لأنّها موضوعة لتطبيق النواميس الطبيعية(2) على الحقائق الدينية .

كلمة

إلى المعطّلين(3) وغيرهم من أهل هذه الآراء هداهم اللّه تعالى بلطفه

كلمة إلى المعطّلين وغيرهم من أهل هذه الآراء هداهم اللّه تعالى بلطفه

نشر آراء دارون و المنحرفين

كتب دارون وسائر رؤساء هذه الفلسفة كتبا عندنا غير موجودة، وبلادنا عن البلاد التي نشأت فيها هذه الآراء بعيدة. وقد طلبناها من مواضعها وكان الحزم تأخير تصنيف هذا الكتاب إلى زمن وصولها لولا الباعث الديني . وظنّنا أنّه توجب علينا المسارعة ، ولا يبعد أن يكون قد منعنا صغرى دليل قد فرغ هؤلاء من إثباتها، أو كبرى حجة مذكور في كتبهم برهانها؛ وأنا أقترح عليهم أن يخابرونا بما يجدون فيه منه ومن أمثاله لننظر فيه ؛ ولهم علينا أن نستعمل الإنصاف لا المكابرة ، فإنّما غرضنا تمحيص الحقائق لا المجادلة . ولا عار على الإنسان أن يخفى عليه ما هو في

ص: 6


1- لم نعثر على مصدر الكلام.
2- الأصل: الطبيعة.
3- الاصل: كلمة للمعطّلين.

زاوية النقل . لا في خبايا العقل كما اعتذر به أحد العلماء عن صاحب العروض.

وللعلم في طول البحث الربح، لا الخسران، كما علمتم من الفوائد التي ربحها العلم من بحث في جزائر المرجان .

وما فيه من النقل فقد تحرّينا فيه أوثق ما عندنا من المصادر ولم نذكر أسماءها غالباً طلباً للاختصار، فمن كان في شكّ من بعضه فما عليه غير أن يخابرنا لنرشده إلى الأصل الذي نقلنا منه. ولا نستبعد خطأ الناقل في فهم مراد القائل ولا تقصير المترجم في أداء مراده، ولكنّا بالإرشاد إلى الأصل المأخوذ منه النقل نسقط عنّا ضمان الصحّة ونلقي تبعة الخطأ على ناقله فلا يثقل بِعِبْئِهِ غير كاهله .(1)

ثمّ إنّ كثيراً مما وصل الينا من كتب هؤلاء ومقالاتهم مِلْوءُها التهكّم والاستهزاء بالدين وحشوه النبيين - صلّى اللّه عليهم أجمعين - ونحو ذاك مما ترتعد له الفرائص وتقشعرّ منه الأبدان . وما كان بالصعب علينا أن نرخي العنان للقلم ونقول واحدة بواحدة . والبادي أظلم، بل نبيعهم بأطول من ذراعهم ونكيلهم بأوفر من صاعهم، ولكنّا توخّينا حُسن المجادلة الذي أُمرنا(2) به في محكم الكتاب، فنزّهنا كتابنا عن الشتم والسباب ونحوهما مما تثير عواصف العصبية . فتعشى العيون عن النظر إلى الحقيقة العلمية وما فيه من التكذيب؛ فانّما هو للنقل لا للناقل وما فيه من التحقير؛ فانّما هو للقول لا للقائل، وما ظاهره التهكّم أو الاستهزاء فما هو الاّ مجون(3) ومزاح، تجد نظائره وأَمَّرْ منه كثيراً في كتب العلماء. وأنا مع هذا معتذر عمّا فيه من دعوى بداهة الفساد ونحوهما ممّا هو متعارف عند أهل العلم لدى الردّ والانتقاد .

ص: 7


1- الكاهِلُ: الحارِكُ، وَ هُوَ ما بَيْنَ الْكَتِقَيْنِ. الكاهل من البعير: مقدّم ظهره. (عبدالستار الحسني)
2- إشارة إلى الآية الكريمة النحل/ 135: «أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ و الموعظةِ الحسنةِ و جَادِلْهم بالتي هي أحسنُ».
3- الُمجونُ - هُنا - : أَلاّ يُبالِىَ الاْءِنْسانُ بِما صَنَعَ.

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه والصلاةُ على محمد وآله

الصلة بين فلسفة النشوء و الارتقاء، و الإلحاد و غيره

سألتَ - ثبتّك اللّه على يقينك وجنّبك من الفتنة في دينك - عن أمر هذه الآراء المنسوبة إلى دارون المعروفة ب- «فلسفة النشوء والارتقاء»،(1) وذكرت ما بلغك من شيوعها عند الغربيين وانتحال جماعة لها من الشرقيين . وجعلهم ذلك أساساً للزندقة والإلحاد من الجحود للصانع والإنكار للشرائع، ورسمت اختلاف من قِبَلِك من أهل الدين فيها، وأنّ قوماً يزعمون موافقتها له وآخرون يذهبون إلى مخالفتها، لما علم بالضرورة منه، وطَلبتَ أن أرسم لك فيها فرقاناً بين باطلها وحقّها ، وميزاناً تميّز به كذبها من صدقها ، ودستوراً ترجع اليه إذا /3/ وقعت إليك أمثالها من الآراء ، وسناداً تعتمد عليه(2) إذا دفعت إلى مختلفات الأهواء. وأنا مجيبك - إن شاء اللّه تعالى - إلى ما سألت ومسعفك بما اقترحت.

على أنّ الزمان - كما تعلم - والقلب يقاسي من أبنائه ما اللّه به أعلم، وهموم

ص: 9


1- ويقال لها فلسفة التسلسل والتحوّل وأصلها ادّعاء أنّ جميع الأنواع الموجودة من النبات والحيوان ناشئة عن أنواع أخرى أحطّ منها، ومتسلسلة عنها، وصورها متحوّلة عن صور منحطّة بالنسبة إليها، وهكذا حتّى ينتهي الجميع إلى أصل واحد منحطّ جدّا أو بضعة أصول كذلك، ويعلّلها دارون بالجهاد المستمرّ بين الأحياء وتنازعها على البقاء المستلزم لفناء الضعيف وبقاء الأنسب والأقوى على تحمّل عوارض الوسط. وسيأتيك تفصيلها إن شاء اللّه . (منه)
2- الأصل: تعتمد عليه.

القلب جرت على ناموس النشوء والارتقاء، ورأته وسطاً رحباً، فتركت التنازع واصطلحت كلّها على البقاء، وما درت أنّ الوراثة منحتنى قَلْباً قُلّباً على الحوادث ، وحلماً لا تقرع له العصا إذا قرعت حصاة القلب الكوارث، واللّه تعالى وحده هو المأمول لدفع المحذور ونيل المأمول .

والكتاب منقسم إلى قسمين :

أوّلهما: يتضمّن انتقاد هذه الفلسفة من الجهة الدينية، ثمّ الجهة العلمية .

وثانيهما: يتضمّن ذكر الدليل على الإثبات، ودحض ما لفّقته المعطلة من الشبهات، عدا ما فيها من فوائد مستطردة وتنبيهات مهمّة.

وجميع ذلك في طيّ مقالات تخللها فصول :

ص: 10

المقالة الأولى: في بيان الشبهات في الأدوار الثلاثة في الإسلام

اشارة

اعلم أنّ دين الإسلام - على الصادع به [و آلِهِ] أفضل السلام - قطع من الشبهات أدواراً ثلاثةً في أعصار ثلاثةٍ .

الدور الأوّل: عصر البعثة

في عصر صاحب الشريعة ونزول الوحي وكان قومه صلى الله عليه و آله وسلم أُمِّييِّنَ، لا يعرفون الكتابَ . جاهلين البراهين النقلية والموازين العلمية، فكانت شبهاتهم منحصرة في استبعادات فطرية . واستدلالات بسيطة؛ فطفقوا يرتّبون تلك الشبهات ويوردونها على صاحب الشريعة، وتنزل في حلّها الآيات.

فإن استبعدوا المعاد ، فقالوا : «مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؛(1)

أجابهم الوحي بقوله تعالى : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» .(2)

وإن قال قائلهم : «أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً» .(3)

أجابه بقوله تعالى : «أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» .(4)

ص: 11


1- يس/ 78.
2- يس/ 79.
3- مريم/ 66.
4- الأصل: الفرقان/ مريم/ 67.

وإن قالوا : «لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً» ؛(1)

أجابهم :/4/ «كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً» .(2)

وان استبعدوا علمه تعالى بالأشياء، بيّن لهم البرهان الذي يحيّر الألباب بألطف بيان وأعذب خطاب، فقال تعالى : «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .(3)

هذا بعد ما عرّفهم الطريق إلى معرفته تارةً بإرجاعهم إلى الفطرة السليمة وأنّ وجوده تعالى من القضايا الأولية فقال : «أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ» .(4)

وأرجعهم تارةً إلى الغايات الحاصلة من الأسباب المرتبّة الدالّة على القصد دون الاضطرار، فقال تعالى : «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .(5)

انظر بيان البرهان المستفاد من هذه الآية وأمثالها في القسم الثاني.

وأوضح لهم قدرته على المعاد بألطف مثال ، فقال: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْءَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .(6)/5/

ومثّله لهم بقوله : «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْءَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ» .(7)

إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب عدّها ولا يناسب المقام سردها

ص: 12


1- الفرقان/ 32.
2- الفرقان/ 32.
3- الملك/ 14.
4- ابراهيم/ 10.
5- الروم/ 48.
6- فصلت/ 39.
7- فاطر/ 9.

ولم تزل تلك الشبهات تتقشع بأنوار الوحي حتّى انجلى عمود الحق، وأضاء بنوره أكثر المعمورة في أقلّ من قرن .

الدور الثاني: عصر العباسيين

في عصر أوائل الخلفاء العباسيين حين نقلت علوم اليونانيين إلى بلاد المسلمين، وَتُدُوْوِلَتْ(1) بينهم العلوم العقلية، وعرفت الموازين المنطقية فتهافت عليها الملاحدة، والذين في قلوبهم زيغ تهافت الجياع على القصاع، ورتّبوا شبهاتهم على الأصول اليونانية وألبسوها حلل البراهين المنطقية. وأخذوا مع ذلك يرعبون الناس تارة بأعلام يونانية غريبة واصطلاحات علمية لا عهد للمسلمين بها، وأخرى بإصاباتهم في العلوم التي مباديها حسّية أو قريبة من الإحساس - كبعض الطبّ والرياضيات - وظنّوا أنّهم قد هدموا بذلك أركان /6/ الدين وبلغوا مرامهم من إضلال المسلمين، ولكن لم تدم لهم تلك الفرحة . بل عادت عليهم وبالاً وترّحة(2) إذ كانت في تلك الآيات التي وردت للعصر الأوّل كنوزٌ مُدَّخَرَة لهذا العصر، استخرجها علماء الإسلام، وأضافوا إليها ما وصل إليهم من أحاديث صاحب الشريعة والأئمّة القائمين مقامه؛ فأجابوا عن تلك الشبهات بأجوبة مطابقة لمصطلحاتهم مبنيّة على الصحيح من أصولهم، ودفعوا بساطع البرهان ما كان لهم من الأصول الفاسدة، ولم ينفق في سوقهم ما كان لهم من الأمتعة الكاسدة، فزاد الدين بها نوراً على نور وظهوراً على ظهور . وخابت أمثال الملحدين «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه ُ واللّه ُ خَيْرُ الماكِرينَ»(3) وبرزت الأصول الدينية تختال في حلل البراهين

ص: 13


1- الأصل: تداولت.
2- ترّح: أحزن.
3- آل عمران/ 54.

العقلية ، الجامعة للشروط المنطقية؛ وما زادها كيدهم إلاّ حُسناً على حسنٍ لو كان ثَمّةَ موضع لمزيد .

الدور الثالث: عصر المخالطة بالغربيين

اشارة

في هذا العصر الذي قضت المصالح السياسية والعلائق التجارية مخالطة المسلمين بالغربيين، ورأوا من أنفسهم الحاجة إلى أشياء كثيرةٍ من لوازم المعيشة قد سبقهم هؤلآء إلى /7/ إتقانها أو إلى اختراعها؛ ففزعوا إلى قوم منهم أرسلوهم إلى تلك البلاد لينقلوا لهم ما ينفعهم في المعاش ، فجلبوا إليهم ما لا ينفعهم فيه ويضرّهم في المعاد، وما مثلهم إلاّ مَثَل قوم وقع في بلدهم مرض عامّ، وسمعوا بأنّ في الغرب منهم جزيرة أكثر نباتها مهلك سامّ ، ولكن فيها عدّة أعشاب نافعة لهم من ذلك الداء العضال ، فبعثوا أناساً منهم إليها وبذلوا لهم نفايس الأموال، فعمد بعض هؤلاء، فنقل كلّ ما تناولته يده من غير أن يفرّق بين النافع والضارّ، وأخر زعم النفع مقروناً بحلاوة الطعم وطيب الأزهار، فاجتنى ما حَلا طعمه وطاب شذاه، وكان النافع سواه، وأحسن غيره التروى، فلم ينقل الاّ ما جرب نفعه في أمزجة أهالي تلك الأصقاع، وعزب عن ذهنه اختلاف الأمزجة والطباع، وآخِرُ القوم كان أكثرهم تثبّتاً وحزماً ، فقتل تلك الأدوية خبراً وعلماً، ولم ينقل الاّ ما جرّبه في أناس يقاربون أهل بلاده طبعاً ويشابهونهم مزاجاً، فنقل أصنافاً منها مصبوغةً بألوانٍ زاهيةٍ موضوعة في صناديق بديعة، ملفوفة في أوراق مذهّبة، قد كتبت عليها حروف مستغربة، وسمّاها بالأدوية الجديدة، فاستقبله قومه، وهم يظنّون أنّهم /8/ نالوا

ص: 14

بغيتهم وظفروا بما يزيح علّتهم، وقد بَهَرَهُمْ(1) حسن الأواني واستحكام صنعتها واستغربوا الحروف المكتوبة عليها. فلمّا اختبروها ودقّقوا النظر فيها ، عرفوا أنّها مما تنبته بلادهم، أخذت منهم فغيّرت صورها وأوانيها، وأعيدت لهم، فَسُقِطَ في أيديهم وعلموا أنّها بضاعتهم ردّت إليهم،(2)

فافهم رحمك اللّه المثل، واعذرني من التفصيل، واقنع الآن منّي بهذا المجمل وانظر مطابقته لحالتنا الحاضرة .

حثّ المسلمين على الاكتفاء الذاتي

فنحن الآن أحوج إلى معرفة الصنائع التي تعيد إلينا ثروتنا وتقلّل احتياجنا إلى الأجانب وتحمى ثغور بلادنا من هجماتهم من معرفة كفريات نيتشه و شوبنهور والسوانح الْعُمْرِيّة لفلان المجنون. والعلوم الصحيحة أجدر بنا من رُمّانات(3) مشوّه وجه التأريخ دوماس، وفلسفة تؤول بنا إلى السعادة أنفع لنا من فلسفة التشاؤم(4)؛ والجدّ أولى بنا من كوميديات موليار، وحسبنا من مضيّعات الوقت ألف ليلة وليلة ورواية البطل عنترة، ولا نحتاج إلى رواية كنت منت كريستو، ورواية تروا موسكتر.

والأولى بنا أن نتقن العلوم التي أخذها الغربيون منّا، ونتعلّمها بلغتنا عن كتبنا، ونزيد عليها ما زاده عليها هؤلآء من المسائل، بعد أن ننقلها /9/ إلى لغتنا، ونضع لها رموزاً واصطلاحات تناسب بلادنا وطباعنا، كما فعله المترجمون عن اليونانية، لا أن نتعلّم ما يعلّمه أطفالنا، كالجمع والضرب باصطلاحات غربية وخطوط غريبة،

ص: 15


1- الأصل: أبهرهم.
2- اقتباس من الآية الكريمة في سورة يوسف/ 65: «هذهِ بِضاعَتُنا رُدّت إلينا».
3- كذا في الأصل/ والصحيح: روايات.
4- الأصل: التشأم.

ونسمّيها العلوم الجديدة أو العلوم الإفرنجية .

ولو كان العلم يصير جديداً بزيادة عدّة مسائل فيه، فاذا لا قديم، إذ العلوم جارية على ناموس الارتقاء تزداد بسطاً وتنقيحاً بتوالي الأفكار، وتزاد فيها أشياء.

وإن كان الاعتبار بالاصول الكلية؛ فأين الجديد! على أنّ العالم يكون شرقياً أو غربياً، ولكنّ العلم شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية،(1)

وفي جميع البلاد العدد نصف مجموع حاشيه، والخطّ المَمْدود(2) يمكن أن نرسم مثلّثاً متساوي الأضلاع عليه، وهل الزوايا الثلاث من المثلّث شابهتنا في الرّعب منهم، فهزلت حتّى نقصت عن قائمتين، أو أنّهم بحسن السياسة غيّروا مقدار الفضل بين المربّعين المتواليين !

هذا والقلم يجاذبني العنان، ويحاول الجري في هذا الميدان، وقد كففته بأن أعود إليه في مواضع هي به أحرى، أو أضع فيه رسالة أخرى .

ونقول هنا بالإجمال:

تنبيه المسلمين بما سيفقدون

إنّ التراجم لو بقيت على هذا المنوال /10/ ولم تغيّر الدول خطتّها بحُسن سياستها ولم يلتفت المسلمون إلى سوء عاقبتها، لا يمضي قرن حتّى يخسر المسلمون دينهم ومحاسن صفاتهم وعاداتهم من غير أن يربحوا في دنياهم .

أمرتُكُم أمري بمنعَرج اللَوى *** فلم تَستبينوا النصحَ إلاّ ضحَى الغدِ(3)

ص: 16


1- اقتباس من الآية الكريمة في سورة النور/ 35: «كأنّها كوكبٌ درّىٌ يُوقَدُ من شجرةٍ مُباركةٍ زَيْتُونةٍ لا شرقيةٍ و لا غربيةٍ».
2- الأصل: المحدود.
3- القائل: دريد بن العتمة، ومطلعه: «أعاذلتي كلّ اِمرئ و ابنُ أمّه / متاع كزاد الراكب المتزوّدِ».

رجع إلى ما كنّا بصدده: والأمر في شبهات هذا الدور أهون بكثير من حيث العلم؛ لأنّها قَصُرت عن شبهات الدور الأوّل، لما فاتها من رونق الفطرة وحُسن صبغتها، ولم تلحق شبهات الدور الثاني في قوّة مبانيها واستحكام أدلّتها، ولكنّ الضرر منها على الدين أعظم والخطر الناتج منها أشدّ .

إذ شبهات العصر الأوّل - كما عرفت - كانت بسيطة عامية، فزالت سريعاً بمحكمات الآيات والأدلة العلمية. وشبهات العصر الثاني كانت مبنية على أصول دقيقة واصطلاحات علمية جليلة، وأذهان عموم الناس بعيدة عن فهمها، وكان لا يخشى الضرر منها الاّ على أناس قليلين صرفوا في تلك العلوم أعمارهم، وقليل ما هم.

بخلاف شبهات هؤلاء؛ فانّها مبنية غالباً على تجربيات ودعاوى مشاهدات وقد جعلوا على طبقها اصطلاحات يسهل على عموم الناس معرفتها.

وتجد واضحاً ما قلناه إن قابلت بين مباحث /11/ الهيولى والصورة وأحكام المعلول والعلة، وبين مباحث هذه الفلسفة واصطلاحاتها من تنازع البقاء وقانون الوراثة والارتقاء .

انتقال علوم اليونانيين بعد زوال عزّهم

وهنا أمر آخر أهم من الأوّل، وهو: أنّ علوم اليونان لم تنقل إلينا الاّ بعد زوال عزّهم وانقراض دولتهم، ولم يكن لهم في ذلك الزمان رعب متمكّن في النفوس ولا هيبة في الصدور، ولم يكن المسلم يلاقي روميا أو يونانيا الاّ بحدّ السيف ومرّ السنان، ولا يطأ لغير السبي والنهب ما لهم من البلدان.

وآراء هؤلآء دخلت بلاد الإسلام والقوم في أَبّان مجدهم ومنتهى سلطنتهم، وقد ملكت عاداتهم وصفاتهم ولغاتهم البلاد القليلة التي لم تملكها سيوفهم جرياً على

ص: 17

ناموس القوّة، ورفعهم الناس فوق مقدارهم، وكالوا لهم بما هو أوفر من صاعهم، حتّى زعموا أنهم رزقوا من العقل والذكاء ما ليس لسواهم، فكأنّهم يحسبونهم ملائكة نزلوا من السماء أو جِنّا انشقت عنهم الأرضَ وكُشِفَ عنهم الغطاءُ، وصار أقوى البراهين في العلميات: أنّ الأفرنج يقولون كذا، وفي العمليات: أنّ البلاد المتمدنة يفعلون كذا، وعظم الأمر وتفاقَمَ الخطب /12/ حتّى جرى الاصطلاح في تسمية من يقلّدهم، ويتشبّه بهم - وإن لم يكن له حظّ من علومهم - ب- «المتمدّن» و «المتنوّر»؛ ونبز من يخالفهم في شيء ب- «الوحشّي» و «الجاهل» إلى غير ذلك مما يبكي طَرْفَ المُؤْمِنِ الغيور دماً؛ ويُوْرِيْ حشاه ضَرَماً .

هذا والقلم يجاذبني العنان مرّة أخرى وأُدافعه:

وفي النَّفْسِ ما فِيْها *** وَأَنْتَ بِها أَدْرى

حثّ المسلمين على التفكير

رجع: لا تخل «وَمَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ» .(1) أني أنهاك عن تعلّم ما اهتدوا إليه من العلوم وتصديق ما اهتدوا إليه من المسائل وأقاموا عليه محكمات الأدلّة، ولا أنّي أشير عليك بأن تبخسهم حقوقهم وتنكر من ذوي الفضل منهم فضله، كيف؛ وهذا الدين الشريف قد أدّبنا بأحسن الآداب، فنهانا عن بخس الناس في محكم الكتاب، وأمرنا مُشرّعه صلى الله عليه و آله وسلم بأن نستعين في كلّ صنعة بصالحي أهلها، وجعل «الحكمة ضالّة المؤمن»(2) يطلبها حيث يجدها، ومثّلها أمير المؤمنين عليه السلام إذا كانت في غير أهلها

ص: 18


1- من أمثال العرب، راجع: مجمع الأمثال ج 2/255، 330، الأمثال/ 262، 346، التذكرة الحمدونية ج 7/138.
2- راجع: الكافي ج 8/167، الأمالي للطوسي/ 625، غرر الحكم/ 58، بحارالأنوار ج 2/97، شرح نهج البلاغة ج 10/97.

بِدُرّةٍ في فم خنزير، يأخذها المؤمن ويغسلها، ثمّ ينتفع بها .

(ولكنّي) أرى لك إذا شئت الاشتغال بعلومهم، أن يكون ذلك بعد إتقانك علوم الدين واطلاعك على علوم /13/الأقدمين، لئلا تقع فيما يخالف القطعيّ من النقل أو فيما يخالفه صريح العقل:

وتكون الأولى لك نوراً تسري به في حنادس الشبهات .

والثانية: ميزاناً تميّز به البراهين من المغالطات، ثمّ تبعد عن ذهنك ما خامره من رعب هؤلاء، وتكرّر عليه أنّهم بشر يجوز عليهم الخطأ، وإنّ من الممكن أن لا يصل أحذقهم إلى حقيقة أمر، ويصل إليه من غيرهم سواه، فالناس أشكال وأشباه.

ولا يهولنّك غرابةُ أسمائهم وطول ألقابهم . فَلِلْيُوْنانِيِّيْنَ أسماء غريبة وألقاب طويلة، ولا تسلّطُهم على الممالك، فالتتر من أجهل الأمم، وقد فتحوا من البلاد ما تَعْلَمُ. ولا ما تراه لهم من دقيق الصنعة وبديع الاختراع، فبين الصنعة والعلم مَهامِهُ(1) تنقطع فيها أعناق الخيل العتاق، والعالِمُ بدقائق العلوم التي مبانيها محسوسات أو تجربيات - فضلاً عن العامل لاِءتقن الصناعات - قد يعجز عن حلّ الواضح من العقليات.

ثمّ لا تصدق كلّ ما ينقلونه من المشاهدات، فإنّ فيهم من يشتبه حتّى في المحسوسات ، بل فيهم - ولاسيّما في زنادقتهم - من يتعمّد الكذب والتزوير انتصاراً لمذهبه، واحتجاجاً على معتقده، ويمرّ عليك قريباً إن شاء اللّه تزوير «هيكل»(2) الألماني للصور الجنينية، ليحتجّ بها /14/ على مذهبه في النشوء و الارتقاء، وبعد

ص: 19


1- المهامه: جمع مهمه، و هى الأرض القفراء.
2- هيكل، ارنست هاينريخ، Haeckel, Ernst Heinrich. 1834-1919 م. فيلسوف و عالم طبيعى ألماني و هو كتب تأريخ خلق الكائنات المقتضية حسب القوانين الطبيعيةو حاول من خلاله التوفيق بين نظريات لامارك و داروين.

ذلك فانظر فيها إن شئت .

واعْلم أنّ عليك حقّين: حقّ للدّين، وحقّ للعلم.

فمن حقّ الدين أن ترفض كلّ ما يخالفه أو يخالف المعلوم بالضرورة منه، وتنزل الدليل الذي دلّ عليه بمنزلة الشبهة، فان استطعت دفعها، وإلاّ رجعت بها إلى من يفوقك في العلم؛ ليعرّفك موضع الغلط منه؛ فإنّه لا يقين أقوى من الدين ولا مخبر أصدق من النبيين، وليكن ذلك بعد الجهد في معرفة ضروريات الدين من غيرها، وتميّز الثابت فيه من الملحق به؛ وإِيّاك(1) أن تعدّ منه كلّ ما تقوله الحشوية وَالْعَوامُّ . فتدخل فيه ما شرع الدين لإخراجه من الأوهام ويكون ضررك على الدين لا يقصر عن الملحدينُ؛

ومن حقّ العلم أن تضع كلّ مسألة موضعها من الشكّ واليقين؛ فلا تلحق بالقطعيات ما دليله الحدس والتخمين، وأن تحذر من أن يقودك حسن الظنّ بالقائل إلى تسامحك في تمحيص أدلّة المسائل، أو يقضي بك الرعب من أقوى القائلين إلى التعصب لأضعف القولين، ثمّ سرّ على السُّنَّةِ التي سنّها العلم لنفسه من التثبّت التّام في النقليات ومُراعاة أصول البراهين في العقليات، وليكن بين برديك شرقي يُحبُّ الشرق ولا /15/يبخس الغرب حقّه، عراقيّ يتبع الحقّ وإن شام غربياً بِرَقّة، وبين جنبيك قلبٌ غير نِكْسٍ ولا جبان، لا يرعبه غير قاطع البرهان، حرّ الفكر، لو قيل عنه: «اجتهدَ فأخطأ»، أحبّ إليه من: «قلّد فأصاب». ثمّ اقرْع للعلم ما شئت من الأبواب.

الإمعان في فلسفة النشوء و الارتقاء من جهتين

فلننظر الآن بعون اللّه تعالى في هذه الفلسفة من الجهتين؛ ولنقدّم حقّ الدين فإنّه

ص: 20


1- الأصل: + و.

أعظم الحقّين .

النظر إلى هذه الفلسفة من الجهة الدينية

إنّ هذه الفلسفة لا تنفي وجود الصانع رغم إشكالاتها

فنقول: أمّا أصل هذه الفلسفة - أعني «النشوء والارتقاء» - في الجملة عدا ما فيها من التطرّفات المنافية لضرورة الأديان - وهي عدة مسائل أهمها مَسْأَلَة أصل الإنسان كما ستعرف - فليست ممّا تُنافي الدين . إذا الذي يوجب علينا اعتقاده هو أنّ جميع الموجودات بأراضيها وسماواتها وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتاتها وحيواناتها والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها صنع إله واحد ، قادر حكيم، قد وَسِعَ كلّ شيء علماً(1) وأتقنه صنعاً خلق جميع الأصناف من جميع الأنواع عن قصد واختيار، وهذا أمر مُتَّفَقٌ عليه في جميع الأديان .

وأمّا كيفية الخلق وأنّ هذه الأنواع كلّها خلقت خلقاً /16/ مستقلاً، ووجدت عن كتم العدم ابتداءً، وأنّها لم تتغيّر عمّا كانت عليه في أوّل الخلق؛ فهذا أمر لم يرد فيه نصّ صريح من الكتاب ولا متواتر من السنّة، وسوآء كانت آباء الجمل جمالاً . أو كانت ضفادع تنق في الماء، والجدّ الأعلى للفيل فيلاً . أو سنونواً(2) يطير في الهواء؛ فإنّ أدلّة الصنع عليهما في الحالين ظاهرة، وفيهما على وجود الصانع الحكيم آيات باهرة؛ ففرحة الملاحدة بهذه الآراء وجعلها أساساً للإلحاد من أغرب الأشياء .

ونزيدك توضيحاً ونقول: إنّ هذه الآراء على عَلاّتها وضعف أدلّة أكثرها - كما تعرفه إن شاء اللّه تعالى - في النظر الثاني ليس فيها إلاّ بيان ترتيب المخلوقات وكيفية الصنع فيها، ومتى كان أهل الدين ينكرون ذلك؟ ويدّعون أنّ اللّه تعالى خلق جميع

ص: 21


1- قارن سورة الأعراف/ 89: «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شيءٍ علما» و غيرها.
2- السنونو: نَوْعٌ مِنَ الطُيُوْرِ.

الأشياء في وقتٍ واحدٍ خلقاً مستقلاً عن الآخر؟ وهم يرون أنّه تعالى بلطيف حكمته وبديع صنعته يخلق الثمر من الشجر، والشجر من النواة، ولا يجعل العنب حلواً إلاّ بعد ما يجعله حامضاً، ولا يجعله حامضاً إلاّ بعد ما يجعله مُرّاً، ولو فعله جاهل منهم - وحاشاه أن يفعل - فأيّ نفع له في ذلك سوى أنه أطفأ بجهله أنوار الأدلّة /17/ الدالّة على حكمته وإتقان صنعته وسعة علمه؛ وشوّش النظام الذي لم تزل العقلاء من أوّل زمان وجد فيه البشر إلى الآن، يتفكّرون فيه ويستخرجون حقائقه، وكلّما تقدّموا خطوة في معرفته ازدادوا اعتقاداً بصانعه، وتعجّبا لعظيم قدرته؛ وهم يعلمون أنّهم ما علموا منه إلى الآن الاّ قليلاً من كثير . وأنّه تأتي الأجيال الآتية وتسير على سننهم، وتستخرج منه ما خفي عنهم حتّى يفنى البشر ويكون ما خفي عنهم أضعاف ما ظهر .

وعلى تفنّن واصفيه بحسنه(1) *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف(2)

ولئن كان في هذا النظام الأعلى والترتيب البديع حجّة للمعطّلين على مذهبهم ، فالأولى لهم أن يستدلّوا بالنشوء والارتقاء الفردي الذي يشاهده كلّ أحد، فيستدلّوا مثلاً بترتيب خلق الإنسان وتنقلّه عن مراتب كثيرة إلى مرتبة النطفة أو البيضة، ثمّ المراتب التي يقطعها في الرحم ، والطوارئ الكثيرة التي تعتريها فيه إلى أن يخرج طفلاً، ثمّ تنقله في مدارج الحياة إلى الممات، وليدعوا هذه التنقّلات الخفية في الأدوار الثلاثية، وما ترتّب على الأدوار الجيولوجية من الاختلافات الحيوانية ونحوها ممّا كثير منه وهم وخيال؛ /18/ والصحيح من أدلّتها مدّخر في بطون الأرض وظهور الجبال.

وإن لم يكن لهم نفع فيه فَلْيدعوا هذه الفلسفة المسكينة، ولا يجلبوا شُؤماً عليها

ص: 22


1- الأصل: فحسنه.
2- الشعر لابن فارض، و مطلعه: قلبى يحدّثني بأنّك متلفي / رومى فذاك عرفت أم لم تعرف.

لتبقى بريئةً من لوث الإلحاد الموجب لأن تكون غرضاً لسهام الردّ والانتقاد، وتكون كساير أخواتها مجالاً لأفكار العقلاء أعني الملّيين، يوضحون دلائلها ويمضون حقّها من باطلها، فتسري على ناموس الارتقاء حتّى ترتقي ذروة مجدها وتبلغ أقصى شرفها.

إنّ تابعي دارون يسوق كلامهم إلى الإلحاد

ولعمري ما أساء قوم إلى فلسفةٍ كإساءة هؤلاء إلى هذه الآراء، إذ جعلوها أمّ الفساد، وجعلوا لفظ النشوء مرادفاً للإلحاد، وكان «دارون» علم ما يلحق فلسفته من مخالفة الدين، فصار يقول في كلامه اعتقاداً أو مصانعة: «إنّ جميع هذه الأجناس أصلها من خمسة أو ستة، نفخ فيه الخالق روح الحياة». ولكنّ الجهال من تلامذته رفعوا هذا الستار، وجلبوا عليه، وعلى فلسفته أعظم العار، ولقد أَنْصَفَ أحد أتباعه حيث قال : «إنّ تلامذة «دارون» لم يقفوا عند هذا الحدّ، بل تجاوزوه إلى ما أسخط العالم عليهم وعلى دارون من أَجْلِهِمْ» .

ومن ذلك يظهر السبب فيما تعجّب منه هذا القائل في /19/ جملة كلام له يقول فيها: «إنّ النشوء لا يقتضي إنكار الخالق، والباحث فيه من حيث إنّه ناموس طبيعي لا ينبغي أن ينصرف إلى ماوراء الطبيعة»، إلى أن قال: «ولستُ أرى من داع للرعب الذي استولى على كثيرين عند سماعهم بالنشوء لأنّه لا يغيّر شيئاً من الدين الحقيقي»، إلى آخر كلامه.

وحاشا المؤمنين من الرعب من هذه الآراء، وانّما هو مقت، سببه تلامذة «دارون» بتجاوزهم الحدّ كما اعترف به .

وبالجملة، فإنّ هؤلاء المعطّلة يكرّون عَلى ما لو عقلوا لفرّوا منه، ويميلون إلى ما يحقّ لهم أن يحيدوا عنه . كأنّ خصمهم يستدلّ عليهم ببديع هذا النظام والترتيب في

ص: 23

الخلق الذي حيّر حسنه الأفهام، فلم يجدوا ملجأ إلاّ بأن زادوا «النشوء والارتقاء» في الأنواع على حسن الترتيب و النشوء والارتقاء الظاهر في الأفراد، فكان لخصمهم دليلاً ثانياً يصول به قائلاً. «ذكّرتني الطعن وكُنت ناسياً».(1)

ولا غروَ؛ فالحق يتّضح فى جميع الحالات، والباطل يزهق، والشقي بكلّ حبل يخنق.

ولعمري إنّ هذه الآراء لو تمّت وسلمت أدلّتها من الانتقاد، لكانت أبدع في الصنع، وأحكم /20/ وأدخل في النظام الأتمّ . ولهذا ترى أعظم رجالها وعقلاء أربابها معترفين بوجود الصانع الحكيم ومنزّهين عن وصمة التعطيل .

اعتراف علماء فلسفة النشوء بالصانع تعالى

لامرك

لامرک(2):

هذا لامرك - الذي له الفضل الصحيح وحده في هذا المذهب كما يقول بخنر(3) شارح مذهب دارون ،(4) بل الذي لولاه لم يكن دارون، ويصحّ أن يعتبرا أَبا الْمَذْهَبِ ومؤسّسه الأوّل، كما يقوله معرّب شرح بخنر في مقالة له أفردها لترجمة هذا الفيلسوف - يسلّم بوجود اللّه سبحانه وينسب إليه وجود الهيولى المركّب منها

ص: 24


1- من أمثال العرب، راجع: مجمع الأمثال ج 1/290: محاضرات الأدباء ج 1/61؛ التذكرة الحمدونية ج 7/76، الأمثال 329.
2- Lamarck (1744-1829) من علماء الطبيعة الفرنسين و هو ألفّ كتاب التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقرية (1815-1822) و شرح فيه نظرية التطوّر.
3- بوخنر، لودفيغ، Buchner, ludwig. 1824-1899، طبيب و فيلسوف ألماني، و من أهمّ آثاره: الداروينية و الاشتراكية، و القوّة و المادّة.
4- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء / 72.

الكون؛ ولكنّه يقول: إنّه تعالى بعد أن خلق الهيولى بخصائصها لم يفعل شيئاً، وإنّ الحياة والأجسام الآلية والعقل جميعها نتائج الهيولي ونتائج قواها .

فهذا الرجل لا يخالف أهل الدين في وجود الخالق . بل يخالفهم في كيفية الخلق، على أنّك لو أعطيت هذا الكلام حقّه من التأمّل، لوجدته لا يرجع إلى محصّل إلاّ أن يكون المراد منه عين ما يعتقده علماء الأديان، وأنّه لا يخالفه إلاّ /21/ في قبح التعبير فقط؛ وهذا ممّا لا يؤاخذ به لامرك وأضرابه ممّن لم يضرب في العلوم العالية بسهم، ولم ترسخ له في علوم الدين قدم

ولس و سبقه على دارون في نظرية النشوء

وهذا الدكتور ولس شيخ علماء الطبيعة وشريك دارون في هذا الاكتشاف بلا خلاف، بلغ من شدّة الاعتقاد بالتوحيد أَنْ صنّف كتاباً فيه، وسمّاه كتاب عالم الأحياء.

قال المستر ستد: «لو قلتُ لرجال الدين منذ أربعين سنة إِنَّ شريك دارون في اكتشاف ناموس النشوء يؤلّف كتاباً يقيم أقطع الأدلّة وأصرحها على ألوهية الخالق وأزليّته وعنايته التامّة بمخلوقاته ، لَهَزِئُوْا بِكَ(1) ؟؟ وقالوا: هل يخرج من الناصرة رجل صالح!؟

ولكن خرج المسيح من الناصرة. وصدر من عقل ولسكتاب عالم الحياة وما من كتاب ديني أدلّته أقطع من هذا الكتاب، فهو وحي يرحّب به نوع الإنسان أعظم ترحيب»، انتهى .

ص: 25


1- أى سخروا منك.
نظرية النشوء لا تخالف وجود المدبّر الحكيم

ويعجبني من كلامه قوله بعد أن شرح كيفية وجود الأحياء ونشوء بعضها من بعض: «إنّ وجود هذه الأحياء يستلزم وجود قوّة محيية مرشدة مدبّرة ؛ فيستلزم: أوّلاً: وجود قوّة /22/ خالقة أوجدت المادّة على أسلوب يجعل حصول هذه التنوّعات من الممكنات.

وثانياً: وجود عقل مرشد؛ لأنّه لابدّ من الإرشاد في كلّ درجة من درجات النشو .

وثالثاً: لابدّ لهذه القوة الخالقة من غاية ترمي إليها فيما خلقته ودبّرته في هذا الكون الوسيع، مدّة في كلّ العصور الجيولوجية الغابرة والحاضرة . وعندي أنّ هذه الغاية التي قصدتها القوّة الخالقة هي الإنسان خلاصة المخلوقات، وبذلك يفسّر كثير من غرائب النشوء والخلق، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يفهم شيئاً من نواميس الطبيعة، ويستقصي أفعالها، ويدرك قيمة القوى التي فيها، ويستنتج منها وجود العقل المتسلّط عليها» .

وانما استحسنا كلامه في أصل إِثبات الخالق ولزومه لمذهب النشوء لا ما وقع في تعبيره عن الصانع تعالى بالعقل ونحوه، وما في كلامه الذي لم ننقله من تصوّره ملائكة مخلوقة للّه، خالقة لما دونها.

ومقام ولس في هذه الفلسفة ظاهر لدي المعطّلين من أهلها وغيرهم ، وهو سابق على دارون في إظهارها، وقد كتب أصولها في مقالة وبعثها إلى دارون، وطلب منه أن يرسلها بعد اطلاعه إلى ليل /23/وبعد ذلك بادر دارون، ونشر هذا الرأي في مقالته وقدّمت إلى الجمعية اللينيوسية فَقُرِئَتْ(1) فيها خلاصَتُها مع خلاصة مقالة ولس في وقت واحد - سنة 1858 - وهي سنة ظهور هذا الرأي. وقبل سنتنا هذه ببضع سنين

ص: 26


1- الاصل: فقرأت.

عيّدت الجمعية المذكورة تذكاراً لمضيّ خمسين عاماً من إشهارهما هذا الرأي، ومنحت وساميهما معا أعاظم الفلسفة الذين اختارتهم لهذا الاحتفال كهوكر و هيكل و غالتون، وقد نشرت الجريد والمجلاّت العلمية، أمر هذا اليوبيل(1) ونقلت الخطب التي تليت فيه، وأشاعت صورة الوِسامين .

هكسلي

هكسلي(2):

وهذا هكسلي، الذي قيل فيه: إنّه سعى في نشر مذهب الارتقاء أكثر ممّا سعى دارون نفسه. ومقامه في هذه الفلسفة ظاهر؛ لا يحتاج إلى إطالة بيان. وقد قيل: إنّ دارون كان يحسده، وناهيك بمن كان دارون أحد حسّاده.

هذا الرجل وإن كان ممّن نابذ الأديان . ولكنّه لا ينكر الصانع تعالى ولا يرى مذهب الارتقاء منافيا لوجوده. ومن قرأ كتابه المعنون داروينا علم أنّه أقرّ هنالك على رُؤُوْسِ الأشهاد بأنّه يستحيل نقض الألوهية بحسب مذهب /24/ الارتقاء، ومن تمعّن في مقالته التي كتبها إلى ده كارت علم أنه جلّى هنالك عن رسوخ في حقائق الفلسفة مسنداً تعاليمه إلى إدراك القوة الفاعلة في هذا الكون .

ولا يقتصر(3) على هذا من القول، بل يشهد على المعطّلين بما لا يزيد عليه مقال المؤمنين . ويقول في مقالة له ما نصّه: «إنّ من ينكر وجود الإلآه كما تصوّره سبينوزا(4)، لاَءَحْمَقُ». وهذه الشهادة لو كانت من أهل الدين لهان أمرها على

ص: 27


1- اليوبيل: (Jubilee) كلمة غربية بمعنى الذكرى السنوية.
2- هكسلى، جوليان سوريل، Huxley, Julian Sorell 1877-1975م عالم أحياء وفيلسوف انكليزى، و من أهمّ آثاره: علم الحياة و الدين بلا وحي.
3- الأصل: لا يقصر.
4- جدير بالذكر أنّ اسبينوزا من الموحّدين الذين مالوا إلى نظرية وحدة الوجود بمعنى، و لهذا ما خالف التوحيد و الألوهية أبدا.

المعطّلين، ولكنّها شهادة إِمامِ مذهب الارتقاء وَ أَلَدِّ أَعْداءِ الأديان وَأَحَدِ مَنْ يُنْسَبُ اليه الإلحاد .

وممّا يحسن التنّبه له ويقتضي المقام التنبيه عليه هو: أنّ هذا الرجل - وإن كان قد وضع كلمة اغنستك أي اللا أدري، وانتحلها، فأوجب أن يعدّه المترجمون له في صفّ المتحيرين - ولكنّك بعد التأمل في مجموع كلماته والبحث عمّا دعاه إلى ذلك، تجده معتقداً باللّه تعالى أعظم اعتقاد، ومؤمنا به أشد إيمان، وإنّما أراد بذلك الاعتراف بأنّه لا يعرف سرّ الخليقة وإن عقله يقصر عن فهم بعض الحقائق الدينية؛ فكأنّه يرى العلم خصوص ما يعرف بالعقل معرفة تفصيلية، ولا يعدّ منه ما يعرف بالدين أو يعرف بالعقل إجمالاً؛ فهو /25/ بهذا الاصطلاح - على سماجته - لا يخالف أهل الدين؛ لأنّك لا تجد في عقلائهم من يدّعي معرفته أسرار الخلق وجميع حقائق الدين معرفةً تفصيليةً بالعقل فقط .

ويتّضح لك ذلك إذا تأمّلت خطبة سرجون لبوك، وهو من أعظم أصدقائه وأعرف الناس به وشريكه في مناظرة آكسفورد(1) الشهيرة، سنة 1806، وفي تحرير مجلة التاريخ الطبيعي، وفي عدّة جمعيات علميّة،(2) كجمعية ماوراء الطبيعة التي أنشِئت 1869.

وقد تروعك تلك الخطبة لما في ظواهرها من المناقضات؛ ولكنّ التأمل فيها يُريك ما قلناه واضحاً جلياً . ولا يسع المقام نقل تلك الخطبة فاطلبها من مظانّها وراجعها إن شئت، ويكفينا أن نقول: كيف يعدّ هكسلي متحيراً في أمر التوحيد، وهو القائل بنقل سرجون لبوك المذكور ما لفظه : «لستُ من الماديين لأنّني لا أقدر أن أتصور وجود المادّة من غير وجود عقل يكيّف صورة وجودها ولا من المعطّلين؛ لأنّ مسألة العلّة الأولى من المسائل التي لا تدركها عقولنا القاصرة على ما

ص: 28


1- الأصل: آكسفرد.
2- الأصل: عملية.

أرى». ويقول أيضاً: «لستُ من الذين يقولون: إنّ كلّ الأشياء تفعل معاً للخير، ولكني واثق بأنّ الحكم /26/ الإلهي عادل تمام العدل» .

وقد كتبت زوجته على قبره ثلاثة أبيات يظهر منها معتقده وحاصل معناها : «لا تخافي أيّتها القلوب الباكية، لأنّ اللّه تعالى يعطي حبيبه نوماً، وإذا أراد أن يكون هذا النوم أبدياً فهو الأحسن» .

نعم كثيراً ما كان ينابذ علماء الأديان ويناقشهم في الأمور الجوهرية الثابتة فيها، وهذا أمر غير ما نحن فيه، على أنّه كان يكرم التوراة، ويقول: «إنّه الكتاب الوحيد الذي يرى الإنسان نفع الصلاح وضرر الطلاح(1) بأمثلة كثيرة ترسخ في النفوس» .

ويقول: أنا لا أعرف غير التوراة مقياساً علمياً لحفظ الشعور الديني الذي هو الأساس الجوهريّ لسلوك الإنسان في هذا العصر، عصر الارتباك والاضطراب في الآراء والأفكار.

وقد أقّر على تدريسها في مجلس إدارة المدارس

مع أنّه خالف في هذا القرار ستّة: ثلاثة منهم من الكاثوليك . ونقل عنه مكفرصن أنّ هكسلي جارى مل في أنّ كلّ ما قيل عن المعجزات ممكن. إذا قامت الأدّلة على حدوثه . وجاراه أيضاً على ظاهر النقل في أنّه لا يوجد ما يمنع الخالق من تغيير نظام الكون وقلب كلّ ما فيه رأساً على عقب وقت ما يشاء ./27/

سبنسر و عدم انكاره التوحيد

وهذا سبنسر(2) الذي يطريه أهل التعطيل غاية الإطراء، ويعرفون - كغيرهم -

ص: 29


1- الطَّلاح: نقيض الصلاح.
2- سبنسر، هربرت Spencer, Herbert 1820-1903م فيلسوف انكليزي و هو من روّاد المذهب الوضعي، و له عدّة كتب من أشهرها مباديء علم الاجتماع.

مقامه في مذهب الارتقاء، حتّى قالوا: إنّ رأسه قد امتلأ من مذهب النشوء قبل أن يخطّ دارون حرفاً واحداً من كتابه، وقال فيه برنارد - وكذب في مقاله: - إنّه أعظم من قام في الأرض حِجاً، وأوسع بني البشر عقلاً وَنُهَىً . وتحيّر الاُستاد مكوش الأميركي في قوّة عقله فكان يقول: إنّ عقله جبّار العقول .ترى في كتابه الذي قدر تمامه في عشرين سنة، فلم يتمّ في أقل من أربعين سنة أنّه يقسم الوجود إلى قسمين :

الأول: فيما لا يمكن معرفته.

والثاني: في نواميس ما يمكن معرفته

وخلاصة رأيه في القسم الأول؛ أنّ إدراك الإنسان محدود، فإذا بلغ حدّه استحال عليه معرفة ماوراء ذلك، وأنّ في الطبيعة قوة يستحيل على العقل البشري إدراكها، ويردّ كلّ المسائل المتعلقة بواجب الوجود وعلّة العلل أو العلة الأولى، والغاية الأخيرة - إلى الدين أو إلى ما لا يدرك بالعقل البشري أو إلى ما هو وراء الطبيعة؛ لأنّ العقل مقيّد في بحثه بقيود لا يستطيع حلّها، فلا يستطيع الوصول /28/إلى كلّ الموجودات؛ ولذلك: فما يستطيع العقل إدراكه، محصورٌ في العلل الثانوية والغايات الثانوية، أي في الأسباب التي نراها مباشرة للمسبّبات، وفي النتائج التي نراها تنتج عنها.

ومن فلسفته: أنّ لكلّ أنواع الموجودات تَأْرِيْخاً يشمل كلّ الزمن بين خروجها ممّا لا يدرك بالعقل وبين عودها أخيراً إلى ما لا يدرك به .

وستعرف في موقعه(1) من هذا الكتاب - إن شاء اللّه - أنّ المسافة بين هذا الكلام وكلام أهل الإيمان قليلة، بل هو الاعتراف بالتوحيد، لكن بعبارة سقيمة؛ لأنّ العلّة الأولى أو القوة التي يستحيل إدراكها على العقل البشري لابّد أنّ تكون من غير جنس قوى المادّة، وأن تكون فوق عالم الطبيعة، وإلاّ لما استحال عليه إدراكها،

ص: 30


1- هكذا في النسخ / و الأصّح: فى ما يأتي.

ولكان من الممكن ان يدركها كما أدرك سائِرَ أخواتها. فثبت أنّ فوق عالم الطبيعة وُجُوْدا يقصر عنه الفكر ويستحيل دركها على عقول البشر، وأنّه هو العلة الأولى التي صدر منها ما سواها، وهذا عين معتقد أهل الإثبات، وهو بإرجاعه البحث عن هذا الوجود المقدّس إلى الدين أو إلى ماوراء الطبيعة قد أرجع الأمر إلى محلّه، وجعل الحكم فيه إلى أهله، وفعل ما هو اللائق بمثله . /29/

دارون

ودارون نفسه لا ينكر الخالق، وقد مرّ كلامه وقال أيضاً في كتاب أصول الحياة: «انّ بعض الأفاضل يظهرون اقتناعهم التامّ بأنّ كلّ نوع خلق بطريقة مستقلة . امّا انا فعلى ما يظهر لي أنّ ما نعرفه من النواميس التي فرضها الخالق على المادّة يطابق بالأكثر ظننا». وأقصى ما نقل عنه التحيّر في التوفيق بين وجود الصانع وبين ثبوت صفة الرحمانية له تعالى . وذلك لعجزه عن إدراك المصالح في خلق ما يرى أنّه شرور . لا لزعمه مُنافاتَهُ لمذهب النشوء، وتصدّي هذا الرجل لهذه الشبهة ممّا يُعاتب فيه لتعاطيه ما لا يدخل في فنّه ، وتكلّفه ما ليس من وظيفته، فإنّ حلّ هذه الشبهة وأمثالها شأن العلوم الدينية وعلم ماوراء الطبيعة، ولا تحلّ عقدتها بما صرف فيه نقد عمره من جمع صنوف الزيزان(1) وتربية الحمام ونحوهما من تجاربه التي لا تجديه الاّ في آرائه .

ومن غريب الاتفاق أنّ شريكه ولس حاول دفع هذه الشبهة، فوقع في مخالفة الوجدان ومصادمة العيان من الالتزام بعدم تألم الحيوان، وقد أتي هذا من حيث أتي /30/ دارون(2) أيضاً، وكان الأولى لهما أن يَدَعا لغيرهما هذا المجال ويقولا: لكلّ فنٍّ

ص: 31


1- الزيزان: جمع الزيّز، حشرة من فصيلة الزيزيات و رتبة نصفيات الأجنحة. رأسها كبير و أجنحتها طويلة.
2- الأصل: درون.

أهل، ولكلّ علم رجال، أو يقولا كما قال هكسلي: «وأنا واثق بأنّ الحكم الإلهي عادل، تمام العدل،»، كما تقدّم .

ولو شئتَ سردتُ لك من أسماء علماء هذه الفلسفة وزعمائها ذاكراً نتفا من كلامهم في الإثبات . حتّى لا يبقى منهم إلاّ شُدّاذٌ جهلوا معنى الإيمان، أو لم يعرفوا مقتضى هذه الآراء؛ ولكنّي أرى أن اقتصر على هؤلاء الذين تُعْزى إليهم هذه الفلسفة وتفتخر بالانتساب إليهم، وهم بين حائز وسام الاختراع، وبين ملحق بهم بحسن الاتباع . وأكتفي بهم عمّن لا يَصْدُرُ إِلاّ عن آرائهم ولا يَرِدُ سوى فضل إِنائِهِمْ، ولا يَمْتَحُ(1) بغير دِلائهم .(2)

الصلة بين الدين و العلم

ومن الطريف أنّ أحد المعطّلين الشرقيين من مقلّدة دارون كتب مقالة ينصح الملّيين فيها بزعمه، وما درى أنّهم ببركة الدين في غنىً عن نصحه، ويبيّن فيها أنّ مذهب النشوء لا ينافي الدين؛ وأهله أعلم بما ينافيه وما لا ينافيه .

يقول فيها: «إنّ الدين أوسع من ذلك، وأنه ليس من مصلحة الدين أن يقف في طريق العلم» إلى آخر كلامه /31/ الذي أرعد فيه وأبرق؛ وليس في نقله إِلاّ تضييع الحبر والورق.

أمّا قوله: «إنّ الدين أوسع من ذلك» فهو كلمة حقّ أراد بها باطِلاً(3)»(4) . ومرامه كجوابه لا يخفى على متأمّل عاقل.

ص: 32


1- لا يمتح: لا يستخرج.
2- الدِّلاءُ: جَمْعُ الدَّلْوِ.
3- الأصل: باطل.
4- اقتباس من كلام علي (ع): «كلمة حقّ يراد بها الباطل»ك دعائم الإسلام /393، شرح نهج البلاغة ج 19/17، العمدة 329، بحارالأنوار ج 33/357.
ليس من مصلحة العلم أن يقف في طريق الدين دون العكس

وأمّا قوله: «ليس من مصلحة الدين أن يقف في طريق العلم»، فلو عقل وأنصف لعرف أنّه ليس من مصلحة ما يسمّيه علماً أن يقف في طريق الدين؛

فإنه كما تعلم آراء مبنية على ناقص الاستقراء وتعليلات تختلف باختلاف الآراء، تبنى زماناً، ثمّ تُهدم، وتُبرم، ثمّ تُنقض ... تمرّ على الناس أيّام يرونها أحسن ما تعلّل به الأشياء، فيأخذون بها، ويظفر قوم بعدهم بأحسن منها فيعدلون عنها، فكَأَنَّ لكلّ تعليل من تعليلات نظام الكون دولة، تحكم زماناً على العقول، وتقهر سواها، وتتفّق الآراء على أنّه لا محيص عنها، ويحسب الناس أنّها من الحقائق الثابتة التي لا تزول ولا تصل إلى أحسن منها العقول . ثمّ لا تلبث زماناً الاّ ويأفل نجمها، وتسقط دولتها، ويقوم سواها، فتحكم كسابقتها حتّى تنقضي أيامها، ويقوم غيرها مقامها.

هذا نظام سكون الأرض وحركة الأفلاك، حكم على علماء العالم أكثر من ألفي سنة، وكانت تعدّ من الواضحات الملحقة بالأَوَلِيّات، ويعدّ المنكر /32/ لها كالمنكر للبديهيّات، فكم مُلئت الكتب من أوضاع الأفلاك وكيفياتها وعدد تداويرها وممثّلاتها ؛ ثمّ انقضت أيامها فسقطت وقام بعدها نظام حركة الشمس حول الأرض، وحركة السيّارات حول الشمس . ولم تطل أيّامه حتّى قام نظام حركة الأرض والسيارات جميعاً حول الشمس .

واللّه سبحانه وحده هو العالم بما يكون بعده.

وكانت الحرارة المركزية هي التعليل الوحيد لتكوّن البراكين وحدوث الزلازل إلى أن قام اللورد كلفن فعلّله بغيره، ووافقه دارون.

إلى غير ذلك مما إحصاؤه خروج عن مقتضى المقام.

ودع إن شئت جميع ذلك ، وانظر إلى هذه المادّة التي نسبوا أنفسهم إليها تعظيماً لها،

ص: 33

وقصروا الموجود عليها . وكفروا باللّه تعالى إيماناً بها، وأثبتوا لها أخصّ الصفات الإلهية من الأزلية والأبدية واتّفقت آراؤهم على عدم ملاشاتها .(1) كيف تناولتها يد الغير واضحت في تأريخ العلم من أعظم العبر(2) فأثبت غوستاف لبون ملاشاتها واضمحلالها، وأثكلها هبس و ملبرنش /33/ و طمسن جواهرها الفردة العزيزة لديها المتركّب وجودها منها، فقالوا: إنّها نوع من الحركة في الأثير، أو اضطراب فيه، أو حلقات كذلك؛ بل نفاها غوستاف لبون المذكور، وجعلها مخازن للقُوى الهائلة، وجعلها اسبرن دينلدز خللاً في انتظام دقائق الأثير.

ولدى الحقيقة أنكر هؤلاء وجودها وعدلوا عن المعبودة هذه إلى الأثير خادمها الذي لم يفرضوا وجوده أوّلاً، الاّ لأن يكون ميداناً لحركتها وَمِرْآةً لمظاهر قوتها؛ فلينتظر الأثير يوماً عبوساً يلاقي فيه ما لاقته المادّة، فسوف ينزلونه عن سرير المادّية والفاعلية، ويسلبونه رِدائَي الأزلية والأبدية، ويسحبونه قسراً إلى مشنقة التَّجَزُّءِ والمُلاشاةِ؛ بل ينكرون وجوده رأساً كما فعله بونكره ويقيمون غيره مقامه، وكل آتٍ قريب(3)

وكما قضوا على المادّة بملاشاتها سلب جماعة وصف البساطة عن جواهرها، وجعلوا كلّ واحد منها مركّباً من مأتي ألف جزءٍ من الكهربائية الإيجابية، عدا ما فيها من السلبية «الاليكترون» فلتبك المادّة على نفسها، ولتنظر الفرق بين يومها وأمسها .

ولو أن ما أصاب المادة كان مقصوراً على نفسها؛ لهان على الفلاسفة الأحدثين

ص: 34


1- الملاشاة: الاضمحلال، التصيّر إلى العدم.
2- لا يخلو بعض ما نقلنا من المسامحة، ويمكن إرجاع بعض هذه الأقوالِ إلى بعض، ونحقّقه ان شاء اللّه في نقدنا لكتاب بخنر . (منه)
3- اقتباس من كلام النبى (ص) و عيسى (ع): «كلّ ما هو آتٍ قريب»ك الكافى ج 8/82، بحارالأنوار ج 14/293.

أمرها (ولكنّه بُنْيان قوم تهدّماً) .

عمد إلى ما لفقّوه أعصاراً ودهوراً، فجعله هباءً منثوراً،(1)

ولقد نعى الأستاد دولبر إليهم علومهم، وصرّح بأنّهم بعد السير إلى نحو الكمال مدى السنين الطوال واقفون حيث كانوا، ونحن نسمعك كلامه مع كمال الأسف على تلك الصروح الممرّدة للفلسفة والقصور المشيّدة للعلم التي فاخروا بها ما بناه الأقدمون زمناً طويلاً، وهذا لفظه: «ظهر من أبحاث بعض العلماء وتجاربهم أنّ المادة تفقد بعض ثقلها في أحوال معلومة بتغيّرات طبيعية تطرؤ عليها، لا بإزالة بعض دقائقها. وهذا إذا صحّ يفضي إلى انقلاب عظيم في العلوم». إلى أن قال: «ثبوت الجواهر - أي عدم تغيّرها في مقدارها ونوعها - أساس التصوّرات والآراء الصحيحة في كلّ فَنٍّ ومطلب، فإذا انتقض هذا المذهب بقينا حيث نحن الآن وحيث كنّا من قديم الزمان» .

إنّ الدين لا يزول و لا يتبدّل

هذا والدين هو الثابت الذي لا يَعْتَرِى حَقائِقَهُ الزوالُ، ولا تتبدّل على مرور الأعصار، فكلّ حقيقة أخبر بها أوّل المرسلين يؤكّدها النبيين، 13خاتم النبيين، والجميع قد أخبروا بوجود الخالق العظيم ووحدة ذاته وبديع صفاته، ووجود الملائكة وثبوت المعاد والحساب والعقاب ، إلى غير ذلك من الحقائق /35/ المعلومة من الأديان.

فهل ترى اختلافاً بين النبييّن كما تشاهده بين الطبيعيين!؟ وهل يهدّد الدين بمثل هذه الآراء الموقّتة، أم على الوحي يخشى من خيالات دارون!؟

فليعلم هذا المهدّد أنّ الكون لو سرى(2) على ناموس الارتقاء في أضعاف ما قطعه

ص: 35


1- اقتباس من سورة الفرقان/ 23: «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورا».
2- الأَوْلى هُنا أَنْ يُقالَ: لَوْ سارَ لاِءَنَّها اَعَمّ مِنْ (سَرى) الخاصّةِ بالليل. (عبدالستار الحسني).

من الزمان، وجادت كفّ الانتخاب بقوم السبرمان،(1) وأتى أناس نسبة هؤلاء إليهم نسبة القردة إلى الإنسان؛ ثمّ اجتمعت آراؤهم على محاربة حقيقة من حقائق الدين، لَمْ تَنْجَلِ الغبرة إلاّ عن فَلْجِهِ(2) وفشلهم أجمعين.

إنّ العلم لا يتقدّم على الدين أبدا

وفي المخالفات التي كانت بين البراهين اليونانية والحقايق الإيمانية موعظة لهؤلاء لو عقلوا، وأمثلة لو انصفوا.

كان الدين يُخبرنا بمعراج خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله وسلم وأنّ المسيح عليه السلام صعد بجسده الشريف إلى السماء ، وكان برهان امتناع الخرق للفلكيات يعدّه من الممتنعات؛ فكم من ملحدٍ صالَ على الدين بهذا الدليل، ومؤمن لم يجد إلى حلّه من سبيل!!

حتّى هدم الزمان أساس ذلك البرهان، وزادت قوة /36/ واستحكاماً قواعد الإيمان.

وكان الوحي يخبرنا بأنّ اللّه تعالى خلق سبع أرضين، والمسلمون يرتّلون في صلواتهم: «سبحان اللّه ربّ السموات السبع ورب الأرضين السبع» .(3) ويخبرهم المعصوم بأنّ هذه قبة أبينا آدم صلى الله عليه و آله وسلم وإنّ للّه وراء هذه القبّة تِسْعا وأربعين قبةً، فيها خلقٌ لا يعلمون أنّ اللّه خلق آدم. وكان البرهان العقلي يهدّده بأنّ وجود أرض أخرى يستلزم من المحال أحد ثلاثة أشياء: إمّا الخرق والالتيام في الأفلاك، أو لزوم الخلاء، أو عدم كروية السماء.

ص: 36


1- يسعى جماعة من أتباع هذه الآراء لتحسين نسل الإنسان بالانتخاب الصناعي، وذلك بحصر التناسل في النوابغ والأقوياء ليأتي بزعمهم في مستقبل الزمان أناس نسبة إنسان اليوم إليهم نسبة الحيوان إلى الإنسان، ويسمّونهم: «السبرمان»، [Super man] أي فوق الإنسان أو الإنسان الأسمى . (منه)
2- الفَلْجُ: الفَوْزُ وَ الظَّفَرُ.
3- الكافي ج 3/122، إقبال الأعمال/ 170، فلاح السائل/ 76-77، وسائل الشيعة ج 92/45.

وأنت تعلم قيمة هذه الشبهة وأمثالها اليوم في سُوْقِ الْعِلْمِ .

ولعمري، إنّ العلم لا يتقدّم إلى الارتقاء خطوةً إلاّ وتكشف للدين حقائق خفية ، وتزداد أدلّتها قوةً.

وإذا تصفحتَ كُتب هؤلاء واطّلعتَ على مقالاتهم التي ينشرونها في المجلات، رأيتَ في كثير منها ما ذكره هذا الناصح بزعمه، اللائح غشّهُ برغمه، وكما ألبسه هذا لباس النصح وقام مقام ناصح غير أمين يتّخذه آخر سلاحاً يهدّد به الدين؛ وبعضهم يوجب على أهل الدين تأويل الحقائق الثابتة فيه، ومنهم من يقسّمها بين العلم والدين كما تقسم الممالك بين السلاطين./37/

وليس في نقل تلك السفاسف والإسهاب في ردها سوى سأم السامع وضجر المطالع ؛ ولكن نذكر هنا كلاماً كلياً، فيه الكفاية إن شاء اللّه تعالى لمن وقع اليه شيء منها أو من أمثالها ونقول :

اليقينيات لا تخالف الدينيات

أمّا المسائل اليقينية من العلم، الثابتة بالبراهين القطعية، فليس فيها شيء يخالف المعلوم من صحيح الأديان، بل هذا القسم منه من أقوى جنود الدين وأحسن أعوانه، وهو حليفه الذي لا يفارقه وخلّه الذي لا يزايله. فهل شيّدت قواعد التوحيد إِلاّ به!؟ وعرف صدق النبيين إلاّ منه؟

فمن شاء من هؤلاء أن يفرّق بين الدين وهذا القسم من العلم، فقد مَنّى نفسَه محالاً، وذهب سعيه باطلاً .

الظنّيات

وأمّا القسم الذي دليله الحدس والتخمين، وأقصى مدارجه أوّل درجة الظن

ص: 37

فضلاً عن اليقين؛ فأسعده ما وافق شيئاً من ظواهر الدين، وأشقاه ما بُلِيَ بتكذيب الصِدِّيقين.

وهذه الآراء من القسم الثاني، ولهذا يقال لها باِصطِلاحهم: نظرية دارون، ولعمرى إنها إن لم تكن من أضعف النظريات فما هي من أقواها، فهل مبانيها إلاّ حدسيات جيولوجية، وعمدة أَدِلَّتِها الأعضاء الأثيرية أو الصور المزوّرة الجنينية، /38/وسوف تقف إن شاء اللّه تعالى على ضعف تلك المباني والأدلّة في النظر العلمي من هذه الرسالة .

وإنّ آراءً تلك مبانيها وهذه أدلتها، ولا يطولُ فيها عنق الزرافة إلاّ بتكلّف أزمات شديدة وتخرّصات بعيدة، لَجَدِيْرٌ بأهلها أن لا يُحاربوا بها الأديان، بل يجنحوا للسلم ويقنعوا بالكفاف.

وكان دارون معترفاً بأنّ آراءَهُ تخمينية؛ بل عالماً بأنّه سوف يتضّح فساد بعضها؛ فقال في كتاب أصل الإنسان: «إنّ كثيراً من الآراء التي بسطتُها تخمينية للغاية ، ولا أشك في أنّه سَيَتَّضِحُ فَسادُ بعضها بالبرهان القاطع، ولكنّني قد أوضحت الأسباب التي ساقَتْني(1) إلى التمسك برأيٍ دون رأيٍ».

ولقد صدق ظنّه وأصاب حدسه، فقد بلغنا أنّ فيلسوفاً أَلمانيا يقال له فيرخو قد ردّها، وأوضح فساد كثير منها . حتّى إِنً جماعةً كثيرةً من أتباع دارون قد رجعوا عن آرائه، لذلك رغماً لمن قال منهم: «إنّ هذا المذهب آخِذٌ بالامتداد يوماً فيوماً، وربما لا يمرّ ربع جيل حتّى يخلو له الجوّ من كلّ معارض» .

انّ الدّين لا يحكم بإبطال العِلِّية

ثمّ إنّ ممّا يناسب التنبيه عليه في المقام هو: أنّ من أعظم حِيَلِ هؤلاء الملاحدة

ص: 38


1- الأصل: ساقني.

إِراءَتَهُمْ لضعفاء العقول أنّ الدين /39/ ينافي البحث عن علل الأشياء، وأنّه واقف في طريق العلم، وأنّ المؤمنين لا يرون التعليل إلاّ بِالإِرادة الربانية. وكُتبهم مشحونة ببيان هذه التهمة البَيِّنة والفرية الواضحة؛ ولا يخفى على مثلك أنّ المؤمنين يمتازون عن الملحدين بأنهم يثبتون للكون صانعاً حكيماً خلق المادّة، وجعل لها نواميسَ يُجْرِيْ عليها الأشياءَ بحسب ما يريد ويشاء، وتلك النواميس خاضعة لقدرته موجودة بمشيئته، ولا ينكرون قطّ(1) علل الطبيعة، ولا يطفرون مرحلة الأسباب، ولا يوصدون على العقول أبوابها. ومن الكلام المشهور عندهم والجاري مجرى المثل، حتّى على ألسن عَوامِّهِمْ: «أَبى اللّه ُ ان يُجْرِيَ الأُمورَ إِلاّ بأسبابها»،(2) ويصفونه تَعالَتْ قدرته بِمُسبِّبِ الأسباب، وهذا عندهم أتقن للحكمة وأَدلُّ على العلم والقدرة، وإذا لم تضرّ بمعتقدهم تنقلات النطفة تحت نواميسها الثابتة إلى أن تصير طفلاً، ثمّ شابّاً وكهلاً، فماذا عليهم من تنقّلات المادة تحت نواميسها المجعولة لها، إلى أن تصير شمساً وأرضاً إن تمّت الأدلة العلمية لها وسلمت من الانتقاد عليها .

فليطالع هؤلاء سفر التكوين من هذا الكون حرفاً حرفاً، وَلِيَسْتَقْرُوْا عِلَلَ نُشُوْءِ المخلوقات صنفاً صنفاً، ومعهم /40/ المؤمنون يعلّمونهم كما يُعَلَّمُ الأطفال حروف الأبجد(3)، وليطيروا بجناح الخيال في هذا الفضاء الواسع، حتّى يتجاوزوا السبع الشداد؛ وليسيروا في سنن معرفة أوائل الكائنات، وليعلّلوا أنفسهم بما يفرضونه من التعليلات، وفي مقدّمتهم أهل الإيمان يرشدونهم إلى طرق الصواب وَيُعَرِّفُونَهُمْ كيف ترتّبت هذه المسبّبات على تلك الأسباب حتّى يقطعوا جميع الأدوار الجيولوجية،

ص: 39


1- هكذا فى الأصل: الصَّحيْحُ هُنا أنْ يُقالَ: وَ لا يُنْكِرُوْنَ أَبَدا. لاِءَنَّ (قَطُّ) إِنّما تَأْتي مَعَ الْماضِ الْمَنْفِيّ نَحْو: ما أنْكَرُوا قَطُّ. (عبدالستّار الحَسَني).
2- قارن: الكافي ج 1/183، و عوالى اللآلى ج 3/286، بحارالأنوار ج 2/90: «أبى اللّه أن يجرى الأشياء إلاّ بالأسباب».
3- الأصل: أباجاد.

ويصلوا إلى انفصال الأرض من الشمس، وهي كتلة نارية كأخواتها من السيارات، ثمّ ليبحثوا عن الشمس وسائر النجوم والموادّ التي تركبت منها أجسامٌ(1) والعلل الموجبة لحركاتها، إلى أن ينتهى البحث إلى أصل الجميع . وهي بزعمهم دقائق المادّة أو الأثير.

فيسأل حينئذ الموحّدُ صاحبَه الملحدَ، ويقول: هذه الدقائق بأي سببٍ وجدت؟ فلا يجد سبباً

فيقول الموحّد: لا، بل كُوِّنَتْ.

ويسأله ثانياً: لماذا تركبّت!؟

فيقول: لأنّها تحرّكت.

فيعيد المؤمن السؤال : لماذا تحرّكت ؟

فلا يحير جواباً ولا يملك خطاباً .

وحينئذ يبيّن الموحّدُ له السببَ في ذلك ، لو كان له قلب يعقل ويملي عليه عظمة الإرادة الربانية والمسائل الحقّة من علم ماوراء الطبيعة، إن كانت له أذن تسمع، كلّ ذلك بعد الفراغ عن جميع ما /41/ في عالم الطبيعة .

قال أحدهم في كتابه بعد ما ذكر انقسام الفلاسفة إلى مذهبين: «إنّ أهل مذهب الفريق الأوّل - يعني المؤمنين - يُوْقِفُ وَثَباتِ الْعَقْلِ عِنْدَ حَدِّ مَشارِقِ الأنوار .

وأمّا مذهب الفريق الثاني - يعني الماديين - فَبِعَكْسِهِ(2) يفتح مجالاً واسعاً لمباحث العلم والعلماء».

وبعد ما أحطت علماً بما قلناه، لك أن تقولَ له: يا بارد ! المؤمنون يقفون عند مَشارِقِ(3) الأنوار ، ولكن بعد ما يقف الملحد عند ظلمات المادّة كما يقف في الطين

ص: 40


1- الأصل: أجساماً.
2- الأصل: بعكسه.
3- الأصل: المشارق.

الغزال؛ ومجال العلم عند المؤمنين أوسع ، ومقامهم في معرفة الأسباب أرفع ، إذ عندما تقف علوم الطبيعيين وتنتهى تخرّصات الماديين . يكون أوّل مجال الدين ؛ ولهذا الكلام تتمّة تسمعها في القسم الثاني إن شاء اللّه تعالى.

ص: 41

فصلٌ في أنّ الإنسان مستقلّ في الخلق عن سائر الأنواع

وأما ما يُخالف الدين من هذه الآراء ، فأعظمها في مبدأ الإنسان ؛ إذ المعلوم بالضرورة من هذا الدين ؛ بل ومن أمّهات الأديان الثلاثة أنّ أصل جميع البشر من إنسان ابتدع اللّه تعالى خلقه من التراب، و من امرأة خلقها أيضاً، ولم يكونا قبل ذلك حيواناً ولا نباتاً، فنوع الإنسان مستقلّ في الخلق عن سائِرِ الأنواع، وكونه ضرورياً /42/ واضح لديهم ولدى غيرهم ممّن عرف مذهبهم.

ولكن رأيتُ في إحدى المجلاّت مقالة يقول صاحبها في آخرها: «إنّ مذهب النشوء لاينافي الدين في حقيقته، ولايناقض هبوط الوحي على الإنسان بعد أن صار إنساناً.

ومن يستوعب الكلام المجازي الوارد عن جَبْلِ آدم عليه السلام من التراب والنفخ في أنفه يرى له مندوحة كبرى لتطبيق الوحي على الحقائق العلمية؛ لاِءَنَّ اللّه َ تعالى ليس له يدٌ ليجبل بها، ولا فمٌ ينفخ به.

بقي أنّ هذا الكلام مَجازِيٌ، والَمجازُ خلاف الحقيقة، و الحقيقةُ بِنْتُ البحث، والبحث يوصل إلى هذه النتيجة».

ومادرى أنّ قيام القرينة على المجاز في كلمة وتعذّر حملها على الحقيقة، لايوجب عدم حمل بقية الكلام عليها، وأنّ الإجمال في كلمة لايوجب الإجمال في جميع الكلام الذي وقعت فيه . ولو أَخْبَر رَجُلٌ هذا المُتَعاطِيَ غَيْرَ فَنِّه بأنّه رأى أسداً متنكبّاً قوساً أو معتقلاً رمحاً ، ثمّ نقل مصاحبته معه وخروجهما إلى الصيد وما لقيا في طريقهما وما صادا وإلى أين بلغا . وهكذا إلى أن يُمْلِى عليه ما يدخل في مأة ورقة . أ تراه يحمل الكلام كلّه على المجاز لقيام القرينة عليه في الكلمة الأولى، أو كان في أثنائه «أمرتُ

ص: 42

خادمي أن يفعل كذا»، /43/ وقد علم أن لا خادم، ولم يعرف مراده من لفظ الخادم، أ يحكم على الكلام كلّه بالإجمال وأهون منه؟ لا.

بل مثله كلام لأحد المصنّفين المعروفين، حاصله: أنّ أدلة القائلين بانقلاب الإنسان عن الحيوان ليست بقطعية، فيلزم التمسّك بما عليه المسلمون الآن، وإن ثبت بعد ذلك فلا يصعب علينا تأويل الظواهر.

ولا أدري كيف يحتمل ثبوت خلاف ضروري الدين عند من يتديّن به؟ وكيف يقدّم على تأويل دليله؟ وليس تأويل النصوص الدالّة على أصل الإنسان بأسهل من تأويل ما دلّ على غيره من ضروريات الأديان.

وإذا كان المؤمن مرعوباً من آراء هذا العصر بهذه الدرجة، وَفَرقاً(1) من حدسياته ومكتشفاته، يجفّ قلبه منها ويلتاث رأيه عندها، ولا يجد مَحِيْداً عَنها إلاّ أن يُوَطِّنَ نفسه على تأويل حقائق دينه، فماذا تُبْقِيْ يَدُ الشُّبُهاتِ من يقينه؟ وكيف تثبت على زعازع الأهواء أُصُوْلُ إِيمانه !؟

ص: 43


1- الفَرِقُ: الخائِفُ، الفَزِعُ. (عبدالستّار الحسني)

ص: 44

المقالة الثانية: في أنّ القبائل المتوحشّة يعترفون بأنّ أصل الإنسان من حيوان خاصّ

الطوتمية

اعلم أنّ هؤلاء ليسوا أول من جعلوا أصل الإنسان من الحيوان، وقضوا بهذه الضربة القاضية على شرف الإنسان، /44/ فقد سبقتهم اليه القبائل المتوحّشة، فاختارت كلّ طائفة حيواناً انْتَسَبَتْ إليه، كالغزال والضفدع وغيرهما، وهذا ما يسمّى ب- «الطوتمة».

ولكن قضى الحظ بِأَنْ تُسَمّى تلك بطوتمه القبائل المتوحّشة . وهذه بفلسفة الملل المتمدّنة.

وأهل الطوتمه عرفوا حقّ القرابة فاحترموا طوتمتهم وحرّموا أكْلَّها ونقشوا على صدورهم صُوَرَها، وبلغوها مرتبة المعبودات.

وأهل هذه الفلسفة قطعوا أَواصِرَ الأرحام، فطفقوا يأكلون الأعمام، ويركبون العمّات.

والمتوحشون قصروا طوتمتهم على أنفسهم، وتركوا غيرهم، وما اختار.

والمُتَمَدِّنُوْنَ صبغوا جميع البشر بهذا العار.

ولئن كان الشرف الذي أثبتوه للانسان لخُصوصِ الْقِرْدِ من صنوف الحيوان! فأهل تبّت قد سبقوهم إلى ذلك، وزادوا عليه شرف الانتساب إلى الشيطان ، ففاقوا غيرهم من الأنام بأن اضافواُ شرف الأَخوال إلى شرف الأعمام، فقد زعموا أنّهم من سلالة قرد تزوج شيطانة يسمّونها «سرنمو»، فولدت منه ستّة أولاد، وحالما

ص: 45

فطموا سكنوا الغابات، فعاد القرد إليهم بعد بضع سنين، وقد صار عددهم خمسمائة فحمل خمسة أصناف من الحنطة، وصعد على جبل ورماها منه إلى هؤلاء القردة، فكلّما أكلوا /45/ قصرت أذنابهم وتساقطت شعورهم، ثمّ نطقوا وصاروا بشراً .

ولكن لطوتمة الملل المتمدنة فضيلة بيّنة، وهي جمعها بين صنوف من طوتمات الملل المتوحشة وإثبات قرابة الإنسان لطوتمات متباينة .

ولندع الكلام عن هذا جانباً، ولننظر في أدلّة هؤلاء على ما ذهبوا اليه في أصل الإنسان نظرةَ من يعجبه تمحيص الحقائِقِ، ولا يُحِبُّ المجادلة بالباطل.

ولو كان الخصم ممّن يبني كلامه على قواعد الدليل والبرهان، ويلتزم بالواضحات المقرّرة في علم الميزان، ويعرف شيئاً من آداب المناظرة وواضحات المسائل الثابتة في العلوم العالية . فيعلم أنّ الاحتمال لا يكفي في الاستدلال، وأنّ على المستدّل سدّ جميع أبواب الاحتمال، وأنّ الوقوع لا يثبت بمجرد الإمكان، ويعلم أنّ الملازمة إذا كانت غير بيّنة لابُدَّ لها من البيان، وأنّ عدم الوجود(1) لا يدلّ على عدم الوجدان ؛ لكُفينا نزاعه، وبالأقل سقطت عنا كُلفة إطالة الكلام معه، إذ الوجوه الآتية لا يخرج الخطأ فيها عن إحدى هذه الأمور المقرّرة وأمثالها، وكان في هذا الإجمال غنىً لك في معرفة الجواب عما تظفر عليه من أدلّتهم .

ولكن ماذا نصنع؟ والقوم فيهم من لا يقتصر على جهلها، بل /46/ يملأ كتابه من التهكّم والاستهزاء بها، ويقول غير مكترث بقدر العلم ولا وَجِلٍ مِنْ غَيْرةِ أهلهِ: إِنَّ سماع مِطْرَقَةِ الحدّاد ألذّ من كلّ خطبهم، ومراقبة دواليب الأطفال على مجاري المياه أَهْدى من كلّ كتبهم؛ ولا يصلُح شأن الأمم إلاّ متى تَكاتَفُوْا ومزّقوا كل هذه

ص: 46


1- الوجود لايوصف بالعدم، لكن شاع هذا المركب الإضافي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف لدى المتكلّمين منذ القديم، و قد جرى الشيخ على اصطلاحاتهم كما نبه هو قدس سره على ما يدلّ على ذلك في موضع سابق، فلاحظ. (عبدالستار الحسني)

المأثورات التي لا تزال كلّ أمةٍ تعتبرها كنزها الثمين، وهي بالحقيقة تأريخ جهلها الصوابُ: الشّائِن».

ونظائر هذا، وَأَمَضُّ منه كثير من كلامه.

ولو لا الشرط الذي لزمناه في هذا الكتاب لأبصرناه وَسْمَهُ في القِداح، وأسمعناه الجواب، ولكن: هذا شطر بيت من الشعر

أنّ بعضاً من السكوت كلام

ومن عجيب أمره أنّه يحطّ كثيراً من رفيع قدر الأقدمين، ويفرح بذهاب علوم اليونانيين، مع أنّ هؤلاء الإفرنج - الذين لاحظ له من الفضل إلاّ نُغبة من فضلة آنائهم، ولا نصيب له من العلم إلاّ ترجمة كلامهم وتقليدهم في أهوائهم - من أشدّ الناس أسفاً على تلك الكنوز الثمينة.

ولقد نَقَلَ أَحَدُ الأَثْبات من أهل القرن الماضي عَنْ رَجُلٍ صاحَبَهُ من رجال الإنكليز يقال له مستر فرنكل: أنّه كان يتأسّف كثيراً على تلك الكُتب، ويقول: إنّ المتأخرين منّا وإن بلغوا /47/ ما بلغوا من العلوم والصنائع، لكنّهم لم يصلوا إلى عُشْرِ ما وصلت إليه اليونانيون، فلو بقيت تلك الكتب إلى هذا الزمان وانضمت إلى علوم أهله علوم اليونان لكانت الدنيا الآن جَنَّةً لا يوجد فيها شبر إلاّ وهو معمور بصنوف الفضائل والعلوم .

بيان ما قاله دارون في ما نشأ منه الإنسان

ولنعرض عنه وعن أمثاله إِعْراضَ الكِرام، ولنرجع إلى ما كنّا بصدده ونقول: الأَولى نقلُ شبهاتهم واحدةً بعد واحدةٍ، والجواب عن كلّ منها على حِدَةٍ، ولنبدأ بنقل كلام دارون في كتاب أصل الإنسان الذي أشاعه سنة 1871 وهي تكملة لرسالته في أصول الأجناس.

ص: 47

وهذا الكتاب لم يصل إلينا بعد، وانّما وجدنا ما يتعلّق بالمقام مُتَرْجَماً، ونحن ننقل ما وجدناه بألفاظه لئلاّ تكون علينا عهدة الخطأ في النقل إن كان فيه.

قال: «أمّا النتيجة التي توصّلتُ إليها هنا والتي يعتقد بها الآن جماعة من العلماء ذوي الأهلية لبث الأحكام السديدة فهي :

«إنّ الإنسان قد نشأ عن حيوان أحطّ منه بنيةً» والأركان التي شيدت عليها هذه النتيجة لن تتزعزع أبداً؛ لأنّ المشابهة الشديدة بين الإنسان والحيوانات الدنيا في نشوء /48/ الأَجِنَّةِ وفيما لا يحصى من أحوال البُنية والتركيب من كثير الأهمية وقليلها والأعضاء الأثرية الباقية فيه وتعرّضه من وقت إلى آخر للشرود عن المألوف والعودة إلى الأصل جميع هذه الحقائِقِ لا مِراءَ فِيْها، وقد عُرِفَتْ هذِه الحقائِقُ في زمن بعيد، ولكنّها لم تُنبئنا بشيء فيما يختصّ بأصل الإنسان إِلاّ مُنْذٌ عهد قريب» .

كأنّه يريد أنّ مقدّمات الأدلّة على تحوّل الإنسان كانت معروفةً سابقاً؛ ولكنّ الاستدلال بها(1) عليه لم يكن إلاّ منذ زمن قريب، وهذا قريب مما يقول متابعوه : إنّ السابقين نظروا إلى كل فردٍ من الأشياء، و دارون نظر إلى المجموع واستنتج منه آراءه .

وستعرف ما في هذه الحقائِقِ التي يزعم أنّه لا مِراء فيها عندما يكرّرها في كلامه.

أدلّه فلسفة النشوء و التحوّل

الدليل الأول: في نواميس التغيير
اشارة

[الدليل الأول: في نواميس التغيير(2)]

قال: «والنظر، الآن في الأدلّة على مذهب التحوّل هذا، وهي:

أوّلاً: قابلية التغيير بشرط ارتقاء الإنسان:

ص: 48


1- الأصل: لها.
2- قارن أيضا: فلسفة النشوء والارتقاء / 87-92.

أن يكون قابلاً للتغيير جسداً وعقلاً.

وأن يكون خاضعاً لنواميس الإرث التي بمقتضاها تنتقل التغييرات التي تحدث فيه إلى نسله.

وأن تكون هذه التغييرات معلولات للعلل العامّة التي تشتمل بأسرها /49/ جميع الكائنات الحيّة.

فجميع هذه الشروط مستكملة فيه؛ وتحريره على ما فهمنا منه: الاستدلال على وقوع التحوّل بدعوى قابلية الإنسان له واجتماع شروطه فيه، وبيانه بأنّ الإنسان أحد الكائنات الحيّة التي هي قابلة للتغيير، وخاضعة للنواميس العامة، ومتى ثبتت القابلية وَعُلِمَ وُجُوْدُ النواميسِ العامّةِ التي حوّلت غيره، فلابدّ من تحويلها الإنسان أيضاً» .

الإجابة

وهذا الدليل مَبْنِيٌّ على ثبوت النواميس التي بَنى مذهبه عليها، وستعرف مواقع النظر منها في المبحث العلمي إن شاء اللّه تعالى.

ومع تسليم الكلّ فلا يتمّ على خصومه من أهل الدين؛ إذ لا بدّ في إثباته على مذهبه من وجود أصل حيويّ للإنسان قد مرّت عليه ملايين من السنين، حتّى تعمل النواميس البطيئة عملها.

وكلا الشرطين غير مُسَلَّمَيْنِ عند خصومه، فإنّك تعلم أنّ المِلِّيّينَ يُنْكِرُوْنَ ذلك الأصل في الإنسان، ويذهبون إلى اختراع خلقته من مدّة قليلة بالنسبة إلى الزمان الذي يفرضه دارون لتصحيح آرائه، ومقدار تأثير النواميس التي يَبْنِىْ عليها مذهبه في هذا القليل من الزمان ، /50/ لا يتجاوز هذه التغييرات التي نُشاهِدُّها بين أصناف البشر.

ص: 49

على أنّ أقصى ما يثبت بقابلية التغيير إمكان التحوّل وحصول الصورة الإنسانية به، لا نفيَ وقوعه بسبب آخر. كالإبداع الذي يعتقده المِلَّيُّيوْنَ.

وبالجملة الحكم بالوقوع بمجرد القابلية من طرائف الحكمة ومختصّات هذه الفلسفة، وما مثل من يعتمد على هذا الدليل إلاّ كمن رأي حديدة أحميت بالنار، فجزم بأنّها أحميت بالنار، فجزم بأنّها احميت بالشمس مستدلاً بقابليتها للاحتماء بالشمس، إذا طال زمان مكثها فيها، ولعدم الملازمة بين القول بنواميس التحوّل وبين وقوعها في الإنسان، كان ولس شريكه في هذه الآراء يقول بالتحوّل في سائر الحيوان وينكره في الإنسان .

نعم، في بعض المجلاّت أنه قد رجع عن ذلك أخيراً، وجعل ناموس النشوءِ شاملاً له، وفيه نقل عبارة له وإن كان مستنداً لناقل تلك العبارة فقد غلط في فهمها.

الدليل الثاني: فيما شابهه الإنسان و غيره
اشارة

قال: ثانياً: مشابهة البيّنة .

إنّ جسد الإنسان مركّب بوجه عامّ على مثال أجساد الحيوانات الأخرى ذوات الأثدي، فعظام هيكله لها مقابل في هيكل القرد والخفاش ، وعجل البحر مثلاً ويتمشّى هذا التمثيل على عضلاته وأعصابه وأوعيته الدموية /51/ وخلاياه الداخلية ودماغه، وهو يشترك مع الحيوانات في قابليته لِلعَدْوى ببعض الأمراض مثل «الكب» و «الجُدَرِيّ» و «الزُّهْرِيّ» و «الكوليرا»، وغيرها مما يدلّ دلالةً قاطعة على شدّة المشابهة بينه وبينها في الدم والأنسجة من حيث دقّة التركيب والبنية، وزد على ذلك أنّ القرد معرض للزكام والصرع والتهاب الأمعاء وَباكْتِرْيا العين وَالْحُمّى، وأنّ العقاقير الطبية تفعل فيه فعلها في الإنسان، ومن النظر إلى شدّة ميل بعض أنواع القردة إلى شرب الشاي والقهوة والمشروبات الروحية التي

ص: 50

تسكر، وَإِلى الآلام العصبية التي تصاب بها على أثر السكر، يتّضح لنا شدّة مشابهتها للإنسان حتّى في الذوق والحسّ العامّ، وتسطو على الإنسان حليمات خارجية وداخلية من نفس جنس الحليمات التي تنتاب الحيوانات الأخرى من ذوات الأثدي. وجميع ذلك يدلّ على شدّة المشابهة بين الإنسان والحيوانات العليا، ولا سيما القرود في عموم البنية ودقة الأنسجة والتركيب الكيمي والألفة .

أطال دارون في بيان وجوه المشابهة بين الإنسان وغيره، وكانَ لوضوح ذلك في غنىً عنها .

الإجابة

ولقد ذكر أئمّة المسلمين وعلماؤهم ما هو أغرب وأقرب /52/ إلى ما يروم، ففي كتاب التوحيد الذي أملاه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام على المفضّل بن عمر الجعفي: «تأمل خلق القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه - أعني الرأس والوجه والمنكبين - وكذلك أحشاؤه أيضاً شبيهة بأحشاء الإنسان وخصّ مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائِسِهِ ما يُؤْمِئُ اليه، ويَحْكِيْ كثيراً ممّا يرى الإنسان يفعله، حتّى أنّه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير عن خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرةً للانسان في نفسه .

فيعلم أنّه من طينة البهائِمِ وَسِنْخِها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب، وأنّه لولا فضيلة فضّل بها في الذهن والعقل والنطق ، كان كبعض البهائِمِ، على أنّ في جسم القرد فضولاً أخرى تفرّق بينه وبين الإنسان، كالخطم والذنب المسدل والشعر المجلّل للجسم كلّه، وهذا لم يكن مانعاً للقرد أن يلحق بالانسان لو أُعطِيَ مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه» .(1)

ص: 51


1- توحيد المفضّل/ 105-106.
القرد و صفته

وقال الدَّمِيْرِيّ: «وهذا الحيوان - يعني القرد - شبيه بالإنسان في غالب حالاته فإنّه يضحك ويطرب ويغنّي /53/ ويحكي ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصّلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على رجليه حيناً يسيراً، ولشعر عينه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه، فهو كالإنسان، ويأخذ نفسه بالزواج والغَيْرَةِ على الإناث، وهما خصلتان من مفاخر الإنسان».

فالقرد أرقى كثيراً من كثير من أتباع هذه الفلسفة أعداء الزواج الفردي ومروّجي طريقة الزواج الحيواني

«فإذا زاد به الشبق استمنى بفيه، وتحمل الأنثى أولادها كما تحمل المرأةُ» إلى أن قال: «وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى(1)».

ومهما بالغ دارون في المشابهة الجسمية والمعنوية بينهما فلا يبلغ مرتبة أصحاب رسائل أخوان الصفاء حيث قالوا : «أمّا القرد فلقرب شكل جسمه من جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي [أفعال] النفس الإنسانية».(2)

وبالجملة كان الأولى أن يذكر بدلاً عن بيان وجوه المشابهة وجه الاستدلال بها؛ فإنّ مُجَرَّدَ المُشابَهَةِ بين شَيْئَيْنِ لا يَلْزَمُ [منه] تَحَوُّلُهُما عن ثالث، أو تحوّل أحدهما عن الآخر، فكم في الأرض أصناف من الحيوان والنبات تتقارب بعضها مع بعض في الصفات وتباينه بالذات. - بسيط: /54/

قد يبعد الشيءُ عن شيء يُشابههُ *** إنّ السماء شبيهُ الماء في الزرقِ(3)

ص: 52


1- راجع: حياة الحيوان الكبرى ج 2/330.
2- رسائل إخوان الصفاء ج 2/17.
3- الشعر لأبى العلاء المعرى، و مطلعه: يا للمفضّل تكسونى مدائحه و قد خلعت لباس المنظر الأنق.

على أنّ الإنسان كما يشابه القرود الشبيهة به في أشياء يشابه حيوانات أخر من جهات أخرى، بل لعلّ في الحيوانات الدنيا من شبه الإنسان أقساماً لا توجد في العُليا؛ فلا يصحّ الاعتماد على مجرّد المشابهة(1).

ثمّ من الواضح أنّ عمدة ارتقاء الإنسان والذي اسْتَوْجَبَ به أن يعدّ نتيجة الكون، والغرض من تعب الطبيعة في تحوّلاتها الكثيرة إنّما هي بِقُواها العقلية وبقدرته على المسائل العلمية؛ فالأولى بالقياس الاعتماد في المشابهة على الصفات النفسية دون الجسمية؛ والقرد وإن كان له منها النصيب الوافر، ولكن في الحيوانات الأُخَرِ من النباهة ما قد يفوق عليه، والقضايا المنقولة في ما قلناه كثيرة؛ ويكفي في ذلك ما تنقله الجرائِدُ الآن من حنا النبيه فرس هرقون اوسنين، ومعرفته ما يعجز عنه بعض البشر فضلاً عن القرود، كمعرفة الجمع والتفريق وغيرها .

وهذا الأستاد الشهير كوفيه يقول: «إنّ ادراك القرد /55/ ليس أرقى من إدراك الكلب إلاّ قليلاً» .

يمكن أن يتحوّل الإنسان إلى القرد دون العكس

سلّمنا أنّ من لازم المشابهة التحوّل، فكيف يتعيّن تحوّل الإنسان عن حيوان نشأ عنه القرد؛ فلعلّ بعض الإنسان تحوّل قرداً؛ وهذا ما نصّ عليه الذكر الحكيم،(2) ويعتقد به المسلمون وهذا - أعني أصل تحوّل الإنسان قرداً - لا المسخ الذي نطق به القرآن يمكن حتّى على مبادئِ هذه الفلسفة، إذ الانتخاب الطبيعي لا يؤدّي إلى

ص: 53


1- هذا الباب يحتاج إلى البسط والتوسّع في الاستقراء والإكثار من ذكر الأمثلة، وقد أعوذتنا الموادّ اللازمة لذلك، وعلى من ظفر بما لم يبلغه وسعنا أن يشرح هذا المجمل ويغتنم الشكر منّا والأجر من اللّه سبحانه . (منه)
2- راجع: البقرة/ 65: «و لَقدْ عَلِمْتُم الّذينَ اعتدَوا مِنكُم في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُم كُوْنُوْا قِرَدَةً خاسِئينَ».

الارتقاء دائماً، بل قد يؤول إلى التقهقر والانحطاط، كما في الدبّ الأسمر الحالي وغيره . مما هو مبسوط في مذهب دارون .

فلعلّ طائفة من الإنسان وقعت في وسط اقتضت أحوال المعيشة فيه أن تسكن كهوف الجبال، وتتسلق الأشجار، لتقتطف منها الثمار، وتحارب أَعْداءَها من الحيوانات بأسنانها، ونحو ذلك، فتركت المشي ، مستقيما، والتجأت إلى استعمال الأرجل مقام الأيدي، وتركت التكلّم لقلّة حاجياتها فنقصت الزاوية الوجهية وطال البوز منها ، ونحو ذلك، وانتقلت العادات بالوراثة إلى أعقابها وهلك الضعيف منها، وبقي بالانتخاب القوي منها على تَحَمُّلِ عَوارضِ الوسط، وهو ذو /56/الشعر الذي يقيه من البرد، والذَّنَب الذي يطرد عنه الهوام، فصاروا بعد أحقاب طويلة قروداً ، فالقرد إذا انسان مُنْحَطٌّ، لا أنّ الإنسان حَيَوانٌ مُرْتَقٍ،(1) ولعلّ القاريء يوسعني الفند(2) والملام ويقول: إنّ صفحات العلم أجلّ من أن ترسم فيها هذه الأوهام.

وأقول: لك الْعُتْبى، ولكنّني لا ألقى من نفسي هذه الوساوس، بل أجرى على ما سَنّه هؤلاء الفلاسفة، انظر إلى ما سيأتي نقله عن المسيو دوبى، لترى أنّ قُصارى الفرق أنّه صنع من القرد إنساناً، وأنا صنعت من الإنسان قرداً .

كِلانا عالِمٌ بالتُرّهاتِ
اشارة

كِلانا عالِمٌ بالتُرّهاتِ(3)

إنّ تباين الأنواع يدلّ على اختلاف أصل الأنواع

ثمّ إنّ هنا أصلين يعترف بهما كلّ من المنكر للتحوّل والقائل به، وهما التشابه والتباين، فكما يجوز لهؤلاء أن يستدلوا بالتشابه يجعله دليلاً على اتحاد الأصل

ص: 54


1- الأصل: مرتقى.
2- الفند: ضعف العقل، الخطأ.
3- هذا عَجْزُ بَيْتٍ قديمٍ من الشِّعْرِ وَصَدْرُهُ: أُرِيْ عَيْنَيَّ ما لَمْ تَرْأَياهُ كِلانا عالِمٌ.... الخ. (عبدالستّار الحسني)

والتباين عارضاً بالتدريج؛ فلخصمهم أن يعكس الدليل، ويجعل التباين دليلاً على اختلاف الأصل، والتشابه عارضاً بالتدريج؛ وهذا وإن كان ممّا يعز عليهم المناص عنه، لكنّه راجع إلى المناقشة في أصولهم، فهو بالبحث العلمي ألصق، وسوف تسمع تفصيله هناك .

الدليل الثالث: في اتحاد نشوء الموجودات
اشارة

قال: ثالثاً: مشابهة الأجنّة

ينشأ الإنسان من بويضة قطرها /57/ نحو جزء من (125) من القيراط، وهي لا تختلف في شيء عن بويضات الحيوانات الأخرى، وجنين الإنسان في أوائل تكوينه لايكاد يفرّق(1) عن أجنّة سائرٌ الحيوانات الفقرية؛ ثمّ يبتدئ الاختلاف، فيظهر الأطراف، وإذ ذاك تنشأ أرجل العظاية(2) وقوائم ذوات الأثدي وأجنحة الطير وأيدي الإنسان وأرجله من صورة أصلية واحدة في جميعها، ولا يتّضح الفرق بين جنين القرد وجنين الإنسان إلاّ في مدّة أواخر النمو، وحينئذٍ يستوي جنينا(3) القرد والإنسان في اختلافهما عن جنين الكلب .

وينتج من ذاك: الإنسان لا يختلف في كيفية نشوءه عن الكلب والطير والضفدع والسمك، ويماثل الحيوانات التي تحته مباشرة في سلّم الكون في كيفية تكوينه وابتداء نموّه، وفي الأطوار الأخيرة من نموّ جنينه يكون الاختلاف بينه وبين القرد أقل جدّا ممّا بين القرد والبشر .

لا نحبّ تكذيب مثل دارون، ولكن نقول: إنّ هيكَل كما عَرَّفْناكَ قَبْلُ قَدْ زَوَّرَ هذه

ص: 55


1- الأصل: يكاد لا يفرق.
2- العظاية: دويبة ملساء أصغر من الحرذون تمشي شيئا سريعا ثمّ تقف، و تعرف عند العامة بالسقاية.
3- الأصل: جنينى.

الصور الجنينية، وبنى عليها مذهبه، ثمّ ظهر كذبه، وافتضح به، واعترف بتلك الفضيحة. وهاك نقل القصّة عن الرسالة الراعوية في الدين والعلمانية /58/تأليف فريديانو جيانيني النائب الرسولي على حلب، وقد لخّصناها لطولها.

قال: نشأ هيكل، 13ارنست هيكل في آلمانيا، وقضى نحواً من نصف قرن أستاذ العلوم الطبيعية في كلية ايينا وبات بواسطة نشر مؤلّفاته بين العامة كالأَبِ الروحي لملحدي أروبا. إلى أن قال: بعد نقل ذهابه إلى أنّ الإنسان تسلسل بالتدريج شيئاً فشيئاً من الحيوانات السفلى، على أنّ أعظم دليل جاء به لإثبات مذهبه إنّما هو مجموعة من الصور المكبّرة الممثلّة لهيئآت رقي نطفة الحيوان المتوالية في أحشاء والديه،(1) ففي تلك الصور تظهر النطفة الإنسانية مُبْدَأَةً بأبسط الهيئة الحيوانية، ومندرجة إلى هيئآت أكمل فأكمل، حتّى تبلغ الهيئة البشرية، ولمّا كانت تقلّبات الجنين على زعم استاد ايينا لا تَتَمُّ إلاّ على طريقة التقلّبات التي تمّت سابقاً على مرّ الأعصار في الأنواع الحيوانية المختلفة، أصبح من المقرّر لديه أنّ الإنسان تسلسل بتقلّبات متتالية عن مادّة أولية لا هيئة لها (كذا) نمت شيئاً فشيئاً وأخذت تتحوّل مرتقية من الحيوانات السالفة إلى الأنواع العالية كالقرد، حتّى انتهت إلى النوع الإنساني، بَيْدَ أنّ بعض العلماء في آلمانيا وغيرها من مثل الدكتور براس بعد فحصهم /59/ تلك الصور التي استند إليها هيكل وجدوا أنّها لم تكن كلّها صادقة، بل بعضها مزوّراً، وقد زوّره كهيكل تتميماً للحلقات الناقصة في السلسلة التي اتخذها أساساً لمبدئه، وما انتشر خبر هذا التزوير العلمي بين الجمهور حتّى أرغى وأزبد أستاد ايينا وتهدّد مُتَّهِمِيْهِ بإقامة الدعوى عليهم فَسُرَّ مُرِيْدُوْهُ بذلك، ولكن نار غضب الرجل ما لبثت أن انْطَفَأَتْ(2) فإنّه تحاشى إزْعاجَ المحاكم لما رأى نفسه مضطراً إلى الإقرار بالحقيقة، فأَبْدى الأَعْذارَ العديدةَ واعترف بأنّ بعض تلك الصور حُرِّفَ

ص: 56


1- هكذا في النسخ.
2- الأصل: انطفت.

تحريفا، كان يتطلّبه المبدأ، وهكذا اضمحلّت إلى الأبد شهرة هيكللدى العلماء.

وقد قال العالم بولس عن كتاب أسرار الكون أشهر مصنّفات أستاد ايينا: قرأتُ هذا الكتاب بخجل لا يوصف أن افتكرت فيما وصلت اليه العلوم الفلسفية بين شعبنا من الانحطاط، وأنّه لَعارٌ على الألمانيين أن يطبع ويُشرى وَيُقرأ كتابٌ كهذا عندهم .

الإجابة

قلت: وهذا التزوير ممّا شاع أمره، وذاع وتداولت نقله المجلاّت والجرائد، وقد اطّلعت على عدّة مقالات لهؤلاء في الاعتذار عنه. ومنها مَقَالةٌ مُسْهَبةٌ لهيكل نَفْسِهِ.

فإذا /60/ الرجل مع شدّة غيظه ووفور حدّته يعترف به، كما قال صاحب الرسالة؛ ولكنّه يجعله من باب الاضطرار إلى التزوير، فَاعْجَبْ،

ويزعم أنّه لا ينفرد بهذه الجناية على العلم والخيانة فيه، بل يشاركه فيه كثير من الفلاسفة؛ وهذا أعجب!.

ومع هذا الاعتراف يحمل ذنبه رجال الدين ويقول إنّه حيلة اكليريكية .

وما أدرى ما ذنب الإكليروس بعد ما كان هو الجاني على نفسه باعترافه، فهلا ترك الاعتراف ليبقى للاعتذار عنه مجال واسع عند هراطقته وتبذل جمعية المونيسيم(1) كلّ مُرْتَخَصٍ وَغالٍ في الانتصار له .

نماذج من التزويرات

وهاك طرفاً من مقالته المؤرّخة 24 ديسمبر، سنة 1908، قال: «تزوير صور

ص: 57


1- [Monism] يراد به وحدة الموجود أي قصره على الطبيعة مقابل الدوالسم، أي تثنية الوجود الطبيعة وما فوقها . (منه)

الأجنة، إنّي اعترف حسماً للجدال في هذه المسألة أنّ عدداً قليلاً من صور الأجنّة نحو ستّة في المائة أو ثمانية موضوع أو مزوّر إذا عدّ الدكتور براس ذلك تزويراً، وذلك فيما كانت الموادّ التي يراد فحصها أو رسمها غير كاملة حتّى يضطر فاحصها أو راسمها، وهو يضع حلقاتها بعضاً بإزاء بعض في سلسلة ارتقائها أن يملأ بينها /61/ بحلقاتٍ فَرَضِيّةٍ». إلى أن قال: «فبعد هذا الاعتراف يجب أن أحسب نفسي مقضياً عَلَيَّ وهالكاً، ولكنه يُعَزِّيني أن أرى بِجانبي في كرسي الاتهام مئات من شركائي في الجريمة، وبينهم عَدَدٌ كبير من الفلاسفة المُعَوَّل عليهم في التجارب العلمية وغيرهم من علماء الأحياء، اليولوجيا، فإنّ كثيراً من الصور التي توضح علم أبنية الأحياء وعلم التشريح وعلم الأنسجة وعلم الأجنّة المنتشرة المعوّل عليها مزوّر، مثل تزويري تماماً، لا يختلف عنه في شيء»، إلى آخره .

لا أدرى كيف لا يعدّ براس ذلك تزويراً، وقد علم كما علم غيره أن لا تزوير أشنع ولا أوضح ممّا ارتكبه الرجل حيث عمد إلى رسم صور لا حقيقة لها وادّعى أنّها حقيقية ليدعم بها منقض مذهبه في التسلسل، فتداولتها الأيدي واعتمد عليها العلماء كما في مقالة نشرتها جريدة الأخبار تحت عنوان فضيحة فيلسوف، فأوقعهم بذلك في مهالك الخطأ، وأوردهم موارد الضلال، ولو لا رجال الدين وَسَعْىُ إحدى جمعياته - أعنى جمعية كبلر(1) - لبقيت هذه /62/ الوصمة على العلم وَسَلَّمَتْ بها العقول كأنها من الحقائق الراهنة .

فجزى اللّه الدين عن العلم أفضل الجزاء، فإنّه كما قال أحد المنصفين حفظ في الأَدْيِرَةِ وأذيع على أيدي الرهبان .

وهم مع ذلك حماة ثغوره من التزوير، ولا يجديه عذراً ما ادّعاه من مشاركته لجمع من الفلاسفة فيه؛ إذ هو لا يدفع عار التزوير عنه، بل يشركهم فيه معه . فحكمه

ص: 58


1- جمعية دينية أقيمت مقابلة لجمعية (مونيسم) الإلحادية التي أقامها هيكل في ألمانيا . (منه)

في شريعة العلم أن يقام عليه حدّان: حدّ التزوير في العلم، وحدّ الافتراء على حملته إلاّ أن يأتي ببينة على صدق ما قرفهم به، فيدرء عن نفسه الحدّ الثاني، ويقام عليه وعليهم جميعاً حدّ التزوير، ولا ينفعه أيضاً في الاعتذار ما تشبّث به من دعوى الاضطرار؛ لأنّه لو كان لا يقصد إلاّ تتميم الحلقات فقط لميّز الصور الوهمية من الحقيقية، وفرّق بعلامة بين الفرضية منها والواقعية، وأبان ذلك للمطّلعين عليها ليتمّ له ما حسب نفسه مضطرّاً اليه، وسلم من عواقب التزوير التي أقلّها فضيحة الأبد والالتزام بالتنحّي مُكْرَهاً(1) عن كلية بانا بعد أن قضى /63/ أستاداً فيها ثلاثين عاماً .

وأراني قد أطلت الكلام على أمر لولا ما لزمني من الذبّ عن الحقيقة الثابتة في الأديان ومن الدفاع عن شرف الإنسان، لكان الواجب عليّ في شريعة العلم الصفح عن ذكره، بل الجدّ في كتمان أمره، وللرجل بعد مقامه الأوّل ومثله فيما أرى يعذر فيه، ولا يعذل .

وماذا ينقم الناقمون على فيلسوف عمل بوظيفته، وَجَرى على موجب فلسفته(2) .

دعاه ناموس حبّ الذات إلى التزوير، فزوّر حيث أمن الضرر، ولم يدر أنّ الدكتور براس واقف له بالمرصاد، وجمعية كبلر تراقب منه الحركات .

هذا وخصوم هيكل ك- «براس» وغيره ينسبون اليه تزويرات أخرى في هذه الصور شنيعة جداً، قد تركنا ذكرها ولكنّه ينكرها، واللّه سبحانه أعلم بها . /64/

ص: 59


1- هذا ما نقله صاحب مقالة فضيحة فيلسوف المتقدمة وفي مقالة هيكل الاعتذار بالاستعفاء عن أستادية الكلية المذكورة، وهذا عذر يعلل نفسه به كلّ معزول . (منه)
2- هذا إجمال ممّا تعرفه مفصّلاً ان شاء اللّه في القسم الثاني من أنّه على مذهب غلاة الماديين ومنهم هيكل لا يعقل وجود رادع عن القبائِحِ إِلاَّ خوف الضرر فقط . (منه)
إكمال في الإجابة

ولنرجع إلى الكلام عن هذا الاستدلال، ونقول: إنّ هذه الصور على تقدير ثبوتها لا وجه للاحتجاج بها إلاّ المقايسة بين تقلّبات النوع وبين تقلّبات الفرد في حالة خاصّة، وهذا من أضعف القياس وأبرد الاستحسان؛

ولكنّني رأيت في مقالة مقتطفة من كتاب ژولف لا كونت أنّ من الحقائق المقرّرة في علم الحياة أنّ الفرد في نموه يمرّ على نفس الأدوار التي يمرّ عليها نوعه.

فراجعت ما حضرني من كتب الفيسولوجيا كأصول الدكتور يوحنا ورتبات التي ترجمها من كتاب الدكتورين كركس و باكر، فلم أجد ذكراً لهذه الحقيقة، ولم أجدها في كتب البيولوجيا إلاّ دعوى مجرّدة عن البرهان.

وأيضاً لو تمّت الملازمة بين نموّ الأفراد والأنواع لكان اللازم إطراده في جميع مراتب الحيوانات، وتنقل كلّ منها بعدد الأنواع التي سبقته فى الوجود وترقّى عنها على الترتيب الذي وجدت أوّلاً . وليس كذلك في جميع هذه الأمور الثلاثة :

(1): لأنّ هذا الاقتفاء - اقتفاء الأفراد للأنواع - مختصّ بالحيوانات التي تتولّد عن البيض، دون الحيوانات التي تتوالد بالتبرعم(1) . /65/

(2): وفي الحيوانات البيضية لا توجد تامّا مرتباً؛ بل قد يكون ناقصاً، وقد يكون مختلاً في نظامه، فترى الحيوان ينتقل من درجة إلى أخرى ويتخطّى درجات كثيرة بينهما، وهذا كثير في جميع طوائف الحيوان لا سيّما العليا منها .

(3): وقد يتقدّم ثمّ يتأخّر ثمّ يتقدّمُ.

وقد بسط الكلام على جميع ذلك الأستاذ مرشل في خطبته التي تُليت في مجمع تقدّم العلوم البريطاني سنة 1890 .

ومن العجب أنك تجد حيوانين من نوع واحد وفي درجة واحدة من سلّم

ص: 60


1- التبرعم: إخراج البرعوم، أي كِمّ ثمر الشجر.

الارتقاء، ينمو جنين أحدهما على صورة والآخر على صورة أخرى؛ والضفادع العادية تكون أوّلاً عوماً ذات خياشيم، ولكن في آميركا نوعاً منها لا يمرّ في نموّه على هذا الطور .

ومن رام أن يعلّل ما عرفناك بما يزعمه هيكل من أنّ الصفات التي تقوم بها النوع بعضها وراثي، وبعضها مكتسب زاعماً أنّ الأولى يمرّ عليها الفرد في نموه، والثانية زائلة يتخطّاها، فقد أسّس تعليله على شفا جرفٍ هارٍ،(1) وبناه على أصل لا يقرّ له قرار، وسنعرفك مواقع الغلط فيها في النظر العلمي ان شاء اللّه . /66/

على أنّ من نواميس الْوِراثَةِ التي استدركها هيكل على دارون أنّ الصفات المكتسبة يكون انتقالها أسهل وأثبت، كلّما طال تكرارها في الأجيال كما في تربية الأزهار وتحسين الثمار .

فإن كانت الصفات الوراثية ثابتة عند هيكل كما نقل عنه هذا للعلل، فالمكتسبة عنده أثبت وأسهل، فهي أولى بالمرور عليها وأحقّ به من غيرها .

على أنّ هذا التعليل لا يعلّل به جميع المفارقات المتقدّمة، فلما ذا يختلف أفراد النوع الواحد؟ وهل يعقل أن تكون صفة معيّنة وراثية لفرد ومكتسبة لآخر؟ ومن علله بأنّ جميع طوائف الحيوان ولا سيّما العليا منها تميل أجنّتها إلى اختصار طريق نموّها؛ لأنّ الفرصة لا تمكنها من أن تمر عليها درجة، فقد شارك صاحبه في غضّ الطرف عن جميع الأمور المتقدّمة، وقصره على تعليل نقصان الدرجات . ولكنّه زاد عليه بأنّه أتى بما لا يفهم، وعلل عجباً واحداً بعجائِبَ، وما جلى كربة عن وجه العلم إلاّ بجلب مصايِبَ؛ ولا أدري ما الذي يدعو الأجنّة إلى هده العجلة ؟ وما الغاية التي نقصدها من هذه المبادرة؟ وما الذي أقدرها على ما يعجز عنه الكهول /67/ المحنّكون، وشيوخ العلم والفلسفة من مخالفة الخيفة المقررة في علم الحياة؟ ولما ذا لا

ص: 61


1- اقتباس من سورة التوبة/ 109: «أسَّسَ بنيانَه على شَفا جُرُفٍ هارٍ».

تبقى لها هذه القدرة بعد الولادة، فلا تستطيع اختصار نموّها بالطفرة إلى الكهولة من سنّ الفطام؟ ولما ذا لا تتفق الأجنّة على حذف مراحل معينة أو إدغامها، فصار بعضها يُدغم أو يطفر ما يسير عليه غيره متدرجاً !؟ وإنّ ناموساً فيه هذه الضروب من الاختلاف والشطط ولا ينفذ سلطانه إلاّ على الحيوانات البيضية فقط، وهي أيضاً لا تكترث فيه في كثير من الأحوال، بل تتقدّم على زعمه وتتأخّر وتدغم درجاته وتطفر، ثمّ لا يرفأ إلاّ بهذه التعليلات العليلة، لجدير بأنّ يتعجّب منه ويرق له لا ان يستدلّ به ويعتمد عليه .

ثمّ يبقى السؤال عن العوامل التي توجب هذه التحوّلات المتعاقبة، ولا يعقل أن تكون تلك العوامل التي توهّموها في الأنواع .

إذ ليست في البيضة الواحدة أحياء كاملة كثيرة يقلّ عنها الغذاء فتنازع في البقاء. ويبقى الأنسب منها، ولا ولادات متعاقبة فتحدث منها التشابهات والتباينات؛ فإذ أمكن حدوث الصور المتوالية من غير العوامل التي ذكروها، فما /68/ الذي يدعو إلى تكلّفها في الأنواع، وإذا كانت في الكون عوامل سواها تفعل فعلها، فأيّ حاجة إليها، وبماذا تعينت من بينها؟

الدلیل الرابع: الأعضاء الأثرية

قال: رابعاً:(1) الأعضاء الأثرية.

لا يخلو جسم فرد من الحيوانات العليا - وفي جملتها الإنسان - من وجود الأعضاء الأثرية فيه، كالثندوتين في صدر الرجل، والناب الذي تحت اللثة من المجترّات. فهذه الأعضاء وما شابهما تدعى أثرية لعدم نفعها الآن لذويها ممّا يدلّ على أنها لم تنشأ تحت الأحوال الحالية، وهي شديدة التغيير. لعدم نفعها، ويترتّب على ذلك عدم خضوعها لفعل الانتخاب الطبيعي واختفائها في غالب الأحيان .

وممّا يستحق الاعتبار أنّه مع ذلك يبقى فيها قابلية الظهور ثانية في أوقات مختلفة

ص: 62


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء / 101.

جرياً على مقتضى ناموس العود إلى الأصل؛ والظاهر أنّ السبب الأوّل في صيرورة بعض الأعضاء أثرية هو عدم الاستعمال لها في إبان الاحتياج إليها، ويكون ذلك غالباً في زمن البلوغ. وقولنا: «عدم الاستعمال» لا يقتصر على نقص عمل العضلات، بل يشمل أيضاً قلّة توارد الدم إليها، أو كونها معرضة لأقلّ ممّا يلزم لحفظ كيانها من الضغط المتعاقب عليها ونحو ذلك من الفواعل التي تقلّل عملها الخاصّ ./69/

وتنتقل هذه الأثريات بطريق الإرث إلى الأعقاب، ويكون ظهورها في نفس المدّة التي ابتدأ ظهورها فيها، وفي جسم الإنسان عضلات مختلفة أثرية وعضلات في حالة الظهور الكلّي لها مقابل في العجماوات .

ثمّ انتقل إلى عَدِّ عدّة أعضاء للانسان زعم أنّها أثرية، جزم بها في بعض، واحتملها في بعض آخر .

أطال هؤلاء الكلام في هذه الأعضاء، وعظّموا أمرها حتّى أفردوها عن سائر مباحث فنّها، وجعلوا لها علماً مستقلاً سماه هيكل «الدستبلوجيا»، وهم فيها بين مكثر ومقلّ وجازم في بعض وفي بعض محتمل؛ ونحن ان شاء اللّه نقدّم كلاماً كلياً ندعو كلّ أحد من القرّاء إلى التأمل فيه، ونرضى بحكمه إن كان ممّن منح حبّ الانصاف وبغض اليه الاعتساف، ثمّ نذكر الجواب عنها في محلّ البحث وهو الإنسان.

انّ العلوم العصرية لا تحكم بأنّ بعض الأعضاء أثرية جزما

فنقول: من الواضح الذي لا يرتاب فيه أحد أنّ علم الفيسيولوجيا - أعني علم الحياة - ومن أهمّ مباحثه معرفة وظائِفِ الأعضاء، لم يعرف البشر جميع مسائله دفعة واحدة، بل عرف بعض واضحاته أوّلاً ثمّ سرى على ناموس الارتقاء

ص: 63

التدريجي، حتّى بلغ اليوم هذه المرتبة العالية /70/ والدرجة السامية.

ولا شكّ أنّه قد مرّ على نوع البشر - عدا من خصّه اللّه تعالى منهم بالوحي - زمان لا يعرفون فيه من منافع الأعضاء سوى أعينهم التي كانوا يبصرون بها وأيديهم وأرجلهم التي كانوا يبطشون بها، ويسعون عليها ونحوها من ظواهر منافع ظواهر الأعضاء، ولنقصان علم التشريح أيضاً لا شكّ أنّهم حينئذٍ ما كانوا يعرفون القلب الذي هو أعظم الأعضاء في الحيوانات العليا فضلاً عن نفعه العظيم، ولا صماماته فضلاً عن منافعها، وبعد اطلاعهم عليه لا شكّ أنَهم كانوا يعدّون الصمامات أعضاء أثرية - أعني زائدة - ومن عرف أنّ له نفعاً لم يعرف أعظم منافعها حتّى اكتشف هار في دَوَران الدم من عهد غير بعيد، فلا شكّ أنّ علم الدستيلوجيا كان من أوسع العلوم موضوعاً؛ لشموله أكثر أعضاء الإنسان، بل كلّها إلاّ عدّة ظواهر منها، وما زال تقدّم العلم يضيق موضوعه ويخرج منه الأعضاء أفواجاً، فيسوقها إلى الفيسيولوجيا حتّى بقيت منها هذه العدّة التي ذكرها دارون، وهو كما عرفت غير جازم بأثرية كثير منها، وعدّة أخرى لم يذكرها هي مثلها أو أخفى منها . /71/

هذا مع الغضّ عما نعرفك في موضعه من ظهور وظائف كثير منها لدى أهل العلم ومعلومية عظم منافعها لديهم .

أ ترى والحالة هذه أنّ الإنسان لا يظنّ - إن لم يقطع - بأنّ هذه العدّة من الأعضاء كباقيها ذات منافع جمّة، وأنّ لها وظائف مهمّة فعلاً وإن خَفِيَ عليه الوجه فيها كما خَفِيَ على من سبقه في أكثر منها. أ فليس الأولى به أن يسعى في معرفتها ويجهد في رفع حجاب الجهل عنها!؟ ويؤدّي فرضه المقدس من إكمال نقصان العلم ما أمكنه، كما فعله السابقون عليه، ويقول إن لم يوفق لذلك: أنّ وظيفتها مجهولة، أو لم تعلم بعد، كما يفعله المحقّقون من السابقين، بل ومن علماء العصر أيضاً؛ أو الأولى أن يجزم بأنّ جميعها أعضاء باقية من أدوار الإنسان البهيمية، وليست لها وظائِفُ فعلية، فيوصد

ص: 64

باب العلم على الأفهام، ويستريح من حيث تعب الكرام. ومن حظّ الفيسيولوجيا تأخّر زمان الدستيلوجيا عن اكتشاف نفائِسِ مباحثه، والاّ لفتر هذا الاحتمال عنها الهمم وخسر تلك المباحث، وكان ما خسره غنيمة لهذا العلم الذي شرفه أستاد ايينا فتولّى تسميته بنفسه، وظاهر لدى العارف بعلم الحياة أنّ وظائِفِ أعضاء كثيرة كانت مجهولة عند علماء الغرب، ولم /72/تعرف الاّ في هذه الأيام. ومن الشائِع في بلادنا أنّ فوائد الكبد كانت مجهولة عندهم إلى أوساط القرن الماضي وإن لم يصحّ النقل، فلا شكّ أنّ فوائد أعضاء كثيرة في محلّ البحث إلى الآن تختلف أنظار العلماء في فوائِدِها، ولا يذهب أحدهم إلى الحكم بتعطيلها لمنافاته للفطرة التي سلمت من الآفات، ولم تعبث به أيدي الشبهات .

على أنّا لو سامحنا القوم، ولم نأخذهم بِالْقَضِيَّةِ المسلّمة بين جميع العقلاء من «أنّ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود» وسلّمنا عدم النفع فعلاً لهذه الأعضاء، فبأيّ دليل نسلّم لهم أنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في الإنسان قبل ارتقائه، وبقيت ضامرة لفقدانها وظايفها في حالته الحاضرة!؟ ولم لا تكون ابتداء نشوء لأعضاء ذات أهميّة في تحوّلات الإنسان الآتية؟ وظاهر أنّ الأعضاء التي يحتاج إليها الحيوان في حال ارتقائه لا توجد دفعة، بل توجد وتكمل تدريجاً، حتّى تصير قابلة لأداء وظائفها في وقتها، فثداء ذوات الأثدي وأيدي ذوات الأربع لم توجد دفعة واحدة على أصول هذه الفلسفة، بل بدأت بالوجود في إحدى أدوارها العريقة في القدم، وَما(1) زالت تكمل /73/ على مرّ الملايين من السنين حتّى بلغت مبالغها، وتمكّنت مِنْ أَداءِ وظائِفِها، وظاهر أنّها كانت في تلك الأدوار السابقة تعدّ زائدة أثرية، فماذا يكون جواب هؤلاء الحاكمين بالخلل في نظام جسد الإنسان!؟ والقاطعين بأنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في سالف الزمان إذا قلب الخصم لهم ظهر المجن، وادعى أنّها

ص: 65


1- الأصل: ولا.

ابتداء نشوء لاعضاء سوف يحتاج إليها في الأدوار الآتية، وجرى على مذهبهم من قياس النوع بالفرد كما سمعته من استدلالهم بتكوّن الجنين، وجعل الحال في ثندوة الرجال كحال الثدي في أفراد النساء، فكما أنّ ثدي الجارية تبدو أوّلاً، ثمّ تنمو تدريجاً، وهي ناقصة النمو في حال صغرها؛ بل زائدة لعدم وظيفة لها، ثمّ تكمل فتؤدي وظيفتها عند بلوغ الجارية واحتياجها إلى الإرضاع، فلتكن ثندوة الرجال كذلك، فسوف تتمّ وتتمّ وظائفها عند بلوغ نوع الرجال حدّ الكمال.

ولا يجديهم في دفع هذا ما أشار اليه دارون من أنّ بعض هذه الأعضاء عاملة في بعض أقسام الحيوان؛ لأن من الممكن أن يحتاج الحيوان الأعلى إلى عضو يحتاج اليه الأدنى ويستغني عنه المتوسط. ومن الممكن أيضاً أن يحتاج قسم من أنواع الحيوانات الدنيا ما يحتاجه غيره حين ارتقائه /74/ خاصة ولعل في نفس الحلقات التي رتبها دارون شواهد كثيرة على ما قلناه، فليتتبع من شاء ذلك .

شبهة في المقام
اشارة

ولعلّ معترضاً يقول: إنّ ما ذكرتَ وإن كان نافعاً في منع أثرية هذه الأعضاء، ولكنّه مبني على أصل التحوّل الذي لا تقول به، والتزام بنشوءِ الإنسان وارتقائه في مستقبل الزمان اللازم منه أيضاً وقوعه في الأزمنة الماضية، إذ التفكيك في النشوءِ بين ماضيه وآتيه، بعيد جداً إن لم يكن مستحيلاً.

الإجابة

ويغفل هذا المعترض(1) عن الخطّة التي نسير عليها في هذه الرسالة من نقض أصول هؤلاء بآرائهم، وهدم آرائهم مبنياً على أصولهم؛ على أنّا لو شئنا لبدّلنا ما

ص: 66


1- الأصل: المتعرّض.

ذكرناه مجاراةً لهم من قولنا تحتاجه في تحوّلاته الآتية بقولنا في حالاته الآتية. وبنينا الجواب على أنّ نوع الإنسان سيحتاج إلى هذه الأعضاء مع بقاء وصف الإنسانية وعدم تبدّل صورته النوعية، ونلتزم بمثل هذه التغييرات في الأزمنة الماضية؛ إذ الذي علمنا من ضرورة الدين أنّ الإنسان خُلِقَ إنساناً؛ ويبقى كذلك نوعه؛ وأمّا هذه التغييرات الطفيفة التي لا تضرّ بالصورة النوعية فمما لم يعلم من الدين عدمها، بل لعلّ فيه شواهد عليها؛ وكما لا يضرّ بنوعية الإنسان ما نشاهده في كثير من /75/ أفراده من زيادة عدد الأصابع أو نقصانه لا تضرّ بها أمثال هذه التغييرات، وإذا كان تعدّد الرأس واشتراك بعض الأعضاء بين شخصين متلاصقين ونحوهما من شواذ الطبيعة وأنواع الهولات(1) العجيبة التي هم أعرف الناس بها، وأولعهم بالفحص عنها لا يضرّ بصدق اسْمِ الإنسان، فبالأولى لا تضرّ به الزيادة في عضلات الرأس والأسنان ونحوهما من التغييرات الجزئية. تدبّر ما قلناه تجده واضحاً ان شاء اللّه تعالى !

إيضاح المقام بطريق آخر

وبالتأمّل فيه يفتح عليك باب آخر للجواب عن هذه الأعضاء الأثرية؛ وتقريره أنّ أقصى ما أثبته هؤلاء أنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في الإنسان سابقاً وكان محتاجاً إليها، وهو في غِنىً عنها الآن، وهذا لا يدلّ على أنّه كان حينئذٍ حيواناً حتى على أصولهم؛ إذ لا شكّ أنّ الإنسان الذي وجد على معتقدهم عن عهد بعيد قد عاش في أوساط مختلفة، ومرّت عليه من أسباب المعيشة أطوار كثيرة، فقبل اهْتِدائِهِ إلى صناعَتَي الطحن والطبخ كان محتاجاً إلى زيادة الأسنان، ولعدم معرفته بناء المساكن كان مضطراً لمقابلة عين الشمس، فاحتاج إلى جفن اُخرى ترد عنه زيادة

ص: 67


1- الهولات: جمع الهول، أي الغريب، كريه المنظر.

نورها وقبل صنعة السلاح، كان طريق وقايته من السباع منحصراً في الفرار؛ فاحتاج إلى قوة /76/ في عضلات الرجلين، وهكذا يقال في بقية الأعضاء التي ذكروها. ثمّ بعد تقدّمه في الحضارة واستخدامه لقوى الطبيعة واهتدائه إلى تليين الطعام بالطبخ واختراعه لبناء المساكن وصناعة الأسلحة القوية استغنى عنها؛ فأزالتها عنه يد الحكمة الإلهية التي أوجدتها له حين احتياجه إليها، فسبحانه من خالق ما أعظم حكمته وأجلّ قدرته وأعلمه بمصالح مخلوقاته وأرأفه بعباده .

الردّ لمن قال إنّ الإنسان خنثوى الأصل

ثمّ إنّ لهؤلاء في خصوص ثندوة الرجال ضَرْباً(1) آخَرَ من التخرّص وَجُنُوْحاً(2) أخرى إلى الخروج عن مقرّرات الشرائِعِ، وهو: أنّ الإنسان خنثوي الأصل، أي كلّ فرد منه كان ذكراً وأنثى . ثمّ انفصل النوعان، وامتاز أحدهما عن الآخر، لزعمهم أنّها أثرية بقيت من عهد الخنوثة.

وهذا من الخرافات الوثنية القديمة التي كانت تَصِفُ(3) الإلهية بالخنوثة، وقد أَماتَهُ العلم دهراً طويلاً، ثمّ أحياه هؤلاء، وهذا كما عرفناك سابقاً مناف لضروري الأديان، وعرفت الجواب عن كونها أثرياً الآن .

ونزيدك هنا أنّ هذه الدعوى تنافي مقرّراتهم، ولا تصّح حتّى على أصولهم من تخصيص الخنوثة بالحيوانات والنباتات /77/ الدانية، وحكمهم بأنّ الإنسان قد ارتقى من أعلى الحيوانات الراقية من ذوات الثدي.

فإن كان المدّعى أنّه كان خنثى بعد تحوّله إلى الإنسانية، فيكذبه أنّه قد ارتقى عن حيوانات مرتقية تقسّمت فيه الذكورة والأنوثة من عهد بعيد.

ص: 68


1- الأصل: ضرب.
2- الأصل: جنوح.
3- الأصل: توصف.

وإن كان المدّعى بقاء الأثر من قبل ذلك فيرده أنّه في تلك الصورة لم يكن من ذوات الأثدية؛ وبالجملة الإنسان مذ كان خنثى لم يكن من ذوي الأثدي، ومذ صار منها لم يكن خنثى .

الردّ على من يدّعى أنّ الرجال اشتغلوا بإرضاع الأطفال في زمن

ولا أدري لماذا بقي أثر عار الخنوثة ظاهراً في الإنسان، ولم يبق في ما هو أدون منه في سُلَّمِ الارتقاء، كذوات الحافر(1)؛ ورأيت في كلام أحد اتباع هؤلاء وجهاً آخر، حاصله: أنّ الرجال كانت في أحد أدوار الإنسان القديمة تتناوب مع النساء في إرضاع الطفل، فلمّا اشتغل الرجال بالأسفار والحروب اختصّ الإرضاع بالنساء، وبقيت الثنداوة أثرياً في الرجال، وهذا كافٍ في دفع عار الخنوثة؛ ويصحّ حتّى على إنكار التحول أيضاً؛ لأنّها من التغييرات التي لا تضرّ /78/ بالصورة النوعية .

الردّ لمن قال إنّ أوّل مخلوق اتصف بالمنظر الإنساني كان أنثى

ثمّ إنّ ممّا يناسب المقام أنّ جماعة من هؤلاء ذهبوا إلى أنّ أوّل مخلوق اتصف بالمنظر الإنساني كان أنثى نقله المسيو دوبى قال: «وكان برهانهم على ذلك حركة البيضة البشرية واستحالاتها المتتابعة في سياق لا يحيد ولا يتغير». ثمّ قال: «وعليه إذا كان التركيب الأنثوي أحطّ من التركيب الذكري، فبرهانهم على ذلك منطقي، لا يقبل الردّ؛ لأنّ الأنثى الأولى التي هي أحطّ بكثير من المخلوقات التي قامت بتوليدها يصحّ أن يقال عنها: إنّها كانت رسماً مقدّماً لمستقبل النوع الإنساني،

ص: 69


1- هذا على ما قال الشيخ في الشفاء [(الطبيعيات) ج 3/28] وهذه عبارته: «وللفيل الذكر ثدى كما للانسان، وذكورة ذوات الحافر لاثدي لها إلاّ ما يشبه أمهاتها منها، وينزع إليها كما يعرض مراراً في الخبل» . (منه)

وهي التي لابدّ أن تكون قد تلقّحت من مخلوق طبقته أدنى منها درجة واحدة، حتّى أصبحت والدة الجنس البشري.(1) وقد ذكر ذلك بعد ما ذكر القول بأنّ الإنسان كان خنثى في الأصل.

فيظهر أنّ هذا القول مخالف للأول،(2) وأنّ المناسب لهذا الرأي هو الثاني، وأنّ برهانه /79/منطقي بزعمه لا يقبل الردّ، على أنّه بناء على الارتقاء التدريجي. لا أعرف معنى لقولهم: «أوّل مخلوق اتصف بالمنظر الإنساني» فضلاً عن البحث عن كونه أنثى أو ذكراً فتأمّل فيه، فإنّه من العجايب !

إنّ الاستدلال بوجود الأعضاء الأثرية يقضى وجود الصانع الحكيم

وبقي شيء آخر نختم به الكلام في هذا المقام، وهو: أنّ الاستدلال بأثرية هذه الأعضاء إنّما يصح من المؤمنين الذين يثبتون لهذا الكون صانعاً حكيماً، تجلّ أفعاله عن العبث واللغو، ويقولون بالقصد والغرض الغائي في خلق الأشياء.

وأمّا خصومنا الذين ينسبون الخلق إلى الطبيعة ويصفونها بأنّها عمياء ويعزونها إلى الصُدفة، وهي باعترافهم صمّاء، ويبنون فلسفتهم على أنّ الموجودات نتيجة الاضطرار لا القصد والاختيار، فأيّ مانع على مذهبهم من أن يدخل في تركيب السلحفاة أجزاء تختصّ بالجمل؟ أو يوجد حيوان تسعة اعشار أجزائه زائِرٌ لا ينتفع بها ولا تستعمل؟ وذلك لا يبعد من العمياء والصمّاء .

وايم اللّه ما هذا إلاّ لأنّ القصد والاختيار وأنّ الكون باسره فعل الصانع المختار،

ص: 70


1- ما ذنب الإنسانية إلى هؤلاء حتّى رموها بالحيوانية أوّلاً، وبالخنوثية. ثانياً، وبهذا العار. ثالثاً، فَصَبْراً أيها الإنسانية الطاهرة المضامة وليفرخ روعك فما عليك بأس بعد ما شهد بشرافة أصلك الأنبياء ونزل بها الوحي من السماء . (منه)
2- الأصل: للأولى.

أمر أنكرته ألسنتهم واعترفت به فطرتهم، «وجحدوا(1) بها واستيقنتها أنفسهم».(2)

رجع

وأما ما ذكره /80/ في أثناء كلامه من ناموس العود إلى الأصل والوراثة ونحوهما، فستعرف الكلام فيه في المبحث العلمي .

أتباع دارون والوجوه التي ذكروها على التحوّل

وقد ذكر اُتباعه وجوهاً أُخَرَ، وبنقلها والجواب عنها يتمّ البحث في خلق الإنسان .

الأوّل: ما نقلوه عن مشينيكوف، وهو على ما وصفه أحد هؤلاء كان الساعد الأَيْمَنَ(3) لباستور في حياته، وهو الآن خليفته على ما احتكرهُ مُعَلِمُّهُ(4)، وملخّص هذا الدليل: إنَ رواسب دماء الحيوانات تتشابه أو تتفارق بنسبة مشابهة الحيوانات أو مفارقتها، فرواسب دم الإنسان تختلف عن رواسب دم البقر، ولكنها تشابه رواسب دم القرد، والمحاكم اليوم تستعمل هذه العملية للتمييز(5) بين دم الإنسان والحيوان.

وقد عظّم أحدهم أمر هذا الدليل حتّى قال: إنّ مذهب دارون لم يزل ظنّياً وهذا الاكتشاف نفى عنه الريب، وأزاح عنه كلّ شبهة .

ويقال في الجواب: إنّ هذا ليس سوى مشابهة خفية بين الإنسان وغيره، فإن كانت في المشابهة كفاية لإثبات هذا الرأي فقد استدلّ دارون منها بوجوه كثيرة هي أقوى /81/ من هذه. وأوضح، وقد أغنته تلك المشابهات الكثيرة الواضحة عن

ص: 71


1- الأصل: فجحدوا.
2- النمل/ 14.
3- الأصل: اليمنى.
4- الأصل: معمله.
5- الأصل: للتميز.

هذه المشابهة الواحدة الخفية، وإلاّ فهذا الرأي لم يزدد وضوحاً بهذا الاكتشاف .

الثاني: ما ذكره بوشز الآلماني وحاصله: «أنّ مزج دم الحيوان بالحيوانات البعيدة في النوع منه يوجب قتل كريات دمه المفضي إلى موته . فإذا أخذت إرنباً وحقنته بدم هرّ عاجل في هلاكه، بخلاف الحيوانات القريبة كالحصان والحمار . وقد مزج فريداننا من أهالي برلن دم القرود بدم الإنسان، فكانت النتيجة مختلفة بحسب اختلاف القرود في الارتقاء، فكان سمّاً في القرود الدنية وغير مضرّ في القرود الراقية كالشمبانزي؛ فيظهر منه وجود قرابة دم بينهما»، انتهى .

وهذا كسابقه لا يدلّ إلاّ على مشابهة دموية بين الإنسان وأرقى القرود، وأين تقع هذه الْمُشابَهَةُ وأشباهها ممّا يروم المستدلُّ من إثبات التحول واتحاد الأصل !؟

على أنّي قد عثرت قديماً - فيما أظنّ على تجارب تنافي تجارب فريداننال(1)

المذكور .

ولا أدرى الآن موجباً للفحص عنها ونقلها بعد ما كانت تجاربه بعينها غير منطبقة على أصوله، بل دالّة على خلاف /82/ مراده، وذلك لأنّ القرود الراقية والمنحطّة بأَسْرِها في مرتبة واحدة من القرب إلى الإنسان والبعد عنه، إذ القرود بأصنافها نشأت عن الأصل الذي نشأ عنه الإنسان بطوائفه - فرع القرود من جهة وفرع الإنسان من أخرى - والقرود بأصنافها تنتهى إلى الواسطة التي توصلها إلى ذلك الأصل المشترك، كما ينتمى الإنسان اليه بواسطة الشيخ ابن جاوى الآتي وصفه قريباً، فكما أنّ الإنسان بطوائفه من الزنجي المنحطّ إلى القوقاسي الراقي ينتمى جميعه إلى واسطته، ومنه إلى الأصل المشترك، كذلك القرود تنتمي بأصنافها اليه من أدناها إلى الشمبانزي، وإن كانت مقتضيات المعاش وعوارض البيئة والوسط ونحوها من الأسباب التي يعتمدون عليها أوجبت سرعة ارتقاء بعض أو

ص: 72


1- كذا في الأصل/ و هو يخالف ما ورد قبل أسطر.

انحطاطه، فتولّدت الأصناف منها، كما تولّدت الأنواع للإنسان بتلك الأسباب بعينها.

وبعد هذا نقول: لو كانت القرابة الدموية موجبة لعدم تضرّر الإنسان بدم غيره، لما اختلفت التجارب في أصناف القردة؛ ولكانت دماؤها مضرّة جميعاً أو غير مضرّة كذلك . فهذه التجارب لا تدل الاّ على عدم تضرّر الراقي بدم راقِ آخر وتضرّره بدم الداني منه؛ وهذا أمر لا يهمّنا، ولا ننكره .

نعم ، لو كانت /83/ الطوائف الدانية من القرود أبعد من أصل الإنسان لكان له وجه، ولكنّه تخالف أصول هؤلاء، ولازمه تحوّل أحد فرعي الإنسان والقرد من الآخر، وهذا ما لا يقوله أحد من زعماء هذا المذهب، ويصرّح بخلافه مَن تؤثر عنه هذه الفلسفة.

فتأمل فيما نبّهتك عليه، تجده واضحاً نافعاً لك في كثير من المباحث الآتية .

الثالث: ما ذكره المسيو دوبى، وحاصله: «أنّه ثبت في علم تشريح المقابلة تشابه هيكل الإنسان العظمى من قوم الهوتنتوت - وهم قوم من سكّان أوساط إفريقيا يعتقدون أنهم أدنى البشر رتبة وأقربهم إلى الحيوان - وبين الْهَيْكَلِ(1) العظمي للقرود من أورانغ أوتانغ - قسم من القرود يعتقدون أنّها أقرب الحيوانات إلى الإنسان، وأنّها أرقى القرود - وأنّ الأعضاء البدنية والوظائِفَ الحيوية واحدة في الجنسين، والاختلاف الوحيد الفارق بينهما فهو في الزاوية الوجهية فإنّها ناقصة في القرود من ثمان إلى عشر درجات.

وأمّا الاختلاف في طول ذراعي القرد وكبر إِبهامَىْ رجليه فهو الاختلاف الأخير ما هو إلاّ ليسهل عليه استخدام الرجل في مقام اليد، والأعضاء الصوتية في القردة الكبيرة مشابهة للتي في الإنسان /84/ إلاّ أنّ كيسين غشائيين قائمين في

ص: 73


1- الأصل: هيكل.

جانبي حنجرة القرد يعارضان في تلفظه الكلم»، انتهى .

ويقال في الجواب: إنّ هذا أيضاً ليس إلاّ استدلالاً بالمشابهة، لكن مع ترك أمور كثيرة من وجوه المخالفة؛ ولا أدرى أ ذلك عن تعمّد أو عن سهو أو عن جهل!؟ وأيّاً كان فبين الإنسان وأرقى القرود مسافة عظيمة باعتراف رؤساء هذه الفلسفة.

قال برنارداون في آخر مقالة له أوضح فيها بزعمه علاقة الإنسان بالقرود ما ترجمته: «إنّ بين أسمى القرود والإنسان هُوّةً(1) عقلية لا يُسْبَرُ(2) غورها، وهذه الهوّة هي التي تجعله سيّد المخلوقات».

وأمثال هذا في كلماتهم كثيرة لا نرى إِطالة الكلام بذكرها .

فإِذا ثبتت هذه الهوّة العقلية بين الإنسان وأرقى الحيوان واعترف هيكَل - ألدّ أعداء القول بإبداع نوع الإنسان - بأنّ في الإنسان حلقات كثيرة مجتمعة لا توجد في الحيوان إلاّ متفرقة؛ فلا نبالي بتقاربهما في الأعضاء الجسمية، فالإِنسان إِنّما يكون إِنسانا بقوّة قواة العقلية واقتداره على حلّ المشكلات العلمية، وتمكّنه من الحكم على الموجودات الغير الخارجية ونحوها ممّا تخسأ عنه أَرقى القرود، وهذه الهوة /85/ هي التي أَلجأت ليل، وهو من يقتفي دارون آثاره في الجيولوجيا إلى القول بالتحوّل الفجائي فيه. و بخنر على شدّة تعصّبه على نوع الإنسان يقول في كلام ليل فمن أراد تصديق هذا الرأي فهو مُخَيَّرٌ.

وفي مسألة: كيف تخلّص عقل الإنسان وصورته من عقل الحيوان وصورته؟ يعترف بأنّه ليس عنده من الموادّ ما يكفي للجواب عن هذه المسألة، على أنّ الأمد بين الجسمين بعيد والشوط بينهما بطيء؛ فإنّ دوينتون الطبيب الفرنساوي صاحب الاكتشافات في علم الأصداف بيّن سنة 1764 الفرق الجوهري بين بناء الإنسان

ص: 74


1- الهوة: ما انهبط من الأرض، الوهدة الغامضة.
2- لا يسبر: لا يختبر، لا يجرّب.

والأورنغ أوتنغ أقرب القردة إلى الإنسان، وأثبت علماء التشريح أنّ في أدمغة القرود تَلْفِيْفاً(1)، لا وجود له في أدمغة الناس، يسمّى بالتلفيف القردي إلى غير ذلك ممّا لم نتكلّف استقصاءه الآن؛ لأنّا في غنىً عنه بما عرفناك من أنّ الفارق الأعظم بين الإنسان والحيوان هو كمال الإنسان في نفسه، لا في هيئة جسده وتركيب بنيته .

وقد أحسن من قال: «فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إِنسانُ»(2).

فمع تلك المزايا النفسية أو كما سماها برنارداون الهُوَّة العقلية لا نكترثُ بِمَا بين الجسدين من المشابهات، ولولاها لم تنفع بما بينهما من المباينات، /86/ بل لعلّنا كنّا حينئذٍ نصدق رؤيا مسيودوبى الآتية ونحقّق رَجاءَهُ من دفع الحدّ الفاصل بين المملكتين، وإلحاق القرد بالإنسان راجع آخر الكلام الذي تقدّم نقله عن توحيد المفضل .

وأمّا ما للقوم في تقريب هذا المدى البعيد والبعد الشاسع الذي بين عقل الإنسان وما يقابله في الحيوان انستنتك، فستعرف الجواب عنه في البحث العلمي إن شاء اللّه .

ثمّ إنّ المسيو دوبي الفرنساوي رأى حُلماً لذيذاً، بناه على أصلي لامرك من اختلاف تشكّل الأعضاء باستعمالها أو إهمالها وبضرورات المحيط فقال :

«إِذا كانت القرود لأحدى الضرورات تلتزم أن تقف مستقيمة، وتتعوّد على الوقوف، فلا ريب أنّ أرجلها تتكيّف شيئاً فشيئاً من جراء استخدامها إيّاها في السير، وكذلك تكسب عضلات ساقاتها من عملها الدائم طولاً و رقة، وتأخذ

ص: 75


1- الأصل: تلفيف.
2- هذا عَجْزُ بَيْتٍ وَ صَدْرُهُ: أَقْبِلْ عَلى النَّفْسِ وَ اسْتَكْمِلَ فَضَائِلَها/ فَأَنْتَ بالنفسِ... (عبدالستار الحسني)

ربلاتها(1) بالنمو والسمن؛ وبمثل ذلك إذا امتنع عن استعمال فكّيها في مقام السلاح وهما اللذان تنهش الأشياء بهما وتمسكها وتقلع بواسطتهما واقتصرت على استعمالها للمضغ؛ فلا يبعد أن تتحسّن زاويته الوجهية كثيراً، وتصغر فتحتهما، ويقصر البوز شيئاً /87/ فشيئاً، وتكسب أسنانه شكلاً مستقيماً؛ ثمّ تقوم بتأليف الأسر وتتبعها بالمجتمعات، وتبتدع لها حاجات بما توصّلت اليه من ضروب الصناعة، وتضطر أن تغيّر على الأنحاء المجاورة لها، وتقوم في حصر السلطة في أفراد من نوعها، وبما اكتسبت من الحاجات تصبح الإشارات غير كافية لنوعها، فتجتهد في تعديل صوتها دائبة في تمرين حناجرها وألسنتها وشفاهها؛ لتولد بواسطتها ألفاظاً وكلماً . فقد ماثلت الجنس البشري في جميع أشكاله وأفعاله.

يقال له: خيراً رأيت، وهكذا فلتكن الأحلام وإِذا رأيتها اخترعت آلةً رصديةً كسدس هدلي أوتنبّهت لقاعدة حسابية دقيقة مثل لوغارتم، أو اكتشفت قمراً آخر للمشتري، أو حلقة أخرى لزحل، أو سيّاراً أبعد من نبتون، فأقرءها السلام .

ونحن نقف في الكلام مع دوبى على هذا الحدّ . ثمّ ندعه بين مخالب سائِرِ أصحابه النشوءيّين القائلين بامتناع تحول القرد إِنساناً، الحاكمين بأنّ ارتقاء القرود قد بلغ حدّه، ووقف عنده مثل لانج الإنكليزي وغيره ممّن كتب منهم في هذا الموضوع، ولا ندخل معهم في هذا النزاع البارد بعد ما عافانا اللّه منه ببركة الدين القويم، وبما منحنا به من الطبع /88/ السليم؛ بل نقف كالمتفرّج عليهم بقلب معتبر ممّا ابتلى به هؤلاء، وَطَرْفٍ مستعبرٍ على ما يقاسي العلم والإنسانية من هذه الأهواء .

الرابع:

ظهور بعض الأعضاء والصفات الحيوانية فيه كظهور عفر طويلة من الشعر في أبدان قصيرة الشعر، فإنّه يدل على أنّ الإنسان متسلسل من أصل ذي شَعْرٍ كَثٍّ،

ص: 76


1- الرَبَلات: جمع الربلة، أى كل لحمة غليظة، أصول الأفخاذ.

فظهرت فيه بناموس العود إلى الأصل، وإِلاّ فمن أين أتت تلك الأعضاء والصفات ان لم تكن كامنة فيه وموروثة من أجداده !؟

وهذا الوجه أيضاً قد أشار اليه دارون في كلامه المتقدّم، ولكن أتباعه قد أطالوا الكلام فيه، وعظّموا أمره

ويقال في الجواب: إنّ ما ذكروه بعض من شذوذات الخلق وعجائب المخلوق التي تقع في كلّ عصر ومصر أقسام غريبة منها، ثمّ تجمعها صفحات التاريخ وتهديها إلى العقلاء ليزدادوا يقيناً بصدق قول خالقهم : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء»(1) وإلى هؤلاء العلماء الذين رفضوا الدين، لزعمهم أنّه حجر عثرة في طريق العلم، وألزموا أنفسهم بالتعليل الطبيعي لجميع الأشياء /89/ليعلموا أنّهم مهما تقدّموا فإِنّ البعد بينهم وبين معرفة علل الأشياء أكثر مما بين الأرض والسماء ولا يحتمل في كثير منها؛ بل في أكثرها ما ذكروه من وجود تلك الشواذ في الأجداد وانتقالها إِليه بناموس الرجوع.

وإليك بعضها نقلاً عمّن يقول في هذا الفصل: قد عَنَّ لي إيراد الحوادث التي كانت على مشهد من أولئك القوم أصحاب الجدّ، ومحبّي الحقيقة الذين أَتوا على ذكرها وَأبانُوْا(2) وصفها وكيفيتها، وهم الذين يفرّون من العجائب، ولا يُقرّون بالمعجزات .

الشواذ من الإنسان

(1) : كان في مدينة ما كاو غلام صيني، يبلغ من العمر اثنَيْ عَشَرَ حَوْلاً، يحمل فوق صدره جنيناً رأسه مطمور في صدر حامله، وكان مكمّل التركيب، يتدلّى من أعلى صدره حتّى ركبتيه، ويشكل تركيبه تركيب حامله، وكان له شعور كثير حتّى أنّه يتأثّر جسمه، وتتشنّج أوصاله لأقل لمس خفيف، وكان حامله أيضاً ينفعل

ص: 77


1- [آل عمران/ 6].
2- الأصل: وبانوا.

بذلك، ويشعر بذلك الألم بعينه، ويصرخ بأعلى صوته متألّماً إذا كان القَرْصُ قوياً .

(2) : فتاة لها من العمر ثلاثون حولاً تشبه الهول السابق، وقد قام بمراقبتها واشتغل بتفحصّها بكلّ إِمعان غاسباربار تولان، وذكر عنها أنّها كانت تحمل تحت الثديين جنيناً بلا رأس، /90/ متمّم الخلق، ذا تيقّظ عضلي مستقل عن إرادة حاملته، إذا أخذ أحد في دغدغته بعنف، يرفس ويدبدب .

(3) : فتاة أخرى ورد في تقرير وينزلوا أنّها تحمل على جنبها الأيسر ابنة أخرى، وكانت تبول وتتغوّط بمعزل من إرادة حاملتها، وَكانَ لكِلْتَيْهما شعور واحد، إذا لمس جسم الصغيرة ولو خفيفاً شعرت به الكبيرة، وبقيت إلى الثالثة عشرة من عمرها.

هل كانت في أجداد حيوانات مزدوجة فانتقلت بناموس الرجوع إليهم !؟

(4) : ولدت في أَسبانيا سنة 1775 ابنة مزدوجة الرأس، وَرَأْساها(1) مسبوكان معاً، نظير ما يمثّلون يانوس؛ وكان الفمان اللَّذانِ في رَأْسَيْها(2) يرضع كلّ منهما على حِدَةٍ ثدياً من ثَدْيِ الأم، وعندما تكتفي المعدة يرفض الفمان الثديين في وقتٍ واحدٍ، وكان يُسْمَعُ بُكاؤُهُما في وقت واحد أيضاً، قضوا جملة سنوات يسحبونها من بلد إلى بلد ويعرضونها على الناس لدراهم يتقاضونها من المشاهدين .

(5) : مولودة في سردينيا، كان لها رأسان وصدران وأربع أَيْدٍ(3)، كلّ ذلك على ساقين فقط، وكان مبدأ انسباك الجذعين واتحادهما في أعلى السرّة. ولمّا توفيت إحداهما /91/ لحقت الأخرى بها على الفور، ماتت في باريس 1828. وأجرى جوفريسان هيلو الكشف التشريحي، وقدّم التفصيل الآتي : «قلبان في شفافٍ واحدٍ، كبد واحدة، أمعاء مزدوجة إلى المعي المعروف بالأعور رَحِمانِ فتحتهما في

ص: 78


1- الأصل: رأسها.
2- الأصل: رأسيه.
3- الأصل: أيدى.

ذات الفرج سلسلتان فقاريتان(1) تتّحدان عند الْعُصْعُصِ .

والقضايا المنقولة عن الشواذِّ في كتب الشرقيين الأقدمين والغربيين في غاية الكثرة، وإنّما اقتطفنا بعضها من هذا الكتاب؛ لأنّ مؤلّفه مُعَطِّلٌ بَحْتٌ من أبعد الناس عن التصديق بالعجائب .

فهل يمكن تعليل هذه الشواذ المتنوّعة بحيوانات كانت كذلك في الأعصار الجيولوجية، فانتقلت إلى هؤلاء التعساء بناموس الإتافيسيم؟

وإِن لم يمكن ذلك فلتكن الشواذ التي فيها بعض الشبه بالحيوانات من هذا القبيل . وليعلّلوا هذه بما يفرضونه لتلك من التعليل .

ونقل أيضاً عن تقارير الندوة العلمية الباريسية :

أنّ أحد الشيوخ توفّي في سن الثانية والستّين، ولدى الفحص التشريحي وجدوا في جسمه انقلاباً من أهمّ الانقلاب وأغربه، وذلك أنّ جميع الأعضاء التي مركزها الطبيعي عادة في الجنب الأيسر /92/ شاهدوها موضوعة في الجانب الأيمن، وكذلك الشريانات والعروق والأمعاء؛ قد شاهدوا فيها هذا التبدّل بعينه. قال: ويوجد لها أمثال عديدة ضربنا عنها صفحاً .

فهل يقول هؤلاء: كانت في الحيوانات البائدة حيوانات مقلوبة، ولها بقايا عظام مطمورة في بعض كهوف بولونيا، وقد تولد هؤلاء منها، وورثوا الانقلاب عنها؟

أم يضطرون إلى الاعتراف بقدرة خالق الكون الذي إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون(2) ولا أقلّ إلى تسليم أنّ في الكون نواميس لا نعرفها، فلتكن هذه المشابهات(3) الجزئية الحيوانية مثل تلك الهولات العجيبة مسبّبة عنها.

ص: 79


1- الأصل: فقاريتات.
2- اقتباس من سورة يس/ 82: «إنّما اَمْرُهُ إذا أرادَ شيئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
3- الأصل: المشباهات.

وممّا رأيته بنفسي من هذه الشواذ رجل بين إصبعين من أصابع إحدى رجليه غشاء كالذي يكون في رجلي البط، ينقبض إذا جمع بين إصبعيه وينبسط إذا فرق بينهما، وهذا أيضاً من الشواذ التي لا يمكنهم القول بأنّها منتقلة بالوراثة؛ إذ ليس في أجداد الإنسان على أصولهم طيور عائمة فيما أظن، ولعل لمّا ذكرنا استطرد دارون ذكر هذه الشواذ ولم يجعله دليلاً، ولا غرو؛ فانه رجل القوم وزعيم هذه الآراء .

وهذه الشواذ على أنّها لا يُجْدِيْهِمْ وجودها لابدّ من التثبّت /93/ التامّ فيما ينقلونه منها، فالقوم مولعون بنقل الأكاذيب فيها والمبالغة في أمرها، ولا يمضي قرن، بل وبعض قرن إلاّ ويعلنون بظفرهم على الْحَلْقَةِ المفقودة، وتناقل الجرائد والمجلاّت ذلك؛ ثمّ لا تلبث حتّى تحكم المحاكم بعد الفحص بتكذيبهم .

وقبل هذا ببضع وثلاثين سنة شاع وملأ الأسماع أنّ فتاة اسْمُها كراو من الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، ولشيوع خبرها وتناقل الناس ذكرها، جرت مذاكرة طويلة في أمرها في مجمع العلم البريطاني . فحكم أنّه ليس فيها من الشواذ الداعية إلى مثل تلك الأقوال غير غزارة الشعر وطوله على بدنها، وأنّها كساير بنات جنسها الساكنات شرقي الهند في ما خلا الشعر، وأنّ ما شاع عن وجود الذَّنَبِ لها كاذب بل كل ما شاع عن أذناب لبعض الناس كاذب أو قابل الريب.

ووقع قريب من ذلك قبل اليوم ببضع سنين .

الخامس:

عظام نخرة وبقايا أجساد بالية تجمع من أعماق الأرض وزوايا الكهوف، وَيُدَّعى أنّها بقايا الإنسان الأوّل أو المتوسّط بين الإنسان والقرود الشبيهة به المعبّر عنه عندهم بالإنسان القردي، وكان عُثُوْرُهُمْ عليه أُمْنِيَّةً يعلّلون بها أنفسهم، واحتمالاً يُقَوُّوْنَ به أساس فلسفتهم، ويماطلون به خصومهم، إذا /94/ تقاضوا هم الصور المتوسطة. فكان يقول بوشه: من يقول: إنّا لا نجد غداً جمجمة قد نضطرّ

ص: 80

لوضعها بين القرود الشبيهة بالإنسان والإنسان؟

ولعلّه كان يقنع به بعض خصومهم ممّن لا يدري أنّ الحكم في الحال لا يكفيه احتمال الوجود في المستقبل، لولا أنّ شفهوذن يسدّ عليهم باب الأمل، ويقول: لا يُرجى العثور على آثار الإنسان القديمة إلاّ في أحوال غير اعتيادية.

تحليل ما اكتشف في جاوه

ولكنّه ربما ثاب اليه رشده، وعرف أنّه ليس من مصلحته أن يسدّ باب الاحتمال، ويبقى بلا مِجَنٍ(1) في موقوف الجدال، فقال: ربّما لا يحرم العلم ثمرة هذا الاكتشاف، ثمّ ارتقى ذلك الاحتمال، فصار يقيناً، وتحوّل الجواب دليلاً، فصار يدّعى العثور على الحلقة المفقودة والظفر ببقايا الإنسان الأوّل . والدعاوى في ذلك كثيرة وإِنّي اقتصر على أجدرها بالاعتبار - كما قال أحدهم - زاعماً كفايته في الاستدلال على وجود كائنات متوسّطة بين الإنسان والقرود الشبيهة به، وأحدثها مما بلغنا منها؛ لأنّها اكتشفت سنة 1892 أو سنة 1891 أعني ما ادّعى أوجين ديبوا اكتشافه في جزيرة جاوه، حيث زعم: أنّه قد وَجَدَ فيها جمجمةً وأسناناً وعظم فخذ، وظهر له من قياس تجويف تلك الجمجمة /95/ أنّ دماغ صاحبها متوسّط بين أدمغة القرود والبشر، أو بين جمجمة الجيبون وبين جمجمة نئاندرتال التي هي أقدم ما عثروا عليه من بقايا الإنسان(2) في أروبّا. ومن شكل عظم الْفَخِذَيْنِ(3) أنّ صاحبها منتصب القامة، ويده أقرب شكلاً إلى يد الإنسان. ومن شكل الجمجمة على قوّة للنطق في صاحبها يمكنه بها التلفّظ بالمقاطع البسيطة.

ص: 81


1- المجن: الدرع. و العلام هنا مبني على الاستعارة.
2- ويقال له الإنسان (البلوستوسيتي) نسية إلى الْعَصْرِ الأوَّل من عصر الدور الرابع ويقال له العصر الجليدي أيضاً . (منه)
3- الأصل: الفخذان.

فسمّاه القرد الإنساني المنتصب، وعدّه الحلقة المفقودة أو المتوسطة، ووضع شجرة صور فيها تدرج الارتقاء بين الإنسان والقرد لا يتعلّق لنا غرض في نقلها.

والظاهر أنّ آراء أهل التحوّل اتفقت أو كادت تتفّق على أنّ «ابن جاوى» هذا هو الضالّة المنشودة والحلقة المفقودة .(1) ولفرح أحدهم بهذا النسب الجديد والمجد التليد تراه يعبّر عن الإنسان ب- «ابن جاوى» كما يعبّر عنه الآدمي ب- «ابن آدم».

وليست يد الشيخ ابن جاوى على هؤلاء يَدَاً واحدة، بل له فضل آخر، وهو تعريفهم بمهد الإنسان الأوّل، وهو أمر طال فيه اللّجاج وكثر فيه الحِجاج حتّى ظهر لهم من وجود هذا العظام في جزيرة جاوه أنّ الإنسان الأوّل وجد في الأرخبيل الهندي، ومنه نزح إلى سائر /96/ أنحاء الأرض في بيان طويل ليس هنا موضع نقله .

النقد على من يدّعي أنّ ابن جاوى هو الحلقة المفقودة

وإنى أرى أنّ هذه الدعاوى لا تتّم لأحد بمجرد هذا الاكتشاف إلاّ إذا كانت له حاسّة أخرى شبه الإحساس من بعد التليباتي، فيرى بها هذا الشيخ منتصب القامة، حاملاً تلك الجمجمة، ويرى الأرض في زمانه قفراً من الإنسان ثمّ يشاهد توالد الإنس منه وَارْتِقاءَهُ زماناً غبً زمان؛

وإلاّ، فكيف يرى العاقل أن يستدلّ بعظام باليةٍ قاست من عوامل الطبيعة مدى القرون الخالية ما غيّرت مقدارها، ولعبت بأشكالها، وفعلت بها ما لا تفعل بأمثالها ؟ ثمّ يعلّق عليها شروحاً يبني عليها صروحاً، وبعد ذلك كلّه يحكم بتسلسل الإنسان منه؟!

ولا أدري كيف عرف أنّ هذه العظام بقايا حيّ واحدٍ؟ وهل يكفي لذلك وجودها في حفرة واحدة؟ أ ليست الاحتمالات في ذلك تناهز المائة والمأتين؟ كيف؟ وقد أنكر جماعة من العلماء منهم قرشو كون هذه البقايا لجسم واحدٍ؟

ص: 82


1- الأصل: المفقود.

ولا أدرى أيضاً بأيّ طريق استكشف انتصاب القامة من عظم الفخذ؟ وهذا بخنر لا يرى انتصاب قامة الإنسان طبيعياً كلّه، بل يراه مستنداً إلى التربية والعادة.

ثمّ /97/ هَبْ أنّ صاحب الجمجمة كان منتصب القامة، فهذا لا يدلّ على أنّه أرقى من القرد، بل ولا على أنّه ليس بقرد؛ لأن بخنر يرى المشي عمودياً موجوداً في كثير من القرود، ويقول مع ذلك؛ بل ربّما كان فيها أكثر، لو لا أنّها تقيم غالباً على الأشجار، فالجيبون وهو أصغر القرود الشبيهة بالإِنسان يكون أكثر قيامة منتصباً إذ يكون على الأرض، إلى آخره ..

وأما توسّط دماغها بين القرود والإنسان؛ فليس بدليل على أنّ صاحبها متوسّط بينهما؛ إذ مَنْ الإنسان من دماغه أقلّ من بعض الحيوان، و من الحيوان ما يزيد دماغه على بعض الإنسان.

وقد ذكر لانج الإنكليزي أنّ متوسط دماغ القرود الكبيرة نحو عشرين أُوْقِيَّةً، بل تزيد عليه في بعض الأحوال.

وذكر أيضاً أنّ من البُلْهِ مَنْ لا يزيدُ متوسّط دماغه على عَشْرِ أَواقٍ .

إذاً فيوجد في الإنسان من دماغه نحو النصف من بعض القرود، بل أقلّ؛

فلعل هذا الشيخ المرضي(1) لعمود النسب عند هؤلاء كان معتوهاً أَبْلَة(2)، دعته بلاهته إلى الضرب في مجاهل جاوه، فدلّته إلى مُنيته وأدلّته في حفرته، أو كان من بعض أقسام القرود .

وقد ذكر الجيولوجيون من حيوانات الأرض /98/ الوسطى ميوسين، قسماً منها من جنس الأودنغ، قامته كقامة الإنسان تقريباً، ولا يبعد جرياً على ناموس

ص: 83


1- هكذا في الأصل / لعلّ: الفرضي. (عبدالستار الحسني)
2- الأصل: أبلهاً.

تناسب الأجزاء، أو كما يسمّيه دارون النمو المشترك أن تكون أدمغته قريبة من أدمغة البشر، ولا يستبعد بقاء بقاياها إلى طبقة العصر الأخير بليوسين .

وأمّا استكشافه من شكل الجمجمة قوّة النطق في صاحبها إلى آخره. . فإنّا ندع له الآن مطالبته بوجه هذا الاستكشاف، ولكن نقول: إنّ ذلك لا يدلّه على أنّه أرقى من القرود - كما بنى عليه دليله - وذلك لأنّ القرود فيها قوّة النطق، بل لها لغة خاصة طالما اشغلت أفكار حكماء الغرب وحوّلوا معرفتها إلى أن وفق لها الأستاذ غرنر، فرحل إلى مجاهل أفريقا بعد ما أعدّ لرحلته معدّات كثيرة، ونشرها قبل رحلته في مقالة ضافية، ثمّ قاسى فيها ما قاسى من حرّها وحمّياتها وعرض نفسه لوحوش أنسها ووحشها، إلى أن جمع منها قاموساً وكتب بالفنوغراف مأتي كلمة من كلماتها، منها كلمة «اخرو» معناها الشمس والنار. ونحوها، وكلمة «ككشا» ومعناها الماء والبرد، وكلمة «غشكو» ومعناها الطعام والأكل.

فهذا الحيوان بلغ مرتبة سامية في النطق يكاد أن ينظم تائية من بحر /99/ الكامل، وَيُنْشِئَ مقالاتِ طبيعيةً وفكاهيةً مِلْؤُها سخف وباطل، وأين منه ابن جاوى المسكين الذي قُصاراهُ النطق بالمقاطع البسيطة !

ثمّ إنّ ما بنى عليه اكتشافه من جعل واسطة الإنسان أرقى من القرود الراقية الحالية، فهو ممّا لا يتعيّن على مذهب دارون وأتباعه؛ بل المتعيّن أن تكون واسطة الإنسان أرقى من واسطة القرد، لا من القرود الحالية التي بلغت شأواً(1) عظيماً في الارتقاء، بل لعلّ ارْتِقاءَها عن أصل هو أحطّ من أخس القرود ينافي الارتقاء التدريجي الذي هو مذهب دارون.

هذا ما يقتضيه باديء النظر، وللكلام عليه محلّ آخر .

هذا، والعلم قد انتهى سيره في هذا العصر الذهبي إلى الْمَرِّ وَ الْمِعْوَل (وَ هُما من

ص: 84


1- الشأو: الغاية، الأمد.

آلاتِ الْحَفْرِ)، وصار عليهما في أصل الإنسان المعوّل والحدسيات المبتنية على الحفريات، تقوم اليوم مقام البرهانيات المؤسّسة على الأوّليات، فلا يستبعد - إذا - أن يتجدّد بعد هذا الاكتشاف عظام أخر، فيوجد للانسان جدٌّ(1) آخر، وبه يبلغ شرف ابن جاوى مداه . فيعطّل من عِقْدِ هذا الفخر ويُحَلّى به سواه .

إذاً، فالأولى بنا أن نذكر كلاماً كلّياً فيه المقنع للمنصف في أمر هذا الشيخ وما سبقه، أو سيلحقه من الحفريات /100/ التي سوف تتحفنا بها البالنتولوجيون .

قد عرفت أنّ المُعَوَّلَ في الفرق بين الإنسان وغيره على الكمالات النفسية والقوى العقلية، وسمعت اعترافهم بأنّ بين الإنسان وغيره هُوّةً عقلية .

إِذاً، فما كان من أرباب هذه العظام البالية مرقّعة الجهة العليا من هذه الهوّة، فهو إِنسان وإن كان فيه مع إنسان اليوم بعض المُباينة وإن كان مرقّعة الجهة الدنيا منها، فهو حيوان وإن كان مع الإنسان شديد المشابهة، ولا نضطّر كما قال بوشه إلى أن نضعه بين الإنسان ؛ بل يتردد أمره بين أن يكون إنساناً أو حيواناً .

وليست للقوى العقلية بقايا في الطبقات الجيولوجية لكي تعرفنا بأنّه من أيّ الصنفين، وملحق بأي المملكتين، وإِن اعتمد في معرفتها إلى مقدار الدماغ مستظهراً ذلك من قياس الجمجمة كما فعله اوجين ديبوا، رجعنا إلى الحدّ الذي وضعه جرايتوليه و بروكالأقل ثقل للدماغ يَبْتَدِئُ عنده وجود العقل الإنساني، وهو 32 أوقيةً فإن كان دماغه أقل من ذلك ألحقناه بالحيوان، وإلاّ حكمنا بأنّه إنسان .

ثمّ لو سُلِّمَ لهؤلاء المستدلّين بهذه العظام جميع حَدْسِيّاتِهِمْ /101/ وتخيّلاتهم في أمرها؛ فإنّه لا يثبت بها إلاّ وجود قسم من القردّه . أو من حيوان آخر أقرب إلى الإنسان من القرود الراقية الموجودة، وأين هذا من تسلسل الإنسان عنه وكونه أصلاً له !؟

ص: 85


1- الأصل: جدّا.

ولعل أوجين ديبوا وجد مع البقايا مشجّراً في النسب، فأخذ منها صورةً فتوغرافية .

وهنا سؤال جدير بالتأمّل، وهو أنّ من المقرّر عند المحقّقين من أتباع دارون أنّه لا يجوز البحث على هذ الرأي عن صورةٍ متوسّطةٍ بين الإنسان وبين الكور، لا بل بينه وبين أجدادٍ مجهولةٍ نشأ فرع الإنسان من جهة وفرع القرد من جهة أخرى ، (ترجمة بخنر و ص 146).

وفي ص 116 منها: «أنّ كثيراً من الجيولوجيين و الزلوجيين و البالنتولوجيين يبحث عن صورٍ متوسطةٍ بين نوعين موجودين، وذلك على رأي دارون خطأ؛ لأنّ الصُوَرَ الحاضرةَ غَيْرُ آتٍ(1) بعضُها من بعض رأساً؛ بل كلّ منها منتهى سلسلة تحوّلات طويلة، ولذلك [كان] يقتضي إذا أريد الجمع بين صورتين معلومتين أن يبحث لهما لا عن صورة تجمع بينهما رأساً، بل عن أصلٍ مشتركٍ مجهولٍ».(2)

وهذا الذي حكم بعدم جوازه، وحكم بكونه /102/غلطاً صار واجباً وصحيحاً، وادّعى وجوده؛ واستدلّ به على أصل الإنسان كما سمعته من هذا المستدلّ.

و بخنر بنفسه يقول ص 148: «وأنا من رأي جورج بوشه في هذا المعنى حيث يقول من رسالة في الأنتروبولوجية مانصّه: أنّ البالنتولوجية البشرية ربّما يظهر لنا يوماً من الأيام أجساماً حيةً، نحتار(3) فيها أ بشر هي أم قرود بشرية؛

ص: 86


1- الأصل: آتية / ضبط النصّ يوافق المصدر.
2- فلسفة النشوء والارتقاء / 116.
3- كذا و ليس في العريّية «نحتار»، بل يحار و نتحيّر و نستحير و هو حائر و متحيّر و مستحير، وقد أخطأ ابن عابدين الدمشقى الحنفي في تسمية حاشيته المشهورة في الفقه الحنفيّ «ردّ المحتار». (عبدالستار الحسني)

وهو يقول أيضاً من كتاب في كثرة الفروع البشرية سنة 1864 من فصل منه ما نصّه: «من يقول إنّا لا نجد غداً جمجمة قد نضطّر لوضعها بين القرود الشبيهة بالإنسان والإنسان».(1)

و بخنر أيضاً من أشدّ الناس فرحاً باكتشاف القرود الشبيهة بالبشر وأكثرهم اعتذاراً عن فقدان ما هو أقرب إلى الإنسان وأمثاله ممّا هو كثير في كتابه .

فبأيّ الأمرين يَرى هؤلاء أن نأخذ؟ وماذا نطلب؟ إذا أردنا البحث عن

الإنسان الأوّل؟

فهل نطلب صورةً متوسّطةً بين الإنسان وراقي القرود؟ كما فعله هذا المستدلّ ونحقق به رجاء بوشه و بخنر من رأيه .

إِذا وقعنا فيما لم يجوّز بخنر، وحكم علينا بالغلط في صفّ كثير من الجيولوجيين و الزلوجيين و البالنتولوجيين.

أم نطلب أصلاً مشتركاً مجهولاً كما صوبّه أولاً؟

واذن /103/ خيّبنا رَجاءَهُ مع بوشه وأذهبنا تعبه أَدراج الرياح، ولا ندري كيف نُرْضِي لويس بخنر. ولم نقع في شرك التناقص؟(2)

ثمّ إن بخنر استشهد على كلامه المتقدّم يقول هليار: «إنّ الأجسام الحيّة المقيمة بعضها بجانب بعض قد تكون مختلفة جدّاً، ولا حاجة إلى أن يكون بينهما صور انتقالية، لأنّها لم تتكوّن بعضها بجانب بعض، ولئن كان جدّها واحداً إِلاّ أنّه يمكن أن تكون مختلفة جدّاً».

وعلى هذا ينتقض أساس هذا الدليل بل جميع الوجوه التي ذكروها على جعل الإنسان والقرد فرعين لأصلٍ واحدٍ، المبنية على المشابهة، فلعلّ الإنسان إذا من الأصل الذي اشتقّ منه البعير، وإن اختلفا جدّاً.

ص: 87


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 148.
2- هكذا في النسخ.

ولا ينتقض به أصلهم في أصل الإنسان وحده، بل يسري إلى سائر ما لَفَّقُوْهُ في أصول سائر الحيوان؛ إذ مبناه غالباً على المشابهات، فعليهم أن يعالجوا هذا الداء العضال الذي جعل حياة فلسفتهم في مَعْرِضِ الزوال .

وإنّي أُذَكِّرُكَ هنا ما نبّهتك عليه في المقدمة، وأفصّل لك هنا ما أجملته هناك وأقول :

انّ المنقولات الواردة حول الحلقة المفقودة ليست بِمُسَلَّمَةٍ خبرا

من المقرّر في محلّه الواضح لدى أهله أنّ الدليل النقلي لا يجوز التمسّك به في أمثال هذه المسائل إلاّ بعد إحراز صدق /104/ الناقل وعدم خَطائِه في ما نقل.

كيف السبيل لنا أمة الشرق إلى الأوّل، وجميع ما نقل في مسألتنا هذه، وما ينقل في أشباهها من المسائل انّما هو مرسل بلفظ (وُجِدَ أو اكتشف) أو منقول عن رجل مجهول عندنا، لا نعرف شيئاً من حاله، سوى أنّا نرى اسمه مُصَدَّراً بلفظ «مستر» أو «مسيو» وأقصاه وصفه بالأستاذ، أو نسبته إلى دولة معروفة كفرنسا و بريطانيا.

ونحن نعلم أنّ أمّة الغرب كسائر الأمم فيهم المتورّع من الكذب والمولع به، فإِذا كنّا لا نزال نسمع الكذب الفاحش من أناس معروفين يعتقدون بالدينَ ويعلمون أنّ الكذب من أعظم المحرّمات، ويخافون مغبته في حال الحياة وبعد الممات، وقد يكون كذبهم في أمر طفيف، لا يرفع لهم قدراً ولا ينوّه لهم ذكراً، فكيف نأمنه ممّن لا يدين بدين ونطمئنّ بأخبار من لا وازع له من الكذب ولا رادع له ممّا يخلد ذكره في صحائِفِ العلم، ويجعله في عداد المكتشفين ويؤيّد عقيدته ويظهره على خصومه .

أكذوبة خبر بعض الاكتشافات

أ ليس كوك ادّعى أمس اكتشاف القطب ونشر حديث مسافرته، فتداولت نقلها المجلاّت وَامْتَلاَءَتْ بذكره وإطرائه /105/ أَعْمِدَةُ الجرائِدِ، وصفق له العالم المتمدّن

ص: 88

تصفيق استحسان، وأخذوا بعضده على خصمه فَسَلَقُوْا برى(1) بألسنة حدادٍ، ثمّ لم يلبث فواق ناقة(2) أو نحر جزور(3) حتّى نشرت جريدة النيويورك تايمز(4) مقالة أظهرت فيها حاله، وأبانت كذبهَ ودَجَلَه، وأنّه تواضع مع رجلين بأن يصنع له أحدهما - وإسمه لوس - خرائط وإرصاداً ويعطيهما ثمانمأة جنيه ويعطى لوس مأة جنية أخرى، متى قبلت هذه التقارير في كوبنهاغن، فلم يفعل، بل أعطاهما 25 جنيه فقط، فأفشيا سرّه، وكان آخر أمره أن طرد من نادي الرّحالين واختفى، ولم يظهر له أثر وندم أهل كوبنهاغن على الاحتفالات التي أقاموها له .

وإذا كان كوفيه وهو الأستاذ الشهير الذي مهّد السبيل لدارون بوضع أساس علم البالنتولوجية يُكَذّب بوفون زميلَه، ويُصرّح باختلاق ما نقل عن القرود الشبيهة بالإِنسان.

أَتُحْمَدُ مِنّا المبادرة إلى تصديق من دون بوفون.

ثمّ هب أنّ المخبر ممّن عاشرناه قروناً واختبرنا صدقه سِنيْنَ(5)، ولكنّه هل يخبر إلاّ عن عظم مرّت عليه أحقاب طويلة، وَقاسى من التقلّبات الجيولوجية والعوامل الطبيعة ما غيّر /106/ شكله ومقداره؟ فلعلّه لذلك غدا بين عظم الإنسان والجيبون. فمن أين يعلم بقاءه على حالته الأصلية؟ ولم يتأثّر بالمؤثّرات الكثيرة التي مرّت عليه مدى الملايين من السنين؟

وَ أَنْتَ إذَا نَظَرْتَ إلى سرعة تغير الأجسام الآلية واختبرتها في عدّة أشهر قليلة، ثمّ قستها بهذه الأحقاب الطويلة وضممت إِليه أنّه كان معرضاً لعوامل كثيرة معلومة

ص: 89


1- هكذا يمكن أن يقرأ ما في الأصل. (عبدالستار الحسني)
2- فُواقُ النّاقةِ: أَي الوقت بين حلبتين منها. (عبدالستار الحسني)
3- نحر الجزور: مدّة ذبح الجمل. (عبدالستار الحسني)
4- الأصل: تمس.
5- الأصل: سنيناً.

ومجهولة، علمت - لو أنصفت - أنّ التماس معرفة أصل الإنسان من هذا الطريق التماس الماء من النار والنور من الظلام وَاعْتَرَاكَ الشكّ في أمر الجماجم التي وجدوها سنة 1903 في مغارات البوسنة وحكموا عليها بأنّها الإنسان الأوّل، بمجرد أنّ بروز الذقن فيها أكثر قليلاً ممّا هو في القرود الشبيهة به، واحتملت أن تكون جماجم قرود أوجبت التقلّبات الخارجية بروز أذقانها، أو جماجم إنسان أوجبت تلك خفاءها.

ولا أخشى عليك من هذا الاحتمال إلاّ أن تجريه في غير المقام، وحينئذٍ يطول أَسَفُكَ على علم الأحافير برمّته .

ثمّ من أين يعلم أنّ تلك العظام ليست من صنع أيدي المزوّرين الذين لا يزالون في أوروبا يحتالون على علماء الآثار القديمة والبالنتولوجيين وأرباب المتاحف، ويأخذون منهم /107/ أموالاً عظيمة ؟!

عدّة تزويرات أروبية
تزوير في تاج الملك

ومنذ عهد قريب اشترى متحف اللوفر تاجاً قيل إنّه تاج الملك سينافارنس، وأنّه احتفر من جنوبي روسيا وأعطى في ثمنه أربعة آلاف جُنَيه، ثمّ ثبت أنّه مُزَوَّرٌ. وقد صاغ أكثره أحد صائغي أودسا.

وكان لهذا الاكتشاف شأن كبير أوقع الريب في كثير من التحف التي في اللوفر وغيره من المتاحف.

أ ترى المزوّرين لا يعلمون أنّ اهتمام العلماء بأصل الإنسان أعظم من اهتمامهم بتاج ملك؟ أم تغيير صورة العظم أمر غير مقدور لهم !؟

تزوير في المحجّرات

ص: 90

ومن طريف ما نقل من هذه التزويرات أنّ أحد أساتيد مدرسة ورنتبرح يقال له برنجر، كان يعلّم تلامذته أنّ المحجّرات تكوّنت من ألعاب الطبيعة، فقال بعض تلامذته: إذا كانت الطبيعة تستطيع أن تصنع حجارة مثل هذه، فعلام لا نصنع نحن أمثالها فأتوا بحجارة يسهل نحتها وصنعوا منها دُمى مختلفة الأشكال، وطمروها حيث ينقب معلّمهم الأحافير، فعثر عليها وأحلّها محلاًّ رفيعاً.!؟

وَلمّا رَأى تلامذته ذلك أكثروا من عملها، فزادوه إعجاباً. ولمّا صار عنده قدر كبير /108/ منها صَوَّرَها وطبعها في كتاب كبير.

وما انتشر هذا الكتاب حتّى اشتهر أمر تزوير التلامذة واصطناعهم لما وصف في الكتاب، فَلَقِيَ مُؤَلِّفُهُ من الاستهزاء والإزدراء قدر ما كان ينتظر من الاحترام والتعظيم، فجعل يشتري النسخ التي باعها ويحرّقها حتّى أتى على أكثرها، وكان كلّما قلّت النسخ غلا ثمنها، فَأَنْفَقَا المسكين كُلَّ ما ما كان يملكه، ومات فقيراً منصدع الفؤاد.

ويقال: إنّ هذا الكتاب أفاد البلينتولوجِيّن علماء الحفريات فائدة لا تُقَدَّرُ حتّى لا ينخدعوا بمثل هذه الأخاديع .

قلت: ولا تنحصر الفائدة بعلماء الحفريات، بل تنفع في علوم كثيرة من علوم هؤلاء، ولكن لو كان الانخداع أمراً اختيارياً أو الخادع كان يراقب اللّه، فيجعل على مزوّراته وسماً ظاهراً .

تزوير في الخزفيات الموابية

وتزوير شابير اليهودي للخزفيات الموابية، وحكم شلوتمان العالم الألماني الشهير بصحّتها وإقناعه رجال الدولة بأدلّة كثيرة حتّى اشتروها، وخسروا خزانة الإمبراطور سبعين ألف فرنكاً

ص: 91

ممّا اشتهر وذاع. وقد نال كلومون غانر الفرنساوي من الأذى والشتم لإنكار تلك الصور ما كاد يقضى عليه لو لا مصادفة اتفاقية افتضح بها شابير - ومن لهم بأن تكون تلك المصادفة دائمة - /109/ .

وقد زوّر شابير هذا ثانياً سفر تثنية الاشتراع(1) مع الوصايا العشر، وادّعى أنّه وجدها في كهف من كهوف فلسطين - ولعلّ مساحة ذلك الكهف كانت تقرب من مساحة مغارة بوسنة المتقدّمة - وأتعب علماء الآثار القديمة زماناً طويلاً حتّى ظهر تزويره، فمضى وشنق نفسه.

ولعمري إِنْ كان هذا اليهودي أدركه نكد الحظّ، وقضى عليه سوء الطالع، فأظهرت المصادفات كذبه، ففي قوم من إخوانه ومن غيرهم كفاية.

وقد عرفت أناساً لهم ثروة وافرة ولا بضاعة لهم إلاّ صناعة دُمَى مختلفة الأشكال وضرب قطع من البرنز والنحاس بما يُشْبِهُ سِكَّةَ النُقُوْدِ. ثمّ باعُوْها(2) على هؤلاء بأثمان باهضة، لِتُزانَ بِها متاحف الدول المتمدّنة وموازاتها العظيمة، ويستفاد منها تأريخ فنيقية وآشور و سلاطين بابل القدماء؛ فكأنّهم لمّا جلبوا ثروة الشرق إلى بلادهم ببضائعهم الحسنة، أراد اللّه تعالى أن يعاد بعضها إليهم بهذه الأشياء الخسيسة .

وهذه التزويرات التي سمعت نموذجاً منها، هي المباني لكثير من مسائل العلوم الاختبارية تلك العلوم التي يُهَدَّدُ الدين بها ويُخْشى عليه - كما يزعمون - منها، ولعلّك تستبعد بعد انخداع الغربيين وتنظر إليهم بمكبّرة العجب، فتراهم /110/أكبر من أن يقعوا في حبائل المحتالين، وتغفل من أنّ الغرب أَخُوْ(3) الشرق، والناس جميعاً بنو أب و أمّ . ولكِنْ للأقدارِ حُكْمٌ، وللحظّ تَحَكُّمٌ.

ص: 92


1- الاشتراع: الشريعة.
2- الأصل: يبيعونها، ثمّ صُحّت اللفظة إلى: بيعها.
3- الأصل: أخ.

ولطالما انخدع هؤلاء الأذكياء بما لا ينخدع به الْغُفَّلُ البُسَطاَءُ، والقصص المنقولة في ذلك كثيرة، وإِني - شفقةً عليك من الملالة - اقتصر منها على حديث زيارة ملك سدانج للعاصمة الفرانسوية وعبثه بعقول قوم من تلك الأمّة الراقية .

ملك سدانج وزيارته باريس

أعلنت صحيفة الماتن وصحيفة - التي جورنال(1) - منذ بضع سنوات أنّ جلالة ماري الأول، ملك سدانج، عزم على زيارة باريس وأن سدانج جزيرة شرقي بلاد الصين حفظ ملكها استقلاله وسيلقي مزيد الحفاوة في عاصمة الأمّة الفرنسوية، ثمّ أقبل جلالته إلى مدينة باريس ومعه حاشية كبيرة من الوزراء والخدم والحشم، ونزل أحد فنادقها الشهيرة، وبعد أيّام أخذت الرسائل ترد عليه من بلاده وعليها طوابع غريبة الشكل والنقش، فاهتّم بها جامِعُوْ طوابع البريد، وَرَشَوْا خدم الفندق ليجمعوها لهم، فارتفع ثمنها حالاً من انتقالها من واحد إلى آخر، وصار الطابع يباع بألف فرنك، وذكر ذلك في جرائد باريس وانتشر أمره في البلاد.

فجعل جامِعُوْ الطوابع /111/ في كل أنحاء فرنسا(2) يطلبونها بكلّ مُرْتَخَصٍ وغالٍ.

وطلب رجل من كبار الجامعين مقابلة الملك، فقابله بالاحتفاء، ولمّا خرج قابله أحد الوزراء، وقال: إنّه يمكننا أن نحصر بيع طوابعنا بك إذا دفعت إِلينا مبلغاً كافياً من المال. فَرَضِيَ الرجل بذلك، وتمّ الاتفاق بينهما على المبلغ المزبور، فدفعه اليه، ثمّ أَسَرَّ الوزير في أذنه قائلاً: إنّ عندي مجموعاً كاملاً فيه من كلّ طوابع بلادي أحضرته معي سرّاً، وأنا أرضى بيعه على شرط أن لا يدري مولاي بذلك وإِلاّ ضرب عنقي، فابتاعه الرجل أيضاً بمبلغ طائل من المال وكثرت طوابع سدانج بين أيدي الناس؛ وتدفقّت منها الأموال إلى خزانة ملكها.

ص: 93


1- كذا في النسخ.
2- الأصل: فرانسا.

ثمّ كتب أحد أولاد المدارس إلى إِحْدى(1) الجرائد يسألها، أين موقع سدانج؟ فإنّه لم يجدها في الخرائط ولا فى الكتب الجغرافية.

فاتّضح حينئذٍ أنّ البلاد غير موجودة، وأنّ الأمر كلّه تزوير في تزوير من أوّله إلى آخره، فوقف الناس حَيارى، يضحك بعضهم على بعض.

أمة قطعت(2) الأرض علماً وخبراً، ودوّختها(3) برّاً وبحراً، وصنعت لها خرائط تُرِيْكَ ما بين سمعها وبصرها، واستعمرت من مجاهلها ما لم يصل إلى الأقدمين خبرها، ثمّ انخدعت بملك مزوّر لمملكة موهومة على سطحها؟ أ فلا تنخدع /112/ بعظام توجد في سفلى طبقاتها ؟!

السادس:

ما ذكره مشينكوف خليفة باستور المتقدّم ذكره، وهو: أنّ في عواطفنا ومشاعرنا ما يدلّ عَلى [أَنَّ] أصلنا أصله الحيواني، مثاله وقوف الشعر وقت الخوف، فنحن والحيوان سواء في هذه الصِّفَةِ، وقد كانت تفيدنا ونحن في الدور الحيواني إذ كانت تعطي الخائف هيبة ربّما تَغَلَّبَ بها على مُهاجِمِهِ .

وإِذا قام هذا وأمثاله من الحدسيات الباردة والخيالات الفاسدة مقام الأدلّة العلمية، فالأجدر بالإنسان أن يجعل الإعراض جواباً والسكوت خطاباً، ثمّ يشكر اللّه على العافية.

وإن كان لابّد من الجواب؛ فالأولى إِرْجاءُهُ(4) إلى أن يبيّن لنا هذا الرجل فوائد سائر عوارض الخوف في الدور الحيواني من صفرة الوجه وارتعاد الفرائص وتعتعة(5) اللسان، ثمّ نقول: إنّ أحدكم وهو اسبرن أستاذ جامعة كولمبيافي نيويورك

ص: 94


1- الأصل: أحد.
2- الأصل: قتلت.
3- دوّخ: سار، جال، استولى.
4- الإرْجاءُ: التَّأْخِيْرُ.
5- التعتعة: الإقلاق، التردّد، التبلّد.

نقل في خطبة له حشوها إطراء هذه الآراء والوقيعة في الأديان أنّ بعض أئمّة الدين كان يُحَذِّرُنا ويقول : دعوا مسائل الأرض والجوّ والعناصر للعقل، لِئلاّآ يَرى رجالُ /113/ العِلْمِ سَخافَة آرائِكم. فيها، فَيَهْزَؤُوْا بكم، وقد آنَ أن نقولَ: أَلا عاقِلٌ من أهل هذه الآراء يُحَذِّرُهُمْ قائلاً دعوا مسألة أصل الإنسان للدين، لئلاّ يرى رجاله سخافة آرائكم فَيَهْزَؤُوْا بكم .

ما قال موانس في الارتقاء و سعيه في كشف الواسطة

هذا، وَبَقِيَ من الوجوه التي ذكروها لأصل الإنسان ألطفها وأطرفها وهو ما يريد أن يفعله موانس، وما أدراك مَنْ موانس أستاذ علم الحيوان والنبات سابقاً في نادي التعليم العالي في هولا ندا، وقد نال مرتبة سامية بهذه الفلسفة، حيث حَكى عن نفسه قائلاً: «كنا نظنّ أنّه مضى الوقت الذي فيه يُعْتَرَضُ على مذهب النشوءِ القائل بأنّ الإنسان صورة مرتقية عن أدنى منها رتبة من ذوات الثدي التي القرد منها، ولكن خاب ظنّنا؛ لأن تعاليمي وآرائي أثارت عَلَيَّ سَخَطَ الْجُمْهُوْرِ، وقد اضطهدت في هولا ندا بلادي وضربت واحتقرت».

للّه البلاد الواطئة ما أعرفها بمقادير علماء هذه الفلسفة العالية.

«وقد نال أيضاً في هولانده جائِزَةً لكشفه هذه الحقيقة التي خدم بها الإنسانية» ، وقد حكى عن نفسه ذلك وقال - ولمّا نشرت رسالتي المعنونة ب- «أبحاث وتجارب عن أصل الانسان» ثارت عَلَيَّ /114/ عواصف السخط، وتطاول عَلَيَّ أَسْقُفُ أو تزخّت،(1) ولَكَمَنِيْ على رأسي .

هذا الفيلسوف عازم على فصل المسألة قريباً وقد شَمَّرَ لذلك عن ساعد لا تثنيه الملمّات، وذلك أنّه نشر مقالة في جريدة الماتين الفرنساوية ذكر فيها بعض الأدلّة

ص: 95


1- تزخّت: دفعت.

المتقدّمة على نشوءِ الإنسان، وقال بعدها: وإِذا كانت هذه الأدلّة لا تكفى للإقناع، فالتنقيب في الآثار المتوسّطة بين الإنسان والقرد متواصل إلاّ أنه عمل طويل، كثير النفقة، ولسوء الحظّ يتوقّف النجاح فيه على الصدفة، على أنّي للإسراع بحلّ قضية من أهمّ رغائب أهل العلم حلّها، عزمت على السفر إلى بلاد الكونغو حيث أُجَرّبُ الحصول على نتاج من الإنسان والقرود الشبيهة به؛ لأنّه قد يكون شبيهاً بالكائناتِ المُتَوَسِّطةِ المفقودةِ التي هي أجدادنا أجداده الأُوَل» .

الردّ على موانس

ما كنا نرضى لهذا الأستاذ بهذه الخطّة الدَّنِيَّةِ والسير على خلاف ناموس الارتقاء وأن يصبح مشغولاً بالحرفة المذمومة للقرود في كونغو بعد ما كان مُدَرِّساً للجامعة الكلية في هولانده، على أنّه يتجشّم السفر البعيد ويصبغ البشرية بعارٍ جديدٍ، والنتاج المذكور إن حصل، فلا ينتج ما يروم /115/ ولا يحلّ به هذه القضية التي زعم أنّها من أهمّ رغائب العلم، ولا يضرّ القائلين بابتداع خلق الإنسان إذا تولّد بين الإنسان والحيوان مخلوق متوسّط بينهما، فإنّه لا يدلّ على أنّ الإنسان كان أصله كذلك، ولا تنفع القائلين بنشوءِ الإنسان؛ لأنّ تلك الكائنات المتوسّطة: لو كانت موجودة وكان من المعلوم أنها هي أجدادهم الأُوَلُ كانوا في غِنَىً من هذه الصور المتولّدة وإن كانت مفقودة كما هو مفروضة. فمن أين يعلم أنّها تُشْبِهُهُ!؟ وَإِنْ أَراد أن يتم بهذه التجربة الاستدلال المتقدّم ويعرف بمشابهة جماجمها مع الجماجم المكتشفة أنّها كانت لحيوانات بين الإنسان والحيوان، فلا يتمّ الدليل أيضاً على أنها أصل الإنسان، بل يدلّ على وجود متولد بينه وبين الحيوان؛ فَلَعَلَّ في سالف الزمان وُجِدَ غيور محافظ على شرف الإنسانية - كموانس - اشتغل بهذه السلعة بين الإنسان والقرود، فولدت بينهما آرابُ تلك الجماجم .

ص: 96

على أنّ جميع ذلك لا ينطبق على ما عرفت أنّه المحقق من مذهب دارون من كون الإنسان فرعاً مستقلاًّ عن القرود، ولكن يجمعه والقرد أصل واحد، فضلاً عن كونه متولّداً بين الإنسان الداني والقرد؛ وأين الاْءَجْدادُ الاْءُوَّلُ /116/ وهم في ابتداء سلسلة التحوّل عن الإنسان والقرد الحاليين الْلَّذَيْنِ كُلٌّ منهما مُنْتَهى تحوّلات طويلة كما سمعته من بخنر.

وبالجملة لا يتمّ بتجاربه، إِنْ تَمَّت، شيءٌ من رغائب أهل العلم

ومن العجيب ما قرأناه في بعض المجلات العلمية من أَنّ علماء الطبيعة منتظرون نتيجة تجارب هذا الفيلسوف بفروغ صبر.

وليت شعري ماذا ينتظرون؟ وأين يقع مما يريدون!؟ لو فرض تولّد مخلوق بين الإنسان والقرد يشبههما معاً.

نعم، هذا الأستاذ إن فاته الفخر بحلّ مسألة أصل الإنسان فلا يَفُوْتُهُ فخر الاختراع لفنّ جديد لم يسبقه أحد من أول الدهر إلى الآن، وسوف تبقى له يد عند القرود لابد أن تشكرها في دولتها التي أخبر مسيو دوبى بقيامها في مستقبل الزمان .

إنّ العلم التجربي لا يصل إلاّ بما جاء في الدين

وللقوم مسلك طريف في العمليات وهو تهديد خصومهم بتكميل العلم في المستقبل، وأنّ الاكتشافات الآتية سوف ترفع كلّ شبهة تقع في أصل الإنسان وهذا كثير في كلامهم.

وهذا مما نعترف بالعجز عن جوابه، إذ كيف نجيب عن دليل لم نعرفه إلى الآن. ولكن نقول نحن: للحال وللمستقبل رجال، ونقول أيضاً: لو زادوا عشرين على ما عدّوه /117/ للأرض من الطبقات، وبلغوا مركز الأرض في الحفريات وَمَلَؤُوْا

ص: 97

معارض أروبا بالعظام البالية، وادّعوا أنّها بقايا حيوانات عاشت في الاْءَعْصُرِ الخالية، فلا يجدون شيئاً يوجب الوهم فِى تحوّل الإنسان ولا طريقاً إلى معرفة أَصله إلاّ الإذعان بما أخبر به الدين وهو أَنَّ أبا البشر جميعاً إِنْسانٌ مَخْلُوْقٌ من الطِّيْنِ .

فصل في الردّ على مَنْ يزعم أنَّ لِلاْءِنْسانِ وَالْقِرْدِ جَدّا واحدا

علم أهل هذه الطوتمة أنّ النفوس المرّة والطباع الحرّة تأبى هذه النسبة الدنية، وتربأ بشرف الإنسانية عن دَناءَةِ البهيمية، وتشحّ بذروة مجدها عن حضيض هذا الانتساب، وَتَحْمِيْ ثغر حقيقتها الناصعة عن القرود والكلاب، ولا ترضى عن أب أبدع اللّه خلقه ليكون خليفته في أرضه، ثمّ أسجد له ملائكة السموات(1) بأحناش وحشرات وبهائم تتسلّق الأشجار في الغابات، فنصبوا من حيلهم لعقول الضعفاء حبائل، وأطالوا في ستر هذه الشناعة، ولكن لم يأتوا بطائل ولا ثمرة فى نقلها إلاّ إِذاعة اللغو وإضاعة الوقت..

ولكن نسمعك منها اعْتِذارا أدمج فيه صاحبه شكاية من خصوم هذا المذهب، فقال ما ملخّصه : «إنّ الكيفية التي يذكره بها دائماً خصومه من أنّ القرد أصل /118/ الإنسان لا يمكن أن يحدث في سامعها إلاّ نفورا و هو سلاخ يفتريه خصوم هذا المذهب لتحقيره، وإلاّ فمذهب دارون لا يقول: إنّ القرد أصل الإنسان، بل الإنسان والقرد والفرس وسائِر الاحياء من أصل واحد، إلى آخره.

فإن كنت - أعزّك اللّه - ممّن سمع بالاعتذار من الذنب بما هو أقبح منه، فاعلم بأنّك

ص: 98


1- اقتباس من الآية في سورة ص/ 73: «فَسَجَدَ المَلائكةُ كُّلُهمْ أَجْمَعونَ».

لا تجد له مثالاً أحسن مما جاء به هذا المعتذر، لأنّ الذي تَنْفُرُ عنه الطِّباعُ السليمة وتأباه النفوس الكريمة هو الانتساب إلى مطلق الحيوان، لا لخصوص القرد ما بين أنواعها؛ وهذا المذهب - وان كان لا يقول بِاشتقاق الإنسان من القرد - ولكنّه يجعله عن أصل هو أحطّ من القرد بكثير، ولا تقف فلسفته بالإنسان عند هذا فقط، بل ينزل به إلى الأحطّ منه فالأحط، ولو أَنصف هذا المعتذر لعلم أنّ هؤلاء الخصوم لم يُسِيْئُوْا إلى هذا المذهب، بل أحسنوا اليه، ولترك الشكاية منهم وشكرهم عليه .

وأقول أيضاً: هب أنّه لا عار في النسبة إلى الحيوان كما يقول لانج في كتاب تأريخ الرأي المادي: «لا يليق بالفيلسوف أَنْ يَحْمَرَّ خَجَلاً كما فعل بلينوس من حقارة أصلنا، إلى آخره.

أَ فَهَلْ فيه مجْدٌ وَافْتِخارٌ حتّى يَحْسُنَ أَنْ يَقُوْلَ /119/الإنسان، إخوتنا القرود؛ أو يقول: لو استتبّ للقرد نفس الأحوال التي نشأ في وسطها أخوه الإنسان لتزاحمنا في تقدّم العمران .

ص: 99

ص: 100

المقالة الثالثة: في مباديء نظرية دارون

اشارة

وقد آن أن ننظر إلى هذه الآراء من الجهة العلمية و الحقيقة ضالَّتُنا التي نَنْشُدُها ونأخذ بها حيث نجدها توافق دارون فيما ظهر لنا أنّه الحق من آرائه، ولا نستنكف من اتِّباعِهِ ونخالفه فيما خالف الحقّ فيه، ولا يَهُوْلُنا كثرة أَتْباعِهِ، لسنا من أعدائه فنعادي الحقائق ونرفض كلّ ما قال، ولآتى أتباعه فنميل حيث الجُمْلَةُ مُحرَّفَةٌ وَ قَلِقَهٌ فَلْيُراجَعِ الاْءَصْلُ و ناقِصَةٌ. وَشَرْطُنا على تابعيه الإنصاف، ولهم ذلك مِنّا؟ والموازين العلمية هي الحاكمة بيننا.

وليس القصد في هذه الرسالة بيان جميع ما قيل في هذه الآراء أو يقال، ولا استقصاء مالهم من مختلفات الأقوال، وإنّما القصد النظر في الأمور الجوهرية التي يتركّب منها الرأي الدارويني وهي النشوءُ والارتقاء وتعليلها بالانتخاب الطبيعي؛ ثمّ البحث في الغرض الذي أوجب انتحال المعطّلين لهذا الرأي وإعجابهم به، وتأليف الكتب والمقالات فيه، أعني الاستغناء به عن الصانع الحكيم وإقامة الانتخاب الطبيعي مقام الخالق القديم جلّت آلاؤه، ليكون المدخل /120/ للقسم الثاني منها إن شاء اللّه ُ .

الأصول الاْءَرْبَعَةُ على وفْقِ نظرية النُّشُوْءِ و الارتقاء

ونعتمد فيها على ما رتّبه بخنر(1) شارح مذهب دارون، فإنّه أبسط(2) كتاب عثرنا

ص: 101


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 80.
2- أبسط: أوسع.

عليه في هذه الآراء، وعنده أنّ هذا المذهب ينقسم إلى أربع مسائل جوهرية وإن لم يقسمّه دارون كذلك، ودرسه على هذه الصورة يسهل فهمه جداً وهي:

1: «تنازع البقاء.

2: تكوّن التباينات أو تغير الأفراد.

3: انتقال هذه التغيرات إلى النسل بالوراثة.

4: انتخاب الطبيعة للمتغيّر من هذه الأفراد الذي يكون فيه بعض أفضلية. وهذا الانتخاب يحصل بواسطة الانتخاب الطبيعي.

فهذه العوامل إذا اجتمعت وفعلت معا فنتيجتها التي هي استمرار تحويل الأحياء في الطبيعة تكون كأنّها ذاتية» .(1)

انكار البديهيات الثلاث عند موافقى دارون

اشارة

هذا المعطّل يرى جميع الكون وهذا النظام الأتمّ نتيجة الصُدفة الصمّاء، وينكر البديهيات الثلاث أعني، [1]: القصد، [2]: والنظام الأتمّ، [3]: والغاية في خلق الأشياء.

ويريد أن يقيم هذه العوامل الاْءَرْبَعَةَ(2) مقام القدرة الإلهية، ويجعلها هي الموجدة لاِءَيْدِيْ ذواتِ الأربع وأجنحة الطيور ومخالب السباع و .. و .. ويستغي بها عن الصانع الحكيم

فلننظر فيما ذكره في شرح هذه الأمور، وننتظر(3) ترتّب هذا النظام البديع عليها، ونرى كيف يوجد من الجسم ذي خلية واحدة هذه الأعضاء النافعة المختلفة أشكالاً وأنواعاً لمختلفات صنوف الأحياء، كلّ بحسب احتياجه ولازمه في معيشته من غير

ص: 102


1- راجع: فلسفة النشوء والارتقاء/ 80.
2- الأصل: الأربع.
3- الأصل: تنتظر.

قصد واختيار؟

1: تنازع البقاء
اشارة

قال: «وأوّل هذه العوامل وأهمّها تنازع البقاء. وملخّص المهمّ ممّا ذكر فيه أمور :

(الف) : «جميع أفراد النبات والحيوان ميّالة للتكاثر إلى ما يقلّ منه الغذاء، وتضيق عنه الأرض . [...]

(ب) : هذه الكثرة في النتاج تعترضها أسباب كثيرة، منها مزاحمة الأفراد بعضها لبعض من جهة، وعدم موافقة الأحوال الخارجية من جهة أخرى، وهذا تنازع البقاء .

(ج) : التنازع على حالين فاعلي ومفعولي، ويريد بالأوّل(1) ما كان بين الأحياء بعضها مع بعض، وبالثاني(2) ما كان بينها وبين قوى الطبيعة الصامتة . [...]

(د) : الفائز من الأفراد والأنواع في ميدان تنازع البقاء، هو ما تميّز منها بصفات جسدية أو عقلية تحقّق له هذا الفوز .

(ه) : هذه الصفات كثيرة جداً، فقد تكون الإِقْدام /122/ أو القوّة أو كبر القد أو صغره أو وسايط الهجوم والدفاع، أو اللون، أو الجمال، أو السرعة، أو الصبر على الجوع، أو حُسْن الكساء، أو الحيلة، أو حسن التدبير في استحصال القوت، أو الحكمة في اتّقاء الشرّ... إلى آخره.

ولعموم النوع هي كثرة النتاج - وإن كان فعل الكثرة محدوداً جدّاً - وللنبات موافقة التربة، أو قوّة يقوى بها على المؤثّرات الخارجية المضرّة . [...]

(و) : التنازع يبلغ معظمه بين الأنواع الأقرب بعضها عن بعض حتّى يفقد .

(ز) : كلّما كانت الصورة قديمة كانت أضعف عن مقاومة خصومها الأحداث في

ص: 103


1- المصدر: بالفاعلى.
2- المصدر: بالمفعولى.

التنازع لاتخاذها صوراً أنسب للتغييرات الحاصلة في أحوال الحياة .

(ح) : كلّ صورة غُلِبَتْ لا تعود أبداً، إذ لا تعود قادرة على الثبات في التنازع»، انتهى .(1)

النقد

وحيث إنّ تنازع البقاء أهمّ العوامل في هذا المذهب، كما قال بخنر، فلا غرو إذا سمح لنا القارئُ الكريم بِحُسْنِ الإصاخة وسامحنا فيما التجأنا إِليه من الإطالة، ثمّ نقول : لا ريب فيما ذكره في الأمرين الأوّلين، ولا موضع للتأمل /123/ إلاّ في تسميته مطلق العوارض المانعة عن كثرة النتاج بتنازع البقاء؛ لأنّه بمعناه الأصلي لا يصحّ تقسيمه إلى فاعلي ومفعولي كما ذكره في الأمر الثالث، ولا يصحّ إطلاقه على جميع الموانع المعترضة دون كثرة النتاج؛ إذ الموانع الطبيعية التي تحول بين الأحياء وبينها من البراكين النارية والسيول الجارفة(2) والحرّ والبرد المفرطين ونحوها، تهلك ما صادفت من الأحياء، غير شاعرة بأنّها لو بَقِى كلّها لضاقت عنها الأرض، ولم يكفها ما فيها من الغذاء، وكذلك كثير من الموانع التي تصدر من الأحياء وهي التي اصطلح عليه بالتنازع الفاعلي؛ إذ الإنسان المتسلّط على مملكتي الحيوان والنبات لا يزال يهلك كثيراً منهما؛ لا لأنّه ينازعه البقاء، بل لأغراض شتّى، فيقتل الفيل طمعا في أسنانه، والطاوُوْسَ للتزيُّنِ(3) بريشه، وغزال المِسْكِ لما من الطِّيْبِ في سرّته، ويقتل السباع وذوات السموم لاِتّقاء شرّها، وهكذا، وكذلك يقطع الأشجار ويهلك أصنافاً من النبات ليستعملها في حاجياته وفضول معيشته .

ص: 104


1- راجع: فلسفة النشوء والارتقاء/ 81-84 بتصرّف.
2- السيل الجارف: السيل الذي يذهب بكلّ شيء.
3- الأصل: للتزيين.

بل السباع تفترس ما تقدر عليه من الحيوان، لا لأنّها تنازعها في بقائها، بل لتوقّف حياتها على هلاكها، ولو زادت مساحة الأرض إلى أن تسع الجميع وأخصبت حتّى تكفي ما فيها /124/ من الغذاء للكلّ لكانت هذه العوارض تفعل أيضاً فعلها، وتمنع الأحياء من تكاثرها.

وإن كان سمّى مطلق الموانع تنازعاً في البقاء، وقال: هذا أمر اصطلحتُ عليه،

فلا نشاحه في هذا الاصطلاح البارد؛ ولكنّه لا يجديه في معظم هذه الفلسفة؛ لأنّ كثيراً منها يتوقّف على تنازع البقاء بالمعنى الأوّل.

منها: ما ذكره في الأمر السادس، إذ العوارض الطبيعية وما يكون بين الأحياء للأغراض التي عرفت نموذجاً منها لا تُفَرِّقُ بين الأنواع القريبة والبعيدة، فالسيول العظيمة تأتي على بيت النمل كما تَأْتِيْ على نافِقاء اليربوع(1) ووجار الذئب، وَأُدْحِيِّ النَّعامة وكِناسِ الوحش وَعَرِيْنِ الأسد، والسنون(2)، الشُّهْبُ(3) تُهْلِكُ الأنواعَ المتباعدة والمتقاربة معاً، والإنسان يقصع(4) القُمَّلَ ويفرك البقّ ويقتل البعوض، لأنّها تمنعه لذيذَ سُباتهِ، كما يقتل الأسد والوحيد القرن حذراً من براثنه أو قرنه، وعليه فقس سائِرَ العوارض! فأين قوله: «التنازع يبلغ معظمه بين الأنواع الأقرب بعضها من بعض لاشتراكها في المتنازع فيه» !؟

وما هذا المتنازع فيه بهذا المعنى من التنازع حتّى يشتركا فيه؟ وهل يبقى موقع لقوله: ويقلّ كلّما بعد بعضها عن بعض /125/ حتّى يفقد؟

وليس هذا بأمرهيّن في فلسفته، لأنّه مِجَنُّهُ(5) أَيْ دِرْعُهُ وَ قَدْ مَرَّ. الذي يتستر به من أعظم الاعتراضات عليها، كقلّة الوسائِطِ بين سلاسل الأحياء وغيره، ممّا ستعرف،

ص: 105


1- نافقاء اليربوع: إحدى حُجَرِ اليربوع (نوع من الفأر يعيش في الصحراء) يكتمها و يظهر غيرها.
2- الأصل: السنين.
3- السّنة الشّهباء: التي لا مطر فيها و لا خضرة.
4- يقصع: يقتل.
5- مِجنّه: دِرعه.

وتعليله الوحيد لسرعة ارتقاء بعض الأنواع ونحوه، وعذره في عدم ارتقاء الحيوانات التي هي بمعزل عن تنازع حيوانات أقوى منها كحيوانات اوستراليا وهولانده الجديدة، كما سيذكره

إلى غير ذلك من المسائل التي تتوقّف على تنازع البقاء بالمعنى الأول، ولا داعِيَ إلى اسْتِقْصائِها بعد ما عرفت إجمالاً، وستعرف تفصيلاً من أنّ تنازع الأحياء فيما يتوقّف عليه حياتها من مقدّمات الارتقاء الذي هو أهمّ ركنى هذه الآراء .

وأمّا ما ذكره في الأمر الرابع من أنّ الفوز في ميدان تنازع البقاء يستتبّ لمن تميزّ بصفات جسدية أو عقلية.

فليس بصحيح على كلّيته؛ لأنّ هذه التميّزات قد تكون سبباً للهلاك، كما تكون سبباً للفوز؛ فكم من عاقل قاده عقله إلى مَنِيَّته، وقويّ وقع في شبك المنون لقوّته، وسفيه وقته من المحاذير سفاهته، وضعيف تجنب مواقع الهلكة فوفرت عليه سلامته، وما بلاء الطاوُوْسِ إلاّ حُسْنُ ريشه، وما جرّ الويلات على السمّور إلاّ امتياز جلده. والإقدام الذي عدّه /126/ من أسباب الفوز يكون [في] الأغلب سبباً للهلاك والزوال، والإقدام قتّال(1) .

وقد رأيته بنفسه كيف عدّ المتضادَّيْنِ من أسباب الفوز نحو كبر القدّ وصغره، وكذلك الكوارث الطبيعية كثيراً ما تجتنب الضعيف وتأتي على القَوِيّ - بسيط :(2)

إنّ الرياحَ إذا ما أعصفتْ قصفتْ عيدانَ نَجْدٍ ولا يعبأَنَ بالرتم(3)

ثمّ إنّ الضعيف كثيراً مّا يعتصم بقوّة خارجية تعصمه من العوارض التي تفني

ص: 106


1- جزء من شطر بيت للمتنبّي وتمام شطره «الجود يفقر والإقدام قتال» . (منه) و تمام البيت: لو لا المشقة ساد الناس كلّهم / الجود...؛ و مطلعه: لا خيلَ عندك تُهْدِيها و لا مالُ / فليسعد النطق إِن لم تسعد الحالُ.
2- أي أنّ البيت الآتى في بحر البسيط.
3- الشعر لأبى تمّام، و مطلعه، إلياس كن في ضمان اللّه و الذمم / ذا مهجة عن ملمّات النوى حرم.

ألوَفا من الأقوياء، كما تبقى الدواجن والحيوانات الأهلية لقيام أربابها بطعامها في السنة الشهباء، والحيوانات القوية المتميّزة تموت سغباً أو تهلك عطشاً لإعوازها الكلأ والماء، ولقد أصاب صلاحه في الإغماض عنه في المقام لو لا أنّه ألمّ به بعض إلمام بعد ذلك، فقال ترجمة بخنر: «فإنّ في حدائقنا نباتات كثيرة متحمّلة الإقليم جيداً، ولو تركت ونفسها خارج الحدائق بعيدة عن اعتناء الإنسان لما /127/استطاعت أن تثبت في منازعة أقرانها» .(1)

وأنت أعزّك اللّه - بعد هذا التطويل المملّ منه والإسهاب منّا هذا الذي التجأنا اليه - لم تزدد بهذه المقدّمة - وإن كانت أهمّ مقدمات هذا المذهب - شيئاً على ما كنت تعلم - منذ نعومة أظفارك، بل بُعَيْدَ ما فارقت وَطِيَّ مَهْدِك - من أنّ الأحياء لا تبقى لها عارية الحياة أبداً، وأنّها إن لم تمت اليوم فسوف تموت غداً، وأنّ الحياة مهدّدة بما لا تحصى من ضروب الخطوب، ولا تزال تعبث به، حتّى يلقى شَعُوب،(2) وأنّه ربما نَجّى الحيّ من المهالك قوّة خارجية أو نفسية أو امتيازات جسدية أو عقلية، وربّما كانت تلك الصفات هي التي تورده حياض المَنِيّة.

هذا حقّ، ولكن أين يقع ممّا يرومه هؤلاء؟ وأين هذا من أن يكون سبباً للتحوّل والارتقاء !؟

نظرة أخرى إلى تنازع البقاء وبحث آخر فيه

سَمِعْتَ مِنْ بخنر عَدَّهُ تنازع البقاء من العوامل التي تحوّل الأحياء، وسوف تسمع منه ومن غيره أنّه السبب في الارتقاء، وأنّه العرش الذي يَتَبَوَّؤُهُ الاِنْتِخابُ(3) الطبيعي المُوْجِدُ للأنواع.

ص: 107


1- فلسفة النشوء والارتقاء ص / 85.
2- شَعُوْبُ: المَنِيَّةُ. (ممنوعة من الصرف)
3- الأصل: الانتخابات.
إنّ تنازع البقاء لا يوجب الارتقاء

فاستمع الآن لما نتلوه عليك وَنُوَضِّحُهُ لَكَ مِنْ أنّ تنازع البقاء - وإن سلّمنا جميع ما ادعاه وأغمضنا عمّا /128/ انتقدنا عليه - لا يعقل أن يكون عاملاً في تغيّر الأحياء، ولا سبباً للارتقاء، ولا دخيلاً في وجود جناح بعوضة وما فوقه .

بيانه: أَنّ دعوى هؤلاء أنّ الصور الكاملة الموجودة آتية عن صورٍ ناقصةٍ بسيطة تحدث لبعضها صفةً زائدة بناموس المباينة الآتية، وتنتقل تلك الصفة بقانون الوراثة إلى نسله، وهكذا تحدث صفة في النسل والتنتقّل إلى نسله، وهكذا على ممرّ الأجيال، حتّى يتألّف نوع جديد، فإن تمّ لهم بطريق طبيعي حدوث الزوائِد، وتمّ قانون الوراثة ومرور الأجيال عليها وانتخاب الطبيعة الزوائد النافعة دون غيرها، تمّ النشوء والارتقاء من غير توقّف على تنازع القوى والضعيف، بادي بدء وفناء الأضعف، وإن لم يتمّ لهم شيء من ذلك لم يكن التنازع ليسدّ لهم خللاً، أو يقيم أودا. مثلاً الكُرِّيَةِ البسيطة التي يريدون أن يصوغوا منها جَمَلاً، يزاد فيها خلية وتنقل إلى نسلها بقانون الوراثة، وفي النسل أيضاً كذلك، وتنقل الجميع إذا كانت نافعة إلى نسله، وهكذا حتّى يتمّ شكل الجَمَل على ما ستعرف تفصيله، وهذا كما ترى لا يتوقّف على تنازع البقاء وفناء الأضعف . /129/

ولزيادة التوضيح نفرض وسطاً بعيداً عن جميع أنواع التنازع بمعنييه، ونفرض فيه فردين من الحيوان، تناسل أحدهما، ووجدت في نسله زيادة نافعة، فانتقلت إِلى نسله بقانون الْوِراثَةِ، ووجدت في النسل زيادة أخرى كذلك، وأورثها نسله، وهكذا تزداد الزيادات، وتجتمع في الأخلاف، حتّى تبدو في أيّ صورة تفرض، ويتمّ التحويل من غير توقّف على فناء الآخر؛ بل لو فرض أنّ الفرد الآخر تناسل مثل الأوّل وحدثت في النسل زيادة أورثها عقبة، وهكذا لارتقى الفرد الآخر وتحوّل من غير أن يضرّ بترقّي الأول وتحوّله، وكذلك لو فرضنا وسطاً ليس فيه إلاّ فرد واحد،

ص: 108

فإنّه بمساعدة أَوْضاعِهِ، والنواميس المذكورة يتحوّل إلى صورة أُخْرى، مع عدم المنازع له في البقاء أصلاً.

فاتّضح أنّ تنازع البقاء لا يعقل أن يكون دخيلاً في النشوءِ والارتقاء. نعم، يصلح أن يكون عذراً لفقدان الصور المتوسّطة، فيقال: إنّها فنيت، لأنّ ضيق الأرض وعدم كفاية الغذاء شَكَّلا ميدان تنازع الأفراد، فهلك الضعيف وبقي القويّ، وألّف نوعاً جديداً .

إنّ تنازع البقاء لا يوجب فقدان الصور المتوسطة

ولا يحضرني كتب دارون لأتجاسر على القول بأنّه ذكر تنازع البقاء عذراً لفقدان الصور المتوسّطة، فاشتبه الأمر على أتباعه فجعلوه من مقدّمات /130/النشوءِ ولكنّ المثال الذي نقله عنه الشارح في طول عنق الزرافة يناسب ما ذكرناه، وهاك ما نقله بنصّه:

«الزرافة الحالية آتية من أصل أصغر منها، وهذا الأصل قد انقرض منذ زمن طويل، ولم يكن عنقها في الأصل طويلاً كما هو اليوم، ولا باقي أعضائها كذلك - بناءً على أنّ الأعضاء متناسبة في الجسم الحيّ - وبقيت على هذه الحالة زماناً، ربّما كان مائة سنة أو ألف سنة أو أكثر أو أقلّ بدون تغيّر جوهريّ فيها، لعدم تغيّر أحوال حياتها، حتّى حصل يبس شديد ماتت به كلّ الأشجار إِلاّ أشدّها - أي أعلاها - فماتت كلّ الزرافات الصغيرة التي في عنقها قصر يحول بينها وبين الحصول على قُوْتِها؛ وبقيت الكبيرة الطويلة الأعناق، وانتقل ذلك في نسلها إلى أولادها، وبقيت هكذا حتّى أصابها أيضاً ما أصابها في المرّة الأولى، فماتت قصارها وبقيت طوالها، وهكذا، وما زال هذا الأمر يتكرّر فيها حتّى بلغ بها في الأدوار الطويلة والأجيال

ص: 109

العديدة إلى ما هي عليه اليوم» .(1)

ولا ينبغي لمثل دارون أن يَخْفى عليه أنّ موت قصار الأعناق منها لا يعقل أن يكون سبباً لطول أعناق طوال الأعناق، بحيث لو فرض أنّ القصار الأعناق لم تمت من الجوع /131/ بقوة طبيعية مجهولة - أو بقوة فوق قُوى الطبيعة - لما طالت أعناق البواقي، ومن البديهي أنّ بقاء تلك الحيوانات الصغيرة وهي طاوية على الجوع أحشاؤها، وصابرة على طول بلائها، لا تمنع نسل الكبار من أن ترث طول العنق من أجدادها، وهكذا إلى ان يبلغ عنق الزرافة إلى ما هو عليه اليوم من الطول.

نعم، لازم ذلك أَنْ توجد أسراب كثيرة منها مختلفة الأعناق اختلافاً فاحشاً، وَبِفَرْضِ هذه الأزمات الشديدة المتوالية يمكن تعليل عدم وجودها.

ويشهد لما قلناه ما سيأتي نقله من الشارح من أن دارون إنّما تَوَصَّلَ إلى الانتخاب الطبيعي بدرسه علم تحسين الحيوانات والنباتات،(2) وأنّ الفرق الوحيد بين عمل الإنسان والطبيعة أنّ الإنسان يعمل عن علم بالشيء، ولذلك يتمّ عمله في زمن قصير إلى آخره.

ومن المعلوم أنّ مَبْنى علم التحسين - كما سيذكره - على الاعتناء بتربية الفرد الذي فيه صفات مطلوبة، ثمّ انتخاب فرد من نسله توجد فيه تلك الصفات أكثر من غيره وتربيته أيضاً، وهكذا، ولا يتوقّف على إِتلاف بقية الأفراد من النسل قطعاً، بل يحصل بالتربية ارتقاء الفرد المُعْتَنى بشأنه؛ عاشت بقية الأفراد أو تلاشت . /132/

2: القول في تكوّن التباينات
اشارة

قال فيه: «تكوّن التباينات مبنيٌّ على القاعدة المتحصّلة بالاختيار، والتي وضعها دارون وهي أنّ الأجسام الحيّة ميّالة إلى التغيّر على أَوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ وَإِلى حدّ محدود،

ص: 110


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 96.
2- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 92-93.

أي أنّها تنحرف عن الأصل الصادرة عنه ببعض الصفات الخصوصية: إما في السخته .(1) أو اللون، أو الكساء، أو القدّ، أو القوة، أو تكوين بعض الأعضاء، [...]، ولا يجتمع إثنان على(2) كثرة الأجسام العضوية على شبه واحد، حتّى ولا ورقتان على شجرة واحدة [...]، فالتحوّل إلى حدّ محدود هو إذا ناموس عامّ يطلق على جميع الأحياء.

ولا يقال: إنّ الحيّ يلد حيّاً نظيره، ولا يصحّ أن يقال أيضاً: إنّه يلد حيّاً مختلفاً عنه؛ لأنّ الوراثة ليست راسخة كما هي غير مختلفة .(3) [...]

والصحيح أن يقال: كلّ حيّ يلد شبيهاً به؛ وعلى هذه القاعدة يُشْبِهُ آلاِبْنُ أبويه بالصفات الجوهرية، وَلا يُشْبِهُهُما أبداً بكلّ الصفات».(4)

النقد

يقال: من دأب هؤلاء الفلاسفة تعليل الموجودات بالصحيح، والمعتلّ والرطب والجزل والتكلّف فيما لا يعرف وجهه ولو بضرب من المحال أو بعبارة مقعّرة لا تزيد إلاّ إجمالاً على إجمال، كل ذلك حذراً على حِمى التعطيل من الإرادة /133/الإلآهية، وشفقةً على ظلمات المادّة من أن تقشعها أنوار القدرة الربانية.

فما بالهم قنعوا في هذين الناموسين العظيمين، وهما عمدتا هذه الآراء ببيان أمرين بديهيين، وهما إنَّ مَكْنَ(5) الضبّ لا تنفلق عن نعامة، والفرس لا تلد كلباً، ولاهرّة، بل تلد حيواناً يشبهها، ولكن لا إلى حدّ لا يتمكّن صاحبها من الفرق بينه وبينها.

ص: 111


1- الأصل: النتيجة.
2- المصدر: مع.
3- المصدر: كما أنّه غير متخلّفة.
4- فلسفة النشوء والارتقاء/ 87.
5- المَكْنُ: بَيْضُ الضَّبِّ.

هذا عجيب. ونسبة وضعها إلى دارون تعجّب.

وإنّما كان الجدير لهم أن يبيّنوا علّية المشابهة، والسبب الذي يُفضي إلى المباينة، لتخرج القضيتان من صفّ البديهيات التي تستنكف العوامّ من التكلّم عليها إلى عداد القضايا التي يحقّ لأهل العلم النظر فيها.

على أنّ من الواجب عليهم في صناعة العلم أن يبرهنوا على أنّ التباينات لا تحدّ بحدّ، أو أنّ له حدّاً وراء الأنواع التي يشتقّ بعضها من بعض، وإلاّ فالخصم لا يُلْجِئُهُ الوجدان وحكم البداهة إلى الاعتراف بأزيد من تغيّرات عارضية طفيفة، وأنّه ربّما اشتدّت تلك العوارض أو ضعفت إذا انتقلت إلى الأعقاب بالوراثة، ومرّت عليه أزمنة طويلة، فيكون آخر أعقاب الرجل الأبيض أشدّ بياضاً بكثير من أجداده الاْءُوَلِ، أو يكون أقصر من جدّه الأوّل، أو أطول، ومثلهما الأمثلة التي ذكرها عَدا المثال الأخير، /134/ وهو تكوين بعض الأعضاء، فإنّه مما لا يعترف الخصم به، والإنصاف يحكم بالفرق الواضح بينه وبين ما تقدّم من الأمثلة؛ إذ هي من الصفات العارضية، الأخيرة، وعلى مذهب خصمه من الأمور الجوهرية، فدسّه ما بين تلك الأمثلة شبه احتيال، ينبغي أن تبرأ عنه ساحة المسألة العلمية.

وبالجملة ليس من الإنصاف الذي يسري أهل العلم على خطّته أن يؤخذ الخصم بأزيد من اعترافه، فإذا أقرّ بأنّ نسل السمين قد يكون هزيلاً، ونسل الطويل قد يكون قصيراً(1)، أن يُصاغَ له من السمك إِنْسانٌ، ومن الحشرة بعيرٌ(2).

نعم، لو تَأَتّى لهم بيان عدم الفرق بين الصفات العارضية والجوهرية بحسب المعنى، أو تمكّنوا من إقامة الدليل على أنّ التباينات تَسْرِىِ إلى الأمور الجوهرية، تمّ لهم إمكان تأليف الأنواع من التباينات الواضحة الثابتة.

ص: 112


1- هكذا في الأصل، و يمكن أن وقع هنا سقط.
2- الأصل: السمك انساناً... بعيراً.

وقد تنبّه الشارح لذلك فقال: «ولا يسع خصوم دارون أن ينكروا ميل الأحياء إلى الاختلاف، وتكوّن(1) التباينات [...]، إِلاّ أنّهم يزعمون أنّه لا يتناول إلاّ الأعراض فقط، كاللون والجلد والقدّ وغير ذلك، ولا يصل [تأثيره] إلى جوهر التكوين

وقد بيّن دارون بطلان زعمهم هذا وأثبت أنّ الميل المذكور يصل إلى الجوهر [أيضا] قال: «إنّ الفرق /135/ بين النوع والتباين يمتنع علمياً تبينّه، والاختلاف بين العلماء من هذا القبيل كثير، وليس لهم فيه تعريف مقبول، والذي أوقعهم في هذا الارتباك اعتبارهم النتاج حداً يفصل»،(2) انتهى .

ونقول في جوابه: إنّ إثبات الأنواع من مسائل الحكمة العالية، وَلايَتَأَتّى بطرق العلوم الطبيعية، فذكر الدليل عليه خارج عن المقصود من هذه الرسالة، ومن شاء فليطلبه من مواضعه . بَيْدَ أَنّا نقول: إنّ مجرد إنكار الأنواع لا يكفيه في إِقناع خصومه ما لم يثبت ببرهان عدم الحدّ للتباينات واقعاً، أو أنّ حَدَّها ماوراء جميع ما يدّعى تحوّل بعضها عن بعض .

وسيأتي أن دارون توصل إلى آرائه بدرسه علم التحسين الصناعي للحيوان والنبات كما قال الشارح، ونقل عنه الاعتراف بأنّ الإنسان قد بلغ الغاية القصوى فيه، فَأَقْصى ما وصلوا اليه الآن وأعظم ما يأملون البلوغ اليه في مستقبل الزمان يلتزم الخصم به في فعل الطبيعة التي لا تفعل عن علم ولا لباقة،(3) ولا لمصلحة نفسها كماستسمعه منه .

على أنّ دارون قال بالأنواع، أو كاد، حيث نقل عنه الشارح أنّ [في] الأنواع تباينات واضحة ثابتة، فهو لا يخالف /136/ المثبتين للنوع في المعنى، لكنّه يسمّى

ص: 113


1- المصدر: تكوين.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 88.
3- اللباقة: الحذاقة.

الجنس تشابهاً، والفصل تبايناً واضحاً ثابتاً، وعليه لا يتعدّى تسليم الخصم هذا الحدّ، بل يلتزم بحدوث التباينات ما لم ينته إلى التباينات الواضحة التي هي ثابتة باعترافه.

3: الوراثة
اشارة

ثمّ ذكر أنّ ميل الأحياء إلى التغيّر لا قيمة له في مذهب دارون إلاّ بالوراثة التي تنقل الصفات المميّزة للأنواع في النسل،(1) [...] وأنّ الوراثة تنقل الأمراض كما تنقل عيوب التكوين، مثل زيادة عدد الأصابع أو الأظفار، ومثل الجهر وتشقّق الجلد، وِلاديّةً كانت كما تقدّم، أو عارضة، كالعيوب الحاصلة عن آفات طارئة، وكما أنّها تنقل الصفات الجسدية تنقل الصفات الأدبية كذلك أيضاً، كالشهوات والأميال والعوائد والأخلاق والعقل وغير ذلك .

ومن عجيب أمرها أنّها كثيراً ما تقطع الأجيال كامنة وتظهر في الأولاد بعد ذلك، وهذا الأمر يسمى عندهم الإتافيسم، ومعناه الرجوع إلى الجدّ».(2)

ثمّ بعد كلام في الانتقال الوراثي كان معروفاً قبل دارون ونقل ما يتعلّق به قال: «فالإنسان /137/ [كما هو الآن] وكلّ ما يملكه ليس إلاّ نتيجة عمل شاقّ وبَطِئٍ لم يفتر أبداً على مرّ الدهور الطويلة، وقائم على انتقال الصفات في الأجيال العديدة بالوراثة، سواء كانت هذه الصفات حسّية أو معنوية ولادية، أو مكتسبة، ليس إلاّ. فالوراثة مهمّة جداً في مذهب انتقال الأنواع.

قال دارون في هذا المعنى مانصّه: «إِذا كان من المقرّر أنّ الاختلافات حتّى أكثرها شذوذاً، والتي لا ينطبق على جنس معلوم كنقص بعض الأصابع والأظفار أو زيادتها وكالجهر وتشقّق الجلد وغيرها تنتقل في النسل بحرص، فكم بالحرى ينبغي

ص: 114


1- العبارة نقلت متصرفة و بالمعنى.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 90.

أن يكون كذلك في الاختلافات العادية التي يصحّ عليها جلياً ناموس الوراثة الشامل لكلّ الصفات الفردية»(1) على أنّه يقرّ بَأَنَّ نواميس الوراثة الخاصة، لا تزال مجهولة كلياً، وعلى المستقبل أن يرفع الحجاب عن مكنوناتها» .(2)

النقد

يقال في المقام: لا شكّ في قيمة الوراثة في هذه الآراء، كما أنّه لا ريب في قدم معروفيته بين كثير من طوائف البشر من عهد متوغّل في القدم، وتجد ذكره شائعاً في المنظوم والمنثور من كلام العرب والفرس وغيرهما، لا كما يقول الشارح: «فكان إذا ذكر شيئاً منها، يذكر على سبيل الغرابة»، ولكنّها /138/ من الأمور الغير المطردة الكثيرة الخلف جداً، وربما كان تخلفها أكثر بكثير، فإِنك لا ترى خمسة يُشْبِهُوْنَ آباءَهُمْ إلاّ ورأيت خمسين لا يشابهونهم، ولا ترى عشرة يقاربون أبويهم في الطول والقصر أو الهزال والسمن أو الدمامة والجمال أو غير ذلك، إلاّ ورأيت مأة يخالفونهما فيها، ولعلّ الخلف في الصفات والعادات أبين وعدم اطِّرادِ الوراثة فيها أظهر .

وأنت إذا نظرت إلى عشرة إخوة أعيان(3) ورأيت ما يقع بينهم من عدم المشابهة، ظهر لك بالعِيان أنّ الوراثة وإن كانت من الحقائق الثابتة في الجملة لكِّنها مبالغ فيها عند القوم أقصى المبالغة، على أَن المبالغة فيها تضرّ بهذا المذاهب؛ لأنّ من عجيب أمره أنّ حياته قائمة بناموسين مُتَضادَّيْنِ، المباينة والمشابهة، فإن اطَّرَدَ أحدهما في جميع الخصوصيات انتفى الآخر، وَلَمْ يتحقّق [وجود] الأنواع، كما تعلم .

ص: 115


1- آخر كلام دارون.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 91.
3- الأعيان: الإخوة من الأبوين (الأحقّاء)، و يقابلهم: أبنات العلاّت، و هم الإخوة من جهة الأب فقط. (عبد الستار الحسني)

وظاهر أنّ ناموساً غير مطّرد، كثير الخلف بهذا المقدار، لا يمكن بناء هذا المذهب عليه، وإن أمكن بناءه على العوامل الضعيفة لأنّ هؤلاء يتداركون ضعفها بتطويل الزمان، فلا يحسّون بخلل من هذه الجهة إلاّ وزادوا على عمر الأرض وابتداء الخلق ملايِيْنَ من السنين، وأَنفقوا عليهما من كنز /139/ الزمان ما شاؤوا إِنفاقَ مَنْ لا يخافُ النقصان، وأمّا العامل الذي لا يَطَّرِدُ كهذه، فلا يمكن جبر كسره ولا سدّ خلّته، إذ لو فرضت المشابهة بين الأب وَابْنِهِ في صفة كالطول مثلاً، فإنِ اطَّرَدَ ذلك وتسلسل في سلسلة التناسل ونمى بالانتخاب الطبيعي كما يقول دارون، وهكذا في عدّة صفات أُخَرَ وبقيت الصفات التي كانت بها المباينة على حالها تُؤَلِّفُ من الأفراد الباقية على طول الزمان نوعاً جديداً، وتمّ له المذهب وإن لم يَطَّرِدْ كما هو المشاهد، بل وقعت المباينة في نسل الرابع والخامس بما كانت المشابهة فيه، فصار الطويل قصيراً لم يتألّف نوع جديد؛ وإن قدر الزمان بأضعاف ما قدّروه، ولم يجد الانتخاب من النموّ ما يؤلّف به نوعاً جديداً وبقيت الأفراد كما كانت تقريباً، تأمّل جيّداً، تجد واضحاً ما قلناه إن شاء اللّه.

ولك أن تحرّر المقام بطريق آخر، وتقول: لا يكفي لهذا المذهب مطلق المشابهة وإن سلّمنا اطرادها، بل لابدّ أن تكون في صفات خاصة تسلسل في النسل ليؤلّف الأفراد بها نوعاً جديداً بعد زمن طويل، وهذا لا يُمْكِنُ ادِّعاؤُهُ بعد ما كَذَّبَهُ(1) الحس والوجدان.

بلى، أقصى ما يمكن دعوى وجود مطلق المشابهة غالباً أو دائماً بين المولود والمولد منه، وأين /140/ يقع ذلك ممّا يريدون؟ بعد أن تكون المشابهة بين النسل الرابع والثالث بما كانت به المباينة بين الثاني والأوّل مثلاً.

وهب أنّ دارون بعد إِقراره بمجهولية نواميس الوراثة الخاصة علّل نفسه بأنّ

ص: 116


1- الأصل: يكذبه.

المستقبل يرفع الحجاب عن مكنوناتها، ونحن لانقطع رجاءه، بل نحن معه من المنتظرين، لكن من اليقين أنّه ليس من تلك النواميس المجهولة التي سترفع عنها الحجاب بقاء كلّ مشابهة خاصّة مفروضة على تسلسل الأعقاب لتنمَو فَيَتَأَلَّفَ منها نوع جديد، وإلاّ لزم أن يكون بين نَسْلَيْ رجلين وُجِدا قبل هذا بأجيال، وكانا مختلفين في الطول والقصر أو السمن والهزال تفاوتاً بيناً؛ وصفحات التاريخ تذكر لنا أُناساً قبل هذا بألف سنة وأكثر بأوصافهم الخاصّة، ونرى فقدان تلك الصفة في نسلهم الموجود الآن أو اختلافهم فيه.

وأمّا ما اختلقوه من حديث الإتافيسم: فإنّه لا يمكنهم إثبات أَنَّ ما يحدث في الأعقاب الأخيرة مُسْتَنِدٌ(1) للوراثة القديمة؛ إذ من الممكن أن يكون أمراً حدث لحدوث سببه، كما يقوله طمسن في كثير ممّا عدّوه من هذا الباب .

وفذلكة المقام أنّ ناموس المشابهة وإنْ سُلِّمَ اطّرادُهُ فَإِنّما /141/ هو مُطْلَقُ المشابهة بين المولود ومن ولد منه، لا المشابهة الخاصّة؛ وذلك لا يُجْدِيْ بعد أَنْ تقع المباينة في بقية الأعقاب بما كان به المشابهة أو تقع المشابهة بما كان به المباينة، إذاً تنتقض كلّ مشابهة(2) بوقوع المباينة فيها بعينها.

تأمّل المقام فإنّه دقيق! وللمقام تتمة تأتي إِنْ شاء اللّه تعالى .

ثمّ إنّ ما ذكره من الوراثة في الصفات العارضة ينافي ما نرى في كلام كثير منهم، ومنه ما قرأناه في مقالة عنوانها: «مسائل العلم في الْقَرْنِ(3) العشرين»، ذكر كاتبها أنّه اعتمد فيها على مقالة للاستاذ دولبر الأميركي، وفيها: «فقد ثبت أنّ التغيّرات الاكتسابية لا تورث، وأنّ الطبيعة لا تحتفظ بسوى التغيّرات التي تحدثها هي لأسباب، فإِنّها لا تزال تخلق».

ص: 117


1- الأصل: مستنداً.
2- الأصل: مشابة.
3- الأصل: قرن.

هكذا عَبَرَ الجبابرةُ والنوابغُ جَدَداً بالفطرة، لا بالاكتساب من الوسط أو المحيط ؟

4: الانتخاب الطبيعي
اشارة

قال: «وقد وصلنا الآن إلى آخر قضية من مذهب دارون وأهمّها»،(1)

وكان أهمّها عنده تنازع البقاء «وهي الانتخاب الطبيعي أيضاً» ولا يكون إلاّ إذا كان للاختلافات الحاصلة للفرد مُعِيْنٌ في تنازع البقاء، فإنّ الاختلافات الفردية تكون /142/ ضرورة على إحدى ثَلاثِ حالات، [1]: إمّا نافعة للمنازع، [2]: أو مُضِرّة(2) قلةً، [3]: أو لا نافعة ولا مضرّة.

ففي الحالة الأخيرة: لا يكون لها معنى، فبقاؤه وعدمه على حدٍ سَواءٍ .

وكذلك أيضاً إذا كانت مضرّة؛ لأنّ الاختلاف الذي يحصل والحالة هذه تكون نتيجته أحد أمرين : إما ملاشاة الفرد أو ملاشاة الصفة، وتختلف نتيجته إذا كان نافعاً، فيمتاز الفرد به على إخوانه وخصومه في تنازع البقاء، وينتقل هذا الامتياز إلى نسله، وينمو فيه على مرور الأجيال، وهذا الامتياز في تنازع البقاء لا يحصل إلاّ بعد جهد جهيد، فلكي يؤلّف الفرد به نوعاً جديداً، لا يكفى امتيازه به مرةً واحدةً، بل يلزم لذلك أحياناً مائة جيل أو ألف جيل أو عشرة آلاف جيل .

وهذا الأمر يعتبر جداً في مذهب دارون؛ فإنّ الزمان في تأريخ الأرض ومتكوّناتها له المقام الأولى، وإنّا ليتولاّنا الذُّعْرُ.(3) إذا افتكرنا في عدد السنين الذي اقتضاه تعاقب الأدوار الجيولوجية، فوجودنا بالنظر إلى ذلك لا يكاد يحسب لحظة .

ص: 118


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 92.
2- الأصل: مضرّ.
3- الذعر: الفزع، الدهشة.
حقّ المقال في المقام

أقول: هذه القضية، آخر قضية من مذهب دارون كما قال بخنر؛ بل هي أقصى ما وصل إِليه فكره في تعليل /143/ ما لا يُعَدُّ من صنوف الأحياء، وأبعد شأوه فيه وأهمّها أيضاً؛ كما قال، ولم لا تكون وهي التي تقوم عند المعطّلة من أصحابه مقام القدرة الإلآهية عند المؤمنين.

ونحن نُعَرِّفُكَ أوّلاً بقدرها ونقف بك على حدّها، ثمّ نَتَصَدّى لنقدها، ونقول: هي على أنّها مؤسَّسَةٌ على القضايا السابقة التي عرفت الكلام عليها بِمَعْزِلٍ من بيان الأسباب التي وجدت بها للأحياء هذه الأعضاء الكاملة التامّة، الكثير عددها، والدقيق صنعها، والمختلفة أنواعها وأشكالها ومقاديرها الموضوعة على أتمّ ما يكون من الحكمة، وأقصى ما تقتضية المصلحة التي تُحَيِّرُ الألبابَ وتستوقفُ دون أدنى مراتبها سوابق العقول . وانّما تبيّن العلّة في بقائها والسبب في عدم تلاشيها واضمحلالها بعد وجودها.

بل السبب في بقاء من اختصّ من بين الأحياء بها، وتحيلك - في الغرض الأقصى والأمر المهمّ - إلى الصُدفة والاتفاق في حدوثها لدى بادي أمرها، أو إِلى نواميس المباينات المجهولة، كما يسمّيها فراراً من شناعة لفظ الصُدفة .

نشدتك والإنصاف، أين موقع هذه القضية من المسائل المهمة وأين موضعها من العلم والفلسفة !؟

ثمّ نقول: إنّ أوّل خطأ فيها هو أنّ كثيراً من أجزاء الحيوان /144/ إن لم يكن تكثّرها بِمعْزِلٍ عن تنازع البقاء وغير مرتبطة به، بل هي بين ما يتوقّف عليه أصل الحياة كالقلب وأعضاء التغذية، وبين ما هو لِمَنافعَ أُخَرَ كالأسنان التي تُسَهِّلُ الأَكْلَ بالقطع والطحن وتُعينه على التكلم وتعين له مقاطع الحروف وغُدد اللعاب الذي يرطّب الفم ويسهّل حركة اللسان ويحلّ الموادّ ذات الطعم، وينبّه أعصاب الذوق

ص: 119

ليلتذّ بالأكل، ويحوّل الطعام إلى كتلة سهلة الإزدراد(1) والهضم، وآلات التناسل التي يبقى به النوع لا الفرد وغير ذلك .

وإِن تكلّف أحدهم بعض النفع في بعض هذه الأمثلة فإِنَّ لها أَضْعافاً(2) تأبى هذا التَّكَلُّفَ، فلماذا بَقِيَتْ ولا معنى لها في تنازع البقاء وهي من القسم الثالث الذي يقول عنه، فبقاؤه وَعَدَمُهُ على حَدٍّ سَواءٍ .

وثانياً: أنّ أكثر الأعضاءَ بل كلّها إلاّ ما شذّ، حتّى التي لا معنى لها في تنازع البقاء، تكون من القسم الثالث في مبدأ تكوينها وفي أجيال كثيرة بعده، فالأثدي لا تنفع إلاّ بعد تمام تكوينها وقدرتها على القيام بوظائفها عند تحوّلها إلى صورة مناسبة لها، وكذلك غيرها ممّا لا تحصى من صنوف /145/ أجزاء النبات وأعضاء الحيوان . ومن المقرّر لديهم أنّ هذه الأجزاء لا توجد كاملةً دفعةً واحدةً عند التحوّل إلى الأنواع المناسبة المحتاجة إليها، بل تبدو وتنمو تدريجاً إلى أن تبلغ كمالها وتعود قادرة على أداء وظائفها للأنواع المناسبة لها، ولا شكّ أنّها قبل ذلك تكون عديمة النفع، فتكون من القسم الثالث، بل من الثاني؛ لأنّها تكون مضرّة، كما قاله صاحب مقالة الخلل في تركيب جسم الإنسان بزعمه، وهذا لفظه: «الأعضاء الضامرة التي لا تقضى وظيفة، بمثابة جسم غريب في الجسم الحيّ، وعلاقته بحياته تجعلها عرضة لعيوب خلقية ولعوارض مرضية»، إلى آخره.

ومن الواضح عدم الفرق بين العضو الزائد الذي قام بوظائفه سابقاً، والزائد الذي سوف يقوم به .

ولماذا ترى - والحالة هذه - تحفظ هذه الزوائِد الكثيرة غير(3) النافعة، بل المضرّة أحياناً، وتحذف سواها ممّا لا تنفع في التنوّعات الآتية، مع أنّه لا فرق بينهما في

ص: 120


1- الازدراد: الابتلاع.
2- الأصل: أضعاف.
3- الأصل: الغير.

الانتخاب الطبيعي، وكلاهما لا ينفعان الفرد حين تنازع البقاء .

إلزام دارون و تابعيه

ولا مناص للشارح وسائِرِ المعطّلين من أهل هذه /146/ الآراء إِلاّ أحد أَمْرَيْنِ، كُلٌّ منهما أَمَرُّ عنده من الآخر:

[1]: إمّا رفع اليد عن هذه الآراء ، والقول بالتحوّل الفجائي، وأنّ هذه الأعضاء تبدو دفعةً واحدةً عند التحوّل إلى النوع الذي يلزمه تلك، وهذا نقض لهذه الفلسفة من أساسه، والتزام برأي لا يزال يفنّده وَيَسْتَهْزِئُ به.

[2]: وإمّا الالتزام بالبديهيات

الثالث، أعني القصد والعلم والفعل للغاية.

والقول بأنّ هذه الزوائِدَ التي لانفع فيها فعلاً تحفظها الطبيعة وتتحمّل عبئها(1) الثقيل مدى الأجيال الطويلة، لما يترتّب عليها من النفع بعد آلاف آلاف سنة

وفي هذا نقض لغرض بخنر وأصحابه من هذه الفلسفة، والتزام بالمبدأ الذي لم يكتب هذا الشرح، ولم يعتنق مذهب دارون إلاّ لاِءِنكارِهِ، أَعْنِيْ القصد والغاية في خلق الأشياء ؛ إذ الطبيعة - على مذهبه ومذهب أصحابه - عمياء، فكيف تميّز الزوائد التي لا تنفع إلاّ بعد أحقاب فَتَدَّخِرُها ويحذف سواها، فأكْرِمَ بعمياء غير شاعرة، تعلم أنّ هذه الحشرة تعود جملاً بعد تحوّلات عديدة، وتلك تكون رجلاً بعد أجيال تعدّ بالملايين، وتعلم ما يَحْتاجُهُ كلّ منهما من الأعضاء الكثيرة المختلفة في الكمّ والكيف والوضع والتركيب و .. و .. و .. في كلّ دور من أدواره الآتية، فلا تزال تَدَّخِرُ النافع في كلّ دور من أدواره وتحذف /147/ المضرّ وغير النافع، حتّى يعود حيواناً أو انساناً كامل الأعضاء، تامّ التركيب، متناسب الأعضاء.

ص: 121


1- العب ء: الحِمل، الثقل.

وقليل لهذه العمياء أن تُفْدى بألف بصير من هؤلاء .

وإنّي أنشدك - أيّها الناظر في هذه الرسالة، بكلّ ما يعزّ عندك، ويحظى لديك - أن تجرّد ذهنك من جميع ما عرفت من أدلّتنا وما خامره من شبهات هؤلاء، وافرضْ نفسك رجلاً لم تسمع كلمة من كلمات علماء الدين، ولا شبهة من شبهات الماديين، وأنّه ليس عندك من العلم شيء سوى ما قرّره هؤلاء في هذا المقام، وما نبّهناك عليه الآن ، ثمّ راجع ضميرك الحرّ وحَكِّمْ وجدانك الصادق، لترى هل يحكم بجواز أن يكون ذلك فعل الصُدفة الصماء، ونتيجة الاضطرار؟ أو يحكم حكماً قطعياً بأنّ ذلك فعل صانع حكيم مختار !؟

ثمّ، ما شأنُ المحاسن المودعة في الخلق السّاحِرَةِ للألباب؟ وكيف رأت هذه العمياءُ العيونَ والحواجبَ والثغور؛ فاستحسنت(1) في هذه الدَّعَج(2)؟ وفي هذه التقوّس والزجج؟ وفي هذه الشنب(3) والفلج؟ ومن أين تعلّمت - وهي غير شاعرة - نكتة التدبيج(4)؟ من علم البديع، فدبجت الوجوه الملاح /148/ أحسن تدبيج، ولم تقتصر على التدبيج من نكاته، بل أودعت الطباق والجناس في الأحداق والأهداب، وفي الخصور والشعرو الإيجاز والإطناب، إلى غير ذلك مما لو أضفتُ اليه أَشْباهَهُ وألحقت به ما كان من بابه، لعرفت أنّ صاحب هذا الاختراع أَبى إِلاّ أن يكون الإنسان أحسن شواهد الإِبداع.

والقوم يعلّلون محاسن الأحياء بانتخاب آخر يسمّونه الانتخاب الجنسي أو النوعي، وهو ثاني الانتخابين المنسوبين إلى دارون.

ص: 122


1- الأصل: فاستحسن.
2- الدَّعَجُ: سواد العين مع سعتها.
3- الشنب: نقاء الأسنان.
4- التدبيج: التزيين.
الانتخاب الجنسي

وهو نتيجة تنازع الذكور على الإناث أو العكس، فما في أحد النوعين من المحاسن يوجب أن يفضله النوع الآخر على غيره، فيبقى نسله دون غيره.

وهذا الانتخاب لم يذكره شارح مذهب دارون، بل جاء في كلامه عَرَضاً كماستسمعه. وقال هيكَل: إنّه يحصل بين الطيور ذوات الأصوات الحسنة تنازع في إجادة التغريد للحصول على الإناث، وذكر أشياء، منها: الألوان الجميلة والأصوات الحسنة . وزعم أنّ الإناث يفضلن ما كان حاوياً لمثل هذه الصفات .

وعلى ذلك، فمقدّمات هذا الانتخاب كالانتخاب الطبيعي /149/ ومواضع الانتقاد عليه تعرف مما مرّ في الانتخاب السابق، ونزيد عليه بعد: أنّ من الظاهر متابعة أكثر طوائف الحيوان لقوم من أتباع هذه الفلسفة في تجويز البوليندرية - أي تزوَج الأنثى بأكثر من واحد - بأنّ الغالب في هذا التنازع غالباً هو الغالب في ميدان النزاع الأوّل، أعني الأقوى، وللقوّة كما تعلم أسباب من أضعفها الجمال .

والشهير دارون يعرف ذلك، ويقول لقد تنازع الرجال المتوحّشون على المرأة مدّة أجيال كثيرة، وكان الفوز لمن اتّصف بالبسالة(1) والإقدام والبأس والصبر.

وهذه الجميلات من النساء يستأثر بهنّ الملوك والأغنياء والشجعان، ولعلّ في مأة(2) منهم لا يوجد عَشْرٌ(3) من أرباب الجمال.

وهنّ أيضاً كثيراً ما يُقَدِّمْنَ المالَ والدَّعَةَ وخفض العيش على الجمال الُمجَرّد.

ثمّ هذا الانتخاب إن تم فلا يعلّل فيه الجمال في أصناف النبات، فلماذا هذه الأشكال البديعة في نجومها وأشجارها؟ وهذه الألوان الزاهية لأنوارها وأزهارها؟ وما هذه الأغصان النَّضِرَة(4) والروائح العطرة!؟

ص: 123


1- البَسالة: الشجاعة.
2- الأصل: مأته.
3- الأصل: عشر.
4- الأصل: النظرة.

ولكن لهؤلاء الفلاسفة مِنْ سَعَة الخيال ما يسع الضدّين الممكن والمحال، ويقبل كلّ جزل ورطب من التعليل، إلاّ إرادة الخالق الجليل.

فربّما علّل أحدهم الجمال في النباتات بأنّ /150/تلقيحها يتوقّف على الطيور والحشرات، وهي تختار الجميلة للتلقيح.

ويغفل من أنّ كثيراً من النبات يتلقّح بالهواء لا بالحيوانات، ومن أنّ العجماوات قليلة الإدراك لما في المصنوعات الجميلة من الجمال، حتّى إِن بعضهم جعل ذلك أعظم فارق بين الإنسان وبينها.

وكان الأستاذ هكسلي ممّن يذهب إلى هذا المذهب .

ثمّ هب أنّ هذه الحيوانات الملقِّحة عُذْرِيَّةُ الهَوى والغرام، وهائمة بالجمال كعروة بن حزام،(1) ولكنّها لا تريد بذلك مغازلتها، لكي تختار أحسنها، بل تطلب رزقها المقسوم لها، وعند أيّ نبات وجدته لقحته حسناً كان أم قبيحاُ، ثمّ لا أدري بم يعلّل هذا الحسن(2) والانتظام الذي في الفواكه والأثمار، وما فيها من الطعم المحبوب والنكهة الطيّبة ونحوهما ممّا لا يوجد إلاّ بيد التلقيح .

ثمّ ذكر كلاماً، محصّله: أنّ دارون تَوَصَّلَ إلى الانتخاب الطبيعى بِدَرْسِهِ علم تحسين الحيوانات والنباتات، وأطال الكلام فيه ولا كلام لنا فيه سوى عِتابِهِ في أنّه نظر في علم التحسين الصناعي، ولكنّه لم يُثْبِتِ النَّظَرَ، ولو أثبته لتوصل به إلى أشرف وأسمى ممّا وصل اليه؛ لأنّه إذا كان إحداث /151/ محسّنات معدودة في نبات أو حيوان لا يكون إلاّ بإرادة حكيم قاصد لحصول تلك المحسّنات، عارف بما يناسبه من الغذاء والهواء والمكان ذي قوة مميزة بين المتّصف بالصفة الحسنة والفاقدة لها، والطبيعة العمياء لو تركت وشأنها لا يكون منها إلاّ خبط عشواء، ولا يأتي منها

ص: 124


1- قارن: الأغاني ج 24/283 لأخبار عروة و قصة حُبّهِ لعفراء.
2- الأصل: لحسن.

حسن إلاّ في ضمن قبائح، ولا القرب إلى تحسين مّا إلاّ مع البعد عنه بمراحل، فكيف بهذه المحاسن التي ملأت الفضاء، وكتبت آياتها على أوراق نجوم(1) الأرض إلى أشعة نجوم السماء .

أمّا أنه لو أصاب رشده لَسَمّى نظريته بالتحسين الإلآهي بدلاً عن التحسّن الطبيعي وربح خسارته عدد الأصابع من المعطّلين، ورضا ألوف من العلماء والفلاسفة وعامّة أهل الدين .

وقال في قياس الانتخاب الطبيعي بالصناعي ما لفظه: «فإنّها - يعني الطبيعة - لا تفتر لحظة(2) واحدة عَنْ جَعْلِ أقلّ التغييرات في الأحياء ممكنة فإن كانَتْ(3) جيدة حسنتها وإلاّ لاشَتْها» .(4)

لا أدري كيف تميّز الطبيعة بين الحسن وغيره، وهي بزعمهم عمياء!؟ وكيف تحسن وهي عندهم غير شاعرة!؟ ولذا تُبْقِي الحسن دون غيره، وهي على مذهبهم لا تقصد غاية . وهل /152/ هذا إلاّ خروج عن المذهب المادّي واعتراف بالأمرين الأَمَّرَيْنِ من العلقم(5) في أذواقهم؟ بل نقض للغرض الذي أُسِّسَتْ لأجله هذه الآراء، والتزام - بعد الصخب(6) واللغط، وارتكاب فنون من الشَّطَطِ والغَلَطِ - بما التزم به سائر العقلاء؟!

وكان اللائق بهذا أنْ لا يُفَرِّقَ بين النافع والضارّ، ويحكم عليهما معاً بالخضوع لناموس الوراثة، وتناقلهما معاً إلى الأعقاب حتّى تنتزع بعضها بيد المباينة، فربّما سقط بها النافع وبقي الضارّ، أو يسقط بعضها بعدم الاستعمال على ما يذهب إليه

ص: 125


1- النجوم - هنا - ما لا يساق له من النّبات، و منه قوله تعالى في سورة الرحمن/ 6: (و النجم و الشجر يسجدان) و فى الموضوع بسط لا يسعه.
2- الأصل: لحضة.
3- الأصل: كان.
4- فلسفة النشوء والارتقاء/ 95.
5- العلقم: الحنظل.
6- الصَخَب: اختلاط الأصوات.

لامرك، كما صنعه غيره من إخوانه، واختلق لذلك أنّ نوعاً من الحيوان نمت قواطعه لدرجة تعذر معها فتح فمه للأكل، فانقرض النوع . وقد انذر برانكو جيل البشر بمثل ذلك ، فقال: إنّ نمو الدماغ البشري سوف يُعْقِبُهُ انحطاط في الجسم، يمنع الإنسان من الارتزاق والتناسل، فيبيد نوعه.

انظر إلى ما بُلِيَ به هؤلاء من الخيالات الواهيةِ وَاشْكُرِ اللّه تعالى على العافية.

فما باله لم يلتزم بأنّ بقاء الأعضاء النافعةَ ومُلاشاة المضرّة لكلّ نوع بحسب حاله نتيجة الصدفة والاتفاق؟ أ تراه يرهب مخالفة العِيان، ويهرب من مصادمة الوجدان وهو مُقْدِمٌ على /153/ ما هو أشدّ منه بداهةً وأكثر وضوحاً؟ وكيف يُقْدِمُ على القول بها في جميع الكون من أدنى الأرض إلى أعلى السماء؛ ثمّ يَفْرُقُ(1)(2) من الالتزام به في بعضه، كعدّة من الأعضاء؟

وبالجملة هذا القول مما تبرّأ منه أهل الدين ولا ينطبق على أصول المعطّلين فلابدّ له من أحد أمرين، [1]: إمّا الإيمان بالخالق الجليل، [2]: أو الالتزام بمجرد الصدفة وترك التعليل؛ إذ ليس في وطابه سوى الانتخاب الذي عرفت أنّه إن صحّ فلا يغني عنه شيئاً في المقام .(3)

ثمّ ذكر قليلاً من واضحات ما أودعته الحكمة الإلهية في بعض أصناف الحيوان نذكره وليس ممّا يؤوب به، إذ يعرف أضعاف ذلك أقل أهل الإيمان ولكن - السريع - :

كُلُّ حَدِيْثٍ كان عن حُسْنِهِ *** يَعْشقُهُ القلبُ ويستعذبُ

لكِنَّ ما يرويه أَعْداؤُهُ *** عندي في شَرْعِ الْهَوى أَعْذَبُ

قال: «ولهذا السبب كانت الألوان التي تقى [بعض] الحَيَواناتِ مِنْ مُطاردة

ص: 126


1- هكذا في المصدر و الأصل.
2- أي يَفْزَعُ وَ يَخْشى.
3- قارن سورة النجم/ 28: «إنّ الظَنَّ لا يُغْنِى مِنَ الحقِّ شيئا».

أعدائها لها . وكان رأس منقار صغار الطير الرخص /154/ الذي تشقّ به قشر البيضة التي تكون [في] ضِمْنِها، ولون ناقر الخشب الذى يتسلّق الأشجار و يفتش على الذباب تحت القشر وتكوين مخالبه ومنقاره وَذَنبَهِ ولسانه لمناسبة(1) ذلك لجنس معيشته، ولهذا السبب عَيْنه كانت قوائم المِعْزى، السريعة العدو؛ وبصر الجوارح الحادّ وسلاحها القوي . وله أيضاً ولانتخاب(2) يسمّى جنسياً قرن الأيّل(3) القويّ وَعُرْف الدِّيْكِ، وكذلك طول عنق الزرافة التي ترعى أفانين الأشجار العالية» .(4)

لا أدري أيّ سببٍ عناه بخنر من قوله - ولهذا السبب - أ تمييز العمياء الصمّاء الجيّد من الرَّدِئٌ والنافع من غيره؟ أم عامل الانتخاب الطبيعي الذي عرفت أنّه بِمَعْزِلٍ عن قضية كون شيء لحيوان، بل أقصى مدارجه أن يقضي بالهلاك على الحيوان الفاقد له!؟ فهو لا يبيّن السبب فيما للحيوان من اللون الذي يقيه من مطاردة عدوه له، بل يبيّن السبب في هلاك الحيوان الفاقد لذلك اللون. وقس عليه سائر الأمثلة التي ذكرها.

ومن العجب أنّ بخنر يبني كتابه على مجرد الصُدفة والاتفاق وإنكار إتقان الصنع في المخلوقات، بل الاستهزاء بمن يَدَّعِيْ ذلك، ثمّ يتلو عليك هنا أدلّة الإثبات، و(5) /155/ أنّه ينقض بنيانه ويهدم ما بناه من التعطيل، وهو يزعم أنّه يشيد أركانه «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاْءَبْصَارِمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاْءَبْصَارِ/ 12» .(6)

وأمّا ما نقله عن دارون في السبب لطول عنق الزرافة، فمن أسمج التعليل وأبعد التَّخَرُّص، ولا يحضرني كتابه لأنظر آراءه في بقية الحيوانات، بل النباتات، ولو شاء

ص: 127


1- المصدر: لمناسبة.
2- هكذا في المصدر و الأصل.
3- الأُيَّل: حيوان من ذوات الظلف، و للذكور منه قرون متشعّبة خلاف إناثه.
4- فلسفة النشوء والارتقاء/ 95.
5- كذا و الظاهر زيادة: «هو يزعم».
6- الحشر/ 2.

أن يُطَوِلَ آذان الاْءَرانِبِ(1) وقرون الأيّل وأذناب البقر وخرطوم الفيل بمثل هذه التكلُّفات(2)، وفرض الأزمات المتواليات، إذاً يطول عناؤه ويقع في ورطات لا يرجى له التخلّص عنها .

على أنّه حاول إقناع أتباعه في طول عنق الزرافة فأوقعهم في الحَيْرَةِ العظمى وَأَتى المعطّلين بالطامة الكبرى، حيث حكم بتناسب الأعضاء في الجسم الحي وَفَصّلَهُ الشارِحُ بقوله: «وليعلم أنّ مثل هذه التحوّلات يتمّ بمساعدة قوّة شديدة يسمّيها دارون النمّو المشترك، ويراد به أنّ أعضاء جسم حي ذات نسبة ثابتة بينها لا تتغيّر، بحيث لو تغيّر عضو لوافقه تغيّر أيضاً مناسب له في سائر الأعضاء .

فقد شوهد أنّ طول القوائم يكون مع طول العنق، وأنّ الحمام القصير المنقار رجلاه قصيرتان أيضاً، وأنّ /156/ القطاط التي عيونها زُرْقٌ هِيَ عادةً صمّاء(3)، وأنّ الكلاب العديمة الشعر أسنانها ناقصة»، إلى آخره.

سبحان اللّه تكلّفوا وتمحّلوا لطول عنق الزرافة أَلْفَ تَمَحُّلٍ ليستغنوا بزعمهم عن الخالق عزّ وجلّ، فوقعوا لأجله في سلى(4) جَمَل(5)، ودهاهم ما هو أمرّ من الأول، أَلا سائلاً من هؤلاء عن هذه القوّة الشديدة ما سببها؟ وبأيّ ناموس توصّلت الطبيعة إلى حفظ التناسب بها؟ وإذا طال عنق حيوان بالتنازع أو كبرت كفّه بالاستعمال، لماذا يتبعه سائر الجسم بتلك النسبة مع أنّه لا يشمله ذلك السبب ؟

ص: 128


1- الأصل: الإرنب.
2- الأصل: التكليفات.
3- الأصل: إذ.
4- السّلى: ما تُلقيه الفّاقة إذا وضعت و هي جليدة رقيقة يكون فيها الولد من المواشى، و هذا مثل يضرب فى بلوغ الشّدّة ومنتهى غايتها، و ذلك أنّ الجمل لا يكون له سلى، فأرادوا أنّهم وقعوا فى شرّ لا مثيل له. راجع فى تفصيل هذا المثل مجمع الأمثال للميدانىّ. (عبدالستار الحسني)
5- كذا، ورد مع أنّ الصّماء صفة للمفردة المؤنثة، و الأصمّ صفة للمذكّر، والجمع صمّ، وقولهم في (الرضيّات): «الجذور الصّمّاء» من الخطأ الشّائع.

وهل يكتفي العلم عن فهم الحقائِقْ بمجرّد تسمية المجهول قوّة؟ أو يكفى لأن يدّعى الإنسان فيلسوفاً أن يضع اصطلاحاً من غير أن يبيّن علةً أو يكشف سبباً؟ إذاً قربت المسافة بين العلم والجهل، وَتَأَتّى لكلّ جاهل أن يضع اصطلاحاً لمجهولاته، ويدعو نفسه عالماً.

ثمّ إذا جاز لهم الإقرار بوجود ما لا يعرفون كنهه ويرون آثاره، فماذا الذي ينعونه على المؤمنين الذين ينبزونهم بالسُّذَّجِ البُسَطاء إذا(1) اعترفوا بوجود الصانع جلّ جلاله، لما رأوه من آيات حكمته وشواهِدَ قُدْرِتِه وإن عجزت عقولهم عن درك حقيقته ومعرفة كنهه ؟/157/

أ ظنّهم يعادون لفظ الجلالة ولا ينكرون سوى الاسْمِ المقدّس، ولو لم تكن أسماؤه تعالى تَوْقِيْفِيَّةً وجاز للمؤمنين التسمية بالقوة، لكفوا نزاع القوم واستراحوا من مناظراتهم .

ثمّ الوجه في حفظ التناسب بين أعضاء الحيّ ظاهر على مذهب المؤمنين السُّذَّج بزعمهم، إِذِ التناسُبُ مِلاكُ الحُسْنِ ودعامه، بل هو معناه وحقيقته، وَالْحُسْنُ أبدع كلَّ موجود وأهمّ ما يراعيه مفيض الوجود، فلا غرو أن يراعيه في مخلوقاته أحسنُ الخالقين .

وأمّا هذه الطبيعة العمياء، فلا أدرى أيّ غاية ترومها منه؟ وأيّ غرض ترمي إليه!؟

أَسَفاً على هؤلاء المساكين لا يَتأتّى لهم التكلّف في إنكار آية للتوحيد باعتراف بعدّة آيات، وأين المفرّ لهم ممن ملأت آياته هذا الكون من أدنى الأرض إلى أعلى السماوات !

ص: 129


1- الأصل: إذ.

فصل في الردّ على الانتخاب الطبيعي

اشارة

عرفت في أوّل هذا البحث أنّ المُهِمَّ الذي تترقّبه من هذه الآراء هو معرفة السبب الطبيعي المحض لهذه الأعضاء المختلفة لأنواع الحيوان، وقد كانوا يعلّلونها بالانتخاب الطبيعي، ونحن تلوناه عليك على عِلاّتِه، وَعَرَّفْناكَ أنّه عَلى /158/تسليم جميع مقدّماته ليس في وسعه أن يصنع جناح بعوضة وما فوقها ممّا منحته القدرة الكاملة للحيوانات المختلفة، ولهذا قام هذا المعطّل - الذي مبنى مذهبه الصُدفة والاضطرار - مقام موحّد يدعو إلى التوحيد بزعمه، ويبيّن الحِكَمَ الْمُوْدَعَةَ في المخلوقات بمقدار فهمه، ولا يدري أنّ ذلك لا يناسب إلاّ أهل الإيمان الذين لا يرون سوى شواهد التوحيد مسطورة على صفحات عالم الإمكان ، وما يحسن الْقَلْيان في يَدَيْ راعيةِ الضَّأن(1)، فلنرجع إلى كلمات سائرِ رؤسائِهم المتَّبَعِيْنَ(2) في آرائهم .

مذهب لامرك

ولنبدأ بمذهب لامرك، فإنّ الفضل الصحيح له وحده في هذا المذهب، كما يقول الشارح، ويقول: إنّه أوّل واضع له، حتّى جاء دارون وَوَفّاهُ حقّه من الاعتبار .(3)

يعتمد لامرك على عدّة أسباب، كالعادة، والضرورة، وجنس المعيشة، واستعمال الأعضاء وعدمه، والتصالب، وفعل الأشياء الخارجية.

ورأيت في غير الشرح أنّ عمدة اعتماد لامرك منها على البيئة، واستعمال الأعضاء وعدمه، وعلى العادة، والضرورة.

ص: 130


1- الضَّأْن: الغَنَمُ.
2- الأصل: المتبعون.
3- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 70.

فليعتمد على أيّها شاءَ فَأَكْثَرُها بِمَعْزِلٍ عمّا يرومه من السبب في حدوث الأعضاء.

مثلاً: استعمال العضو /159/ وإهماله الذي هو المهمّ في مذهبه على كلا النقلين، إنّما يجدي، إن تمّ في تعليله قوّة عضو أو ضموره أو فقدانه، وما نرومه من هؤلاء بيان السبب في أصل وجوده، فما نقل الشارح عنه من أنّ الخُلْدَ(1) ليس له عينانِ أِوْ هُما أَثَرٌ فيه، لأنّه لسكنه تحت الأرض، هو في غنى عنهما وعن النور.(2)

فلعمرك أنه من طريف التعليل ومعكوس الفلسفة، ولا أعرف له نظيراً إلاّ ما ينقل من أنّ أحدهم سأل بعض المغفّلين عن الرامي، لماذا يغمض إحدى عينيه؟ فقال: لأنّه إذا غمضهما معاً لم يبصر الغرض. وفيلسوفنا هذا يترك المهمّ من بيان سبب الأعضاء الموجودة للحيوان ويبيّن سبب المفقود منها فيه، ولك أن تتوسّعَ فيه وَتَنْسُجَ على مِنْوالِه وتُجِيْبَ مثل جوابه عن أمثالِهِ .

فإذا قيل لك: إنّ المرأة بأيّ سبب وُجِدَ(3) لها الثديان؟ فقل: إنّ الرجل ليس له ثديان، أو هما أثر فيه، لأنّه لعدم إرضاعه أولاده في غِنىً عنهما. أو قيل: لماذا طال عنق الزرافة؟ فقل: إنّ الغنم لم تَطُلْ أعناقُها، لأنّها لا ترعى أعالي الأشجار فكانت في غِنىً عنه. والانتخاب الدرويني أيضاً كما مرّ يكيل لك من هذا الجراب(4) وَيَمْتَحُ من هذا القليب(5)؛ لأنك إذا سألته عن السبب للون الظباء العُفر؟ أجابك بأنّ الظباء التي كانت ألوانها غير لون /160/ التراب، راحت فريسة السَّبُع(6) وطريدة القناص.

نعم، الضرورة التي ذكرها من الأسباب تَصْلُحْ لأن تَكُونَ هِى(7) الجواب، لكنّه لَعَمْرُ الفضلِ من الحكمة التي لم تخطر على قلب أرسطو أبي الحكمة وما كان يهتدي

ص: 131


1- الخُلْدُ: ضَرْبٌ مِنَ الْجِرْذانِ أَعْمى.
2- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 97.
3- الأصل: وجدت.
4- الأصل: الحراب / الجِراب: وعاء من جلد.
5- القليب: البئر.
6- الأصل: السابع.
7- الأصل: هو.

اليه سقراط ولو مكث في دنياه(1) ألف سنة

وشرح هذه الحكمة الجديدة على ما ذكره الشارح: «إن الجسم يوفّق للأحوال الخارجية ولاحتياجاته بقوّة نفسه»،(2) وإن لم تفهم - بعدُ - المراد، فلا ألومك فيه، فاستعن عليه بالأمثلة التي نقلها الشارح التي منها «والطيور المائية كالبط إنّما كان غشاء بين أصابعها لاحتياجها إلى العوم واعتيادها له [...] وميل الثور إلى النطاح سبب قرونه».(3)

وأنت إن شئت زيادة الإيضاح فاسمع لما نتلوه عليك من كلام الشارح، قال: «وأفكار لامرك تتشابه جداً مع أفكار أحد فلاسفة الألمان وهو شوبنهور، الذي يجعل مبدأ كلّ شيء في الإرادة، فإنّه نظير لامرك يقول: إنّ احتياجات الحيوان وإرادته سبب أعضائه، وكلّ أعراض جسم هي مفعول إرادة ذلك الجسم؛ فَقَرْنا الثور إنّما هو لميله وإرادتها النطاح، وسيقان الأيّل السريعة لإرادته العدو»(4) ./161/

فاتّضح أنّ الفيلسوف الأول يرى الاحتياج وهو من المعقولات الثانوية لا من الموجودات الخارجية سبباً لهذه الأعضاء الموجودة في الخارج، «لم يرض الملّيّون بالمادّة، وهي من الموجودات الحقيقية، أن تكون هي الموجدة، فأتاهم ما لم يكن في الحساب من الموجودات الاعتبارية.

وأظنّ الأمر سينتهي إلى الأعدام الصرفة» ولا يبالي بما يشاهده من الاحتياجات الكثيرة التي هي موجودة لصنوف الحيوان والنبات الآن .

فَما احتياج البط إلى العوم بأكثر من احتياج القطّ إلى جناح يطير به إلى أوكار الطيور ليهجم عليها في غفلاتها ويصطادها وهي في لذيذ سباتها .

ص: 132


1- الأصل: في دنه.
2- قارن: نفس المصدر السابق.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 72.
4- نفس المصدر السابق.

وما أحوج القمّل المسكين إلى أرجل كأرجل البرغوث يثب(1) بها من يد المُتَفَلِّيْ متى وقع عليه ناظره، ولا يستسلم له حتّى تقصعه أظافره .

ولا بما يرى من الاحتياجات التي تعترض لأفرادها من جائع يحتاج إلى قليل من الغذاء، وظامٍ لا يجد لروائه نغبة من الماء، فلا يرفع الاحتياج القادر على إيجاد الأشياء احتياجهما حتّى يقضى ذاك سغباً(2) وهذا عطشاً.

اللّهم إلاّ أن يكون قدرة الاحتياج على خصوص إيجاد الأعضاء لخصوصية لم يعرفنا هذا الفيلسوف بها.

وعلى أنّ هذا الرأي /162/ بُعده عن الحقّ كبعده عن الوجدان، ما أقربه اليه لو غير البيان، فقال: إنّ الاحتياج موجب لأن تلاحظه العناية الأزلية فتمنحها ما يلزمه ما لم تُزاحِمْهُ الْحِكَمُ والمصالحُ الخَفِيّةُ .

والفيلسوف الثاني يرى إرادة الحيوانِ مُوْجِدَةً لاِءَعْضائِهِ، والإرادة لا تكون لغير الحيّ، ولا أدري بأي إرادة وجدت الأعضاء التي هي لازمة لحياته في أول نُشُوْءِهِ وابتداء تحوّله!؟ ولو خلية واحدة؟

ولا يبالي كالفيلسوف السابق بما يشاهده من أنّ القطة لا ترى طائراً في عُشِّهِ على أعلى شجرة إلاّ وتريد أن تطير اليه ولا توجد لها إرادتها جناحاً تدنيها منه وتساعدها عليه.

ولا يبالي أيضاً بما يرى من أنّ كل فرد من الحيوان يريد في كلّ آنٍ ما لا يجد إليه سبيلاً ولا تغني إرادته فتيلاً، إلاّ أن يجعل قدرة الإرادة محدودة بحدٍ لم يعرفه أو لم يُعَرِّفْنا بِهِ .

ويشترك الفيلسوفان في القول بأنّ قرنَي الثور خُلقا بميله إلى النطاح، ولا يكترثان بما يعلمان من أنّ ميل الثور إلى النطاح ليس بأشدّ من ميل الإنسان إلى

ص: 133


1- يثب: يطفر.
2- سغبا: حوعا.

الجناح ليطير به في طبقات الْهَواء(1) إلى مَنْ بَعُدَ عنه من الأحباب والأَخِلاّء .

وهاهنا رأي آخر لفيلسوف آخر يسمّى بطلر، وهو: /163/ أنّ الطفل هو الذي يصنع عينيه في رحم أمّه .

وليعذرني القارئ الكريم عن جواب هذا الرأي، لأنّه أمر لا استطيعه إلاّ بمخالفة سنّة الآداب، وغيرها شرطي في هذا الكتاب .

ولا أدري ما أقول لمن بلغ مبلغ الرجال واشتغل بِفَنَّي التشريح والفيسولوجيا مدّة طويلة، وهو لا يعلم بعد كيفية صنع العينين، ولا جميعَ الحِكَمِ المُوْدعَةِ فيهما؟ ثمّ يزعم أنّه صنعهما في رحم أمّه .

هذه آراء القوم في تكوّن ما للحيوان من الأعضاء، وأنت - ثبّت اللّه تعالى في المزَالِّ وطأتك، وتولّى بلطفه هدايتك - في غنىً بسلامة الوجدان عن ردّها بوافي البيان، ولك في العجب بصدورها عن قوم يسمّون بالعلماء، ويعدّون في عداد العقلاء شغل شاغل من العجب بها، ولو لا أهواء كامنة في نفوس مقلديهم وشهوات تجعل غشاوة على أبصار متابعيهم لكانوا أشدّ منك تعجّباً منها، وأكثر استهزاءً بها، وأغرب ضحكاً عليها، ولكن نفوس وافقت هذه الآراء شهواتها فقبلتها على عِلاّتِها - من الخفيف - :

إنّما تَنْجَحُ المَقالةُ في الْمَرْ /164/ءِ إِذا وافَقَتْ(2) هَوىً في الفؤادِ(3)

لهم العذر من هذه الجهة إذ مجرّد اعتقاد الإنسان بأنّه متحوّل عن الحيوان لا يكفى لأن يَتَأَسّى بأجداده البهائم، فيقدّم على المأثم، ولا يتحرّج من المحارم، ويمتْطي غارب شهواته، ويستهتر في لذاته، إذ لا يَأْمَنُ مَغَبَّةَ الْفَظائِعِ(4) إلاّ بإنكار الصانع،

ص: 134


1- الأصل: الهوى.
2- المصدر: صادفت.
3- الشعر للمتنبي و مطلعه: حسم الصلح ما اشتهته الأعادي / و أذاعته ألسن الحسّاد.
4- الأصل: الفضائع.

ليأمن الوعيد فيفعل ما يريد .

قرأت في مقالة لأحد كتّاب العصر: أنّ الاستقراء التامّ يدلّ على أنّ معظم المعطّلين شهوانيّون، ومعظم الشهوانييّن معطّلون.

ثمّ ذكر ما يقع في المدارس العلمانية في فرنسا(1)، وَتَنَبُّهَ عُقَلائِهم لهذا الداء واتّفاقهم على أنّ ترك الدين والتعطيل هما اللذان سبَّبا هذا الدّاءَ الدخيل .

وإنّي سائل من هؤلاء سؤال عالم متجاهل «وكم عالمٍ بالأمر وهو يسألُ(2)»: عن العلم الذي كنّا نهدّد به، وكان يُخْشى على الدين منه، ويُعدّ الدين حجر عثرةٍ في طريقة، أ هو هذه الآراء وأمثالها؟ أما آن أن تُنصفوا وتعلموا أنّ الدين ليس حجر عثرةٍ في طريق العلم، بل هو حَجْرٌ صِحِّيٌّ وُضِعَ على حِمَى الأفهام، لئلاّ تَدْخُلَ فيها هذه الأوهام !؟

[رجع] إلى ما كُنا بصدده، ونحن نُعيد مطالبة هؤلاء /165/ بيان سبب طبيعيّ صِرْفٍ يمكن أن يحدث به الجناح لبعوضةٍ، ونتنزّل عن مطالبتهم بالأسباب الموجدة لسائر أعضائها وسائر أعضاء صنوف الحيوانات وأجزاء النباتات، ولا نُطالبهم بالدليل، بل نكتفي منهم بالإمكان إذا لم يكن ممّا يضحك منه وَتَنْبُوْا الأذهانُ المستقيمة عنه .

هيهات أنّى لهم ذلك؟ وقد حاوله قبلهم أُناسٌ كانوا لا يُقاسون بهؤلاء في حَصافَةِ الرأيَ وَسَعَةِ العِلْمِ وَحِدَّةِ الفهم، بأذهان كانت أورى من أذهانهم زنداً، وأمضى شباً وأرهف حدّاً، وقد دخلَوا عليه من بابه وَمَتُّوْا إِلَيْهِ بأسبابهِ، فما زادهم طول البحث وكثرة الفكر إلاّ حَيْرَةً عَلى حَيْرَةٍ، وبها ازدادوا بصيرة على بصيرة.

ولو لا خوف الإطالة والخروج عن موضوع الرسالةَ لتلوتُ عليك من كلامهم

ص: 135


1- الأصل: فرانسا.
2- هذا من قبيل: «و كم سائل عن أمره و هو عالم».

نُتَفاً وقصصتُ عليك منها طُرَفاً، وأخشى أن تزعم من هذا الإلحاح في المطالبة أنّ معرفة تلك الأسباب تفضي إلى التعطيل، ولهذا نجتهد في سدّ أبوابها كُلاّ، بل لا يتقدّم العقل فيها خطوة، إلاّ ويتقدّم في معرفة مسبّبها خطواتٍ، كما سمعت إجماله في أوّل الرسالة، وتسمع تفصيله في غير هذه المقالة.

وما هذه المطالبة وهذا الإلحاح إلاّ قضاءً لحق العلمَ وتمحيصاً للحقايق، وتنبيهاً لهؤلاء، على أنّ من يعجز علمه عن معرفة السبب لأقلّ الخلق، كيف يجسر على /166/إنكار الخالق؟

قال: «لا ينبغي أن يظنّ من ذلك أنّ دارون ينكر تأثير الأسباب التي يذكرها لامرك؛ كلاّ بل بالضدّ يعترف بتأثيرها، ويضعها في مقام رفيع بجانب الانتخاب الذي يعدّه في المقام الأوّل . والأسباب المذكورة(1) كما تقدّم العادة والاستعمال والضرورة، ومن الأمثلة التي يذكرها دارون يعلم ما لهذه الأسباب عنده من القيمة في أمر التغييرات الحادثة».(2)

ثمّ ذكر الأمثلة، وهي نظائِرُ الأمثلة المتقدّمة، وفيها ما تقدم بعينه

ثمّ قال: «ويعترف دارون [أيضا] بتأثير الأحوال الخارجيّة للحياة التي يعتبرها [كثيرا] جفروى سينتيليير(3) كالإقليم والتربية والقوّة والنور والهواء والأقسام اليابسة والمياه»، إلى آخره.(4)

هذه الفلسفة التي كان ينوّه بها ويعظّم أمرها ويطري دارون غاية الإطراء لأجلها، أخذ الآن يحطّ من شأنها ويحقّر قدرها .

ص: 136


1- المصدر: + هى.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 96.
3- كذا في الأصل / الصحيح: سينتيليار.
4- فلسفة النشوء والارتقاء/ 97.
مذهب التحوّل و الارتقاء عبر القرون

بيانه: أنّ مذهب التحوّل كان معروفاً قبله بقرون كثيرة، وعلى قول الشارح ص70: وُجِدَ في كلّ زمان من الفلاسفة والعلماء مَن قال به.

ووجدت في بعض كتب هؤلاء: أنّ أَوَّلَ مَنْ قالَ بِتَدَرُّجِ الإنسان عن الحيوان ابن الفضيل القيسيصاحب رسالة حَيّ بْنِ يقظان.

والارتقاء /167/ ممّا قال به لامرك ، وأوضحه ببراهين طبيعية، على ما ذكره الشارح ص 71.

فلم يبق لمذهب دارون من الفضل إلاّ جعل عالم الأحياء خاضعاً لناموس عامّ يشمله بأجمعه، ولا أقلّ لمعظمه، بحيث لا يشذّ منه إلاّ تغييرات طفيفة بعوامل ضعيفة.

وهنا قد نسب إلى دارون الاعتراف بما يعتمد عليه لامرك، وجعله لها بمقام رفيع، والاعتراف أيضاً بما يعتبره جفروى .

وزد عليه ما يذكره في أثناء كتابه من العوامل التي يعظم أمرها كتغيير التكوين الذي قال في المقالة الثانية ص 127 إِنّه لابدّ من التسليم به، ويقول هنا: إنّ دارونيظنّ أنّا غالباً لا نعرف شيئاً من النواميس التي تتغيّر الأحياء بموجبها، وأنّ ما نستطيعه من ذلك إنّما هو التأكيد بوجود هذه النواميس.(1)

ويقول في المقالة الثانية ص 124: «لو أطلقنا مذهب دارون على جميع الحوادث المقرّرة(2) أو على ظواهر الحياة أجمع، لوجدنا كثيراً منها لا ينطبق عليه، وربّما كان معه على طرفي نقيض، ويستدلّ منه على أنّ الطبيعة سلكت سُبلاً أخرى أيضاً لتحويل الأنواع.

ولا شكّ في أنّ هذه السبل عديدة جدّا، لأنّه من المسلّم أنّ الطبيعة في تفنّنها الذي

ص: 137


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 127: العبارة نقلت بالمعنى.
2- المصدر: المفردة.

لا نهاية له يَنْدُرُ أن تبلغ غايتها بسبيلٍ واحدٍ . /168/ وأنْ من رأي شارل فوجت حيث قال في بحثه عن مذهب دارون في غازت دكولوين، وقد أقرّ على صحّته: إِنّ طرقاً كثيرة تؤدّي إلى رومه.(1)(2) إلى غير ذلك من كلامه الذي لا يهمّنا استقصاءه.

وإِذا كان الأمر كما يقوله بخنر، لم يبق فضل لدارون إِلاّ تنبّهه لعامل واحد يشترك في الفعل مع العوامل الكثيرة التي ذكرها لامرك و جفروى وغيرهما، وعوامل كثيرة لم تزل مجهولة .

ومن الظاهر إن انصفت أنّ هذا المقدار من الاكتشاف ليس مأثرة يستحقّ صاحبها هذا الثناء، ويعدّ مخترعاً لفلسفة التحوّل والارتقاء.

وإِذا قُسّم الفضل فيه على عدد تعداد العوامل، فلينظر ماذا نسبة حصة دارون إلى حصة لامرك و جفروى وغيرهما؟

ولا يكفي للاعتذار ما يقوله الشارح هنا من أنّ الانتخاب الطبيعي هو العامل الأكبر؛ بعد اعترافه بأنّه يصعب، بل يستحيل علينا أن نعرف كم يخصّ كلاًّ من هذه الأسباب العديدة من كلّ من النتايج المختلطة الصادرة عن عملها المشترك، فللتحوّل نواميس كثيرة وعوامل عديدة معلومة ومجهولة، والمعلوم منها مجهولة مقدار فعلها، فكيف يعلم مع /169/ هذا وذاك أنّ الانتخابات الطبيعي هو العامل الأكبر ؟

والشارح يكتفي تارةً في فضل دارون بالتقدّم ولو خطوة في سبيلٍ كثير العقبات كهذه، ويغضّ من أنّ لغيره فيه خطوات، فلماذا صار دارون هو الذي نسب إِليه المذهب؟ على أنّ التنبيه لبعض عوامل التحوّل ليس بأمر خطير يذكر ولا بمأثرة تؤثر .

لقد هزلت حتّى بَدا من هُزالِها *** كُلاها(3) وحتى اسْتامها كل مُفْلِسِ(4)

ص: 138


1- جاء في هامش المصدر: و في المثل العاميّ: كلّ الدروب تؤدّى إلى الطاحونة.
2- فلسفة النشوء والارتقاء، ص 124.
3- أي الكليتان.
4- هذا البيت من معلقة أمرئ القيس إلى يضرب بها المثل فى الشّهرة فيقال: لأشهر من قفا نبك. (عبدالستار الحسني)

فإنّ الشارح بنفسه يزعم أنّه من جملة الذين تكلّموا بمذهب التحوّل قبل دارون بزمان طويل، وجعل أسباب ذلك فعل الأحوال المختلفة لسطح الأرض وتغييراً تدريجياً في الجراثيم من جهة أخرى .

وتارة يتهمّ دارون بما ينبغي أن ينزّه عنه كلّ فيلسوف ويقول في المقالة الثانية ما نصه : «إِنّ دارون كثيراً ما يذكر هذه الأحوال الخارجية إِلاّ أنّه لا يجعل لها فعلاً إلاّ مع الانتخاب الطبيعي، وما ذاك إِلاّ تفضيلاً لمذهبه لكي يجعل له المقام الأول، على أنّ فعلها الخصوصي عظيم جداً».(1)

سبحان اللّه، شيخ هذه الفلسفة ومؤسّس أركانها كيف /170/ يغضّ الطرف عن الحقيقة، ويجعل الانتخاب شريكاً لها، مع علمه باستقلالها، تفضيلاً لمذهبه وحبّاً لأن يكون لرأيه المقام الأوّل ؟ هذا من سوء الظن الذي قد يترفّع عنه خصوم دارون، فكيف يسوغ لحامل عرشه وتابعه في رأيه أن يتفوّه به؟ ولأن يُدْعى هذا لدارون جارحاً أَوْلى بأنْ يُعَدَّ لِمَذْهَبِهِ شارِحاً .

والذي أراه أنّ الانتخاب الطبيعي لَوْ سُلِّم وَسَلِمَتْ أدلّته من الانتقاد، فلا تحطّ شيئاً من قدره هذه العوامل وأضعافها، ولا ينقص من فضل دارون اعترافه بها، وأنّ بخنر أراد أن يشرحَ، فجرح، ويصلحَ، فأفسدَ؛ وذلك لأنّ هذه العوامل مهما بلغ عددها واشتدّ أثرها لا تؤثّر إِلاّ في تكوّن التباينات وإحداث الاختلافات، وهذا هو الذي يعترف دارون بعدّة منها ممّا ذكره غيره، ويزيد عليه الاعتراف بوجود نواميس كثيرة مجهولة مثلها، تعمل عملها، وتشاركها في فعلها.

وليس هذا تمام مذهب دارون ولا به معظم فخره، وإِنّما الذي اختصّ به هو أنّ

ص: 139


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 124.

هذه التباينات بِأَيَّةِ(1) علّة حصلت تختلف نتيجته في ميدان تنازع البقاء، فإن أوجب منها القوّة لأحد المتنازعين يقوى على خصمه فيبقى ويفنى غيره وينقل /171/ ما أورث الْقَوِيَّ الْفَوْزَ في التنازع بقانون الوراثة إلى نسله، وهكذا يَفْنى الضَّعِيْفُ وَيَبْقى القَوِيُّ مرتقياً حتّى تتحوّل وتؤلّف الأنواع الجديدة على ما سبق تفصيله وسبق ما عليه من الانتقاد.

وهذا الفعل - أعني التحوُّلَ وتألّف الأنواع - خاصّ بالانتخاب الطبيعي، لا يشاركه سائر العوامل؛ وإنّما هي معدّات لإِحدى مُقَدِّماته وهي تكوّن التباينات .

فقول الشارح: إنّ دارون لا يجعل لها فعلاً إِلاّ مع الانتخاب الطبيعي صحيح، وهذا معناه، لا ما فهمه منه وَمِنْ جَرّاه اتهمّه بما عرفناك به، وما أسباب حدوث التباينات إِلاّ كأسباب الوراثة؛ فهل إذا رفع المستقبل الحجاب عنها كما ترجّاه دارون تكثر شركاء الانتخاب الطبيعي؟

نعم، إن ثبت وجود نواميس تحوّل الأحياء وتؤلّف الأنواع بغير توسّط الانتخاب الطبيعي؛ يتّجه النقض بها على دارون يتبيّن بها النقض في مذهبه كمذهب تكوين الكثير الطبائع الذي نقله عن كوليكر الراجع إلى التحوّل الفجائي، واستطاعة بيوض الحيّة الدنيا وجراثيمها أن تتحوّل إلى صورة أخرى ونحوه،

وليس من قصدنا تصحيح مذهبه ولا موافقته على معتقده، وإِنّما نريد دفع ما /172/وقع فيه من سوء فهم أتباعه لكلامه دفاعاً عن الحقيقة وقضاء الحقّ العلم .

إنّ الإنتخاب الطبيعي لا يؤدّي إلى الارتقاء دائما

عاد كلامه: «ولا يظنّ أن تجمع الصفات الموافقة للفرد،(2) ودوام هذا التجمّع فيه يَسْعَيانِ به نحو الكمال في كل الأحوال؛ فإنّه مهما كان سلطان التحسين والتكميل

ص: 140


1- الأصل: بأيّ.
2- المصدر: في الفرد.

عظيماً فلا تحصل عنه هذه الغاية دائماً؛ لأنه قد يكفي أن يكون في الفرد امتياز ولو قليل المعنى حتّى يَقْوى على أَقْرانه ولو كان أضعف منها ولو في باقي الصفات .

وقد يكون الامتياز أحياناً سبباً للانحطاط كبر القد والعافية(1) حين فقد القوت .

وعليه فالارتقاء يصاحب تغيّرات الفرد غالباً، لا دائماً ووجوباً، فربّما تقهقر الفرد ووقع في الحؤول(2) كما في الدب الأسمر الحالي، فان أصله دبّ الكهوف الذي كان أكبر منه وأقوى، ولكنه انحطّ إلى حالته الحاضرة لتغيّرات في سطح الأرض وفي المسكن والقوت وما شاكل هذا.

وكذلك الديدان البطينة فإنّ أصلها من دودة كانت سابقاً في الخارج أكمل منها، ولكنها فقدت بعض أعضائها لتغيّر جنس معيشتها، فانحطت. والسريبيد حلزون مائي الذي كان له قوقعة كلسية لما كان مستقلاً، فتعرّى من قوقعته إذ صار حلمياً يعيش على حيوانات /173/ أخرى، وذلك نتيجة الانتخاب الطبيعي؛ لأنّ القوقعة النافعة له في الحالة الأولى لا تنفعه في الثانية، بل ربّما أخسرته(3) إذ تزيده ثقلاً لا معنى له .

وعلى ذلك فكلّ جزء لا يعود فيه فائدة يفقد رويداً رويداً .

ولنا في جَعْلان(4) جزيرة مديرا شاهِدا على ما يحصل الضرر بحسب الامتياز، فقد قال دارون: إنّ غالب الجعل هناك لا يطير، لنقص في جناحيه، وسبب ذلك عنده: أنّ ما كان منه قادراً على الطيران تسوقه الريح وتلقيه(5) في البحر وتهلكه، ولا يبقي منه إلاّ العاجز، فينتقل تكوينه منه إلى نسله، وهو لا يخرج من مكانه إِلاّ بعد طلوع الشمس وانكسار شدّة الريح، ويكثر قيامه في الأماكن الرطبة بجانب الصخور التي

ص: 141


1- المصدر: + في.
2- الحؤول: التغيير.
3- المصدر: اضرته.
4- الأصل: جعل.
5- المصدر: يسوقه... يلقيه.

تقيه من الريح؛ وإِذا وجد منه ما يطير في بعض الأماكن من الجزيرة المذكورة كان جناحاه قويّين جدّاً، لمقاومة الرياح، فذلك شاهد على الانتخاب الطبيعي مشتركاً مع عدم استعمال الأعضاء .

فمن هذه الأمثلة، وكثير غيرها، يعلم أنّ الانتخاب الطبيعي لا يؤدّي إلى الارتقاء دائماً، وإن أدّى إِليه غالباً على أنّ الارتقاء كثيراً أو قليلاً في العالم العضوي لا حقيقة له /174/واضحة.

ويلزم الانتباه إلى ذلك إذا نظر إلى الشئ على مذهب دارون؛ فإنّ الحال المناسب في ظروف معلومة من الزمان والمكان قد لا يناسب في غيرها؛ فإنّ التكوين الكامل - إذا كانت أحوال الوجود بسيطة - يكون نقصاً لا امتيازاً ، ولذلك كان الانتخاب الطبيعي - يجعل في مثله والحالة هذه - تقهقراً لا ارتقاءً.

ولا تنس(1) ما قلناه سابقاً وهو أن الانتخاب لا يكون في كلّ قوّته إلاّ حيث يكثر ازدحام الأحياء المتنازعة، ولهذا السبب كان وقوف بعض الأنواع وارتقاء البعض الآخر» .(2)

ثمّ أطال الكلام في بيان ذلك، وذكر أمثلته، والاعتذار عن الصور الموجودة الدنية أو غير الكاملة مَدى الأدوار الجيولوجية، على رغم الانتخاب الطبيعي، وأنّه كاد أن يضعف به مذهب دارون لو لا أنّهم وافوه بالبيان الشافي،(3) ونحو ذلك ممّا لا يتعلّق لنا غرض به فتركنا لذلك نقله .

ندع له المطالبة بأسانيد أنساب هذه الحيوانات التي ادّعى تقهقرها ولا نأخذه بما لخصومهم من الشغب عليهم، لجعلهم التقهقر في بعض الأصناف نقضاً على هذه الفلسفة، وعدّهم /175/ ذلك نقصاً فيها.

ص: 142


1- المصدر: لا ننس.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 97-99.
3- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 100-101.
إنّ افتقاد الأجزاء ينافي مقالة من يجزم بالارتقاء

ونقتصر هنا على سؤالين، تقدّمت الإشارة إلى أوّلهما وهو: أنّه بأيّ سبب طبيعي محض يفقد الحيوان المتقهقر أَجْزاءَهُ التي لا نفع له فيها - وليست ممّا يستعملها بإرادته، ليعتذر فيه بمذهب لامرك - كما في قوقعة السريبيد التي ذكرها؟

ولم لا يتبقّى خاضعة لناموس الوراثة، ينقلها إلى النسل، وإن لم يكن له نفع فيها!؟ بل، وإن أضّرته وزادته ثقلاً؟

ومن أين للصدفة العمياء هذه الشفقة على عالم الأحياء تدفع عنه المضّار وتحطّ عن جسمه الأثقال والأوزار !؟

ثانيهما: أنّ التقهقر الذي جزم به - فيما عدّه من الأمثلة - يحتمل في كلّ حيوان يجزمون بارتقائه، فلعلّ هذه الحيوانات الدنيا جلّها بل كلّها كانت في الأصل حيوانات مرتقية، فاقتضت بساطة أحوال الوجود ومناسبة ظروف مكانها وزمانها فقدان أعضاء كان بها كَمالُها، فلعلّ البرغوثَ والقُمَّلَ كانا في جسم الجمل، وَلكِنَّهُما(1) فَقَدا أَعْضاءَهُما لما صار حلميين يعيشان بغيرهما . وهب أنّه تَأَتّى لهم الوجه في عدّة منها فمن لهم به في جميعها ؟

وأمّا جعل جزيرة مديرا الذي زعم أنّ لهم شاهداً فيه، فقد نقض مشينكوف الاستدلال به، ولا تقوم بعد تجاربه /176/ قائمة لهذا الشاهد أبداً؛ لأنّه تفرّغ وهو في تلك الجزيرة، لجمع الجثث المطروحة في البحر وقاس اجنحتها باجنحة التي لم تطر فلم يجد بينهما أدنى فرق ؟

قال: «وقد ردّ دارون أيضاً على من يرى عدم ارتقاء كثير من الصور الحيّة تخطئةً لمذهبه، بما معناه: أنّ كثيراً من الحيوان بل غالبه فيه أعضاء موروثة لا فائدة لها، وقد تكون مضرّة لاختلاف أحوال الوارث عن الموروث عنه كرجلي

ص: 143


1- الأصل: لكنّها.

القرقاطة(1) مثلاً فإنّها في غني عن الغشاء بين الأصابع، لأنها لا تعوم كأجدادها التي كان(2) مثل هذا الغشاء لازماً لها. وأمثال ذلك كثيرة جدّاً في الحيوان والنبات.(3) ثمّ ذكر أعضاء كثيرة لحيوانات مختلفة زعم أنّها فيها أثرية.

ثمّ قال: «واعلم أنّ(4) الوراثة في الحياة الجنينية أظهر من(5) سواها؛ فإِنّ في الجنين في الأدوار الأولى من حياته شقوقاً على كلّ جانب من عنقه شبيهة بالأَصْداغ التي تتنفّس بها ذوات الفقر الدنيا التي لارئة لها . والشرايِيْن تنعكس على نفسها لتتصل بها، كأنّ التنفس الصدغي مزمع أن يصير، ثمّ يتغيّر هذا التكوين ويتحوّل إلى سواه.

والرئة [نفسها] في أعلى ذوات الثدي ليست إلاّ النفّاخة /177/التي يعوم بها السمك، ولكنّها نامية ومركبة أكثر منها.

والتنفّس في اللابيدوزير الذي هو بين السمك والحشرات في التكوين قائم بالأصداغ والرئتين معاً، ويرى فيه واضحاً، أنّ الرئة ليست سوى نفّاخة مفصولة بحواجز كثيرة جداً ومفتوحة إلى الفم.

ومبدأ التكوين الجنيني واحد؛ فإنّ جميع الحيوانات المختلفة تتشابه بعضها مع بعض في أوّل درجات الحياة الجنينية، وتنشأ جميعها من صورة واحدة أولية.(6)

ثمّ نقل كلام باير(7) واغاسيز(8) في ادعائهما تشابه الأجنّة في أول أمرها، انتهى(9) .

وقد تضمن هذا الفصل(10) من كلامه الاستدلال بالأعضاء الأثرية وبالصور

ص: 144


1- جاء في هامش المصدر: نوع من الأوز يعيش على الأرض خارج الماء.
2- الأصل: كانت.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 101.
4- المصدر: + في.
5- المصدر: منه في.
6- فلسفة النشوء والارتقاء/ 102.
7- المصدر: قال الشهير باير استاذ علم الأجنّة.
8- المصدر: و هو من خصوم دارون.
9- هكذا في الأصل / قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 102.
10- الأصل: الفضل.

الجنينية وقد أسلفنا الكلام عليهما في بحث أصل الإنسان .

انّ الأعضاء الأثرية لا يفيد التحوّل العامّ و لا يناقض اللاهوت

ونزيدك هنا أنّ هذه الأعضاء الأثرية لا توجد في جميع أنواع الحيوان، بل في أكثرها وغالبها، كما يقول الشارح فلا يثبت بها أنّ التحوّل ناموس عامّ لجميع الأحياء.

وفي كلام دارون المتقدّم دعوى أنّه لا يخلو جسم فرد من الحيوانات العليا منها

فإن صحّت هذه الدعوى، فلا تدلّ إلاّ على تحوّلها فقط، والمدّعى تحوّل جميع الأحياء - حتّى الدنيا - عمّا هو أدون /178/ منها، وقل مثل ذلك في تشابه الأجنّة، ولكن مَنْ سائِلٌ هذا عن هذه الدُّرَرِ التي ضنّ بها على السِّمْطِ(1)، فنشرها في خلال هذا البحث بلا ربط ، أعنى بها قوله: «والرئة نفسها في أعلى ذوات الثدي ليست إلاّ النفّاخة التي يعوم بها السمك».

وما ذكره بعده من تنفّس اللابيدوزير وما يرى واضحاً فيه، وعن الذي دعاه إلى هذا الفنّ المليح الواسع من العلم، الذي يمتدّ ولا يقف عند حدّ، أعنى ليست هذه إلاّ تلك، ولكنّها عاد كلامه: «فهذه الأشياء لا تتّفق مع المذهب القديم، أي مذهب الخلق؛ إذ لا معنى لها فيه، بل هي منافية له أيضاً، وربّما عبثت بعلم اللاهوت»، إلى آخره.(2)

يريد بمذهب الخلق مذهب استقلال الأنواع وعدم نشوء بعضها من بعض، ولكنّه عبّر عنه بمذهب الخلق لأمر سوف يذوق وباله، وهذا المذهب إن دافعنا عنه فهو دفاع علمي محض لا ديني، إلاّ في عدّة مسائل معدودة.

وأمّا سائر صنوف الحيوان أنشأت ونشأت انحطت أو ارتقت، فدلائل الصنع

ص: 145


1- السّمط: الخيط مادام فيه الخرز، و إلاّ فهو سلك. (عبدالستار الحسني)
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 103.

والخلق ظاهرة فيها، لائحة عليها، وقد مرّ في بحث أصل الإنسان ما يكفى القائل بهذا المذهب للدفاع عن قوله والنضال عن مذهبه.

وأمّا قوله: «ربما عبث بعلم اللاهوت»، فما قاله /179/ إلاّ لجهله بذلك العلم المقدّس حيث لم يكن من أهله ولم يعرف شيئاً منه، والاّ لعلم أنّ ذلك العلم أمنع حمىً وأعزّ جانباً من أن تعبث به هذه البسابس(1) أو تؤثّر فيه هذه الوساوس . وليت شعري، كيف تعبث به وهي أَحَدُ(2) شواهده ومن أَجْدى أدلّته؟

فهب أنّا سلّمنا وجود الأعضاء الأثرية في الحيوان، فهل هي إلاّ أعضاء وجدت بل أوجدت عند احتياج الحيوان إليها وتوقف معيشتها عليها!؟ ثمّ دفع عنه ثقلها عند استغنائه عنها ووضع عنه عبئها على ما اقتضته الرحمة الشاملة أوّلاً والحكمة آخراً، ولو لم يكن في صفحة الإمكان شيء سواه، لكان كافياً لكلّ من منح أوّل درجة العقل، ولم يفسد منه الوجدان، بأن يعلم أنّ للكون مدبّراً حكيماً يوجد الأشياء عند الضرورة ويعدمها لدى الاستغناء عنها تدريجاً، كما أوجدها كذلك، على ما اقتضاه النظام الأعلى وجرت عادته المقدسة في سائر الكون .

فانظر هداك اللّه تعالى إلى هذه الأشياء التي ذكرها، هل تعبث بالدين أو تعبث بلحيته وَلِحى أصحابه الماديّين الذين يرون الكون نتيجة الصدفة العمياء!؟ وماذا على الصدفة العمياء إن تبقى في الجسم ما لا نفع فيه من الأعضاء؟ أ تخشى أن يكون /180/ ذلك نقضاً في حكمتها أو منافية لقصدها !؟

ولو قال: إنّ سببه عدم الاستعمال، فهو - على أنّه إجمال على إجمال - لا يطّرِدُ في جميع الأعضاء، وقد سبق ذلك، ونعيده مع زيادة توضيح لاقتضاء المقام

ونقول: توسّع لامرك في هذا الناموس حتّى قال - كما نقله الشارح ص 71 - :

ص: 146


1- البسابس: جمع البَسْبس، أي الكذب و الباطل.
2- الأصل: إحدى.

«إنّ الطفل إذا ربطت إحدى عينيه ينتهي إلى أن يصير أعور، وإذا تكرّر ذلك عدّة أجيال يتكوّن نسل أعور»،(1)

وإذا انْتَهَت(2) المسائل العلمية إلى هذا الحدّ وانحطّت إلى هذه الدرجة، فلا تقابل إلاّ بدعوى أنّها تزداد قوة بالإهمال وتضعف بالاِستعمال، وأنّ الطفل الذي ربطت إحدى عينيه تقوى تلك العين جدّاً بعد حلّها. وتؤيّد بما هو معلوم أنّها تضعف بكثرة النظر والإحداق كما يتكّهم(3) السيف الصَّقِيْل(4) إذا أكثرت به الضِّرابَ

وتبقى الحقيقة مردّدة بيننا وبينه حتّى تفصلها التجارب، ولا يكفى في إثبات مثل هذا الناموس العامّ نَقْلُ قضيتين أو ثلاث، فإنّها تنقض بمثلها أو أكثر منها.

ولا نأخذه بأنّ المطلوب من الفيلسوف بيان السبب في مثله وأمثاله حتّى ينتهى إلى الصفات العامّة للمادّة التي لا تعلّل بزعمهم إلاّ بنفسها.

فالعلم بأنّ السيف يفقد مضاء حدّه إذا /181/بقي خارجاً عن غمده، معرضاً لرطوبة الهواء، يعرفه العامّي، كما يعرفه العالم، وإنّما يختصّ الفيلسوف مثلاً بِعِلْمِ أنّه تَصْدَأُ بذلك حديدته، فتذهب حدّته، وبمعرفة سبب الصَّدَأِ وسبب ذهابه بمضاء السيف، وهكذا.

فلا يكفي من يريد العبث باللاهوت هذا المقدار، فلعلّ أحد المؤمنين الْمَنْبُوْزِيْنَ(5) بالسُّذَّجِ عنده يقول: إنّ إِهمال العضو ملازم لعدم الاحتياج وعدم استفادة الحيوان به، فتحذفه حكمة خالق الأشياء عن سطر الأعضاء، لا أنّ ترك الاستعمال هو المؤثّر في فقده.

وببالي إنّي رأيت في كلمات هؤلاء ما معناه: أنّ الطبيعة لا تُبْقِيْ شيئاً بلا فائدة كما

ص: 147


1- فلسفة النشوء والارتقاء / ص 71 مع اختلاف يسير.
2- الأصل: انتهيت.
3- تَكَهَّمَ السَّيْفُ: صارَ كَلِيْلاً لاغَناءَ فِيْهِ.
4- الأصل: الصيقل.
5- الأصل: المنبوذين.

لا تحدثه بغيرها

وقد عرّفناك قبل بأنّ المعنى المعقول من هذا التعبير وأمثاله هو الذي يعتقده المؤمنون .

ومع الغضّ عن هذا وذاك، نقول: إنّ من الأعضاء الأثرية ما لا معنى لاستعماله حتى يكون ضموره أو فقده لإهماله، وذلك كالشعر المجلّل للجسد؛ فالإنسان الذي كان له في أدواره السابقة من الشعر ما يجلّل جميع جسده لا يعقل أن يكون سبب فقدانه إهماله الآن؛ إذ لا معنى لاستعماله في غابر الزمان، وكذلك القوقعة الكاسية للسريبيد ونحو ذلك ممّا لا داعي إلى استقصائه . /182/

إنّ الأعضاء الأثرية تُنافِي أصل الغاية

ولعلّه يرى سبب عبثها باللاهوت ما قاله هكل من أنّ فيها انتقاض دعائم التلولوجيا أي الأسباب الغائية؛ لأنّ من هذه الأعضاء ما هو غير نافع وقد يكون مضرّاً ومن ثمّ مغايراً للغاية .

إن كان الشرط في صحّة التلولوجيا وجود النفع للعضو في جميع أزمنة وجوده فهو منتقض قبل الدستيلوجيا، وكان من الواضح فساده. وإن لم يخلق دارون ولم يدوّن فلسفته ولم تَكُنْ إزالة الاعتقاد بالأسباب الغائية نتيجة أخرى لفلسفة دارون، ربّما كانت أعظم من مذهب دارون كما يقوله بخنر في المقالة الثانية(1): «إذ كان - فى عدم النفع لرجلي الرضيع إلى أن يستطيع المشي، وأعضاء تناسله إلى أن يبلغ، وفيها بعد أن يهرم ولا يستطيع مباضعة النساء، وفي رحم المرأة بعد اليأس، وفي ثدييها في غير زمن الإرضاع ونحوها - غَنِىً لإثبات فساده والفند على معتقده.

وإن كان يكفي فيه النفع في الزمان الذي خلق من أجله، فلا انتقاض لدعائم ذلك

ص: 148


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 113-114.

العلم ولا خطر عليه منها؛ غاية الأمر أنّ القدرة الأزلية يجري فيها على ما جرت عليه في نظام الكون أجمع من التدريج، فيعدمها تدريجاً كما أوجدها /183/كذلك على معتقدهم.

فكأنّ هؤلاء لا يرضيهم التلولوجيا إلاّ أن توجد الأنثيان والثديان للغلام. والجارية في أوّل زمان بلوغيهما دفعة واحدةً، ويعدمان دفعة في آخر زمان قابلية التناسل لهما»، إذاً لا أرضاهم اللّه تعالى عنه أبدا .

لا دليل على إرجاع الأحياء إلى أصل واحد

عاد كلامه: «على أنّ دارون لم يحصر الأحياء في أصل واحد، وربّما كان ذلك لعدم جسارته، لا لسبب آخر، فجعل الحيوان من أربعة أو خمسة أصول أُوْلى مخلوقة منذ زمن طويل كلّ أصل زوج وكذلك النبات».(1)

ثمّ نقل عنه كلامين صريحين في أنّ الأحياء أصلها واحد.

ثمّ قال: «فهذا القول غير قياسي، ويجعل المذهب ناقصاً، وربّما نقضه أيضاً، وقد قام الأستاذ برن مترجم دارون ضدّه؛ لأنّا إذا سلّمنا بأفعال خلق خصوصية لثمانية أو عشرة أزواج أصلية، فما المانع من إطلاق هذا الخلق على جميع الأحياء؟ وما الداعي بعد ذلك لتفسير ظهورها على سبيل طبيعي؟ لأنّه سيّان عند الفيلسوف حصول الفعل الخالق - كذا عبارته - مرّة أو مرّات، فالتسليم به ولو مرّة إقامة المعجزة مقام الناموس الطبيعي. فليس لنا إلاّ أن نتوسّع بمذهب التسلسل الذي وضعه دارون حتّى آخره، ونجعل العالم العضوي يشتقّ من صورة واحدة /184/ بسيطة جداً من الكُرَيَّةِ أو البيضية»،(2) إلى آخره.

ثمّ طفق في ذكر ما سوّلته له نفسه، ومثّلته له وسوسته، من البحث عن تلك

ص: 149


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 103.
2- نص المصدر السابق.

الصورة الواحدة البسيطة، ولا يهمّنا الآن ذلك إن كان دارون لم يحصر الأحياء في أصل واحد، فلا أظنّ له سبباً إلاّ أنّه لم يجد من الأدلّة ما يقوده إلى أزيد من العدد الذي يذكره، فنزّه فلسفته عن الجزاف ونفسه عن القول بغير دليل، بل سارَ مَعَ الدليل، حيث سار به، ووقف حيث وقف به، لعلمه بأنّ من سار بلا دليل ضلّ.

ولكنّ الشارح لمذهبه جرى على سوء ظنّه بدارون فجعل سببه، عدم جسارته فقط.

وإن كان السبب ما زعمه فليس ممّا يؤخذ به دارون، وينعى عليه فيه؛ إذ ليس عدم جسارته لما يظنّه الشارح، بل لأنّ العالم لا يجسر على القول بلا دليل، ويجبن عن الدعوى بلا حجة، والحكم بموجبة كلية لأجل قيام الدليل على موجبة جزئية .

والجمل التي نقلها الشارح عنه فيها من التهافت الواضح، ما لا ينبغي صدوره من مثله.

وأيّاً كان مذهبه هذا أو ذاك فما أَثارَ سخط الشارح عليه، وحمله على الوقيعة فيه إلاّ قوله: /185/ «نفخ فيها الخالق روح الحياة» ؛ إذ ليس في الكلام ما يسخن عينه وعيون الاْءَنْدادِ من ملاحدته، مثل لفظ «الخالق» جلّت قدرته، ونسبة الخلق إِليه.

ولو قال دارون: «نفخت الصدفة العمياء فيها روح الحياة» لنجا من العتاب، وما صبّ عليه أصحابه سوط عذاب .

وما هذا الإلحاح على إرجاع الأحياء إلى أصل واحد، إلاّ لأمر رامه، وقد عزّ مرامه، وغرض رمى اليه وقد طاش سهمه .

وهذا مقام مهمّ جداً، لابدّ من بيانه وتوضيحه، وإن أدّى إلى الإسهاب، ومدّ أطناب الإطناب .

ص: 150

تتميم فى الصلة بين القدرة الإلآهيّةِ و الأسباب الطبيعية

أعظم شبهة دخلت في أمر التوحيد على هؤلاء، وأكبر داعٍ لهم إلى التنويه بفلسفة النشوءِ والارتقاء هو: ظنّهم أنّ الموحّدين الْتَجَؤُوْا إلى الإقرار بالخالق حيث جهلوا الأسباب الطبيعية التي يَجْرِيءِ الكون عليها، وأنّهم رأوا حوادث عجزوا عن تعليلها لِنُقْصانِ علومهم فعلّلوها بالقدرة الإلآهيّة، ولو عرفوا الأسباب الطبيعية أجمع لدانوا - مثلهم - بترك الدين، واستغنوا عن الاعتراف بربّ العالمين. وحيث كانت هذه الفلسفة تتوسّع في بيان العلل الطبيعيّة للأحياء ولا تَدَعُ حادثاً فيها بلا تعليل إن لم يكن بالممكن فبالمحال أو باليقين، /186/ فبالاحتمال هاموا بها واعتنقوها، وجعلوا وَكْدَهُمْ(1) الإطراء عليها والذبّ عنها، ولو عرفوا حقيقة معتقد أهل الدين وأنّ معرفة الأسباب تزيدهم يقيناً على يقين لتركوها ترك الظبي لِكِناسه وظِلّه، وزهدوا فيها زهد المسافر فيما جفّ من زاده إذا قدم إلى أهله .

وما ذكرنا من عظمة هذه الشبهة عندهم، بل أنّه السبب الوحيد لإلحادهم أمر لا يحتاج إلى البيان؛ وإذا تأمّلت شرح بخنر ومقدّمتي معرّبه، وما تشدّق به في حقيقته(2) عرفت أنّا قد أَصَبْنا المحَزَّ ولم نُخْطِئ موضع الداء، وقد صرّح به أحد خطبائهم في مجلس حافل لهم في بلاد الإنكليز، وقال ما ملخّصه: «إنّ الأحياء إذا كانت تتحوّل وترتقى ينواميس طبيعية، فلم يبق حينئذٍ احتياج إلى ، ... إلى غير ذلك.

وقد رأيت الشارح كيف يجعل الخلق منافياً للسبب الطبيعي، ويسعى في تفسير ظهورها على سبيل طبيعي، ويتوسّع بمذهب التسلسل، لئلا يحصل فعل الخالق مرّة، المستلزم لجوازه مرّات

وأنّا اعتذر إلى القاريء إن كان من أهل الدين من بيان دفع هذه الشبهة، إذ الذي سأذكره ليس ممّا يخفى على صغار أطفالهم وغفلة /187/عوامّهم، ولكنّي أريد بيانه

ص: 151


1- الوَكْدُ: القَصْدُ وَ الْغايَةُ.
2- إسم كتاب له .

لهؤلاء الذين لا يعرفون واضحات الدين ولا المعلوم من عقائِدِ معتقديه، كأنّهم لم يروا أحداً من أهله، ولم يسمعوا كلمة منه. فنقول: وجود الأسباب الطبيعية مما لا ينكره أحد من العقلاء، فضلاً عن أهل الدين، ولا يخالف فيه أحد السوفسطائيين والشبطيقيين، - وهم إن عدّوا من العقلاء - فأهل الأديان منهم برّاء .

انّ الدين لا ينكر الأسباب الخارجيّة، و السببيّة

وقد عرّفناك في أوّل الكتاب أنّ المؤمنين لا ينكرون وجود الأسباب، بل يستدّلون بحسن ترتيبها وبديع انتظامها على وجوده وبديع حكمته وعظيم قدرته، ولهذا تراهم من أحرص الناس على معرفتها والبحث عن خباياها في خفاياها، فقد علموا أنّهم لا يتقدّمون فيها خطوة إلاّ ويرتقون من المعرفة درجات، ولا يتجلّى لهم سرّ للطبيعة إلاّ ولِلنُّوْرِ المقدّس فيه تجلّيات، هذه صعاب مسائلها، فهل ريضتها(1) غير أفهام أهل الدين، وهذه أبكار نواميسها هل افتُضّت بغير أفكار المؤمنين!؟

هذا ناموس الجاذبية العامّة ونواميس النور وغيرهما، هل رفع الحجاب عنها غير نيوتن وهو الملقب باللاهوتي الفاضل صاحب الرسائل الأربع إلى الدكتور تنبلي، وموضوعها دحض آراء المادّيين؟ /188/

وهذا دوران الدم في البدن هل اكتشفه غير هار في، وهو القائل: ما شرّحت حيواناً، إلاّ نظرت فيه شيئاً جديداً، ورأيت أدلّةً جديدة على العناية الإلهية تعالت قدرته؟

وهذا باستور صاحب التجارب في الاختمار يقول: في جواب من قال له: كيف تقدّر يا دكتور أَن توفّق بين اكتشافاتك العلمية والتعاليم الدينية؟ :

اعلم أنّ دروسي بدلاً من أن تزعزع اعتقادي جَعَلْتَني في إيماني كالفلاح

ص: 152


1- ريضت: طُوّعت، ذُلّلت.

البريطاني(1)، ولو كنت أكثر تعمقاً في العلم لربّما كنت أصير بإيمان الفلاحة البريطانية

وهذا وهذا ممّا لو عدّدناه لأملأنا مجلّداً ضخماً، والاستطراد لا يسمح لنا بأكثر مما نقلناه.

وأهلُ الدين لم يعترفوا بوجود الخالق جلّت قدرته إِلاّ بما عرفوه ضرورة بالأدلّة القطعية من حدوث المادّة وإمكانها، وضرورة انتهائها إلى واجب بالذات، وأدلّة كثيرة لا تحصي، ومنها: هذه العلل، كما عرفت، بحيث يعدّ عندهم من البديهات، ويحسب المنكر له مصاباً في وجدانه، ولم يستدلّ أحد - فيما أعلم - على ذلك بوجود حوادث لا يعرف لها علّة طبيعية، وإن ذكره أحدهم فلا شك أنّه ليس عنده هو الدليل الوحيد /189/ الذي يعتمد عليه، فإن تمت تلك الأدلة - وقد تمت - فلا تضرّهم معرفة العلل الطبيعية(2) ولا تضرّهم فلسفة النشوءِ بل فيها من النفع لهم أضعاف ما قدّروا من الضرر منها عليهم .

وأهل الدين، إذا وصفوا اللّه سبحانه بأنّه خالق الشيء، فلا يريدون به أنّه أوجد بمحض قدرته الكاملة الابتدائية، ولم يوسّط فيه غير إرادته المُقَدَّسة، بل يريدون به أنّه أوجد بإرادته واختياره، سواء أوجده بلا أسباب طبيعية أصلاً - كما فى العلة الطبيعية الأولى وهي المادة - أو القوّة بزعم هؤلاء، أو بتوسّط ألوف من الأسباب المرتّبة والمركّبة. كما في الأحياء الموجودة الآن. -

وكذلك إذا قال أحدهم: كنت مريضاً فشفاني اللّه، أو فقيراً فأغنائي اللّه، لا يخصّ هذا القول بما إذا كان شِفاؤُهُ عفواً بلا شرب الدواء، وغناه بِصُرَّةٍ في قَوْصَرَّةٍ نازلة من السماء، بل يقوله وإن تَجَرَّعَ الدواء مرارا مرّاً، وقطع الأرض للتجارة طولاً وعرضاً .

ص: 153


1- مثل فرانسوي يضرب لشدّة الاستمساك .
2- الأصل: الطبيعة.

وهذا ليس محض اصطلاح من أهل الدين، بل هو من الحقيقة التي يعرفها كلّ أحد، ويكرّره كلّ يوم في مجاري كلامه، فيقول: أحرقت الثوب، وهو لم يفعل شيئاً سوى أنّه جمع حطباً وأضرمه، ثمّ ألقى الثوب فيه، فَأَحْرَقَتْهُ(1) النار.

ويقول: /190/قتلت الصيد، وهو لم يزهق روحه بصرف إرادته، بل صوّب بندقته نحوه وأطلقها، والبندقة مزّقت أحشاء صيده، وهكذا.

ولا أريد بهذا المثال أنّ أفعال اللّه سبحانه كأفعالنا من جميع الوجوه، وأنّ استخدام اللّه سبحانه للأسباب الطبيعية كاستخدامنا لها، كيف والفرق بين الأمرين عظيم والشوط بينهما بطين!؟ وليس المقام مقام بيان ذلك، وإنّما أريد التمثيل لما ذكرنا من أنّ توسّط تلك الأسباب لا تنافي نسبة الفعل إِلى الفاعل . وأنّه إذا كنّا ننسب الأفعال إلى أنفسنا باستخدامنا قوىً لم تخلقها ولم نعرف حقائقها، فكيف بمن أوجدها لهذه الغايات؟ وعلم بها قبل وجودها؟ وهو القادر على ما يريد، وإن لم يوسّطها؟

وما ضرّ لويس بخنر أن يتعلّم واضحات الدين أوّلاً، ثمّ يعترض على أهله ويتهكم بِمُعْتَقَداتِهِمْ.

فهب أنّه لم يمكنه الاختلاف إلى كنائس أَلمانيا؛ لأنّ خَدَمَتَها لا يأذنون له في الدخول فيها، ولا سؤال الإكليروس، لأنّهم يكرهون معاشرته ويرغبون عن مكالمته، ولكن كان من الممكن له أن يسأل أحد أطفال المؤمنين ويقول له: من رزقك اليوم؟ ليقول: اللّه سبحانه.

ثمّ يقول له: كيف؟ ليقول له: إنّه تعالى هَدى(2) أبي للتجارة، فقدّر له الربح فحصّل دراهم /191/ واشترى عيشاً أوقع حبيّ في قلبه حتّى جعلني شريكه في زاده، بل آثرني على نفسه.

ثمّ يقول له: من خلقك؟ ليقول له: اللّه وأبي فلان .

ص: 154


1- الأصل: فأحرقتها.
2- الأصل: أهدى.

ولو فعل ذلك، لعلم أنّ دارون جرى على اصطلاح أهل الدين، فقال: «نفخ الخالق فيها روح الحياة»، ولا يلزم من كلامه إنكار السبب الطبيعي للحيّ الأوّل، ولا من التسليم به إقامة المعجزة مقام الناموس الطبيعي، وإنّ اطلاق الخلق على جميع الأحياء لا مانع منه، بل يمتنع غيره عند دارون إن كان كلامه هذا على وفق معتقده، ولا ينافي ذلك ما يذكره من أسباب ظهوره.

ولعلم أيضاً أنه لا معنى لقوله بعد ذلك: «بقى علينا ان نعرف مصدر هذه الكريات الأولى - أي أصل الصور العضوية الأولى التي يقول دارون إنّ الخالق نفخ فيها نسمة الحياة - [أ] تولّدت ذاتياً طبيعياً أم خلقت أودعت نواميس النمو على أنّ [الوقوف عند هذا الحدّ نقص في مذهب دارون، لأنّ] خلق الصورة إذا صح مرةً فلا مانع يمنع من تكراره مرات متوالية»،(1) إلى آخره.

إذ التولّد الطبيعي لا ينافي الخلق، وليس ذلك نقصاً في مذهب دارون، بل هو غاية كماله، إذ لم يقف عند ما انتهى تخرّص هذا وأصحابه.

وكذلك ما ذكره في مبدأ المقالة الثانية من أنّ الاعتراض اللاهوتي لم ينفه دارون صريحاً؛ بل أراد /192/ تقليل قيمته، بجعله الخلق محصوراً في بضع أصول قابلة كلّ تغيّر لاحق من نفسها، أولى بحكمة الخالق وعظمته، ولا حاجة إلى القول: إِنّ مثل هذا التعليل ساقط من نفسه . وكان في إمكان دارون الاستغناء عنه لو لا أنّه راعى حاسّات مواطنية الدينية؛ لأنّ قاعدة مذهبه الصُدْفة العمياء، وكلّه قائم على أفعال طبيعية لا شيء من القصد فيها، إلى آخر ما لا ثمرة في نقله .

فتراه يرمى دارون بأنّه ذكر خلاف معتقده، وأنّ فلسفته تنافي التوحيد.

أمّا مذهب دارون فممّا لم نتحقّقه، وقد قدّمنا في أول الرسالة أنّ أقصى ما ظفرنا من النقل عنه التحيّر، ورأينا نقل الإقرار بالتوحيد عنه أيضاً، وهذا أمر لا يهمّنا ولو لا

ص: 155


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 104.

أنّ بخنر متّهم في مثل هذا النقل، لقلنا هو أخبر به منّا.

وأمّا فلسفته فلا تبني على الصدفة العمياء كما أوهمته قلّة بصيرته، بل على التوسّع في معرفة الأسباب المقرّبة إِلى معرفة مسبّبها وأنّ امْرَأً يزعم المنافاة بين قيام المذهب على أفعال طبيعية وبين القصد، ولا يرى من نفسه القصد في جميع أفعاله مع بنائها على أفعال طبيعية لعجزه عن المعجزة، لا ينبغي تضييع ثمين الوقت بنقل كلامه و ردّه . /193/

انّ اعتبار الأصل الواحد للأحياء لا ينافي التوحيد

وهذا الرجل كما أنّه شديد الولع بإرجاع أصول الأحياء إلى صورةٍ واحدةٍ، لظنّه أنّ ذلك ممّا يضرّ بالدين، كذلك شديد الحذر من تعدّد الأصول، لظنّه أنّ ذلك ملازم للقول بالتوحيد.

وهذا جهل آخر منه فقبله كانت ملاحدة مثله لا يعرفون النشوء والارتقاء ويقولون باستقلال الأنواع ويختلقون لها أسباباً طبيعية، وهم يشاركونه في التعطيل، ولم يرد عليهم أهل الدين في غابر الزمان بتعدّد أصول الأنواع، بل بما يردون به القائل بوحدته الآن.

وبالجملة تعدّد أصول الأنواع واتحادها قضية علمية محضة، لا مدخل لها في الدين إِلاّ فيما عرفت، كمسائل الهندسة والحساب، وأيّهما كان فوجود الصانع الحكيم لخلقها لازم لزوم النور للظلّ والوجود للعدم .

ثمّ إنّ بخنر لمّا زعم أنّ قول دارون يجعل المذهب ناقصاً وربّما نقضه كلّف نفسه التوسّع بمذهب التسلسل الذي وضعه دارون، وجعل العالم العضوي مشتقّاً من صورةٍ واحدةٍ بسيطة جدّاً، وأَلجأته خاتمة البحث عن أصل تلك الكرية إلى مسألة التولّد الذاتي، ولكنّه خرج عنها بلا محصّل، بل اضطرّ أخيراً إلى الاعتراف بأنّ

ص: 156

الامتحانات لا تؤيّد حدوث التولّد الذاتي، ولكنّه جرى على ما عرفناه /194/من عادته وعادة أصحابه مهما أعوزتهم الحيل، وهو تعليق الأمل بالمستقبل وعدم موافقته للأحوال الأرضية الآن.

ونحن لا نُمِلّ القراء بنقل كلامه وانتقاده، وإنّما نذكر كلمة من هذه المسألة، لأنّها مسألة مهمّة وهي المحور الذي يدور عليه علم الأحياء اليوم - كما يقول بخنر - وكانت تعدّ من أهمّ المسائل في القرن الماضي - كما يقول غيره - وقد تداولوها بصبغه دينية، وقد قامت لأجلها حرب شعواء(1) بين المؤمنين والملحدين، وهي أيضاً علمية محضة، ونحن نسمعك أوّلاً حديث تلك الحرب، ثمّ نبيّن إن شاء اللّه أنّ الدين بِمَعْزِلٍ عنها وعلى الحِيادِ فيها وفي أمثالها .

المنافسة العلمية بين المادّيين و باستور في عدم استغناء الطبيعة عن الواجب

زعم المادّيون: أنّ في إِمْكانِ التولّد الذاتي إمكان الاستغناء عن الواجب، فَأَصَرُّوْا على ذلك، وقاومهم أهل المذهب الروحي أشدّ مقاومةً، وطال بينهما الخصام إلى أن استتبّ الفوز لأصحاب ما فوق الطبيعة في أَكاديمية العلوم الفرنساوية بتجارب زعيمهم باستور، فَدَحَرَ المادّيين ونكصهم على أعقابهم حمر الأخادع.

وأصل ذلك: أنّه كانت المذاهب مختلفة في سبب الاختمار إلى أن قام باستور فأثبت أنّه تغيّر كيماوي يسبّبه وجود أحياء /195/ ميكرسكوبية تنتشر وتتكاثر بمساعدة بعض عناصر الوسط المستعدّ للاختمار، فظنّ الماديون أنّ تلك الأحياء تتولّد في نفس الوسط المعدّلة بسبب كيماوي، فصالوا على أهل الإثبات قائلين: إذا كان من الممكن أن يتولّد من المادّة الفاقدة الحياة أحياء بسيطة التركيب، يرجّح أن

ص: 157


1- الشعواء: الفاشية المتفرقة.

تكون هذه الأحياء قادرة على أن ترتقي بالتدريج تبعاً لناموس النموّ الطبيعي، وعلى هذه الكيفية تحوّلت الأحياء المتناهية في الصغر إلى حيوانات أكبروأ كمل إلى أن بلغ أقصى ما نراه مع طول الزمان، وربّما كان منها أصل الإنسان .

وأنكر ذلك عليهم خصومهم واحتدم النزاع، وطال الجدال.

فلمّا رأت الآكاذيمية الفرنساوية أنّ المشاحنة(1) قد طالت بين الفريقين أرادت قطعها، فجعلت لمن يأتيها بالبرهان القاطع جائزة قدرها ألفان وخمسمائة فرنك .

وكان الطبيعي بوشيت، وهو أعظم أنصار التولّد الذاتي مشغولاً طول هذه المدّة بتجارب ظنّها أقوى دليل لمذهبه، ولمّا طالبته الأكاديمية بإظهار تجاربه أَتى بقنينةٍ وملأها ماءً حرارتُه مأة درجة، وبعد أَن أحكم سدّها قلبها وغطسها في دَنٍّ مَمْلُوْءٍ زئبقا، ثمّ أخرج السدادة، وأخذ يدخل إلى جوف القنينة(2) بأقة(3) تِبْنِ(4) مع قليل مع الأكسيجين، ولم تمض أيّام قليلة حتّى ثبت وجود الاختمار رغماً عن حرارة التبن التي كان يجب أن تقتل الجراثيم.

فأخذ أنصار التولّد الذاتي ينادون بالغلبة والانتصار، لكن لم تدم لهم مدّة الفرح بتجربتهم؛ لأنّ باستور أعاد التجربة، فقرّر: أنّ الجراثيم كانت تدخل في القنينة بملاسة الزيبق المعرض للهواء، وأراد أن يسدّ باب هذا الخلل، فبعد أن أدخل المادة القابلة للاختمار القنينة سدّها بسدادة يخترقها أنبوب بلا تين محمّى، حتّى لا يدخل الهواء القنينة، إِلاّ وحرارة الأنبوب قد أهلكت الجراثيم التي ينقلها، فلم يتم الاختمار؛ وأعيدت التجربة مراراً فكانت النتيجة واحدة، وبما أنّ حرارة الأنبوب كما تقتل الجراثيم قد يقتل بعض العوامل التي باختلاطها مع الهواء، ربّما تَكُوْن ضرورية للاختمار أعيدت التجربة بأنبوب أوسع، لكنّهم حَشَّوْهُ بقطن حتّى أصبح شبيهاً

ص: 158


1- المشاحنة: الحقد.
2- القنينة: إناء من زجاج يجعل فيه الشراب.
3- الباقة من البقل: حزمة منه.
4- التبن: عصيفة الزرع من البرِّ و نحوه.

بمصفاة، ومع هذا لم يحدث الاختمار؛ لأن الجراثيم كانت تجتمع في كتلة القطن.

فكانت هذه التجربة ابتداء نجاح باستور، واستفزّت تجربته إعجاب الآكاديمية. فأعلنت نيل باستور الجائزة، وفوزه على مذهب التوالد الذاتي، ولا تسل ما جرى بعده على بوشيت المسكين حُرِمَ الجائزة، وحرمانه سمعة /197/الاكتشاف أعظمُ خجلٍ لدى خصمه خجله لدى الماديين الذي علّقت آمالهم بتجاربه أكثر .

ولعلّ إلى هذه الحرب العلمية أشار الشارح فيما تركنا نقله من كلامه، ونقل عن جستاف جيجير أنّ أصحابه الطبيعيين ضاق عليهم مجال البرهان حتّى آتوا على بينات يسخر بها(1) .

إنّ التوالد الذاتي لا يوجب القول بالتعطيل

وَلَعَمْرِي إنّ باستور - وإنْ رَمى الإلحادَ بقاصمة الظهر، وأبقى له من الذكر ما لا يُنسى مدى الدهر - ولكن هذا النزاع بِمَعْزِلٍ عن الإثبات والتعطيل، كما فرغنا من بيانه، وَأَرْشَدْناكَ إلى جَلِيَّةِ الأمر وتبيانِه.

ومن مُضْحِكات العِلْمِ، بل مُبْكِياتِه(2) أنّ جماعةً ينتمون إلى العلم بَنَوا أهمّ مسائله وأشرف مقاصده أجمع على أنّ ابتداء خلقة تلك الحيوانات في داخل القنينة أو في خارجها، فإن كان فيها يثبت التعطيل ويُسْتَغْنى عن الخالق تعالى، وينهدّ ركنُ الإثبات، كأَنّ القدرةَ الكاملة التي وسعت كلّ شيء(3) لا تقدر على الدخول في القنينة، ويمنعها التَّعقيمُ العلمي، ولا يكون في انتظام أعضاء تلك الحيوانات /198/ووجود

ص: 159


1- وفي بعض المجلات العلمية نقل تجربة في توليد الأحياء في سوائل عن الدكتور بستيان اجراها في الجمعية الطبية ببلاد الإنكليز، وهي قريبة ممّا نقلنا عن بوشيت، ونقل أيضاً إنكار تندل و باستور عليه . (منه)
2- و قد قيل قديماً: شرّ البليّة ما يضحك. (عبد الستار الحسني)
3- قارن: الكافي ج 2/394: «انبسطت يداه و وسعت كلّ شى ء رحمته».

لوازم حياتها شواهد على أنّها صنع قادرٍ حكيم.

«لم»؟ لأنّها وجدت داخل القنينة، وتلك الزجاجة الرقيقة التي تكسر البراهين القوية الدالّة على إمكانها، وإن كان ابتداء خلقها في خارجها تبقى أدّلة الإثبات سالمة ومداخلة القدرة الإلهية لإيجادها لازمة.

وأنا أكرّر عليك ما نبّهتك عليه وأقول: إنّ أهل الدين يقولون إنّ الكون أجمع بما فيه من الشموس والأراضي والأقمار، وما فيها من الجماد والنبات والحيوان ممكن مخلوق، أوجده الباري عن قصدٍ واختيار، وكلّ ما يوجد فهو بخلقه وفعله ان أوجده بلا سبب طبيعي، فهو القادر على ما يريد وإِن أوجده بأسبابٍ، فهو الموجد له ولأسبابه، ولكن جرت عادته المقدّسة غالباً على الثاني، لأنّه أتقنُ للصنع، وأدلّ على الحكمة، وفيه تمام المصلحة وحفظ النظام وارتباط بعضه ببعض وغير ذلك ممّا لا يمكن إحصاؤه، وستسمع طرفاً منه إِن شاء اللّه تعالى في المقالة الآتية.

ولا يخصّ أحد منهم صفة خالقيته بما لم يكن له سبب طبيعي.

وكما أنّهم لم يعترفوا بوجوده تعالى لظنّهم عدم كفاية الأسباب الموجودة في الكون، بل بهذه الأسباب وحسن انتظامها وبديع ترتيبها عَرَفُوْا عظمة خالقها، واضطروا إلى الاعتراف بوجوده، فكلّما كانت أتمّ وأكمل كانت على معتقدهم أدلّ؛ فإذاً ليس التولّد /199/الذاتي إِلاّ خلقه تعالى للحيّ بعد إيجاده المعدّات له، وجمعه الأسباب اللازمة التي قرّرها لوجوده، ولا فرق بينه وبين الخلق من الجرثومة أو البيضة أصلاً.

فكما تفننّت القدرة الكاملة في إيجاد النبات فجعل بعضه يوجد بواسطة البزر وَ يُقال: البَذْر وبعضها بواسطة البراعم بطرقها العديدة؛ كذلك تفننّت في إيجاد الحيوان، فجعل بعضه يوجد من بعضه بطريقة تقسيم الحيّ نفسه إلى شطرين، أو بإحداث زيادة متصلة به، كما في الحيوانات الدُنيا، وبعضها يخلقه من بيضة تفقس خارج

ص: 160

المبيض - كما في الطيور - أو داخله - كما في الحيوانات اللبونة - وبعضه بالتولّد الذاتي باصطلاحهم.

وسمعت قديماً أحد أعاظم أهل العلم يقول: إنّ التولد الذاتي أدلّ على التوحيد، وأظهر في الاحتياج إلى الخالق.

وإِنما أطلت الكلام، مع أنّه من الواضح الذي لا يحتاج إِليه؛ لأن مسألة التولّد الذاتي من أعظم ما يشتغل بها أهل العصر، فلا يبعد أن يتمّ لهم بطريق ما لم يتمّ لبوشيت، فتعود الحرب جذعة، ويستظهر هؤلاء بما لا حجة لهم فيه، لأنّه كما عرفت ليس من الدين في شيء وإنّما هي علمية صرفة .

نظرية التولّد الذاتي موجودة في العصور القديمة

والتولّد الذاتي أمر معروف من قديم الزمان وكانوا لنقصان تجاربهم، يعدّون منه بعض العقارب والفأر وأقساماً /200/ من الذباب وسلابيح الماء ونحوها(1).

والإلحاد، ليس من مخترعات هذا العصر، ولا بمذهب لا يوجد في غير الغرب، ولم يستظهر به أَحد من الملحدين فيما نعلم، ولاخصّ غيره بالاستدلال أحد من المؤمنين، كيف وهم أكيس من أن يمنعوا التولّد الذاتي لعلمهم أنّ تناسل الأحياء لابدّ أن تنتهى اليه، وإلاّ لزم التسلسل الذي هو ضروريّ البطلان عندهم، والمجوّز له من هؤلاء، لا منهم، وإن كان لابدّ منه، فما يمنعهم من القول به الآن إن سدّدته شواهدُ الامتحان(2)، فاجعل ما ذكرناه نصب فكرك.

وأعجب من الملحد العصري، كيف يقول: لم يكن للمؤمنين إلاّ خلق الأحياء؟ .

ص: 161


1- الأصل: نحوه.
2- وقد ذكر الشيخ في آخر الفنّ الخامس من طبيعيات الشفاء [ج2/ 77، كتاب المعادن] كلاماً مسهباً في إمكان وجود الأحياء بالتولّد دون التوالد، وقرّبه أحسن تقريب وأزاح عنه كلّ شبهة .

وقد ثبت الآن أنّ الكهربائية تقدر أن تخلق أحياء، كاملة.

وانظر إلى أيّ درجة بلغ الرجل من الجهل بمراد أهل الدين، ولقد كرّرنا القول في ذلك إلى أن سئمنا وملّ السامعون، والقوم بعدهم في ضلالهم يعمهون،(1)

فكم أَبَنّا عن أنّ المؤمنين يقولون بأنّ اللّه تعالى خلق الخلقَ جميعاً، بأسباب خلقها ونواميس قد /201/ سنّها، وأجرى بحكمته عليها الأشياء، مع قدرته على ما يشاء كيف يشاء.

وما الكهربائية التي نسب الخلق إليها؛ إلاّ كسائِرِ الأسباب والمعدّات للأحياء الأُخَرِ.

فإن كان الرجل لا يرضيه إِلاّ خلق الشيء بلا سبب موجود، ولا معدّ سابق، ففي الأحياء الكاملة العالية غِنىً له عن هذه الأحياء الضعيفة الدانية التي لم يثبت وجودها إلى اليوم، فيما تعلم.

إذ الأحياء العليا لا توجد إلاّ من بيضة يلقحها الرجل، وتشتمل عليها رحم الأنثى، إلى آخره.

فهلاّ قال: إنّ تلك الأسباب قادرة على خلق أحياء تامّة، وإن كانت الأسباب غير منافية لمذهبهم، بل كانت من أقوى أدلّتهم؟ فما هذا الذي ثبت الآن ممّا لم يكن معلوما فيما سبق من الزمان؟ وما هذه القدرة التي اختصّت بها الكهربائية من بين سائر الأسباب .

وما جهله هذا الواضح بأعظم من خَطَئِهِ الفاضح في قوله: «لم يكن للمؤمنين إلاّ خلق الأحياء»

كأنّه ليست في الكون شموس مضيئة، ولا أقمار منيرة، ولا كواكب دُرّية ولا . ولا .

أَما درى (لادَرى): أنّ تلك الكهربائية التي زعم فيها ما زعم لا تقصر عن تلك

ص: 162


1- قارن: سورة الأعراف/ 186: «و يَذَرُهُمْ فى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» و غيرها.

الأحياء، في الدلالة على ما يذهب إِليه أهل الإيمان، بل دلالتها أتمّ وأعظم . /202/

الحكم القاطع بما جاء في شرح بخنر

هذا تمام انتقاد المقالة الأولى من شرح بخنر، ممّا أهمنا التعرّض له، وتركنا سواه، على أنّ مجال النقد فيه واسع، بل لا بحث فيها إلاّ وفيه مباحث، ولكن فيما ذكرنا كفاية لما أردناه من البحث في جوهريات فلسفة التحوّل وتعليله على الرأي الدرويني.

وتركنا نقد سائر مقالات كتابه؛ لأنّ أكثر ما فيها يتراوح بين التهكّم والاستهزاء بالأديان، وبين الإسهاب في تراجم الماديين.

ولئن يكون كتابه شعراً منثوراً في هجاء الدين أو معجماً في تراجم المادّيين؛ أَوْلى مِنْ أَنْ يكون(1) شرحاً لمذهب دارون.

والقليل الذي يُناسب ما قصدناه فإنّا نتعرض لنقده في المواضع اللائقة به إِن شاء اللّه.

وإنّما نذكر هنا سائر الوجوه التي يمكن التعويل عليها في إثبات التحوّل والارتقاء؛ فإنّ بخنر ترك بعضاً، وأجمل القول في بعض آخر، ونقول:

تكملة في الإجابة عن بعض الشكوك

ربّما يستند فيه إلى ما مرّ في بحث أصل الإنسان من وجود هذه النواميس في الكون ضرورةً، واللازم من وجودها وقوع التحوّل والارتقاء بها.

ويقال في الجواب: إنّ هذه المقدّمات - إن تمّت وسلمت من الانتقاد - لا يثبت بها سوى إمكان وقوعهما، والممكنات في عالمها غير عزيزة؛ لأنّها تتوقّف:

أوّلاً: على /203/ اتّحاد أصول الأحياء في أصل الخلقة أو قلّتها، وهذا ممّا ينازع فيه خصوم هذا المذهب، وإثبات ذلك بهذه المقدّمات مصادرة واضحة.

ص: 163


1- الأصل: بأن يكون.
إنّ عمر الأرض ينافي مذهب الارتقاء

وتتوقّف ثانياً: على أن يكون عمر الأرض بمقدار يمكن أن تعمل هذه العوامل البطيئة باعترافهم عملها، والمعلوم من عمر الأرض لا يسع أزيد من هذه الاختلافات التي نشاهدها بين أصناف نوع واحد.

وما في مذهب دارون من تقدير عمر الأرض بمقدار يسع حصول هذه التنوّعات، ليس بأمر أقام عليه الدليل؛ بل هو فرض آخر رمّم به ما وَهى من فرضيته، فقال مانصّه : «إنْ صحّ مذهبي، فلابدّ أنّ الزمان الذي مضى قبل تكون الطبقات الكمبرية السفلى، والذي يجهله كان طويلاً جداً».

فهو كما ترى غاية همّه أن لا يثبت خصومه قصر عمر الأرض فَيُقَوِّض(1) ما بناه، ولا يطمع في أن يثبت طوله فيكون دليلاً له . ولكنّه لم يَسْلَمْ من هذا النقض فإنّ طمسن بيّن: «أَنّ يبس قشرة الأرض، لا يمكن أن يكون قد تمّ في أقلّ من عشرين مليون سنة، ولا أكثر من أربعمائة مليون سنة، وأنّه يقتضي أن يكون بين ثمانية وتسعين مليون سنة وبين مأتي مليون سنة».

و دارون لم يزد في ملاحظته على تحديد طمسن على قوله: «إِن الفرق /204/ بين هذه الحدود يدلّنا كم هي الأدلة الضعيفة» ثمّ التجأ إلى فرض آخر، ليدفع عن فرضيته الاعتراض فقال: «يمكن أنّ الأرض كانت في أطوارها الاْءُوَلِ معَرَّضَةً في أحوال الطبيعة، لتغيّرات أسرع وأشدّ ممّا هي الآن، فحصلت تغيّرات أسرع كذلك في الأحياء التي كانت تقطن سطحها في هذه الأزمان البعيدة»

وصاحب الحقيقة معرّب شرح بخنر - وإن قال أوّلاً: إنّ أسخف الاعتراضات ما تعلّق بالزمان - ولكن لم يقطع يراعه الذي يسيل براعةً بضعة عشر سطراً، حتّى قال: «هنا اعتراض صعب».

ص: 164


1- يقوض: يهدم.

وذكر تحديد طمسن المتقدم، ثمّ قال: والحقّ يقال: إنّ مذهب الانتقال، وإن كان يعلّل به أشياء كثيرة لا تفهم بدونه، لكن لا ينكر أنّه ناقص كما بسطه دارون .

تغيير في التحوّل الفجائي

ولخصوم هؤلاء معهم مجال واسع في المناظرة في هذا النقض، حتّى التجأ بعضهم إلى التحوّل الفجائي، ولم يبعد عنه دارون كثيراً حيث التزم بإسراع النشو، ولايهمّنا أمرهم، وقعوا في أحبولته(1) أوأفلتوا منها، وإنّما أردنا بيان أنّ الاستدلال على وقوع التحوّل بوجود النواميس لا يتمّ إلاّ بطول الزمان، وهو ممّا لم يثبت ببرهان .

وهذا الرأي - وإن سمّاه بخنر: «اكتشافاً» وضرب /205/ معرّب شرحه على قَيْثارَتِهِ، بل زاد عليه نغمة ادّعاء أنّه من الأوّليات - ولكن لا تزال تسمع من مبدعه ومخترعه لفظ: «إن صح ظنّي» وشبهه، ولا يتجاوز زُعَماؤُهُ به حدّ الافتراض.

وقد صرّح به بروكا من أكابر الجاحدين والتابعين لدارون في خطاب له ألقاه في المحفل العلمي بباريس، بل قال كروبتكن: «إنّ دارون لم تبق آرائه على ما كانت عليه، بل تساهل فيها عند ما أخذ يبحث في تنوّع النبات والحيوان بحثاً مسهباً وارتاب في كفاية الانتخاب الطبيعي» إلى آخره.

وقال في موضع آخر ما هو أدهى من ذلك وأمرّ وهو: أنّ دارون لم يكن يعتقد الانتخاب الطبيعي، وإنّما أراد أن يسدّ به باب القصد على القائلين به يعني المؤمنين - وهذا لفظه - : «رأي دارون أنّ لامرك ذهب إلى أنّ في الإحياء ميلاً إلى التقدّم من نفسها، وأنّ عند الحيوانات شيئاً من الإرادة، يساعدها على الارتقاء، فخشيَ أن يفتح بذلك باباً للقائلين بالقصد، فيقفون في سبيل العلم»، إلى آخره.

إن كان ذلك من قصد دارون فقد ضلّ سعيه، وما تمّت إلاّ عليه حيلته؛ لأنّه بدلاً

ص: 165


1- أحبولة: الحبالة أى المِصيدة.

من أن يسّد باباً واحداً للقصد /206/ فتح له أبواباً كثيرة، كما عرّفناك في المباحث السابقة.

ولكن هل منصف يسأل هذا الملحد عن العلم: لماذا ينافيه القصد، وفي أيّ شيء يُعارضه، حتّى يكون القول به وقوفاً في سبيل تقدّمه؟

ولماذا يتحمّل العلم من أصحابه كلّ تخرّص وتعسّف، كالقول بأنّ الطفل يصنع عينه في رحم أمّه! وميل الثور للنطاح(1) بسبب قرونه! وغيرهما ممّا عرفت بعضاً منه؟ ولا يتحمّل القول بالقصد في خلقة هذا الكون، مع بقاء جميع النواميس الطبيعية على حالها وعدم معارضتها في شيء من مقتضياتها ؟!

إنّ نظرية الانتخاب ينافي اتّحاد أصل الأنواع من وجه

ومن الطريف في هذا الرأي أنّه كما يمكن أن يعلّل به القول باتحاد أصول الأنواع أو قلّتها، كذلك يمكن القول بعكس ذلك، والتعليل به أيضاً . فيقال: إنّ أصول الأحياء كانت في بُدُوِّ الخلق أفراداً متباينة بأقصى ما يكون من التباين وعدم التشابه ، فلم يزل كلّ حيّ يخلّف نسلاً يشبهه، بناموس الوراثة، ويباينه بناموس المباينة، لكن بما يقرّبه إلى فرد آخر ، فلم تزل تلك المباينات مع الأجداد تزيد المشابهات مع سائِرِ الأفراد، وتنازع البقاء يلاشي الضعيف، والطبيعة تنتخب القَوِيَّ، حتّى صارت التباينات التي قلنا /207/: إنّها مع غَيْرِ الْمُشابَهات،(2) ثابتة، فتألّفت منه الأنواع الموجودة.

فالقولان يشتركان في: أنّ كلّ حيّ يخلّف نسلاً يشابهه، والتباينات تُبعد الشباهة بين المولود والمولود منه، لكنّها على الثاني تقرّب بعض الأفراد إلى آخر،

وعمل الانتخاب الطبيعي على القولين واحد.

ص: 166


1- النطاح: الإصابة بالقرن.
2- الأصل: الغير مشابهات.

فالأحياء على الثاني، كلّما كانت أشدّ مشابهة؛ كانت أبعدَ أصولاً

فبماذا يرد هذا الاحتمال!؟

فهل فيه شيء سوى الاستبعاد الذي أوّل الشرط في هذه الفلسفة أن لا يهتمّ به ولا يلتفت اليه!؟

فما القول بأنّ أَجداد الطيور الصافّات في الهواء، كانت تسبح في أعماق البحار، وتموت إذا بقيت ساعة في الهواء خارجاً عن الماء؛ بأقلّ بعداً من القول بأنّ الثور أقرب إلى الهرّ من الأسد، وأنّه وإن كان شبيهاً بالجاموس لكنّهما لا يجتمعان في جدّ، وله شواهد على مذهب هؤلاء. فالحية مثلاً تعدّ الآن من جنس الدبابات ولا يجتمع معها في الأصل؛ بل أصلها من ذوات الأرجل، وقلّ مثله في الحيوانات المنحطة التي يذكرها بخنر وغيره؛ فإنّها الآن تؤلّف من جنس المنحطات، وهي بعيدة في الأصل منها.

وهذا شرح ما تقدّم في بحث أصل الإنسان من أنّ للخصم أن يجعل التباينات أصليةً /208/ والتشابهات عارضيةً .

تفريع في مبدأ اللغات و موقف مذهب الارتقاء فيه

وهذا الاحتمال - وإن لم تجد أحداً قال به في أصول الأنواع - ولكنّه أحد القولين المشهورين في أصل اللغات:

قرأتُ في مقالة مقتطفة من مقالة لأحد العلماء الأميركيين الذين يوثق بهم، ما لفظه: «وعند العلماء مذهبان شهيران؛

الأوّل: أنّ لغات البشر متشابهة، وهي كلّها من أصل واحد، وهذا الأصل قد تفرع وتنوّع، فتولّدت منه لغات البشر المختلفة، فما اللغات سوى لهجات من لغة واحدة، ولكنّها بعدت عن الأصل كثيراً، وتغيّرت بالزيادة والنقصان والنحت

ص: 167

والحذف، حتّى بعدت بعضها عن بعض هذا البعد الشاسع، وتعذّر ردّ بعضها إلى بعض لفقد الحلقات الكثيرة من بينها.

المذهب الثاني: أنّه كانت للغات البشر أصولٌ مختلفة بحسب عدد طوائفها، وأنّه مع الزمان اقتربت هذه اللغات بعضها من بعض، فتمازجت وتشابهت بتمازج أهلها وتشابههم»، إلى آخره.

وعند الكاتب: أنّ المذهب الثاني أقرب إلى الصحّة وأقدر على حلّ المشكلات من الأوّل .

والمذهب الأوّل - كما ترى - يشبه مذهب القوم في أصل /209/ الأنواع، والمذهب الثاني يقرب من الاحتمال الذي أبديناه، ومن المقرّر عندهم قياس اللغات بالأنواع وجعلها خاضعة لناموس التحوّل، كما فصّله بخنر في المقالة الثانية وغيره وأفرد شليخر ذلك بالتصنيف .

مذهب دارون وعلم اللغات:

إذاً فما يذهب إِليه في اللغات يمكن الذهاب إِليه في الأنواع، فَعَسى هذا الاحتمال أن يصادف الحظّ يوماً في طريقه، ويصبح قولاً لبعض فلاسفة الغرب مؤيّداً بشواهد اختيارية، فيعود قولاً غربيّاً يجب اتِّباعُهُ بعد ما كان احتمالاً شرقياً يجب رفضه.

لا غرو، فهذا العصر أبو العجائب !

***

ورأيتُ في كلام منقول عن دارون في غير هذا المقام: أنّ الطبيعة تعلّمنا أنّ الطفرة محال، وأنّه(1) أو أحد تابعيه يزعم أنّ وجود الأنواع العليا بغير النشوءِ، من الطفرة.

وقد ذكر الشارح في ردّ قول ليل - وهو تولّد الأنواع حتّى العليا رأساً تولداً ذاتياً في كلّ الأدوار بطرق غير معروفة من طرق الطبيعة - مانصّه : «ولا يخفى على

ص: 168


1- الكلمة غير واضحة في الأصل.

العارفين بالعلوم الطبيعة ما في هذا القول من الاضطراب؛ إذ لا يفهم كيف أنّ نوعاً حيّاً كالأسد /210/ والفرس ونحوهما يوجد دفعةً واحدةً بدون استعداد سابق بفعل القُوى الطبيعية(1) المعروفة.

وهذا إن لم يمكن تمسّكاً بالطفرة فلا يبعد عنها كثيراً.

والجواب عن الإلزام بها واضح لدى من له أَدْنى إلمام بالعلوم العقلية؛ إذ الطفرة لا يتحقّق معناها إلاّ عمّا كان في طريقها عقلاً أو عادةً، كما لو قطع الجسم من المسافة ألف ذراع قبل أن يقطع خمسمأة، أو يصير ثمر الكَرْمِ عِنَباً قبل أن يصير حِصْرِماً، وليس منها تحوّل النواة نخلاً قبل أن يصير سرواً، أو الشبل أسداً قبل أن يصير سنّوراً، وكون هذه الأنواع الدانية في طريق العالية هو أوّل ما يمنعه خصمه وينازعه فيه .

أمّا اعتراض بخنر على ليل، فليس بجيّد، حتّى عند من يقدّر الطبيعة بأكثر من مقدارها، ولا يعرف خالقها وجاعل نواميسها، إذ الممتنع لديه وجود شيء بغير قوى الطبيعة، وهذا لا يقول به ليل؛ بل تراه يصرّح بأنّها قامت بطريقة غير معروفة من طرق الطبيعة.

وأمّا كون تلك الطرق ممّا يعرفها بخنر، فليس بلازم ولا يمكن إلزامه به بعد ما يعترف بخنر - ومَن هو أعظم منه، كإمامه دارون - بوجود نواميس كثيرة مجهولة، فلتكن من أثر أحدها أو عِدّةٍ منها وجودُ الأنواع العالية دفعةً، كما يقول ليل.

وقد عرفت قريباً أنّ /211/ دارون بنفسه إن لم يقل بمثل قوله، فقد التزم بما يقرب منه من النشوء السريع بطرق مجهولة.

وأمّا عدم وجود الشيء قبل استعداد سابق عليه، فهو كما قال، إذ من الثابت في فنّ الحكمة العالية أنّ العلّة لا تؤثّر إلاّ بعد وجود ما يلزم في تأثيرها من المعدّات، فلا

ص: 169


1- الأصل: الطبيعة.

يوجد شئٌ في الكون إلاّ بعد حصول معدّات علّته، وسبق ما يلزم من الاستعدادات في وجوده.

ولكن من أين يعلم أنّ الحيوانات الدانية معدّات لعلّة العالية !؟

وعلى فرض تسليمها، لا يثبت به النشوءُ الذي يرومه هذا وأصحابه، لأنّ من الممكن اختلاف أصول الأنواع الموجودة وصدور كلّ منه عن أصل، أو كما يقولون عن كرية ذات خلية واحدة تخالف أصل الآخر في الأجزاء التي تتركّب منها(1) مقداراً وكمّاً؛ ولأجل ذلك الاختلاف أو لاختلاف بيئتها التي خلقت فيها والعوارض التي طرأت عليها [في] أثناء ارتقائها وجدت الأنواع مختلفة، هذا الاختلاف المشاهد فيما بينها .

***

بيان ما أفاده الجيولوجيا و البالنتولوجيا في التكوين

وكثيراً ماترى القوم يعتمدون في رأيهم هذا على علمي /212/ الجيولوجيا(2) و البالنتولوجيا؛ إذ الثابت في الأوّل بزعمهم: أنّ الأرض لم تخلق في بدأ التكوين كما تراها الآن، بل هي ذات طبقات متتالية تكوّنت كلّ منها قبل التي فوقها حتّى انتهى إِلى سطحها الظاهر الذي نحن عليه الآن.

والثابت في الثاني: أنّ الطبقات التي وجدت فيها آثار الحياة، وأوّلها الكمبريه، كلّما كانت أسبق تكويناً كانت أَحْياؤُها أدنى وأقلّ تركيباً، ولم تظهر الحيوانات اللبونة العليا، أو ذوات الثدي، إلاّ في الدور الثلاثي من الأدوار الجيولوجية، على ما ذكره دوكنس الإنكليزي(3)، وقسّمه إلى ستّة عصور لا يهمّنا ذكرها.

ص: 170


1- كالكربون والهيدروجين والأكسجين والأزوت . (منه)
2- علم معرفة الأرض Geologic.
3- الأصل: الانكريزي.

ولم يذكرا أثراً للإنسان إلاّ في العصر الرابع الذي سمّاه «البليستوسين»؛ فإنّه وجد فيه آثار الإنسان الحجري القديم، يعني الذي كان يصنع آلات حاجياته وأسلحته من حجارة الظران(1) من غير تهذيب بزعمهم، ولهم في عدد تلك الطبقات ومراتبها وحيوانات كلّ منها كلام كثير، وبينهم في ذلك خلاف عظيم؛ لا يهمّنا التعرّض له .

الحكومة في المقام

مسائل هذين العلمين ممّا تشتاقها الطباع، وتلتذّ بها الأسماع، وما أشوق المغرم بالمعارف والمتهافت على العلوم إلى معرفة /213/ أحوال الأرض التي وُجِدَ فيها وعاش عليها ، ويدفن أخيراً بها، ويعرف من سبقه في الوجود عليها من أصناف المخلوقات.

ولكن مع الأسف أكثر الأدّلة التي يعتمد عليها فيهما ضعيفة، وما حجّج النحاة بالنسبة إليها إلاّ براهين هندسية، وذكر الشواهد على ما قلت يفضي إلى الإسهاب والخروج عن موضوع الكتاب .

فما عليك أن تَصْرِفَ فيهما بُرهةً من الوقت وردهة من الزمان، وأنت ذاكِرٌ ما نبّهناك عليه في أوّل الكتاب، وفي بحث أصل الإنسان، لترى كم فيها من منقولات كاذبة وحدسيات غير صائبة!؟

أمّا أنا فأبني الجواب على تسليم المسلّم فيهما، وأقول: أهمّ ما يرد عليه أنّه لا يثبت به أهمّ ركني هذا المذهب وهو النشوء، بل يثبت به الارتقاء الذي يقول به كثير من منكري التحوّل؛ إذ أقصى ما يلزم منه أنّه وجدت في كلّ دور من الأدوار الجيولوجية حيوانات ونباتات تُناسب عوارضها الخارجية؛ فشدّة حرارة الأرض

ص: 171


1- الظِّران: قطع الصوان المصنوعة في الأزمنة القديمة على أشكال حراب و نصال و ما شاكلهما، و كانوا يستعملونها قبل أن اكتشفوا عمل تلك الأدوات من المعادن (المنجد/ 479).

في تلك الأدوار لم تكن تتحملها أشجار الفواكه اللطيفة، والأرض لعدم تصلّب قشرتها ما كانت قابلة لأن ترسخ فيها أصول النخيل الباسقة، والهواء لعدم تركّبه على /214/ هذه النسبة الموجودة، لم يك صالحاً لتنفّس الحيوانات العالية ونحو ذلك.

واعتبر الأرض الآن باختلاف عروضها، تجد فيها مثل ذلك؛ فإنّ الأراضي القطبية لا توجد فيها إلاّ النباتات الدانِية لفقدانها الحرارة اللازمة لتعيش النباتات الكاملة فيها، بخلاف الأراضي المعتدلة من غير أنْ تكون أشجار المنطقة المعتدلة متحوّلة عن طحالب(1) المنطقة الباردة .

ورأيتُ لبعض علماء المسلمين من أهل العصر تشبيهاً آخر، وهو تشبيه العصور الجيولوجية بالفصول الزمانية، قال: «أوّل ما ينبت عند انفصال الشتاء وقدوم الربيع النباتاتُ الدنية كالطحالب والأعشاب، ثمّ يندرج الأمر إلى الأرقى فالأرقى من النبات، كلّما تزايد الحرّ، وهلّم جرّا، وأوّل ما يتولّد أو تتفرّخ عنه بيوض الحيوانات الدنية كالبكتوريا والحيوانات المتولّدة من العفونة كالبراغيث والذباب، ثمّ يتدرّج الأمر إلى الأرقى فالأرقى، حتّى يصل الدور إلى بُروز النباتات والحيوانات العليا.

وليس شيء من تلك الأنواع ناشئاً عن نوع آخر ومتحوّلاً عنه، وترى الأنواع التي تنشأ أوّلاً تهلك كلّما تقدّم الحرّ لأسباب كونية، كتأثير الحرّ أو سطوة الأنواع التي توجد بعدها أرقى منها، وعند انتهاء الصيف لا تبقى غالباً /215/ إلاّ الأنواع العليا التي هي منتخبات جميع ما تولّد في تلك المدّة، وتبقى ممّا هلكت بقايا في الأرض، كبقايا الأحافير.

فهذا الحال السنوي يكون حاكياً للحال الجيولوجي»، انتهى ما قال .

ولعلّ معترضاً يقول: إنّ من المسلّم عند أكثر الطبيعيين أنّ الحيّ لا يكون إلاّ من

ص: 172


1- الطحالب: جمع الطُحلب، نبات من شعبة الطحلبيات، لونه شديد الخضرة له ساق و ورق و ليس له جذور حقيقية و ينمو فى الأماكن الرطبة. و يوجد أحيانا على الشجر و الصخور.

حيّ، فكيف يوجد في كلّ دور ذوحياة من غيره.

ولا يدري أنّ مبدأ الحياة من المسائل التي لم تحلّ إلى الآن، ولعلّه لا يحلّ إلى آخر الزمان، ولهذا تجد في كلام كثير منهم أنّها وجدت بطريقة غير معروفة.

والتزم طمسن الشهير بمجئ بزوراتها من كرّات أخرى محمولة على ظهور النيازك والشهب، ونصب نفسه لذلك سخرية لريلي في قصة معروفة.

فإذا كان حلّ هذه القضية يكفي فيه أحد هذين الرأيين في أوّل دور ظهور(1) الحياة فيه، فما علينا لو أعدناه عند ابتداء كلّ دور، فتزور الأرض حينئذٍ تلك الطريقة غَيْر(2) المعروفة، وتوجد الأحياء، أو تمنّ علينا الكُرات المعلّقة في السماء مراراً أخرى بجراثيم الأحياء، فهي عندها وافرة، ومطايا الرجوم لنقلها إلينا حاضرة .

على أنّه - كما يوجد في هذين الفنّين ما يؤيّد النشوءَ البطئالذي يذهب إليه دارون - كذلك يوجد فيهما أيضاً ما يخالفه.

فقد أبان اغاسر أنّه يظهر من أحافير الدور الأوّل أنّ /216/ أنواع الحيوان كأنّها ظهر كلّها في برهة وجيزة، لأنّ تلك الطبقة رقيقة لم يقتض تكوّنها زمناً طويلاً.

وأبان هويت الأميركي أن أنواع النبات ظهرت دفعة واحدة في العصر الكربوني.

و أوطوفولجر يثبت وجود صور ذات تكوين عالٍ في الطبقات القديمة جدّاً للأرض، وإن كان الشارح في المقالة الرابعة يبعد أصل الحياة إلى أزمنة أبعد وأدوار جيولوجية أقدم، فراراً عن حجة أوطوفولجر، وإِن راجعت تلك المقالة متأمّلاً ازددتَ بصيرة في أمر هذا الدليل .

وأيضاً البالنتولوجية - وإن تقدّمت كثيراً في هذا الزمان - لكنّها في حال يرثى لها من القصور والنقصان.

ص: 173


1- الأصل: ظهر.
2- الأصل: الغير.

قال دارون: «أَغْنى مجموعاتنا البالنتولوجية ليس شيئاً بالنسبة إلى الحقيقة، وهو آتً من قسم من سطح الأرض صغير غير مستوفى البحث فيه».

وقال الشارح ص 66: «إنّا لا نعلم شيئاً عن أحافير قارّات آسيا وآفريقا وأميركا واوستراليا الواسعة، وما نعلمه من هذا القبيل إنّما هو آتٍ كلّه من قارّة أوروبا الصغيرة».(1)

والشارح أعاد القول فيه بأبسط(2) من هذا في المقالة الرابعة .(3)

فإذا كان هذا مقدار البالنتولوجيا، فمن يقول أنّا لا نلقى /217/ غدا في أحافير آسيا وجارتيها بقايا حيوانات عالية في أدنى مراتب الطبقة الكميرية، ولا تزيّن متاحف أروبا بعظامها البالية؟

وليس لهم أن يعلّلوا أنفسهم بالمستقبل، وَيَتْرُكُوْا(4) هذه الفلسفة عائشةً بالأمل؛ لأنّهم إن تمكّنوا من الأحافير فيها، وفتّشوا جميع طبقاتها ولم يدعوا في جميع القارّات الباقية شبراً واحداً لم يتفحّصوا عنه، فإنّ في ما يمتنع عليهم من غيرها كفاية لبقاء هذا الاحتمال!!

قال الشارح ص 66: «إِذا تذكّرنا بأنّ ثلثى الأرض أو ثلاثة أخْماسِها تحجبها البحار، وإنّ قسماً كبيراً من الثلث الباقي تغطيه الجبال الشاهقة، نعلم أنّه تمنعنا عن الأبحاث العلمية موانع طبيعية».(5)

فإِذاً إن تمكّنوا من الحفريّات في بقية القارات - وأنّى لهم ذلك؟ - ففيما يمتنع عليهم من الثلثين والقسم الكبير من الثلث الآخر كفاية لهذا الاحتمال الذي جعل حياة هذا الدليل على خطر.

ص: 174


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 66.
2- أَيْ: بِأَوْسَعَ.
3- المصدر السابق.
4- الأصل: يتركون.
5- نفس الصفحة في فلسفة النشوء والارتقاء.

ولعلّ أحدهم يستعمل القياس، ويرى أنّ عدم وجدانها في أوروبا كافٍ للحكم بعدم وجودها في بقية القارّات وسائر سطح الأرض، ويغفل عمّا هو مفصّل في كتب القوم من اختلافات القارّات بحسب وجود الأحياء، وتقدّم بعضها على بعض في صلاحية معيشة الأحياء فيه، لاختلاف عوارض الوسط /218/ومصادفة بعضها للنكبات الجيولوجية حين سلامة البعض الآخر؛ فآسيا أو أفريقا هي مهد الأحياء العالية، فلا يبعد أنّها لم تهاجر عنها إلى سواها إلاّ في عصر الأيوسبين أو أعصار الدور الثلاثي الَّتي وُجِدَتْ(1) فيها آثار الحيوانات اللبونة، وقد كان في أنواعها ما يتعيّش فيها قبله بقرون طويلة .

هذا ما ظَفِرَتْ كَفُّ البحثِ به من الوجوه التي استندوا إليها في فلسفتهم، والاكتشافات التي عوّلوا عليها في مذهبهم، ما خرمتُ منها حرفاً؛ بل زدتُها حسب مقدرتي توضيحاً وبسطاً. والحقّ يشهد لي بأنّي ما ركبتُ فيه للاعتساف متناً ولا ارتكبت لدى انتقاده حيفا أَو جورا .

وأنتَ رعاك اللّه تعالى بالخيار، فإن شئتَ قصرتَ في القول بالنشوءِ والارتقاء على الأصناف الموجودة لنوع واحد، وحكمتَ بارتقاء أعلاها عن أدناها وأحسنها عن حَسَنها، أو تجاوزتَ - ولكن قليلاً - إلى الأنواع المتقاربة جدّاً بمقدار ما يتناوله التحسين الصناعي، وتتظافر عليه الشواهد، ولكن مع المحافظة على حدّ الظنّ غير متجاسرٍ على دعوى القطع، وقد فعلت إذاً وأنا معك ما يجب عليك في شرعة العلم ويوجبه عليك حاكم الإنصاف، ولابدّ أن تشكرك على صنيعك /219/الفلسفةُ ويقرّظك الثناء الفلاسفةُ.

وإن شئت صدّقتَ جميع ما ينقل لك من أحاديث الصور المتوسّطة والقصص المختلفة، واغتررتَ بعدّة مشابهات جزئية بين أصناف معدودة، واستفزتك

ص: 175


1- الأصل: الذي وجد.

الحدسيّاتُ، وأقمت المغالطات والإقناعيات مقام البرهانيات، فجعلتَهما ناموسين عامّين يشملان جميع ما في المملكتين الآليتين - النبات والحيوان - قاطعاً بالقرابة بين النملة والجمل، وحاكماً باتحاد أصل التمر والحنظل، راضياً للعلم - العزيز عند أهله - بأن يشوّه صفحاته المقدّسة بالوهم والاحتمال، ويباح منيع حماه لكتائب الحدس والخيال - فَأَنْتَ وذاك - ومعك من الشرقيين مَنْ إذا احتمل الغربي شيئاً ظنّوا، ومتى ظنّ قطعوا، ومهما جزم ادّعوا البداهة، وأوصلوا به مرتبة الأوليات.

وكأني بك - وإنْ عزّ عليك - ولا تجدُ بدّاً من تصديق كلام لبعض علماء العصر وكتابه في هؤلاء، وهو ممّن يعترف له بالفضل معرّب بخنر وغيره فيما أظنّ، وهو قوله: «أنّهم يوردون من الحقائِقِ ما يؤيّد رأيهم بحسب الظاهر، وَيَتَغاضَوْنَ(1) عمّا ينفيه، ويتّخذون المفروض كأمر مثبت، ويفسّرون الحقائق على ما يوافق آراءَهُمْ».

وقال أيضاً: «إنّ التسليم بمذهب النشوءِ يقتضي إيماناً بصحّته أعظم /220/جدّاً من الإيمان الذي يقتضيه الدين . والحقّ أنّ أهل هذا المذهب يعتنقونه بالتسليم لا باليقين، كأنّهم عائشون بالإيمان لا بالعِيان»، انتهى .

ص: 176


1- الأصل: يتقاضون.

فصل في المراد من الارتقاء

اشارة

نختم به هذا القسم من الكتاب، وهو يتضمّن النظر في المراد من الارتقاء الذي هو أحد رُكْنَي هذه الفلسفة، قالوا: إنّ الارتقاء هو سير الأجسام الحيّة نحو الكمال، وهذا صحيح.

تحقيق في معنى الكمال و الارتقاء

ولكن ما معنى الكمال!؟

رأيت منقولاً عن سبنسر أنّ الارتقاء تقليل الأعضاء المتماثلة.

وهذا إن اقتصر عليه فسوف يعود الإنسان بعين واحدة ورجل ويد كذلك، وتعود خرافة الشقّ الذي قاتل علقمة بن أبي سفيان.

وإِذاً يحقّ لجيل البشر أن يصرخ بصوت واحد مستعيذاً باللّه تعالى من الارتقاء وداعياً لبقاء نعمة الانحطاط عليه .

نقد مقالة سبنسر فى معنى الارتقاء

ويوجد ما نقلناه عن سبنسر في كلام غيره أيضاً، ويسمّيه بناموس التخصيص، ويريد به التقليل من الأجزاء المتماثلة مع الزيادة في شدّتها، وفي مقالة مقتطفة من كتاب النشوء لجوزف لاكونت: أنّ ازدياد عدد الأعضاء المتماثلة العمل في جسمٍ مّا دليل الانحطاط، وإنّ قلّتها وصلابتها دليل الارتقاء.

ولا أظنّ جيل البشر مع ذلك يرضى بهذا الارتقاء، ويرى جبر /221/ مصيبته بإحدى عينيه ويديه بقوّة عينه الأخرى وصلابة يده الباقية.

ص: 177

ورأيت منقولاً عنه وعن غيره: أنّه تغيير المتماثلات وتحوّلها إلى مختلفات،

ويقول جوزف لاكونت: إنّ الطبيعة لا تخلق شيئاً من لا شيء، ولكن إذا اضطرّت إلى القيام بعمل ما عمدت إلى شيء موجود وكيّفته بحيث يصير مناسباً للقيام بذلك العمل.

للّه درها من عمياء غير شاعرة! كانت الفقاريات الأولى أسماكاً أو أشباهها، فلم تكن تحتاج إلاّ إلى أعضاء السباحة، فلمّا نشأت الزحافات وصار الاحتياج إلى آلة جديدة عمدت الطبيعة إلى آلة السباحة، وصيّرتها تناسب الحيوان الجديد، فلمّا جاء طور الطيور وصار الاحتياج إلى الأجنحة عملتها لها من الأطراف الأمامية، وما زالت كذلك تبدّل وتغيّر حتّى عملت للإنسان يداً عجيبة في مبناها.

وهي مع ذلك عمياء صمّاء بزعمهم، لكنّها لا تفرّق بين(1) زعانف(2) السمك وأجنحة الطيور ويد الحيوان فرقاً جوهرياً .

إن كان هذا معنى الارتقاء فأَيّ معنى لارتقاء ذوات الأربع عن الطيور، وارتقاء الإنسان عن ذوات الأربع، مع اشتراك الكلّ في حصول التغيّر له في عضو موجود؟ قصاراه كلٌّ حصل له التغيّر بما يناسبه.

وترى مارش يعتبر صغر الجسم /222/ في الانحطاط، وكبره في الارتقاء، جامعاً بينه وبين قلّة المتماثلات، ويقول: «إنّ الفرس في الدور الأيوسيني كان كالثعلب حجماً، وكان له خمسة أعظم وخمس أصابع في اليد وثلاث في القدم، وخلفه في ذلك الدور فرس، لم يكن له غير أربعة أعظم وأربع أصابع في اليد، ثمّ تلاه في الدور الميوسيني فرسان، وكانا أكبر من أسلافهما حجماً، غير أنّه لم يكن لهما غير ثلاث أصابع في القدم وأربع في اليد، واحد منها أثرى وتبع هذين فرسان بحجم الحمار»؛ إلى أن قال: «وفي الدور الرباعي ظهر الفرس الحديث، وله أصبع واحدة

ص: 178


1- الأصل: عن.
2- الزَعانف: أجنحة السمك.

هي الحافر».

فليعتبر الإنسان بما جرى على الفرس، وليحتسب أصابع يديه ورجليه عند هذه الفلسفة، وذكر كبر الجسم متكرّر في كلامهم، فإن اقتصر أحدهم عليه فلازمه أن يكون الفيل والكركدن أَرْقى من الإنسان كثيراً، وإِن جمع بينه وبين تقليل المتماثلات فأجمع أنت في الجواب بين الاعتراضين .

وأعظم ما يعتمد عليه عندهم تخصيص الوظائف وتقسيم الأعمال، يقول بخنر: «كلّما تخصّصت وظائف جسم - أي كانت له أعضاء خصوصية - كان هذا الجسم أرقى، فإنّ الحيوانات الدنيا /223/ ليس لها أعضاء خاصّة، بل جسمها يقضي كلّ وظائفها بتبادل بسيط بينه وبين ما يحيط به. وأمّا الحيوانات العليا فبالضدّ لها عضوٌ خاصّ لكلّ وظيفة، فالقلب للدورة، والرئتان للتنفس، والقناة الهضمية للهضم، والكليتان لإِفراز البول، والدماغ لوظائف العقل». إلى آخره.

وهذا ما يجعل الحيوانات راقية، ويوجد هذا بأبسط منه في كلام سبنسروغيره مع قياسه بحياة الإنسان السياسية وما عليه الدول من تَقْسِيْمِ الوظائف . أما الحياة السياسيّة فحكمها موكول إلى أهلها، وهي مضايق لا أدخل فيها. وأمّا في الأجسام الحية فلا ينبغي أن تعدّ قلّة الأعضاء انحطاطاً إلاّ إذا كانت الأعضاء الموجودة غير كافية لأداء لوازم الجسم أصلاً، أو على الوجه الأكمل، وعند ذلك يكون تقسيم الوظائف ارتقاء، ولكن تكثّر الشواهد التي يذكرونها ليست من هذا القبيل؛ فالحيوانات التي ليست لها رئة للتنفّس لا ينبغي أن يُعَدَّ ذلك انْحِطاطا فيها بعد ما علم من أنّه لصغر أجسامها، وقلّة دمها يكفيها من الهواء ما يدخل في الدم من مسام جلودها؛ ولا فائدة إذاً في الرئة لتوجدها القدرة الكاملة عند المؤمنين والطبيعة لدى المعطّلين، فهي إن لم تَضُرَّبِها لا تنفعها بخلاف الإنسان ونحوه؛ فإنّه لغزارة دمه لا يكفيه الهواء الداخل /224/ من مسامّ جلده، فلزم لها الرئة وهو أيضاً يتنفّس بمسام

ص: 179

الجلد أيضاً، كما هو معلوم عند أهله، فلم يتمّ التخصيص والتقسيم كما يقولون، ولعلّ نسبة الهواء الداخل إلى دم الحيوانات الدنيا كلّ ساعة مثلاً كنسبته فيها إلى دم الحيونات العليا أو أكثر.

وبالجملة إذا كان عضو واحد يقوم بعدّة وظائف من غير نقصان ولا تقصير بحسب حال الحيوان ومقدار جسمه ولوازم معيشته، فلا تَبْقى حاجة إلى أعضاء أُخَرَ تقسم بينها وظائفه؛ بل تكون تلك الأعضاء حينئذٍ عبثا، بل قد تكون مضرّة؛ وهذا مما تجلّ منه الحكمة إلالهية عند المؤمنين والصُدفة العمياء عند المعطّلين ووجودها - والحال هذه - ليس ارتقاء، وعدمها لا يعدّ انحطاطا.

ولا أظنّ أحدا يلتزم بأنّ نقصان الذنب والقرن والأعصاب التي تحرك آذانَ البهائِمِ انحطاط في الإنسان، مع أنّ اليد وهي عضو واحد يقوم بوظيفتها مع عدّة وظائف آخر بتمام السهولة وأقصر مدارج الكمال .

فاتّضح - إن تأملت - أنّ نقصان بعض الأعضاء في جملة من الحيوانات التي تعدّ دانية ليس نقصاً فيها، بل منها ما لا حاجة لها إليه، كالخد التي تسكن تحت الأرض، ولا يعرض نفسه /225/ النور؛ فإنّه في غنىً عن العين، وبعض الحلميات كديدان الأمعاء في غنىً عن الرجلين، ومنها ما عوّض عن بعض الأعضاء بما يغنيه عن ذلك العضو كما في النمل؛ فإنّ في العقد النتوءين البارزين من رأسه كفاية له عن أعضاء كثيرة، وهي قائمة بعّدة من حاجاتها المختلفة، فهي تسمع بلا أذن، وتبصر بلا عين. راجع تجارب مادام مس ادال فبلد الأميركية، التي نقلتها المجلاّت قبل اليوم ببضع سنين، تجد العجب.

ومنها أنّ أرجلها تنقل إلى أبدانها نفس التأثير الذي تنقله أذن الإنسان إلى دماغه، وأنّ الروائح تقوم لها مقام اللون، وقرناها اللَّذانِ(1) هما مقام الأنف يقومان

ص: 180


1- الأصل: الذين.

مقام العين. ولعلّ تأثّرها بهاتين القوّتين يفوق تأثّر الإنسان بواسطة عينه وأذنيه، ولا أقل أنّهما كافيتان لمقدار حاجاتها.

وبالجملة لابدّ للحكم بانحطاط الحيوان من ملاحظة مقدار جسمه وحاجاته وأحوال الوسط العائش فيه ونحو ذلك، فهل تجد بعد التأمّل فيما عرّفناك حيواناً ينقصه شيء من لوازمه؟ أم ترى أنّ مدبّر هذا الكون لم يدع نقصاً في خلقته ولطفه؟ قد عمّ جميع خليقته، وليس غَناءُ أرقى الحيوانات اللبونة بأكثر من غَناءِ أَدْنى الحيوانات الحلزونية، وليس فقد النمل العين والأذن إلاّ كفقد الإنسان عقد قرنى النمل، أو كاستغنائه /226/ بما يضعه من اللباس عن الشعر والصوف الذي للبهائم، وغنائه بالسلاح عن قرنى الثور.

ولقد طال الكلام حتّى كاد أن يكون بعضه استطراداً، ولكنّه نافع جداً إن أعطيت التأمّل حقّه فيه، ثمّ عرفت الغرض منه، ثمّ مع الغضّ عن جميع ذلك فما وجه الاتفاق على أنّ الإنسان أرقى من سائر الحيوانات اللبونة؟ مع أنّهم يقولون: إذا شرحنا جسد الإنسان لا تجد - أو قلّما تجد - عضواً لا يوجد في الفأر، وما معنى ارتقاء الإنسان عن القرود، وهي تزيد على الإنسان بالذَّنَبِ في أكثر أصنافها والشعر على جلودها .

وقد عثرت لسبنسر على كلام مسهب استقصى فيه البحث، وأعمل فيه أقصى الفكر، فلذلك آثَرْتُ نقله كما رواه بعض أصحابه، ثمّ أتبعته بما سنح لي من انتقاد .. قال جَرى سبنسر مجري بير للذي قال: إنّ سلسلة التغيّرات التي تغيرها البزرة حتى تصير شجراً والبيضة حتّى تصير حيواناً، إنّما هي ارتقاء من التماثل في البناء إِلى التباين فيه .

فاتّخذ سبنسر ذلك قاعدة لبحثه، وقال: إنّه قاعدة لكلّ ارتقاء، أي أنّ الارتقاء في أنواع النبات والحيوان والأخلاق والعادات والعلوم والفنون، وكلّ ما يتصل به

ص: 181

بحث الإنسان مداره كلٌّ على /227/ الانتقال من التماثلات إلى المتباينات؛ فالجماد دقائقه كلّها متماثلة ذرّة الهواء مثل ذرة الهواء، ونقطة الماء مثل نقطة الماء، وقطعة الذهب مثل قطعة الذهب، ثمّ يظهر الاختلاف في النبات، ويكون قليلاً في أنواعه الدنيا، فتتألّف من حويصلات متماثلة، ثمّ يزيد في أنواعه العليا فيصير ورقاً وزهرا وثمرا، ويكون في الزهر كأسٌ وتاج أعضاء تذكير وتأنيث، وفي الثمر قشر ولبّ وبزور، وهلّم جرّا، ولكن تبقى مزاياه في كلّ أجزائه تقريباً على السواء، فإذا قطعت غصناً منه لم يمت بقطعه، وإِذا غرسته عاش ونما وصار شجرة؛ وكذلك الحيوانات الدانية كالإسفنج، فإنّها مثل النبات متماثل الأجزاء، وقوّة التولّد قائمة في كلّ جزء منها بخلاف الحيوانات المرتقية، فإنّها انقسمت إلى ذكور وإناث جرياً على ناموس تقسيم الأعمال لزيادة إتقانها، ولكلّ عضو شكل خاصّ ووظيفة تقوم بها، ثمّ أجرى هذه القاعدة في العادات والعلوم؛ إلى آخره. ممّا لا يهمنا البحث عنه.

وذكر من أمثلته أنّ الطبيب الواحد كان يتعاطى الجراحة والطبّ ومعالجة العيون والآذان وأمراض النساء والأطفال، فصار لكلّ من ذلك طبيب خاصّ به، وقال بعد ذلك : وهذا هو المراد بالانتقال من التعميم إلى التخصيص في الطبيعة /228/ كلّها، ومن التماثل إلى التباين .

ولمّا رأي سبنسر ذلك قال: إنّه اكتشف ناموس الارتقاء، لكنّه رأى لدى إمعان النظر: أنّ الانتقال من التماثل إلى التباين لا يشمل كلّ أساليب الارتقاء، بل يشمل ما ليس من الارتقاء في شيء، بل هو انحلال وانحطاط كتولّد السرطان في الجسم وكحدوث الثورة في البلاد، وبعد بحث طويل عرف الارتقاء تعريفه المشهور، وهو: أنّ الارتقاء تجمّعٌ(1) في المادّة يصاحبه تفرّقٌ في القوّة، تنتقل به المادّة من شكل متماثل الأجزاء غير محدود ولا متصل، إلى شكل متباين الأجزاء محدود متصل، ويتغيّر

ص: 182


1- الأصل: تجتمع.

شكل القوّة التي فيه - في غضون ذلك - تغيّراً موازياً له .

قراءة أخرى منه في معنى الارتقاء

وكتب أيضاً إلى هدصن كُتباً شرح فيه كيفية تدرجّه في الفلسفة التركيبية وذكر فيه من معنى الارتقاء ما يقارب ذلك، وفيه: «إنّ أدنى الحيوانات أجسام هُلامية(1) متماثلة الأجزاء، لا يتوقف جزء منها على الجزء الآخر، لأنّه يَنْفَصِلُ وَيَبْقى(2) حيّا، وتبقى فيه صفات الجسم كلّه، كما تنفصل نقطة من الماء من البركة، ويكون فيه كلّ خواصّ ماء البركة، وأعلى أنواع الحيوانات الإنسان، أجزاؤه متخالفة غير متماثلة، لكلّ /229/ جزء منها صورة خاصّة به، ولكنّها غير مستقلة؛ بل يتوقّف بعضها على بعض؛ اليد لا تعيش وحدها والقلب لا يعيش وحده. وهكذا جماعات الناس كانت أوّل عهدها مؤلّفة من أفراد متماثلين، كلّ واحد مثل الآخر في النسبة إِلى المجتمع، ولا يتوقّف أحدهم على الآخر في معيشته، فيصنع طعامه ويبنى بيته ويدافع عن نفسه، ثمّ تولدت الفروق؛ فصار بعضهم حُكّاماً وبعضهم جنوداً وبعضهم حرّاثاً وبعضهم صنّاعاً وتوقّف بعضهم على بعض، فلا غنى للملك عن الجنود، ولا للصانع عن الحارث، إلى آخره.

وقد اتصل سبنسر إلى هذه النتايج قبل سنة 1850، ثمّ لمّا اطّلع بعد سنين على الناموس الذي وصل اليه فون بير وهو أنّ الحياة لها(3) ميل من التماثل إلى التباين رأى في هذا اللفظ المختصر ما يعبّر عن موادّه كلّه، فاعتمد عليه»، إلى آخره.

هذا ما نقله بعض تلامذته وأظنّه صاحب مقالة حياة سبنسر، وفيه سهو ظاهر؛ لأنّ تعريف فون بير الذي ذكر أنّه اطّلع عليه بعد سنين واعتمد عليه هو الذي حكم

ص: 183


1- الهُلامية: اللزجة، الجِلاتينية.
2- الأصل: تنفصل و تبقى.
3- الأصل: كذا.

عليه أوّلاً بأنّه ناموس الارتقاء العامّ، ثمّ عدل عنه لَدى إمعان النظر إلى تعريفه المعلول المعضل المتقدّم.

ثمّ إنّ هذا الحدّ وأكثر ما مرّ في كلامه لا يصلح أن /230/يكون تفسيراً للارتقاء، وإنما هو استقراء لا يسلم به إلاّ بعد معرفة معنى الارتقاء، وإلاّ فكيف يعلم أنّ الإسفنجيات مثلاً أدون الحيوانات، والحيوانات العالية أرقى من سائر النبات؟ ليعرف صحّة ما ذكره وإطّراد الحدّ الذي عوّل عليه، وإِلاّ فلو كانت للقطعة من الذهب ولملأ الكفّ من الماء حياة وقوىً نفسية كما للحيوانات الراقية، لكانتا راقيتين مثلها، وما ضرّهما تماثل أجزائهما، كما أنّها لولا حياتها وقواها لكانت من الجماد، كالذهب والماء، ولم ينفعها تباين أجزائها لو كان للحيوانات الهلامية، مثل القوى التي لذوات الأثدي لكانت معها في مرتبتها، بل كانت أفضل منها؛ وليت الإنسان وهو إنسان كان مثلها لا يموت، ولو قطع قطعات، وكان كلّ جزء منه قابلاً لإبقاء النسل، ليكون أبعد من الخطر وعن انقطاع نسله بالعقر والعنن.

ومثله الكلام في المثال الذي ضربه من الحياة الاجتماعية(1)، إذ لو كان كلّ فرد من العائلة يصنع جميع حاجياته بنفسه مثل ما يصنعه المجموع بعد تقسيم الأعمال لكان ذلك كمالاً فيه وارتقاءً له، لا انحطاطاً، كما أنّه لو أَتى المجتمع بصنائعه بعد تقسيم الأعمال بما لا يزيد حسناً وكمالاً على ما يصنعه الفرد لم يكن ذلك /231/ارتقاء له.

إذا فجميع ما ذكره لا يجديه إلاّ إذا ضمّ إِليه ناموس تقسيم الأعمال، ولا يصلح ذلك الناموس بتعريف الارتقاء إلاّ إذا جبر نقصه بقوله لزيادة إتقانها، ولو عوّل عليه وحده لكان فيه كفاية عن سائِرِ كلامه وغني عن تعريف بير الذي اعتمد عليه وعن تعريفه المطوّل الذي عدل اليه، ولكان تعريفاً جامعاً وحدّاً مقبولاً عليه طلاوة(2) حدود العلوم العقلية ورونق تعريفات العلوم العالية، ولكن يبقى فيه مع ذلك

ص: 184


1- الأصل: الاجتماعي.
2- الطَلاوة: الحسن، البهجة.

موقع للسؤال عن المراد بالإتقان المذكور ونحوه من تعبيراتهم المختلفة لفظاً، والمتّفقة في الدلالة على أنّ الأعمال التي يأتي بها عضو واحد، تكون دون التي يأتي بكلّ منها عضو مستقل، وأنّ الأعمال بعد تقسيم الوظائف تكون أتمّ وأحسن.

وهذا معنى معقول وصحيح في الجملة، وظاهر في غير محلّ البحث، ولكن ماذا يُراد به في أعضاء الأحياء؟ وما النتيجة التي تحصل للحيّ الذي تتخصّص لكلّ وظيفة عضو منه؟ وما الذي استفادته الحيوانات الراقية التي تقسّمت فيها وظائف أعضائها زيادةً على ما استفادته غيرها؟ أ كِبَر الجسم؟ أم قُوّة البدن؟ وأين الهرّة المسكينة فيهما من الأسماك الكبيرة والتماسيح الهائلة، بل ومن الأخطبوط الَّذِيْ(1) /232/ منه جبابرة عظيمة قوّية، تقلب القوارب بمن فيها وتفتك بالأسود الضواري إن ظفرت بها؟ أم الكمال في نفس الوظيفة التي تحصل من العضو؟

وهذا الإنسان الذي انقسم نوعه إلى ذكر وأنثى، وخصصّت لكلّ منهما أعضاء للتوليد لا يخلف إلاّ نسلاً يشبهه من نوعه، وهذا حاصل بعينه لجميع الحيوانات الدانية التي تبقى أنواعها بحصول زيادة في جسمه أو تقسيمه نفسه إلى شطرين؛ إذ كلّ حيوان يخلف نسلاً نسبته إِليه كنسبة نسل الإنسان إلى الإنسان.

وهل الحاصل لذوات الرئة والكليتين إلاّ نفس النتيجة الحاصلة لغيرها من التنفّس بمقدار ما يلزمه وإفراز الفضول التي في بدنه !؟

اذا فلا معنى للارتقاء الجسمي في الأحياء بحيث تَصحُّ به هذه المراتب التي وضعوها، بل لا يعتمد فيه على معنى من معانيه إلاّ وجدت في الأحياء الذاتية ما هو أرقى من بعض الأحياء الراقية .

ولا يصح أيضاً إن فسّر بالقوة في الحواس الظاهرة، فالإنسان الذي لا ينازع أحد منهم في أنّه ارقى جميع الأحياء دون الكلب في قوة الشمّ، ودون العنقاء في حدّة

ص: 185


1- الأصل: التي.

البصر . /233/

وإن عوّل على كمال العقل والنفس فأَنعم به كمالاً، وحبّذا به(1) ارتقاء، وهذا هو الشرف الباذخ والمجد الراسخ، والكمال الذي لا يضرّ معه نقصان الجسم ولا يجبر نقيصته بتمامية البدن.

ولكنّك تعلم ماذا يلحق الحلقات التي رتّبوها للأحياء والمراتب التي وضعوها للارتقاء؟ وكيف يتقدّم - بناءً على هذا المعنى - بعض الحشرات الدانية على جملة من الحيوانات اللبونة الراقية؟ هذه النملة الحقيرة تتعاون أفرادها على تحصيل رزقها وتدخّر قوّة شتائها في صيفها، وتستعمل في أمرها ضروباً من الحيل التي يعجب العقل الإنساني منها. ومنها ما تغزوا أعداءها في بلادها ويتخذ منهم أسراء للخدمة، وتخصّص الوظائف بين أفرادها، والوظائف الجسمية منها غير تامّة التخصيص، فتفرد صنفاً للولادة وصنفاً للخدمة وصنفاً للجندية، وتبني في قراها طبقات لكلّ صنف طبقة يختصّ به، وتضع على أبوابها الحرّاس، فمن يقيس هذا الحيوان الذكي بالشاة التي يضرب المثل ببلاهتها ؟

وأيضاً: إن كان هذا معنى الارتقاء، فلماذا هذا الإلحاح على دفع هذا الحاجز العظيم بين الإنسان والحيوان، تارةً برفع الحيوان؟ وبخفض الإنسان تارة أخرى؟ فترى يتتبع أحدهم الحكايات /234/ المنقولة في نباهة الحيوان، فإِذا سمع بأنّ سربا من راجع الأصْلَ قطع وادياً فهاجمت مُؤَخَّرَهُ الكلاب، فارتدت كبار مقدّمه فصرخت بالكلاب فأبعدتها، زعم أنّه «وجد تمرة الغراب(2)»، وأزاح به الحدّ الفاصل بين العجماوات والإنسان!

ص: 186


1- الأصل: حبذبه.
2- هذا من أمثال العرب المعروفة راجع مجمع الأمثال ج 1/416 و ج 2/8 و الأمثال /262.(عبدالستار الحسني)

ولا يدري المسكين أنّ النباهة في كثير من أصناف الحيوان - بل في كلّها - كلّ بمقداره أمر لا ينكره أحد.

وقد صنّف المتقدّمون فيها كتباً ضمّنوها حكايات أهونها أعظم من هذه الحكاية الباردة التي فرح بها، ولو كان عصرهم كهذا العصر يهتمّ فيه بتكثير أسامي العلوم، لرأيت في بودجتها علم نباهة القرد، وعلم نباهة الفرس، و . و .

ويتتبع أيضاً أحوال القبائل المنحطّة، ويجمع الفضائِحِ التي ارتكبها بعض أفراد البشر من وأد(1) البنات والقساوة في معاملة النساء، ولا يعلم بأنّ المشاهدة تكفي عن الحكاية، وفي الدراية ما يغني عن الرواية .

خاتمة في الدفاع عن شرف الإنسان

ونحن إِن شاء اللّه نوضح لك المقام بوافي البيان، ونختم هذا الجزء من الكتاب بما افتتحناه به من الدفاع عن شرف الإنسان.

ونقول: إنّ ما يصدر من الحيوان مصدره قوّة أخرى غير القوة العاقلة التي للإِنسان، بل هي قسم من القوى الدماغية يسمّى انستنكت الإدراك المخصوص بكلّ /235/حيوان، وهو ما يفعل الحيوان به عملاً من غير رويّة وفكر، وهي توجد قوية في الحيوان، وقد توجد في الإنسان ولكن ضعيفة مغلوبة لعقله، كما قال مترجم كتاب الطبّ لكرزل الفرنساوي وقال: «إنّ للطبيعي منه ثلاث صفات :

1: إنّ العمل الصادر عنه ليس مسبّباً عن التجربة والتعلّم، كنسج العنكبوت بيته والطائر عشه .

2: أنّه لا ترقّى فيه، فما ينسجه العنكبوت في آخر عمره كالذي نسجه في أوّله، بل

ص: 187


1- وأد البنت: دفنها و هي حيّة بحجّة التخلّص من عارها، قال تعالى في سورة التكوير /8: «و إذا المؤودة سئلت». (عبدالستار الحسني)

الذي يبنيه العنكبوت الآن كالذي بناه آبائه في قديم الزمان .

3: انحصاره في ذلك العمل، فالعنكبوت الذي ينسج بإتقان يعجز عن غيره من الأعمال، بل قال بوفن: إنّه دون غيره في سائِرِ الأعمال .

وهذه القوة مباينة مع القوة العاقلة التي للإنسان».

هذا ما قاله مترجم الكتاب المذكور وظاهره أنّه قد نقله عن هؤلاء الفلاسفة أرباب العلوم الاختبارية الذين يَعْتَمِدوُن هؤلاء عليهم، وترى كرزل كثيراً مّا يفرق في الأحكام بين هاتين القوّتين ويجعلهما أمرين مختلفين .

إنّ الحيوان لا يعمل بمجرّد الغريزة

أمّا أنا، فلم يتّضح لي بعد حقيقة هذه القوّة، والإِنصاف أنّه لا يمكن الجزم بمباينتها مع القوة العاقلة الإنسانية بمجرّد /236/ هذه الاختلافات الثلاثة التي ذكرها، إلاّ أن تَكُوْنَ هناك وجوه واختبارات غيرها لم أطّلع عليها، إذ لا دليل على أنّ الحيوانات تفعل ذلك بغريزةٍ فيها من غير تعلّم، فلعلّها يتعلّم ذلك من أمّاتها، كما نشاهد ذلك من الطيور؛ فإنّها لا تزال تطير على مَرْأَىً(1) من أفراخها وتدرّبها على الطيران وتحملها حتّى تستقل الأفراخ به فتطير معها.

وكذلك الصفة الثانية؛ إذ لعلّ السبب فيه عدم التربية وجمود القوّة العاقلة وانتهاؤها إلى أقصى حدّها في الحيوان، ومثل هذا مُشاهَدٌ في كثير من القبائل المنحطّة، إذ البيت الذي يبنيه المتوحّش في آخر عمره كالذي بناه في أوّله، بل لا يفرق عمّا ورّثه من صنع أبيه وجدّه .

وكذلك الصفة الثالثة، إذ لعلّ ذلك لعدم التعلّم وعدم مزاولة لأعمال الآخر، كما ترى مثله في صانعي البشر؛ إذ الصائغ المجيد قد يعجز عن الحياكه، والحايك قد لا

ص: 188


1- الأصل: مرء.

يقدر على غير تلك الصناعة، أو لعلّه لعدم مناسبة قوّته الموهوبة له لصنعة أخرى غير ما يعملها. وترى مثل هذا الاختلاف في أصل القوّة العاقلة بين أفراد البشر أيضاً؛ إذ منهم من يدرك أَدَقَّ المسائل من الطبيعيات، ويعجز عن أوضح /237/ الرياضيات أو ينظم أحسن الشعر وأجوده ويتبلّد فهمه عن فهم مسألة عقلية وتعجز مقدرته عن صناعة جزئية .

ولكن جميع ذلك غير مضرّ بالشرف الذي خُصَّ به نوع الإنسان، ولا نافع لما يرومه الخصم من دفع الحاجز بينه وبين الحيوان، بعد ما علم أنّ القوة التي توجد في الحيوان - متباينةً كانت مع القوّة العاقلة في حقيقتها، أم غير مباينة - محدودةٌ قاصرةٌ، لا تتجاوز المحسوسات، ولا يأتي منها إلاّ أبسط الصناعات، وأين هي من عقل الإنسان الذي أدنى خطواته أعلى المعقولات الثانوية؟ وأحد جزئيات مدركاته أدقّ الأحكام الكلّية؟ ومن صنائعه هذه الميكانيكيات البديعة التي يضيق عن وصفها نطاق البيان، ويتكفّل بابدع منها مستقبل الزمان ؟؟

الفرق بين الحيوان و الإنسان

قال لانج الإنكليزي - وهو أحد أرباب هذه الفلسفة - ما لفظه: «فرق شاسع بين الإنسان وهذه العجماوات؛ لأنّ القوى العقلية والأدبية لا ترتقي فيها، ويظهر أنّها غير قابلة للارتقاء، وهي ترتقي في الناس إلى ما شاء اللّه تعالى مهما كانوا منحطّين، ولا يعرف من الناس مَن لا قدرة له على النطق أو لا معرفة له، بِعمل الأدوات واستخدام الموادّ والقوات الطبيعية لأغراضه»./238/

وذكر بعده فصلاً يتعلّق بالفرق بين الإنسان والعجماوات من جهة النطق وقال بعده: «وأمّا من جهة عمل الأدوات فما من قبيلة من قبائل الناس إلاّ وهي تستخدم آلات مختلفة للهجوم والدفاع ولبعض الأعمال، وأمّا أرْقى أنواع القرود فلم تتجاوز

ص: 189

حدّ استعمال الأشياء الطبيعية لأغراض محدودة، فيجلس بجانب النار يصطلي، ولكنّه لا يعرف أن يضرمها، ولا أن يزيدها حَطَباً لِكَيْ لا تنطفئ، وفي بستان الحيوانات بلندن قردان يأخذان مفتاح قفصهما من الخادم ويفتحان الباب ويخرجان منه، ولكن لم يعلم أنّ قردا من القرود صنع مفتاحاً مهما كان نوعه. وغاية ما تعمله القرود أنّها تستعمل أغصان الأشجار والحجارة ترمي بها الأعداء وتكسر بها الجوز».

فإِذا قيل باتحاد القوّتين في الأصل فهو كما قال أبو الطيب :

«فإنّ المسك بعض دم الغزال»(1)

أو كما يقال : إنّ أصل المحراث ممّا تطبع منه السيوف الصقال، فهل يضرّ ذلك المسك وشذاه شذاه، أو السيف وحدة الفاصل له حدةً ومضاه .

على أنّ للإِنسان سواها منحة إلهية وجوهرة سماوية، لا ثمرة في بيانها بعد ما كانت أسمى من أن تناله أرقى عقول المعطّلين، ومعروفة حتّى لدى المستضعفين من أهل الدين، وأمّا ما ينعونه /239/ على الإنسان من انحطاط بعض أصنافه وأفراده فهو من عدم فهمهم مراد من يقول بارتقائه، وظنّهم أنّهم يريدون به أنّ جميع أفراد البشر أرقى وأعقل من جميع أفراد الحيوانات فلفّقوا ما لفّقوا، وأسدوا بروداً لعار الإنسان وأَلحموا .

وما المراد إلاّ أنّ الإنسان إذا بقى على أصل خلقته، ولم تعترض عليه الآفات ولم يفسد فطرته بمتابعة الشهوات وتربّى التربية الكاملة، وسعى في اقتناء الفضائل، وأطاع الدين في اجتناب الرذائل، فإنّه يبلغ المرتبة التي خصّوها بالإِنسان، فلا نقض بمن أصابه خلل في دماغه فوقفت قواه العقلية، أو أصابته أمراض عاقته عن

ص: 190


1- الشعر كما جاء في النصّ لأبى الطيب المتنبّي، و مصراعه الأوّل: «فإن تفق الأنام و أنت منهم»؛ و مطلعه: فانت تعلّم الناس التعزّي / و خوض الموت في الحرب السِجال.

التربية، أو لم يخضع لقانون العقل والدين، وجعل وكده شهوات نفسه، وألقى زمامه إلى وساوس صدره .

وهذا المعنى لا يخصّ أحبّاء الإنسانية، بل لابدّ لهؤلاء من القول به والاعتذار بمثله، لأنّ ارتقاء الإنسان وبُعد المسافة بينه وبين الحيوان الآن لا ينكره أحد منهم، فما هذا اللجاج في أمر واضح وجهه، والإلحاح على نقض يرد عليهم مثله!؟

أمّا هذه الفضائح البشرية التي يتبعها بعضهم ويذكرها، فما ذلك إلاّ لعدم الانقياد للشرائِعِ التي ما شرعها واضعها إلاّ لكفّ الناس عنها وعن أمثالها، وردعهم عن متابعة ما فيهم من /240/ القوى البهيمية، وبيان أنّ مَن يتبعها من نوع الإنسان فهو أخسّ من أدنى الحيوان .

وأمّا عدم قابلية أفراد من الإنسان للترقّيات العقلية ونحوها، فما ذلك إلاّ لِعَرَضٍ اتّفق له أَوْ مَرَضٍ اُبْتُلِيَ به . وكلامنا في البشر المستوي الخلق الصحيح البنية والأعضاء، وما انحطاط بعض الطوائف إلاّ لعدم التربية الموجبة لظهور قواهم الكامنة، ولو أردنا نقل الشواهد على ذلك لأفضى بنا إلى الإسهاب، وحسبك شاهداً ما قرع سمعك مراراً، وقرأت في الكتب والمجلات من انحطاط القبائل في أواسط افريقيا، ومنهم أهالي أوغندا، ولعلّه قد بلغك من انحطاطهم ما قضيت به العجب وقد ظهر من تقرير جمعيات المبشّرين هناك في هذا العصر ما لفظه على ما وجدنا: «إنّ الأوغندي لا يقلّ ذكاءً عن أرقى الأمم الأوروبية. ومن أقوالهم أنّ ذكاء الأوغندي مثل ذكاء الإنكليزي، وأنّهم يتعلّمون القراءة والكتابة بوقت قصير جدّاً، ويفهمون الحساب بسرعة عجيبة، وفيهم ميل شديد إلى تفهّم الحقائق. فإِذا سَأَلَ أحد التلامذة معلّمه مسألةً - ولم يكن له الوقت الكافي للجواب عَنْها(1) في المدرسة - لحقه إلى بيته وألحّ عليه في الاستفهام» . قال الكاتب: «ولا

ص: 191


1- الأصل: عليها.

/241/ يفضلالأوغندي على الإفرنجي في الذكاء فقط، بل هو أرقى منه في الشعورالأدبي»، إلى آخره.

وهؤلاء الزنوج الذين اتّفقوا على انحطاطهم حتّى حكم علم إِصْلاحِ النسل بإبادتهم(1) وإخصائهم، لا تكاد تفرق كثيراً بين من تربّى منهم وبين البيض في العقل والذكاء، بل وفي تعلّم العلوم والصنائِعِ، ولا يزال يوجد فيهم النوابغ المبرّزون كما يوجد في غيرهم، فاستخبر إن شئت عن ذلك صفحات التأريخ وكتب التراجم لتخبرك بمثل كافور الإخشيدي من خِير الملوك سيرةً وأحسنهم سياسةً، ولا يقاس في ذكائه وكياسته ودهائه وسياسته بمواليه الإخشيديين الراقين القوقاسين .

ولتنبئكّ بمن لا يعدّ كَثْرَةً(2) من العلماء المبرّزين في الصنائِعِ والفنون، وقد تفرّدت كتب لترجمة رجالهم وشرح أحوالهم . وإن شئت اكتفيت بما تشاهده من الجلب الذي يؤتى إِلى بلادك، فإنّك ترى أكثرهم بُعَيْدَ التربية ومعاشرة البيض لا يفرق عنهم كثيراً في العقل والذكاء، ولا يمضي على كثير منهم زمن طويل، حتّى يصبح مستخدماً لجماعة من الأحرار وحاكماً على قوم من البيض، وأراك لا يسعك بعد ذلك إلاّ قبول شهادة /242/ العدلين الاختبار والاعتبار، والحكم بأنّ انحطاط بعض الشعوب ليس لنقصان استعدادهم، بل لعدم التربية الكاملة لهم، ولو تربّوا تربية البيض لكانوا مثلهم أو أدون قليلاً منهم.

وإن شئت أن تعرف مقدار أثر التربية وإن كان ممّا لا يجهله مثلك ، ففي أهالي أوربا لك أعظم شاهد وأحسن مثال، فانظر ما تخبرك عنهم صفحات التأريخ قبل اليوم ببضع قرون وما هم عليه الآن .

هذا آخر ما أردنا إثباته في الجزء الأوّل من هذا الكتاب، ونحن نختمه بما بدأناه به

ص: 192


1- الإبادة: الإهلاك.
2- الأصل: كثيرة.

من الحمد والصلاة .

تمّ بيد مؤلّفه - كان اللّه له - يوم السبت عاشر شهر ربيع الثاني سنة 1330 هجرية .(1)

ص: 193


1- جاء في آخر الأصل: «تنبيه: سقط من النسخة التي أعددناها للطبع بحث يتضمّن النظر في ناموس الوراثة و المقايسة بين مذهبى دارون و وسمن فيها. و نحن نثبته في محلّه إن شاء اللّه إذا أعدنا طبع الكتاب».

ص: 194

القسم الثاني: في الكلام على إثبات الصانع جلّت صنائِعُهُ ودحض شبهات المعطّلين

اشارة

والنظر فيآمالهم من هذه الفلسفة وبيان حيلهم ومكايدهم

ص: 195

ص: 196

المقالة الأولى: في إثبات الواجب

اشارة

وقف القوم موقف الإنكار، وشريعة العلم تقضي بإقامة الدليل على المثبت، وهذا حقّ علينا لولا أنّ الأمر من البديهيات التي يستدلّ بها لا عليها، والأوّليات التي تستغني عن الدليل بنفسها

وإِذا قال أبو الطيب :

[من الوافِر]:

وليس يصحّ في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليلِ

فماذا نقول؟ وكيف نستدلّ على وجوده تعالى، والشمس /2/ على ظهورها من خفي آياته؟ وعالم الإمكان بأجمعه أحد الأدّلة على وجوب ذاته؟! ان نظرت إلى الأشجار رأيتها دفاتر سُطّرت على أوراقها أدلّةُ وجوده؟ أو إلى البحار وجدتها قطرة من زاخر كرمه وجوده، جميع ما في الكون ناطق بحمده ومجده: «وإنْ من شيء إلاّ يسبّحُ بحمده».(1)

حتّى الملحد الذي يلوك لسانه بالتعطيل لا تسمع أذن الاعتبار منه غير التقديس والتهليل.

ونقول - مع ذلك - : إنّ للعلماء على اختلاف علومهم وتشعّب فنونهم أدلّة كثيرة على إِثبات الصانع .. ، وقد سلك كلّ على ما يقتضيه فنّه وتناسبه صنعته.

ص: 197


1- الإسراء/ 44.

وذكر تلك الأدلّة لا تناسب هذه الرسالة الموضوعة لأناس لا تتجاوز معلوماتهم لفظي القوّة والمادّة، ويكاد المتأمّل يسدّد سهام الملام، نحو هؤلاء الأعلام وينعى عليهم تجشّم البرهان على ما يغني فيه الوجدان، لولا أنّ لهم تفنّنات يظهرون بها قدرتهم على التلاعب بأطراف العلوم، فقد برهن بعضهم على أنّ الخطّ المستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين نقطتين، وآخر على أنّ الخطين المستقيمين لا يحيطان بسطح .

وذكر شيخ الصناعة في الأصول البرهان على أنّ وتر الدائرة يقع في داخلها

هذا، على أنّ الأزمنة متشابهة، وقد /3/ وجد في أزمنتهم أيضاً شذّاذ فسد منهم في التوحيد الوجدان، فأرادوا تصحيحه بقاطع البرهان، وبنوا تلك البراهين على أوّليات سلمت من إنكارهم، ولم تفسدها وساوس صدورهم .

إثبات الصانع

وإنّي رأيتُ اللّه سبحانه يقول: «أفَي اللّه ِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمواتِ والأَرْض»(1) فعرفتُ أنّ الإثبات من القضايا التي تزيح الشكّ عن نفسها بنفسها، واستفدتَ مِنْ عدّة آيات، بيان ذلك بصورة برهانية، وأنا ذاكِرٌ هنا ما سنح لي من فضل اللّه وبركات كلامه الشريف، وهو برهانٌ بسيط جدّاً لا يبتني على أصول موضوعة، مبيّنة في العلوم العالية، ولا يتوقّف فهمها على مقدّمات دقيقة تصل إليها أفهام قوم وتقصر عنها أفهام آخرين ..

وأنا أجلّ المبدأ المقدس الأعلى، وأقيم البرهان على بداهة وجوده تعالى، ثمّ ادعو كلّ أحد من المعطّلين وكلّ من عَلِقَ بذهنه بعض شبهاتهم إلى النظر فيه، ففيه إراءة المحجّة لمن أراد اللّه هدايته، وإِتمام الحجّة على من شاء ضلالته .

ص: 198


1- ابراهيم/ 10.

مقدّمات البرهان

إقامة البرهان على أنّ وجود الصانع بديهي لا يحتاج إلى البرهان . ونذكر لمزيد توضيحه مقدّمات كلّها بديهية .

القضايا الأولية

الأولى: من القضايا ما يسمّى عند أهل العلم بالأوليات /4/ أو البديهيات أو العلوم المتعارفة على اختلافات غير جوهرية ما بينها، ويجمعها أنّها قضايا يكفي تصوّرها للحكم بها، ولا يقع شكّ فيها إلاّ من جهة عدم ثبوت موضوعاتها، ومتى حصل اليقين بها حصل العلم الضروري بأحكامها.

فإنّك تعلم بأعلى درجات العلم أنّ دارك أكبر من نصفها، وما ذلك إلاّ لقضية أوّلية، وهي «أنّ الكلّ أعظم من جزئه» ولا برهان لهذه القضيةٍ الاّ نفسها .

وتعلم كذلك أنّ دارك ودار أخيك متساويتان، إذا عرفت أنّ كلاًّ منهما يساوي دار صاحبك. وما ذلك أيضاً إلاّ لأوّلية أخرى، وهي أنّ الأشياء المساوية لشيء بعينه في أنفسها متساوية.

وهذه القضايا كما عرفت يستدلّ بها لا عليها، وعلى جميع النظريات بواسطتها، ولا يتمّ برهان قطّ(1) إلاّ إذا رجع إلى واحدة منها أو أكثر بواسطة أو وسائط، ولولاها لا نسدّ باب البرهان والدليل في العلوم أجمع، فهي أساس البراهين، والأدلّة تبيان عليها، ولا تبتني عليها وتستغني بنفسها عنها

ولابدّ لخصومنا من الاعتراف بوجود هذه القضايا، وإلاّ فما يكون جوابهم لمن سلم وقوع التحوّل، وأنكره أيضاً؟ فهل لهم جواب له إلاّ قولهم: «أن امتناع اجتماع

ص: 199


1- كذا في الأصل/ الصواب هنا: أبداً؛ لأن «قط» لا تكون إلاّ مع الماضي المنفىّ، و قد مرّ البيّنة على ذلك.

/5/ النقيضين من القضايا التي يستدلّ بها لا عليها؛ ثمّ يأمرون به إلى المستشفى ويوصون به الطبيب؟

وهذه القضايا لا شكّ في وجودها وإن أنكره أحد فلا شكّ أنّه من السوفسطائيين والشبطيقيين أي الارتبابيين، وخصومنا لا يعدّون أنفسهم منهم .

تميز الأوّليات

الثانية: تميّز الأوليات عن غيرها بنفسها، ولا معرّف لها أحسن منها لدى من صحّ وجدانه، ولكن قد تعرض الوجدان آفة مَن سبق شبهة أو تعصّب أو مرض عصباني، ونحو ذلك؛ فالمعرف حينئذٍ لها أنّ هذه القضايا لا يختصّ علمها بأحد دون غيره، والعامّي يشارك فيها العالم، بخلاف القضايا النظرية، فإنّ العلم بها يختصّ بأهل العلم . فمساواة الزوايا المثلث من المثلّث لقائمتين لا يعرفه إلاّ أهل العلم . ولكن قضية: «أنّ الأشياء المتساوية إذا زيدت عليها متساوية حصلت متساوية» يعرفها العامّي، كما يعرفها العالم؛ والسبب في هذا الفرق واضح؛ إذ النظريات لا تعرف بنفسها، بل بمقدّمات خارجة عنها لا يعرفها غير العالم، وهذه القضايا تعرف بأنفسها لا بمقدّمات خارجية يعرفها بعض ويجهلها بعض . فمن قصر وجدانه عن الحكم في قضية بأنّها أولية أو نظرية فليرجع بها إلى عموم /6/الناس وساير طبقات الأنام، فإنْ رآهم مُجمعين على الحكم فيها أو في أمثالها غير معلّلين حكمهم بما يخرج عنها، فليعلم أوّلاً أنّها أولية وأنّه لا قصور اِلاّ في وجدانه، ثمّ ليبادر إلى معالجة نفسه، فإنّه داء ربّما أعداهُ وسرى إلى سائِرِ وجدانياتِهِ، وأفضى إلى ما لا تحمد عاقبته .

ص: 200

اعتبار الغاية في الصنع

الثالثة: كلّ غاية لا تحصل إلاّ بمقدّمات مترتّبة وأجزاء كثيرة مختلفة الأوضاع، متفاوتة شكلاً وجنساً، ونحو ذلك، إنْ وجدت بتلك الأجزاء والمقدمات فالبداهة تحكم بوجود صانع حكيم، قصد وجود تلك الغاية، وصنع ذلك المركّب لأجل وجودها؛ وكلّما كثرت الأجزاء وتعدّدت الشروط واختلفت الأوضاع الدخيلة في حصولها زاد الحكم المذكور وضوحاً، وهذه من أوضح الوجدانيات؛ فإن حصل لك العلم بها فاحمد اللّه تعالى على العافية، وإلاّ فَأَعْرِضِ الساعةَ التي في جيبيك على من شئت وعرفه بِعُمَدِ أجزائها، ولا أقول بكلّها، ونبّهه بما لزنبركها ودواليبها من الدخل في حركة عقاربها وانتظامها، وبما لترتيب الدواليب واختلافها في الصغر والكبر، وعدد الوريقات والأسنان من الحكمة، وكيف تقوم قوة مرونة الزنبرك اللولبي مقام قوة الثقل، وكيف أتقن دولاب /7/ الموازنة بما اخترعه هريسون، فإذا رأيته تعجّب غاية العجب وأطرى صانعها غاية الإطراء، وحكم بأنّها لم تصنع إلاّ لضبط الساعات الزمانية. فاعلم بأَن وجدانك قد أصابه الخلل فبادر العلاج وعليك بالدواء قبل أن يتمكّن منك الداء .

وبعد هذه المقدّمات نقول: إنّ في الكون ما لا يحصى من صنوف الحيوان والنبات، وكلّها بمنزلة آلات ميكانيكية، وأكثرها أكثر أجزاء من الساعة وأحسن إتقاناً وأشدّ اختلافاً وأعظم غايةً، ولها شروط كثيرة من وجود الشمس التي تبعد عنها مأة وأربعين مليون ورس(1) إلى الهواء المحيط بها، والماء الذي يجري بينها والأرض التي تُقِلُّها والسحاب الذي يظلّها، وقد وضع كلّ في الموضع اللائِقِ به المتوقِّف نفعه عليه، فلو نصفت الْمَسافَة التي بينها وبين الشمس لأحرقتها، ولوضوعفت لم تنتفع بها، ولو بعد الهواء منها قيد رمح لماتت خنقاً، ولو فارقها الماء برهة لماتت عطشاً ، ولو، ولو،

ص: 201


1- الورس ألف متر، وهذا بحساب فلا مريون . (منه)

ممّا لو أحصينا ما وصل اليه منه العقل البشري إلى الآن لأملينا مجلّدات ضخمة في علوم شتّى.

وزد على ذلك ما ترى بين هذه الميكانيكات من الارتباط، فالحيوان /8/ مثلاً لايُمْكِنُهُ التغذّي بالجوامد إلاّ بواسطة حيوان أو نبات، ومن الأحياء ما هُوَ(1) بمنزلة الأجزاء لغيره أو بمنزلة الخدم له من كريات تقوم بمنزلة الجند لبدن الحيوان، الفاغوسيت وميكروبات وظيفتها كرب الأرض لينمو النبات، وحيوانات تدّب في تلقيح الأزهار، إلى غير ذلك ممّا لو تتبّعتها من مظانّها وأعطيتها من التأمّل حقّها لحسبت الكون كلّه آلةً ميكانيكية عظيمة، وأجزاءها ما لا تحصى من آلات مختلفة المقادير والأصناف .

فماذا أنت صانع أيّها المعطّل؟ هل ترضى لنفسك أن تكون سوفسطائياً فتنكر المشاهدات؟ أم ترضى لها الخطّة الأخرى فتنكر البديهيات؟

ونحن نزيدك بياناً عسى أن يصلح بك الوجدان، فتعود إلى صفّ أهل العقل والإيمان، ونجيب عمّا ذكره أصحابك من الشبهات، وعمّا قد يخطر في قلبك منها في ضمن مفاوضة قرأناها في سفر «النفس النفيس، الحاوي لما ينفع الصديق، ويسمر به الجليس» .

مناظرة المؤمن والمعطلّ

اشارة

جمعت إحدى المتنزهات بين رجل من أهل الدين وَآخَرَ /9/ من المعطّلين، فتجاذبا أطراف الحديث، ودار بينهما الكلام في التمدّن القديم والحديث، فَشَرَّقَ بهما الحديث وَغَرَّبَ، واستغرب أحدهما ترقّي الغرب، وقال أحدهما: إنّ انحطاط الشرق

ص: 202


1- الأصل: هي.

منه أغرب .

ولم يزل الحديث يطوي بهما سباسب وقفاراً، ويقطع بهما خُلُجاً وأنهاراً، حتّى خاض بهما بحاراً متعدّدة، وأرسى بهما على موانئ الممالك المتحدة .

فقال المؤمن لصاحبه: هل بَلَغَكَ النبأ البَرْقِيُّ الذي أشاعته الجرائد منذ بضع أيّام بأنه سَيُفْتَحُ في نيويورك المَعْرِضُ العامُّ في هذا العام.

فقال: نعم، ولمثله يُمْتَطى غارب الاغتراب، وَيُسْتَعْذَبُ ما قيل فيه إنّه قطعة من العذاب، فهل لك أن تسافر(1) إلى بلاد العجائب لترى(2) الغرائب وتعود(3) بجرى الحقائب ؟

اعتبار القدرة الإلهية في الكون

( المؤمن – 1) : نعم هذا ما لم تزل نفسي تتوق إليه، وطائر قلبي يحوم عليه، لأرى كيف تستخدم ما في هذا الكون من القوى الطبيعية التي أودعتها فيه يد القدرة الإلهية، وأرى غرائب الصنائِعِ وازداد يقيناً بالصانع .

المعطّل: هذا ما لا أعرفه، ولكنّي طالما حاولت المهاجرة عن بلاد لا ترى العين فيها إلاّ شعائر أهل الإيمان، ولا تسمع /10/ الأذن فيها إلاّ الأذان .

إن هممتُ بما أريد من الفحشاء خُوِّفْتُ بغضب ربّ السماء، وإن أَردت في شهواتي خلع العذار هدّدتُ بعذاب النار . ولو كان الوعيد وعداً لهان عَلَيَّ، ولكن قد يجعل نقداً سياطا تُصَبُّ على الجلد، وحديدا يعضُّ الرجل . وسيفا(4) يفري الأوداج . ومُدْيَةً تقطع اليد، وحفرة في حافتها قطع الأحجار مُعَدَّةً لرجم الفجّار، وما أشوقني إلى بلد لا يدين أهله بغير ترك الدين، ويصدّق فيه كلّ أحد غير النبيين .

ص: 203


1- الأصل: نسافر.
2- الأصل: لنرى.
3- الأصل: نعود.
4- الأصل: نقدا سياط... حديدٌ... سيفٌ.
إنّ وجود مدبّر الكون من البديهيات عند أصحاب الأديان

(المؤمن - 2) : لا مفرَّ لك من سلطان ربّ السماء، وله البسيطان - الثرى والماءُ - أينما حللتَ ترى الجباه لعظمته ساجدةً، والألسن بذكره ناطقّة، والمعابد لعبادته مشيّدةً، إن استراح طرفك من المساجد أسخنت عينك الكنائِسُ، وإن لم تقرع أذنك الحيعلاتُ على الصلاة نبّهتك لأوقاتها من الناقوس القرعات، وإن لم تسمع كلام اللّه قرآناً يرتلّ ترتيلاً(1)، فلابدّ أن تسعه توراةً وإنجيلاً، ولو نزحت إلى الجزائر المنقطعة عن القارّات، وسكنت مع المتوحّشين بطون الفلوات، فلابدّ أن تسمع بذكر مدبّرٍ للكون وقاهر للطبيعة، يُخشى عذابه ويُرجى منه النوال، وتقع له الجباه سجّداً، وترفع إِليه الأيدي /11/ بالابتهال، فإن لم تسمع لفظ الجلالة في زيلاندة الجديدة سمعت فيها توى اتانا، أي صاحب العالم، وإن لم تسمع بالحيّ الأبدي العالم بكلّ شيء(2) في جزائِرِ اندامان، سمعت فيها بولوغا موصوفاً بهذه الصفات . أو بالإلآه الأعظم في جزاير نياس، سمعت فيها لوبولانجي حتّى أنّ البتاغونين الذين كان المظنون سابقاً أنّه لا دين لهم يُحْكى عنهم أنّه إذا التقطوا عجل بحر جلسوا حول النار وأخذ كبيرهم يقسم العجل ثمّ يرفع عينه شكراً لاِءِلآهٍ غير منظور إليه لافتقاده إيّاهم.

وقد ألّف بعض إخوانك مقالةً قال في آخرها: «إنّ الدين من صفات الإنسان التي يمتاز به عن الحيوان، وإنّ الإنسان لا يستطيع أن لا يتديّن بدين».

وجعل الدين هو الحدّ الفاصل بين الإنسان والحيوان.

ومن الطريف أنّه ممّن لا دين له فبأىّ حيوان يجب أن نلحقه هذا، ولا تظفر بالنداد من أخوانك، إلاّ شذاذاً متفرّقين في البلاد تحت نِيْرِ الاضطهاد؛ وهذا الزمان - على أنّه ربيع المعطّلين، وما كُفَّتْ في عصر قبله كما كُفت عنهم فيه

ص: 204


1- اقتباس من سورة المزمل/ 4: «أو زِدْ عليه و رتِّلِ القرآنَ ترتيلاً».
2- قارن: سورة البقرة/ 231: «و اعلموا أنّ اللّه بكلِّ شى ءٍ عليمٌ».

أكفُّ أهل الدين - ترى بخنر يختم شرحه لمذهب دارون بالشكوى من الاضطهاد /12/ويقول: «واعلم أنّ زعماء الرأي المادّي اليوم لا يزالون يضطهدون كما [كانوا] يضطهدون في الماضي» ثمّ يعلل نفسه بالمستقبل قائلاً: «إلاّ إنّ أهل المستقبل سوف يرفعون شأنهم ويعلون مكانهم»(1) ولا يدري المسكين أنّ مستقبل الزمان للدين، وأنّ العقول والعلوم كلّما ازدادت تثقّفاً وتقدّماً زاد الدين انتشاراً وظهوراً، والإلحاد خمولاً ودثوراً، حتّى تَنْجَلِيَ غياهب التعطيل، ولا يبقى قلب إِلاّ وهو مشرق بنور الخالق الجليل .

المُعَطِّل: لكنّ البلاد مختلفة، والممالك المتفقة أظلّتها(2) سماء الحرّية، وبزغت فيها شمس المدنية، فتقلّص فيها ظلّ السلطة الدينية .

معنى الدين و الحرية

(المؤمن - 3) : جهلت معنى المدنية، ولم تعرف حقيقة الدين، وحسبت تحرّر القوم عن رقيّة المخلوق خروجاً عن عبودية ربّ العالمين، وزعمت الإِباء عن الخضوع للمخلوق استكباراً عن عبادة الخالق، ونبذ الأوهام الواهنة رفضاً للحقايق الراهنة

خطاءً في خطاءٍ في خطاءٍ .

رويدك أنّ بناء المدينة الفاضلة ليس من الماء والطين، بل بفضائل وضعت عليها أساس الدين، وبشرحه يطول زمان المناظرة ويعوقنا عمّا عزمنا عليه من المسافرة، غير أنّي أدع التفصيل، والإجمال أجمل، فَاقْرَأْ بطرف /13/التأمّل المفصّل من ذلك المجمل، قال اللّه عز من قائل: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَاباً مِّن

ص: 205


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 224.
2- الأصل: أظلّته.

دُونِ اللّهِ»(1)

فهل سمعت أبلغ منها في وصف الحرّية، وجمع أركانها الثلاثة في سورة واحدة!؟

وقال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(2)، وهل للتمدّن غاية ترمى إليها كالإخوة

وقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ» .(3)

وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» .(4)

فهل تنقض الأريستوقراطية الجائرة بمثل هذه الحِكَمِ البالغة؟

ولقد أسأت الظنّ بتلك البلاد، ورميتها بأمّ الفساد، ففيها نحو ألف وسبعمأة كنيسة، لا يقلّ إيرادها سنوياً عن سبعين مليوناً من الجنيهات . فلمن بنيت تلك الكنائِسُ، وفي سبيل مَنْ تبذل تلك الأموال!؟

ثمّ قال له المؤمن: خذ للسفر - متى شئت - أهْبتك، فإنّى محسن إِن شاء اللّه صحبتك، ولكن إيّاك أن تظنّ بتلك البلاد، كلّ هذا الظنّ وتجري فيها إلى القبائِحِ مخلوع الرسن، فتلقى ما /14/لاقى فيها مكسيم جوركي لَمّا ذهب إليها يطلب المعونة للمظلومين في روسيا، وكانت معه صديقة له، فلما علم الأَميركيون أنّها ليست زوجته ثاروا عليه وَطَرَدُوْهُ(5) من اللوكاندة ومن القهوة، فقضى اللَّيْلَ في الشوارع تواً ورجع إلى أوروبا .

ص: 206


1- آل عمران/ 64.
2- الحجرات/ 10.
3- الحجرات/ 11.
4- الحجرات/ 13.
5- الأصل: طردوا.

فصلٌ جديد في المناظرة على الباخرة

اشارة

تجهّز الصاحبان للمسافرة واستويا بعد مدّة في الباخرة.

أمّا المُعَطِّلُ فَلا أدري ما قال وماذا عسى أن يقول فيها؟

ولكنّ المؤمن قال : «بِسمِ اللّه ِ مَجريها ومُرسيها» .(1)

فما أرست على الْمرسى إِلاّ رَجُلٌ واقفٌ على الساحل، فبادره المؤمن بالسلام وَحَيّاهُ بتحية الإسلام، وسأله عن مقصده. فقال: حضور المَعْرِضِ في نيويورك، ثمّ عرض عليهما مصاحبته وشرط عليهما حُسن الصحبة، فساروا جميعاً وحضروا المَعْرِضَ .

ساعة مير

فاستحضرت فيه ساعة علوّها ثمانية عشر قدماً، وعرضها ثمانية، وسمكها خمسة أقدام - وفيها الفادولاب يعلوها كرسي من المرمر، يجلس عليه مثال واشنطون، وفوقه خيمة بهيئة الشمسية، وأمامها أربعة تماثيل: طفل وشاب وكهل وهرم، تشير إلى الفصول الأربعة، وتماثيل أخرى كثيرة - تُشيرُ /15/ بحركاتها إلى الثانية والدقيقة والساعة، وأيام الأسبوع، وأيام الشهر والفصول والأبراج وحركتي الأرض وحركة القمر، وإِذا قرع فيها الناقوس فتح خادم واشنطون باباً وصدحت الموسيقى، ووقف واشنطون على كرسيه، فخرج من الباب كلّ رؤساء الجمهورية على

ص: 207


1- هود/ 41.

ترتيب حكمهم، كل بحسب ما وافق وقته من الملابس وتطارحوا السلام مع واشنطون، ثمّ دخلوا من باب آخر فتحه خادم آخر وجلس واشنطون على كرسيه وأَغلق الباب .

فأكثر المؤمن والمعطّل من العجب بها، والتعجّب من صانعها، وأفرطا في إطرائه، ووصفاه بجودة الصنعة وبديع التفنن، وصاحبهما يضحك منهما. ثمّ قال: ما أسفتُ على أمرٍ كأسفي على حُسن ظنّي بكما، فما صاحبتكما إلاّ لزعمى أنّكما من أهل العلم لما رأيت من سمته عليكما ، وقد علمتُ الآن أنّكما من السُّذّجِ البُسَطاءِ الذين تسود عليهم الأوهام، إلى كم تمدحون موهوماً وتعزون إِليه صنع هذه الساعة؟ وتزعمون أنّه صنعها لهذه الغاية، وما هي إِلاّ نتيجة الصدفة الصمّاء، وعمل الطبيعة في مدّة تعدّ بملايين من السنين، وجميع ما فيها نتيجة الاضطرار وليس فيها ما يدّلّ على الاختيار . /16/

وما أتمّ الصاحب كلامه حتّى تميَّزَ(1) لَوْنُ المعطّل وأرغى وأزبد، وقال له: إنّك لمجنون، فقف من جنونك عند هذا الحدّ .

فزبره المؤمن قائلاً: لماذا تسبّه؟ وما هكذا يُراعى ذمام الصديق؟ أ لم يشترط علينا حُسْنَ الصُّحْبَةِ [في] أثناءِ الطريق!؟ فأجابه المعطل بأنّي لم أرد السبّ بقولي بل أردت النصح له، فلعلّه يتنبه لدائه فيعجل في علاجه .

تمهيد في معنى الغاية و العظام

(المؤمن - 4) : عذر حسن، ولكن بم عرفتَ جنونه !؟

المعطّل من نسبته هذه الحركات المنظّمة الصادرة من الأجزاء الكثيرة المقادير والهيئات إلى محض الصدفة، وعدّه هذه الغايات المطلوبة ناشئة عن الاضطرار .

ص: 208


1- الأصل: تمنز.

(المؤمن - 5) : وما قولك فيه، لو قال مثل مقالته هذه في القطار الذي سافرنا فيه، والسكّة التي سار عليها ؟

المعطّل: كنتُ أهربُ منه حذار أَن يعديني داؤه أو تُصيبني أحجاره .

(المؤمن - 6) : فلم لم أهرب منك طول الطريق ومدى هذه الأيام المتطاولة؟ ومثل ما سمعتَ منه في مركبٍ واحد أسمعه منك في ألوف ألوف من صنوف المركّبات التي أدناها، /17/ لا تقاس بهذه في استحكام الصنعة وشرف الغاية، ومنها مَنْ صنع هذه الساعة

ولقد نقل أحد إخوانك من المعطّلين عن بعض أهل الدين أنّه قال: إذا كان الذي يصنع ساعة يعدّ عظيماً، فلا شك أنّ الذي يصنع ساعة تصنع ساعة يكون أعظم، فلا بَدّ لك من أحد أمور ثلاثه :

[1]: الإيمان بالصانع تعالى.

[2]: أو بيان الفرق بين تلك المركبات وبين هذا الساعة.

[3]: أو الإقرار بأنّك شريك صاحبنا في دائه، وأنّ لك النصيب الأوفر منه والسهم الأعلى .

المعطّل: لا أعرف معنى النظام، و قد قال أحدنا في كتابه أن اللانظام عندنا نسبي.

(المؤمن - 7) : استدلّ عليك بالنظام، فتستشهد بكلام صاحبك في اللانظام، ولئن أخطأت قانون المناظرة فلقد أحسنتَ الاتباع لصاحبك، فإنّه نقل استدلال أهل الحقّ الذين سمّاهم أهل الخلق بأنّ ما نراه في الوجود من النظام يدلّ على القصد.

ثمّ قال: فَردّ أصحاب القدم أنّ ما تسمّونه قصداً نسمّيه ضرورة، فالعوالم لمّا كان بعضها مرتبطاً ببعض بنواميس معيّنة، كان من الضرورة أنه إذا حصل تغيّر في شيء يحصل تغيّر مطابق له في سائِرِ الأشياء . ولذلك لم يكن العالم ولا هو كائن، ولن

ص: 209

يكون بعضه بالنسبة إلى بعض إلاّ منتظماً ./18/ «واللانظام عندنا أمر نسبي» ،

فلأيّ نكتة لم يجعل النظام نسبيّاً؟ بل اعترفَ به؛ ثمّ تطفلّ ذكر اللانظام، وهو ممّا لم يذكره المستدلّ، وهل يمكنه الفرق بين النظام واللانظام، فيجعل الثاني نسبياً دون الأوّل؟

ثمّ هلاّ قلت لصاحبك : «ومن أنتُمُ حتّى يكونَ لَكُمْ عِنْدُ(1)».

ولمن هذا الاصطلاح المختصّ: أ للأطبّاء أهل صناعتك؟ أم للملاحدة أهل نحلتك؟ أم لأهل التحوّل أهل فلسفتك ؟

وما المراد منه؟

فإن أردتم أنّ من الأشياء ما تعدّ غير منظمة، ولكن قد يكون بالقياس إلى غيره منظماً، فهذا لا يختصّ بكَم، مَن كنتم!؟ ولكن ما تصنع هذه النكتة الدقيقة في المقام؟ وما نفعها لكم؟ وما الذي يلحق أهل الدين منها ؟

ثمّ إنّي لم أرد بالانتظام مَعْنىً دقيقاً يلزمني شرحه وَيُلْجِئُكَ إلى الاستشهاد بقول صاحبك، وإنّما أردت به هذا الذي شاهدته هذه الساعة في هذه الساعة واستدللت به على جنون صاحبنا من دواليب تتحرّك، ولو لا الزنبرك الرئيسي لما تحرّكت وعقارب تسري، ولو لا الدواليب لما سرت والحركة المنظّمة، ولو لا دولاب الموازنة لما انتضمت. ومثل هذا وأعظم منه موجود في أكثر صنوف الحيوان والنباتات كما تعلم، فلا أطيل البيان بتعداده . /19/

المعطل: أما رأيتَ صاحبي كيف أصاب المحزّ وقطع المجرّد، فقال: إنّ ما تسمّونه قصداً نسمية ضرورة !؟

(المؤمن - 8) : نعم، ورأيت مثله في موضع آخر من كتابه وهذا لَفْظُهُ :

ص: 210


1- هذا عجز بيت - من الطويل - و صدره: يقولون هذا عندنا غير جائزٍ/ و من أنتم.... (عبدالستار الحسني)

«وما نراه من النظام فهو كذلك ضروري لا مقصودي، لأنّ التغيّر الحاصل في جزء من أجزاء هذا العالم يتبعه تغيّر في سائِرِ الأجزاء على حكم الضرورة كنتيجة لسبب، فإذا كانت العوالم موجودة على النظام الذي نراها فيه، فلأنّها هي من الارتباط بعضها مع بعض، بحيث لا يمكن أن تكون على خلاف ذلك، فلو تغيّر نظام أحدها لوجب أن يكون التغير شاملاً لعموم النظام، ولذلك لم يكن الكون بعضه بالنسبة إلى بعض - ولا هو كائن، ولن يكون - إلاّ منظماً، وإن اختلف في الأزمنة الثلاثة، لارتباط بعضه ببعض، وجريه على سنن شاملة لجميعه.

وما أدري ماذا دهى صاحبك؟ فبينا هو يطيل لسانه على العلماء ويرميهم بخشونة الألفاظ وغموض المعاني، إذ أخذ في كلامه مَآخِذَهُمْ، بل أربى عليهم وأتى بهذه الشطحات .

ولو شرحتُ لك ما اشتمل عليه كلامه هذا، وكلامه المتقدّم، من طرائف الحكمة ودقيق الفلسفة لتشعّب ذهنك، ولعاقك /20/عمّا قصدته من إيضاح أمر التوحيد لك، فاقتصر على قولي: إنّ كلامنا لم يكن في أمر التسمية بأحد الأمرين من القصد أو الضرورة ، ونحن لا ننكر أنّ هذا النظام البديع وترتّب الغايات المقصودة منه عليه بعد خلق المادّة وجعل النواميس على كيفيّة تؤدّي إلى هذه النتايج ضرورةٌ، لا تغيّرٌ ولا تتبدّل، ما لم يغيرها خالقها وجاعلها، كما أنّ حركات دواليب الساعة وانتظام حركات عقاربها ضرورية بعد تركيب أجزائها وترتيبها؛ إذ لابدّ للدولاب الأكبر من الحركة بعد ضغط الزنبرك عليه، وهكذا الدولاب المركزي لاتصاله بالأكبر، وهكذا حَتىّ ينتهي إلى الدولابين الواقعين تحت المينا، ولا بدّ من انتظام الحركات أيضاً بعد فعل دولاب التوازن، ومناسبة أسنان الدواليب، وما دامت الآلة على هذا الترتيب وهذه الأجزاء فحدوث تلك الحركات المنظمة ضرورية قطعاً .

فإن أردتَ بالضرورة هذا المعنى فليس مما ينكره أهل الدين، بل يستدلّون بها

ص: 211

على وجود الصانع وكمال حكمته، كما استدللتَ بإتقان صنع الساعة على وجود صانعها وقصده للغايات الحاصلة منها، ولم تمنعك الضرورة بهذا المعنى عن الاعتراف به، بل هي التي دلّتك على سعة علمه وبديع /21/حكمته .

وإِن أردتَ من الضرورة: أنّ هذه النواميس التي تؤدّي إلى وجود مخلوق - كالإنسان تجتمع على ما يقتضيه النظام، فتحدث الأجزاء اللازمة لحياته وسهولة معيشته وغير ذلك، وترتّبها على ما يلزم وتشكّلها، كذلك من غير جامع لها وجاعل قَصَدَ حصوله من جعلها - فهذا هو الذي نمنعه، وندّعي البداهة على امتناعه، كما صنعته على صاحبنا، وسمّيته مجنوناً، لأجل إنكاره ذلك. وأما أنا فيمنعني ذمام المصاحبة عن مخاطبتك بمثله .

وإنّي أنشدك - بكلّ ما يعزّ عندك وجميع ما يَحْظى لديك - أيّ فرقٍ ترى بين مصنوعات هذا الكون، وبين هذه الساعة بعد النسبة بينهما!؟ وأنّ الفرق بينهما كالفرق بين أعظم الميكانيكيات وبين الدواليب التي تصنعها الأطفال على مجاري المياه واشنطون بنفسه، وحركاته الكثيرة، وحروبه المشهورة، ومثال له لا يتحرّك سوى القيام والقعود لا يمشى ولا يتكلّم ولا . ولا .

حركة الأرض العظيمة، هذه الحركة المنظّمة الموجبة لحدوث الفصول الأربعة على أقصى مراتب الحكمة وأتمّ المناسبة لما فيه صلاح الحيوان والنبات وصور تشير إليها قمر يدلّ بتشكّلاته البديعة على الشهر مدى أجيال تعدّ بالملايين، وعقرب يدلّ عليه في قليل /22/ من السنين شمس تدلّ على السنة، وعقرب يدلّ عليها، وبيان الفرق بينهما موكول إليك، وهو أوضح منها.

وفرق آخر، وهو: أنّ صانع الساعة عمد إلى أجناس موجودة من الخشب والحديد وغيرهما، فركّب أجزاءها منها، وإلى نواميس مجعولة، فاستخدمها.

وإنّ هذا ممّن أوجد أجزاء مصنوعاته من العدم، فخلق المادّة، وجعل لها

ص: 212

نواميسها، ثمّ حوّلها تحوّلات كثيرة حتّى غدا هذا عظماً، وذاك لحماً، وهذه أعصاباً، وتلك عروقاً .

المعطل: للمادّة قوىً طبيعية كافيةٌ لحدوث جميع ما يحدث في الكون، عرفنا منها بعضاً، وادّعينا معرفة بعض، وما أعيانا فيه الأمران معاً أَرْجَأْناهُ إلى المستقبل وادّخرناه لأهل الزمان الآتي، بخلاف الساعة؛ إذ ليس للمادّة مَسْبَكٌ تسبك فيه الدواليب، ولا مِنْشارٌ(1) ينشر به الخشب .

النظام العامّ في الكون

(المؤمن - 9) : إنّ أصحابك يسمّون ميكانيكين لقولهم إِنَّ الكون آلة ميكانيكية عظيمة، فجميع ما فيه من الصور المتنوّعة والقوى المختلفة أجزاء لتلك الميكانيكية العظمى، وهي لها كالدواليب ونحوها لهذه الساعة، وإنّي أَناظرك في الكون بأجمعه، هذا المنتظم الذي في طيّه ما لا يمكن إحصاؤه من المركّبات المنظّمة، وأطالبك بالفرق بينها وبين /23/ هذه الساعة، وأقول: كيف جوّزتَ وجود تلك الميكانيكية العظمى بلا موجدٍ حكيم، ولم تجوّز وجود هذه الساعة الصغيرة الواحدة ؟

وإنّي لأعجب من أصحابك كيف يجذّون أصلهم بأكَفّهم، ويقرّبون الطريق إلى دحض مذهبهم؟ إذ بعد التسليم بأنّ الكون ميكانيكية منظّمة، لا يبقى لردّهم سوى ما تحكم به بداهة العقل، ويقضى به صريح الوجدان من أنّ صدروها عن قوى صامتة من أوضح المحال.

ثمّ أقول: إنّ في الطبيعة أيضاً ما يكفي لإيجاد هذه الساعة، بل ولكلّ آلة ميكانيكية دقّت أو جلّت ؛ إذ المعادن التي تتركّب منها الدواليب موجودة في الطبيعة، والبراكين لإصهارها(2) كافية، فإِذا جرت وهي مصهّرة على قِطَعٍ من

ص: 213


1- الأصل: منشار.
2- الإصهار: الاِذابَةُ.

الأحجار المختلفة، وحُفَرٍ في الأرض لأشكالها متناسبة، وفاجأها البرد حينئذٍ، جمدت وتشكلّت بأشكال ما جرت عليه، وكانت لها بمنزلة القواليب؛ ثمّ إذا ارتفع البحر وطمى عليها الماء لعبت بها التيارات وضربتها بالصخور والأجسام التي تحت البحر، حتّى تحدث لها الوريقات والأسنان على مَدى ربوات الأجيال، فتحسر عنها الماء وهي دواليب كاملة، ثمّ تلعب به الرياح الزعازع وتصقلها بحكّ بعضها على بعض، وتحملها العواصف، وتجمعها في بعض كهوف /24/الجبال؛ ثمّ إنّ جوارف السيول تقلع أشجاراً وتضربها على صخور الجبال، وتكسرها قطعاً على الأشكال المناسبة للساعة، فتحمل أيضاً على متون الرياح إلى حيث تنتظرها الدواليب، فتعود آلة ميكانيكية تامّة، وإن نقص علمك عن إتمام شيء منها أو من ساير الميكانيكيات، فإن شئتَ استعنتَ بالصدفات الدارونية؛ ولا عار عليك في التأسّي بإمام أهل النشوء والارتقاء. وإذا كان يفرض ألف قحط، ويميت ملايين من جنس الزرافة جوعاً، ليطيل به عنق الزرافة الموجودة الآن، أ فتعجز عن فرض ما يتمّ لك تعليل ما شئت ؟

وإن شئتَ أَرجأت أمره للمستقبل، وقنعتَ بما عرفت متحمّساً بقول بخنر في المقالة الثانية(1): أنّ التقدم ولو خطوة - في سبيلٍ كثير العقبات كهذا - يحسب نجاحاً كبيراً.

ودافعاً حملات خصومك بمثل قول برير في كتاب طوائف الحيوان: إنّ تلك المسائل يلزم اكتشافها، ولا يصحّ أن تكون اعتراضات على مذهب التسلسل.

والإقدام والجسارة من أعظم ما يفتخر به أصحابك، فكن مقداماً واجعل الميكانيكيات أجمعها من هذا القبيل وانكر وجود مستر واط مخترع الآلات البخارية(2) أو محسنها، واجعله /25/فرضاً سببه نقصان العلم، وقل: إنّ وجوده من

ص: 214


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 118.
2- الأصل: النجارية.

الأوهام السائدة على العقول!

وَلَعَمْرِي - وما عَمْرِىِ عَلَىَّ بِهيّنٍ(1) - إنّه أهون من إنكار صانع هذا الكون أجمع! وأنت يا صاحبي إن كنت لا تجزم بصانع مريد المركّبات المنتظمة إلاّ بعد الجزم بعدم وجود أسباب طبيعية كافية، فلماذا قطعت بوجود صانع هذه الساعة، وتهكّمت بصاحبنا!؟

وإن كان وجودها كافياً للعلم بمبدأ مريد صانع لها، ولو باستخدام القوى الطبيعية، وكانت البداهة حاكمةً بأنّ القوى الصامتة لا تجتمع على أن تحدث مركّبات تامّة نافعة، فلا تعطيل.

وإِن سلّمتُ منك كفاية ما في الكون من النواميس لإحداثها - كما في صانع الساعة إذ لم يات بخارق للطبيعة، ولم يتعدّ سنن الطبيعة إلى المعجزة وإنّما وجد نواميس لها - فاستخدَمها، ولم يستخدم خارجاً منها غير علمه وإرادته، فليكن الأمر في صناعة الكون كذلك.

ويبقى الفرق أنّ صانع الكون جلّت عظمته أوجد تلك الأسباب لهذه الغايات، وصانع الساعة لم يوجد شيئاً، بل وَجَدَ مَوادَّ(2) موجودة، فصنع منها ما أراد .

الصلة بين النواميس الطبيعية و القدرة الإلهية

المعطّل: تقدّم العلوم في هذا العصر بأبحاث المتأخّرين لم يدع حادثاً من غير تعليل، وليس كما سبقه من الأعصار /26/ التي كان العلماء لا يهتدون إلى علل كثير من الحوادث، فيفزعون إلى القدرة الإلهية.

وقد علمنا الآن من نواميس الطبيعة ما يكفي لتعليل أكثر ما خَفِيَ على المتقدّمين

ص: 215


1- هذا صدر بيت من الطّويل عجزه: لقد نطقَتْ بطلاً علىّ الاقارع. (عبدالستار الحسني)
2- الأصل: موادا.

الْوَجْهُ فيه، وعلى المستقبل رَفْعُ الحجاب عمّا خَفِىَ علينا الآن، فلا حاجة إِلى .. وهذا هو الذي يقرّره زعماؤنا في كُتبهم، ويلقيه علينا خُطَباؤُنا في خطبهم. وأمّا هذه الساعة فليست لها نواميسُ كافية لحركاتها .

(المؤمن - 10) : أمّا تقدّم العلوم فقد زادنا بصيرة في الدين، وأورثنا يقيناً على يقين، إذ تضاعفت به عندنا شواهد الإثبات، وببركته ظهرت لنا كنوز الآيات الخفيات .

عرف الأقدمون وجود الصانع تعالى من وجود شمس واحدة وقمر واحد وأرض واحدة وسيّارات سبعة وعناصر أربعة وغير ذلك.

فهل صنع تقدّم العلم شيئاً سوى أنّه كشف لنا تعدّد تلك الشواهد، وأعطانا ألفاً بواحد، وأبان لنا تضاعفها، ولم تَكُنْ قطّ تلك الحوادث التي لا تعليل لها دليلاً يعتمد عليه المؤمنون ليضعف بتقدّم العلوم، بل كان الدليل الوحيد هو انتظام تلك العلل المرتبة، فكلّما ازدادوا معرفة بها؛ ازدادا يقيناً بخالقها ومبدعها . /27/

وإنّي أدعك سادرا في غلوائك، ولا أكذبك في ادّعائك، ولو شئت لا سمعتك اعتراف أئمّتك بجهل معظم نواميس الكون، وبيّنت لك ما لهم من الأوهام والمناقضات فيما يعلّلون به أنفسهم في تعليل الحوادث، وأَقتصر على سؤالك عن هذه الساعة: لو كانت الدواليب الموجودة فيها غير كافية لجميع حركاتها، وكان يحتاج بعضها إلى تحريكه باليد ، أ لم يكن نقصاً فيها ودليلاً على ضعف قدرة صانعها وعجزه عن إِكمال صنعته !؟

ثمّ لو كانت هذه الساعة لا تحتاج إلى المفتاح ولا إلى من يحملها، بل كان الزنبرك يلتفّ بِأَسْبابٍ معدّة لذلك، وتحضر المحضر في وقته بقوّة فيها من غير أن يتكلّف أحد حملها، أ لم تَكُنْ أَكْمَلَ مِمّا هِيَ عليه الآن !؟

المعطّل: لا شكّ في كلا الأمرين .

ص: 216

فقال له المؤمن: ماذا تنقم إذاً من القدرة الكاملة الإلآهيّةِ التي أتقن صنع ما صنع وأتمّ أجزاءه، ولم يدع فيها موضعاً، ل- «لو» و «ليت».

وكيف تقلب الدليل الدالّ على كمال قدرته وحكمته، فتجعله ذريعة إلى إِنكار مقدّس ذاته .

هذا إن تمّ لك ادعاء أنّ النواميس الموجودة كافية لتعليل جميع ما يجري في الكون، وأنّه لا يقع فيه أمر بغير ناموس طبيعي وَأَنّى لك بإِثباته ؟ /28/

انّ فلسفة دارون لا تنافي الغاية و المقصد

المُعَطِّل: فلسفة دارون لم تدع مجالاً للقصد والغاية في أعضاء المخلوقات، أما سمعت بخنر يقول: «إنّ الذي ينظر إلى هذه الأعضاء نظراً بسيطاً باعتبار فائدتها ونسبتها إلى الأحوال المختلفة للطبيعة بقطع النظر عن الماضي؛ يجد فيها من الموافقة والمطابقة ما يحسبه مقصوداً» .

وأمّا العلم فلا يبحث فيما هي عليه من النظام اليوم فقط، بل فيما كانت عليه في الماضي أيضاً، وبأيّ الطرق الطبيعية وصلت إليه من الأحكام على نوع غير محسوس، وهنا يبسط لنا مذهب دارون التعليلات الصريحة والأدلّة المأخوذة ليس من الفلسفة وحدها فقط، بل من الحوادث والأمثلة الحيّة أيضاً، وقد جعل أيضاً إزالة الاعتقاد بالأَسباب الغائية نتيجة أخرى لإدخال الفلسفة في العلوم الطبيعيّة ربّما كانت أعظم من مذهب دارون نفسه .

(المؤمن - 11) : سمعت ذلك وقضيت منه العجب، وهل فلسفة دارون إلاّ إثبات تحوّلات كثيرة متوالية للأجسام الحيّة مع سير بطيء دائم إلى الارتقاء، معلّلاً ذلك بالانتخاب الطبيعي، وأيّ الأمرين تراه منافياً للقصد والغاية!؟ أصل التحوّل والارتقاء، أم تعليلهما بالانتخاب ؟

ص: 217

ألا يقنع /29/ منكر التلولوجيا (1) عن أصل التحوّل بما قنع غيره من الهَوى، فقال: وَأَخْلُصُ مِنْهُ لاَعَلِىَّ وَلالِيا(2)، أَ لا يرى أن من يريد أن يسكّ ديناراً يعمد أوّلاً إلى تراب المعدن، فيستخلص الذهب منه، ثمّ يذيبه، ويجعله في صورة المائِعات، ثمّ يصوغه سبيكة يجعلها قطعاً يطبع منها ديناراً؛ فهل يرى أن يسلب منه القصد لصنع الدينار، لأنّه حَوَّلَ المعدن بتحوّلات عديدة، حتّى غدا ديناراً، أو يرى أنّ ذلك دليل القصد مع الدلالة على علمه وحكمته .

ثمّ إذا أخذ الصائغ ذلك الدينار فصاغٍ منه خاتماً، ثمّ تغيّرت المصلحة الموجبة لصنع الخاتم واقتضت أن يصوغه فتخةً(3) وبعده قُلْباً(4) ثمّ قُرْطاً(5)، فهل تدلّ هذه التحوّلات على عدم القصد، أو تدلّ على وجود الصانع وعلمه بمقتضيات الأزمان وقدرته على ما أراد ؟!

فماذا على القدرة الإلهية إذا خلق الفرس بعد تحوّلات عديدة لعلمه بأنّه لا يكون في صورة الفرس على النظام الأتمّ حتّى تلبّس قبله صوراً أخرى أحطّ منها، أو اختلاف المصالح بحسب اختلاف الأزمان والتغيّرات الحادثة في الوسط، واختلاف جنس المعيشة أوجب تغيّر صور أجداد الفرس /30/ فشكّل كلاًّ منها على ما يناسب العوارض وأحوال الوسط .

أبعد هذا كلّه يعدّ انتقاض دعائم التلولوجيا ثمرات هذا المذهب؟

ولو كان هذا كافياً لنقض دعائمه لكانت منقوضة من قبل أن يوجد دارون بثمرة النخل؛ لأنها لا تصير رطباً حتّى تكون بُسراً، ولا بُسراً حتّى يكون بلحاً، وبالرجل

ص: 218


1- علم الأسباب الغائية .
2- هذا عجز بيتٍ من الشّعر، بحره الطّويل. (عبدالستار الحسني)
3- الفتخة: خاتم كبير يكون فى اليد و الرّجل أو حلقة من فضّةٍ كالخاتم. (عبدالستار الحسني)
4- القلب بضم القاف: سوار المرأة. (عبدالستار الحسني)
5- القرط: ما يعلّق فى شحمة الأذُن. (عبدالستار الحسني)

لا يكون كهلاً حتى يكون طفلاً، ولا طفلاً حتّى يكون جنيناً.

وعليه لا تسلّم دعائم التلولوجيامن الانتقاض إلاّ أن تنشقّ الأرض عن نخلة متدلّية العثاكل، فيها الرطب الجنّي، وتقوم المرأة عن شيخ أبيض اللحية منحدب الظهر.

ومن العجب الذي لا عجب فوقه أنّ أَحدهم إذا رأى المقرّبة التلسكوب، ولم يكن سمع بها قبل، فلعلّه يحتمل باديء بَدْءٍ أنها من صنع طفل وضعها للعبه، وأنّها ممّا قضت الاتفاقات به، ولكن متى أدناها إلى عينه ورأى البعيد بها قريباً، علم أنّها وضعت لهذه الغاية، /31/ وأنّ صانعها من الحكمة بمكان. ثمّ إنّه بعينه يرى أيضاً أن له عيناً يرى بها الأشياء من أدنى الأرض إِليه إلى أبعد نجوم السماء، وهي لا تقاس بالمقرّبة في حسن المنظر وَإِتقان الصّنْعِ وكثرة الأجزاء وعظم المنافع وإِلى غير ذلك؛ ثمّ لا يعلم أنّها وضعت لهذه الغاية، ولا يقف عند هذه الحدُّ، بل يتجاوزه إلى إِنكار صانعها، وإِذا سألته عما أوجب إِنكاره يقول : إنّها كانت على مذهب دارون نقطة عصبية حساسة ارتقت حتّى بلغت حالتها الحاضرة بعد أن مرّت بدرجات من التغيير غير محدودة .

بخنر ص 131:(1) ويرى التدرّج في الوجود من خلع صورة ولبس صورة مانعاً عن القصد، كان الإيجاد الدفعي ضربة لازب(2) على القاصد . وهو يعلم أنّ المقرّبة أيضاً لم تبلغ حالتها الحاضرة إلاّ بعد تحوّلات متعدّدة كان أصلها رملاً في بركشير، ؟؟ فَما زال يتقلّب في اتاتين(3) الصهر والتليين والبسط، ويضاف إليه الصوداء

ص: 219


1- كذا في الأصل، و لم نعثر عليه في المصدر.
2- أى: أمراً لازماً. (عبدالستار الحسني)
3- الأصل: أتانين/ أتاتين: جمع أتون، ما يقام من الحجارة فتوقد فيه النار إلى أن تصير الحجارة كلسا؛ موقد نار الحمّام.

والكلس، ويتحوّل إلى أشكال مختلفة حتّى غدا عدسية مقربة .

وإذا بلغ فساد وجدان الإنسان إلى مرتبة يرى أن له عينين يرى بهما، ورجلين يمشي عليهما، وأضراساً يمضغ بها طعامه، ولساناً يقوم به كلامه، ثمّ لا يدرك أنّها موضوعة للرؤية والمشي والمضغ والتكلّم، فماذا يقال له!؟ وما عسى أن يرجى فيه بعد ذلك؟ وما الذي ينجع فيه ؟

وأمّا تعليله بالانتخاب: فلا ينافي القصد أيضاً، إذا ليس هو العامل الوحيد في وجود هذه الأعضاء /32/ المنظّمة التي للأحياء، بل العمدة فيه على هذا المذهب نواميس المباينة التي لم تعرف إلى الآن، وهي مدّخرة للقرن العشرين، كما يقول دولبر ونواميس الوراثة، وهي مما لا يزيد دارون فيها على الأمل بأنّ المستقبل يرفع عنها الحجاب،(1) فبالمجهولات الاْءُوَلِ: تختلف الأولاد عن الآباء، وبالثانية يَنْتَقِلُ النافع منها للأعقاب .

وما الانتخاب الطبيعي إن تأمّلته سوى عامل غشوم يتمذهب بمذهب شو، يبيد الضعفاء فقط، وليس من وظيفته إحداث القوّة وتكثير الأعضاء. وقد بسطنا شرح ذلك في محلّه .

انّ النواميس الطبيعية لا تنافي اعتبار الغاية فيها

وأنت إذا فرضت عود الحياة إلى تلك الأحياء التي قضت عليها فلسفة دارون القاسية وأهلكتها بالانتخاب الطبيعي جوعاً وعطشاً، ثمّ أعدتها بفكرك إلى صفّ سائر الأحياء، وجعلت كلاًّ منها بجنب ما يناسبه من الأصناف الموجودة، فهل يكون الحاصل سوى أصناف أخرى لأنواع الأحياء الموجودة، أو أنواع أخرى مثلها!؟ وكلّها تامة الأجزاء كاملة الصنع موهوب لها ما تحتاج اليه في معيشتها وبقاء

ص: 220


1- الأصل: الحجات.

/33/ نسلها.

وهل كنت ترى انتقاض استدلال المؤمنين بإتقان الصنع المشاهد في الزرافة والفرس الحاليين إذا قام بجنب الأولى نوع منها أصغر جسماً وأقصر عنقاً، وبجنب الثاني صنف منه في حجم الثعلب له خمس أصابع في اليد وثلاث في القدم - الفرس في الدور الأيوسيني إن سمى فرساً - وكنت ترى شواهد للإثبات تترى وأدلّة عليه يتلو بعضها بعضاً. وإن أبيت عن ذلك فالشارح ينقل عن دارون الاعتراف بنواميس كثيرة معلومة ومجهولة، ويلزمه ببعض نواميس أُخَرَ، ويرى أنّ للطبيعة تفنّنات كثيرة في تحويل الأحياء، وعلى هذا أوذاك وبعد هذا الضوضاء والصخب رجع الأمر إلى اجتماع عوامل كثيرة وقوى صامتة على ايجاد مركّبات كاملة منظمة، وهذا هو الذي تحكم البداهة باستحالته إلاّ أَن يدبرها مبدأ شاعر، ويستخدمها لما يريد.

فانظر هداك اللّه تعالى إلى ما نبّهتك عليه بطرف الإنصاف، ثمّ انظر إلى كلام بخنر لترى كيف لا تلتئم أطرافه ولا تتألف أجزاؤه، يجعل المطابقة مع المقصود مع قطع النظر عن الزمان الماضي، وما على القائل بالقصد إذا لم يقطع النظر عنه وقال: «إنّ تلك الأزمنة معدّات لهذا الزمن المقصود شأن سائر المصنوعات التي لابدّ /34/ لكمالها من مرور أزمنة عليها وهي ناقصة، على أنّ المطابقة كانت موجودة في جميع أدوار التحوّلات، لكن بحسب مقتضى الوقت ومناسبة سائِرِ الجسد». ثمّ يقول: «إنّ العلم يبحث عمّا(1) كانت عليه في الماضي ، فليبحث علمه عنها عن أي وقت شاء بحثَ الباحِثِ عن حَتْفِهِ(2) بِظلفه،(3) فأدلّة القصد تزداد بذلك وضوحاً على وضوح وقوّة على قوّة.

ويقول: إنّ هنا يبسط لنا دارون التعليلات إلى آخره.

ص: 221


1- الأصل: ممّا.
2- الحتف: الموت.
3- الظلف: الكفّ، الباطل.

فليبسط ما شاء، فلا بأس منه على المؤمن المعتقد بأنّ اللّه يجري الأمور بأسبابها، بل له فيه من النفع أضعاف ما يقدّره هذا وإخوانه من الضرّ ، ويجعل إزالة الاعتقاد بالأسباب الغائية نتيجة ربّما كانت أعظم من مذهب دارون، وهذه الآراء كما عرفت تؤيّد ذلك الاعتقاد، ومن الطريف جدّاً أنّ أساس هذا المذهب مخترعين دارون، وهو على أنّه يتلّون تلّون الحِرْباءِ يصرّح بلفظ الخالق في عدّة مواضع من كلامه، ويجعل آراءه أنسب بحكمته وأدلّ على قدرته. و ولس وهو يصنّف في التوحيد كتاب عالم الأحياء ويستدلّ بنفس آرائه على وجود الصانع وكمال حكمته، ويجعل الإنسان نتيجة مقاصده.

ولكنّ الأذناب والأتباع الذين أقصى مفاخرهم فهم مقاصد هذين الرئيسين يقلبون /35/لَهُما ظَهْرَ الِمجَنّ(1)، ويقولون: ما سمعت، وما أوقع أصحابك فيما وقعوا فيه إلاّ سوء التفاهم وعدم إدراكهم حقيقة مرام المؤمنين حيث زعموا أنّ أهل الدين يعزلون الأسباب عن المسبّبات ويقيمون مقامها المعجزات، فشرعوا أَسنّة أقلامهم وشحذوا ظبا(2) ألسنتهم ورموا الدين بقوس واحدة، فلا يرون مغناطيساً يجذب الحديد، ولا يسمعون بكهربائية تتولّد في بطارية ليدن إلاّ وحملوا على الدين، جاعلين شعارهم لفظ العلم، فكان العلم وهو أعظم أنصاره خصمه الألّد وعدوه الأزرق، ولو عرف أصحابك حقيقة الدين وأدركوا مرام أهله لم يبق على التعطيل إلاّ من أعدّه ذريعة لشهواته واتخذه مركباً يسير به نحو مبتغياته .

واعلم أنّ أهل الدين لا ينكرون ترتيب الأسباب والمسبّبات، بل يمنعون وجود شيء في الكون دقّ أوجلّ إلاّ بعلّة كافية، ويبيّنون لتلك العلّة علّة أيضاً، وهكذا حتّى ينتهي إلى عِلَّةِ العِلَلِ، وهم في المحافظة على الأسباب بمرتبة لا يبلغها هؤلاء، فهم

ص: 222


1- يقال: ضرب له ظهر المجنّ: أي أعرض عنه. و المجنّ فى ألأصل: الدّرع. و المثل مبنىّ على الاستعارة. (عبدالستار الحسني)
2- الظّبا: السّيوف.

يدّعون الضرورة على بطلان الصدفة والاتفاق ، وأنت أعلم بمن يبني كثيراً من آرائه عليهما . وأنّك ترى في أهل الدين قوماً يُهَوِّنُوْنَ أمر الأسباب /36/ محافظة على التوحيد، ولكنّهم لا ينكرون الأسباب بهذا المعنى الوجداني الذي يدركه هؤلاء، ونتكلم فيه الآن، بل نزاعهم في أمر ديني يدقّ عن الأفهام المحبوسة في مطابق المادة القاصرة على الأمور المحسوسة.

وبيان ذلك ليس من شرط هذه الرسالة، ويكفيها أن نقول: كيف يحتمل عاقل أنّ هذه الفرقة - ومنها من لا يحصى عددهم من العلماء المبرّزين في كلّ فنّ وصنعة - تنكر احتراق الخشب الجزل إذا وقعت عليه النار، أو انطفاء النار إذا طمى عليها الماء، ويظن بأحدهم أنّه لا يبعد النار عن ثوبه إذا وقعت عليه. لِمَ؟ لأنه ينكر تأثير الأسباب.

ولقد أطلتُ لك البيان حتّى خشيت عليك الملالة، وما ذاك إِلاّ حرصاً على رفع سوء التفاهم الذي وقع لأصحابك، فأوردهم رَنْقَ(1) التعطيل، وزأَرهم عن ورد المنهل العذب من التوحيد .

وفذلكة كلامي أنّ أهل الدين يعترفون بكلّ ناموس طبيعي اكتشف إلى الآن، أو يستكشف مدى الزمان، إن كان ممّا يثبته الاختيار ولا تكذبه شواهد الامتحان، وليس ذلك عندهم ممّا يضرّ بالدين، بل يزيدهم يقيناً على يقين .

ص: 223


1- الرّنق: الكدر، عكس الصافي. (عبدالستار الحسني)

فصلٌ في النظام العالي في الساعة

اشارة

ولمّا انتهت المناظرة بين المؤمن والمعطّل إلى /37/ هذا البحث وجدا صاحبهما يحدّ النظر إلى الساعة متأمّلاً في أجزائها ضاحكاً منها.

فسأله المعطّل عن السبب؟

فقال: إنّي أرى فيها العجب، دولابين زائدين وخللاً في تركيبها في موضعين.

فقال له المعطّل: قد هاجت لك المِرَّةُ السوداء مرّة ثانية، وتخشى أن تعود عليك ثالثة ورابعة، ولم لا تقبل منّي النصيحة في مراجعة نطاسي(1) الأطباء قبل أن يستحكم بك الداء، فلا يبقى لك مطمع في الشفاء؟

أ ما لك فيما عرفت من فوائد ألف وتسعمأة وثمانية دولاب ما يعرفك بأن صانعها لا يجعل فيها ما لا نفع فيها!؟ بل يحثّك على الفحص عنها والتفكّر فيها(2)، فعسى أن ينكشف لك الغامض من سرّهما!؟

أ ليس فيما عرفت من انتظام سائِرِ الأجزاء ما يرشدك إلى أنّ ما زعمت من الخلل إنّما هو في علمك، ولا أقلّ من أن يكون الخلل من جهة موجباً لانتظامها من جهات اُخر، أو الحكم لا يعرفها إلاّ من بلغ علمه درجة علم صانعها فسكت المصاحب، ورجع الخَصْمانِ إلى المناظرة .

اعتبار الأعضاء ينافي

المعطّل: لم يبق في كنانتي(3) سِوى سَهْمٍ أَفْوَقَ(4)، وهو إنكار النظام، فقد تحقّق في

ص: 224


1- النطاسي: الحاذق.
2- الأصل: الفحص عنهما... فيهما.
3- الكنانة: جعبة فى جلد أو خشب تجعل فيها السهام.
4- سَهْمٌ أفوق: أى مكسور الفوق. و الفوق: هو موضع الوتر من السهم، و إذا ان كذلك، لم يكن فيه غناء.

مذهب دارون أنّه لا يخلو جسم حيوان من الحيونات العليا من أعضاء زائدة تسمّى أثرية، /38/ وهي على ما قال بعض أصحابنا تنقض الغاية وتنفى القصد، ويقول بخنر: «إنّنا نتعجّب اليوم من صنع العين الدقيق التي هي أكمل الأعضاء وألطفها، والتي أصلها حسب تعليل دارون نقطة عصبية حسّاسة ارتقت حتّى بلغت حالتها الحاضرة بعد أن مرّت بدرجات من التغيير غير محدودة، ومع ذلك فهي ليست في غاية الإتقان والإحكام؛ لأنّ أحسن العيون لا يمنع تبدد النور»، إلى آخره.

وهذه الأعضاء الأثرية ثمينة في مذهبنا جدّاً؛ لأنّها تثبت النشوء وتنفي الخلق وتنافي القصد وتنقض الغاية وتبرم ما بيننا وبين البهم من العلاقة، وتبيّن لنا طبقات أجدادنا الكرام من صنوف الحيوان، وتبني لنا الشرف الباذخ من القرابة القريبة مع القرود .

(المؤمن - 12) : سرعان ما نسيتَ اعتراضك على صاحبنا، أراك ما نقمت منه شيئاً إلاّ وقد جئت بأدهى منه وأمّر، وأنّا لا آخذك بما أخذته به، وأَدَعُ له ليأخذ بثأره منك؛ ولكنّني لأعجب أشدّ العجب من أصحابك، كيف خَفِيَ عليهم أنّ هذه الأعضاء إنّ ثبت وجودها فهي من أتمّ الأدلة على وجود الصانع جلّت صنائِعُهُ، ومن أقطع البراهين على حكمته وعنايته بخليقته !؟

فهل هي الأعضاء ما(1) زالت تعمل فيها /39/يد القدرة الإلهية وَتُهَيِّئُها العنايَةُ الأزلية للحيوان عند احتياجه إليها بما لا يحصى عدده من السنين، فيتمّ خلقها وتصير قابلة على أداء وظايفها أبان احتياج الحيوان إليها؛ ثمّ ترفع الحكمة الكاملة المنزّهة عن اللغو والعبث ثقلها عن كاهل الجسم بعد الاستغناء عنها تدريجاً، كما بدأها كذلك جرياً على عادته المقدّسة في نظام هذا الكون !؟

ص: 225


1- الأصل: لا.

فهل هي ممّا ينفي التوحيد أو يثبته؟ وينقض بنيان القصد؟ أم يشيده؟ وإِن كان أصحابك لا يقنعهم إلاّ وجود الفائدة للعضو في جميع أزمنة وجوده، وَيَرَوْنَ انتقاض القصد والغاية بخلوّه عنها ولو ساعة؛ فلينفوهما عن نظائر ذلك مِن صَنائِعِ البشر !؟

ثمّ إنّ لهم - في ثَدْي الجارية قبل بلوغها وأعضاء تناسل الغلام قبل بلوغه الحُلُم. غِنىً عن الاستدلال بهذه الأعضاء التي تتشتّت المذاهب فيها، والمثبتون لها يختلفون في كثيرٍ منها .

نعم، لو وجدت فضولاً في الجسم لم يقترن بها نفع الحيوان، ولا يرجى له نفع في المستقبل، لكانت حجّةً لأصحابك، ولكن هل قرع سمعك دعوى ذلك من عاقل !؟

ومن غفلات أصحابك الواضحة أنّ الاستدلال بالأعضاء الأثرية على النشوء يتوقّف على القصد والغاية، إذ لو جاز اللغو في تركيب أجسام /40/ الحيوانات لاحتمل فيها أيضاً، ولم يعلم أنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في أدواره الغابرة . ووقوع هذا وأمثاله منهم يرشدك لو انصفت إلى أنّ الحكمة والقصد مما جُبِلَتْ عليه فِطْرَتُهُمْ، وأنّهم يعرفونها بقلوبهم وإن جحدتها ألسنتهم(1) .

انّ إثبات الواجب لا يغفر عن طريق الغاية

المُعَطِّلُ: لَعَمْري إِنّ آثار القصد والحكمة ظاهرة في كلّ عضو من أعضاء الحيوان، ولكني لا أدري لماذا يتهكّم أصحابنا بمن يدّعي ذلك، حتّى أن أحدنا يقول: إنّ باقي العلوم - ما عَدا الطبيعيات - ولا سيما علم اللاهوت يجعل الأسباب الغائية أساس حجّته وغاية برهانه؛ إذ يجد بها أنّ وضع الأنف في وسط الوجه وعدم وضع العين في إبهام الرجل غاية في الإِحكام ونهاية في الحكمة .

ص: 226


1- اقتباس من سورة النمل / 14: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم». (عبدالستار الحسني)

(المؤمن - 13) : التَعَصُّبُ الأعمى وَحُبُّ الانقياد للشهوات مِنْ(1) سائِرِ العقلاء يقودان الإنسان إلى هذا المصرع الوخيم وأمثاله، والمخالف في أمر معلوم بالوجدان لابُدَّ له أن يستعمل التهكّم بدلاً عن البرهان.

وأمّا الجواب عن هذا التهكّم فلا يكون إلاّ على نمط غير مناسب لأهل العلم، ولكن لا بأس بأن ننبّهه على ما للطبيعة العمياء عنده من اليد البيضاء، فكيف كان حاله لو صورته على ما قاله أحد الظرفاء /41/ - كامل:

عُكِسَتْ طبيعته فصار مِنِ... *** متكلّماً وَمَحَلُّ ... ألْفَمُ(2)

وقد استعمل في كلامه هذا خداعاً يستهوى به السُّذَّجَ من الْعَوامِّ، وهو انحصار حجّة أهل الإيمان في إتقان صُنْعِ الأعضاء، وأنّه أقوى حججهم، وذلك جهل منه أو تجاهل، ولو لم يكن في الكون إِلاّ حصاة في فلاة لأقام أهل الدين براهين كثيرة على أنّها ممكنة مخلوقة أوجدها واجب بالذات .

الباعث الرئيسي في انكار الواجب في هذه العصور

المُعَطِّلُ: أسمعُ حجةً بالغة وأرى مَحَجّةً واضحة، والإثبات - إذا - من أوضح البديهيات، فكيف خفي الأمر فيه على قوم يعدّون من العقلاء، ويدخلون أنفسهم في عداد العلماء؟ ولماذا قال فلان بالتعطيل؟ وكيف ضلّ فلان عن لاحب(3) السبيل !؟

(المؤمن - 14) : هل لك أن تقنع منّي بالإجمال في جواب هذا السؤال، وتجعل سبيل هؤلاء سبيل السوفسطائيين ومنكرى المحسوسات، ونقول فيمن عددت أسماءهم كمقالك في جميع من فلاسفة آلمانيا مثل كنط و فخت و هاجل وغيرهم

ص: 227


1- الأصل: عن.
2- هكذا فى الأصل / و الشيخ تعمّد في حذف بعض اللغات لركاكتها.
3- اللاحب: السالك، الواضِح.

من الشبطيقيين المحدثين، إذ السبب واحد /42/ فالجواب مشترك .

المعطّل: جواب إلزامي حسن، ولكنّي أريد معرفة السبب .

(المؤمن (15) : أمّا إذا لم يُغْنِكَ التلويح، وأبيت إِلاّ التصريح فلا تنس أمر المستشفى !

المعطل: لا يمكنني القول بما لمحت إِليه في أناس أراهم ينشرون المقالات ويؤلّفون الكتب ويلقون الخطب، ولا أراهم يطوفون الاْءَزِقَّةَ راكبين القصب، بل وكم فيهم من دكتور عالج المصابين بهذا الداء، فجرى على يده البرء والشفاء .

العمى الوجداني للمتمدّنين

(المؤمن - 16) : لم أرد بقولي ما ذهبت إِليه، فأسرعت في الاعتراض عليه وإنّما أردت به المرض العصباني الذي يسمّى «متمانيا» وصاحب هذا الداء يشارك سائر العقلاء في استقامة الرأي ودرك غوامض المسائل وحسن التدبير وغيرها، وينفرد عنهم في أمر واحد يتعطّل فيه وجدانه، وتظهر فيه وسوسته، فيشكّ في أوضح القطعيات، ويتعطّل وجدانه في أجلى البديهيات .

حتّى إِنَّ منهم من يزعم أنّه حبّة حنطة، فيخشى الدجاجة إذا مرّت عليه .

ومنهم من يزعم أنّه حمل زجاج فيخاف من أن يصادمه أحد فينكسر،

والقضايا المنقولة /43/عن المصابين بهذا الداء في الكتب القديمة والحديثة في غاية الكثرةَ وفي القضايا المشاهدة غني عن المنقولة .

وقد كان في عصرنا رجل يشارك في عدّة علوم ، وهو ذو هيبة ووقار، وله جيّد التدبير في أمر معيشته وحُسن الاحتيال فيه، ولا ينكر منه شيء إلاّ أنه كان يخاف من أن تدخل منارة البلد في أنفه، فكان لا يمرّ في طريق يرى المنارة فيها، وإذ اتفق وقوع نظره عليها سدّ منخريه بكلتا يديه ، وأَسرع في العَدْوِ برجليه.

ص: 228

وصاحب هذا الداء لا ينبز بمطلق الجنون وإن نبزه أحد به فالجنون فنون .

وإِن شئت سمّيته بالعمى الوجداني قياساً على العمى اللوني؛ لأنّ هذا الداء للبصيرة كالعمى اللوني للبصر؛ فإذا كان من المقرّر في مجمع تقدّم العلوم البريطاني أنّ ستة في المأة من الرجال مصابون بهذا الداء، وليس ذلك ممّا يريبك في وجود الألوان، فكيف يريبك في صحّة وجدانك وجود إثنان أو ثلاثة في ألوف ممّن بُلِيَ بعمى الوجدان .

وإن صحّ ما لا يزال يردّده معرّب بخنر وأصحابه، ولا يصحّ من أنّ الإلحاد أحد ثمرات التمدّن الحديث وأنّ الإيمان يكثر في المتوحّشين ويقلّ في المتمدنين، فقد ازدادت المشابهة بين /44/ العمى الديني والعمى اللوني؛ لأنّه قد اتفقت التجارب على أنّ العمى اللوني يصيب المتمدّنين أكثر مما يصيب المتوحّشين.

وأحدث الشواهد على ذلك أنّهم امتحنوا بصر «159732» شخصاً من أهالي أروبا وأميركا، فوجدوا أربعة في المائة منهم عُمْيا عن الألوان، ثمّ امتحنوا بصر كثيرين من قبائلَ شتّى من هنود أَميركا فتبين أنّ ثلاثة من 418 عُمْيٌ عن الألوان، فاستدلّوا من ذلك على أنّ الْعَمى اللوني من نتائج الَّتمَدُّنِ .

وأمّا استبعادك ذلك في أَناسٍ تراهم في سائر أحوالهم كسائر العقلاء، فما هو إلاّ لعدم معرفتك بحقيقة هذا الداء وخلطك بينه وبين أخيه الأكبر، أعنى مانيا، فقد عَرَّفْتُكَ أنّ مشاركة صاحب هذا الداء في عامة أموره لسائر العقلاء من أخصّ ما يعرف به ويميّز عن المصاب بغيره، واعتبر ذلك في منكري المحسوسات والشبطيقيين؛ فهل كان فخت يمزّق ثيابه بلا سبب؟ أو أنّ هاجل كان يطوف الأزقة على القصب؟ ولا موقع لاستبعادك ذلك فيمن يعدّ في عداد العلماء بعد ما علمت أنّ فساد الوجدان من الأمراض.

وأنت تعلم أنّ المرض لا يهاب العالم ولا يحصر نطاق نفوذه في الجاهل، بل من

ص: 229

/45/ خصائص هذا المرض أنّه يعتري أرباب العلوم الدقيقة والصنائع العجيبة أكثر من غيرهم، فراجع كتاب كرزل تجده ذكر من أصنافه أرباب هذه العلوم ومخترعي بدائِعِ الصنائِعِ، ولو سمح الممرّضون ومديرو(1) المستشفيات بإلقاء الخطب وتأليف الكتب لسمعت - لمن يزعم أنّه حبّة حنطة، فيخاف الدجاج - خطباً بليغةً، ورأيت لمن يزعم أنّه حمل زجاج مقالات مؤلّفة، وقرأت لمن يزعم أنه ثورٌ حان زمان ذبحه كُتباً مصنّفة، وهو معجب بها غاية الإعجاب، ولا يناولك الكتاب إلاّ مشترطاً عليك بأن تطالعه بكلّ تمعّن.

وإيّاك أنّ تظنّ بأنّي خالفت الشرط في هذا الكتاب وأخطأت سنة الآداب، وأردت بما ذكرت السباب، لا؛ وحُرْمَةِ العلمَ وذِمامِ الفضيلة، بل أردت بيان الحقيقة بأبسط ما حضرني من البيان، وتوضيح الحقّ بأقرب ما رأيت من طرق الصواب.

وللفيلسوف منهم بعد ذمام فلسفته والاعتراف بصحّته سائِر قواه العقلية .

ولستُ أوّل من رمى قوما ينتمون إلى العلم بهذا الداء الْعَقام(2)، فقد رميتم بمثله قوماً من الفلاسفة هم أكثر عدداً وأكبر قدراً وأبعد صيتاً وأشهر ذكراً، أعني المعتقدين باستحضار /46/ الأرواح، فقال صاحب أرقى مجلاّتكم وأول من نشر في بلاد الشرق آرائكم في جواب من قال : إِن كان استحضار الأرواح باطلاً، فلماذا صَدَّق به جمّ غفير من علماء أرُوْبا و أميركا وَانْبَرَتْ(3) لاثباته مأتا مجلة ما لفظه: «كلّما رأينا رجلاً من العلماء الذين يعتقدون اعتقاداً أكيداً باستحضار الأرواح نرى شيئاً من الخلل والهوس في عقله؛ فإنّه قد يكون أعلم الناس في أمور كثيرة يبني أحكامه فيها على القواعد العلمية، ثمّ إذا حدثته في مسألة استحضار الأرواح رأيته

ص: 230


1- هذا هو الجمع الصحيح لكلمة (مدير)، أمّا (مدراء) فهو خطأ فاحش شائع نرجو زواله. (عبدالستار الحسني)
2- العقام: الذى لا يرجى شفاؤه.
3- الأصل: انبرى.

يصدق السخائف وينخدع بما لا ينخدع به أبسط الناس، وتعليل ذلك أنّ مراكز القوى العقلية كثيرة مختلفة فيتّفق كثيراً أن ينمو منها بعض على نفقة البعض الآخر، فتختلّ موازنتها لما يتّفق أن تقوى القوة الواحدة وتضعف الأخرى»، انتهى.

فقد رمى هذا الرجل بهذ الداء - مصرّحاً بما حملتنا الآداب على التعريض به - الجمَّ الغفيرَ من الفلاسفة والكُتّاب منهم الدكتور ولس مخترع فلسفة النشوء وشريك دارون فيه، والسابق في إشاعتها عليه، ورمى صاحبك به المستر ستيد صاحب مجلّة المجلات، الكاتب الشهير فقيد العالم الذي أبكى رزؤه العالمَ المتمدّن، وذلك في مقالة مخاطبة الأموات وتفنيد مذهب /47/ ستيد وصرّح بأَنه أصيب من هذه الجهة بنوع من الهوس امتلكه وغلبه على سائِرِ قواه العقلية، وأنّه أحوج من هذه الجهة إلى طبيب، مع أنّه يعترف له بالفضل؛ ويرى أنّ ذلك لا يمنع كونه من النابغين في فنّه - مقالتنا في من يقال: إنّه نابغ منهم - ويطيل التهكّم والاستهزاء لأجل هذا الاعتقاد بمثل أوليفرلودج العالم الطبيعي في مقالة أفردها لأجل ذلك عنوانها نفق أوليفرلودج، بل يرى هذا الداء إشكالاً يحلّ بمذهب التحوُّلِ و النشوءِ فيقول في مقدمة الطبعة الثانية ما لفظه: «فترى الرجل الذِكَّي الفؤاد والعالم المتضلّع طروباً بسخافة، نفوراً من حقيقة» فإِذا نظرت إلى ذلك من خلال مذهب النشوءِ والتحوّل تبدت لك الحقيقة الناصعة، وَسَهُلَ عليك هذا الإشكال .

طريق العلاج مِنَ العَمى الوجداني

المعطل: أَعلى جميع هؤلاء تَحْكُّمُ بهذا الداء، وهل لهذا المرض من دواء !؟

(المؤمن - 17) : لا أحكم به إِلاّ على من عرف منهم أقصى مرامي العلم، وعلم حقيقة مرام أهل الدين، وكان حرّاً لم تملكه الأغراض ولم تستعبده الشهوات، وهناك الداء العقام والمبرح من السقام، وإلاّ فإنّ منهم من يزعم أنّ العلوم /48/الطبيعية

ص: 231

تنافي الحقائق الدينية، يزعم أنّها المِعْول الوحيد لهدم الإيمان، وفي تقدّمها ما يضعضع من الدين الأركان.

وفيهم من يزعم أنّ مَبْنى الإيمان إقامة المعجزة الإلهية مقام النواميس الطبيعية وإنكار العلل الثانوية.

ومنهم من له في انتحال التعطيل مَآرِب، وفي إِنكار القصد مقاصد، إذ الاعتقاد بالصانع يستلزم الانقياد للشرائِعِ، والشرائِعُ الإلهية كما علمت تمنع القبائح وتردع عن الفضائح وتزع الأنفس عن كثير من شهواتها وتحبسها عن البغي والبغاء ونحوهما من مبتغياتها، تذمّ الفحشاء والمنكر ولا ترخّص في البولندرية(1) ولا تسمّى السفاح بالحبّ، الحرّ؛ ولا تقول: إنّ الفضائل رذائل، ولا تعدّ الغَيْرَةَ على المحارم ضرباً من الحسد والبخل، ولا تحثّ على قتل الضعفاء لتبقى الأقوياء، ولا على إعدام المرضى لتسلم الأصّحاء، ولا تحكم بإهلاك الزنوج المساكين أو إخصائهم بحجّة تحسين نسل الإنسان، ولا تسمح بإِتلاف ألوف من البشر لتأتي أمة السبرمان .(2)

وكيف يخضع للشرائِعِ الإلهية مَنْ أَقْصى جُهْدِهِ قَضاءُ شَهَواتهِ البهيمية، /49/أو ينقاد للدين - المبتنية تعاليمه على الحنوّ والمرحمة - مَنْ وافقت طبعه شريعة الطبيعة التي لا يعرف إلاّ الجفاء والقسوة.

بعيشك، قل لي مَنْ كان مجبولاً على الظلم، ولم يكن له سطوة الحَجّاج ولا جنود جنكيز ولا أنصار نابليون هل يجد طريقاً أقرب إلى ما يرومه من نشر المقالات وتأليف الكتب في الحثّ على إعدام الزنوج وإهلاك الضعفاء؟ ومن أراد أَن يذلل للناس الصعبة؛ هل يجد يداً سوى أن يقول: إنّ الإنسان يرزح(3) تحت خرافات ثلاث، منها القرابة والزواج الفردي. وحيث إنّ القسم الأوّل - ومنه الشطر الأكبر

ص: 232


1- تزوج المرأة بأكثر من رجل واحد . (منه)
2- معرّب Superman، أي فوق البشر.
3- يرزح: يسقط، يضعف.

منهم - قد سبب داءه الجهل، فلا يعالج إلاّ بالعلم، والناظر في مناظرتنا هذه يجد له فيها برء الساعة لهذا الداء، وقانوناً للعلاج الذي يتعقّبه الشفاء إِن شاء اللّه .

والمبتلى بالخلل في دماغه فعلاجه وظيفة الطبيب، وذلك مما لا يصعب عليه إذا كان حاذقاً، وعلى المريض أن يعرف الخطر الملمّ بعقوته، ويرخّص كلّ غال في سبيل صحته، وعلى الطبيب أن يباشره بالرفق والشفقة، وعلينا أن نبذل له ثمن الدواء ونُعينه بصالح الدعاء.

وأمّا الذي ساقته إلى الجحود دواعي الشهوات فهناك الداء العياءَ والفادح من البلاء، والمرض الذي يعي حذقة الأطّباء . /50/

المعطّل: أرى أصحابنا يتهكّمون بهذا البرهان، ويسمّونها الحجّة القديمة، يقول بخنر في المقالة الخامسة: «إنّ فلاسفة كأرسطو و فولطر لم يهملوا أن يستعملوا ضدّ الرأي المادّي الحجّة القديمة التي لا تزال تكرّر، لما لها من الوقع العظيم على الجمهور، وهي: أنّ العمل يقتضي له عامل ضرورة، والبيت بانٍ كذلك».(1)

(المؤمن - 18) : نعم ، هذه الحجّة قديمة جدّاً، وهي أقدّم مما يقدره بخنر بكثير، بل يقارن تأريخها أوّل يوم وجد فيه البشر، وجبلت فطرته على درك البديهيات، واليوم الذي عرف فيه أنّ الأربعة نصفها اثنانِ، هو اليوم الذي عرف فيه أنّ البناء لابدّ له من بانٍ، ولو كان ممّن منح أوّل درجة الإنصاف لعلم أنّ ذلك ممّا يرفع قدر هذه الحجّة، ويزيد في قيمتها، ويجعل سبيلها سبيل سائر إخوانها من البديهيات والضروريات، وليس المتهكّم بهذه الحجّة إلاّ كمن يتهكّم بالاحتجاج على أنّ الخمسة أقلّ من العشرة بأنّ الجزء لا يساوي الكلّ، ولا يزيد عليه، ويقول: إِنّها حجّة قديمة .

ص: 233


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 174-175.
كيف يستدلّ من نواميس الطبيعة على الواجب

المُعَطِّلُ: كثيراً مّا يقول أصحابُنا إِنّه ليس في نواميس الطبيعة ما يدلّ على وجود الصانع، ونحن لا نسلّم بما لا تدلّ /51/ عليه، وهم يقرّرون ذلك بتقريرات مختلفة في طيّ مقالات مسهبة، ربّما كان الشطر الأكثر من كلامهم في التعطيل، وكأنّهم يخصّون العلم بعلم الطبيعة، ويقولون: لا نسلّم بما لا يدلّ عليه العلم .

(المؤمن - 19) : أمّا قولهم: «ليس في نواميس الطبيعة ما يدلّ على الصانع تعالى».

[1]: فهو حقّ إن أرادوا من الدلالة ما كانت من قبل دلالة وجود النواميس على مقتضياتها، أو وجود المقتضيات على النواميس، كدلالة الكهربائية على النور والحرارة، أو دلالتهما على الكهربائية؛ والمؤمنون لا يكتفون بقولهم: «لا يوجد فيها ما يدلّ عليه تعالى بهذا المعنى من الدلالة» بل يرونها أحقر وأقلّ منها، والذات المقدّسة أعلى وأجلّ عنها، بل يزيدون عليه دعوى امتناع أن يوجد فيها ذلك، ويقولون: إنّ كلّ ما دلّ منها أو عليها مخلوقٌ مصنوعٌ، فالحرارة - وهي مادية - لا تدلّ إلاّ على مادّية مثلها، كالكهربائية أو النار، وكذلك العكس.

ومن أين للمادة المخلوقة المحدودة الدلالة على الذات المقدّسة عنها المنزهة عن مشابهتها؟

[2]: وإن أرادوا من الدلالة دلالة المصنوع على الصانع، والممكن على الواجب، فليست في تلك النواميس ما لا يدلّ بأوضح الدلالة على مقدّس ذاته /52/ وجميل صفاته.

وبهذا المعنى من الدلالة استدللت على صاحبنا وحكمت بوجود صانع للساعة، وعليه بنيت هذه المناظرة، وبيّنت فيها أنّ الدلالة على صانع الكون في مصنوعاته أظهر والأمر فيه أبين.

ص: 234

وأمّا قول أصحابك: «إنّا لا نسلّم بما لا تدلّ عليه النواميس الطبيعية ولا تشهد به علومها» فمن أغرب القول وأعجبه، وهل هو إلاّ كقول النحوي: إنّي لا أسلّم بناموس الجاذِبِيَّةِ(1)، لأنّي لا أجد في قواعد النحو ما يدلّ عليها، أو كقول الطبيعي: إنّي لا أسلّم بوجوب رفع الفاعل، لأنّي لا أجد في الطبيعة ما يدلّ عليه !؟

وكيف تطالب علما يبحث عن نواميس المادة بالدلالة على الذات المقدسة عنها، وقد علمت أنّ العلوم مقصورة دلائلها على موضوعاتها، فلا تكلّف إلاّ بما في وسعها(2) من بيان مسائلها .

على أنّي أرى أصحابك يسلّمون بأمور لا يدركها الحسّ ولا تدلّ عليها نواميس الطبيعة، منها دقائق المادة - الجوهر الفرد - وقد قال صاحبك ص 282: «إنّا وإن كنّا لا ندركه فإنّما حكمنا به لانطباقه على الحوادث التي لابدّ من الاعتراف بها، فحكمنا به من باب القياس العلمي» .(3)

فإذا جاز لهم الاعتراف بما لا يدركه العلم بمجرد انطباقه على الحوادث /53/فلم لا يجوز لغيرهم الاعتراف بما شهدت به شواهد الصنع ودلّت عليه دلائل الاختيار من وجود الصانع المختار !؟

وكيف غدا تعليل الحوادث بما لا يدرك مباحاً لهم، حجراً على غيرهم؟ والتجاوز عن علم الطبيعة جائزاً لهم، محرّماً على من سواهم !؟

أمن العدل أن يُسَمِّيَ الإنسانُ تجاوزه عن الحدّ الذي يقرّره، قياساً علمياً؟ وتجاوز خصمه عنه، وهماً وخيالاً ؟

***

ص: 235


1- الأصل: الجاذبة.
2- قارن: سورة البقرة/ 286: «لا يكلّفُ اللّهُ نفسا الاّ وُسْعَها».
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 282.

ثمّ إنّ نطاق العلم إذا كان مضيّقا عند أصحابك هذا التضييق، فلا يحكم عندهم في قضية علمية إلاّ بما تدلّ عليه الطبيعة، ولذلك يرتج عليهم باب الإثبات، فكذلك تغلق عليهم باب النفي؛ إذ ليس في نواميس الطبيعة ما يدلّ عليه، فكيف جزموا بالتعطيل؟ وأصرّوا هذا الإصرار على انكار الصانع ؟!

المعطّل: لا ينفى أصحابنا إلاّ العلم بوجوده وذلك لما ذكرت من اقتصارهم على ما يدلّ عليه العلم الطبيعي؛ وأمّا وجود الواجب فأمر ممكن عندهم. أما سمعت صاحبي يقول في أوّل مناظرة أصحاب الخلق والقدم: «وخالف المادّيون سواهم في أصل المادّة، فقالوا: إنّها أزلية».

ونحن لا نعلم /54/ غير ذلك، فردّ عليهم أنّ عدم الشيء لا يجعله غير ممكن، فالحدوث ممكن قال المادّيون، ولكن ذلك ليس من باب العلم، بل من باب الإيمان، وهذا لا ننازعكم لأجله، ولا يحقّ لكم أن تنازعونا كذلك.

ويقول في أواخره: «فيبقى(1) أنّ القضية ليست من باب العلم، بل من باب الإيمان، ولو وقفتم عند هذا الحدّ لاسترحتم أنتم وأَرحتمونا من كلّ هذا النزاع» .(2)

(المؤمن - 20) : سمعت ذلك، وعجبت ولا عجب منه، كيف ناقض نفسه وقلع بكفّه غرسه؟ وإِذا كان مدّعى أهل الإيمان ممكناً عنده ويعطيهم من نفسه ومن إخوانه أن لا ينازعهم ممّا كان من باب الإيمان، فلماذا هذا الشغب واللغط على أمر ممكن باعترافه، ولم يقم دليل على امتناعه !؟

وسرعان ما نسي وعده وتجاوز حدّه، فقال بعد كلامه الأخير بلا فصل كلمة: «وكيف يعقل وجود ما ليس بجسم ولا مادّة جسم»(3) إلى آخر ما تسمعه إن شاء اللّه قريباً؛ مع بيان ما فيه من الأوهام.

ص: 236


1- المصدر: فبقى.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 284.
3- المصدر السابق.

سبحان اللّه !:

1 - اعترف بإمكان حدوث المادة ووجود الخالق القديم، ثمّ أخذ في الاستدلال على امتناعه بزعمه .

2 - وَعَدَ المؤمنين باستراحتهم من منازعته إيّاهم في ذلك، ثمّ ما لبث حتّى نازعهم فيه .

3 - ضيّق على العقل /55/ دائرة مدركاته وحصرها فيما أتى به الاختيار وما يدركه العلم باصطلاحه، ثمّ تجاوز عمّا حدّه، فأخذ يستدلّ بما هو خارج عن حدّه، وهو امتناع وجود ما ليس بجسم ولا مادة جسم، إلى آخره.

ولو كانت هذه المناقضات من كلامه في مقامات مختلفة ومواضع متفرّقة لعذرت صاحبك بعض العذر، ولكن أين المناص؟ وكيف الحيلة؟ وجميعها خلال أسطر قليلة !؟

ص: 237

فصلٌ في المناظرة حول اليقين في المدّعيات

اشارة

لمّا بلغت المناظرة بينهما إلى هذا المقام . فَإِذا هما بموزّع رسائل البريد، دخل عليهما وناول المعطّل مجلّة علمية مكتوب اسمه على غلافها، فقال المُعَطِّلُ. لصاحبه : أ تأذن لي في قطع المناظرة ريثما أطالع هذه المجلّة، لأنّي كَلِفٌ(1) بها، ولا استطيع الصبر عنها .

نعم : إن أَتحفني بأطرف ما تجد فيها من المكتشفات العلمية !

- ما كنت أشحّ عليك به، فالعلم غير مضنون به على أهله.

ولم يلبث في تصفّح صفحاتها إلاّ كنبض برق أوسل بارقة، حتّى بدت على وجهه علائم العجب فسأله المؤمن عن السبب ؟

- قمر خامس للمشتري اكتشفه مرصد لك في كيلغورينا . /56/

الجوُّ صافٍ أَدِيمُهُ، والليلُ زُهْرٌ نُجُوْمُهُ . وهذا المشتري طالعاً، فاطلبه لعلّك تراه، ثمّ تريني إيّاه .

- لا ترى هذا القمر إلاّ العيون القوية إذا كانت مسلّحة بالمنظار الكبير، وأنّا ضعيف البصر، أعزله فلا أطمع في رؤيته .

- فهل تصدّق إذاً بوجوده .

- نعم : إذا أخبر به جمع من ثقات الراصدين لأنه أمر ممكن .

- هل يعلم وجود كلّ أمر غير مستحيل إذا أخبر به الثِقات .

- نعم : إذا كان عددهم كافياً .

ص: 238


1- الكلف: المشغوف.

- كم العدد الذي يثبت به أغرب الأخبار وأبعدها من الأبصار .

- ما أناف على العشرة، وإن ناهز العشرين فذلك الخبر اليقين والحقّ المبين .

- فهب أنّك لضعف بصيرتك لا تبصر هذه الأنوار الإلهية المُشرقة على عالم الإمكان، ولا ترى آياته التي لم يخل منه زمان ولامكان؟

فلماذا لا تصدّق بوجود الواجب تعالى الممكن /57/ باعترافك واعتراف أصحابك!؟ وقد أخبر به جماعة يربو عددهم على مأة ألف - وهم كما علمت - كانوا معروفين بصدق اللهجة وحسن الطِوَّيَّةِ، وفيهم - صلّى اللّه على جميعهم - من كان يلقّبه أعداؤه بالأمين، وكانوا من أمم شتّى، وفي أعصار مختلفة وأمصار متباعدة، وقد أخبروا جميعاً - صلّى اللّه عليهم أجمعين - عن مقدّس ذاته وجميل صفاته بأخبار يصدّق بعضها بعضا، ولا يختلف معزاها أبداً .

صدق الأنبياء في إخبارهم

المُعَطِّل: إِنّي وإن كنت أقول بالتعطيل، ولكن حاشا أن أقول فيهم غير الجميل، أو أذكرهم إلاّ بأفضل ما يحضرني من ألفاظ المدح والتعظيم، ولا أراني أجمع بين عارين التعطيل والحطّ من قدر النبيين، وإنّي لأعلم أنّهم الذين ثقّفوا أخلاق نوع الإنسان، وعلّموه سُبل المكارم والإحسان، وسنّوا له شرائِعَ المدنية، ووضعوا له القوانين الاجتماعية.

ولولاهم ما عرف البشر الخير من الشرّ، ولا المعروف من المنكر.

فأبعد اللّه صاحبي من كافر لفقّ في مقدمة كتابه ما لفقّه من الزور والبهتان، ونحن نتبرأ منه كما تبرّأ منّا أهل الإيمان، ولكنّا نقلّل تفنيده بعد ما رأينا مقالة فلان في السماء، وعلمنا أنّه يعتريه بعض الداء.

ولكنّي أقول: إنّما نصدّق من الأخبار ما /58/كان عن أمر تدركه الأبصار،

ص: 239

وهؤلاء الصادقون لا يدّعون المشاهدة .

(المؤمن - 21) : لا فرق بين رؤية الشيء بذاته وبين رؤية آثاره وآياته وأفعال يستحيل صدورها من غيره، وتلك الآيات والآثار مُشاهَدَةٌ بالحسّ، وهؤلاء الصادقون قد أخبروا بها، فرجع الأمر إلى المشاهدة التي يقف أصحابك عند حدّها، ولا يُجَوِّزُوْنَ التخطّي ولو خطوة عنها.

وهذه الكهربائية التي أَثْبَتُّمْ وُجُوْدَها وجعلتموها الناموسَ العامَّ للكونِ ما رأيتم إلاّ آثارها من النور والحرارة، فإِذا كنتم تعتقدون بوجودها، متى شمتم نوراً ضئيلاً

وتحكمون بوجود المغناطيسية!؟ متى أبصرتم تحرّك الحديد قليلاً.

فكيف لا يعلم بوجوده المقدّس عزّ وجلّ؟ وقد تجلّى للجبل وجعله دكاً!؟(1) وقس عليه سائر ما ورد في الدين.

وفي المقام عدا ما ذكرت وجوه لا تحتملها غير عقول العارفين، فلا تناسب أفهام أصحابك الماديين، وإِنّما اخترت لك أبسطها وأقربها إلى فهمك وإن لم يكن أحسنها عند غيرك .

معرفة الواجب و صفاته

المُعَطِّلُ: أراني نازعتك في إثبات الصانع، فغادرتني أَعترف به وأَنقاد معه للشرائِعِ، فأَقِلْنِي دعوى الإمكان، فإنّي أقول /59/ الآن بالامتناع مستدلاًّ بقول صاحبي: «وكيف يعقل وجود ليس بجسم ولا مادّة جسم ولا صورة جسم ولا مادة معقولة وفي صورة معقولة، ولا له قسمة في الكمّ ولا في الكيف ولا في المبادي فعله منه، وليس منه متصل به ومنفصل عنه، فلا شكّ أنّه يقتضي إيماناً شديداً وحيث

ص: 240


1- إشارة إلى الآية الكريمة فى سورة الأعراف/ 143: «فلمّا تجلّى ربّه للجبلِ جعله دكّا و خرّ موسى صعقا».

يبتديء الإيمان ينتهي العلم، والإنسان حرّ في إيمانه إلاّ أنّ الإيمان ليس له حقّ بأن يعترض العلم في سيره، والعلم لا يستطيع شيئاً ضدّه» .

(المؤمن - 22) : أوّل ما يرد على صاحبك أنّ هذا الدليل - إن صحّ أن يسمّى دليلاً - ليس من العلم باصطلاحه في شَيْءٍ؛ بل هو من قبيل العلوم التي يسمّيها (الكمالية) في مقدمة ترجمته ويفتخر بجهله لها وعدم قرائتها، ويشكر علّته التي صحبته في حداثته؛ لأنّها لم تسمح له بالتخرّج فيها.

ويزعم أنّ ذلك حفظ له استقلال أفكاره مقدّمة بخنر ص 27(1) ولقد صدق في ذلك إذ من شأن العلم أن يسلب استقلال الفكر ويقوده قود الجنيب(2) إلى الاعتراف ولو بما يكره، والإذعان ولو بما لا يحبّ، ويجعله تابعاً للدليل يميل به حيث مال، وكلّما ازداد الإنسان علماً قلّ استقلال فكره وتركه الدليل طوع نهيه وأمره، ولا شكّ أنّ الجاهل مستقلّ الفكر في مقدار زوايا /60/المثلّث فيتصوّر مثلثاً زواياه عشرون قائمة وآخر عُشرها، ولكنّ البرهان يسلبه الاستقلال، ويحكم بأنّ الزيادة فيها على قائمتين كالنقصان عنهما ضرب من المحال، وكذلك صاحبك مستقلّ الفكر بإمكان إيجاد الشيء نفسه، ولكنّ العالم يتّبع فكره الدليل الحاكم ببداهة استحالة ذلك كما ستعرف .

وليت هذه العلّة المباركة له بزعمه، الحافظة له استقلال فكره، اشتدّت به حتّى تمنعه من الطبّ أيضاً، ليكون استقلال فكره في علوم الأبدان كاستقلاله في علوم الأديان .

ثمّ إنّه لعدم علمه بهذه العلوم، لا يدري كيف تورد الحجج في المسائل العلمية؟

ص: 241


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 27: «لن يسمع لى بأن أكون من متخرّجى المدارس فيما خلا الطب، و لم أقرأ شيئا من العلوم الكمالية التي يقولون إنّها توسع العقل...».
2- الجَنيب: الدابة تقودها إلى جنبك.

وكيف تتألّف قياساتها؟ فيقابل بحجّته هذه عموم القائلين بوجود الصانع جلّت عظمته على اختلاف نحلهم وتشتّت مذاهبهم، وفيهم المجسّم والمشبّه، ولا يدري أنّها إن تمّت فلا تتمّ إِلاّ على أهل الحقّ منهم، القائلين بتجرّد الذات المقدّسة، وأنّه لا يتعيّن التعطيل منها، إذ اللازم منها أحد الأمرين التعطيل، أو الإثبات مع التجسيم .

وليست المعطّلة أولى بهذه الشبهة من المجسّمة .

وأيضاً: العالم العارف بموازين المناظرة لا يكتفي بلفظ /61/ «كيف يعقل» في مثل هذه المسألة النظرية الغامضة، ونفي أشرف الوجود وأكمله، وأهم مسائل أشرف العلوم وأدقها . بل يعلم أنّ عليه إقامة الحجّة على الملازمة بين الوجود والجسم أو مادّته - إنّ تأتي له ذلك - وأنّى له - !؟

وإن كان العلم يقنع بمثله في مسألة مثلها، فماذا يكون جواب صاحبك عمّن ينكر معبودته المادّة أو أمّه الأثير، محتجّاً بمثل حجّته، حاذفا منها آخرها قائلاً: «وكيف يعقل وجود ليس بجسم» فهل له جواب سوى ما أَجبناه به !؟

هذا، ولو كان لصاحبك أدنى إِلْمامٍ بالعلوم العقلية، ويتجاوز تصديقه ولو قليلاً دائرة الطبيعة، لشرحت من مباحث الوجود ما يتّضح له أنّ الوجود المجرّد هو أكمل الوجود وأظهره، وأنّ نسبة المادّيات اليه كنسبة الظلّ إلى النور، بل العدم إلي الوجود.

ولكن ما نصنع وصاحبك مَنْ عرفت يجهل العلوم ويفتخر بجهلها، ويطيل لسانه عليها، ويحطّ بزعمه من شأنها، لا يفهم شيئاً منها، فيزعم أنّها ممّا لا يفهم تجلّ مباحثه عن عقله، فيتردّد في صدورها من عقول سليمة، ثمّ يشطح فيتفوّه بكلمة عقيمة(1)(2)

ص: 242


1- الأصل: عظيمة.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 350: «بل أو أفضلاً من تهافت الفلاسفة للغزالي و تهافت التهافت لابن رشد، و قل لي ماذا تفهم؟ بل الفت نظرك إلى المباحث العقيمة الجدلية المقامة على القضايا المنطقية و قل لي إن كان يجوز أن يصدر كلّ ذلك عن عقول سليمة...».

إلى غير ذلك ممّا تجده ملأ كتابه من قبيح مفتتحه إلى سوء ختامه .

وإن كان في أصحابك من له مشاركة في تلك العلوم، وأدنى /62/ إلمام بها، فإنّه يجد ذلك مبسوطاً في مواضعها من كتب علماء الدين وأسفار الحكماء المتألهين .

وأمّا قوله: «ولا قسمة له في الكمّ» فغلط آخر من قبيل غلطه الأوّل، إذ قبول القسمة ليس من لوازم مطلق الموجود، بل من لوازم قسم منه، وهو الجسم عند المتقدّمين، أو الجسم وما يتركّب منه على ما يذهب إليه هؤلاء من القول بالجواهر الفردة باصطلاحهم.

وفي قوله: «ولا في الكيف» مؤاخذة لو كان صادراً من أهل العلم.

وقوله: «ولا في المباديء» ليس من اصطلاح أهل العلم في شيء، ولسنا مكلّفين بغيرهم .

والطامّةُ الكبرى في قوله: «فعله منه وليس منه متّصل به ومنفصل عنه»، لا أدري على من يعترض الرجل، وبم يعترض منه!؟ وليس منه متصل ومنفصل، ناهيك بها ألفاظ فيلسوف لو أنّ لها مَعانيَ(1) مناسبة للمقام .

نشدتك وذمام الصحبة إلاّ ما أخبرتني عن معنى: «عدم كون فعله منه» وعن معنى «اتصال فعله به وانفصاله عنه» فإنّي طالما حللت الألغاز والمُعَمَّيات وسمعت ألفاظ الرقى والعزائم، ولم أر أُحجية يكلّ فيه حديد الفكر مثل هذا الكلام، ولا كألفاظه ألفاظاً لا تهتدي إلى معانيها الأوهام !؟ /63/

ثمّ لا أدري على أيّ فرقة من فرق أهل الإيمان يشنّع الرجل؟ وعلى أيّ عالم من علماء الأديان يعترض!؟ ومَن الذي تفوّه في فعل الباري بهذه الخرافات وحكم فيه

ص: 243


1- الأصل: معانيا.

بهذه المناقضات؟ مع أنّ معتقدهم في ذلك مبسوط غاية البسط في مصنفّاتهم، ومعلوم حتّى لدى عوامّهم!؟ والمقام لا يناسب بيان ذلك مفصّلاً، ويكفينا هنا أن نقول: إنّ من خصائص وجود الواجب أنّه تعالى يُوجِد المعدوم ويُبدع الممكن ويلبس الماهيات حلّة الوجود بمجّرد تعلق إرادته المقدسّة بذلك. فإِن كان يريد فهم مراد أهل الدين فهذا مرادهم.

ولو شاء توضيح ذلك بالمثال - وإِن كان لا تضرب للّه الأمثال - قلنا تقريباً وتوضيحاً لمعنى الإبداع: إنّ خلق اللّه تعالى للجواهر وفعله في الإِبداع كإيجادك لأفعالك(1)، فكما أنّك إذا تكلّمت أو ضربتَ أحدا لم يكن كلامك وفعلك موجودين قبل، وإنّما وجدا بإرادتك، فليكن تشبيهاً - لا تحقيقاً - إيجاده تعالى للجواهر، وإبداعه للأشياء من هذا القبيل، قصاراه أنّك لا تتمكّن من الفعل /64/ إِلاّ باستعمال آلات لا تقدر عليه بدونها، والقدرة المطلقة تخلق وتبدع الأشياء بِصِرْفِ المشيئة والإرادة: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2)،

ولا أدري ماذا يرى صاحبك في نسبة أفعالك إليك؟ ومن أيّ قسم من أقسام الفلسفة التي اخترعها يعدّها!؟ هل يجعلها من قبيل منه؟ أو من قبيل ليس منه؟ أ من المتصل أم من المنفصل !؟

وأما قوله: «إنّه يقتضي إيماناً شديداً»؛ فإنّ ذلك الإيمان حاصل من فضل اللّه تعالى للمؤمنين، وهم يحمدونه تعالى على هذه النعمة التي تستصغر في جنبها أعظم النعم، قائلين : «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ»(3) ولكنّه لا يقصد هذا المعنى من الإيمان، وإنّا نعلم ما يريد، ولذلك نقول: «رمتني بدائها

ص: 244


1- هذا المثال يصحّ على القولين في خلق الأفعال، وإنّما جعلنا التعبير على مذهب القائلين بأنّ الأفعال مخلوقة للعبد لكونه أوضح وأقرب إلى أفهام هؤلاء . (منه)
2- يس/ 82.
3- الأعراف/ 43.

وانسلّت»(1) إنّ الذي يقتضي إيماناً أشدّ ممّا آمن به المؤمنون هو الإيمان بدقائق متحرّكة بلا سبب، راقصة في الجوّ بلا طرب، كان الفضاء بلاد آلمانيا في بعض القرون السابقة، وقد شاع فيها منمانيا(2) الرقص - دانس ماني - أو كراماني، وهذه /65/ الراقصات تصنع، وهي عمياء صمّاءً، ما تتحير فيها أفكار العقلاء، تارةً تصنع شموساً وأقماراً، وتارةً أرضاً يحفّ بها بحاراً ويجري خلالها أنهاراً، وَيَمْلَؤُها بصنوف من النبات وأنواع من الحيوان، وتودع في كلّ منها من بدائع الصنع ودقائق الحكمة ما يفرد لكلّ قسم منها فنّا مستقلاً تشتغل به في كلّ عصر ألوف من أذكياء البشر، معترفين بأنّ ما خفي من أسراره أضعاف ما ظهر .

وهي إن كانت معدودة - أي متناهية - فلماذا وجد بهذا المقدار؟ وبأيّ مرجح ترجّح هذا العدد؟ ولِم لم يزد عليه واحد؟ ولماذا لم ينقص عنه إثنان؟

وللوجود كما يزعمون - منحصر بها فلا مرجّح لها خارجاً عنها.

وإن كانت غير متناهية، لزم - برغم بداهة كلّ عقل صحيح وفطرة سليمة - وجود معدودات غير متناهية.

هذه وعدة من أمثالها ممّا نعرفك قريباً ببعضها، هي التي لا يكاد يصدّق به العقل إلاّ بعد أن يعينه عليه رطل من القِنّب(3) 2 هندي، 13الهندي، أو سرسام حادّ يروضه مدّة

ص: 245


1- قارن: الأمثال للرفاعي الهاشمي/ 133 و جاء فيها: «قالته ضرة وهم بنت الخزرج من كلب و كانت امرأة سعد بن زياد مناة». وأمثال العرب / 47، مجمع الأمثال ج 1/298، نهاية الإرب في فنون الأدب ج 3/31.
2- شاع هذا المرض في القرن الحادي عشر والسابع عشر في بلاد آلمانيا، كان يجتمع زرافات من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال ويرقصون إلى حدّ الإغماء، وربّما وقعوا في حفرة أو نهر، ويسمّي دانس سنت وي بإسم أحد المقدّسين من أهل «سواب»، كانوا يبعثون المرضى إلى مقبرته للاستشفاء . (منه)
3- القنب: نبات نسوى من فصيلة القِنبيات، ينتج منها ليفا لصنع الحبال و الخيطان.

شهرين كاملين .

إن العلم الصحيح لا يخالف الدين

وأما ما ذكره في آخر كلامه، فمعزاه إلى الحيلة الوحيدة /66/ التي لهذا ولأصحابه من عدّهم الدين مخالفاً للعلم .

ولئن خفي أمرها على الجهّال من أهل نحلته، فظاهر لدى من ارتضع من العلم صفو دَرَّتِه، ومنح من علم الدين بمعرفته: أنّ العلم الصحيح لا يخالف الدين، بل لا يزال يؤيّده ولا ينقض بنيانه، بل يشيده، فبماذا أيّها الرجل اعترض الإيمان على العلم؟ ليصدر الحكم عليه من منصبه الإلحاد بأنه لا حقّ له؟

ومتى كلّفه بضدّه حتّى ترقّ قلوب المعطّلين عليه فيخبروا عنه بأنّه لا يستطيعه؟

إلاّ أنك توسّعت فألصقت بالعلم أوهاما يتبرّأ منها العلم قبل أن يتبرّأ منها الإيمان، ويؤذن بفسادها قبل أن يؤذن به الدين؟ نصبَت منها شبكاً تصيد به عقول الضعفاء، فابتغ أيّها الرجل حيلة أخرى لنفاق سلعة الإلحاد؛ فهذه الحيلة قد نبت عليها العشب، ونسجت عليها العناكب، وهذه الأوهام التي قلّدت فيها معطّلة الغربيين وسمّيتها علما، لترعب بها قلوب المؤمنين، قد عرف أمرها، فلا يعبأ عاقل بها .

معرفة قدرة الواجب و قوّته على شيء

المُعَطِّلُ: ذكر أيضاً حديث الاتصال والانفصال في مقدمة ترجمته لشرح بخنر، وجعله من الوحي الذي أَوحِيَ اليه، فأوجب ارتداده، وكان قبله متمسّكاً بالدين كما يزعم، وأنا أسوقه إِليك بألفاظه، فلعلّك تجد فيه حلاًّ لأُحجيته هذه، /67/وتجيب عن ساير ما أورده فيه.

ص: 246

قال بعد ما ذكر تردّده في الأديان واستمساكه بعلّة العلل ما لفظه: «وإذا بصوت كالهامس في الأذن صَوَّبَ إِلَيَّ هذا السؤال قائلاً: ما علّة عللك؟ وأين هِيَ ولا شكّ أنّها قوة، ولكن هل تعرف قوةَ بلا مادة؟ ولا شك أنّها خارج المادة، ولكن كيف تفعل في المادة وهي منفصلة عنها؟ وإن كانت متصلة بها فكيف تكون هي سواها» ؟

ثمّ سكت ولم يزد شيئاً» .(1)

(المؤمن - 23) : إن صَدَقَ صاحبك في دعوى استمساكه بالدين قبل هذا الهمس، فلا خير في اعتقاد يزول بمثل هذه السفاسف التي لو وجّه السؤال عنها إلى أحد أطفال الكُتّاب، لوجد عنده منها الجواب، ولا شيء أهون على الدين من رزئه بمن هذا مبلغه من العلم، ولا أقرّ لعينه من أن لا يكون مثل هذا من أهله . وليت هذا الهامس - ولا أظنه غير الخنّاس(2) - أورد على أحد أطفال المؤمنين هذا الوسواس، ليراه أحذق من صاحبك في الجواب، وأهدى منه إلى طرق الصواب .

فلو قال له: مَن علة العلل؟ لقال: اللّه عز وجل.

أين هو؟ مجرّد فلا يحويه مكان. ولا يعتريه زمان.

وسؤال «أين» و «متي» وأشكالهما إنّما يقع على المادّيات، وذاته المقدسة أجلّ منها وأرفع

لا شكّ أنّه قوة! لا شكّ أنه ليس بقوة، إذ القوة /68/عندكم ملازمة للمادة، والمادة حادثة، فالقوة مثلها، فليس بقوّة ولا مادة، بل هو تعالى خالق هذه، وجاعل تلك.

ولكن هل تعرف قوة بلا مادة عرفت أم لم أعرف، فإنّ هذا السؤال ساقط بما عَرَّفْتُكَ من مذهبنا.

ص: 247


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 28-29.
2- قارن: سورة الناس/ 4: «من شرّ الوسواسِ الخنّاسِ».

ومتى ظفرت - ولن تظفر - بمن يزعم أنّه سبحانه كهربائية أو نحوها من القوى فاسأله عن ذلك

لا شكّ أنّه خارج المادة !

نعم ، ولكن لا بالمعنى الذي تعنيه وتفهمه، إذ الدخول والخروج كالاتصال والانفصال من صفات المادّيات، ولا يوصف بها المجرّد، فهو ليس بخارج عنها، كما أنّه ليس بداخل فيها، أو كما قال إمام أئمة المسلمين: «داخل في الأشياء لا بممازجة، خارج عن الأشياء لا بمباينة(1)».(2)

- ولكن كيف تفعل في المادة»، إلى آخره - ؟ لقد سقط هذا السؤال أيضاً بما عرفتك من تجرّد العلّة الأولى عند عقلاء المؤمنين، فلا محلّ للترديد بين الاتصال والانفصال .

وأمّا فعله تعالى فليس كفعل النجّار بالخشب والصائغ بالذهب، وإنّما فعله إيجاد وإبداع وإفاضة واختراعُ.

وجميع ما ذكره صاحبك هنا وفي عدّة مواقع من كتبه ومقالاته، وأكثر ما يشغب به أصحابك، ناشٍ من الغلط فى فهم معتقد المؤمنين، والخلط /69/ بين صفات المجرّد والمادي .

ولو أنّهم كانوا ممّن درسوا العلم وزاولوا صناعة الاستدلال لأراحونا من هذا الأسهاب الْمُفْضِيْ إلى الملال، واكتفوا عن ذلك كلّه بالسؤال عن الوجود المجرّد؟ وحينئذ كنّا ننظر في حال السائل ومقدار استعداده لفهم مسائل العلوم العالية:

فإن ألفناه كصاحبك طالبناه بالدليل على انحصار الموجود في المادّيات، وبعد

ص: 248


1- الأصل: + نهج البلاغة (و لكن لم ترد هذه العبارة في المصدر).
2- قارن: التوحيد للصدوق/ 42، شرح أصول الكافي للمازندراني ج 3/83، 142 و ج 4/188: و فيها: «بالممازجة... بالمبائنة».

عجزه أثبتنا وجوده بواضح البرهان.

وإن رأيناه ممّن له إلمام بالعلوم العقلية، ويتجاوز ولو قليلاً عن حدّ المادة قواه الدماغية شرحنا له من نفائِسِ مباحث الوجود ما يتّضح به لديه أنّ الوجود غَيْرَ(1) المادي أظهر الوجود وأكمله وأوضح الموجود وأجمله .

ثمّ ما الذي حبس صاحبك الفيلسوف عن التنبّه لسؤال: ما هي؟ وأين هي؟ حتّى بقى ردحاً من دهره وشطراً من عمره على اعتقاد من ينبزهم بالسُّذَّجِ البسطاء، حتّى همس إِليه هذا الهامس، ونبّهه لهذا السؤال؟ كأنّه ليس أوّل خاطر يخطر في قلوب الأطفال! وأوّل ما يقترحه أبسط العوام على علماء الدين وما ذلك إلاّ لأنّهم يشاركون صاحبك في قصور عقولهم عمّا لا يُدرك بالحواسّ، ولكنّهم يخالفونه في أنّ لهم فطرة /70/ سليمة تصدّهم عن الريب في مقدّس ذاته، بل يحملهم عدم سمّو الفكر إلى الخطأ في صفاته .

وهذا هو الأصل في عبادة الأصنامَ والباعث للأنبياء - صلّى اللّه عليهم أجمعين - على أن يجدّوا في بيان صفاته وتجرّد ذاته أكثر من جدّهم في إثبات وجوده.

ثمّ لا تغفل عمّا نبّهتك على نظيره من أنّ همس هذا الهامس لا يتعيّن منه التعطيل، بل يتعيّن أحد الأمرين منه، ومن التجسيم، فهلاّ اختار صاحبك أسلم الأمرين؟ وارتضى لنفسه أهون الخطّتين ؟

معرفة القوّة الموجدة للعالم

المُعَطِّلُ: وحيث جرى حديث المادة والقوّة فإنّي أنبّهك على ما لصاحبي فيهما من التنبّه لدقائق فلسفية وأعلاق مباحث طبيعية جاد بها علينا يراعه الذي يسيل براعة في أوّل كتاب الحقيقة(2) ولم يقنع ببثّ تلك الفوائد، بل جعلها بمنزلة الصغرى

ص: 249


1- الأصل: الغير.
2- راجع: فلسفة النشوء والارتقاء/ 228-230.

واستنتج منها النتيجة الكبرى .(1)

(المؤمن - 24) : وجدته لم يزد في ذلك الكتاب على ما يعرف من أمرهما صبيان الكتاب، إلاّ أنّه أقام الاحتمال مقام الدليل، واستنتج من آيات الصنع خداج التعطيل، وأنا أورد كلامه أوّلاً، ثمّ أنبّهك على شطر من أغلاطه فيه، وأدع لك استقصاء الشطر الآخر.

قال فيما بسطه بزعمه عمّا يعلم عن القوّة /71/ والمادّة تمهيداً للكلام عن الوجود المعنوي والمادّي مانصه : «لا حاجة بنا إلى أن نعرّفك أنّ العلم قد توصّل في الأمور الطبيعية إلى هذه النتيجة الكبرى، وهي أنّ القوّة والمادّة لا تنفصلان أَلبتة، ولا أظنّك تستطيع أن تعرّفنا بمادّة مجرّدة عن كلّ قوّة أو حركة، أو تطمع أن تبيّن لنا قوّة أو حركة مجرّدة عن كلّ مادة»(2).

أمّا عدم انفصال القوة - بالمعنى الذي يَعْنِيْهِ من الحركة ونحوها - عن المادّة، فلا شكّ فيها، لأنّها من الأعراض، وقد ثبت في العلوم التي يبخس صاحبك حقّها لجهله بها أنّ العَرَضَ لا بدّ له من جوهر يقوم به، فلا يعقل وجود حركة بلا متحرّك، كما لا يعقل وجود عدد بلا معدود، أو سطح بلا جسم، وهذا أوّل ما وصل اليه العلم بأوّل خطوة خطاها، وأوضح مقدمة بنى كثيراً من نظرياته عليها، لا كما يزعمه صاحبك من أنّه النتيجة الكبرى التي توصّل إليها العلم.

وأمّا وجود مادة خالية عن كلّ قوة، فإنْ كُنّا لا نستطيع أن نعرفه به، فلا يستطيع هو أيضاً أن يبرهن على امتناعه، وعدم استطاعتنا ليس دليلاً على الامتناع، كما أنّ عدم استطاعتنا للتوليد الذاتي لم يوجب عنده الحكم بامتناعه، وأقصى ما يمكنه دعواه قوله هنا: «على أنّا لا نعرف في عالم الطبيعة جوهراً فرداً بلا قوّة». وهذه

ص: 250


1- «الكبرى» هُنا بالمعنى اللغوي، لا الاصطلاحي.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 229.

دعوى هيّنة /72/ لو لا الشطح في قوله بعده: «ولا يستطيع العقل أن يتصوّر المادة بلا قوّة، فإنّا إذا تصوّرنا مادّة أوّلية مهما كانت، فلابد أن تكون دقائقها تحت فعل الجذب والدفع، وإلاّ فإنّها تتلاشى من ذهننا»

نقول على تسليم ما بنى كلامه عليه - ولعدم التسليم محلٌّ آخر - : إنّ أقصى ما يثبت ممّا تشبّث به المادّيون تركّب هذه الأجسام المشاهدة التي اختبروها من دقائق متجاذبة متدافعة، ولا برهان على أنّه لا يوجد في المادّة ما لا يكون كذلك، فضلاً عن امتناع وجوده أو امتناع تصوّر العقل له كما يقول .

وماذا يمنع من أن يوجد فوق النظام الشمسي بمسافة ليست بالقليلة أجسام كثيرة صغيرة وكبيرة ليست مركّبة من الدقائق أصلاً؟ وهي كانت هكذا من الأزل، كما كانت أجزاء الأثير عند أصحابك، ومن جائر التحكّم تخصيص الأزلية بالأجزاء الصغار والحكم بتركّب سواها منها إِلاّ ببرهان يدلّ عليه.

وأيضاً: ما يمنع من وجود دقائق من الأثير خالية من الجذب والدفع وسائر القوى، ولذلك بقيت متفرّقة غير مركّبة أو تركّب بعضها مع بعض، لا بالتجاذب بينها بل بأسباب آخر كوقوع الضغط الخارجي الشديد على /73/عدّة منها ونحوه؟ ولعلّ منها جملة من الأجرام الموجودة في الفضاء، وبعض قطع السديم المشاهد في السماء، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لابدّ لمنعها كالقول بها من البرهان القاطع .

ولا أقول هذا جُنُوْحاً إلى هذا الرأي، ولا تشييداً لدعائم هذا الاحتمال، وإنّما أريد المطالبة بالبرهان على هذه النتيجة التي تَوَصَّلَ إليها العلم كما يزعم، والتنبيه على ما جرت عادة أصحابك عليه من إثبات الكلّية بثبوت موجبة جزئية، وهم مع ذلك يرمون به الأقدمين؛ انظر كلام صاحبك في ص 344.(1)

ص: 251


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 344: «انّ علوم الأقدمين علوم نظر، أكثر منها علوم عمل أو فلسفتهم عقلية... متحكمة...».

ثمّ قال: «وكذلك القول بقوّة بلا مادّة، فارغ لا أساس له».(1) وأطال في بيانه، وليس فيه ما يهمنا الآن نقده، إنّما المهم ما قاله بعده وهذا ألفاظه: «فما [هي] إذاً النتيجة الكبرى /74/الفلسفية لهذه المعرفة البسيطة الطبيعية ...»،(2)

لا شكّ أنّ الذين يقولون بوجود قوةٍ أبدعت العالم من لا شيء من العلوم، لا يستندون في قولهم هذا إلى شيء الطبيعية والفلسفة العلمية التي يتبع في سيره وتتغيّر مع تغيير الأفكار بتغييره.

لا أدري من هؤلاء الذين يقولون بقوّة أبدعت العالم، إذا كانت القوّة بالمعنى الذي يعنيه هذا ويصطلح عليها أصحابه، حتّى تكون هذه النتيجة الكبرى مرتبطة بتلك المقدّمة المملّة، إذ القوّه عندهم - كما نقله هنا عن العلماء، خاصّة - من خصائص المادة أو هي الحركة أو هي حالة من حالات المادّة.

وأيّا كان فأيّ مؤمن ينتحل ديناً من الأديان، وينتمى إلى ملّة من الملل، يجعل الذات الأحدية المقدسّة من قبيل هذه الأمور الحقيرة ؟

وما المادة المحدودة المخلوقة بالنسبة إلى المقام الأرفع والمحلّ الأعلى، حتّى تكون حالاتها وخصائصها وحركتها!؟

وإن تخطّى أحدهم سُنّة الأدب، وأساء التعبير، فلا شك أنه لا يريد بها القوّة بهذا المعنى، حتّى تكون عنده الذات الأحدية من قبيل الكهربائية والمغناطيسية، ويكون بذلك أجهل من المعطّلين.

وإن أراده أحد، فهو ليس من المؤمنين، بل هو من أصحابه المعَطِّلين؛ فإنّهم ربما أرادوا الستر على قبيح مذهبهم وحاولوا التخلّص عن استهزاء العقلاء بهم، فعبّروا بمثل هذا التعبير خدعة واحتيالاً، نظير قول سبينوزا: «إِنّما اللّه والطبيعة شيء واحد».

ص: 252


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 229.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 230.

أو من خلفائهم اللاأدرييِّن كما يقول سبنسر(1) سائلاً نفسه؛ /75/: «ما هي القوّة التي تحتم ببقائها ؟ هي تلك القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حَواسُّنا؛ كلاًّ، بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهد، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها، نتأكّد أنّها أبدية، لم تتغيّر، ولن تتغير [تغيّر] كلّ شيء زائل، ولكنّها علّة العلل الباقية إلى الأبد.

وبالجملة من زعم أنّ المبدع سبحانه قوة من سِنْخِ القُوى التي للمادة، فهو ملحد ، والمعطّل يربو في الجهل على سائر المادّيين، فليقُلْ فيه ما شاء - ومعه المؤمنون - وإن لم يجعله من سنخ القوى الطبيعية، فهذا الردّ الذي أورده صاحبك يذهب أدراج الرياح، ولا يمسّ أبداً منيع حمى الإيمان.

وأني - وأيم الحقّ - لأعجبُ من رجل نشأ في بلاد الإسلام. وربّي بين ظهرانيّ أهل الإيمان . وهو يعيش عيشاً حلمياً من فضول معاشهم، ويرتزق بجسّ عروقهم، والنظر في قاروراتهم، ثمّ يكون مبلغه من العلم بمعتقدهم زعمه أنّهم يزعمون الذي يعبدونه، ويرفضون كلّ شيء دونه قوّة - كالكهربائية - ثمّ بهذا المقدار من العلم ينبري لمكافحة جميع الأديان، ويصليهم بزعمه الحرب العوان، ويكون أقصى جهده وغاية ردّه على معتقدهم: أنّ الكهربائية /76/ لم يكن لها وجود لو لا هذه الأجزاء، وأنّ النور والمغناطيسية ليساسوى تغيّرات مادية.

ولفرط حذقه في صناعة المنطق يستنتج - من أنّ الكهربائية لا تكون بغير أجزاء مكهربة - بطلان القول بوجود خالق خلق الكهربائية والأجزاء المكهربة معاً.

فأبعدك اللّه من عصر تنشر فيه مثل هذه الآراء، وتطبع فيه هذه الكُتب، ومع

ص: 253


1- هذا ان كان سبنسر يرى هذه القوة المجهولة من قبيل قوى الطبيعة، ولكن قد عرفت سابقاً أنّ هذا لا يظهر ممّا وقفنا عليه من كلامه، وكلامه هذا قريب جدا من قول المؤمنين، بل لا يخالفهم إلاّ في سوء التعبير فقط . (منه)

ذلكُ يدعى بعصر العلم والنور .

وأمّا ما ذكره هنا، ولا يزال يكرّره، من عدم استنادهم إلى شيء من العلوم الطبيعية، فقد دَرى كلّ مَن مارس العلم أنّ كلّ علمٍ لا يتكفّل(1) إلاّ إثبات مسائل موضوعه، ولا يكلّف بما يخرج عن حدّه، وهذه العلوم التي ينعتها بما سَمِعْتَ موضوعها الماديات، وأين هي والبحث عن المجرّدات؟ فإِذا لم تدلّ عليه فليس ذلك لخفاء في الحقّ؛ بل لقصور في تلك العلوم عن ذلك المقام الأرفع، وعدم شمول موضوعاتها لبحث شريف مثله .

ولا أدري أيّ عاقل طعن على مسائل علم بعدم وجود الدليل عليها في علم آخر!؟ فطعن على مسألة نحوية بعدم وجود دليل عليها في علم الطبّ؟ وعلى الطبّ بعدم استناد /77/ أهله إلى الهندسة؟ وإِذا فليحتسب فلسفة النشوءِ حبيبته عند تحكّمه البارد ؛ إذ لا يستند القائلون بها إلى شيء من علم النحو والموسيقى.

هذا، على أنّك قد عرفت في إحدى المفاوضات السابقة أنّ العلوم الطبيعية بما يبحث فيها من نواميسها المعلومة تدلّ - بأشرف معنى للدلالة - على وجود الصانع الحكيم، أعني دلالة المصنوع على الصانع، والممكن على الواجب، بل لا يرى طَرْفُ البصيرة على صفحاتها الكثيرة سوى سطر فيه هذه الكلمات اليسيرة «اللّه الصانع الحكيم، الحيّ الدائم القديم» .

وأما قوله : «وإنّما يفعلون ذلك انقياداً لفلسفة موهومة»(2)، إلى آخره، فلو وقع إلى بعض أهلها ممّن لا يلتزم بما التزمنا به في هذا الكتاب لمزق منه الإهاب وأذاقه مرّ الجواب . أمّا أنا فَأَجْرِي على سنّة الصفح ما أمكن، وأجادل بالتي هي أحسن،(3) وأقول له:

ص: 254


1- الأصل: يتكلّف.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 230.
3- قارن: سورة النحل/ 125: «و جادلهم بالتي هي أحسن».

أيّها الدكتور إِنَّ الفلسفة التي قلتَ فيها ما قلت، بل تقوّلت عليها ما شئتَ، لا يحطّ من رفيع قدرها إنكارك لها وطعنك فيها . (بحر الرَّمَل) :

لا يَضُرُّ البحرَ أضحى زاخِراً أَنْ رَمى فيه غُلامٌ بِحَجَرْ/78/

على غير نقص فيها سوى أنّك لا تعرفها، والذنب في ذلك كما تتقوّل في مقدمة كتابك لعلّتك التي صحبتك في حداثتك، وإيّاك أيّها الرجل وتلك الفلسفة؛ فإنّها السيف الذي طبع بأدمغة اليونانيين لا بأكّف القين(1) وأرهف(2) حدّه بأفكار حكماء المسلمين، وقد عرفت مواقعه من رقاب أسلافك من الملحدين، وهو وإن طال عهده ما فلّ غراره، ولم يتهكّم حدّه، بل تضاعف رونقه مذ عززته الشرائع الإلهية، وزاده مضاء ما اكتشف جديداً من الأسرار الطبيعية .

وأراك عرفتنا عن الفلسفة التي اعتمدنا عليها في الإثبات، ولم تعرفنا بالفلسفة التي اعتمدتم عليها في التعطيل . أهي تلك التي نعتها بأنّها عملية إذاً، فعرفنا بالمبحث الذي فيه برهان التعطيل !؟ فقد تصفّح المؤمنون كتبها ورقة ورقة، وتأمّلوا سطورها سطراً سطراً، فما رأوا فيها إلاّ ما يشيد أركان الدين، ويزيدهم يقيناً على يقين . وإن كانت تلك العلوم هي التي أوردتك موارد التعطيل، (من الخفيف) :

فهي كالورد فيه للناس طيبٌ ثمّ فيه لآخرين زكام(3)

عاد كلامه: «وحجّتهم الكبرى هي أنّه لابدّ لكلّ معلول من علّة، وقد فاتهم أنّه في هذا الدور المتسلسل، لابدّ لهم من /79/ الوقوف عند نقطة يثبتون فيها [حصول] الوجود بالمعجزة، إلاّ أنهم عوضاً من أن يقفوا عند حدّ الأبحاث الطبيعية المؤيّدة

ص: 255


1- القين: الحدّاد، من قولهم: قان الحديد إذا سوّاه و أصلحه، و يطلق غالبا على من يتعاطى صناعة السيوف. (عبدالستار الحسني)
2- أرهف: دقّق.
3- لم نعثر على شاعره، و لكنّ المصرع الثاني يطابق ما أنشده أبوالفتح البستي: «أنا كالورد فيه راحة قوم / ثمّ فيه...».

بالاختبار، ويثبتوه للمحسوس، يطفرون به إلى ماوراء الطبيعة».(1)

أيها الدكتور «ليس ذا بعشّك فادرجي»؛(2) حاولت الاعتراض على قوم لا تعرف شيئاً من علومهم، فاخطأت في فهم الواضح من كلامهم، إذ القوم لم يقولوا: «إنّ كل موجود لابدّ له من علة» ليرد عليهم ما أوردت، ويفوتهم - وهم أرباب الأفكار السامية والعقول الكاملة - ما لا يفوت مثلك، بل قالوا: «كلّ معلول لابدّ له من علة»، وهذا بمنزلة قولهم: «لابد للممكن من الانتهاء إلى الواجب». وهم لمّا رأوا على المادة آثار الإمكان و شواهد الحدوث ودلائل الافتقار من التغيير والتركيب واحتياجها إلى ما ينزّه الواجب من الاحتياج إِليه - كالمكان ونحوه - عرفوا أنّها بأجمعها معلولة، ومن أوضح قضايا العقل «أنّ كل معلول لابدّ له من علة»، وهذا البرهان مبسوط في محلّه بطرق شتّى، ولا يناسب موضوع الرسالة إطناب الكلام فيه.

وإن كنت ممّن يتمكّن من فهمه فاطلبه من مظانّه، ولم أرد بالإشارة اليه إلاّ بيان ما وقع لك من الغلط في فهم مراد أهل العلم . /80/

وأما عدم إِثباتهم ذلك للمحسوس، وطفرتهم، - كما تقول - إلى ماوراء الطبيعة.

فلا تلمهم فيه أيها الدكتور، «فربّ ملوم لا ذنب له»(3) إذ القوم رزقوا من دقّة النظر وحصافة الرأي وسعة العلم ما لم يقدر لك ولأصحابك، فرأوا عليها من

ص: 256


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 231.
2- راجع: نهاية الإرب في فنون الأدب ج 3/49: و قولهم: ليس هذا بعشك فادرجي، يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره، و جاء في الأمثال /2006: «أي ليس بمكانك فانتقعى عنه» و أيضا فليقارن: النهاية لإبن الأثير ج 2/111، معجم الأدباء ج 1/11، مجمع الأمثال ج 2/130، 354.
3- قارن: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ج 1/276، نهاية الإرب في فنون الأدب ج 7/236، الإمتاع و المؤانسة/ 383، الحدائق الوردية ج 1/115.

سِماتِ(1) الحدوث وآثار الصنع ما ألجأهم إلى الاعتراف بخالقها الحكيم - جلّت صنائعه(2) - وأنت لو رزقت ما رُزقوا، وعرفت ما عرفوا، لكنت شريكهم فيما لُمتهم عليه. - من الرَّجَزِ:

ولو يذوقُ عاذلي صَبابتي (3) *** صبا معي لكنّه ما ذاقها(4)

عاد كلامه: «فمن أين عرفوا أنّ القوّة قد توجد مجردةً عن المادّة، والحال أنّ المادّة لا تتفصل عن قواها».(5)

أعاد هنا ذلك الغلط الذي فرغنا قُبيل هذا من بيانه، وجد ذكر الفِرْيَةِ الواضحةِ التي رمى بها أهل الدين، وسيعيده في هذا الفصل مرّة ثالثة.

وقد تقدّم فيما سبق من كلامه في غير هذه المفاوضة وتكراره له فيما لم نتعرّض من كلامه أكثر، ونحن من الآن فصاعدا لا نزيد في الجواب عنه على قولنا: إنّا لا نعرف في جميع فرق أهل الدين من يزعم أنّ اللّه تعالى قوّة للمادة، إلاّ أن يكونوا قوماً وجدهم الثقة هيكلعلى ساحل البحر /81/ الذي وجد في قعرة المونير ، وكلّ من زعم ذلك فعليه أضعاف ما على الملحدين .

كيفية خلق العالم

عاد كلامه: «أم كيف جاز لهم التصديق بوجود شيء من لا شيء، وهل ضلال أشدّ من هذا الضلال على العقل، فتكون العالم من العدم أمر مستحيل لا يقبله العقل ولا يثبته الاختبار، والعدم لفظة لا معنى لها» .(6)

ص: 257


1- الأصل: سمت.
2- الأصل: صانعه.
3- الشعر لابن الوردى، و مطلعه: سَرَقْتُ منها نظرةً فاستضحكت / و استنفرت عنى و سدّت طاقها.
4- المصدر: ماذلى ريقتها.
5- فلسفة النشوء والارتقاء/ 231.
6- فلسفة النشوء والارتقاء/ 231.

إن أراد من وجود شيء من لا شيء ومن تكوّن العالم من العدم ما يريده أهل العلم من قولهم: «أوجد العالم من العدم»، ونحوه - أعني الإبداع والاختراع - فهذا ليس بالأمر الذي لا يجوز تصديقه، ولا بالمستحيل الذي لا يقبله العقل. وليت هذا الدكتور عرفنا بالبرهان الذي يعتمد عليه في امتناع الإبداع؛ فإنّه من بديع الحكمة وطريف العلم الذي لم يتنبّه له المعلّم الأوّل ولم يعرفه المعلّم الثاني، وقصرت عنه أفهام سائِرِ الحكماء من اليونانيين والإسلاميين .

ولكنّ الظاهر بقرينة الكلام والمتكلّم أنّه لا يريد هذا المعنى من قوله، بل يريد به معنى عامّياً اختلقه فهمه؛ وعزاه إلى أهل الحكمة والدين وَهْمُه، وهو صنع العالم من العدم، كما يصنع السرير من الخشب والخاتم من الذهب.

وإلاّ /82/ فما دعوى الاستحالة وضلال العقل في أمر اتفقت العقول على إمكانه، ودان الحكماء وأهل الأديان بوقوعه؟

وماذا يربط بما هو في صدده قوله: «والعدم لفظة لا معنى لها»؟ على أنّه لفظة لا معنى لها؟

فإن كان هذا المعنى مراده من تكوّن العالم من العدم، فليعذرنا من الجواب، وليوجّه إلى من قال، ما شاء من غليظ القول وممض العتاب .

ليست المادة بقديمة

عاد كلامه: «ومن المقرّر(1) أنّ المادّة دائمة الوجود لا تتغيّر، وهذا يقتضي كونها قديمة» .(2)

هذه الحجة أيضاً ثمينة عنده جدّا، ولهذا كرّرها في هذا الفصل مرّتين، وقرنها فيه مع تلك، وبسط فيها الكلام في مواضع شتّى ممّا لم نتعرّض لكلامه، وناهيك بها حجّة

ص: 258


1- الأصل: المفرد.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 231.

لو كانت صغراها ثابتة، وكليّة كبراها مسلّمة، ونتيجتها للمدّعي مطابقة؛ ولكن مع الأسف فقدان الشرائط الثلاثة فيها :

(1) : إذ لا برهان لهم على عدم اندثار المادّةً فضلاً عن امتناعه؛ بل أقصى دعواهم أنّهم لم يشاهدوا إلاّ تغييرات صورها، وأنّهم لم يتمكّنوا إلى الآن من إعدامها، وأين هذا من دعوى العدم أو الامتناع!؟ فلعلّ لكلّ دقيقة من دقائق الأثير حدّا محدوداً وأجلاً مضروباً، فيفنى منها كلّ يوم ألوف، ولا نشعر /83/ بها لكثرتها، وتكون النتيجة فناء العالم كلّه، إذا فنى كلها ؟أو يوجد كلّ يوم أجزاء كما تفنى فيه أجزاء.

[1]: إمّا مساوية للدقائق الفانية، فيبقى مقدار الهيولى كما كان.

[2]: أو أكثر فليتسع نطاق العالم.

[3]: أو أقلّ، فيفنى أيضاً لكن بإبطاء من الفرض الأوّل.

ومن المحتمل أيضاً بقاؤها لو خليت وأنفسها، لكن مع إمكان إفنائها بطرق سوف يعرّفنا به العلم في المستقبل وإن ضنّ علينا بها الآن «ولا تستبعد ذلك من العلم بعد ما يريك كلّ يوم من العجائب»، أو بطرق لا يمكننا معرفتها ولو بعد حين.

وهذه احتمالات لابدّ من القطع بعدمها كالقول بأحدها من البرهان القاطع، ولابد لمن يتشبّث بهذه الحجّة من إقامة الدليل على امتناعها، وأنى له ذلك!؟ وأقصى ما يبلغه جهده قوله: «لا نعلم ملاشاتها»، وهل ينتج لا نعلم سوى لا نعلم!؟ وهذا الرجل يعرف ذلك، بل يعترف به، ويقول في أوّل مناظرة أصحاب الخلق والقدم ما لفظه: «وخالف المادّيون سواهم، فقالوا: إنّها أزلية لأنّهم رأوا أنّ المادة [كالقوّة] لا يستطاع خلقها، ولا ملاشاتها» إلى أن قال: «قالوا: ونحن لا نعلم غير ذلك».(1) وإنّ اول كلامه هذا فإنّه يقول فيها أيضاً بعد عدّة أسطر عن لسانهم ما لفظه: «فإذا كنّا لا

ص: 259


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 281.

نعلم خلقها ولا ملاشاتها /84/ فكيف لنا أَن نحكم بهما»(1).

فنرى أقصى ما يبلغه عدم الإذعان بالملاشاة، ودعوى عدم العلم به، فكيف صار من المقرّر أنّ المادة دائمة الوجود كما يدّعيه هنا!؟

وكيف جازله في شرعة الإنصاف أن يورد قضية مشكوكة ويجريها مجرى الأصول الموضوعة!؟

ولا يكتفي فيها بنسبتها إلى أصحابه، بل يشرك فيها خصومة معهم، فيقول في هذه المناظرة ما لفظه: «وعليه فالفرق بين أصحاب الخلق والقدم في المادة أنّها مخلوقة من لا شيء عند الأوّلين وقديمة عند الآخرين، ولا فرق بعد ذلك. فالمادّة عند الفريقين لا تتلاشي».(2)

ولم أجد في كلامه مرجع الضمير في قوله: «وعليه هذا».

ولا تنس هنا مذهب غوستاف لبون في تلاشي المادة وتجاربه فيه، وجنوح هذا الرجل إِليه في مقدمة ترجمته لشرح بخنر(3) وتصفيقه له، وطربه عليه، إلاّ أن يقول: أردت بها الأثير، وقد خالفتِ الاصطلاح وأَسأت التعبير .

(2) : وأمّا قوله: «وهذا يقتضي كونها قديمة»، فلا دليل عليه، وليس ذلك من الأوّليات التي تستغني عن الدليل بنفسها، كيف وهذا أكثر الفلاسفة ومنهم أشهر المحقّقين، يقولون بحدوث النفس الإنساني مع تركيب البدن، ثمّ بقاؤها أبدياً /85/ بعده.

نعم، ثبت في العلم الأعلى الذي ليس هذا من رجاله عكس هذه القضية، وهو أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وأين هذا مما يرومه هذا وأصحابه !؟

(3) : ثمّ هب أنّ هذه الحجّة قد تمّت، وثبت بها قدم المادة بالمعنى الذي يريده، بل

ص: 260


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 282.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 284.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 34.

لا يفهم للقدم معنى سواه، أعني القدم الزماني وهو المسبوق بعدم نفسه، فأين يقع ممّا يريده هذا من الجحود، وهذا جمهور الحكماء والفلاسفة يؤمنون به تعالى أقوى إيمان، ويعترفون بصدور العالم عنه، وخلقه تعالى له أعظم اعتراف، وهم مع ذلك يزعمون استحالة الحدوث الزماني بمعنى وجود زمان لم يكن فيه العالم، ولكن لا لهذه السفاسف العامّية، إذ لا تَرُوْجُ مثلها في أسواقهم، بل لشبهة علمية غامضة معروفة وهي: «أنّ حدوث المعلول مع قدم العلّة يستلزم خروج العلّة عن كونها تامّة أو انفكاك المعلول عن العلّة» في بيان طويل ليس هنا محلّ نقله، وهم لذلك يقولون بقدم العالم زماناً، وبتأخّره عن العلّة الأولى رتبة، شأن كلّ معلول مع علته .

وأهل الشرائع الذين يقفون مع الأديان على ظواهرها، ولا يُجَوِّزُون التأويل فيها، لا يوردون عليهم بأنّ القدم الزماني يستلزم منه التعطيل، بل /86/ يقولون بأنّ الثابت المعلوم من الدين حدوث العالم زماناً، لا رتبةً فقط.

ولعلّ إلى هذه الشبهة العلمية تؤول عِبارَتُهُ العامية وهي: «لو فرضنا وجود قوّة مبدعة لما أمكن وجودها باعتبار الزمان، لا قبل الخلق ولا بعده.

لا قبل الخلق؛ لأنّ ذلك يقتضي بقاءها مدةً من الزمان بلا عمل، وفي حال السكون أَمام المادة اللاصورة لها والساكنة أيضاً؛ وهذا غير سديد.

ولا بعده؛ لأنّ هذا ظاهر البطلان» .

ندع لغيرنا التكلّم في أغلاط صورة هذا البرهان، ونقول: أيّها الدكتور! أيّ الفريقين من أهل الإيمان تخاصم؟ وعلى أيّهما تعترض؟

الفلاسفة، وهم يقولون بقدم العالم زماناً، كما تقول؛ وهذه حجّتهم قد مسختها وأزلت عنها رونق العلم وحسن صبغته.

أم أهل الشرائع، وهم يقطعونك بما نقلته عنهم في مناظرة أسباب الخلق والقدم من قولهم: «ولا يرد علينا بقدم المبدع وأنّه علّة العلل؛ لأنّه عندنا فاعل مختار يفعل

ص: 261

ما شاء متى شاء» ولم تزد في جوابهم على قولك: «قلنا [لكم] فبقي [أنّ] القضية ليست من باب العلم، بل من باب الإيمان، ولو وقفتم عند هذا الحدّ لاسترحتم [أنتم] وأَرحتمونا» .(1)

ولا أريد بذلك انحصار جواب أهل الشرائِعِ بما نقلت /87/ عنهم، بل أردت أن أذكّرك انقطاعك عن جوابهم، ليختصر الجري معك في ميدان لست من فرسانه،

وإِلاّ، فإنّ للمؤمنين عنها أجوبةً قَوِيّةً وَوُجُوْهاً(2) حَسَنةً يطلبها من شاء من مواضعها. وتلك الأجوبة: إن تمّت، فالعالم حادث زماناً ورتبةً، والحقّ مع أهل الدين، وإِلاّ، فالعالم حادث رتبةً فقط، والحقّ مع الفلاسفة المتألّهين.

وأيّاً كان، فبين هذه الحجة، وبين ما تروم من التعطيل مراحل . ولكنّها حيلة تعوّدتها وطالما ما استعملتها، تعمدُ إلى المسائل التي يَخْتَلِفُ فيها أهل الدين، فتأخذ حجج الفريقين وإلزامهم لخصومهم، فتجعلها بعد أن تفسدها دليلاً على إلحادك.

كيف يرتبط العالم بخالقه

أ لستَ المستدلّ بشبهة الجبرية في مقدّمة تعريب شرح بخنر(3) وبشبهة المجسّمة في سابق كلامك، وبشبهة الفلاسفة هنا، وبأمثالها في غيره.

مع المجبرّة تارةً، وتارةً مع المجسّمة، مع الثنوية يوماً، ويوماً مع الفلاسفة؟

وليت شعري والحديث شجون، أ دكتور أنت أم أ بوقلمون(4)

ثمّ إنّك أيها الدكتور «ذكرتني الطعن وكنت ناسياً»(5) إذ المؤمنون في راحة من هذه

ص: 262


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 284.
2- الأصل: وجوه.
3- راجع، فلسفة النشوء والارتقاء/ 49: «قالوا إنّ الأنسان حرّ فهو مسؤول بأعماله، بعد أن قالوا إنّه صنعه اللّه على مشيئته؛ و لا يخفى مافى ذلك من التناقض».
4- أبوقلمون: ثوب رومى يتلوّن ألواناً.
5- هذا مثل معروف راجع فى شرحه مجمع الأمثال ج 1/290. (عبدالستار الحسني)

الشبهة بقولهم: إنّ اللّه تعالى فاعل /88/ مختار، كما نقلته عنهم، وفي استراحة من نزاعكم للوعد الذي ما وفيت لهم به، إذ نازعتهم فيه بلا فصل كما سبق، ولكن ما جوابها عندكم؟ وكيف المخرج عنها على أصولكم؟ إذ المادة والقوة قديمتان ولا فاعل في الكون سواهما، بل لا وجود لغيرهما فماذا كانتا فاعِلَتَيْنِ(1) قبل أن تتكوّن الشموس، بل قبل أن تتركّب الجواهر الفردة من دقائق الأثير على مذهب نشوء المادة الذي صفّقت له في مقدّمة كتابك؟(2)

هل كانت ساكنة، وعندك كما في(3) أنّ السكون كالعدم لا يعقل ؟

وأيضاً: ما الذي حرّكها ولا وجود بزعمك لما يكون خارجا عنهما؟ أتقول كما رأيت في مقالة أظنّها لبعض إخوانك، وقد نشرتها أَحْظى المجلاّت العربية عندك وأعظمها حقّاً عليك، تحرّكت لسبب غير معلوم، وفيها نقض دعائم المادّية والحكم بحدوث القوة التي لا تفارق المادّة بزعمك !؟

ثمّ إنّ هذا السبب المجهول: إنْ كان مادّياً، عاد الإشكال ووقع عنه السؤال؛ وإن كان غير مادّي، ففي الوجود غير المادة وقواها، وهو المتسلّط عليها، والفاعل فيها، وهذا هو /89/ الذي يقوله المؤمنون.

إذاً فليحي الدوالسم ، فقد مات مذهب المونيسيم ؛ ورجع عنه المعطّلون .

ثمّ إنّ هذا الرجل تنبّه لهذا الإشكال، وقنع نفسه بأنّه مشترك الورود بين الإلهيين والمادّيين، ثمّ ذكر جواباً، وتبرّع على المؤمنين بأن شاركهم فيه، فقال: «على أنّ الاضطرار للخالقية أوسواها لا يلزم منه استكمال الوجود دفعةً واحدة لارتباط

ص: 263


1- الأصل: فاعلتان.
2- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 33: «لا يجوز... المادّة و القوة شيئآن متمايزان في الجوهر يثبتان ناموس التثنية في الطبيعة».
3- فلسفة النشوء والارتقاء.

العلل والمعلولات بعضها ببعض، وتحوّل(1) بعضها إلى بعض، فالحياة يستحيل أن تظهر قبل أَن يكون ماءً، والماء قبل أن(2) تكون هيدروجين وأكسجين، وهما قبل اجتماع أجزاء المادّة، على كون يتألّف منه ذلك، فوجود الحياة متوقّف على وجود الماء ولو لحظة قبلها. ففي قياس أيّ عقل يصحّ وجودهما ووجود سائِرِ المركّبات معاً».(3)

هذا الذي جعله دليلاً على مذهبه عاد وبالاً عليه، وطفق يحاول المحيص عنه الآن «ولاتَ حِينَ مناصٍ»(4) ويعلّل نفسه بأنّه مشترك الورود بين المؤمنين والملحدين، وقد سمعت اعترافه باستراحة المؤمنين عنه إذا جعلوه من باب الإيمان، فليقل ما شاء، فما مثله من يلام على مثله.

وأمّا تبرعه على المؤمنين بتكلّفه الجواب /90/ عنهم، فهم بفضل اللّه عليهم في غِنىً عنه وعن أمثاله، وليظهر لك أنّه لا يجديه فيما وقع فيه نفرض الكلام في أوّل ما يصدر عن القديمتين، أعنى القوة والمادة - بزعمه، وأوّل معلول لهما، أعنى ما لا يتوقّف وجوده على شيء غيرهما، كتركّب الجواهر الفردة من دقائق الأثير مثلاً، ونقول:

إن كان قبل مسبوقاً بالعدم أي حادثاً زماناً، فماذا كانت القديمتان فاعلتان قبله!؟ ولماذا بقيتا من الأزل إلى ذلك الزمان بلا عمل!؟ وفى حال السكون الذي يقول إنّه كالعدم لا يعقل.

وإن كان ذلك أيضاً قديماً زماناً، فالقدماء حينئذٍ ثلاثة وتسأل عن المعلول الذي بعده.

هل وجد مسبوقاً بالعدم إذاً، فما كانت العلّة القديمة فاعلة قبله؟ ولماذا أنفكّ عنها؟

ص: 264


1- المصدر: تحوّلها.
2- المصدر: - أن.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 284.
4- سورة ص/ 3.

وإن كانت قديمة!؟ فالقدماء أربعة؛ وننقل الكلام في المعلول الواقع بعده في سلسلة العلل والمعلولات، وهكذا.

وأنت تعلم أنّ ما ذكره في الجواب بمعزل عن هذا الإشكال، ولا يجديه في الخلاص عن الشرك الذي وقع متخبّطاً فيه ما ذكره من استحالة وجود الحياة قبل الماء، والماء قبل جزئيه، لما عرفت من أنّه في أيّ زمان فرض وجود جزئى الماء؛ يقع السؤال عن السبب، الذي أوجب تأخير وجوده؟ ولماذا لم يكن قبله؟

وإن اعتذر عنه بعدم /91/استكمال علّته وقع السؤال عن العلّة وعلّتها، وهكذا.

وإن اعتذر باشتراط مرور مقدار من الزمان، فإنّ ذلك المقدار وأضعاف أضعافه موجود قبل زمان وجوده في حقيبة الأزلية.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِما ذَكَرَهُ أَصْلاً مَذْكُوْراً(1) في محلّه من العلم الأعلى، أعني في مسألة ارتباط الحوادث بالقديم تعالى، لكنّه ببيان أحسن من هذا البيان، مبنياً على مقدّمات لا يعرفها هذا الرجل، وعلى أصل الإثبات الذي لا يسلّم به؛ فكأنّه سمع ذلك الجواب عن بعض أهل العلم فمسخ صورته على عادته ووضعه في غير موضعه، وليس المقام مقام البحث في ذلك.

وإنّما يكفينا أن نقول: «إنّ هذا الجواب لا يجديه فيما هو في صدد التخلّص عنه، إذ غايته امتناع وجود المركّبات، وكلّما يشترط في وجوده سبق وجود عليه من علّة موجبة قديمة، وحيث ما أوجدت بحكم الوجدان فلابدّ من أن تكون صادرة من فاعل مختار، كما يعتقده أهل الأديان، فهذا بأن يكون دليلاً لمذهبهم أولى مِنْ أَنْ يكون(2) حجّة عليهم .

ص: 265


1- الأصل: أصل مذكور.
2- الأصل: أولى بأن يكون.
تبرئة أرسطاطاليس ممّا قرفه به بخنر
في أنّ المبدع لم يخلق المادّة

ومذ جرى حديث القدم الذاتي والزماني فلا بأس بالتنبيه على غلط وقع لبخنر وغيره من متفلسفة الغرب في فهم /92/ كلام المعلّم الأوّل، لعدم إدراكهم الفرق بين مَعْنى القدم، وهو القول بأنّ المبدع تعالت قدرته لم يخلق المادّة، ولكنّه نظمها أو حرّكها .

قال بخنر في صدر المقالة السادسة ما لفظه : «فأرسطوطالس قلّما يعتدّ بالمادة، وينفي عنها كلّ حركة ذاتية، ويجعل الصورة الضرورية للمادة خارجة عنها ومضادّة لها ، ويقول بضرورة وجود محرّك أوّل. والفرق بينه وبين فلاسفة النصرانية في ذلك: أنّ الكائن الأوّل عنده غير خالق للعالم أو صانع له؛ لأنّ المادة لها ذلك، وإِنّما هو محرّك له»، انتهى .(1)

وفي كلام غيره أنّه تعالى وَجَدَ المادة موجودةً فنظّمها وَغَيَّرَ حَرَكَاتِها.

ولا حاجة إلى أن أبيّن لك شناعة هذا القول، ولا أن أنبّهك على أنّه مذهب يجلّ عنه أقلّ تلامذة أرسطو، وصغار المشتغلين بكتب الحكمة الابتدائية، فكيف بمثل المعلم الأوّل الذي بنى علمه على إمكان المادّة وحدوثها وافتقارها؟ وأقام واضح البرهان على وجوب انتهائها إلى الواجب تعالى مبدع ذاتها ومفيض صورها؟

وإنّما الشأن في بيان ما جرّ هؤلاء إلى هذا الغلط الواضح، وأوجب وقوعهم في هذا الخطأ الفاضح، وظني أنّ القوم لمّا قصرت عقولهم /93/ عن إدراك معنى الحدوث الذاتيَ وعثروا في كلام المعلّم على ما يظهر منه القول بالقدم الزماني، زعموا

ص: 266


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 196.

أنّ معناه نفي مخلوقية المادّة، ولكي يظهر لك إصابة هذا الظنّ، ويتّضح لك مراده، نذكر بعض كلامه في الجمع بين قولي أستاذه أفلاطن الإلهي في كتاب أسولوطيقوس(1) وفي كتابه المعروف بطيماوس، قال:

مقصود أفلاطن من قوله: «إنّه - أي العالم - مكوّن، وقد صرفه البارىٌ من لا نظام» إلى نظام، أنّ وجوده متعلّق بالصنعة اللازمة للمادة بالصورة، وليس ولا واحد من هذين وجوده بذاته دون الإيجاد لصاحبه، فالمبدع لهما إذاً قد أوجدهما على التأجيد النظمى فهو إذا بِفِعْلِهِ الإبداعي صارف العالم من لا نظام إلى نظام، أي من العدم إلى الوجود.

ولقد صرّح بذلك في كتاب النواميس فقال : «إنّ للعالم بدواً علياً، وليس له بدو زماني، أي له فاعل قد اخترعه لا في زمان . فإنّ(2) فاحصاً فحص عن سبب اختراعه؛ أجبناه بأنّه مريد بذاته لإفاضة جوده، وقادر على إيجاد ما أراده(3)»،

والتعبير عن اللّه سبحانه بمبدع العالم ونسبته إحداثه إِليه كثير في كلامه(4) وكلام /94/أستاده.

ولا أدري لماذا ترك بخنر فنّه الوحيد من مراقبة أحوال القرود والمقايسة بين جنيني الكلب والدجاج، وتكلّف الكلام على فنّ ليس من ليله ولا سمره، ولا هو من بَزّهِ ولا عِطْرِه ؟ أما كان له في إلحاديات ديدرو و هولباخ(5) ما يشغله عن النظر في

ص: 267


1- قارن: الأسفار ج 5/220. و جاء فيه: «قال في أسولوطيقوس، أى تدبير البدن».
2- لعلّها: فلو أنَّ فاحصاً.
3- قارن: الأسفار ج 5/220 بنفس العبارة.
4- قال في الميمر العاشر من كتاب الربوبية (= أثولوجيا/ 135): «لمّا ابتدعت الهوية الأولى من الواحد الحق»، إلى آخره. وسأله جاء فى الأسفار ج 5/228: «قد سأل بعض الدهرية ارسطاطاليس» بعض الدهرية، وقال: «إِذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثمّ أَحدث العالمِ فلِمَ أحدثه؟ فقال: لِمَ غير جائزة عليه»، إلى آخره. (منه)
5- هولباخ، بول هنرى ديتريش، البارون،Holbach paul, Henri Dietrich Baron (1723-1789م)، كاتب و فيلسوف فرنسي من أصل ألماني، و له عدّة كتب ضدّ ما يعترف به الأديان الإلهية.

الحِكم المأثورة عن أرباب الحكمة الإلهية، ويُلهيه عن بيان الفرق بينها وبين النصرانية ؟

تبرئة الصوفية ممّا رماهم به معرب شرح بخنر
في إسنادهم إلى بانتايسم

وغلطُ بخنر في فهم كلام أرسطو يقيم عذراً لمقلّده ومعرّب شرحه(1) إذا غلط في مذهب الصوفية، ونسبهم إلى مذهب البانتايسم(2) وهم من أبعد الناس من هذا المذهب وأشدّهم مقتاً له . وهو وإن تصرّف في المذهبين باجتهادات باردة ليقرب أحدهما إلى الآخر، ولكن لا شكّ أن مذهب البانتايسم - كيفما اعتبر - مبني على وجود المادّة وتحصّلها، /95/ بل وإنكار الوجود لغيرها، ثمّ دعوى اتحادها مع الذات المقدسّة بِنحوٍ من الحلول والاتحاد ونحوهما مما يتبرأ منه أئمّة الصوفية، ويصرّحون بفساده في منظوم كلامهم ومنثوره.

ومذهبهم على غموضه واختلاف التعبير عنه مبنيٌ على نفي الوجود الحقيقي لغير اللّه تعالى، وعدّ ما سواه وهما أو خيالاً أو أعداما تشكّلت وتحدّدت بإحاطة نور الوجود به، أو نحو ذلك من المعاني الدقيقة التي تجلّ عن الأفهام العالية المدرّبة على درك أمثالها من الغوامض، فضلاً عن الأفهام العاجزة عن سوى المحسوس.

فالمذهبان في وجود المادّيات على طرفي السلب، فكيف يجعلها واحداً!؟

ص: 268


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 198.
2- وهو اتحاد الخالق مع الطبيعة، نظير قول «سبينوزا» المتقدّم إنّما اللّه والطبيعة شيء واحد، وقول « برنو » لا محل لأزلي لغير الكون، أو أنّ ذلك الأزلي أو الخالق هو الكون نفسه، وهذا المذهب فيما أرى قسم من الإلحاد. وقد تكلّف فيه المعرّب حتّى جعله مذهباً فلسفياً ودينياً معاً . (منه) راجع: هامش فلسفة النشوء والارتقاء/ 198.

ومن الطريف أنّه بَيْنا يتخبّط في ظلمات التعطيل ويلفّق أوهاماً على نفي من استغنى بظهوره عن الدليل، إذ تحوّل مؤمناً باللّه، كافراً بسواه، قائلاً بوحدة الوجود، قائلاً في مقدمة الطبعة الثانية صفحة 29: «اللّهم، إلاّ أن يكون كما في قول محي الدين ابن العربي :

فانظره في شجرٍ وانظره في حجرٍ وانظره في كلّ شيء إِنّه اللّه ُ

وثبة(1) من النقيض إلى النقيض، ومن القول بإنكار الوجود للّه تعالى إلى قصر الوجود عليه، وإنكاره في سواه، ومن الكفر إلى أقصى درجات الإيمان - إن صحّ - ومن لحس(2) قصاع المادّيين ؟؟ إلى /96/ التطفّل على موائد العارفين، ما هذه وأبيك مجرّد وثبة وطفرة، بل هي معجزة، فلماذا ينكرها؟ وقد أتي بها في هذه الكلمات الموجزة ؟

ثمّ قال المؤمن لصاحبه: هل بقي شيء ممّا تتمسك به في قدم المادة أو في مبدعها جلّت عظمتهُ .

المعطّل: نعم، برهان ذكره صاحبي في كتاب الحقيقة ص 283 ويظهر من كثرة شقوقه وطول ذيله أنّه على نمط براهين الفلاسفة الأوّلين، ولكن مع الأسف لم أفهمه على طول تأمّلي فيه، وأَنا أنقله لك بلفظه، قال: «ثمّ إنّ المادة - كيفما اعتبرت - إمّا قديمة وإمّا حادثة.

وهي ليست قديمة على قولكم، فلابُدَّ لها من محدث. فإمّا أن تكون حادثة من شيء موجود، أو من لا شيء موجود:

ولا يصحّ أن تكون حادثة من شيء موجود، لأنّ هذا الشيء الموجود: إمّا أن يكون نفس المحدث، أو شيئاً آخر موجوداً أيضاً. فينتفى الحدوث.

ولابد أن تكون فعلاً من أفعال المحدث، و إلاّ لم يكن هو المحدث فإمّا أن تكون

ص: 269


1- الوثبة: الطفرة.
2- لحس: لعق.

نفس الفعل أو نتيجته، والفعل ونتيجته موجود ان في الفاعل، والفاعل قديم؛ فينتفى الحدوث كذلك.

وإِن لم يكن الفعل /97/ ونتيجته موجودين في نفس الفاعل، فيقتضي أن يكونا ليس منه، وهما منه؛ وهو خلف.

وإن يكونا لا شيء، وهو خلف أيضاً.

ثمّ إنّه يقتضي أن يكون الفعل واقعاً على شيء هو لا شيء، ومنفصل عن نفس الفعل، والفعل منفصلاً عن نفس الفاعل، وإلاّ كان الشيء والفعل والفاعل واحداً؛ وكيف يكون الشيء منفصلاً مع هذا الارتباط.

وإن لم يكن منفصلاً، فكيف يكون الشيء الحادث غير المحدث ؟

فالعقل لا يقدر أن يسلّم بهذه المتناقضات» .(1)

التعريف بالإيجاد و الإبداع

(المؤمن - 25) : أراد أن يتفلسف صاحبك، فجاء بالطّامَّةِ الكُبْرى، وبما يضحك عليه صغار المشتغلين بالعلم، ولا أظنّ هذا الكلام المسهب دليلاً واحداً، بل أراه مجموع ما في عيبته من أدلّة الإلحاد، وجميع ما تلقّنه من الملحدين، وقد مرّ ذلك في كلامه قطعاً، وعرفت الجواب عن كلّ منها مفصّلاً.

ففي أوّله يعيد غلطه فى معنى الإبداع، ويخلط بين نحوي الوجود المسمّى عند أهل العلم بالوجود الربطي والوجود الرابطي، وبين نحوى الجعل البسيط والمركّب، على ما هو واضح لدى أهل العلم.

ونقول ببيان يسهل فهمه لمن لا أنس له بالعلوم العالية: فرقٌ بين قولك: كان زيد، وكان زيد عالماً؛ إذ الأوّل /98/ معناه وجوده في مقابل عدمه، والثاني وجوده

ص: 270


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 283.

متّصفا بصفة العلم. ويسمّى الأوّل عند النحاة بالتامّة، لاستغنائه عن الخبر، والثاني بالناقصة، لاحتياجه إليه.

ومراد الإلّهِيّيِنَ بالإيجاد والإبداع للمادة إنّما هو الوجود بالمعنى الأوّل، وهو لا يحتاج إلى شيء يقع عليه الفعل، ولا إلى ما يوجد منه، وهو بمعزل عن الترديدات التي ذكرها، والأقسام التي سوّلتها له مخيلته، وإنّما يحتاج إلى ذلك في مثل قولهم: خلق الإنسان من النطفة.

وصاحبك لمّا حمل الإبداع على المعنى الثاني أخذ يقسّم ويردّد، ويأتي بالتوالي ويبطلها، ولا يدري أنّ ذلك بمعزل عن مراد القوم، ولا مساس له بكلامهم أصلاً .

نعم ، يبقى السؤال عن تصوّر الإبداع، وجعل الشيء موجوداً بعد ما كان معدوماً، وهذا ممّا سمعت الكلام فيه، وعرفت أن الإبداع للجواهر وإيجادها مختصّ بالخالق - جلّت آلاؤه - إذ لا شريك له في خلقه ولا نظير له عندنا؛ إذ لا نظير لقدرته.

وعرفت أنّ أحسن تقريب له هو قياسه على أفعالنا وحالاتنا؛ فإنّ أحدنا يتكلّم ويمشي، ولا وجود لتكلّمه ومشيه قبل فعله، وإِنّما يوجد هما من العدم بإرادته واستعمال الآلات المعدّة لهما من بدنه، ويعتريه الغضب والخوف، ويحبّ ويبغض؛ /99/ولم يكن لجميعها وجود قبله، بل وجد بعد وجود أسبابه .

ونحن لا نحبّ التخطّي عن سنّة الآداب مع صاحبك في هذا الكتاب، ولو كان المخاطب غيره لقلنا له: إنّ أقرب الطرق إلى إِفهامك هذه الغوامض أَن يصفعك رجل - وليتني ذلك الرجل - صفعة تذهب بإحدى عينيك؛ فإِذا اشتكيت الألم، قلنا: هذا الألم - أو إدراكك له - لم يكن له وجود من قبل، وقد وجد الآن، ولم يصنعه لك الضارب من المعكرونة(1) أو الفالوذج، وإنّما أوجده وابتدعه.

فقد عرفت معنى الإبداع والإيجاد؛ فقس عليه إِيجاد الصانع تعالى للمادة .

ص: 271


1- المعكرونة: نوع من الغذاء، Macaroni.

وإذا عاتبت الضارب، قلنا: فقد عرفت أنّه الفاعل له، وإِلاّ، لما خصّصته بالعتاب.

ثمَ اجعله من أيّ قسم شئت من هذه الأقسام الباردة التي تخيّلتها، من نفس الفعل، أو نتيجته، ووجودهما في الفاعل وعدمه، وأطلِقْ عليه أيّ لفظ أردت من هذه الألفاظ التي لا تزال تردّدها من الاتصال والانفصال، والشيء واللاشيء ونحوها.

ونحن نجاريك ونقول بمثله في إيجاد المادّة؛ إذ لا فرق من هذه الجهة - وان كانت فروق شتىّ من جهات - إِلاّ أنّ مريد وجود الألم، أو وجود إدراكك له لم يتمكّن من ذلك إِلاّ بأسباب وآلات، وموجد المادة هو القادر المطلق، يوجدها /100/ بإرادته . «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1)

وبهذا يظهر لك أيضاً معنى الإفناء الذي يقابل الإبداع؛ لأن صفة الإبصار كانت حاصلة لعينك - أعني الظاهرة - وقد فنيت الآن، فيا لها من صفعة مباركة ذَهَبَتْ(2) منك بعين واحدة، وعرفتك من غوامض المسائل ثلاثاً(3) .

وأمّا ما ذكره من حديث وجود الفعل ونتيجته في نفس الفاعل؛ فأظنّه على نمط ما مرّ آنفاً، من أنّه شيء سمعه من أهل العلم، فأفسده على عادته، ولا يهمّنا البحث عن أصله .

ويكفي في جواب هذا الرجل أن نقول:

إن أردت بوجودهما الوجود العلمي لهما فهو حاصل قديم؛ إذ علمه تعالى محيط بما يكون كإحطاته بما كان، لا يعزب عن علمه شيء،(4) ولا يلزم منه /101/قدم المادّة بالوجود الخارجي؛ فإنّك تتصوّر الدار التي تريد بناءها بعد بضع سنين، وتجد

ص: 272


1- سورة يس/ 82.
2- الأصل: أذهبت.
3- الأصل: ثلاثة.
4- قارن: سورة سبأ/ 3: «لا يَعْزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ فى السمواتِ و لا في الأرضِ».

صورتها في نفسك، ولا وجود لها خارجاً.

وإن أَردت وجودهما في نفس الفاعل خارجاً، منعنا اللزوم، ولا يلزم منه أن يكون الفعل ليس منه، كما لم يلزم في مثال الدار المذكور .

وبالجملة إن أراد وجودهما في نفس الفاعل بالوجود العلمي، فهو مسلّم؛ ولا يلزم منه قدم المادة خارجاً. وإن أراد الوجود الخارجي فهو ممنوع، ولا يلزم من منعه أن يكون الفعل ليس له .

وقوله بعد ذلك: «وأن يكونا لا شيء، وهما شيء» فممّا لا أدري عَلامَ عطفه وبم علّق الخلف المذكور فيه؟ وقد عرّفناك المراد، فليهنْ عليك أمره بأيّ معنى أراد.

وأمّا قوله: «ثمّ يقتضي أن يكون الفعل واقعاً على شيء هو لا شيء» فالظاهر أنه قد رجع فيه إلى الغلط الأوّل في معنى الإبداع، وقد عرفت الكلام فيه.

وما ذكره بعد ذلك من أمر «الاتصال والانفصال واتحاد الشيء والفعل والفاعل ونحوهما»، فهو كلام خارج عن كلام أهل العلم، وأنا لم أعط فهم سواه، فليعذرني صاحبك عن الجواب مفصّلاً، والصفعة المتقدّمة هي الجواب إجمالاً .

وكأنّي بصاحبك وهو يتذمّر بقلمهِ ولسانهِ - وإلاّ فبضمير جَنانِه - ويقول: إنّ كثيراً ممّا ذكرت ليس من العلوم العملية ولا من الفلسفة الاختبارية، وما هو إِلاّ من علوم الكلام، وما هي إلاّ أوهام على أوهام .

وأقول له: خَفِّضْ عليك أيّها الدكتور، فإنّك أوّل من خرج من ذلك المضيق خروج الضبّ مِنْ(1) نافقائه، فأربى في غلوائه؛ وطفق يستدلّ بما يشبه مسائل الحكمة العالية، فالتجأتُ /102/ إلى أَن أبيّن لك شيئاً من واضحاتها، وأنبّهك على مواضع غلطك فيها، وإنّي مع ذلك تجنّبتُ عويصات المسائل وذكرتُ لك بأوضح بيان ما أرجو أن لا يقصر ذهنك عن فهمه إن أعطيتَ التأمّل فيه حقّه .

ص: 273


1- الأصل: عن.

ولو كنتُ من أهل بلادك لبذلت لك النصح، ولم يمنعني منه غلوّك في إلحادك، وحتمتُ عليك بأن تحذف من كتابك الأغلاط الواضحة والعثرات الفاضحة، ولا تسألني عمّا كان يبقى منه بعد ذلك، ولو عددت لك لطال التعداد وأثار منك الغضب، وظننتَ بي الظنون. «وقد يستفيد الظنّة المتنصّحُ»(1)

ويكفي للتنبيه عليها قولك في مناظرة أرباب الخلق والقدم: «فردّ بأنّ الشيء لا يقدر أن يوجد نفسه، ولابدّ له من موجد سواه، ولهذا نحكم(2) بخلق المادّة؛ لأنّها موجودة، ولا تقدر أن توجد نفسها». قالوا: «فمن أين علمتم أنّ الشيء لا يوجد نفسه، أو لا ترون أنّه يصحّ لنا أن ندفع قولكم بنفس اعتراضكم»،(3) انتهى .

إنّ المادّة ليست بخالقة نفسها

أ ما علمت أيّها الدكتور أنّ قضية إيجاد الشيء نفسه من أوضح الممتنعات العقلية!؟ ويلزم منها لوازم بديهية الفساد ؛ من تأثير المعدوم في الموجود، وتحصيل الحاصل، وكون /103/ المعلول في رتبة علّته ، واجتماع النقيضين القدم والحدوث، ونحوها من اللوازم الفاسدة؟ ولا داعي إلى ذكرها بعد كون فساد نفس المدّعى من أوضح البديهيات.

ثمّ لا تعلم أنّك قد خالفت الفريقينَ وأتيت بما لا يُرْضِيْ الطائفتين، فخالفت الموحّدين بجعلك المادّة خالقة لنفسها ، والمادّيين بقولك إنّها مخلوقة لنفسها.

وإنّي رأيتك تقول في كلام لك ص 30(4): «ولا استغنى عن تلك الفلسفة ، النظرية

ص: 274


1- هذا، المصرع الثاني من بيت الأقرع بن معاذ: «و كم سُقْتُ في آثاركم من نصيحة / و قد...»، راجع: التذكرة الحمدونية ج 7/101، و أيضا فليقارن: صبح الأعشى ج 7/276، نهاية الإرب ج 7/236.
2- المصدر: يُحكم.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 282.
4- كذا في الأصل/ و لم نعثر على العبارة الآتية في المصدر.

المضلّة(1) المبنية على الخيال، وأقام مقامها الفلسفة العملية الهادية إلى السبيل القويم، المبنية على العلم الحقيقي . ولما كان به حاجة إلى إقامة تلك العلوم التي هي أشبه بهذيان المصدعين، ألا وهي علوم الكلام على الإطلاق» .

أ رأيت أيها الدكتور! كيف لم تغنك الفلسفة العملية عن الفلسفة النظرية، فوقعت في ما لا يقع أجهل العوامّ فيه!؟

أ عرفت الآن وجه الاحتياج إلى تلك العلوم، واتّضح عندك أنّ العلوم العملية، وإن كانت بالإطراء جديرة، ولكن لا ينتفع الإنسان بها إذا كان هذا مقداره من الفلسفة النظرية!؟

وهل لك أن تنظر بطرف الإنصاف في هذا المقام لترى أنّ الشبيه بهذيان المصدعين كلامك هذا، لا علوم الكلام!؟ /104/

ورأيت في بروغرام الاشتراكيين - الذي كتبته لوطنك الأغر - أن تجمع كلّ هذه الكتب وتوضع على ظهور حملتها، ويُشْحَن الجميع في بالون يسير بهم إلى القطب الشمالي... إلى آخره.

ولئن يكونُوْنَ في تلك الإصقاع الباردة خيرٌ لهم من مجاورة بلاد يتهكّم مثلك بعلومهم.

ولكن أَما كان من الحزم أيها الدكتور أن تبقى عندك بعض كتبها الابتدائية، وبعض من يفهمها ليصان كلامك عن هذا الغلط وأمثاله، متى شئت التفلسف!؟

ثمّ إنّك أبنت عن جهلك بالدين حيث قلت: «أو لا ترون أَنه يصحّ لنا أن ندفع قولكم بنفس اعتراضكم».

كأنّك تزعم أَن المؤمنين يقولون إنّ البارئَ سبحانه أوجد نفسه، ولا تدري أنّ هذا ممّا يضحك منه أطفالهم، ويستعيذ عوامهُم.

ص: 275


1- الأصل: المُضَلِّلِة.

أ ليس من جلل الخطب أيّها الدكتور وعظم المصاب تَصَدِّيْكَ للرَدِّ على أهل الأديان قاطبة، وهذا مقدار معرفتك بالدين!؟

وأ ما مبلغك من العربية فإنّك لا تفرق بين معنى قولهم: «موجود بنفسه»، وبين ما افتريت عليهم من قولك: «أوجد نفسه» !؟

وإنّي معتذر إِليك يا صاحبي ممّا انتهت اليه المناظرة، ولطالما طويت الضلوع من إِساءَةِ صاحبك إلى العلوم والأديان /105/ على مثل حَزِّ المُدى ووخز السنان، إِلي أن جرى القلم بما سمعت، ولم أَمْلِكْ منه العِنان، فهل بقيت عندك في خلق المادّة شبهة أدفعها، أو لقدمها حجة أدحضها ؟

المُعْطِّلُ: لا، ولا شكّ عندي الآن في أنّ المادة مخلوقة .

(المؤمن - 26) : ولكنَّ لي عمّا قرّره أصحابك في أمر المادّة ضروباً من الإشكال، وأنا موردها عليك، فلعلّني أجد عندك فيها ما ليس عندي، ولا يمنعني إلحادك عن الانتفاع بعلمك، لأنّي بحمد اللّه مؤمن، والحكمة ضالّة المؤمن يطلبها حيث يجدها(1).

المعطّل: سل فعلى الْخَبِيْرِ قد سقطت(2) .

إنّ الطبيعة الأولية لا تتثنّى

(المؤمن - 27) :

أوّلها: أنّ الشائع على ألسنة أصحابك قدم المادة - أو الأثير - والقوّة، وأنّهما أمران متلازمان، يستحيل وجود أحدهما بدون الآخر، وقد تكرّر ذلك فيما مرّ في

ص: 276


1- قارن: الكافي ج 8/167: «الحكمة ضالّة المؤمن فحيثما وجد أحدكم ضالّته فليأخذها».
2- هذا من أمثال العرب؛ راجع: التذكرة الحمدونية ج 8/375: «على الخبير سقطت سل عمّا بدالك».

كلام صاحبك، وفيما لم نذكره من كلامه وكلام غيره أكثر.

ولا أريد أن ألزمك هنا بما ثبت في العلوم العالية من امتناع كون القديم معرضا للعوارض؛ لأنّ تلك العلوم يراها أصحابك صروح أوهام، مبنية على وهم، ويراها أصحابها أعلى مقاماً وأشرف قدراً من أن تنالها أفهام أصحابك.

وأيّا كان فلا جدوى في /106/ البحث فيها معك، وإنّما أريد التوفيق بين قولهم هذا، وبين ما يدّعيه صاحبك من التوحيد في الطبيعة، وينكره من ناموس التثنية فيها، ويقول في مقدّمة الطبعة الثانية من تعريب شرح بخنر ما لفظه: «كما أنّه لا يجوز - بناءً على ناموس تلازم المادة والقوّة - اعتبار هذين المظهرين، أي المادّة والقوة شيئين متمايزين في الجوهر، يثبتان ناموس التثنية في الطبيعة»(1)

ثمّ ذكر ما نشره في جريدة البصير، ونصّه: «الهَيُولى فرض لبسيط المادة، والحركة حقيقة ثابتة، فالحركة أصل الكلّ»، انتهى.

أ تراه يريد إِنكار المادة والاقتصار على الأثير والحركة ؟

إذاً لا يكفي ذلك في ثبوت التثنية، ضرورة أنّ الحركة غير المتحرّك؟

أو تراه يريد إِنكار الأثير أيضاً لتبقى الحركة وحدها أصل الكلّ؟

وأصرح منها قوله فيها ص 35: «وسواء سمّينا جوهر الكون الأصلي أثيراً أو هَيُولى [أ]و القوى المتحوّلة عنه قوة أو حركة، فالمعنى واحد، وما هو إلاّ اختلاف ألفاظ فقط، والمهمّ تحوّل هذا الجوهر وانحصاره في واحد هو القوّة [أ]و الحركة التي هي حقيقة ثابتة في العلم بخلاف الأثير أو الهيولى التي هي فرض لجلاء الكلام وتقريبه إلى الفهم»(2) انتهى.

فتراه يصرّح بأنّ /107/الهيولى والأثير فرض لجلاء الكلام، وأنّ الحقيقة الثابتة

ص: 277


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 33.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 35.

في العلم هي الحركة، إذاً(1) فما يصنع ببداهة العقل وحكمها بأنّ الحركة لا توجد بغير متحرّك؟ وهو نفسه ممّن يدرك هذه البديهية.

ويقول في ص 279 ج ل ما لفظه: «لأن المادّة في أدقّ أجزائها إذا فرضت ساكنة لم تعقل، وكذلك الحركة إذا فرضت بدون شيء متحرّك لم يعقل، أو تلاشتا معاً، وهذا لا يعقل أيضاً. قال ورتز: إن القوّة لا تكون وحدها، بل يلزم أن تصدر من شيء، وأن تفعل على شيء، وأن تظهر بحركة، وكيف تكون حركة بلا شيء(2) متحرك»،(3) انتهى.

إنّ الحركة و الجوهر متلازمان و ليسا بمتحدين

وثانيها: أنّ في أوّل كلامه المتقدّم نقله عن [فلسفة النشوء/ 35] تحوّل الجوهر الأصلي إلى القوى، ويظهر ذلك من مواضع أخرى من كتابه، فكأنّه يقول في الأثير ما يقوله جوستاف لبون(4) في الجوهر الفرد، وإذا فَما معنى تحوّل المتحرّك حركة، أي الجوهر عرضاً؟ وأيضاً: بم تقوم هذه الحركة حينئذٍ، والمتحرّك متحوّل إلى الحركة؟

ولو ضممتَ ما ذكره فيه إلى ما ذكره في ص 279 تحت عنوان «إنّ القوّة والجوهر سِيّان»،(5) وتتبّعتَ سائر كلامه في القوّة والمادة لرأيت العجائب.

ومن طريفها استدلاله على اتّحاد الحركة والجوهر الفرد - وهي /108/دعوى عجيبة - بأنّ المادة في أدقّ أجزائها إذا فرضت ساكنة لم يعقل، ولا يتعقّل أن الملازمة بين شيئين لا يجعلهما شيئاً واحداً؟

ص: 278


1- كذا في النسخ.
2- المصدر: بدون شى ء.
3- نفس الصفحة فى الفلسفة النشوء والارتقاء.
4- الأصل: كوستاف لبون.
5- فلسفة النشوء والارتقاء/ 279.
إنّ المادّة محصورة

وثالثها: إنّ دقائق المادة:

[1]: إمّا ان تكون محصورة معدودة أي متناهية.

[2]: أو غير متناهية.

وعلى الأوّل: يقع السؤال عن السبب الموجب لخصوص ذلك العدد من غير زيادة ولا نقيصة عنه؟ ثمّ عمّا وراءها.

[الف]: إِن كان الفضاء متناهياً أيضاً، فهل تبعث إذا الكرات البلورية من أجداثها، بعد ما أماتها العلم، ويعاد علينا الحديث القديم الذي كنّا نعدّه من المعضلات من أنّه لا خلا ولا ملأ فوق محدّد الجهات.

[ب]: وإن كان غير مُتَناهٍ، لزم أن يملأ غير المتناهي بالمتناهي، ولا قضيه أحرى منها بالفساد .

ولا حاجة إلى إطالة الكلام على سائر ما يلزم هذا الفرض، بعد ما كان الظاهر من صاحبك هذا وغيره القول بعدم انتهاء المادّة كالفضاء، بل والأجرام السماوية أيضاً، كما يقوله بخنر صفحة 222.

ويتّجه عليه اعتراضات كثيرة اقتصر منها إشفاقا عليك من الملالة على اعتراضين :

أوّلهما: أنّ وجوب تناهي الأجسام وامتناع اللانهاية فيها ممّا أقيم عليه البراهين الواضحة التي تجعله من القطعيات، ولا تدع فيه للشكّ مجالاً، ولا لقائل مقالاً، ولا يناسب موضوع /109/ الرسالة نقلها، وهي معلومة لَدى أهلها، ويكفي لَدى الطبع السليم هنا: أنّ من ضروره العقل معدودية العدد الموجود في الخارج، فلا يمكن أن يوجد عدد لا نهاية له خارجاً، وإن كان العدد لا نهاية له ذهناً، فيستحيل وجود معدودات غير متناهية.

ص: 279

وكلّ عدد موجود خارجاً لابدّ أن يكون له حاشيتان وأجزاء كالنصف والثلث، ولابدّ من قبوله الزيادة والنقصان، وكلّ ذلك دليل الانتهاء، فلا يعقل اللانهاية لدقائق الأثير أو الجوهر الفرد .

وثانيهما: أنّ مذهب أصحابك في تكوين الكون مبنيٌّ على إثبات المركز العامّ للأجزاء لتتحرّك نحوه الأجزاء حركات مختلفة، وتنشأ منها العناصر الأولية، ثمّ تتكوّن السيارات والأقمار على ما هو مقرّر في الرأي السديمي.(1) ومن الواضح أنّه لا يتصوّر المركز العالم لغير المتناهي.

وقد نقل صاحب الراهن والواهن في الفصل الأوّل من التكوين اعترافهم بذلك وهذا لفظه : «نعم : إذا اعتبرنا أنّ لا نهاية للمادة في امتدادها، فالعوالم لا يمكن أن تكون قد نشأت من تلك المادّة نشوءَاً ذاتياً ؛ ولكنّ الذهن لا يمكنه تصوّر امتداد المادّة إلى ما لا نهاية /110/ له، فلابدّ إذاً من القول بنهاية للمادة»،(2) إلى آخره.

ورابعها: أنّ هذه الدقائق الأزلية متماثلة على الرأي المادّي، كما يقوله صاحبك، بل يقول أصحابك، ومن المعلوم أنّ المتماثلات لا تحصل منها إِلاّ متماثلات، فَكَيْفَ أعطت هذه المختلفات؟

وهم آخر في المقام

وقد أجاب عنه صاحبك في كتاب الحقيقة فقال : «ولعلّ المعترض لا يعدّ الاختلاف اختلافاً حتّى يكون في الطبع، فيقول: إنّ اختلاف الكمّ والكيف لا يحصل عنه اختلاف الطبع.

وهذا وهم؛ فإنّ أسماء العقود - كالعشرة - بقطع النظر عن الشيء المدلول عليه

ص: 280


1- السديم: بقع في الكرة السماوية ضعيفة النور، منها ما هو تجمّع غازات مضيئة، و منها يضمّ العديد من الكواكب.
2- لم نظفر: بالمصدر في مكتباتنا.

بها، هي غير الواحد المؤلّفة منه، والتي ينحلّ إِليه، والمثلّث بهذا الاعتبار نفسه هو غير النقطة المؤلّفة منها، والتي ينحلّ إليها؛ ثمّ إنّ مزيج عنصرين كالنيتروجين والأكسجين مثلاً هو غير مركّبهما، وفرق بينهما، إِلاّ في نِسَبِ جواهرهما وفي ترتيب بعضها بالنسبة إلى بعض، لا بإدخال شيء جديد أو تغيير في طبائعها الخاصة.

قال ورتز: إنّ التركيب ليس ناشئاً عن تداخل جواهر المادّة بعضها ببعض، بل من ترتيبها بعضها حول بعض.

ولا يخفى كذلك أنّ العناصر الجوهرية التي تركّب المواد الحيّة، هي الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين /111/والكربون، ونسبها في المواد المذكورة لا تختلف إِلاّ في الكمّ والوضع، ومع ذلك فما أكثرها! وما أعظم اختلافها؟»،(1) انتهى .

ولقد أبدع صاحبك غاية الإبداع، فأتى في كلامه بثلاثة أغلاط في الجواب، والتمثيل، والمثال:

أما غلطه في الجواب: فلأنّ الاختلاف في الكمّ والكيف وسائِرِ ما ذكره من النسبة والترتيب لا يُعْطِيْ المختلفات، بل ولا معنى لأكثرها إلاّ مع اختلاف الأجزاء التي تتركّب منه، والمفروض تماثل الأجزاء الأصلية التي تركّب منها الكون .

فالاختلاف في الكمّ لا يحصل منه إلاّ اختلاف الوزن والحجم مثلاً: مقداران: في أحدهما ألف من دقائق الماء، وفي الآخر ألفان، لا فرق بينهما إلاّ أنّ الثاني أكثر وزنا وأعظم مساحةً من الأوّل، ولو زدت عليهما ما شئت أو نقصت منهما ما أردت لا يحصل اختلاف في الطبع، ولا في الشكل والصورة.

وكذلك الاختلاف فى الكيف لا يتحقّق في المركّب من المتماثلات إلاّ بأن يعرض عليها ما يزيحها عن التماثل.

وأمّا الاختلاف في النسبة والترتيب والوضع فلا معنى له إلاّ مع اختلاف

ص: 281


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 278.

الأجزاء، فيكون من الهيدروجين مثلاً في أحد /112/ المركّبين عشرة، وفي الآخر خمسة، ومن الأكسجين في ذاك ثلاثة، وفي هذا أربعة، لتختلفَ النِّسَبُ ويتعدّدَ الوضعُ والترتيبُ.

وأمّا مع التماثل فلا تغاير حتّى تتحقق النسبة، أو يختلف الترتيب والوضع.

وهل تجد في المثال المتقدّم فرقاً في صورة الماء إذا أخذت قطرة(1) من الماء من يمينه ووضعتها في شماله !؟

فاتضّح أنّ ما ذكره بِمَعْزِلٍ عن مفروض المعترض، وخروج عنه إلى ما لا إلمام به أصلاً، وأنّه لا حجّة له فيما استشهد به من كلام ورتز.

وقد تنبّه لهذا الأمر الواضح، فقال بعد استشهاده بالعناصر التي تتركّب منها الأجزاء الحية ما لفظه: «ولا يرد علينا بأنّ الكيمياء الآلية هي غير الكيمياء الغير الآلية، فالأحياء ليس لها كيمياء خاصة».

ولا بقول(2) المعترض: «إنّ هذه المركبات ليست من هذا الباب؛ لأنّها مركبة من عناصر مختلفة»،(3)

ولكنّه لم يزد في الجواب على قوله: «لأن هذا القول في غاية الغرابة»(4).

ولا شيء أغرب ممّا فعله حيث عدّ الاعتراض الواضح غريباً من غير أن يبيّن لغرابته وجهاً أو لعدم وروده سبباً.

ثمّ طواه على غِرَّتِه ورجع إلى ما في محفظة ذاكرته من الألفاظ التي يهيم بها ويلهيه /113/ حفظها عن فهمها، وطفق يزيد أمثلة على تلك الأمثلة قائلاً: «إنّ الخشب والصمغ والنشا لا يختلف تركيبها إلاّ في الوضع والكحول والحامض الخِلِّيك إلاّ في الكم» ومستفهما عمّا يقول المعترض في الموادّ البوليمربيه، أي التي تختلف

ص: 282


1- الأصل: فطرة.
2- الأصل: بقول.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 278.
4- نفس المصدر السابق.

هيأتها ولا تختلف ماهيتها ولا تركيبها. وفي المواد الألوتروبية، أي التي تختلف صفاتها ولا تختلف ذواتها، ونحو ذلك ممّا لا يأتي نقله بفائدة سوى ملل القرّاء، ولا يزيد المعترض في جواب جميع ما لَفَّقَهُ على قوله: أنّ من الواضح لدى من له أقل نصيب من العلم أنّ الأشياء المتماثلة من جميع الجهات لا يعقل أن تتغير صورها ولا آثارها ولا صفاتها، إلاّ أن يعرضها ما يغيّرها ويخرجها عن التماثل التامّ إلى بعض المباينة.

وأما غلطه في التمثيل: فلأنّ الكلام في الموجودات الخارجية المتأصّلة، لا في الأمور الاعتبارية، فالعشرة في الحقيقة ليست إلاّ نفس تلك الآحاد المركّبة منها، ولا يغايرها الاّ بصرف الاعتبار، وأين هذا التغاير من التغايرات الخارجية الثابتة وان لم يكن في الكون معتبر أصلاً ؟

وأما غلطه في المثال: ففي قوله: «إنّ المثلث غير النقط(1) المؤلّف /114/منها»، إلى آخره.

فكأنّ هذا الدكتور يزعم أنّ المثلث مركّب من النقاط، وأنّه ينحل اليها، وإنّي لا أعلم في العلوم التعليمية غلطاً ولا خطأ أوضح وأفضح من هذا الزعم، وقد بنيت مسائل تلك العلوم على أنّ النقطة طرف الخط، وأنّ الخط يمكن أن يفرض عليه نقاط غير متناهية، والخطّ طرف السطح، ويمكن أن يفرض عليه خطوط كذلك، ولو بنى على هذا الزعم الفاسد لانتقض من أمّهات الأشكال الهندسية ما لا يمكنني الآن إِحصاؤها، ويكفي من لا معرفة له بتلك العلوم أنّ النقطة لا امتداد لها أصلاً - أي لا طول لها ولا عرض ولا عمق - فلو اجتمعت ألوف ممّا ليس لها تلك الأبعاد لا يحدث ما لها تلك، كما أنّ الخط طول بلا عرض، وضمّ ما ليس له عرض إلى مثله لا يحدث عرضاً.

ص: 283


1- الأصل: المنقّط.

ولعلّ الدكتور لا يعرف للنقطة معنى سوى المعنى العامّي، أعنى ما توضع فوق النون وتحت الباء من حروف الهجاء، ومع ذلك فهل السطح مركب فعلاً من النقاط بهذا المعنى!؟

إنّ المادة مخلوقة

المُعَطِّلُ: لا أراهم إلاّ وقد حاولوا إنكار الخالق، فوقعوا في شَرَكِ المحال، وهذا جزاء من تَعدّى الْحَقَّ، وماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال، وإِذا كانوا عاجزين عن أوّل خطوة في العلم - أعني الإمكان - فكيف /115/ بهم إذا طولبوا بالبرهان!؟ وأنا الآن لم يبق لي ريب في فساد ما ذكره صاحبي في إنكار إِبداع المادة، وفي الجحود لمبدعها، ولكن أقول: لعلّ عند غيره من أصحابي أدلة أُخرى يستندون إليها ولم يطلّع صاحبي عليها .

(المؤمن - 29) : إنّ صاحبك لم يَأْلُ جهدا في جمع الشبهات مِنْ كُتُبِ مَلاحِدَةِ الغرب ومقالاتهم، وقد رتّب من متفرقاتها مجموعته، وملأ من عيوبها عيبته، بل تجاوز عنها إلى كلمات اللا أدريين والمتحيّرين في كيفية فعله وحقيقة ذاته، فصاغ منها بعد تحريفها شبهاً على نفي وجوده(1)، وهو - وإن كان صدى لتلك الأصوات وفنوغرافاً لا ينطق إلاّ بما أودعوا فيه من الكلمات - ولكن له على هذا الباطل حقّ لا ينكر، ويد لا تجحد، لأنّه عمد إلى كنانة الإلحاد، فنثلها، ثمّ انتخب منها أخفاها فسادا وأشدها خلابا، ولو اطَّلَعْتَ على ما حذف منه لأنصفته واعترفت له بما عرفتك به، ويكفيك أنّ هولباخ شيخ المادّيين في القرن الثامن عشر ذكر في /116/ كتاب نظام الطبيعة من الأدلّة على الإلحاد ما لم يخف فساده حتّى على بخنر، فقال:

ص: 284


1- كشبهة الاتصال والانفصال وكيفية فعله بالمادة المتقدمة في بعض المفاوضات السابقة، فانه قد أخذها من دلامرت من كتاب له إلى فريدريك الكبير، بعد ما حذف منه التصريح بوجود اللّه تعالى ونقله عن التحير إلى الجحود . (منه)

إنّ أدلته ضعيفة ومملّة.(1)

وهو بنفسه يستدلّ بما حاصله: لو كان اللّه موجودا لكتب بالخطّ الجليّ على السماء بأنّي موجود، وأنا الضمين بأن لا يعثر أحد على أبردَ من هذا الاقتراح، ولا يسمع بأسمج من هذا الاعتراض.

ولا أدري لمن يكتب هذا السطر ويخطاّءَ لذوي البصائر أم لغيرهم، ومن لم تنفعه تلك الآيات الباهرات لم ينتفع بآية واحدة .

إنّ السبب الطبيعي ليس بكافٍ فى إحداث الأمور المنظمة

ثمّ إنّ من عادة القوم، الإغراب في التعليل، والتكلّف في بيان الأسباب، كما عرفت نموذجا منها فيما سبق .

ومن أصولهم: أنّ وجود السبب الطبيعي كافٍ لإحداث الأمور المنظّمة من غير جاعل قاصد لها .

فأيّ فرقٍ إذابين تلك الآيات وبين هذاالمقترح!؟

وما هو إلاّ عدّة حروف منظمة؟

ومن يتكلّف تلك التكلّفات الباردة في سبب حدوث الأعضاء الحيوانية الظاهرية منها، والآناتومية التشريحية، أيعجز عن مثلها في كلمات يسيرة؟

ولعمر الحقّ أنّ ورقة على شجرة أدلّ على الإثبات من ألف سطر كما اقترحه بخنر .

المُعَطِّلُ: جزيت خيراً من صاحب، أخرجني من ظلمة الإلحاد إلى نور الإيمان، وغسل من دَرَنِ الشبهات، ما منحت /117/ به من سلامة الوجدان، وإنّي أحمدك لما

ص: 285


1- راجع: فلسفة النشوء والارتقاء/ 212: «و أما حجّته لتبطيل الأدلّة على وجود اللّه فضعيفة و مملّة».

أوليتني من الجميل وأشكرك على ما هديتني إليه من سواء السبيل .

(المؤمن - 30) : لا يستحقّ الحمد سوى اللّه سبحانه، ولا ينبغي الشكر إلاّ له، هو الذي نظر إليك بعين عنايته، فهداك إلى معرفته، ويجب علينا أن نتأدّب مع اللّه بآدابه ونقول معاً ما علّمنا في كتابه: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ»(1).

ص: 286


1- الأعراف/ 43.

المقالة الثانية: في الدفاع عن الأديان

إنّ العالم لم يخلق عبثا

المهتدي: لابدّلي بعد الاعتراف بالصانع من الانقياد للأديان الإلهية والإذعان بالشرائِع السماوية، لعلمي بأنّه سبحانه لم يخلق العالم عبثاً، ولم يترك الإنسان سديً؛(1) بل بعث رسلاً يبلّغون عنه أوامره ونواهيه، ويبيّنون لهم ما يسخطه وما يرضيه، ويسنّ للناس شرائع تصدّهم عن طرق الفساد، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح المعاش والمعاد .

ولكن أصحابي قبل اليوم يرمونها بكلّ شنيعة، ويعدلون عنها إلى شريعة يَعْزُوْنَها إلى الطبيعة، فهل لك أن تشفع ما لك من الإحسان بالجواب عن مفترياتهم على الأديان؟ وعمّا /118/ لفقوه في الحطّ عن رفيع مقامها، والنفي لجزيل فوائدها؟

إنّ الإنسان لا يعرف صلاحه بدون الدين

فقد قال معرّب شرح بخنر ص 51(2) ما لفظه: «ولقائل: ما الفائدة في معرفة الإنسان نفسه أنّه حيوان ومن نفى الديانات!؟ وهل يمكن صلاح الكون بدونها؟ فكون الإنسان يمكن قوام شأنه وصلاح حاله بدون الديانات، فهما لا يجب أن يكون شكّ فيه» ؟(3)

(المؤمن) : أمّا الفائِدَةُ في معرفة نفسه أنّه حيوان، فللكلام عليها محل آخر.

ص: 287


1- اقتباس من سورة القيامة/ 36: «أَيَحسبُ الإنسانُ أنْ يُتركَ سدىً».
2- الأصل: 15.
3- نفس الصفحة في فلسفة النشوء والارتقاء.

وأمّا قوله: «فكون الإنسان»، إلى آخره، فبعد الاعتراف بحسن صياغة ألفاظه والنكتة في قوله: «لا يعب أن يكون» بدلاً عن «يجب أن لا يكون» نقول: إِنّ الأولى أن ندع النظر في معناه إلى أصحابه الاجتماعيين من المعطّلين، ليروا رأيهم فيه ؛ لأنّه بمعزل عن المقصد الأهمّ الذي شرّعت لأجله الأديان وبعثت له الرسل .

والرجل لا يعرف معنى لقوام شأن الإنسان وصلاحه سوى أن يأكل ويشرب وينكح وهو في راحة وأمن، ولا يتجاوز همّته همة البهائم، وقصاراها أن يصنع حاجياته بيده كما يبني الطائِرُ عشّه، ويحفر الضبّ جحره؛ وأجدر به أن يكون هذا غاية جهده وَحُمادى(1) شرفه أن كان - كما يزعم - سليل /119/ البهائم وابن عمّ القردة، ولا يعرف من قوام شأنه وصلاحه ما يعرفه أهل الدين من معرفة اللّه سبحانه والتلذّذ بمناجاته والفوز بقربه وحبّه، والسعادة الدائمة في آخرته، وغيرها من المقاصد العالية التي خلق لأجلها الإنسان، وشرّعت لهذا الأديان.

فهب أنّه بدون الدين يمكن صلاح الكون بهذا المعنى الدنيٌ الذي تعرفه البهايم، ولا يتجاوزه عقل هذا الفيلسوف، فما على الأديان منها بعد ما أعلنت بأشرف مقاصدها وأذنت بأنّ صلاح الاجتماع - وإن كان في عهدتها - ولكنّه ليس من أشرف غاياتها، ولو فرض إمكان صلاح الكون بدونها لا يحطّ ذلك من سائر فوايدها، ولا يستغني بها في سائر مقاصدها.

على أنّه سوف يتضّح لك أنّه ممتنع الحصول بغير صحيح الدين وجازم الاعتقاد، وأنّه لا شيء أضرّ لجسم الاجتماع من السُّمَّيْنِ الزُعاقَيْنِ:(2) اللادينية والإلحاد .

ثمّ إنّ هذا الرجل قد ملأ كتابه بالاعتراف بأنّ هذه الشرائِعَ وضعت لإصلاح الاجتماع، وأكثر من تسمية أصحابها عليهم السلام بالفلاسفة العظام، وقال في مقالة الدين والحقّ: «إنّ الشرائِعَ اجتماعية أو دينية غرضها واحد نبيل، /120/ وهو صلاح حال

ص: 288


1- أيْ: غاية.
2- الزُعاق: الماء المرّ لا يطاق شربه.

الإنسان وواضعوها من أنبل المصلحين غاية».

ولا يزال يمدح الشريعة الإسلامية خاتمتها وفذلكتها، ويصفها في خاتمة الحقيقة ص 352 بأنّها الشريعة الوحيدة الاجتماعية الْعُلْيا المستوفاة التي تَرْمِي إلى أغراض دنيوية حقيقية، ويقول فيها أيضاً ما لفظه: «شريعة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم نظام اجتماعي عملي مادّي قانوني حقيقي»،(1)إلى غير ذلك ممّا في كتابه ومقالاته من مدح الشرائِعِ عامةً وخاتمتها خاصةً .

فمن سائل هذا الرجل عن معنى ما يدّعيه من الفائِدَةِ في نفي الديانات بعد الاعتراف بأنّها قوانين اجتماعية موضوعة لصلاح البشر؟ وهو ممّن جنّ جنونه باصلاح الاجتماع، فلما ذا يعدل في إصلاحه عن شريعة القرآن التي مدحها بما سمعت!؟ وهو كما ستعرف لا يعيبها بشيء، بل ينعى على أهلها تارةً ما أدخلوا فيها من الأوهام، وتارةً عدم تصرّفهم فيها وجمودهم على ظواهرها، مع انّ صاحبها صلى الله عليه و آله وسلم وضع لهم مخرجاً من ذلك الجمود كما قال في ص 353: «غير أنّ الشارع الحكيم نفسه وضع لهم مخرجاً من ذلك الجمود بآيات النسخ(2) نفسها التي آتاها في قرآنه في حياته لعلّهم /121/يتدبّرون » .(3)

فلماذا يعدل عن هذه الشريعة الاجتماعية الممدوحة، التي لا مغمز فيها ولا مَطْعَنَ عليها في نفسها، ويحمّلها ذنب أهلها - كما يقول - من إدخال الأوهام فيها والجمود عليها.

وكان الأجدر به أن ينتحلها ويقوم فيها مقام مصلح يحارب الأوهام الدخلية فيها، ويعلم أهلها التصرّفات اللازمة في أحكامها، لا أن يقوم متعصّباً عليها وعلى سائر أخواتها، ويختار عليها الشريعة الاشتراكية التي يتبرأ منها حتّى ملاحدته

ص: 289


1- راجع هامش فلسفة النشوء والارتقاء/ 353، الرقم 3.
2- قارن: البقرة / 106
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 353.

كغوستاف لبون ويعاديه، حتّى فلاسفته كسبنسر كما ستعرف إن شاء اللّه .

إنّ الدين الحنيف يوجب ارتقاء الأمّة و البينة

أمّا قوله: «بل لا يصلح حال الأمّة إلاّ كلما ضعفت فيها شوكة الديانة ولا يقوى شأن الديانة، إلاّ كلّما انحطّ شأن الأمة».(1)

فإني لا أحيلك في تكذيبه إلى استقصاء العصور المتوغّلة في القدم، ولا أكلّفك أن تطوى لذلك من ربوات الأجيال ألُوفا؛ بل أقف بك على هذه الأمّة الإسرائيلية، فقد علمت ما كانت عليها قبل الديانة الموسوية - على صاحبها وسائِرِ أنبياء اللّه السلام - من الخمول والذلّة والعبودية للقبطيين، وما آل اليه أمرها بعد التديّن بها، حتى دانت لها الأمم وفتحت من البلاد ما /122/ تعلم .

وإن طالت عليك الشقّة، واستكثرت بضعة(2) آلاف سنة، فإني أقف بك على عهد غير بعيد ، هذه الأمة الشريفة المباركة العربية، أ لم تكن تسكن بلاداً قاحلة(3) وتحلّ محالَّ(4) ماحلةً،(5) وهي على شظف(6) من العيشِ وانحطاط في درجات سُلَّمِ العلوم والصنائِعِ، أرقى كمالاتها أبياتٌ من الشِعْرِ، وأقصى متاعها بيوت من الشَّعْرِ ، تحكم عليها الفرس في حدود عِراقها، وتتحكّم عليها الروم في متاخم(7) شامها، فارتقت بعد أن منّ اللّه عليها بالإسلام أقصى ذُرى المجد والفخر، وتلا لها القرآن سُوَرَ الملك والفتح والنصر، فاجتاحت(8) في أقلّ من نصف قرن ممالك الروم، وأزالت قديم شاهنشاهية الفرس، وحكمت على مملكة مصر، وتوالت لها بعد ذلك من الفتوحات

ص: 290


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 51.
2- الأصل: بضع.
3- القاحلة: اليابسة.
4- الأصل: محالاً.
5- الماحلة: الجدبة أى بلا مطر.
6- الشَظف: البعد، الضيق.
7- المتاخم: المجاور، المماسّ.
8- اجتاح: استأصل، أهلك.

العظيمة ما تخبرك صفحات التأريخ .

نشدتك، والانصاف، هل كان العامل في ارتقائهم غير الدين الحنيف وعظمته في أنفسهم ورسوخه في افئدتهم وتصديقهم بوعيده ووعده، ووقوفهم طوع نهيه وأمره؟ وهل كان ينجع غير الدين في اجتماع كلمتهم، أو ينفع غيره في تثقيف طباعهم وعلاج تفرّق عصبيّتهم واستيلاء /123/ الأوهام الجاهلية عليهم ؟

وللّه قول مهيار:

ما برحت مظلمةً دُنياكم *** حتى أضاء كوكبٌ في هاشم

بنتم به وكنتم من قبله *** سرّ[ا] يموت في ضلوع كاتم [...]

فبعد هل من ملك مسالم(1) *** تدعون هل من ملك مقاوم(2)

وأمّا معارفها بعد الإسلام، فحدّث عنها ولا حرجَ، شاركت في الحكمة اليونان وتفردت عنها بحكم الإيمان ، وفاقت من سبقها في حسن الصنعة وبديع الاختراع، ولم تدع لمن بعدها إلاّ حسن الاتّباع .

وقد كان ارتقاء هذه الأمّة ومعظم فتوحها وأصلح أحوالها في زمن الخلفاء من أصحاب نبيّها، حيث الديانة في إِبّان قوّتها وأقوى أزمان شوكتها، على رغم هذا الزاعم بأنّه لا يصلح حال الأمة إلاّ كلّما ضعفت فيها شوكة الديانة !

هذا وَفي الزمن الحاضر غِنًى لك عن الغابر، هذه الأمم الراقية في القارتين أوربا و أميركا، ولا يلزمني أن أطيل لك البيان بسرد شواهد ارتقائها، لا ترى أمة منها إلاّ وهي متمسكة بدينها، مطيعة لقسوسها(3) ورهبانها، تحترم أيّام آحادها، وتحفظ

ص: 291


1- المصدر: و عاد هل من مالك مسامح.
2- الشعر كماء جاء في النص لمهيار الديلمي و مطلعه: أتعلمين يا ابنة الأعاجم / كم لأَخيك في الهوى من لائم.
3- القسوس: جمع القَسّ، من كان بين الأسقف و الشمّاس.

مراسم أعيادها، تبذل أنفسهم في سبيل /124/ الدين ونفائس أموالها على الدعاة والمبشّرين.

وسيخول هذا الرجل امتياز التقدّم المطلق والأقدمية من بين أمم أوروبا لأمّة الإنكليز، ويقول: «إنّها اندّفعت متقدّمة من بين أمم أوربا، حتّى بلغت مبلغاً جعلها في مقدّمة العالم، ولا تزال فيه حتّى اليوم على رغم صعوبة مركزها الجغرافي» ثمّ يعلّل ذلك باعتناقها مذهب البروتست، لأنّه أقلّ تقييدا للعقل.

وذلك موقف آخر للكلام معه، وسيقف عليه، ويكفينا هنا أن نقول: إِنّ مذهب لوثر مهما بلغ في الإصلاح وبالغ في نبذ الأوهام فلا شكّ أنّه يعلم بوجود مبدع حكيم قد خلق المادّة وسنّ نواميس الطبيعة، وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية، وشرع الطقوس الدينية إلى غير ذلك من الأمور الجوهرية للأديان التي بأقلّها ترغم أنوف المعطّلة من أصحابه.

وما كان صاحبك يناظرنا في ترجيح دين على دين، ولا في تقديم مذهب على مذهب، وإنّما كان ينازعنا في الدين المطلق مقابل اللادين الصرف.

ولا شكّ أنّ الإنكليز من أشدّ الأمم تعصبا لدينها، وأولعها بتقوية شوكتها في بلادها، وهي كما اندفعت متقدّمة على غيرها من الأمم الاروباوية في دنياها، كذلك اندفعت متقدّمة /125/ عليهم في التعصّب لدينها ولمذهبها، وهي لا تنقاد لملكها، بل لا تعرفه ملكا إلاّ بعد أن يلبسه القسيس التاج في الكنيسة، ويحلف لها بالدفاع عن دينها والنشر لمذهبها، على ما هو معلوم من أمر حفلة التتويج .

وما ذاك إلاّ لأنّ التقدّم في الدنيا والتمسّك بالدين لا يجريان إلاّ «وأذناهما أذن، وصدراهما صدر».

ولكنّ الرجل ينظر إلى الأديان بطرف البغض والعدوان، فيريه الأمر معكوساً ويرّده إلى عقله مقلوبا، فيزعم أنّ سبب تقدّم الانكليز قلّة تقيد مذهبها للعقل، كان

ص: 292

هذا أم لم يكن، أين يقع ذلك مما يريده من ثلب الأديان قاطبة، والحثّ على حرية الفكر المطلقة؟

وكيف أجاز رأيه العازب أن يستدلّ على منافاة أصل الدين للتقدّم بارتقاء أشدّ الغربيين تمسّكا به وأسرعهم إلى إطاعة أربابه ؟

وكان عليه أن يبين أنّ على وجه البسيطة أمّة ملحدة هي أرقى من الإنكليز، ليصحّ له دعوى أنّ ارتقاءها لإلحادها.

لكن بربّك هل تعرف بين خافقيها أمة ملحدة راقية، بل منحطة إِن كانت ممّن تستحقّ إسم الإنسانية، وهل عهدك بمنتحلى الإلحاد إلاّ شذّذاً متفرقين في البلاد، يوجد في كلّ /126/شعب منهم عدد أصابع الكفّ، هم فيه بمنزلة القذى في العين، والشجى في الحلق. والسرطان في الجسم، والشعب يعدّ ذلك المعدود حجرَ عثرة في طريق ارتقائه، وناقع سمّ لجسم اجتماعه.

اللّهم إلاّ أن يصحّ - ولا يصحّ - من عدم وجود الديانة في همجة الزنوج ومتوحّشي أفريقا والقبائل المنحطّ . كالبابوان والهوتنتوت.

فإن كان هذا الرجل يَرى الارتقاء ما عليه تلك الوحوش الإنسية، ويرى معنى المدينة تلك الهمجية، فلا قَدَّسَ اللّه الارتقاء ولا بارك في المدنيّة!

انّ الدين الحنيف لا يأمر بالظلم و الفظائع

(المهتدي - 1) : وقد قال بعد ذلك : «ولا يسع أحدا إِنكارُ ما للدين من الوقع العظيم في تقدّم الأمم وتأخّرهم، وتعصّبهم وتباغضهم، وتباعدهم وتنافرهم وتحاملهم بعضهم على بعض» .(1)

المؤمن: أوّل كلامه حقّ، ولكن لا بالمعنى الذي يعنيه، بل بمعنى أنّ الدين هو

ص: 293


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.

العامل الأعظم في تقدّم الأمم وتأخّرهم، فكلّ أمّة دانت بدين الهي وأعطته حقّه من التمسّك به، فإنها تتقدّم على غيرها كما تقدّمت الأمّة العربية بعد ظهور الإسلام، وكل أمّة لم تتمسّك بدين أصلاً أو تمسّكت به ولم /127/ تعطه حقّه من العمل به، فإنّه ينحط أقبح انحطاط، وأعذرني من ذكر المثال .

ولكن هذا الرجل لا يريد هذا المعنى الصحيح الذي يعطيه ظاهر كلامه، وإنّما يريد به معنى فاسداً، ولعلّه الذي فرغنا الآن من نقضه وهو دعوى الوقع العظيم للدين في تأخّر الأمم، وعليه فلفظ (تقدّم الأمم) في كلامه كلمة حق، جرى على لسانه بغير اختياره.

وأمّا باقي كلامه فمن أوضح الافتراء وأشنع الكذب ولا أرى أن أبين كذبه بسرد الآيات الواردة في اللقرآن الكريم، بل وساير الكتب المقدسّة، الصريحة في الأمر بالتحابب والمُوادة والنهي عن البغي والتباغض، وبنقل الآثار المروية عن أصحاب الأديان الإلهية، ولا أن أفصّل لك القول ببيان المخرج عما يعطي ظاهره شيئاً مما ذكره، وإن كنت لا أضنّ عليك بمجمله فيما بعد .

بل أرى أن أبدأ بذكر اعترافه بكذبه وتصريحه ببراءة ساحة الأديان الإلآهيّة ممّا اتّهمها به، فأقول: إنّ هذا الرجل قد صرّح في موارد كثيرة ببراءة الأديان ممّا وصمها به الآن، وحمل إثم ما ذكره علماؤها وزعماؤها، وهاك طرفاً من كلامه منقولاً بألفاظه الفَظَّة: على ما فيه من الجفاء والغلظة . /128/

قال في مقالة عنوانها «ضحايا الجهل أو الإنسانية المظلومة» ما لفظه: «قامت النصرانية في القرون الوسطى بفظائع تقشعرّ منها الأبدان، حاشا للإنجيل أن يكون الآمر بها، وما قام بها إلاّ أولئك الذين هزؤوا بالدين ليسحقوا به الإنسان بالاتفاق مع الحكّام الظلاّم» .(1)

ص: 294


1- لم نعثر على المصدر.

ولو كانت النصرانية تأمر بهذه الفظائع لمّا رأيناها في الممالك التي ارتقت بالعلم شديدة العطف على الإنسان إلاّ التي لا يزال الجهل مخيما فيها، والتي لا يزال إليهود يذبحون فيها على مذبح الجهل ذبح الأغنام ممّا يجعل الذنب كلّ الذنب على أولئك الرؤساء العظام .

الإسلام دين اجتماعي ينهى عن كلّ شرّ لا يقاتل إلاّ الذين يقاتلونه، ولا يعتدى على الإنسان، ويأمر بالذود(1) عن المستأمنين الآمنين في ظلّه، وحاشا أن تأمر بغير ذلك شريعة القرآن . فالقرآن بَرِئٌ من الفظائع التي ارتكبت وترتكب كلّ يوم باسم الدين، فيا مقلنسى(2) الجهل ومعمّمي الضلال، أين رأيتم في أديانكم ما يسمح لكم أن تزرعوا في رُؤُوْسِ أتباعكم الجاهلين التفريق بين الناس إلى حد التباغض والتقاتل ؟ /129/

ثمّ طلب عفو الأنبياء الكرام ممّا جناه العلماء باسم الدين على الإنسانية.

وختم المقالة بآية نزلت عليه من سماء الإلحاد عليها رونق الكفر وديباجة التعطيل، وزعم أنّها قول الأنبياء في هؤلاء العلماء ونصّها، أنّ لهم عينين ولكنّهم لا يبصرون، وأذنين ولكنهم لا يسمعون «صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجعون» .(3)

فقد ثبت باعترافه في هذه المقالة - وغيرها كمقالة «القرآن والعُمْران» - براءة الأديان والكتب الإلآهية ممّا عابها به، وأنّ جميع ما نعاه عليها من فعل العلماء هؤلاء الذين لم يأل جهداً في سبّهم وشتمهم.

ولهم معه، موقف آخر ينصفون أو ينتصفون منه وإِذاً فما ذا ذنب الدين؟ وما عليه إذا أساء علماؤه كما يزعم؟ وهل من العدل أنْ يأخذه بجرم غيره وَيُحَمِّلَهُ تَبِعَةَ

ص: 295


1- الذود: الدفاع، الحماية.
2- المقلنس: الرجل الذى وضع يديه في صدره و قام كالمتذلل.
3- البقرة/ 18.

أتباعه؟ ويجعل الفائِدَة في نفيسه؟

وإن كان الرجل يرى لمسألة من استقلال الفكر جواز أخذ المتبوع بذنب التابع؛ فإنّ جمعاً من أتباع معشوقته بل معبودته - أعني فلسفة النشوء والارتقاء - مثل شو وأصحابه يذهبون إلى وجوب إراقة دماء المرضى والضعفاء، وإبادة القبائل المنحطّة من البشر.

وهذا أخوه الأكبر في الإلحاد قد طبع أمس كتابه مقدّمة السبرمان(1)، وفيه /130/ من الحثّ على تلك القساوة البربرية ما لا تجده في كتب أشدّ المتعصّبين من علماء الأديان.

ولا شكّ أنّ هؤلاء لو تمكّنوا - لا أمكنهم اللّه - لنالوا من جنس البشر في يوم واحد ما لم ينله أهل الدين في طوال السنين.

فهل من العدل أن لا يأخذ فلسفته بذنوب هؤلاء؟ ويؤخذ الدين بما يراه من

خطأ العلماء؟

وأيضاً لا يزال أصحابه الفوضويون والاشتراكيون - وأنت تعلم ما يعتقدون ويفعلون - وفي مقدّمتهم هذا الدكتور، يلقون التنافر والتباغض بين الناس، ويحرّضون الفقراء على الأغنياء، بل وسائِر طبقات الناس على الملوك والأمراء .

ولمّا سئل قاتل ملكة استريا عن سبب جنايته لم يزد على قوله : «لأنّها غنية وأنا عدوّ الأغنياء».

ولا أدري لما ذا يخصّ أهل الدين بالتقريع والعتاب، ولا يذمّ أفعال هؤلاء، بل يسمّى جنايتهم بالقتل الاجتماعي ص 147 «ج ني»، ويزيّن كتابه بترجمة كتاب فوضوي ص 149 «ج ني»، ويعتذر بمقالة مسهبة للفوضوي قاتل الرئيس ما كنلي، ويمدح الثورة الفرنساوية فيما ستسمعه من كلامه .

ص: 296


1- Superman.

ثمّ إنّه لا ينبغي لهذا الدكتور أن يكون سطحيّ النظر بهذه الدرجة، /131/ فيبغض مجرد التباغض وينفرّ من مطلق التنافر، ويهرب كالأسود من رؤية النجيع الأحمر(1)، بل ينبغي له أنْ يُحِدَّ النَّظَرَ ولو قليلاً ليرى أنّ التباغض ونحوه إنّما يقبحِ إذا لم يكن لمصلحة داعية إليه، ولم تعترضه جهة محسّنة له . ولربّما انقلب المذموم لذلك محموداً، والقبيح حسناً.

وهب أنّه لم يسمع بالقضية المقرّرة في العلم من أنّ الحسن والقبيح يختلفان بالوجوه والاعتبار، بيد أنه ليس من فنّه، ولكن أ ليس هو القائل بنفسه في مقالة «حوادث وأفكار»: «إنّ الجيد والرَدِئَ لا يوجدان مجرّدين في الوجود الكلّي، بل هما نسبيّان» .

أو لا يرى أنّه بنفسه ربّما رَأى الصَّلاحَ في أن يتباعد من بعض أهله، أو يوقع التباغض والتنافر بين من يريد صلاحه وبين من ليس من شكله؟ أو لا يرى أنّ الإنسان ربّما أوجع ولده ضرباً وأوسعه شتماً وسبّاً، وهو لا يفعل ذلك إلاّ شفقة وحبّاً؟ لأنّ في ذلك تقويماً لأوَدِهِ وإصلاحاً لأدبه ؟

ثمّ إنّه طبيب فيما يزعم، أ ولا يرى نفسه يأمر الصحيح بالتباعد عن المريض حذراً من العدوى؟

ومن أعظم /132/ مبانيه في علم الاجتماع تبعاً لسبنسر أخذ نظامه من نظام الجسم الحيّ، أي الأفراد، وإِذا كان - وهو طبيب الأفراد - يقطع العضو الفاسد، ويكوى الجلد ويجرح الجسد لصلاح ساير البدن، فماذا على طبيب الاجتماع - وهم باعترافه الأنبياء الكرام، أو كما يسمّيهم الفلاسفة العظام - إذا رأوا صلاح النوع في أبعاد بعض أو قتل بعض ؟ وهو بنفسه يجوّز الإعدام إذا تعذّر الإصلاح في مقالة «القضاء على القضاء» .

ص: 297


1- تعريب لمثل فارسي . (منه)

إنّ الاجتماع أحد مقاصد الدين

وما الاجتماع إلاّ أحد مقاصد الدين، بل إحدى مقدّمات سائِر مقاصده السامية، ولكنّ الرجل حيث جُنَّ جُنُوْنُهُ بالاجتماع فلا يحلم إلاّ به، بل يصمّ إلاّ عن حديثه، نرى أن نقصر الكلام عليه ونجرى على مصطلحه، وإن كان مخالفاً للآداب، ونقول: إنّ الديانات شرائع اجتماعية شريفة، وضعت لصلاح الاجتماع كما سمعت اعترافه بذلك، ولا يقف بها على هذا الحدّ، بل يعظّمها تعظيماً لا يفوقه فيه باحث ديني مهما كان متحمّساً في إيمانه على ما يدّعيه في المقالة الثامنة .

فإذا كانت الشرائِعُ الاجتماعية التي يتوقّف عليها صلاح الإنسان، ولا يتمّ بغيرها العمران، لا تتمّ إلاّ بإعدام قوم /133/ لا ينقادون لها، بل يشتّتون نظامها، ويسعون في إعدامها، فهل من بدٍّ للمصلح الاجتماعي سوى قطعهم عن الهيئة الاجتماعية قطع الطبيب للعضو الفاسد؟ أو يأمر بالتباعد عنه أمر الطبيب بمباعدة الصحيح عن المجذوم؟ أو يظهر التباغض له والتهاون به ليضطر إلى الانقياد للنظام، ويفهم بعده فائدة الاجتماع فيعود عضواً عاملاً له ينفعه وينتفع به !؟

وزد على ذلك: أنّ ما يريقه هذا المصلح في سبيل الاجتماع، ولأجل هذه الغاية المقدّسة، أقلّ بكثير ممّا تُريقه التعصّبات الجاهلية والعادات الذميمة والخرافات القديمة والأوهام الفاسدة والمطامع الشخصية بأقصى مراتب الهمجية والبربرية من مثل المثلة والإحراق .

فما القتل في سبيل النظام إلاّ تقليلٌ(1) للقتل، ولا الحرب إلاّ إِبْطالٌ للحروب وتخفيفٌ من ويلاتها !

ص: 298


1- الأصل: تقليلاً.

العرب قبل الإسلام

وخذ إليك مثالاً هذه الأمة الشريفة العربية، وقس بين حالَيْها قبل الإسلام وبعده، أما كانت قبله يقتل بعضها بعضاً؟ وينهب فريق فريقاً؟ لا ملك يجمعهم ولا دين يوزعهم، وما جزيرتها إلاّ كإباءَةٍ وقعت فيها النار، فعمّها الحريق، لا /134/ يلمح الطرف أرضاً منها لا تشبّ فيها الحرب، ولا يُثار فيها قتامها،(1) بل يرى أينما رنا يرى ألوية تخفق، ونفوساً تزهق، وأرماحاً تشقق، ودماءً تراق، وأَغلالاً تجمع الأيدي مع الأعناق.

وما في تلك الحروب حرب تقام لمصلحة الاجتماع، ولا لبثّ النظام، ولا لنشر السلم العام . بل تشبّ(2) لثارات قديمة، وتعصّبات ذميمة، وأسباب لا يجوز العقل السليم لها خدش الكفّ، فضلاً عن قتل النفس.

فهل حرب داحس(3) والغبراء العظيمة إلاّ لسبق فرس فرساً، وحرب البسوس المشهورة إلاّ لنافة رتعت في حمى ؟

ويطول بنا القول إن أردنا سرد أسباب تلك الوقائِعِ والمشاهد، وفي كتب السير والتواريخ ما يغني عن نقل الشواهد .

فسلها عن يومي النسار، والجفّار، وعن وقعتي الفجار ، وعن غيرها من الوقائِعِ وما وقع فيها من الْفَظائِعِ، ثمّ استخبرها عن النفوس كم قتلت؟ ولماذا قتلت؟ وما كانت ثمرات تلك الحروب؟ وماذا استفاد الاجتماع منها ؟

العرب بعد الإسلام

هذا عدا ما كانت ترتكبه كلّ يوم من قتل النفوس لمجرّد الطمع في شاة أو جَزُوْرٍ،

ص: 299


1- القَتام: الغبار الأسود، الظلام.
2- تشبّ: تهيّج.
3- الداحس: إسم فرس، الغبراء كذلك، و بسببهما وحقت الحرب. (عبدالستار الحسني)

وما زالت على ما عرفت، حتّى بعث نبيّ الإسلام عليه وآله السلام، وآتاهم بأحسن قانون /135/ وأتمّ نظام، ودعاهم إلى السلم العام، وأعلن لهم غرضه المقدَس من نبذ عبادة الأوثان، ورفض الأوهام التي لا تنفعهم في المعاش وتضرّهم في المعاد، ومن تركهم قتل النفوس ونهب الأموال، وأنّه لا يريد أن يطلبهم ثأراً ولا يسلبهم ملكاً، ولا يدعى عليهم ملكاً، بل يريد أن يستتبّ الأمن في بلادهم وتتمّ الاْءُخُوَّةُ بين أفرادهم، ويتساوى في الحقوق العمومية شريفهم مع وضيعهم، ولا يتحامل قَوَيُّهُمْ على ضعيفهم، وبقي بأبي وأمي هو على هذه الدعوة المقدّسة أكثر أيام رسالته، يدعوهم إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويسمعهم ويريهم الآيات البيّنة.

كيف جوّز الحرب فى الإسلام

فما أجاب دعوته إلاّ أُناس قَلِيْلُوْنَ(1) إذا عُدّوا، لا إذا شدّوا؛ فلما رأى أنّ ما يرومه من مصلحة الاجتماع لا يتمّ إلاّ بأن تعمّ شريعة الإصلاح، ولا يكون ذلك إلاّ بتجريد السلاح، بدأ به بعد ما أبلغ في الدعوة، وأعلن بأنّ من قبل هذا النظام - بل ومن أظهر قبوله - فهو آمن؛ فحارب حروبه المشهورة، وَغَزا تلك الغزوات المعروفة، حتّى ساد النظام وانتشر دين الإسلام، وبطلت تلك الحروب الجاهلية والطلب بالثارات القديمة .

موقف إراقة الدماء في الأديان

وهذا الرجل يعرف، ذلك ويعترف بِمَعْذُوْرِيَّةِ الأديان، كما /136/ في مقالة «القرآن والعُمْران»، وإن فرض عليه التعصّب الأعمى والبغض للدّين أن ينسى ذلك أو يتناساه، ويقول ما سمعت، ثمّ يتبعه بقوله: «وإِذا نظرنا إلى التأريخ(2) رأينا على

ص: 300


1- الأصل: قليلين.
2- الأصل: تأريخ.

صفحاته من الدم سطوراً، لو جمعت لكانت بحوراً، وما سببها إلاّ الْعَداوت(1) التي آثارتها الديانات».(2)

نعم، أيها الدكتور، ترى على صفحات التأريخ دماء كثيرة، ولكنّا عَرَّفْنَاكَ اَلْوَجْهَ فيها، ونقول هنا إِجمالاً: «إنّ تلك الدماء لا تخلو من أحد أقسام ثلاثة:

[1]: إمّا أريقت للدين.

[2]: أو أَراقها الدين .

[3]: أو أراقتها السياسة بحجّة الدين .

أمّا الأوّل: فتلك الدماء الطاهرة، قد أراقها أصحابها فيه بتمام الرغبة وكمال الشوق، وقد بنى لهم القتل شرفاً باذخاً ومجداً راسخاً في الدارَيْن، لا تُعْفِي آثارها أعاصير(3) الملوين(4)، والقتل في سبيل الحقّ كان غاية سؤلهم، وأقصى مأمولهم، فلا تكن أشفق عليهم من أنفسهم، ولا تحل بينهم وبين مأمولهم. راجع كتب التأريخ ، تجد شواهد لا تحصى على ما ادّعيناه من أقوالهم وأفعالهم .

والقتل في سبيل إصلاح الاجتماع من أعظم ما تمدحه وتحثّ عليه، والأديان عندك شرائِعُ إصلاحية.

وأمّا ما أراقه الدين، /137/فَخَفِّضْ عليك أيها الدكتور ولا يهولنك أمره .

تلك الدماءُ مَعاً يا ربّ في عُنُقِيْ *** وَمِثْلَها مِثْلُها آمِيْنَ آمِينا(5)

وما يجيب مشرطُ الحجّام ومِبضعُك(6) أيها الطبيب عن دماء المصابين، تجيب سيوفُ أهل الحقّ عما أراقته من دماء المفسدين .

ص: 301


1- الأصل: العدوات.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.
3- الأعاصير: جمع الإِعصار، أي ريح ترتفع بالتراب أو بمياه البحار و تستدير كأنّها عمود.
4- الملوين: اللَّيْلُ وَالنَّهارُ.
5- لم نعثر على قائِلهِ.
6- المِبضع: آلة يشقّ بها الجلد و ما شاكله.

وأمّا ما أراقته السياسة والأغراض بحجّة الدين، فإثمها على السياسة والأغراض، وليس الدين بالسبب الوحيد الذي تتشبّث به السياسة والطريقة المنحصرة لتحصيل الأغراض، بل لولاه لأراقها أصحابها بحجّة الوطنية والعصبية وغيرهما ممّا أثارت أكثر الحروب في قديم الزمان، وتثيرها إلى الآن تلك الأغراض الفاسدة حتّى بين أبناء ملّة واحدة .

ومع ذلك قد حقن الدينُ من الدماء أضعاف ما يراق منها بحجّته، وذلك بإِلغائه تلك الأسباب وتحريمه البغي والعدوان، وتعظيمه حرمة النفوس، وجعله الشرائع الرادعة والأحكام الوازعة، وفي المثال المتقدّم من حالتي العرب قبل الإِسلام وبعده غِنَىً لِلْمُطَّلِعِ المُنْصِفِ . /138/

إنّ الدين لا يعارض حريّة الفكر خاصّة في المجالات العلمية

عاد كلامه: «ولو لم يكن في الديانات سوى تقيّد حرية الفكر لكفى أن تكون علة شقاء الإنسان في دنياه» .(1)

إن أراد أنّ الديانات تقيّد حرية الفكر في أمور يسعد في دنياه بالتفكّر فيها، فإِنّا لا نعلم في صحيح الأديان ما يمنع شيئاً منها، بل نرى بالضدّ الحَثَّ عليها، وهذا الرجل ضيّق الفكر، قاصر نظره في أسباب السعادة على أمور معدودة، وهي على ما يظهر من تتبّع كلماته ثلاثة: العلوم الطبيعية، والصنائِع،ثمّ الاجتماع.

أمّا الاْءَوَّلانِ(2) فلا أعرف ديناً إِلآهِيّاً يَمْنَعُ من معرفة خصائص المادّة ونواميس الجاذِبِيَّةِ العامَّةِ، ويردع عن معرفة أسباب الموجودات وعللها، وعن تشريح الأعضاء وبيان منافعها، وعن معرفة قطر الأرض وعدد طبقاتها، إلى غيرها من العلوم التي يُطريها هذا الرجل .

ص: 302


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.
2- الأصل: الأولين.

بل عهدي بالأديان وهي تأمر بالتفكّر فيها، وتحثّ على معرفتها؛ إذ بزيادة العلم بها تزداد المعرفة بخالق موضوعاتها وواضع نواميسها، وعهدي بمعظم أسرارها ودقائق مسائلها مكتشفة بِسَعْيِ عُلَمائِها، كما مرّ في غير هذا الموضع، ولا تجد للملحدين اكتشافاً فيها إلاّ المونير الذي وجده الثقة هيكل، وما كان من بابه، وأين ذلك من نواميس الجاذبية العامّة التي /139/وجدها اللاهوتي الفاضل نيوتن؟ ودوران الدم الذي اكتشفه هارفي؟ و . و . و .

وكذلك الصنائع التي ملأت عين هذا الرجل: فأيّ دين يمنع من صنع الدَّرّاجَةِ والقطار والبواخر التي تمخر لجج البحار؟ ويحظُر على التلفون والتلغراف؟ ويرى من المحرّم صناعة الفونغراف ؟

وأقصى ما يتصورّه هذا الرجل من سعادة الإنسان وارتقائه إن طار ريط، وتكلّم مركوني وأبدع اديصون فليطر ريط، ومعه الجواز من جميع الأديان حتّى يبلغ أعلى طبقات الهواء، وليتكلّم مركوني بلا واسطة هواء أو ماء، وليبدع اديصون ما شاء، وليستولوا كما يقول على الأرض والهواء والسماء، فما على الأديان منها، فلا الحنيفية بنيت أصولها على امتناع الطيران ولا النصرانية .

الفهم الخاطئ في اعتبار التعارض بين الدين و العلم المقطوع

وأعظم ما ينعاه هذا وأصحابه على الدين اضطهاد بعض أهله لغاليله، لقوله بحركة الأرض.

وذلك أمر لم نشاهده لنعلم هل للسياسة والأغراض الشخصية فيها يدٌ، أم لا؟ وَهَبْ أنّ بعض أهل الدين أخطأ فهمه بعض النصوص الدينية، فماذا على ساير علمائه؟ وما ذنب الدين نفسه؟

ولقد قام أحد أعاظم علمائه قبل أن ينتشر رأي غاليله بمدة طويلة، وقاوم الآراء

ص: 303

القديمة، فقال بحركة النجوم في أفلاكها تحرّك السمك في الماء /140/مستنداً إلى آية دينية هي قوله تعالى: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»(1) .

فهل لهذا الفيلسوف أن يدفع تلك السيئة بهذه الحسنة، وبأمثالها ممّا لا يناسب المقام إحصاءها، وإن شاء أتحفناه بها مؤيّدة بظواهر الكتاب وصريح صحيح السنّة .

فلتكن حرية الأفكار في كشف نواميس الطبيعة، واختراع الصنائع المفيدة آمنة من تقييد الدين لها، فليكتشف من شاء ما شاء، وليخترع ما أراد، ولها عند الدين وأتباعه المؤمنين من الإطراء والحثّ أضعاف ما لها عند الملحدين؛ لأنّ انتفاع المؤمنين بها أعظم، والنعمة عليهم بها أتمّ؛ إذ يشاركون الملحدين في الانتفاع به في أمور دنياهم، ويتفرّدون عنهم بأعظم المنافع في آخرتهم، إذ به ينكشف لهم عظمة الخالق وبديع حكمته وعظيم عنايته بخليقته .

ولقد سبق في مواضعه من هذا الكتاب أَنّ الدين لا ينازع هذه العلوم في شيء، إذ الموضوع الذي يبحث عنه غير موضوعها، فلا ثمرة له في تَقْيِيْدِ(2) الأفكار عنها بعد ما علم المطّلعون أنّ الدين ليس بكتاب هندسة يعلم أنّ كل زاويتين /141/ من المثلّث أكثر من قائمتين، فيخشى برهان أقليدس، ولا بكتاب طبيعي يعلم بامتناع إصعاد الماء فيردّه لولب ارشميدس، وهو لا يبحثّ قطّ عن المخل والقبّان والميزان ليقيّد فكر الميكانيكي فيها، حذراً من أن يخالفه في شيء؛ بل موضوعه أعلى من جميع ذلك وأرفع .

وتلك العلوم على شرفها أحقر من أن يتمكّن من البحث في ذلك، ولا أن تضع فيه شيئاً سوى أن تخدمه بتوضيح أسرار الآثار، فتقدم بسببه العقول في معرفة الفاعل المختار.

نعم : ربما جمع اختلاف الجهات وتعدّد الحيثيات بينهما في موارد قليلة، فقام العلم

ص: 304


1- يس/ 40.
2- الأصل: تقيد.

بوظيفته من خدمته، فزاد الدين قوةً إلى قوّته .

وتعرف قريباً - إِن شاء اللّه - أنّ جعل الدين مخالفاً للعلم، كَرَمِيْهِ بتقييد الأفكار فيه من الحيل القديمة لهؤلاء الملحدين، وسيأتيك نَبَؤُهُ بعد حين .

خدمة الدين إلى الاجتماع

وأمّا الاجتماع: فقد عرفت اعترافه بأَن الأديان بأنفسها شرائِعُ اجتماعية . وهي تُخَوِّل كلّ أحد التفكّر في تدبير أمر المعاش، بل تحثّه عليه وتفسح له مجال النظر فيما هو صلاح نفسه وعشيرته وقومه، بل العالم أجمع؛

اللّهم إِلاّ إذا بلغت حرّية الفكر إلى ما بلغت إِليه أفكار قوم من ملاحدته، من وجوب قتل المرضى والضعفاء، وتجويز /142/البولندرية والزناء، ولا تنس إن أردت التوسّع في المثال ما في كتاب هذا الرجل من مبادئ الاشتراكية والفوضوية، إذ الدين يقيّد الأفكار فيها أعظم تقييد، ويمنع منها أشدّ منع.

وهذا عند عقلاء فنّ الاجتماع من أعظم حسناته وإنْ عدّه هذا وأصحابه من سيئاته .

وهذا وحده كافٍ لأن يعدّ السبب في سعادة الإنسان في دنياه، وإِن زعمه هذا كافياً لشقائه فيها .

وإن أراد بحريّة الفكر فيما تعلم به الأديان من أمر المعاد والحساب والثواب والعقاب - وأَين مثله عن مثلها؟ - فتلك أمور دينية طريقها الدين، ولا مدخل للفكر فيها إلاّ تبعاً له، ولا تتعلّق بالدنيا أَصلاً حتّى يكون تقييد الفكر فيها باعثاً لشقاء الإنسان في دنياه .

ص: 305

خدمة الدين إلى الناس نفسانيا

(المهتدي - 3) : وقد قال بعد ذلك: «فلو تأمّلنا حالة الإنسان السابح في بحر الأوهام لتصوّرنا رجلاً مرتعداً واجف القلب، متعوّذاً بالرُّقى، هائماً آناء الليل وأطراف النهار، لائذاً بذلك البناء الذي شاده ...(1) منقّباً في الأرض، متخوّفاً من كلّ شيء غير منقّب في الأمر، متردّداً في كلّ شيء؛ ولسان حاله، سواء أقام بمكان أو سار على طريق، لا /143/ ينفكّ ينشد :

«أعيذ نفسي وأعيذ صحبي(2)»، إلى آخره .

إذ يرى نفسه محاطاً بالأرواح، تراه من حيث لا يراها، وتفعل فيه من حيث لا ينالها، بيدها رزقه وحياته وسعادته وشقاؤه، فكيف يستطيع أن يكون على ثقة من أمره، وشغله الشاغل أن يتقرّب إليها واجفاً حائراً لا يعرف كيف يرضيها، إذ لا يعرف ما يغضبها».(3)(4)

المُؤْمِنُ: - لا أدري مَنْ هذا الإنسانُ التّعيسُ الذي وصف حالته بما سمعت، أمّا المتديّن فحاشاه من الاعتقاد بأرواح تحيط به، وبيدها رزقه وحياته وسعادته وشقائه، وما ذلك الاعتقاد عنده إلاّ الشرك الصراح والكفر البواح، وإنّما يعتقد بإلآه واحد، في يده جميع ما ذكر، وهو ببركة الأنبياء عليهم السلام يعرف كيف يرضيه؛ إذ يعرف ببركتهم ما يغضبه فيتجنبّه.

فيقدّم على كلّ أمر فيه صلاحه رابط الجأش، ثابت القلب، متكلاً على خالقه، وهو على ثقة من لطفه وعنايته، غير مكترث لتوكّله عليه تعالى بما يخشى منه

ص: 306


1- محل كلمة كرهت نقلها . (منه)
2- هذا المصرع، المصرع الأوّل من البيت الذي قاله سعد بن عبادة حينما نزل بواد مخيف موحش، و مصرعه الأخير: «من كل جني بهذا النقب». راجع: حياة الحيوان الكبرى ج 1/296.
3- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.
4- الأصل: يغبضها.

الملحد؛ إذ لابدّ للملحد من الخوف من نكبات الطبيعة العمياء التي لا تعرف الشفقة والرحمة والخشية، من جائر /144/ حكم الاتفاق والصدفة. وأمّا المؤمن فأقلً ما يعلمه إيمانه أَن جميع ما في الكون مُنْقادٌ لاِءَمْرِهِ وهو المتصرّفُ فيه بمشيئته، وهو أرأف به وأشفق عليه من أبيه وأمه، يكفيه المهمّات ويدفع عنه الآفات، فهو بإيمانه على ثقة في أمره، يسعى وهو على يقين بالنجاح على كلا التَّقْدِيْرَيْنِ، مترقّب إحدى الحُسْنَيَيْنِ،(1) إمّا النُّجْح في مَسعاه، وإمّا الظفر بما هو أكثر نفعاً وأقل ضرراً في آخرته أو دنياه.

ولا يسوؤه حبط عمله ولا خيبة بعض أمله، لعلمه بأنّ ذلك من تقدير حكيم عارف بالعواقب، لم يمنعه من مطلوبهِ إلاّ لمفسدة فيه، أو لأنّه ادخّر له ما هو أنفع منه، وهو كالطفل الذي يمنعه أبوه عن شيء يشتهيه، وهو يعلم أنّه لا يفعل ذلك إلاّ لمصلحة عائدة إِليه .

وإن كان الرجل لا يعرف ما وصفناه من أمر أهل الدين، فما عليه أن يسأل من شاء من أهل أيّ دين أراد، ليخبره عن معتقده بأضعاف ما وصفناه .

وما أجدر أن تكون هذه الأوصاف لكفّاره وهراطقته؛(2) فماذا يكون حالة أحدهم إذا وقف في مقابلة قُوى الطبيعة القاسية، إذا نظر إلى الأرض أخافته براكينها وزلازلها، أو إِلى /145/ السماء أرهبته صواعقها، ولا يعتقد بقاهر لها قادر عليها يستدفعه شرّها؟

ولا شكّ أنه يقف كما قال مرتعداً واجف القلب، ولكنّه لا يرى معاذاً حتّى التعاويذ والرقى، ولا ملاذاً حتّى البناء الذي وصفه.

فأعجب وبلغ فيه أقصى دركات سوء الأدب، ولا يجد ما يعلّل به نفسه حتّى أبيات من الشعر، إذ يرى نفسه محاطاً بنكبات الطبيعة ترميه من حيث تراها ومن

ص: 307


1- الأصل: الحسنين.
2- الهراطقة: من الهرطقة أى البدعة في الدين.

حيث لا يراها، وتفعل فيه من حيث لا ينالها، يرى رزقه وحياته وسعادته وشقاءه بيد عمياء صمّاء، لا رضا لها فيأتي بما يرضيها، ولا غضب فيتجنّب ما تبغضه .

ثمّ إنّ لهذا الرجل في مقالة «حوادث وأفكار» كَلاماً مُسْهَباً(1) يدخل في هذا الباب ولعجبه به وظنّه أنه تمرة الغراب اقتطع بعضاً منها، وجعله في هذه المقدّمة قبيل العبارة التي ننقلها الآن وننقضها، وجميعه على طوله المملّ تهكّم واستهزاءِ بأُناسٍ يعتقدون كواكب السماء آلهة قاهرة وأرواحاً ساحرة، ويستدعون أرواح الأشجار وقوات الجبال، ولا يقطعون سنبلة قمح، ولا يتناولون قبضّه الرُّزِّ إلاّ بعد الاستغفار والتكفير؛ إلى غير ذلك مما ملأ به مقالته من خرافات الوثنيين والمشركين التي لم تنزل الشرّائِعُ الإلهية إلاّ لنقضها /146/ ودحضها، وقد بدّد الدين وأتباعه شمل تلك الأوهام بالحكم والبراهين العلمية، لا بما يفعله هذا بالتهكّمات العاميّة .

ولو شاء هؤلاء لوجدوا في إلحاده من مواضع التهكّم والاستهزاء أضعاف ما يجده هذا في شركهم، ونحن لا ندخل معهم في هذا النزاع؛ إذ القوم إخوان وفي مغلوبية كلّ منهما غلبة الأديان.

بل نقول: «كسيرٌ وعويرٌ و كلّ غير حين»(2).

ولكن لا يشكّ المنصف البصير في أنّ المشرك - وإن كان شريك الملحد في شقائه في آخرته - ولكنه أسعد منه كثيراً في دنياه؛ فشتّان بين من يرى شقاءه وسعادته بيدٍ مَبادِئَ شاعرة ترضى وتسخط وتحبّ وتبغض، وبين من يرى زمامه في يد قُوى صامتة تفعل بالاضطرار، لا إرادة لها ولا اختيار .

ص: 308


1- الأصل: كلام مسهب.
2- هذا من أمثال العرب يضرب للأمرين المكروهين، راجع: مجمع الأمثال: ج 2/93، الأمثال/170، و جاء في محاضرات الأدباء ج 2/30: «ممّا يلى عبّادان مكان يعرف بالدر دور، و هو بين جبلين، أحدهما يسمّى كسير، و الآخر: عوير؛ و يضاف إليهما جبل آخر بالقرب منهما يقال فيه: و آخر ما فيه خيرَ، لشدّة ما يرى بها من الأهوال».

ويتضح لك ذلك إذا تصوّرت ملحدا أو مشركا واقعاً في سفح بركان هائج، ولم يمكنهما الهرب وانسدّت عليهما طرق الحيلة .

فلا شكّ أنّ الملحد ينقطع منه الأمل ويموت قبل أن تصيبه قواذف البركان بالخوف والوجل، بخلاف المشرك؛ فإن أمل النجاة لا يفارقه إلى آخر نفس من الحياة ولا يزال - /147/ والملحد في حشرجة(1) الموت - يخاطب الآلهة ويرضيهم بما يزعم رضاءهم فيه، وهو واثق بما اعتاده من شفقتهم عليه، فإن اتفق له النجاة خرج سالما وهو طليق اعتقاده، وترك الملحد ضحيّة إلحاده، وإلاّ فقد لفظ مهجته ولاقى مَنِيَّتَهُ في حال الأمن والأمل.

وَماحُمَّ نازل - والموت حتم في رقاب العباد - ولا يفارقه أمل هذه الحياة إلاّ ويستقبله أَمَلٌ بِحَياةٍ أُخْرى، لا تُقاسُ بِهذِهِ حياة دائمة مستجمعة لصنوف المَلاّذِّ، خالية من جميع الكدورات إن كان ممّن يقول بالمعاد، ولا يشارك في إنكاره أهل الإلحاد .

وأنت أعزّك اللّه إذا تدبّرت أشباه هذا المثال، وتأمّلت في أنّه لابدّ للإنسان في حياته من مُقاساة الأهوال، وأنّه مهما كان سعيداً في دنياه، فإنّه لابُدَّ له مِنْ أَنْ تتوارد عليه صنوف الهموم وتتراكم على قلبه غيوم الغموم، ويكابد ما لا قِبَلَ له بها من الشدايد، وترميه قوس الدهر بصوائب المصائب، ولا يجد في الأسباب ما يتشبّث به، ولا يرى رُكنا يأوي إليه ؛ فلابدّ إذا لمن لا يعرف في الكون سوى طبيعة عمياء وقوى صامتة أن يبيت خافق الفؤاد قلق الوساد، إن أَصابته النائبة لم يجد عنها عزاء، ولم يُلْفِ عمّا فقده عوضاً؛ /148/ وان أخطأته فقد قاسى من الهمّ والخوف ما لا يقصر عنها، بل يربو عليها.

وأين هذا ممّن يبيت معتقداً بأنّ لَهْ خالِقاً قادراً هو أشفق عليه من نفسه، ويثق

ص: 309


1- الحشرجة: الغرغرة عند الموت و تردّد نفسه.

بأنّه يكفيه شرّغده، كما كفاه شرأمسه. ولابدّ أن يبيت ثلج الفؤاد قرير العين، وهو يرى قول خالقه تعالى: «إنَّ مَع العُسْرِ يُسْراً» ويسمع قول نبيه صلى الله عليه و آله وسلم : «لا يغلب عُسْرٌ يُسْرين» .(1)

فتراه عند ملاقاة كتائب الأهوال، ثابت القلب، يدفع في صدر كلّ خطب هائل مترنّما بقول القائل كامل :

ولربّ نازلة يضيقُ بها الفتى *** ذرعا وعند اللّه منها المخرج(2)

وبقول الآخر بسيط :

دع المقادير تجرى في أعنّتها *** ولا تبيتنّ إلاّ خاليَ البالِ(3)

ما بين نومة(4) عينٍ وانتباهتها *** يغيّر اللّه من حالٍ إلى حالِ

وبقول الآخر - طويل :

وصيّرني يأسي من الناس واثقا *** بحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري(5)

وإن وقع عليه ما كان يحذره فإنّ له بما وعد به على حُسن الصبر، وبما يطمئنّ به من الأجر أحسن عزاء وسلوة، هذا على اعتقاده بأنّ فيما أصابه مصالح له، وإن كان يجهلها، وفيما /149/ حرم من النفع مفاسد، وإن كان لا يعرفها، ويرى نفسه كالطفل الذي يسلّمه أبوه إلى مشرط الحجّام، ويسقيه زعاف الدواء، ويمنعه الشهي

ص: 310


1- متشابه القرآن ج 2/143، المستدرك للنيسابوري ج 2/301، الجامع الصغير ج 2/424، كنز العمال ج 2/14، زاد المسير ج 8/272، تفسير القرطبي ج 4/323 و ج 20/107.و في جلّ المصادر: «لن يغلب».
2- الشاعر: ابراهيم بن العباس الصُّوْلِيُّ كما ورد في التذكرة الحمدونية ج 8/44.
3- لم نعثر على شاعره، و لكن أنشد ابن شيخان السالمي (1346 ق) في مخمّس؛ تصبغى مراعا من أسنّتها / دع المقادير تجرى...
4- الأصل: نومه.
5- لم نعثر على شاعره، و لكن أنشد عبداللطيف الصيرفى (1322 ق): «يقينى إذا أمسيت بالشكر ناطقا / و صيّرنى يأسى من الناس واثقا» و مطلعه: «علام ألوم الدهر فِيْما دهمته...».

من الغذاء.

وزد عليه أنّه لو كان مرتقيا في مدارج الإيمان تهون عليه المصائب؛ لأنّ فيها رضا مولاه، ويقول: «هَوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنّه بعين اللّه» .

ولو أردنا إِيرادَ الحكايات الشاهدة على ما ادّعيناه، وسرد القضايا المتواترة لامتدّ الكلام، ولم يقف عند غاية.

ولو كان أحد هؤلاء في ريب ممّا ذكرناه فليسأل من شاء من أهل أيّ دين - أراد - عن سوانح عمره، وعن حاله عند تقلّبات دهره، فإنّه يخبره بقضايا معجبة، ويظهر عنده حينئذٍ بأنّا لم نشوّه وجه الحقيقة الراهنة بالغلو والمبالغة.

ثمّ ليقابل بين ما يشاهد منهم، وبين ما يشاهده من ملاحدته، ليعلم صدق ما كنت أَعتقده قديماً، ولا أزال اَزداد اعتقاداً به على طول التجارب والاختبار من أنّ أَنكد أهل الإيمان حظّاً أسعد في دنياه من الملحد، وإن كان في مقدمة من سالَمَتْهُ الأيّامُ، وكان ممّن ينزل الشارع الخامس ويعدّ من الأربعمائة(1) والتسلّي بالايمان /150/ مما يعرفه من أصحابه أناس لم تذهب قواهم العقلية بالكلية، بل أَبقى الإلحاد منها بقية .

الرجوع إلى الدين في الأمم المتمدّنة

قال جوستاف لبون: من شهد في آخر القرن الماضي هدم الكنائس وطرد القسوس وإعدامهم والاضطهاد العامّ الذي كان واقعاً على أهل الكثلكة، كان يظنّ أنّ السلطة الدينية قد بادت ولم يبق لها أثر، لكن لم يمض بضع سنوات حتّى قام الناس يشيّدون معابدهم، فاضطرّت الدولة إلى إعادة الدين الذي

ص: 311


1- لقب يعرف به أغنياء أميركا، لأَنّ عددهم أربعمائة أو ما يقرب منه، وهم ينزلون الشارع الخامس من شوارع نيويورك . (منه)

طمست بالأمس .

وقد اتّضح ذلك حتّى عند ملاحدة الثائرين واعترفوا بِخَطَئِهِمْ كما قال فوركروا أحد رجال الثورة: «إنّ ما هو مشاهد في كلّ مكان من إقامة الصلاة يوم الأحد، والتردّد على الكنائس يدلّ على أنّ مجموع الفرانساويين يطلب الرجوع إِلى عاداته الأولى، ولم يعد في الإمكان مقاومة هذا الميل في الأمة؛ لأن السواد الأعظم في حاجة إلى الدين وإلى العبادة وإلى القسوس. ومن خطأ بعض فلاسفة العصر الحاضر - وهو خطأ قد وقعت أنا فيه أيضاً - القول بإمكان إِيجاد تعليم عامّ يكفي لإزالة الدين (غيّرنا لفظه لقبحه)؛ /151/

ووجه الخطأ أنّ في الدين سلوانا للقسم الأكبر من المساكين، ومن أجل ذلك يجب أن تترك للأمة قسوسها ومعابدها وعباداتها .

ويحضرني غيره من كلمات ومقالات لا أرى أن أطيل المقام بنقلها، بعد أنّ هذا الرجل بنفسه يعترف به في مقالة ما أطوعه وما أطمعه التي نشرتها مجلة سركيس وهذا لفظه: «ثمّ قفلت راجعاً إلى بيتي، فرأيت البوّاب جاثيا يصلّي، ويداه إلى وجهه وكفاه مبسوطتان، وهو يحذق إليها ويتمتم كأنّه يقرأ عليهما وِرْدا، وأثر الاجتهاد بادٍ عليه، فقلتُ قسمة ضَيْزى،(1) ثمّ نظرت إلى ما به من الاعتقاد الراسخ».

فقلت: ولكنّها تعزيه كبرى، ما كان عليك أيّها الفيلسوف لو قلّدتَ بوّاب دارك في الاعتقاد، فيكون تعزيةً لك فيما ابتليت به من الروماتزم إلحاد، فتهون به ألمه المبرح بالطمع في الأجر والشفاء، بدلاً من أن تصعد لتُهذي وتصارع في السماء .

إنّ التعاليم الدينية غير خشنة و موافقة للهيئات الاجتماعية

(المهتدي - 4) : وقال بعد ذلك ما لفظه: «وقد كانت التعاليم الدينية بادئ بدء

ص: 312


1- الضيزي: غير العادلة.

خشنة وغير موافقه للهيئة الاجتماعية، ثمّ رأى الإنسان أنّه محتاج في قوام أَمره إلى مساعدة أمثاله له، فوفّق هذه التعاليم لأحوال معاشه بحسب الزمان والمكان» .(1) /152/

المؤمن: لا أدري من أين عرف التعاليم الدينية التي كانت بادِئ بدء، وفي أيّ كتاب اطّلع عليها فعرف خشونتها؟ وهل هذا الأمر صوّرته مخيّلته وأوحت إِليه وسوسته؟ فأوردها كما يورد أهل العلم الأصول الموضوعة والمبادئ المسلمة.

ثمّ على أيّ المذهبين في خلق الإنسان بنى حكمه هذا، هل على الإبداع؟ فأوّل الشرائِعِ شريعة آدم عليه وعلى المُصْطَفَيْن من ولده السلام، ونحن معاشر ولده، لا نعرف شيئاً من شريعته إلاّ ما يقودنا إِليه البرهان، كحرمة الظلم والبغي والعدوان، أو يلتقطه أحياناً من الأخبار الواردة في كتب الأديان، ولا نعرف حالة الهيئة الاجتماعية في زمانه لنعرف أنّها كانت موافقة لها أو مخالفة؟

أم على مذهب التسلسل، ويعني زمان ابن جاوى ومقاربة؟ وأجدر بالقرود المنتصبة أن تكون شرائعها خشنة.

ولكن هل كانت لها شرائِعُ دينية؟ وإن كانت، فالخشونة أنسب بالهيئة الاجتماعية القائمة بتلك الحيوانات المنتصبة .

وإن كان الرجل لا يتوغل(2) في القدم إلى ذلك العهد، بل يُحيلنا إلى القديمة من هذه الشرئع الدينية المعلوم بعض أحكامها.

فأوّل شريعة تعرف شطراً صالحاً من تعاليمها هي /153/الموسوية، ولا أدري أيّ خشونة رَأى فيها بالنسبة إلى زمانها وعابها بها؟ فَيالَها من شريعة اعتقت الأمّة الاسرائيلية من أسر القبطيين في مصر، ووطّد(3) لها الملك في الشام، ولم تزل متكفّلة

ص: 313


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.
2- الأصل: لا بتوغل.
3- وطّد: أثبت.

بمصالحها دافعة عن كيانها مادامت منقادة لها مطيعة لأنبيائها .

وأيضاً الديانة المسيحية تُطابقها في كثير من الأحكام، بل يقال: إنّها قسم منها ولم يأت الإنجيل لأن ينسخ التوراة، بل ليكملها،(1)

والنصرانية هي الشريعة التي يعترف هذا بحسنها في عدّة مواضع كمقالة «القرآن والعمران» وغيرها .

إنّ وقوع النسخ في الشرايع لا يدلّ إلى خشونة الحكم الأوّل

ثمّ ما معنى قوله: «ثمّ رَأى الإنسان»، إلى آخره، فهل يريد به النسخ المعروف بين المسلمين؟ أعني انتهاء وقت الحكم الأوّل وقيام غيره مقامه، وبعبارة أوضح: تغيّر(2) الحكم بتغيّر الزمان واختلافه باختلاف المصالح ؟

فهذا ممّا لا ينبغي أن يعيبه الرجل إن كان ذَكَرَهُ زاريا(3) به على الأديان، بل ينبغي له أن يصفّق له براحتيه؛ لأنّه لا يزال يعيب الأديان الإلهية بالجمود وعدم تغيّرها بتغيير الأزمان، ويجعل الاختلاف من أحسن مزايا شريعته البشرية، ويجعل ذلك الفرق الوحيد بين تعاليم الدين وبين تعاليم الفلاسفة، هؤلاء الذين لا نعرفهم ولا نحبّ أن يعرّفنا اللّه /154/ بهم .

ثمّ إنّه ليس في نسخ الحكم دليلٌ على خشونة الحكم الأوّل - إن كان ذكره دليلاً على ما ادّعاه من خشونة التعاليم الدينية القديمة - لتغيّر الهيئة الاجتماعية ومناسباتها، فرُبّ حكم تراه اليوم خشناً وقد كان أنعم وأقرب(4) ما يكون إلى الهيئة الاجتماعية السابقة .

وهذا أوضح من أن يسهب في ذكر شواهده ويطال في بيانه، لا سيّما لهذا الرجل

ص: 314


1- الأصل: ليكلمها.
2- هكذا في النسخ و ما بعده.
3- الزاري: المتهاون.
4- الأصل: أنسب.

الذي جعل لزوم تغيّر الأحكام بتغيّر المقتضيات أساس طعنه على الأديان .

انّ أحكام الأنبياء ليست بخشنة

وإن إراد بكلامه أنّ أحكام الأنبياء كانت خشنةً في أنفسها، ولكن أَتباع الأنبياء غيّروها إلى ما يوافق الاجتماع، فنحن ندع الآن مطالبة هذا البارع في معرفة أحكام الشرائِعِ بتلك الأحكام المغيّرة، ونقول: إنّه طالما رمى أتباع الأديان ولا سيّما المسلمين منهم بالجمود وعابهم به، وزعم أنّ الشارع الحكيم وضع لهم مخرجا من ذلك الجمود بآيات النسخ... إلى آخره الحقيقة ص 353 .(1)

فالحمد للّه على أمرين: براءَة علماء الأديان من الجمود الذي نعاه عليهم أوّلاً، واعترافه بأنّ الشرائِعَ بعد تلك التغيّرات موافقة للهيئة الاجتماعية . /155/

(المهتدي - 5) : وقد قال بعد ذلك: «والديانات البالغة في التهذيب وضعت تعاليمها على قواعِدَ أَدَبِيَّةٍ، وأبلغ قاعدة في الدين أن يعمل الإنسان مع غيره ما يحبّ أن يعمله غيره معه؛ وهذه القاعدة منسوبة إلى كنفوشيوس قبل المسيح بنحو ثلاثمأة سنة، لا تختصّ بكنفوشيوس وحده بل هي أقدم منه جداً»، إلى آخره.(2)

المؤمن: -

ولو أنّي بُليتُ بهاشميّ *** خُؤُوْلَتُهُ بنو عبد المَدان

لهان عَلَىَّ ما ألقى ولكن *** تعالوا وانظروا(3) بمن ابتلاني(4)

لو بليتُ بمن يعرف قواعد المناظرة، ويجري عند إيراد الحجج على محجّة العلم

ص: 315


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 52.
2- نفس المصدر.
3- المصدر: تعالى فانظري.
4- الشعر لابن أبى حصينة، و مطلعه: ذرى عذلي نشأنك غيرُ شأني / و لا تتملّكي طرفي عناني. و نَسَبها المبرّد فى الكامل إلى دعبل الخزاعيّ. (عبدالستار الحسني)

الواضحة، ولكن من عذيري؟ ممّن صحبته العلّة في حداثته فمنعته عن التخرّج فيما عدى الطبّ كما يقول ويزعم، وأين الطبّ من موازين الاحتجاج؟ فصار غاية شأوه في العلم أن يورد جملاً لا يعرف السبب في إيرادها، فيدع مناظره متحيّرا في قبولها أو رفضها.

بعيشك، ألا أخبرتني عمّا دعاه إلى ادّعاه وضع الديانات تعاليمها على قواعد أدبية!؟

أ تراه يريد أن يعيبها بذلك!؟ فأيّ عيب يا تراه في ذلك؟ أو مدحها، وما هو إِلاّ ناصب لها وملحٌّ في ذمها!؟

ثمّ إنّ ممّا /156/ يعزّ معه الصبر ويخرج له عنان اليراع(1) مَن كَفِّ الحلم، قوله: «وأبلغ قاعدة» إلى آخره. كأنّ الرجل سبر(2) الشرائِعَ واحدة بعد واحدة، وَاسْتَقْرى قواعدها قاعدة فقاعدة، فعرف أنّ هذه أبلغ قواعدها جميعا !

وأيضاً: لم يسمح بغضّه للأديان وعداوته لها بأن يدع هذه القاعدة الجزئية مختصّة بها، فقدّمها على المسيح عليه السلام بثلاثمأة سنة، ثمّ رقاها عن ذلك إلى أن كاد أن يلصقها بزمان ابن جاوى.

وما دَرى - لا درى - أنّ في الأديان قواعِدَ وَأَحْكاما(3) تتحيّر في حُسْنِها عقول الفلاسفة العظام، وما هذه القاعدة إلاّ شذرة من عقد، ودرّة مِنْ سِمْطٍ، ومهما قهقر بها في طبقات الزمان لا يمكنه أن يقدّمها على أَوّل الأديان .

الفرق بين الفلسفة و الدين اتّجاه العقل

(المهتدي - 6) : وقد قال بعد ذلك: «وهي من هذه الجهة متّفقة مع تعاليم

ص: 316


1- اليراع: من لا رأى له و لا عقل.
2- السبر: العداوة.
3- الأصل: أحكام.

الفلاسفة؛ إذ تعلم وجوب عمل الخير واجتناب الشرّ، والفرق بينهما:

أنّ تعاليم الفلاسفة تطلق للعقل حرية الفكر، لكي يتصرّف في الأشياء بحسب الزمان والمكان، فلا تعلّمهم بخير مطلق أَو شرّ مطلق ؛ لأنّ(1) المصطلّح عليه أنّه خير أو شرّ عند قوم ليس كذلك عند قوم آخرين. /157/

وبالضد من ذلك الديانات؛ فإنّها تقيّد العقل؛ إذ تعلم بخير مطلق وشرّ مطلق.

ومن الغريب أنّ هذا الإطلاق لا يوافق(2) إلاّ إيّاها،(3) فيضطهد الإنسان بعضه بعضاً، ويقتل بعضه بعضا، ويرتكب أفضح(4) القبائح وأقبح الْفَظائِعِ(5)، وهو على يقين من أنّه يفعل الخير، لأنّ شريعته تُريه أنّ الإيقاع بمن ليس من شاكلته ضروريّ وخير مطلق الموجود عموما» .(6)

المؤمن: - ما أكثر ما يذمّ الأديان بتقييدها الفكر لتعليمها بالخير والشرّ المطلقين، وما دهاه إلاّ جهله بحقائق الدين، وشغفه بلفظ الإطلاق وبغضه للفظ التقييد، ولو تعلم واضحات الدين أوّلاً ثمّ عطف النظر إلى حقيقة هذين اللفظين، لعلم أنّ الشرائِعَ الإلهية وضعت على أتمّ ما يمكن من الصلاح، وعلى أوضح ما يحكم به صريح العقل، ولدرى أنّ في مدح مطلق الإطلاق تقييداً للفكر، وفي ذمّ مطلق التقييد جمودا عن التصرّف؛ إذ من الأمور ما هو خير مطلق في نفسه لا يختلف باختلاف الزمان والمكان، كالعدل والإحسان، ومنه ما هو شرّ كذلك، كالظلم والعدوان، ومنها ما تختلف بأختلافهما وبغيرهما من ظروف الأحوال.

والشرائع الإلهية وضعت تعاليمها المقدسة على الحقائق غير مكترثة /158/ بسخط هذا الدكتور، ولا جامدة معه على لفظ الإطلاق والتقييد، فأطلقت الحكم

ص: 317


1- الأصل: مطلق و من.
2- الأصل: لا يوافقي.
3- المصدر: إلاها.
4- المصدر: افظع.
5- الفظائِعُ: الفضائح.
6- فلسفة النشوء والارتقاء/ 53.

بحرمة الزناء والسرقة ونحوهما ممّا لا يختصّ قبحه وفساده بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان، فالسرقة مذمومة في هذا الزمان كما كانت قبله، ويكون بعده بملايين السنين والزِّنا - وإن سمّى بالحبّ الحرّ - قبيحٌ من عرض الصفر إلى عرض التسعين .

إنّ الشارع يلاحظ الأعصار و الأزمنة فى الحكم

وجعلت أحكامها فيما يختلف الأعصار والأمصار على عناوين تلازم الصلاح على اختلاف الأحوال، وتتقلّب مع مقتضيات الأمكنة والأزمنة، تدور معها كيفما دارت، وتختلف معها كيف اختلفت، فتراها تَنْتهى عن تناول السموم، بل وجميع ما يَضُرَّ بِالأَبْدّانِ وتختلف في ذلك البلدان، فربّ نبات يكون في بلد سمّا ناقعا، فينهى عنه، وفي غيره ترياقا نافعاً فيأمر به . وينهى عن التصرّف في مال اليتيم إِلاّ مع الصلاح، فربّ تصرف فيه يأمر به الشرع في بلد ويمنع عنه في غيره، ويجوّزه في زمان ويحظرُهُ في آخر . ومن هذا القبيل أكثر عناوين المعاملات والسياسات التي يتوقّف عليها المعاش وَيَنْتَظِمُ(1) بها عِقْدُ الاِجْتِماعِ .

إنّ الشارع يلاحظ العادات و الطبقات و غيرهما في الحكم

ولا يقتصر الشارع الحكيم في أحكامه على ملاحظة اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ بل ربّما لاحظ فيها /159/ العادات والطبقات، ويلاحظ مع ذلك فيه الطوارئ والمزاحمات، فيبيح كثيراً من محظوراته في الضرورات، ويرفع الحكم المستلزم للضرر والعسر والحرج، ويوجب الأمر المحرّم إذا زاحمه الأهمّ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه الشريعة المقدّسة من الدقائق اللطيفة والنكات الشريفة التي تدهش

ص: 318


1- الأصل: ينظم.

العقول وتحيّر الأفكار؛ وتلجئ المنصف اللبيب إلى الاعتراف بأنها فوق طاقة الإنسان، بل لو لم تكن لصاحبها حجّة سوى إتقان أحكام شريعته لكان فيه الكفاية لإثبات نبوّته

وجميع ما ذكرنا واضح لدى من عرف ضروريّات الفقه وواضحات الأحكام، وإنّي لا ألوم هذا الرجل على جهله بها لأنّها مسائل ليس هو من أهلها .

لا يعرف الشوقَ إلاّ من يكابده *** ولا الصبابةَ إلاّ من يُعانيها(1)

وإنّما ألومه على تَسرّعه في الطعن ورميه الدين بالجمود ومعرفته به ما عرفت، وليته ذكر لنا بدلاً من هذا الصخب واللغط مثالاً واحداً لما خالف جمود حكم الدين فيه مصلحة الاجتماع، لنعرفه المخرج،(2) عنه، ويعرف لا يَنأ(3) الفلج فيه.

وأمّا قوله لأنّ شريعته تريه أنّ الإيقاع بمن ليس من /160/ مشاكلته ضروري وخير مطلق للوجود عموما؛ فإنّه هو ذلك الافتراء الذي سبق الكلام في بَراءَةِ الدين عنه، وسمعت اعترافه بها، وسيأتيك قريبا بقية الكلام فيها .

إنّ الرؤساء يستعملون الديانات لأغراض السوء

(المهتدي - 7) : وقد قال بعد ذلك: «فضلاً عن أنّ الديانات لإلقاء مقاليدها في أيدي الرؤساء، تصبح آلة لتنفيذ أغراضهم، فتكثر الشرور والفتن في العالم. وأيّ شاهد أعظم من حشد الجنود وإثارة الحروب وسفك الدماء والحريق بالنار والتعذيب بأنواع العذاب التي يزلزل لك التأريخ(4) صفوفها، ويسمعك ضوضاءها، ويرسم لك مناقعها، ويريك لهيبها، ويملأ الآذان بصراخها وأنينها، وغير ذلك من

ص: 319


1- الشعر لأبى الشمقمق (200 ق)، جاء البيت أيضا في المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر ج 1/157 من دون ذكر الشاعر.
2- الأصل: المخرخ.
3- لا ينأ: لا يبعد.
4- المصدر: التأريخ لك.

الاضطهادات التي تفتّت قلب الحجر الصلد،(1) فضلاً عن قلب الإنسان. والنصرانية التي تفتخر بتعاليمها الأدبية لا تقدر إلاّ أن تَحْمَرّ خجلاً مما آثارته من الفتن في القرون الوسطى وفي غيرها، وارتكبته من القتل اعتداءً وظلماً، وجنته من التعذيب والحريق بالنار قصاصا لأناس أبرياء، لا ذنب لهم إلاّ أنهم جاؤوا قبل وقتهم، أو بهم مرض.

وها هي جان دارك واقفة في عرصات باريس شاهدة على شناعة تلك العصور البربرية وقساوة تلك /161/القلوب الوحشبة» .(2)

المؤمن: إنّي أجد مجالاً واسعاً في ما ادّعاه من إلقاء مقاليد الديانات في أيدي الرؤساء، ولكنّني أدع شرحه لأسباب لا أظنّك تجهلها، واقتصر على قولي إِنَّهُ إن صحّ ما قال، فليست الديانات أوّل حقّ استعملته الأغراض الباطلة وقضت أوطارها به؛ وإن كان مجرد ذلك كافياً عنده للذمّ، فهذه فلسفة النشوء معشوقته، قد أخذها شو وأصحابه حجّة على إراقة الدماء كما عرفناك سابقاً .

وهذه العلوم الطبيعية التي مازال(3) يطريها ويحثّ عليها، قد أصبحت آلَةً لأغراض الرؤساء والجبابرة، أ ليست الاكتشافات الكيمياوية(4) والميكانيكية ومعرفة غرائب نواميس الطبيعة هي التي علمت الناس صنع المدافع الرشّاشة والألغام والتوربيدات والديناميتات!؟ فأخذتها مطامع الدول الأروبية آلة لأغراضها ووسيلة إلى إتلاف الأموال وإزهاق الأنفس، يخرّبون بها البلدان ويشبكون بها أبدان نوع الإنسان، وأنّ أَسطولاً تَصْرِف عليه مليوناً من الجنيهات يتلفه توربيد واحد في لحظة، وتتلف الأسلحة الجديدة في حرب ساعة ما لم تكن تتلف في حرب سنة . /162/

ص: 320


1- الصلد: الصلب الأملس.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 53.
3- الأصل: لازال.
4- الأصل: الكيماوية.

هذا عدا ما يستعمله المفسدون من رعاع الناس منها، ويستخدمون تلك العلوم لقبائح أغراضهم .

قرأت في إِحدى المجلات الراقية وأظنّها الهلال المصرية(1) ما حاصله: أنّ أحد المشتغلين بالكيمياء ألقى مرارا أوراق التهديد في غرفة سيدة من المتموّلات، وفيها: أنّه فد أعدّ غازات سامّة ليلقيها في غرفتها ويقتلها بها إن لم تدفع له مبلغا خطيرا قد عيّنه، فلم تجد السيدة بدّا من إِراءَةِ الأوراق للبوليس، فألقي القبض عليه، ووجد عنده قنينة فيها تلك الغازات.

فهل يذمّ تلك العلوم، لأنّها أصبحت آلة لتنفيذ الأغراض الفاسدة بعد ما ملأ كتابه بمدحها، ويهدم ما شاد لها من علالي المدح، وهي بزعمه المِعْوَلُ الوحيد الذي يزعزع أركان تلك العلوم - الفلسفة النظرية والفقه بزعمه - ص 10 ح ل!؟

وهل يعقها وهي أمّ العلوم الحقيقة ويقتضي أن تكون أمّ العلوم البشر ص 8 ج ل!؟

ثمّ لا أدري متى حدثت لهذا الرجل هذه الشفقة التامّة على الإنسان، وهذا الورع والمقت للحروب كافة! أ ليس الشاغب على روسيا، 13قيصر روسيا في مشروع نزع السلاح؟ والقائل في أقسى مقالة تحت أبرد عنوان «كشكول طبيب» ما لفظه: «لأنّ مثل هذا القول ينقض ناموساً طبيعياً، لا يستطاع نقضه. /163/ ولو شرع فيه قيصر يحكم على الملايِيْن من البشر لأنّه ناموس يحكم على ما هو أعظم وأوسع من حكمه، يحكم على الطبيبة من جماد نبات وحيوان إلاّ وهو ناموس تنازع البقاء، ويخطى، من يظنّ أنّ إعداد السلاح والتأهب للنزال والكفاح مضرّ بالهيئة الاجتماعية موقف لنجاحها؛ بل هو بالضدّ من ذلك موجب لإرتقائها؛ فناموس تنازع البقاء في الطبيعة هو قاعدة ناموس النشوءِ والارتقاء؛ وكلّما قلّ التنازع وقفت حركة الارتقاء، بل دار دولابها

ص: 321


1- الأصل: المصري.

إلى التقهقر»، إلى آخره.(1)

نشدتك والإنصاف، كيف يذمّ الديانات لإثاراتها الحروب من يعتقد أنّ معشوقه الوحيد أعنى ارتقاء الإنسان ثمرة الحروب!؟ وأنّ في قلّتها وقوف حركة الارتقاء، بل دوران دولابها إِلى التقهقر.

أ ليس اللائق بمثله أن يمدحها بذلك أبلغ مدح ويثنى عليها أحسن الثناء!؟

فقد جرت كما يحبّ على ناموس الطبيعة وأحمت وطيس(2) التنازع لحصول ترقّيات الإنسان السريعة. والأولى به أن يعيبها بالضد . إِن سمحت نفسه /164/أن يسمّيه عيبا بما مهدت من سبل السلم وحرمت من سفك الدماء وبسطت بالإيمان بساط الأمن، وبلغت من ذلك بقوّة الدين ما لم يبلغه قيصر بجنوده التي تعدّ بالملايين ..

وهب أنّه بعدت عليه الشقة بين المقدّمة وإنشاء المقالة، فنسي في إحداهما ما ذكره في الأخرى، فكيف تلتمس له العذر في التناقض بين كلامه هنا وبين ما بعده ببضعة أسطر من مدح الثورة اللوثرية ونتيجتها الثورة الفرنساوية التي دفعت بزعمه العالم في ميدان التقدّم أجيالاً، فقد أعوزتني الحيل في الاعتذار عنه وسدّت عليَّ المذاهب فيه، إلاّ أنّ أَقول: إنّ عدم جواز التناقض كان من الأوهام التي زعزعها معوّل العلوم الطبيعية، والتقيّد بعدم التهافت في الكلام كان عقالاً لعقول البشر، فأنشطها منه استقلال فكر هذا الفيلسوف .

وأمّا ما ذكره من الحروب التي أثارتها النصرانية في القرون الوسطى، فقد كان

ص: 322


1- بلغني جديداً أنّ هذا الرجل نشر مقالة نقضتها جريدة أبابيل وموضوعها تصويب البلقانيين في حربهم الأخيره مع الدولة العلمية، تلك الحرب الوحشية التي ارتكبوا فيها من ضروب القساوة وفنون المظالم، ما لم يعهد مثلها في تأريخ أحطّ المتوحّشين .
2- الوطيس: التَّنُّوْر.

كلامه في مطلق الديانات، وماذا على سائر الأديان إن أذنبت النصرانية بزعمه؟ وأنا ادع الكلام هنا، لا زُهْداً في الدفاع عنها والانتصار لها في مقابلة هذا الكافر العدوّ للأديان عامّه؛ بل لأنّ معلوماتى /165/ فيها قليلة، ولاتحضرنى الآن المصادر التي استطلع منها حقيقة الأسباب الباعثة عليها.

ولعلّ أحد البارعين من علمائها وَكُتّابِها يشرح تلك الأسباب، ويردّ على وجه هذا الملحد ما فتحه لعيب الأديان من هذا الباب، فإنّي لا أشكّ في أنّ تلك الحروب لم تكن دينية محضة، بل كانت للسياسة والمطامع الشخصية فيها يد خفية أو جلية .

ثمّ لايعزب عنك اعترافه ببراءة النصرانية عن تلك الفظائع(1) في مقالة «ضحايا الجهل» التي تقدّم نقل شطر منها، وفيها قوله: «قامت النصرانية في العصور الوسطى بفظائع تقشعرّ لها الأبدان».

حاشا للإِنجيل أن يكون الآمر بها، وما قام بها إلاّ أولئك الذين هزّواً بالدين ليسحقوا به الإنسان بالاتفاق مع الحكّام الظلام، وما دين النصرانية سوى الإنجيل، فإِذا كان يحاشيه منها فلماذا لاتقدر إلاّ أن تَحْمَرَّ خجلاً، وما على تعاليمها الأدبية مما ارتكبه الذين هَزِئُوْا به ليسحقوا الإنسان .

إراقة الدماء و الفوضى في ثورة فرنسا

وما بال هذا الرجل يحملق(2) عينيه إلى ما يقع بِآسْمِ الدِّيْنِ مِنَ الْحُرُوْبِ وَالاِضْطِهادِ، ويغمض الطرف عن الثورة /166/ الإلحادية الفرنساوية؟ تلك الثورة التي أتلفت عشرة ملايين من النفوس فيما يقال، تلك الثورة التي ترتعد فرائص الإنسانية من فظائعها وتشيب نواصيها من سماع وقائعها. تلك الثورة التي لايرضى التأريخ إلاّ بثبت وقائعها مع وقائع أقسى البرابرة جَنانا، وأقلّ الزنوج شفقة وحناناً .

ص: 323


1- الأصل: الفضائع.
2- يحملق: يفتح و ينظر شديدا.

تلك الثورة التي مزجت القساوة بالجنون، لاالجنون العادي، بل الذى وصفه تاين فقال : «لقد أقرّوا وشرعوا ما كانوا يجزعون له أشدّ الجزع، ولم يكتفوا في ذلك بالحماقيات والجنونيات بى، شرعوا الآثام وقتل الأبرياء وإعدام الأصدقاء، وانضمّ حزب الشمال إلى حزب اليمين، وقرّرله بالاجتماع وسط التصفيق الشديد إرسال دانتون إلى المنجلة، وكان رئيسه الطبيعي وموجد الثورة وقائد زمامهنا، ومال اليمين إلى الشمال، فقرّر له بالإجماع وسط التصفيق الشديد، أفظع الأوامر التي أصدرتها الحكومة الثورية، وبين صفات الإعجاب و النشوة تدفق الميل والانعطاف ونحو كولوت ديوبوا وكوطون وروبسبير، فجدّد الْمُتَعاقِدُوْنَ انتخاب أعضاء الحكومة الثورية، وإبقاءها على منصة الحكم، وهي الحكومة القاتلة التي كان يبغضها /167/ السهل لجرمها، ويمقتها الجبل، لاِءَنّها كانت تحصده؟ اصطلح السهل و الجبل، واتّفق القليل مع الكثير، ورضي الجميع بمساعدة قاتليهم على إعدامهم، ثمّ في يوم 22 من الشهر تقدّمت رقاب تلك الحكومة للتقطيع، و بعد ذلك بقليل تقدّمت إِليه أيضاً تلك الرقاب عقب خطاب ردوبسبير، و شواهد جنون الثائرين كثيرة، وحسب العاقل منها أنّها ثورة أقيمت لنقض الدين، ولو لا أنّه خشية على قلبك أن يذوب وعلى كبدك أن يتفتت لأمرتك بمراجعة تأريخ تلك الثورة لتصدّق من توحّش الإنسان ما لم تكن تتصوّر، [و] تؤمّن بمعجزة العلم الطبيعي التي يدّعيها الدكتور في مقدّمة الطبعة الثانية ص 9.

وإن خشيت مَلَلاً فاقتصر من وقائعها على جماعه شهر ستمبر، ولاأدعك أمام قضية لعلّك لايحضرك من الكُتب ما فيه تفصيلها، بل أتلو عليك آخر أمرها منقولاً عن مسيوتاين، قال: لمّا فرغوا من قتل الألف والمأتين، أو الألف والخسمائة العدوّ للأمة، لاحظ بعضهم أنّ السجون تضمّ أناساً لافائدة منهم، وأنّ الأولى إعدامهم،

ص: 324

فتسارعت الجماعة إلى الموافقة على هذا الرأى، وكان في السجون الاْءُخَرِ أُناسٌ(1) من الشَّحّاذِيْنَ والهُمَّلِ والأولاد، فرأت الجماعة أنّه لابدّ من وجود أعداء /168/للأمة، بينهم كامرأة رَجُلِ قد قتل نفسا بأليم؛ إذ قال بعضهم: لابدّ أنّها متغيّظة من وجودها في السجن، ولو تمكّنت لو ضعت النار في باريس،(2) ولابد أن تكون قد قالت ذلك؛ بل قالته، إذاً حقّ عليها الإعدام، سرى هذا القول في النفوس كالحجة الناصعة هرولت الجماعة، فقتلت كلّ مَن في السجون، وبينهم نحو خمسين غلاماً بين الثانية عشرة والثامنة عشرة(3)، وقالوا في قتلهم: إنّهم إذا عاشوا لايبعد أن يصيروا أعداء للأمة، فالواجب التَّخَلُّصُ من شرّهم .

فيا من عدّ الثورة السلمية من معجزات العلم الطبيعي، هذه من تلك الثورات السلمية! ويا من عاب معجزات العلم الإلهي بأنّها مصبوغة بالدم،(4) ألا يكفى لصبغ معجزة العلم الطبيعي دماء عشرين مليوناً من الأمّة الفرانسوية؟

ولاتقف معجزة العلم المجرّد عن الدين على هذه، بل له بعد ذلك معجزات؛ وغبّ هذه الآية آيات، إِلى أن تدفع الإنسان إلى هوّة من التمدّن الهمجي، هوةً لايعرف قرارها، ولايزول عن الإنسانية عارها وشنارها(5) تمدّنا يعيد للإنسان دوره الأوّل، بل ينزل به إلى تمدّن أجداده. الاْءُوَل، ووشيكا يتبسم صباحه عن يوم /169/ عبوس، لا بل لاحَ بهذه الثورة صبحه الحالك، مُنْذِرا(6) بتلك المهالك.

وما هذه الفوضوية والاشتراكية وأشباههما إلاّ طلائِعُ تلك الهمجية التي تختم به المدنية الغربية .

ص: 325


1- الأصل: أناساً.
2- الأصل: الباريس.
3- الأصل: الثانية عشر و الثامنة عشر.
4- نفس المصدر: «كلّ ذلك من المعجزات العلم الطبيعي...».
5- الشَنار: العار.
6- الأصل: منذرة.

والخوف من اختتام أدوار مدنية الغرب، ورجوعها ا¨لى الفوضى بهذه الأفكار أمر يعرفه الاجتماعيون حتّى ملاحدتهم، ولكنّهم يقولون كما قال جوستاف(1) لبون: أين السبيل إلى منع ما هو كائن؟ وأ ما وَايْم الحقّ - أنّ السبيل اللاّحِبَ(2) والطريق الواضح، وهو الانقياد للدين الصحيح الخالي من الأوهام ونشر تعاليمه المقدّسة بين الأنام، ثمّ ضمّها إلى الصحيح من العلم والقبض عليهما بيد من حديد.

فبهما لابغير هما، يستتبّ النظام ويفوز الاجتماع بالسلم العامّ.

وجوستاف لبون يعلم ذلك، ولكنّه يقول: إنّ الوقت قد فات.

وفاته أنّ هذا وقته وزمانه وأوانه وابانه؛ إذ تقدّم العلوم و تنوّر الافكار قد مَهَّدَ السبيل إلى سهولة معرفة الصانع. وفهم الحِكَمِ المودّعة في الصحيح من الشرائع، وأبانت الاختبارات والتجارب عمّا في اللادينية من المفاسد، وفي هذه الثورة أعدل شاهد بالرغم على من زعم غير ذلك.

وقد علّل جوستاف لبون زعمه فوات الوقت بقوله: إنّ نفوس الجماعات لم تعد ترغب في الأرباب التي رغبوا هم عنها /170/ بالأمس، وكان لهم نصيب في تحطيمها . كأنّه ليس صاحب الكلام المتقدّم قريباً المتضمّن لقوله: «لم يمض بضع سنوات حتّى قام الناس يشيّدون معابدهم» والناقل اعتراف ملاحدة الثائرين بخطائهم في الاستغناء عن الدين، وقولهم: إنّ مجموع الفرانسويين يطلبون الرجوع إِلى عاداتهم الأولى»، إلى آخره.

ولا القائل في موضع آخر من كتابه ما لفظه :(3) «قامت حرب عنيفة بين الثورة الفرانسوية والدين المسيحي، وكانت الجماعات في ظواهر الأمر من جانب الأولى، واستعمل الثوار من وسائل القهر والاضطهاد ما استعمله الأندلسيون، والثورة هي

ص: 326


1- الأصل: غوستاف.
2- اللاّحِبُ: الواضِحُ.
3- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 53 بعبارات أخر.

التي دارت عليها الدائرة» .

ثمّ أخذ جوستاف المذكور في الاعتذار عن العلم لإفلاسه في تهذيب النفوس فقال : «ما أفلس العلمْ ولا ذنب له، في فوضى الأفكار التي انتشرت في هذا الزمان، ولا في سلطة الجماعات التي تنمو وسط تلك الفوضى، إنّما العلم وعدنا كشف الحقيقة أو على الأقل بيان النسب التي تربط الأمور بعضها ببعض ممّا نقدر على إدراكه، لكنّه ما وعدنا السلام ولا السعادة أبدا» .

ونقول له: نعم ، إنّ العلمِ بالمَعْنى الذي تريده وتعرفه لم /171/ يعدكم بالسلام والسعادة، بل قد أوعدكم بالفوضى والشقاء أبدا .

ولكنّ العلم الصحيح وهو الذي يتّبع الدين ولا يخالفه ويواليه وَيُخالِفُهُ إذا انْضَمَّ إلى الدين ضَمِنا نشر السلام، وأوجبا السعادة الأبدية، «وذمّتي بما أقول رهينة» .(1)

وهذه جملٌ من كلام جوستاف(2) البون، جاء الكلام عنها عرضا واستطرادا، فلم نوفّ حقّها اعتراضا وانتقادا، وللمتأمل فيما أوردناه في تضاعيف هذه المناظرة ما يغنيه عن الإسهاب في انتقادها .

رجع في قتل جان دارك

وأمّا مانعاه على أهل الدين من إحراق جان دارك،(3)

فقد قال أحد النصرانية، 13علماء النصرانية إِنَّها من قتيلات السياسة لا الديانة؛ لأنّ جان دارك كانت من أكبر أعداء الإنكليز، فقتلوها لما وقعت في أيديهم . فعلى هذا الرجل أن يثبت عليهم الجناية أوّلاً ثمّ ينعاها عليهم، وَمَنْ حَمْلَها رُؤَساءَ الدِّيْنِ؛ فإنّما يقول:

ص: 327


1- قارن: نهج البلاغة، الخطبة 16/46، الأمالي للطوسي/ 235، عيون الحكم و المواعظ/ 255، بحارالأنوار ج 2/300.
2- الأصل: غوستاف.
3- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 53.

«إنّهم أحرقوها لغرض نفساني لا لداع ديني، وذلك أنّ رئيسهم وهو كوشون أسقف بوثي كان قد وقع نزاع بينه وبين شارل ملك فرنسا، فانحاز إلى هنري ملك إنكلترة، فاتخذ هذه القضية انتقاما من شارل، فالذنب فيها للأغراض لا الديانة.

ومتى كنّا نبرّأ جميع رؤساء الأديان من الجنايات؟ وندّعي فيهم العصمة؟ ولا أدري أين كان هذا المُغَنِّيَّ على ليلاه في صورة النياحة على جان دارك، عن المرأة المقتولة في كارثة المتقدّم ذكرها.

فلماذا لا ينوح على امرأة حبست بذنب غيرها، ولم يكفها، فَقْدُ زوجِها، ويُتْمُ أولادها وضيق حبسها، ونكد عيشها، حتّى تناوشتها سيوف الإلحاد من غير ذنب لها سوى سلسلة أوهام بِأَقَلَّ منها، يقيّد الطبيب الإنسان ويزج المبتلى بها في مطمورة المارستان.

وما قولك في رجل قتل هرّة بتهمة أنّها لابد من أنّها تحبّ انتياش اللحم من المائدة، وإن وقعت الشمعة التي عليها وأحرقت الدار.

ولا شكّ أنّها لو تمكّنت فعلتْ، بل أرادتْ، فحقّ عليها الإعدام !

ولو كان هذا الأسف واللهف على جان دارك(1) رقّةً على الإنسانية، ومقتاً للظلم، لا عداوةً للأديان، لأشركَ معها هذه الاِمرأة التعيسة، وسائر من قضت عليه تلك الثورة، /173/ وَلَبَكى على ما قاسوه من العذاب كما يبكي على مضطهدي الدين، ولعمد إليهم بالتقريع والملام فيما ارتكبوه من الآثام والتعذيب لدى القتل، قرّروا أن يمشي المُتَّهَمُوْن بين صَفَّيْنِ من الْقَتّالِيْنَ، وأمروا هؤلاء أن لا يضربوهم الاّ بظاهر السيوف، حتّى يطول أمد العذاب، وكان فريق يأتي بالمُتَّهِميْنَ عُراةً كما ولدتهم

ص: 328


1- فتاة فرانسوية من أشهر النساء بالبسالة والإقدام، ترأست على عشرة آلاف جندي وحاربت الإنكليز، ودفعتهم عن حصار ارليان إلى أن ظَفِرُوا بها، فأحرقوها في شارع رون (سنة 1430) وعمرها 19 سنة . (منه)

الأمّهات، ثمّ يمزّقون أجسامهم مدى نصف ساعة كاملة، فإِذا تمّت للجميع مشاهدة هذا المنظر أجهزوا على المعذّبين، فبقروا بطونهم

إلى غير ذلك ممّا [لا أذكره] .

وأما قوله في الهامش: «إنّ من مفارقات علماء الدين أنّهم اليوم طوبّوا جان دارك: «هذه وعدوّها في مصاف القدّيسات، وكانوا قد أَحرقوها»،(1)

فإنّه نبأ يجب التبيّن فيه، ثمّ التأمّل فيما دعاهم إلى تقديسها . ولعلّ أحد المطّلعين يكفيني مؤونة البحث .

إنّ الدين ليس بمانع في ارتقاء الأمم

(المهتدي - 8) : وعندي أنّه لو لا الثورة الدينية التي آثارها مذهب لوثر لا يعلم إلى أيّ دركة كان الإنسان قد انحطّ في أروبا؟! فهذا المذهب أقلّ تقييداً للعقل من المذاهب الأخرى.

ولو بحثنا عن أسباب الثورة الفرنساوية التي دفعت /174/العالم في ميدان التقدّم أجيالاً لوجب علينا أن نقول: إنّ ثورة لوثر هي التي مَهَّدَتْ لها السبيل بما نبّهت عليها(2) من الخواطر، وسهّلت للعقل من التفكير والبحث في المباديء الفلسفية، وإجالة النظر في أحوال الكون، والتملّص من رِبْقَةِ التعاليم القديمة والبرهان الماضي.

والدليل القاطع هو أنّ الأمّة التي اعتنقت هذا المذهب وهي أمّة الإنكليز اندفعت متقدّمة بين أمم أوروبا حتّى بلغت مبلغاً جعلها في مقدّمة العالم، ولا تزال فيه حتّى اليوم، على صعوبة مركزها الجغرافي، خلافاً لباقي أمم أروبا؛ فإنّها لبثت متأخّرة على نسبة المذاهب التي لها من ذلك.

وربّما لا تبقى إنكلترة في المستقبل كما هي اليوم لرسوخ قدم هذا المذهب فيها،

ص: 329


1- هامش فلسفة النشوء والارتقاء/ 53.
2- الأصل: لها.

فيسبقها بعض الأمم التي ربما لا تلبث زماناً طويلاً حتّى نتجاوزه كثيراً» .(1)

المؤمن: انّي لاَءَدَعُ مُنازَعَتَهُ في عدّ الثورة اللوثّرية سبباً للثورة الفرانساوية على سهولة المناقشة فيه، لخروجه عن موضوع المناظرة، وأقول: إنّ كلامنا معه لم يكن إلاّ في تقييد العقل - كما يصطلح عليه - بوجود الصانع تعالى، وبالدين في الجملة .

ومهما بلغ مذهب لوثر في تقليل تقييد العقل، فلا شكّ أنّه يقيّده بهذين المبدأين المقدّسين، بل وبأضعافهما ممّا تشترك /175/ فيه الأديان الإلهية.

فالاستدلال على مانعية الدين من الارتقاء بارتقاء أشدّ الأمم الأوروبية تمسّكاً بالدين وأعظمها تعصباً له غلط واضح، سبق التنبيه عليه في بعض المفاوضات السابقة.

ويحقّ لأهل الدين أن يقلبوا الدليل عليه، ويقولوا: إنّ الدين لو كان مانعاً عن الارتقاء لما اندفعت هذه الأمّة متقدِّمةً مع رسوخ قدم هذا المذهب فيها، كما يقول، وإِنّما كان عليه أَن ينشد عن أمةٍ أرقى من الإنكليز وهي لا تتديّن بدين أصلاً، ليكون وجهاً لاجتهاده في سبب ارتقائها.

ولا تظننّ أن الدكتور غفل عن ذلك، ولكنّه قلّب كتب أحوال الأمم ورقةً ورقةً، وتأمّلها سطراً سطراً، واستخبر المطّلعين عليها رجلاً رجلاً، فلم يجد المسكين أمةً ملحدةً أرقى من الإنكليز، بل ولا أمة راقية، بل ولا منحطة ممّا يستحق لفظ الأمّة، فالتجأ إلى الأمّة البريطانية، فزعم عليها أنّ مذهبها أقلّ المذاهب تقييداً، واستنبط منه أنّه هو السبب في ارتقائها، ثمّ استنتج من ذلك أنّها لو لم تكن عقولها مقيّدة بقيد دينيّ أصلاً لكانت هي أرقى مِمّا عليها الآن، إذاً ثبت أنّ الدين مانع من الارتقاء.

ولا أدري، ماذا أقول؟ لمن مِلءُ فَمِه لَفْظُ العِلْمِ وَالاِخْتِبار، وَحَشْوُ عَيْبَتِهِ عَيْبُ العُلَماءِ بالاجتهاد، /176/ ثمّ يكون أقصى جهده هذه الاجتهادات الباردة، ويأتي

ص: 330


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 53-54.

إلى مَعْرِضِ الْعِلْمِ بِهذِهِ السِّلْعَةِ الكاسِدَةِ؟!

ثمّ أقول: إنّ الدين باعترافه لا علاقة له بِالْعُمْرانِ، بل إذا عمل بها كما ينبغي، لم يصدّ عن الارتقاء .

قال في المقالة الثامنة(1) من مقالاته ما لفظه: «إنّ الدين في نظري لا علاقة له رأساً بالعُمْران من حيث تأثيره في ارتقائه ووقوفه وتقهقره، أو هو تأثيره واحد فيه؛ لأنّ كلّ الأديان أصولها واحدة في كلّ الأمم، وتَصبُوا إلى غاية واحدة اجتماعية وهي إصلاح أمور الإنسان في معايشه، ولا يؤثّر فيه إلاّ نزعات رجاله في أحكامه الفرعية، فإذا عملوا بموجب الدين وَحَكَّمُوْا الْعَقْلَ في تطبيق هذه الأحكام على مصلحة الْعُمْرانِ بحسب روح كلّ زمان، لم يصده ذلك عن الارتقاء» .

***

لوثر و تأثيره في مجتمع إنجلترا

ولا أدري، كيف جعل سبب تقدّم الإنكليز اعتناقها مذهب لوثر؟ والدين لا علاقة له بالعمران، كما في هذه المقالة، وهو للآخرة كما يقوله في مقالة 57؟

وترك ما هو السبب الوحيد في ارتقائها، وهو فوزها بالحياة الاستقلالية، وكونها /177/أبعد الأمم من العيشة الاتّكالية، أعنى الاشتراكية شريعة هذا الرجل، كما فصّل ذلك الباحث المدقّق ادمون ديمولان في الفصل الثاني من كتابه «سرّ تقدم الإنكليز السكسونيين»، ذلك الكتاب المشهور الذي استقرى فيه مؤلّفه جميع الأسباب التي أوجبت تقدّم هذه الأمّة، ولم يغادر فيه شيئاً مما أوجب تقدّمها من الأخلاق والعادات والتربية سوى اعتناقها مذهب لوثر، فقد تركها لهذا الدكتور ليكون من خصائصه .

ص: 331


1- لم أظفر لمصدره و لكن راجع: فلسفة النشوء والارتقاء/ 285 بعبارات أخرى.

وإذا كان لابدّ لهذا الرجل من عدّ اللوثرية سببا لارتقاء الإنكليز، فليعلم أنّه على الضدّ مما يروم، قد صارت سببا لارتقائها وفوزها بالاستقلال التامّ لما بثت فيهم من روح الدين وألزمتهم بسياساته وحلّتهم بأخلاقه، وكانت عُرى الدين فيهم غير مستحكمة ونواميسها لديهم غير مرعيّة .

قال أحد كتّابهم المشهورين في ترجمة لوثر ما بعضه: «إنّ وليم تنيدال لمّا تمذهب بمذهب لوثر وترجم الإنجيل وَضَمَّنَهُ من أقوال لوثر، كان لانتشاره بين سكّان بريطانيا من التغيير الأخلاقي ما لم يسبق له مثيل في تأريخ البشر، وكان من أثره أنّه بدّل آراء الجمهور فيما يتعلّق بمسائل الحياة وأحوال الإنسان، وبعث في جسم كلّ طبقة /178/ من طبقات الأمة روحاً جديدة أخلاقية وأخرى دينية»، إلى أن قال في بيورتيانية نوكس - وهي قسم من البرتستانية - رئيسه نوكس المذكور، ما لفظه: «واعتقادي أنّ كل ما جاء بعد ذلك من آ داب اسكوتلاندة وأفكارها وصناعاتها أثر من آثار تلك النهضة ، بل إنّ من آثارها ونتائجها أولئك الرجال الذين هم فخر الأمّة الاسكوتلاندية جيمس وات و دافيد(1) هيوم و والترسكوت و روبرت يارتز، وإنّي لاَءَجِدُ نوكس ومذهبه ينفثان قوّتهما وبرّهما في قلب كلّ واحد من أولئك الأبطال، وأرى أنّها ما كانت تكون قسط لو لا البيورتانية، ولقد قامت تلك الثورة الدينية الإسكوتالندية بالخير العميم على جميع أنحاء الدولة البريطانية، وذلك أنّها شبّت جمرة في كنيسة ادنبرج، فصارت حريقا في كلّ جوانب بريطانية، وبعد الحرب خمسين عاما زفّ اللّه تعالى إلى البلاد عروس الحرية»، إلى آخره.

***

ص: 332


1- الأصل: راقيد.

ولابدّ أن يكون الأمر على ما يظهر من هذا الكاتب لما عرفه العقلاء من عظيم أثر الدين في الأخلاق وجميل مآثره في إِصلاح الاجتماع، ولكن هذا الرجل كما نبّهناك عليه سابقاً /179/ ينظر إلى الأديان بعين البغضاء، فستر به الحقائِق معكوسةً، والصور مقلوبةً .

ولقد بلغ ولعه باللوثرية، وعجبه بما استنبط منها، أنّ جعل تقدّم الأمم الأروبية وتأخّرها بالنسبة إِلى مذاهبهم، ونَسِيَ أنّ اللوثرية يدين بها أمم غير الإنكليز، وهم أحطّ منها بكثير؛ وأنّ كثيرا ممّن يعتنق هذا المذهب تحت سيطرة غيرها من المذاهب التي تقيّد العقل كثيرا باصطلاحه، كالأرتودكسية والكاثلوكية.

ثمّ لا أدري، ماذا تكون النتيجة لفكّ العقل من هذا القيد أصلاً، كما يرومه ويتمناه!؟

أليست فرانسا زحزت هذا القيد قليلاً، فضربت الهمجيةُ في بلادها أطنابها، وسبغتها بدماء رجالها؟ ولو لا تدارك العقلاء لهذا الخطر بجلبهم الفلسفة الدينية إليها من بلاد آلمانيا، وسعي الملكة العاقلة جوزفين بإعادة السلطة الروحية إليها، لقضت فلسفة هولباخ وديدرو على مدنية فرانسا، وألحقت تلك الأمة بأمّتي التسمان والبابوان!

وإن أردتَ أن تعرف أثر فكّ قيد الدين في الأمم السابقة، فعليك بما كتبه الفيلسوف السيّد جمال الدين الهمداني(1) الإيراني المعروف بالأفغاني . /180/

ونحن لا نعرف في الأمم - كما عرفت - أمة غير متمسّكة بدينها، فأيّ أمّة ترى يهدّد بهم الإنكليزَ لرسوخ قدم المذهب فيها، وينبأ بأنّهم يسبقونها ويتجاوزونها كثيرا ؟!

وظنّي أنه يريد بهم الآلمان، وهذا إمّا اغترار منه بوعد بخنر وقوله على الفلسفة

ص: 333


1- راجع: رسائل فى الفلسفة و العرفان/ 145-166.

المادية: أنّ في القرن التاسع عشر فالسابق أَلمانيا، أَو لِما سَمِعَ من شُيُوْعِ مَذْهَبِ الاشتراكيين فيها، وأنّ بلادها عُشُّ هذا المذهب وَبَيْضَتُهُ التي تَفَلَّقَتْ(1) عنه، ومنها انتشر في سائر أرجاء المسكونة، حتّى قال أحد نوّابها: لقد حطّ جيش مذهب الاشتراكيين رحالَهُ في البلاد الآلمانية، وتربّى عندنا التربية الفلسفية والعملية.

وما قول بخنر إلاّ كهانة من كهانات الإلحاد وفوقها .

فِراسةُ عَبْدٍ مُؤْمِنِ لا كهانةً *** ومن هو شِقٌّ عِنْدَهَا وَسَطِيْحُ(2)

وأمّا كثرة الاشتراكيين فيها: فلا يغرّن هذا الرجل ولا يقرّن بها عينا؛ لأنّ الاشتراكية لا تلازم الإلحاد، وليس جميع أهلها بملحدين أو كما يسمّيهم مادّيين، بل كثير منهم الإنجيليون، كما صرّحوا به في مقاصدهم قائلين، ما لفظه : «إنّ حزب الفعلة الاشتراكيين المسيحيّ مؤسّس على الاعتقاد الديني والولاء للملك»، إلى آخره.

ومنهم الكاثلوكيون وهم كثيرون، تألّفت /181/ فئتهم على أثر كتاب نشره قسّ ميانس، وسمّاه «مسألة الفعلة والنصرانية» .

وأمّا تنبّؤه عن مستقبل إنكلترة فلا ينبغي أن يَتَشاءَمَ منه الإنكليز، بل ينبغي أن يَتَفَأَّلُوْا به، لأنّه مجرّب الكذب، وهو يعرف ذلك ويعترف به، ويقول عن نفسه في مقالة له نشرت في البصير سنة 1908 ما لفظه: «فأنبأت منذ ربع قرن أنّ أروبا لا ينقضي عليها القرن التاسع عشر، حتّى لا يبقى فيه ملك يلبس البرفير(3) والأرجوان، ويحمل الصولجان ويسوق بها حمر الإنسان، وها نحن في العقد الأوّل من القرن

ص: 334


1- الأصل: تفلقث.
2- الشعر لبهاء الدين زهير، و مطلعه: لئن بحت بالشكوى إليك محبة / فلست لمخلوق سواك أبوح.
3- البرفير: اللون المركّب من الأحمر و الأزرق، و يعرف أيضا بالأرجوان.

العشرين، والملوك كالآلهة على عروش مجدهم»، إلى أَن قال بعد نبوءة أخرى له كاذبة أيضاً، ما لفظه: «فكلّما قلت قولاً؛ كذّبتني الحوادث حتّى صرت أتمّنى أن تفتح لي أبواب الجحيم لأكون على يقين من الفوز بجنات النعيم».

ولئن كذّبت الحوادث نبوّءته، فقريبا تصدّق المنيةُ أمنيّته .

إنّ الدين لا يضادّ بالتطوّر

(المهتدي - 9) : ثمّ قال بعد ذلك: «والمحافظون على الأحوال المقرّرة هم أصحاب الروحانيات، وَمَنْ تَوَكَّأَ على عَصاهُمْ من أصحاب السلطة فَيَدَّعُوْنَ: أنّ الكون لا يعمر إلاّ بما هو مقرّر في سياساتهم ودياناتهم وشرائعهم وعاداتهم ولغاتهم وسائِر /182/ آدابهم ممّا ألُفِوْهُ، ويستغربون كلّ قول كان على ضدّ ذلك .

على أنّ كلّ عصر يتغيّر عمّا تقدّمه، والعالم يتقدّم ولا يتأخّر، ثمّ هم يتغيّرون مع كلّ عصر ويؤيّدون ما قرّره هذا العصر، وهم لا يزالون يكرّرون ما يقولون، كأنّهم لا يدرون أنّهم يتغيّرون، فما كان غير جائز عندهم في الأمس صار أمراً واجبا عندهم اليوم؛ لأنّهم تعوّدوه؛ ولا شكّ أنّ ما يقال اليوم همسا سيصير غدا يعلّم في المدارس، فمعارضتهم لكلّ مُسْتَجَدٍّ ليست إلاّ عقبات يُصَعِّبُوْنَ بها السلوك في طريق التقدّم، واضطهادهم لمضادّيهم لا يكسبهم سوى جنايات يضيفونها إلى ما لهم من الجنايات، ويقسّى حكم الخلف عليهم» .(1)

المؤمن: أوّل هذا الفصل من كلامه كذب صريح وتهمة واضحة، وأوسطه تكرار لغلط تقدّم جوابه في إحدى المفاوضات المتقدّمة، وآخره نُبُوْءَةُ عن المستقبل وهي كسائِرِ نُبُوْءاتِهِ المجرّبة ؛ إذ عرفت أنّ أحداً من أهل الديانات لا يَدَّعِيْ تَوقُّفَ تَعْمِيْرِ الكون بالمعنى الذي يفهمه من هذا اللفظ على شرائِعِها، ومن ادّعاه منهم فإنما يريد

ص: 335


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 54.

به معنى يدقّ عن ذهنه ويبعد شوطا بعيدا عن فهمه، وقد مرّ هذا فيما سبق في كلامه، ولكنّه الآن زاد عليه الكذب عليهم بأنّ الكون /183/ لا يَعْمُرُ إلاّ بلغاتهم وعاداتهم، ولا أدري، أَجِدُّ هذا منه أم مزاح!؟

أم ربما كتب، وقد لعبت به نشوة الراح؟

وكيف ينسب العاقل إلى أصحاب الروحانيات وأهل الديانات أنّهم يرون تعمير الكون بلغة خاصة وعادة مألوفة .

وأمّا ما ذكره من تغيير كلّ عصر عمّا تقدمه، [فَقَدْ] مرّ الجواب عنه في إحدى المفاوضات السابقة.

وإن كانوا كما يقول، وهم لا يزالون يكرّرون؛ فإنّه بنفسه يحذو حذوهم، فلا يزال يكرّر ما يقول، فقد مرّ هذا الاعتراض الوحيد وذكره هنا وبعده بما يقرب من ورقة، وفي مواضع أخرى من مقدّمة الطبعة الثانية وفيما لا أحصيه من مقالاته .

وأما قوله: «يؤيّدون ما قرّره هذا العصر»، وقوله: «ما كان عندهم غير جائز بالأمس صار أمراً واجباً عندهم اليوم»، وقوله: «فمعارضتهم لكلّ مستجَدّ»، إلى آخره، فجميعُها ألفاظ فارغة أو شتائم عامّية، ولو ذكر لنا أمثلة ممّا ذكر، لنظرنا فيها وَعَرَّفْناهُ الجواب عنها.

وأمّا الجنايات التي أشار إليها، وهدّد أصحابها بقساوة حكم الخَلَف عليهم، فما كان منها صادرة عن محض الدين الصحيح، فتلك الجنايات في ذوق عقلاء الخَلَف أَحْلى من جَنى(1) النحل وَجَنى النخل . ولا شكّ أنّهم /184/يشكرون إقامتهم للعقبات في طريق هذا التقدّم السرطاني الذي يتمنّاه هذا وأصحابه، وأما جهّال الخلف فلا يُؤبَؤُ بهم كما لم يأبؤوا به بسلفهم ..

ص: 336


1- الجَنى: الَّثمَرُ. فهو من النحل: العسل، و من النخل: التمر.

وجب على الدين ألاّ يضغط على الأفكار

(المهتدي - 10) : وقد قال بعد ذلك: «ولا يتوهمنّ القاريء أنّ مرادنا بذلك قلب الموضوع وعكس المطبوع قهراً وظلماً، أي استعمال القسوة لنفي الديانات على حدّ استعمالها لتأييدها، كلاًّ ثمّ كلاًّ، وإنّما القصد أنّ الحكومات لا تكره الناس على الإيمان، ولا تخمد الأنفاس عن إبداء ما في الصدور، بل تدع كلاًّ وشأنه، وتتحاشى الضغط على العقول، ولا تعارض الأفكار المضادّة، فلاّ يمضي زَمَنٌ حتّى تشرق أنوار الحقيقة ويهتدي الناس بنبراسها في ظلمات هذا الكون .

إنّما المرء مثلما السيف يَصْدا *** عقلُه ساكناً بلا أعمال

يَصْدأُ السيفُ بالخباء ولو كا *** ن شديد الصقال حدَّ النصال(1)

المؤمن: هذا الفصل من كلامه كالفصل الذي قبله خالٍ عن شبهة علمية يلزمنا دفعها، وبيان موقع الغلط منها، ولذا نختصر الكلام عليه كما فعلنا بالفصل السابق، ونقول /185/لا ندري، لماذا كلّف نفسه دفع التوهّم المذكور في أوّل كلامه؟ أتراه قد ظنّ أنّ أهل الديانات في وَجَلٍ من تهديداته، وفي فَرَقٍ من دولته التي يتمنّاها لملاحدته!؟ فحاول أن يذهب الروع عنهم شفقةً عليهم، وما درى أنّ أهل الدين على علمٍ بأنّ المستقبل كالحال لا يزال ألوية الدين على الخافقين خافقة، كقلوب الهراطقة والزنادقة، وإن كان فيهم من يخشى من أمة الإلحاد قهراً وظلماً، فلا أفرخ اللّه روعه ولا أسكن جأشه !

ثمّ إنّه ليس بأوّل ملحد تمنّى رفع الضغط على الدول، فأدركه الأجل قبل درك الأمل؛ فإنّ هولباخ طلب إلى الحكومات أن لا يقيّد حرية الفكر، وزعم هذا في كلامه، ولكنّ الحكومات بما منحها اللّه من الكياسة وعلمها من حسن السياسة أشفق على الأمة من أن تدع جراثيم الفساد تنتشر في آرائها، فتقضي على اجتماعها، وإِذا

ص: 337


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 54-55.

كانت تضع الحَجْرَ الصِّحِّيَّ خوفاً على حياة الأفراد، فكيف لا تضعه خوفاً على حياة اجتماعها؟ وقد علمت بأنّه لا شيء أضرّ على سياسة البلاد من إِنكار الصانع والمعاد .

وللدين على السياسة أعظم الحقوق، فكيف يُكافِئُهُ رجالها /186/ بالعقوق؟ وقد علموا أنّ الدين يبلغ بنفوده وتمكّنه في القلوب ما لا تبلغه الحكومات بجنودها وأعوانها كما ستعرف تفصيله في المقالة الآتية .

وأمّا البيتان المختوم بهما هذا الفصل فَلَعَمْرُ الفضلِ إِنَّهُما ملحونان باردان، وهما وإن كانا من «الخفيف» لكنّهما أثقل على القلب من تعاقل الجاهل وعلى السمع من كلام العاذل، ولو تحرّى صدق المقال لقال :

إنّما العقل مرهفٌ ومضاه *** بصقال الإيمان و التوحيد

وإِذا ما صَدا الجحود علاه *** ليس إلاّ كزبرة من حديدِ(1)

أو قال:

إنّما العَقْلِ ناظرٌ يُبْصِرُ الاْءنْ- *** -سانُ مِنْهُ طُرْقَ الْهُدى والسدادِ

بِضِياءِ الإِيمان يُبْصِرُ ماشا *** ءَويَعْمى في ظُلْمَةِ الإلحادِ

إنّ الديانات ليست بمتحوّلة بعضها عن بعض

(المهتدي - 11) : وقد ذكر في هذه المقدّمة كلاماً طويلاً في أصل الديانات وزعم فيه تحوّل بعضها عن بعض، فهل لك أن تسمعه بألفاظه وتسمعني الجواب عنه .

المؤمن: أمّا بألفاظه فلا، ولا كرامة لكلام يتضمّن الوقيعة في النبيّين وسوء الأدب في التعبير عنهم - صلّى اللّه عليهم أجمعين -

ص: 338


1- الأبيات: من نظم الشيخ نفسه طاب ثراه.

عجباً لهذا الرجل، يزعم أنّه زعيم الإصلاحَ ومُهَذِّبُ /187/ نوع الإنسان، ثمّ يملكه ناموس الإتافيسيم الرجوع إِلى الجدّ فيتخلّق بأقبح أخلاق الحيوان وَيُسِئُ الأدب إلى قوم يراهم فلاسفة عظاماً، وإن عميت عينه من أن تراهم أنبياء كراماً،

فيا عَجَباً من مناقَضَتِهِ لِنَفْسِهِ واختلاف كلامَيْ يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، فبينا هو معجب بصاحب الشريعة المحمدية صلى الله عليه و آله وسلم وبالانجيل، 13صاحب الإنجيل ويحثّ العُمْرانِيِّيْنَ على أن يقيموا لهما آثاراً مدنية تنطق بمآثرهما الاجتماعية - مقالة حول مقالتي - إذ طفق يتكلّم فيهما وفي سائر الاَنبياء بما تختار الآذان الصَّمَمَ على سَماعِهِ؛ ويكتب ما تَوَدّ الأعْيُنُ العُمَى قبل قِراءَتِه.

فعلى مَهْلِكَ(1) أيّها الرجل؛ إلى كم تعرض ونعرض، وتفصح ونصفح، وتجد ونمزح؟

لعلّك قد زعمت أن لا قلم إلاّ الذي يليق(2) دواتك، ولا لسان إلاّ الذي حشيت

به فمك.

رويدك، قد أخطأت الحفرة(3)، وما أصبت الثغرة، ولئن أسكتني عنك شرطي معك، فمن أهل الدين من لا يلتزم بهذا الشرط الذي لا يلزم، بل يرى أنّ دفع الشرّ(4) بالشرّ أحزم، فيقول: «اشْتَدِّىِ زِيَم» .(5)

إنّ التوحيد لا ينشأ من نظرية الفتيشية

(المهتدي - 12) : أصبت، ومع ذلك فإنّه ألفاظ كثيرة /188/ تحتها مَعانٍ قليلة

ص: 339


1- الأصل: مهل.
2- لاقَ الكاتِبُ الدَّواةَ: أَيّ أَصْلَحَ مِدادَها.
3- من قولهم: أخطاتْ آستُ فلان الحفرة، إذا وقع فى الخطأ. (عبدالستار الحسني)
4- تمام شطره، ولكن دفع الشر بالشر أحزم . (منه)
5- تمثل به الحجّاج فى مخاطبته أهل العراق. (عبدالستار الحسني)

حقيرة، وهو كما في المثل : «حشف وسوء كيل»(1) وما ذكره في عدّة صفحات تسعه أسطر عديدة، وحاصله: أنّ الإنسان كان أوّل أمره شديد الجهل بالأشياء المحيطة به وبخصائصها، وكان يرى أنّ هذه الأشياء ذات تأثير ظاهر فيه، خاف على نفسه منها، لئلاّ تكون مظهراً لقوة عاقلة، فبعثه الخوف على أن يتذلّل لها، ثمّ تَطَرَّقَ إلى أن جعل هذه القوّة روحاً، ثمّ الروح إلآها، ثمّ تصوّر الآهه كنفسه يغضب لما يغضبه ويرضى لما يرضيه، فنحر له الهدايا وقَرَّبَ القرابين، ثمّ تأصّل فيه هذا الميل بحكم الوراثة، وانتقل هذا الاعتقاد إلى نسله.

ولا شبهة أنّ هذا الأمر أو ما هو مثله أصل كل نِحْلَةٍ ودين، إذ يستحيل وجود الإنسان الهمجيّ بدون أحلام تنمو، فتملأ مُخَيَّلَتَهُ أوهاماً تتعاظم، فتصير أرواحاً تكثر، فتملأ كلّ ما يحيط به، فالإنسان في أوّل الأمر لم ير شيئاً في السموات والأرض إلاّ وظنّه مقرّ أرواح، فتهيّبها، وللتقرّب إِليها عبدها، فعبدها في الشجر والحيوان والحجر والكواكب حتّى الإنسان، وأقام لها الأصنام المنحوتة، وجعلها محطّ آمالِهِ، حتّى تبيّن له أنّها لا تقوى على مهمّة، فلفظها، ولا شكّ أَن هذه /189/ العبادة المعروفة بالفتشية(2) أوّل عبادات الإنسان، وهي كثيرة الانتشار بين الأقوام المتوحّشين.

ثمّ بعد عبادة(3) الفتيش جاء عَبَدَةُ الكواكب، ولا ريب أنّ الإنسان لم يرفع نظره إلى فوق إلاّ بعد أن تمرّغ(4) في عبادة موجودات الأرض كافّة، حينئذٍ رفع نظره إلى السماء، وقد سأم ممّا في أرضه، واذ الكواكب اللامعة والشموس الساطعة استوقفته

ص: 340


1- راجع: مجمع الأمثال ج 1/216: «و الحشف أردأ التمر، أى أتجمعُ حشفا و سوء كيل».
2- لفظ برتغالي الأصل، وضعه البرتغاليون الذين نزلوا غربي أفريقا، إذ رأو أهلها يحملون تعاويذ يقدّسونها ويدفعون الأذى بها، وإسم التعويذة في لغتهم (فيتيشو)، ثمّ أطلق على عبدة الأنصاب والتماثيل . (منه)
3- الأصل: عباد.
4- تمرّغ: تردّد، تقلّب.

حيناً من الدهر، وقد رضي بها آلهة له، حتّى ارتاب بها، فهجرها كغيرها، وهكذا كانت الآلهة كثيرة جدّا بقدر موجودات العالم، ثمّ أخذ يختصرها كلّما زاد تعرّفا حتّى حجبها عن الأبصار وحصرها في واحد .

المؤمن: من سُنّة العلم وحكمة الباتِّ على المُناظِرِ أن لا يَبْنِي الدَّلِيْلَ إلاّ على ما يعترف به الخصم أو يتحمَّل عِب ءَ الإثبات، وَيُلْجِئ خصمه إلى الاعتراف به.

وهذا الرجل بَنى جميع خيالاته هذه على أصل تنكره الأديان أشدّ إِنكار وتبعّد عن معتقدهم غاية البعد.

ثمّ لم يذكر مع هذا التطويل شاهداً على صدق مدّعاه، بل أجراها مُجْرى الأصول /190/ الموضوعة والعلوم المتعارفة.

أما الأوّل: فَلاِءَنَّ الأديانَ الإلآهيَّةَ متفقة على أنّ الإنسان الأوّل كان من أكمل الناس وأعلمهم، ودينه التوحيد الخالص المنزّه عن الشرك، وكان ذلك دين جميع بني نوع الإنسان مدّة، ثمّ ظهرت عبادة الأوثان لأسباب مذكورة في كتب الأديان، ولم يعمّ جميع البشر، بل كان كما هو الآن، ولم يخل زمان من أناس دينهم التوحيد يتّبعون النبيين ويتبرؤون من الوثنيين.

ولم يذكر الرجل شاهداً على همجية الإنسان الأوّل بهذه المرتبة أوّلاً، ولا على أنّ العبادة الفتيشية هي العبادة الأولى ثانياً؛

بل جميع ما ذكره خيالات مبتنية على أصل التحوّل في الإنسان الذي تنكره ضرورة الأديان.

فإِذا تمّت، فهي احتمالات وتخريجات على أصل التحوّل - ولكنها باردة متناقضة كما ستعرف - وأهل الأديان بمعزل عنها وفي راحة منها.

ومذهب أهل الأديان مذهب لا تنافيه المكتشفات العلمية - وقد مرّ بيانه - ويناسبه شرف الإنسانية، وهو يستند إلى النقل المتواتر عن الأنبياء الذين يسمّيهم

ص: 341

بالفلاسفة العظام.

ومذهبه خالٍ عن كلّ مستند علميّ عقليّ أو نقليّ، إذ الذي اكتشفه أوجين من بقايا ابن جاوى لم تكن إلاّ جمجمة وَأَسْنانا /191/وعظم فخذ، ولم يكن معه كتاب يشتمل على أصول الفتيشية، ولا يوجد كتاب صنّف قبل زمن التأريخ وذكرت فيه هذه الديانة خاصة، إذا فأيّ المذهبين أولى بالقبول وأجدر بالاتباع؟!

ثمّ نحن نجاريه في ميدان هذا الخيال الواسع، ونقطع معه من ربوات الأجيال البعد الشاسع، حتّى نقف على الإنسان الهمجيّ الذي فرضه، ثمّ ننظر في أوهامه نظر تمحيص وانتقاد، لا مكابرة وعناد، ونقول: لا ننازعه في خوف الإنسان المفروض من الأشياء المحيطة به، ولا امتلاء مخيلته من الأوهام، ولكنّ الأنسب بهمجيته وانحطاط معارفه أن يكون خوفه من تلك الأشياء من ذواتها، حيث يرى الجبال أجساماً عظيمة، والرياح ذوات قوّة شديدة، وكثيراً من الحيوانات ذوات أشكال هائلة وأجساد عظيمة، ونحو ذلك، فيخافها كما يخاف أبْنُ آوى من ظلّه، لا أنّها مظاهر قوى عاقلة وأرواح قاهرة.

وقصارى ما يمكن أن يبلغ علمه في العقل والنفس أن يزعم الرياح والأشجار والأحجار ونحوها أشخاصاً حيّة، ويزعم هبوب الريح حركة إرادية كحركة الحيوان وإطعامه الشجر من ثمرة جوداً منه وكرماً، كما إذا أطعمه الإنسان؛ ويكون إذا خطؤه في عدم الفرق بين الجماد والنبات /192/والحيوان.

وإِذا كان هذا الدكتور المتنوّر - وعامّة من يقلّدهم في آرائهم، أرباب الفلسفة المادّية - لا يفرّقون بين الحيّ والميّت، ولا بين الجماد والحيوان، فتارةً يقولون إنّ الجماد من ذوي الحياة، وأخرى يسلبون صفة الحياة عن الحيّ، ويرون إرادة الإنسان عملاً مادياً يوجد مثله - ولو بأخفض منه رتبةً - في الجماد.

فَبِاَلأَولى أن يخفى ذلك على الإنسان الهمجّي، ولا تستبعد منه أن يزعم هبوب

ص: 342

الريح حملة عدوّ عليه، والرعد صوت وحشٍ مفترس يُريد الفتك به.

وأين الإنسان الذي فرضه وتصوّر قوّة فوق الطبيعة تخرق نواميسها وتحكم عليها.

وهذا أمر لا يدركه عقل هذا الدكتور في عصر العلم والنور، ويقول بعد تلك الآيات والبراهين التي أتى بها الأنبياء والحكماء - أين هو؟ وما هو؟ - وينشأ المقالات في ردّ من يقول: «إنّ في الوجود عالَما(1) آخَر؟

فكيف بالإنسان المتوسّط في المعارف بين القرد المنتصب وبين إِنسان اليوم؟

وكذلك الطقوس الدينية وأحكامها، فإنّ كثيراً منها، كالصوم ونحوه أمور لا تدرك مصالحها إلاّ العقول السامية، بعد أن تتثقّف بالعلوم العالية، فأين قوله: «ويغضب لما يغضبه، ويرضى /193/لما يرضيه»؟

ولو تأمّل هذا الرجل، ثمّ أنصف، لعلم أنّ ذلك الاعتقاد أصل للتعطيل لا الدين، وأنّ تعطيله متحوّل عنه، بل هو صورة مكبّرة منه ؛ وذلك لاشتراكهما في قصور الإدراك عمّا فوق الطبيعة، وقصر الوجود عليها، والقول بأنّه منها وإليها.

فما يقوله إخوانه اليوم عين معتقد آبائهم السابقين.

وأمّا معتقد أهل الدين فهو مباين لذلك بالطبع، فلا يعقل أَن يكون متحوّلاً منه .

وأمّا ما ذكره من أفعال المتوحشين، واتخاذهم شجرة أو حيوانا، يعتبره متسلطاً عليه، إلى آخره. فما القوم إلاّ إخوانه كما عرفت، فليقل فيهم ما شاء، وليتهكّم عليهم بما يريد.

ولكنّ الإِنصاف أنّهم - وإن شاركوه في قصور عقولهم عن الاعتراف بمبدأ أعلى من الطبيعة - ولكنهم أصحّ وجدانا وأسلم فطرةً منه؛ لأنّهم عرفوا أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من المركّبات المنظّمة، وما في كلّ منها من الحكمة الفائقة لا تكون نتيجة

ص: 343


1- الأصل: عالم.

قوى صامتة، ومسبّبة عن مجرّد الاتفاق والصُدفة، ولكنّهم لقصور عقولهم عن الوجود المجرّد نسبوه إلى ما يقع تحت حواسّهم، فاتّخذ كلّ منهم ما قاده اليه هواه، وحسبه أعظم ممّا سواه.

وأيضاً: لمّا كانوا أقرب إلى الفطرة التي فطر اللّه ُ الناسَ عليها،(1) ومجبولين على أنّ في الوجود /194/متسلّطاً يقدر على أن يجلب لهم الخير ويدفع عنهم الأذى والشرّ، استعاذوا بالأشجار والأحجار بدلاً عن الفاعل المختار، ولم يُلقوا المقادة كهذا الرجل للقوى الصامتة .

***

ولعلّك زعمت أنّي قد أسهبت وأطلت وغفلت من أنّه أهمّ المباحث، فمللت وإن أحببت أن تُسَلِيَّ النفس وتريح الخاطر، فدع عنك المسارح(2) التي تقيمها الملل المتمدّنة، وأقصد هذا المسرح(3) العلمي الذي أقامه هذا الدكتور، وانظر إلى تمثيله لرواية التناقض وإبداعه فيها، فقد جعل - أوّلاً - عبادة الإنسان الأوّل لجميع ما رآه في الأرض والسماء، وصرّح بأنّه عبد الكواكب مع الشجر والحيوان، ثمّ ما لبث حتى حكم بأنّ عبدة الكواكب جاؤوا بعد الفتيش، ونفى الريب عن أنّ الإنسان لم يرفع النظر إلى فوق إلاّ بعد أن تمرّغ في عبادة موجودات الأرض كافّة.

ولو لا أنّ الحسد يقبح بالإنسان لَحَقَّ لكلّ فيلسوف أن يحسد هذا الرجل على سرعة قطعه ونفيه الريب عن كلّ ما يخطر في خَلَدِهِ.

ولا أدري، ماذا ثَبَّطَ الإنسانَ العابد للحجر والشجر أن يعبدَ معهما النيّرين

ص: 344


1- اقتباس من سورة الروم/ 30: «فِطرتَ اللّهِ التى فَطَرَ الناس عليها...».
2- المسارح: جمع المسرح، الذى يمثّل عليه، و قد كان بعضهم يؤثر التعبير ب-«المرسح» على التعبير ب- «المسرح».
3- الأصل: عنك المراسح... المرسح.

الشمس والقمر؟ وهما أبهى وأملأ لعينه من أكثر موجودات الأرض التي يقول إنّه عبدها كافة !؟ /195/

وكنت أحبّ [أنْ] لا أملّ القراءَ الكرام بأكثر ممّا نقلتُه من هذا الكلام الغثّ والخيالات الرثة،(1) ولكن أبى القلم إلاّ أن يسطر لعجب الناظرين قوله: «وأنّه ليستحيل غير ذلك، لأنّ جميع معارف الإنسان اكتسابية صادرة عن الحواسّ، وحكمه بها على قدر تعرّفه بها [...] ولمّا كان الأوائل أقلّ اختبارا من الأواخر كانوا بالضرورة أقلّ علما منهم، بل كان معظم علمهم جهلاً، وَجُل أفكارهم وهماً» .(2)

ثمّ استنتج منه قوله: «ولذلك لا يليق بنا أن نتمسّك بما كان في الأعصر الحالية من الأوهام، تمسك الأعمى بقائده، ولا أن نطرح ما تبديه لنا الاكتشافات والحوادث من الحقائق لمجرّد كونه مخالفاً لما انطبع في عقولنا ورسخ في أذهاننا» .(3)

أما أنا فقد كلَّ منّي الفكر، وأعيتني الحيل فيما يربط قوله: «أن جميع معارف الإنسان اكتسابية»، إلى آخره، بما ادّعاه من استحالة أن يكون غير ما ذكره، وهو أنّ منشأ الأديان أوهام الإنسان الأوّل.

ولا أدري، كيف يكون ذلك رَدّاً على أهل الدين؟ إلاّ أن يكون الدكتور يرى بطلان جميع علوم الأقدمين، فيدخل في جملته الأديان، إذا فالأَربعة ليست بزوج، وليس نِصْفُها اثْنَيْنِ . /196/

إنّ تشابه الأديان لا يوجب الإذعان بفلسفة التحوّل في الأديان

(المهتدي - 13) : وقد قال بعد ذلك: «والديانات تتشابه من حيث الوحي أو ما هو بمعناه، فإنكّ لا ترى ديانة أضمحلّت أو انحطت أو لا تزال قائمة، إلاّ ومستندها

ص: 345


1- الرثة: البالية.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 47.
3- نفس المصدر السابق.

الوحي، وقاعدتها الإيمان [...].

وتتشابه من حيث إنّ كل واحدة منها تدعّى الصحّة لنفسها وتنفيها عن غيرها، وتعلم اضطهاد ما سواها إمّا صريحاً وإمّا ضمناً بحسب حال الأمة الْمُتَدَيِّنَةِ(1) بها من التمدّن والتوحّش، فإن كانت دعوى الديانات صحيحة فالحقيقة لا تتجزأ، ولابدّ أن تكون في واحدة منها فقط، فأيّ هي؟ وما هي؟

كُلٌّ يعظّمُ دِيْنَه(2) *** يا ليت شِعْري ما الصحيحْ؟(3)

وتتشابه أيضاً من حيث إنّها تعلم البعث وخلود النفس»(4) - إلى أَن قال - «وتتشابه في الفروض والثواب والعقاب . وقد جعل بعضهم جنّتهم لذّات جسمانية وبعضهم روحانية.

وفي الأعداد من حيث استعمال الاثنين والثلاثة والسبعة والعشرة وغير ذلك كثير، فكلّ ما هو موجود في الديانات اليوم، كان في العقايد التي كانت من قبل، فما التثنية والثالوث والسماء الثالثة والسبع الطباق والوصايا الشعر إلاّ منقولات متحوّلات عمّا قبلها(5)»(6) . /197/

المؤمن: لا شكّ في تشابه الأديان الإلهية، وأنّ بينها من الشباهات المهمّة وجوه غير ما ذكرها، ولو عرفها لأغنته عن عدّ الأعداد الأربعة والسماء الثالثة ونحوها من الأمور الغير الجوهرية، وكيف لا تتشابه، بل وكيف لا تتحّد مغزاها وجميعها عن مصدر واحد، وأخبارها أخبار أناس معصومين عن ربّ العالمين !؟

أَحَسِبَ الدِّيْنَ كفلسفته تبتني أحكامها على بارد التعليل وناقص الاستقراء

ص: 346


1- الأصل: الداينة.
2- الأصل: الداينة.
3- هذا البيت لأبي العلاء المعرّيّ من أبيات أوّلها: فى اللاذقية ضجة ما بين أحمد و المسيح. (عبدالستار الحسني)
4- فلسفة النشوء والارتقاء/ 49.
5- أسقطنا من هذا الفصل نبذة فيها الاعتراض على مسألتي العدل والمعاد لعذر تعرفه قريباً إِنْ شاء اللّه تعالى . (منه)
6- المصدر السابق/ 51.

فنتباين بتباين الأهواء.

بل الأديان الوثنية فيها بعض المشابهة مع أديان التوحيد، وما ذلك إلاّ لأنها أخذت ضغثا(1) من الحقّ، فمزجته بأضعافه من الباطل، واقتبست من مِشْكاةِ الوحي أنواراً وأضاقت إليها ما سوّلت لها أنفسها من ظلمات البدع.

وأيم الحقّ، لا أدري ما الذي رأي في تشابه الأديان، فنعاه عليها وعابها به؟ و الذي يرد على أهلها منه؟

وأجدر بهذه المشابهة أن تكون دليلاً على صحتها، وقد مرّ بيان ذلك إجمالاً في بعض مفاوضات المقالة السابقة .

ولمّا كان الرجل لا يتديّن بدين لينقض عليه بديانته، لابدّ لنا من النقض بعلومه الاختبارية وفلسفته.

ونقول احتجاجاً لا اعتقاداً: إنّ علوم الهيئة والكيميا والطبيعة بالمعنى الأخصّ، باطلةٌ جميعاً؛ /198/ لأنّها تتشابهه في إِثبات الجاذبية العامّة ونواميس النور والحرارة ووجود الجواهر الفردة.

وكذلك علوم الطبّ والتشريح ومنافع الأعضاء، لأنّها تتشابه في إِثبات الشرائين والأوردة وأعضاء التغذية ونحو ذلك.

من سخف القول ومجونه

وأطرف من ذلك قوله: «وتتشابه من حيث إنّ كل واحدة منها تدّعي الصحة لنفسها»، إلى آخره.

وهو بزعمه طبيب، ويرى اختلاف الأطبّاء فيما لا تحصى من المسائل، وكلّ واحد منهم يدّعي الصحة لنفسه، فلماذا لا يقول : «كلٌّ يعظّمُ طبَّهُ يا ليتَ شِعْري

ص: 347


1- الأصل: ضِغْثا / الضغث: الخليط.

ما الصحيحْ».

ومنتحل لفلسفة التحوّل، وهو يرى الاختلافات التي بين لامرك و ولس و دارون.

وكلّ يُناضلٍ عن رأيه ويدفع رأي صاحبه، فلماذا لا يطعن فيها جميعاً قائلاً: «الحقيقة لا تتجزّأ» إلى آخره. ومنشدا: «كلّ يعظمُ رأيه يا ليت شِعْري ما الصحيحْ».

ويحملني حسن الظنّ على أن أقول: إنّه كتب هذه المقدمة عند ما هاج به الداء، فهي كمقالة شميّل في السماء، كيف؟ وهو القائل في «مقالة الاشتراكية» ما لفظه: «وهي وإن كانت متفقة في الغاية إلاّ أنّ فيها اختلافاً كثيراً في الآراء، شأن كل فئة في /199/ دعوة مثل هذه كثيرة العقبات، وأيّ مذهب من المذاهب الكبرى علمياً كان أو فلسفياً أو دينياً لا تكثر فيها المسائل الخلافية من دون أن تمسّ جوهره بشيء».

فهلاّ اعتذر عن الدين كما اعتذر عن الاشتراكيين؟

وأما قوله: «أبن هي؟ وما هي؟»، فسؤال مجيد لو كان السائل غيره، وما ثمرته في معرفة المختلفَ فيه؟ وهو يجهل المتفق عليه . «إذا لم تعرف الحميد فلم تسأل عن سبح».

فإن عرف ذلك ولن يعرفه حتّى يشيب الغرابُ(1)، فليعد السؤال لنعرّفه الجواب . وأمّا قوله: «متحوّلات عمّا قبلها» ففيه الإشارة إلى إجراء فلسفة التحوّل في الأديان، وبذلك صرّح في الهامش،(2)

وأظنّ أنّه يجود على الأديان بالنشوء ويضنّ عليها بالارتقاء، وإلاّ لم يقل: «فكلّ ما هو موجود في الديانات اليوم كانت في العقائد التي كانت من قبل، ولا بِقِىَ لأديان اليوم مزايا تدلّ على ارتقائها عمّا كانت قبلها».

ص: 348


1- من أمثال العرب يضربونه فى استحالة وقوع الشيء.
2- راجع: هامش فلسفة النشوء والارتقاء/ 48.

وأراك في غِنَىً عن ردّ إجراء التحوّل في الأديان الإلآهية، بما عرفتك قريبا من أنّ هذه الأديان مباينة بالطبع لخرافات(1) المتوحّشين، وأنّ مبناها التوحيد، ومصدرها واحد وتعليماتها الجوهرية واحدة، ولم يقع الاختلاف فيها إلاّ في اقتصار بعض المتديّنين /200/بالدين السابق عليه، ورفضهم للاّحِقِ، أو لبدع ظهر فيها، أو سوء تفاهم وقع لبعض أهلها عنها، ونحو ذلك ممّا لا يختصّ بالأديان .

ونحن قد سقيناه بكأسٍ سقانا بها؛ وعرّفناه بأنّ إلحاده متحوّل عنها لا الدين، كما أنّ فلسفة التحوّل وهي معشوقته متحوّلة عن طوتمة المتوحّشين .

اعتراضات أخرى على الدين و الإجابة عنها

(المهتدي - 14) : وفي مقدّمَتي كتابه سوى ما ذكرت اعتراضات أخرى على الدين وتعريضات به .

المؤمن: بل فيهما البحث عن موضوعات كثيرة لا جامع بينها إلاّ التطرّف ومنازعة العقلاء كافةً في أديانهم وعلومهم وسياساتهم وعاداتهم.

وقد قال أحد المطّلعين: إنّ المقدّمة الأولى - واللّه أعلم بالثانية - جميع معانيها مأخوذ من خطاب م . بريه الذي ألقاه في المحفل العلمي في رمسس، واستوعب أربع ساعات من الزمان(2) .

ولا أدري، ما الذي جعله ذلك الخطيب موضوع خطبته /201/ واتخذه محور كلامه حتّى جاءت خطبته من أوسع الأنسكلوبيديات موضوعاً، وأكثرها مَباحِثَ(3)، وحيث إنّ فيهما الاعتراضات على الدول - ولست من أربابها - وعلى

ص: 349


1- الأصل: بالطبع عن خرافات.
2- وأظنّها تلك الخطبة التي بشّرً فيها السيدات الحاضرات بأنّهن من نسل الحيوانات . (منه)
3- الأصل: مباحثاً.

تربية المدارس - ولست من واضعي بروجراماتها - وعلى السياسة - ولست من أهلها - وعلى مؤلّفي الروايات - ولست من حملة عروشهم - وعلى المحامين - ولست وكيلاً في الدفاع عنهم - وعلى العلوم العقلية والنقلية بأجمعها، وليست مناظرتنا موضوعة للدفع عنها و ...

ولذلك رأيتُ أَن اتتبّع عمدة ما فيهما من الاعتراض على الأديان، مقتصراً على عناوينها، وأبيّن لك الجواب عنها بالمختصر الوافي من البيان، وأعرض عن اعتراضاته الجزئية وتهكّماته العاميّة .

1 - رَمْيُهُ الشرائِعَ الإلآهية بالاستبداد

لا حاجة إلى أن أعرّفك بأنّ العدل والمساواة في الحقوق العمومية ونحوهما من الأمور، والتي تبتني عليها المدنية، كانت ألفاظاً لم يهتد البشر إلى معانيها إلاّ ببركة الشرائع الإلهية، وكفاك شاهداً هذه الشريعة المطهّرة الإِسلامية، مسك ختامها وواو جمعها، وتاء فذلكتها.

أ ليست تساوي في الحقوق العمومية بين جميع أفراد أهلها، ولا تفرق بين طبقاتها، تقتصّ للوضيع /202/ من الشريف، وتقام حدودها على القوى كما تقام على الضعيف، وتقتل الغني بالفقير، وتجعل دية الذليل كدية العزيز، لم يصدّ صاحبها صلى الله عليه و آله وسلم عن ذلك شرف شريف، ولا ثروة ذي مال، ولا أواصر قرابة، ولا زمام صحبة، بل قال صلى الله عليه و آله وسلم : «المسلمُ أخو المسلِم»(1) « والمؤمنون إخوة »، تتكافا فروجهم ودماؤهم.

وكذلك غير الاجتماعية من أحكامها كحجها وصلاتها وصيامها، لم يستثن منها - فدته الأنفس - نفسه الشريفة، ولا أقاربه وأصحابه، بل جعلها أحكاماً عامّة تجري

ص: 350


1- الكافي ج 2/166، الاستبصار ج 3/4، الأمالى¨للمفيد /234، مجموعة ورام ج 2/197، وسائل الشيعة ج 12/279، عوالى اللآلى¨ ج 1/128.

على المسلمين كافّة .

أ استبداديةٌ أيها الدكتور شريعةٌ تنظر بعين واحدة إلى جميع الأمم، وترى أفرادها متساوين أمام القانون الأعظم !؟

شريعة ألْغت المفاخرة بالأنساب، وقالت: «كلّكم لآدم وآدم من ترابآدم من تراب/ 12» .(1)

شريعة أبطلت الأريستوقراطية الذميمة، وجعل الفضل بالتقوى والخصال الكريمة ؟!

شريعة ساوت بين المولى والعربيّ الصريح، وفضّلت الأعجم إن اتّقى (2) على الفصيح ؟!

عهدتك - وأقصى أَمَلِكَ من إصلاح الاجتماع - أن تتصافح /203/ الأمم من فوق حدود الأوطان(3)، وذلك بعد أحقاب من الزمان .

فهلاّ نظرت إلى هذه الشريعة، كيف ألّفت بين قلوب العرب والعجم، وأحكمت عُرى الوداد بين الترك والديلم ، فترى أهلها كإخوة أعيان(4) وإن كانوات مختلفين في الأصل والوطن واللسان.

بل ترى ذا الحسب اللباب والمجد الصميم ينقاد لهجين، لا يُقَوَّمُ لِسانُهُ ولا يعرف أحدٌ أصله، إذا رآه أعلم منه بالدين وأعظم مأثرة في الإسلام .

ولو لا أنّ مثلك يُطْرَدُ من المساجد ولا يسمح له في دخول المعابد أريْتُكَ صفوف الصلاة كيف تجمع بين متفرّقات الأمم، وتضع القوقاسي الراقي بجنب الزنجيّ المنحط، ويوقف المالك بجنب المملوك، ويقدم السوقه على الملوك، ويلصق رقيقُ سابريّ

ص: 351


1- بحارالأنوار ج 67/287 و ج 73/348، جامع الأخبار /183، شرح نهج البلاغة ج 17/281، مشكاة الأنوار /59.
2- قارن: الحجرات/ 13: «إنّ أَكرمَكُم عند اللّهِ اَتْقاكم».
3- عبارة «تتصافح... الأوطان» مستفادة من فلسفة النشوء والارتقاء/ 30.
4- أي من أمّ واحدة و أب واحد. و قد مرّ تعريفه. (عبدالستار الحسني)

الغنيِّ بغليظ جُبةّ الصعلوك، وكلٌّ يصافح صاحبه بعد الصلاة يلتمس بركة دعائه، كلّ ذلك فوق حدود الأوطان كما تُحبّ.

ولقد صرّحتَ في أحد مقالاتك بأنّ أقصى مَرامِك من شريعتك أن تقرّب عصا الراعي من صلوجان الملك، وما علمت بأنّ مَرامك هذا، وأضعافً من أمثاله، قد حصل بهذه الشريعة الإسلامية، لكن مع الاعتدال ومراعاة سائر الجهات وظروف /204/ الأحوال، لا كما يريده أصحابك مشوّها بالإفراط، ومقروناً بضروب من الفساد .

إنّ من أسوأ الشرائِعِ الاستبدادية هِيَ الشريعة الاشتراكية

وإن كان لابدّ لهذا الرجل من معرفة شريعة استبدادية، فليعلم أنّها شريعته الاشتراكية التي تُحاول هدم المجتمع الإنساني الحاضر، وَبِناءَهُ على أساس جديد، وما ذلك الأساس الجديد إلاّ أقدم نظامات الاجتماع وأخشنها وأبعدها عن المدنية وأقربها إلى الوحشية، كما قال ادمون ديمولان: إنّي أرجو من القرّاء أن يعتقدوا بأنّ نظام الاشتراكيين ليس بالجديد كما يعتقده الذين ادّعوا أنّهم اخترعوه، بل إنّه قديم، انصرم عمره وذهبت أيّامه، ونحن إذا جرّدنا هذا المذهب من تلك الألفاظ الْمُقَعَّرَةِ ورجعنا به إلى صورته الحقيقية رأيناه إنّما يتقهقر بنا إلى ما كانت عليه الأمم الغابرة تقهقر البسطاء إن لم تقل تقهقر الجهلاء(1).

وقد بسط هذا السياسِيُّ الُمحَنَّكُ الْقَوْلَ في ذلك، وأثبت أنّ هذا النظام هو نظام الروكية القديمة التي هي موجودة من يوم خلق اللّه /205/ الدنيا، ولا يزال بعض الأمم يعيش فيها.

ص: 352


1- وقال غوستاف لبون في كلامه على الجماعات ما نصّه: لترجع بها إلى حالة الاشتراك الأولى التي كانت عليها العشائر قبل بزوغ شمس المدنية . (منه)

ولا يهمنا الآن ذلك، ولا ما أثبته بواضح الدليل من أنّ العيشة الاشتراكية تلك العيشة الدنية الاتّكالية التي هي على النقيض من العيشة الاستقلالية، ومن أراد تفصيل ذلك فعليه بمطالعة الفصل الثاني من كتابه .

وإنّما المهم لنا أن نبيّن أنّها شريعة استبدادية.

وَأَقْتَصِرُ حذراً من التطويل على شهادة أعظم علماء الاجتماع وأشهرهم أعني سبنسر ، فقد كان خصماً للاشتراكيين في مذهبهم، ويعدّه ضَرْباً من الاستبداد، ويقول: إنّ كل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية يجب أن يكون حرّاً مطلقاً من كلّ قيد، إلاّ ما يقيّده عن التعدّي عَلى حُرِيَّةِ غيره.

وكان يقول: من أغراضي نقض الاشتراكية التي كنت ولا أزال عدوّاً لها(1).

فهذه الشريعة التي ملأ هذا الرجل عَيْبَتَهُ من مدحها وإطرائها، وحاول هَدْمَ الشرائِعِ لتجديد بنائها/206/ شريعة وحشية اتّكالية استبدادية. وزد عليها أنّها ممتنعة الحصول بتصديق علماء الاجتماع الدين، يعتمد عليهم في آرائهم، ولا يسع هذا وأمثاله غير تقليدهم .

قال جوستاف لبون في الكلام على الأوهام ما لفظه: «وإِذا بحثت عن السبب في قوّة الاشتراكية في عصرنا هذا، وجدته ما اشتمل عليه من الخيال الذي لا يزال حيّا في العقول، فهو يتعظّم ويتجسّم مع تزاحم أنوار العلم التي تبرهن على فساده، وذلك لأنّ قوّته آتية من جهل دُعاته بحقائِقِ الأشياء جهلاً كافياً، يُجَرِئُهُمْ على وعد الناس بالسعادة في الحياة».

وقال [في] المقتطف ج 15 عن سبنسر ما لفظه: «يظهر لنا أنّه أميل الكتّاب إلى

ص: 353


1- وقع في كتاب لسبنسر إسمه التوازن الاجتماعي شيء يوهم الميل إلى هذا المذهب، ولكنّه عاد وفسرّ مراده في المناظرة الشهيرة التي أثبتتها جريدة التايمز من 7 إلى 15 نوفمبر سنة 1889، وبيّن فيها أنّه من أبعد الناس عنه . (منه)

القطع باستحالة انتقاض الملكية الشخصية، ولو لم يقطع بذلك صريحاً».

وفي كلّ واحدة من هذه المزايا الثلاث شهادة ناطقة بفضل هذه الشريعة العلمية الوحيدة المعدّة للمستقبل، كما يزعم هذا الرجل، ولها فضائل أخرى جمّة، بودّي لو أمكنتني الفُرْصُ كي أُعَرِّفَكَ بها وأعجبك منها .

2 - تَرَفُّعُ الرؤساء بالشرائِعِ الثيوقراطية عن الشعب:

إن أراد بأنّ في تلك الشرائِعِ ما يُخَوِّلُ الرُّؤَساءَ حَقَّ هذا الترفّعِ، فهذا كَذِبٌ وَافْتِراءٌ؛ وقد علم من له أَدْنى اطِّلاعٍ على هذه /207/ الشريعة المباركة الإسلامية، - ولا شكّ أنّ جميع الشرائِعِ الحَقَّةِ مثلها في ذلك - تأمر بالتواضع، وتنهى عن التكبّر، بل تعدّه من الكبائر، ولو كان يحِقَّ ذلك لأحد لكان لصاحبها صلى الله عليه و آله وسلم وكان هو - بآبائنا وأمّهاتنا - أشدّ الناس تواضعا، يُجالس الفقراء ويُواكلهم ويُحادثهم، وكذلك كانوا رؤساء الدين بعده.

وقد قال أحد أصحاب عليّ عليه السلام «كان فينا كأحدنا»(1)

ولا أراك تحتاج إلى زيادة بيان، فقد كفتك عنها كُتب التواريخ والسير.

وإن كان قد جرى على عادته من أخذ الأديان بذنوب بعض أهلها، فقد عرفت أنّا لا ندعي العصمة في جميعهم، وأنّه لا يلحق نفس الأديان شيء منها، وقد سبق بيانه في إحدى المفاوضات المتقدّمة، ويكفي في مقابلة ذلك ما في كلّ عصر ومصر من علماء شيمتهم التواضع وسيماهم الخشوع .

3 - استئثارهم بالامتيازات وجعل حقوقه معهم قليلة:

وهذا أيضاً إمّا كذب وافتراء، أو تحميل الأديانِ ذُنُوْبَ بَعْضِ الرُّؤَساءِ؛ لاِءَنّا لا نَعْرِفُ في الأحكامِ الإِلآهيَّةِ حُكْماً خاصّاً يُمَيِّزُهُمْ عن الشعب.

ص: 354


1- راجع: شرح نهج البلاغة ج 1/25 و ج 18/225، كشف الغمة ج 1/77 و خصائص الأئمة/71، نقلاً من «ضرار بن ضمرة الضِّبابيّ و صَعْصَعَة بن صُوْحان [الْعَبْدِيّ] و غيرهما».

وقد مَرَّ في الكَلِمةِ الأُولى بيان اشتراك المسلمين في الأحكام. ومن الواضح لدى المطّلع على الشريعة الإسلامية أنّه ليس للعالم والرئيس أن يأخذ درهماً من مال غيره، ولا أن يختصّ /208/ بشيء إلاّ ما يُخَوِّلُهُ القانونُ العامُّ الذي يشترك فيه مع سائر العَوامِّ، وإنّما عليه بيان الأحكام والقضاء والإفتاء ونحوها من الخدمات التي كلّفتهم به الشريعة صيانةً للحقوق العامة، وَجَلْباً لراحة الأمّة، وما هم للدّين إلاّ كالمأمورين للدول، لابدّ للشعب منهم، ولا غِنى له عنهم، فهم يُتْعِبُوْنَ أَنْفُسَهُمْ لراحتهِ، وَيُسْهِرُوْنَ أعينهم لمصلحته.

وإن كان يرجع إلى عادته من أخذ الدين بفعل بعض أتباعه، فيقول: إنّ زيداً العالم فعل كذا وَعَمْرا القَسَّ، أخذ كذا، فقد سبق جوابه .

4 - سطوتهم على عقله وعوطفه بالسلطة الروحية:

إن كانت العقول والعواطف كعقله وعواطفه، فمن أكبر حسنات الدِّيْنِ السطوة عليهما، ولولاها لانتشرت الفوضوية والاشتراكية ونحوهما من المبادئِ المُضِرَّةِ بالهيئة الاجتماعية؛ بل القالعة لأساس المدنية، وَلَعَمَّ الأُمَمَ كافَّةً يومَ لاحَتْ؟ تباشير(1) صباحه من أفق الثورة الفرانسوية.

وإن كانت العقول راجحة والعواطف صحيحة تسعيان بالانسان نحو اختراع الصنائع المفيدة واستكشاف الحقائق العلمية، فحاشا الدين من الضغط عليهما، بل من الدين لهما الحُرِّيّة /209/ التامّة . وقد سبق بيانه في إِحْدى المفاوضات المتقدّمة .

5 - التعاليم الدينية تفصل الإنسان عن هذا العالم حتّى لا يعود يعتدّ به (ص 3)

ويعتبر أنّ وطنه الحقيقي ليس في هذا المكان، فالاهتمام بالحياة لا يفيد ص 29 :

هذا أَحَدُ حِيَلِ هؤلاء في صرف الناس عن الدين، بل أَجْدى حبائلهم في اقتناص عقول المغفلين، وستعرف إِن شاء اللّه في المقالة الآتية أنّ اهتمام الدين

ص: 355


1- التباشير: الأوائل.

بِإِصْلاحِ(1) الدنيا أكثر من اهتمام الملحدين، وأنّ الدنيا في اعتباره أهمّ منها عند هؤلاء.

وقوله عن التعاليم الدينية: «إنّها تَفْصِلُ الإنسان عن هذا العالم»، فهو كَذِبٌ أَوْ مُبالَغَةٌ.

واعتبار الإنسان أنّ وطنه الحقيقي ليس في هذا المكان لا يلزم منه ما استنتج منه، وهو قوله: «فالاهتمام بِالْحَياةِ الدنيا لا يفيد».

وجميع ذلك يتضّح لك بأجلى بيان وأوضح برهان إِن شاء اللّه في المقالة الآتية، كما اتّضح لك فيما مرّبيان الواقع فى قوله: «حتّى صار الإنسان ينظر إلى الإنسان كأنّه عدوه»، فلا أملّك بالتكرار.

ولا أكلّفك إلاّ بأن تقف فكرك على قوله: «وهو بالواقع لا يفصله عنه شيء حتّى ولا الموت».

فما معناه على مذهبه؟؟ ونفس الإنسان عنده عمل كيمياوي، أو عمل من أعمال الدَّماغِ، وقد بطل ذلك وعدم /210/ قطعا، فلا وجود له حتّى يتّصل بهذا العالم أو ينفصل، وسوى عظم ولحم وأعصاب ونحوها مما يتركّب منه جسده فقد انحلّ الجميع ورجع إلى عناصره البسيطة التي تركب كيمياويا، أَوَ بعدَ هذا كلّه يُسمّيه إنسانا حتّى يصحّ دعوى عدم انفصاله عن هذا العالم، وإن تسامح وأطلق عليه لفظ الإنسان؟

فأيّ رجل من أهل الدين، بل وأيّ جاهل من المتوحّشين، ينكر اتصاله بعد الموت بهذا العالم!؟

وهل اشتمل نوع البشر على غبّي يتوهّم أنّ جسد الإنسان يعدم بعد موته أصلاً حتّى يكون موقعاً لقول هذا الفيلسوف وبالواقع؟ ويعدّ قوله حلاًّ جديداً في مسألة نظرية يشكره عليه العلم ؟

أو ليس أهل الدين أولى بهذا الكلام، إن كان لابدّ منه؛ لأنّهم يقولون ببقاء نفسِ

ص: 356


1- الأصل: إصلاح.

الإنسان، ويثبتون لها ارتباطاً مع هذا العالم، تختلف المذاهب في مقداره قوةً وضعفاً، وتثبت من طرق أخبار الآحاد له ضروبا وأقساما .

ثمّ على القول بالمعاد الجسماني، الذي يذهب اليه جُمْهُوْرُ الْمِلِّييِّنَ، تجتمع تلك الأجزاء في البعث وتعود إنسانا، كما كان، غير مكترثة باستبعاد هذا الرجل وأصحابه . /211/

6 - إفراطُهُ في مدح العلوم الطبيعية تذرّعا به إلى ذمّ العلوم الدينية. وَإساءَتُهُ الأدب إليها، بل إلى سائر العلوم أجمع (ص 3 و ص 8 و ص 30) وغيرها :

نقول - بعد الاعتراف بفضل العلوم الطبيعية والحثّ عليها - إِنّ وَلوع هذا الدكتور بها بهذا الحدّ ليس بالأمر النادر الذي يعزّ نظيره، ولا المستغرب الذي لا يعرف وجهه، إذ كلّ من عرف طَرَفا من علم ولم يحط به علماً، وتعلّم ألفاظاً منه ولم يحسن لمعانيه فهما، وكانت معلوماته منحصرة بذلك الفنّ، لا تتجاوزه إلى غيره؛ فإنّه يهيم بذلك العلم هذا الهيام بعينه، ويغالي فيه هذا الغلوّ، ولكن متى أحاط بذلك العلم خُبرا واطّلع على(1) غيره من العلوم، رفض المبالغة والإفراط، ورجع إلى التوسّط الذي هو سويّ الصراط، فأعطى كلّ فنّ حقّه ووضعه موضعه .

فانظر إلى الطفل عند ابتداء اشتغاله بالنحو تجده، ولم يتجاوز النصف من مقدّمة ابن آجُرُّوْم «الأَجُرُّوْمِيّة، كيف يتجاوز الحدّ في حبّ النحو والتهافت عليه، وكيف يُثْني عليه بما لا يُثْني عليه مُؤَسِّسُهُ سِيْبَوَيْهِ . /212/

فكم سمعنا منه لا شيء ألذ من معرفة أحكام المبتدأ والخبر، كما سمعنا صاحبك يقول: «وأيّ شيء أَلذّ، بل أفيد من معرفة تحوّل المادة وقواها فيها» ص 30(2). وكم سمعناه يقول: «إنّ النحو أبو العلوم أجمع» كما يقول هذا الرجل: «فالعلوم الطبيعية

ص: 357


1- الأصل: إلى.
2- فلسفة النشوء والارتقاء/ 30.

هي أمّ العلوم الحقيقية، ويقتضي أن يكون أمّ العلوم البشرية كافة» ص 8،(1)

وسمعنا منه «أنّ النظر في غير النحو لا يفيد»، كما سمعنا هذا الدكتور يقول: «النظر إلى ماوراء الطبيعة إضاعة الوقت فيما لا يجدي»(2)، ص 55 ولكن أكثر الأطفال أكثر أدبا من هذا الشيخ، ولا يبلغ بهم سوء الأدب مبلغه حيث يقول: «ولاستغنى عن تلك الفلسفة النظرية المضلّلة»، إلى قوله: «تلك العلوم التي أشبه [...] بِهَذَيان المُصَدَّعِيْنَ». ص 3(3)

والطفل يرجى فيه زوال هذا الهَوَسِ، مهما تضلّع مِن النحو وتعلَّم غيره من العلوم . وهيهات ذلك في هذا الشيخ .

أتروض عرسك بعد ما هَرَمَتْ *** ومن العناء رياضةُ الهَرمِ(4)

ومثل هذا الغلوّ في إطراء فنّ وذمّ غيره من أقوى دلائل القصور في ذلك الفنّ، ولذلك تجد في كلام نيوتن و غاليلة وغيرهما من أئمّة الاكتشاف والاختراع ما تجده /213/ في كلام هذا الرجل لاحظّ له منها إلاّ الترجمة، ومن أظهر علائمه تكليف الفنّ ما ليس في وسعه، ومطالبته بما يخرج عن نطاق موضوعه.

فالعلماء المنتهون يقدّرون كلّ فنّ قدره، ولا يقتطفون منه إلاّ ثمره، فلا يدخلون الهندسة في تصحيح اللسان، ولا يكلّفون النحو تصحيح القياس والبرهان، ولكنّ المبتدئ في علوم الطبيعية يقول فيها: «وأن تقدّم على كلّ شيء، وأن تدخل في تعلّم(5) كلّ شيء» ص 8،(6) ومن هذا الباب قول هذا الرجل «العلوم الطبيعية هي المِعْوَلُ الوحيد الذي يزعزع أركان تلك العلوم»، والمخلّ الذي يقلب الشرائع (ص 10

ص: 358


1- فلسفة النشوء والارتقاء/ 8.
2- نفس الصفحة في المصدر.
3- نفس الصفحة في المصدر.
4- راجع: مجمع الأمثال ج 2/257، عيون الأخبار ج 2/397، الأمثال /245، البيان و التبيينج 1/117، الحيوان ج 1/33.و في بعض المصادر: «تروض» أو «تلوم».
5- المصدر: التعليم.
6- نفس الصفحة في المصدر.

و ص 14) .

وإلاّ فأين مجرى السيل من مطلع سهيل؟ وأين تلك العلوم من الشرائع حتّى تكون إحداهما معوّلاً لهدم الآخر!؟

وهل هذا إلاّ كقول الطفل إنّ النحو مِعْوَلٌ لهدم علم الحساب ؟!

وظنّي أنّ الذي أوقعه في هذا الخطأ وأمثاله هو أنّه رَأَى في كلامه علماء السوسيولوجيا - علم الاجتماع - تشبيه الاجتماع بالجسم الحيّ توضيحاً لبعض مسائله بالتشبيه والمثال - كما أنّ الأطباء ربّما عكسوا الأمر فشبّهوا البدن /214/ بالمملكة، والطبيعة بالملك، والمرض بالعدوّ الخارج عليه - فظنّ المسكين التشبيه حقيقةً، وبنى عليه المقالة الخامسة من مجموع مقالاته وقال: «إِنّ علم الاجتماع داخل في علم الحياة البيولوجيا» وقال فيها أيضاً: «انتقل البحث في الاجتماع من دائرة الشريعة والسياسة إلى دائرة علم الحياة».

وبودّي لو سمحت لي مقتضيات الأحوال فشرحت لك ماهية هذا المعول، وبنيتُ لك وجوها للفرق بين جسم الحيّ والاجتماع، وأسمعتك كراهة مثل هكسلي وغيره من العلماء لهذا التشبيه.

ولكنّ البحث فيه يخرُجنا عن موضوع الكلام في الأديان إلى التكلّم في السياسة؛ وقد أنبئتك بأنّها مضايق لا أدخل فيها.

والذي يناسب موضوعنا أن نقول: إنّ هذا التشبيه على فرض صحّته يؤيّد أحكام الشريعة الحقّة ولا تنافيها، وهي أقرب إليها من شريعة الاشتراكية التي عاداها سبنسر.

على أنّ هذا التشبيه أساس معتقداته الاجتماعية، وإن شاء فليتحفنا بحكم واحد من أحكام الشريعة الحقة تنافي هذا التشبيه، لنبيّن له المخرج عنه والوجه فيه .

ص: 359

7 - افتتانه بالصنائع الجديدة (ص 61)(1) وغيرها :

ولقد بلغ به هذا الهَوَس كلَّ مبلغ، واستهوته هذا الصنائع أيّ /215/ استهواء وانتهى به العجب بمخترعيها إلى سخف القول وسوء الأدب.

وإنّي على احترامي للصنائع المفيدة واعترافي لمخترعيها بالفضل لا أَرى للرجل أن يكون كالطفل يطير لبّه ويندهش عقله إذا رَأى طيّارا بين السماء والأرض، أو كالفلاح الذي سجد لصاحب البالون الواقع في أرضه، أو الوحشي الأفريقي الذي ركع أمام من حفر في أرضه بئرا ارتوازية؟؟.

وإنّما أُحِبُّ له أن ينظر إليها بعين الاعتبار، ليرى أنّ المخترع لأجلّ الصنائع لم يأت بشيء من نفسه، وإنّما وجد قوى موجودة في الكون ونواميس تجري عليها الأشياء، فصنع منها ما أراد بيد لم يصنعها بنفسه، وَتَوَصَّلَ إلى فَهْمِ تلك النواميس بقوّة فكرٍ لم يوجدها بيده.

وإِنما العجب فيها لمن سنّ على الكون هذه النواميس العظيمة، وأودع فيها هذه القوى الهائلة، ثمّ صنع الإنسان ومنحه عقلاً يدرك بها تلك النواميس، وأعطاه جوارح يستعين بها على استخدام تلك القوى، وأرشده إلى ما يلزم له لنجاح سعيه وإتمام صنعته.

فلمخترع الأسلاك البرقية فضلٌ لا يُجحد، ولكن هل العجب فيها إلاّ من تلك القوّة العظيمة المتحرّكة بهذه الحركات السريعة، والصادر منها النور والحرارة تحت تلك النواميس الثابة.

ثمّ من العقل الذي /216/ اهتدى إلى اكتشافه(2)؛ أو كما يريد أن يسمّيه من الدماغ الذي يعمل مثل هذا الفكر، وإن كان هذا المعنى أجلّ من أن يصاغ على قالب عقله، ويأبى استقلال فكره المسبّب عن علّة صحبته في حداثته، إلاّ أن يدعه كالطفل الذي

ص: 360


1- الأصل: 613 و هو خطأ.
2- الأصل: اكتشافيه.

يتعجّب من دواليب الساعة، ويقول كلّ السرّ فيها كما يقول هذا - «كلّ السرّ في المادّة» ص 318 ج ل(1)

فلا أقلّ من أن يعلم أن لا شيء يضحك عليه أهل الدين، كالمقايسة بين أفعال الخالِقِ والمخلوق، ولا كلام أسمج من أبياته الباردة الفكرية المندرجة في خاتمة «الحقيقة»، ص 360(2)

تلك الأبيات(3) التي تضحك أطفال العرب(4) من ركاكتها، وترتعد فرائص الرجال مِنِ اسْتِماعِها .

وليعلم ثانياً: أنّ أَحدا من أهل الدين لا يقول بأنّ تلك القوى خارقة الطبيعة، ولا يأمر أحدٌ منهم بالاكتفاء بعلوم الدين عن علمها، وما طيران ريط وتكلّم مركوني وإبداع اديصون إلاّ آيات لخالق الكون وجاعل نواميسه، إذاً لا يتوجّه على أحد ما تشدّق(5) به في ص 36 من المقدّمة . /217/

8 - استدلاله باعتراضات الأطفال على المقرّرة من مبادئ الرجال (ص 2)

قال في أثناء كلام له: «فما منّا إلاّ مَن سمع مِن أطفال عند أوّل نطقهم اعتراضات معقولة ضدّ مبادئنا المقررة».

ص: 361


1- نفس الصفحة في فلسفة النشوء والارتقاء.
2- جاء في فلسفة النشوء والارتقاء/ 360: لو كان ربّكم كمركوبي لما *** ضقتم و ضاقت بالغريق نجاة رصد السفينة ثمّ نجّى قومها *** في حين لم تفد النجاة صلاة علم عجائب هديه مشهودة *** لا علم غيب تدعيه هداة...
3- ما كنت أحسب أن لا حدّ للوقاحة وقلّة الحياء إلى أن رأيت هذه الأبيات التي أشرت إليها في المتن، وما مثل صاحبها يلام على شيء، وإِنما يعاتب كُتّاب أهل الأديان وعلماؤها على سكوتهم عن مثلها . (منه)
4- الأصل: العراق.
5- تشدّق في الكلام: أى توسّع في الكلام فى غير احتياط و احتراز.

إن أراد بهؤلاء الأطفال أطفال الكمپاني(1) الذي شكله(2) مورمند باسم شريعة الناتور(3) الطبيعة في بلاد أميركا.

أو غيرهم من المتولّدين على شريعة الطبيعة البولندرية ونحوها من أقسام

الحبّ الحرّ.

فإنّا لا نستبعد ما نقله عنهم؛ لأنّ الفطرة فاسدة فيهم بفساد الأصل، وأهل الدين يسيّؤون بهم الظنّ.

وإِن أراد بهم أطفال المؤمنين، فحاشا أن نسمع منهم ما قال، بل لا نزال نسمع منهم دقائق المعرفة والتنبّه لضروبٍ من الاستدلال على التوحيد، بما يعجب أذكياء الرجال. ولو لا أنّه لا ينبغي للرجال الاستدلال بأقوال الأطفال لأسمعتك /218/ منها مقالات طريفة(4) .

9 - اعتراضاته على مسألة العدل (ص 29 و 49)

ص: 362


1- الأصل: القمبانى (و هكذا فى سائر الموارد).
2- شكّل مورمند في بلاد اميركا كمپانية من المؤمنين بشريعة الطبيعة ومن المؤمنات بها، وأباح لكلّ مؤمن بها التصرّف في كلّ مؤمنة بها، وكانت المرأة إذا سئلت عن زوجها، قالت إنّي زوجة الكمپاني وإذا سأل الطفل عن أبيه قال إنّي ابن الكمپاني . (منه)
3- .Nature
4- لمّا اشتد خوف العالم المتمدن من خرافة مصادمة الأرض معُ مَذنّب هالي سنة 1327 وسرى الخوف من الغرب إلى الشرق، وباتت القلوب وجلة خائفة، زاعمة أنّه أَزِفَتِ الأزفة . نشرت إحدى جرائد عاصمة طهران المحروسة، وأظنّها «ايران نو» أنّ رجلا رأى طفلاً صغيراً يلعب في الشارع ضاحكاً مسروراً، فقال له: أ لم تسمع بمصادمة المُذَنَّب والأرض غداً؟ فقال: سمعت ولم أكترث بها؛ لأني رأيت مهندس السكّة الحديدية التي بين طهران وبلد عبد العظيم لم يغفل من احتمال مصادمة القطارات السارية عليها، فصنع لها مفرقاً (المقص)، فكيف يغفله مهندس هذا الكون العظيم ومجري قطارات الكواكب فيه . (منه)

وعلى مسألة المعاد ص 50(1) ناظرناه على أنّه ملحد يَرى الكون نتيجة الاضطرار، فأثبتنا أنّه فعل الصانع المختار.

وكافر بالشرائِعِ طاعن عليها جميعاً، فدافعنا عن المشترك بينها، ودفعنا ما أورد عليها من الشبهات.

ولم نناظره على أنّه متكلّم يعجز فهمه عن معنى الاختيار في أفعال العباد، ولا على أنّه حكيم متردّد في مراد الشرائع من المعاد ولا ... ولا ... من المسائل التي تختلف فيها أنظار العلماء ولا تتفق على شيء /219/ منها آراء جميع الملل.

ونحن لا نزيد في الجواب عن هذا ونظائِرِهِ الواقعة في كلامه.

على قولنا: إنّ موضع المناظرة معه الإثبات في مقابلة الجحود والدين في الجُمْلة، حيال اللا دين المحض.

فإن نجع فيه الدواءَ وأَبَلَّهُ من الداء فهو مؤمن لا معطّل، وحينئذ ناظرناه في أيّ مسألة شاء، ممّا يختلف فيها أنظار أهل الأديان وأَبَنّا له الحقّ فيها بواضح البرهان.

وإلاّ فمن العبث المناظرة في عدل الباري، وسائر صفاته، مع من ينكر مقدّس ذاته، ومن إضاعة الوقت الكلام في ضروريّ الأديان، مع من ينكرها ولا يرى التديّن بأيّ دين كان .

ولا أقول هذا وايْم الحقِّ - لصعوبة الجواب عمّا لفقّه، ولا للفَرَق ممّا اختلقه، كيف؟ وقد علم من له أدنى مشاركة في العلوم، وأقلّ اطّلاع على كتب، أهل الدين: أنّ جميع ما أورده من الشبهات وأضعافها ممّا يقصر عن فهمها فكره، مذكور في كتب الأصول بأجوبتها، وهي موردة فيها باللسان العلمّي، وعلى ما تقتضيه القواعد العلمية، لا كما يُورده هذا بالصبغة العامّية!؟

أ ترى أيّها المطّلع شبهته في المعاد سِوى الشبهة المعروفة بالآكل والمأكول؟

ص: 363


1- نفس الصفحة في فلسفة النشوء والارتقاء: «فمن أين تجمع أجزاء كلّ فرد...».

إلاّ أنّه أفرغها في قالب استبعاد عامّي بألفاظ باردة، كقوله: «حتّى إنّ ذرة الكربون التي قامت بتكوين جزء من /220/ رئة أبينا آدم عليه السلام ».

ولا أدري، متى بَدا له - قامت أيضاً بتكوين ملايِيْنَ ملايِيْنَ من الرئات.

وهل شبهته في العدل سوى أخسّ شبهات المجبّرة، لكنّه أوردها بعد ما سَلَبَها حُلِيَّ أَلْفاظِها فَأَوْرَدَهَا عَوْراءَ عارِيَةً .

ولكن شريعة العلم تأبى لنا أَن نخرج من محلّ المناظرة، ونُمكّن من نفائس أعلاق الدين الفئة الكافرة، ونتكلّم فيما تختلف فيه الأنظار، فيقع النزاع بيننا معاشر أهل الأديان، وتتمّ علينا حيلة المعطّلين، كما كادت تتمّ قبل اليوم ببضع سنين، وذلك لمّا كتب مقالة «القرآن والعمران» وانتصر للانجيل تارةً، وتارةً للقرآن وهو كافر بهما معاً، ومبغضٍ لأهليهما جميعاً، ولم يقصد سوى كيد أصحابهما بأن يجعل باسهما بينهما، ويقف متفرّجا عليهما، مستهزءً بهما، ولكن لم يثبت قليلاً حتّى ردّ اللّه كيده في نحره، وعُرِفَ مضمرُ سرّه وخِفيٌّ مكره ..

فقل له: أيّها الدكتور ! «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين»(1) هاتِ ما تستند إِليه في إلحادك وكفرك، لنسمعك الجواب عنه، ودع الكلام في الصفات والأفعال ونحوهما لرؤساء الأديان، يناظر فيها بعضهم بعضاً، ويُفحم فيها فريق فريقا، فقد استرحت أنت ممّا تعب لأجله الكرام، ولست الغرض فيها. فلماذا تنصب نفسك /221/ لسهام النقض والإبرام.

ثمّ إنّ الجواب عن هذه المسائل لا تأتي إلاّ مبتنية على مقدّمات ثابتة في العلوم العالية، ولا تناله إلاّ أفهام مدرّبة على البراهن العقلية.

ص: 364


1- راجع: مشكاة الأنوار /319، الصراط المستقيم ج 1/114، شرح نهج البلاغة ج 15/45، بحارالأنوار ج 19/346، المسند لأحمد ج 2/115، السنن للدارمي /330، الصحيح للبخارى ج 7/103، الصحيح للمسلم ج 8/227، السنن لابن ماجة ج 2/1318 نقلاً عن النبي (ص).

فهب أنّي أوردت الأجوبة عن تلك الشبهات، فهل لي منه سوى كلام سوقي يتبلّد فهمه في عَمَلِيَّةٍ دقيقة، ويقصر علمه عن معضلة علمية، وهو قوله ص 49: «ولا عبرة بما يتوكؤون عليه من البراهين المملّة والحجج العريضة الذي يضيّع أولها في آخرها لإثبات ما يقولون، فإنّه كلّه اجتهادي» .

10 - الإفراط في ذمّ القديم والغُلُوُّ في مدح الحديث (ص 47 وغيرها) :

ما فرغ العلماء من ردّ أناس زعموا أنّ الفضل منحصر في القديم، وأنّ الأوائل ماتركوا شيئا للأواخر، حتّى نجم هذا الشيخ وَأَصْبِيَةٌ معه يذهبون إلى الضدّ من ذلك القول، ويتهكّمون بعلوم الأوائل، حتّى قال: هذا عنهم: «كان معظم علمهم جهلاً، وجلّ أفكارهم وهما».

ولو أنّ هذا القول صدر - ومحال أن يصدر - من علماء الاختراع والاكتشاف لكان أهون مصيبة على العلم، وأخف وطأةً على القلب، ولكنّه كلام من لاحظّ له من العلوم الحديثة سوى التقليد، كما يعترف به ويقنع نفسه في الفضل على مقلّدة الأقدمين بالفرق بين /222/ المنتقل والواقف(1) الحقيقة ص 275.

والحازم النصير لا يَرْضى بأن يبخس حقّ أحد الفريقين، ولا أن تلهيه عن طلب الفضل المفاضلة بين الطائفتين، بل يعترف للأوائل بفضل الاختراع وللأواخر بحسن الاِتْباع.

ويعلم أَنَّ لِكُلٍّ منهما خَطَأً وَصَوابا(2)، وحقائق وأوهاما(3)؛ ثمّ يجعل الحقيقة ضالّته(4) التي ينشدها ويأخذ بها أينما وجدها

وما الحقيقة إلاّ بنت البرهان ولا تختصّ بعصر وزمان، وهذا مما أسهب في بيانه

ص: 365


1- المصدر: «لا فرق بيننا الاّ فرق المنتقل عن الواقف».
2- الأصل: صواب.
3- الأصل: أوهام.
4- قارن: الكافي ج 8/167: «الحكمة ضالّة المؤمن».

المنصفون من الكتاب، وبيّنته أنا في غير هذا الكتاب . ولو لا الخروج عن موضوع الكتاب لقلت لهذا الدكتور .

هَلُمّ خَبِيّ وَدَعِيْ تَعْدِيْدَكِ *** لِيَغْلِبَنَّ خَلِقَيْ جَدِيْدَكِ(1)

ثمّ بيّنتُ له أن لا حديث إلاّ من أصل قديم، وأوضحتُ له صحّة(2) المثلَ: «ليس تحت الشمس شيءٌ جديد» .

ص: 366


1- راجع: مجمع الأمثال ج 2/155: «أنّ رجلا شاخ، و له امرأة شابة، و كانت تتثاقل عن خدمته فقال: هلم حبّي... يعني كري شبابك في الباه لحفنى فضل لحافه، يضرب لمن يعطيك فضل زاده و عطائه لا ضعن عنك دينى».
2- ممّن كتب في هذا الموضوع صاحب مجلة الهلال المصرية، وفي المثل مبالغة، أو هو محتاج إلى الشرح . (منه)

فصل آخر فى تتمّة الاعتراضات

اشارة

ثمّ قال المؤمن لصاحبه: هل بَقِيَ شيء مما ينعاه اللادينيون على الدين، فتعرضه عليَّ لأنظر فيه وأجيبك عنه ؟ /223/

(المهتدي - 15) : اللّهم لا، سوى خيالات شِعْرية، وشُبهات سوفسطائية وتهكّمات عامّية، هي أحقر من أن أتكلّف نقلها وأكلّفك دحضها .

الصلة بين الشرع و الخير و العمران

المُؤْمِنُ: وَلكِنَّ عندي سؤالاً، لعلّك سمعت منهم شيئاً في جوابه: هل على مذهبهم قبيح أو شرّ؛ و على فرض وجوده ما الوازع عنه؟ وهل من حسن أو خير، وإن كان فما الذي يدعو الإنسان إِليه ؟

(المهتدي - 16) : هذا السؤال ذكره صاحب الحقيقة في الفصل الرابع(1) منها وأجاب عنه، وهذا لفظه: «قال الروحانيون وعليه فَمَذْهَبُ الْمادِّيِّيْنَ شرّ لا يماثله شرّ، لأنّه يلزم عنه أن لا خير ولا شرّ ولا حرام ولا حلال ولا ... ولا ... وبالجملة يمتنع معه العُمْران.

فرّد عليهم المادّيون: لقد أخطأتُمْ فيما زعمتم، كأنّكم تجهلون طبيعة العُمْران، فالعُمْران ضروريٌّ للبشر، وإلاّ لم تتمّ لهم الحياة، والعُمْرانُ لا يكمل إلاّ بالتعاون على المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه، واكتساب أسبابه، وهذا التعاون لا يكمل أَلبتةَ بما وصفتم، ولا يكمل إِلاّ بالاصطلاح على عادات معلومة تحسن معها

ص: 367


1- لم نعثر على العبارة الآتية في المصدر.

المعاملات، وهذا الاصطلاح لا يكمل إلاّ إذا عرف الإنسان مالَهُ من الحقوق وما عليه /224/ من الواجبات، وهذه المعرفة لا تكمل إلاّ بالعلم، والعلم هو العلمُ الصحيح، وذلك كلّه لا يكمل إلاّ بالحكم الوازع» - إلى أن قال بعد بيان أنّ هذا الحكم هو الشرع المفروض من البشر: «ولا يخفى أنّ الإنسان في العمران إثنان، عاقل وجاهل؛

فالعاقل له بما يطلب من المجد الصحيح، وبما اكتسبه كذلك من العلم الصحيح بأحوال العمران وازع من نفسه، وذلك لما في طبعه وطبع كلّ حيوان من حبّ الذات، فهو يترفّع عن ارتكاب شرّ في حقّ غيره، لئلاّ يعود هذا الشرّ بالوبال عليه.

والجاهل كالعاقل يحبّ ذاته، وإِنما لجهله قد يُخْطِّئُ الوسائط فلم يكن له رادع إلاّ من سيف حاكمه، وكلاهما إن لم يَرْدَعْهُما ذلك كلّه فلا(1) يَرْدَعُهُما سواه، وليجرّب نزع الحكم الوازع من بين البشر، مهما عظم إِيمانهم، فإنّهم يقعون في الفوضى .

المؤمن: أوّل غلط في كلامه قوله نقلاً عن الروحانيين، «وبالجملة يمتنع معه العمران»؛ لأنّ أهل الدين لم يملكهم هَوَسُ العُمْران، كما ملكه، فينحصر الخير والشرّ عندهم فيما ينفعه ويضرّه، بل هناك ضروب من الخير والشرّ والحسن والقبيح وإن تَمَسَّ العُمْرانَ بشيء، بل وإِن لم يكن عمران أصلاً .

ولو فرض انحصار نوع الإنسان في شخصين أحدهما أَصَمَّ أَكْمَهُ /225/ مقعد معتوه، لا يحصل منه التعاون ولا ترجى منه مصلحة متبادلة، ولا ينفع العمران شيئا، لكان من الخير والحسن بحكم الشريفين: الدين والعقل، إحسان الآخر إليه، وتخفيف ويلاته، وأوصابه،(2) ولكان من الشرّ والقبيح الجدّ في إِيذائه وعذابه، وكذلك الزناء - عند من لا يسمّيه الحبّ الحرّ - وغيره من أقسام العهر والفسوق التي هي قبائح في نفسه، وإن لم تضرّ العمران بل وإِن نفعته ببعض معاني هذه الكلمة .

ص: 368


1- الأصل: لا.
2- الأوصاب: الأوجاع، الأمراض.

ثمّ إنّ من الكلام الذي لا أعرف له نظيرا في تباين شطريه واختلاف طرفيه قوله: «ولا يخفى أنّ الإنسان في العُمْرانِ اثْنان»، إلى آخره.

لأنّك إذا سمعت الدكتور يتلفّظ بالمحبوبين: المجد الصحيح، والعلم الصحيح، هززت عطفيك مرحا وتمايلت أَريحيةً وفرحا، وحسبت أنّه يُتحفك بضروب من المجد، غفل عنها الأماجد الكرام، وبفنون من العلم، جهلها الفلاسفة العظام؛ ثمّ لا تلبث حتّى ترى تفسيره للمجد الصحيح بحبّ الذات، الذي لا يختصّ بالإنسان، بل هو موجود في أخسّ أقسام الحيوان، وتسمع تفسيره العلم الصحيح بخوف عود الشرّ بالوبال عليه.

ولا أدرى، ماذا يحلّ بك، إذا رأيت تحوّل هذين الْعِلْقَيْنِ النَّفِيْسَيْنِ اللَّذَيْنِ هما أعزُّ شيء عند الإنسان إلى هذين المعنيين(1) الدَّنِيَّيْنِ، /226/ وكيف تكون إذا تبينّت أنّ أقصى مجد الإنسان العاقل الطالب للمجد الصحيحِ، والمكتسب للعلم الصحيح، أن يكون كالكلب لَدى حانوت الجزّار؟ يحمله حبّ الذات، أو كما يسمّيه الَْمجْد(2) الصحيح، على انتياش اللحم؟ ثمّ يرى الساطور في يد القصاب، فيصدّه الخوف أو كما يسمّيه العلم الصحيح ؟!

السعادة عند ابيقورين و الكلبيين

وعلى منهاج هذا المجد والعلم سارَ(3) إخوانه المادّيون الكلبيون(4) من اليونان أصحاب أبيقور، فقالوا: إنّ السعادة هي اللذائذ النفسية الدُنْيَوِيَّةُ، ولا مانع عنها إلاّ

ص: 369


1- الأصل: المعنين.
2- الأصل: مجد.
3- الأصل: سرى.
4- والسبب في اشتهارهم بهذا اللقب أَنّ أصحاب الموائد كانوا يسمّون هؤلاء الحكماء بالكلاب. ويرمونهم بالعظام طرداً لهم أو أنهم كانوا يحملون كالكلاب على الموائد . (منه)

هذه الأوهام التي قيّد الإنسان بها نفسه، وسمّاها الفضائل كالعِفَّةِ وَالْحَياءِ ونحوهما، والواجب على الإنسان إِزالتُها لتتمّ له السعادة، فكانوا يحملون على موائد الناس أينما وجدوها، حتّى تعذّر على أشراف اليونان عقد مجالس الولائم،(1) إلى أن اهتدوا إلى أنّ هؤلاء الفلاسفة لا يصدّهم عن طلاب المجد الصحيح سوى العلم الصحيح، فأعدّوا لهم على أبواب دورهم أناساً بأيديهم /227/ النِّعالُ الْمُطَرَّقَةُ، وما كانت الفلاسفة لتدع المجد الصحيح بذلك، بل كان يحضرون والنعال تأخذ مآخذها من أقفيتهم، وهناك كانت الفلسفة المادّية تتجلّى بَأَبْهى مظاهرها وتظهر الإنسانية بأكمل مفاخرها، وتقوم الحرب بين المجد والعلم.

والإبيقوريون تارةً يحملون بالمجد الصحيح - على المائدة - حملة الأبطال، وتارةً يفرّون عنها بالعلم الصحيح، إذا أوجعتهم النعالَ ونُتِفَتْ منهم السِّبال .

وطريقة الكلبيين هي الطريقة المادّية المحضة والإلحادية الصرفة، ويلزم كلّ ملحد أن يسير عليها ولا يحيد قيد أنملة عنها؛ إذ لا يتصوّر على اعتقاده حَسَنا ولا قبيحاً و لا حلالاً و لا حراماً و لا وازعاً(2) عما تشتهيه نفسه إلاّ شآبيب الصفع المُنْهِلَّة على القَذِال، وإذا رأيت أحدهم يترفّع عن بعض الأفعال الدَّنِيَّةِ أو ينطق بلفظ العِفَّةِ والحياء وغيرهما من السجايا المرضيّة، فما هو منه إلاّ نفاق ورياء؛ اللّهم إلاّ أن يكون جاهِلاً بمقتضى إلحادِه، أو خالطاً بينه وبين شيء من تعاليم الدين .

***

عدم اتّباع الشهوة يحتاج إلى رادع

بيانه: أنّ حُبّ الذات - اكئست - فطري الإنسان، بل الحيوان، /228/ كما سمعته

ص: 370


1- الولائم: جمع الوليمة، كلّ طعام يتّخذ لجمع أو لدعوة.
2- الأصل: حسن ولا قبيح ولا حلال ولا حرام؛ ولا وازع.

من هذا الرجل؛ والإنسان العاقل - بل وغيره حتّى الحيوان - لا يدع شيئاً من شهوات نفسه وملاذّها من غير وازع عنها.

ولا حاجة إلى أن أطيل لك القول في أنّ طبع الإنسان مجبول على طلب الشهوات وَتَتَبُّعِ المَلاذِّ، وإن توقّف على قتل الغير وتعذيبه، بل ولو على إِفْناءِ نوع البشر أجمع.

وكذلك ربّما تتوقّف مصلحة نفسه ونيل شهوته على الكذب والنميمة ونحوهما ممّا يسمّى عند أهل الدين بالمحرّمات، وتوصف بقبائح الأخلاق، ولا أدري بأسمائها لدى الملحدين .

ولا يتصور رادع عنها إلاّ أمور ثلاثة؛

[1]: دينٌ يحكم بقبحها ويردع عنها.

[2]: أو مكارم أخلاق تردّ جماحَ النفس عن الدنايا.

[3]: أو الرادع المشترك بين الإنسان وأخسّ الحيوان، وهو خوف الضرر العاجل.

[الف]: أَمّا العقل: فإنّما يخضع لسلطانه وينقاد لأَحكامه مَنْ يراه جوهراً سماوياً ورسولاً باطنياً، منحَ اللّه ُ به الإنسانَ وكرّمه به ليعرّفه الخير من الشرّ، ويميّز له بين ما يحبّ وما يكره، لا مَنْ يراه عملاً من أعمال الدماغ.

[ب]: أو كما قال كبانيس:

النفس

النفس والعقل ليسا إلاّ حركات الأعصاب والدماغ، ولا جنون أشدّ من الانقياد للعقل الذي هذا أصله، وتلك قيمته، لا سيّما وهو «نفسه غير حرّ حقيقة، /229/وإنّما يعمل وفقاً لأحكام هي منشأ حركته» ص 55 ج ل (1).

ص: 371


1- نفس الصفحة في المصدر.

وأمّا مكارم الأخلاق: فإنّ معرّب شرح بخنر يذكر في مقدّمة كتابه(1) بعضاً منها، كالعفّة والكرم والشجاعة، ويجعلها ناشئة عن حبّ الذات، وهذا صحيح، ولكن بعد ثبوت حُسنها بالدين أو العقل؛ إذ حبّ الذات الصحيح حينئذٍ يدعو إليها الإنسان، ولكن لا طريق له ولا لأصحابه إلى إثبات حسنها بعد إنكار الدين ودعوى مادّية العقل كما عرفت، فمن العَبَثَ حينئذٍ، بل من الجنون المحض، ترك أدنى الشهوات لأجل العفّة والحياء أو بذل، فَلْسٍ في سبيل الكرم والسخاء، إلى آخره.

فلا وزاع إذاً للإِنسان سوى العلم الصحيح كما يقول، ولا فرق بينه وبين أخسّ الحيوان، وكلّ منهما يسعى وراء شهواته ويطلب ملاذ نفسه، ولا يتوقّف عن شيء إلاّ ما خاف من عود وباله عليه.

وأَنا لا أزيد على هذا لِذِيْ نفس أَبِيَّةٍ وعارفِ بشرف الإنسانية، وأقول لغيره: إنّ ذلك لا يصلح أن يكون وازعاً لجميع الأشخاص، ولا في جميع الأحوال، ولا عن جميع الشرّ، وزاد(2) من الشرور ما لا معنى لعوده بالوبال عليه.

وإن ألجأتني إلى(3) ذكر مثال له فاعذرني إذا كانت فيه غضاضة:

فمن مكّن حيواناً من نفسه، هل يخشى أن يمكنه من نفسه الحيوان؟

أو غصب امرأة /230/نفسها هل يخشى أن تغصبه المرأة نفسه ؟

وماذا يمنع الإنسان من قتل رجل ضعيف صادَفَهُ في ليلة ظلماء، وهو يعلم أنّه لا يراه أحد غير كواكب السماء ؟

وماذا يردع الجبابرة والأقوياء أُوْلِيْ العدّة والعدد من ظلم أناس لا ينتصر لهم أحد ؟

وأمّا ما هدّد به الجاهل من سيف الحاكم: فهو وإن كان ممّا لا يُسْتَغنى عنه في دفع

ص: 372


1- قارن: فلسفة النشوء والارتقاء/ 44.
2- الأصل: راذ.
3- الأصل: الا.

الشرّ، ويلزم لحفظ النظام، ولكنّه لا يُغْنِيْ عن الدِّيْن ولا عن مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، إذ المريد للشرّ والقبيح كثيراً ما يمكنه التَّسَتُّرُ، فلا تَزَعُهُ إلاّ العِفَّةُ والحياء ونحوهما من الصفات، أو خوف من يراه أقرب إليه من حبل الوريد(1) واعتقاد أنّه «ما يَلْفِظُ مِنْ قَولِ إلاّ لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ» .(2)

على أنّه لابدّ لسيف الحاكم من جنود وأعوان، ولا بدّ أن يكون لهم روادع غير خوف الضرر من دين أو مكارم أخلاق تمنعهم من الخيانة والغلول والظلم، وتحثّهم على المعاملة بالصدق وإقامة العدل؛ إذ من الممكن اتفاقهم على ستر فضائح أعمالهم عن سيف الحاكم، فتكثر حينئذٍ المظالم، ويزيد بهم العناء، ويأتي الداء من حيث يرجى الشفاء . /231/

وهذا بحث يحتمل سهب القول ووافي الكلام، ولكن لا أرى أن أُمِلَّكَ بطول البيان في أمرٍ يكفيك فيه الرجوع إلى نافذ فكرك، والمحاكمة إلى حُرِّ وِجْدانك .

فانظر إلى حالتنا الاجتماعية الحاضرة، وما يقع فيها من الفساد، وما يرتكب بعض أفرادها من الشرور الكثيرة لشهوة جزئية، وما يقترف من الكبيرة للذّة حقيرة.

مع أنّ كل فرد منها بحمد اللّه - إلاّ ماشذ - يعتقد بِإِلآهٍ يحبّ الخير ويَجزي به ويبغض الشرّ ويُجازِي عليه، لا يغفل عنه عمر ثانية، ولا تخفى عليه خافية،(3) ويعتقد بدين يحثّه على المعروف، ويزجره عن المنكر، يعدِهُ ويُوعده، ويرغبّه ويُهدّده، ويُعلمه بحياة أخرى يفوزُ فيها بالنعيم الأبدي إن اتّقى وأصلح، وبالشقاء إن ظلم وأفسد.

وزد عليه أنّه يعرف شرف الإنسانية، وفيه بقايا من محامد السجايا حياة من أجداده ونحلة من أسلافه.

ص: 373


1- كما في سورة ق/ 16: «و نحنُ أقربُ اليه من حَبْلِ الوَريدِ».
2- ق/ 18.
3- قارن: الحاقة/ 18: «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ».

فما ظنّك بالاجتماع إذا نزعت من أفراده هذه المبادئ الشريفة، ووضعت لهم تلك التعاليم الإلحادية، فصار أهله لا قدَّر اللّه، لا يدينون إلاّ بقوىً صامتة، ولا يعتقد أحدهم بربّ يُراقبه في خلواته ويخشى عقوبته في حالتي حياته ومماته.

ويرى أن لا كرم ولا سخاء ولا عفّة ولا حياء ولا شيمة ولا إباء ولا ... ولا ...

ويرى هذه الخصال المسمّاة - إلى اليوم - بالمكارم، بقايا أوهام /232/وعادات ورثه إنسان من آبائه المتوحّشين، أو من أجداده البهائم.

ولايعرف للإنسانية قدرا، بل لا يرى الإنسان ظمأ حياته(1) إلاّ كالحيوان حسيّاً ومعنوياً

ولكنه قد طغى وتجبر، وزعم أنّه سيّد المخلوقات وهو الغاية المقصودة بالذات، والتي لأجلها خلق كلّ ما في الكون.

وهو قول لا يقبله العلم اليوم(2)

ولا خصلة محمودة إلاّ حبّ الذات ولا سعادة إلاّ التمتّع بالشهوات.

وما الناس جميعاً إلاّ بنو الأرض، فجميع ما فيها مُشاعٌ لِلْكُلِّ والملكية الشخصية والاختصاص ببعض المنافع، ضرب من الاستبداد.

وما غيّره الإنسان على محارمه إلاّ من البخل والحسد.

وما الشجاع إلاّ ميكروب كميكروب الطاعون

إِلى غير ذلك من تعاليم هذا الدكتور، وتعاليم سائر إخوانه .

نشدتك اللّه َ، إذا عمّت هذا التعاليم ألا ترجع الإنسانية إلى حالة تَبْكِيْ عليها الوحوشُ، وتستعيذ منها السباعُ، ولا يوجد على الأرض نَوْعٌ أشقى من الإنسان معيشةً، ولا أَتْعَسُ منه حظاً.

ص: 374


1- الأصل: ظئم / و الضبط يوافق المصدر (؟؟)
2- إلارجاع اشارة إلى مفهوم الكلام لا صريح ألفاظه.

وبهذه التعاليم يعالج هذا الدكتور جسمَ الاجتماع وهو طبيب الأفراد فيما يزعم، وإن كان بمثله يعالج العليلُ فهو كما قيل :

مُبارَكُ الطَّلْعةِ في طِبّهِ *** لكِنْ على الحَفّارِ والغاسِلِ(1)

ولا أدري، ما الذي وصفه الروحانيون؟ حتّى يكون مراده /233/ من قوله: «فهذا التعاون لا يكمل أَلبتة بما وصفتم».

أ ما وصف الدينُ فضلَ التعاون ورغّب في الكسب، وجعل أحكاماً للمعاملات، أو كمّا يسمّيه الاصطلاح على حالات تحسن بها المعاملات.

وعرّف الإنسانَ ما له وما عليه من الحقوق، وَكَمَّلَها بالعلم الصحيح والحُكْمِ الوازع.

وضَمَّنَ جَميعَ أحكامِه من الدقائق والحِكَمِ ما يَسْتَدْعِي بيان ما وصل إِليه أرقى العقول البشرية إلى اليوم إلى تصنيف كتب مبسوطة.

فماذا الذي فاته ممّا يُحاول هذا الرجل؟

وما ذنبه إِلاّ عدم تخصيصه المجد والعلم الصحيحين بحبّ الذات الذي هو بأكثر معانيه من أخسّ الصفات، وبخوف الضرر الذي يعد للشاءِ والبقر ومَنْ شابَهَهُما طبعاً من البشر .

وأمّا قوله: «وليجرّب نزع الحكم الوازع من بين البشر مهما عظم إيمانهم، فإنّهم يقعون في الفوضِي».

فلا يلزم أهل الدين هذه التجربة، ولا يضرّ بمعتقدهم ما يقوله إن صحّ؛ لأنّهم لم يَدَّعُوا قطّ الاستغناء بمجرّد الدين عن الحكم الوازع.

كيف؟ والدين هو الذي يضع العقوبات ويشرّع أحكام القصاص والحدود والديات، ويعلم بلزوم الحكومات العادلة ويأمر بالانقياد لها، والأولى أَن يكلّف

ص: 375


1- لم نعثر على قائِلِهِ.

إخوانه الفوضويين بإجراء هذه التجربة لما تعلم /234/

نعم : مذهب الروحانيين أنّ الدينَ هو الوازعُ الأكبر والمصلحُ الأعظم، وأنّه إذا نزع من بين البشر يقعون في الفوضى، وينغمسون في المظالم، وينتقض بناء الاجتماع من أصله؛ فإِذا يحقّ لنا الاقتراح عليه والقول بأنّه: فليجرّب نزع الإيمان من بين البشر، فإنّهم يقعون في الفوضى مهما قويت حكوماتهم.

على أنّه لا داعي إلى تكليف الدكتور بتجربة أمر قد جرّبه إخوانه قبل اليوم بما يقرب من قرن، فما أنتج نزعُ الإيمان إلاّ تلك الثورة الفرانسوية بمذابحها الدموية التي بقيت نقطة سوداء في صحيفة تأريخ الأمّة الفرانسوية.

وقد اتّضح بها مفاسد نزع الدين حتّى لدى ملاحدته من أرباب الثورة وغيرهم، واعترفوا بِخَطَئِهِمْ كما عرفتك في إحدى مفاوضاتنا السابقة، وأسمعتك فيها أنموذجاً من اعترافهم به .

إنّ الدين هو الطريق الأقوم لصلاح الإنسان

المُهْتَدِيْ: لا شكّ أن لا شيء أصلح للإِنسان من الدين ولا طريقة أمثل من اتِّباع النَّبِيِيْنَ - صلّى اللّه عليهم أجمعين - ، وأنا أرجو أن أُعَدَّ في صَفَّ أَهْلِ الإيمانِ وأَكُوْن مِمَّنْ نُقِلَ عنهم في مُحْكَمِ القرآن .

/235/«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .(1)

ص: 376


1- [البقرة/ 285].

تمّت المناظرة بحمد اللّه تعالى وبقيت من هذا القسم من الكتاب مقالتان:

إحداهما في بيان حِيَلِ سماسرة الإلحاد ومكايدهم.

والثانية في بيان حقيقة الحياة والفرق بين الأنواع.

نفرد لهما إن شاء اللّه جزءاً آخر يُثَلَّثُ به الْجُزْءانِ من الكتاب /236/

ص: 377

نصيحة تختصّ بأهل الأديان بل تعمّ نوع الإنسان

اشارة

إنّ سيل الإلحاد الجارف قد توجّه من كثير من المدارس العلمانية إلى منيع حِمَى الإيمان، والملاحدة لا يفترون ساعة من بثّ تعاليمهم وصدّهم للناس عن طريق الدين . وقد جعلوا شعارهم ألفاظا تصبّو إليها القلوب، كالعلم والاكتشاف والاختبار، وأوهموا العوامّ أنّ العلوم الحديثة والاكتشافات الجديدة تنافي الحقائِقَ الدينية. وقد لفّقوا شبهات عامّية تناسب عقول العوامّ، ومغالطات تبلغ من أذهان سائر الناس ما لا يبلغه قاطع البرهان والقياس.

والاقتراح الذي اقترحه بخنر وقد مرّ نقله في آخر المقالة الأولى(1) والامتحان الذي أجراه جمع من المعطّلين في بلاد بريطانيا، وإن كانا ممّا يضحك منهما أقلّ أهل العلم ، ولكن أهل العلم قليلون؛ ولكن لا شك أنّ لهذين وأضرابهما من الوقع في الأذهان الساذجة ما ليس لأقوى البراهين العلمية.

ثمّ إنّهم قد اهتدوا /237/ إلى ضروب من الحيل وساعدتهم أسباب، سنعرّفك بشطر منها في المقالة الثالثة .

ولا يبعد - والحال هذه - إلاّ أن يدفع اللّه أن تنتشر هذه التعاليم الفاسدة وتتمكّن من أذهان العوامّ - وهم عموم الناس - حتّى لا يبقى على الإيمان إلاّ أهل العقول السليمة والاِطِّلاع على الحقائِقِ العلمية .

فعلى جميع علماء الأديان، بل على كلّ أمّةٍ تعتقد بمبدأ فوق الطبيعة، ويؤمن بمدبّر

ص: 378


1- وذلك أنّ جماعة منهم اجتمعوا في جنازة زوجة أحدهم، وكتبوا على سريرها كلمة الكفر، وحيث إنّه لم يظهر اللّه سبحانه لهم، ولم يثبت لهم وجوده جزموا بالتعطيل، وكتب أحدهم بهذا الامتحان الطريف إلى إخوانه في الشرق ونشرته أرقى مجلاته . (منه)

لها، أن يتداركوا هذا الخطر الذي يهدّد الأديان، لا الأديان وحدها، بل المدنية والإنسانية، وأن يكونوا يداً واحدةً على هؤلاء، وإن اختلفوا فيما بينهم من المسائل الدينية .

وأحسن الوسائل التي تتّخذ لمنع انتشار هذا الداء الدخيل أن تميّز الحقائِق الثابتة الدينية عن الملحق والدخيل، ويفرّق بين الأمور الجوهرية والعَرَضِيّةِ، وتميّز اليقينية عن الظنيّة، ثمّ يبيّن لعامّة الناس عدم مخالفة حقائقها الراهنة لشيء من المكتشفات العلمية .

قد يذكر الشيء بالشيء و «الحديث شجون»(1)/238/

إنّي - وَايْم الحقّ - أُطِيْلُ التَّعَجُّبَ من الأمم الغربية وتمسّكها بالنصرانية، كيف غفلت عن وخامة أمر هؤلاء!؟ فتركتهم في بلادها لا يَفْزَعُ قَطاهُمْ، ولا يُنْدَهُ سَرْبُهُمْ، وهم يكفرون جهاراً بربّها، ويكذّبون نبيّها، وَيَسْتَهْزِئُوْنَ بِتَوْارتِها وانجيلها، ويندّدون بطقوسها وشرائعها، ثمّ انكفأت على المسلمين تَلْقِمُهُمْ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ، وتُذيقهم أَشدَّ العذاب على غير ذنب منهم، سوى الإيمان باللّه تعالى وبجميع أنبيائه ورسله وكتبه والاعتراف بسمّو قدر المسيح وعصمته، واعتقادهم بأنّه روح اللّه وكلمته، وأنه فرض على كافّة الأنام مودّته وإطاعته .

أمن الدين أن يَبْقى في بلادهم أَلُدّ خُصَمائِهِمْ وأشدُّ أَعْدائِهِم مُخَلّى السَّرْبِ مُمَتَّعا بالحقوق العامّة، ويضطرّ إلى المهاجرة عن شبه جزيرة البلقان أناس يقولون : «آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(2) ويرتّلون من كريم كتابهم ، «قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ /239/وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى

ص: 379


1- راجع: أمثال العرب/ 25: «انّ الحديث لذو شجون».
2- العنكبوت/ 46.

وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .(1)

سبحان اللّه! إني أكتب هذه الأسطر، وشركة الأخبار البرقية تنبّئنا كلّ يوم بالمظالم التي تقع في البلقان(2) باسم الدين، وبالاضطهاد الذي يقع على المسلمين . تلك المظالم التي تبقى مدى الدهر عاراً على النوع الإنساني، والاضطهاد الذي أنسى التأريخ ديوان التفتيش الإسباني .

***

فيا أيّها القسّ الحاكم بأنّ كلّ نسمة بلقانية مديونة للكنيسة، بكيت وذيت.

إني لا أناظرك الآن على أصول ديانتك، ولا أقول: إنّ النصرانية الحقيقية بل وعامّة الشرائِعِ بريئة من مقالتك، بل أدع ذلك لغيري من الكُتّابِ أو لنفسي، ولكن في غير هذا الكتاب، ولكن أقول: أما علمت، يا صاحب العُكّازة والطيلسان، أنّ وَراءَكَ كافراً يأخذ هذه الفظائِعَ حُجَّةً على ذَمِّ جميعِ الأديانِ، ويقول : «وإذا نظرنا إلى التأريخ رأينا على صفحاته من الدم سطوراً لو جمعت لكانت بُحوراً، وما سببها إِلاّ العداوات /240/التي آثارتها الديانات» ص 52 ج ل .

ونحن لم نفرغ بعدُ من جواب قوله: «والنصرانية التي تفتخر بتعاليمها الأدبية، لا تقدر ألاّ أَن تحمر خجلاً مما آثارته من الفتن في القرون الوسطى» ص 53 .

فكيف رضيتَ أن نقرن مظالم القرون الوُسْطى بمظالم الْقَرْنِ(3) العشرين، وتشمّت بنا وبك أعداءُنا من الملحدين، ناشدتك الإنصاف! هل ترى مقالتك هذه خدمة للنصرانية وإحساناً إليها؟ أم تَراها خدمة للإلحاد وإساءة إلى النصرانية!؟

أراك لم تُرضك المساجد، وفيها ترتفع الأصوات بمجد السيّد المسيح والصلاة

ص: 380


1- آل عمران/ 84.
2- البلقان
3- الأصل: قرن.

عليه والاعتراف بطهارته وعصمته، فجعلتَ وُكْدَكَ تخريبَها وإِعادتها كنائس، فَهَلاّ عطفت نحو عِلْمانِيّةِ المدارس التي تعلّم فيها الكفر والجحود، ويصرّح فيها من القول في المسيح صلى الله عليه و آله وسلم بما يستغيذ منه أَعْداؤُهُ إليهود .

أ ما أنّك إن أعدتها كنائس، وأزحت عنها القرآن وَمِلْؤُهُ تصديق المسيح ووصفه بأنّه روح اللّه وكلمته، ونهيت عن تعليم شرائِعِ الإسلام فيها، فوشيكاً تعود مدارس علمانية مكتوبة على أبوابها ما كتبه الجالية الطليانية في /241/ الإسكندرية على أحد معاهدها العلمية يوم تذكار محرّرها غرببلدي: «العلم والأدب لا يدركان إلاّ بزوال العقائِدِ والأديان».

وسوف يُتلى فيها بدل القرآن كتاب حياة المسيح للكافر رنان، وتعلّم فيها الفلسفة التي أسّس بنيانها على آخر كلمة قالها ديدرو : «الكفر أولّ خطوة نحو الفلسفة»

والثورة الإلحادية، لم يبعد بعد عَهْدُها ولاطال أَمَدُها، فقد علمتَ ما لاقت الكثلكة والكنائس منها وما وراءها إلاّ أن يدفع اللّه أشدّ وأعظم؛ واللّه أعلم .

ولقد علم المطّلعون أنّه لولا المطامع السياسية والعصبية السلافية لم تسمع لك في أقطارها كلمة، ولا أُرِيْقَ بقولك من الدم مِلءُ مِحْجَمة، ولا شكّ أنّ السياسة سخّرتك لمطامعها، ووسمتك بطابعها.

فهلاّ تركتَ هذه المظالم للسياسة العوجاء لترزح وحدها تحت عارها ويبقى الدينُ مُنزَّهاً عَنْ وَصْمِها !

رجع: وإنّي قد قمتُ، أو حاولتُ القيام بهذا الفرض، وبذلتُ جهدي، فخدمتُ الجليلين - الدين والإنسانية - بهذه الخدمة الحقيرة، مع تنّايء البلد وقلّة العدّة والعدد؛ لم يحضرني من العُدّة اللازمة لهذا المشروع سوى مجلّدات معدودة من المجلاّت العلمية، وَكُتُبٍ لا يبلغ عددها عشرة؛ اللّهم /242/ إلاّ بقايا في محفظة

ص: 381

الذاكرة لم تمدّ إليها الحوادث يدا، ولا رفعت نحوها طَرْفا، ولا أقول هذا اتّباعا للعادة المتداولة بين المصنّفين، بل أقوله استنهاضا للهمم وحثّاً لأرباب الاطلاع من أهل الدين، على إِنشاء مثل هذا المشروع، أو إِعانَتِيْ بالمقالات العلمية والكتب النافعة لأعيد طبع هذا الكتاب وأضيف إِليه ما فاتني في الطبعة الأولى.

وإنّي أحثّ من طلب الحقّ من المعطّلين، ومن داخله الشكّ في أمر الإثبات على تكرار النظر في المناظرة التي بنيت عليها المقالة الأولى من الجزء الثاني، فإنّها فيما أرى هي المصل(1) الشافي والواقي من داء الإلحاد.

وليخابرنا بما يخطر في ذهنه من الفرق بين المصنوعات الإلهية والميكانيكيات البشرية، أو من الاعتراض على شيء من الأجوبة المذكورة فيها، وليكن عنوان المخابرة :

القطر العراقي، كربلا، محلّة العباسية، أبو المجد محمد الرضا الإصبهاني النجفي ./243/

تكملة في إِخبارات علمية ضدّ فلسفة داروين

اطّلعتُ على خطبة للشهير ورخوف أشهر علماء الجرمان، أثبتتها جَمْعِيَّةُ فكتوريا الفلسفية، وفيها شواهد على ما ذكرناه في بحث أصل الإنسان، ولمّا كان اطِّلاعي عليها بعد ما تجاوز الطبع ذلك البحث أثبت طرفاً منها آخر الكتاب، فليطالعها القرّاء وبالأخصّ لصحيفة 39 و 86 و 94 ج ل .

و ورخوف كما اعترف به أحد أَتباع فلسفة النشوءِ من أكبر علماء العصر ومن أعظم المقاومين لمذهب دارون و أنصاره، و قد قام لهم بالمرصاد منذ سنين كثيرة، يعارضهم ويخطّئهم لا بالكلام الفارغ والسفسطات، بل بالبحث والتنقيب في الأمور

ص: 382


1- المصل: إسم يطلق على أنواع من الأدوية السائلة يستعمل للحقن في الجسم.

التي يبحثون فيها.

فإِذا قاس أَنصار دارون خمسين جمجمة واستدلّوا بقياسها على أمر من الأمور، قاس هو مأة جمجمة ليرى ما إذا كانوا مخطئين أو مصيبين.

وإِذا استدلوا بتشريح المقابلة أو بمباحث الفيسولوجيا أو البيولوجيا أو الأنثروبولوجيا أو الأركيولوجيا، نظر في استدلالهم بعين النافذ البصر؛ لأنّه من أكبر الثقات في هذه العلوم وأمثالها .

قال ورخوف: لمّا اجتمعنا في أَنسبرك منذ عشرين سنة، حيثما نشرت أَعْلام النصر لمذهب دارون أوّل مرةً، انضمّ صديقي كارل فرغت إلى أَنصار دارون، فَقَوِيَ /20/ به أَمْرُهُمْ، وظنّ البعض أنّ مذهب دارون سيفوز فوزاً مبيناً، وأنّه سيثبت ارتقاء الإنسان من القرود أو نحوها من العجماوات بالدليل القاطع، وتحدّث الناس بهذا الموضوع بين مُثْبِتٍ ونافٍ وَمُصَدِّق ومُكَذِّبِ، حتّى صار شغلاً شاغلاً لِلْجَمِيْعِ، وحسبوه الغرض الأعظم من علم الأنثربولوجيا، إلاّ أنّ العلم الطبيعي لا يقرّ على أمر ما لم يثبت بالدليل» .

وهو ينظر في الآراء والفروض ويبحث، ولكنّه لا يحسب لها أهميّة ما لم تقم الأدلّة على صحّتها، إما بالامتحان أو بالمشاهدة.

أمّا مذهب دارون فلم يثبت حتّى الآن بالامتحان ولا بالمشاهدة، إذا نظرنا اليه من وجهة الأنثربولوجيين، وقد فتشّ أنصاره عن الحلقات التي تربط الإنسان بالعجماوات فلم يجدوا واحدة منها، ولا وجدوا الحيوان المتوسّط بين الإنسان وبينها.

ولذلك فهذا الحيوان المتوسّط شيء وهميٌّ عند علماء الأنثربولوجيا، لا يبنى عليه حكم من أحكامهم، لأنّه ليس موجودا، وقد يراه الإنسان في الوهم أو في الحلم، ثمّ يقف فلا يرى شيئا، لأنّنا عائشون الآن في عالم الحقيقة لا في عالم الخيال . وكانت

ص: 383

معرفتنا بجماجم المتوحّشين منذ عشرين سنة قاصرة جدا، ومزاعمنا كبيرة.

أمّا الآن فلم يبق شعبٌ من شعوب الأرض إلاّ وعلمت أحواله الطبيعية والاجتماعية، ما عدا شبه جزيرة ملقا، فإِنّ أحوال شعوبها لم تعرف تماماً حتّى الآن، والمظنون أنّهم أوطأ شعوب الأرض.

وأمّا غيرهم من الشعوب كالبتاغونيين والإسكويمو والبشمن والقداوا أهالي لبلندا واستراليا وبولونيزيا وملانازيا فقد عرفوا، وبعضهم عرف أكثر من بعض الأوربيين فإننا نعرف من أمور أهالي بولونيزيا مثلاً أكثر مما نعرف من أمور بعض قبائل الأرناؤُوْط.

وقد بحثنا البحث المدقّق في بنية هؤلاء الشعوب، وقسنا كلّ عظم من عظام أجسامهم، فلم نربينّهم شخصاً واحداً يمكننا الحكم بأنّه أقرب إلى القرد منه إلى أهالي أوربا، أو بأنّه ليس من نوع الإنسان !؟

ولا ينكر ان في بعض طوائف الناس صفات يشاركهم القرد فيها، كما في بروز الفكّ وفطس الأنف ممّا يجعل العلاقة قريبة بين تلك الطوائف والقرود، حتّى يحتمل ارتقاؤها من القرود، ولكن بين الاحتمال والقطع بوناً شاسعاً؛ لأنّ الصفات المشار إليها لا تقوم نوع القرد، بل المقوّم له خواص أخرى . وكلّ قدّة من جلده كافية لتمييز نوعه عن غيره من الأنواع.

ولا أظنّ أنّ واحدا من المشرّحين المشهورين يرتاب في ذلك، /22/

والفرق بين الإنسان والقرد واضح جدا، حتّى إِنّ كلّ قطعة من الواحد كافية ليستدلّ منها على النوع المقطوعة منه، ولذلك فالأدلّة عَلى النشوءِ الفعلي قاصرة جدّا، لا يُبْنى عليها حكم، ولابدّ من أن يزيد البحث والتنقيب للوقوف على أدلّة أخرى قوية.

ولا أُخْفِي عليكم أنّ كل آثار الناس التي وجدناها في الكهوف والقُبور القديمة

ص: 384

تدلّ على أَن أصحابها كانوا إخوة لنا لا يُستحى بهم .

وقد تفحّصتُ كلّ الجماجم التي وجدتْ في بُحَيْراتِ سويسرا فوجدتُ أنّها من قبائِلَ مُخْتَلِفَةِ، تلا بعضها بعضا على ما أظنّ، ولكن ما منهم من يمكن فصله عن أبناء(1) هذا الزمان .

ولا نستطيع الآن أن نحكم بحسب المعارف الطبيعية ما إذا كانت شعوب الناس وجدت كلّها مِنْ أَبٍ واحِدٍ أو من آباء كثيرين فعلى كلّ إِنسان أَن يحكم لنفسه بما يشاء .

فإذا نظر واحد إلى هذه الْمَسْأَلَةِ من وجه ديني وقال: إِن الناس كلّهم من أب واحدٍ وأمٍّ واحدة، بناء على ما تعلّمه إِيّاهُ الكُتُبُ الدينيةُ، فليس لنا ما نعترض به عليه لأنّه من الممكن أَن يكون الناس قد تناسلوا من أب واحدٍ وأمّ واحدة، ثمّ تغيّرت عليهم الأحوال فحدث ما نراه الآن فيهم من الاختلاف. انتهى /23/

فلينظر المُنْصِفُ اللَّبِيْبُ إلى هذا البعد الشاسع الذي بين كلام الفيلسوف المنصف، وبين ما مَلاَءَ به بخنر كتابه من الإغراقات والمجازفات، وَكَفى به اخْتِباراً لهذه الاختبارات التي يتداولون نقلها وَيُهَدِّدُوْنَ الدِّيْنَ بِها .

تنبيه

سبق في صحيفة 161(2) إمكان التولّد الذاتي، والمراد منه هو الإبداع في الخلق أي وجود الحيّ من غير أن يتولّد من حيّ آخر، لا ما يضيف إِليه أهل هذا القول من دعوى كون الحياة قوّة طبيعية محضة، وسنوضح حقيقة الحياة في الجزء الثالث من هذا الكتاب إِنْ شاءَ اللّه ْ تَعالى . /24/

ص: 385


1- الأصل: أنباء.
2- الأصل: 201 ج 1

ص: 386

الفهارس

اشارة

الفهرس التفصيلي

الآيات

الأحاديث

الأشعار

الأعلام و الفرق

الكتب و الرسائل والمقالات

الأماكن

بعض مصادر التحقيق

ص: 387

ص: 388

الفهرس التفصيلي

القسم الأوّل··· 3

مقدّمة··· 3

كلمة نجلب إليها أنظار عموم القرّاء··· 3

كلمة خاصّة بالمؤمنين أعلى اللّه كلمتهم··· 4

تبيين موقف الكتاب ضدّ اللادين المحض··· 5

كلمة إلى المعطّلين وغيرهم من أهل هذه الآراء··· 6

نشر آراء دارون و المنحرفين··· 6

الصلة بين فلسفة النشوء و الارتقاء، و الإلحاد و غيره··· 9

المقالة الأولى في بيان الشبهات في الأدوار الثلاثة في الإسلام··· 11

الدور الأوّل··· 11

عصر البعثة··· 11

الدور الثاني··· 13

عصر العباسيين··· 13

الدور الثالث··· 14

عصر المخالطة بالغربيين··· 14

حثّ المسلمين على الاكتفاء الذاتي··· 15

تنبيه المسلمين بما سيفقدون··· 16

انتقال علوم اليونانيين بعد زوال عزّهم··· 17

حثّ المسلمين على التفكير··· 18

الإمعان في فلسفة النشوء و الارتقاء من جهتين··· 20

النظر إلى هذه الفلسفة من الجهة الدينية··· 21

إنّ هذه الفلسفة لا تنفي وجود الصانع رغم إشكالاتها··· 21

ص: 389

إنّ تابعي دارون يسوق كلامهم إلى الإلحاد··· 23

اعتراف علماء فلسفة النشوء بالصانع تعالى··· 24

لامرك··· 24

ولس و سبقه على دارون في نظرية النشوء··· 25

نظرية النشوء لا تخالف وجود المدبّر الحكيم··· 26

هكسلي··· 27

سبنسر و عدم انكاره التوحيد··· 29

دارون··· 31

الصلة بين الدين و العلم··· 32

ليس من مصلحة العلم أن يقف في طريق الدين دون العكس··· 33

إنّ الدين لا يزول و لا يتبدّل··· 35

إنّ العلم لا يتقدّم على الدين أبدا··· 36

اليقينيات لا تخالف الدينيات··· 37

الظنّيات··· 37

إنّ الدّين لا يحكم بإبطال العِلِّية··· 38

فصلٌ في أنّ الإنسان مستقلّ في الخلق عن سائر الأنواع··· 42

المقالة الثانية في أنّ القبائل المتوحشّة يعترفون بأنّ أصل الإنسان من حيوان خاصّ··· 45

الطوتمية··· 45

بيان ما قاله دارون في ما نشأ منه الإنسان··· 47

أدلّه فلسفة النشوء و التحوّل··· 48

الدليل الأول: في نواميس التغيير··· 48

الإجابة··· 49

الدليل الثاني: فيما شابهه الإنسان و غيره··· 50

الإجابة··· 51

القرد و صفته··· 52

يمكن أن يتحوّل الإنسان إلى القرد دون العكس··· 53

ص: 390

كِلانا عالِمٌ بالتُرّهاتِ··· 54

إنّ تباين الأنواع يدلّ على اختلاف أصل الأنواع··· 54

الدليل الثالث: في اتحاد نشوء الموجودات··· 55

الإجابة··· 57

نماذج من التزويرات··· 57

إكمال في الإجابة··· 60

إنّ العلوم العصرية لا تحكم بأنّ بعض الأعضاء أثرية جزما··· 63

شبهة في المقام··· 66

الإجابة··· 66

إيضاح المقام بطريق آخر··· 67

الردّ لمن قال إنّ الإنسان خنثوى الأصل··· 68

الردّ على من يدّعى أنّ الرجال اشتغلوا بإرضاع الأطفال في زمن··· 69

الردّ لمن قال إنّ أوّل مخلوق اتصف بالمنظر الإنساني كان أنثى··· 69

إنّ الاستدلال بوجود الأعضاء الأثرية يقضى وجود الصانع الحكيم··· 70

أتباع دارون والوجوه التي ذكروها على التحوّل··· 71

الشواذ من الإنسان··· 77

تحليل ما اكتشف في جاوه··· 81

النقد على من يدّعي أنّ ابن جاوى هو الحلقة المفقودة··· 82

إنّ المنقولات الواردة حول الحلقة المفقودة ليست بِمُسَلَّمَةٍ خبرا··· 88

أكذوبة خبر بعض الاكتشافات··· 88

عدّة تزويرات أروبية··· 90

تزوير في تاج الملك··· 90

تزوير في المحجّرات··· 90

تزوير في الخزفيات الموابية··· 91

ملك سدانج وزيارته باريس··· 93

ما قال موانس في الارتقاء و سعيه في كشف الواسطة··· 95

الردّ على موانس··· 96

ص: 391

إنّ العلم التجربي لا يصل إلاّ بما جاء في الدين··· 97

فصل في الردّ على مَنْ يزعم أنَّ لِلاْءِنْسانِ وَالْقِرْدِ جَدّا واحدا··· 98

المقالة الثالثة في مباديء نظرية دارون··· 101

الأصول الاْءَرْبَعَةُ على وفْقِ نظرية النُّشُوْءِ و الارتقاء··· 101

انكار البديهيات الثلاث عند موافقى دارون··· 102

1: تنازع البقاء··· 103

النقد··· 104

نظرة أخرى إلى تنازع البقاء وبحث آخر فيه··· 107

إنّ تنازع البقاء لا يوجب الارتقاء··· 108

إنّ تنازع البقاء لا يوجب فقدان الصور المتوسطة··· 109

2: القول في تكوّن التباينات··· 110

النقد··· 111

3: الوراثة··· 114

النقد··· 115

4: الانتخاب الطبيعي··· 118

حقّ المقال في المقام··· 119

إلزام دارون و تابعيه··· 121

الانتخاب الجنسي··· 123

فصل في الردّ على الانتخاب الطبيعي··· 130

مذهب لامرك··· 130

مذهب التحوّل و الارتقاء عبر القرون··· 137

إنّ الإنتخاب الطبيعي لا يؤدّي إلى الارتقاء دائما··· 140

إنّ افتقاد الأجزاء ينافي مقالة من يجزم بالارتقاء··· 143

إنّ الأعضاء الأثرية لا يفيد التحوّل العامّ و لا يناقض اللاهوت··· 145

إنّ الأعضاء الأثرية تُنافِي أصل الغاية··· 148

لا دليل على إرجاع الأحياء إلى أصل واحد··· 149

ص: 392

تتميم فى الصلة بين القدرة الإلآهيّةِ و الأسباب الطبيعية··· 151

انّ الدين لا ينكر الأسباب الخارجيّة، و السببيّة··· 152

انّ اعتبار الأصل الواحد للأحياء لا ينافي التوحيد··· 156

المنافسة العلمية بين المادّيين و باستور في عدم استغناء الطبيعة عن الواجب··· 157

إنّ التوالد الذاتي لا يوجب القول بالتعطيل··· 159

نظرية التولّد الذاتي موجودة في العصور القديمة··· 161

الحكم القاطع بما جاء في شرح بخنر··· 163

تكملة في الإجابة عن بعض الشكوك··· 163

إنّ عمر الأرض ينافي مذهب الارتقاء··· 163

تغيير في التحوّل الفجائي··· 165

إنّ نظرية الانتخاب ينافي اتّحاد أصل الأنواع من وجه··· 166

تفريع في مبدأ اللغات و موقف مذهب الارتقاء فيه··· 167

بيان ما أفاده الجيولوجيا و البالنتولوجيا في التكوين··· 170

الحكومة في المقام··· 171

فصل في المراد من الارتقاء··· 177

تحقيق في معنى الكمال و الارتقاء··· 177

نقد مقالة سنبسر فى معنى الارتقاء··· 177

قراءة أخرى منه في معنى الارتقاء··· 183

خاتمة في الدفاع عن شرف الإنسان··· 187

إنّ الحيوان لا يعمل بمجرّد الغريزة··· 188

الفرق بين الحيوان و الإنسان··· 189

القسم الثاني··· 195

المقالة الأولى في إثبات الواجب··· 197

إثبات الصانع··· 198

مقدّمات البرهان··· 199

القضايا الأولية··· 199

ص: 393

تميز الأوّليات··· 200

اعتبار الغاية في الصنع··· 201

مناظرة المؤمن والمعطلّ··· 202

اعتبار القدرة الإلهية في الكون··· 203

إنّ وجود مدبّر الكون من البديهيات عند أصحاب الأديان··· 204

معنى الدين و الحرية··· 205

فصلٌ جديد في المناظرة على الباخرة··· 207

ساعة مير··· 207

تمهيد في معنى الغاية و العظام··· 208

النظام العامّ في الكون··· 213

الصلة بين النواميس الطبيعية و القدرة الإلهية··· 215

إنّ فلسفة دارون لا تنافي الغاية و المقصد··· 217

إنّ النواميس الطبيعية لا تنافي اعتبار الغاية فيها··· 220

فصلٌ في النظام العالي في الساعة··· 224

اعتبار الأعضاء ينافي··· 224

إنّ إثبات الواجب لا ينحصر في طريق الغاية··· 226

الباعث الرئيسي في انكار الواجب في هذه العصور··· 227

العمى الوجداني للمتمدّنين··· 228

طريق العلاج مِنَ العَمى الوجداني··· 231

كيف يستدلّ من نواميس الطبيعة على الواجب··· 234

فصلٌ في المناظرة حول اليقين في المدّعيات··· 238

صدق الأنبياء في إخبارهم··· 239

معرفة الواجب و صفاته··· 240

إنّ العلم الصحيح لا يخالف الدين··· 246

معرفة قدرة الواجب و قوّته على شيء··· 246

معرفة القوّة الموجدة للعالم··· 249

كيفية خلق العالم··· 257

ص: 394

ليست المادة بقديمة··· 258

كيف يرتبط العالم بخالقه··· 262

تبرئة أرسطاطاليس ممّا قرفه به بخنر··· 266

في أنّ المبدع لم يخلق المادّة··· 266

تبرئة الصوفية ممّا رماهم به معرّب شرح بخنر··· 268

في إسنادهم إلى بانتايسم··· 268

التعريف بالإيجاد و الإبداع··· 270

إنّ المادّة ليست بخالقة نفسها··· 274

إنّ الطبيعة الأولية لا تتثنّى··· 276

إنّ الحركة و الجوهر متلازمان و ليسا بمتحدين··· 278

إنّ المادّة محصورة··· 279

وهم آخر في المقام··· 280

إنّ المادة مخلوقة··· 284

إنّ السبب الطبيعي ليس بكافٍ فى إحداث الأمور المنظمة··· 285

المقالة الثانية في الدفاع عن الأديان··· 287

إنّ العالم لم يخلق عبثا··· 287

إنّ الإنسان لا يعرف صلاحه بدون الدين··· 287

إنّ الدين الحنيف يوجب ارتقاء الأمّة و البينة··· 290

إنّ الدين الحنيف لا يأمر بالظلم و الفظائع··· 293

إنّ الاجتماع أحد مقاصد الدين··· 298

العرب قبل الإسلام··· 299

العرب بعد الإسلام··· 299

كيف جوّز الحرب فى الإسلام··· 300

موقف إراقة الدماء في الأديان··· 300

إنّ الدين لا يعارض حريّة الفكر خاصّة في المجالات العلمية··· 302

الفهم الخاطئ في اعتبار التعارض بين الدين و العلم المقطوع··· 303

ص: 395

خدمة الدين إلى الاجتماع··· 305

خدمة الدين إلى الناس نفسانيا··· 306

الرجوع إلى الدين في الأمم المتمدّنة··· 311

إنّ التعاليم الدينية غير خشنة و موافقة للهيئات الاجتماعية··· 312

إنّ وقوع النسخ في الشرايع لا يدلّ إلى خشونة الحكم الأوّل··· 314

انّ أحكام الأنبياء ليست بخشنة··· 315

الفرق بين الفلسفة و الدين اتّجاه العقل··· 316

إنّ الشارع يلاحظ الأعصار و الأزمنة فى الحكم··· 318

إنّ الشارع يلاحظ العادات و الطبقات و غيرهما في الحكم··· 318

إنّ الرؤساء يستعملون الديانات لأغراض السوء··· 319

إراقة الدماء و الفوضى في ثورة فرنسا··· 323

رجع في قتل جان دارك··· 327

إنّ الدين ليس بمانع في ارتقاء الأمم··· 329

لوثر و تأثيره في مجتمع إنجلترا··· 331

إنّ الدين لا يضادّ بالتطوّر··· 335

وجب على الدين ألاّ يضغط على الأفكار··· 337

إنّ الديانات ليست بمتحوّلة بعضها عن بعض··· 338

إنّ التوحيد لا ينشأ من نظرية الفتيشية··· 339

إنّ تشابه الأديان لا يوجب الإذعان بفلسفة التحوّل في الأديان··· 345

من سخف القول ومجونه··· 347

اعتراضات أخرى على الدين و الإجابة عنها··· 349

إنّ من أسوأ الشرائِعِ الاستبدادية هِيَ الشريعة الاشتراكية··· 352

فصل آخر في تتمّة الاعتراضات··· 367

الصلة بين الشرع و الخير و العمران··· 367

السعادة عند ابيقورين و الكلبيين··· 369

عدم اتّباع الشهوة يحتاج إلى رادع··· 370

النفس··· 371

ص: 396

إنّ الدين هو الطريق الأقوم لصلاح الإنسان··· 376

نصيحة تختصّ بأهل الأديان بل تعمّ نوع الإنسان··· 378

تكملة في إِخبارات علمية ضدّ فلسفة داروين··· 382

تنبيه··· 385

ص: 397

الآيات

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.../ 376

آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ/ 378

أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً/ 11

أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ/ 12

أفَي اللّه ِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمواتِ والأَرْض/ 198

أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ/ 12

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ/ 244، 286

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُه.../ 12

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة/ 206

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ/ 244/ 272

إنَّ مَع العُسْرِ يُسْرا/ 310

أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً/ 11

بِسمِ اللّه ِ مَجريها ومُرسيها/ 207

صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجعون/ 295

قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.../ 379

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ / 206

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ/ 11

كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً/ 12

كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ/ 304

لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً/ 12

ما يَلْفِظُ مِنْ قَولِ إلاّ لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ/ 373

مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ/ 11

ص: 398

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْءَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ / 12

وإنْ من شيء إلاّ يسبّحُ بحمده/ 197

وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم/ 70

ولاتَ حِينَ مناصٍ/ 264

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء/ 77

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه ُ واللّه ُ خَيْرُ الماكِرينَ/ 13

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْءَرْضَ خَاشِعَةً.../ 12

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ.../ 206

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى.../ 206

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاْءَبْصَارِ/ 127

ص: 399

الأحاديث

الحكمة ضالّة المؤمن/ 18

المسلمُ أخو المسلِم/ 350

أَبى اللّه ُ ان يُجْرِيَ الأُمورَ إِلاّ بأسبابها/ 39

داخل في الأشياء لا بممازجة، خارج عن الأشياء لا بمباينة/ 248

سبحان اللّه ربّ السموات السبع ورب الأرضين السبع/ 36

كان فينا كأحدنا/ 354

كلّكم لآدم وآدم من تراب/ 351

لا يغلب عُسْرٌ يُسْرين / 310

لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين/ 364

وذمّتي بما أقول رهينة/ 327

ص: 400

الأشعار

أمرتُكُم أمري بمنعَرج اللَوى/ فلم تَستبينوا النصحَ إلاّ ضحَى الغدِ/ 16

إنّما تَنْجَحُ المَقالةُ في الْمَرْءِ / إِذا وافَقَتْ هَوىً في الفؤادِ/ 134

دع المقادير تجرى في أعنّتها/ ولا تبيتنّ إلاّ خاليَ البالِ/ 310

عُكِسَتْ طبيعته فصار مِنِ... / متكلّماً وَمَحَلُّ ... ألْفَمُ/ 227

فِراسةُ عَبْدٍ مُؤْمِنِ لا كهانةً / ومن هو شِقٌّ عِنْدَهَا وَسَطِيْحُ/ 334

كُلُّ حَدِيْثٍ كان عن حُسْنِه / ِيَعْشقُهُ القلبُ ويستعذبُ/ 126

كُلٌّ يعظّمُ دِيْنَه / يا ليت شِعْري ما الصحيحْ؟/ 346

لكِنَّ ما يرويه أَعْداؤُهُ عندي / في شَرْعِ الْهَوى أَعْذَبُ/ 126

ما بين نومة عينٍ وانتباهتها/ يغيّر اللّه من حالٍ إلى حالِ

و صيّرني يأسي من الناس واثقا/ بحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري/ 310

و في النَّفْسِ ما فِيْها / وَأَنْتَ بِها أَدْرى/ 18

و لربّ نازلة يضيقُ بها الفتى/ ذرعا وعند اللّه منها المخرج / 310

ص: 401

الأعلام والفرق

آدم (ع)، 36، 42، 82، 313، 351، 364

آشور، 92

الائمّة القائمين(ع)، 13

ابن اجروم، 357

ابن جاوى، 313، 316، 342

ابن الفضيل القيسي، 137

ابو المجد محمد الرضا الاصبهاني النجفي، 382

احد الظرفاء، 227

احد العلماء، 7

احد العلماء الاميركيين، 167

احد المعطّلين الشرقيين، 32

الاخشيديين، 192

ادمون ديمولان، 331، 352

اديصون، 303، 361

الارخبيل الهندي، 82

ارسطو، 131، 233، 268 / ارسطوطالس، 266 / تلامذة ارسطو، 266 / المعلم الاول، 258، 266

ارنست هيكل، 56

اسبرن، 34، 94

الاسكويمو، 384

اصحاب ابيقور، 369

اصحاب رسائل اخوان الصفاء، 52

اغاسر، 173

اغاسيز، 144

اغنستك، 28

الافرنجي، 192

افلاطن الالهي، 267

اقليدس، 304

الاكليروس، 57، 154

اكليريكية، 57

الارتودكسية، 333

الامم الاروباوية، 292

الامة الاسرائيلية، 290، 313

الامة الاسكوتلاندية، 332

الامة الفرانسوية، 325، 376

الاميركيون، 206

انستنتك، 75

الانكليزي، 76، 83، 170، 189، 191

اوجين ديبوا، 81، 85

اوطوفولجر، 173

الاوغندي، 191، 192

اوليفرلودج، 231

اهل الدين، 9، 21، 25، 27، 28، 37، 49، 126، 151، 152، 153، 154، 156،

ص: 402

160، 190، 202، 205، 209، 210، 211، 222، 223، 227، 231، 244، 257، 262، 288، 296، 303، 307، 327، 337، 339، 343، 345، 356، 361، 362، 368، 371، 375، 382

اهل الشرايع، 261، 262

اهل العلم، 199، 200، 208، 243، 256، 258، 265، 270، 272، 273، 313، 378

ايينا، 56، 57، 65

البابوان، 293

البابوان، 333

باستور، 94، 152، 157، 158، 159

باكر، 60

البالنتوجيون

البالنتولوجيون، 85، 86 ، 87، 90

باير، 144

البتاغونين، 204

بخنر، 24، 34، 74، 82، 85، 86، 87، 97، 101، 104، 107، 119، 121، 127، 138، 139، 148، 151، 154، 155، 156، 157، 163، 164، 165، 167، 168، 169، 176، 179، 205، 214، 217، 219، 221، 225، 229، 233، 241، 246، 260، 262، 266، 267، 268، 277، 279، 284، 285، 287، 333، 334، 372، 378، 385/ الماتن، 93

براس، 56، 58، 59

برانكو، 126

البرتوغاليون، 340

برن، 149

برنارد، 30، 74، 75

برنجر، 90

البروتست، 292

بروكا، 85، 165

برير، 214

بستيان، 159

البشمن، 384

بطلر، 134

بعض الافاضل، 31

بعض علماء المسلمين، 172

البلقانيون، 322

البلينتولوجين، 91

بلينوس، 99

بنو عبد المدان، 315

بوشز، 71

بوشه، 80، 85، 86، 87

بوشيت، 158، 159

بوفون، 89

بولس، 57

بير، 181، 183، 184

البيورتانية، 332

تاين، 324

تروا موسكتر، 15

التسمان، 333

ص: 403

تنه، 89، 164

توى اتانا، 204

جان دارك، 320، 327، 328، 329

الجبرية، 262

جرايتوليه، 85

الجرمان، 382

جستاف جيجير، 159

جعفر بن محمد الصادق، 51

جمال الدين الهمداني، 333

جمعية كبلر، 58، 59

الجمعية اللينيوسية، 26

جمعية المونيسيم، 57

جنكيز، 232

ج ني، 296

جورنال، 93

جوزف لا كونت، 178

جوستاف لبون، 278، 326، 327، 353/ غوستاف لبون، 34، 260، 290، 352

جوفريسان هيلو، 78

جيمس وات، 332

الجيولوجيون، 83، 86، 87

الحكماء المتالهين، 243

الخلفاء العباسيين، 13

دارون، 1، 6، 9، 23، 24، 25، 26، 27، 30، 31، 32، 33، 35، 38، 47، 48، 49، 51، 52، 54، 55، 61، 64، 66، 71، 74، 76، 79، 83، 84، 85، 86، 96، 98، 89،

101، 102، 109، 110، 112، 113، 114، 115، 116، 118، 119، 121، 122، 123، 124، 127، 128، 130، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143، 145، 148، 149، 150، 154، 155، 156، 163، 164، 165، 168، 169، 173، 205، 217، 218، 219، 220، 221، 222، 225، 231، 348، 382، 383 / تلامذة دارون، 23

دافيد هيوم، 332

دانتون، 324

الدكتور ولس، 25

الدميري، 52

دوبى، 54، 69، 73، 75، 76، 97

دوكنس، 170

دولبر، 35، 117، 220

دوماس، 15

دوينتون، 74

ده كارت، 27

ديدرو، 267، 333، 381

ردوبسبير، 324

رمسس، 349

رنان، 381

روبرت يارتز، 332

روبسبير، 324

ريلي، 173

رؤساء هذه الفلسفة، 6، 74

ص: 404

الزلوجيين، 86، 87

الزنوج، 192، 232، 293، 323

ژولف لا كونت، 60

سبنسر، 29، 177، 179، 181، 182، 183، 253، 290، 297،، 353، 359

سبينوزا، 27، 252، 268

ستيد، 231

سرجون لبوك، 28

سرنمو، 45

سقراط، 132

السكسونيين، 331

سلاطين بابل، 92

السوفسطائيون، 152، 200، 227

شابير اليهودي، 91

شارل

شارل فوجت، 138 ، 328

شام، 20

شبلي شميّل، 348 / الدكتور، 231، 255، 256، 258، 261، 262، 273، 274، 275، 276، 283، 284، 296، 297، 301، 317، 324، 330، 331، 342، 343، 344، 345، 351، 357، 358، 364، 366، 369، 374، 375، 376 / الشارح، 109، 110، 113، 115، 128، 131، 132، 137، 138، 139، 140، 145، 146، 150، 151، 159، 168، 173، 174 / معرّب شرح بخنر، 24، 164،

268، 287

شلوتمان، 91

شليخر، 168

شو، 220، 296، 320

شوبنهور، 15، 132

الشيخ، 358، 365

صاحب ارقى مجلاتكم، 230

صاحب الانجيل، 339

صاحب الحقيقة، 164، 367

صاحب الراهن والواهن، 280

صاحب رسالة حي بن يقظان، 137

صاحب الشريعة، 11، 13

صاحب الشريعة المحمدية، 339

صاحب مقالة الخلل، 120

الطبيعيون، 35، 159، 172

طمسن، 34، 117، 164، 173

الطوسي المحقّق، 6

علماء اروبا و اميركا، 230

علماء الدين، 5، 122، 243، 249، 329

علماء النصرانية، 327

العمرانيون، 339

غازت دكولوين، 138

غاسباربار تولان، 77

غالتون، 27

غاليله، 303، 358

غرببلدي، 381

الفارابي/ المعلم الثاني، 258

ص: 405

فخت، 227، 229

الفرنساوية، 296، 322، 323، 329

فرنكل، 47

فريداننا، 72

فريديانو جيانيني، 56

الفلاسفة، 34، 40، 54، 57، 58، 111، 124، 125، 137، 175، 188، 227، 230، 231، 233، 260، 261، 262، 266، 269، 297، 312، 314، 316، 317، 339، 369، 370

الفلاسفة العظام، 288، 342

فنيقية، 92

فولطر، 233

فيرخو، 38

القبطيين، 313

القداوا، 384

قرشو، 82

قس ميانس، 334

قيصر روسيا، 321

الكاثلوكية، 333 / الكاثلوكيون، 334 / الكثلكة، 311، 381

كارل فرغت، 383

كافور الاخشيدي، 192

كبانيس، 371

كتّاب العصر، 135

كراو، 80

كرزل، 188، 230 / مترجم كتاب طبّ

كرزل الفرنساوي، 187

كركس، 60

كروبتكن، 165

الكلبيون، 369

كلومون غانر الفرنساوي، 91

كنت منت كريستو، 15

كنط، 227

كنفوشيوس، 315

كوشون، 328

كوطون، 324

كوفى، 53

كوفيه، 89

كوك، 88

كولوت ديوبوا، 324

اللاادريين، 253

لامرك، 24، 25، 75، 126، 130، 132، 136، 137، 138، 143، 146، 165، 348

لانج، 76، 83، 99، 189

لوبولانجي، 204

لوثر، 292، 329، 330، 331، 332 / اللوثرية، 332، 333

اللورد كلفن، 33

لوس، 89

ليل، 26، 74، 168، 169

الماديون، 236، 251، 259، 367، 369

المادّيين، 28، 40، 41، 59، 122، 146، 152، 157، 159، 163، 240، 253،

ص: 406

263، 274، 284

مارش، 178

محمّد(ص)/ خاتم الانبياء، 36 / خاتم النبيين، 35

محي الدين ابن العربي، 269

مرشل، 60

مركوني، 303، 361

المسلمون، 248، 255، 314، 315، 351، 355، 379، 380

المسيح(ع)، 315، 316، 379، 380، 381

مشينكوف، 94، 143

المفضّل بن عمر الجعفي، 51

مكسيم جوركي، 206

مكفرصن، 29

مكوش، 30

ملبرنش، 34

ملك سدانج، 92، 93

ملكة استريا، 296

الملّييون، 23، 32، 49، 50، 357

الموابية، 91

موانس، 95، 96

مورمند، 362

موليار، 15

المونيسيم، 263

نابليون، 232

النبيون، 7، 20، 35، 37، 203، 239، 338، 341، 376

نبيه، 310

النصرانية، 266، 268، 294، 295، 303، 314، 320، 322، 323، 327، 334، 380

نوكس، 332

نيتشه، 15

نيوتن، 303، 358

واط، 214

والترسكوت، 332

ورتز، 278، 281، 282

ورخوف، 382، 383

ولس، 25، 26، 31، 50، 222، 231، 348

وليم تنيدال، 332

هاجل، 227، 229

هارفي، 64، 152

هبس، 34

هدلي، 76

هريسون، 201

هكسلي، 27، 28، 29، 32، 124، 359

هكل، 148

هليار، 87

الهندي، 245

هنري، 328

الهوتنتوت، 73، 293

هوكر، 27

هولباخ، 267، 333، 337

هولياخ، 284

هيكل، 19، 27، 50، 55، 56، 57، 58،

ص: 407

59، 61، 73، 74، 123، 257، 303

يانوس، 78

يوحنا، 60

اليونانيين، 13، 17، 47، 255، 258 / اليونانية، 13، 15، 36

ص: 408

الکتب و الرسائل و المقالات

الاجروميّة، 357

الاشتراكية، 348

الانجيل، 294، 314، 323، 332، 339، 364، 379

ايران نو، 362

أبحاث وتجارب عن أصل الانسان، 95

أسرار الكون، 57

أسولوطيقوس، 267

أصل الانسان، 38، 47

أصول الاجناس، 47

أصول الحياة، 31

التاريخ الطبيعي، 28

تأريخ الرأي المادي، 99

التوحيد، 51

التوراة، 29، 314، 379

جريدة البصير، 277، 334

الحقيقة، 164، 249، 269، 280، 289، 361، 365، 367

حوادث وأفكار، 297، 308

حياة المسيح، 381

الخلل، 120

داروينا، 27

الدين والحقّ، 288

الراهن والواهن، 280

رسائل أخوان الصفاء، 52

رسالة حَيّ بْنِ يقظان، 137

الرسالة الراعوية، 56

رسالة في الانتروبولوجية، 86

سرّ تقدم الانكليز السكسونيين، 331

سفر التكوين، 39

شرح الاشارات، 6

ضحايا الجهل أو الانسانية المظلومة، 294، 323

طوائف الحيوان، 214

طيماوس، 267

عالم الاحياء، 25، 222

عالم الحياة، 25

فضيحة فيلسوف، 58

الفعلة و النصرانية، 334

القرآن، 53، 289، 290، 294، 364، 376، 381

القرآن والعمران، 295، 300، 314، 364

القضاء على القضاء، 297

كتاب الطبّ، 187

كشكول طبيب، 321

ما أطوعه وما أطمعه، 312

ص: 409

مجلة سركيس، 312

مسائل العلم في الْقَرْنِ العشرين، 117

المقتطف، 353

النشوء، 177

نظام الطبيعة، 284

نفق أوليفرلودج، 231

النواميس، 267

الهلال المصرية، 321

ص: 410

الأماكن

آكسفرد الشهيرة، 28

آلمانيا، 38، 56، 58، 154، 227، 245، 333، 334 / البلاد الالمانية، 334

ارليان، 328

اروبا، 56، 81، 97، 174، 192، 229، 230، 329، 334 / اوروبا، 206، 292، 329

اسبانيا، 78

استرليا، 384 / استريا، 296

افريقا، 293، 340/ افريقيا، 73، 191

اكاذيمية العلوم الفرنساوية، 157 / الاكاذيمية الفرنساوية، 158

اميركا، 61، 229، 230، 291، 362

انسبرك، 383

اودسا، 90

اوغندا، 191

بابل، 92

باريس، 78، 93، 165، 320

الباريس، 325

برلن، 72

بريطانيا، 88، 332، 378 / الانكليز، 47، 151، 159، 292، 293، 327، 328، 329، 330، 331، 332، 333، 334

بلاد الاسلام، 17، 253

بلد عبد العظيم، 362

بلندا، 384

بوسنة، 92

بولوغا، 204

بولونيزيا، 384

جامعة كولمبيا، 94

جاوه، 81، 82، 83

جزاير اندامان، 204

روسيا، 90، 206، 321

زيلاندة الجديدة، 204

سدانج، 92، 93

سردينيا، 78

سواب، 245

سينافارنس، 90

الشام، 313

طهران، 362

فرانسا، 88، 93، 135، 328، 333

فلسطين، 92

القطر العراقي، 382

كربلا، 382

كلية بانا، 59

كوبنهاغن، 89

ص: 411

كيلغورينا، 238

المارستان، 328

ماكاو، 77

متحف اللوفر، 90

مدرسة ورنتبرح، 90

مديرا، 141، 143

مصر، 231، 290، 313، 354، 389، 390

ملانازيا، 384

المونير، 257، 303

ميانس، 334

الندوة العلمية الباريسية، 79

نيويورك، 94، 203، 207، 311

واشنطون، 207، 208، 212

الهند، 80

اليونان، 17، 47، 291، 369، 370

ص: 412

بعض مصادر التحقيق

أثولوجيا، ترجمة ابن ناعمة الحمصى، تحقيق عبدالرحمن بدوى، بيدار، قم 1413.

الأسفار الاربعة، صدرالدين محمد الشيرازى، 9 ج، مكتبة المصطفوي، قم.

الأغاني، أبوالفرج الاصبهانى، 25 ج، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1415 ق .

إقبال الاعمال، سيد على بن موسى بن طاوس، دار الكتب الاسلامية، تهران 1367 ش.

الأمالي، شيخ طوسى، انتشارات دارالثقافة، قم 1414 هجرى قمرى.

الأمتاع و المؤانسة، أبوحيان التوحيدى، المكتبة العصرية، بيروت 1424.

الأمثال، زيد بن رِفاعَةَ الهاشمي، دار سعد الدين، دمشق 1423.

أمثال العرب، المُفضّل العِنبي، دار و مكتبة الهلال، بيروت 1424.

بحار الانوار، العلامة المجلسى، 110 ج، موءسسة الوفاء، بيروت 1404 .

البيان و التبيين، الجاحظ، 3 ج، دار و مكتبة هلال، بيوت 1423.

التذكرة الحمدونية، محمد بن حسن بن حمدون، 10 ج، دار صادر، بيروت 1417.

توحيد المفضل، مفضل بن عمر الجعفى الكوفى، مكتبة الداورى، قم 1969م .

جريانهاى اصلى انديشه غربى، انتخاب متون فرانكلين لو - فان - باومر، ج2، ترجمه كامبيز گوتن، تهران، انتشارات حكمت، 1385ش.

چهل مقاله، رضا استادى، قم: كتابخانه عمومى حضرت آية اللّه العظمى نجفى، 1371ش.

حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدميرى، 2 ج، دارالكتب العلمية، بيروت 1424.

الحيوان، الجاحظ، 7ج، دارالكتب العلمية، بيروت 1424.

خصائص الائمة (ع)، السيد الرضى، مجمع البحوث (آستان قدس رضوى)، مشهد 1406.

داروينيسم و تكامل، محمود بهزاد، شركت سهامى، تهران 1361.

دعائم الاسلام، نعمان بن محمد التميمى المغربى، 2 ج، دار المعارف، مصر 1385 .

رسائل إخوان الصفاء، 4 ج، الدار الاسلامية، بيروت 1412.

رسائل في الفلسفة و العرفان، السيد جمال الدين الحسيني [الاسدآبادى] الافغانى، إعداد السيد هادي خسرو شاهي، مؤسسة الطباعة و النشر، طهران 1417.

السنن، ابن ماجة، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقى، 2 ج، دارالفكر، بيروت.

السنن، الامام النسائى، 8 ج، دارالفكر، بيروت.

ص: 413

شرح نهج البلاغة، ابن ابى الحديد المعتزلى، تحقيق ابو الفضل ابراهيم، 20 ج، مكتبة آية اللّه المرعشى، قم 1404 هجرى قمرى.

الشفاء، الشيخ الرئيس ابن سينا، اشراف الدكتور مدكور، 11 ج، مكتبة آية الله المرعشى، قم 1404.

صبح الاعشى فى صناعة الانشاء، شهاب الدين أحمد القلقشندي، 15 ج، دارالكتب العلمية، بيروت.

عوالى اللآلى، ابن ابوجمهور الاحسائى، تحقيق مجتبى العراقى، 4 ج، قم 1403.

عيون الاخبار، ابن قتيبة الدينورى، 4ج، دارالكتب العلمية، بيروت 1418.

فلاح السائل، السيد على بن الطاوس، دفتر تبليغات، قم.

فلسفه نشو و ارتقاء، لوديك بوكنر، ترجمه عربى: شبلى شميل، ترجمه فارسى: على اصغر حكمت، تهران: دانشگاه تهران، 1354ش.

فلسفه النشوء و الارتقاء، شبلى شميّل، المقطف، مصر 1900م.

قيام آيت اللّه حاج آقا نوراللّه نجفى اصفهانى، سيّد اسداللّه رسا، مؤسسه مطالعات تاريخ معاصر ايران، تهران 1384ش.

الكافي، ثقة الاسلام الكلينى، 8 ج، دار الكتب الاسلامية، تهران 1365 ش .

كشف الغمة، على بن عيسى الإربلى، 2 ج، مكتبة بنى هاشمى، تبريز 1381.

كنز العمال، المتقى الهندى، 18 ج، مؤسسة الرسالة، بيروت 1409.

متشابه القرآن، ابن شهرآشوب المازندرانى، بيدار، قم 1368ش .

مجمع الامثال، الميداني النيسابوري، 2 ج، الاستانة الرضوية، مشهد 1407.

محاضرات الادباء و محاورات الشعراء و البلغاء، الراغب الاصفهاني، 2ج، دار أرقم، بيروت 1420.

المستدرك، أبو عبداللّه الحكام النيشابورى، تحقيق يوسف عبدالرحمن المرعشى، 4ج، بيروت.

المسند، الامام احمد بن حنبل، 6 ج، دار صادر، بيروت.

مشكاة الانوار، ابوالفضل على بن حسن الطبرسى، مكتبة الحيدرية، النجف الاشرف، 1385.

معجم الفلاسفة، جورج طرابيشى، دارالطليعة، بيروت 1987 م.

نهاية الارب فى فنون الادب، شهاب الدين النوُّيْرِى، 33 ج، دارالكتب و الوثائق القوسيّة، قاهرة.

نهج البلاغة، الإمام على بن أبى طالب عليه السلام، تحقيق صبحى صالح، دار الهجرة، قم.

ص: 414

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.