منازل الآخرة في نهج البلاغة

هوية الکتاب

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية

تنضيد وإخراج: نذير هندي الكوفي

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة: 1432 ه- / 2011م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 2

منازل الآخرة في نهج البلاغة

إعداد

مكتبة الروضة الحيدرية

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

تمهید

قال تعالى: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (1) تشير الآية الكريمة إلى انّ الحياة الحقيقية هي الحياة الاخروية، وانّ الدنيا سراب و خيال ولا حياة حقيقية فيها.

ويدل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (2) على انّ الانسان في هذه الدنيا مسافر، وسيرحل عنها إلى داره ومقره؛ وقد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى هذا و قال: «وأنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم و قد أوذنتم فيها بالارتحال

ص: 5


1- العنكبوت: 64
2- الانشقاق 6

وأمرتم فيها بالزاد» (1).

و قال علیه السلام أيضاً: «فانّما مثلكم ومثلها [أي الدنيا ] كَسَفْر سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه ...» (2). و قال أيضاً: «انّ أهل الدنيا كركب بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا» (3).

و للآخرة منازل استخرجناها من نهج البلاغة؛ فكان هذا الكتاب، و ذلك لنأخذ العدّة، ولا يهجم علينا الموت ونحن في غفلة.

ص: 6


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 183
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 98
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 403

المنزل الأول: الموت

1 - شوق اللقاء

انّ شوق اللقاء و الانس بالموت لمن أبرز صفات الأولياء، حتى انّ الله تعالى قال في مقام الرد على اليهود الذين ادعوا كذباً و زوراً أنّهم أولياء الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (1) و ذلك انّ من كان صاحب محبة يتمنّى لقاء محبوبه، فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة.

و هذا الشوق نراه في أمير المؤمنين علیه السلام حيث كان يقول: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه» (2) ويقول أيضاً: «وانّي إلى لقاء الله لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر راج» (3) ويقول تارة اخرى: «و انّ أحبّ ما أنا لاق اليّ الموت»(4).

و لمّا بشره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالشهادة، و سأله عن صبره حينذاك قال علیه السلام: (يارسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، و لكن من مواطن البشرى و الشكر) (5).

ص: 7


1- الجمعة 6
2- نهج البلاغة الخطبة رقم 5
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 62
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 180
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156

و هذه الخلق تجسدت في أولاده وأحفاده، و لذى نرى القاسم ابن الامام الحسن علیه السلام في كربلاء رابط الجأش مستبشراً ببشارة الشهادة و قائلاً لعمه الحسين علیه السلام لما سأله عن الموت: «يا عم أحلى من العسل» و هكذا كان أصحاب الحسين علیه السلام حيث وصفهم بقوله: «يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بلبن امه».

هذا الحب و هذا الشوق من أبرز صفات العارفين، و قد وصفهم أمير المؤمنين علیه السلام في كتاب كتبه إلى معاوية يتهدّده بهم: «متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم.» (1) وقال أيضاً فيهم: «و لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب و خوفاً من العقاب» (2). وقال علیه السلام: «أين عمار وأين ابن التيهان وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية» (3). فهؤلاء هم الذين «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى» (4).

هذا و قد ورد في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق علیه السلام في وصف المشتاقين: «المشتاق لا يشتهي طعاماً، ولا يلتذ شراباً، و لا يستطيب رقاداً، ولا يأنس حميماً، و لا يأوي داراً، و لا يسكن عمراناً، ولا يلبس ليناً، و لا يقرّ قراراً، و يعبد الله ليلاً و نهاراً راجياً بأن يصل إلى ما

ص: 8


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 28
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 193
3- المصدر نفسه الخطبة رقم: 182
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 137

يشتاق إليه، و يناجيه بلسان شوقه معبراً عما في سريرته ... و مثل المشتاق مثل الغريق ليس له همة الا خلاصه، و قد نسي كل شيء دونه» (1).

هذه الخصلة ربما لا تكون في كثير منّا، و ليس ذلك الّا للحجب التي غطت قلوبنا، و أبعدتنا عن المعرفة و عن تذوق حلاوة المحبة، فعلينا أولاً: الدعاء بأن يرزقنا الله تعالى شوق لقائه، فقد ورد في زيارة أمين الله: «اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك ... مشتاقة إلى فرحة لقائك» (2) و كذلك ورد عن الإمام السجاد علیه السلام في مناجاة المريدين: «و ألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون، و بابك على الدوام يطرقون» و في مناجاة المحبين: «الهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك ... و شوقته إلى لقائك» و في مناجاة العارفين: «الهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم».

و ثانياً: استذكار نعم الله تعالى في الجنة والتفكر فيها، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «شوقوا أنفسكم إلى نعيم الجنة تحبوا الموت و تمقتوا الحياة» (3) و يقول علیه السلام أيضاً بعدما وصف الجنة: «فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر الموفقة، لزهقت نفسك شوقاً إليها، و لتحمّلت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها.(4)

ص: 9


1- مصباح الشريعة: 196
2- مصباح المتهجد للطوسي: 738
3- غرر الحكم رقم: 5779
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 165

و ثالثاً: التفكر في النعم الدنيوية التي هيأها الله تعالى للإنسان، و كذلك نعمة ارسال الرسل و الأنبياء لتقويم الانسان و هدايته، مما يدلّل على شفقته وحبه للانسان، و هذا ما ورد على لسان أمير المؤمنين علیه السلام لما سئل: بماذا أحببت لقاء الله؟ فقال: «لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته و رسله و أنبيائه، علمت انّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه» (1)

و مع هذا كله فأمير المؤمنين علیه السلام يلفت انتباهنا إلى نقطة مهمة، و هي أن لا نتمنى الموت قبل أن نستعد له، فقد قال علیه السلام: «و لا تتمن الموت الّا بشرط وثيق» (2) أي لا تتمن الموت الّا و أنت واثق من أعمالك الصالحة، و تحصيل ما يوجب رفع الدرجات في الآخرة.

2 - ذكر الموت:

اشارة

انّ من أهم دواعي التنفير من الدنيا و التزود للاخرى ذكر الموت، قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: «يابني أكثر من ذكر الموت، و ذكر ما تهجم عليه، و تفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك، و شددت له أزرك، و لا يأتيك بغتة فيبهرك» (3). و يقول أيضاً: «طوبى لمن ذكر المعاد، و عمل للحساب»(4)

و يوصي علیه السلام المسلمين عموماً و يقول: «و أوصيكم بذكر الموت،

ص: 10


1- البحار 6: 127
2- نهج البلاغة الكتاب رقم 69
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 39

و اقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فيمن ليس يمهلكم» (1) و أيضاً: «أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم» (2)

و قد وصف علیه السلام خلّص صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و قال: «ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم» (3).

و لذكر الموت فوائد كثيرة ومنافع جمة، و قد ورد ذكر بعضها في نهج البلاغة و هي:

ألف: ترك اللهو و اللعب:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أما و الله انّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت»(4).

ب: ترك الشهوات والملاذ الدنيوية:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا فاذكروا هادم اللذات، و منغص الشهوات، و قاطع الامنيات عند المساورة للأعمال القبيحة» (5) و قال علیه السلام: «فانّ الموت هادم لذاتكم، و مكدر شهواتكم، و مباعد طياتكم» (6) و قال علیه السلام: «اذكروا انقطاع اللذات، وبقاء التبعات» (7). و قال علیه السلام: في عهده للاشتر بعدما أمره بترك خصال: «ولن

تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك»(8)

ص: 11


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 188
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 96
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 138
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 98
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 22
7- المصدر نفسه، قصار الحكم: 421
8- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 53

ج: خشوع القلب:

قال أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام: «و أحي قلبك عظة ... و ذالله بذكر الموت» (1) و قال: «و بقي رجال غض أبصاره ذكر المرجع، واراق دموعهم خوف المحشر» (2)

د: القناعة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير» (3).

ه-: الأعمال الصالحة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام:«أما بعد فان من لم يحذر ما ه-و صائر إليه، لم يقدم لنفسه ما يحرزها»(4). وقال علیه السلام: «ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات» (5). و قال: «من تذكر بعد السفر استعد» (6).

3 - حتميّة الموت للإنسان

انّ من نتائج الانغمار في ملاذ الدنيا نسيان الموت، رغم ما نرى من كثرة الموتى حولنا، فكأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و هذه آفة لابد أن نتخلص منها و نتيقن، بأننا ميتون و هذا ما أمر به أمير المؤمنين علیه السلام ابنه الإمام الحسن علیه السلام حيث أمره بإحياء قلبه بالمواعظ و بصفات أخر،

ص: 12


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 31
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 32
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 339
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 51
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 27
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 271

ثم قال: «و قرّره بالفناء» (1) و يأمرنا بذلك أيضاً و يقول: «فحقّقوا عليكم نزوله و لا تنتظروا قدومه» (2).

و تقريراً لذلك يذكر أمير المؤمنين علیه السلام شواهد ممن مات من الأنبياء و العظماء و يقول: «فلو انّ أحداً يجد إلى البقاء سلماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود علیه السلام الذي سُخّر له مُلك الجن و الانس مع النبوة و عظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته، و استكمل مُدتّه، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطلة، ورثها قوم آخرون، و انّ لكم في القرون السالفة العبرة» (3).

انّ الموت يلازمنا و لا ينجو منه أحد، يقول أمير المؤمنين علیه السلام:«فما ينجو من الموت من خافه، و لا يعطى البقاء من أحبه»(4) «و الدنيا دار مُني لها الفناء، و لأهلها منها الجلاء»(5) و يوصينا علیه السلام ويقول: «فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال»(6) و يذكرنا بانّ الدنيا «كل مدّة فيها إلى انتهاء، و كل حيّ فيها إلى فناء» (7) و الله تعالى وعد نفسه و ألزمها بذلك، قال علیه السلام: «و وأى على نفسه ألّا يضطرب شبحٌ ممّا أولج فيه الروح إلّا و جعل الحمام موعده، و الفناء غايته» (8)

ص: 13


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 31
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 196
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 38
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 45
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم 52
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 98
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 165

و هذه الحتمية و هذا اللزوم لا ينفعه الفرار، إذ انّ «الأجل مساق النَفْس و الهرب منه موافاته» (1) وذلك لانّ «الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب (2) و قد قال علیه السلام أيضاً: «و أنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم، و هو الزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، و الدنيا تطوى من خلفكم» (3) وأخيراً يوصي ابنه الإمام الحسن الشالا ويذكره ويقول له: « وانك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ولابد أنّه مدركه» (4).

4- سرعة انقضاء الدنيا و حلول الموت

ربما يغتر الانسان و يغفل رغم إذعانه و اعترافه بأصل الموت، و لكن يزعم انّ بينه و بين الموت مسافة، و أنّه غير مدركه بهذه السرعة، فهو في

غفلة عنه، و لم يجعله من أولويات مهامه و أموره التي لابد أن يفكر فيها.

انّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام مشحون بتذكير سرعة انقضاء الدنيا و حلول الموت، فيقول علیه السلام: «انّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهور، و أسرع الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر» (5)

و يقول أيضاً: «الأمر قريب و الاصطحاب قليل» (6)

ص: 14


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 149
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 122
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 188
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 69

و يقول: «الرحيل وشيك» (1) «ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به، و أبعد الميت من الحيّ لانقطاعه عنه» (2) «و لينظر امرؤ في قصير أيامه، و قليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً» (3) «اذا كنت في إدبار و الموت في اقبال فما أسرع الملتقى» (4) و يحذرنا علیه السلام و يقول: «فاحذروا عباد الله الموت وقربه»(5) و يقول لابنه الحسن علیه السلام: «و كأنّك عن قليل صرت كأحدهم» (6).

و المتصفح لنهج البلاغة يجد الكثير من هذه العبارات التي تذكّرنا بقرب الرحيل و سرعته، و إليك بعضها:

«أما بعد فانّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، و ان الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع» (7).

«فكأن قد علقتكم مخالب المنية، و انقطعت منكم علائق الامنية، و دهمتكم مفظعات الأمور، و السياقة إلى الورد المورود» (8).

«فانّها [أي الدنيا] و الله عمّا قليل تزيل الثاوي الساكن، و تفجع المترف الآمن ... فلا يغرنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها» (9).

ص: 15


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 177
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 214
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 490
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27
6- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 28
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم 84
9- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 102

«و ما هو الّا الموت أسمع داعيه، و أعجل حاديه» (1)

«ما أقرب اليوم من تباشير غده» (2).

«و اعلموا انّ ملاحظ المنية نحوكم دانية، و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم، و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور و معضلات المحذور» (3).

و لترسيخ هذه الفكرة في أذهاننا وقلوبنا يستخدم أمير المؤمنين علیه السلام اسلوب التشبيه، فتارة يشبّه سرعة انقضاء الدنيا ببقية الماء في الاناء و يقول: «ألا و انّ الدنيا قد ولّت حذاء، فلم يبق منها الّا صبابة كصبابة الاناء اصطبها صابها» (4) «ألا و انّ الدنيا قد تصرمت و آذنت بانقضاء ... فلم يبق منها الّا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع»(5).

وتارة يشبّه سرعة انقضائها بالظل و يقول: «فانّها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قلص، و زائداً حتى نقص»(6)

و اخرى بالمسافر فيقول: «فانّما مثلكم و مثلها كسَفْرِ سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجري إلى

ص: 16


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 133
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 150
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 204
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 42
5- المصدر نفسه الخطبة رقم 52
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم 62

الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها» (1) فانّما أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير»(2). «انّ أهل الدنيا كركب بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا» (3) وأنتم بنو سبيل على سَفَر من دار لیست بداركم»(4)

و أخيراً التمثيل بالليل و النهار و مجيئ الشمس و القمر، إذ انّ «الشمس و القمر دائبان في مرضاته، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد» (5). «وانّ غائباً يحدوه الجديدان: الليل و النهار، لحريّ بسرعة الأوبة»(6).

و يقول لابنه الإمام الحسن علیه السلام: «واعلم انّ من كانت مطيته الليل والنهار، فانّه يُسار به و إن كان واقفاً، و يقطع المسافة و إن كان مقيماً و ادعاً»(7). ويقول علیه السلام: «و انصرمت الدنيا بأهلها، و أخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى و شهر انقضى»(8)

فلماذا هذه الغفلة يا انسان، ألا تعلم أنّ «نفس المرء خطاه إلى أجله» (9) و «رب مستقبل يوم ليس بمستدبره، و مغبوط في أول ليله قامت

ص: 17


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 98
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 403
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 89
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم 63
7- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
9- المصدر نفسه، قصار الحكم: 69

بواكيه في آخره» (1) و ليس هذا الّا من طول الأمل و الاغترار بالدنيا، إذ «لو رأى العبد الأجل و مسيره لأبغض الأمل و غروره» (2).

و هذا ما ينبهنا عليه أمير المؤمنين علیه السلام ويقول: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة»(3). و هذا هو سبب هلاك الماضين حيث يقول علیه السلام: «انّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، و تغيّب آجالهم»(4).

فعلينا أن نستعد و نخشى حلول الموت و نحن في غفلة عنه، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل» و هذا ما نبيّنه في الفقرة التالية.

5- الاستعداد للموت

بعدما قررنا قلوبنا بالفناء، و أثبتنا لها الموت و سرعة حلوله، لابد أن نستعد له و نأخذ حذرنا منه، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و استعدوا للموت فقد أضلكم، و كونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، و علموا انّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فانّ الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى، و ما بين أحدكم و بين الجنة أو النار الّا الموت أن ينزل به ... و انّ قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العُدّة، فتزوّدوا في الدنيا ما

ص: 18


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 370
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 325
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 147

تحرزون به نفوسكم غداً» (1)

و قال لابنه الحسن علیه السلام: «فأصلح مشواك، و لا تبع آخرتك بدنياك»(2). فيأمر ابنه باصلاح المثوى، و يأمر غيره بالتجهيز و يقول: «تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل، و أقلّوا العُرجة على الدنيا، و انقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد»(3). و يقول علیه السلام: «فاحذروا عباد الله الموت و قربه، و أعدوا له عدته، فانّه يأتي بأمر عظيم و خطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً» (4).

و قال علیه السلام في وصف أحبّ العباد إلى الله تعالى عبد: «أعدّ القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد، و هوّن الشديد» (5).

و كثيراً ما نرى في نهج البلاغة الأمر بمبادرة الموت و الاستعداد له، و نشير فيما يلي إلى بعضها:

قال علیه السلام: «رحم الله عبداً سمع حكماً فوعى ... و بادر الأجل، و تزوّد من العمل» (6)

و قال علیه السلام: «و بادروا أمر العامة و خاصة أحدكم و هو الموت، فانّ الناس أمامكم، و انّ الساعة تحدوكم من خلفكم»(7).

ص: 19


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 63
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 204
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 86
6- المصدر نفسه الخطبة رقم 75
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 167

وقال علیه السلام: «فبادروا المعاد، وسابقوا الآجال، فانّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، و يرهقهم الأجل، و يُسدّ عنهم باب التوبة» (1).

و قال علیه السلام: «و بادروا الموت وغمراته، و امهدوا له قبل حلوله، و أعدوا له قبل نزوله ... و بادروا آجالكم بأعمالكم، فانّكم قوم مرتهنون بما أسلفتم، و مدينون بما قدّمتم، و كأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، و لا عشرة تقالون» (2).

و قال علیه السلام: «و بادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، و إن أقمتم أخذكم، و إن نسيتموه ذكركم». (3)

6 - الاحتضار و سكرة الموت

قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (4).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (5).

وقال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)(6).

ص: 20


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 183
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 193
4- ق: 19
5- الأنفال: 50
6- القيامة: 26 - 30

ابتداء من الاحتضار تبدأ رحلة الانسان الأخروية، و هي عقبة مهولة و مصيرية، إما إلى الجنة و إما إلى النار، و حقيق بالانسان أن يستعد لها، و يطيل النظر حولها ليسلم من فزعاتها، إذ «انّ للموت الغمرات هي أفضع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا»(1).

و قد ورد في نهج البلاغة موارد مختلفة لوصف ساعة الاحتضار، و ما يحيق بالانسان من شدائد و مصاعب، نوردها كما هي و من دون تعليق إذ انّ كلام الأمير علیه السلام أبلغ في الموعظة من أي شرح و تعليق:

قال علیه السلام في صفة أهل الغفلة: «دهمته فجعات المنية في غُبّر جماحه، و سنن مِراحه، فظلّ سادراً، و بات ساهراً في غمرات الآلام، و طوارق الأوجاع و الأسقام بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل جزعاً، ولادمة للصدور قلقاً، و المرء في سكرة ملهية، و غمرة كارثة، و أنة موجعة و جذبة مكربة، و سَوقة متعبة» (2).

و قال علیه السلام: «فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغيّرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم و لوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، و انّه لبين أهله ينظر ببصره، و يسمع بأذنه على صحة من عقله، و بقاء من لبّه، يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره. و يتذكّر أموالاً جمعها، أغمض في مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعه-ا، و أشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها و يتمتعون بها، فيكون

ص: 21


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 220
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82

المهنأ لغيره و العبء على ظهره، و المرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ یده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، و يتمنّى انّ الذي كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه و سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، و لا يسمع بسمعه، يُردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم، ثم ازداد الموت التياطاً به، فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد او حشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه، لا يُسعد باكياً و لا يُجيب داعياً (1).

و يصف علیه السلام الانسان حال كونه طريح الفراش قد أيس منه أهله و أصدقاؤه: «فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا و ترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيّرت نوافذ فطنته، و يبست رطوبة لسانه، فكم من مهم من جوابه عرفه فعيّ عن ردّه، و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه، من كبير كان يعظّمه، أو صغير كان يرحمه، و انّ للموت لغمرات هي أفضع من أن تُستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا»(2)

و قال علیه السلام: «فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، و حنادس غمراته، و غواشي سكراته، و أليم إرهاقه، و دجوّ أطباقه، و جشوبة مذاقه» (3).

ص: 22


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 108
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 220
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229

و قال علیه السلام أيضاً في وصف تلك الشدائد: «فانّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم الجزعتم و وهلتم و سمعتم و أطعتم، و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، و قريب ما يطرح الحجاب» (1)

فعلينا التفكر في هذه الأوصاف الموحشة و الاستعداد و الاستعاذة بالله تعالى، فقد ورد في الدعاء: «اللهم أعنّي على سكرات الموت، اللهم أعنّي على غمرات الموت» (2).

و في مناجاة الإمام زين العابدين علیه السلام: «الهي الأمان عند سكرات الموت، و عند مفارقة الروح، و عند معاينة الموت» و علينا بالأعمال التي تخفف سكرات الموت من قبيل: الاحسان إلى الاخوان، صلة الرحم، بر الوالدين، ترك الذنوب، صوم أربعة و عشرين يوماً من رجب أو صوم آخر رجب، و غيرها من الأعمال المذكورة في مظائها.

ص: 23


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 20
2- المصباح للطوسي: 568

المنزل الثاني: القبر

اشارة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «واذكر قبرك، فانّ عليه ممرك»(1) و لما كان راجعاً من صفين مرّ على قبور بظاهر الكوفة فخاطبهم و قال: «يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، و نحن لكم تبع لاحق» (2).

هذا المنزل أيضاً مهول و عظيم و الانسان لو سلم من المنزل الأول و هو الموت و الاحتضار، لاستقبله هذا المنزل الموحش الذي يجمع عدة أهوال، و قد وردت الاشارة إلى بعضها في نهج البلاغة نذكرها فيما يلي:

1 - وحشة القبر وضيقه وغربته

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و أعلقت المرء أوهاق المنية، قائدة له إلى ضنك المضجع، و وحشة المرجع ... و قد غودر في محلة الأموات رهيناً، و في ضيق المضجع وحيداً ... ثم أدرج في أكفانه مبلساً، و جذب

ص: 24


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 153
2- المصدر نفسه، قصار الحكم 123

منقاداً سلساً، ثم اُلقي على الأعواد رجيع وصب، و نضو سَقَم، تحمله حفدة الولدان، وحشدة الاخوان إلى دار غربته، و منقطع زورته» (1).

و قال علیه السلام: «و اتعظوا فيها بالذين قالوا من أشد منّا قوة، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، و انزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، و جعل لهم من الصفيح أجنان، و من التراب أكفان، و من الرفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعياً، و لا يمنعون ضيماً، و لا يبالون مندبة، إن جيدوا لم يفرحوا، و إن قحطوا لم يقنطوا، جميع و هم آحاد، و جيرة أبعاد، متدانون لا يتزاورون وقريبون لا يتقاربون حلماء قد ذهبت أضغانهم، و جهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، و لا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطناً، و بالسعة ضيقاً، و بالأهل غربة، وبالنور ظلمة» (2).

و قال علیه السلام: «فكأنّ كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، ومخط حفرته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، و مُفرد غربة» (3)

وقال علیه السلام: «كفى واعظاً بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم

ص: 25


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 82
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 110
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157

غير راكبين، و انزلوا فيها غير نازلين، كأنهم لم يكونوا للدنيا عماراً، و كأنّ الآخرة لم تزل لهم داراً، أو حشوا ما كانوا يوطنون، وأوطنوا ما كانوا يوحشون» (1).

وقال علیه السلام: «فمحلّها [أي القبور] مقترب، وسكانها مغترب، بين أهل محلّة موحشين، و أهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، و لا يتواصلون تواصل الجيران، على ما بينهم من قرب الجوار و دنوّ الدار» (2)

و قال علیه السلام في صفة أصحاب القبور بانّهم لو نطقوا لقالوا: «كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجساد النواعم و لبسنا أهدام البلى، وتكاءدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة، و تهكمت علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا، و تنكرت معارف صورنا، و طالت في مساكن الوحشة اقامتنا، و لم نجد من كرب فرجاً، ولا من ضيق متسعاً» (3).

2- تجسّم الأعمال و تلازمها للإنسان

انّ الأعمال تتجسد للانسان في القبر، فيراها بصورها الحسنة أو القبيحة قال علیه السلام: «و أعلقت المرء أوهاق المنية، قائدة له إلى ...

ص: 26


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 188
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 225
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 220

معاينة المحل وثواب العمل ... و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها، لاتستزاد من صالح عملها ولا تستعتب من سيّئ زللها».

و أشار علیه السلام إلى التلازم القائم بين الانسان وبين عمله وقال علیه السلام: «ثم حملوه إلى مخطّ في الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله» (1).

وقال علیه السلام: «قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، و الدار الباقية» (2) وقال علیه السلام: « لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً، ولا في حسن يستطيعون ازدياداً» (3).

3 - ضغطة القبر

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس ... و اختلاف الأضلاع، و استكاك الأسماع، و ظلمة اللحد، وخيفة الوعد، و غمّ الضريح، وردم الصفيح»(4).

و قال علیه السلام: «و كأنْ قد صرتم إلى ما صاروا إليه ... وضمكم ذلك المستودع» (5).

ص: 27


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 108
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 110
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 188
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 225

و لشدة هذا الأمر و هوله كان الإمام الباقر علیه السلام يتعوذ منه و يقول: «اللهم أنّي أعوذ بك من عذاب القبر، و من ضغطة القبر» (1)

4- تناخر الأجسام

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «قد هتكت الهوام جلدته، و أبلت النواهك جدّته، و عفت العواصف آثاره، و محى الحدثان معالمه، و صارت الأجساد شحبة بعد بضتها، و العظام نخرة بعد قوّتها»(2).

و قال علیه السلام: «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً سلّطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، و شربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، و ضماراً لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الأهوال، و لا يحزنهم تنكر الأحوال ... فلو كانوا ينطقون ... فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، و خوت الأجساد النواعم، ولبسنا أه-دام البلي ... فانمحت محاسن أجسادنا، و تنكرت معارف صورنا ... فلو مثلتهم بعقلك، أو كشفت عنهم محجوب الغطاء لك، و قد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت، و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، و تقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، و همدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها، وعاث في كل جارحة منهم جديد بلىً سمّجها و سهّل طرق الآفة إليها،

ص: 28


1- الكافي للكليني 2: 526
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 82

مستسلمات فلا أيدٍ تدفع، و لا قلوب تجزع، لرأيت أشجان قلوب، و أقذاء عيون، لهم في كل فظاعة صفة حال لا تنتقل، و غمرة لا تنجلي، فكم أكلت الأرض من عزيز جسد و أنيق لون، كان في الدنيا غذيّ ترف وربيب شرف، يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، و يفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به، ضنّاً بغضارة عيشه و شحاحة بلهوه ولعبه» (1).

وقال علیه السلام في وصف أصحاب القبور و عدم التزاور فيما بينهم مع قرب الجوار: «و كيف يكون بينهم تزاور، و قد طحنهم بكلكله البلي، و أكلتهم الجنادل و الثرى» (2).

5 - المساءلة في القبر

من الشدائد التي تواجه الانسان في القبر سؤال منكر و نكير اياه و محاسبته، و لذا يُلقّن الميّت قبل الدفن و بعد الدفن.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «حتى إذا انصرف المشيّع، ورجع المتفجّع، أقعد في حفرته نجيّاً لبهتة السؤال، و عثرة الامتحان» (3).

و قد قال أبو ذر علیه السلام لما وقف على قبر ابنه: «و لقد شغلني الحزن عن الحزن عليك، و الله ما بكيت لك و لكن بكيت عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك» (4).

ص: 29


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 220
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 225
3- المصدر نفسه الخطبة رقم 82
4- من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 185 ح558

نسأل الله تعالى أن يعيننا في اجتياز هذا المنزل الصعب بمنّه و كرمه، و يوفقنا لأداء الفرائض و التمسك بأذيال آل محمد علیهم السلام، فقد ورد في الحديث: «إذا مات المؤمن دخل القبر معه ستة أوجه، كل واحد أجمل و أعطر و أنظف من باقي الوجوه، فتستقر الوجوه الستة في ستة مواضع عن يمينه و شماله و خلفه و قدامه و الى جانب قدميه، و أحلاها و أطيبها إلى جانب رأسه، فاذا أتاه السؤال أو العذاب من كل جانب منعه وجه من الوجوه الستة، و يسأل الوجه الأجمل باقي الأوجه: من أنتم جزاكم الله مني خيراً؟ فيقول الوجه المستقر على يمين المؤمن: أنا الصلاة، و يقول الوجه المستقر على شمال المؤمن أنا الزكاة، و يقول المواجه لوجه المؤمن: أنا الصوم، و يقول المستقر خلف المؤمن: أنا الحج، و يقول المحاذي لقدميه: أنا البر و الإحسان للاخوة المؤمنين، ثم يسأله الجميع عن نفسه ومن أنت بجمالك البهي الفائق العطر؟ فيقول: أنا ولاية آل محمد علیهم السلام» (1)

و من هذا المنزل يبدأ البرزخ حيث قال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (2) و قد قال الصادق علیه السلام: ولكنّي والله أتخوف عليكم في البرزخ، قلت: و ما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة (3).

أعاذنا الله و جميع المؤمنين من أهواله بمنّه و كرمه، و ببركة شفاعة محمد و آل محمد علیهم السلام

ص: 30


1- البحار 76: 97 ح 2
2- المؤمنون: 100
3- الكافي للكليني 3: 243

المنزل الثالث: يوم القيامة

اشارة

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (1).

و قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (2).

و هذا المنزل أشد و أفظع من باقي المنازل، و فيه تعيين مصير الانسان إلى الجنة أو إلى النار، قال أمير المؤمنين علیه السلام: « وبالقيامة تُزلف الجنة، وتُبرز الجحيم للغاوين، و انّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى، قد شخصوا من مستقر الأجداث، و صاروا إلى مصائر الغايات، لكل دار أهلها، لا يُستبدلون بها و لا يُنقلون عنها» (3).

ص: 31


1- الحج: 1 - 2
2- عبس: 34 - 37
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 156

و يحدّرنا علیه السلام ذلك اليوم قائلاً: «احذروا يوماً تفحص فيه الأعمال، و يكثر فيه الزلزال، و تشيب فيه الأطفال ... و كأنّ الصيحة قد أتتكم، و الساعة قد غشيتكم، و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، و اضمحلت عنكم العلل، و استحقت بكم الحقائق، و صدرت بكم الأمور مصادرها» (1).

و هي منزلة مهولة إذ لما ينفخ في الصور «تزهق كل مهجة، و تبكم كل لهجة، وتذلّ الشمّ الشوامخ، و الصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، و معهدها قاعاً سملقاً، فلا شفيعٌ يشفع، و لا حميمٌ ينفع، و لا معذرةٌ تدفع» (2).

وقال علیه السلام: «انّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لابدّ من الورود عليها، و الوقوف عندها» (3) إذا رجفت الراجفة، و حقّت بجلائلها القيامة، و لحق بكلّ منسك أهله، و بكلّ معبود عبدته، و بكل مطاع أهل طاعته» (4) و «و اعلم انّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، و أنّه لاغنى بك فيه عن حسن الارتياد، و قدر بلاغك من الزاد خفّة الظهر» (5).

و من الأهوال التي يواجهها الانسان في هذا المنزل:

ص: 32


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 157
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 195
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 204
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 222
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31

1 - البعث من القبور و نفخ الصُّور

قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) (1).

في هذه العقبة المهولة تبعثر القبور، و يخرج الانسان و تجتمع أجزاء جسمه من كل مكان، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «حتى إذا تصرمت الامور و تقضّت الدهور، و أزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور، و أوكار الطيور، و أوجرة السباع، و مطارح المهالك سراعاً إلى أمره، معهطعين إلى معاده»(2).

و قال علیه السلام: «حتى إذا بلغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و ألحق آخر الخلق بأوّله، و جاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها و نسفها، و دكّ بعضها بعضاً من هيبة جلالته و نحوف سطوته، و أخرج مَن فيها فجددهم بعد إخلاقهم، و جمعهم بعد تفريقهم»(3)

و لهول هذه العقبة كان يبكي منها الإمام السجاد علیه السلام و يقول: «أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يميني و أخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل

ص: 33


1- الحاقة: 13 - 16
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 82
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 108

امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، و وجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة وذلة».

2 - المحاسبة

قال الله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (1).

و هذه العقبة أيضاً من أشد العقبات، حتى انّ أمير المؤمنين علیه السلام لما خانه أحد عماله خوّفه بيوم الحساب وك تب له: «أوما تخاف نقاش الحساب»(2) و كتب علیه السلام إلى معاوية ينصحه: «وخذ أُهْبَةَ الحساب» (3).

وقال علیه السلام في وصف وقوف الناس للحساب: «رعيلاً صموتاً، قياماً صفوفاً، ينفذهم البصر، و يُسمعهم الداعي، عليهم لبوس الاستكانة، و ضرع الاستسلام و الذلّة، قد ضلّت الحيل، و انقطع الأمل، و هوت الأفئدة كاظمة، و خشعت الأصوات مهينمة، و ألجم العرق، و عظم الشفق، و اُرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب، ومقايضة الجزاء، ونكال العقاب و نوال الثواب» (4).

و قال علیه السلام: «و ذلك يوم يجمع الله فيه الأولين و الآخرين لنقاش

ص: 34


1- الأنبياء: 1
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 41
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 10
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82

الحساب وجزاء الأعمال، خضوعاً قياماً قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً، و لِنَفْسِهِ متسعاً» (1).

وقال علیه السلام: «ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال، و خبايا الأفعال، و جعلهم فريقين أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء» (2). و يشير علیه السلام إلى الدقة في الحساب و رعاية العدل و الانصاف: «فلم يُجْز في عدله و قسطه يومئذٍ خرق بصر في الهواء، و لا همس قدم في الأرض الّا بحقه، فكم حجة يوم ذاك داحضة، و علائق عذر منقطعة» (3).

و هذه الدقة في الحساب تشمل جميع الأمور و لا تغادر شيئاً: «انّ الله تعالى يُسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، و الظاهرة و المستورة، فان يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم» (4)

و قال علیه السلام: «القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى، و لا ضرباً بالسياط، و لكنه ما يستصغر ذلك معه» (5).

3- الصراط

من العقبات المهولة و المصيرية في القيامة عقبة الصراط، و هو آخر مرحلة من مراحل القيامة حيث منه الجواز إلى الجنة أو الوقوع في النار.

ص: 35


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 101
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 108
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 222
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 27
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 176

و كان من دعاء الإمام السجاد علیه السلام: «و اكتب لي براءة من النار، و أماناً من العذاب، وجوازاً على الصراط» و من دعاء الإمام الصادق علیه السلام: «و سلّمني على الصراط، و أجزني عليه»(1).

يقول أمير المؤمنين علیه السلام في تبيين صعوبة الصراط وهوله: «واعلموا انّ مجازكم على الصراط و مزالق دحضه، و أهاويل زلله و تارات أهواله» (2).

و من الأمور النافعة لجواز الصراط: حب أهل البيت علیهم السلام، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أثبتكم قدماً على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي»(3).

و منها إسباغ الوضوء، قال رسول الله علیه السلام: «أسبغ الوضوء تمر على الصراط مرّ السحاب»(4)

و منها صلة الرحم و أداء الأمانة، فقد قال رسول الله: «حافتا الصراط يوم القيامة الأمانة و الرحم، فاذا مرّ الوصول للرحم و المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنة» (5).

و منها صلاة أول ليلة من رجب، و صيام ستة أيام من رجب

ص: 36


1- الكافي للكليني 2: 584
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 82
3- فضائل الشيعة للصدوق: 48
4- البحار 76: 4 ح0
5- عدة الداعي لابن فهد: 81

و زيارة الإمام الرضا علیه السلام حيث ورد عنه علیه السلام: «من زارني على بعد داري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى أخلصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً و شمالاً، و عند الصراط، وعند الميزان» (1).

4- شهود يوم القيامة

قال الله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (2).

و قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) (3).

و في هذا المجال قال أمير المؤمنين علیه السلام: «اعلموا عباد الله انّ عليكم رصداً من أنفسكم، و عيوناً من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و عدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج»(4).

ص: 37


1- الأمالي للصدوق: 106
2- النور: 24
3- فصلت: 19 - 22
4- نهج البلاغة الخطبة رقم 157

وقال علیه السلام: «أعضاؤكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه» (1). و مضافاً إلى شهادة الجوارح فهناك من الملائكة الكرام ممّن يحصي علينا أعمالنا، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إن أسررتم علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد و كل بذلك حفظة كراماً، لا يسقطون حقاً، و لا يثبتون باطلاً» (2).

و الله تعالى هو المحصي و الشاهد فوق كل هؤلاء، قال علیه السلام: «أحصى آثارهم و أعمالهم، و عدد أنفاسهم، و خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم من الضمير، و مستقرهم و مستودعهم من الأرحام والظهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات»(3).

ص: 38


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 199
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 89

المنزل الرابع الجنة أو النار

هذا المنزل هو نهاية المطاف، و آخر ما يصل إليه الانسان، و هو النهاية و المقرّ الخالد، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا و انّ اليوم المضمار، و غداً السباق، و السبقة الجنة، و الغاية النار» (1). و قال علیه السلام: «فكفى بالجنة ثواباً و نوالاً، و كفى بالنار عقاباً و وبالاً» (2). و قال علیه السلام: «الجنة غاية السابقين، والنار غاية المفرّطين» (3).

وقال علیه السلام: «و اعلم انّ أمامك عقبة كؤوداً، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، و المبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، و انّ مهبطها بك لا محالة على جنة أو على نار» (4).

و قال علیه السلام: «ما خير بخير بعده النار، و ما شر بشرّ بعده الجنة، و كل نعيم دون الجنة محقور، و كل بلاء دون النار عافية» (5).

ص: 39


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 28
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 31
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 377

ربما يتصور الانسان انّ المسافة بينه و بين الجنة أو النار بعيدة، و لكن بعد لحاظ ما ورد من سرعة انقضاء الدنيا و حلول الموت، و بعد لحاظ قول أمير المؤمنين علیه السلام: «و ما بين أحدكم و بين الجنة أو النار الّا الموت أن ينزل به» (1) لرأينا انّ المسافة قليلة جداً، و سرعان ما نصبح إمّا من أصحاب النعيم أو في العذاب الأليم.

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف الجنة: «درجات متفاضلات و منازل متفاوتات، لا ينقطع نعيمها، و لا يظعن مقيمها، و لا يهرم خالدها، و لا ييأس ساكنها» (2).

وقال علیه السلام: «فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره، و خلّدهم في داره، حيث لا يظعن النزّال، و لا تتغيّر بهم الحال، و لا تنوبهم الأفزاع، و لا تنالهم الأسقام، و لا تعرض لهم الأخطار، و لا تشخصهم الأسفار» (3).

و قال علیه السلام: «فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزَفَتْ نفسك عن بدائع ما اخرج إلى الدنيا من شهواتها و لذاتها، و زخارف مناظرها، و لَدَهِلَتْ بالفكر في اصطفاق أشجار غيّبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، و في تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها و أفنانها، و طلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها، تُجنى

ص: 40


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 63
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 84
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 108

من غير تكلّف فتأتي على منية مجتنيها، و يُطاف على نزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفّقة و الخمور المروّقة» (1).

و قال علیه السلام: «في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، و نورها بهجته، و زوّارها ملائكته، و رفقاؤها رسله» (2).

علماً بانّ دخول الجنة لا يكون بالتمنيات الخادعة، بل يحتاج إلى جد و جهاد و عمل دؤوب و معرفة و طاعة للأئمة الهداة، قال علیه السلام: « لا يدخل الجنة الّا من عرفهم و عرفوه» (3). و قال علیه السلام: «الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، و أعينهم باكية، و كان ليلهم في دنياهم نهاراً تخشّعاً و استغفاراً، و كان نهارهم ليلاً توحشاً و انقطاعاً، فجعل الله لهم الجنة ثواباً و كانوا أحق بها وأهلها، في ملك دائم و نعيم قائم»(4)

و من جانب آخر نحتاج إلى ترك المحرمات والشهوات، فقد قال علیه السلام: «من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، و من أشفق من النار اجتنب المحرمات» (5).

و قال علیه السلام في وصف النار التي هي منزل العاصين: «و أما أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأيدي إلى الأعناق، و قرن النواصي بالأقدام، و ألبسهم سرابيل القطران، و مقطعات النيران في عذاب قد

ص: 41


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 165
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 152
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
5- المصدر نفسه، قصار الحكم 27

اشتد حرّه، و باب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب و لجب و لهب ساطع، و قصيف هائل، لا يظعن مقيمها، و لا يُفادى أسيرها، و لا تُفصم كبُولها، لامدّة للدار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى»(1)

و قال علیه السلام: «و اتقوا ناراً حرّها شديد، و قعرها بعيد، حليتها حديد، و شرابها صديد» (2)

وقال علیه السلام: «و اعلموا انّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فانّكم قد جربتموها في مصائب الدنيا، فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، و العثرة تدميه و الرمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، و قرين شيطان، أعلمتم انّ مالكاً إذا غضب على النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، و إذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعاً من زجرته، أيها اليفن الكبير الذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الأعناق، و نشبت الجوامع حتى أكلت لحوم السواعد» (3).

و قال علیه السلام: «نار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيّظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف و عيدها، عمّ قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها» (4).

و أخيراً نعوذ بالله من هذه البلية كما استعاذ منها أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 42


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 108
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 119
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190

و قال: «و أعظم ما هنالك بلية نزل الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السعير، و سورات الزفير، لافترة مريحة، و لادعة مزيحة، و لاقوة حاجزة، و لاموتة ناجزة، ولاسنة مسلّية، بين أطوار الموتات، و عذاب الساعات، انا لله و أنا إليه راجعون، انّا بالله عائدون» (1).

***

هذا ما ورد في نهج البلاغة من ذكر منازل الآخرة، و هي الموت، و القبر، و يوم القيامة، و الجنة أو النار، و بهذا المنزل ينتهي سفر الانسان، و يبدأ مرحلة جديدة من حياته الاخروية، فاما السعادة الدائمة أو الشقاء اللازم.

و يجدر بنا أن نذكر هنا ما ينفع أو يضرّ الانسان في هذه المنازل بحسب ما ورد من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، لنفوز بالسعادة و لا نكون من الخاسرين، فانّ «أخسر الناس صفقة، وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب آماله، و لم تساعده المقادير على ارادته، فخرج من الدنيا بحسرته، و قدم على الآخرة بتبعته» (2).

و انّ «أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله، فوّرثه رجلاً فأنفقه في طاعة الله سبحانه، فدخل به الجنة، و دخل الأول به النار» (3).

ص: 43


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 82
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 418
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 417

و لا يجد الانسان مجالاً لأداء المنجيات و ترك المهلكات الّا في ظرف الدنيا، إذ «بالدنيا تحرز الآخرة» (1) و «انّ الدنيا لم تُخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار»(2). «و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم، وقد أو ذنتم منها بالارتحال، وامرتم فيها بالزاد» (3).

و كان يقول علیه السلام و ينادي بأعلى صوته: «أيها الناس انّما الدنيا دار مجاز و الآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم» (4). و يقول علیه السلام: «انّ الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها ... و لسنا للدنيا خلقنا، و لا بالسعي فيه اُمرنا» (5).

و يقول علیه السلام: «الدنيا خلقت لغيرها و لم تخلق لنفسها»(6)

و لنذكر الآن ما عثرنا عليه في نهج البلاغة من ذكر المنجيات و المهلكات لتتم الفائدة.

ص: 44


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 156
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 132
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 203
5- لمصدر نفسه، الكتاب رقم: 55
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 451

المنجيات و المهلكات

اشارة

قد أشار أمير المؤمنين علیه السلام في طيات كلامه إلى انّ الله تعالى أتم الحجة علينا و بيّن لنا ما يريد و ما يكره، قال علیه السلام: « واتخذ عليكم الحجة، وبيّن لكم محابّه من الأعمال ومكارهه منها، لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فانّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول: انّ الجنة حفّت بالمكاره، و انّ النار حفّت بالشهوات» (1) و قال علیه السلام: «انّ الأمر واضح، والعَلَم قائم، و الطريق جدد، و السبيل قصد»(2) فعلينا الأخذ بما يريد و الترك لما يكره.

1- المنجيات

اشارة

قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (3).

ان المنجيات في يوم القيامة كثيرة نشير إلى ما عثرنا عليه من كتاب نهج البلاغة:

ص: 45


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 176
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 161
3- يونس: 26

1- العمل الصالح

انّ العمل يلازم الانسان في الآخرة و هو الذي يحدد المسار، قال علیه السلام: «قد ظعنوا عنها [أي الدنيا ] بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية» (1) و قال علیه السلام: «أعمال العباد في عاجلهم نُصب أعينهم في آجلهم) (2).

و المهم في مجال العمل أن يكون مما ينفع في الآخرة، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و الناظر بالقلب، العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له، فان كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنده» (3)

و قال علیه السلام: «من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات، و ارتبك في الهلكات، و مدّت به شياطينه في طغيانه، و زيّنت له سيّء أعماله» (4)

و ينهانا علیه السلام أن نرجو الآخرة بغير العمل، حيث انّ: «العمل الصالح حرث الآخرة» (5) و لذا يقول علیه السلام: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل ... يحب الصالحين و لا يعمل عملهم»(6). و ذلك لانّ «المرء مجزيّ بما سلّف وقادم على ما قدّم»(7) و «ما قدّمت اليوم تقدم عليه غداً» (8).

ص: 46


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 110
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 2
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 154
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 23
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 140
7- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 21
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم 153

و هو علیه السلام كان دوماً يأمر بالمبادرة و الاسراع في الأعمال الصالحة، حيث يقول: «و سابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها» (1).

و يقول علیه السلام: «و اتقوا الله عباد الله، و بادروا آجالكم بأعمالكم، و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم» (2).

و يترحم على المبادر قائلاً: «رحم الله عبداً سمع حكماً فوعى ... قدم خالصاً، وعمل صالحاً ... بادر الأجل، وتزود من العمل» (3). ويقول علیه السلام: «وبادروا آجالكم بأعمالكم، فانّكم مرتهنون بما أسلفتم، و مدينون بما سلّفتم»(4).

و يقول علیه السلام: «و بادروا بالأعمال عمراً ناكساً، أو مرضاً حابساً، أو موتاً خالساً» (5).

وينبهنا علیه السلام انّ استقراب الأجل خير وسيلة للاهتمام بالعمل، إذ انّ المتقين «استقربوا الأجل فبادروا العمل»(6).

ويذكرنا علیه السلام بانّ ظرف الدنيا هو ساحة العمل، و لا مجال للانسان من العمل في غيره حيث «انّ اليوم عمل و لا حساب وغداً حساب و لا عمل»(7). و فرصة العمل منحصرة في الدنيا لا غير، ويحذرنا

ص: 47


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 173
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 63
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 75
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229
6- المصدر نفسه الخطبة رقم 113
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 42

(1)

من فوت الفرصة، لذا يؤكد و يقول: «فليعمل العامل منكم في أيام مهله قبل ارهاق أجله، و في فراغه قبل أوان شغله، و في متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه، وليمهّد لنفسه و قدمه، و ليتزود من دار ظعنه لدار اقامته» (2)

و يقول علیه السلام: «عباد الله الآن فاعملوا، و الألسن مطلقة، و الأبدان صحيحة، والأعظاء لدنة، و المنقلب فسيح، والمجال عريض»(3).

و يقول علیه السلام: «فاعملوا و أنتم في نفس البقاء، و الصحف منشورة، و التوبة مبسوطة، و المدبر يُدعى، و المسيء يُرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وتنقضي المدة، وتسدّ أبواب التوبة، وتصعد الملائكة» (4).

ويكرر علیه السلام نفس المضمون ويقول: «اعملوا رحمكم الله على أعلام بينة، فالطريق نهج يدعو إلى دار السلام، و أنتم في دار مستعتب على مهل و فراغ، و الصحف منشورة، و الأقلام جارية، و الأبدان صحيحة، و الألسن مطلقة، و التوبة مسموعة، و الأعمال مقبولة»(5).

كما أنّه علیه السلام يتعجب من غفلة الانسان و تقصيره في العمل و يقول: «ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه، و يقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبيّن ذلك في وجوهكم و قلة صبركم عمّا زوي منها عنكم، كأنّها دار مقامكم و كأنّ متاعها باق عليكم»(6)

ص: 48


1-
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 85
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 196
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 238
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 93
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112

و لذا ينبهنا ويقول علیه السلام: «و اعلموا انّ ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة و زاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح و مزيد خاسر» (1)

و يعطينا علیه السلام مؤشرات لتمييز العمل الصالح من جهة، و تقييمه من جهة أخرى، فيقول علیه السلام: «أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه»(2) و قال علیه السلام في وصف أخ له فيما مضى: «و كان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه» (3). و يقول علیه السلام: «واعلموا انّه ما من طاعة الله شيء الّا يأتي في كره، و ما من معصية الله شيء الّا يأتي في شهوة، فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته، و قمع هوى نفسه، فانّ هذه النفس أبعد شيء منزعاً، و أنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى» (4).

ويقول علیه السلام: «الناظر بالقلب، العامل بالبصر، يكون مبتدأ عمله يعلم أعمله عليه أم له فان كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنده، فانّ العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح الّا بعداً من حاجته، و العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع»(5)

و في مجال تقييم العمل ينبهنا علیه السلام تارة بعدم استصغار العمل

ص: 49


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 113
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 240
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 280
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 176
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 154

الصالح و التهاون به مهما كان حجمه و يقول: «و افعلوا الخير و لا تحقروا منه شيئاً، فانّ صغيره كبير و قليله كثير» (1).

و تارة اخرى يأمر بعدم الطمأنينة إلى العمل و عدم استكثاره حيث يقول علیه السلام في صفة المتقين: «لا يرضون من أعمالهم القليل ... يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل»(2). و لا يستكثرونها إذ يعلمون انّ أعمالهم مهما بلغت لا تجازي نعم الله، و لذا يحلف أمير المؤمنين علیه السلام و يقول: «فوالله لو حننتم حنين الوُلّه العجال، و دعوتم بهديل الحمام، و جأرتم جؤار متبتلي الرهبان، و خرجتم إلى الله من الأموال و الأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها كتبه، وحفظها رسله، لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه، و أخاف عليكم من عقابه، تالله لو انماثت قلوبكم انمياثاً، و سالت عيونكم من رغبة إليه و رهبة منه دماً، ثم عمّرتم في الدنيا ما الدنيا باقية، ما جزت أعمالكم – و لو لم تبقوا شيئاً من جهدكم - أنعمه عليكم العظام، و هداه اياكم للايمان» (3).

و ليعلم انّه كلما ازدادت المعرفة بالله تعالى لاستحقر الانسان أعماله، يقول علیه السلام في وصف الملائكة: «و انهم على مكانهم منك ... و كثرة طاعتهم لك، و قلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، و لزروا على أنفسهم، و لعرفوا أنّهم لم

ص: 50


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 410
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 19
3- المصدر نفسه، قصار الحكم 52

يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق طاعتك» (1).

و لا منافاة بين الاشتغال بالأعمال الصالحة، و بين الانشغال بالكسب و العيش، إذ أولاً: «لا تجارة كالعمل الصالح» (2). و ثانياً: «من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه، و من أحسن فيما بينه و بين الله كفاه الله ما بينه و بين الناس» (3). و ثالثاً: «قد تكفل لكم بالرزق و امرتم بالعمل فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه و الله لقد اعترض الشك و دخل اليقين حتى كأنّ الذي ضُمن لكم قد فُرض عليكم، و كأنّ الذي فُرض عليكم قد وضع عنكم»(4)، فلا داعي للتقصير في العمل بحجة التكسّب بل لكل منهما شأن مضافاً إلى كفالة الله تعالى.

و ختاماً يجمع هذا كله قوله علیه السلام: «فالله الله معشر العباد، و أنتم سالمون في الصحة قبل السقم و في الفسحة قبل الضيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها، و أسهروا عيونكم، و أضمروا بطونكم، و استعملوا أقدامكم، و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم تجودوا بها على أنفسكم، و لا تبخلو بها عنها فقد قال الله سبحانه: (إن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (5) ... فبادروا بأعمالكم تكونوا مع

ص: 51


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 108
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 107
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 411
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 113
5- محمد: 7

جيران الله في داره، رافق بهم رسله، و أزارهم ملائكته، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً و نصباً (1).

2- الشهادتان:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و نشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، و انّ محمداً عبده و رسوله، شهادتين تصعدان القول، و ترفعان العمل، لا يَخفّ ميزان توضعان فيه، و لا يثقل ميزان تُرفعان منه» (2)

3- طاعة الله تعالى:

انّ طاعة الله تعالى ه-ي حق الله على العباد، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه، وتوسعاً بما ه-و من المزيد أهله» (3)

و هي أيضاً الأساس في النجاة و الفوز و السعادة، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «لا يُخدع الله عن جنته، و لا تنال مرضاته الّا بطاعته» (4).

و قال علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله و طاعته، فانّها النجاة غداً، و المنجاة أبداً» (5).

ص: 52


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 183
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 216
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 129
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 161

و كتب علیه السلام إلى الحارث الهمداني رحمة الله علیه: «واطع الله في جمل أمورك، فانّ طاعة الله فاضلة على ما سواها (1).

وقال علیه السلام: «ان الله سبحانه وضع الثواب على طاعته، و العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنته» (2).

وقال علیه السلام: «احذر أن يراك الله عند معصيته، و يفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين، و إذا قويت فاقو على طاعة الله، و إذا ضعفت فاضعف عن معصية الله» (3).

و قال علیه السلام: «فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، و دخيلاً دون شعاركم، و لطيفاً بين أضلاعكم، و أميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين وردكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم، و جُنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فانّ طاعة الله حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف متوقعة، وأوار نيران موقدة»(4).

والله تعالى قد بيّن الحجة ولم يبق لأحد عذراً إذ ان اللطاعة أعلاماً واضحة، وسبلاً نيّرة ومحجة نهجةً، وغايةٌ مطلبةٌ، يردها الاكياس ويخالفها الأنكاس، من نكب عنها جار عن الحق وخبط في التيه وغيّر الله نعمته وأحلّ به نقمته». (5)

ص: 53


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 69
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 358
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 373
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 198
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 30

وقال علیه السلام: «و استتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته»(1)

و أخيراً ان الله تعالى يساعد العباد على الطاعة، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وانّ لكم عند كل طاعة عوناً من الله، يقول على الألسنة، ويثبّت الأفئدة، فيه كفاء لمكتف، وشفاء المشتف»(2)

طبعاً مع الاذعان بالتقصير و عدم التمكن من أداء حق الطاعة، قال علیه السلام: «فليس أحد - وإن اشتد على رضى الله حرصه، و طال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله من الطاعة له» (3).

4 - التمسك بالثقلين:

اشارة

وهما القرآن والعترة، كما ورد في الحديث المتواتر: «انّي تارك كم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ألف: القرآن

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و اعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم

ص: 54


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 188
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 214
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 216

واستعينوا به على لأوائكم، فانّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق، والغيّ والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، أنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله، واعلموا انه شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وانّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفّع فيه، ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة صُدّق عليه، فانّه ينادي مناد يوم القيامة: ألا انّ كل حارث مبتلى في حرثه و عاقبة عمله غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته و أتباعه ... و انّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فانّه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره»(1)

ويشير علیه السلام إلى حتمية دخول الجنة لقارئ القرآن الاّ أن يكون منافقاً يستهزئ بالقرآن قال علیه السلام: «من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا» (2).

ب: العترة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، و اتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا»(3).

ص: 55


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 176
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 218
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 96

وقال علیه السلام: «و انّما الأئمة قوّام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة الّا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار الا من أنكرهم وأنكروه» (1).

و يقول علیه السلام عن نفسه وهو سيد العترة: «فان أطعتموني فانّي حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة» (2)

وقال علیه السلام: «انّما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة، يستضيء من ولجها، فاسمعوا أيها الناس وعوا، وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا» (3).

ويشير علیه السلام إلى انّ التمسك بالعترة لا ينفع لوحده، ومن دون طاعة الله والالتزام بالواجبات وترك المحرمات إذ: «انّ ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لُحمته، وانّ عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته» (4).

فهكذا انسان - أي المتمسك بالقرآن والعترة وأوامر الله تعالى - إن مات مات شهيداً و إن لم يقتل، قال علیه السلام: «فانّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه عز وجل، وحق رسوله وأهل بيته، مات

ص: 56


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 152
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 187
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 90

شهيداً ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام اصلاته لسيفه» (1).

5 - التقوى

انّ التقوى من الأمور النافعة جداً في الدنيا والآخرة، فانّها في الدنيا راحة وطمئنينة وسكينة ونجاة من البلايا، وفي الآخرة النجاة والفوز برضى الرحمن، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «التقى رئيس الأخلاق» (2). وقال علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، فانّها النجاة غداً والمنجاة أبداً» (3).

والتقوى لابد وأن تكون في جميع الأمور، فيما يتعلق بالرب، وما يتعلق بالناس، وما يتعلق بالطبيعة كل بحسبه، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «اتقوا الله في عباده وبلاده، فانّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم» (4) هذا هو قمة الكمال، لكن مع هذا لابد أن لا ييأس الانسان ويقول انّي لا أتمكن، لانّ أمير المؤمنين علیه السلام يعلمنا و يقول لنا: «اتق الله بعض التقى وإن قلّ، واجعل بينك وبين الله ستراً وإن رق» (5).

ص: 57


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 190
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 399
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 161
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 167
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 233

و ذلك لانه «لا يقلّ عمل مع التقوى، وكيف يقلّ ما يتقبل»(1)

و التقوى من النعم العظيمة والمجهولة، فانّها أفضل من النعم الظاهرية، يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «انّ من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب» (2). لذا نرى الأولياء يعظمون موت القلوب أكثر من موت الأجساد، قال علیه السلام: «يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم، وهم أشد اعظاماً لموت قلوب أحيائهم» (3).

وهي خير زاد إلى معاد، ولما مرّ أمير المؤمنين علیه السلام بالقبور التي كانت بظهر الكوفة وناداهم وتكلّم معهم، ثم قال: هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: «أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم انّ خير الزاد التقوى»(4)

ومن كلامه علیه السلام الجامع في التقوى قوله: «فاتقوا الله تقية من سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، و عُبّر فاعتبر، وحُذّر فازدجر، و أجاب فأناب، و راجع فتاب، واقتدى فاحتذى، وأري فرأى، فأسرع طالباً، ونجا هارباً، فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة، وعمّر معاداً، واستظهر زاداً ليوم رحيله وجه سبيله ...

فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكّر قلبه، و أنصب الخوف بدنه، و أسهر

ص: 58


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 89
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 378
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 123

التهجّد غرار نومه، و أظمأ الرجاء هواجر يومه، وظلف الزهد شهواته، وأوجف الذكر لسانه، وقدّم الخوف لأمانه، وتنكّب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تقتله فاتلات الغرور، ولم تَعْمَ عليه مشتبهات الأمور، ظافراً بفرحة البشرى، وراحة النعمى، في أنعم نومه وآمن يومه» (1).

وقوله علیه السلام: «اوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ، زاد مُبلغ، ومعاذ منجح، دعا اليها أسمع داع، و وعاها خير واع، فأسمع داعيها وفاز واعيها، عباد الله ان تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم،

فأخذوا الراحة بالنصب، والري بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل فلاحظوا الأجل» (2).

وقوله علیه السلام: «واعلموا عباد الله انّ التقوى دار حصن عزيز، و الفجور دار حصن ذليل ... ألا وبالتقوى تقطع حُمَة الخطايا» (3).

وقوله علیه السلام: «وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه، وحاجته من خلقه، فاتقوا الله الذي أنتم بعينه ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد وكل بذلك حفظة كراماً لا يسقطون حقاً، ولا يثبتون باطلاً، واعلموا أنّه من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم ويخلّده فيما اشتهت نفسه، وينزله

ص: 59


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 82
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157

منزلة الكرامة عنده (1).

وقوله علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فانّها حق الله عليكم والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فانّ التقوى في اليوم الحرز والجنّة وفي غدٍ الطريق إلى الجنة، مسلكها واضح، وسالكها رابح، و مستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين و الغابرين لحاجتهم اليها غداً، إذا أعاد الله ما أبدى، و أخذ ما أعطى، وسأل عما أسدى، فما أقلّ من قبلها و حملها حق حملها، اولئك الأقلّون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (2) فأهطعوا بأسماعكم إليها، وأكظّوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفاً، ومن كل مخالف موافقاً، أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وارحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا بمن أضاعها، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها، ألا وصونوها وتصوّنوا بها»(3)

وقوله علیه السلام: «اوصيكم عباد الله بتقوى الله، فانّها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، و اعتصموا بحقائقها، تَؤُلُ بكم إلى أكنان الدعة، و أوطان السعة، و معاقل الحرز، ومنازل العزّ في يوم تشخص فيه

ص: 60


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 183
2- سبأ: 13
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 191

الأبصار، وتُظلم له الأقطار، وتُعطّل فيه صروم العشار» (1).

وقوله علیه السلام: «انّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، و ضياء سواد ظلمتكم ... فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدئد بعد دنوّها، و احلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد أنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرّت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها» (2)

وقوله علیه السلام: «ان تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب» (3).

وأخيراً: «انّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما اُكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ، والمتجر الرابح، أصابوا لذّة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقّنوا انهم جيران الله غداً في آخرتهم، ولا تُردّ لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة» (4)

ص: 61


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 195
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 198
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27

6 - التوبة

صحيح انّ «ترك الذنب أهون من طلب التوبة»(1) ولكن قلّ من لا يتلوّث بدنس الذنوب و المعاصي طيلة حياته، لذا فتح الله تعالى لنا باب التوبة و الاستغفار، وضمن على نفسه القبول، فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (2).

وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «من اُعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن اُعطي الاستغفار لم يُحرم المغفرة»(3). وبنفس المضمون قال علیه السلام: «ما كان الله ... ليفتح على عبد باب التوبة ويُغلق عنه باب المغفرة»(4)

والاستغفار مضافاً إلى أنّه سبب للمغفرة، كذلك سبب لزيادة الرزق، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (5) فرحم الله امرأ استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته»(6)

وكان علیه السلام ينادي بأعلى صوته ويقول: «أفلا تائب من خطيئته

ص: 62


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 160
2- الزمر: 53
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 128
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 558
5- نوح: 10 - 11
6- نهج البلاغة الخطبة رقم: 143

قبل منيته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه» (1).

ويشير علیه السلام إلى انّ التوبة من أفضل الأعمال في الدنيا قائلاً: «لا خير في الدنيا الّا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات» (2).

وأخيراً انّ التوبة ليست لقلقة لسان فحسب، بل لها ضوابط وشروط، لانّ «المستغفر من ذنب وهو يفعله كالمستهزء بربه» كما قال الإمام الرضا علیه السلام (3). لذا نرى أمير المؤمنين علیه السلام ذكر ضابطة الاستغفار والتوبة لرجل سمعه بحضرته يستغفر، فقال له:

«ثكلتك امك، أتدري ما الاستغفار؟ انّ الاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقّها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى يلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول أستغفر الله» (4).

ص: 63


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 28
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 89
3- عدة الداعي لابن فهد: 250
4- نهج البلاغة، قصار الحكم 405

7- الاخلاص

قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (1) والعمل الصالح هو العمل الخالص -كما في مجمع البيان-(2).

الاخلاص هو قوام العمل وبدونه يفقد العمل محتواه ويصير وبالاً على الانسان، وأمير المؤمنين علیه السلام كما يحثّنا على العمل، يحثّنا على الاخلاص أيضاً حيث يقول: «اعملوا في غير رياء ولا سمعة، فانّه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له» (3)

و الإمام علیه السلام اقتبس كلامه هذا من قوله تعالى: (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ (4) وذلك لانّ الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام (5)

و كان مما أوصى ابنه الإمام الحسن علیه السلام: «وأخلص في المسألة لربك فانّ بيده العطاء والحرمان» (6).

ص: 64


1- الكهف: 110
2- مجمع البيان للطبرسي 6: 396
3- نهج البلاغة الخطبة رقم 23
4- الأنعام: 136
5- المحاسن للبرقي 1: 252 ح271
6- نهج البلاغة الكتاب رقم 31

8- النيّة الحسنة

انّ الانسان ربما تفوته كثير من الصالحات لفوت زمانها أو لأيّ سبب آخر، فهنا تأتي النية لتحلّ محلّ العمل، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه عزوجل وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام اصلاته لسيفه»(1)

وقال علیه السلام أيضاً: «انّ الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة»(2)

وقد قال له بعض أصحابه: «وددت انّ أخي فلاناً كان شاهداً ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له علیه السلام: «أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الايمان» (3).

ولذا كان علیه السلام يؤكد على هذا الجانب ويدعو ويقول: «جعلنا الله واياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته»(4) فقدّم علیه السلام السعي القلبي ودعا الله تعالى أن يجعله من هذا الصنف، و ذلك لانّ العمل لاقيمة له لو جرّد عن النية الصالحة التي تدعمه وتسنده، ويؤيّده

ص: 65


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 190
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 38
3- المصدر نفسه، خطبة رقم: 12
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160

قوله علیه السلام: « وبما في الصدور تجازى العباد» (1).

9 - جهاد النفس

اشارة

وهو من أبرز صفات الأولياء، وله مصاديق متعددة أشار إلى جملة منها أمير المؤمنين علیه السلام كما ورد في نهج البلاغة، وهي كما يلي:

ألف - محاسبة النفس

انّ من الأمور النافعة في مجال تهذيب النفس، والتدرج في مدارج الكمال، محاسبة النفس حتى انّه ورد عن الامام الكاظم علیه السلام أنّه قال: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه» (2)

وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف أهل الذكر: «فلو مثّلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم، وعلى كل صغيرة وكبيرة امروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها، وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجاً، وتجاوبوا نحيباً، يعجّون إلى ربهم من مقام ندم واعترافّ لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى، قد حفّت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفُتحت له-م أبواب السماء، واعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم

ص: 66


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 74
2- تحف العقول للحراني: 396

فيه، فرضي سعيهم، وحمد مقامهم، يتسنمون بدعائه روح التجاوز رهائن فاقة إلى فضله، وأسارى ذلة لعظمته، جرح طول الأسى قلوبهم، وطول البكاء عيونهم، لكل باب رغبة إلى الله سبحانه منهم يد قارعة، يسألون من لا تضيق لديه المنادح ولا يخيب عليه الراغبون، فحاسب نفسك لنفسك، فانّ غيرها من الأنفس لها حسيبٌ غيرك» (1).

وقال علیه السلام: « من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر»(2)

ب - منع النفس عن المشتهيات

قال أمير المؤمنين علیه السلام في صفات المتقين: «إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب» (3).

وقال علیه السلام يوصف جهاد نفسه الطاهرة قائلاً: «وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله عزوجل، لأروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً» (4).

و قال علیه السلام لبعض أصحابه: « واعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروهه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزوتك عند الحفيظة واقماً قامعاً» (5).

ص: 67


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 221
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 198
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 193
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 45
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 56

وقال علیه السلام: «ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة» (1).

وقال علیه السلام: «فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه فانّ هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وأنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوی» (2).

وقال علیه السلام في صفة أهل الآخرة: «قد ألزم نفسه على العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه» (3).

ج - ترك المعاصي وفعل الواجبات

قال علیه السلام: «امرءٌ ألجم نفسه بلجامها، وزمها بزمامها، فأمسكها بلجامها عن معاصي الله، وقادها بزمامها إلى طاعة الله» (4).

وكتب علیه السلام في عهده لمالك الأشتر رحمة الله علیه: «وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فانّ النفس أمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربي ... وشُحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك، فانّ الشحّ بالنفس الانصاف منها فيما أحبت وكرهت»(5).

وقال علیه السلام: «فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات

ص: 68


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 85
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 176
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 86
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 238
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

وارتبك في الهلكات، ومدّت به شياطينه في طغيانه، وزينت له سيّء أعماله» (1)

وقال علیه السلام في وصف المتقين: «أتعب نفسه لآخرته، و أراح الناس من نفسه» (2)

د - ترويض النفس وتأديبها

قال علیه السلام: «و انّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق» (3).

وقال علیه السلام: «أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها»(4)

و قال علیه السلام: «ومعلم نفسه ومؤدّبه-ا أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم»(5).

ه- - اتهام النفس

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «واعلموا عباد الله انّ المؤمن لا يصبح

ص: 69


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 157
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 193
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 45
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 349
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 68

ولا يمسي الّا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها» (1).

وقال علیه السلام في وصف المتقين: «فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم منّي بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنون، واغفرلي ما لا يعلمون» (2).

وقال علیه السلام: «ولا يلم لائم الّا نفسه» (3)

10 - التفكّر

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه» (4).

وقال علیه السلام: «ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكنّ القلوب عليلة، والأبصار مدخولة» (5).

وقال علیه السلام: «فلينتفع امرؤ بنفسه، فانّما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي، ... فأفق أيها السامع من سكرتك ...

ص: 70


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 176
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 193
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 16
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 82
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 185

وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم ممّا لابدّ منه ولا محيص عنه» (1)

وقال علیه السلام: لا علم كالتفكر»(2)

11 - أداء الفرائض

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة» (3).

وقال علیه السلام: «طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها» (4)

وقال علیه السلام في عهده للأشتر: «أمره بتقوى الله وايثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد الا باتباعها، ولا يشقى الّا مع جحودها واضاعتها» (5).

وقال علیه السلام: «وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات، والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتائق الوجوه بالتراب تواضعاً، و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولحوق البطون بالمتون من

ص: 71


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 153
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 107
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 167
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 45
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

الصيام تذللاً، مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر، أنظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر»(1)

ومن هذه الفرائض الصلاة، ولأهميتها ومحوريّتها لسائر الأعمال قال علیه السلام: «واعلم انّ كل شيء من عملك تبع

لصلاتك» (2)

وقال علیه السلام: «تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها، فانّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (3) وأنّها لتحتّ الذنوب حت الورق، وتطلقها اطلاق الربق، وشبهها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالحمّة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ... وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(4) فكان يأمر بها أهله ويُصبر عليها نفسه»(5)

ومنها الزكاة، فقد قال علیه السلام: «ثم انّ الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الاسلام، فمن أعطاها طيّب النفس بها، فانّها تجعل له

ص: 72


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27
3- المدثر: 42 - 43
4- طه: 132
5- نهج البلاغة الخطبة رقم: 199

كفارة، ومن النار حجازاً ووقاية» (1).

ومنها الجهاد، قال علیه السلام: «أما بعد فانّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجُنته الواقية»(2).

وقال علیه السلام: «الجنة تحت أطراف العوالي» (3).

ومنها الصوم، قال علیه السلام: «انّ أفضل ما توسل به المتوسل إلى الله سبحانه ... صوم شهر رمضان فانّه جنة من العقاب» (4).

ومنها الحج، قال علیه السلام: «و فرض عليكم حج بيته الحرام ... جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته» (5).

وقال علیه السلام: «انّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله ... حج البيت واعتماره، فانّهما ينفيان الفقر و يرحضان الذنب»(6). وقال علیه السلام أيضاً في الحج: «جعله الله تعالى سبباً لرحمته ووصلة إلى جنته». (7)

ص: 73


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 199
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 27
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 124
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 109
5- المصدر نفسه الخطبة رقم: 1
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 109
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 192

و منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال علیه السلام: «ما أعمال البرّ كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الا كنفثة في بحر لجيّ» (1).

وقال علیه السلام: «انّ أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكراً، قلب فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه» (2).

ومنها الصدقة، قال علیه السلام: «انّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله ... صدقة السرّ فانّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فانّها تدفع ميتة السوء» (3).

12 - الصمت وحفظ اللسان

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وليختزن الرجل لسانه، فانّ هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وانّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وانّ قلب المنافق من وراء لسانه، لانّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبره في نفسه، فان كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه، وانّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه، ولقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لا يستقيم ايمان عبد حتى

ص: 74


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 364
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 365
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 109

يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (1)

وقال لابنه الإمام الحسن علیه السلام: «وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك»(2)

وقال علیه السلام: «الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة» (3)

وقال علیه السلام: «من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار ... ومن علم انّ كلامه من عمله قل ّكلامه الّا فيما يعنيه» (4)

ومما ينبغي التحرز منه الاسراع في تقييم الناس بسبب زلاتهم، والحكم عليهم بالانحراف والزلل، قال علیه السلام: «يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له، وتأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته ممّا ابتلي به غيره»(5).

ص: 75


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 176
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 371
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 339
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 140

13 - الذكر:

انّ مما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن علیهم السلام أن يعمر قلبه بذكر الله تعالى فقال له: «فانّي اوصيك بتقوى الله ... وعمارة قلبك بذكره» (1).

وقال علیه السلام عند تلاوة قوله تعالى: (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(2) فقال: «انّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة ... وانّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنّما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون» (3).

14 - نبذ الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرض وقراضة الجلم، واتعظوا من كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من

ص: 76


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 31
2- النور: 37
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 221

بعدكم وارفضوها ذميمة، فانّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم»(1).

وقال علیه السلام: «فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها، أقرب دار من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله، فغضوا عنكم عباد الله غمومها وأشغالها، لما قد أيقنتم به من فراقها وتصرف حالاتها» (2).

وقال علیه السلام: «انّ السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم»(3)

وأخيراً يشير علیه السلام إلى لزوم التأسي بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم في تركه للدنيا، حيث يقول: «فتأس بنبيك الأطيب الأطهر صلی الله علیه و آله و سلم، فانّ فيه اسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى، وأحب العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً ... ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة - لاحدى أزواجه - غيّبيه عنّي فانّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها» فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يُذكر عنده»(4)

ص: 77


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 32
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 161
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 222
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160

2 - المهلكات

اشارة

قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1)

قد استعرضنا فيما مضى مجموعة من الأعمال المنجية في يوم القيامة مما ورد ذكرها في نهج البلاغة وربما فاتنا غيرها، أما الآن فلنذكر المهلكات لنحترز منها، وهي كما يلي:

1 - متابعة الشيطان

قال الله تعالى: ﴿أأَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (2).

وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ (3).

إلى غيرها من الآيات الكريمة المحذّرة من متابعة الشيطان و جنوده، والمذكّرة بخدعه ومكره.

وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً في التحذير منه: «فاحذروا عدوّ الله أن يُعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان

ص: 78


1- النمل: 90
2- يس: 60
3- النساء: 119

قريب، وقال رب بما أغويتني لأزيننّ لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، قذفاً بغيب بعيد، ورجماً بظن غير مصيب، صدّقه به أبناء الحمية، و اخوان العصبيّة، وفرسان الكبر والجاهلية، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم، واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ، استفحل سلطانه عليكم، ودلف بجنوده نحوكم، فأقحموكم ولجات الذلّ، وأحلّوكم ورطات القتل، وأوطأوكم أثخان الجراحة، طعناً في عيونكم، وحزّاً في حلوقكم، ودقّاً لمناخركم، وقصداً لمقاتلكم، وسوقاً بخزائم القهر إلى النار المعدة لكم، فأصبح أعظم في دينكم جرحاً، وأورى في دنياكم قدحاً، من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألبين، فاجعلوا عليه حدّكم، وله جدّكم، فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصدَ برَجِلِهِ سبيلكم، يقتنصونكم بكل مكان، ويضربون منكم كل بنان لا تمتنعون بحيلة، ولا تدفعون بعزيمة»(1).

وليعلم انّ الشيطان يستخدم سبلاً وطرقاً مختلفة للاغواء، يشير الإمام علیه السلام إلى بعضها قائلاً: «انّ الشيطان يسنّي [أي يسهّل] لكم طرقه ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ... فأصدعوا عن نزغاته ونفثاته» (2). وقال علیه السلام: «واعلموا انّ الشيطان انّما يسنّي لكم طرقه لتتبعوا عقبه» (3).

ص: 79


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 120
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 138

و من مواقع حضوره التي يجب التجنب عنها: مجالسة أهل الهوى، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان و محضرة للشيطان» (1).

ومنها الكبر والحمية والعصبية، قال علیه السلام: «فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، و أحقاد الجاهلية، وانّما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزغاته ونفئاته ... فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية، فانّه ملاقح الشنآن ومنافخ الشيطان ... فالله الله في عاجل البغي وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فانّه-ا مصيدة ابليس العظمى، و مكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبداً، ولا تشوي أحداً، لا عالماً لعلمه ولا مقلاً في طمره» (2).

ومنها العجب، حيث قال علیه السلام: «واياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الاطراء، فانّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من احسان المحسنين» (3).

ومنها الجلوس في الأسواق، قال علیه السلام: «اياك ومقاعد الأسواق، فانّها محضرة الشيطان، ومعاريض الفتن»(4)

ص: 80


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 85
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 192
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 69

ومنها الغضب، قال علیه السلام: «واياك والغضب، فانّه طيرة من الشيطان» (1).

وقال علیه السلام: «و احذر الغضب فانّه جند عظيم من جند إبليس» (2).

ومنها التزيين والتسويف قال علیه السلام: «والشيطان موكل به يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، حتى تهجم عليه منيّته عليه أغفل ما يكون عنها» (3).

ثم انّ لأتباع الشيطان مواصفات، يشير إليها أمير المؤمنين علیه السلام قائلاً: «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، و اتخذهم له أشراكاً، فباض وفرخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، و زيّن لهم الخطل، فِعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، و نطق بالباطل على لسانه» (4).

ومع هذا فانّه سيتخلّى عنهم يوم القيامة ويتركهم بحسراتهم، قال علیه السلام: «و زيّن سيئات الجرائم، و هوّن موبقات العظائم، حتى إذا استدرج قرينته، و استغلق رهينته، أنكر ما زيّن، واستعظم ما ه-وّن، و حذّر ما امّن»(5). و قال علیه السلام في الخوارج: «انّ الشيطان اليوم قد

ص: 81


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 76
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 69
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 63
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 7
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82

استفلّهم، وهو غداً متبرّئ منهم، ومخلّ عنهم» (1). كما ورد في القرآن الكريم عن لسان ابليس: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (2).

2 - الاغترار بالدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أيها الناس انّ الدنيا تغرُ المؤمّل لها والمخلد اليها، ولا تنفس بمن نافس فيها وتغلب من غلب عليها»(3)

وقال علیه السلام في صفة الغافلين: «أنسوا بالدنيا فغرتهم، ووثقوا بها فصرعتهم» (4).

وقال علیه السلام: «ولا تغرنّكم الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية، الذين احتلبوا درّتها، وأصابوا غرّتها، وأفنوا عدّتها، وأخلقوا جدتها، أصبحت مساكنهم أجداثاً، وأموالهم ميراثاً، لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم، فاحذروا الدنيا فانّها غدارة غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها» (5).

ص: 82


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 181
2- إبراهيم: 22
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 178
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 188
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229

وقال علیه السلام: «و مثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه»(1)

وقال علیه السلام في صفة الدنيا: «هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق» (2).

وقال علیه السلام أيضاً في وصفها: «تغرّ و تضرّ وتمرّ انَّ الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه ولاعقاباً لأعدائه» (3).

3 - الغفلة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا وأنّي لم أر كالجنة نام طالبها، ولا کالنار نام هاربها» (4)

وقال علیه السلام: «فيالها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، وأن تؤدّيه أيامه إلى شقوة» (5).

وقال علیه السلام: «يا أيها الانسان ما جرّأك على ذنبك، وما غرّك بربك، وما آنسك بهلكة نفسك، أما من دائك بلول، أم ليس من نومتك يقظة، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من

ص: 83


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 31
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 45
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 403
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 28
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 63

حرّ الشمس فتظلّه، أو ترى المبتلى بألم يُمض جسده فتبكي رحمة له، فما سبّرك على دائك، و جلّدك على مصابك، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة، وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته، فتداوَ مِنْ داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة، وكن لله مطيعاً، وبذكره آنساً، وتمثل في حال تولّيك عنه اقباله عليك، يدعوك إلى عفوه ويتغمّدك بفضله، وأنت متول عنه إلى غيره»(1)

وقال علیه السلام: «كم من مستدرج بالاحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، و ما ابتلى الله أحداً بمثل الاملاء له» (2).

و لسوء عاقبة الغفلة كان علیه السلام يتعوذ بالله من الغفلة قائلاً: «ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة» (3)

و من نتائج الغفلة نسيان الآخرة كما ورد في كلام أمير المؤمنين علیه السلام: «قد غاب عنكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة» (4) وقال علیه السلام: «ولكنكم نسيتم ماذكّرتم، وأمنتم ما حُذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم»(5).

ص: 84


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 222
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 110
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 361
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 115

ومن صفات الغافل أنّه «يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه، و يفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به، ضنّاً بغضارة عيشه، و شحاحة بلهوه ولعبه»(1). بينا نرى انّ أولياء الله على عكس ذلك، فانّهم «إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً انّ ازمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك» (2)

4 - الذنوب والخطايا

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا وانّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، و خلعت لجمها، فتقحّمت بهم في النار» (3).

و كان يحذّر أصحابه ويقول: «احذروا الذنوب المورّطة، والعيوب المسخطة» (4).

و من جملة الذنوب الاستخفاف بها، قال علیه السلام: «أشد الذنوب ما استخف به صاحبه» (5).

و منها الكبر و الحسد، قال علیه السلام: «الحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحّم في الذنوب، والشرّ جامع مساوئ العيوب» (6)

ص: 85


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 220
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 226
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 16
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 465
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 360

وقال علیه السلام: «ولا تكونوا كالمتكبر على ابن امّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة ... استعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر، فلو رخّص الله في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخّاصة أنبيائه ولكنه سبحانه كرّه إليهم التكابر ورضي لهم التواضع» (1).

و منها الرياء، قال علیه السلام: «و اعلموا انّ يسير الرياء شرك»(2). و كان علیه السلام يدعو بهذا الدعاء: «اللهم أنّي أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، و تقبح فيما اُبطن لك سريرتي، محافظاً على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه منّي، فأبدي للناس حسن ظاهري، و أفضي إليك بسوء عملي، تقرّباً إلى عبادك، و تباعداً من مرضاتك» (3).

و منها العجب، قال علیه السلام: «واعلم انّ الاعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب»(4) و قال علیه السلام: «و اياك والاعجاب بنفسك، و الثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فانّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من احسان المحسنين» (5).

ص: 86


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 85
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 267
4- المصدر نفسه الكتاب رقم: 31
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

وقال علیه السلام: «سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك»(1). و ليس هذا الّا لسوء حالة العجب. وقال علیه السلام: «الاعجاب يمنع من الازدياد»(2).

و منها الخيانة في الأمانة، قال علیه السلام: «ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة، و لم ينزّه نفسه ودينه عنها، فقد أحلّ بنفسه في الدنيا الخزي، و هو في الآخرة أذلّ و أخزى» (3).

و منها البغي والعدوان، قال الله في كتابه لمعاوية: «انّ البغي و الزور يوتغان المرء في دينه و دنياه، و يبديان خلله عند من يعيبه» (4) و قال علیه السلام: «لو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف، لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه» (5)

ومنها البخل، قال علیه السلام: «البخل جامع لمساوىء العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء» (6)

و منها الحسد، قال علیه السلام: «و لا تحاسدوا فانّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» (7)

5 - الأمل

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أيها الناس انّ أخوف ما أخاف عليكم

ص: 87


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 41
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 157
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 26
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 48
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 51
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 368
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم 85

اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة» (1).

فنسيان الآخرة من لوازم طول الأمل، كما انّ ذكر الآخرة من لوازم تكذيب الأمل، يدل عليه قوله علیه السلام: «و كَذَّبوا الأمل فلاحظوا الأجل» (2) و قال علیه السلام أيضاً: «لو رأى العبد الأجل ومسيره، لأبغض الأمل وغروره» (3).

كما انّ من لوازمه الأخرى الغفلة و الغرور، قال علیه السلام: «و اعلموا انّ الأمل يُسهي العقل، و ينسي الذكر، فأكذبوا الأمل فانّه غرور، و صاحبه مغرور» (4).

و منها كونه خادع، قال علیه السلام: «و أمله خادع له» (5)

و منها الهلاك، قال علیه السلام: «وانّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم» (6).

و منها سوء العمل، قال علیه السلام: «من أطال الأمل أساء العمل»(7)

و منها تأخير التوبة قال علیه السلام: «لا تكن ممن ... يرجي التوبة بطول الأمل» (8).

ص: 88


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 42
2- المصدر نفسه الخطبة رقم 113
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 325
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 85
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 63
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 147
7- المصدر نفسه، قصار الحكم: 32
8- المصدر نفسه، قصار الحكم: 140

الخاتمة: صفات أهل الآخرة

بعدما بيّنا منازل الآخرة كما ورد ذكرها في نهج البلاغة، و ذكرنا المنجيات و المهلكات، يجدر بنا أن نذكر - و نحن في نهاية هذا الكتاب - بعض صفات أهل الآخرة عن لسان أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة لتكون ميزاناً نقيس أنفسنا بها، ونرى هل نحن من أهل الآخرة أم لا؟!:

قال علیه السلام «و اعلموا انّ عباد الله المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجّرون عيونه، يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة، ويتساقون بكأس روية، ويصدرون برية، لا تشوبهم الريبة، ولا تُسرع فيهم الغيبة، على ذلك عقد خَلقهم وأخلاقهم، فعليه يتحابون، و به يتواصلون، فكانوا كتفاضل البذر يُنتقى، فيؤخذ منه و يُلقي، قد ميّزه التخليص وهذبه التمحيص»(1)

ص: 89


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 214

وقال علیه السلام : «قد أحيا عقله، وأمات نفسه، حتى دقF جليله، ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، و سلك به السبيل، و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، ودار الاقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما استعمل قلبه و أرضى ربه» (1)

وقال علیه السلام : «إن أو حشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صُبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأنّ أزمّة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك» (2).

وقال علیه السلام : «انّما مثل من خَبَر الدنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب، فأمّوا منزلاً خصيباً و جناباً مريعاً فاحتملوا و عثاء الطريق، و فراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم، ليأتوا وسعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً، و لا يرون نفقة مغرماً، ولا شيء أحبّ اليهم مما قرّبهم من منزلهم وأدناهم من محلّهم» (3).

وقال علیه السلام لنوف البكالي: «يانوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، اولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، و القرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح»(4)

ص: 90


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 219
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 226
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 99

وقال علیه السلام : «انّ أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا انّه سيتركهم، و رأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً، ودركهم لها فوتاً، أعداء ما سالم الناس، وسلم ما عادى الناس بهم عُلم الكتاب و به عُلموا، و بهم قام الكتاب وبه قاموا، لا يرون مرجوّاً فوق ما يرجون، ولا مخوفاً فوق ما يخافون» (1).

وقال علیه السلام : «عباد الله، إنّ من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، فنظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده، فشرب نهلاً، و سلك سبيلاً جدداً قد خلع سرابيل الشهوات، و تخلّى من الهموم، إلا همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، و صار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى.

قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، و استمسك من العرى بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه الله - سبحانه - في أرفع الأمور، من

ص: 91


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 86

إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله. مصباح ظلمات، کشاف غشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول

فيفهم، ويسكت فيسلم.

قد أخلص الله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه قد ألزم نفسه العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غايةً إلّا أمّها، و لا مظنّةً إلّا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده و إمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله، وينزل حيث كان منزله» (1).

و قال علیه السلام : «واعلموا عباد الله انّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الاخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، و أكلوها بأفضل ما اُكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ، و المتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، و تيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذة» (2)

وقال علیه السلام : «طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبه-ا

ص: 92


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 86
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 27

بؤسها، و هجرت في الليل غُمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب الله، ألا ان حزب الله هم المفلحون»(1) .

و قال علیه السلام : «كان لي في ما مضى أخ في الله، و كان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، و كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد و لا يكثر إذا وجد، و كان أكثر دهره صامتاً، فإن قال بذّ القائلين، و نقع غليل السائلين، و كان ضعيفاً مستضعفاً! فإن جاء الجد فهو ليث غاب، وصلّ واد، لا يُدلي بحجة حتى يأتي قاضياً، و كان لا يلوم أحداً على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعاً إلا عند برئه، وكان يقول ما يفعل ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يُغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلم، و كان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه. فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك

الكثير» (2)

ص: 93


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 45
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 280

و قال علیه السلام في صفة المؤمن: «المؤمن بشره في وجهه و حزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، و أذلّ شيء نفساً، يكره الرفعة، و يشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شکور صبور، مغمور بفكرته، ضنينٌ بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد»(1).

* * *

وهذا

آخر المطاف فيما يخص

منازل الآخرة في نهج البلاغة،

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين.

ص: 94


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 324

الفهرس

تمهيد ... 5

المنزل الأول :الموت ... 7

1 - شوق اللقاء ... 7

2 - ذكر الموت ... 10

ألف: ترك اللهو و اللعب ... 11

ب: ترك الشهوات و الملاذ الدنيوية ... 11

ج: خشوع القلب ... 12

د: القناعة ... 12

ه-: الأعمال الصالحة ... 12

3- حتمية الموت للإنسان ... 12

4 - سرعة انقضاء الدنيا وحلول الموت ... 14

5 - الاستعداد للموت ... 18

6 - الاحتضار وسكرة الموت ... 20

المنزل الثاني: القبر ... 24

1 - وحشة القبر وضيقه وغربته ... 24

2- تجسّم الأعمال وتلازمها للإنسان ... 26

3- ضغطة القبر ... 27

4- تناخر الأجسام ... 28

5- المساءلة في القبر ... 29

المنزل الثالث: يوم القيامة ... 31

1 - البعث من القبور ونفخ الصُّور ... 33

2 - المحاسبة ... 34

3- الصراط ... 35

4 - شهود يوم القيامة ... 37

المنزل الرابع: الجنة والنار ... 39

المنجيات والمهلكات ... 45

1 - المنجيات ... 45

1- العمل الصالح ... 46

ص: 95

2- الشهادتان ... 52

3- طاعة الله تعالى ... 52

4- التمسك بالثقلين ... 54

ألف: القرآن ... 54

ب: العترة ... 55

5- التقوى ... 57

6- التوبة ... 62

7- الاخلاص ... 64

8- النيّة الحسنة ... 65

9- جهاد النفس ... 66

ألف: محاسبة النفس ... 66

ب: منع النفس عن المشتهيات ... 67

ج: ترك المعاصي وفعل الواجبات ... 68

د: ترويض النفس وتأديبها ... 69

ه- : اتهام النفس ... 69

10- التفكير ... 70

11 - أداء الفرائض ... 71

12 - الصمت و حفظ اللسان ... 74

13- الذكر ... 76

14- نبذ الدنيا ... 76

2 - المهلكات ... 78

1- متابعة الشيطان ... 78

2- الاغترار بالدنيا ... 82

3- الغفلة ... 83

4- الذنوب والخطايا ... 85

5- الأمل ... 87

الخاتمة: صفات أهل الآخرة ... 89

الفهرس ... 95

ص: 96

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.