قبسات من نهج البلاغة

هوية الکتاب

قبسات من نهج البلاغة

ایوب الحائري

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

تقديم:

(الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (1)

نستعرض هذه الآيات الكريمة بعضاً من تجليات رحمانية الله عز وجل متقدم تعليم القرآن، و هو معجزة عالم التدوين على خلق الإنسان، وهو معجزة عالم التكوين، وتنوّه بعد تعليم القرآن، بأعظم ما علَّمه الله للإنسان، وهو تعليمه البيان؛ و هكذا يصطفي الله لقرآنه، سيد من لطف بلغة القرآن، محمداً صلی الله علیه و آله و سلم القائل وقوله الصدق: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» (2).

و يختار الأئمة من بعده، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب علیه السلام القائل وقوله حق: «و إنا لأمراء الكلام وفينا تنشَّبت عروقه و علينا تهدَّلت غصونه» (3)، و يأتي نهج البلاغة الذي اختاره

ص: 3


1- الرحمن: 1 - 4
2- بحار الأنوار: 17: 158
3- بحار الأنوار: 31 245

و جمعه الشريف الرضي، من كلام الإمام علي علیه السلام ليغدو المنهل العذب لكل عشَّاق الحقيقة، في أجمل تعبير إنساني

عنها، يردونه ويصدرون عنه بما ينوِّر عقولهم، وينضِّر قلوبهم، ويهذِّب نفوسهم، ويرقى بذوقهم، وبيانهم ويعبِّد لهم الطريق الى أعمق أسرار القرآن الكريم، وأبعاد شخصية الرسول العظيم صلی الله علیه و آله و سلم، وإلى سعادة الدنيا والآخرة.

و لقد شمَّر سماحة الشيخ أيوب الحائري عن ساعد الجد، و حاول أن يظفر بقبسات من النهج، هي بعض ما استضاء به، و استشفه من دروس كلمات الإمام أمير الكلام، وجعلها في خدمة عشاق الإمام ونهجه، تستقرئ لهم أبعاداً موضوعية، و تستكشف لهم آفاقاً معنوية، و تحفزهم إلى الإقبال بأنفسهم على النهج، و أنواره و أسراره، فهنيئاً له هذا الجهد ينضم إلى جهود سبقت في التأليف الهادف النافع إنشاء الله تعالى، و إلى مزيد من النجاح مع الدعاء له بالتوفيق و القبول،

د. نبيل الحلباوي

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، سيما بقية الله في الأرضين

صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه.

لا يخفى على أحد أهمية (نهج البلاغة)، حيث أنه من جملة أولى المصادر التي يتعرف من خلالها الإنسان على نظرية الإسلام للفرد و المجتمع، و علاقاته بالله و معاملته مع نفسه و كيفية ارتباطه بالآخرين، و بحق ما قيل فيه بأنه (دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين)، و بحق هو زبدة منهاج القرآن الكريم، و المعرّف بمبادئه وأهدافه، ومن هنا لا يمكن لباحث عن مفردة من مفردات الإسلام أن يتجاهله، إذ أن هذا السفر العظيم يسلط الضوء التام، و النور الكامل على التوحيد و النبوة والعدالة والمعاد وغيرها من الأصول الإسلامية وفروعها والمعارف العالية للمفاهيم الإنسانية بشكل عام والمفاهيم الأخلاقية بشكل خاص.

ص: 5

ومن هذا المنطلق فقد أخذت الحوزة العلمية على عاتقها جعل (نهج البلاغة) من ضمن المناهج في الحوزات العلمية والمعاهد الإسلامية، ترويجاً لفكر نهج البلاغة و ثقافته.

فبدأت أبحث عن كتاب فيه ما يحقق أمنية الطلبة، فحاولت جاهداً غير أني لم أجد ضالتي، فتوكلت على الله تعالى و توسلت بالحوراء زينب علیها السلام بنت صاحب النهج لكي أوفق لتدوين سلسلة بحوث موضوعية تحقق ما أطمح إليه، فكانت هذه القبسات التي بين يديك، آثرنا على طبعها تعميماً للفائدة و ترويجاً لثقافة النهج، بعد أن عزم علينا بعض الأعزة طباعته وقد اشتمل الكتاب على:

1 - المدخل في تعريف نهج البلاغة.

2 - خمسة قبسات من فكر نهج البلاغة وثقافته.

القبسة الأولى: علاقة الإنسان بربه.

القبسة الثانية: علاقة الإنسان بنفسه.

القبسة الثالثة: علاقة الإنسان مع الآخرين.

القبسة الرابعة: التقوى وصفات المتقين.

القبسة الخامسة: المرأة وقضاياها الفكرية .

ص: 6

کنسأل الله تعالى أن ينتفع به أخوتي في الإيمان، وأن أنتفع به يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، و ما توفيقي إلا بالله العلي القدير.

و نأمل من المولى العزيز أن يوفقنا لإكمال ما شرعنا به من سلسلة هذه الأبحاث إنه ولي التوفيق.

جمادى الأولى 1425ه_ . ق

دمشق - السيدة زينب علیها السلام

أيوب الحائري

ص: 7

المدخل

نظرة عامة في نهج البلاغة

* کتاب نهج البلاغة

* مصادر نهج البلاغة

* السيد الرضي و نهج البلاغة

* من جمع كلمات أمير المؤمنين علیه السلام قبل السيد الرضي؟

* المؤلفات لكلام أمير المؤمنين بعد كتاب نهج البلاغة

حفظ و شرح نهج البلاغة و ترجماته

* نهج البلاغة عند الادباء والعلماء

* مميزات كلمات الإمام علي علیه السلام

* أهم مواضيع ومباحث نہج البلاغة

ص: 8

المدخل: نظرة عامة في نهج البلاغة

أولاً: كتاب نهج البلاغة:

هذه المجموعة النفيسة و الجميلة التي هي الآن بين أيدينا باسم (نهج البلاغة) و التي قد عجز الزمان عن أن يبليها، بل أصبح الزمان والأفكار المستحدثة النيرة يزيدها انكشافاً في قيمتها و بهاءها، هي مجموعة منتخبة من (خطب) و (وأدعية) و (وصايا) و (رسائل) و(كلمات قصار) مولى المتقين الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، جمعها السيد الشريف الرضى (رضوان الله عليه) (1) سنة أربعمائة للهجرة، أي قبل وفاته بست

ص: 9


1- هو الأديب الفقيه والعالم الجليل و السيد الشريف ذو الحسبين محمد بن أبي أحمد المشهور بالشريف الرضي يصل نسبه إلى إبراهيم ابن الإمام موسى الكاظم علیه السلام، ولد في بغداد سنة 359، وتوفي بها سنة 406ه_، وهو من مفاخر العترة الطاهرة وإمام من أئمة العلم والحديث والأدب والتفسير، نظم الشعر وبلغ ذروته الرفيعة، ونال مرتبته الشامخة، وهو لم يبلغ من العمر عشر سنين، تولي نقابة الطالبين سنة 380 ه_، ثم عهد إليه في سنة 403 بولاية أمور الطالبين في جميع البلاد فلقب (نقيب النقباء)، وأتيحت له الخلافة على الحرمين على عهد الخليفة القادر إلى مناصب وولايات متكثرة وللتفصيل راجع الأعلام للزركلي 6 329 وأعيان الشيعة 41 267، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 1 257، وغيرها في في كتب التراجم.

سنوات، ودوّنها وأعدّها بطريقة فنية رائعة في ثلاثة أبواب على النحو التالي:

* الباب الأول: يضم الخطب التي ألقاها الإمام علیه السلام، وهي في (239) خطبة (1).

* الباب الثاني: الرسائل التي بعثها الإمام علیه السلام إلى الأصدقاء و الأعداء، و القادة العسكريين، و الولاة و سائر مسئولي الدولة، وتسمى الكتب أيضا،

و مجموعها (79) رسالة.

* الباب الثالث ويحوي على الكلمات القصار، أو العبارات الرائعة المليئة بالحكم التي اشتهرت باسم «قصار الحكم» أيضاً، وهي (480) حكمة.

و قد ألقى علیه السلام معظم هذه الخطب و الكلمات القصار (أي الحكم) وما

ص: 10


1- وذكر المسعودي الذي كان يعيش قبل السيد الرضى (ره) أن خطب أمير المؤمنين الله أربعمائة و نيف و ثمانون خطبة راجع مروج الذهب 2: 431

بعث من الرسائل في فترة تولّيه الحكم و الخلافة، وهي تتعلق بالشؤون السياسية و الاجتماعية والعسكرية و غيرها المهمة للدولة الإسلامية.

و مع أن الشريف الرضي (رحمة الله عليه) أسمى مجموع الخطب و الرسائل والكلمات الحكيمة القصار للإمام علیه السلام باسم (نهج البلاغة) فإن استعراضاً قصيراً للمعارف السامية الكامنة فيه يدلنا على أن هذا المصنّف يمكن و صفه بأسماء قيمة أخرى أيضا مثل: نهج السعادة، نهج الشهادة، نهج الخطابة، نهج السياسة، نهج الخلافة، نهج الفلاح، نهج الكفاح، نهج الحياة و ...

إن السيد الشريف الرضي، بماله من غرام بالأدب عموماً، و بكلام الإمام علیه السلام خصوصاً كان ينظر إلى كلامه علیه السلام من ناحية البلاغة والأدب

و لذلك كان ينظر في اختياره من كلامه علیه السلام إلى هذه الخصوصية، أى أن الذي كان يجلب انتباهه كلامه علیه السلام هو ذلك القسم الذي يمتاز ببلاغة خاصة، ومن هنا سمی مجموعة منتخباته (نهج البلاغة).

و لهذا أيضاً لم يولِ اهتماماً بذكر مآخذ و مدارك وأسانيد الخطب و الرسائل، اللهم إلا في موارد محدودة يذكّر فيها بمناسبة خاصة اسم الكتاب الذي ذكرت فيه تلك الخطبة أو الرسالة.

ومن حسن الحظ أن تعهد وسعى في جمع أسانيده ومصادره رجال آخرون من المتأخرين، و سنعرض هنا تلك الجهود والمساعي بنحو موجز.

ثانياً: مصادر نهج البلاغة:

إن أحد الأسئلة المطروحة حول كتاب نهج البلاغة، أن الشريف الرضي

ص: 11

لم يتعرض إلى ذكر أسانيد الخطب و الرسائل، مما يجعل اعتبارها في مهبّ الشك والتردد، حتى قيل: إن نهج البلاغة كتاب مرسل، و لا يمكن الاعتماد عليه فقهياً . (1)

على أثر ذلك، بذل المحققون جهوداً حثيثة ومشكورة بغية الإجابة عن هذا السؤال، و قاموا باستخراج مصادر نهج البلاغة التي دونت قبل الرضيّ وبعده. ونكتفي هنا بالإشارة إلى نماذج من تلك الجهود:

1 - استناد نهج البلاغة لامتياز علي خان العرشي

وهو أول من طرح كيفية جمع نهج البلاغة، وإسناد كلمات نهج البلاغة إلى الإمام علیه السلام، و أجاب فيه عن الشبهات المثارة حول نسبة ما في الكتاب إلى أمير المؤمنين علیه السلام، و من ثم تعرض إلى مصادر نهج البلاغة التي دوّنها كلا الفريقين قبل السيد الرضي.

2- مصادر نهج البلاغة و أسانيده، للسيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب

طبع الكتاب في أربعة أجزاء، وقسّم المؤلّف مصادر نهج البلاغة إلى أربعة أقسام:

أ) المصادر المؤلفة قبل عام (400ه_) و هي متوفرة اليوم.

ب) المصادر المؤلفة قبل كتاب نهج البلاغة، وقد نقل عنها بالواسطة.

ص: 12


1- تعرّض العلامة الأميني إلى هذا الإشكال وتصدى للإجابة عنه، راجع الغدير: 193/4-198

ج(المصادر المدوّنة بعد السيد الرضي، لكنها نقلت كلام الإمام علیه السلام بأسانيد متصلة دون أن يقع في طرقها السيد الرضي.

د) المصادر المدوّنة بعد السيد الرضي، و نقلت كلام الإمام علي علیه السلام مع بعض الاختلاف، مع ما جاء في رواية الشريف ل_ نهج البلاغة.

3- الإنسان الكامل في نهج البلاغة، لحسن زاده الآملي

بذل المؤلّف جهوداً كبيرة في هذا المضمار، ويقول في مقدمة كتابه:

لقد اطلعت على مصادر هائلة لنهج البلاغة من الجوامع الروائية، وكتب السير والغزوات، و مجاميع حديثية، و سفن علمية وكان دأبي العثور على مصادر و منابع دونت قبل السيد الرضي، حتى حالفني التوفيق في الوصول إلى ثلثي تلك المصادر.

و نقلت قسماً منها في ثنايا تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة المطبوع في خمسة أجزاء.

4- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة للعلامة المحقق الشيخ محمد باقر بن عبد الله المحمودي

و هو موسوعة تبلغ ثماني مجلدات، و المهم في هذه الموسوعة الجامعة لكلمات أمير المؤمنين علیه السلام، أن المؤلف قد ذكر مصادر نهج البلاغة.

ثالثاً: السيد الرضي و نهج البلاغة:

إن هذا التراث الأدبي والعلمي الخالد للإمام علي علیه السلام المتمثل في الوقت

ص: 13

الحاضر بخطبه و رسائله، و القصار من كلماته المجموعة في نهج البلاغة و في غيره من الكتب لهو أعظم تراث أدبي و ديني و أخلاقي و اجتماعي، و سياسي بعد القرآن الكريم و الأحاديث النبوية الشريفة.

و السؤال هنا، كيف جمعت كلمات الإمام علیه السلام من قبل الشريف الرضي؟ فما السبب الذي دعاه إلى ذلك؟

يجيب على هذا السؤال الشريف الرضي في مقدمته على كتاب نهج البلاغة فيقول: «و كنت فى عنفوان السن (1)، و غضاضة الغصن، بدأت بتأليف كتاب خصائص الأئمة علیه السلام يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب و جعلته إمام الكلام، و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً علیه السلام، و عاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان (2)، و مماطلات الأيام، و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبواباً و فصلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء والأخوان ما أشتمل عليه الفصل المقدم معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (3).

ص: 14


1- عنفوان السن: «أولها»
2- محاجزات الزمان: ممانعاته ومماطلات الأيام، مدافعاتها
3- النواصع: الخالصة

وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، في جميع فنونه، و متشعبات غصونه، من خطب و كتب و مواعظ، و آداب علماً أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة و جواهر العربية و ثواقب الكلم (1) الدينية و الدنيوية مالا يوجد مجتمعاً في كلام و لا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرع الفصاحة و موردها (2)، و منشأ البلاغة و مولدها، فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الحكم و الأدب، مفرداً لكل صنف من بذلك اباً و مفصلاً فيه أوراقاً لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلاً و يقع إلى آجلاً ... ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه علیه السلام حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي، و الحاصل في ربقتي (3) دون الخارج من يدي ... و رأيت من بعد، تسمية هذا الكتاب ب_ «نهج البلاغة» ...» (4)

ص: 15


1- الثواقب المضيئة، ومنه الشهاب الثاقب، ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه
2- المشرع تذكير المشرعية: مورد الشاربة كالشريعة
3- الربقة: هى عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة
4- راجع نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبدة ص 17، و نهج البلاغة شرح الشيخ صبحي الصالح ص33، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج1 – ص 42، و شرح النهج للخوئي ج 1 - ص 49

رابعاً: من جمع كلمات أمير المؤمنين علیه السلام قبل السيد الرضي؟

لم يكن الشريف الرضي هو السبّاق إلى جمع كلام أمير المؤمنين علیه السلام، ولا الأول في تدوينه، فقد عني الناس به عناية بالغة، و حظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء على كثرتهم في الجاهلية والإسلام، ودوّنوه في عصره، حفظوه في أيامه، و كتبوه ساعة إلقائه (1)، ومن هؤلاء زيد بن وهب الجهني أصحاب الإمام علیه السلام و شهد معه بعض مشاهده حيث جمع كتابا من خطبه، والحارث الأعور (2) الذي دوّن بعض خطب الإمام ساعة إلقائها، و الأصبغ بن نباتة (3) و هو من خاصّة أمير المؤمنين علیه السلام روى للناس عهده لأشتر النخعي لمّا ولّا ولاه مصر، و وصيته لولده محمد بن الحنفية .

و من الذين حفظوا كلام الإمام علیه السلام و رووه: شريح القاضي (4)، وكميل بن

ص: 16


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده، للسيد الخطيب ج 1 ص 48.
2- من أصحاب الإمام الله وكان من المنقطعين إليه، والمجاهرين بحبّه، روى عنه و أخذه من علومه، توفي سنة 65ه_
3- من أصحاب الإمام علي علیه السلام أخذ عنه كثيراً، و عمّر بعده حتى توفي أوائل القرن الثاني
4- شريح ابن الحارث: أدرك الجاهلية، و لكنه لم ير النبي صلی الله علیه و آله و سلم . استعمله عمر علي قضاء الكوفة فلم يزل قاضياً ستين سنة إلا ثلاث، و أقرّه الإمام علیه السلام على القضاء لأمور معيّنة و اشترط عليه أن لا يبرم حكماً إلا بعد عرضه عليه

زياد النخعي (1) و غيرهم.

وذكر الجاحظ أن خطب الإمام علي علیه السلام كانت مدوّنة محفوظة مشهورة.

وأحصى المسعودي ما كان محفوظاً من خطه علیه السلام فقال: «والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة و نيف و ثمانون خطبة». (2)

من خلال هذه النصوص من الأعلام على اختلاف مذاهبهم، و فيهم المتقدّم على الرضي بزمان طويل يظهر بأن خطب الإمام على علیه السلام كانت مدوّنة محفوظة مشهورة بين الناس معروفة عندهم، و أنها تنيف على أربعمائة و ثمانين بينما المذكور منها في الكتاب الذي جمعه الرضي لا يصل إلى هذا العدد.

و بهذا يتضح ما ذكرناه من أن الشريف الرضي لم يكن هو أول من جمع خطب الإمام علي علیه السلام، بل كان هناك من سبقه إلى هذا العمل. و يتّضح أيضاً بأن نهج البلاغة ليس من صنع الشريف الرضي، و قد نسبه إلى الإمام على علیه السلام كما يدعيه البعض.

و قد ذكر العلامة السيد عبد الزهراء الخطيب في كتابه (مصادر نهج البلاغة

ص: 17


1- من خواص أصحاب الإمام علیه السلام و صاحب سرّه، عاش إلى أيام الحجّاج فقتله في سنة 83 ه_ فكان كما أخبره أمير المؤمنين علیه السلام و دفن بظهر الكوفة (النجف) وقبره مزار مشهور
2- مروج الذهب، 2: 413

و أسانيده) أسماء المصنّفات والكتب التي جمعت كلام الإمام علي علیه السلام قبل زمن الشريف الرضي (1)، وعددها اثنان وعشرون مؤلّفاً ومصنّفاً، منها:

1- خطب أمير المؤمنين: لزيد بن وهب الجهني، و الظاهر أن هذا الكتاب أوّل كتاب جمع في كلامه علیه السلام، لأن مؤلفه أدرك الجاهلية والإسلام.

2 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام: المروية عن الإمام الصادق علیه السلام، و قد رواه أبو روح فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة، و قد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيد علي بن طاووس عليه الرحمة، و كتب عليها: أنها كتبت بعد المائتين من الهجرة (2).

3- مائة كلمة الأمير المؤمنين علي بن أبي طالب: اختارها أبو عثمان عمرو بن عثمان الجاحظ في كلام أمير المؤمنين علیه السلام، و اختار الشريف الرضى جملة منها، واثبتها في النهج. (3)

4- رسائل أمير المؤمنين علیه السلام و أخباره و حروبه: لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن مسعود الثقفي الكوفي. (4).

ص: 18


1- مصادر نهج البلاغة، 1: 51، وقد ذكر هذه المؤلفات العلامة آقا بزرگ الطهراني في كتابه القيّم الذريعة، في: 191 مادة خطب
2- راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الطهراني، 7: 190
3- مصادر نهج البلاغة، 1: 6
4- نفس المصدر

خامساً: المؤلفات لكلام أمير المؤمنين بعد كتاب نهج البلاغة

كما أن الشريف الرضي لم يكن أوّل من جمع و ألّف في كلام الإمام علي علیه السلام كذلك لم يكن آخر من قام بذلك، كما أنه لم تنحصر كلمات و حكم و مواعظ أمير المؤمنين علیه السلام بالذي جمعه الرضي فحسب، كما صرح هو بذلك في مقدمته على النهج، بل إن كلام الإمام علیه السلام ذو الطابع الخاص تميّز عن كلام غيره من الخطباء و البلغاء، و لهذا فقد حاول كثير من العلماء و الأدباء على مرّ العصور قبل عصر الرضي و بعده أن يفردوا لكلامه كتباً خاصة و دواوين مستقلّة بقي بعضها و ذهب الكثير منها مع الأيام في جملة ما ذهب من الكتب الشيعية و الإسلامية عموماً، حيث تعرّضت للنهب و الإحراق عند انقراض دولة الفاطميين و في حكومة الأيوبيين (1)

وعلى أي حال فإنّه لو قدر لأحد أن يحظى بكل ما ألّف حول كلام الإمام علي علیه السلام، لاجتمع له مكتبة برأسها .

و قد ذكر هذه المؤلفات في كلام الإمام علیه السلام السيد الأمين في أعيان الشيعة، والسيد الخطيب في مصادر نهج البلاغة وأسانيده، حيث أحصى ثمانية و اربعين مؤلّفاً في كلام الإمام علیه السلام بالإضافة إلى ما ذكره غيرهم من العلماء.

ص: 19


1- راجع التمدن الإسلامي جرجي زيدان 3: 41

وأهم هذه المؤلّفات:

1- دستور معالم الحكم، و مأثور مكارم الشّيم من كلام أمير المؤمنين علیه السلام: وهو لأبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر الفقيه الشافعي، المعروف بالقاضي القضاعي صاحب (الشهاب) المتوفي سنة 445 ه_.

2- كلام الإمام علي علیه السلام و خطبه: لأبي العباس يعقوب بن احمد الصيمري، جمعه من كلام علي علیه السلام و خطبه، و نقل عنه ابن أبي الحديد في

(شرح نهج البلاغة) في المجلد الثالث: 410.

3- نثر اللآلئ: للشيخ الإمام أمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، المفسّر المتوفي، سنة 548.

4- غرر الحكم و درر الكلم: لأبي الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد الآمدي.

5- منثور الحكم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد البكري، الشهير بابن الجوزي من أفاضل علماء الحنابلة.

6 - الحكم المنثورة: وهي ألف كلمة ختم بها عبد الحميد بن أبي الحديد كتابه (شرح نهج البلاغة)، وقال قبل الشروع بذكرها ما هذا نصه: «ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه، يعني إلى الإمام علي علیه السلام، وبعضه مشهور عنه، وبعضه ليس بذلك المشهور ... الخ» (1)

ص: 20


1- شرح ابن أبي الحديد: 4: 420

الصحيفة العلوية الثانية: للشيخ الجليل الميرزا حسين النوري، ألّف هذا الكتاب لاستدراك ما فات السماهيجى في (الصحيفة العلوية الأولى) من أدعية أمير المؤمنين و مناجاته.

8- حكم علي بن أبي طالب: جمعها بعض أهل الفضل من المسيحيين، ذكر ذلك الأستاذ يوسف إليان سركيس في (معجم المطبوعات) قال: و هو يشتمل على أربع رسائل.(1)

9- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: للعلامة المحقق الشيخ محمد باقر بن عبد الله المحمودي، و هو موسوعة تبلغ ثماني مجلدات. و المهم في هذه الموسوعة الجامعة لكلمات أمير المؤمنين علیه السلام أن المؤلف قد ذكر مصادر نهج البلاغة.

و لكن على الرغم من القيمة العلمية و الأهيمة البالغة لهذه الكتب و المؤلّفات المذكورة. بقي كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الرضي رحمه الله، هو التراث الخالد الذي لا يبليه الزمان مهما طال عمره، و كما قيل في المقايسة بينه وبين سائر المؤلفات في كلام الإمام علیه السلام:

«فإن أعظمها خطراً و أعلاها شأناً وأحسنها أبواباً، و أبعدها و شأواً، هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي في كتابه (نهج البلاغة)». (2)

ص: 21


1- مصادر نهج البلاغة، 1: 83، نقلاً عن الكنى والألقاب: 3: 182
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 6

سادساً: حفظ وشرح نهج البلاغة و ترجماته

بلغ كتاب نهج البلاغة قمّة العظمة و التقديس والتبجيل، ما لم يبلغه كتاب بعد القرآن الكريم والسنة النبوية، وذلك لمحتوياته الثمينة، ومضامينه القيّمة.

ومن هنا قام العديد من الأعلام بحفظه، و حث الناس على الأخذ به و تعلّمه، فكان ممن حفظته القاضي «جمال الدين بن الحسين بن محمد القاشاني» و هو من المعاصرين لزمن المؤلف المرحوم الرضي، و من حفّاظه في القرون المتقدمة: أبو عبد الله محمد الخطيب المتوفي 564 ه_.

و هكذا غيرهم من الذين حفظوا النهج ممن لا يتّسع المجال لذكرهم، و هكذا أيضاً توالت و تضافرت الشروح حول (النهج) منذ عهد قريب من عصر المؤلف إلى عصرنا الحاضر، و أول من قام بشرحه هو الشريف الرضي الجامع لنهج البلاغة، و من ثم علماء آخرون ذكر أسمائهم و شروحهم على النهج العلامة الأميني في كتابه القيم الغدير، و الشيخ آقا بزرگ في كتابه الذريعة إلى تصانيف الشيعة.

و أهم تلك الشروح هي كالآتي:

1- شرح نهج البلاغة، لعبد الحميد بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المعتزلى (المتوفى 656ه_)

2- شرح نهج البلاغة، لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (المتوفى 699ه_)، يعدّ المؤلّف من فلاسفة الإمامية و متكلميهم، و من هنا نجد أن شرحه مشحون بموضوعات كلامية وفلسفية.

ص: 22

3- شرح نهج البلاغة، للشيخ محمد عبده (المتوفى 1323ه_) من علماء الجامع الأزهر.

و قد ذكر السيد الأمين بعض هذه الشروح في الأعيان، كما أنه ترجم الكتاب إلى لغات أخرى. (1)

سابعاً: نهج البلاغة عند الادباء و العلماء

على أثر صدور كتاب نهج البلاغة من قبل السيد الرضي، شاع في الناس ذكره، ونال إعجاب العلماء و الأدباء، فتدارسوه في كل مكان و زمان، لما اشتمل عليه من عجائب الألفاظ، و ما احتواه في سحر البيان و جوامع الكلم في أسلوب قلّ نظيره إن لم يكن معدوماً لولا ما في القرآن الكريم من الذروة و القمة في البيان و البلاغة والأدب.

و نظراً لما قاله الكثير من العلماء و الأدباء في حق نهج البلاغة نرى لزاماً علينا أن ننقل ولو الشيء القليل من هذا المدح و الثناء، لبيان مدى ما أحرزه كلام الإمام علي علیه السلام من منزلة لدى هؤلاء.

فهذا الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة ينقل: أن عبد الحميد سئل: أنى لك هذه البلاغة فقال: «حفظ كلام الأصلع» (2)

ص: 23


1- أعيان الشيعة 1: 544
2- الأصلع: من انحسر شعر مقدم رأسه، فعبد الحميد مع اعترافه بكلامه هذا بفضل الإمام علیه السلام، و كماله، يذكر الإمام بنبز اللقب، و ذلك بحكم انتمائه إلى بني أمية

و كان الجاحظ - و هو الأديب العارف بالكلام و فنونه، و الذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري، ويعدّ كتابه (البيان و التبيين) أحد أركان الأدب الأربعة (1) - يكرر في كتابه الإعجاب و الثناء على كلام الإمام علیه السلام .

و للسيد الشريف الرضي (ره) جملة معروفة في وصف كلام الإمام علیه السلام و الثناء عليه يقول:

«كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها، و منه ظهر مكنونها، و عنه أخذت قوانينها، و على أمثلته حذا كل قائل خطيب، و بكلامه استعان كل واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصروا و قد تقدم و تأخروا، لأن كلامه علیه السلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي» (2)

و للسيد المرتضى علم الهدى أخو الشريف الرضي شعر يمدح ويصف فيه نهج البلاغة:

نهج البلاغة نهجة لذوي البلاغة *** وكلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح

ص: 24


1- والأركان الثلاثة الأخرى هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، و الكامل للمبرد، والنوادر لأبي علي القالي - ابن خلدون -.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 45

العلم فيه زاخر والفضل فيه راجح *** وغوامض التوحيد فيه جمعها لك لايح

ووعيده مع وعده للناس طراً ناصح *** تحظى به هذي البرّية صالح أو طالح

لا كالعريب ومالها فالمال غاد رایح *** هيهات لا يعلو على مرقی ذراه مادح

إن الرضي الموسوي لمائه هو مايح *** لاقت به و بجمعه عدد القضاء مدائح

و كان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري، أديباً ماهراً و شاعراً بليغاً. و هو كما نعلم مغرم بكلام الإمام علیه السلام مكرراً إعجابه به في كتابه، و قال في مقدمته على كتابه شرح نهج البلاغة:

«وأما الفصاحة: فهو علیه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء، و في كلامه قيل: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق، و منه تعلم الناس الخطابة

والكتابة ...» (1).

و كما سردنا بعض ما قاله الادباء و العلماء المتقدمين حول كلامه علیه السلام، نعكس الآن هنا قليلاً مما قاله فيه ذوو الأنظار و الأفكار في عصرنا هذا أيضاً.

ص: 25


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 24

يقول الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (علي بن أبي طالب، شعره و حكمه): «في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً، و فيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً».

و ينقل الدكتور طه حسين الأديب و الكاتب المصري الشهير في كتابه (علي و بنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي علیه السلام و طلحة و الزبير و عائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة و الزبير و عائشة على الخطأ؟ و شكا شكه ذلك إلى الإمام علي علیه السلام و سأله: أيمكن أن يجتمع الزبير و طلحة وعائشة على باطل؟

فقال علیه السلام: «إنه أمر ملبوس عليه إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق فاعرف الحق تعرف أهله» (1) .

وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام علیه السلام يقول: «ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته، و لا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوصي و انقطع خبر السماء.

و أمير البيان شكيب أرسلان، من كتاب العرب المعروفين في هذا العصر، يتفق في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة، و يقول فيما يقول: «رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب: أمير البيان:

ص: 26


1- بشارة المصطفى ص 4

أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، وشكيب أرسلان»!

فيقوم شکیب ارسلان من مجلسه غاضباً و يذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي قام بهذه المقارنة بينه وبين الإمام علیه السلام ويقول: «أين أنا و أين علي بن أبي طالب! أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي علیه السلام! (1)

و كتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق، يقول: بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه. و سحر بيانه، و عمق إنسانيته، و حرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق.

و كان معاوية بن ابي سفيان - وهو ألد أعدائه - معترفاً بفصاحته وجمال اسلوبه:

فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام علیه السلام و أقبل على معاوية و قال له - وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام علیه السلام جئتك من عند أعيا الناس!

و كان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى معاوية، فقال له: ويحك!

ص: 27


1- نقل هذا الخبر العالم المعاصر الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية العاملي في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مدينة مشهد الإمام الرضا علیه السلام قبل عدة الله أعوام - المؤلف

كيف يكون أعيا الناس! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره (1)!

و لا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الادباء و العلماء هذا بنقل ثناء الادباء و العلماء من الأصدقاء والأعداء على كلام الإمام علیه السلام، و نختمه بكلمة منه في هذا الموضوع:

قام يوماً أحد أصحاب الإمام علیه السلام ليتكلم، فتلجلج وأعيي! فقال الإمام علیه السلام

«لا و إن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع، و لا يمهله النطق إذا اتسع. و إنا لأمراء الكلام و فينا تنشبت عروقه و علينا تهدّلت غصونه».

ثامناً: مميزات كلمات الإمام علي علیه السلام

(2)

تمتاز كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام منذ أقدم العصور بميزتين تعرف بهما و هما البلاغة و الشمول.

و يكفي كل واحدة من هاتين الميزتين فخراً لكلام الإمام وشرفاً، وهذا هو الذي جعل كلامه علیه السلام قريباً من حد الأعجاز، و من هنا أيضاً عد کلامه علیه السلام في الأوسط فوق كلام المخلوق و تحت كلام الخالق فقالوا فيه: «هو فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق» (3)

ص: 28


1- شرح نهج البلاغة لابن ابن الحديد 1: 24
2- في رحاب نهج البلاغة للشهيد المطهري
3- شرح نهج البلاغة لان أبي الحديد 1: 24

1 - الفصاحة و الجمال و النفوذ و التأثير:

لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفا بفنون الكلام و جمال الكلمة فإن الجمال يدرك ولا يوصف إن لنهج البلاغة اليوم، و بعد أربعة عشر قرنا من عهده نفس الحلاوة و اللطف الذي كان فيه للناس على عهده، و لسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام و لكنا بمناسبة البحث نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه علیه السلام في القلوب، و تأثيره في تحريك العواطف و الأحاسيس، و المستمر من لدن عهده إلى اليوم مع كل ما حدث من تحول و تغيير في الأفكار و الأذواق ولنبدأ بعهده.

لقد كان أصحابه علیه السلام خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام مغرمين بكلامه، منهم (ابن عباس) الذي كان - كما ذكر الجاحظ في (البيان و التبين)- من الخطباء الاقوياء على الكلام (1)

فإنه لم يكن يكتم عن غيره شوقه إلى استماع كلامه و التذاذه بكلماته علیه السلام حتى أنه حينما ألقى الإمام خطبته المعروفة بالشقيقية كان حاضراً، فقام إلى الإمام علیه السلام رجل من أهل العراق و ناوله كتاباً، فقطع بذلك كلام الإمام، فقال ابن عباس: «يا أمير المؤمنين! لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت» فقال علیه السلام: «هيهات! إنها شقشقة هدرت، ثم قرت» و لم يطرد في كلامه ذاك، فكان ابن عباس يقول: «والله ما ندمت على شيء كما ندمت

ص: 29


1- البيان والتبين 1: 230

على قطعه هذا الكلام».

و كان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام علیه السلام: «ما انتفعت بكلام بعد کلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کانتفاعي بهذا الكلام». (1).

كان الذين يجلسون إلى منبره فيستمعون إليه يتأثرون بكلامه كثيراً، إذ كانت مواعظه تهز القلوب و تسيل الدموع.

و الآن أيضاً من ذا يسمع وعظه أو يقرأه فلا يهتز له؟! و هذا السيد الرضي (ره) يقول عند نقله الخطبة المعروفة بالغراء (2).

«و في الخبر أنه علیه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب.

و كان همام بن شريح في أصحابه علیه السلام من أولياء الله وأحبائه متيّم القلب بذكره، فطلب من الإمام علیه السلام بإصرار أن يرسم له صورة كاملة للمتقين، و كان الإمام علیه السلام يخاف عليه أن لا يتحمل سماع كلماته، فاقتصر على جمل مختصرة إذ قال: «اتق الله يا همام و أحسن، فإن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون» و لكن لم يقنع بهذا همام، بل ازداد شوقه إلى كلامه علیه السلام أواراً و ضراماً، فأصر عليه أكثر من ذي قبل حتى اقسم عليه! و بينما يستمر الإمام علیه السلام بكلامه و فجأة قرعت أسماع الحاضرين صرخة مهولة جلبت

ص: 30


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 140
2- شرح النهج لابن أبي الحديد:6 241-276، الخطبة: 82

أنظارهم إلى صوب همام ولم يكن الصارخ سوى همام فلما وقفوا عليه رأوا ان روحه قد خرجت من جسمه إلى رحمة الله ورضوانه .

فقال الإمام علیه السلام: «أما و الله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: هكذا تفعل المواعظ البليغة بأهلها».

نعم هكذا كان أثر نفوذ كلام الإمام علیه السلام في نفوس سامعيه

2 - الشمول و الأبعاد المتعددة في كلام الامام

من مميزات كلام الإمام علیه السلام أنه ذو أبعاد متعددة و ليس ذا بعد واحد و إن هذه الخصيصة، خصيصة الشمول و الاستيعاب في كلام الإمام علیه السلام ليس مما اكتشف حديثاً، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف عام، فهذا السيد الشريف الرضي (ره) الذي هو من علماء الإمامية في المائة الرابعة، أي قبل ألف سنة يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول:

«و من عجائبه التي انفرد بها و أمرنا المشاركة فيها: أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل و فكّر فيه المفكّر، و خلع من قلبه: أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلّا نفسه ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب و يجدل الأبطال، و يعود به ينطف دماً و يقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال! وهذه من فضائله العجيبة و خصائصه

ص: 31

اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد»(1).

وقال صفي الدين الحلي - المتوفي في القرن الثامن الهجري - بهذا الصدد:

جمعت في صفاتك الأضداد *** ولهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم! حلیم شجاع! *** فاتك ناسك! فقير جواد!

شیم ما جمعن في بشر قط *** ولا حاز مثلهن العباد

خلق يخجل النسيم من اللط_ *** _ف و بأس يذوب منه الجهاد

جل معناك أن يحيط به الش_ *** _عر و يحصي صفاتك النقاد (2)

و قد أعجب الشيخ محمد عبده بهذا أيضاً، حيث إن القارئ في نهج البلاغة يسير به في عوالم عديدة، وقد أبدى إعجابه بهذا في مقدمته فقال:

«... فتصفحت بعض صفحاته، و تأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، ومواضع متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شنّت، و أن للبلاغة دولة و للفصاحة صولة ... و إن مدبر تلك الدولة و باسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» (3)

ص: 32


1- شرح النهج لابن أبي الحديد، 1: 49
2- ديوان صفي الدين الحلي - حرف الدال
3- مقدمة عبده: 10

تاسعاً: أهم مواضيع و مباحث نهج البلاغة

إن المباحث المطروحة في نهج البلاغة، والتي صبغت هذه الكلمات السماوية بصبغة مختلفة فى كل فصل عن الفصل الآخر، كثيرة يستحق كل واحد منها البحث والتحقيق، وأهم هذه المباحث حسب الترتيب الذي جاء به الشهيد المطهري في كتابه القيم في رحاب نهج البلاغة حيث قسم موضوعات نهج البلاغة إلى العناوين العامة التالية:

1 - مباحث التوحيد، وماوراء الطبيعة

2- نظام العبادات .

3- نظام الحكم و الإدارة.

4- أهل البيت علیه السلام و الخلافة .

5- المواعظ و الحكم.

6 - الدنيا، و الزهد فيها .

7- الحرب و الحماسة.

8- الملاحم و المغيبات.

9- الأدعية و المناجاة.

10 - الانتقاد و الشكوى من الناس.

11- القواعد الاجتماعية في نهج البلاغة.

12- الإسلام، والقرآن في نهج البلاغة.

13 - الأخلاق و تهذيب النفس.

14 - الشخصيات في نهج البلاغة.

ص: 33

ص: 34

قبس...

علاقة الإنسان بربه

(العرفان)

الأولى: معرفة الله و فضلها

الثانية: طاعة الله سبحانه

الثالثة: عبادة الله عزّ و جلّ

العبادة في نهج البلاغة

عبادة الله بالدعاء

ص: 35

ص: 36

قبس... علاقة الإنسان بربه

اشارة

من الواضح أن نظام الإسلام هو نظام العلائق و الارتباطات و الحقوق، و هذه الروابط على أنحاء ثلاثة، فهي أولاً: روابط مع الله، و يمكن أن نطلق عليها (علاقة الإنسان بربه) أو ما يصطلح عليها ب_ (العرفان)، و ثانياً علاقة الإنسان بنفسه، ويمكن أن يصطلح عليها ب_ (تزكية النفس)، أو (الجهاد الأكبر) على حد تعبير بعض الروايات، وثالثاً علاقة الإنسان مع الآخرين، ويطلق عليها الأخلاق والآداب الاجتماعية).

و نظرا لأهمية هذه الأبحاث الثلاثة، من حيث أنها توقف الإنسان على حقيقة الحقوق الملقاة على عاتقه، والمسؤولية التي سيسأل عنها سنبحثها من خلال كلمات أمير المؤمنين في نهج البلاغة، ونبدأ بالموضوع الأول وهو علاقة الإنسان بربه، لأنه بلا أدنى ترديد، إن علاقة الإنسان بالناس وتعامله معهم مرتبطةٌ أشدّ الارتباط بعلاقته بالله سبحانه وتعالى، وتعامله معه،

ص: 37

ومشروطة بها، فإنّ واجبه أن يعرف قدر ربّه وعظمته، فيطعه، ويخلص الدين له، ويوقن به ويحبّه، ويحسن معاملته ويحصل ارتباطه به، لكي تنعكس آثار ذلك على جميع جزئيات حياته، ومنها تعامله مع بني نوعه.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «من أصلح ما بينه و بين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته، أصلح الله أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ» (1).

وهناك طرق متعددة لارتباط العبد بربه، ولعله الأفضل أن يبدأ هذا الارتباط بمعرفة الله بقدر الميسور، ثم إطاعته فيما أمر ونهى مطلقاً، ثم عبادته كما يريد هو، وفيما يلي نركز الحديث حول هذه الطرق و المراحل الثلاثة في الارتباط مع الله سبحانه وتعالى.

الأولى: معرفة الله وفضلها

إنّ معرفة الله أو ما يصطلح عليه العرفان، ينقسم إلى قسمين، العرفان النظري، وهو الذي يبحث في وجود الله و العالم و الانسان، و العرفان العملي وهو عبارة عن ذلك الذي يوضح ويبين ارتباط الإنسان و علاقته بنفسه وبالعالم وبالله ويسمى بعلم «السير والسلوك»، و في هذا القسم من العرفان يتضح للسالك كيفية الوصول إلى مرحلة بحيث لا يرى فيها إلّا الله عزّ وجلّ.

ص: 38

وفي كلا القسمين من المعرفة نجد كلاماً هامّاً للنبي صلی الله علیه و آله و سلم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام خصوصاً للإمام أمير المؤمنين علیه السلام حيث هو إمام العارفين والسالكين إلى الله.

و في الحقيقة إن العرفان الإسلامي الحقيقي هو ما جاء به هؤلاء الأولياء المقربون لله عزّ وجلّ، وفيما يلي - بما يناسب موضوع المقال - نعرض بعض النصوص الواردة عن الإمام علي علیه السلام في أهمية معرفة الله و فضلها و آثارها الدنيوية و الأخروية، و نبدأ بقصار الكلمات حيث يقول علیه السلام في فضل معرفة الله: «من عرف الله كملت معرفته» (2) وقال علیه السلام: «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف» (3).

و ابلغ ما ورد في فضل معرفة الله حديثاً جامعاً عن الإمام الصادق علیه السلام وهو قوله: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مَتَّعَ اللَّهُ بِهِ الْأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ نَعِيمِهَا، وَ كَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَطَئُونَهُ بِأرْجُلِهِمْ، وَلَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَة اللَّه جَلَّ وَ عَزَّ وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذَّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إِنَّ مَعْرِفَةَ عَزَّ وَ جَلَّ آنِسُ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ وَ صَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ، وَ نُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وَ قُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ، وَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقَمٍ» (4).

ص: 39


1- نهج البلاغة، حكمة 89
2- غرر الحكم: 81
3- غرر الحكم: 81
4- الكافي، 8: 247

وقال الإمام على علیه السلام فيما يختص بآثار معرفة الله: «ثمرة المعرفة العزوف عن دار الفناء» (1).

وقال علیه السلام: «عجبت» لمن عرف ربه كيف لا يسعى لدار البقاء» (2)

وقال اعلیه السلام: «من سكن قلبه العلم بالله سكنه الغنى عن خلق الله» (3)

وقال علیه السلام: «من كان بالله أعرف كان من الله أخوف»(4).

وقال علیه السلام: «البكاء من خيفة الله للبعد عن الله عبادة العارفين» (5)

وقال علیه السلام: «العارف وجهه مستبشر متبسم، و قلبه وجل محزون» (6)

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فيما يختص بكيفية معرفة الله: «اعرٍفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ وَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ الْعَدْلِ وَ

الْإِحْسَانِ» (7).

قال الكليني في معنى اعرفوا الله بالله: «الله خلق الأشخاص و الأنوار و الجواهر و الأعيان فالأعيان الأبدان و الجواهر الأرواح و هو جلّ و عزّ لا

ص: 40


1- غرر الحكم: 63
2- غرر الحكم: 145
3- غرر الحكم: 82
4- بحار الأنوار 67: 393
5- غرر الحكم: 192
6- غرر الحكم: 153
7- الكافي 1: 85

يشبه جسماً و لا روحاً و ليس لأحدٍ في خلق الرّوح الحسّاس الدّرّاك أمرّ و لا سببٌ هو المتفرّد بخلق الأرواح و الأجسام فإذا نفى عنه الشّبهين شبه الأبدان و شبه الأرواح فقد عرف الله بالله و إذا شبّهه بالرّوح أو البدن أو النّور فلم يعرف الله بالله) (1).

و قال الصدوق رضوان الله عليه بعد ذكر أحاديث باب «أنّه عزّ و جلّ لا يعرف إلاّ به»: القول الصواب فى هذا الباب هو أن يقال: عرفنا الله بالله؛ لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عزّ وجلّ واهبها، و إن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه و رسله و حججه علیه السلام فهو عزّ وجلّ باعثهم و مرسلهم و متّخذهم حججاً، و إن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ و جلّ محدثها، فبه عرفناه» (2).

الثانية: طاعة الله سبحانه

تقوم علاقة الإنسان بالله تعالى بعد معرفته على أساس طاعة المخلوق لخالقه مطلقاً من دون قيدٍ أو شرط، لأنّه عزّ شأنه مبدأ كل خير و رحمة، و لا يريد لهذا الإنسان إلاّ ما فيه نفعه في الحياة الدنيا والآخرة، فالطاعة في مصلحة الإنسان، لأن الله تعالى غني عن عباده.

و قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَثْمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيّ

ص: 41


1- الكافي 1: 85
2- التوحيد 10: 290

الْحَمِيدُ) (1).

فإذا أراد الإنسان سلوك الطريق المستقيم مع خالقه عزّ و جل فعليه أن يؤدّي حق الطاعة له، و لازم ذلك أن يرفض رغبات النفس و أهوائها و يحيد عن خطوات الشيطان و ما يمليه من وساوس. و في هذا الصدد يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «سارعوا إلى الطاعات، و سابقوا إلى فعل الصالحات، فإن قصّرتم فإيّاكم و أن تقصّروا عن أداء الفرائض» (2).

وقال علیه السلام: «طوبى لمن وفّق بطاعته وبكى على خطيئته» (3).

وقال علیه السلام: «عليك بطاعة الله سبحانه فإنّ طاعة الله فاضلةٌ على كل شيء» (4).

وقال علیه السلام: «ثابروا على الطاعات، و سارعوا إلى فعل الخيرات، و تجنّبوا السيّئات، و بادروا إلى فعل الحسنات و تجنّبوا ارتكاب المحارم». (5)

و في النهي عن اتّباع الشيطان يقول علیه السلام: «و ما كلّفك الشيطان علمه، مما ليس في الكتاب عليک فرضه، و لا في سنّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أئمة الهدى

ص: 42


1- فاطر: 15
2- تصنيف غرر الحكم و درر الكلم للآمدي: 181
3- نفس المصدر
4-
5- نفس المصدر

أثره فكلّ علمه إلى الله سبحانه. فإنّ ذلك منتهی حقّ الله علیک» (1).

الثالثة: عبادة الله عزّ وجلّ

اشارة

إن العلاقة و الارتباط بالله تعالى ليست مجرد سلسلة مراسم و تقاليد و عادات لا روح فيها، بل إن جميع العبادات تهدف إلى إيصال المرء إلى حقيقة الخضوع ولا خشوع الله تعالى وبسط حكومته على أسراره و ظواهره، وتبعية قراراته لإرادته، بحيث يصبح وجود العبد فانياً و مندكاً في وجود الله تعالى، و هذا معنى الوصول إلى درجة الافتقار المطلق إلى الله تعالى، قد قال رسول الله علیه السلام «الفقر فخري» (2) و يعني به ما ذكرناه، و يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً» (3) .

و للعبادة مراتب لأنّ الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك، فهي عند بعضهم نوع من المعاملة و المعاوضة التي يقع فيها التساوم بين العمل و الأجر عليه، فيعبدوا الله إما طمعاً في جنته فيصبحوا كالتجار و إمّا خوفاً من عقابه فيصبحوا كالعبيد.

و هذا هو نوع التصور الجاهل للعبادة عند العوام و هو ناشئ عن عدم المعرفة بالله» .

ص: 43


1- نهج البلاغة، الخطبة 188
2- مستدرك الوسائل 11: 173
3- مفاتيح الجنان: المناجاة الرجبية

و التصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله، و العبادة عند هؤلاء قربان الإنسان و معراجه و تعاليه و صعوده إلى مشارق أنوار الوجود، و

و هي تربية روحية و رياضة للقوى الإنسانية، و هي مظهر حب الإنسان الكامل و مسيره اللانهائي.

العبادة في نهج البلاغة

إن عالم العبادة في (نهج البلاغة) عالم آخر مليء باللذة الروحية، لذة لا تقاس باللذة المادية.

إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى، بل نقول: إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم و سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - هو كلام أمير المؤمنين علیه السلام .

و لتتضح لنا صورة العبادة في (نهج البلاغة) نأخذ في ذكر نماذج من كلمات الإمام علیه السلام، و نبدأ كلامنا هنا بكلمة منه علیه السلام في اختلاف تصورات الناس عن العبادة.

يقول الإمام علیه السلام: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلک عبادة العبيد، و إن قوماً عبدوا الله شکراً فتلک عبادة الأحرار» (1).

و قد جاء في نهج البلاغة الكثير عن أهل العبادة، وصور كثيرة عن ملامح

ص: 44


1- الكلمات القصار، (الحكمة 234) 19: 68 من شرح ابن أبي الحديد

العبادة والعبّاد، فتارة: عن سهر لياليهم، و أخرى: عن خوفهم وخشيتهم، و ثالثة: عن شوقهم و لذتهم، و رابعة: عن حرقتهم و التهابهم، و خامسة: عن آهاتهم و أناتهم و زفراتهم و حسراتهم، و سادسة: عن تلك العنايات الإلهية الغيبية التى يحصلون عليها بالعبادة والمراقبة و جهاد النفس، و سابعة: عن أثر العبادة في طرد الذنوب و آثارها، و ثامنة: عن اثر العبادة في علاج الأمراض النفسية والخلقية، وتاسعة: عن لذتهم وبهجتهم الخالصة غير المحسودة والتي لا شائبة فيها ...

يقول الإمام علیه السلام في وصف العبّاد والمتقين: «أما الليل: فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء، القرآن يرتلونه ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فهيا تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم. وأما النهار: فحلماء علماء، أبرار أتقياء».

ثم يقول: «لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، و خوفاً من العقاب» (1).

نستخلص من مجموعة كلمات أمير المؤمنين علیه السلام أنّ هناك طرق متعددة

ص: 45


1- الخطبة 186، 1: 132، من شرح النهج لابن أبي الحديد

لارتباط العبد بربه، ويمكن إيجازها بثلاثة طرق و هي: الارتباط بالله على أساس الخوف، و هذا النوع من الارتباط يسميه الإمام علیه السلام بعبادة العبيد ...

و الطريق الثاني: الارتباط بالله على أساس الطمع وطلب الجنة، فتلك العبادة عند الإمام هي عبادة التجار.

و الطريق الثالث: الارتباط بالله لأجل الله و على أساس الشكر لأنعم الله، فتلك العبادة يسميها الإمام علیه السلام عبادة الأحرار، و هذه هي عبادة المحبة و العشق الإلهي، فيرى العابد أنّ ليس هناك إله غير الله مستحقاً للعبادة فيعبده لأنه أهلاً للعبادة، فتلك عبادة العرفاء، و كان أمير المؤمنين إمام العارفين و عبادته عبادة العارفين بالله، و لذا كان يخاطب ربه عزّ وجلّ: «إلهي ما عبدتک حین عبدتک خوفاً من نارک، و لا طمعاً في جنتک، بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتك» (1).

عبادة الله بالدعاء

إن من أسمى و أرقى العلائق التي يبنيها الإنسان مع خالقه الدعاء و التضرّع، حيث يقف الإنسان بين يدي ربه مخاطباً إيّاه بلهجة العبد الخائف

المطيع المعتصم بالله وحده دون ما سواه.

يقول الإمام علي علیه السلام:

ص: 46


1- الكلمات القصار، الحكمية ص290

«الدعاء سلاح الأوليا» (1) و «سلاح المؤمن الدعاء» (2) و قال علیه السلام: «أعلم النّاس بالله أكثرهم له مسألة» (3).

بهذه المسائل التي ذكرنا بعضها نختصر علاقة الإنسان بخالقه في مجمل كلمات أمير المؤمنين علیه السلام، و لا ريب أن العابد لله، و المنحني أمام عظمته، و الخاشع لقدرته، و الرافض لكل أنواع المعاصي و الرذائل التي نهى عنها سبحانه و تعالى، يشكّل في نظر الإمام علي علیه السلام و في نظر الإسلام نموذجاً للإنسان الكامل و الفرد الصالح الذي يريد من خلاله أن يكوّن مجتمعاً مثالياً يتشكّل من مثل هذا الفرد.

وهذا ما يميّز النظرية الإسلامية عن غيرها من النظريات في رؤيتها لتكوين المجتمع الصالح. و ذلك عبر شعور الإنسان بالرهبة و الخوف من الله في كل حركة وفعل يقوم به.

ص: 47


1- غرر الحكم: 192، ح3743
2- الكافي 2 468
3- غرر الحكم: 192، ح 3734

ص: 48

قبس...

علاقة الإنسان بنفسه

(جهاد النفس)

جهاد النفس و إصلاحها

كيفية جهاد النفس

أولاً: مراقبة النفس و محاسبتها

ثانياً: مجاهدة النفس

ثالثاً: تعويد النفس على الطاعة و العبادة

رابعاً: ترويض النفس على التقوى و أعمال البرّ

خامساً: ترک اتباع الهوى و طول الأمل

سادساً: اجتناب الدنيا و العزوف عنها

سابعاً: التصعيب على النفس

ثامناً: ترك مخالطة أبناء الدنيا

تاسعاً: القناعة و الاقتصاد في المعيشة

عاشراً: ترويض الجوارح

ص: 49

ص: 50

قبس... علاقة الإنسان بنفسه

اشارة

من مبادئ الإسلام، و أوليات الدين أن جعل حقوقاً للإنسان على نفسه، فقد أولى لهذه النفس اهتماماً بليغاً، و ذلك لأنها منطلق الأعمال والممارسات، فإذا صلحت صلحت حياة الإنسان، و متى ما طهرّ الإنسان نفسه و هذّبها وجعلها تحت إمارة العقل والدين والتقوى، استطاع أن يهيّئ الأرضية الصالحة لعمله و تعامله مع الناس بشكل أحسن و ناجح، فقد جعل الإسلام معيار تغير المجتمع ما يحقق تغير النفس، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (1)، فكان تغيير المجتمع من الانحطاط و الانحراف معلولاً لتغيّر نفوس أصحابه، كما أن العكس كذلك، فإن تغيّر المجتمع من التكامل و الإيمان و النعم إلى الانحطاط و الانحراف مقرون بتغير النفوس من

ص: 51


1- الرعد: 11

الإيمان إلى الضلال، قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1).

و هذا يكشف عن أهمية النفس في الإسلام، فإن في صلاحها صلاح المجتمع، كما أن في فسادها فساده، و من هنا كان علينا أن نتعرف على حقيقة النفس و خواصها و كيف نصلحها و نخضعها للحق تبارك و تعالى.

و كلام الإمام علي علیه السلام عن النفس الإنسانية، و ضرورة محاسبتها و مراقبتها، و بالتالي تعويدها و تدريبها على الخير، يهدف إلى بناء الشخصية المثالية التي تحترم ذاتها، و تعمل على إصلاح سريرتها و باطنها، و قد أراد الإمام علیه السلام أن ينطلق من صلاح الباطن الذي هو بمثابة وضع حجر الأساس في عملية الإصلاح الاجتماعي، فمن الباطن يبدأ الإنسان رحلته لبناء العلاقات الاجتماعية النموذجية التي هي انعكاس واضح لصلاح النفس الإنسانية.

و في أول خطوة يخطوها الإنسان في مجال الارتباط بالنفس و إصلاحها، هو معرفة النفس و مراتبها لأن معرفة النفس توجب معرفة الرب، بل توجب معرفة الآخرين، كما جاء ذلك عن أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول: «من عرف نفسه عرف ربه»، و قال علیه السلام: «من عرف نفسه كان لغيره

ص: 52


1- الأنفال: 53

أعرف» (1)، و المراد بالنفس هنا معرفة الإنسان ذاته و قدراتها.

و للنفس مراتب و درجات و حالات و تغييرات ذكرتها الآيات و الروايات و هي كالتالي:

النفس الملهمة و النفس الأمارة بالسوء و النفس اللوامة و النفس المطمئنة، و ينبغي للإنسان أن يجاهد نفسه حتى تستكمل وتصبح جوهرة ثمينة، تقبل الحق، وتتوجه إليه وتطمئن به، وحينئذ يأتي لها الخطاب بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (2)، و لا يحصل الإنسان على هذه المرتبة العليا للنفس إلّا بعد مراقبة و محاسبة و جهادٍ مستمر.

جهاد النفس و إصلاحها

اهتم الإسلام كثيراً في جهاد هذه النفس، و نقلها من مرتبة الأمر بالسوء إلى مرتبة الاطمئنان والانقياد للعقل والشرع، حتى أطلق على هذا الجهاد «الجهاد الأكبر» في قبال الجهاد مع أعداء الدين فقد سمي «الجهاد» الأصغر»، و سرّ ذلك أن النفس أعدى الأعداء، كما يقول أمير المؤمنين: «أعدى

ص: 53


1- ميزان الحكمة 6: 141
2- الفجر: 27-29

صلى الله وشت

أعداءك نفسك الّتي بين جنبيك» (1)، و لهذا يروى أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أرسل بسرية فلما رجعت قال: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس» (2)، و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «أفضل الجهاد من جاهد نفسه الّتي بين جنبيه» (3)، و قال أمير المؤمنين علیه السلام: «جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوّه، وغالبها مغالبة الضد ضده، فإن أقوى الناس من قوي على نفسه» (4)، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الّتى تحث على مجاهدة النفس و اصلاحها، و قد حدّدت هذه الأخبار أيضاً الغاية و الثمرة الّتي لأجلها أمرنا بالمجاهدة، و هي قهر النفس و انصياعها و اطاعتها للحق تعالى، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ثمرة المجاهدة قهر النفس» (5)، و قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «بالمجاهدة صلاح النفس» (6)، و قال أمير المؤمنين علیه السلام: «جاهد شهوتک وغالب غضبک،

ص: 54


1- غرار الحكم: 1227
2- بحار الأنوار:19: 182
3- مستدرك الوسائل 11: 137
4- غرر الحكم: 4761
5- غرر الحكم: 4761
6- غرر الحكم 242

وخالف سوء، عادتک تزک نفسک، و یکمل عقلک، و تستكمل ثواب ربک» (1).

كيفية جهاد النفس

اشارة

هناك عدة أمور لابد أن يقوم بها كل من سعى وخاض غمار المجاهدة للوصول إلى غايتها وقد جاءت كلمات الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة لكيّ تحدّد النقاط التي يسلكها الإنسان للتغلب على هوى النفس و طغيانها، وحينئذٍ تتحقق سعادته في الدنيا والآخرة، وهذه النقاط هي كالتالي:

أولاً: مراقبة النفس و محاسبتها

وذلك بأن يقوم الإنسان بمراقبة نفسه و محاسبتها بصورة دائمة، بحيث في كل يوم يمر عليه يسائل فيه نفسه عما عملته من الطاعات والمعاصي، والموازنة كيفاً وكّماً.

فإن رجحت كفّة الطاعات، شكر الله على توفيقه لها، و فوزه بشرف طاعته ورضاه.

و إن رجحت كفّة المعاصي أدّب نفسه و التأنيب على إغفال الطاعة، و النزوع للآثام.

يقول الإمام علي علیه السلام: «اجعل من نفسك على نفسك رقيباً، واجعل

ص: 55


1- غرر الحكم: 4760

لآخرتك من دنیاک نصيباً» (1).

و قال علیه السلام: «من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمِن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم» (2).

و قال علیه السلام: «عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا» (3).

و قال علیه السلام: «ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها و عليها في ليلها ونهارها» (4).

و قال علیه السلام: «حاسبوا أنفسكم بأعمالها، طالبوها بأداء المفروض عليها، و الأخذ من فنائها لبقائها، و تزودوا و تأهبوا قبل أن تبعثوا» (5).

و قال علیه السلام: «من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر» (6).

ثانياً: مجاهدة النفس

في داخل كل واحد منّا، قوى متصارعة و متضاربة، مكونة من العقل

ص: 56


1- تصنيف غرر الحكم: 235
2- وسائل الشيعة 16: 97
3- نهج البلاغة الخطبة: 90
4- تصنيف غرر الحكم: 236
5- تصنيف غرر الحكم: 236
6- نهج البلاغة الحكمة 208

والفطرة والنفس والغريزة

و الذي يحدث داخل أعماق الإنسان هو وقوف العقل و الفطرة و جنودهما و هم يشكّلون جبهة الإنسانية بكل أبعادها وأعماقها، و في المقابل يقف الشيطان و قبيله، مع النفس و غرائزها، في صف واحد لتشكيل جبهة الحيوانية و الصراع بينهما لأجل حكومة الإنسان، فالشيطان يريد أن يفرض حكمه على هذه المملكة، و في المقابل العقل و الفطرة يريدان أن يحكمان هذه المملكة ثم يتفجر الصراع، حتى إذا تغلبت إحدى الطائفتين على الأخرى، أخذت زمام الفرد، و ساقته إلى حيث تشاء.

و هذا الصراع إنّما يحدث من أجل أن يستكمل الواحد منّا رحلته في الحياة ... و في الحقيقة إنّ التكامل لا ينمو، إلاّ في ظل الصراع والمنافسة والتغلب على النفس الأمّارة بالسوء، وهذا ما نسمّيه بمجاهدة النفس.

قال الإمام علي علیه السلام في وصية له إلى شريح بن هانئ: «و اعلم إنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزوتك عند الحفيظة (1)، واقماً (2) قامعاً» (3).

ص: 57


1- الحفيظة: الغضب
2- واقماً: قاهراً
3- نهج البلاغة، الرسالة 56

و قال الله عن صفات (المتّقي): «إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحب ... نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة» (1).

و قال علیه السلام: «إن طاعة النفس و متابعة أهويتها أسس كلّ محنة، و رأس كل غواية» (2).

وقال الله: «إنّك إن ملّكت نفسك قيادى أفسدت معادك، وأوردتك بلاءً لا ينتهي وشقاءً لا ينقضي» (3)

وقال اعلیه السلام: «خالف نفسك تستقم، وخالط العلماء تعلم» (4)

ثالثاً: تعويد النفس على الطاعة والعبادة

النفس الإنسانية أشبه شيء بالطفل المولود حديثاً، فإنّ شخصيته في المستقبل المنظور تتأثر بنوعية التربية التي يتلقاها، و الأدب الذي يتربى عليه، والأمور التي يتعوّد عليها من أهله و المحيط الذي يعيش فيه، لذا فإن من الضروري ترويضه و تدريبه وتعويده على كل صفات الخير.

و هكذا النفس فإن تكوينها يتأثّر و يتفاعل مع القضايا التي يعوّدها عليها صاحبها. فإنّ عوّدها على طاعة الله كانت نفساً طيبة طاهرة، و إلا كانت

ص: 58


1- نهج البلاغة، الخطبة 193
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 237
3- نفس المصدر
4- نفس المصدر

نفساً أمارة بالسوء.

يقول الإمام علي علیه السلام: «عباد الله، إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه، و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه؛ والمغبون من غبن نفسه، و المغبوط من سلم له دينه» (1).

و قال علیه السلام: «و خادع نفسك في العبادة، وارفق بها ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلّا ما كان مكتوباً عليك في الفريضة، فإنّه لابد من قضائها، و تعاهدها عند محلّها» (2).

رابعاً: ترويض النفس على التقوى وأعمال البرّ

قال الإمام على علیه السلام: «أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه» (3).

وقال علیه السلام: «وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر» (4)

وقال علیه السلام: «أسهروا عيونكم، وأضمروا بطونكم، و استعملوا أقدامكم، و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم، و لا تبخلوا بها عنها» (5).

ص: 59


1- نهج البلاغة، الخطبة 86
2- نهج البلاغة، الرسالة 69
3- نهج البلاغة، الحكمة 249
4- نهج البلاغة الرسالة 45
5- نهج البلاغة، الخطبة 183

خامساً: ترك اتباع الهوى و طول الأمل

ينبغي أن يعلم بأن هناك أموراً بين الإنسان و بين تهذيب نفسه. فعليه إذن أن يكون حريصاً من اختراق الشهوات لعمله، و إماتة الدنيا لقلبه، واستعباد النفس له، فأفضل طريق للإنسان لأجل صلاح نفسه أن لا يتّبع الهوى وطول الأمل .

«إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتِّباع الهوى، و طول الأمل، فأمّا أتباع الهوى فيصدّ عن الحق، و أما طول الأمل فينسي الآخرة» . (1)

سادساً: اجتناب الدنيا والعزوف عنها

إن أهم ما ينبغي على المجاهد القيام به اجتناب الدنيا و العزوف عنها، و النظر إليها على واقعيتها، فإن واقع الدنيا هو الفتنة و الإغواء، و ما من بلاء في هذه الدنيا إلّا سببه حب الدنيا و الميل إليها، كما ورد عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» (2)، فأوّل مراحل المجاهدة هو الابتعاد عن

الدنيا و ترك الحرص عليها، قال الإمام علي علیه السلام: «سبب صلاح النفس العزوف عن الدنيا» (3).

ص: 60


1- نهج البلاغة: الكتاب 42
2- بحار الأنوار 40:45
3- غرر الحكم: 5528

سابعاً: التصعيب على النفس

لا ينبغي في مقام المجاهدة أن يعطي الإنسان نفسه ما تريد وترغب، بل لابد وأن يضيّق عليها، ولا يطيعها ولا يعطيها سؤلها، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إذا صعبت علیک نفسک فأصعب لها تذلّ لك، و خادع نفسک عن نفسک تنقاد لک» (1)، و قال علیه السلام: «أقبل على نفسك بالإدبار عنها» (2).

ثامناً: ترك مخالطة أبناء الدنيا

فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ينبغي لمن أراد صلاح نفسه و احراز دينه أن يتجنب مخالطة أبناء الدنيا» (3).

تاسعاً: القناعة و الاقتصاد في المعيشة

إن الإسراف في العيش والسعي للمزيد يخلق في النفس الميل إلى الملذات وقد تنجرّ من مباحاتها إلى محرماتها، فكان حرمانها من الملذات يسهل عليها ترك المحرمات، واقناعها بالقليل يهد من شهواتها، قال أمير المؤمنين الله:

«إذا رغبت في إصلاح نفسک فعلیک بالاقتصاد والقنوع والتقلل» (4)

ص: 61


1- غرر الحكم: 4107
2- غرر الحكم: 2434
3- غرر الحكم: 9103
4- غرر الحكم: 4172

و قال علیه السلام: «أعون شيء على صلاح النفس القناعة» (1)، و قال علیه السلام: «كيف يستطيع صلاح نفسه من لا يقنع بالقليل» (2).

عاشراً: ترويض الجوارح

من الواضح جداً أن أجهزة صدور الأفعال في الإنسان جوارحه، فكل معصية لابد و أن تكون صادرة عن اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن، و كذا كل طاعة تبرز و تظهر و تخرج من مدافن الإنسان إلى الخارج عبر أحد هذه الأعضاء، من هنا يلزم في عملية تهذيب النفس تأديب هذه الجوارح و تربيتها على التخلّق بالفضائل، واجتناب الرذائل، قال الله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (3).

و لنبحث هذه الجوارح التي بها يطاع الله وبها يعصى:

1- ترويض السمع: ومن الجوارح المؤثرة على النفس الأذن، فإن السماع يؤثر على النفس إما تكاملياً كسماع القرآن و المواعظ و الإرشاد، و إما يؤثر تأثيراً تسافليّاً كسماع الغناء و الغيبة و النميمة ... فعلى المؤمن أن يروض أذنه على عدم سماع المحرمات كي يستكمل بذلك تهذيب نفسه، و أخص بذلك الغناء، هذا المرض الخطير المستشري، فإنه على الرغم من

ص: 62


1- غرر الحكم 3190
2- غرر الحكم: 3190
3- سورة الإسراء: 36

كثرة الآيات و الروايات الدالة على أنه من الكبائر، نجد الناس منشدة إليه، وكأنهم أمروا بسماعه.

2- ترويض البصر، لعل العين من أكثر جوارح الإنسان تأثيراً على قلبه، إذ الملذات المرئية و المشاهدة كثيرة جداً، فكل نظرة إليها يخلق في القلب شهوة، و قد تدعوه بعد ذلك نفسه إلى تحقيقها و تحصيلها، فيقع في المحرمات إذا من الصنف المحرم، و هذا معنى قول الإمام علي: «العين بريد عليه القلب» (1)،

فإن كل ما يقع على النظر ينتقش في القلب، و لهذا وجب الحذر كل الحذر من خطورة النظر، وقد أمرنا المولى تبارك و تعالى بغضه فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ...) (2)، و بهذا نفهم أن الطريق الوحيد لتطهير العين من النظر إلى الحرام هو الغض.

3- ترويض اللسان: إن أكثر ما يقع فيه ابن آدم من لسانه، ففي كل صباح تناديه الأعضاء فتقول له: «إتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا» (3).

و ما دام اللسان خطيراً إلى هذا الحد الكبير، فعلى المؤمن أن يختم عليه، و يكون قلبه حارساً على لسانه فلا ينطق قبل أن يفكر بما سيقول، و لأجل

ص: 63


1- نهج البلاغة الحكمة 368
2- سورة النور: 30 - 31
3- منتخب ميزان الحكمة 454

ذلك كان لسان الأحمق يسبق قلبه، كما قال الإمام علي علیه السلام: «لسان العاقل وراء قلبه، و قلب الأحمق وراء لسانه» (1).

النتيجة: إذا حقق الإنسان هذه الطرق يكون مجاهداً لنفسه، و ينتصر عليها فتزك و تعظم و تنقاد إلى العقل والحق، وتصل إلى مرحلة الاطمئنان فتنعم برضا الله و رضوانه، و تدخل جنة ربي الّتي أعدها لها، و أما إذا أهمل نفسه و خانها فتتسلط النفس حتى تدخله المهالك، و تجعله عند الله أهون هائن.

فهذه الأمور التي ذكرناها حول جهاد النفس و مراقبتها و محاسبتها لها فضائلها و آثارها الإيجابية على السلوك في الطريق إلى الله تعالى، لأنّ ردع النفس عن كثير مما تحبّ يؤدّي إلى عدم سيطرة الأهواء و الشهوات على الإنسان، و عدم وقوعه في المهالك والمعاصي.

ص: 64


1- نهج البلاغة، الحكمة 40

قبس...

علاقة الإنسان مع الآخرين

(الأخلاق و الآداب الاجتماعية)

أخلاقيات العلاقات الإنسانية

المرحلة الأولى: العلاقات الخاصة

علاقة الإنسان مع أرحامه

العلاقة المتبادلة بين أفراد العائلة

نصائح للرجل و المرأة

الحقوق المتبادلة بين الوالدين و أولادهم

التربية والتأديب في الصغر

ملاحظة هامة

المرحلة الثانية: العلاقات الاجتماعية العامة

الأولى: علاقة الجار بالجار

الثانية: الاهتمام بأمور المسلمين

الثالثة: علاقة المسلم بغير المسلمين

ص: 65

ص: 66

قبس... علاقة الإنسان مع الآخرين

اشارة

من الأمور المهمة التي وضع لها الإسلام نظاماً، وبرنامجاً تعليمياً وتربوياً متكاملاً، و رسم لها خطوطاً توجيهيةً واسعةً، علاقة الإنسان بربه ثم علاقته بنفسه مقدمة لعلاقة الإنسان بالآخرين، و قد يسأل السائل، ولماذا نحتاج إلى هذا البرنامج التعليمي و التربوي لتنظيم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه؟ وما شأن ذلك و ارتباطه بعلاقة الإنسان مع الآخرين؟

و الجواب: إن الارتباط بالله و الخضوع لأوامره و نواهيه، ومن ثم تهذيب الإنسان نفسه و تربيتها تربية إلهية لها انعكاسات إيجابية، مؤثرة على علاقة الإنسان مع الآخرين، بل يصبح هذا الارتباط المقدس مع الله سبحانه مرآةً للعلاقة بين الإنسان و أفراد المجتمع.

ومن هنا فقد أشار الإمام أمير المؤمنين و سيد المتقين علي بن أبي طالب علیه السلام إلى جملة من حقوق الله على الإنسان، التي من خلالها تتحدد

ص: 67

وظيفة الإنسان تجاه ربه و خالقه و كيفية سلوكه معه، وكذلك يشير الإمام إلى جملةٍ من الأمور، و النقاط التي يجب أن يسير عليها الإنسان، للتغلب على

هوى النفس و مشكلاتها، وحينئذ تتحقق سعادته و رفاهيته في الحياة الدنيا، و يفوز في الحياة الأخرى، و قد سبق الحديث عن هذين الموضوعين.

أخلاقيات العلاقات الإنسانية

خلق الله الإنسان مفطوراً على حب الاجتماع، فالطبع الاجتماعي من ضمن هيكليته الفطرية، فتجده يألف الآخرين و يميل إلى لقائهم، وينفر من الوحدة و الانفراد، و ترجع هذه الرغبة إلى أسباب حياتية و نفسية و غيرها، لا يهمنا التعرض لها، إلّا أن المهم أن نتعرف على أن لهذا الاجتماع و التآلف حقوقاً على كل فرد من أفراده، و أن صونها يوجب صون المجتمع عن الفساد و الانحراف، كما أن التقصير في تحصيلها يوجب تردي المجتمع، و فساده و انحرافه، و من هنا كان كل إنسان مكلفاً من جهته بالقيام بالأعمال التي من شأنها النهوض بالمجتمع إلى أرقى و أطور ما يمكن أن يصل إليه.

وأيضاً لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بتوثيق، و تمتين العلاقات بين الإنسان وأقربائه و أرحامه، و وضع لهذه العلاقة حدوداً و شروطاً، وأحكاماً على أساس الحب و التعاون المتبادل، و ذلك لسلامة وسعادة الفرد والأسرة والمجتمع.

و قد أكد الإسلام على حسن العلاقة و المعاشرة بدءاً بالأقرباء من الناس من ذوي الأرحام، خصوصاً الوالدين، ثم أفراد الأسرة كالزوجة والأولاد

ص: 68

و غيرهم من الأقرباء ثم بعد ذلك الاهتمام بحسن العلاقة و المعاشرة مع جميع الناس حتى غير المسلمين.

وقد نرى الاهتمام و التأكيد على هذا الجانب من دعوة الإسلام في كلمات الإمام علي علیه السلام، حيث دعا الإمام في كلماته و أقواله إلى الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية البناءة و معاشرة الناس بأحسن وجه، حيث يقول علیه السلام في وصيّة لأبنائه: «عاشروا الناس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم» (1)، ثم هده المعاشرة الحسنة، الأفضل أن تبدأ في المرحلة الأولى بالأقرباء في ضمن علاقات الإنسان الخاصة بأرحامه و أفراد عائلته، ثم في المرحلة الثانية الارتباط و المعاشرة مع الآخرين على أساس المحبة و المودة و الاحترام في ضمن العلاقات الاجتماعية العامة، و فيما يلي نبدأ الحديث حول المرحلة الأولى:

المرحلة الأولى: العلاقات الخاصة

اشارة

إنّ أهمّ علاقات الإنسان الاجتماعية علاقته بالأقرباء، و تتلخص وتتمحور في محورين أساسيين، و هما الأول: علاقة الإنسان مع أرحامه خصوصاً الوالدين، و الثانية: علاقة الإنسان مع زوجته و أفراد عائلته قد دعا الإمام علي علیه السلام في كلماته و أقواله إلى

ص: 69


1- بحار الأنوار 75: 77

الاهتمام بهذين الأمرين اللذين يقعان في ضمن علاقات الإنسان الخاصة و فيما يلي نعرض وجهة نظر الإمام علیه السلام من خلال بعض ما جاء من كلماته مع مراعاة الاختصار في البحث.

علاقة الإنسان مع أرحامه

إن أوجب الواجبات علاقة الفرد بأرحامه، و يمكن تحقق هذا الواجب بزيارتهم و تفقدهم، و قضاء حوائجهم، و هذا ما يعبر عنه في الكتاب و السنة بصلة الأرحام، و قد أكد القرآن الكريم و أحاديث المعصومين على ذلك، وحث على الاهتمام بها، وحذّر الإنسان من تركها، و قد جاء هذا التأكيد والحث والاهتمام بصلة الأرحام في كلمات، وأقوال أمير المؤمنين علیه السلام، و فيما يلي نعرض باختصار البعض من تلك الأقوال:

قال علیه السلام: «إنّ صلة الأرحام لمن موجبات الإسلام، و إن الله سبحانه أمر بإكرامها، و إنّه تعالى يصل من وصلها، و يقطع من قطعها، و يكرم من أكرمها» (1).

و قال علیه السلام: «صلة الرحم تدرّ النعم، وتدفع النّقم» (2)

وقال علیه السلام: «قطيعة الرحم تزيل النعم» (3)

ص: 70


1- نهج البلاغة، الخطبة 31
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصطفى درايتي: 405
3- الخصال للصدوق: 505، أبواب الستة عشر، ح2

و قال علیه السلام: «في قطيعة الرحم حلول النقم» (1)

وقال علیه السلام: «قطيعة الرحم تورث الفقر» (2)

وقال علیه السلام «فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضيافة، وليفكّ به الأسير و العاني، وليعط منه الفقير والغانم». (3)

العلاقة المتبادلة بين أفراد العائلة

إن علاقة الإنسان بعائلته و بالعكس هي علاقة قائمة على الفطرة الإنسانية، و الحب المتبادل بين كل فرد و آخر فيها، فالزوج يحب زوجته، و كلاهما يحبان الأولاد، و الأولاد يحبون الآباء.

و لكي تكون هذه العلاقة مأمناً وملجاً للإنسان يحتمي بها، و يؤمّن فيها حاجته للسكون والستر والمودّة، والرحمة وضع الإمام على علیه السلام تنظيماً لهذه العلاقة المقدّسة من خلال بعض النصائح، التي وجّهها لكلّ من الرجل والمرأة، و الآباء و الأبناء و فيما يلى نشير إلى بعضها.

نصائح للرجل و المرأة

يشير الإمام علیه السلام في نصيحته إلى الرجل حول كيفية اختياره للزوجة

ص: 71


1- نفس المصدر
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 405 الباب الأول
3- نهج البلاغة الخطبة 108

عند إرادة التزويج، و هي أن لا ينظر فقط إلى جمال المرآة، وما لها، بل لابد أن يجعل المقياس في الاختيار هو الدين.

حيث يقول علیه السلام: «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا لأموالهنّ فعسى أموالهن أن تطغيهن، و انكحوهنّ على الدين، و لأمةٌ سوداء خرما (1)، ذات دينٍ أفضل» (2).

أن يكون من أهل المعروف معها .

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «من سعادة المرء أن يضع معروفه عند أهله» (3)، لأنّ أفراد العائلة هم أولى الناس بالمعروف، فمن الإجحاف أن يقدم الإنسان معروفه إلى الآخرين، و لا يقدمه إلى أقاربه و أفراد عائلته، و تقول الحكمة الشهيرة: «الأقربون أولى بالمعروف»، و يقول الإمام علي علیه السلام في وصيته لابنه الحسن الله علیه السلام: «ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك» (4)

وقال الله علیه السلام: «عليك بلزوم الحلال، وحسن البرّ بالعيال، وذكر الله في كل حال».

وقال علیه السلام: «الزوجة الموافقة إحدى الراحتين».

ص: 72


1- الخرماء: المثقوبة الأنف أو الأذن
2- نهج البلاغة، الحكمة 1360
3- غرر الحكم: 405
4- نهج البلاغة كتاب 31

وقال علیه السلام: «أنعم الناس عيشاً من منحه الله سبحانه القناعة، و أصلح له زوجه».

و قال علیه السلام: «صيانة المرأة أنعم لحالها و أدوم لجمالها» (1).

وقال علیه السلام: «جهاد المرأة حسن التبعّل» (2).

الحقوق المتبادلة بين الوالدين و أولادهم

أ. حق الوالدين على الولد

1. بر الوالدين.

حيث يقول الإمام علي علیه السلام: «بر الوالدين أكبر فريضة» (3).

وقال: «برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم» (4).

2- الطاعة للوالدين إلّا فى معصية الله سبحانه .

«إن للولد على الوالد حقّاً، وإنّ للوالد على الولد حقّاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء، إلا في معصية الله سبحانه ...» (5)

3- أن لا يضيّع حقّهما ولا يعقّهما.

ص: 73


1- تصنيف غرر الحكم: 405 الباب الأول
2- نهج البلاغة، الحكمة 136
3- غرر الحكم: 407
4- غرر الحكم: 407
5- نهج البلاغة، الحكمة 399

قال علیه السلام: «من العقوق إضاعة الحقوق» (1).

4- الاستفادة من تجارب الوالدين و الانتفاع من مواعظهم .

ففي وصيته علیه السلام لولده الحسن علیه السلام: «... و الأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك، و الصالحون من أهل بيتك، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، و فكّروا كما أنت مفكّر، ثم ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمّا لم يكلّفوا».

ب. حق الولد على الوالدين

يقول علیه السلام: «حقّ الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن» (2).

و في وصيته علیه السلام لولده الحسن علیه السلام يقول: «... و أن ابتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيرک» (3).

التربية و التأديب في الصغر

اجمع الباحثون و المحققون على أن للتربية في سنّ الطفولة دور كبير في بناء شخصية الإنسان، و تكوين صفاته، لأنها كالأرض الخالية بالنسبة إلى الفلّاح،

فعلى طبق ما يزرع تكون نتيجة الحصاد.

ص: 74


1- تصنيف غرر الحكم: 407
2- نفس المصدر
3- نهج البلاغة، الحكمة 399

ففي وصيته علیه السلام لولده الحسن علیه السلام يشير الإمام إلى مضمون هذا الكلام حيث يقول: «... أي بني: إني بادرت بوصيتي إليك، و أوردت خصالاً منها قبل أن يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، وفتن الدنيا، فتكون كالصّعب النّفور، وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّک ... فما طاب سقيه، طاب غرسه و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه، خبث غرسه وأمرّت ثمرته» (1).

ثم يذكر علیه السلام أهم أهداف التربية و التعليم فيقول: «... فبادرتك بالأدب ... لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته و تجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، و عوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذاک ما قد كنّا نأتيه، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه» (2)

وقال علیه السلام: «خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب» (3).

فالملاحظة المهمة في كلمات أمير المؤمنين علیه السلام تنبيه الوالدين، لأن يعطيا اهتماماً لتربية و تعليم أولادهما منذ الصغر، و يتيحا لهما فرصة كافية لبروز المواهب التي أودعها الله تعالى فيهم.

ملاحظة هامّة:

رغم التأكيد و الاهتمام البالغ الذي رأيناه في كلمات الإمام علي علیه السلام

ص: 75


1- نهج البلاغة، الرسالة 31
2- نهج البلاغة، الرسالة 31
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 407

على صلة الرحم، و على جعلها من المسائل المهمة في حياة الإنسان، لكن ذلك مرهون بحدود و شروط معيّنة، و هي أن لا يجعل الإنسان من القرابة عاملاً للابتعاد عن الدين، بحيث يجعلها الإنسان شغله الشاغل، وهمّه الأكبر الذي يصرفه عن أمور دينه، ولهذا يقول علیه السلام: «لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإن يكن أهلك، وولدك أولياء الله، فإن الله لا يضيّع أولياؤه، و إن يكونوا أعداء الله، فلما همّك و شغلک بأعداء الله؟» (1)

و أما الأمور التي يجب أن يقدمها الإنسان على القرابة و الرّحم، فهي ما لو اقتضى الإسلام أن يقف الإنسان موقف العداء من قرابته الذين هم في خط أعداء الله، فحينئذ لا يجوز تقديم القرابة على الدين الذي هو المقياس الأساس في خط الإنسان.

ويتحدّث الإمام علي علیه السلام عن الزمن الأول الذي بعث فيه النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و كيف أن الإنسان المسلم كان يواجه بعقيدته كل الناس حتى أقربهم إليه في سبيل الحفاظ على الإسلام و نشره، حيث يقول علیه السلام: «لقد كنّا مع رسول الله علیه السلام نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً» (2).

ص: 76


1- نهج البلاغة، الحكمة 352
2- نهج البلاغة، الخطبة 56

المرحلة الثانية: العلاقات الاجتماعية العامة

اشارة

كما نظم الإسلام العلاقات الخاصة للمجتمع، كذلك نظّم العلاقات الاجتماعية العامة، وقد صنفها إلى أصناف كثيرة، فقد نظّم علاقة الجيران فيما بينهم، و نظم العلائق بين المعلّم و التلميذ، والعامل والمستأجر، والمشير والمستشير، و المؤمن مع أخيه، و جميع هذه العلائق تعرّض لها الإمام زين العابدين في رسالته القيمة «رسالة الحقوق»، و نحن هنا سنقتصر على البعض من تلك العلاقات الهامة .

الأولى: علاقة الجار بالجار

إنّ من أهمّ الارتباطات و العلائق الاجتماعية بعد الأقرباء الاهتمام بحسن المعاشرة و التعامل مع الجيران، حيث جاء في الكثير من الروايات الحث على تفقد الجار، و كف الأذى عنه، و تحمل الأذى منه، و مراعاة جميع حقوقه.

و تعرّض الإمام زين العابدين إلى تلك الحقوق في رسالته القيّمة «رسالة الحقوق» و التي جاء فيها: «أمّا حقّ جارك، فحفظه غائباً، و إكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوما، ولا تتّبع له عورة، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، و إن علمت أنّه يقبل نصیحتک نصحته فيما بينك و بينه، ولا تسلمه عند شديدة، و تقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة» (1).

و قال الإمام على علیه السلام عند وفاته: «الله الله في جيرانكم، فإنّهم وصيّة

ص: 77


1- الخصال 2: 569

نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم» (1).

و قال علیه السلام: «حريم المسجد أربعون ذراعاً و الجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها» (2).

الثانية: الاهتمام بأمور المسلمين

اعتبر الإسلام الاهتمام بأمور المسلمين حقاً لهم على كل مسلم، فحثّ عليه و جعله عدل الإسلام و الإيمان، و طلب من المؤمن أن يتخلّق بهذا الخلق

يودخل في جماعة المسلمين و يناصرهم ويعينهم، و يبذل لهم من نفسه و ماله ما يحتاجونه، تعبيراً عن مودته و رحمته وحبه لهم، و الخلاصة أن يشاركهم في أفراحهم و أحزانهم.

و قد جاء هذا المعنى في كثير من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام، من خطبه وقصار جمله ورسائله، خصوصاً الكتاب الذي بعثه إلى مالك الاشتر حين ولّاهُ مصر.

الثالثة: علاقة المسلم بغير المسلمين

إنّ أهل الذمة من مختلف الأديان قد احترمهم الإسلام وصانهم وصان عرضهم و مالهم، يعيشون و يحيون بين المسلمين و في بلادهم لهم مالهم، و عليهم ما عليهم، و ينعمون بحمى الإسلام، و ينتصف لهم الحاكم من كل من

ص: 78


1- نهج البلاغة، الكتاب 47
2- الخصال 2: 544

ظلمهم، ولم يمنع عنهم السلام، ولا حرّم على المسلمين الاختلاط بهم، و هذا ما أدب به النبي و أهل بيته الكرام المسلمين، من صون حقوقهم و عدم التعدي عليهم، فقال علي علیه السلام: «الناس ... صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظیر لک في الخلق» (1)، فنحن نعيش مع أهل الذمة لوجود مناظرة خلقية، أي الذمي إنسان كما نحن، و كما أن الإنسان المسلم محترم لشخصه كذلك الإنسان يحترم لشخصه، إلّا أن يسقطه بما يضمره من سوء، كما في الكافر الحربي، كذلك أهل الذمة يحترمون بشخصهم وإنسانيتهم وآدميتهم.

و من هنا كان أهل البيت علیهم السلام قد استوعبوا كل الناس بأخلاقهم و جميل صنيعهم، فأمير المؤمنين علي علیه السلام يأتي إلى المدينة مع يهودي و لمّا يبلغ المدينة، يستمر علي الله في السير معه، فيقول اليهودي: ألم تقل أنك تريد المدينة، فقال على علیه السلام: نعم فقال اليهودي، فلماذا تمشي معي في طريق الخروج منها، فيقول علیه السلام أشايعك إلى أن تخرج منها، فقال: ما هذه الأخلاق الّتي لم نعهدها، فقال علیه السلام: هكذا علمنا الإسلام ونبيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 79


1- نهج البلاغة: كتاب 53، (من كتاب للإمام (ع) كتبه إلى مالك الأشتر النخعي لما ولاه على مصر)

ص: 80

قبس ...

التقوى و صفات المتقين

التقوى لغة و اصطلاحاً

التقوى في نهج البلاغة

آثار التقوى في الدنيا و الآخرة

بالتقوى خروج من الضيق

بالتقوى تدر الأرزاق

بالتقوى تقبل الأعمال

بالتقوى تنال كرامة الله تعالى

بالتقوى تنال رحمة الله

بالتقوى تنال الجنة

كلام أمير المؤمنين في صفات المتقين

ص: 81

ص: 82

قبس ... التقوی و صفات المتقین

التقوى لغةً و اصطلاحاً

التقوى لغةً الوقاية، و هي الحذر، و الاحتراز و البعد و الاجتناب، ولها مراتب بحيث كلما كان الحذر والاجتناب أكثر كانت التقوى أكمل.

و في الاصطلاح الإسلامي هو اجتناب ما حرّم الله و إتيان ما أوجبه على العبد و باختصار هو ترك ما ثبتت حرمته و فعل ما ثبت و جوبه، كما جاء هذا المعنى في كثير من الروايات، و إذا ترك الإنسان المحرمات و المكروهات و حتى المشتبهات و عمل بالمستحبات فهذا هو الورع الذي دعا إليه النبي صلی الله علیه و آله و سلم في خطبته الشعبانية، و عبّر عنه بأفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك.

ص: 83

التقوى في نهج البلاغة

(1)

إن كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى أعتني به أكثر من التقوى، كما أنه ليس هناك كتاب - بعد القرآن الكريم - يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، غير أن أمير المؤمنين علیه السلام يطرح التقوى على أنه مفهوم يرادف الحذر و الاجتناب، وفق ما يذكره أهل اللغة، بل التقوى في نهج البلاغة عبارة عن قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب، و عليه فالحذر المعقول والمنطقى يكون مقدمةً للحصول على هذه المرتبة الروحية العالية، و ليست التقوى في منظور نهج البلاغة عبارة عن الحذر و الاجتناب الذي يؤدي بالانسان إلى اعتزال المجتمع و الحياة العامة خوفاً من الوقوع بالمعصية، و فوات التقوى، بل التقوى في مفهومه قوة يخلقها الحذر إلى أن تصل إلى درجة الملكة فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع و الاعتزال، إذ هو يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع، فمن كانت تقواه بمعنى الحذر الذي يمنعه من مخالطة مجتمعه، ويحدو به إلى الانزواء، كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح أعنى الوصول إلى درجة الملكة و القوة المانعة عن الذنوب، كان كمن

ص: 84


1- البيان والتوضيح من الشهيد مرتضى المطهري في كتابه (في رحاب نهج البلاغة)

يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر علیه السلام إلى أن يخرج من البلد أو إلى اجتناب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم الممرض.

يقول سعدي الشيرازي واصفاً التقوى بالمعنى الأول:

رأيت يوماً عابداً في الجبال *** مقتنعاً عن دهره بالرمال

فقلت هل تنزل يوماً لكي *** ترى البلاد والمنى والمنال

فقال لي لا إن فيها لمن *** بنات حوا كل ذات جمال

وحينما يكثر وحل الطريق *** يزلق فيه الفيل قبل الرجال

إذاً فالتقوى في منظومة نهج البلاغة، قوة معنوية وروحية تحصل على أثر التمرين و الممارسة، ولها آثار و نتائج منها تيسير الحذر من الذنوب لا أنها هي بنفسها الحذر.

و فيما يلي بعض النصوص للإمام علي علیه السلام تؤكد هذا المعنى:

قال الإمام علي علیه السلام: «إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم ...» (1)، و قال علیه السلام: «إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم....».

حيث أكد علیه السلام في هذه المقطوعة أن الحذر من الحرام، والخوف من الله

ص: 85


1- نهج البلاغة: خطبة 112

تعالى من لوازم و آثار التقوى، لا أن نفس الحذر و الخوف هو التقوى.

وهناك الكثير الكثير في نهج البلاغة ما يؤكد على أن التقوى عند أمير المؤمنين علیه السلام عبارة عن قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام و الإحجام، إقدام على القيم المعنوية، و إحجام عن الدنايا المادية، وهي آلة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلط بها على نفسه و يمتلكها. و من ذلك قوله: «إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله، و لا يحرز من لجأ إليه» (1)، و هذه نماذج من نهج البلاغة عن المعنى الحقيقي للتقوى، و هناك الكثير من هذا القبيل.

آثار التقوى في الدنيا والآخرة

اشارة

إن للتقوى آثار عظيمة جداً تعود فوائدها إلى الفرد المتقي، و المجتمع المتقي، و قد ذكر القرآن الكريم آثاراً كثيرة وجمة و إليك بعضها:

1- بالتقوى خروج من الضيق:

الإنسان في هذه الدنيا غالباً ما يتطوق بالمصائب والابتلاءات، وهذه الابتلاءات على نوعين، فمنها ما يتمكن الإنسان من حله، ورفع مشاكله، وهي قليلة جداً، ومنها ما لا يتمكن من حله، و يقف عاجزاً أمام هذا النمط منها، و ليس له أدنى حول، إلّا أن يغيثه الله تبارك و تعالى، ويخرجه من هذا الضيق، وبالتقوى يخرج المتقون من هذا الضيق، وتحل مصائبه و مشاكله بعدما كانت مبرمة، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ

ص: 86


1- نهج البلاغة خطبة 100

اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (1)، أي من الضيق، لمصائبه و محنه، ويقول تعالى أيضاً: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (2)، و قال أمير المؤمنين علیه السلام الأبي ذر: «... ولو أن السماوات و الأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً ...» (3).

2- بالتقوى تدر الأرزاق:

إن من أكثر ما يشغل بال الفرد في المجتمع الرزق، وكم يسعى لتحصيله، و كم ينفق من عمره في سبيل تحصيل قوته و قوت عياله، و يمكننا القول بأن حركة المجتمعات البشرية في معظم الأوقات تفرّغ في سبيل تحصيل الرزق والقوت، مع أن هناك طريقاً سهلاً قويماً يحقق للإنسان رزقه و ما يكفيه، و هو التقوى، فبالتقوى تدر الأرزاق، و بالتقوى تحصّل الأقوات، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (4) .

3- بالتقوى تقبل الأعمال:

لا شك أن أهم ما يهتم به المؤمن أن يقبل الله أعماله التي يقوم بها من الصلاة والصيام والزكاة والحج ... ودائماً يخاف الإنسان من أن لا تكون هذه الجهود من عباداته موضع قبول الله تعالى،

ص: 87


1- الطلاق: 2
2- الطلاق: 4
3- بحار الأنوار 22: 411، ح 30
4- الطلاق 2 - 3

و أيضاً هناك الكثير من الروايات التي أكدت على أن المؤمن ينبغي أن يهتم بقبول العمل، بغض النظر عن قلته أو كثرته، فلا ينفع عمل مهما كثر إذا رده الله تعالى، كما أن العمل القليل قد يغني الإنسان إذا كان محققاً للقبول.

والطريق الذي رسمه الله تعالى لقبول الأعمال التقوى، قال تعالى: () (1)، فالتقوى سبب من أسباب القبول، بل هي السبب الوحيد لدلالة «إنّما» على الحصر، وقد وردت هذه الآية في قصة هابيل وقابيل ابنا آدم حيث اختلفا في أمر فحكّما فيه أباهما آدم، فأشار عليهما أن يقدما قرباناً إلى الله فمن تقبل الله قربانه يكون هو الصائب، فقدم قابيل كبشاً عظيماً ظناً منه بأن عظمة ما يقدمه و غلائه يكون موضع رضى و قبول الله تعالى، و قدم هابيل سنابل القمح، و كانت علامة القبول، أن يضعا القربانين على جبل فإذا نزلت النار و أكلت قربان أحدهما دل ذلك على قبول الله له، وفعلاً نزلت النار على قربان هابيل و أكلت سنابل القمح، فتعجب قابيل، واستغرب من قبول الله السنابل التى لا تعدل شيئاً أمام الكبش، فقال له أخوه هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). (2)

فعظمة العمل و كثرته لا تعدو شيئاً عند الله إلا بالتقوى، و من هنا قال

ص: 88


1- المائدة: 27
2- المائدة: 27

علي علیه السلام: «لا يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل ما يتقبل» (1)، ومما أوصى به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أباذر، قال: يا أباذر كن للعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل» (2).

4- بالتقوى تنال كرامة الله تعالى:

لقد خلق الله تعالى الإنسان كريماً، قال تعالى: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) و إنما يذل و يهان بالمعاصي و الذنوب، و هذه الكرامة أعطاها و وهبها لجميع البشر على نمط واحد، و بحد متساوي، غير أنه بامكان كل فرد من الطاقم البشري أن يصبح أكرم من سائر البشر، و ذلك بالتقوى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (3).

5- بالتقوى تنال رحمة الله:

ليس هناك أوسع من رحمة الله تعالى، و بالتقوى تنال و تستحصل، قال تعالى: (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (4).

6- بالتقوى ينال الإنسان الجنة:

قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتِ

ص: 89


1- بحار الأنوار 6: 38 ح 62
2- نهج البلاغة: 484
3- الحجرات، 13
4- الأعراف: 156

وَ عُيُونٍ) (1)، وقال عز من قائل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) (2).

و هناك آثار أخرى عزفنا عن ذكرها مراعاة للاختصار.

و لعل أعظم الآثار للتقوى تعكسها خطبة المتقين لأمير المؤمنين علیه السلام

كلام أمير المؤمنين في صفات المتقين

(3)

رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ (4) كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ (علیه السلام) عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ، فَ«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ

ص: 90


1- الحجر: 45
2- النحل: 31
3- نهج البلاغة: 436، خطبة 193
4- همام بن عبادة صاحب أمير المؤمنين، و من خواص شيعته، و كان عابداً ناسكاً مجتهداً، و مما يدل على عظمته و جلالة شأنه و زهده و تقواه، أنه صعق و وقع صريعاً بمجرد ما سمع من مولاه هذه الخطبة، شوقاً إلى الثواب و الرضوان، وخوفاً من العقاب و النار . وهمّام اسم على المسمّى: أي ذا همّة عالية، ولهذا نرى بأنّه لم يقنع من مولاه الجواب الموجز، وأصرّ عليه بالتفصيل والإمام كان يخاف على همّام، آخر الخطبة: أما والله لقد كنت أخوفها عليه

اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ». فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلی الله علیه وآله) ثُمَّ قَالَ (علیه السلام):

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ؛ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ [لَهُمْ ] عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ (1)، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ

ص: 91


1- عن أبي عبد الله علیه السلام قال: استقبل رسول الله حارثة مالك بن الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال يا رسول الله مؤمن حقاً، فقال لكل شيء حقيقة، فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عزفت نفس عن الدنیا فأسهرت ليلي، و اظمأت هواجري (نصف النهار)، و كأني أنظر إلى عرش ربي، و قد وضع للحساب، و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع أهل النار في النار، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: عبد نوّر الله قلبه، أبصرت فأثبت، فقال الشاب: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني الشهادة معك، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: اللهم ارزق حارثة الشهادة. فلم يلبث إلّا أيّاماً حتى بعث رسول الله سريّة فبعثه فيها فقاتل حتى قتل تسعة أو ثمانية - ثم قتل، و في رواية أنه استشهد مع جعفر بن أبي طالب في مؤتة.

نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا، أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ، وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ،

ص: 92

وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَ_لُه خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.

يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ؛ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ؛ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ؛ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ؛ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ؛ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ؛ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ؛ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ،

ص: 93

لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ.

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام):

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ (علیه السلام) وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِك.(1)

لا غرو في ذلك فإن المفرغ لهذا الكلام هو سيد المتقين و ضياء المتهجدين و نور العارفين أمير المؤمنين، و هل يوجد شخصية بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اتصف بهذه الأوصاف غير على علیه السلام و أهل بيته، فكان ما قاله لهمام نابع من ذلك القلب السليم، فأثر ما أفرغه منه في الضمائر الحية و القلوب السالكة إلى الله تعالى.

ص: 94


1- وهنا نكات لابد منها: 1- لا يخفى أن تأثير المواعظ تتقّدر بمقدار حال المتعظ، و حيث كان همام من المتعظين، أثرت المواعظ، و أمّا عروض موته فإنه تقدير إلهي بحلول أجله في ذلك الوقت . 2- إن ما أشار إليه الإمام في هذه الخطبة من صفات المتقين يتجاوز عن السبعين، و لعلّه أراد أن يتمّها و لكن حل أجل همام فلم يتمكّن من إتمامها. 3- ثمّ إنّ هذه الصفات لها مراتب و درجات يمكن الوصول إليها في الجملة، و اللازم بذل الجهد لإدراك أعلى مراتب الأولياء والأبرار.

قبس ...

المرأة و قضاياها

تمہید

نقصان المرأة

عدم مشورة النساء

عدم إطاعة المرأة

المرأة و الشر

المحتوى العام للنصوص

ما معنی نقصان إيمان المرأة؟

لماذا حظ المرأة من الإرث نصف حظ الرجل؟

ما معنى نقصان عقل المرأة؟

لماذا ورد النهي عن مشاورة النساء؟

لماذا ورد النهي عن إطاعة النساء؟

ما معنى القول: بأنّ المرأة شر؟

ص: 95

ص: 96

قبس... المرأة وقضاياها

تمهيد

تمهيد (1)

قد حمل نهج البلاغة نصوصاً تتعلق بالمرأة و قضاياها لابد من محاولة استعراض بعضها بالبحث و التحقيق، و لكن لابد و أن يعلم مسبقاً بأنّ التعليقات و التحليلات و القراءات الموجودة عند الباحثين لا يمكنها التعبير عن عمق و كنه الرؤية الإسلامية تجاه هذا الموضوع، و لا تمثل إدراك الموقف الشمولي له، وإنما نحاول قدر المستطاع إعطاء الوجهة التقريبة لذلك على

ص: 97


1- بما أن هذه البحوث سلسلة من الدروس التي ألقاها سماحة الشيخ أيوب الحائري في حوزة الامام الخميني (قدس سره) النسائية في دمشق، و هكذا في معهد السيدة رقية (عليها السلام)، ناسب أن يخصص بحثاً حول المرأة و قضاياها في نهج البلاغة بغية اطلاع الطالبات على شؤونهن الخاصة. (الناشر)

ضوء الخلفيات الثقافية التى تعطيها النصوص، و التي تعطي بدورها الرؤيا الموضوعية لنظرة الإسلام تجاه الإنسان ككل، و فيما يلي عرض لبعض النصوص التي يظهر منها طرحاً مستهجاً لموضوع المرأة و فسلجتها.

نقصان المرأة

لعل الرواية الأكثر جدلاً حول نقصان المرأة هي الرواية التي تضمّنتها الخطبة الثمانون من نهج البلاغة، وهي الأكثر صراحة في هذا المعنى، حيث جاء فيها: «معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان و نواقص الحظوظ و نواقص العقول، فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنّ، و أمّا نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال» (1).

و قد روى علماء السنّة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، في مصادرهم الحديثة - مثل سنن ابن ماجة (2)- ما هو قريب من هذا النص.

وأيضاً ورد في كتاب الكافي صريحاً في وصف المرأة بالنقص في العقل، و الضعف في الدين: «ما رأيت ضعيفات الدين و ناقصات العقول أسلب لذي

ص: 98


1- نهج البلاغة: 63، الخطبة 80. و شرح النهج لابن أبي الحديد: 6: 214
2- سنن ابن ماجة كتاب الفتن: ج 2، الباب 19، ح 4003

لبّ منكن» (1).

و مما يوهم دلالته على نقصان عقل المرأة، ما يرويه السيد عن الإمام علیه السلام في الخطبة (27) في صدد ذمّ رجال تقاعسوا عن واجب الجهاد قال علیه السلام: «يا أشباه الرجال و لا رجال، حلوم الأطفال و عقول ربّات الحجال» (2).

عدم مشورة النساء

ينسب السيّد الرضي في نهج البلاغة إلى الإمام الله القول: «إياك و مشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفن، و عزمهن إلى وهن، و اكفف عليهن بأبصارهن بحجابك إيّاهنّ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن ...» (3).

كما أورد الحديث كلٌ من الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» (4).

ص: 99


1- الكافي: 322، ح 1. و رواه كل من: الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام: 7: 404، ح 612، و الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه: 3 247، ح 1171 . و في معنى هذا الحديث بل أكثر صراحة ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه
2- نهج البلاغة: 33، الخطبة 27
3- نهج البلاغة: الكتاب 31 (يبدو أن الكتاب هو إلى محمد بن الحنفية «رض»
4- كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 275

و المجلسي في «بحار الأنوار» (1)، رواه الحر العاملي في «وسائل الشيعة» أيضاً، مع بعض الاختلاف، إضافة إلى أن مضمون هذه الرواية جاء في بعض النصوص الأخرى. (2)

و ظاهرها على ما يبدو في الوهلة الأولى و بالنظر البسيط التحذير من مشاورة النساء، لما وصف به رأي المرأة و عزمها من أفن و وهن، والأفن هو النقص و الضعف (3)، وعليه فالمرأة على هذه الرواية لا تتسم بالكمال و التمامية في رأيها و مشورتها.

ينتقل السيد الرضي في النهج عن الإمام علیه السلام أيضاً قوله: «لا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم، فإنهنّ ضعاف القوى و الأنفس و العقول..» (4)، و هذه الرواية تعطي طابعاً آخر في المرأة، و رؤية أصعب مما تضمنته الرواية الأولى، ذلك أنها تصف المرأة بالضعف على مستوى القوى و النفس و العقل، و لعل هذا المعنى يوضح بشكل أكثر السبب في ترك مشورة النساء الوارد في الرواية السابقة.

ص: 100


1- بحار الأنوار 100: 253 (باب أحوال الرجال والنساء)
2- الكافي 5: 517، ح 8، الوسائل 20: 182 و كذلك النهج يحتوي على ما يحوي: دعم المفهوم في مواطن أخرى مثل: الحكمة الرقم 102
3- لسان العرب: مادة «أفن» و الأفين يعني: الناقص
4- نهج البلاغة: الكتاب 14

عدم إطاعة المرأة

إن من أغرب ما جاء حول المرأة، ما قد يُفهم منه أمرٌ صريحٌ بترك المعروف، لو كانت المرأة هي الداعية إليه، فلا ينبغي أن تطاع حتى في المعروف، و النص المعتمد هنا هو ما ينقله السيّد الرضي أيضاً عن الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة: «اتقوا شرار النساء و كونوا من خيارهنّ على

حذر، و لا تطيعوهنّ في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر» (1)

المرأة و الشّر

و من النصوص التي توهم ذم المرأة ما ينقله السيد عن الإمام علیه السلام في النهج «المرأة عقرب حلوة اللَّسبة» (2) و أيضاً ورد عنه علیه السلام قوله: «المرأة شرّ كلّها و شرّ ما فيها أنه لابد منها» (3)، وقوله علیه السلام: «اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر» (4)، و هذا يكشف عن أن المرأة مركز الشر و عنصره، و أن أعظم الشر أنَّ الرجل بحاجة إليها (5). 02

ص: 101


1- نهج البلاغة: 63، الخطبة 80
2- مستدرك الوسائل 14: 158
3- شرح نهج البلاغة 19: 69
4- الكافي 5: 517
5- نهج البلاغة: الكلمات القصار، الرقم 61

المحتوى العام للنصوص

اشارة

هذه جملة من الأحاديث الواردة عن الإمام علي علیه السلام في كتاب نهج البلاغة و غيرها من الكتب، و نسعى في التحليل الآتي، إلى تقديم صورة تخفف ما يمكن أن يطرأ على الإنسان من استغراب، عند قراءة مثل هذه الروايات.

و النظرة الأولية لما أسلفناه هنا من الروايات الواردة عن الإمام علي علیه السلام، توحي أنّ المرأة في شخصيتها، تُتَّصف بأفنٍ في رأي، و وهن في عزيمة، و نقص في عقل، و عجز في نفس، مما يبرِّر بشكل طبيعي جداً، أن تكتمل الصورة النظر الرجال بضرورة الابتعاد عن مشاورتها و الحث على مخالفة رأيها، و إن كان ذلك الرأي مما يصدق عليه (المعروف) الذي هو من أقدس و أهم المفردات الإسلامية، ذلك أن إنساناً موصوفاً بما قد مرّ من خصال سيئة، و قابلة للإفساد و التدمير المعنوي، من الواضح تجنبه، و السعي لعدم إشراكه في شيء من تقرير الحياة.

هذا ما تركَّز لدى بعض الناس، بل العلماء مما دفع بهم إلى أحد أمرين: إما القول بدونية المرأة و أنّها إنسان من الدرجة الثانية و دون الرَّجل في الجانب الجوهري، و إما الاعتقاد بأن مثل هذه الروايات ضعيفة، و غير قابلة للاحتجاج العلمي و الإسناد المعرفي، فيجب رفضها كلياً، و القول الأخير هو الأكثر رواجاً و اعترافاً في الأوساط المعاصرة على أقل تقدير، وإن كان عدد لا بأس به يعبّر عن إضعاف هذه النصوص بحذرٍ وحيطةٍ، و لكنه لا يغير من واقع الموقف شيئاً كثيراً.

ص: 102

و فيما يلي نعرض بعض مفردات هذه الروايات، و نجيب عن تلك التساؤلات باختصار و قبل الدخول في البحث لابد من التمهيد التالي:

قد يكون الشيء مذموماً حسب شرائط و علل وأسباب خارجية، وليست طبيعة الشيء قابلة للذم، بمعنى أن الذم فيه ليس ذماً ذاتياً، و توضيح ذلك أنه ربّما يمدح أو يذم زمان أو مكان أو أشخاصاً إثر وقائع تاريخية و حسب شرائط و علل و أسباب خاصة، وهذا ليس معناه أن طبيعة ذلك الزمان أو المكان أو الشخص قابلة للمدح والذم بل ذلك المدح والذم عرض لتلك الطبيعة لعلل وأسباب و شرائط خاصة، و لذا فإنَّ هذا المدح والذم ليس أبدياً أن يفارق تلك الطبيعة، وعليه فإذا رأينا في (نهج البلاغة) أو بعض الروايات ذمّاً لبعض الأمكنة و الأفراد، فلعل ذلك من هذا القبيل، فالقضية في هذه الروايات تصبح قضية شخصية أو خارجية، و ليست قضية حقيقية . (1)

فذم الكوفة وأهلها والبصرة وأهلها في نهج البلاغة) قد جاء إثر قضايا وحوادث تاريخية خاصة، وما جاء عن أمير المؤمنين الا بعد فراغه من

ص: 103


1- الفرق بين القضيتين، أن القضية الحقيقية هي ما ينصب الحكم فيها على طبيعة الشيء من دون ملاحظة خصوصية أفراده الخارجية، فمثلاً لما نقول (الجن من النار) فالحكم عليهم بالنارية ناظر إلى طبيعة و حقيقة الجن، أما القضية الخارجية، فهي ما أنصب الحكم فيها على مجموعة أفراد موجودة خارجاً دون أن يشمل الحكم لسائر الأفراد

حرب الجمل يذم فيه النساء: «معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول...» (1) من هذا القبيل، إذ ليس المقصود منه تحقير المرأة و انتقاصها بما هي امرأة، و ليس ناظراً إلى طبيعتها و واقعيتها، بل لهذا الذم أسباب و علل و تفسير يلزم تبينه و توضيحه على ضوء الكتاب و السنة و العقل و الواقع التاريخي، و هذا ما سنقوم به ضمن الإجابة على المواضيع التالية:

1 - ما معنى نقصان إيمان المرأة؟

2 - لماذا حظ المرأة من الإرث نصف حظ الرجل؟

3- ما معنى نقصان عقل المرأة؟

4 - لماذا ورد النهي عن مشاورة النساء؟

5- لماذا ورد النهي عن إطاعة النساء؟

6- ما معنى القول: بأنّ المرأة شرّ؟

ما معنى نقصان إيمان المرأة؟

قضية نقصان إيمان المرأة المعلّل في الرواية بقعودها عن الصلاة و الصيام أيام الحيض لا يعتبر في الواقع إنتقاصاً للمرأة، لأنه أولاً: حرمان مؤقت قابل للجبر، و ثانياً: لأنه حكمة إلهية.

ص: 104


1- نهج البلاغة الخطبة،79 ص 72، تحقيق مؤسسة نهج البلاغة الطبعة الثانية 1416ه_. ق

توضيح ذلك: أنّ الله قد كلّف الإنسان حسب طاقته و استعداده، و لذا نرى أن تكاليف الأنبياء و الأوصياء تختلف تكاليف سائر الناس، فمثلاً أداء صلاة الليل واجبة على الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، و مستحبّة مؤكّدة على سائر المسلمين، لأنّ هذا التكليف لا يطيقه إلّا الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم.

و على هذا الأساس فإنّ المرأة تجب عليها العبادة و تكون مكلّفة قبل الرجل بست سنين. و هذا في الحقيقة يعدّ شرفاً لها للحضور بين يدي الله عزّ وجلّ، و أمّا قعودها عن الصلاة و الصيام أيّام عادتها فلا يدلّ على نقصان منزلتها، لأنه يمكن جبران ذلك، أمّا الصيام فيقضى، و أمّا الصلاة فإن المرأة يستحبّ لها أيّام الحيض أن تتوضأ وتجلس في محراب صلاتها، وتشتغل بذكر الله تعالى بمقدار الصلاة الواجبة، كما أن المسافر إذا سبّح التسبيحات الأربعة ثلاثين أو أربعين مرّة يجبر بذلك نقصان الركعتين في السفر. أضف إلى ذلك أنّ المرأة اليائسة و الحامل لا يجرى عليهما هذا الحكم و لا يسلب منها توفيق العبادة، و عليه فالأيام التي تكون فيها المرأة يائسة أو حاملاً مع السنوات الست التي تكلّف فيها المرأة قبل الرجل، كل هذه جابرة للأيام التي حرمت فيها من العبادة.

أضف إلى ذلك أنه يمكن أن تكون هناك حكمة إلهية في عدم إلزام المرأة ببعض التكاليف الشرعية، و هي مراعاة حالها، لأنّ المرأة كما جاء في الحديث:

ص: 105

«ريحانة وليست بقهرمانة» (1). فمع هذا التوجيه و التوضيح للرواية، فلا يكون نقصان عبادة المرأة و إيمانها، بمعنى ذمّها و انتقاصها كما يفهمه البعض، بل إن المرأة تستطيع أن تنال أعلى درجات الإيمان و الكمالات الإنسانية، كما يحدثنا القرآن عن أمّ عيسى مريم بنت عمران حيث كانت الملائكة في المحراب، تحدثها و تأتيها رزقها من الله تعالى، و هذا يدلّ على ما بلغته من الدرجات العالية حتى أن نبي زمانها قد احتار في أمرها، و أمر طعامها الغير المعهود أوانه، و هكذا يحدثنا القرآن الكريم عن آسية امرأة فرعون التي قالت:

(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (2)، فإن هذا إنما يدل على صلابة إيمانها.

و يحدثنا التاريخ الإسلامي عن خديجة الكبرى الله، و كيف أنها وصلت إلى مراتب الكمال العرفاني، و كذا يحدثنا التاريخ عن الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء علیها السلام أنها بلغت درجة من الكمال لم يبلغها أي رجل من الرجال عدا الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم و الإمام أمير المؤمنين علیه السلام و وصلت إلى مرتبة الحجية كسائر أبناءها المعصومين علیه السلام، و مقام الاصطفاء.

فلو كان النساء كمن ذكرنا *** الفضلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخر للهلال

ص: 106


1- شرح نهج البلاغة 6: 107
2- التحريم: 11

و يمكن القول بأن مقدمات السلوك الإيماني، و قبليات الوصول إلى القرب الإلهي و الحصول على ملكة التقوى في كثير من النساء أقوى من الرجال، و ذلك لشدة العواطف المختزنة في نفوسهن و سرعة تأثرهن و تغيرهن و انفعالهن بمجالس الوعظ و العزاء و الذكر و التوسل و قراءة القرآن و المحاضرات الأخلاقية و الدينية و العقائدية، فهذه الأمور في المرأة تؤهلها و تجعلها أكثر وصولاً إلى الحق و القرب الإلهي، والانقطاع إلى الله تعالى.

و على ما ذكرناه فإن الظاهر من نصوص القرآن الكريم الذي يوجه الخطاب إلى المرأة كالرجل بأن الأفضل عند الله هو الأتقى، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فالأتقى هو الذي يبلغ مقام التكريم سواء كان رجلاً أو امرأة، و هذا يكشف عن أن استعدادات المرأة لبلوغ هذه المرتبة على حد سواء مع استعدادات الرجل، و أن قعودها عن بعض العبادات لا يمنع من تحقيق هذه الكرامة الإلهية، و إلا لما ناسب شمولها في الخطاب المذكور، ما دام هناك معوقات تسلب توفيقها لهذه الدرجة، بحيث دائماً يكون الرجل محققاً للأتقى.

و بعد هذا لابد و أن نفهم هذا البيان لنقصان إيمان المرأة على ضوء هذه الآية وسائر النصوص الأخرى المتوجهة إلى الإنسان بمعزل عن كونه رجلاً أم امرأة، و لهذا فيمكننا عرض احتمالات لفهمها:

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود من نقص الإيمان مجرد ترك أفعال

ص: 107

الإيمان على مستوى السلوك، دونما تأثير النقص على الكمالات التي استحصلتها من سلوكها العبادي الذي كانت تمارسه في غير أيام عذرها، كما

لا يؤثر هذا النقص على ملكاتها الإيمانية القلبية، ويمكن فهم ذلك من العلة التي ذكرها الأمير لنقص الأيمان، وذلك بالجمود على ألفاظها، وبهذا لا يكون الخطاب لبيان انتقاص المرأة، بل لبيان حقيقتها و واقعها، و هذا المقدار من النقص مما لا ينكره أحد حتى المرأة نفسها.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد النظر إلى المرأة في زمن أمير المؤمنين، و أن هذا النقص من الإيمان يؤثر عليها في سلب الكمالات عنها، ولا ينظر إلى حقيقة المرأة بشكل عام كما بيّنا من أن ملحوظ أمير المؤمنين الحالة الخارجية للمرأة دونما النظر إلى حقيقية المرأة بشكل عام.

و هناك احتمالات أخرى غيرها.

لماذا حظ المرأة من الإرث نصف حظ الرجل؟

قال تعالى: (ييُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (1)

و السبب في تحديد الإسلام سهم المرأة و جعله نصف سهم الرجل، هو الوضع الخاص للمرأة من حيث المهر و النفقة و بعض القوانين الجزائية و غير

ص: 108


1- النساء: 11

ذلك، ولمّا جعل الإسلام المهر شرطاً في العقد، و أوجب النفقة على الرجل ورفعها عن ذمة المرأة، وفرضهما على الرجل أراد أن يجبر ذلك عن طريق الإرث فجعل سهم الرجل ضعف سهم المرأة وهذا المعنى قريب من الجواب الذي قاله الإمام الصادق علیه السلام لابن أبي العوجاء حين اعترض على الإسلام، فقد روى الصدوق في علل الشرائع بسنده عن هشام بن سالم عن الأحوال، قال: «قال لي ابن أبي العوجاء ما بال المرأة الضعيفة لها سهم واحد، و للرجل القوي الموسر سهمان؟ قال الأحول: فذكرت ذلك للصادق علیه السلام فقال: على الرجال النفقة و العاقلة و الجهاد، وعدّ غيرها و قال: و ليس هذا عليها، فلذلك جعل له سهمان و لها سهم».

وروى فيه بسنده عن عبد الله بن سنان قال «قلت للصادق علیه السلام لأي علة صار الميراث للذكر مثل حظ الانثيين؟ قال علیه السلام: لما جعل لها من الصداق» (1).

وروى فيه بسنده عن محمد بن سنان أنه كتب إلى الرضا علیه السلام بمسائل فكتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث، لأن المرأة إذا تزوجت أخذت، وأعطاها الرجل، فلذلك وفّر عليه، و لأن الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت فعليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل، و إن احتاج فلا تؤخذ هي

ص: 109


1- بحار الأنوار 101: 327

بنفقته فلذلك وفّر عليه» (1).

إذن تأخذ المرأة ثلث الثروة الموروثة لتنفقها على نفسها، و يأخذ الرجل ثلثي الثروة لينفقها أولاً على زوجته، أي على المرأة، و ثانياً على أسرته فأيهما يصيب أكثر من الآخر بمنطق الحساب و الأرقام؟ فهل بقيت بعد ذلك شبهة في القدر الحقيقي الذي تناله المرأة من مجموع الثروة، و هل هو امتياز حقيقي في حساب الاقتصاد أ يكون للرجل مثل حظ الأنثيين، و هو مكلف بما لا تتكلفه الأنثى؟!

على أن هذه النسبة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب، فهو يقسم حسب أعدل قانون وصلت إليه البشرية اليوم و هو: «لكل حسب حاجته» أما المال المكتسب فلا فرق بين الرجل و المرأة لأنه يتبع مقياساً آخر هو المساواة بين الجهد و الجزاء قال تعالى (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (2).

هذا و في كثير من الفروض يتساوى الرجل و المرأة في الإرث منها أن الأبوين يتساويان في الإرث و هو السدس، و منها أن المرأة و الرجل من أقرباء الأم يتساويان في الإرث.

ص: 110


1- وسائل الشيعة 26: 95
2- النساء: 32

إذن فلا ينبغي أن يتوهم وجود أي ظلم و إهانة في مسألة تقسيم الإرث بين الذكر و الأنثى، وليس معنى قوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، و قول الإمام علیه السلام: «النساء ناقصات الحظوظ»، أن قيمة المرأة نصف هي قيمة الرجل في حساب الإسلام، كما يفهمه العوام و يقوله أعداء الإسلام.

ما معنى نقصان عقل المرأة؟

في ضوء قراءة تاريخية للتجارب الموجودة و النصوص الشرعية المعتبرة، المتعلقة بالتاريخ المعاصر لهذه النصوص، جميعها لا تؤيد اعتبار أن المرأة أقل حظاً من الرجل في امتلاك العقل، حيث أن شخصيات تاريخية من النساء استطعن إثبات عكس ذلك، و هذا بحد ذاته شهادة تاريخية على أن الظروف مؤاتية و مناسبة للمرأة لكي تثبت غير الذي ذكر، إلى جانبه توافر نماذج نسائية، هي قمة في العقل و التعقل وهو أقوى دليل، على امتناع وصف المرأة كجنس كلى بهذه الخصوصية و عدم صحة، إصدار حكم نقصان العقل في حق كل النساء، و المسألة تبقى منحصرة في إطار البعض، ليس باعتبارهنّ نساء، ولكن باعتبارهنّ موصوفات أحياناً بأوصاف خاصة، وهذا ما سنوضحه.

إنّ نقصان العقل، في حال ثبوته، لا يطرأ على المرأة كجنس من الإنسان له خصوصياته العاطفية و الحساسية، حسب تعبير السيد الطباطبائي (1) في

ص: 111


1- الميزان في تفسير القرآن 2: 246

معرض حديثه عن هذا الموضوع و في تفسير الآيات 228 إلى 243 من سورة البقرة.

ولا شك أنّ مثل هذا التقلب و الاهتزاز قد يحصل بفعل وجود مسببات و علل خاصة من شأنها عرقلة عملية الإدراك، أو الخضوع له والنزول عنده، و المسألة لا تتعلق بالمرأة فقط، إنما تتعلق بما تتصف به في حالات كثيرة، تتجاوز ما يصاب به الرجل من حالات الهيجان و الثوران في العاطفة الإنسانية المقدسة، و الأمر القابل للتبني، ليس أكثر من قبول أن أكثر النساء (وليس كل النساء) فى أكثر الحالات (و ليس كل الحالات) يقعن تحت تأثير العاطفة الشديدة و الإحساس القوي و ضغطهما أشدّ من أكثر الرجال، لأن بعض النساء قد لا يتأثرن بهذا المستوى، و بعض الرجال، من جهة أخرى قد يتأثرون بمشهد عاطفى فيسقطون عنده و يصبحون غير قادرين على أي انطلاق عقلي... و هذه الاستثناءات كافية لتدل على أن الحكم و إن كان غالبياً، لكنّه لا علاقة بينه و بين النساء كجنس أو الرجال كجنس، إنّما العلاقة بين الإحساس و العاطفة اللذين إذا اشتدا في الإنسان مطلقاً عرقلا العملية العقلية في تلك اللحظات و الحالات فحسب.

الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الرجال في حالات كثيرة، منها ما يقع لنقص عقل فاعليها في لحظة الارتكاب كسبب أساسي، فمن الطبيعي أن يتأثر الإنسان بعواطفه، فيتعثر في قراره، ولا أظنّ أننا في حاجة إلى إثبات وجود

ص: 112

علاقة بين التصرف اللاعقلائي الشَّاذ، و بين تلاطم الوضعية العاطفية و تحرك العاطفة النفسية سلباً أو إيجاباً.

و النقطة الجوهرية هنا؛ هي إثبات أن المسألة غير مرتبطة بالمرأة؛ بما هي امرأة، و إنّما ترتبط بشدة العاطفة و الإحساس الرقيق لديها، مما يؤثّر في إمكانية أخذ القرار العامل و الصائب عادتاً و هذا مما يؤخرها عن الرجل في لحظة حرجة وصعبة تنطوي على مشاهد عاطفية كبيرة، قد تسبّب تجريح عاطفة المرأة و خدشها، مما يجعل الرجل أكثر صلاحية في هذه الحالات الصعبة، و المقتضية للخشونة و المواجهة والعنف، و سيطرة القدرة.

كما أنّ شهوة الرجل و إعجابه بنفسه يسلبان إمكانية التعقل لديه و التأمل، و أخذ القرار الصائب تماماً و لذا فقد جاء عن علي علیه السلام: «إعجاب

المرء بنفسه دليل على ضعف عقله» (1)، و في آخر: «لا عقل مع شهوة» (2).

إن أكثر الرجال في تأمين العيش و الحماية و المواجهة أشد أهلية و تلاؤماً من أكثر النساء، و هن أكثر إطاعة للحب و العاطفة و العشق باتجاه الخير و أشد انسجاماً في طباعهن مع تحمل الشدائد و الصعاب في سبيل ادارة البيت و تربية الأولاد و تأمين متطلبات الرجل النفسية و الروحية ليسكن إليها، و لعل قول

ص: 113


1- شرح نهج البلاغة 20: 72
2- غرر الحكم: 65

الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة يشير إلى طبيعة هذا الدور، حيث يقول: «المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة» (1).

و لعل المراد من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من: «إنّ النساء نواقص العقول» (2)، هو نقصان الذاكرة كما يستفاد من آية 283 من سورة البقرة، و الدليل على ذلك هو التعليل الذي يذكره الإمام علیه السلام لنقصان عقل النساء، وهو كون شهادة المرأتين كشهادة رجل واحد، و لقد علّل القرآن ذلك بقوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ) (3)، و الضلال هنا يقابل التذكّر، فهو يخالفه أي: الضلال عن التذكّر، يعني النسيان، كما نصّ عليه الطوسي في التبيان، و الطبرسي في مجمع البيان، و الفخر الرازي في التفسير الكبير.

و سواء كان نقصان عقل المرأة بمعنى قلة التعقل بسبب العاطفة، أو بمعنى النقصان في الذاكرة فهو ليس انتقاصاً و مذمة للمرأة، بل هو بيان لحقيقة ينبغي أن يتعرف عليها كل من الرجل والمرأة لكي يعرف كل منهما الدور الذي ينبغي ان يقوم به في الحياة الزوجية وفي المجتمع.

ص: 114


1- شرح نهج البلاغة 6: 107
2- نهج البلاغة، الخطبة 79
3- البقرة: 282

فالنتيجة: على ضوء الآيات و الروايات و العلم و التجربة لابد من التسليم، بأن هناك تفاوتاً بين عقل الرجل و المرأة إلّا أن هذا التفاوت يحصل بسبب الأمور العارضة لها لا بسبب خلقتها، فليس كل امرأة فيها هذا النقص و التفاوت، و إن كان هو الغالب فيها و هذا ما تحتاجه في حياتها سيما في الأمور الزوجية و الأمور التعليمية و التربوية، و هذا لا يعد انتقاصاً و ذماً للمرأة كما يتصوره البعض، بل هو بمقتضى المصلحة الإلهية للمرأة و الرجل، و كيان الأسرة و المجتمع.

فالرجل يحتاج إلى عاطفة المرأة و المرأة، تحتاج إلى عقل الرجل وتدبيره، و بعبارة أخرى نقصان عقل المرأة (إذا صح التعبير بالنقص) بسبب العاطفة و الإحساس، يتم بعقل الرجل، و نقصان عاطفة الرجل يتم بعاطفة المرأة، فكلّ منهما مكمّل للآخر. و بذلك يحصل الاطمئنان و السكون المطلوب في الأسرة.

قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (1)

لماذا ورد النهي عن مشاورة النساء؟

إن وجود النصوص من الأحاديث التي تحث على عدم مشاورة النساء في رأيهن، و هي – دون شك - لا تمثل تخصيص الرجل بالأمر الشرعي في آيات القرآن الكريم و السنة الشريفة بالمشاورة و المشاركة في عقول الناس مما يعني

ص: 115


1- البقرة: 187

بكل يقين أن ما جاء في هذا الصدد يرمي إلى تجنيب الرأي الصائب من التأثر بالحلات العاطفية القوية القابضة على كيان المرأة و شخصيتها فيمتنع أن يكون السبب فيها أن المرأة كائن إنساني ناقص في عقله لا ينبغي مشاورته!.

لا أشك فى أنها - إن صحت - فإنها تشير إلى حالات خاصة تطرأ على المرأة كثيراً لكنها غير داخلة في الجوهر، و لا تدل على دونية المرأة في الحالة العادية في القدرة على التعقل.

إن النهي عن مشاورة النساء لا يعني إلّا عدم إدخال العواطف و الاحساسات الشخصية للمرأة فى اتخاذ القرار فى المسائل الحيوية و الأعمال المهمة، سواء كانت مرتبطة بالأسرة أو بالمجتمع كما يجب على الرجل أيضاً أن لا يسلط عواطفه و أحاسيسه على عقله و تفكيره، و المرأة لما كانت عواطفها و أحاسيسها غالباً تغلب على عقلها، فالروايات لا تنهى عن مشاورة النساء بصورة مطلقة، و مع أي امرأة كانت، لأن هذا ينافي قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (1)، إذ يدل على عموم المشاورة مع الرجال و النساء، ولم يثبت التخصيص بالرجال.

أضف إلى ذلك أن هناك ما يدل على حسن المشاورة مع بعض النساء لا سيما المرأة التي جربت بكمال العقل، و خصوصاً في الأمور التي تخص النساء

ص: 116


1- الشورى: 38

و القضايا الزوجية و ما يتعلق بالأسرة و تربية الأولاد و تدبير المنزل والمعيشة مع الزوج وغيرها من الأمور التي ينبغي أن يكون للمرأة دوراً و رأياً فيها. لقد روى عن الإمام علي علیه السلام أنه قال: «إياك و مشاورة النساء إلا من جربت بكمال عقل» (1)، و قال علیه السلام «حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء و يضم إلى علمه علوم الحكماء» (2)، و نقل أنه كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يأخذا بآراء النساء و يشاورهن من ذلك أثناء ففي صلح الحديبية اقترحت أم سلمة اقتراحاً وافقها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عليه و اتبعه فقد كانت أم سلمة - زوجته - معه في أثناء صلح الحديبية، فدخل خيمتها وكان غاضباً غضباً شديداً فنهضت إليه و خاطبته: «يا رسول الله ما بك فقال أمره عجيب!! لقد أمرت الناس مراراً أن ينحروا قرابينهم، و قص شعورهم و يحلوا إحرامهم فلم يستجب لأمري أحد، ولم يطيعوني مع أنهم سمعوا قولي وهم ينظرون إلى».

فقالت أم سلمة: «يا رسول الله، قم وانحر قربانك و سيتبعك الناس حتماً»، فتناول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، السكين، و ساق هديه، و حين رأي الناس ما

ص: 117


1- بحار الأنوار 100: 253
2- غرر الحكم 5

يفعله رسول الله أصلی الله علیه و آله و سلم قبلوا على هديهم ينحرونها، فلو كانت مشورة النساء مذمومة لما قبل النبي صلی الله علیه و آله و سلم مبشورة زوجته.

* لماذا ورد النهي عن إطاعة النساء؟

إنّ ما نقلناه من النهي عن ترك إطاعة المرأة في المعروف فضلاً عن المنكر، و إن كان غريباً من نوعه و لكن يمكننا حله بتخفيف الجزمية فى دلالة ألفاظ الحديث، و معرفة الوجوه المتكثرة التي تتحملها كلمة المعروف، مثلاً حيث إن الأمر بالمعروف واجب شرعي دون تدخل الآمر بالمعروف في امتثال الإنسان له فمجرد ثبوت المعروف يوجب على العارف به، و المأمور به أن يطيع ذلك أما المعروف المطلوب مخالفته، أو عدم إطاعته في كلام الإمام علي علیه السلام في حالة تأكد النقل فإنه خارج عن نطاق المعروف الشرعي الواجب امتثاله قطعاً، فالمراد من الحديث هو المعروف العرفي الرائج في المجتمع فلا بأس بإطاعة الرجل للمرأة فيه، و لكن لا ينبغي للرجل أن يكثر من الإطاعة للمرأة في هذا النوع من المعروف بحيث تستغل كثرة هذه الإطاعة من الرجل فتطمع بإطاعة الرجل لها في جميع متطلباتها، ولو اقتضى ذلك ارتكاب المنكر، ولذا نرى هناك روايات كثيرة عن إطاعة المرأة، و لا شك فى أن المراد من تلك الروايات إطاعتها بالأمور التي تخالف الشرع و العقل التي يكون منشؤها غالباً العواطف و الاحساسات و التعلقات الإنسانية و التي تمنع من اتخاذ تصميم

ص: 118

و قرار سليم وصائب، منها ما جاء عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «من أطاع امرأته أكبه الله على وجهه في النار فقيل ما تلك الطاعة؟ قال: تطلب منه... الثياب الرقاق فيجيبها» (1).

ما معنى القول بأنّ المرأة شرّ؟

ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام بعض ما يظهر منه نسبة الشر إلى المرأة، كما في قوله علیه السلام: «المرأة شر وشر ما فيها أنه لابد منها» و غيره، و هذه الروايات، لابد من النظر فيها لفهم دلالتها، هذا إذا سلمت من الاشكال في سندها، حيث أن بعض هذه الأخبار لا تقف أمام البحث السندي و قبل الخوض في معنى الخير و الشر و أنواعه لا بد من تمهيد.

تمهید:

ينظر الإسلام إلى أن الوجود كله خير، لأن الوجود إما أنه الله هو الله عز و جل وإما أنه مخلوقاته، و كلها خير. و نستطيع أن نستكشف هذه الحقيقة من خلال الجمع بين آيتين كريمتين، حيث يقول تعالى: (اللهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ) (2).

فما عدا الله سبحانه من سائر الموجودات مخلوقة الله تعالى.

ص: 119


1- بحار الأنوار 103: 253
2- الرعد: 16

و في آية أخرى يقول تعالى: (الَّذِيَ أَحْسَنَ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (1)

حيث تؤكد هذه الآية الشريفة على أن كل ما خلقه الله فقد خلقه حسناً و خيراً. إذن كل الموجودات هي حسنة و خير.

أنواع الخير و الشر

إن الخير و الشر على نحوين:

النحو الأول: الخير المطلق و الشر المطلق. أما الخير المطلق فهو الوجود الغير متناهي، و هو وجود الله سبحانه و تعالى. و أما الشر المطلق فهو العدم المطلق، و هذا غير متحقق في الخارج أصلاً.

النحو الثاني: الخير النسبي و الشر النسبي. أما الخير النسبي فهو الوجود، المحدود و كذلك الشر النسبي فهو ينطبق على الوجود المحدود. مثلاً وجود الإنسان بما إنه محدود فخيره نسبي و شره نسبي، و مثال الشر النسبي وجود الشيطان، فبما إنه موجود حي مختار فهو خير، لأنه من مخلوقات الله، و بما أنه قد عصی أوامر الله سبحانه باختياره فهو شر. و الصدق أيضاً كذلك فهو يتصف بالخير، و لكن في ظروف أخرى يتصف بالشر كما لو كان يترتب على الصدق مفسدة كبيرة، مثل ما لو كان مستلزماً لقتل مؤمن، كما أن الكذب يتصف بالشر، و لكن في ظروف أخرى يتصف بالخير كما لو كان يترتب عليه

ص: 120


1- السجدة 7

مصلحة معينة، كالإصلاح بين المؤمنين، أو إنقاذ حياة مؤمن، و أيضاً هناك موجودات هي من جهة خير و من جهة أخرى شر، كما في الحشرات فإن وجودها من جهة الإنسان شر، و لكن لنفسها خير، و هذا ما يطلق عليه الموجودات و الصفات المتصفة بالخير و الشر باعتبار الجهات أو الخير و الشر الإضافي.

و الآن هل وجود المرأة و اتصافه بالخير أو الشر من النحو الأول أو الثاني؟ من الواضح جداً أن المرأة كالرجل في أن اتصافهما بالخير أو الشر نسبي بلحاظ الظروف و الجهات، فإذا كان وجودهما لأجل الله تعالى، و اتصفا بالإيمان والتقوى والعطاء فوجودهما خير، و أما إذا ارتكبا المعاصي و الطغيان و التمرد وخلع زيّ العبودية فيتصف وجودهما بالشر، من دون أدنى فرق بين الرجل و المرأة، و أما اتصاف المرأة بالشر محضاً فليس بصحيح ولا واقع، و ما ورد في بعض النصوص من وصف المرأة بالشر فهي روايات غير ناظرة إلى ذاتها و واقع وجودها، بل بلحاظ الافتتان بها و التعلق بها الذي قد يصل إلى درجة تبعد الإنسان عن ربه و عن عشق خالقه، و من هنا عطف بعض النصوص الذاكرة لشر المرأة القول: (و شر ما فيها أنه لا بد منها)؛ إذ هذه اللابدية ليست ذاتية في المرأة، و إنما هو وجه من وجوه التعلق و الارتباط بها، فإن كل موجود لا يستلزم بالنظر إلى ذاته أنه لا بد من الحاجة إليه بل الحاجة إليه تكون من جهة عارضة عليه، فالنص - على فرض صدوره -

ص: 121

ناظر إلى هذه الجهة، لا إلى أن المرأة شر من كل الجهات بل في أمور و ظروف خاصة و خصوصيات و صفات تطرأ على المرأة كسائر الموضوعات التي تطرَّقنا حولها، و الله هو العالم بحقائق الأمور...

إذن يمكن القول بأن هذه الروايات لا يمكن أن يكون المقصود منها جنس المرأة و إنما صدرت على نحو الغالب، على نحو قوله تعالى: (إنّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ) أي جاحد و كافر، مع أنه ليس كل إنسان كافراً. فالمرأة التي وهبها الله العاطفة القوية إذا هي انساقت وراءها كما حدث لبعض زوجات النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأنبياء السابقين، فإنها توردها موارد الهلاك و الفساد، فتصير شرأ، لأنها غلّبت همها الدنيوي على همها الأخروي، فهى المقصودة في مثل هذه الروايات، ولا تنافي بينها وبين الواقع.

ولذا نرى بأن المرأة إذا كبحت جماح عاطفتها، و سارت وفق موازين عقلها، كانت مؤمنة فاضلة، بل فاقت الكثيرين من الرجال في الفضل. و لذلك ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون و السيدة مريم علیها السلام من الأولين، في مقابل السيدة خديجة و الزهراء علیها السلام من الآخرين.

و بهذا يتم ما أردنا تحريره من سلسلة هذه البحوث، و أسأل الله تعالى أن يوفقنا لكتابة سائر بحوث نهج البلاغة، كما اسأله أن ينفع فيه الاخوة والأخوات، و أن يجعله خالصاً لوجه الكريم، وينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

و الحمد لله رب العالمين و صلّى الله على محمد و آله الطاهرين.

18 ذي الحجة 1424ه_

ذكرى عيد الغدير المبارك

دمشق - أيوب الحائري

ص: 122

المصادر

القرآن الكريم

مفاتيح الجنان

نهج البلاغة

شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد

شرح نهج البلاغة / محمد عبده

في رحاب نهج البلاغة / مطهّري

الإنسان الكامل في نهج البلاغة / حسن زاده الآملي

غرر الحكم / الآمدي التميمي

تصنيف غرر الحكم / مصطفى درايتي

أصول الكافي / الكليني

الخصال / الشيخ الصدوق

ص: 123

بحار الأنوار / العلامة المجلسي

ميزان الحكمة / محمد الريشهري

منتخب ميزان الحكمة / محمد الريشهري

سنن ابن ماجة / ابن ماجة

أعيان الشيعة / سيد محسن الأمين

الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الشيخ الطهراني

مروج الذهب / المسعودي

البيان و التبيين / الجاحظ

التبيان / الطبرسي

الميزان / العلامة الطباطبائي

التفسير الكبير / فخر الرازي

لسان العرب / ابن منظور

دیوان صفى الدين الحلي

عشرون سؤالاً و شبهة حول المرأة/ أيوب الحائري

ص: 124

الفهرس

تقديم: الدكتور الشيخ نبيل الحلباوي:

مقدمة المؤلف:

المدخل: نظرة عامة في نهج البلاغة... 9

أولاً: كتاب نهج البلاغة... 9

ثانياً: مصادر نهج البلاغة... 11

ثالثاً: السيد الرضي و نهج البلاغة... 13

رابعاً: من جمع كلمات أمير المؤمنين علیه السلام قبل السيد الرضي؟... 16

خامساً: المؤلفات لكلام أمير المؤمنين بعد كتاب نهج البلاغة... 19

سادساً: حفظ وشرح نهج البلاغة وترجماته... 22

سابعاً: نهج البلاغة عند الادباء و العلماء... 23

ثامناً: مميزات كلمات الإمام علي علیه السلام... 28

تاسعاً: أهم مواضيع و مباحث نهج البلاغة... 33

قبس... علاقة الإنسان بربه... 37

الأولى: معرفة الله وفضلها... 38

الثانية: طاعة الله سبحانه... 41

ص: 125

الثالثة: عبادة الله عزّ و جلّ... 43

العبادة في نهج البلاغة... 44

عبادة الله بالدعاء... 46

قبس... علاقة الإنسان بنفسه...

جهاد النفس وإصلاحها... 53

كيفية جهاد النفس... 55

أولاً: مراقبة النفس ومحاسبتها... 55

ثانياً: مجاهدة النفس... 56

ثالثاً: تعويد النفس على الطاعة والعبادة... 58

رابعاً: ترويض النفس على التقوى وأعمال البرّ... 59

خامساً: ترك اتباع الهوى وطول الأمل... 60

سادساً: اجتناب الدنيا والعزوف عنها... 60

سابعاً: التصعيب على النفس... 61

ثامناً: ترك مخالطة أبناء الدنيا... 61

تاسعاً: القناعة و الاقتصاد في المعيشة... 61

عاشراً: ترويض الجوارح... 62

قبس... علاقة الإنسان مع الآخرين... 67

أخلاقيات العلاقات الإنسانية... 68

المرحلة الأولى: العلاقات الخاصة... 69

علاقة الإنسان مع أرحامه... 70

العلاقة المتبادلة بين أفراد العائلة... 71

نصائح للرجل و المرأة... 71

ص: 126

الحقوق المتبادلة بين الوالدين وأولادهم... 73

التربية و التأديب في الصغر... 74

ملاحظة هامّة:... 75

المرحلة الثانية: العلاقات الاجتماعية العامة... 77

الأولى: علاقة الجار بالجار... 77

الثانية: الاهتمام بأمور المسلمين... 78

الثالثة: علاقة المسلم بغير المسلمين... 78

قبس... التقوى وصفات المتقين... 83

التقوى لغة واصطلاحاً... 83

التقوى في نهج البلاغة... 84

آثار التقوى في الدنيا والآخرة... 86

بالتقوى خروج من الضيق... 82

بالتقوى تدر الأرزاق... 83

بالتقوى تقبل الأعمال... 83

بالتقوى تنال كرامة الله تعالى... 85

بالتقوى تنال رحمة الله... 85

بالتقوى ينال الإنسان الجنة... 85

كلام أمير المؤمنين في صفات المتقين... 90

قبس... المرأة وقضاياها... 97

تمهيد... 97

نقصان المرأة... 98

عدم مشورة النساء... 99

ص: 127

عدم إطاعة المرأة... 101

المرأة والشّر... 101

المحتوى العام للنصوص... 101

ما معنى نقصان إيمان المرأة؟... 104

لماذا حظ المرأة من الإرث نصف حظ الرجل؟... 108

ما معنى نقصان عقل المرأة؟... 111

لماذا ورد النهي عن مشاورة النساء؟... 115

لماذا ورد النهي عن إطاعة النساء؟... 118

ما معنى القول بأنّ المرأة شرّ؟... 119

المصادر... 123

الفهرس... 125

ص: 128

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.