قبسات من نهج البلاغة

هوية الکتاب

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

بيروت. لبنان. المعمورة. الشارع العام

هاتف 01/471070 - ص.ب. 25/327024/53

الإعداد و الإخراج الالكتروني

www.almaaref.org

الكتاب: قبسات من نهج البلاغة

إعداد: مركز نون للتاليف و الترجمة

نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

الطبعة الأولى كانون الأول 2004م - 1425ه_

قبسات من نهج البلاغة

ص: 1

اشارة

قبسات من نهج البلاغة

ص: 2

قبسات من نهج البلاغة

مرکز نون للتأليف و الترجمة

الإعداد و الإخراج الالكتروني

www.almaaref.org

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة سيدنا محمد وآله الأصفياء أدلة الأرض و السماء.

إن الباحث عن أعظم رجال مروا في تاريخ البشرية ليقف طويلا، وقفة حائرة حول شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام و إن المحلق في عوالم البلاغة والفصاحة، ليصعب عليه أن يمر من أمام كتاب عظيم كنهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، ولا يتوقف عنده ليبدأ مسير المعارف التي لا تنتهي بساعة ولا بساعات، و لا في مجلد أو مجلدات فإن هذا الكتاب بحر للمعارف الإسلامية الأصيلة، وكنزٌ لمن أدرك ما يحويه من جواهر و معادن لا من ذهب و لا فضة بل من علمٍ وأخلاقٍ وآدابٍ.

فمن هذا النبع الهادر الجاري في كل الأزمنة، و المتطلع لكمال الإنسان والإنسانية نغترف بعض الغرفات علَّ الأرواح العطشى للمعرفة و العلم ترتوي من عذبه الأجاج، سائلين الله تعالى أن يوفقنا للخير و العمل به إنه خير مجيب وإنه سميع الدعاء.

مركز نون للتأليف والترجمة

ص: 5

عکس

ص: 6

الدرس الأول: ما هو نهج البلاغة؟

اشارة

تعريف بالكتاب:

إن نهج البلاغة أعظم أثرٍ ظهر في القرن الرابع الهجري في كلام أمير المؤمنين علیه السلام، حيث كان هذا القرن بداية الغيبة الكبرى، حيث اهتمت الشيعة بتأليف الكتب لحفظ ميراث الأئمة علیهم السلام العظيم، وأنشأوا الحوزات العلمية الكثيرة بعد أن شكلت في هذا القرن أول دولة للشيعة على يد آل بابويه سنة 334ه_ بعد فتحهم نجداء فخرج الشيعة من تحت الحصار و استطاعوا ممارسة دورهم و إعلان آرائهم، فكتبت العديد من المصنفات، و لم يكن نهج البلاغة هو كل ما كتب في كلمات أمير المؤمنين علیه السلام.

المؤلفات في كلام الإمام علي علیه السلام:

لم يكن الشريف الرضي رضوان الله عليه أول من جمع كلام الإمام علي علیه السلام، فإن أصحابه وأتباعه وشيعته قاموا بحفظ خطبه و كلماته، ونقلوها واحداً لواحد منذ القرن الأول الهجري، وكتبها بعضهم في كتبٍ أو كتيبات وصل عددها إلى ما يقرب من مائة وعشرين كتاباً ألفت قبل نهج البلاغة خصص البعض منها لذلك بتمامه والبعض الآخر بقسم منه، الأمر الذي يدل على المكانة العظيمة التي حظي بها كلام الإمام علي علیه السلام والتي لم يسبق لها مثيل في الجاهلية والإسلام، فدونوه وحفظوه وألفوا فيه كتباً.

أول من جمع كلمات الإمام علیه السلام في كتاب مستقل سماه «خطب أمير المؤمنين علیه السلام» و هو زيد بن وهب الجهني المتوفي عام 61ه_، الذي كان من أصحابه علیه السلام و شهد معه بعض المشاهد، وقام بعده الحارث بن الأعور وهو من أصحاب الإمام علیه السلام أيضاً، وكان من المنقطعين إليه و المجاهرين بحبه، روى عنه، وأخذ من علومه، توفي عام (65ه_).

ومنهم الأصبغ بن نباتة، وهو من خاصة أصحاب الإمام علي علیه السلام لا أخذ عنه كثيراً،

ص: 7

وعمّر بعده حتى توفي أوائل القرن الثاني، وهو الذي روى عهد الإمام للأشتر النخعي لمّا ولاه مصر، ووصيته لولده محمد بن الحنفية.

و منهم نصر بن مزاحم النقري المتوفى عام (202ه_)، وإسماعيل بن مهران المتوفى عام (205ه_)، والواقدي المتوفى عام (207ه_) ومسعدة بن صدقة حيث جمع كل منهم كتاباً من كلامه علیه السلام.

وقد قال الخطيب الراوندي: سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: «إني وجدت في مصر مجموعاً من كلام علي في نيف و عشرين مجلداً».

و ذكر العلامة آقا بزرك الطهراني اثنين وعشرين مؤلفاً في كلام الإمام علیه السلام قبل زمن الشريف الرضي.

وبعد الشريف الرضي قام عدد من العلماء الذين تذوقوا معاني الحكمة و الجمال و البلاغة في كلام الإمام علي علیه السلام فجمعوها في مصنفات وكتب يصل عددها إلى 26 كتاباً.

جامع نهج البلاغة:

نسبه هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم اشتهر بالشريف الرضي حتى بات لا يعرف إلا به.

أسباب تأليف نهج البلاغة وتسميته:

يتحدث الشريف الرضي في مقدمة كتابه عن سبب تأليفه للكتاب وسبب تسميته نهج البلاغة فيبين أن سبب ذلك هو طلب بعض أصحابه أن يكتب عن بلاغة الإمام وفصاحته وعجائبهما وما جاء عنه من الحكم الخطب، فكتبه وقد أخذ بعين الاعتبار في تأليفه له حيث أنه كما مر كان أديباً وشاعراً قديراً أن يركز على هذه الناحية من كلامه علیه السلام، وأن الإمام قد حاز الدرجات العلى في الخطابة والأدب والفصاحة والبلاغة بعد سيد البشر محمد صلی الله علیه و آله و سلم الذي زقّه العلم و أرصفه إياه بلسانه قال قدس سره له في مقدمة الكتاب في سبب تأليف الكتاب وتسميته بنهج البلاغة: «كنت في عنفوان

ص: 8

الشباب، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة علیهم السلام، يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلماتهم، و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً علیه السلام. وعاقة عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان. وكنت قد كتبت و بوبت ما خرج من ذلك أبواباً، و فصلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في المواعظ و الحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجبين من فواصحه. وسألوني أن ابتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات عضونه من خطب وكتب ومواعظ وآداب علماً أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة وجواهر العربية وثوابت الكلم الدينية والدنيوية ما لايوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب إذ كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرِّع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها ...».

ورأيت من بعد تسميته هذا الكتاب «بنهج البلاغة ...».

إذن الهدف من تأليف الكتاب و تسميته كما ذكر قدس سره هو جمع الخطب والكلمات التي تميزت بالبلاغة و الفصاحة من كلامه علیه السلام و لقد جمع ذلك من مصادر كثيرة ولم يكن قصده جمع كل ما صدر منه صلوات الله عليه من كلام، فقد ذكر المسعودي الذي سبق السيد الرضي بمائة عام في مروج الذهب «إن بين أيدينا الآن أكثر من 480 خطبة لعلي علیه السلام».

ونقل الآمدي كما مر في غرر الحكم خمسة عشر ألف كلمة من الكلمات القصار لأمير المؤمنين علیه السلام و قد مر أنه كتبت كتب كثيرة في كلامه علیه السلام أو اشتملت عليه ووصلت إلى مائة وعشرين كتاباً، و قال الخطيب الراوندي: «سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: إني وجدت في مصر مجموعاً من كلام عليعلیه السلام في نيف وعشرين مجلداً؟ (هذا في حين أن نهج البلاغة احتوى على أربعمائة وثمانين كلمة فقط).

ص: 9

مصادر نهج البلاغة:

لا شك أن للسند أهميته الخاصة، فهو الذي يجعل الرواية معتبرة و يصحح نسبتها للمعصوم، أو يسقط الرواية عن الإعتبار و يبقيها في خانة الممكن أو الضعيف بشكل يهمش القدرة على الإستفادة العلمية منها، من هنا كان السؤال الذي يسأل عادة عن سند نهج البلاغة فهل نسبة هذه الكلمات للإمام علیه السلام نسبة صحيحة أم لا؟

في البداية لا نشك أن الكتاب الموجود الآن بين أيدينا هو نفس كتاب نهج البلاغة الذي دونّه و جمعه الشريف الرضي رضوان الله عليه، ولم يتعرض لأي نوع من أنواع الضياع، وما زال هناك حتى الآن نسخ خطية معتبرة محفوظة في مكتبات مختلفة، حيث أن نهج البلاغة صار يعد من المصادر الإسلامية العظيمة. هذه النسخ يصل عددها إلى 130 نسخة خطية معتبرة بعضها يرجع إلى عصر مؤلفه و توجد نسخ أخرى كثيرة في مكتبة الآستانة الرضوية في مدينة مشهد المقدسة، و مكتبة آية الله المرعشي النجفي في قم المقدسة.

و لكن يبقى السؤال المطروح: هل أن ما جمعه الشريف الرضي في نهج البلاغة ثابت نسبته لأمير المؤمنين علیه السلام؟ و ما هي المصادر التي اعتمد عليها في كتابه هذا؟

إن الزمن الذي عاش فيه هيّأ له المكانة التي كانت لديه حيث أنه كان يتولى نقابة الطالبيين و ولاية أمورهم مما هيّأ له المصادر الكافية و الظروف المناسبة ليجمع ما ألفه في كتابه نهج البلاغة. حيث أن أخاه الشريف المرتضى كانت مكتبته تحتوي على 80 ألف كتاب، و كانت مكتبة دار الحكمة في بغداد تحتوي على 10 آلاف نسخة خطية و آلاف الكتب الأخرى، و قد عرف القرن الذي عاش فيه بقرن التأليف و الترجمة و التدوين للكتب الإسلامية، و قد شهد نشوء الحوزات العلمية الكثيرة، ونشر علوم أهل البيت علیه السلام في الأقطار الإسلامية.

استفاد الشريف الرضي من كل ذلك و من مكتبته الشخصية و ما احتوته من مصادر كثيرة، إلا أنه لم يذكر هذه المصادر إلا في موارد قليلة، و تركه ذكر المصادر كان يمكن أن يشكل مشكلة على مستوى التوثيق، إلا أن هذه المشكلة تم اجتنابها من خلال كتب شرح

ص: 10

نهج البلاغة التي ذكرت المصادر بشكل مفصل، فقد نهض بعض العلماء للتصدي للبحث عن مصادر نهج البلاغة و استخراج أسانيد رواياته منهم:

1 - السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه: مصادر نهج البلاغة وأسانيده

2 - هادي كاشف الغطاء في كتابه: مدارك نهج البلاغة

3 - السيد هبة الدين الشهرستاني في كتابه: مصادر نهج البلاغة

4 - محمد الدشتي في كتابه باللغة الفارسية: أسناد و مدارك نهج البلاغة.

مضمون نهج البلاغة

بعد أن عرفنا سند روايات نهج البلاغة و كيفية جمعها، بقي أن نلقي نظرة عامة على مضمون هذا الكتاب، و ذلك من خلال العناوين التالية:

ترتيب نهج البلاغة:

نظم السيد الرضي نهج البلاغة على محاور ثلاثة:

1 - الخطب: و عددها مائتان و تسع و ثلاثون خطبة، و هي تنقسم بحسب الزمان إلى ثلاثة:

الأول: ما قبل حكم الإمام علیه السلام مثل الخطب التالية: 139، 67، 5.

الثاني: فترة قبوله علیه السلام للخلافة مثل الخطب التالية: 16، 15، 12، 3.

الثالث: في زمن حكمه علیه السلام مثل الخطب التالية: 108، 105، 47، 27، 21.

2 - الرسائل: وعددها تسع و سبعون رسالة كتبت جميعها في زمان خلافته علیه السلام.

3 - الكلمات القصار، أو قصار الحكم: و عددها أربعمائة و ثمانون كلمة في موضوعات شتى.

ميزتان:

تمتاز كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، منذ أقدم العصور بميزتين تعرف بهما، و هي:

أولاً - الفصاحة و الجمال:

إن فصاحة أمير المؤمنين علیه السلام و جمال كلماته سحر كل عين طالعت كلماته و أطربت

ص: 11

كل أذن سمعتها حتى قيل في مدحه ووصفه الكثير، و للشريف الرضي جملة معروفة في وصف كلام الإمام علیه السلام و الثناء عليه، يقول قدس سره: «كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرِّع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها، و منه ظهر مكنونها، و عنه أخذت قوانينها، و على أمثلته حذا كل قائل خطيب، و بكلامه استعان كل واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصروا و قد تقدم و تأخروا ...».

وهذا ما يعرفه و يشهد به حتى أعداء الإمام علیه السلام، و قد كان معاوية بن أبي سفيان - و هو ألد أعدائه - معترفا بذلك، فلقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام علیه السلام و أقبل على معاوية و قال له - و هو يريد أن يفرح قلبه الممتلئ بالحقد على الإمام علیه السلام - جئتك من عند أعيا الناس، فقال له معاوية: «ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره».

و لذلك نجد لكلماته علیه السلام ذلك التأثير الكبير في النفوس، حيث كانت مواعظة تهز القلوب و تسبل الدموع، يقول الشريف الرضي بعد نقله الخطبة المعروفة بالغراء «و في الخبر أنه علیه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، و بكت العيون، و رجفت القلوب».

ثانياً - الشمول و الاستيعاب:

لكل أمة آثار أدبية يعتبر بعضها من نماذج العبقريات، و لكننا نجد أن كل واحدة منها إنما هي في فن خاص من الأدب كالحكمة و الموعظة، أو الحرب و الحماسة، أو القصائد و الرباعيات أو غيرها ... و لكن ما يتميز به نهج البلاغة أن كلماته لا تنحصر بساحة واحدة، بل إنه صال وجال ببيانه في ميادين متعددة لاتجتمع في رجل واحد، يقول الشيخ محمد عبده شارح النهج و مفتي مصر السابق «و بعد: فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) ... فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبّت، و غارات شنت و أن للبلاغة دولة، و للفصاحة صولة ... و أن مدبر تلك الدولة، و باسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية تطوف على

ص: 12

النفوس الزاكية، و تدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوم منها مرادها، و تنفر بها عن مداحض الزلل إلى جواد الفضل والكمال.

و طوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، و أنياب كاشرة، و أرواح في أشباح النمور، و مخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، و أخذت الخواطر دون رماها، و اغتالت فاسد الأهواء و باطل الآراء.

و أحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي، و اتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، و سما به إلى الملكوت الأعلى، و نما به إلى مشهد النور الأجلى، و سكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس، و آنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، و أولياء أمر الأمة. يعرفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، و يحذرهم مزالق الاضطراب، و يرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، و يرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، و يصعدهم شرف التدبير، و يشرف بهم على حسن المصير ...».

بالإضافة إلى ذلك نجد الإمام علیه السلام لم يتكلم في الفخر أو الخمر أو الشعر التي هي ساحات واسعة للخيال، بل لم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فالكلام عنده كان وسيلة لا هدفاً، فهو علیه السلام إنما تكلم حول المعاني الحقة و الواقعية ومع ذلك بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال.

ص: 13

خلاصة الدرس

1 - إن نهج البلاغة أعظم أثرٍ ظهر في القرن الرابع الهجري في كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

2 - مؤلف نهج البلاغة و جامعه الشريف الرضي قدس سره.

3 - تمتاز كلمات أمير المؤمنين علیه السلام بميزتين:

أ - الفصاحة و الجمال حيث كانت مواعظه تهز القلوب و تسبل الدموع.

ب - الشمول و الاستيعاب فكلماته علیه السلام لا تنحصر بساحة واحدة، بل إنه صال وجال ببيانه في ميادين متعددة لا تجتمع في رجل واحد.

4 - إن كتاب نهج البلاغة الذي بين أيدينا هو نفس كتاب نهج البلاغة الذي دونه و جمعه الشريف الرضي رضوان الله عليه، ولم يتعرض لأي نوع من أنواع الضياع.

5 - لم يذكر الشريف الرضي قدس سره مصادر نهج البلاغة و أسانيد الروايات فيه إلا في موارد قليلة، و تركه ذكر المصادر كان يمكن أن يشكل مشكلة على مستوى التوثيق، إلا أن هذه المشكلة تم اجتنابها من خلال كتب شرح نهج البلاغة التي ذكرت المصادر بشكل مفصل، فقد نهض بعض العلماء للتصدي للبحث عن مصادر نهج البلاغة و استخراج أسانيد رواياته.

6 - قسّم السيد الرضي قدس سره نهج البلاغة إلى ثلاث محاور:

1 - الخطب.

2 - الرسائل

3 - الكلمات القصار المسماة بقصار الحكم.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع».

«إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم».

«أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

«من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه».

ص: 14

أسئلة حول الدرس

1 - تحدث عن الحقبة التاريخية التي كتب فيها نهج البلاغة؟

2 - من هو الذي جمع كتاب نهج البلاغة؟

3- هل جمعت كلمات أمير المؤمنين علیه السلام في كتاب غير نهج البلاغة؟

4 - ما هو السبب في تأليف نهج البلاغة؟

5 - اذكر أسماء عددِ من الكتب التي جمعت فيها كلمات أمير المؤمنين علیه السلام.

للمطالعة

الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانية

كتاب الإمام علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانية للمؤلف الكبير و الكاتب الأديب جورج جرداق.

هو كتاب أشبه بالموسوعة يتألف من خمس مجلدات من القطع الكبير.

لقي هذا الكتاب النجاح الكبير إذ استحوذ على الاهتمام وسيطر على الساحة الثقافية حين صدوره منذ حوالي الثلاثين سنة حيث تلقفه ملايين القراء حول العالم، و ترجم إلى اللغات الفارسية و الهندية و الانكليزية.

و كل مجلد من مجلداته الخمس قد وضع تحت عنوان خاص به و العناوين هي:

1 - الإمام علي و حقوق الإنسان. 2 - علي و الثورة الفرنسية. 3 - علي و سقراط.

4 - علي و عصره. 5 - علي والقومية العربية.

يقول مؤلفه في مقدمته: « ... و من الأمور التي نستيقظ عليها في دراسة علي و عصره و ما تلاه من عصور، ذلك المقدار العظيم من الإسهام في مقاومة الظالم و نصرة المظلوم و من معاندة الإستعباد و الاستغلال و العمل على تقويض أسبابهما بسن الانظمة و الدساتير في النطاق الذي يسمح به الزمان و المكان و بالتضحية في سبيل الكرامة الإنسانية بكل عزيز من الدم و الحياة فإذ بنا نعي بأن تاريخنا ليس كله ظلمة وجهلاً».

كتاب يوضح للقارىء مدى إعجاب أصحاب الديانات الأخرى بشخصية هذا الإمام الهمام.

ص: 15

للمطالعة: جامع نهج البلاغة:

نسبه:

هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم ... ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين علي بن أبي طالب علیه السلام.

و قد اشتهر بذي المنقبتين، و الرضي ذي الحسبين، و الشريف الأجل، و الشريف الرضي، و بهذا الأخير اشتهر حتى بات لا يعرف إلا به.

ولادته:

ولد الشريف الرضي سنة (359 ه_) في بغداد، و نشأ في بيت الفضيلة و الزعامة الدينية، و احتضنته الأيدي الأمينة، فوالده الطاهر ذو المناقب أبو أحمد الحسين كان يتولى نقابة الطالبيين، و كان له النظر في المظالم والحج بالناس ولقب بالطاهر ذي المناقب، والطاهر الأوحد.

وأمه فاطمة بنت الناصر نقيب بغداد، ترجع بنسبها إلى الإمام علي بن الحسين علیه السلام.

كان الشريف الرضي رضوان الله عليه عالي الهمة عفيف النفس أبيّاً، ينقل ابن خلكان في وفياته عن تيمية الثعالبي في ترجمة الشريف: «ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبرع انشاء الزمان وأنجب سادة العراق يتحلى مع محتده الشريف، ومفخرة الحفيف بأدب ظاهر وفضلٍ باهر وحظٍ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن عبر، على كثرة شعرائهم المفلقين ...».

حفظ الشريف الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز عمر ثلاثين سنة في مدة قصيرة، و كان عالماً أديباً و شاعراً فصيحاً حفظ النظم ضخم الألفاظ و لقد كان من الشخصيات البارزة و المشهورة في القرن الرابع الهجري.

و قال ابن أبي الحديد في شرحه: «كان عفيفاً، شريف النفس، عالي الهمة، لم يقبل من أحدٍ صلة ولا جائزة، حتى أنه رد صلات أبيه».

ص: 16

وقال السيد الخوانساري في روضاته: لم يبصر بمثله الآن عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الإنسان، فسبحان الذي ورثه غير العصمة ما أراد من قبل أجداده الأمجاد، و جعله حجة على قاطبة البشر في يوم المعاد، و أمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يذكر ...

مصنفاته:

ترك الشريف الرضي تراثاً عظيماً يدل على عمق غور الشريف و دقته و نباهته وذكائه، وأهم مصنفاته:

1 - كتاب مجازات القرآن: ذكره ابن خلكان و قال: فجاء نادرا في بابه.

2 - كتاب معاني القرآن: و قال عنه ابن خلكان: يتعذر وجود مثله، دل على توسعه في علم النحو و اللغة.

3 - كتاب التشابه في القرآن.

4 - كتاب نهج البلاغة.

5 - ديوان شعر من أفخر و أهم وأعظم دواوين الشعر.

وفاته:

توفي الشريف الرضي سنة (406 ه_) و دفن في مدينة الكاظمية بجوار مرقد الإمامين الكاظمين علیه السلام ولم يقدر أخوه المرتضى أن ينظر إلى تابوته و دفنه، فمضى إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر علیه السلام، و صلى عليه الوزير فخر الملك مع جماعة كثيرة.

ص: 17

عکس

ص: 18

الدرس الثاني: التقوى

مقدمة

إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام علیه السلام خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض لا يكفينا أن نعدّد المواضيع و العناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام علیه السلام قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى و العبادة و الحق و الدنيا مثلاً ... بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام علیه السلام من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، و ترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس و الأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنيا.

ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام علیه السلام. ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.

التقوى:

إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، و ليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتني به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟

يفترض الكثيرون: أن التقوى من الوقاية. و الوقاية تعني الحذر و الاحتراز و البعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!

و لهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم!

ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب و الإيجاب و الفعل والترك. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب

ص: 19

إلّا عن طريق السلب و لا إلى الإثبات إلّا بعد النفي، و ليست كلمة التوحيد، (لا إله إلا الله)، إلّا كلمة جامعة بين النفي و الإثبات، و لا يمكن إثبات التوحيد إلّا بعد نفي ما سوى تعالى، و لذلك نرى أن الإيمان و الكفر مقترنان و الطاعة و العصيان متلازمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، و كل إيمان يشتمل على كفر:

( ... فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى ...) (1).

و لكن ...

أولاً: إنَّ البعد و النفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، و لا تصح إلّا أن تكون مقدمات للإرتباط بالقرب و الطاعة و الإيمان. و لذلك فلا بد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً و أهدافاً. فالسيرة العملية السلبية بلا حدود و لا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا تحمد عقباها.

و ثانياً: إنَّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر فإن التقوى في نهج البلاغة: «قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب».

إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، و تصونه من الانحراف و الشطط، و من لم يحظ بهذه الحالة لا بد له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث إن البيئة الاجتماعية مليئة من أسباب المعاصي فلا بد له من أن يختار الإنزواء التام!

و على هذا: فلا بد إما أن نكون أتقياء و حينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنتخلى عن التقوى! و على هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً و عزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى و أجمع!

أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع و الاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من

ص: 20


1- سورة البقرة الآية / 256

كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم.

« ... ذمتي بما أقول رهينة، و أنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلاث حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا و إن

الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها و خلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ... ألّا و إن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها و أعطوا أزمتها

فأوردتهم الجنة ...» (1).

« ... إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، و ألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، و أظمأت هواجرهم» (2).

و في هذه الكلمة يصرح الإمام علیه السلام بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام و الخوف من الله من لوازمه و آثاره.

«فإن التقوى في اليوم الحرز و الجنة، و في غد الطريق إلى الجنة» (3).

نرى أن الإمام علیه السلام قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية و النفسية و المعنوية للتقوى و آثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، و الإحساس بالتذمر من الذنوب و الأرجاس و الأنجاس.

التقوى «وقاية لا قيود»:

لقد أكد الإمام علیه السلام في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود ... فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و (القيود) و لذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر عن القيود و الخروج عن الحدود ... و لا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، و لكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم و المواهب المعدة للإنسان.

ص: 21


1- نهج البلاغة الخطبة 16
2- نهج البلاغة، الخطبة 189
3- نفس المصدر، 112

يقول الإمام علیه السلام:

« ... اعلموا عباد الله: أن التقوى دار حصن عزيز، و الفجور دار حصن ذليل، لايمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه. ألا و بالتقوى تقطع حمة الخطايا» (1).

و كأنه علیه السلام يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب و الحيات، و يقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشأها.

« ... فإن تقوى الله مفتاح سداد، و ذخيرة معاد و عتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة ...» (2)

واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد و الحقد والطمع و الشهوة، و هكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا و المال و المقام و الراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.

و لقد بحث الإمام علیه السلام في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة.

وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة، أثران مهمان:

أحدهما: البصيرة النيّرة و الرؤية الواضحة.

والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.

التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها

يصرّ نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل و الفتن، و في نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى و حفاظتها، فإن التقوى و إن كانت واقية للإنسان فمع ذلك يجب على

ص: 22


1- نهج البلاغة الخطبة 157
2- نفس المصدر 228

23

الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها! فهو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان و الثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق و السرقة، و هي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال:

( ... و لباس التقوى ذلك خير ...) (1).

و قال الإمام علي علیه السلام بهذا الصدد:

« ... أيقظوا بها نومكم و اقطعوا بها يومكم و أشعروها قلوبكم و ادحضوا بها ذنوبكم ... ألا فصونوها و تصوّنوا بها ...» (2).

وقال علیه السلام

« ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، و الموجبة على الله حقكم. و أن تستعينوا عليها بالله، و تستعينوا بها على الله ...» (3).

ص: 23


1- سورة الأعراف الآية / 27
2- نهج البلاغة الخطبة 189
3- الخطبة، 189

خلاصة الدرس

1 - إن التقوى هي من أكثر المفاهيم التي سلط عليها الضوء في نهج البلاغة.

2 - كما أن الإنسان يقي ثيابه من التمزق و تقيه الثياب من البرد و الحر، فإن الإنسان يجب أن يحافظ على التقوى التي يحملها كما تحافظ هي عليه و تمنعه من الوقوع في المعاصي.

3 - من آثار التقوى:

أ - البصيرة النافذة و الرؤية الواضحة.

ب - القدرة على حل المشاكل و الخروج من المضائق و الشدائد.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«القناعة مالٌ لا ينفد».

«أشد الذنوب ما استخف به صاحبه».

«اتق الله بعض التقى و إن قل، و اجعل بينك و بين الله سترا و إن رق».

اسئلة حول الدرس

1 - كيف تصبح التقوى ملكة في الإنسان؟

2 - هل تدفع التقوى الإنسان إلى حبس نفسه في بيته؟

3 - هل تقيد التقوى حركة الإنسان؟

4 - تحدث عن نظرة أمير المؤمنين علیه السلام إلى التقوى؟

5 - ما هي آثار التقوى؟

ص: 24

للمطالعة

الإمام علي نبراس و متراس

كتاب ألفه الأديب الكبير و الكاتب البارع الأستاذ سليمان كتاني.

كتاب حاز الجائزة الأولى في المباراة التي نظمت حول التأليف عن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام.

قدم لهذا الكتاب القيم كل من الشيخ مرتضى آل ياسين رئيس جماعة العلماء في النجف الأشرف، و رئيس لجنة المباراة الكتابية.

و قدم له أيضا الكاتب الكبير الأستاذ جعفر الخليلي.

و كتب المؤلف في إهداء الكتاب: إلى كل من يستهويه علي بن أبي طالب في بطولة القيم و فتح كوى النفس على الحق و الخير و الجمال.

و قال في افتتاحية الكتاب: قلة أولئك الرجال الذين هم على نسج علي بن أبي طالب علیه السلام تنهد بهم الحياة، موزعين على مفارق الحياة كالمصابيح تمتص حشاشتها لتفنيها هديا على مسالك العابرين ...

يتحدث الكاتب في هذا الكتاب الجميل عن بعض الومضات و الوقفات في سيرة أمير المؤمنين علیه السلام بطريقة أدبية و وصف رائع وعبارة سهلة مفهومة و يجذب القارىء له حتى لا يحب أن يتركه إلا بعد أن ينتهي منه.

طبع الكتاب عدة مرات و في العديد من بلدان العالم.

ص: 25

26

للمطالعة: يوم من حكم علي علیه السلام:

رأى الإمام علي علیه السلام في طريقه امرأة تحمل قربة ماء فدنا منها وأخذ القربة، حتى وصلت بيتها، و كانت المرأة أثناء سيرها تدعو عليه و لكنها لا تعرفه.

و حيث أنها لم تعرفه سألها علیه السلام:

يا أماه ما الذي فعله علي حتى تدعين عليه؟

فوقفت المرأة وقالت:

إنه أرسل زوجي إلى الحرب فقتل، فبقيت بلا معيل و عندي مجموعة من الأيتام الذين لا قدرة لي على تدبير أمورهم.

و لما عاد الإمام علي علیه السلام إلى داره فكر فيما يمكن أن يقدمه لهذه الأرملة المسكينة فجاء إليها في اليوم التالي و هو يحمل كيساً مليئاً بالطعام فطرق الباب فقالت المرأة:

من بالباب؟

فقال علیه السلام:

أنا الذي حمل القربة عنك البارحة.

ففتحت الباب له و دخل فقالت أثناء دخوله: أرضاك الله و حكم بيني و بين علي بن أبي طالب.

فقال لها الإمام علیه السلام:

أتعدين الخبز أم تهتمي بالأطفال؟

فقالت: إنني على الخبز أقدر فعليك بالأطفال؟

فأخذ أمير المؤمنين علیه السلام يصنع كباباً و تمراً ويطعم الأطفال و يخاطبهم:

يا أولادي تجاوزوا عن علي.

و توجه علي علیه السلام للتنور كي يخبز لها فطرقت الباب جارة لهذه الأرملة ورأت علياً يساعدها في البيت فقالت لها:

أتدرين من هذا الذي يساعدك؟

ص: 26

فقالت الأرملة:

إنه رجل أتى يساعدنا.

فقالت لها الجارة:

إنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام.

و هنا استولى الخجل على هذه المرأة مما قد فعلته و قالته له و تقدمت من علي لتعتذر منه فما كان من هذا الرجل العظيم إلا أن قال لها أنا أعتذر إن قصرت في خدمتك و خدمة أيتامك ...

هذا هو أمير المؤمنين لكل من يهمه أن يعلم كيف يكون القادة الحقيقيون ...

ص: 27

عکس

ص: 28

الدرس الثالث

اشارة

مقدمة

العبادة 1

عندما نريد أن نتكلم عن العبادة فلن نجد بعد النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم الذي كان يعبد الله (عزّ و جلّ) عبادة لم يعبدها أحد قبله ولا بعده غير علي علیه السلام لنستلهم من كلامه دروس العبادة و حقيقتها و هو الذي يروى أنه كان يسجد و يطيل سجوده و يغمى عليه حال سجوده حتى يظن أنه قد مات، وهو الذي كان إذا وقف بين يدي الله يغيب عن نفسه، حتى يتم إخراج السهم من بدنه دون أن يشعر في حال العبادة. و هو الذي لم تكن العبادة عنده مجرد أوقات محدودة للذكر والورد والصلاة والدعاء، بل كانت خضوعاً لله (عزّ وجلَّ) وخشوعاً وطاعة بالمال والنفس والكلمة والحكم والجهاد والمعاملة، فكانت العبادة حياته و كل حركاته وسكناته.

هذا ما نجده في سيرة أمير المؤمنين علي علیه السلام و في كلامه، فلنلقي الضوء على هذا المفهوم من كلامه علیه السلام في نهج البلاغة:

العبادة سنة تكوينية عامة:

يبين الإمام علیه السلام في ما روي عنه أن العبادة في بعض مراتبها ليست أمراً دينياً فرضه الله والدين بشكل عام أو الإسلام بشكل خاص، و إنما حالة تكوينية تعيشها كل المخلوقات و منها الإنسان ولا يخلو منها أحد.

فالإنسان أولاً هو خاضع لنظام الخلق شاء أم أبى ولا يستطيع أن يتجاوز هذا النظام و هذه السنة الإلهية الكونية المسيطرة على الوجود بجميع نواحيه، وعلى جميع الموجودات من الملائكة و البشر والحيوانات والنبات والجماد، ولا فرق في ذلك بين البشر وغيرهم والمؤمن بالله وغيره.

لذلك وبهذا المعنى الذي هو أحد معاني العبادة لا يستطيع الإنسان أن يخرج نفسه

ص: 29

من حد العبادة لواضع هذا النظام في سلوك الأسباب الموضوعة في هذا الكون للوصول إلى الغايات، و إلا فإنه لن يصل إليها، لذلك يجد نفسه مضطراً بل مجبراً على السير في طريقها. من هنا فإن الإنسان عندما يريد أن يصعد إلى مكانٍ عالٍ أو ينزل إلى مكانٍ دانٍ فإنه سيستخدم الوسيلة التي توصله إلى غايته في كل الطريقين، كذلك إذا أراد أن يحصل على الحرارة أو البرودة، فإنه سيجد أسباباً خاصة توصل إلى أحدهما غير الأسباب التي توصل إلى الآخر، ولا بد أن يسلك لكل غاية سبيلها ويؤمن لها أسبابها.

يقول أمير المؤمنين علي علیه السلام:

«فإنما أنا و أنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا» (1).

إذن نحن مخلوقون لهذا الخالق وعليه نحن مملوكون لهذا الرب و لذلك فنحن عبيد له، فهو يملك منا و من أنفسنا ما لا نملكه من هذه الأنفس من وجودها و موتها و حياتها و كثير من الشؤون التي تعطينا الحياة و استمراريتها في عالم المادة و الشهادة أو في عالم الغيب والملكوت. ما لا يعد ولا يحصى بل لا يستطيع تصوره أحد.

و عنه علیه السلام:

«الحمد لله المعروف من غير رؤية، و الخالق من غير منصبة (2)، خلق الخلائق بقدرته، و استعبد الأرباب بعزته (3) ...» (4).

إن ذكر الخالقية قبل ذكر الاستعباد في كلامه علیه السلام كأنه للتعليل، حيث أن الخالق هو المالك لهذا العبد والذي بيده وجوده وعدمه، فهو الذي أحدثه وخلقه من العدم وأعطاه الوجود لذلك سيكون هو المستعبد له مهما علت مكانته وقدرته و سلطته فكل من ادعى ربوبية في عالم الخلق هو مستعبد للّه (عزّ و جلّ) لأنه كما مر لا يملك من الأسباب إلا ما ملكه الرب العظيم رب الأرباب العزيز.

ص: 30


1- عبده محمد شرج نهج البلاغة، ح 216
2- المنصبة التعب
3- العزة، الأرض العزاز الأرض الصلبة التي لا تخترق
4- عبده محمد شرح نهج البلاغة خطبة 183

العبودية سنة اجتماعية:

ثم إن هذه العبودية بمرتبتها الثانية التي هي سنة جارية لن يخرج منها الإنسان مهما جهد، فإنه وإن ترك عبادة الله (عزَّ وجلَّ) والخضوع له، لكنه فضلاً عن كونه لن يستطيع أن يخرج من تحت سلطة الأسباب التكوينية، فإنه كذلك لن يستطيع أن يخرج من عبادة غير الله من البشر، فإن معنى العبادة الذي سيأتي الكلام عنه يصدق على كل إنسان حتى من لا يعبد الله، فإنه يكون عبداً للدنيا، أو للأمير و السلطان، أو لشهوات نفسه.

فالإنسان إذن عبد و إنما هو يتقلب بين معبودين و أرباب مختلفين ويتخير بينهم، و بتعبير آخر هو مضطر في موضوع العبادة و هو قانون لا يشذ فيه أحد من البشر، لأن الإنسان في حياته يختار طريقه و قانونا يعيش على أساسها تحكم شؤونه وحركاته ومواقفه تجاه جميع ما يواجهه في حياته. و يخضع لهذا القانون و يطبق طريقته و يعمل على أساسه لذلك كل من كان واضعاً لهذا القانون فإنه سيكون رباً له يطيعه و يلتزم بما

يحكم.

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«الستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً و أبقى آثاراً، و أبعد أمالاً و أعد عديداً، و أكثف جنوداً، تعبدوا للدنيا أيَّ تعبُّد، وأثروها أي إيثار، ثم ظعنوا (1) عنها بغير زادٍ مبلّغ (2) ولا ظهر قاطع (3)»(4).

هؤلاء كما نرى في ما روي عن الإمام علیه السلام قد تعبُّدوا للدنيا بدل أن يتعبدوا للَّه (عزّ وجلَّ)، فاختاروا الدنيا و آثروها ولكن لم يخرجوا عن سنة العبادة ونظامها وإن تركوا عبادة الله فبقوا عبيداً لرب آخر و معبود آخر إلا أنه لا يبقى و لا يدوم ولن يأخذوا منه زاداً يكفيهم لكي يبلغوا آخر سفرهم و يوصلهم إلى مقصدهم، ولم يكن هذا المعبود أو هذه العبادة بالمركب القوي الذي يستطيع أن يقطع بهم طريق الآخرة فهو مركب ينتهي به الأمر عند بداية سفر الآخرة، فهو مركب غير قاطع.

ص: 31


1- ظعنوا: رحلوا عنها
2- زاد كاف يبلغ بهم مقصدهم
3- ظهر قاطع، أي مركب يقطع بهم الطريق ويوصلهم
4- عبده محمد، شرح نهج البلاغة خطبة.111

إذن الإنسان يتقلب بين عبادة لله و عبادة لغيره و عليه هو أن يختار المعبود الذي إذا عبده كانت عبادته زاداً مبلغاً و ظهراً قاطعاً.

عبادة الله تعالى هي الفوز:

الجن و الإنس و الملائكة و الأنبياء و غيرهم عبدوا الله و استعبدهم سبحانه و تعالى و هم عبدوه و تركوا عبادة غيره ففازوا، ولم يخلُ منهم زمن ولا دهر ولا مكان ولا مقام في عالم الغيب والشهادة.

وعنه علیه السلام:

«من ملائكة أسكنتهم سماواتك ... و إنهم على مكانهم منك و منزلتهم عندك واستجماع أهوائهم فيك وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن

أمرك ... لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، و لزروا على أنفسهم، و لعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ...» (1).

«ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم ... و لكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، و يتعبدهم بأنواع المجاهد ...» (2).

وعنه علیه السلام:

«و ما برح لله وعزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، و في أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم ...» (3).

وعنه علیه السلام يتكلم عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

«أمره بتقوى الله في سرائر أمره وخفيات عمله ... فقد أدى الأمانة، و أخلص العبادة ...» (4)

ص: 32


1- ن.م خطبة 9
2- م.س خطبة.192
3- ن.م خطبة.222
4- ن.م كتاب 26

العبادة هي سر ارسال الأنبياء صلوات الله عليهم

الحكمة من إرسال الأنبياء صلوات الله عليهم هي دلالة الناس و إرشادهم و هدايتهم إلى عبادة الله (عزّ وجلّ)، ولولا ذلك لما توصل أحد إلى هذه العبادة ولما عرف أحد كيف يعبد اللّه (عزّ وجلَّ) و من أي طريق، و لضلوا و لاختلفوا و اقتتلوا أشد مما اقتتلوا فمع إرسال عدد كبير من الأنبياء نجد أن التاريخ قد فاض بالدماء بحوراً بسبب الاختلاف و الضلالة في السبل و عدم معرفة سبيل العبادة الأصلح للبشرية.

عنه علیه السلام:

«فبعث الله محمداً صلی الله علیه و آله و سلم بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه و أحكمه ...» (1).

نلاحظ كلامه علیه السلام «من عبادة الأوثان إلى عبادته»، فالإنسان دائماً يسعى لأن يكون عبداً لما يراه يحقق له أهدافه و يجعله أمامه يخضع له و يعبده ويجعله ربه ومدبر أموره، فلو لم يرسل الله (عزوجل) الأنبياء لخضع الإنسان حتى للحجارة كما فعل عبدة الأوثان و الحجر هو أدنى مخلوق في سلسلة مراتب المخلوقات و مع ذلك عبده الإنسان عندما لم يجد من ينير له طريقه. فلو كان الإنسان يستطيع أن يستدل على طريق العبادة وسبيلها دون الأنبياء ولما كان هناك حكمة من إرسالهم.

فيمكن أن يستفاد من كلام الإمام علیه السلام أمران:

الأول: أن معرفة الله و إن كانت ممكنة من خلال العقل، إلا أن معرفة سبل عبادته و منهاج طاعته غير ممكنة إلا من خلال الأنبياء و هذا دليل على ضرورة النبوة.

الثاني: أن العباد بما أنهم لن يستطيعوا أن يخرجوا من تحت نظام العبادة و شموليته، فلا بد أن يفتشوا و يتعرفوا على العبادة الصحيحة، و

بما أنه لا طريق إلى معرفتها إلا من خلال الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم، إذن لا بد من الالتزام بطاعتهم و بأمرهم، و هذا دليل على ضرورة الالتزام بولاية وطاعة أولياء الله (عز وجل).

ص: 33


1- ن.م خطبة 147

خلاصة الدرس

1 - الإنسان خاضع لنظام الخلق شاء أم أبى و لا يستطيع أن يتجاوز هذا النظام و هذه السنة الإلهية الكونية المسيطرة على الوجود، و على جميع الموجودات من الملائكة و البشر والحيوانات والنبات والجماد، ولا فرق في ذلك بين المؤمن بالله وغيره.

2 - إن معنى العبادة يصدق على كل إنسان حتى من لا يعبد الله، فإنه يكون عبداً للدنيا، أو للأمير والسلطان، أو لشهواته النفسية و هواه الشيطاني.

3 - الحكمة من إرسال الأنبياء صلوات الله عليهم هي دلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم إلى عبادة الله (عزَّ وجلَّ)، و لولا ذلك لما توصل أحد إلى العبادة الحقيقية، و لما عرف أحد كيف يعبد الله (عزَّ وجلَّ) و من أي طريق، ولضلوا واختلفوا واقتتلوا.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فإنما أنا و أنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا».

«ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم ... ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد،

ويتعبدهم بأنواع المجاهد».

أسئلة حول الدرس

1 - ما معنى أن تكون العبادة حالةً تكوينيةً تعيشها كل المخلوقات؟

2 - ما معنى كون العبادة سنة اجتماعية؟

3- أمرنا الإمام علي علیه السلام أن نعتبر من فعل إبليس فما كان فعله؟

4 - ما هي الحكمة من ارسال الأنبياء و الرسل؟

ص: 34

للمطالعة

خصائص أمير المؤمنين علیه السلام

كتاب خصائص أمير المؤمنين علیه السلام لمؤلفه العالم الكبير والسيد الجليل الشريف النقيب السيد الرضي الملقب بالشريف الرضي المتوفي سنة 406 هجرية.

يتميز هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الفائدة والعلم بعدة ميزات:

1 - أن مؤلفه من العلماء الكبار الذين حفروا اسم التشيع وحملوا همه الكبير فأفنوا عمرهم في خدمته، و هو الذي جمع كتاب نهج البلاغة، و صنف الكثير من التصانيف المهمة الأخرى.

2 - أن الكتاب على إيجازه و اختصاره يخلق في نفس القارىء انشدادا ما له من نظير نظرا لسلاسة الأسلوب و بلاغته في آن معا إضافة إلى المضمون الرائع الذي يحتويه.

3- لم يقتصر المؤلف قدس سره على إيراد ماورد في التاريخ من الأمور التي تميز بها أمير المؤمنين علیه السلام فحسب بل تعدى عن ذلك ليروي بعضا من الأشعار التي خلدها التاريخ في مدح هذا الرجل الأكبر و الإمام الأعظم أمير المؤمنين علیه السلام.

فهذا الكتاب المميز هو نموذج للكتاب الذي لا يمل قارئه بل ينتقل فيه من صفحة إلى أخرى بكل شغف، و ما يميزه أيضا عدم كبر حجمه فهو مؤلف من مئة و صفحتين إلا أنها مملوءة علماً جما.

ص: 35

للمطالعة: العبادة

قال العلامة المجلسي رحمه الله: «عن حبّة العرني، قال: بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين علیه السلام في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله، وهو يقول:

(إن في خلق السموات و الأرض) (1).

قال: ثم جعل يقرأ هذه الآيات ... فقال لي: أراقد أنت يا حبة، أم رامق؟

قال: قلت بل رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى، ثم قال لي:

يا حبّة، إن لله موقفاً، و لنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا.

يا حبة، إن الله أقرب إلي وإليك من حبل الوريد.

يا حبة، إنه لن يحجبني و لا إياك عن الله شيء.

قال: ثم قال: أراقد أنت، يا نوف؟

قال: قال: لا، يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، و لقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال:

يا نوف، إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله (عزّ و جلّ).

يا نوف، إنه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلا أطفأت بحارا من النيران.

يا نوف، إنه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله، و أحبّ في الله، و أبغض في الله.

يا نوف، إنه من أحب في الله لم يستأثر على محبّته، و من أبغض في الله لم ينل مبغضيه خيرا، عند ذلك استكملتم حقايق الإيمان.

ص: 36


1- سورة البقرة، الآية / 164

ثم وعظهما و ذكّرهما، و قال في أواخره:

«فكونوا من الله على حذر، فقد أنذرتكما».

ثم جعل يمر و هو يقول:

«ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عني، أم ناظر إلي، و ليت شعري في طول منامي و قلّة شكري في نعمك عليّ ما حالي؟».

قال: فوالله، ما زال في هذا الحال حتى طلع الفجر (1).

ص: 37


1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 41، ص 22

عکس

ص: 38

الدرس الرابع العبادة (2)

لزوم العبادة

نجد أن الإمام علیه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة يشير إلى لزوم العبادة و يؤكد عليها لاعتبارات عدة:

الأول: و قد مر ذكره ببيان أن العباد مقهورون ومجبرون ومضطرون إلى العبادة شاؤوا أم أبوا فإن لم يعبدوا الله كانوا عبيداً لغيره و هم في هذا لا يخرجون عن كونهم عبيداً لله، لأنهم يكونون خاضعين للنظام و السنة الإلهية.

و قد مر الحديث عنه علیه السلام:

«فإنما أنا و أنتم عبيد مملوكون ...» (1).

الثاني: بأن هذه العبادة هي اختبار للإنسان وامتحان، وليست أمراً اعتبارياً مجرداً من أي غاية وحكمة، بل يكون من خلالها المفاضلة في مراتب العباد.

عنه علیه السلام:

«و لكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد و يتعبدهم بأنواع المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره اخراجاً للتكبر من قلوبهم، و اسكاناً للتذلل في نفوسهم ...» (2).

و هذا الاختبار أيضاً ليس خالياً من الكرم الإلهي و الفضل الرباني، فاللّه يصلح به الإنسان و ليس لمجرد معرفة الخبيث من الطيب، بل هو رحمة و لطف أيضاً، فالعبادة دواء و شفاء من أعظم الداء وهو الشرك، و هذا من آثارها كما سيأتي.

الثالث: الترغيب بالربح من خلال التجارة مع اللّه، باعتبار أن بعض الناس قد يتعاملون حتى مع الله (عزَّ وجلَّ) من جهة انتظارهم للفائدة و الربح المقابل.

ص: 39


1- نهج البلاغة خطبة 216
2- م.س خطبة 111

فهم ينتظرون بدلاً معيناً وربحاً مضموناً وإلا تركوا العمل ويمكن أن تكون هذه العبادة، عبادة التجار التي يتحدث الإمام عنها في نهج البلاغة أيضاً و سيأتي الكلام عنها، وهناك عبادة العبيد وهم المضطرون إلى هذه العبادة قهراً و خوفاً وكأن الطريقة الأولى التي مر ذكرها في بيان لزوم العبادة خطاباً لهؤلاء.

من كلامه علیه السلام المروي عنه الذي يستفاد منه الترغيب بالعبادة من باب التجارة مع الله:

«و اختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، و صدقوا كلمته ... يحرزون الأرباح في متجر عبادته ...» (1).

و هذا يناسب معنى قوله تعالى:

(يرجون تجارة لن تبور ...) (2).

الرابع: الامتنان و الدعوة لشكر الله على نعمه، فإن شكر المنعم لازم و واجب عقلاً.

عنه علیه السلام:

«فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، وامتنَّ عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق طاعته» (3).

و كأنه علیه السلام يفرِّع لزوم العبادة على العباد بالنعمة الشاملة للرسالة التي هي نعمة معنوية و النعم الأخرى المادية. و عليه فيلزم على العباد أن يعبِّدوا أنفسهم لله (عز وجل) و يطيعوه مقابل ما أنعم عليهم، و وعظهم و هداهم.

و لعل ذلك أيضاً إشارة إلى عبادة الشكر للّه سبحانه التي هي من المراتب العليا للعبادة، و هذا ما يشير إليه كلامه المروي عنه أيضاً في نهج البلاغة:

«فاعتصم بالله الذي خلقك و رزقك وسواك وليكن له تعبدك ...» (4).

فمن خلق و سوى هو من يستحق العبادة مقابل خلقه و فيه معنى الشكر للخالق على خلقه.

الخامس: أنها قضاء حق فإن من حق الخالق للوجود أن يعبده المخلوق دون غيره،

ص: 40


1- نهج البلاغة خطبة 1
2- سورة فاطر، الآية / 29
3- محمد عبده، شرح نهج البلاغة خطبة.198
4- ن.م كتاب 31

و ليس من باب الاضطرار بل من باب أدء حق ذلك الخالق، فهي حق له، و إن كان هذا الحق لا يستطيع أن يؤديه أحد مهما جهد وسعى، فالإنسان إنما يعبد بالوجود المعطى من الله (عزّ و جلّ)، و الذي يمن به عليه في كل لحظة من حياته فهو حتى في عبادته غير مستغن عن الخالق سبحانه.

عنه علیه السلام:

«من قضى حق من لا يقضى حقه فقد عبده» (1).

و يمكن أن يستفاد هنا أن المراد هو ما فرضه الله (عزّ وجلّ) و جعله حقاً له على العبد و بهذا المعنى يشابه ما روي عنه في النهج أيضاً:

« ... و لا عبادة كأداء الفرائض» (2).

و كأن قضاء حق من لا يقضى حقه هو أداء ما افترض و هو أمر ممكن للعبد، فيستطيع أن يأتي بالفرائض و هو أدنى العبادة و بدونه لا تكون عبادة، لأن ترك أي عبادة مفترضة هو عمل محرم و هو تجرؤ على الله (عزَّ وجلَّ) و هتك لحرمته و لحدوده فالفرائض هي حدود الله سبحانه الذي إذا تجاوزه العبد يكون قد أخل بأدب العبودية و خرج من حيّز عبادة الله إلى عبادة الشيطان.

كيفية العبادة:

قد يظن البعض أن العبادة هي أن يأخذ الإنسان نفسه بالأعمال العبادية و الذكر و التهجد حتى يجهد نفسه و لو بالإجبار، فيؤدي الأمر به إلى أن تصير هذه العبادة وقتاً للتعب وبذل الجهد، لا فترة للتوجه إلى الله و الانقطاع إليه.

لذلك نجد فيما روي عن الإمام علي علیه السلام في النهج في هذا المجال دواءً و توجيهاً و تقويماً لهذا الاعوجاج و تصحيحاً لهذا الخطأ:

«و خادع نفسك في العبادة، وارفق بها، ولا تقهرها، وخذ عفوها (3)»(4).

و قد يستغرق الإنسان في بعض العبادات و لا يبقى لديه وقت لأداء العبادات الأخرى

ص: 41


1- م.س خطبة 164
2- ن.م، ح 113
3- عفوها: وقت فراغها، و راحتها، و ما لا أثر فيه لأحد بملك.
4- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ك 69

الواجبة أيضاً. هذا الإنسان يظن أنه بهذا النحو يؤدي حق خالقه، غافلاً عن تقصيره في الواجبات الأخرى. كصلة الرحم و طلب الرزق و طلب العلم و التفقه إلى غيرها من العبادات.

و من الناس من يتخذ العبادة مظهراً، أو يرى العبادة يرى العبادة هي الأعمال الظاهرية، فقط فيتظاهر بهذه الأعمال و يقصر نظره و يحصره في ظاهر العبادة، فتخلو أيضاً من الباطن، و الروح فيكون جسده خاشعاً متعبداً و قلبه و روحه منشغلان عن معنى العبادة، بهذا الجسد و أعماله، فتسقط هذه العبادة عن القيمة و المنزلة و لا تصل إلى أكثر من محلها و هو الجسد، فيكون عمله الظاهر صالحاً إلا أن باطنه سيئاً و متعفناً، وجهه متوجه لجهة القبلة و قلبه متوجه للدنيا فيخالف ظاهره باطنه.

الإخلاص في العبادة:

عنه علیه السلام:

«إنه لا ينفع عبداً و إن أجهد نفسه و أخلص فعله أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته ...» (1).

إن اخلاص الفعل من الشوائب دون اخلاص القلب من غير الله لا ينفع العبد مهما عبد و اجتهد لأن الله يريد من العبد القلب كما مر.

و الشرك العملي في العبادة أن يريد العبد بعبادته رضا المخلوق، و لا يكون قلبه في هذه العبادة متوجها إلى الله وحده، فهذه العبادة باطلة و غير مقبولة و غير نافعة، و هذا الشرك العملي معصية محرمة.

و قد مر أنه روي عنه علیه السلام:

«اعتصم بالله الذي خلقك ورزقك وسواك، وليكن له تعبَّدك» (2).

ص: 42


1- ن.م. ح 94
2- ن م ح 20 پ

و للإخلاص مراتب منها:

المرتبة الأولى: أن لا يكون رياء و سمعة وهي بمثابة الشرط في صحة العبادة وقبولها و خلافها شرك عملي و معصية توجب بطلان العمل العبادي.

لذلك يقول الإمام علیه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة:

وعنه علیه السلام:

«ليس الخير في أن يكثر مالك و ولدك ... و أن تباهي الناس بعبادة ربك ...» (1).

«يأتي على الناس زمان يُعدَّون الصدقة فيه غُرماً، وصلة الرحم مناً و العبادة استطالة على الناس» (2).

المرتبة الثانية: مرتبة التجار، و هي المستفادة من الحديث المروي عنه علیه السلام في نهج البلاغة:

«إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، و إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» (3).

فبعض العباد يعبدون اللّه عبادة التجار، يتاجرون مع الله مقابل جنته، و لولا وجود الجنة لما عبدوه و لما أطاعوه، فكان دافعهم إلى الأعمال هو رغبتهم بما وعد الله من النعم الأخروية و الملذات في الجنة، وهذه المرتبة فيها شائبة الشرك العملي لأن العابد يريد فيها غير الله و هو الجنة، إلا أنه وإن كان يريد الجنة وهي غير الله فهو يريد ما عند الله وليس ما عند سواه. و قد قبل الله (عزّ و جلّ) هذه العبادة بلطفه وسعة رحمته.

المرتبة الثالثة: مرتبة الخائفين العبيد، و لعل هذه المرتبة أقرب إلى العبودية الخالصة من سابقتها لأن حالة الخضوع تبرز فيها أكثر، و لكن عبادة الخوف لا تخلو أيضاً من شائبة الشرك، غفره الله و قبله لأنه خوف ما عند الله أيضاً، بخلاف الخوف من غير الله الذي يدفع الإنسان إلى ترك عبادة الله.

المرتبة الرابعة: مرتبة الأحرار الذين يعبر عن عبادتهم تارة بعبادة الشكر لله (عزّ و جلّ). تكون غايته رد الجميل بالجميل و الشكر على الجميل و هذه مرتبة من الخلوص حيث

ص: 43


1- ن.م خطبة 153
2- ن.م. ك 31
3- ن.م، ح 237

أنها مقابل شيء سبق به الله عبده، و لكن لو لم يكن هناك شيء سبق الله به عبده هل كان عبده؟ فهناك عبادة أعلى وهي عبادة الله لأنه أهل و يمكن أن تكون هي المرتبة الخامسة، فسواء أعطى الله أم لم يعطِ هو يستحق العبادة و هو لها أهل. لذلك فهو لا يعبده رداً للجميل فقط، بل عرف الله و عرف صفاته و وجده أهلا للعبادة فعبده.

هذه هي العبادة وهذه هي مراتبها وآثارها، فطوبى للعابدين حقاً.

خلاصة الدرس

1- إن العبادة هي قضاء حق الله على العبد فإن من حق الخالق الموجود أن يعبده المخلوق دون غيره، و ليس من باب الاضطرار بل من باب أدء حق ذلك الخالق.

2- ليس معنى العبادة أن يرهق الإنسان نفسه بالأعمال العبادية و الذكر و التهجد حتى يصيبه النصب، إلى أن تصير هذه العبادة وقتاً للتعب و بذل الجهد، بل العبادة هي أن يتوجه الإنسان بكل قلبه بالإخلاص في أداء الواجبات كالصلاة و الصوم وصلة الرحم و غيرها بالرفق و اللين لا بالإجبار و الإكراه.

3 - إن اخلاص الفعل العبادي من الشوائب دون اخلاص القلب من غير الله لا ينفع العبد مهما عبد و اجتهد لأن الله يريد من العبد القلب المخلص له وحده.

4 - للإخلاص عدة مراتب منها:

1 - خلو القلب من الرياء المبطل للأعمال العبادية.

2 - مرتبة التجار، و هي المستفادة من الحديث المروي عنه علیه السلام في نهج البلاغة:

«إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار».

3 - مرتبة الخائفين العبيد، و لعل هذه المرتبة أقرب إلى العبودية الخالصة من سابقتها لأن حالة الخضوع لله تعالى فيها أكثر من حالة عبادة التجار.

ص: 44

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنَّ عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق طاعته».

«و خادع نفسك في العبادة، و ارفق بها، و لا تقهرها، و خذ عفوها».

يأتي على الناس زمان يُعدَّون الصدقة فيه غُرماً، وصلة الرحم مناً و العبادة استطالة على الناس».

اسئلة حول الدرس

1 - ما هي الطرق الخمسة للعبادة والتي تستفد من كلام أمير المؤمنين علیه السلام؟

2 - ينصح أمير المؤمنين علیه السلام الناس بأسلوب معين في العبادة ما هو هذا الأسلوب؟

3 - ما هي مراتب الاخلاص؟

4 - ما المقصود بعبادة الأحرار؟

5- كيف تكون العبادة الفكرية و القلبية؟

للمطالعة

عجائب أحكام أمير المؤمنين علیه السلام

كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين علیه السلام للمجتهد الأكبر السيد محسن الأمين الحسيني العاملي قدس سره.

كتاب واقع في مئة و سبع صفحات غني بالقصص العجيبة التي رويت عن أمير المؤمنين علیه السلام في القضاء و الأحكام و الحدود و غيرها من الأمور التي تميز بها علیه السلام.

و قد قسم الكتاب بحسب التسلسل الزمني و التاريخي و بحسب المراحل المفصلية التي مر بها تاريخ أمير المؤمنين علیه السلام و هذه المراحل هي:

1 - العصر الأول من الدعوة أي قضاياه في حياة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 45

2 - قضايا الإمام علیه السلام في زمن الخلفاء.

3 - ثم قضاياه في زمن حكمه علیه السلام

كتاب فيه من التشويق و الجاذبية ما يمنع القارىء من تركه و يثير عجب و دهشة من لم يحط بحياة هذا الإنسان الذي عقمت الأرحام عن أن تأتي بمثله.

ص: 46

للمطالعة: حب علي علیه السلام

في كتاب أمالي الشيخ قدس سره: بأسانيده المفصّلة عن صالح بن ميثم التّمار (رحمه الله) قال: وجدت في كتاب ميثم رضوان الله عليه يقول: تمسّينا ليلة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال لنا: ليس من عبد امتحن الله قلبه بالإيمان إلّا أصبح يجد مودّتنا على قلبه، ولا أصبح عبد ممّن سخط الله عليه إلّا أصبح يجد بغضنا على قلبه، فأصبحنا نفرح بحبّ المحبّ لنا و نعرف بغض المبغض لنا، و أصبح محبّنا مغتبطاً بحبّنا برحمة من الله ينتظرها كلّ يوم، و أصبح مبغضنا، يؤسّس بنيانه على شفا جرف هار، فكأنّ ذلك الشفا قد انهار به في نار جهنّم، و كأنّ أبواب الرحمة قد فتحت لأصحاب الرحمة، فهنيئاً لأصحاب الرحمة رحمتهم، و تعساً لأهل النار مثواهم.

إنّ عبداً لن يقصّر فى حبّنا (1) لخير جعله الله في قلبه ولن يحبّنا من يحبّ مبغضنا، و إنّ ذلك لا يجتمع في قلب واحد (و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (2) يحبّ بهذا قوماً، و يحبّ بالآخر عدوّهم، و الذي يحبّنا فهو يخلص حبّنا كما يخلص الذهب لا غشّ فيه (3)، نحن النجباء، و أفراطنا أفراط الأنبياء، و أنا وصيّ الأوصياء، و أنا حزب الله و رسوله علیه السلام و الفئة الباغية حزب الشيطان، فمن أحبّ أن يعلم (4) حاله في حبّنا فليمتحن قلبه، فإن وجد فيه حبّ من ألّب علينا (5) فليعلم أن الله عدوّه و جبرائيل و ميكائيل وأن الله عدوّ للكافرين (6).

ص: 47


1- في تأويل الآيات: وإنّه ليس عبد من عبيد الله يقصر في حبّنا
2- سورة الأحزاب، الآية: 4
3- في تأويل الآيات: كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه
4- في نسخة: يعرف، وفي أخرى يمتحن
5- أي جمع الناس علينا، من ألّب الإبل و الجيش: جمعهم
6- القطرة، ج 1، ص 234

عکس

ص: 48

الدرس الخامس: الحق في نهج البلاغة

امكان معرفة الحق:

إن البشر كلهم منذ بداية خلقهم و على اختلاف توجهاتهم و عقائدهم و آرائهم يدعون أنهم على الحق، و أن الحق معهم و لهم، و على هذا الأساس يقاتلون بعضهم البعض و تراق الدماء وتزهق الأرواح، حتى وصل الأمر بالبعض للقول بأن ليس هناك شيء اسمه الحق و الحقيقة، فالكل يدعيه من وجهة نظره و قالوا بأن الحق من الأمور النسبية التي تختلف من شخص إلى آخر بحسب مقياس كل شخص أو فئة أو أمة، فتاهوا في معناه، وإمكان معرفته.

الإمام علي علیه السلام الذي قال فيه النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

«علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه كيفما دار».

تكلم عن الحق كثيراً و عن امكانية معرفته و حدد معناه و مميزاته عن الباطل و تكلم عن أهل الباطل وصفاتهم وتركِ الحق و آثاره.

ففي نهج البلاغة عنه علیه السلام في خطبة له يصف بها الحق يقول:

«الحق أوسع الأشياء في التواصف، و أضيقها في التناصف» (1)

و كأنه علیه السلام يؤكد أن معنى الحق قد يختلف فيه لسعة هذا المعنى و اختلافه من جهة إلى جهة إلا أنه يبين كما سيأتي أن له معنى ثابتاً ويبين أن الله (عزّ وجلّ) خلق الإنسان و أعطاه القدرة على معرفة الحق و الباطل و التمييز بينهما.

عنه علیه السلام:

«ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها و فِكَرٍ يتصرف بها و جوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل ...» (2)

ص: 49


1- عبده، محمد نهج البلاغة خطبة 209
2- ن.م.

وعنه علیه السلام :

«قد انجابت السرائر لأهل البصائر، و وضحت حجة الحق لخاطبها (لأهلها) ...» (1)

فحجة الحق إنما تتضح لأهل البصائر و تنكشف لهم السرائر و لكن بشرط هو أن يطلب الحق فالخاطب هو السائر عليها، فمن لم يسر باتجاه الحق و على الطريق الموصل إلى الحق الذي هو محجته فلن يصل إليه، و إنما سيصل إلى ما يسير إليه، و إلى ما يوصله إلى الطريق الذي يسلكه إن حقاً فحق و إن باطلاً فباطل، لذلك فمن ينفرد من الحق و يهرب منه لن يستطيع أن يعرفه أو أن يعرف أهله.

عنه علیه السلام:

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، و الباري من ذي السَّقَم» (2).

ثم إن الله (عزَّ وجلَّ) عندما أعطى الإنسان امكانية و قدرة معرفة الحق من الباطل، فلا بد أن يوضح له طريق الحق الموصل إلى السعادة و البقاء الذي إليه يسعى الإنسان و طريق الباطل الموصل إلى الشقاء و الفناء الذي منه يفر الإنسان.

و إلى هذا المعنى يشير كلامه المروي عنه علیه السلام في نهج البلاغة:

«عباد الله! الله! الله! في أعزّ الأنفس عليكم و احبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، و أنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء» (3).

فالله أوضح سبيل الحق إلى السعادة و هي بالتزود لأيام البقاء في أيام الفناء، و أنار طريق الحق بحيث يستطيع الإنسان أن يميز بين الشقوة والسعادة و بين الفناء و البقاء.

بناء على الحديث السابق تعرف معنى الحقّ وهو الثابت الباقي كما هو معنى الحق اللغة، وما يفنى هو الباطل الفاني كما هو معنى الباطل في اللغة، و عليه يدور معنى الحق و الباطل مدار البقاء و الاستمرار و الخلود. أو الفناء و الزوال و البطلان.

إن الحق لا يدور مدار آراء الناس و معتقداتهم حتى يستطيع الإنسان أن ينسب للآخر

ص: 50


1- ن.م. خطبة.108
2- ن.م خطبة 147
3- مس خطبة 157

الذي يخالفه اسم الباطل، فليس الشخص نفسه هو ميزان الحق بل الحق ثابت و هو واحد بالنسبة إلى جميع البشر لأن الفاني فانٍ بالنسبة لجميع البشر و الباقي باقٍ بالنسبة إليهم جميعاً فلا يختلف الحق من شخص إلى آخر، فهو موجود و علينا أن نتعرف عليه كما هو السابق لا كما نفهمه.

و هنا يبين الإمام علیه السلام فيما روي عنه في النهج أيضاً قوله:

«فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون.» (1).

معنى الحق ... و ما يميزه عن الباطل:

1 - الباقي و الثابت: هذا أول ما يميز الحق عن الباطل و هو معنى الحق الذي هو الباقي و الثابت، و معنى الباطل و هو الفاني والزائل.

2 - الحق هو الله: و ما دونه باطل كما روي عنه علیه السلام:

«هو الله الحق المبين أحق و أبين».

لأن الله هو وحده الباقي و كل ما سواه فان وإن كان يبقى فهو بالله (عزّ وجلَّ).

3- الآخرة هي الحق: و يبين علیه السلام ميزة أخرى للباطل مستفادة من الميزة الأولى و هي أن الدنيا هي الباطلة و الآخرة هي الحق. باعتبار أن الدنيا هي الفانية فمن تعلق بها و عمل لها بطل و بطلت أعماله و كان من الهالكين الفانين في العذاب خالداً و باطل ما كانوا يعملون، و من عمل للآخرة خلد و خلدت أعماله وبقيت و كانت الباقيات الصالحات.

عنه علیه السلام:

«أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى و طول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، و أما طول الأمل فينسي الآخرة ألا و إن الدنيا قد ولّت حذَّاء (2)، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء اصطبَّها صاحبها، ألا و إن الآخرة قد أقبلت و لكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه (بأمه) يوم القيامة ...» (3).

ص: 51


1- ن.م، خطبة 154، ص 177
2- حذاء: مسرعة
3- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة حديث 42

نرى أنه علیه السلام قد اعتبر الدنيا فانية و مولية بسرعة، والآخرة باقية، لذلك اعتبر أن اتباع أهواء النفس و مشتهياتها الدنيوية تصد عن الحق الباقي و منه الآخرة، و طول الأمل يشغل الإنسان بالدنيا وينسيه الآخرة.

و لهذا ينهى أبا ذر رضوان الله عليه عن قبول دنيا الحاكمين و أمره أن يستوحش منها لأنها باطل، و أن يستأنس بالحق الذي هو غير الدنيا و أهلها و هو الله و الآخرة.

عنه علیه السلام:

«لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، و لو قرضت منها لأمَّنوك» (1).

فقد جعل قبوله لدنياهم باطلاً و أمره أن يستوحش منه بل أن لا يستوحش من غيره، و تركه لدنياهم حقاً يجب أن يستأنس به و هو الآخرة و ما بعد الحق إلا الضلال.

أسباب اشتباه الحق بالباطل:

لقد مر أن الحق واضح، و أن الله (عزّ و جلّ) قد أوضح طرقه، و أعطى الإنسان ما يمكنه من معرفته؛ فلماذا إذن يضل عنه كثير من الناس أو يشبهون به، فيخلطون بينه و بين الباطل؟

الإمام علیه السلام يجيب عن هذا التساؤل فيما روي عنه في نهج البلاغة:

أولاً: أنه وكما سيأتي فيما بعد هناك أشخاص يدعون العلم يضلّون الناس عندما يفسرون كتاب اللّه بآرائهم الشخصية دون علم و بينة و بدافع الهوى وحب النفس و الدنيا و التقرب للسلاطين لجمع المال و الدنيا و الحصول على المنصب و نحو ذلك.

عنه علیه السلام:

«وآخر قد تسمى عالماً و ليس به فاقتبس جهائل من جهال و أضاليل من ضُلَّال، و نصب للناس أشراكاً من حبائل غرور و قول زور، حمل الكتاب على آرائه، و عطف الحق على أهوائه ...» (2).

ص: 52


1- ن.م خطبة 130
2- م.س. خطبة.87

ثانياً - اختلاط الحق بالباطل: قد يكون هناك تشابه بين الحق و الباطل فيشتبه الإنسان بينهما كما لو رأى الدنيا و طول بقائها ومدتها فيتوهم أنها باقية، فيشتبه بينهما وبين الآخرة، و قد يختلط الحق بالباطل كما لو علم الإنسان بأن الله سبحانه رحيم و رحمته واسعة و هذا أمر حق، فيجوز لنفسه المعاصي بدليل رحمة الله، أو أن يستصغر بعض المعاصي باعتبار أن الله (عز وجل) لا يهتم بها، فيخلط الحق بالباطل فيقع تدريجياً في المعاصي و يعتاد عليها، وقد يصل به الأمر إلى إنكار العقائد أو الواجبات الإلهية فيقع في الكفر.

لذلك حتى لا يقع الإنسان بالباطل لا بد أن يلتفت الإنسان، فكما يجب أن يختار الحق في ما يعتقد به كذلك فيما يفعله، و خصوصاً إذا خلط أهوائه بفهم الحق فإنه قطعاً لن يصل إليه.

عنه علیه السلام:

«إنما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تتبع، و أحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، و يتولى عليها رجال على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج

الحق لم يخف على المرتادين، و لو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، و ينجو (الذين سبقت لهم منا الحسنى)» (1).

إذن الفتن و الضلالات سببها الأهواء و حب الدنيا، التي تختلط بالحق، و تجعل الإنسان يصدر أحكاماً مبتدعة جديدة مخالفة لكتاب الله، و المبتدع في الدين يعمل بغير الدين و يسن سنة غيره، فإن لم يكن هو على غير الدين فإنه سيفتح باباً لغير أهل الدين يتولوا على أهله و يضلّوهم كما تعلم من تاريخ الإسلام الذي تحول فيه إلى ملكية وراثية يرثها أهل الفسق و الخمر و الفساد.

ثالثاً - تغليب الباطل على الحق، و رفض الحق و قبول الباطل يؤدي إلى انتصار

ص: 53


1- ن.م.س، خطبة 4

الباطل و ظهوره و دفن الحق تحته بل قد يصل إلى درجة يحتاج اخراج الحق إلى جهد أكبر ممن ينقب الصخر ليخرج الماء.

عنها علیه السلام:

«أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، و لم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، و لم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم تُهتُم متاه بني إسرائيل، و لعمري! ليضعفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم ...» (1).

فهم قد تاهوا بسبب تقديمهم و تغليبهم للباطل بترك نصرتهم للحق، فأضاعوه و تضاعف ضياعهم و تيههم أشد من بني إسرائيل، و دفنوا الحق تحت التراب بل تحت الصخر، و صعبوا مهمة إخراج الحق و إظهاره حتى صار بحاجة إلى بقر الباطل أو نقبه ليظهر الحق.

عنها علیه السلام:

«و أيم الله، لأبقُرَنَّ الباطل حتى أُخرجَ الحق من خاصرته» (2).

و عنه علیه السلام أيضاً:

«فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه» (3).

رابعاً: ترك أئمة الهدى علیه السلام:

في الحديث الذي مر سابقاً عنه علیه السلام يقول فيه:

« ... و لعمري، ليضعفنَّ لكم التيه بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحق وراء ظهوركم، و قطعتم الأدنى و وصلتم الأبعد، و اعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، و كفيتم مؤونة الاعتساف، و نبذتم الثقل الفادح عن الأعناق» (4).

فهم بتركهم للدعاة إلى الله ضلوا عن منهاج الرسول و أوقعوا أنفسهم في التعسّف و تحت ثقل و نير ظلم ولاة الجور.

ص: 54


1- خطبة: 166
2- م.س. خطبة 104
3- ن.م خطبة 33
4- ن.م خطبة 166

وعنه علیه السلام:

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، و الباري من ذي السَّقم، واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا

بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله» (1).

فما لم يميز الإنسان بين من أمسك بالرشد و من تركه، و من أخذ بالكتاب ومن نقضه، فلن يستطيع الاقتراب من الحق بل سينفر من الحق و يهرب منه هرب الصحيح من الأجرب، فإذا أراد أن يميز فليلجأ إلى أهل الرشد و أهل الكتاب فهم يولّونه إلى الحق و يهدونه إليه.

خلاصة الدرس

1 - إن البشر كلهم منذ بداية خلقهم و على اختلاف توجهاتهم و عقائدهم و آرائهم يدعون أنهم على الحق.

2 - إن الله (عزَّ وجلَّ) أعطى الإنسان امكانية و قدرة معرفة الحق من الباطل.

3 - إن الحق لا يدور مدار آراء الناس و معتقداتهم حتى يستطيع الإنسان أن ينسب للآخر الذي يخالفه اسم الباطل، فليس الشخص نفسه هو ميزان الحق بل الحق ثابت و هو واحد بالنسبة إلى جميع البشر.

4 - من معاني الحق:

1 - الباقي و الثابت.

2 - الله هو الحق و الحق من أسمائه.

3 - الآخرة من معاني الحق لأنها هي الثابتة و الدنيا إلى زوال.

5 - قد يشتبه بعض الناس في تميز الحق من الباطل و السبب في ذلك الشبهات التي

ص: 55


1- نم، خطبة 147

قد تطرأ على ذهن الإنسان ولم يهتد لها إلى حل بحدود علمه، و من الأسباب أيضا أن يفسر الإنسان الدين بآرائه من دون أن يستند إلى الدليل والحجة وإنما بدافع الهوى وحب النفس.

6- إن ترك أئمة الهدى و العلماء يؤدي بالناس إلى الضياع عن طريق الحق و سلوك الطرق الباطلة التي لا توصل لمرضاة الله تعالى.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقَم».

«فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، و أنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء».

«أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى و طول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، و أما طول الأمل فينسي الآخرة».

أسئلة حول الدرس

1 - ما هو معنى الحق؟

2 - ما الذي يميز الحق عن الباطل؟

3 - لماذا يخلط بعض الناس بين الحق و الباطل؟

4 - ما هو السبب الأساسي للفتن والضلالات؟

5 - ما هو الأثر الذي ينتج عن الابتعاد عن أئمة الهدى؟

ص: 56

للمطالعة

عيد الغدير

كتاب عيد الغدير لمؤلفه الكاتب المسيحي الأستاذ بولس سلامة.

بخلاف ما قد ينقدح في ذهن قارىء هذا العنوان، من أن هذا الكتاب متخصص في الحديث عن حادثة الغدير فقط، إلا أن الحقيقة أن الكتاب سمي بأحد فصوله التي تتحدث عن يوم الغدير. وهذا الكتاب الرائع على أقل تقدير كتاب يروي مفاصل تأريخية من حياة أمير المؤمنين علیه السلام، لكن بطريقة الشعر القريض المقفى، الذي يتميز بفخامة العبارة و سهولتها في آن معا و احتواءها على الصور الشعرية الرائعة في تصوير الأحداث و الحوارات و الانفاعالات النفسية و غيرها ولو أنصف الحكم فإن هذا الكتاب هو من أروع الأدبيات التي كتبت عن أمير المؤمنين علیه السلام، يقول الكاتب في مقدمة الديوان: فيا أبا الحسن ماذا أقول فيك و قد قال الكتاب في المتنبي: (إنه مالىء الدنيا وشاغل الناس)، وإن هو إلا شاعر له حفنة من الدر إزاء تلال من الحجارة، وما شخصيته حيال عظمتك إلا مدرة على النيل خجلى من عظمة الأهرام.

حقاً إن البيان ليسف، وإن شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام ولكنها حصاة مخضوبة بدم الحسين الغالي، فتقبل هذه الملحمة، وانظر من رفارف الخلد إلى عاجز شرف قلمه بذكرك. و من الأشعار اللطيفة التي نظمها الشاعر الكبير في هذا الديوان قوله:

جلجل الحق في المسيحي حتى *** عد من فرط حبه علويا

أنا من يعشق البطولة والإلهام *** والعدل والخلق السويا

فإذا لم يكن علي نبيا *** فلقد كان خلقه نبويا

ويقول في موضع آخر من الديوان:

هو فخر التأريخ لا فخر شعبٍ *** يدعيه ويسطفيه وليا

لا تقل شيعةٌ هواة عليً *** إن في كل منصف شيعيا

إنما الشمس للنواظر عيد *** كل طرف يرى الشعاع السنيا

ص: 57

للمطالعة: الحق والباطل «كلمة حق عند سلطان جائر»

أروى بنت الحارث بن عبد المطلب

قال ابن عبد البرِّ: إنَّ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلما رآها معاوية قال: مرحباً بك و أهلاً يا عمّة! فكيف كنت بعدنا؟

فقالت: يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة، و أسأت لابن عمِّك الصحبة، وتسمَّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقِّك من غير دين كان منك و لا من آبائك، و لا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأتعس الله منكم الجدود، و أضرع الله منكم الخدود، وردّ الحق إلى أهله ولو كره المشركون، و كانت كلمتنا العليا، و نبينا صلی الله علیه و آله و سلم هو المنصور، فولّيتم علينا بعده، تحتجّون بقرابتكم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و نحن أقرب إليه منكم و أولى بهذا الأمر، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، و كان عليُّ بن أبي طالب علیه السلام بعد نبيَّنا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنَّة، و غايتكم النَّار.

إنَّ عليّاً أدَّى الأمانة، و عمل بأمر الله، و أخذ به، و أنت ضيَّعت أمانتك، و خنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقّه، و قد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها و بيَّنها فلم تأخذ بها؛ ودعانا عليُّ إلى أخذ حقّنا الّذي فرض الله لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، و ما سألتك مالك شيئاً فتمنَّ به إنَّما سألتك من حقّنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقّنا؛ أتذكر عليّاً فضَّ الله فاك و أجهد بلاغك؟ ثمَّ علا بكاؤها و قالت:

ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا و أبكي أمير المؤمنينا

رُزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السَّفينا

و من لبس النعال أو احتذاها *** و من قرأ المثاني والمئينا

إذ استقبلت وجه أبي حسين *** رأيت البدر راع النّاظرينا

ولا والله لا أنسى عليّاً *** وحسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير النّاس طرّاً أجمعينا

فأمر معاوية لها بستّة آلاف دينار، و قال لها: يا عمَّة أنفقي هذه فيما تحبِّين ...

ص: 58

و في رواية قال لها: يا عمّة! عفا الله عما سلف، يا خاله هات حاجتك، قالت: ما لي إليك حاجة؛ و خرجت عنه، فقال معاوية لأصحابه: و الله لو كلّمها من في مجلسي جميعاً الأجابت كلَّ واحد بغير ما تجيب به الآخر، و إنَّ نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم» (1).

ص: 59


1- ابن عبد ربّه: العقد الفريد، ج 1، ص 457، و التمس: الإنحطاط والجدود الحظوظ، وأضرع أذل وترم: تبلی

عکس

ص: 60

الدرس السادس: أهل الحق و أهل الباطل

أهل الخطايا و أهل التقوى:

إن لأهل الحق صفات يعرفون بها، و كذلك أهل الباطل فلكل منهما أهل كما روي عنه علیه السلام:

«ألا و أن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها و خُلعت لجمها فتقحمت بهم في النار، إلا و أن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة، حق و باطل و لكل أهل ...» (1).

في هذا الكلام قسم علیه السلام الناس إلى قسمين لا ثالث لهما أهل الحق و أهل الباطل، و ذكر مميزات لكل منهما، فأهل الباطل يتميزون بأنهم ركبوا الخطايا، فلم يستطيعوا السيطرة عليها لأن الشهوات هي التي تدفع الإنسان إلى الخطايا، فإذا سلم الإنسان نفسه لها سلبته عقله و تملمت به و أفلت زمام نفسه و قيادها من يده فكانت كالخيل الشمس الصعبة التي لا يستطيع صاحبها التحكم بها، و من ترك العقل كان كمن أفلت الزمام من يده فقادته نفسه إلى الهلكة، ورمته في نار شهواته.

هؤلاء كان الحق تبعاً لأهواهم ولم تكن أهواؤهم تابعة للحق فيميلوا إليه ويعملوا له، و تكون أهواؤهم فيه، لذلك تركوا كتاب الله كما تركوا العقل، و عملوا فيه بآرائهم.

كما ورد عنه علیه السلام في صفات الفساق:

«قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه ...» (2).

أما أهل التقوى فاعطوا قياد أنفسهم و لجامها للعقل، فأمسكوا بها، و ذلّت لهم، فكانت كالخيل المدربة الذليلة و السهلة، فابتعدوا بها عن الهالك و اتقوا بها الشهوات فنجوا من العذاب و نالوا السعادة في الدنيا و الآخرة.

ص: 61


1- ن.م خطبة 16
2- ن.م. خطبة 87

أهل اليقين وأهل العمى:

كان أولياء الله على يقين و طمأنينة لا تضلهم الشبهات، ولا تغويهم الشهوات على عكس أعداء الله الذين لا دليل لهم إلا العمى.

عنها علیه السلام:

«إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، و دليلهم سمت الهدى، و أما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال و دليلهم العمى» (1).

لذلك كان أهل اليقين من أهل البصائر، وضح الطريق أمامهم و استنار فسلكوا سبيل الحق و نهجه عنه علیه السلام:

«قد انجابت السرائر لأهل البصائر و وضحت محجة الحق لخابطها ...» (2).

فمن كان من أهل التقوى كان العدل هو ديدنه و أول ما تظهر آثار عدله على نفسه حيث ينهاها عن الهوى و اتباع الشهوات و الميل إليها، و يقول الحق و يعمل به.

أهل العدل و أهل الهوى:

عنه علیه السلام في صفات أهل التقوى:

«فكان أول عدله نفي الهدى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به» (3).

فهو يعمل بالحق ولو كان على خلاف أهوائه ومصالحه وفائدته بل حتى لو جر عليه المصائب، والابتلاءات المختلفة ويترك الباطل مهما حقق له من المكاسب و الفوائد و متاع الدنيا و مناصبها و تسبب له بالفقر و النقص في المال. من هنا كان من يمتاز بهذه الصفة من أفضل العباد عند الله (عزَّ وجلَّ).

فقد ورد عنه علیه السلام:

«إن أفضل الناس عند الله من كان العمل أحب إليه و إن نقصه وكرثه، من الباطل و إن جرّ إليه مائدة وزاده» (4).

ص: 62


1- م.س خطبة 38
2- ن.م خطبة 108
3- ن.م خطبة 87
4- ن.م خطبة.125

ولذلك ينهى الإمام علیه السلام من أراد أن يكون من أهل الحق عن الأنس بغير الحق، و أن لا يستوحش إلا من الباطل، لأن الباطل كما مر مصيره إلى النار و الهلاك ولو عرفه المرء لاستوحش منه، و الحق مصيره إلى الجنة و السعادة و اليقين.

عنه علیه السلام:

«لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك و لو قرضت منها لأمنوك ...» (1).

فمن قبل الدنيا يحبه أهل الباطل و يعطونه الأمان.

أهل الجهل وأهل الباطل:

لكن هناك من الناس من يطلب الحق إلا أنه يخطئ فيقع في الباطل بسبب جهله، ولأنه لم يحصن نفسه بالعلم ليستطيع التمييز بين الحق و سراطه و أهله، و الباطل وسبله وأهله وهناك من يطلب الباطل فيدركه، فهذا من نيته منذ البداية طلب الباطل على عكس الأول وهذا هو الفرق بينهما، لذلك لا يستوي هؤلاء في الحكم، فإن من طلب الحق فوقع جهلاً في الباطل، لو عرف أنه باطل لتركه، دون من قصد الباطل و سعى للوصول إليه.

لذلك روى أنه علیه السلام نهى من قتال الخوارج من بعده بقوله:

«لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ...» (2).

الإفراط في الحب والبغض:

وهناك من الناس من يذهب به حبّه إلى درجة الافراط؛ لما مر من عدم اتزانه وتقيده وانقياده للعقل، فيصل به إلى درجة الغلو واعطاء العبد صفات إلهية، أو نسبة الألوهية إليه أو الربوبية، مما يعتبر كفراً وشركاً.

ص: 63


1- ن.م خطبة 130
2- م.س خطبة 61

والبعض الآخر بسبب الإفراط أيضاً، وعدم التزامه بقواعد وموازين واقعية وصادقة وبعيدة عن الأهواء الشخصية، والنوازع القبلية أو العرفية أو غيرها، يصل به البغض إلى حدٍّ يعادي أولياء الله ويقاتلهم ويبعد الناس عنهم.

كلا هذين الشخصين من أهل الباطل وهما من الهالكين كما عبر الإمام في الحديث المروي عنه:

«وسيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق ...» (1).

آثار ترك الحق:

مما مر يظهر أن للعمل بالحق أو تركه آثار و نتائج، فلا شك أن ترك الحق له نتائج سلبية و سيئة على صعيد الشخص و المجتمع وفي الدنيا والآخرة، فنورد بعض هذه النتائج بحسب ما ورد في نهج البلاغة:

1 - الوقوع في مفاسد الباطل:

و هذا أمر واضح و نتيجة حتمية فما بعد الحق إلا الضلال.

عنه علیه السلام :

«ألا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ألا و من لا يستقيم به الهدى يجره الضلال إلى الردى» (2).

فالنتيجة إذن أن يضره الباطل و أول أضراره أن يجره إلى الردى، ويبعده عن الاستقامة و الهداية.

2 - ترك الدفاع و الممانعة عن البلاد، و عدم نصرة الأئمة:

الحق لا يدرك إلا بالسعي والبذل والعطاء، فمن لم يكن مراده الحق، ولم يكن جدّياً ومجدّاً إرادة الحق، وكان له أهواء أخرى تحركه، فإن نتائج ذلك أن لا يدافع عن الحق ويغفل عن منافعه ويقصر نظره على المنافع الآنية، فلا يدافع عن داره، ولا يقاتل مع أمير

ص: 64


1- ن.م خطبة 127
2- ن.م، خطبة 28

الحق و إمام الحق و قائد الحق، فإن لم يدافع عن داره و لا يقاتل مع أميره و مولاه الحق، فهل سيدافع عن دار غيره و بلاد غيره، و مع أي إمام سيقاتل إن لم يقاتل مع الحق.

عنه علیه السلام

«لا يدرك الحق إلّا بالجد، أي دارٍ بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون ...» (1).

3 - استيلاء الشيطان على الإنسان:

هذا ما نستفيده مما روي عنه علیه السلام:

« ... ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، و من هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ...» (2).

فإن ترك الحق و اتباع الباطل ولو لإشتباهه بالحق يوقع الإنسان في شباك الشيطان ويستولي عليه ويتحكم به حتى يصير من أوليائه وأنصاره وعمّاله.

4 - الوقوع في المغالاة أو المعاداة و البغض:

كما مر في ما روي عنه علیه السلام في هلاك الصنفين: المحب و المبغض قوله:

«هلك فيّ رجلان محب غال و مبغض قال» (3).

5 - زوال النعمة

عنه علیه السلام :

«إن لله في كل نعمة حقاً فمن أداه زاده منها، و من قصر فيه خاطر بزوال نعمته» (4).

الله (عزّ و جلّ) وعد عباده بنصرتهم و باغداق النعم عليهم إذا نصروه و أقاموا حكمه و استقاموا على طريقته و أطاعوه، بل حتى لو لم يعبد الله عباده، فإنهم إن أقاموا الحق والعدل بينهم ستستقيم حياتهم وتصلح ويعمها الخير والصلاح والطمأنينة، ولا يخاف أحد جوراً أو ظلماً أو نقصاً وعمّت الرحمة الإلهية:

ص: 65


1- م.س خطبة.29
2- ن.م. خطبة.ذ.
3- ن.م. خطبة.127
4- م.س خطبة 166

«رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه» (1).

فإذا تركوا الحق ولم يؤدوه إلى الله و إلى بعضهم البعض زالت النعم، و عمَّ الظلم، ولم تصل الحقوق إلى أهلها، و شب الخلاف و التنازع والتباغض والتقاتل والتفرق و هكذا إلى نهاية الفساد.

6 - الشقاء اللازم:

عنه علیه السلام:

«فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، و أنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء الأيام البقاء» (2).

فمن سار في طريق الحق الواضح و غير الخفي الذي أضاءه الله و أوضحه، من خلال العقل الذي هو الدليل الباطن و عن طريق الهداة الأنبياء الأئمة علیهم السلام فإن حصاده هو السعادة الدائمة، و بغير ذلك يكون جزاؤه و ثمار عمله ملازمة الشقاء له في الدنيا والآخرة، في الدنيا بهمومها والشقاء في حفظها، و في الآخرة بعذابها و عقابها وحسابها.

لذلك و لما مر كله يجب على الإنسان أن يعرف الحق و أنه ما يبقى، و يصدقه و ينصر بالأعمال فإنها الباقيات، ويعرف أهله فهم الخالدون في السعادة الدائمة و النعيم المقيم، ويعرف أسباب الجهل به و نتائج تركه وخذلانه فيتقيها بالعلم والعمل.

ص: 66


1- ن.م كتاب 205
2- ن.م. خطبة 157

خلاصة الدرس

1 - من كان من أهل التقوى كان العدل هو ديدنه و أول ما تظهر آثار عدله على نفسه حيث ينهاها عن الهوى و اتباع الشهوات و الميل إليها، و يقول الحق و يعمل به.

2 - إن الإنسان المؤمن يعمل بالحق ولو كان على خلاف أهوائه و مصالحه، بل حتى لو جر عليه المصائب، ويترك الباطل مهما حقق له من المكاسب والفوائد ومتاع الدنيا ومناصبها.

3 - هناك من الناس من يذهب به حبّه إلى درجة الافراط، وذلك بسبب عدم اتزان عواطفه و انقيادها للعقل، فيصل به إلى درجة الغلو واعطاء العبد صفات إلهية، أو نسبة الألوهية إليه أو الربوبية، مما يعتبر كفراً و شركاً.

4 - وهناك بعض الناس بسبب إفراطهم وعدم التزامهم بقواعد و موازين واقعية و صادقة و بعيدة عن الأهواء الشخصية، و بسبب النوازع القبلية أو العرفية أو غيرها، يصل بهم البغض إلى حدٍّ يعادي أولياء الله ويقاتلهم ويبعد الناس عنهم.

5 - كلا هذين الصنفين من الناس من أهل الباطل و هما من الهالكين.

6 - من آثار ترك الحق:

1 - الوقوع في الباطل و مفاسده لأنه لا حد وسط بين الحق و الباطل.

2 - ترك الدفاع و الممانعة عن البلاد، و عدم نصرة الأئمة علیهم السلام، كما حصل مع من ترك نصرة الإمام الحسين علیه السلام.

3 - استيلاء الشيطان على الإنسان.

4 - الوقوع في المغالاة أو المعاداة والبغض.

5 - زوال النعمة.

6 - الشقاء اللازم.

ص: 67

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

يصف الإمام علي علیه السلام الفاسق:

«قد حمل الكتاب على آرائه، و عطف الحق على أهوائه».

«إن أفضل الناس عند الله من كان العمل أحب إليه و إن نقصه وكرثه، من الباطل وإن جرَّ إليه مائدة وزاده».

«و سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق،و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق ...».

اسئلة حول الدرس

1 - ما الفرق بين أهل التقوى و أهل العمى و الضلالة و الخطايا؟

2 - إلى ماذا يؤدي الافراط في الحب؟

3 - تحدث عن بعض آثار ترك الحق؟

4 - أوضح كيف تزول النعم بترك الحق؟

5 - ماذا حل بالمسلمين عندما تركوا إمام الحق علیه السلام؟

للمطالعة

موسوعة الإمام علي علیه السلام

موسوعة الإمام علي علیه السلام في الكتاب و السنّة و التاريخ موسوعة مؤلفة من اثني عشر مجلدا من القطع الكبير، جمعها العلامة الشيخ محمد محمدي ريشهري العالم المعروف في مدينة قم المقدسة بمساعدة محمد كاظم الطباطبائي، و محمود الطباطبائي.

ص: 68

يقول عن هذه الموسوعة مؤلفها:

«إن موسوعة الإمام علي علیه السلام و هي إطلالة على حياة أمير المؤمنين علیه السلام كما هي نافذة تشرف على السيرة العلوية، و تتطلع إلى تاريخ حياة أكمل إنسان، و أعظم المؤمنين و أبرز شخصية في تاريخ الإسلام بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم».

و قد قسمت الموسوعة إلى ستة عشر قسما وهي:

1 - أسرة الإمام علي علیه السلام

2 - الإمام علي علیه السلام مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم

3 - جهود النبي صلی الله علیه و آله و سلم لقيادة الإمام علي علیه السلام

4 - الإمام علي علیه السلام بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم

5 - سياسة الإمام علي علیه السلام

6 - حروب الإمام علي علیه السلام

7 - أيام التخاذل

8 - استشهاد الإمام علي علیه السلام

9 - الآراء حول شخصية الإمام علي علیه السلام

10 - خصائص الإمام علي علیه السلام

11 - علوم الإمام علي علیه السلام

12 - قضايا الإمام علي علیه السلام

13 - آيات الإمام علي علیه السلام

14 - حب الإمام علي علیه السلام

15 - بغض الإمام علي علیه السلام

16 - أصحاب الإمام علي علیه السلام و عماله.

موسوعة الإمام علي علیه السلام هي الموسوعة الوحيدة التي تحتوي هذا التنوع الكبير و العميق والذي يغوص إلى أعماق بحر المعرفة لهذه الشخصية الفريدة.

ص: 69

للمطالعة: كلمات حق لابن أبي الحديد في الإمام علي علیه السلام:

«و ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه و خصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ...

فقد علمت أنه استولى بنو أميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها، واجتهدوا بكلِّ حيلة في إطفاء نوره و التحريف عليه و وضع المعايب و المثالب له، و لعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه بل حبسوهم و قتلوهم، و منعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمّوا، و كان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، و كلّما كتم يتضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالرَّاح (1)، وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً واحدة أدركته عيون كثيرة.

وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة و تنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها وأبو عذرها» (2).

أنا وجميع من فوق التراب *** فداء تراب نعل أبي تراب

(الصاحب بن عبّاد)

«و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب الطباع الأسود، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل الطباع الرّهبان الذين لم يأكلوا لحماً و لم يرتقوا دماً، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس (الشجاع)، وتارة يكون في صورة سقراط والمسيح بن مريم الإلهي.

وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة (يعني الخطبة 216) منذ خمسين عاماً و إلى الآن أكثر من ألف مرّة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفاً

ص: 70


1- الرّاح: الكفّ
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 29 و 17

وعظمة أثّرت في قلبي و حبيباً، ولا تأمّلتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي، وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف الإمام حاله» (1).

ص: 71


1- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 11، ص 150

عکس

ص: 72

الدرس السابع: القيم الأخلاقية

اشارة

يقول الإمام علي علیه السلام:

«فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، و محامد الأفعال، ومحاسن الأمور» (1).

تعريف الأخلاق و ضرورة القيم الأخلاقية:

قبل معرفة القيم الأخلاقية، ينبغي معرفة ماذا نعني بالأخلاق؟

الأخلاق هي الصفات النفسية التي نحدد على ضوئها كيف ينبغي أن نكون، وكيف نتصرف و نتعامل في حياتنا الاجتماعية، و كيف يتصرف بعضنا مع البعض الآخر.

فالإنسان الفرد لا يعيش وحده في هذه الحياة، فهو بطبيعته اجتماعي يعيش ضمن مجتمع يحتك فيه بالآخرين، و القيم الأخلاقية بالإضافة على كونها كمالاً على المستوى الشخصي، لا بد منها أيضاً لكمال المجتمع و تحسين العلاقة بين الافراد، ومن هنا فلا بد من تحديد هذه القيم على ضوء العقل و الشرع ثم الالتزام بها وتطبيقها على المستوى العملي.

وإذا ما التزمنا بالقيم كانت السعادة الفردية و الاجتماعية في الدنيا والآخرة.

وليصل الإنسان إلى السعادة لا بد أن يلتزم بمجموع القيم، لأنها نظام متكامل يكمل بعضه بعضاً.

يقول تعالى:

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (2).

ص: 73


1- نهج البلاغة خطبة 192
2- سورة البقرة الآية /85

و سنشير فيما يلي إلى بعض القيم الأخلاقية على ضوء كلام أمير القيم و الأخلاق سلام الله عليه:

1 - التقوى والورع:

قال الإمام علي علیه السلام:

«التقى رئيس الأخلاق» (1).

وأكَّد ذلك بقوله علیه السلام:

«أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم» (2).

2 - الحلم والعقل والتعقل:

قال علیه السلام:

«الحلم غطاء ساتر، و العقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، و قاتل هواك بعقلك» (3).

3- الصبر و الثبات و ضبط النفس:

أي تقوية القدرة على تحمل المشاكل و البلاءات، قال الإمام علي علیه السلام:

«و عليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، و لا في إيمان لا صبر معه» (4).

4 - رزانة الشخصية:

يقول علیه السلام:

«من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته».

فعلى الإنسان أن يكرم نفسه عن الانزلاق في المفاسد المنبثقة عن جماح الشهوات، و إلا تردّى و لم يحترم من أبناء مجتمعه و محيطه، و إذا كان كذلك لم يسمع له رأي و لا يعرف له قول فعندها يكون باطن الأرض خير له من ظاهرها.

5 - التواضع:

وهو من القيم الأخلاقية المهمة التي يتمكن من خلالها التغلغل إلى القلوب، حتى

ص: 74


1- نهج البلاغة قصار الكلمات 410
2- نهج البلاغة خطبة 198
3- نهج البلاغة قصار الكلمات 424
4- نهج البلاغة قصار الكلمات 82

قلوب الأعداء، وذلك مما يكشف عن طيب السريرة و طراوة النفس و حسن العشرة و إدامة الشكر لله تعالى على نعمه.

يقول علیه السلام:

«وبالتواضع تتم النعمة» (1).

ويقول علیه السلام:

« ... و اعلم أن الإعجاب ضد الصواب و آفة الألباب» (2).

فالذي يقدّر نفسه تقديراً مبالغاً فيه، بحيث لا يرى إلا نفسه، فهو العالم وغيره الجاهل، وهو صاحب الرأي الحصيف و غيره لا رأي له، مثل هذا الشخص ستنفر عنه الناس و سيرى نفسه أنه يعيش لوحده في هذا العالم أو أنه الوحيد الذي يستحق العيش.

يقول علیه السلام:

« ... ولا وحدة أوحش من العجب» (3).

ويشير إلى خطر التكبر:

«فالله الله ... و سوء عاقبة الكبر» (4).

و ذلك لما في الكبر من المنافاة مع ذل العبودية و الخضوع لله (عزّ وجلّ) و كذلك للشعور بالاستقلالية و ميول النفس إلى الأنانية.

6 - احترام آراء الآخرين ومشاورتهم:

من سبل اكتساب المعارف و النفوذ إلى القلوب، احترام أفكار الآخرين و آرائهم، و الامتناع من أي شكل من أشكال الغرور و الأنانية.

يقول الإمام علیه السلام:

«و لا مظاهرة أوثق من المشاورة» (5).

وفي كلام تحذيري له:

«من استبد برأيه هلك» (6).

ص: 75


1- نهج البلاغة قصار الكلمات 224
2- نهج البلاغة كتاب 31
3- نهج البلاغة قصار الكلمات 113
4- نهج البلاغة خطبة 192
5- نهج البلاغة قصار الكلمات 113
6- نهج البلاغة قصار الكلمات 161

7- حفظ كرامة الآخرين:

ينبغي لنا أن نلتزم مبدأ «كتم السر» عند مواجهة زلّات الآخرين و أخطائهم، و ينبغي الحفاظ على سمعتهم و كرامتهم، فنحفظهم في غيبتهم كما نحفظهم في حضورهم و ننتصر لهم عند تعرضهم إلى ما يفضحهم و يحقرهم أمام الآخرين.

يقول الإمام علیه السلام:

« ... فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب» (1).

و نحن الذين قد نكون في أية لحظة عرضة للخطأ و الزلل، أو يصدر منا سلوك أو فعل سيء، علينا أن لا نعيب غيرنا، و خاصة إذا كان نفس العيب فينا.

يقول الإمام علیه السلام:

«أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله» (2).

8. الكلام الطيّب:

يرغب الجميع أن لا يسمعوا من أحد كلاماً خبيثاً مرّاً، و أن لا يكونوا عرضة للسعات ألسن الآخرين. فهل عوّدنا ألسنتنا على التفوه بالكلام الحسن؟ و على أن لا نجرح مشاعر الآخرين؟ إذا كنا نؤمن جميعاً بأدب الحديث فإلى أي مدى رعينا هذه القيمة الأخلاقية؟

يقول علیه السلام:

«المتقي بعيداً فحشه، ليناً قوله» (3).

و حين سمع من أنصاره من يسبون أعداءهم (جيش معاوية الباغي) نصحهم بمراعاة الأدب في الحديث حتى مع الأعداء، إذ قال علیه السلام:

«إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين» (4).

بل الإسلام دائماً ينصحنا بأدب الحديث و الموعظة الحسنة و الكلام الطيب لأنه هو الذي يرفع العمل الصالح إلى الباري (عزّ وجلَّ) حتى يثبته تعالى في ميزان الحسنات.

9 - البشاشة:

ليس من صفات المؤمن أن يكون مقطِّب الجبين، حزين الوجه كئيباً: فإن ذلك ينفّر

ص: 76


1- نهج البلاغة كتاب 53
2- نهج البلاغة خطبة 86
3- نهج البلاغة خطبة 153
4- نهج البلاغة خطبة 206

الآخرين منه. لذلك يوصي الإمام علیه السلام الإنسان أن يكون مبتسماً فبالابتسام يدخل الإنسان إلى قلوب الآخرين.

يقول علیه السلام:

«البشاشة حبالة المودة» (1).

10. الجدّيّة:

إن كثرة المزاح له آثار سلبية على المستوى النفسي للإنسان حيث يجعل الشخصية هزيلة و يقف حاجزاً أمام التفكر بالقضايا و مواجهتها بشكل جدي، بل له آثاره السلبية حتى في المجتمع، فصحيح أن المطلوب من المؤمن أن يكون بشوش الوجه مبتسماً ولكن ليس المطلوب أن يكون كثير المزاح هزلياً، فالحالة الأولى تشيع حالة من الراحة و اللين في المجتمع و أما الحالة الثانية فقد تصل إلى أذية الآخرين و الاستهزاء بهم و توتير

العلاقات الاجتماعية.

وكم من الناس يحسب بمزاحه أنه يدخل السرور على الآخرين و لكنه في الحقيقة يدخل الحزن و الأذى على قلوبهم.

يقول الإمام علیه السلام:

«إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً» (2).

ويقول علیه السلام:

«ما مزح امرؤ مزحة إلا مج من عقله مجة» (3).

11 - العفو والصفح:

فكما نحب أن يغفر لنا الله تعالى، فلنغفر للآخرين، وكما نحب أن يغفر الناس لنا خطايانا، فلنغفر لهم، فكلُّ بني آدم محتاجون للمغفرة الإلهية، وكلهم ضعيف بذاته محتاج للرحمة و التسديد الإلهي.

يقول الإمام علیه السلام:

« ... فاعفوا: ألا تحبون أن يغفر الله لكم» (4).

ص: 77


1- نهج البلاغة قصار الكلمات 6
2- نهج البلاغة كتاب 31
3- نهج البلاغة قصار الكلمات 50
4- نهج البلاغة كتاب 23

12- الصدق:

كل الناس يريدون أن يعاملوا بصدق، و كلهم ناقمون على الكذب، ولكن الصادقين قليلون.

يقول الإمام علیه السلام:

«والصق بأهل الورع و الصدق» (1).

«جانبوا الكذب فإنه مجانب الإيمان» (2).

13 - أداء الأمانة:

يقول علیه السلام:

« ... ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها» (3).

خصوصاً أن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة إلى أهلها بصريح آياته، لما في ذلك من دلالة على الإيمان و الورع و الخوف من الله تعالى.

14 - الكرم:

فعلينا أن لا نبخل بما رزقنا الله من واسع رزقه، فالبخل آفة الآفات.

يقول الإمام علیه السلام:

«البخل جامع لمساوئ العيوب» (4).

لأن البخيل يسيئ الظن بالله تعالى و كأن الذي رزقه أول مرة غير قادر على أن يرزقه، و هو يخشى الفقر مع وجود هذه النعم الكثيرة عنده التي هي من الله تعالى أيضاً.

15 - الإحسان:

إن صفة الاحسان و الرغبة في القيام بتقديم الخدمات النافعة للآخرين لا تكتسب قيمتها إلا حينما لا تشوّه بعادة المنّ، فالمنَّ يؤلم القلوب و يحزنها ويثير الجفاء و يقضي على آثار الأعمال الحسنة.

يقول علیه السلام:

«إياك و المن ... فإن المن يبطل الإحسان» (5).

ص: 78


1- نهج البلاغة كتاب 53
2- نهج البلاغة خطبة 86
3- نهج البلاغة خطبة 199
4- نهج البلاغة قصار الكلمات 378
5- نهج البلاغة كتاب 53

خلاصة الدرس

1 - إذا ما التزمنا بالقيم الأخلاقية كانت السعادة الفردية و الاجتماعية في الدنيا و الآخرة.

2 - من القيم التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة:

1 - الحلم و الورع.

2 - الحلم والعقل والتعقل.

3 - الصبر و الثبات و ضبط النفس.

4 - رزانة الشخصية.

5 - التواضع.

6 - احترام آراء الآخرين و مشاورتهم.

7- حفظ كرامة الآخرين.

8 - العفو و الصفح.

9 - الإحسان.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام :

«فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، و محامد الأفعال، ومحاسن الأمور».

إياك و المن ... فإن المن يبطل الإحسان».

«أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله».

«و لا مظاهرة أوثق من المشاورة».

ص: 79

أسئلة حول الدرس

1 - كيف وصف أمير المؤمنين علیه السلام الحلم و العقل؟

2 - ما المقصود بقول أمير المؤمنين علیه السلام: «من استبد برأيه هلك»؟

3- هل من صفات المؤمن أن يكون كئيباً حزيناً ...؟

4 - ما معنى قول الإمام علیه السلام: «الاعجاب ضد الصواب و آفة الألباب»؟

5 - لماذا كان البخل جامعاً لمساوئ العيوب؟

للمطالعة

الإمام علي علیه السلام من المهد إلى اللحد:

من اشهر الكتب الحديثة التي كتبت عن حياة أمير المؤمنين كتاب الإمام علي علیه السلام من المهد إلى اللحد، لمؤلفه السيد محمد كاظم القزويني قدس سره.

يتميز الكتاب عن غيره من الكتب التي صنفت حول حياة أمير المؤمنين علیه السلام بأنه لم يتدخل في التحقيق التاريخي بل هو كتاب يسرد الأحداث كما رويت عن طريقنا من ولادة الأمير علیه السلام إلى شهادته بالتفصيل.

ويتميز أيضا بالسلاسة القصصية، لدرجة أن هذا الكتاب بات الكتاب الأهم لمن يريد الإطلاع السريع على حياة أمير المؤمنين علیه السلام ولمن لا يرغب في أن يدخل في الجدليات التاريخية و الأبعاد الماورائية للأحداث.

يقول المؤلف في مقدمته: « ... كلمة العظيم لا تكفي لبيان عظمة الرجل و خصوصا بعد أن استعملت هذه الكلمة في الكثير ممن يستحق ذلك أو لا يستحق ... فكيف أستطيع أن أصف الإمام علیه السلام حق الوصف و أؤدي واجب المقام حق الأداء و كلما حاولت أن أطير بقلمي إلى أرفع مستوى في البيان و أعلى درجة في الأداء مع ذلك كله فالعجز عن التعبير لا يفارقني» ...

كتاب الإمام علي علیه السلام من المهد إلى اللحد يتألف من ثلاثمائة واثنتين وخمسين صفحة من الحجم الكبير، يمكن مطالعته حتى للناشئة و الأحداث.

ص: 80

للمطالعة: قيم الإمام علي علیه السلام و تواضعه

قال العلامة المجلسي رحمه الله: «بالإسناد إلى أبي محمد العسكري علیه السلام أنه قال:

«أعرف الناس بحقوق إخوانه، و أشدّهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً، و من تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصدّيقين، و من شيعة علي بن أبي طالب حقّاً.

و لقد ورد على أمير المؤمنين علیه السلام أخوان له مؤمنان أب و ابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه و جلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فاحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست و إبريق خشب و منديل، وجاء ليصب على يد الرجل، فوثب أمير المؤمنين علیه السلام وأخذ الإبريق ليصبَّ على يد الرّجل، فتمرّغ الرّجل في التراب، و قال: يا أمير المؤمنين، الله يراني وأنت تصبّ علي يدي؟

قال علیه السلام: اقعد واغسل فإن الله (عزّ و جلَّ) يراك و أخوك الذي لا يتميّز منك و لا ينفصل عنك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل عشرة أضعاف أهل الدنيا و على حسب ذلك في مماليكه فيها.

فقعد الرّجل، فقال له علي علیه السلام: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته و نحلته، و تواضعك لله حتى جازاك عنه بأن تدنيني لما شرّفك به من خدمتي لك لمّا غسلت مطمئنّاً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً، ففعل الرّجل ذلك، فلمّا فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، و قال: يا بني، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده و لكنّ الله (عزَّ وجلَّ) يأبى أن يسوّي بين ابن و أبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأب على الأب، فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمد بن الحنفية على الابن».

ثم قال الحسن بن علي العسكري علیه السلام:

«فمن تبع عليّاً على ذلك فهو الشيعي حقاً».

ص: 81

عکس

ص: 82

الدرس الثامن: الغرائز و توجيهها

اشارة

يقول الإمام علي علیه السلام:

« ... فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، و فكر يتصرف بها، و معرفة يفرق بها بين الحق و الباطل، معجوناً بطيئة الألوان المختلفة، و الأضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة» (1).

مقدمة:

إن الإنسان مخلوق مختلف الغرائز و الرغبات، يحكمه الصراع بين العقل والشهوة، و ليس هو ذا بعد واحد؛ كالحيوان الذي تحكمه الشهوة فقط، أو كالملاك الذي يحكمه العقل فقط، و هذا ما يشير إليه كلام الإمام علي علیه السلام أعلاه.

و جهالة الإنسان بتركيبته، وما غرز بنفسه، سيبعده عن الله تعالى؛ لأن عرف نفسه عرف خالقه.

كما يشير إلى ذلك قول الأمير علیه السلام:

«اعرف نفسك تعرف ربك».

فلو قصّر الإنسان ولم يسعَ لمعرفة نفسه التي هي أقرب إليه من غيرها، و التي هي أولى بمعرفتها فإنه سيتحوّل إلى كائن حيواني مفترس، و سيخسر الخسران المبين، و هل بعد خسران النفس من خسران.

يقول الإمام علیه السلام:

«من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر» (2).

و كيف يحاسب نفسه من لا يعرفها.

ص: 83


1- نهج البلاغة خطبة 1
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات 208

و يقول علیه السلام محذراً من سقوط الإنسان تحت هواه:

«و كم من عقل أسير تحت هوى أمير» (1).

وبعد معرفتك لنفسك عليك أن تجدّ و تجتهد، لا أن تستسلم وتتكاسل.

كما يقول الإمام علیه السلام:

«فعليكم بالجد والاجتهاد والتأهب والاستعداد والتزوّد في منزل الزاد» (2).

و عليك أن تهذِّب غرائزك بعد أن تعرفها، لأنه إن لم تتولّى ذلك بنفسك فلن يتولّى الغير ذلك.

يقول الأمير علیه السلام:

«أيها الناس تولّوا من أنفسكم تأديبها و اعدلوا بها عن ضراوات عاداتها» (3).

فقدرك أيها الأخ العزيز على قدر همتك.

كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«قدر الرجل على قدر همته» (4).

1. غريزة الأكل والشرب:

لا بد لكل كائن حي أن يأكل و أن يشرب من أجل استمرار حياته، و هذا أمر طبيعي قد جعله الله تعالى في غريزة الإنسان ليضمن بقاءه و استمراره، ولكن تتحول هذه الغريزة من نعمة تحافظ على الإنسان إلى نقمة تضيع أهدافه إذا تحول الأكل والشرب ليصبح قضية الإنسان الرئيسية و هدفه الأساسي فيضحي من أجل ذلك بكل قيمه الإنسانية.

يقول الإمام علي علیه السلام:

«و لا تُدخلوا بطونكم لَعَق الحرام فإنكم بعين من حرّم عليكم المعصية و سهل لكم سبل الطاعة» (5).

ثم يجري مقارنة مهمة فيقول علیه السلام:

«إن البهائم همها بطونها، وأن السباع همها العدوان على غيرها» (6).

ص: 84


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات 211
2- نهج البلاغة خطبة 230
3- نهج البلاغة، قصار الكلمات 359
4- نهج البلاغة. قصار الكلمات 47
5- نهج البلاغة خطبة 151
6- نهج البلاغة خطبة 153

وأما الإنسان فهذه الأمور عنده وسائل لتحقيق همه الأساسي وهو الفوز وسعادة الآخرة ورضوان الله تعالى.

ويقول علیه السلام:

«فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها» (1).

2 - غريزة الزواج:

يرتبط استمرار وجود النوع الإنساني بغريزة الزواج، وهذا أمر طبيعي قد خلقه الله تعالى في الإنسان بل وحث الإنسان على الزواج و جعله مستحباً و جعله من الأمور التي

يحرز بها الدين كما في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«من تزوج أحرز نصف دينه».

ولكن إذا لم تربّ هذه الغريزة ولم يسيطر عليها ولم تهذّب، فإنها كذلك ستتحول من نعمة إلى نقمة وستجر الفرد و المجتمع إلى الانهيار و الانحراف فيصبح كالحيوان همه إشباع بطنه وفرجه ويصبح من أهل النار والغضب الإلهي - والعياذ بالله - ومصداقاً للحديث النبوي الشريف:

«أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج».

ويقول الإمام علیه السلام:

« ... فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته و قمع هوى نفسه» (2).

فالمؤمن يقمع هوى النفس حتى يسيطر على غرائزه لتكون طوع أمره فيوجهها بما يريد الله تعالى، ولا يتركها تطغى حتى تسيطر عليه و تستعبده فتذله في الدنيا و يكون من الخاسرين في الآخرة - والعياذ بالله -.

3- غريزة الغضب:

من الطبيعي أن تشهد حياة الإنسان الاجتماعية، وقوع هجمات خارجية، لذلك لا بد لكل كائن حي أن يمتلك قدرة على الدفاع عن نفسه ووسائل وأدوات للمحافظة عليها ووقايتها والرد على هجمات العدو، لذلك فإن رب الخليقة الحكيم قد وهب لكل كائن

ص: 85


1- نهج البلاغة كتاب 15 45
2- نهج البلاغة خطبة 176

حي إنساناً و حيواناً من وسائل الدفاع ما يتناسب و حاجته و طريقته في الدفاع عن النفس، وما غريزة الغضب إلا واحدة من تلك الوسائل، فهي مقدسة و ثمينة حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس والمجتمع والأموال والأعراض، و يعد استخدامها شكلاً من أشكال الصراع والجهاد، ولكنها إن لم تهذّب ولم تستخدم في مواضع الدفاع الحقة بما رسمه الله تعالى، فإنها ستكون وسيلة مدمرة تدل على الجنون.

إذ قال الإمام على علیه السلام:

«الحدّة ضربٌ من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم» (1).

لذلك فإن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن الاستفادة منها بالاتجاه الإنساني بعد تنميتها و السيطرة عليها وتهذيبها.

4 - غريزة التطلع نحو الحرية:

و هو السبيل الصحيح لبلوغ السعادة و التكامل، ومحاربة الظلم والجور والاستبداد، ولكن ينبغي لنا ألا ننسى أن سوء استغلال الحرية أمر غير مقبول، إذ ينبغي عدم التذرع بالتطلع إلى الحرية للتمرد على القوانين الإلهية والاجتماعية، أو الإعراض عن الوالدين و الأساتذة والمربين الحريصين، أو الاحتجاج بالحرية في القبول لمختلف أشكال العبودية و الفساد التي تتعارض مع حرية الإنسان الحقيقية.

يقول الإمام علي علیه السلام مخاطباً مالك الأشتر:

« ... فاملك هواك وشُحَّ بنفسك عما لا يحل لك» (2).

و في موضع آخر يأمر علیه السلام كميل بن زياد بتوجيه أسرته نحو المحاسن بالمراقبة و الاشراف الصحيح، يقول له:

« ... يا كميل، مُر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويُدلجوا في حاجة من هو نائم» (3).

ولا يتصور العبد أن التحرر في الإبتعاد عن الدين، بل العكس هو الصحيح فالابتعاد

ص: 86


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات 223
2- نهج البلاغة كتاب - 53
3- نهج البلاغة، قصار الكلمات 257

عن الشرع الإلهي هو وقوع في حبائل الشيطان الرجيم و وقوع تحت أسره و تسلطه، ومما يوصي به الإمام علي علیه السلام ولده الإمام الحسن علیه السلام:

«ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً» (1).

5 - غريزة الخوف:

الخوف مقبول بالدرجة التي تخلق لدينا روح الحذر و التدبير وتخيفنا من عواقب الذنوب والسيئات وانهيار شخصيتنا وقيمنا.

يقول الإمام علي علیه السلام:

«رحم الله امرءاً سمع حُكماً فوعى ... راقب ربَّه وخاف ذنبه» (2).

ولكن إذا لم تتم السيطرة على غريزة الخوف وتهذيبها وتوجيهها فإنها ستجر الإنسان نحو الانزواء و الجبن والهوان والشك والتردد والمذلة، وهنا ينبغي مكافحته.

فالخوف من الله كمال، والخوف من غيره نقص وضعف وهوان،

و يؤكد الإمام علیه السلام على عدم واقعية هذا الخوف عندما يقول:

«إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنه شدّة توقيه أعظم مما تخاف منه» (3).

6 - غريزة حب التفوق:

إن الرغبة الكامنة في الإنسان في التقدم على أقرانه و بني جنسه والانطلاق نحو الأمام، صفة بناءة، ولكن إذا لم تهذب هذه الغريزة فإنها تؤدي إلى الأنانية، والاستبداد، و حب الهيمنة، و الغطرسة و الاستئثار، وإزاحة الآخرين، وحرمانهم من حقوقهم، مما يخلق حالة فاجعة و مدمرة تكون أساساً لكل أشكال الاستبداد، و الاستغلال، والاستعمار الاقتصادي والثقافي، وعندها ينبغي محاربتها وحصرها لكي تصبح أساساً للتسابق و المسارعة إلى الخيرات.

يقول الإمام لمالك الأشتر:

« ... يا مالك، و إياك و الاستئثار بما للناس فيه أسوة ... فإنه مأخوذ منك لغيرك» (4).

ص: 87


1- نهج البلاغة، كتاب 31
2- نهج البلاغة خطبة 76
3- نهج البلاغة، قصار الكلمات 175
4- نهج البلاغة كتاب 53

ويقول علیه السلام:

«ولا تنافسوا في عز الدنيا و فخرها» (1).

وفي موضع آخر يتحدث عن حب التفوق المقبول فيقول علیه السلام:

«اللهم إني أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالصلاة» (2).

ويقول علیه السلام:

«فعليكم بهذه الخلائق فالزموها و تنافسوا فيها» (3).

7. روح التقليد و الاقتداء:

عندما تكون روح تقليد الآخرين و اتباعهم ضمن اطار حب تقليد الرموز و اتباع القدوات الحسنة الكاملة و باتجاه المحاسن و القيم الأخلاقية و المسيرة التكاملية، فهي

مقبولة و مطلوبة.

يقول الإمام علي علیه السلام:

«انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، و لن يعيدوكم في ردى» (4).

و لكن لئن لم تهذَّب روح التقليد و الطاعة و الاقتداء و توجه توجيهاً سليماً، فقد تحمل محلها روح التقليد الأعمى، فتصاب المجتمعات الإنسانية بالانحرافات والمآسي الاجتماعية يقول الإمام علیه السلام:

«و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم لحذرهم، و خلطتم بصحتكم مرضهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق» (5)

و ذلك مثل تقليد المجتمعات المتخلفة للغرب في فسوقه و فساده.

بناء على ما تقدّم، يجب على الإنسان و هو أشرف المخلوقات و خليفة الله في أرضه، أن يسيطر على غرائزه و ميوله و يهذبها لكي يتمكن من الانطلاق إلى الكمال و يبلغ السعادة الإنسانية الحقيقية.

ص: 88


1- نهج البلاغة خطبة 5: 99
2- نهج البلاغة خطبة 131
3- نهج البلاغة، قصار الكلمات 6 289
4- نهج البلاغة خطبة 97
5- نهج البلاغة خطبة 192

خلاصة الدرس

1 - إن الإنسان مخلوق مختلف الغرائز و الرغبات، يحكمه الصراع بين العقل و الشهوة، و ليس هو ذا بعد واحد؛ كالحيوان الذي تحكمه الشهوة فقط، أو كالملاك الذي يحكمه العقل فقط.

2 - على الإنسان أن يجد في معرفة نفسه التي هي مقدمة لمعرفة ربه.

3 - بعد أن يتعرف الإنسان على نفسه لا بد له من السلوك باتجاه تهذيبها والسير بها نحو الله تعالى.

4 - أول المسائل التي ينبغي للإنسان فعلها للوصول إلى رضا الله تعالى هو تهذيب الغرائز بحيث لا يترك زمامه لهوى نفسه الأمارة.

5 - من الغرائز الموجودة في الإنسان:

1 - غريزة الأكل و الشرب.

2 - غريزة الزواج.

3 - غريزة الغضب.

4 - غريزة اكتساب العادات.

5 - غريزة حب التفوق.

6 - غريزة التطلع نحو الحرية.

7- غريزة الخوف.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر».

«كم من عقل أسير تحت هوى أمير»

«قدر الرجل على قدر همّته».

«الحدّة ضربٌ من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم».

ص: 89

أسئلة حول الدرس

1 - ما هو الأثر المترتب على جهل الإنسان بنفسه؟

2 - ماذا يجب على الإنسان بعد أن يعرف نفسه؟

3- إذا هذبت غريزة الغصب فما الفائدة منها؟

4 - ما هو البعد الذي نستشفه من قول الإمام علیه السلام:

«لا تكن عبد غيرك و قد جعلك الله حراً»؟

5 - إذا لم يهذب الإنسان غريزة التقليد و الاقتداء فإلى ماذا يؤول به الأمر؟

للمطالعة

الديوان المنسوب لأمير المؤمنين علیه السلام

كتاب جمعه و رتبه عبد العزيز الكرم، وقد جمع فيه أشعارا كثيرة ذكرها التاريخ عن أمير المؤمنين علیه السلام. و تتميز الأشعار التي نسبت لأمير المؤمنين علیه السلام بجزالة العبارة التي فيها، و بلاغة المضمون، كما أن تنوعها في مختلف المضامين أعطى الديوان جاذبية ترغب القارىء في الانتقال من قصيدة إلى أخرى من دون أن يشعر بالتعب أو الملل و سنستعرض بعض الأشعار المنسوبة إليه علیه السلام، فمن أبيات الحكمة قوله:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا *** فالظلم آخره يأتيك بالندم

تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك و عين الله لم تنم

و منها أيضا: أنا بالده_ر عليم *** و أبو الدهر وأمه

ليس يأتي الدهر يوما *** بسرور فيتمه

و من القصائد المشهورة في الديوان القصيدة المناجاة المنظومة التي أولها:

تباركت ياذا الجود و المجد والعلا *** تباركت تعطي من تشاء وتمنع

و منها القصيدة الزينبية المشهورة و فيها مواعظ و حكم كثيرة و هي من الشعر الراقي و هي مؤلفة من ست و ستين بيتاً لم يخل بيت منها من موعظة أو حكمة.

ص: 90

للمطالعة: أخلاق مالك الأشتر

ورد في سيرة مالك الأشتر رحمه الله أنه مر ذات يوم في سوق بمدينة الكوفة، وكان سيره متسماً بالسكون و الوقار و التواضع، مرتدياً الثياب العادية الرخيصة.

فنظر شاب إليه ولم يعرفه بالطبع فاستحقره ورماه بقشرة بطيخ كانت في يده بقصد أن يهينه بذلك.

لكن مالك الأشتر رغم شدته على أعداء الدين كان رؤوفاً و رحيماً بالمؤمنين، فقد أكمل سيره ولم يلتفت إليه حتى بنظره.

فقال رجل للشاب غير المؤدب:

- هل تعلم من كان هذا الرجل؟

فقال الرجل:

-لا، لا أعرفه.

فقال له الرجل:

- هذا مالك الأشتر قائد جيش أمير المؤمنين علیه السلام.

فذهب هذا الرجل خائفاً يفتش عنه ليعتذر منه فوجده في المسجد فجلس عنده ليقدم اعتذاره إليه فقال له مالك رحمه الله:

- جئت إلى المسجد كى أدعو الله أن يغفر لك ...

و هنا أكبر الشاب هذا القائد ذو الأخلاق العالية على حلمه و أخلاقه و تواضعه.

ص: 91

عکس

ص: 92

الدرس التاسع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اشارة

يقول الإمام علیه السلام:

«إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه» (1).

مقدمة:

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أهم الفرائض الإسلامية، حيث يهدف إلى التخلية و التحلية، فالنهي عن المنكر يخلِّي الفرد و المجتمع و الأمة من الانحرافات السلوكية و الروحية، والأمر بالمعروف يحلِّي الفرد والمجتمع والأمة بالفضائل السلوكية والروحية.

و هو ضمانة بقاء تعاليم الدين و قيمه حيّة، فيه انتشر الدِّين الإسلامي في أصقاع الأرض، وبه أقيمت أركان الدين وفروعه.

و هذا ما يؤكده قول أمير المؤمنين علیه السلام:

«قوام الشريعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة الحدود» (2).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق الله:

و قد اهتم القرآن الكريم بهذه الفريضة؛ قال تعالى:

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (3)

و قال سبحان:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (4)

ص: 93


1- نهج البلاغة خطبة 156
2- ميزان الحكمة، ج 6، ص 255
3- سورة آل عمران الآية / 104
4- سورة التوبة. الآية / 71

وقد جعله أمير المؤمنين علیه السلام خلقاً من أخلاق الله سبحانه حيث يقول:

«إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه»(1).

كما ورد.

و ماذا يعني أمير المؤمنين بهذا القول؟

يعني ما أشار إليه الله تعالى في كتابه الكريم حيث يقول سبحانه:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (2).

(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * ققُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...) (3).

وفي المقابل خلق الشيطان هو عكس خلق الله تعالى حيث أن الشيطان يأمر بالفحشاء و فعل السيئات و يوسوس في صدور الناس لترك ما فيه خير و مصلحة ويعد الناس دائماً بالفقر.

كما يقول تعالى:

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ...) (4).

( ... وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (5).

فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقاً من أخلاق الله، وعكسه خلقاً من أخلاق عدو الله و الإنسانية الشيطان، فحريٌ بنا أن نكون متخلقين بأخلاق خالقنا و بارئنا «تخلقوا بأخلاق الله» كما ورد في الحديث، و تاركين لأخلاق عدو الله وعدونا الشيطان الرجيم.

ص: 94


1- نهج البلاغة خطبة 156
2- سورة النحل الآية 90
3- سورة الأعراف الآيتان/28-29
4- سورة البقرة، الآية / 268
5- سورة البقرة الآية / 168-169

دور الأنبياء والأئمة والصالحين:

و الأنبياء العظام والأئمة علیهم السلام و الصالحون، قد تخلَّقوا بأخلاق الله فكانوا المصلحين الأمرين بالمعروف و العدل و الناهين عن المنكر و الظلم.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام و في خصوص دور الأنبياء علیهم السلام:

«و اصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم» (1)

«ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكروهم منسي نعمته و يحتجوا عليهم بالتبليغ» (2).

وفي خصوص الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يقول الإمام على علیه السلام:

«بلغ عن ربه معذراً و نصح لأمته منذراً» (3).

«فبلغ رسالات ربه غير وانِ ولا مقصِّر» (4).

وفي خصوص نفسه علیه السلام يقول:

«اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك، و نُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطّلة من حدودك ...» (5).

«و ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب» (6).

وكذلك أبناء أمير المؤمنين المعصومين علیه السلام كانوا حاملين للواء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المثال الأوضح الحسين الشهيد ملهم الأمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر. حيث أن مقولته المشهورة ما تزال تصدح إلى يومنا الحاضر:

«إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر ...».

ص: 95


1- نهج البلاغة خطبة 1
2- نهج البلاغة خطبة 1
3- هج البلاغة خطبة 109
4- نهج البلاغة خطبة 116
5- هج البلاغة خطبة 131
6- هج البلاغة كتاب 28

أما الصالحون فالتاريخ ببابك يحدثك عن بطولاتهم في هذا الميدان.

يقول الأمير علیه السلام في وصفهم:

«(أهل الذكر) و يأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه» (1).

أما أهل الضلال:

«المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر عندهم ما أنكروا» (2).

فوظيفتنا إذن أن نتخلّق بأخلاق الله و الأنبياء و الأئمة لنكن من الصالحين المصلحين، ولا نكن من أهل الضلال الفاسدين المفسدين.

انتشار المنكر والفساد:

ولقد حذر الإمام علي علیه السلام من انتشار المنكر و الفساد وعدم ردِّه، لما يحمل ذلك (أي عدم النهي) من تبعات خطيره على الأمة في الدنيا و الآخرة.

فقال علیه السلام من قلب متوجِّع:

«فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكر مغيِّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، و تكونوا أعز أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنته ...» (3).

ولفت الإمام علیه السلام إلى أنه سينتشر من بعده المنكر و الفساد، فقال علیه السلام:

و إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقَّ تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرَّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر ...» (4).

وعلينا أن نعرف كيف نأمر بالمعروف وكيف ننهى عن المنكر بتفكر وتعقّل و تخطيط، و ها نحن نقف من خلال كلام الأمير علیه السلام على بعض معالم وفنِّ هذه الفريضة.

ص: 96


1- نهج البلاغة خطبة.222
2- نهج البلاغة خطبة 88
3- نهج البلاغة خطبة 129
4- نهج البلاغة خطبة 147

1 - النهي عن المنكر بعد التناهي:

من أخلاق الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، أن يكون مأتمراً بما يأمر منتهياً عما ينهى حتى يؤثر كلامه في الآخرين.

يقول الإمام علیه السلام:

«و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي» (1)

بل لعن الأمير علیه السلام من يأمر بالمعروف ولا يعمل به، وينهى عن المنكر ويفعله، فقال:

«لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له والناهين عن المنكر العاملين به» (2).

أما الأمير علیه السلام فقد كان نموذجاً للتحلي بصفة النهي بعد التناهي فيقول علیه السلام:

«أيها الناس إني و الله، ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها» (3).

بعد أن تتخلّق بهذه الصفة حينئذ يمكن لكلامك أن يكون مؤثراً يدخل إلى القلب و يفعل فعله.

2 - الرفق هو الأساس الأول:

إن توجيه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى الآخرين ثقيل جداً عليهم، لأن ذلك يجعل المأمور و المنهي في موقع التخطئة و التقريع، الأمر الذي يخدش الكبرياء ويؤذي النفس.

من هنا علينا أن يكون هدفنا هداية المدعو و نصحه، لا تقريعه و إحراجه و تنفيس غيظنا منه:

(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (4)

فلتختر الكلمة الطيبة الرفيقة ما وسعك ذلك، كما يقول الأمير علیه السلام:

«وارفق ما كان الرفق أرفق» (5).

ص: 97


1- نهج البلاغة خطبة 105
2- نهج البلاغة خطبة 129
3- نهج البلاغة خطبة 175
4- سورة النحل، الآية / 125
5- هج البلاغة كتاب 46

و عليك بالتودّد:

«فالتودد نصف العقل» (1).

وذلك بالبشاشة:

«و البشاشة حبالة المودّة» (2).

إذا لم تنفع هذه الوسيلة نأتي إلى خطوات أخرى ذكرت في الكتب الفقهية.

و أخيرا:

إن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله، فكن ممن رحمه الله تعالى فانة عن السوء و أمر بالمعروف.

ولا يكون المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك ... تدريباً لأهل الإساءة على الإساءة» (3).

«فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي و الحلماء لترك التناهي» (4).

و اعلم أن من عواقب ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أن يتولاها الظالمون.

«لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» (5).

ص: 98


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات 142
2- نهج البلاغة، قصار الكلمات 6
3- نهج البلاغة كتاب 53
4- هج البلاغة خطبة 192
5- نهج البلاغة كتاب 47

خلاصة الدرس

1 - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أهم الفرائض الإسلامية، و وتهدف هذه الفريضة إلى التخلية و التحلية، فالنهي عن المنكر يخلّي الفرد و المجتمع والأمة من الانحرافات السلوكية و الروحية، و الأمر بالمعروف يحلِّي الفرد والمجتمع والأمة بالفضائل السلوكية والروحية

2 - إن أهل البيت علیه السلام كانوا الحاملين للواء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المثال الأوضح الحسين الشهيد علیه السلام فهو ملهم الأمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر.

3 - من أخلاق الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، أن يكون مأتمراً بما يأمر منتهياً عما ينهى حتى يؤثر كلامه في الآخرين.

4 - إن توجيه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى الآخرين ثقيل جداً عليهم، لأن ذلك يجعل المأمور و المنهي في موقع التخطئة و التقريع، الأمر الذي يخدش الكبرياء و يؤذي النفس، فعلى القائم بهذه الفريضة أن يراعي الأساليب التي لا تمس مشاعر الآخرين بسوء بحيث يترك الانطباع الحسن لديهم.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين:

«قوام الشريعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وإقامة الحدود».

«فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، و تكونوا أعز أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنّته ...»

«وإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلِّه كلمة عدل عند إمام جائر».

ص: 99

اسئلة حول الدرس

1 - أوضح كيف يهدف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى التحلية والتخلية؟

2 - إلى من أنيط دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدرجة الأولى؟

3 - ما هي أخلاقيات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟

4 - ما المقصود بالتناهي؟

5 - ما هي عاقبة ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟

للمطالعة

طب الإمام علي علیه السلام

كتاب طب الإمام علي كتاب لمؤلفه محسن عقيل العاملي، يتألف من أربعمائة و سبعين صفحة من القطع الكبير.

يتناول صاحب الكتاب ما ورد من أسماء الأطعمة و الأدوية على لسان أمير المؤمنين علیه السلام موضحا ما فيها من التحليل العلمي الحديث و الفوائد المكتشفة حديثا و مما يقوله الكاتب في مقدمته على هذا الكتاب:

لقد تناولت في هذا البحث بعض الأطعمة، و المسائل الطبية التي وردت في أحاديث الإمام علي علیه السلام موضحا فيها التركيب التحليلي، و القيمة الغذائية، و مبيناً الاستخدامات الطبية لها كدواء، في ضوء ما أظهره الطب و العلم الحديث و ما كشفت عنه التجارب المعملية الجديدة ...

أما إمامنا العظيم أمير المؤمنين فقد وردت عنه من التعاليم والارشادات الصحية في أنواع المداواة و المعالجات و حفظ الصحة و استدفاع البلايا والأمراض والمضرات بالأدوية والأغذية، أخبار كثيرة و روايات متظافرة ... إلخ.

فكتاب طب الإمام علي كتاب متخصص ببعض الأقوال التي وردت عنه علیه السلام و التي تختص في مجال محدد وهو الطب.

ص: 100

للمطالعة: الإمام علي علیه السلام و الأطفال

يروي الكاتب المسيحي جورج جرداق القصة التالية عن مناقب أمير المؤمنين على علیه السلام ويقول معلقاً: و أنا أكتب هذه القصة عن محبة علي علیه السلام وحنوه على الأطفال و الأيتام انهمرت عيناي بالدموع، فابتلت الأوراق التي بين يدي وتبلل ما كنت كتبته.

والقصة كما يلي:

- ذات ليلة جاء علي علیه السلام بالطعام إلى أسرة فقدت معيلها و فيها أيتام فوجد بين الأيتام طفلاً لا يهدأ، فسأله الإمام علیه السلام عن سبب ذلك.

فقال الطفل:

- إن الأطفال يقولون لي أن لا أب لك.

فقال له الإمام علیه السلام:

- قل لهم إن علياً هو أبي.

فلم يهدأ الطفل، و قال:

- إن أطفال جيراننا لهم حصان خشبي و أنا ليس عندي مثله.

فجاءه الإمام علیه السلام به ليفرح ويلعب به.

ولكن الطفل لم يهدأ و بدأ يتذرع بالذرائع الواحدة تلو الأخرى، وقال للإمام علیه السلام:

- أريد حصاناً أركبه و يسير بي!

وفي ذلك الليل انحنى أمير المؤمنين و خليفة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم على المسلمين ليركب الولد على ظهره و قال:

- ها أنا قد صرت حصاناً لك.

فاستمر الإمام علیه السلام بإركاب الطفل على ظهره و السير به حتى استحوذ التعب على الطفل و عفا فوق ظهر الإمام علیه السلام فوضعه في سريره و غادر الدار.

ص: 101

عکس

ص: 102

الدرس العاشر: الدنيا في نهج البلاغة

ما هي الدنيا:

يقول أمير المؤمنين علیه السلام

«و أحذركم الدنيا فإنها منزل قُلعةٍ (1) وليست بدار نجعة (2) قد تزينت بغرورها، وغرَّت بزينتها. دارها هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرِّها وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يُصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضنَّ بها على أعدائه. خيرها زهيد وشرها عتيد وجمعها ينفد، وملكها يُسلبُ، وعامرها يخرب» (3).

إن نظرة الإنسان للدنيا ستحدد له أهدافه وأولوياته وطرق عمله وستنعكس على مسلكيته فيها. و بالتالي فإن نظرة الإنسان للدنيا ستصنع شخصيته و تحدد مآله

و مصيره.

من هنا أكثر الإمام علیه السلام من وصف الدنيا و فصل ذلك بأساليب متعددة. فكيف يقدم الإمام علیه السلام هذه الدنيا؟

هناك عدة صفات أساسية تتميز بها الدنيا أشار إليها الإمام علیه السلام تتلخص بما يلي:

1 - الدنيا دار فناء:

«فإنها منزل قلعة وليست بدار نجعة».

ويقول علیه السلام:

«ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغير وعبر» (4)

فالدنيا ليست ملازمة للإنسان وإنما هي مرحلة يمر بها وجسر يعبره. وهذه المرحلة إذا قسناها بالمراحل التي يمر بها الإنسان منذ خلقه الله تعالى إلى أن يترك الدنيا ثم

ص: 103


1- قلعة: ليست بمستوطنة وثابتة
2- نجعة: طلب الكلأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الأمال
3- خطبة 113
4- خطبة 11. 224

حياة البرزخ التي هي أطول بكثير من عمر الإنسان في الدنيا، ثم الآخرة التي سيخلد فيها، سنجد الدنيا مقابل ذلك زهيدة جداً، لا قيمة لها.

و هذا ما عبر عنه أمير المؤمنين علیه السلام في العديد من كلماته:

«و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ...» (1).

«و لأ لفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ...» (2).

هذه الدنيا التي تمر بهذه السرعة و التي يخبر تعالى عنها في القرآن الكريم:

﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (3)

كم تستحق أن يلتفت إليها الإنسان و يصرف من طاقاته وإمكاناته التي أعطاه الله تعالى؟ هل تساوي نصف أو ربع أم أنها ليست شيئاً يذكر أمام المراحل الأخرى التي يعيشها؟ فلماذا يعطيها أكثر مما تستحق؟ و لماذا يتوجه إليها بكل مجهوده ويصرف فيها كل طاقاته وهو يعلم أنه سيتركها بعد لحظات؟! أليس حرياً بالعاقل أن يصرف طاقاته فيما هو أبقى له؟

أفلا قرأنا بقلوبنا هذه الكلمات النورانية لأمير المؤمنين علیه السلام:

«خيرها زهيد و شرها عتيد و جمعها ينفذ و ملكها يسلب و عامرها يخرب».

ويقول علیه السلام:

«عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها فإنما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوا، وأمّوا (4) علماً فكأنهم قد بلغوه ... وما عسى أن يكون بقاءُ من له يومٌ لا يعدوه وطالبٌ حثيثٌ من الموت يحدوه (5) ومزعجٌ في الدنيا حتى يفارقها رغماً، فلا تنافسوا في عز الدنيا و فخرها ...» (6)

ص: 104


1- خطبة 17، 3
2- خطبة 3، 128
3- سورة المؤمنون، الآيات / 112-114
4- امّوا: قصدوا علماً
5- يحدوه: يسوقه
6- خطية 99

2 - الدنيا دار غرور:

إن من صفات الدنيا السيئة أنها دار غش و خداع. فهي تزين كل قبيح و تقدمه للإنسان بأبهى صورة. تماما كسراب الصحراء القاحلة:

«قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها».

هذه الزينة التي تتألف من عدة عناصر تجمعها كلمة أمير المؤمنين علیه السلام:

فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حُفَّت بالشهوات و تحببت بالعاملة وراقت بالقليل و تحلَّت بالآمال و تزينَّت بالغرور، لا تدوم حبرتها (1) ولا تؤمن فجعتها غرّارة ضرّارة، حائلة (2) زائلة نافذة (3) بائدة (4) أكّالة غوالة (5)» (6).

فقد تزينت بظاهرها «حلوة» و استدرجت الإنسان بشهواته حفت بالشهوات و أغفلته عن قصر عمرها و تركه لها من خلال الآمال «تحلت بالآمال».

3- الدنيا دار امتحان:

إن الإنسان ممتحن في كل لحظة من لحظات هذه الدنيا و سيجد البلاء و سيجد البلاء و الامتحان و محاولات الاستدراج و المعاصي في أي موقع كان:

«فخلط حلالها بحرامها و خيرها بشرها و حياتها بموتها و حلوها بمرها لم يصفها الله تعالى لأوليائه و لم يضن بها على أعدائه».

الانغماس في الدنيا:

الإمام علي علیه السلام حذر من الانغماس و الغرق في الدنيا لما لها من تأثير سلبي إذا استخدمت بغير طاعة الله تعالى و لم يكن المأخوذ منها ما يغذي الحياة الآخرة لأنه يجب أن تكون في نظرنا و سلوكنا أنها مزرعة للآخرة و عوناً عليها فنأخذ منها ما ينسجم مع مشروعنا الأخروي و السعادة الأخروية الحقيقية. ولا نقبل عليها مع تجاهل النتائج والآثار والمآل، بل إن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار الجسيمة على مستوى على الفرد

ص: 105


1- حبرتها: سرورها ونعمتها
2- حائلة: متغيرة
3- نافذة: فانية
4- بائدة: هالكة
5- غوالة: مهلة
6- خطبة 109

و المجتمع، فيتفكك بذلك المجتمع و يعيش الأفراد فيه حالة الجشع و الطمع لا ينظر إلى الأمور بواقعية و لا يقيسها بميزان العقل كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«ومن عشق شيئاً أعشى (1) بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه و ولهت عليها نفسه فهو عبد لها، ولمن في يده شيء منها حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها» (2).

و يهذا يصل إلى مرحلة لم تعد تنفعه المواعظ و لا تفيده الزواجر حتى يصل إلى يوم يقول يا ليتني كنت تراباً، أو يطلب من الله تعالى العودة حتى يعمل صالحاً من جديد.

يقول علیه السلام:

«لا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ وهو يرى المأخوذين على الغِرَّة (3) حيث لا إقالة ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون» (4).

احذر الدنيا:

كان عليه السلام يحذر الناس دائماً من هذا الزمان الذي وصلوا إليه من قلة السالكين في طريق الخير و المقبلين على الدنيا و شرورها.

يقول علیه السلام:

«وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، و لا الشر فيه إلا إقبالاً و لا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً ...» (5).

وفي مواجهة ذلك لا بد من جهاد النفس و ترويضها بالأساليب المناسبة لها. فإذا وجدت نفسك قد غرقت في الدنيا حتى صارت الدنيا أكبر همك فعليك أن تتذكر الأنبياء و الأولياء وموقفهم من الدنيا و مقدار استفادتهم منها.

ص: 106


1- أعشى: أعمى
2- خطبة 10، 109
3- الغيّرة: البعثة و الغفلة
4- نفس المصدر السابق
5- خطبة 129

فهذا أمير المؤمين علیه السلام يقول:

«ألا و إن لكل مأموم إماماً يقتدي به و يستضيء بنور علمه، ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (1) و من طعمه بقرصيه (2) ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً (3) ولا ادخرت من غنائمها وفرا. ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً (4)، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أثاث دبرة (5) ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة (6).

يقو

ولكم في رسول الله أسوة حسنة:

يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«ولقد كان في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما يدلك على مساويء الدنيا وعيوبها: إذ جاع فيها مع خاصته (7) وزويت عنه (8) زخارفها مع عظيم زلفته (9) فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله محمداً أم أهانه، فإن قال أهانه، فقد كذب والله العظيم بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه ...» (10).

ويقول علیه السلام في موضع آخر:

«قد حقّر الدنيا وصغرها وأهون بها وهوّنها، وعلم أن الله زواها عنه اختياراً وبسطها لغيره احتقاراً، فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها عن نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً (11)، أو يرجو فيها،مقاماً، بلّغ عن ربّه معذراً ونصح لأمته منذراً. ودعا إلى الجنة مبشراً و خوّف من النار محذراً» (12)

ص: 107


1- طمريه: ثوبان باليان
2- قرصيه: رغيف الشعير اليابس
3- تبرا: فتات الذهب والفضة قبل صياغته
4- طمرا: الثوب الخلق البالي
5- دبره: التي عقر ظهرها فقل أكلها
6- مقرة: مرة
7- أي مع خصوصية وتفضله عند الله
8- أي ابتعدت عنه
9- أي قربه
10- خطبة 160
11- ) رياشاً: اللباس الفاخر
12- خطبة 109

حال أهل الإيمان مع الدنيا:

هنا نورد وصف أمير المؤمنين علیه السلام لأهل الإيمان و أولياء الله مع هذه الدنيا كيف تعاملوا معها و ماذا كانت تعني لهم وما هو مدى وقعها في نفوسهم و هم ليسوا بأنبياء ولا أئمة، لكن بإيمانهم وثقتهم بالله تعالى و عبادتهم الحقيقية التي تربطهم بالله تعالى ومن خلال تفكرهم بأحوال الماضين الذين جمعوا الدنيا كهارون وقارون، علموا بأن النفس مظانها في غدٍ جدث ينقطع في ظلمته أخبارها وتغيب آثارها ولا يأخذ معه الإنسان إلا عمله الخالص لله تعالى.

فيقول سلام الله عليه في وصف المتقين ونظرتهم إلى الدنيا:

« ... أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها ...» (1)

ويقول علیه السلام في موضع آخر:

« ... والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه ...» (2)

ويقول علیه السلام في موضع آخر يصف الزاهدين:

« ... كانوا قوماً من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها، فكانوا منها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يُبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة، ويرون أهل الدنيا يعظمون موتى أجسادهم وهم أشدُّ إعظاماً لموتى قلوب أحيائهم» (3).

وأيضاً يقول علیه السلام في وصف أوليائه:

« ... إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بأجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها، فأماتوا منها وخشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً ودركهم بها فوقتاً ...» (4)

ص: 108


1- نهج البلاغة خطبة المتقين
2- نهج البلاغة، ج 3، ص 74
3- نهج البلاغة، ج 2، ص 225
4- نهج البلاغة، ج 4، ص 101

109

ثم يقول علیه السلام في موضع آخر:

«أولئك و الله الأقلون عدداً و الأعظمون عند الله قدراً، و صحبوا الدنيا بأبدان أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ... آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ...» (1)

هذه هي بعض أحوال أهل الإيمان مع الدنيا حيث نراهم يعيشون في هذه الدنيا ولكن تطلعهم الحقيقي إلى الحياة الأبدية الأخرى حيث رضا الله ورضوانه ونرى كيف يتشوق الإمام لرؤيتهم تكريماً لهم بالفوز الذي حازوه.

يقول علیه السلام:

«فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ (2) وقراضة الجلم (3) و اتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم» (4).

خلاصة الدرس

1 - لم تكن الدنيا تعني شيئاً عند أمير المؤمنين علیه السلام وإنما هي دار ممر ومعبر إلى دار القرار وهي دار فناءٍ وعناء.

2- إن على القائد أن يكون المبادر دائماً إلى فعل الخيرات قبل الآخرين و من هم تحته من المنقادين. حتى يصح أن يكون قدوة يقتدي به غير في الفعل و العمل بل على القائد في موقعه أن يتحمل أكثر من غيره كما كان أمير المؤمنين علیه السلام.

3 - بعد أن تولى أمير المؤمنين علیه السلام السلطة كافح التحول الذي طرأ على الأمة و الانحراف عن السنة بأسلوبين: الأول الأسلوب الكلامي من خلال المواعظ و تعميم الثقافة الإسلامية. والثاني الأسلوب العملي من خلال بسط العدل في المواساة في العطاء و المعاملة بين كل شرائح المجتمع.

ص: 109


1- نهج البلاغة، ج 4، ص 38
2- الحثالة: ما لا خير فيه من القشور، والقرظ: نوع من النبات يستعمل في الدباغة
3- الجلم: مقرض يجز به الصوف، و القراض: ما يسقط منه عند الجز
4- هج البلاغة، ج 1، ص79

4 - أراد أمير المؤمنين علیه السلام لأهل الإيمان و أولياء الله أن يتعاملو مع الدنيا بالتفكر و طرح التساؤلات المنطقية. ومن خلال تفكرهم بأحوال الماضين الذين جمعوا الدنيا كهارون وقارون وكلهم علموا بأن النفس مظانها في غدٍ جدث ينقطع في ظلمته أخبارها و تغيب آثارها و لا يأخذ معه الإنسان إلا عمله الخالص لله تعالى.

فيقول علیه السلام في وصف المتقين ونظرتهم إلى الدنيا:

« ... أرادتهم الدنيا فلم يريدوها و أسرتهم فقدوا أنفسهم منها».

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«إن الدنيا دار فناء و عناء وَ غيَرِ وَعِبَرْ»

«و اتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتَّعظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمة، فإنها قد رَفَضَتْ من كان أشغف بها منكم».

«ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه. ومن طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة و سداد ...».

أسئلة حول الدرس

1 - كيف كانت نظرة أمير المؤمنين علیه السلام إلى الدنيا؟

2 - لماذا حذر الإمام من الدنيا؟

3 - ماذا فعل حب الدنيا بالناس بعد وفاة الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم؟

4 - كيف كافح الإمام علیه السلام ظاهرة حب الدنيا بين الناس؟

5 - كيف كانت حياة أمير المؤمنين علیه السلام أيام حكمه من حيث الترف أو الفقر؟

ص: 110

للمطالعة

علي علیه السلام إمام البررة

كتاب علي علیه السلام إمام البررة، هو شرح لأرجوزة نظمها المرجع الكبير الراحل و زعيم الحوزة الدينية في النجف الأشرف السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره.

شرح هذه الأرجوزة و حقق ما ورد فيها من الإشارات و الأخبار. العلامة السيد مهدي السيد حسن الموسوي الخراساني، و قدم له العلامة السيد علي الحسيني البهشتي.

يتألف الكتاب من ثلاثة مجلدات من القطع الكبير و قد أورد فيه الشارح الأبيات بشكل متلاحق معلقا على كل بيت أو شطر بما يحمله من الأخبار أو الإشارات إلى مناقب الأمير صلوات الله و سلامه عليه. فالكتاب على هذا يتميز بعدة جوانب أهمها:

* أنه يحتوي على مادة أدبية متميزة لمن يهوى الأدب.

* أنّ هذه الأرجوزة قد نظمها عالم كبير و محقق خبير وضليع كالسيد الخوئي قدس سره.

* أن المطالع لهذا الكتاب لا بدّ و أن يخرج منه بثقافة متميزة تختص بالجوانب الولائية و الخصائص الإلهية لأمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه.

مقتطفات من الأرجوزة:

هذا علي صاحب اللواء *** قد خصه النبي بالإخاء

يكفيه هذا شرفاً ومفخرا *** أبعد هذا شبهة ماذا ترى

شبّهك النبي بالسفينة *** سفينة لنوحٍ القديمة

تدور دورا أو يدور الحقُّ *** مداره حولك لا ينشق ُّ

على أن الكتاب على طوله لا يعتبر كتابا مملا لأن غناه بالأبيات لا ترغب القارىء بالقراءة فقط. بل يمكنه إذا أحب أن يحفظ أبيات هذه الأرجوزة حتى لا ينسى أي

فضيلة الإمامه علیه السلام.

ص: 111

للمطالعة: الدنيا

مقتطفات من وصية للإمام علي ابن أبي طالب إلى ابنه الحسن علیه السلام (1).

«من الوالد الفانِ المقر للزمان (2)، المُدبر العمر المستسلم للدهر الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى، و الظاعن عنها غداً إلى المولود المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام (3) ورهينة (4) الأيام ورمية (5) المصائب، وعبد الدنيا، و تاجر الغرور و غريم المنايا و أسير الموت و حليف الهموم، وقرين الأحزان، و نصب الآفات (6) و صريع الشهوات، و خليفة الأموات.

أما بعد، فإنَّ فيما تبيّنتُ من أدبار الدنيا عني، و جموح الدهر (7) علي و إقبال الآخرة إليَّ ما يَزَعُني (8) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي (9) غيرَ أني حيثُ تفرّد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدقني (10) رأي و صرفني عن هواي وصرَّح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدِّ لا يكون فيه لعب و صدقِ لا يشوبه كذب و وجدتك بعضي بل وجدتك كليِّ حتى كان شيئاً لو أصابك أصابني، و كأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. أحْيِ قلبك بالموعظة، و أمته بالزهادة وقوه باليقين و نوره بالحكمة، و ذلله بذكر الموت و قرره بالفناء (11) و بصرّه فجائع الدنيا و حذره صولة الدهر و فحش تقلب الليالي و الأيام واعرض عليه أخبار الماضين و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، و سر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا و عمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا.

يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا و حالها وزوالها وانتقالها وأنبأتك عن الآخرة وما أُعِدَّ لأهلها فيها، وضَرَبَتُ لك فيهما الأمثال لتعتبر بها

ص: 112


1- من وصية له علیه السلام 31
2- المعترف له بالشدة
3- هدف الأمراض ترمي إليه سهامها
4- المرهونة أي أنه في قبضة الأيام وحكمها.
5- ما أصابه السهم
6- لا تفارقه العلل
7- استقصاؤه وتغلبه
8- يكفني ويصوّني
9- كناية عن الآخرة
10- صرفني
11- اطلب منه أن يقر بالفناء

وتحذو عليها، إنما مثل من خبر (1) الدنيا كمثل قومِ سَفْرِ(2) نبا (3) بهم منزلٌ جديب (4)، فأموا منزلاً خصيباً وجَنَاباً مريعاً (5) فاحتملوا وعثاء (6) الطريق و فراق الصديق وخشونة السَّفر و جشوبه (7) المطعم، ليأتوا سعةَ دارهم و منزل قرارهم، فليس يجدون لشيءِ من ذلك ألماً و لا يرون نفقة فيه مغرماً، ولا شيء أحبّ إليهم مما قرَّبهم من منزلهم وأدناهم من محلّهم.

و اعلم يا بني أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، و للفناء لا للبقاء، و للموت لا للحياة، و أنك في منزل قُلُعة (8) و دار بلغة (9) و طريق إلى الآخرة، و أنك طريدُ الموت الذي لا ينجو منه هاربه و لا يفوته طالبه، ولا بدَّ أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيئة، قد كنت تحدُث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك و بين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك. أي بنيّ، إنّي وإن لم أكن عُمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عُدْتُ كأحدهم بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عُمُرتُ مع أوَّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعهُ من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرِ نخيله (10) و توخيت لك جميلة وصرفت عن مجهولة. واعلم أن أمامك عقبة كؤودا (11) المُخّفٌ (12) فيها أحسن حالاً من المثقل (13)، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أو على نار فارتد (14) لنفسك قبل نزولك و وطِّئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب (15) ولا إلى الدنيا منصرف» (16).

ص: 113


1- عرف الدنيا
2- المسافرون
3- لم يوافقهم المقام لوخامته
4- المقحط لا خير فيه
5- كثير العشب
6- مشقته
7- الجشوبة. الغلظ
8- أي لا يملك لنازله أو لا يدري متى ينتقل عنه
9- الكفاية وما يبلغ به من العيش
10- المختار المصفى
11- صعبة المرتقى
12- الذي خفف حمله
13- من أثقل ظهره بالأوزار
14- ارتده. ابعث رائداً من طيبات الأعمال توقفك الثقة به على جودة المنزل
15- الاستعتاب الاسترضاء، أي أن الله تعالى لا يسترضى بعد اغضابه إلا باستئناف العمل
16- لا انصراف إلى الدنيا بعد الموت

عکس

ص: 114

الدرس الحادي عشر: الدنيا - 2

كيف يجب أن ننظر إلى الدنيا:

إن الإسلام الحنيف لم يطلب من الإنسان أن يترك الدنيا بالمطلق بحيث يتوجه إلى الصحاري و الجبال و يجلس في الكهوف ويتعبد فقط. بل الإسلام أراد للإنسان بحكم كونه اجتماعياً بطبعه أن يجعل له روابط مع الناس و المحيط حتى يتكامل مع مجتمعه ليؤلفوا المجتمع الصالح، لذلك ألزمه بواجبات عديدة لها تأثير على سلوكه العملي سواء مع الله تعالى أم مع غيره من بني جنسه أو مع نفسه على صعيد التربية الروحية والسلوكية.

فالإسلام لم يطلب من الإنسان أن يكون رهبانياً بل أراده أن يعيش في هذه الدنيا و لكن ضمن الضوابط التي يحددها الشرع المقدس، لذلك ورد في الأحاديث أن الدنيا مزرعة الآخرة وأيضاً خذ من دنياك إلى آخرتك وورد أيضاً نعم العون الدنيا على الآخرة. ولكن كيف تكون عوناً.

هنا نرجع إلى أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول:

«إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار و يقتات منها ببطن الاضطرار» (1).

فحياته في الدنيا تكون مليئة بالدروس و العبر، فيصحح هذا الاعتبار طريقه إلى الآخرة فينبغي أن لا تعمي الدنيا بصر الإنسان عما وراءها. و هي الدار الآخرة وفيها

الحياة الحقيقية كما يقول الله تعالى:

( ... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (2).

و هذا ما يوصله في الآخرة إلى المراتب العليا.

ص: 115


1- قصار الحكم 367
2- سورة العنكبوت الآية / 64

ويقول علیه السلام في موضع آخر:

«إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئاً و البصير ينفذها بصره و يعلم أن الدار وراءها فالبصير منها شاخص و الأعمى إليها شاخص و البصير منها متزوّد و الأعمى لها متزود» (1).

هنا يؤكد أمير المؤمنين علیه السلام أن طالب الدنيا أعمى أي لا يفكر بآخرته التي تجمل و تختزن نتاج عمله أما المؤمن فهو البصير الذي يخرقها بصره ليرى نتاج العمل و يتزود لذلك اليوم.

و ينبه أمير المؤمنين علیه السلام في مكان آخر أن أهم ما يأخذه الإنسان من الدنيا هو ما يصلح به الآخرة و ما يكون ثمرته الآخرة فيوظف كل طاقاته بخدمة الحياة الأبدية الدائمة لذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، و إن كنت جازعاً على ما تفلَّت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك» (2).

ويقول في موضع آخر:

«ولا تصلح دنياك بمحق دينك ...» (3).

بل على الإنسان دائماً أن ينظر إلى آخرته على أنها هي الدائمة و يصلحها فإذا أصلحها هانت عليه الدنيا، و إذا هانت عليه الدنيا هان أمر آخرته، لذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«من أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه» (4).

فيكون بذلك سعيداً في الدنيا و الآخرة لأنه في الدنيا عاش تحت رضا الله تعالى و في الآخرة كان مقره مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وأما من اهتم فقط بسعادة الدنيا فإنه في الآخرة من الخاسرين.

يقول علیه السلام:

«وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها ...» (5)

ص: 116


1- خطبة 133
2- كتاب 107، 31
3- كتاب 2، 43
4- قصار الحكم 89
5- خطبة 14، 223

هل الزهد في الدنيا ملازم للفقر؟

عندما ننظر في حياة بعض الزاهدين نرى بأنهم يتجلببون الفقر، وربما يخطر في بال البعض بأن هناك علاقة بين الزهد وبين الفقر.

إن هذا المفهوم و هذا الانطباع خاطىء لأن الزهد هو ترك الدنيا بالقلب أو هو تفضيل الآخرة ونعيمها على الدنيا وما فيها.

ومن هنا قيل ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء.

لماذا نترك الدنيا؟

إن من يعيش في هذه الدنيا و يمتلك عقلاً سليماً عليه أن يخرج حب الدنيا من قلبه ويفرَّ إلى الآخرة بمعنى أن يعيش في الدنيا لأجل الآخرة وليس لأجل الدنيا خصوصاً عند التفكر في أحوال الماضين والبلاءات التي تحلَّ بالحاضرين ولغيرها من الأسباب الآتية:

أ - مخلوقون للآخرة لا للدنيا:

لأن الإنسان مخلوق لآخرته و ليس للدنيا لأنها دار قرار و استقرار كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام :

«يا بني إنما خلقت للآخرة لا للدنيا ...» (1)

«ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة ...» (2)

«ولسنا للدنيا خلقنا ولا بالسعي فيها أمرنا ...» (3)

ب- الدنيا دار فناء:

الإنسان خلق للبقاء وليس للفناء وهذه الدنيا فانية فلا بدّ من دار يخلد فيها الإنسان و هي الآخرة لذلك على الإنسان أن يترك الدنيا للآخرة.

يقول علیه السلام

«و الدنيا دار مُنِي لها الفناء» (4)

ص: 117


1- كتاب 74، 31
2- خطبة 8 157
3- كتاب 1، 55
4- خطبة 2، 45

«و ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها» (1).

«وأن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه» (2).

ج- الدنيا طريق ووسيلة إلى الآخرة:

يجب أن يتعامل الإنسان مع الدنيا ضمن هذا المفهوم بأن الدنيا هي ممر وطريق وجسر نعبر به إلى الآخرة.

يقول علیه السلام :

«فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها» (3).

«أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز و الآخرة دار قرار ...» (4).

د - الدنيا دار بلاء وابتلاء:

الدنيا خلقت للبلاء و الامتحان و بما أن الإنسان موجود في هذه الدنيا فإنه يُبتلى بشتى البلاءات وتبقى الآخرة هي الدار التي يعيش فيها الراحة و الهناء.

يقول علیه السلام:

«واعلم أن الدنيا دار بليَّة لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة» (5)

«إنما المرء فى الدنيا غرض تنتقل فيه المنايا ...» (6).

ه_ - علينا الاعتبار بمن مضى من هذه الدنيا:

يقول علیه السلام:

«و اعلموا عباد الله أنكم و ما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم» (7).

«و لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرّت من كان قبلكم» (8)

«أليسوا قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية» (9)

«فإن الذي في يدك من الدنيا قد كان له أهلٌ قبلك» (10)

ص: 118


1- خطبة 25، 186
2- نفس المصدر 29
3- کتاب 55.1
4- خطبة 1، 203.
5- كتاب 3 59
6- قصار الحكم 1. 191
7- خطبة 3 226
8- خطبة 10. 230
9- خطبة 6 129
10- ) قصار الحكم 3، 416

العلاقة بين الدنيا و الآخرة:

العلاقة بين الدنيا و الآخرة إما أن تكون علاقة سلب أو تكون علاقة إيجاب.

أما السلب:

فهو عندما ينظر الإنسان إلى الدنيا بأنها هي الهدف و يعمل عمله كله في الدنيا و لأجل الدنيا و هذه الحالة مذمومة و اتضح ذلك من خلال ما مرّ معنا في موجبات ترك الدنيا.

يقول علیه السلام

«إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا و تولاها أبغض الآخرة وعاداها وهما بمنزلة المشرق والمغرب وما شيء بينهما كلما قرب واحد بعد من الآخر، وهما بعدُ ضرّتان» (1).

«و اعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا» (2).

و يقول علیه السلام:

«ألا و إنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم إلا و أنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم» (3).

و أما علاقة الإيجاب:

فهي أن ينظر الإنسان إلى الآخرة بأنها هي الهدف و أنها هي المستقر و المأوى لذلك عليه أن يأخذ من دار الممر إلى دار المقر و عليه أن يصلح دار مقره و لا ينسي نصيبه من الدنيا و لكن ضمن الموازين الشرعية.

يقول علیه السلام:

«من أصلح آخرته أصلح الله أمر دنياه ...» (4).

«من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه ...» (5)

ص: 119


1- قصار الحكم 1: 103
2- خطبة 15 114
3- خطبة 10. 173
4- قصار الحكم.106
5- قصار الحكم 89

وأخيراً:

ليكن الهم في هذه الدنيا هو تحصيل المكارم و هجران المآثم حتى يسعد في الدنيا و الآخرة يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضيافة وليفُكَّ به الأسير والعالي، و ليُعط منه الفقير و الغارم، وليصبر نفسه على الحقوق و النوائب، ابتغاء الثواب، فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، و درك فضائل الآخرة، إن شاء الله» (1).

خلاصة الدرس

1- إن الإسلام الحنيف لم يطلب من الإنسان أن يترك الدنيا، بحيث يتوجه إلى الصحاري والجبال ويجلس في الكهوف ويتعبد فقط. بل شرع للإنسان بحكم كونه اجتماعياً بطبعه أن يقيم روابط مع الناس و محيطه حتى يتكامل مع مجتمعه ليؤلفوا المجتمع الصالح، لذلك ألزمه بواجبات عديدة لها تأثير على سلوكه العملي مع بني جنسه أو مع نفسه على صعيد التربية الروحية والسلوكية.

2 - كثير من الفقراء عندما يصبحون أغنياء يتركون طريق الزهد ليتحوّلوا إلى عاديين ثم يأخذون في ترك التدين شيئاً فشيئاً و يتراجعون أمام إغراءات هذه الدنيا و إغواءات الشياطين.

3 - أن الزهد هو ترك الدنيا بالقلب والجوارح إلا للضرورة أو هو تفضيل الآخرة و نعيمها على الدنيا وما فيها، وعلى هذا فإن الفقير لا يملك شيئاً حتى يزهد فيه، فاختبار الزاهدين لا يكون إلا مع الملك و التمكن ومن هنا قيل ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء.

4 - إن الله تعالى يريد من الناس أن يؤمنوا بالله تعالى إخلاصاً له وليس رهبةً وخوفاً

ص: 120


1- خطبة 2، 142

القوة و السلطة و الغنى، و يريد تعالى من الناس أن يتبعوا الأنبياء إيماناً و إخلاصاً وليس من أجل الدنيا و إغراءاتها.

5 - ليكن الهم في هذه الدنيا هو تحصيل المكارم و هجران المآثم حتى يسعد في الدنيا و الآخرة.

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«و لكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى».

«إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ويقتات منها ببطن الاضطرار».

«من أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه».

«إنما المرء في الدنيا غرض تنتقل فيه المنايا ...».

اسئلة حول الدرس

1 - هل يعني الزهد في الدنيا الفقر؟

2 - لماذا يجب علينا ترك الدنيا والسعي إلى الآخرة؟

3- لماذا ينشأ حب الاشباع في نفس الإنسان؟

4 - قارن ما بين الدنيا والآخرة وصف لنا العلاقة بينهما؟

5 - ما هي آثار ترك الدنيا؟

ص: 121

للمطالعة

مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام

كتاب مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمؤلفه الحافظ محمد بن سليمان الكوفي القاضي، من أعلام القرن الثالث.

حققه و علق عليه المحقق الخبير العلامة الشيخ محمد باقر المحمودي.

كتاب قيم يقع في ثلاث مجلدات من القطع الكبير يتميز بعدة مزايا:

1- أنه من الكتب القديمة التراثية حيث أنه ألف قبل ألف و مئة سنة ونيف.

2 - مؤلفه من العلماء الكبار الذين اشتهروا بالحفظ والرواية.

3 - يتميز الكتاب بسعته و شموليته بحيث لم يترك شاردة من التاريخ تتحدث عن أمير المؤمنين علیه السلام إلا و جمعها.

4 - يتميز أيضا بعدم ترتيب أبوابه فهو أشبه بالكشكول منه إلى المصنف المقسم إلى أبواب و فصول.

يعتبر هذا الكتاب من الكتب التي أهملها التاريخ إهمالا كبيرا، فعلى الرغم من أهميتها إلا أنها بقيت مخطوطة إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران حيث كان هناك مؤسسة تعنى بنشر التراث القديم للإسلام فقامت بإزاحة الغبار المتراكم عبر السنين عن هذا السفر القيم.

يعتبر هذا الكتاب من الكتب المتخصصة، حيث أنها تركز على موضوع واحد على الرغم من حجمه الكبير، فالذي ينوي الإطلاع الدقيق على ما ورد في تاريخ الإسلام حول مناقب أمير المؤمنين علیه السلام فما عليه إلا أن يتلقف هذا الكتاب القيم الذي يعد من أعظم ما كتب في هذا المجال.

ص: 122

للمطالعة: الدنيا

أتى علىُّ علیه السلام سوق الكرابيس فإذا هو برجل وسيم، فقال:

يا هذا عندك ثوبان بخمسة دراهم؟

فوثب الرّجل فقال: نعم يا أمير المؤمنين.

فلمّا عرفه مضى عنه وتركه، فوقف على غلام فقال له: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟

فقال: نعم، عندي ثوبان أحدهما أخير من الآخر، واحد بثلاثة و الآخر بدرهمين.

قال: هلمَّهما، فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاثة.

قال: أنت أولى به، يا أمير المؤمنين، تصعد المنبر و تخطب الناس.

فقال: يا قنبر، أنت شابٌّ و لك شرَّة الشَّباب (1)، و أنا أستحيي من ربي أن أتفضّل عليك؛ لأني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول:

«ألبسوهم ممّا تلبسون، و أطعموهم مما تأكلون».

ثم لبس القميص و مدّ يده في ردنه (2) فإذا هو يفضل عن أصابعه.

فقال: يا غلام اقطع هذا الفضل فقطعه.

فقال الغلام: هلمَّه أكفّه يا شيخ.

فقال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك (3)

ص: 123


1- شرّة الشباب: أي حرصه و نشاطه
2- الردن. بالضم: أصل الكم
3- الثقفي: الغارات، ج 1، ص 106، وكف الثوب خاط حاشيته، وهو الخياطة الثانية بعد الثل

عکس

ص: 124

الدرس الثاني عشر: الموت و ما بعده

مقدمة:

إن الإسلام العظيم اهتم اهتماماً بالغاً بموضوع الموت وما بعده باعتبار أنه حقيقة واقعة لا مفرّ منها ولا ملجأ، وذلك عبر الآيات والروايات الكثيرة وكذلك لأمير المؤمنين علیه السلام في كلامه اهتمام شديد بهذا الموضوع، وهذا ما ينبه الإنسان إلى ضرورة الالتفات إلى هذه المرحلة من مراحل المسيرة الإنسانية.

الخوف من الموت:

إن الخوف من الموت شعور ينتاب الكثيرين و يجعلهم يعيشون حالة القلق، وإن قلبهم ليخفق دائماً ويضطرب عندما يسمعون عن الموت و ما بعد الموت وأنه ملاقيهم.

و الشعور بالخوف ونوعه يختلف من إنسان إلى آخر، فالملحد مثلا يرهب الموت رهبة عظيمة لأنه يعتقد أنه فناء، بخلاف المؤمن فإنه أقل خوفاً من الموت لأنه مؤمن بأن الموت حياة جديدة، ومن المؤمنين المتقين من يستأنس بذكر الموت ويستبشر به.

و يحدثنا عنهم أمير المؤمنين علیه السلام في خطبة المتقين يقول:

«ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أوراحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب» (1).

و يصف علیه السلام حال ضعيفي الإيمان مع الموت بقوله علیه السلام:

«إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم، دارت أعينكم، كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة».

«يخشى الموت، ولا يبادر الفوت» (2).

ص: 125


1- نهج البلاغة خطبة المتقين
2- ن - م ق 77 150، ص 284

و لكن يبقى الموت حقيقة ثابتة لا تتغير حيث الكل مفارق لدنياه سواءٌ أحبَّ الموت أم أبغضه.

أما إمام المتقين علیه السلام شأن آخر مع الموت، فهو المطمئن برحمة الله ومحبته له، فقد كانت حياته كلُّها في سبيل الله الباقي بعد فناء كل شيء.

يقول علیه السلام:

«فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، و إن أسكت يقولوا جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا،والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه» (1)

«أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت؟ فوالله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي» (2)

«و إن أحب ما أنا لاقِ إليّ الموت» (3)

لماذا الخوف:

ليس غريباً أن يخاف ويجزع غير المؤمن من الموت لأن حياته التي قضاها بالمعصية والفساد والظلم، جعلت آخرته مظلمة ومخيفة، فكيف له أن يطمئن؟

اسمعوا إلى الإمام علیه السلام كيف يصف هذا الصنف حال موته:

« ... وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون، فغير موصوف ما نزل بهم.

اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم و لوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه و إنه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه، على صحة من عقله، وبقاء من لبّه، يفكر فيما أفنى عمره، و فيما أذهب دهره، ويتذكر أموالا جمعها أغمض (4) في مطالبها، وأخذها من مصرَّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته

ص: 126


1- ن.م. ك - 14 38 ص 264
2- خطبة 5. 193
3- ن.م خطبة 5. 5 ص 263
4- أغمض: لم يبالي من أين طلبها وجمعها. من حلالٍ أو حرام

تبعات جمعها ... فهو يعض يده ندامة ... فلم يزل الموت يبالغ في جسده ...» (1)

وفي هذا المعنى كلام كثير له علیه السلام.

و للتقي شأن آخر:

فيما التقي يقدم على ربِّ رحيم، و قد جاهد نفسه وأطاع ربَّه، فلماذا الخوف إذن؟

يقول الإمام علي مطمئناً المتقي بعد موته:

«(التقوى) ومصابيح لبطون قبوركم، وسكناً لطول وحشتكم ونفساً لكرب مواطنكم.» (2)

«فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد». (3)

فلتعلم إذن أن سعادتك وشقاءك لقاء عملك كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«الصدقة دواء منجح، و أعمال العباد في عاجلهم، نُصب أعينهم في آجالهم» (4)

فعليك إذن أن تستعد لمرحلة ما بعد الموت.

الاستعداد للموت وعدم الغفلة عنه:

و لأمير المؤمنين علیه السلام كلام كثير في الاستعداد للموت، وهو علیه السلام كان المستعد لهذه الساعة.

يقول علیه السلام مشيراً إلى استعداده:

«والله ما فاجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد، وطالبٍ وجد، وما عند الله خير للأبرار» (5)

وها هو علیه السلام من قلب شفيق ينصح الناس ليستعدوا لهذه الساعة التي لا بد منها.

«و استعدوا للموت فقد أظلّكم» (6)

ص: 127


1- ن.م. خ 108 109، ص 269
2- ن.م. خطبة 198،189، ص 276
3- ن.م. خطبة 221 230، ص 293
4- ن.م. ق 6 7، ص 287
5- ن م ك - 23، ص 283
6- ن.م خطبة 64، ص 96

ويحذّر من الغفلة عنه:

«فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة» (1)

ذكر الموت:

ولأجل أن لا تغفل عن الموت، وتكون مستعداً لهذه الساعة، عليك أن تذكرها دائماً ليس ذكر الخوف و القلق و اليأس، بل ذكر الطمأنينة و إعمار الحياة، وكبح جماح الشهوات و ارتكاب المعاصي لأن ذكر الموت هو من أهم المنبهات إلى طريق الاستقامة.

يقول الإمام علیه السلام في ذكر الموت:

« ... و طالب للدنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه ... ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغّص الشهوات، وقاطع الأمنيات، عند المساورة (2)»(3).

«ضع منخرك واحطط كبرك، واذكر قبرك» (4)

«أحي قلبك بالموعظة ... و ذلله بذكر الموت، و قرّره بالفناء ...» (5)

«و من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات» (6)

إن العبد بعد موته وبعد أن يفرغ من حسابه فلا بد له من مقرٍ يسكنه، فهنا تظهر الوجوه فإما أن تكون ناعمة ناظرة إلى ربها ناضرة لسعيها راضية و إما أن تكون عليها

غبرة ترهقها قترة أي إما أن يكون من أهل الجنة أو من أهل النار.

يقول علیه السلام:

«وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به» (7)

ويقول علیه السلام في موضع آخر:

«فكفى بالجنة ثواباً و نوالاً وكفى بالنار عقاباً ووبالاً».

و نراه قد وصف لنا الجنة و النار وكأنه قد رآهما وعاينهما.

من هنا علينا أن لا نغفل عن السعي في فكاك رقابنا من النار خصوصاً أن باب

ص: 128


1- ن.م. خطبة 64، ص 264
2- المشاورة
3- ن.م خطبة 99، ص 268
4- ن.م، قصار الكلمات 398، ص 285
5- ن.م. ك 31 ص 286
6- ن.م. قصار الكلمات 31، ص 283
7- خطبة 64

التوبة ما زال مفتوحاً أمام الطالبين ولا نسوّف إلى أن يحين الأجل فعندها لا نرى من أعمالنا ما نستحق به دخول الجنة و تجنب النار يقول مولى الموحدين علیه السلام:

«فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها» (1)

وأيضاً:

«وإياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا» (2)

بعض ما يوجب دخول النار:

1 - القتل

إن من أبرز ما يوجب دخول النار هو سفك الدماء المحترمة التي حرَّم الله قتلها و ذلك ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام بقوله:

«و الله سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء، يوم القيامة» (3)

2 - كثرة الكلام قد يورد النار:

يقول علیه السلام

«و من كثر كلامه كثر خطؤه، و من كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار» (4)

الإمام (السلطان) الجائر:

يقول علیه السلام:

«وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضلَّ و ضُلّ به، فأمات سنّة ماخوذة و أحيا بدعة متروكة» (5)

4 - من كان خصماؤه المساكين:

يقول علیه السلام:

« ... و إلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسى لمن

ص: 129


1- خطبة 183
2- كتاب 69
3- كتاب 53
4- ن.م ق 349 ص 304
5- ن.م كلام له 164 ص 293

خصمه عند الله الفقراء و المساكين والسائلون والمدفوعون، والغارمون وأبناء السبيل، ومن استهان بالأمانة ورتع في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه عنها» (1)

بعض ما يقرّب من الجنة:

1 - طاعة الإمام:

طاعة ولي الأمر هي من الأمور المهمة التي تدخل الجنة لأنه بطاعته يكون الإنسان قد أدَّى التكليف المفترض عليه لأنه أعرف بمصالح الأمة و مفاسدها وأن الله تعالى أكدّ على هذه المسألة في القرآن الكريم:

(اطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) (2).

ويقول الإمام علي علیه السلام في هذا المجال:

«وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه فإن اطعتموني فإني حاملكم إنشاء الله على سبيل الجنة» (3).

2 - أداء الفرائض:

إن من أفضل الأعمال عند الله (عزّ وجلّ) هو أداء الفرائض المتوجبة على الإنسان لأن الله تعالى إما يُعبد بأدائها على نحو الخلوص إليه تعالى في النية و من يفعل ذلك فإن مثواه الجنة لأنه أدى ما عليه.

لذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«الفرائض، الفرائض: أدّوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة» (4)

3 - صدق النية:

إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امريء ما نوى و بالنية يجازى الإنسان على عمله إن كانت خالصة لوجه الله تعالى خالية من الرياء فعندها تؤدي بصاحبها إلى الجنة.

ص: 130


1- ن.م، كلام له 26، ص 2940
2- سورة النساء الآية: 59
3- خطبة 156
4- خطبة 167

يقول إمامنا علیه السلام:

«وإن الله يُدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عبادة الجنة.» (1)

4 - الجهاد في سبيل الله:

هو من أفضل الأبواب التي تورد إلى الجنة لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى و حفظ الأمة و تقوية شوكتها و بما فيها من الانتصار للمؤمنين والمستضعفين وكسر شوكة المستكبرين، لذلك في الجنة باب باسم الجهاد يرد منه المجاهدون الذين انتصروا إما بدمائهم وشهادتهم أو بالعزة التي منحوها للأمة بثباتهم وإخلاصهم وعزيمتهم.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه ...» (2)

في الختام:

اشارة

إن طريق الجنة وطريق النار واضحان، ويمكن أن يختبر ذلك كل واحد منا داخل نفسه من خلال سلوكه مع قليلٍ من المراقبة للنفس و مسلكها، فإن طريق الجنة طريق صعب مستصعب لأن الإنسان في هذا الطريق سوف يتنازل عن كثير من مشتهايته و ملذاته الشخصية التي تحصل بغير رضا الله ولا يراعى فيها مصلحة الآخرين والمصلحة الأخروية فلذلك تسمى بطريق ذات الشوكة وكل هذا الألم ألم آنيّ ينقضي بانتهاء الدنيا حتى يحل مكانه السعادة الأبدية و الدائمة. هذا بخلاف طريق النار المحفوف بالشهوات والملذات وما يزيّنه الشيطان و أعوانه للإنسان حيث يزين له القبيح و يقبِّح له الحسن حتى يصل الإنسان في هذا الطريق إلى مرحلة الاغترار بالإثم.

لذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«إن الجنة حفَّت بالمكاره و إن النار حفَّت بالشهوات» (3)

ويقول في موضع آخر:

«و ليكن همك فيما بعد الموت» (4).

ص: 131


1- قصار الحكم 42
2- خطبة 27
3- خطبة 176
4- كتاب 2. 22

لأن ما بعد الموت هو الحياة الأبدية الدائمة ... الموت يأتي بغتة فما أسرع الملتقى فعلينا أن نتهيأ لهذه اللقيا و نتزود بخير الزائد:

«فإن كنت في إدبار و الموت في إقبال فما أسرع الملتقى» (1)

خلاصة الدرس

1- إن الإسلام العظيم اهتم اهتماما بالغاً بموضوع الموت و ما بعده باعتبار أنه حقيقة واقعة لا مفرّ منه و لا ملجأ، و ذلك عبر الآيات و الروايات الكثيرة.

2 - إن الخوف من الموت شعور إنساني عام، ففكرة الموت تجعل الإنسان يعيش حالة القلق، وإن قلبه ليخفق دائماً ويضطرب عندما يسمع عن الموت وما بعد الموت وأنه سيموت لا محالة.

3 - أن غير المؤمن يخاف و يجزع من الموت لأنه قضى حياته بالمعصية و الفساد و الظلم فكيف له أن يطمئن، و أما المؤمن فإنه يعلم أنه مقدم على ربِّ رحيم، وقد جاهد نفسه وأطاع ربَّه، فلماذا يخاف؟

4 - إن تذكر الموت دائماً، ليس ذكر الخوف والقلق وتدمير الحياة، بل ذكر الطمأنينة وإعمار الحياة، وكبح جماح المعاصي، لأنه من أهم المنبهات إلى طريق الاستقامة.

5 - مما يوجب دخول النار في الآخرة:

1 - القتل للنفس المحترمة.

2 - اتباع السلطان الجائر.

6 - مما يوجب دخول الجنة

1 - طاعة الإمام المفترض الطاعة و ولي الأمر.

2 - أداء الفرائض.

3- الجهاد في سبيل الله.

ص: 132


1- قصار الحكم 29

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين علیه السلام:

«هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه.»

«وطالب للدنيا و الموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه ... ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغِّص الشهوات، وقاطع الأمنيات»

«ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات»

«و من كثر كلامه كثر خطؤه، و من كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار».

اسئلة حول الدرس

1 - كيف يختلف الخوف من الموت بين إنسان وآخر ولماذا؟

2 - كيف يكون الإنسان مستعدا للموت؟

3 - ما هي آثار تذكُّر الموت؟

4- اذكر بعض الأمور التي توجب دخول النار؟

5 - اذكر بعض الأمور التي تقرب من الجنة؟

للمطالعة

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة

كتاب عظيم الشأن صنفه العلامة المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي قدس سره.

ويعتبر هذا الكتاب من أفضل الشروح التي كتبت لنهج البلاغة في القرن الأخير وهو كتاب ضخم يقع في أقل طبعاته في إحدى وعشرين مجلدا.

ص: 133

ومن الأمور التي امتاز بها هذا الكتاب:

ذكر أسانيد نهج البلاغة من أصولها، وإرجاع ما تبعثر من كلام أمير المؤمنين علیه السلام أو نقص منه إلى محله، كما أن المصنف تحدث بالتفصيل حول الأمور التاريخية التي

تضمن النهج إشارات إليها.

يقول المصنف في مقدمته ... وسميته منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة وجعلته هدية إلى حضرة من دون فنائه يحط مطايا الآمال، وببابه تقرع أيادي السؤال، حجة الله على العالمين، و آية الله في الأرضين، المتشرف بمنقبة:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).

و المخصوص بكرامة:

(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)

نعمة الله على الأبرار، ونقمته على الفجار الحائز قصب السبق في مضمار الفخار، الجامع من بدايع الفضل للوامع الافتخار صاحب المواهب الزاهرة وحاوي المناقب الباهرة سيدي ومولاي ومولى الكونين ووصي رسول الثقلين أبي الحسنين، يعسوب الدين أمير المؤمنين، أسد الله الغالب علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه و على أولاده الطاهرين ونفسي وروحي فداه مع أرواح العالمين.

ص: 134

للمطالعة: الجنة في كلام أمير المؤمنين علیه السلام:

«فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها، ولذهلت بالفكر في اصطفاف (1) أشجار غيّبت عروقها في كثبان (2) المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس الؤلؤ الرَّطب في عساليجها وأفنانها (3)، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها (4) تُجنى (5) من غير تكلُّف فتأتي على منية مجتنيها، ويّطاف على نُزالها في أفنية قصورها بالأعسال المصّفقة (6) ... قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلّوا دار القرار، وأمنوا نقلة الأسفار فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة، لزهقت نفسك شوقاً إليها، و لتحملّت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها. جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته. (7)

هذا بعض صفة الجنة، أما بعض صفة النار.

النار في كلام أمير المؤمنين علیه السلام:

وردت أحاديث كثيرة عن أمير المؤمنين علیه السلام يصف فيها أهل النار و هم في النار.

يقول علیه السلام:

«أما أهل المعصية فأنزلهم شرَّ دار، وغلَّ الأيدي إلى الأعناق، وقرن النَّواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل (8) القطران، ومقطعات النيران في عذاب قد

ص: 135


1- اصطفاف الأشجار: تضارب أوراقها بالنسيم بحيث يسمع لها صوت
2- الكثبان: جمع كثيب وهو التل
3- الأفنان: جمع فنن وهو الغصن
4- غلف: جمع غلاف والأكمام: جمع كم بكسر الكاف و هو وعاء الطلع وغطاء النوار
5- تجنى: تقطف
6- المصفقة: المصفاة
7- خطبة 32. 165
8- السرابيل: القمصان

اشتد حرّه، وبابٌ قد أُطبق على أهله في نار لها كلبٌ (1) ولجبٌ (2)، ولهبٌ ساطعٌ، وقصيفٌ (3) هائلٌ، لا يظعنُ مقيمها ولا يُفادي أسيرها ولا تفصمُ كبولها (4)» (5).

ويقول علیه السلام أيضاً فى وصف النار وغضب خازنها:

«أفريتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، و العثرة تدميه و الرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ضجيع حجر و قرين شيطان، أعلمتم أن مالكاً (6) إذا غضب على النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعاً من زجرته» (7).

ويصف علیه السلام شدة نارها ولهيبها:

«في موقفٍ ضنك المقام، وأمورٍ مشتبهة عظام، ونارٍ شديد كلبُها، علٍ لجبها، ساطعٍ لهبها متغيظٍ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيدٍ خمودها، ذاكٍ وقودها مخيف وعيدها، غمٍ قرارها مظلمةٍ أقطارها حاميةٍ قدورها فظيعةٍ أمورها» (8).

علي قسيم الجنة و النار

عن أبي الصَّلت الهرويِّ، قال: قال المأمون لعلي بن موسى الرضا علیه السلام:

أخبرني عن جدِّك أمير المؤمنين بأي وجه هو قسيم الجنّة والنار؟

فقال له الرّضا علیه السلام: ألم ترو عن آبائك، عن عبد الله بن عبّا أنه قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول:

«حبُّ عليّ إيمان، بغضه كفر»؟

فقال: بلى. فقال الرّضا علیه السلام:

«فلما كانت الجنة للمؤمن، والنار للكافر، فقسمة الجنة و النار إذا كان على حبّه و بغضه فهو قسيم الجنّة والنار.»

ص: 136


1- كلب: هيجان
2- لجب: الصوت المرتفع
3- القصيف: أشد الصوت
4- كبولها: قيودها
5- خطبة 108. 109
6- خازن النار
7- خطبة 182، 183
8- خطبة 232، 190

فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك إنك وارث جدّك.

قال أبو الصَّلت: لمّا انصرف الرضا علیه السلام إلى منزله، قلت له: جعلت فداك، ما أحسن ما أجبت به!

فقال علیه السلام: يا أبا الصَّلت، إنما كلّمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدِّث عن آبائه، عن علي علیه السلام أنه قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«يا علي أنت قسيم الجنّة و النار يوم القيامة، تقول للنار هذا لي و هذا لك» (1)

ص: 137


1- ينابيع المودة، ص 85

عکس

ص: 138

فهرس

المقدمة ... 5

الدرس الأول: ما هو نهج البلاغة؟ ... 7

أسباب تأليف نهج البلاغة و تسميته ... 8

مصادر نهج البلاغة ... 10

مضمون نهج البلاغة ... 11

ميزتان ... 12

للمطالعة: جامع نهج البلاغة ... 16

الدرس الثاني: التقوى ... 19

مقدمة ... 19

التقوى ... 19

التقوى «وقاية لا قيود» ... 21

التقوى تقي الإنسان، و الإنسان يحافظ عليها ... 22

للمطالعة: يوم من حكم علي علیه السلام ... 26

الدرس الثالث: العبادة (1) ... 29

العبادة سنّة تكوينية عامة ... 29

العبودية سنة اجتماعية ... 31

عبادة الله تعالى هي الفوز ... 32

العبادة هي سر ارسال الأنبياء صلوات الله عليهم ... 33

للمطالعة: العبادة ... 36

ص: 139

الدرس الرابع العبادة (2) ... 39

لزوم العبادة ... 39

كيفية العبادة ... 41

الإخلاص في العبادة ... 42

للمطالعة: حب علي علیه السلام ... 47

الدرس الخامس: الحق في نهج البلاغة ... 49

امکان معرفة الحق ... 49

معنى الحق ... و ما يميزه عن الباطل ... 51

أسباب اشتباه الحق بالباطل ... 52

للمطالعة: الحق و الباطل «كلمة حق عند سلطان جائر» ... 58

الدرس السادس: أهل الحق وأهل الباطل ... 61

أهل الخطايا وأهل التقوى ... 61

أهل اليقين وأهل العمى ... 62

أهل العدل وأهل الهوى ... 62

أهل الجهل وأهل الباطل ... 63

الإفراط في الحب والبغض ... 63

آثار ترك الحق ... 64

للمطالعة: كلمات حق لابن أبي الحديد في الإمام علي علیه السلام ... 70

الدرس السابع: القيم الأخلاقية ... 73

تعريف الأخلاق و ضرورة القيم الأخلاقية ... 73

للمطالعة: قيم الإمام علي علیه السلام وتواضعه ... 81

ص: 140

الدرس الثامن: الغرائز وتوجيهها ... 83

مقدمة ... 83

للمطالعة: أخلاق مالك الأشتر ... 91

الدرس التاسع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 93

مقدمة ... 93

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق الله ... 93

دور الأنبياء والأئمة والصالحين ... 95

انتشار المنكر والفساد ... 96

للمطالعة: الإمام علي علیه السلام و الأطفال ... 101

الدرس العاشر: الدنيا في نهج البلاغة ... 103

ما هي الدنيا ... 103

الانغماس في الدنيا ... 105

احذر الدنيا ... 106

ولكم في رسول الله أسوة حسنة ... 107

حال أهل الإيمان مع الدنيا ... 108

للمطالعة: الدنيا ... 108

الدرس الحادي عشر: الدنيا (2) ... 115

كيف يجب أن ننظر إلى الدنيا ... 115

هل الزهد في الدنيا ملازم للفقر ... 117

لماذا نترك الدنيا ... 117

العلاقة بين الدنيا والآخرة ... 119

للمطالعة: الدنيا ... 123

ص: 141

الدرس الثاني عشر: الموت و ما بعده ... 125

مقدمة ... 125

الخوف من الموت ... 125

لماذا الخوف ... 126

وللتقي شأن آخر ... 127

الاستعداد للموت وعدم الغفلة عنه ... 127

ذكر الموت ... 128

بعض ما يوجب دخول النار ... 129

بعض ما يقرّب من الجنة ... 130

في الختام ... 131

للمطالعة: الجنة في كلام أمير المؤمنين علیه السلام ... 135

الفهرس ... 138

ص: 142

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.