فدک في نهج البلاغة

هوية الکتاب

فدك في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية

إخراج فني: نصير شكر

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة: 1432 ه_ / 2011 م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

:هاتف 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 15

فدک

في نَهْج البَلاغَةِ

إعداد مكتبة الروضة الحيدرية

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

مقدمة المكتبة

لقد أثارت «أزمة فدك» جدلاً كبيراً، وإلى اليوم، في الأمة الإسلامية التي فجئت وفجعت برحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى، و كان عليها أن تعيش تجربة جديدة، ألا و هي تجربة انقطاع الوحي.

و عليه حصلت خلافات كبيرة جرّاء ذلك، كان سببها الرئيسي الابتعاد عن ركني الهداية: القرآن و العترة، و التنافس فيها فرغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من تبليغه لإتمام النعمة و إكمال الدين، و قد أشار الشهرستاني في الملل و النحل إلى هذا الخلاف حيث قال: «و الخلاف الخامس في الإمامة، و أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان» (1).

و نتج من هذا الخلاف، الخلاف السادس - على حدّ تعبير الشهرستاني - و هو الخلاف في أمر فدك و التوارث عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ممّا أدّى إلى مقاطعة فاطمة الزهراء علیها السلام للسلطة آنذاك، حتى أنّها دُفنت

ص: 5


1- الملل والنحل للشهرستاني 24:1

ليلاً و أوصت أن لا يصلي عليها رأس الحكومة آنذاك أي لم ترتض مشاركتهم في تجهيزها و تشييعها.

و قد تم لحدّ الآن تأليف مئات الكتب - المستقلة أو الضمنية - عن هذا المسألة، و نحن أيضاً في ضمن «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» أحببنا نشر كتاب «فدك في نهج البلاغة» حيث ذكر المؤلف ما دار حول فدك بصورة مقتضبة، و بالاعتماد على المصادر الموجودة و شروح نهج البلاغة.

ص: 6

تمهيد

نهج البلاغة و فدك

لما بايع الناس أمير المؤمنين علیه السلام، بدأ الإمام بترتيب الأمور و تنظيمها، و كان أهم أمر عنده ترتيب عمل الولاة و الأمراء على البلاد و متابعة شؤونهم، حيث نقرأ في نهج البلاغة موارد كثيرة من كتب أمير المؤمنين علیه السلام إلى ولاته و عماله و فيها التوبيخ و العتاب، و فيها النصيحة و فيها العزل، ممّا يدلّل على اهتمامه علیه السلام بهذا الشأن.

و من تلك الكتب و المراسلات، ما كتبه علیه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة، يعاتبه فيه الحضوره مأدبة قوم من ملأ البصرة، و كان الغني في تلك المأدبة مدعو، و الفقير مجفوّ، و كان فيها نوع من الإسراف، ويذكر علیه السلام في الكتاب انّ الإمام و الحاكم هو المقتدى للناس، فعليه أن يسلك في حياته سلوك الزاهدين.

وبهذه المناسبة يشير أمير المؤمنين علیه السلام إلى زهده في الدنيا، ثم يعرّج على فدك ويقول: «بلى كانت في أيدينا فدکٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قومٍ، و سخت عنها نفوس قومٍ آخرين،

ص: 7

و نعم الحكم الله. و ما أصنع بفدكٍ وغير فدك، و النّفس مظانّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، و تغيب أخبارها، و حفرةٌ لو زيد في فسحتها، و أوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر و المدر، و سدّ فرجها التراب المتراكم» (1).

و سنتكلّم في شرح هذا الكلام الدالّ على ما جرى في أمر فدك، ضمن فصول كما يلي:

ص: 8


1- نهج البلاغة الكتاب: 45

الفصل الأول

قوله علیه السلام: «بلى كانت في أيدينا فداً من كلّ ما أظلّته السّماء».

وستكلّم عن أمر فدك ضمن النقاط التالية:

1 - أموال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ممتلكاته:

اشارة

هاجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من مكة إلى المدينة و لا شيء معه من أموال الدنيا سوى زاده و راحلته، و كان أهل المدينة تنازلوا عن بعض أراضيهم لصالح النبي صلی الله علیه و آله و سلم يتعيش بها، ففي صحيح مسلم و غيره: «انّ الرجل كان يجعل للنبي صلی الله علیه و آله و سلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة و النظير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه» (1).

وفي صحيح البخاري انّ أمّ أنس بن مالك كانت أعطت للنبي صلی الله علیه و آله و سلم علاقاً من أموالها، و أعطاها النبي صلی الله علیه و آله و سلم لأم أيمن، و بعد فتح خیبر ردّ النبي الغداق على أمّ أنس وعوّض أم أيمن مكانهنّ من حائطه

ص: 9


1- صحیح مسلم: 5 / 163

أو من خالصه (1).

و هذه الأموال التي حازها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وصلت إليه بطرق مختلفة، إما بالوصية إليه أو بحكم الفيء والانفال، أو بعنوان خمس الغنائم، و كان صلوات الله عليه لزهده في الدنيا يأخذ منها قوت عياله، و يصرف الباقي في مصالح المسلمين و سدّ خلّاتهم و إكرام الضيوف وفي السلاح و الكراع حسبة الله و تقرباً إليه، و زهادة في أموال الدنيا.

قال ابن أبي الحديد: «مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و له ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر و فدك و بني النظير، و كان له وادي نخلة، و ضياع أخرى كثيرة بالطائف» (2).

ويمكن تلخيص تلك الأموال و الضياع كما يلي:

ألف - هبة مخيريق:

كان مخيريق من أغنياء اليهود و من أحبارهم و علمائهم، قال عنه ابن هشام: «قال ابن إسحاق: كان حبراً عالماً، و كان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، و كان يعرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بصفته و ما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، و كان یوم السبت، قال: يا معشر يهود و الله أنّكم لتعلمون إنّ نصر محمد عليكم الحق، قالوا: انّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ

ص: 10


1- صحيح البخاري: 3 / 144
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 147/15

سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأحد، و عهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله، فلمّا اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - فيما بلغني - يقول: مخيريق خير.يهود. و قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمواله» (1).

و في وفاء الوفا للسمهودي: وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلی الله علیه و آله و سلم: الدلال، وبرقة، والأعراف، والصافية، والميثب، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم» (2).

فهذه الأموال بقت بيد النبي صلی الله علیه و آله و سلم يتصرّف فيها كما يشاء إلى أن أوقفها في السنة السابعة الهجرية على فاطمة علیها السلام و أولادها، و هو كان أول وقف في الإسلام، و منه تعلّم المسلمون كيفية الوقف، قفي الطبقات لابن سعد عن محمد بن كعب قال: «كان الحبس على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حبس سبعة حوائط بالمدينة: الأعواف، و الصافية، و الدلال، و الميثب، و برقة، و حسنى، و مشربة أم إبراهيم. قال ابن كعب: و قد حبس المسلمون بعده على أولادهم و أولاد أولادهم» (3).

و مما يدلّ على وقفيتها وقفاً خاصاً لفاطمة علیها السلام ما رواه الكليني عن أحمد بن محمد، عن أبي الحسن الثاني علیه السلام قال: سألته عن الحيطان

ص: 11


1- السيرة لابن هشام 2 / 362 نحوه تاريخ الطبري: 2 / 209
2- وفاء الوفا للسمهودي: 3/ 150
3- الطبقات لابن سعد: 1/ 503

الله

السبعة التي كانت ميراث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لفاطمة علیها السلام، فقال: «إنّما كانت وقفاً، و كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه و التابعة يلزمه فيها، فلما قبص جاء العباس يخاصم فاطمة علیها السلام فيها، فشهد علي علیه السلام و غيره أنّها وقف على فاطمة علیها السلام، وهي: الدلال، و العواف، و الحسنى، و الصافية، و ما لأم إبراهيم، و الميثب، و البرقة» (1).

و كذلك ما ورد في وصيتها علیها السلام ممّا رواه أبو بصير عن أبي جعفر قال: «ألا اُحدّثك بوصية فاطمة علیها السلام ؟ قلت: بلى، فأخرج حقاً أو سفطاً، فأخرج منه كتاباً فقرأه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أوصت بحوائطها السبعة: العواف، والدلال، و البرقة، و الميثب، و الحسنى، و الصافية، و مال أم إبراهيم إلى علي بن أبي طالب، فإن مضى علي فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، شهد الله على ذلك، و المقداد بن الأسود الكندي، و الزبير بن العوام، و كتب علي بن أبي طالب».

وروي انّ هذه الحوائط كانت وقفاً، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يأخذ منها ما ينفق على أضيافه و من يمرّ به، فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة علیها السلام فيها، فشهد علي علیه السلام و غيره أنّها وقف عليها» (2).

ص: 12


1- الكافي للكليني: 7 / 47، ح 1
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: 4 / 244 - 5579. ح 5579

و ربما يؤيّد هذا ما تقدّم من رواية ابن سعد انّ المسلمين بعد هذا حبّسوا على أولادهم و أولاد أولادهم، حيث يشير هذا النص إلى انّ وقف الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن وقفاً عاماً، بل وقف خاص على ابنته، و لذا اقتدى المسلمون به وبدؤوا بالوقف على أولادهم.

ب - أرض بني النضير:

وهي ممّا أفاءها الله تعالى على رسوله بعد ما أجلاهم من المدينة بسبب خيانتهم و عدم الوفاء بالعهد، فصارت له خاصة، ففي إمتاع الأسماع للمقريزي: «قال عمر: ألا تخمّس ما أصبت؟ فقال صلی الله علیه و آله و سلم: لا أجعل شيئاً جعله الله لي دون المؤمنين بقوله: «ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرى فللهِ وَلِلرَّسُول ...» (1).

و في صحيح البخاري عن عمر قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلی الله علیه و آله و سلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل و لا ركاب، فكانت الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خاصة، و كان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح و الكراع عدة في سبيل الله» (2).

و أضاف المقريزي قائلاً: «وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جعلها حبساً لنوائبه، و كان ينفق على أهله منها، كانت خالصة له، فأعطى من أعطى منها و حبس ما حبس، و كان يزرع تحت النخل،

ص: 13


1- إمتاع الأسماع للمقريزي: 1/ 1917، السيرة الحلبية: 2/ 568
2- صحيح البخاري: 3 / 227، صحیح مسلم: 5 / 151

و كان يدخر منها قوت أهله سنة من الشعير و التمر لأزواجه و بني المطلب، و ما فضل جعله في الكراع و السلاح» (1).

ج - أراضي خيبر:

قال الماوردي: «كانت خيبر ثمانية حصون: ناعم، و القموص، و شق و النطاة و الكتيبة، و الوطيح، و السلالم، و حصن الصعب بن معاذ، و كان أوّل حصن فتحه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم منها ناعم ثم القموص ثم حصن الصعب بن معاذ، و كان أعظم حصون خيبر و أكثرها مالاً و طعاماً و حيواناً، ثم الشق و النطاة و الكتيبة، فهذه الحصون الستة فتحها عنوة، ثم افتتح الوطيح و السلالم، و هو آخر فتوح خيبر صلحاً بعد أن حاصرهم.

و ملك من هذه الحصون الثمانية ثلاثة حصون: الكتيبة و الوطيح و السلالم، أما الكتيبة فأخذها بخمس الغنيمة، و أما الوطيح و السلالم فهما ممّا أفاء الله عليه لأنّه فتحهما صلحاً، فصارت هذه الحصون الثلاثة بالفيء و الخمس خالصة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» (2)

د- وادي القرى:

و هو واد بين المدينة و الشام، و سمّي بهذا الاسم لأنه مؤلّف من

ص: 14


1- إمتاع الإسماع للمقريزي: 1/ 191
2- الأحكام السلطانية للماوردي: 1/ 200

عدة قرى متصلة، اتجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نحوه بعد فتح خيبر، و افتتحه عنوة، و كان له صلی الله علیه و آله و سلم منه الخمس.

ه_ - مهزور:

و هو موضع بسوق المدينة، و يظهر ممّا ذكره ابن أبي الحديد أنّه صلی الله علیه و آله و سلم تصدّق به على المسلمين في حياته، قال: «وتصدّق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين» (1)، (2)

و - فدك:

قيل: سمّيت فدك بفدك لأنّ أول من نزلها كان اسمه فدك بن حام فسمّيت باسمه (3).

و هي قرية كبيرة بقرب خيبر ذات نخل كثير و فيها عين فوّارة، كانت خالصة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ممّا أفاءه الله عليه، إذ لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب بل فتحت صلحاً.

ففي سنن أبي داود: «بقيت بقية من أهل خيبر تحصّنوا، فسألوا النبي صلی الله علیه و آله و سلم أن يحقن دماءهم ويسيّرهم ففعل، فسمع بذلك أهل فدك

ص: 15


1- شرح النهج: 1/ 198
2- و للمزيد راجع معالم المدرستين للعلامة العسكري: 2/ 132، و فدك للمحقق الفاضل السيد محمد باقر الجلالي: 19، و باقي الكتب التي تتحدّث عن فدك و تركة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم
3- راجع معجم البلدان: 240/4، أجاً

فنزلوا على مثل ذلك، فكانت للنبي صلی الله علیه و آله و سلم خاصة لأنّه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب» (1).

و في تاريخ المدينة لابن شبة: «بعث يهود فدك إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين افتتح خيبر: أعطنا الأمان منك و هي لك، فبعث إليهم محيّصة بن حرام فقبضها للنبي صلی الله علیه و آله و سلم فكانت له خاصة» (2)

و توجد روايات أخرى تدلّ على انّ المصالحة وقعت على النصف من أرض فدك لا على جميعها، فقد قال ابن شبة في تاريخ المدينة: «فالله أعلم على النصف صالح أهلها أم عليها كلها، فكل ذلك قد جاءت به الأحاديث» (3).

و قد جمع السمهودي بين هذه الروايات و قال: «و يجمع بانّ الصلح وقع عليها كلها، واستعملهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيها بشطر ثمارها كخيبر، فمن روى الصلح على الشطر نظر لما استقر عليه الأمر في الثمار» (4).

و يؤيّد هذا الجمع ما رواه الطبري في تاريخه حيث قال: «فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا [أي بأهل خيبر] بعثوا إلى

ص: 16


1- سنن أبي داود:3: 161 ح 316، تاريخ المدينة لابن شبة: 1 / 120 ح 542
2- تاريخ المدينة لابن شبة: 1/ 121 543 ح543
3- المصدر نفسه 1 121، ح544
4- وفاء الوفا للسمهودي: 4 / 126، فدك

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يسألون أن يسيّرهم و يحقن دماءهم ويخلّوا الأموال، ففعل ... فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يعاملهم بالأموال على النصف و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها، فصالحهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على النصف على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، و صالحه أهل فدك على مثل ذلك» (1).

و الخلاصة انّ هذه الأموال كلها كانت خالصة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ينفق منها على نفسه و أهله و عياله، و على الضيوف الذين يأتون إليه، و على الفقراء و المساكين، و ما فضل يُصرف على تجهيز الجيوش و نفقة الحرب، و هي تركة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لابنته الزهراء علیها السلام، و قد حيلت دونها لأغراض سياسية، و صارت بعده عله صلی الله علیه و آله و سلم صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر من دون أن يفرّقوا بين وقف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على فاطمة و هي أموال مخيريق اليهودي، و بين ما وهبه عليها من فدك، و بين سائر تركته كما سيوافيك بيانه.

2- فدك نحلة:

الأصل في هبة فدك الفاطمة الزهراء علیها السلام قوله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) الإسراء: 26.

ص: 17


1- تاريخ الطبري: 2/ 302

وقد استفاضت الروايات عن طريقنا و عن طرق أهل السنة بانّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعطى فدكاً لفاطمة علیها السلام بأمر من الله تعالى، و فيما يلي نورد بعض ما ورد عند الفريقين و بما يناسب هذا المختصر.

أما ما ورد في مصنفاتنا، ففي الكافي عن الإمام الكاظم علیه السلام وهو يخاطب المهدي العباسي: «انّ الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه صلی الله علیه و آله و سلم فدك و ما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه صلی الله علیه و آله و سلم: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فلم يدر رسول الله من هم، فراجع في ذلك جبرئيل و راجع جبرئيل علیه السلام ربه، فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال لها: يا فاطمة انّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الله و منك، فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها ...» (1).

وفي الأمالي للصدوق عن الإمام الرضا علیه السلام في معرض حديثه مع المأمون وغيره من علماء الأمة آنذاك: «والآية الخامسة قول الله مع عزّ وجلّ: ﴿وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ﴾ خصوصية خصّهم الله العزيز الجبار بها و اصطفاهم على الأمة، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال: هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي

ص: 18


1- الكافي للكليني: 1 / 543، ح 5

خاصة دون المسلمين، و قد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك و لولدك» (1).

وفي الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله علیه السلام في معرض کلامه عن طلب أبي بكر البينة، وشهادة أم أيمن بذلك وأنّها قالت: «فأشهد انّ الله عزّ وجل أوحى إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله» (2).

و في المناقب لابن شهر آشوب في ذكر فتح فدك: فنزل: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال وما هو ؟ قال: أعط فاطمة فدكاً وهي من ميراثها من أمها خديجة و من أختها هند بنت أبي هالة، فحمل إليها النبي صلی الله علیه و آله و سلم ما أخذ منه، و أخبرها بالآية فقالت: لست أحدث فيها حدثاً و أنت حيّ أولى بي من نفسي، و مالي لك، فقال: أكره أن يجعلوها عليك سبة فيمنعوك إياها من بعدي، فقالت: أنفذ فيها أمرك، فجمع الناس إلى منزلها وأخبرهم انّ هذا المال لفاطمة، ففرقه فيهم وكان كل سنة كذلك، و تأخذ منه قوتها، فلما دنت وفاته دفعه إليها» (3).

و في تفسير العياشي عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «لما أنزل الله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ﴾ قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا جبرئيل قد

ص: 19


1- الأمالي للصدوق: 619 ح 1، وعيون أخبار الرضا علیه السلام: 2/ 211
2- الاحتجاج للطبرسي: 1/ 121
3- المناقب لابن شهر آشوب: 1231

عرفت المسكين فمن ذوي القربى؟ قال: هم أقاربك، فدعا حسناً و حسيناً وفاطمة فقال: انّ ربي أمرني أن أعطيكم مما أفاء الله عليّ، قال:

أعطيتكم فدك» (1)

و فيه عن ابن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: أكان رسول الله أعطى فاطمة فدكاً؟ قال: كان لها من الله (2)

و فيه عن عطية العوفي قال: لما افتتح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خيبر و أفاء الله عليه فدك، و أنزل عليه (وَآتِ ذَا الْقُرْبِي حَقَّهُ) قال: يا فاطمة لك فدك (3)

وفي تفسير القمي: «وقوله: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) يعني قرابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أنزلت في فاطمة علیها السلام، فجعل لها فقدك ...» (4).

وفي تفسير فرات الكوفي عن أبي مريم قال: سمعت جعفر علیه السلام يقول: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبِي حَقَّهُ﴾ أَعطى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فدك، فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟ قال: فغضب جعفر ثم قال: الله أعطاها (5).

ص: 20


1- تفسير العياشي: 2/ 287، ح 46
2- المصدر:نفسه: 2/ 287، ح48
3- المصدر نفسه: 2/ 287، ح 50
4- تفسير القمي: 2 / 18
5- تفسیر فرات: 239، ح 312

و فيه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)، قال: دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدك» (1).

أما عن طرق أهل السنة فما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا النبي صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة و أعطاها فذلك»(2).

و في كنز العمال للمتقي الهندي عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، يا فاطمة لك فدك» ك في تاريخه: و قال: تفرّد به إبراهيم بن محمد بن ميمون عن علي بن عابس (ابن النجار) (3).

و في الدر المنثور للسيوطي قال: أخرج البزار و أبو يعلى و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ﴾ دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدك».

و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أقطع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فدكاً» (4).

ص: 21


1- تفسير فرات: 239، ح 313
2- مسند أبي يعلى: 2/ 334، ح 1075
3- كنز العمال للمتقي: 3/ 767، ح 8696
4- الدر المنثور للسيوطى: 4/ 177

و في شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدكاً» (1).

هذا عدا ما ورد في باقي مصادر أهل السنة من طلب أبي بكر البيئة على هذه الهدية، و سيأتي بيانها في مورده إن شاء الله تعالى.

***

ص: 22


1- شواهد التنزيل للحسكاني: 1/ 439، ح469

الفصل الثاني

قوله علیه السلام: «فشحّت عليها نفوس قوم».

و نتكلّم هنا هذا المقطع أيضاً ضمن النقاط التالية:

1 - بداية المؤامرة:

توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ترك ثروة هائلة من الأراضي و الحيطان و الأموال، كان يصرف أكثرها في مصالح المسلمين و لم يدخر لنفسه إلّا قوته و قوت عياله، و هذه الأموال انتقلت بعده إلى فاطمة الزهراء علیها السلام، و هذا ما كان يقلق صنّاع السقيفة.

روى الطبراني عن عمر قال: «لما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جئت أنا و أبو بكر إلى علي، فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله و بما ترك، قال: فقلت: و الذي بخيبر؟ قال: و الذي بخيبر، قلت: و الذي بفدك؟ قال: و الذي بفدك، قلت: أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا والعذرات» (1).

ص: 23


1- المعجم الأوسط للطبراني 5: 288

بعد هذا الاجتماع خلى عمر بأبي بكر وقال له: «انّ الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها، فامنع عن عليّ وأهل بيته الخمس و الفيء و فدكاً، فإنّ شيعته إذا علموا ذلك تركوا علياً و أقبلوا إليك رغبة في الدنيا و محاماة عليها، ففعل أبو بكر ذلك و صرف عنهم جميع ذلك» (1).

فالمتغلّبون على الحكم كانوا بحاجة إلى دعم موقفهم مالياً، لاستمالة القلوب و تطميع العشائر و سدّ نفقات الجيش الذي جهّزه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و كذلك قتال المرتدين زائداً إسكات المعارضة و غيرها من الأمور التي تحتاجها الحكومة، و من جهة ثانية كان لهم تخوّف من جهة الأموال التي سيحوزها عليّ علیه السلام حيث بإمكانه أن يستميل القلوب بها - بحسب زعمهم - و سوف يتكرّر التاريخ مرّة ثانية، فتأتي أموال الزهراء علیها السلام للنصرة عليّ كما نصرت أموال خديجة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيما مضى.

و لذا نرى أنّ أبا بكر كان يبخس حق أهل البيت في العطاء من الخمس بعد ما استقرّ له الأمر، فقد روى البيهقي عن جبير بن مطعم انّه قال: «و كان أبو بكر يقسّم الخمس نحو قسم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غير انّه لم يكن يعطي قربي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما كان النبي يعطيهم منه، قال: و كان عمر يعطيهم منه و عثمان بعده» (2).

ص: 24


1- الكشكول فيما جرى على آل الرسول: 203، عنه البحار: 194:29
2- السنن الكبرى للبيهقي:6: 342، سنن أبي داود: 2: 26

و هذا رغم أنّه حلف وقال عند ما طالبته الزهراء بالميراث و بما بقي من خمس خيبر: «و انّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله، و لأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» (1)

و تفسير هذا التناقض انّ أبا بكر لما عزم على سدّ المنافذ المالية على عليّ علیه السلام، أراد أن يتخلّص من شدّة نقد الزهراء علیها السلام فتكلّم معها بلين و سهولة و حلف لها بأنّه سيوفّي حقوقهم كاملة، لكن لما هدأت الأمور حنث يمينه و لم يعدل، و لما جاء دور عمر و عثمان و قد أمنا جانب عليّ علیه السلام و شيعته أرجعا الأمر على ما كان عليه.

و هذه الخلفيات في منع العترة عن الوصول إلى حقهم المالي كانت معروفة عند الشيعة منذ القديم، فقد ذكر ابن أبي الحديد عن بعض الشيعة، و قال: «قال لي علوي من الحلة يُعرف بعلي بن مهنا ذكيّ ذو فضائل: ما تظنّ قصد أبي بكر و عمر بمنع فاطمة فدك؟ قلت: ما قصدا؟ قال: أرادا ألّا يظهرا لعليّ - وقد اغتصباه الخلافة - رقة وليناً وخذلاناً، ولا يرى عندهما خوراً، فاتبعا القرح بالقرح.

وقلت لمتكلّم من متكلّمي الإمامية يُعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: و هل كانت فدك إلّا نخلاً يسيراً و عقاراً ليس بذلك الخطر؟! فقال لي: ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جداً، وكان فيها من النخل

ص: 25


1- صحيح البخاري: 5: 82، صحیح مسلم: 5: 154

نحو ما بالكوفة الآن من النخل، و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمةعنها إلّا ألّا يتقوّى علىّ بحاصلها و غلتها على المنازعة في الخلافة، و لهذا أتبعا بمنع فدك و عليّ و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته و يتصاغر عند نفسه و يكون مشغولاً بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرياسة» (1).

و قال ابن أبي الحديد أيضاً: «و سألت علي بن الفارقي مدّرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعى كائناً ما كان حاجة إلى بيّنة و لا شهود و هذا كلام صحيح و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل» (2).

وعن سياسة التطميع لجلب القلوب يحدثنا الجوهري، كما في شرح النهج لابن أبي الحديد: انّ أبا سفيان ... لما قدم المدينة قال: إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا الدم، قال: فكلّم عمر أبا بكر فقال: انّ

ص: 26


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 16: 236
2- المصدر نفسه 284:16

أبا سفيان قد قدم و أنّا لا نأمن شرّه، فدع له ما في يده، فتركه فرضي(1).

و زائداً على هذا ولّوا ابنه، روى الطبري عن ثابت قال: لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنّما هي بنو عبد مناف، فقيل له: أنّه قد ولّى ابنك، قال: وصلته رحم (2).

كما أنّهم جاؤوا لتطميع العباس حيث قال لهم المغيرة بن شعبة: الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذه الامرة نصيباً يكون له ولعقبه، وتكون لكما الحجة على عليّ و بني هاشم إذا كان العباس معكم ...» (3).

و في تاريخ الطبري: انّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلّا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر (4).

و من الواضح انّ أسلم لم تكن لتأتي بهذه العدّة و العدد الكثير لولا التنسيق و التطميع المسبق سيّما في تلك الظروف الحرجة، و لولا التنسيق المسبق ما كان عمر يتيقن بالنصر و الظفر، فهذا الشاهد التاريخي يشير بوضوح على خلفيات المؤامرة من ذي قبل.

ص: 27


1- شرح النهج لابن أبي الحديد: 44:2
2- تاريخ الطبري: 449:2
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 1: 21
4- تاريخ الطبري: 2: 458 - 459

و الخلاصة انّ المؤامرة هكذا حيكت إلى أن تنبّه أبو بكر لصياغة حديث يحسم مادة الخلاف بكل سهولة، إذ أصبح خليفة المسلمين، و قد أسكت الخصوم بأنواع الوسائل من تطميع إلى تهديد و ما شاكل، فاستقر الأمر على وضع حديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يشير إلى انّ ما تركه يكون صدقة.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: اختلفوا في ميراثه الله فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله الله يقول: أنا معاشر الأنبياء ما نورّث ما تركناه صدقة» (1).

و في تاريخ المدينة لابن شبة انّ الزهراء علیها السلام تراجعت أبا بكر في ميراث النبي فردّها بكلام و أرسلها إلى عمر «فذكرت له مثل الذي ذكرت لأبي بكر بقصته و حدوده، فقال لها مثل الذي كان راجعها به أبو بكر، فعجبت فاطمة وظنّت أنهما قد تذاكر ذلك واجتمعا عليه» (2).

مما يعطي صورة واضحة عن أبعاد المؤامرة.

2 - موقف الزهراء علیها السلام:

اشارة

كان موقف الزهراء علیها السلام أمام هذه الظليمة التي تعدّ الثانية بعد غصب،الإمامة، المطالبة و المقاطعة، حيث أصرّت في البداية على المطالبة

ص: 28


1- تاريخ: الخلفاء 1: 73، و أنظر تاريخ دمشق لابن عساکر: 311:30، کنز العمال للمتقي 12: 488، ح 35600، الصواعق المحرقة لابن حجر: 1: 85
2- تاريخ المدينة: 1: 131، ح 573، شرح النهج: 16: 231

بحقها الشرعي، ثم بعد ما رأت عدم الاستجابة قاطعت السلطة إلى آخر حياتها الطاهرة، حتى أنّها لم ترتض حضور القوم في مراسم تجهيزها.

انّ مطالبة الزهراء علیها السلام كانت مختلفة، حيث أنّها طالبت منهم جميع تركة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كذلك طالبت بفدك نحلتها من أبيها، كما أنّها طالبت بسهم ذوي القربى، و لكن كانت لفدك خصوصية أخرى حيث أصبحت رمزاً لسائر المطالبات و أخذت قصب السبق.

طبعاً اختلفت الروايات في كيفية المطالبة بفدك، فبعضها دلّ على أنّها علیها السلام طالبتها بعنوان النحلة، و البعض الآخر دلّ على أنّها طالبتها بعنوان الإرث، و سنورد كلا الطائفتين و ما قاله العلماء في وجه الجمع بينهما.

ألف - فدك نحلة:

روى ابن شبة النميري في تاريخ المدينة عن النمير بن حسان قال: «قلت لزيد بن علي رحمة الله عليه، و أنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: انّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدك، فقال: انّ أبا بكر كان رجلاً رحيماً، و كان يكره أن يغيّر شيئاً تركه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأنته فاطمة فقالت: انّ رسول الله أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا بيّنة ؟ فجاءت بعلي فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد أنّي من أهل الجنّة ؟ قال: بلى - قال أبو أحمد: يعني أنّها قالت ذاك لأبي بكر وعمر - قالت: فأشهد انّ

ص: 29

النبي صلی الله علیه و آله و سلم أعطاها فدك، فقال أبو بكر: فبرجل و امرأة تستحقينها أو تستحقين بها القضية ؟!» (1).

و في شرح النهج لابن أبي الحديد عن أبي بكر الجوهري عن عائشة انّ فاطمة علیها السلام قالت لأبي بكر: «انّ فدك وهبها لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب علیه السلام فشهد، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضاً، فجاء عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف، فشهدا انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقسّمها ...» (2).

و هذه الرواية تؤيّد ما ذكره ابن شهر آشوب - وقد ذكرناه في باب فدك - من أنّها علیها السلام لا قبلت الهدية لكنّها أبقتها في يد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يتصرف فيها كيف يشاء إلى أن سلّمها إليها قبيل وفاته.

و فيه أيضاً: قالت فاطمة لأبي بكر: «انّ أم أيمن تشهد لي انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعطاني فدك ...» (3)

و في تاريخ اليعقوبي: «رفع جماعة من ولد الحسن و الحسين إلى المأمون يذكرون انّ فدك كان وهبها رسول الله لفاطمة، و أنّها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فسألها أن تحضر على ما ادعت شهوداً، فأحضرت علياً و الحسن و الحسين و أم أيمن فأحضر

ص: 30


1- تاريخ المدينة: 1: 124، وقال محقق الكتاب: إسناده حسن
2- شرح النهج: 16: 216
3- شرح النهج: 16: 214

المأمون الفقهاء فسألهم ... رووا انّ فاطمة قد كانت قالت هذا، و شهد لها هؤلاء، و انّ أبا بكر لم يجز شهادتهم ...» (1).

وفي تفسير الفخر الرازي: «فلما مات [أي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ] ادعت فاطمة علیها السلام أنّه كان ينحلها فدكاً، فقال أبو بكر: أنت أعزّ الناس عليّ فقراً وأحبهم إليّ غنى، لكنّي لا أعرف صحة قولك، و لا يجوز أن أحكم بذلك، فشهد لها أم أيمن و مولى للرسول علیه السلام، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن» (2).

و في وفاء الوفا للسمهودي قال: «وذكر المجد في ترجمة فدك ما يقتضي انّ الذي دفعه عمر إلى علي و العباس و وقعت الخصومة فيه هو فدك، فإنّه قال فيها: وهي التي قالت فاطمة ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نحلنيها، فقال أبو بكر: أريد بذلك شهوداً، فشهد لها علي، فطلب شاهد آخر فشهدت لها أم أيمن ...» (3).

ثم قال بعد ما شكّك بهذه الرواية: «و أما ما ذكره المجد من انّ فاطمة ادعت نحل فدك، فروى ابن شبة ما يشهد له عن النمير بن حسان» (4)، ثم ذكر ما مرّ من رواية تاريخ المدينة عن زيد بن علي.

ص: 31


1-
2- تاريخ اليعقوبي: 2: 469
3- تفسر الفخر الرازي: 29: 284
4- وفاء الوفا للسمهودي: 3: 157، الباب السادس

و قال ابن حجر في الصواعق: «و دعواها أنّه صلی الله علیه و آله و سلم نحلها فدكاً، لم تأت عليها إلّا بعلي وأم أيمن، فلم يكمل نصاب البينة ...» (1).

و قال الحموي في معجم البلدان عند ذكر فدك: «و هي التي قالت فاطمة: انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نحلنيها، فقال أبو بكر: أريد لذلك شهوداً، ولها قصة» (2).

و في الرياض النضرة للمحب الطبري: «جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: أعطني فدك فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هبها لي» (3).

و في المحلّى لابن حزم: «روي انّ علي بن أبي طالب شهد لفاطمة عند أبي بكر الصديق و معه أم أيمن، فقال له أبو بكر: لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك» (4).

و في المبسوط للسرخسي بعد ما ذكر رأي سفيان الثوري في قبول شهادة الزوج لزوجته، قال: «واعتمد فيه حديث علي، فإنّه شهد لفاطمة في دعوى فدك مع امرأة بين يدي أبي بكر، فقال لها أبو بكر: ضمّي إلى الرجل رجلاً أو إلى المرأة امرأة» (5).

ص: 32


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 1: 93
2- معجم البلدان لياقوت الحموي: 4: 238
3- الرياض النضرة للمحب الطبري: 2: 126، الباب الأول الفصل الثاني عشر
4- المحلى لابن حزم: 9: 415
5- المبسوط للسرخسي: 16: 123

هذا عدا ما مرّ في باب فدك من الروايات الدالة على إعطاء فدك الفاطمة علیها السلام بالأمر الإلهي. و لعلمائنا مناقشات مع القوم في طلب البينة وردّها نوجزها فيما يلي:

1- انّ فاطمة الزهراء علیها السلام كانت معصومة بحكم آية التطهير وحديث الثقلين، مضافاً إلى ما ورد و استفاض عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قوله: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» (1)، و في صحيح مسلم: «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها» (2)، و قوله أيضاً: «انّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (3)، و غيرها من الموارد، و من کان بهذه المثابة لا يقول إلّا حقاً، و لا يرضى و لا يغضب جزافاً، فمن كان بهذه الصفة - حتى ولو لم يكن معصوماً - لا يحتاج إلى بينة، مضافاً إلى ما ورد في صحاح القوم من أنّها علیها السلام وجدت على أبي بكر ولم تكلّمه حتی ماتت (4)، فثبت بالملازمة انّ عمل أبي بكر أغضب الله تعالى، و ما كان هكذا لا يكون إلا باطلاً.

2 - ثم انّ دعوى الزهراء علیها السلام قد اقترنت و أسندت بتصديق و شهادة

ص: 33


1- صحيح البخاري: 4: 210
2- صحیح مسلم: 7: 141
3- المستدرك للحاكم: 154، وصححه، ومجمع الزوائد للهيثمي وقال: رواه الطبراني و إسناده حسن
4- صحيح البخاري: 5: 82، صحیح مسلم: 5: 154

معصوم آخر عندنا و هو عليّ، و عند أهل السنة رجل من العشرة المبشرة و من السابقين الأولين الذين ثبتت عدالتهم و صدق مواقفهم، و من حبه علامة الإيمان و بغضه علامة النفاق، وأحد الثقلين، و من قال فيه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فهكذا رجل سيكون لا محالة مصداقاً للحق و الباطل يقول و لا يشهد جزافاً، و قد اعتضدت شهادته بشهادة امرأة أخرى من أهل الجنّة و هي أم أيمن و في بعض الروايات بشهادة الحسنين علیهم السلام و مولى الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، و سيأتي عن القوم فتواهم بقبول شهادة الصحابي العدل لوحده ولو جرّ نفعاً لنفسه.

3- كان أبو بكر يقبل دعوى الصحابي لوحده و من دون شاهد آخر حتى لو جرّ نفعاً لنفسه، ففي الطبقات لابن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت منادي أبي بكر ينادي في المدينة حين قدم عليه مال البحرين: من كانت له عدة عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فليأت، فيأتيه رجال فيعطيهم، فجاء أبو بشير المازني فقال: انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: يا أبا بشير إذا جاء ناشئ فأتنا، فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً، فوجدها ألفاً و أربعمائة درهم» (1).

و في صحيح البخاري عن جابر قال: «لما مات النبي صلی الله علیه و آله و سلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلی الله علیه و آله و سلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني

ص: 34


1- الطبقات لابن سعد: 2: 318

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يعطيني هكذا و هكذا و هكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة» (1)

قال ابن حجر في فتح الباري بعد ما ردّ قول بعض الشافعية لما جعل هذا الحديث من خصائص النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ولو جرّ ذلك نفعاً لنفسه، لأنّ أبا بكر له يلتمس من جابر شاهداً على صحة دعواه» (2).

و قال العيني أيضاً: «وقال بعضهم: وفيه قبول خبر الواحد من الصحابة ولو جرّ ذلك نفعاً لنفسه، لأنّ أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة دعواه. انتهى، قلت: إنّما لم يلتمس شاهداً منه لأنه عدل بالكتاب و السنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فمثل جابر إن لم يكن من خير أمة فمن يكون. و أما السنة فقوله صلی الله علیه و آله و سلم: «من كذب علي متعمداً ...» ولا يظن ذلك لمسلم فضلاً عن صحابي، فلو وقعت هذه المسألة اليوم فلا تقبل إلّا ببينة» (3).

سبحان الله، ألا قال: فمثل علي و فاطمة إن لم يكونا من خير أمة فمن يكون؟! و كيف يظن بمسلم فضلاً عن علي و فاطمة و أم أيمن أن

ص: 35


1- صحيح البخاري: 3: 163
2- فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 4: 389
3- عمدة القاري للعيني: 12: 121

يكذبوا على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هم يسمعون قوله: «من كذب عليّ متعمداً ...» ثم أنّهم أصرّوا على مدعاهم رغم سماع حديث أبي بكر مما يدلّل على اعتقادهم ببطلانه.

4- ثم انّ ما ورد في ذيل بعض الروايات المتقدمة من انّ فاطمة الزهراء علیها السلام رضت و أمسكت، فلا يلزمنا لأنّنا إنّما أوردناها لإلزام القوم على ما ورد عن طريقهم، مضافاً إلى أنّه قد ثبت في صحاحهم انّ الزهراء علیها السلام ماتت و هي واجدة على القوم - كما تقدّم -.

و الكلام الكلام فيما نقل عن زيد بن علي من انّه صوّب فعل أبي بكر، إذ فيه أولاً انّ رأي زيد لا يلزمنا لأنّه غير معصوم عندنا، و حاله حال غيره من المسلمين فإنّه يخطئ و يصيب، و ثانياً يمكن تأويل كلامه بأنّ حاله في تلك الفترة و هو يريد تعبئة الأمة ضد النظام الحاكم آنذاك، كحال أمير المؤمنين علیه السلام لما استلم الخلافة حيث كان محتاجاً إلى رصّ الصفوف أمام العدو، فلذا أبقى فدكاً على ما كانت عليه، و لم يغيّر شيئاً، فهذا لا يدلّ على رضاه بما فعلوا.

و سنتكلّم في الخاتمة عن هذه الشبهة.

5 - ربما يقال: لو صدقت النحلة لكثرت الشهود ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، و نقول في الجواب: انّ الصحابة سكتوا عن أمور هي أعظم من هذا و أوضح، أنّهم سكتوا عن نص يوم الغدير و لم يتكلّموا به حتى في السقيفة رغم وضوحه حتى لو قلنا أنّه لم يدلّ على الإمامة بل

ص: 36

على النصرة و المعونة - كما يدعون - فأين نصرتهم لعلي في تلك الشدائد و أين نصرتهم له أمام أبي بكر كما منعهم حقهم، و كذلك سكتوا عن عمر لما منع النبي صلی الله علیه و آله و سلم عن كتابة ما لا تصلّ الأمّة بعده و لم ينصره أحد سوى أهل بيته و بعض النساء حتى صاح بهنّ عمرو نهرهنّ بقوله: «أنّكن صويحبات يوسف ...» و كذلك سكتوا عن عمر لما أنكر وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم و تهدّد من قال به بالقتل رغم كونه من أوضح الواضحات، و كذلك سكتوا عنه لما هجم على دار الزهراء علیها السلام، فكيف يتوقع منهم الشهادة لصالح عليّ والزهراء علیهما السلام و هما بحال الضعف و قلّة الناصر، و لا يرجى منهم نفع ؟!

ب - فدك ارث:

روى البخاري و مسلم عن عائشة أنها قالت: «انّ فاطمة علیها السلام بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما أفاء الله عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة إنّما يأكل آل محمد في هذا المال» و إنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و لاعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ...» (1).

ص: 37


1- صحيح البخاري: 5: 82، صحیح مسلم: 5: 153

و في الطبقات لابن سعد عن أم هانئ انّها قالت: «انّ فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ قال ولدي و أهلي، قالت: فما لك ورثت النبي دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إنّي و الله ما ورثت أباك أرضاً و لا ذهباً و لا فضة و لا غلاماً و لا مالاً، قالت: فسهم الله الذي جعله لنا و صافيتنا التي بيدك، فقال: فقال أبو بكر: سمعت النبي يقول: إنّما هي طعمة أطعمنا الله، فإذا متّ كانت بين المسلمين» (1) و في تاريخ المدينة: و صافيتنا التي بفدك» (2).

و في تاريخ المدينة عن أبي سلمة: «انّ فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أتت أبا بكر، فذكرت له ما أفاء الله على رسوله بفدك، فقال أبو بكر: إنّي سمعت النبي يقول: «انّ النبي لا يورث» من كان النبي يعوله، فأنا و من كان ينفق عليه فأنا أنفق عليه، قالت: يا أبا بكر أترثك بناتك و لا ترث رسول الله بناته؟ قال: هو ذاك» (3)

و فيه أيضاً عن أبي صالح مولى أم هانئ عن فاطمة قالت: «دخلت على أبي بكر بعد ما استخلف فقلت: يا أبا بكر أرأيت إن مت اليوم من كان يرثك؟ قال: ولدي وأهلي، قلت: فلم ترث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم دون و لده و أهله ؟ قال: ما فعلت بنت رسول الله، قالت: بلى عمدت إلى

ص: 38


1- الطبقات لابن سعد: 314:2
2- تاريخ المدينة لابن شبة: 1: 123، ح 550
3- المصدر نفسه: 1: 124، ح 552

فدك و كانت صافية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأخذتها، و عمدت إلى ما أنزل من السماء فرفعته عنّا، قال: بنت رسول الله لم أفعل، حدّثني رسول الله انّ الله تبارك و تعالى يطعم النبي الطعمة ما كان حياً، فإذا قبضه الله رفعت، قلت: أنت و رسول الله أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي هذا» (1)

إلى غيرها من الروايات الكثيرة الأخرى، و أقواها و أشهرها ما عُرفت بالخطبة الفدكية، و ذلك ما رواه ابن أبي الحديد عن الجوهري قال: «لما بلغ فاطمة علیها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها، تطأ ذيولها ... حتى دخلت على أبي بكر و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار ... ثم قالت: ... ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي: «أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون» إيهاً معاشر المسلمين: ابتر إرث أبي، أبى الله أن ترث يا بن أبي، قحافة أباك و لا أرث أبي، لقد جئت شيئاً فرياً» (2).

و في رواية الاحتجاج للطبرسي: قالت علیها السلام: «و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون و من أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون أفلا تعلمون، بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضّاحية أنّي ابنته، أيها المسلمون أأغلب على إرثيه؟

يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد

ص: 39


1- المصدر نفسه 1: 131، ح 574
2- شرح النهج لابن أبي الحديد: 16: 213

جئت شيئاً فرياً، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: ﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ)، و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا علیهما السلام إذا قال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، و قال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) و قال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) و قال: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)

و زعمتم أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي، و لا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي صلی الله علیه و آله و سلم منها؟ أم هل تقولون إنّا أهل ملتين لايتوارثان؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي» (1).

ج - الجمع بين الأخبار:

تبعاً لاختلاف الأخبار في شأن فدك، اختلفت آراء العلماء أيضاً إلى عدّة أقوال:

1- قال المولى الأنصاري في اللمعة البيضاء: «اعلم أنّة قد تبيّن ممّا ذكر من الأخبار و الروايات و الخطب و الاحتجاجات المذكورة في أمر فدك، و ادعاء فاطمة علیها السلام لها، أنّه كان لفاطمة فيها دعويان: أولاهما و هي الدعوى الحقيقية انّ فدك كانت نحلة و عطية لها من قبل أبيها في

ص: 40


1- الاحتجاج للطبرسي: 1: 138

حال حياته، و كانت في تصرفها و قبضها، و كان فيها وكيلها حتى أخرجه أبو بكر منها يوم تصدّى لأمر الخلافة و غصبها. ثانيهما و هي الدعوى الصورية الصادرة على سبيل التنزّل عن الدعوى الأولى من باب المماشاة مع الخصم و تبكيته في المرحلة الثانية، أنّها كانت إرثاً لها من أبيها و لم يكن له وارث غيرها» (1).

و علّل السيد المرتضى هذا بقوله: «لأنّ للمدفوع عن حقه أن يتوصّل إلى تناوله بكل وجه و سبب» (2)، و قال الشيخ الطوسي أيضاً: «لأن من له الحق إذا منع منه من وجه جاز له أن يتوصل إليه بوجه آخر» (3).

2- قال الشيخ حسن زاده الآملي في تتميمه لكتاب «منهاج البراعة»: «لابد و أن يكون في بحث فاطمة علیها السلام مع أبي بكر دعوتان:

1- دعوى فدك بعنوان النحلة لا بعنوان الميراث.

2۔ دعوى ميراث النبي ممّا تركه من غير فدك، و هي أمور:

منها سهمه بخيبر، و منها سهم الخمس الذي كان له في حياته من سهم الله و سهم الرسول، و منها سائر ما يملكه من الدار و المتاع و غيرهما، و قد حازها كلها أبو بكر بحجة ما تفرّد بروايته من قوله:

ص: 41


1- اللمعة البيضاء للأنصاري: 782
2- الشافي للمرتضى: 4: 101
3- التبيان للطوسي: 6: 468

«لانورث ما تركناه صدقة» فدعوى الهبة و الإرث لم تتعلّق بموضوع واحد و هو فدك، بل الهبة متعلّقة بفدك، و دعوى الإرث بغيرها».

إلى أن قال: «و الأصح انّ مورد دعوى النحل خصوص قدك و لم يرد عليها دعوى الإرث أصلاً لا قبلها و لا بعدها، و مورد دعوى الإرث سائر ما تركه رسول الله من سهمه بخيبر و سهمه في الخمس و غير ذلك من متاعه، و قد تصرّف أبو بكر في جميع ذلك و قام مقامه كلَّا» (1).

و تبعه على ذلك المرحوم الشيخ على الأحمدي الميانجي في كتابه «أصول مالکیت در اسلام» (2).

3- قال الشيخ المظفر رحمة الله في دلائل الصدق: « ... انّها إنّما ادعت استحقاق متروكات النبي صلی الله علیه و آله و سلم مطلقاً بالإرث أو ما عدا فدك، فلا ينافي دعواها بعد ذلك استحقاق خصوص فدك بالنحلة، ولو سلّم أنّها سمّت فدك في دعوى الميراث فلا بأس به لأنّ الشخص لا يلزم بالإقرار اللزومي ما لم يكن محل القصد في الإقرار، و إلّا فالإشكال وارد أيضاً على تقدير تقدم دعوى النحلة، لأنّ دعوى النحلة تستلزم إقرارها بأنّ فدك ليست من مواريث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أملاكه، فكيف تدعي بعد ذلك الميراث لها، و هذا مما لا يقوله أحد، فلابدّ من القول بأنّ الإقرار

ص: 42


1- منهاج البراعة: 94:20-96
2- مالکیت در اسلام 133

اللزومي غير معتبر، و بالجملة لم تقصد سيدة النساء علیها السلام في الدعويين إلّا انّ المال لها بلا خصوصية للأسباب إذ لا غرض لها يتعلّق بذوات الأسباب، و إنّما ذكرتها آلة للتوصّل إلى ملكها، فلا يضر ذكرها و إن استلزم كل سبب لها عدم مسبب آخر ... و كيف كان فقد ظهر مما بيّنّا أنّ الزهراء في دعوى الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبي صلی الله علیه و آله و سلم التي قبضها أبو بكر بلا فرق بين فدك و مال بني النظير و سهمه من خيبر و غيرها، نعم في دعوى النحلة إنّما طالبت بخصوص فدك لأنّها هي التي نحلها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و بها المال النزاع ...» (1).

4 - قال السيد محمد تقي النقوي في مفتاح السعادة: «إن قلت: يظهر من خطبتها المشهورة و غيرها انّ فدك كانت ميراثاً لها: «أترث أباك و لا أرث أبي» و أمثال ذلك من العبارات، مع انّ الظاهر من الأخبار خلافه، و انّها كانت ملكاً لها إذ وهبها الرسول في حياته.

قلت: يمكن أن يكون الوجه في تعبيرها بالميراث أحد أمرين: أحدهما انّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد وهبها إياها عوائدها ما دام حياً، و كانت فدك باقية على ملكية الرسول، ثم بعد موته صارت ميراثاً لها، و نظائره كثيرة في الآباء بالنسبة إلى أولادهم. و ثانيهما انّها قد علمت إنكارهم الهبة، و انّ الرسول أعطاها إياها بأمر من الله، وحيث رأت علیها السلام ذلك

ص: 43


1- دلائل الصدق للمظفر: 3 ق 1، ص 43

ادّعت كونها إرثاً ...» (1).

5- و أخيراً ربما يقال - لو ساعدت النصوص على ذلك -: انّ للرسول صلی الله علیه و آله و سلم في فقد كل سهمين: سهم و هبه لفاطمة، و آخر كان لنفسه و صار تركة. كما استقرب ذلك الشيخ حسن زاده الآملي من رواية مجيء فاطمة علیها السلام و العباس إلى أبي بكر وفيها: «و هما حينئذٍ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر» حيث قال: «مع احتمال أن يكون أرضه بفدك غير ضيعة فدك، بل قطعة أرض مخصوصة فيها» انتهى (2).

و يدعم هذا القول ما ورد عن لسان عائشة: «و هما يطلبان أرضه من فدك و سهمه من خيبر» حيث انّ (من) الثانية تدلّ على البعضية أي بعض سهمه من خيبر، لأنّ خيبر لم تكن بأجمعها خالصة للرسول علیه السلام فلابدّ أن تكون في الأولى أيضاً للتبعيض أي بعض أرضه من فدك و لم تكن (من) هنا بيانية. و كذلك ما جاء عن فاطمة علیها السلام في محاججتها مع أبي بكر: «و صافيتنا التي بفدك» أي جزء من فدك، كما يقال مثلاً: داري التي بالمحلّة الفلانية.

فما ورد في كتب أهل السنة من عمر انّه قال: «كان لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاث صفايا: بنو النظير، و خيبر، و فدك» (3). يدلّ على أنّ

ص: 44


1- مفتاح السعادة للنقوي: 15: 340
2- منهاج البراعة: 94:20
3- سنن أبي داود 2: 23، ح 2967 وغيره

الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بعد ما صالح أهل فدك و صارت له خالصة إذ لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، اصطفى لنفسه منها صافية - إذ انّ الصافية ما كان يأخذه رئيس الجيش و يختاره لنفسه قبل القسمة (1) - ثم أعطى الباقي لفاطمة علیها السلام بحكم الآية القرآنية، فالزهراء علیها السلام تستحق بعض فدك بالإرث و هي صافية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبعضها الآخر بالهبة وهي ما أعطاها في حياته و تصرفت فيها.

ويؤيده عبارة ابن أبي الحديد: «و قد مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و له ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر و فدك و بني النضير ...» (2) فإنّ السياق يدلّ على البعضيّة، لأنه صلی الله علیه و آله و سلم كان يملك بعض خيبر و بني النضير لاجميعها، فكذلك لابدّ و أن يكون في فدك. و هذا مجرد احتمال لا نقطع به، و الأمر بحاجة إلى متابعة أكثر.

3 ۔ حدیث: «لا نورث»:

سبق و أن ذكرنا بأنّ أصحاب المؤامرة اتجهوا لمنع العترة من حقوقهم المالية بدوافع شتى، و كان لرواية أبي بكر: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» الضربة القاضية لإسكات المعارضة. و أوّل من تصدّى لدفع هذه الأكذوبة فاطمة الزهراء علیها السلام في خطبتها الفدكية حيث ناقشت الخليفة بمسألة الميراث و صحة توارث الأنبياء

ص: 45


1- الصحاح للجوهري: 6 / 2402، لسان العرب لابن منظور: 462/14
2- شرح النهج لابن أبي الحديد: 15/ 147

بنص القرآن، كما سيوافيك بيانه.

و لعلمائنا الأعلام مناقشات مع هذا الحديث نوجزها فيما يلي:

1- تفرّد أبو بكر برواية هذا الحديث في بداية الأمر، قال ابن أبي الحديد بعد رواية مضمون الخبر عن أبي هريرة: «هذا حديث غريب، لأنّ المشهور أنّه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلّا أبو بكر وحده» (1).

و قال عقيب مخاصمة علي و العباس أمام عمر في الميراث: «و هذا أيضاً مشكل، لأنّ أكثر الروايات أنّه لم يرو هذا الخبر إلّا أبو بكر وحده، ذكر ذلك أعظم المحدّثين، حتى انّ الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. و قال شيخنا أبو علي: لا تقبل في الرواية إلّا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلّمون و الفقهاء كلّهم و احتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده: نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (2).

و قال في مكان آخر: «أما عقيب وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم و مطالبة فاطمة علیها السلام بالإرث، فلم يروا الخبر إلّا أبو بكر وحده» (3).

و عليه لا يمكن قبول قوله في هكذا أمر مهم، حيث يقابل نصّ القرآن و يردّه العترة ثاني الثقلين، سيّما أنّ أبا بكر في موضع التهمة،

ص: 46


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 16: 221
2- المصدر:نفسه: 16: 227
3- المصدر:نفسه: 245:16

وذلك لوضوح المؤامرة.

2- ثبوت توارث الأنبياء علیهم السلام فيما بينهم ينفي الحديث المذكور رأساً و يكذّبه، كما في قوله تعالى عن لسان زكريا: «ففَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * ييَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا»(1)، و كذلك قوله تعالى: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» فهاتان الآيتان و غيرهما مما دلّ على ثبوت الإرث، يدل بوضوح على ثبوت التوارث للأنبياء و غيرهم.

مضافاً إلى انّ قول زكريا علیه السلام: (وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) يؤكد المدعى و ينفي إرادة وراثة النبوة، إذ من غير المعقول أن يكون النبي غير ضي، كما لا يصح أن يقول الإنسان: اللهم ابعث إلينا نبياً و اجعله عاقلاً مكلفاً (2).

ثمّ انّ النبوة و العلم لا يورثان، كيف و النبوة تابعة للمصلحة العامة مقدّرة لأهلها من أوّل يومها عند بارئها، و العلم موقوف على من يتعرّض له و يتعلّمه (3).

و لقد أجاد المولى الأنصاري في كتابه اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء علیها السلام حيث قال: «انّه قد جرت عادة الناس قديماً وحديثاً بالاخبار عن كلّ ما جرى بخلاف المعهود بين كافة الناس،

ص: 47


1- مریم 5 - 6
2- راجع تلخيص الشافي للطوسي: 3: 133
3- مفتاح السعادة للنقوي: 15: 339

وخرج عن سنن عاداتهم سيّما إذا وقع في كلّ عصر و زمان، و توفّرت الدواعي إلى نقله و روايته، و من المعلوم لكلّ أحد أنّ جميع الأمم على اختلافهم في مذاهبهم يهتمّون بضبط أحوال الأنبياء و سيرتهم، و أحوال أولادهم وما يجري عليهم بعد آبائهم، وضبط خصائصهم وما يتفرّدون به عن غيرهم.

ومن المعلوم أيضاً أنّ العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا وأهلها إلى زمان انقضاء مدّتها وفنائها، بأن يرث الأقربون من الأولاد وغيرهم من أقاربهم وذوي أرحامهم، وينتفعوا بأموالهم وما خلّفوه بعد موتهم، ولا شك لأحد في أنّ عامّة الناس عالمهم وجاهلهم، وغنيّهم وفقيرهم، وملوكهم ورعاياهم يرغبون إلى كلّ ما نسب إلى ذي شرف و فضيلة ويتبرّكون به، ويحرزه الملوك في خزائنهم، ويوصون به لأحبّ أهلهم، فكيف بسلاح الأنبياء وثيابهم وأمتعتهم؟ ألا ترى الأعمى إذا أبصر في مشهد من المشاهد المشرّفة، أو توهّمت العامة أنّه أبصر اقتطعوا ثيابه وتبرّكوا بها، وجعلوها حرزاً من كلّ بلاء.

إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول: لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم إلى الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم صدقة لقسّمت بين الناس بخلاف المعهود من توارث الآباء و الأولاد وسائر الأقارب، ولا يخلو الحال إمّا أن يكون كلّ نبيّ يبيّن هذا الحكم لورثته بخلاف نبيّنا، أو يتركون البيان كما تركه صلی الله علیه و آله و سلم، فجرى على سنّة الذين خلوا من قبله من أنبياء الله.

ص: 48

فإن كان الأوّل فمع أنّه خلاف الظاهر كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل و الأديان، و لم يسمعه أحد إلّا أبو بكر و من يحذو حذوه، و لم ينقل أحد أنّ عصا موسى علیه السلام انتقلت على وجه الصدقة إلى فلان، وسيف سليمان إلى فلان، وكذا ثياب سائر الأنبياء، و أسلحتهم وأدواتهم فرّقت بين الناس، ولم يكن في ورثة أكثر من مائة ألف نبيّ قوم ينازعون في ذلك وإن كان بخلاف حكم الله عزّوجلّ، وقد كان أولاد يعقوب مع علوّ قدرهم يحسدون على أخيهم ويلقون به الجب لمّا رأوه أحبّهم إليه.

أو وقعت تلك المنازعة كثيراً و لم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير مع شدّة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء و خصائصهم و ما جرى بعدهم كما تقدّم.

و إن كان الثاني فكيف كانت حال ورثة الأنبياء، أكانوا يرضون بذلك و لا ينكرون؟ فكيف صارت ورثة الأنبياء جميعاً يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء و لم ترض به سيّدة النساء؟ أو كانت سنّة المنازعة جارية في جميع الأمم و لم ينقلها أحد ممّن تقدّم، و لا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم، إن هذا لشيء عجاب.

و أعجب من ذلك أنّهم ينازعون في وجود النص على عليّ أمير المؤمنين علیه السلام مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلى الآن، ووجود الأخبار في صحاحهم، و ادعاء الشيعة تواتر ذلك من أوّل الأمر إلى

ص: 49

الآن، و يستندون في ذلك إلى أنّه لو كان حقّاً لما خفي ذلك لتوفّر الدواعي إلى نقله و روايته» (1).

3 - حديث أبي بكر مخالف للقرآن - كما مرّ - وقد ثبت عندنا أصول الفقه في باب التعادل والتراجيح لزوم عرض الخبر على القرآن، فإذا وافقه أخذنا به و إذا خالفه ضربنا به عرض الجدار، وحديث أبي بكر مخالف للقرآن فلا يؤخذ به.

4 - خفاء هذا الحديث على أهل البيت علیهم السلام وعدم تبيين النبي لهم، من أقوى الأدلة على نفيه، «كيف يجوز أن لا يبيّن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لأهله ... فيعلموا أنّه لا حق لهم في الميراث، فلا يتعرّضوا للفضيحة و قلّة المعرفة و موضع التهمة للمطالبة بما لا يستحقون» (2)، و أيضاً: «انّ عدم علمهم به يستلزم جهلهم و قلّة معرفتهم حاشاهم، لأنّ من يجهل مثل هذا الحكم المختصّ به مع ملازمته النبي صلی الله علیه و آله و سلم ليله و نهاره، و اتخاذ داره داره، و نزول الوحى في مسكنه، كان أولى أن يجهل غيره» (3).

مضافاً إلى انّ مقاطعة الزهراء علیها السلام للقوم وغضبها عليهم و هجرانها لهم دليل على تكذيبها للخبر، و زد عليه تكذيب علي علیه السلام و العباس للخبر عندما اختصما عند عمر في الميراث، و اعتقادهما الكذب و الخيانة فيمن منع

ص: 50


1- اللمعة البيضاء: 818 - 819
2- تلخيص الشافي للطوسي: 3: 146
3- دلائل الصدق للمظفر: 3 ق 2 ص 118

الإرث، ففي صحيح مسلم وجامع الأصول انّ عمر قال لعلي و العباس: قال أبو بكر: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا نورث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم أنّه لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و وليّ أبي بكر، فرأيتماني آثماً غادراً خائناً، والله يعلم انّي لصادق بار تابع للحق» (1).

نحن أيضاً نتمسّك بهذا الحديث الصحيح عند القوم، و نرى ما رآه على علیه السلام، إذ أنّنا لسنا بأقل من ابن أبي الحديد الذي يقول: «فأما عليّ علیه السلام فإنّه عندنا بمنزلة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في تصويب قوله، و الاحتجاج بفعله، و وجوب طاعته، ومتى صحّ عنه أنّه قد برئ من أحد من الناس برئنا منه كائناً من كان» (2).

5 - روى البخاري عن عائشة أنّها قالت: «أرسل أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهنّ مما أفاء الله على رسوله، فكنت أردهنّ فقلت لهنّ: ألا تتقين الله، ألم تعلمن انّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول: لانورث ما تركنا صدقة، - يريد بذلك نفسه - إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى ما أخبرتهنّ»(3).

دلّ على انّ عثمان وجميع أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم بما فيهنّ أم سلمة التي

ص: 51


1- صحیح مسلم بشرح النووي: 12: 75، جامع الأصول: 2: 703 ح 1202
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 20: 35
3- صحيح البخاري: 5: 24

لم يُدخلها الرسول تحت الكساء و لكن قال لها: «أنّك على خير» ما علمن بهذا الحديث حتى أعلمتهم به وريثة أبيها حقّاً !!!

6 - ترك النكير على الزهراء علیها السلام دليل على صدقها، كما ذكر ذلك السيد المرتضى عن الجاحظ في كتابه العباسية حيث قال: «فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلاً على صواب منعه، انّ في ترك النكير على فاطمة علیها السلام دليلاً على صواب طلبها» (1).

7 - إعطاء علىّ علیه السلام سيف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و بغلته وغيرها من الأمور ينقض الحديث المذكور، وقد تحيّر علماء أهل السنة في تبرير هذا العمل، فذهب ابن أبي الحديد إلى أنّها سلب الميت الذي يأخذه ولد الميت ولا ينازع فيه أحد، ثم لما رأى ركاكة هذه الدعوى قال: «والظاهر أنه فعل ذلك اجتهاداً لمصلحة يراها» (2)

وقال ابن حجر صاحب الصواعق: «انّه لم يدفع ذلك لعلي ميراثاً ولا صدقة لما مرّ، بل بطريق الوصية منه صلی الله علیه و آله و سلم على ما ورد، وعلى فرض عدم الوصية فيحتمل أنه دفعهما إليه عارية أو نحوها يستعين بهما في الجهاد، و لتميّزه عن غيره بالشجاعة العظمى أوثر بذلك، و يحتمل انّ غیره اشترى ذلك و دفعه إليه» (3).

ص: 52


1- الشافي للمرتضى: 4: 85
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 16: 261
3- الصواعق المحرقة: 1: 100، الطعن السابع

أما القاضي عبد الجبار فقد قال: «قد يجوز أن يكون النبي صلی الله علیه و آله و سلم نحله ذلك، ويجوز أيضاً أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين، و تصدّق ببذله بعد التقويم» (1).

أقوال منها فتة، واحتمالات ركيكة لا تعتمد على أساس رصين، ولا تدفع الإشكال على الوجه اليقين.

ومن العجائب - كما قال السيد المرتضى في ردّ صاحب المغني - أن تدّعي فاطمة فدك نحلة، وتستشهد على قولها أمير المؤمنين علیه السلام وغيره فلا يصغى إلى قولها، ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت (2).

8 - إبقاء أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حجراتهنّ، قال المولى الأنصاري: «قد مكّن أبو بكر أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حجراتهنّ بغير خلاف، و لم يحكم فيها بأنّها صدقة، و هذا يناقض منعه في أمر فدك و ميراث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من جهة تلك الرواية، فإنّ انتقالها إليهنّ إما على جهة الإرث أو النحلة، و الأوّل مناقض لروايته في الميراث، و الثاني يحتاج إلى الثبوت ببيّنة و نحوها، و لم يطالبهنّ بشيء كما طالب فاطمة علیها السلام في دعواها، و هذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة على انّ الرواية كانت كاذبة» (3).

ص: 53


1- المغني للقاضي: 20: ق 1 ص 331
2- الشافي للمرتضى: 4: 83
3- اللمعة البيضاء للقراجه داغي الأنصاري: 802

قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي: «و ليس لهم أن يقولوا: انّ الحجر كانت لهنّ، لأنّ الله تعالى نسبها إليهنّ بقوله: ﴿وَ قَرْنَ فِي بُیُوتِكُنَّ) و ذلك انّ هذه الإضافة لا تقتضى الملك، بل العادة جارية فيها بأنّها تستعمل من جهة السكني، و قد قال الله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) و لا شبهة في أنّه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون فيها زوجاتهم ولم يرد به إضافة الملك. فأما ما روي من قسمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم الحجر بين نسائه و بناته، فمن أين هذه القسمة تقتضي التمليك دون الإسكان و الإنزال؟! و لو كان قد ملكهنّ ذلك لوجب أن يكون ظاهراً مشهوراً» (1).

و قال ابن أبي الحديد تأييداً لهذا الكلام: «و الذي ينطق به التواريخ أنّه لما خرج من الغار دخل المدينة و سكن منزل أبي أيوب و اختط المسجد، و اختط حجر نسائه و بناته، وهذا يدلّ على انّه كان المالك للمواضع، فأمّا خروجها من ملكه إلى الأزواج فممّا لم أقف عليه» (2).

فهذه الأدلة كلها تدلّ على بطلان حديث: «لا نورث» و تدلّ على أنّه حيك لأغراض سياسية لا تمت إلى الواقع بصلة.

***

ص: 54


1- تلخيص الشافي: 3: 129 - 130، عن الشافي للمرتضى: 4 / 104
2- شرح النهج لابن أبي الحديد: 17: 217

الفصل الثالث

قوله علیه السلام:«و سخت عنها نفوس قومٍ آخرين، و نعم الحكم الله

، وما أصنع بفدكٍ وغير فدكٍ و النّفس مظانّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، و أوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر و المدر، و سدّ فرجها التّراب المتراكم».

قال قطب الدين الراوندي: «وسخت عنه نفوس آخرین، نفوس أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و فاطمة و عترتهم علیهم السلام» (1)

و قال ابن أبي الحديد: «و سخت عنها نفوس آخرين، أي سامحت وأغضت، وليس يعني هاهنا بالسخاء إلّا هذا لا السخاء الحقيقي، لأنه علیه السلام و أهله لم يسمحوا بفدك إلّا غصباً و قسراً» (2).

ص: 55


1- منهاج البراعة للراوندي: 3: 150
2- شرح النهج لابن أبي الحديد: 20: 208

وقال ابن ميثم البحراني: «أشار ... بالنفوس التي سمحت بها إلى وجوه بني هاشم و من مال ميلهم» (1).

و قال يحيى بن حمزة من علماء الزيدية: «يشير إلى نفسه و فاطمة و الحسن و الحسين، وإنّما عدّاه بعن لأنّ السخاوة متضمنة لانقطاع الرغبة عن الشيء المسخو به، فلهذا عدّاه بعن لأنّهم لما رأوا من كثرة المطالبة فيها أهملوها و تركوها» (2).

هذا، ولكن ذهب التستري إلى خلاف هذا و قال: «ثم المراد بنفوس آخرين التي سخت عنها الأنصار حيث رأوا ذاك الأمر وسكتوا و لم يدافعوا» ثم اعترض على ابن ميثم و ابن أبي الحديد و قال: «وتوهّم ابن أبي الحديد و تبعه ابن ميثم انّ المراد بقوله: «و سخت عنها نفوس آخرين» أمير المؤمنين علیه السلام و أهله فقال: «وليس يعني هاهنا بالسخاء إلّا هذا لا السخاء الحقيقي، لأنه علیه السلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلّا غصباً وقسراً» و ما توهّمه في غاية الركاكة» (3).

و نحوه الشيخ حسن زاده الآملي في تتميمه لكتاب منهاج البراعة حيث قال بعد ما نقل رأي ابن أبي الحديد: «يمكن أن يكون المراد من الآخرين هم الأنصار، حيث سكتوا عن مطالبة حقهم وقعدوا عن

ص: 56


1- شرح النهج لابن ميثم 5: 102
2- الديباج الوضي ليحيى بن حمزة: 5: 2447
3- بهج الصباغة للتستري: 5: 331، 333

نصرتهم لاسترداده، و إن لم يبخلوا بكونها في أيديهم، و هذا هو الظاهر لأنّه علیه السلام في مقام الشكوى إلى الله عمّن ظلمه و أهله في غصب فدك، و قد سامح الأنصار في نصرته لردّها بعد مطالبتها من جانب فاطمة عليها السلام» (1).

أما لماذا لم يسترجع أمير المؤمنين علیه السلام فدك لمّا آلت إليه الخلافة، فأوّلاً أنّه علیه السلام أصبح خليفة و بيده بيت المال، فلاحاجة له بها ولا تسدّ شيئاً من نفقات الحكومة، إذ لو كانت بيده لأوقفها للمسلمين كما أوقف سائر ضياعه و ممتلكاته، ولم يدخر لنفسه شيئاً، كما كان يحلف و يقول علیه السلام: «فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شيراً ... بلى كانت في أيدينا فقدك ... و ما أصنع بفدك و غير فدك و النفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، و تغيب أخبارها ...» (2).

و ثانياً: جرى المسلمون على انّها صدقة، و انّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يورث، وكان من أهمّ أسباب نقمة المسلمين على عثمان انّه أقطع فدك المروان، قال ابن قتيبة في المعارف: «و كان مما نقموا على عثمان انّه ... أقطع مروان فدك و هی صدقة رسول الله علیه السلام» (3)

ص: 57


1- منهاج البراعة: 88:20
2- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45
3- المعارف: 195، وانظر تاريخ أبي الفداء 1: 168، والعقد الفريد 4: 283

فكيف يرجعها أمير المؤمنين علیه السلام لنفسه و لأولاد فاطمة، و الأعداء يتربصون به الدوائر، و هو علیه السلام لم يتمكن من تصحيح البدع المحدثة آنذاك من صلاة التراويح، و المنع عن المتعتين، و التكتّف في الصلاة و غيرها، فكيف بهذه و هي حالة شخصية يكون الإنسان في مظنّة التهمة، هذا ما لا يعمله المحنّك في السياسة، إذ كان هدف أمير المؤمنين علیه السلام الوحيد آنذاك تعبئة الأمة أمام الفتن الداخلية، فلذا نرى انّ جيشه كان يضمّ الخوارج، و قتلة عثمان، و الناقمين على القتلة، وضعفاء الإيمان، و غيرهم من شرائح الناس.

فقد ورد في نهج البلاغة انّ قوماً من الصحابة قالوا لأمير المؤمنين علیه السلام: لو عاقبت قوماً ممّن أجلب على عثمان، فأجابهم علیه السلام بجواب مقنع، فمما قاله: «و هل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه ... فاهدأوا عنّي و انظروا ماذا يأتيكم به أمري، و لا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط مُنّة، و تورث و هناً وذلة» (1).

و يقول علیه السلام في نص آخر: «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم متعمّدين خلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها، و إلى ما كانت في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لتفرّقت عنّي جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب الله عز وجل و سنّة

ص: 58


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 168

نبيه صلی الله علیه و آله و سلم» (1)

و ثالثاً: قال الشيخ الطوسي رحمة الله في كتابه الاقتصاد: «وفي أصحابنا من قال: انّ الخصم في فدك كانت فاطمة علیها السلام، و أوصت إلى علي علیه السلام بأن لا يتكلّم فيها، لتكون هي المخاصمة يوم القيامة لما جرى بينها و بين من دفعها من الكلام المعروف، حتى قالت له: سيجمعني و إياك يوم يكون فيه فصل الخطاب» (2).

و رابعاً: ما قاله الإمام الكاظم علیه السلام عن سبب ذلك: «لانّا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممّن ظلمنا إلّا هو - يعني الله عزوجل - و نحن أولياء المؤمنين، إنّما نحكم لهم و نأخذ حقوقهم ممّن ظلمهم، و لا نأخذ لأنفسنا» (3)

و يدلّ عليه قول أمير المؤمنين الآنف الذكر حيث قال بعد ذكر طمع القوم في فدك: «و نعم الحكم الله» أي انّ الله تعالى هو الذي سيحكم فيها غداً.

ثم عرّج علیه السلام إلى لزوم الاهتمام بالآخرة و ما سيؤول إليه الإنسان، و التذكير بالقبر وضيقه و وحشته، ممّا يدلّل على زهده علیه السلام في الدنيا و زخارفها، ويدل بالمفهوم أيضاً على انّ ما كان من الإصرار في أمر

ص: 59


1- الكافي 8: 58، البحار 172:34
2- الاقتصاد: 214
3- علل الشرائع للصدوق 1: 155، والبحار 29: 396

فدك، لم يكن لأغراض دنيوية، بل كان الهدف منه تعرية النظام الحاكم المتغلّب عن لباس الشرعية الذي تقمّصه من دون استحقاق.

***

ص: 60

الخاتمة شبهات وردود

1- قال ابن كثير بعد ما روى خبر النحلة عن أبي سعيد الخدري عقیب قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) الآية: 26 من سورة الإسراء: «وهذا الحديث مشكل لو صحّ إسناده، لأنّ الآية مكية، و فدك إنّما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا فهو إذاً حديث منكر، و الأشبه أنّه من وضع الرافضة، والله أعلم» (1)

و نقول في الجواب: انّ ترتيب الآيات في السور لم يكن بحسب النزول، بل ربما كانت توضع آيات مدنية في سور مكية لمصالح مختلفة يعلمها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد عقد السيوطي في كتابه الإتقان فصلاً بذكر ما استثني من المكي و المدني، ثم ذكر السور التي تخلّلها آيات مدنية. و نقل عن البيهقي في الدلائل قوله: في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة

ص: 61


1- تفسير ابن كثير: 3: 42 سورة الإسراء

فألحقت بها(1)!

و قال ابن حجر في فتح الباري: «و قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات المدنية في السور المكية» (2).

أما بالنسبة إلى خصوص سورة الإسراء التي تحتوي على آية (26) و هي قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فقد قال الفخر الرازي: «سورة الإسراء مكية إلّا الآيات: 26 و 32 و 33 و ...» (3).

2- نقل السيد المرتضى رحمة الله عن القاضي عبد الجبار انّ فاطمة الزهراء علیه السلام بعد ما سمعت كلام أبي بكر كفّت عن المطالبة (4).

وروى البيهقي عن الشعبي انّ أبا بكر استأذن و ذهب إلى فاطمة علیه السلام: «ثم ترضاها حتى رضيت» (5) و حاولوا جهدهم لتأويل ما ورد من غضبها علیها السلام.

و نقول في الجواب: هذا جهد عبث، فإنّ ما ثبت في صحيحي البخاري و مسلم ينفي جميع التأويلات، حيث انّ أصبح الكتب عندهم بعد القرآن تروي عن أم المؤمنين عائشة التي أمرنا الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أن

ص: 62


1- الإتقان للسيوطي: 49:1
2- فتح الباري لابن حجر: 9: 37
3- تفسير الرازي: 20:145
4- الشافي للمرتضى: 58/4
5- السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 301

نأخذ شطر ديننا منها - كما قالوا - تقول بكل صراحة بعد ما منع أبو بكر فاطمة حقّها: «فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت» (1).

و في لفظ آخر: «فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت» و كذلك في صحيح مسلم (2).

ثم انّ رواية الشعبي مرسلة لا تصمد أمام الصحيح، و لذا قال ابن حجر في فتح الباري: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال» (3).

3- قالوا بعد ما لم يتمكنوا من تبرير حديث الغضب و الهجران، انّ فاطمة الزهراء علیه السلام لا عصمة لها و هي امرأة كسائر النساء، بمعنى أنّها حتى لو غضبت فلا أثر لغضبها.

قال ابن كثير: «فتعتّبت عليه [أي على أبي بكر] بسبب ذلك، و هي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون، و ليست بواجبة العصمة» (4)

و نقول في الجواب: يكفينا لإثبات عصمة فاطمة الزهراء علیها السلام قوله تعالى في آية التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

ص: 63


1- صحيح البخاري: 4: 42 42:4
2- المصدر نفسه: 5: 82، صحیح مسلم: 5: 154
3- فتح الباري: 6: 140
4- البداية والنهاية لابن كثير: 310:5

الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33] و كذلك حديث الثقلين.

فمما لا خلاف فيه دخول فاطمة الزهراء علیها السلام و بعلها و بنيها في أهل البيت و شمول هذه الآية لهم و الخلاف في الباقي، و الآية تصرّح بإرادة الله تعالى إذهاب الرجس عنهم و تطهيرهم تطهيراً، ولا أدري ما معنب العصمة غير هذا، و لا نريد هنا الدخول في المساجلات الكلامية حول هذه الآية، و لكن الفطرة السليمة تدرك بكل سهولة و بساطة معنى الآية و مفادها، و علوّ شأن من اتصف بها عن الباطل، و سائر الأرجاس الدنيوية.

أما بالنسبة إلى انّ الزهراء علیها السلام كسائر النساء تأسف كما يأسفون، و عليه فلا قيمة - و العياذ بالله - لغضبها لو غضبت على أحد، فبديهي البطلان لما استفاض عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قوله في حقها كما مرّ: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني» (1) «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها» (2) «انّ الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك» (3) إلى غيرها.

فهذه الروايات تعطي ميزة للزهراء علیها السلام بحيث لا يمكن أن يكون حالها كحال سائر النساء، مضافاً إلى أنّها تشعر بعصمتها، إذ انّ

ص: 64


1- صحيح البخاري: البخاري: 210:4
2- صحیح مسلم: 7: 141
3- المستدرك للحاكم:: 154 وصححه، مجمع الزوائد للهيثمي و قال: رواه الطبراني و إسناده حسن.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يغضب ولا يتأذّى جزافاً، ولمّا كان يتأذّى بأذى الزهراء ويغضب لغضبها، دلّ على انّ الزهراء علیها السلام لا تغضب ولا تتأذّى جزافاً.

و من العجيب انّهم اختلقوا رواية - كما يأتي لاحقاً - بأنّ علياً آذى الزهراء علیها السلام لما أراد أن يخطب بنت أبي جهل، و انّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم تأذى لذالک و صعد المنبر و نهى علياّ و قال فيما قال: «فإنّما هي بضعة منّي يريبني ما أرابها و يؤذيني ما آذاها» ثم يأتي العيني و يقول في عمدة القاري: «وفيه: تحريم أدنى أذى من يتأذى النبي صلی الله علیه و آله و سلم بتأذّيه» (1).

وقال ابن حجر في فتح الباري: «و في الحديث تحريم أذى من يتأذى النبي صلی الله علیه و آله و سلم بتأذيه، لأنّ أذى النبي صلی الله علیه و آله و سلم حرام اتفاقاً قليله و كثيره و قد جزم بأنّه يؤذيه ما يؤذي فاطمة، فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذّت به فهو يؤذي النبي صلی الله علیه و آله و سلم به شهادة هذا الخبر الصحيح» (2).

فانظر و اعجب بل وأكثر العجب، فهنا يحرم إيذاء الزهراء علیها السلام لأنّ الرواية تدور مدار علىّ علیه السلام، و هناك مئات التبريرات و التأويلات الركيكة، لأنّ روايات الغضب و الهجران تدور مدار أبي بكر، وكلاهما ورد في الصحاح، لماذا باؤك تجرّ و بائي لا تجرّ؟!!

ص: 65


1- عمدة القاري للعيني: 211:20
2- فتح الباري لابن حجر: 9: 287، و انظر: عون المعبود للعظيم آبادي: 6: 57، تحفة الأحوذي للمباركفوري: 10: 251، فيض القدير للمناوي: 4: 554

4- ثم انّ القوم بعد كل هذه المحاولات، وضعوا رواية تدلّ على انّ علي بن أبي طالب علیه السلام أغضب الزهراء علیها السلام بخطبته لبنت أبي جهل، و رووه في جميع صحاحهم و مسانيدهم متبجحين به. و قد انبرى علماؤنا للإجابة عن هذه الشبهة، و أشكلوا على هذه الروايات و ناقشوها سنداً و متناً كما يلي:

ألف: نقل ابن أبي الحديد عن شيخه الإسكافي أنّه قال: «انّ معاوية وضع قوماً من الصحابة و قوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ علیه السلام تقتضى الطعن فيه والبراءة منه ... و أما أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه انّ علياً علیه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأسخطه، فخطب على المنبر و قال: لاها الله، لا تجتمع ابنة وليّ الله و ابنة عدوّ الله أبي جهل، انّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي و ليفعل ما يريد. أو كلاماً هذا معناه، و الحديث مشهور من رواية الكرابيسي» (1).

ب: قال السيد المرتضى رحمة الله: «هذا الخبر باطل موضوع ... إنّما ذكره الكرابيسي طاعناً به أمير المؤمنين علیه السلام، و معارضاً بذكره لبعض ما يذكره شيعته من الأخبار في أعدائه و هيهات أن يشبه الحق بالباطل، و لو لم يكن في ضعفه إلّا رواية الكرابيسي له واعتماده عليه - وهو من

ص: 66


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 4: 63 - 64

العداوة لأهل البيت علیه السلام و المناصبة لهم و الإزراء على فضائلهم و مآثرهم ما هو مشهور - لكفى» (1).

ج: من رواة هذا الحديث الزهري حيث وقع في بعض الطرق، و نقول عنه: قال ابن أبي الحديد: «وكان الزهري من المنحرفين عنه علیه السلام» (2) و من عدائه ما روي عنه أنّه قال: «ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، قال عبد الرزاق: و ما أعلم أحداً ذكره غير الزهري»(3) و قد اتفق الجميع على انّ علياً أوّل من أسلم. بالإضافة إلى أنّه كان من علماء السلطة و من المتزلّفين لهم، فكيف يعتمد عليه.

د: و من رواة الحديث أيضاً المسور بن مخرمة، و هو المعتمد في هذا الحديث إذ رواه عنه البخاري و مسلم، ولمّا نرجع إلى تاريخه نراه أولاً ولد في السنة الثانية للهجرة، و قضية الخطبة كانت في السنة الثامنة، إذاً كان عمره آنذاك ست سنوات، و من بهذا العمر كيف يعقل هكذا أمور و يرويها بالتفصيل ؟!

قال ابن حجر في ترجمة المسور بن مخرمة: «و وقع في صحيح مسلم من حديثه في خطبة علي لابنة أبي جهل، قال المسور: سمعت النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أنا محتلم يخطب الناس، فذكر الحديث. و هو مشكل المأخذ

ص: 67


1- تنزيه الأنبياء للمرتضى: 219
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 4: 102
3- الاستيعاب لابن عبدالبر 2: 546

لأنّ المؤرخين لم يختلفوا انّ مولده كان بعد الهجرة، و قصة خطبة على كانت بعد مولد المسور بنحو ست سنين أو سبع سنين، فكيف يسمى محتلماً، فيحتمل أنّه أراد الاحتلام اللغوي و هو العقل و الله تعالى أعلم» (1)، ولا ندري كيف فسّر الاحتلام بالعقل، و لم يعهد عن المسور عبقرية خارقة في حياته حتى يقال أنّه كان هكذا من صغره.

مضافاً إلى أنّه كان من أعوان عبد الله بن الزبير و مناصريه، ففي تاريخ دمشق لابن عساكر: «الحق المسور بابن الزبير بمكة فأقام معه هناك، و ابن الزبير لا يقطع أمراً دونه» (2).

و حال ابن الزبير في عدائه لعلي علیه السلام معلوم، وعليه لا عبرة أيضاً بما رواه ابن الزبير عن هذا الأمر، لأنّه أخذه من المسور، بالإضافة إلى ولادته في السنة الأولى للهجرة، وعليه كان آنذاك ابن سبع سنين.

أما باقي الأسانيد فهي مرسلة وضعيفة، وللمزيد راجع كتاب «حديث خطبة علي بنت أبي جهل» للعلامة السيد علي الحسيني الميلاني.

ه_: ثم انّ متن الروايات متهافت و متناقض، ففي بعضها انّ علياً خطب، و في بعضها أنه أراد ذلك و لم يقدم، وفي بعضها انّ علياً أبلغ النبي ذلك و استأذنه، و بعضها الآخر بُلّغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بذلك، و في بعض آخر

ص: 68


1- تهذيب التهذيب لابن حجر: 10: 138، رقم 290
2- تاریخ دمشق لابن عساكر: 58: 171

أيضاً أنّ أهلها أستأذنوا النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و هذا يسقطها عن محلّ الاعتبار.

و: ورد في مقطع من الرواية قول أهل البنت لعلي علیه السلام: «لا نزوّجك على ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» حيث يدل على أنّهم أعلم من علي علیه السلام بالأمور الشرعية و العرفية مع بعدهم عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و قرب عليّ منه، و هذا أمر لا يعقل.

ز: ثم انّ هذا الردّ العنيف من الزهراء علیها السلام ومن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لا يتناسب مع حجم القضية، حيث تأتي الزهراء إلى النبي و تقول له: «يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك» ثم يأتي رسول الله المسجد و يخطب على ملأ من الناس و يؤنب علياً أشد تأنيب، و في بعضها التهديد بالطلاق: «إلّا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي و ينكح ابنتهم» وفي بعضها الخوف من افتتان فاطمة، فهذا الردّ العنيف لا يتناسب مع إرادة الزواج المحلّل شرعاً، و السائد آنذاك في المجتمع الإسلامي و غيره، ثم لماذا إشاعة القضية بهذه الصورة للجميع، إذ بما انّ القضية شخصية و ليست بعامة تخصّ الجميع، كان بالإمكان النصيحة من النبي صلی الله علیه و آله و سلم و الكف عن الخطبة من علي علیه السلام ؟!

ح: ثم انّ هذه الرواية تنتقض بأخرى تشبهها، ولم يتأذّى النبي صلی الله علیه و آله و سلم و لا فاطمة الزهراء علیها السلام منها، وذلك لما اصطفى عليّ علیه السلام جارية لنفسه، ففي السنن الكبرى للبيهقي عن بريدة أنّه قال: «بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم علياً إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، فأخذ منه جارية فأصبح ورأسه يقطر،

ص: 69

قال خالد لبريدة: ألا ترى ما يصنع هذا، قال: و كنت أبغض علياً، فذكرت ذلك لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا بريدة أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم، قال: فأحبه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك (1)

و في رواية الطبراني عنه أيضاً: «فتكلّمت فوقعت في عليّ حتى فرغت، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غضب غضباً لم أره غضب مثله إلّا يوم قريظة و النضير، فنظر إلى فقال: يا بريدة أحب علياً فإنّما يفعل ما يؤمر به» (2).

ومن الطرائف ما رواه الشيخ المفيد رحمة الله من انّ عمر لما سمع بمهمة بريدة استبشر و شجّعه على ذلك و قال: «امض لما جئت له، فإنّه سيغضب لابنته ممّا صنع علي» (3)، و لكن رأينا كيف تعامل النبي صلی الله علیه و آله و سلم مع الحدث، و كذلك فاطمة الزهراء علیها السلام إذ من غير المعقول خفاء هذا عليها، سيّما مع وجود مناوئين يريدون الوقيعة بعليّ علیه السلام بأدنى حجّة.

و هناك كلام يذكره ابن أبي الحديد في شرحه على النهج عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد، يدلّ على انّ عمر كانت له يد طولى في قضية خطبة بنت أبي جهل المفتعلة، حيث ينقل عن النقيب في معرض كلامه عن عمر: «ثم عاب علياً بخطبة بنت أبي جهل، فأوهم

ص: 70


1- السنن الكبرى للبيهقي: 6: 342
2- المعجم الأوسط للطبراني: 5: 117
3- الإرشاد للمفيد: 1: 161

ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كرهه لذلك و وجد عليه»(1). فانظر إلى كلامه «فأوهم» فهو غنيّ عن التعليق.

ط: ثم كيف يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حق بنت أبي جهل: «بنت عدوّ الله» و هو على المنبر، و هو الذي منع الصحابة لما جاءه عكرمة بن أبي جهل أن يسبوا أباه أو يذكروه بسوء فقال: «انّ عكرمة يأتيكم فإذا رأيتموه فلا تسبوا أباه، فإنّ سب الميّت يؤذي الحيّ» و لما أسلم عكرمة شكا قولهم عكرمة بن أبي جهل، فنهاهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يقولوا عكرمة بن أبي جهل و قال: «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات» (2).

فكيف تجتمع هذه الخلق العالية مع تلك الرواية، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل آخر يدلّ على بطلانها و افتعالها؟ ! (3).

5- التشكيك في الخطبة الفدكية، قال السيد المرتضى رحمة الله: أخبرنا أبو عبدالله المرزباني، قال: حدثني علي بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام كلام فاطمة علیها السلام عند منع أبي بكر إياها فدك، و قلت له: انّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع و أنّه من كلام أبي العيناء، لأنّ الكلام منسوق البلاغة، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن

ص: 71


1- شرح النهج لابن أبي الحديد: 12: 88
2- الاستيعاب لابن عبد البر: 3: 1082
3- راجع الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم السيد جعفر مرتضى: 6: 268

آبائهم ويعلّمونه أولادهم، و قد حدّثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة علیها السلام على هذه الحكاية، و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه قبل أن يوجد جدّ أبي العيناء، و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنّه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام.

ثم قال أبو الحسين: وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة علیها السلام، و هم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة علیها السلام ويحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت علیهم السلام ...

[قال المرتضى]: وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة و وجوه كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها» (1).

وقد روى هذه الخطبة بطرق مختلفة كل من ابن أبي الحديد في شرحه عن أبي بكر الجوهري 16: 211، و الاربلي في كشف الغمة 2: 108 و أحمد بن أبي طاهر في بلاغات النساء: 14، و السيد المرتضى في الشافي بعدّة طرق 69:4، و الطبرسي في الاحتجاج 1: 253، و السيد ابن طاووس في الطرائف: 263، و شرح الأخبار للقاضي النعمان 3: 34، و دلائل الإمامة للطبري الإمامي: 109، و تلخيص الشافي للطوسي 3: 139، و المقتل للخوارزمي:1: 77، و أشار إليها المسعودي في مروج الذهب:304:2، و نقل بعض فقراتها الشيخ الصدوق في علل

ص: 72


1- الشافي للمرتضى: 4: 77

الشرائع: 248 ح 2 - 4، و أشار كل من ابن الأثير في النهاية و ابن منظور فى لسان العرب إلى بعض فقراتها.

إلى هنا ننهي الكلام عن فدك و ما دار حولها، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد وآله الطاهرين.

***

ص: 73

ص: 74

الفهرس

مقدمة المكتبة ... 5

تمهيد: نهج البلاغة و فدك ... 7

الفصل الأول

قوله علیه السلام: «بلى كانت في أيدينا فدکٌ من كلّ ما أظلّته السّماء» ... 9

1 - أموال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ممتلكاته ... 9

ألف - هبة مخيريق ... 10

ب - أرض بني النضير ... 13

ج - أراضي خيبر ... 14

د - وادي القرى ... 14

ه_- مهزور ... 15

و - فدك ... 15

2- فدك نحلة ... 17

ص: 75

الفصل الثاني

قوله علیه السلام: «فشحّت عليها نفوس قوم» ... 23

1 - بداية المؤامرة ... 23

2 - موقف الزهراء علیها السلام ... 28

ألف - فدك نحلة ... 29

ب - فدك ارث ... 37

ج - الجمع بين الأخبار ... 40

3- حديث لا «نورث» ... 45

الفصل الثالث

قوله علیه السلام: «وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، و نعم الحكم الله ... 55

الخاتمة: شبهات و ردود ... 61

الفهرس ... 75

***

ص: 76

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.