بحوث في نهج البلاغة، الفلسفة الإلهية

هوية الکتاب

الى الرجل الموقف

الى أبي

اهدي هذه البحوث

علي سليمان يحفوفي

ص: 1

الاهداء

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

قيل بأن نهج البلاغة لا تمكن نسبته للامام علي عليه السلام، و حجتهم على ذلك بان نهج البلاغة فيه من الحكم البليغة و الافكار السامية ما يشكل دستوراً متكاملاً للحياة و المجتمع، ليس مجتمع الامام الذي عاش فيه و حسب، بل وحتى مجتمعنا الحالي الذي نعيش فيه، وعصر الامام ومجتمعه لم يكونا ليتيحا لهيئات علمية مختصة ان تبدع مثل هذا الشيء ، فكيف لنا ان ننسبه لشخص واحد ؟

ولكي ننصف هؤلاء نقول :

ان ما تفضلتم به صحيح بالنسبة لرجل تؤثر فيه البيئة والمجتمع لا لرجل خلق ليغيَّر المجتمع.

ان قولكم هذا يصح في رجل تغيره الاوضاع والظروف لا لرجل هو فوق الاوضاع وفوق الظروف .

ان ما تقولونه صحيح بشأن رجل ولد في ذلك الزمان وذلك المجتمع ، ولكن علياً ولد قبل زمانه .

ونحن على اية حال نشكر لهم هذا الاطراء - وإن كان غير مقصود - لعلي ونهجه . فبالرغم من انه عليه السلام لم يكتب نهج البلاغة

ص: 5

بيده ، ولم تكن غايته ان يخرجه كتاباً يطرح فيه نظرياته وآراءه ، ولكنه مع ذلك هو بواقعه عبارة عن مجموعة من الآراء والنظريات حول الوجود وما يتعلق به ، وهو في النهاية يشكل دستوراً كاملاً للحياة والمجتمع ، ولكن هذه النظريات ليست من السهولة بحيث يصل اليها كل انسان ، لان الامام (ع ) لم يطرحها في كتاب ، بل هذه النظريات تستفاد من متفرقات اقواله عليه السلام التي جمعها الشريف الرضي رحمة الله عليه .ومن هنا فان معرفة نظرية الامام ورأيه حول أي موضوع من الموضوعات يحتاج الى عناء طويل يتلخص باستقصاء اقواله حول ذلك الموضوع ثم دراستها بشكل موضوعي حتى يمكن في النهاية الخروج برأي واضح ومقنع له .

وهذا هو هدفنا ابتداءً من هذا الكتاب ، اي استخراج نظريات نهج البلاغة وهذا الكتاب الذي بين ايدينا يشكل القسم الأول من نظريات الامام ، ويتضمن فقط الفلسفة الالهية للأمام، وسنتبعه انشاء الله ببقية الاقسام بحيث يتكون لدينا في النهاية دراسة كاملة لنظريات الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة .

وفي نهاية هذا الكتاب وكل الكتب التي ستصدر لاحقاً سيكون هناك فهرس لكلمات الامام مرتبة حسب موضوعاتها في كل كتاب على حدة . وفي نهاية بحوثنا سنخرج هذه الفهارس في كتاب واحد بعنوان الفهرس الموضوعي لنهج البلاغة .

بعلبك

15 - تموز - 1980 م

علي سليمان يحفوفي

ص: 6

المقدمة

الفلسفة الالهية في نهج البلاغة

الامام علي عليه السلام هو اوّل انسان من هذه الامة خاض غمار البحث عن المعارف الالهية و برهن عليها بما يمليه عليه الفكر العظيم الذي يحمله، و سنرى من خلال البحث ان المسائل التي طرحها عليه السلام لم ينتبه اليها احد من الفلاسفة الا بعد مرور قرون طويلة من الزمان الذي كان يعيش عليه السلام فيه. كما ان استدلالاته على تلك المسائل لا تزال المنار الذي يهتدي به كل مطلع على اسرار هذا العلم ، ولم يتوصل احد من الفلاسفة الذين جاءوا بعده من الاتيان بجزء مما جاء به، فضلاً من محاولة نقضه و ابطاله.

والامام عليه السلام لم يكن ليخوض في ابحاث المعارف الالهية لو لم تدعه متطلبات عصره الى ذلك. فالمسلمون في عهد النبي كانوا حديثي عهد بالاسلام، وعبادة الاصنام لم تكن بعيدة العهد منهم ومن كان يعبد الحجر لا يستفسر عن ذات الله وصفاته ، ولا يهتم بتنزيهه مما يجب تنزيهه عنه. كما كانوا يعتقدون ايضاً بان الاسلام معناه التسليم ، اي التسليم بما جاء به الوحي على لسان النبي الاعظم صلى الله عليه وآله ، فلم يكن لهم ان يناقشوا بما يجيئهم به ، كما ان النبي (ص) كان ينهى عن الخوض في مثل هذه المسائل اذا ما خطرت على

ص: 7

بال احدهم و ذلك لكي ينصرفوا الى العبادة و الجهاد في سبيل الله ، مع ما يؤدي اليه الخوض في هذه المسائل من تفرقة وشقاق لا طائل تحته ، كما حدث فعلاً فيما بعد حيث اريقت دماء المسلمين في عهد العباسيين نتيجة الخلاف حول قدم كلام الله و حدوثه.

ولكن بعد وفاة النبي (ص) بدأ الخلاف يدب بين المسلمين حول مسائل العقيدة ، وكان مرجعهم في القول الفصل هو الامام علي عليه السلام ، فكان يوضح لهم ما اختلفوا فيه ببيان ساحر واستدلال مقنع.

معنى الفلسفة الالهية

وقبل الشروع في البحث علينا ان نوضح اولاً معنى الفلسفة الالهية. الفلسفة الالهية هي محاولة معرفة الحقائق الالهية بواسطة الاستدلال عليها بالعقل والمنطق. والفكر البشري يمر بعدة مراحل ليتوصل في النهاية للتفكير في نيل هذه الحقائق و المعارف.

وتوضيحه:

ان الانسان مدفوع بطبيعته الى البحث عن واقعية الاشياء المرتبطة بوجوده وبسائر شؤون حياته ، والقصد من ذلك هو تمييز الاشياء المحيطة به عن الاشياء الأخرى المشابهة لها ليعرف بذلك الصواب فيتبعه ويعمل على طبقه ، ويعرف الباطل فيتركه.

فالبحث اذن متعلق اولاً بالذات بما يرتبط بوجود هذا الانسان ولكن الذهن بما طبع عليه من قريحة التعميم يأخذ في تعميم هذا البحث ليشمل الوجود، فتتوسع بذلك دائرة البحث من الموجودات المحيطة بالانسان الى البحث عن الوجود بما هو ، فيأخذ الانسان في

ص: 8

طرح الاسئلة المتعلقة بذات الوجود فيسأل مثلاً عن العلة و المعلول، و عن القدم والحدوث ، والى ما هنالك من المسائل التي تتعلق بذات الوجود ، - أي الوجود بما هو - و باحكامه و انواعه.

ولكن البحث عن الوجود يستدعي البحث عن مبدأ هذا الوجود ، لان الانسان لاحظ ان هذا الوجود لا يمكن ان يكون قائماً بذاته بمعنى انه ليس مستقلاً في وجوده بل هو محتاج الى موجد آخر غير ذاته ، فاخذ يبحث عن ذلك الوجود المستقل غير المحتاج الذي تنتهي اليه جميع الموجودات ، وعن طريق الفكر والاستدلال تمكن من التوصل اليه ومن معرفته ، وهو الله سبحانه ، فوحّده ونزّهه ، وتكلم في صفاته وافعاله. والبحث عن جميع ذلك هو في الحقيقة موضوع الفلسفة الالهية.

منهج البحث:

وفيما يلي نذكر المنهج العام الذي سوف نسير عليه في بحثنا عن المعارف الالهية فنقول: الكتاب الذي بين ايدينا ينقسم الى خمسة فصول:

في الفصل الاول نبحث عن مسألة الرؤية ، أي رؤية الله سبحانه والبحث هنا يتعلق بأمرين: الاول: في اثبات ان رؤيته تعالى مستحيلة و الثاني: في ان عدم امكان رؤيته تعالى لا يعني عدم وجوده. و يجب ان ننبه هنا ان البحث عن امكان الرؤية هو في الحقيقة بحث عن امكان الاحساس به بأي من الحواس ، وانما عنونت هذه المسألة كذلك فلأن النظر من ادق الحواس.

وفي الفصل الثاني علينا ان نستدل على وجوده تعالى بطرق اخرى

ص: 9

غير الاحساس به اذ نكون قد أثبتنا في الفصل الأول استحالة الاحساس به. وفي هذا الفصل نثبت استحالة كون المادة هي الخالقة ونثبت أن الله تعالى هو الخالق وهو الأزلي ، وهنا يعترض بأنا سلمنا بأن الله خالق وأزلي ولكن لا نسلم بأنه الخالق الوحيد و الأزلي الوحيد ، وهذا ما نناقشه في الفصل الثالث.

الفصل الثالث: نثبت فيه ان الله تعالى هو الخالق الازلي الوحيد ، فنبحث بالتفصيل في مسألة توحيده تعالى.

الفصل الرابع: بعد ان اثبتنا وجوده تعالى و وحدانيته يبقى علينا ان نعرف ماهيته تعالى وصفاته و مدى ادراكنا لذلك.

اما الفصل الخامس فنبحث فيه مسألة العدل. والعدل وان كان من صفاته تعالى ويجب دخوله في الفصل الرابع إلّا انا افردناه بالبحث تبعاً للمتقدمين لكثرة مسائله ، اذ يبحث فيه عن مسألة الجبر والتفويض ومسألة القصاء والقدر ، ويبحث فيه ايضاً عن الأجال والارزاق.

وبقي كلمة اخيرة ، وهي ان بعض المباحث قد توسعنا فيها والبعض الاخر اختصرناها بعض الاختصار وذلك تبعاً لما يذكره الامام (ع) حولها ونسأل الله ان يوفقنا لما بدأناه بخير منه وعافية انه سميع مجیب.

ص: 10

الفصل الاول: في امكان الرؤية و امتناعها

اشارة

لم يدع احد من البشر منذ وجدت الخليقة وحتى اليوم بانه قد راى الله سبحانه بحاسة البصر ، ولكن يحق لنا أن نتساءل: هل ان عدم رؤيته تعالى هو بسبب قصر نظرنا عن رؤيته ، كما قصر عن رؤية الكثير من الاشياء اللطيفة ، ام ان عدم الرؤية يستند اليه تعالى ، بمعني ان ذاته القدسية غير قابلة للرؤية؟ الامام عليه السلام يعطينا جوابا صريحاً على ذلك فيقول:

وامتنع على عين البصير (1)

ولا تحيط به الابصار (2)

لا تراه النواظر (3)

وكلامه عليه السلام واضح في استناد عدم رؤيته تعالى الى امتناعه عن الرؤية ، ويستشهد عليه السلام على ذلك بالعقل ، فيقول:

وبها - أى الادوات المخلوقة لله - امتنع عن نظر العيون (4)

ص: 11


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 98
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 148
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 350
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 356

والمقصود بهذه الادوات الحواس والمشاعر ، فبها عرفنا انه تعالى لا يرى لان هذه الحواس قد غذَّت عقولنا بالمعارف والمعلومات حتى اكتملت وأصبحت قادرة على ادراك انه تعالى لا تمكن رؤيته. لأن البصر من وسائل الادراك المادية فلا يرى الا الأشياء المحسوسة المتجسمة ، وهو تعالى منزَّه عن ذلك كما سيأتي برهانه.

وهذا يوافق ما جاء في القرآن الكريم كقوله تعالى (لا تدركه الابصار) وقوله تعالى في جواب موسى لما سأله الرؤية (لن تراني) فلو كانت رؤيته تعالى ممكنة لما كان احد احق من نبي الله بذلك. واما ما يوهم امكان الرؤية من الآيات كقوله تعالى (وجوه يومئذ ناضره الى ربها ناظرة) فانها محمولة على معان أخر غير الرؤية بالبصر كالتطلع و كذلك الحال فيما ورد من الأخبار على لسان النبي (ص) كحديث (سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) فهي على تقدير صحة سندها محمولة على العلم اليقيني التام.

و لكن خالف في ذلك جماعة من المتكلمين - وهم الاشاعرة - حيث قالوا بصحة رؤيته تعالى ، ورؤية كل موجود كالروائح والطعوم والاصوات ثم قالوا ان صحة الرؤية لشيء لا تعني تحقق الرؤية خارجاً فهذه الموجودات وإن كانت رؤيتها ممكنة الّا أنا لا نراها لان الله تعالى قد جرت عادته بعدم خلق رؤيتها ، فلو شاء لخلق رؤيتها و لأصبحنا نراها ، فالله سبحانه اذن يستطيع ان يخلق فينا رؤيته لو شاء.

والحق انه تعالى لا يستطيع - وهو القادر على كل شيء - تمكيننا من رؤيته لان قدرته تتعلق بالمقدورات بينما رؤيته تعالى مستحيلة لانه مطلق ، ورؤيته تتطلب الكمال المطلق في النظر وهو ما لا يمكن تحققه

ص: 12

في غيره سبحانه حتى لو اراد ذلك ، وليس هذا نقصاً في قدرته تعالى، لان قدرته انما تتعلق بالمقدور ، أي الممكن اما رؤيته فهي مستحيلة فلا يمكن تعلق القدرة فيها لانها تكون من قبيل تعلق القدرة بجمع المتناقضين.

الرؤية والوجود

إن عدم التمكن من رؤيته تعالى لا يعني اطلاقا عدم وجوده ، او عدم استطاعة اثباته ، لانه سبحانه كما يقول عليه السلام:

المغروف من غير رؤية (1)

احق وابين مما ترى العيون (2)

فهو تعالى موجود بلا شك و معروف لكل احد وإن كانت العين لا تراه والحواس لا تدركه. - وهذا ما نثبته في الفصل الثاني انشاء الله -.

ولكن الفلسفة الحسية لا تؤمن بذلك ، اذ تزعم بان الحس هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة، فكل ما هو ليس بمحسوس لا يمكن اثباته ولا يصح الايمان به، فحاولت ان تبني تبرير الحادها عن هذا الطريق فما دام الله لا يرى ولا يحس فكيف لنا ان نؤمن به؟.

وهذه الفلسفة نتيجتها انكار كل شيء - حتى ولو لم يرد ذلك

ص: 13


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 158
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 280

أصحابها - لأن الحس انما يعرفنا الأشياء التي نحسها ليس إلّا ، ولكنه لا يثبت تلك الأشياء في الواقع فالاحساس بالشيء لا يعني وجوده في الواقع فنحن انما نتحقق بوجود ما نراه بالعقل فعندما نرى شيئاً أو نحس به فان العقل يؤلف على الفور قضية منطقية مفادها: نحن نحس بهدا الشيء (الكتاب مثلا) وكل ما نحس به فهو موجود اذن فهذا الشيء - الذي افترضناه كتابا - موجود. فالجملة الثانية وهي (ان كل ما نحس به فهو موجود) هي في الواقع قضية عقلية محضة لا يمكن للفلسفة الحسية ان تؤمن بها. وهذا يعني ان الحس قد اصبح الحد النهائي للمعرفة بعد ان كان وسيلة لها. وهذا ما لا يرضاه اي عاقل حتى اصحاب هذه الفلسفة.

فليس من الضروري اذن ان نرفض وجود كل ما لا تدركه حواسنا ، فهناك كثير من الموجودات التي نؤمن بها ولا نرتاب اطلاقاً في وجودها مع ان احدا لم يستطع ان يحسها. فمنذ ان توصل العلماء الى تحطيم الذرة آمنوا بوجود الكهرب بالرغم من ان احداً منهم لم يره ، و كذلك الاثير الحامل للضوء فإن احداً من العلماء لم يره ، وفي نفس الوقت لا يستطيعون انكاره فهذه كلها اجسام مادية نؤمن بوجودها ولم نحسها ، وكذلك هناك الوان يعترف بها علماء الفيزياء غير الالوان السبعة الأصلية ويسمونها بما وراء الاحمر او البنفسجي بالرغم من ان احداً منهم لم يرها. فايمانهم بهذه الاجسام وهذه الالوان كان عن طريق الفكر و الاستدلال بالأثار.

و الامام علي عليه السلام بعبقريته الفذة قد ادرك وجود اجسام و الوان لا ترى لذلك نراه يقول:

ص: 14

وكل بصير غيره يعمى عن خفي الالوان ولطيف الاجسام (1).

و الخلاصة: ان الله تعالى لا يمكن ادراكه بالحواس، ولكن هذا لا يعني انكار وجوده ، لان الحس ليس هو الطريقة الوحيدة للمعرفة. و بذلك نختتم الكلام في هذا الفصل ، فننتقل الى الفصل الثاني و موضوعنا فيه: الاستدلال على وجوده تعالى.

ص: 15


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 112

ص: 16

الفصل الثاني: الاستدلال على وجوده تعالى

اشارة

هل هناك طرق أخرى غير الرؤية و الاحساس نستطيع بواسطتها اثبات وجود الله سبحانه وتعالى؟

موضوع كلامنا في هذا الفصل هو الاجابة عن هذا السؤال ، وذلك بما يستدل به امیر المؤمنين عليه السلام ، و لكن قبل الشروع في هذا البحث يحق لنا ان نتساءل عن ضرورة اثبات وجود الله و الايمان به فما دمنا لا نراه ولا نحسه فما فائدة اثبات وجوده ، وما فائدة الايمان به؟

فى الفقرة التالية سنجیب عن هذا التساؤل ثم تنتقل الى صلب الموضوع.

ضرورة الايمان بالله

لا يعرفنا التاريخ متى بدأ الايمان بالله ، وهو لا يستطيع الادعاء بان فترة من الفترات كانت خالية من الايمان به و اما الأديان فانها تخبرنا بان الأيمان قد وجد ملازماً للانسان ، فمنذ أن وجد الانسان وجد معه الايمان وايمانه ذاك لم يكن وليد القهر والظلم ، او وليد التناقضات الاجتماعية ولا وليد الخوف والرهبة من الكوارث الطبيعية كما يحاول ان يثبت الماديون بل كان تعبيراً عن نزعة أصيلة في الانسان نحو خالقه ،

ص: 17

كان ايماناً نقياً نابعاً من الفطرة كما يحدثنا القرآن عن ايمان ابراهيم الخليل (ع).

وسؤالنا هنا هو: هل ان الايمان بالله واجب؟

يجيب امير المؤمنين عن ذلك بقوله:

اول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به (1)

لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته (2)

فمن الواضح اذن أن أول الواجبات الدينية معرفة الله سبحانه معرفة يقينية تامة وكاملة ، وكما لها انما يكون بالتصديق به سبحانه بمعنی ترتيب الأثر المترتب على معرفته من اطاعة الأوامر و الانتهاء عند الزواجر ، ومعرفته سبحانه ممكنة لكل انسان فهو وإن حجب النظر عن رؤيته ولكنه لم يحجب العقول عن معرفته لأنها واجبة كما قلنا والله سبحانه أعدل من أن يأمر الانسان بما لا يستطيعه ويتمكن منه.

كما ان العقل ايضاً يحكم بوجوب هذا الايمان لان فطرة الانسان تملي عليه ان يحسن الى من احسن اليه وان يكافىء من انعم عليه ، والاخلال بذلك يعد كفراً بالجميل وجحوداً له والله سبحانه منعم على البشر بما لا يحصى ولا يعد من النعم فواجب على الانسان ان يعرف هذا المنعم لكي يؤدي اليه حقه ففائدة الايمان بالله ومعرفته هي ليعرف العبد

ص: 18


1- نهج البلاغة - ج 1 - ص 14
2- نهج البلاغة. ج 1 - ص 99

كيف يتعامل مع خالقه المنعم عليه ، ولكن ليست هذه هي الفائدة الوحيدة ، فان الايمان ينظم أيضاً معاملة الانسان مع الآخرين ويدعوه الى العمل الصالح بالاحسان اليهم ، و هذا المعنى يستفاد ايضاً من كلامه عليه السلام اذ يقول:

فبالايمان يستدل على الصالحات ، وبالصالحات يستدل على الايمان (1)

فهناك ملازمة اكيدة بين الايمان وبين العمل الصالح ، اما ملازمة الصالحات للايمان فلأن من يعترف بان له رباً وخالقاً ويؤمن بان مصيره اليه ونهايته بين يديه وان ذلك الخالق يريد الحسنات من العبد ويكره منه فعل السيئات ، فان هذا الانسان يضطر الى العمل بالسيرة الحسنة التي يريدها هذا الإله لأنها هي التي تضمن له سعادته النهائية. واما الجاحد بهذا الخالق فإنه لا يعترف بوجود حياة اخرى غير هذه التي يعيشها ويعتقد بان نهاية حياته هي الموت ليس بعده شيء فانه يعمل في وجوده على هذا الاساس فيكون كل همّه هو تحصيل المقدار الاكبر من اللذة و التمتع بهذه الحياة حتى ولو ادّى ذلك الى ظلم الآخرين و الاعتداء على حقوقهم.

هذا بالنسبة لملازمة الصالحات للايمان ، اما ملازمة الايمان للصالحات فتوضيحها ان العبد عندما يكون متروياً في حياته يعمل بما تمليه عليه الفطرة الحسنة التي فطر عليها فلا يعمل الأكل صالح ولا ينغمس في الشهوات ليستولي الشيطان على عقله وقلبه فان فطرته تبقى

ص: 19


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 283

على ثقاوتها وطهارتها والفطرة ولا شك تدل الانسان على خالقه و على ضرورة الايمان به.

ولكن هناك فائدة اخرى تترتب على الأيمان تضاهي في اهميتها جميع ما ذكرناه لم ينتبه اليها مخلوق سوى سيد العقلاء الامام علي حيث يقول:

وبالايمان يعمر العلم (1)

النية

ومعنى هذه الجملة العظيمة على قصرها يتضح فيما يلي:

إن العلم هو الطريق الصحيح إلى السعادة التي ينشدها كل انسان وكل مجتمع ، وقد حث الإسلام بشكل اكيد على طلب العلم. ولكن العليم السلاح ذو حدين اذ ان العلم الذي قرب الابعاد والذي حطم الذرة من اجل خدمة الانسان وسعادته هو بذاته قد حطمها ايضا لتدميره و اهلاكه ، فالعلم اذن يمكن تسخيره لمصلحة البشرية كما يمكن تسخيره لتدميرها وهنا يبرز دور الايمان فانه يحور العلم نحو خدمة الانسانية فقط لان من يؤمن بالله فإنه يؤمن ضرورة بالانسان و بانسانية هذا الانسان فلا يمكن حينئذ ان يسعى الى اهلاكة فلا يوجه عليمه في هذا الاتجاه بل يوظفه نحو خدمته وسعادته ، و بهذا يحيى العلم و هذا معنى قوله عليه السلام (وبالايمان يعمر العلم)

و قد أدرك بعض الفلاسفة ايضاً ، اهمية الايمان وضرورتها وفيما يلي نتقل بعض اقوالهم. فمن هؤلاء الفيلسوف اليوناني ابيكتيت إذ يقول:

ص: 20


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 283

العقيدة بالله يجب أن تكون مستمرة كاستمرار التنفس (1)

ومنهم ايضاً لامارتين الذي يقول:

ان ضميرا خالياً من الله كالمحكمة الخالية من القاضي (2)

و نحن حتى الآن كنا نتكلم عن ضرورة الايمان بالله و عن فائدته ولكن يحق لنا أن نتساءل ما هي حقيقة هذا الايمان وماذا نعني به؟ هذا ما سنجيب عنه في الفقرة التالية ،

معنى الايمان

للايمان معنيان ، احدهما الأيمان بالمعنى الاعم ، و هو يتحقق بالنطق بالشهادتين ، فكل من قال اشهد ان لا إله الا الله ، و اشهد أن محمدا رسول الله فهو مؤمن ، فيحقن بذلك ما له و دمه و عرضه. حتى لو كان لا يعتقد بقليه ما تفوه به. و لكن هذا ليس هو الايمان المطلوب الذي نتحدث عنه فلقد آمن من قبل ابو سفيان وولده معاوية وولده يزيد ، ولكن مع ذلك لم يفعلوا الصالحات المفترض ملازمتها للإيمان بل انهم لم يتورعوا عن محرم من المحرمات قليس هو هذا الايمان الذي ننشده بل المطلوب هو الايمان بمعناه الثاني و هو الايمان بمعناه الخاص.

ص: 21


1- دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 482
2- نفس المصدر ص483

و الايمان بهذا المعنى هو ايمان علي بن ابي طالب وهو الايمان الذي يأمرنا بان نسير على هداه ، ويعبِّر (ع) عن هذين المعنيين للايمان بقوله:

فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقراً في القلوب ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصدور الى اجل معلوم (1)

فالايمان على قسمين احدهما وهو الثابت المستقر بالقلب وهذا القسم يكون عن اقتناع تام بضرورته ، وأما القسم الآخر فهو كشيء مستعار، صحیح انه موجود في القلب ولكنه ليس ثابتا لانه مستعار وحاله لن يستمر على ذلك بل له اجل معلوم ، فعند ذلك الأجل اما ان يرتفع الى مرتبة الايمان الحقيقي فيصبح ثابتاً مستقراً ، واما ان يزول تماما.

و لكن كيف يتوصل الانسان الى درجة الايمان الثابت المستقر؟ الجواب عند الامام عليه السلام ، فلنستمع اليه وهو يأمر بالايمان فيقول:

ونؤمن به ایمان من رجاه موقناً واناب اليه مؤمناً ، وخنع له مذعنا ، واخلص له موحداً ، وعظمه ممجداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً (2)

ص: 22


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 363
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 339

الايمان معرفة بالقلب واقرار باللسان، وعمل بالاركان (1)

فهذا هو الايمان الذي يريده ابن أبي طالب و هو الذي يحقق الصالحات: ان نؤمن بالله ايمان خضوع واخلاص وتعظيم ورجاء ، وكل ذلك ليس قولاً باللسان فقط بل يجب ان ينضم اليه ايقان بالقلب وعمل بالجوارح.

كما ان الايمان ليس على درجة واحدة عند جميع الناس بل ان مراتبه تتفاوت و تتغاير فايمان النبي غير ايمان بقية الناس ، ولذا يقول (ع):

ان الايمان يبدو لمظة في القلب كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة (2)

ولكن قد يقال هنا ما دام الايمان هو كما عرفه عليه السلام ، اي معرفة واقرار وعمل ، فكل من حقق هذه الشروط الثلاثة في نفسه فهو مؤمن ، اذن فكيف يختلف ايمان شخص عن آخر؟ فلو تخلف احد هذه الاركان لما سمي المرء مؤمنا اصلا لا انه يطلق عليه ذو ايمان ضعيف.

والجواب: ان اختلاف درجات الايمان منشؤه التفاوت في العمل ، فكثير من الاعمال والصفات يزيد وجودها في درجة الايمان ، ولكن نقصانها يضعفه لا يلغيه. اذن فبعض الصفات تعتبر من شرائط الايمان ومقدماته فلا يتم الايمان بدونها، وهي التي يعد بعضها عليه

ص: 23


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 186
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 195

السلام بقوله:

الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وان لا يكون في حديثك فضل عن عملك وان تتقي الله في حديث غيرك (1)

وأما الصفات التي يعتبرها عليه السلام من متممات الايمان فنجدها بقوله:

ولا ايمان كالحياء و الصبر (2)

و الان بعد ان قدمنا هذه الفقرة فى معنى الايمان وضرورته تعود الى اصل البحث وهو اثبات وجود الله سبحانه.

الاستدلال على وجوده تعالى

الأدلة على وجود الله سبحانه كثيرة ومتنوعة ، وقد ذكرها الفلاسفة في كتبهم و اشبعوها بحثا و تمحيصا ، فلذلك لن نطبل بايرادها ولكن نذكر فقط الأدلة التي يبرهن بها عليه السلام على وجوده سبحانه و هذه الأدلة تتلخص بدليلين: دليل الفطرة ودليل الخلق.

اولا: دليل الفطرة

و مقاده أن الانسان مفطور بطبيعته على معرفة الله سبحانه من دون حاجة الى اي نوع من البرهنة و الاستدلال.

ص: 24


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 241
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 163

و يقرر عليه السلام هذا الدليل بقوله:

تدركه القلوب بحقائق الايمان (1):

تتلقاه الاذهان لا بمشاعرة وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (2)

الى غير ذلك من النصوص التي تدل بوضوح على ان القلب و الشعور يشهدان بوجوده تعالى: ومعناه انهما مفطوران على ذلك. وبعض علماء الغرب فضلا عن علماء الشرق قد عرفتوا الله عن هذا الطريق ، وفيما يلي ننقل بعضاً من كلماتهم.

يقول العلامة الاقتصادي برودون:

إن ضمائرنا تشهد لنا بوجود الله قبل ان تكشفه لنا عقولنا (3)

ويقول لودويغ الألماني:

بعض اللاهوتيين الكاثوليك يعلمون مستندين إلى الاباء: أن فكرة الله لا تأتي الانسان عن طريق التفكير الاستنتاجى المعتمد على الاختبار بل هو الانسان مطبوع عليها. لا ريب أن بعض الآباء قد وصقوا معرفة الله على انها (مغروسة) ، (ولم تتلقنها بالتعليم) ، (ومعروفة بذاتها) ، (وهي

ص: 25


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 334
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 350
3- دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 483

للنفس كالبائنة) ويقول يوحنا الدمشقي (ان معرفة وجود الله قد غرسها الله ندى جميع الناس في الطبيعة) والقديس توما ؛ (نقول ان معرفة الله هي

مطبوعة فينا بمعنى اننا نستطيع بسهولة بواسطة المبادىء المطبوعة فينا أن نعرف وجوده (1)

ولكن يحق لنا هنا ان نتساءل: ما هي هذه الفطرة؟ وهل هي موجودة لدى جميع الناس؟ وهل تشمل غير الانسان؟ سنتحدث عن ذلك فيما يلي:

1 - ماهية الفطرة

ليس للفطرة معنى محدد ففي لسان العرب يذكر للفطرة عدة معان ينقلها عن كبار علماء اللغة. فمن هذه المعاني (الابتداء والاختراع) ، ومنها ايضا: الخلقة التي يخلق عليها المولود في بطن امه ، ومنها: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به (2) ، والى غير ذلك وكل هذه المعاني لها تبريرات وعليها اشکالات ، وليس هذا مجال البرهان لها والايراد عليها ، ولكن نقول: ان اهم مقومات الفطرة هو النزوع نحو الكمال ، فكل انسان يشعر بان له هدفاً من وجوده لا بد من الوصول اليه ، فيضع نصب عينيه هدفاً ما ويعتقد بوجوب الوصول اليه ، لان وجوده كان من اجل هذا الهدف، ولكن ما ان يصل اليه حتى يجد ان هذا الهدف ليس شيئاً وليس هو الداعي لوجوده

ص: 26


1- مختصر في علم اللاهوت العقائدي ج 1 - ص 2
2- لسان العرب. ج 5 - ص 56

لانه لا يجد ذلك الاطمئنان النفسي الذي كان يرجوه من بلوغ هذا الهدف ، فيعود ليضع نصب عينيه هدفاً اكبر عسى ان يجد فيه ضالته وكل ذلك طلباً للكمال الذي يشعر في قرارة نفسه بوجوده فيحاول الوصول اليه.

و نلاحظ ذلك من حال الطفل الصغير حيث يكون هدفه الأول هو المشي و التكلم لانه يشعر بان كماله في ذلك ولكن ما ان يتمكن من ذلك حتى يضع نصب عينيه هدفاً اكبر وهو تقليد والده ، وهذه مرحلة اخرى ، وهكذا تستمر رحلة هذا الانسان من هدف الى آخر و من مرحلة الى اخرى ولا يزال يشعر بان هناك مرحلة عليا و هدفاً اكبر فيه الكمال الذي ينشده، ولم يستطع حتى الان الوصول اليه ، فيبدأ حينئذ بادراك ان هذا الكمال لن يستطيع ابدا الوصول اليه لانه يشعر بنفسه انه يتألم ويتوجع وييأس ويحزن الى ما هنالك من المشاعر التي تعترضه، وكلها تنافي الكمال.

فاذا توصل الى ذلك يحاول حينئذ ان يجد ذلك الكمال فيما يحيط به فيبحث في عالم الحيوان و النبات و الحجار ولكن هيهات ان يجد فيها ما لم يجده في نفسه فيتطلع حينئذ نحو السماء عسى أن يجد ضالته، أن يجد ذلك الكمال الذي لا يعتريه النقص او الموت او الزوال ، ولكنه يجد ان كل شيء يعتريه النقص والفتور ، وكل شيء قادم على الفناء فيدرك حينئذ ان مبتغاه ليس في عالم المحسوسات بل في عالم آخر ، وهو لا يستطيع ادراكه لأن منتهى ادراكه يتعلق بالمحسوسات لا ما ورائها ، و هذا المطلق الغير محسوس هو ما يسميه (الله).

و يذكر القرآن رحلة الانسان هذه نحو الله بما يحكيه عن ابراهيم الخليل عليه السلام في تاملاته و محاكماته الفكرية التي ينطلق بها الى قمة

ص: 27

الايمان واليقين. و قبل استعراض الآيات التي يذكرها القرآن يجب أن نشير إلى أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يخل ساعة قط من الايمان بالله ، وما الآيات التي يحكيها القرآن عن لسانه الا تذكير لابناء قومه للرجوع بهم الى فطرتهم ليعرفوا ربهم ، وفيما يلي نستعرض الايات مع التعليق عليها:

واذ قال ابراهيم الابيه آزر: اتتخذ الهة اصناماً اني اراك و قومك في ضلال مبين. و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل راى كوكباً قال هذا ربي ، فلما افل قال لا احب الأفلين. فلما راى القمر بازغاً قال هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لا كونن من القوم الضالين. فلما راى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر ، فلما افلت قال يا قوم اني بري مما تشركون اني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الارض حنيفاً و ما انا من بالمشركين (1)

كان قوم ابراهيم قد اتخذوا آلهة لهم من الاصنام و الزهرة و الشمس و القمر ، فاراد ابراهيم أن يحاججهم بذلك. اما الاصنام فقد حطمها و القى التبعة على كبيرها ليعودوا الى انفسهم وليعرفوا ان هذه الاصنام لا يمكن ان تكون آلهة لانها ليست بقادره على حماية أنفشها، و هذا نقص بينّ فيها. (على ما يقصه القرآن في آيات أخر) ثم ابطل علیه

ص: 28


1- الانعام الایة 74-79

السلام ربوبية الكوكب - وهو الزهرة حسب المفسرين - بسبب اقوله و غيابه ، لان هذا نقص فيه فليس اذن هو الكمال المنشود، و ابطل ربوبيته ايضاً بعدم الحب له ، لان المفروض في المعبود ان يكون متحلياً بالكمال، و الكمال مطلوب و محبوب للانسان فلما راى نفسه لا يحب الكوكب عرف انه ليس بإله و ليس بمطلق ، فنحن عندما نكره شیئاً فهذا يعني ان في ذلك الشيء نقصاناً. ونفس الشيء بالنسبة للشمس والقمر فلما وجدها كلها يعتريها النقص ، عرف ان الله غير ذلك بل هو خالق كل ذلك.

الفيلسوف الشهير (ديكارت) انطلق الى الله عن هذا الطريق طريق الفطرة اذ يقول:

ان شكي في كثير من الأمور يدل على أنني موجود ناقص لأن المعرفة أكثر كمالاً من الشبك و ما كنت لاعراف أنني موجود ناقص لولم تكن لدى فكرة الموجود الكامل أو اللامتناهي ها فأنا اذن موجود ناقص أملك فكرة الكمال فمن أين جاءتني هذه الفكرة؟ أنني لا أستطيع أن أخلق هذه الفكرة بنفسي ما دمت قد لاحظت أنني موجود ناقص ، و مع ذلك فلا بد من أن يكون لهذه الفكرة علة ان لعلة المؤثرة لها من الحقيقة و الكمال ما لمعلولها على الأقل فاذا كانت طبيعتي متناهية و ناقصة فانه يلزم من ذلك انني لم أخلق بنفسي فكرة الكمال و اللانهاية لأنني موجود ناقص و فكرة الكمال هذه ليست مستمدة من

ص: 29

العدم ، و اذن لا بد أن يكون هناك موجود لا نهائي کامل طبع هذه الفكرة على نفسي و هذا الموجود اللانهائي الكامل هو الله (1).

و يقول المسيو بوشيت في كتابه المسمى التذكره في تاريخ البراهين على وجود الخالق:

ان اعتقاد الافراد و النوع الانساني باسره في الخالق اعتقاداً اضطرارياً قد نشأ قبل حدوث البراهين الدالة على وجوده (2).

2 - وجود الفطرة

بعد ان عرفنا معنى الفطرة ننتقل للاجابة عن السؤال الثاني ، و هو: هل الفطرة موجودة لدى جميع الناس دون استثناء؟

الجواب بنعم يواجه اعتراضاً و حاصله ، اذا كان كل انسان يولد على الفطرة فهذا يقتضي ان يكون كل انسان عارفاً بالله ، مع انا نشاهد بالضرورة كثرة الملحدين و الجاحدين. و جواب هذا الاعتراض: ان الجاحد بالله هو احد اثنين:

الاول: هو الذي يجحد بلسانه لا بقلبه مكابرة عن الحق.

الثاني: هو الذي تكون رحلته نحو المطلق قد توقفت في مرحلة من المراحل بسبب من قصر النظر عند هذا الانسان ، او بسبب بعض من الانتكاسات النفسية التي قد يتعرض لها في حياته.

ص: 30


1- مقالة الطريقة. صفحة 44
2- دائرة معارف القرن العشرين ح 1 - ص 483

و لكن هذا لا يعني ان يقف هذا الانسان عند هذا الحد فلا يعرف ربه، بل ان الحوادث الحياتية سرعان ما ترجعه الى الطريق الصحيح و تذكره بفطرته و نستشهد على ذلك بما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى:

هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة و فرحوا بها جاءتها ريح عاصف و جاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم احیط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (1)

ومثل ذلك ما عن الامام الصادق عليه السلام اذ يأتي اليه رجل فيسأله عن وجود الله وكيفية الاستدلال عليه فيقول له عليه السلام:

يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال نعم.

قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال نعم. قال: فهل تعلق قلبك هنالك ان شيئاً من الاشياء قادر على ان يخلصك من ورطتك؟ قال نعم: قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي (2)

ففي مثل هذه الحالة التي يصفها القرآن والامام الصادق (ع)

ص: 31


1- يونس. الآية. 22
2- البحار ج 3 - ص 41

يكون الانسان في اضعف حالاته و إذلها ، حيث انقطعت الصلة بينه وبين سائر الاسباب المادية و حينئذ يعرف هذا الانسان ضعفه على حقيقته و يدرك عجزه عن تخليص نفسه فتتراءي له صورة القوي القادر فتنزع نفسه اليه فيشعر حينئذ ببعض الأمل و الرجاء. و الاعتراض على شمولية الفطرة لجميع الناس ، قد توجه به کل من (هوبس) و (غاسندي) و (كاتروس) على ديكارت فقالوا:

ان فكرة الكمال التي وجدها ديكارت في نفسه لیست موجودة لدى جميع الناس.

فرد عليهم ديكارت بقوله ادامه

ان هذه الفكرة ملازمة للعقل البشري ، وإنها فطرية ، وانها موجودة عند الطفل بالقوة (1)

3 - الفطرة والغريزة

وأما عن السؤال الثالث: وهو شمولية الفطرة لغير الانسان: فجواله عنان الفطرة ليست موجودة الا لدى الانسان خاصة فهو المخلوق الوحيد المتطلع نحو الكمالك و القادر على المسير باتجاههه ، و أما ما نشاهده لدى بعض اجناس الحيوانات كالنمل و النحل مثلاً ، من تنظيم مدهش، فهو ليس فى حقيقته الا غريزة قد غرّزها الله عليها ، ولذا نشاهد أن خلية النحل لا زالت كما هي منذ أن أوجد الله النحل ، و هداه الى وظيفته ، و أما الانسان فقد تطور تطوراً رائعاً فى حياته عما

ص: 32


1- مقالة الطريقة صفحة 44

أوجده الله عليه.

وبذلك نختم الكلام عن الدليل الأول على وجود الله و هو دليل الفطرة.

ثانياً: دليل الخلق

ثاني الادلة التي يبرهن بها عليه السلام على وجود الله هو دليل الخلق. و مفاد هذا الدليل ان هذا الخلق الرائع لا بد له من خالق فيقول علية السلام:

ودلت عليه اعلام الظهور (1)

فهو الذي تشهد له اعلام الوجود (2)

المتجلي لخلقه بخلقه ، و الظاهر لقلوبهم بحجته (3)

فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه (4)

عجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله (5)

فيستدل عليه السلام بوجود المخلوق على وجود الخالق فاذا ما تفكر الانسان في الخلق فلا بد ان يصل الى خالقه ، اذ لا شيء يوجد

ص: 33


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 98
2- نفس المصدر ج 1 - ص 99
3- نفس المصدر ج 1 - ص 206
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 164
5- نهج البلاغة ج 2 - ص 166

من العدم، بل لكل شيء علة. ويواجه هذا الاستدلال ثلاث اعتراضات:

احدها: اذا كان الله قد خلقنا فمن الذي خلق الله؟

ثانيها: اذا قلنا بان العالم وجد صدفة فلا داعي لأفتراض الخالق

الثالث: ان المادة الخالقة

وفيما يلي نجيب عن كل من هذه الاعتراضات ونثبت بطلانها.

الاعتراض الاول

ان القول بكون الله هو الذي خلقنا يستلزم السؤال عن الذي خلق الله. و هذا الاعتراض يوجهه جون ستيوارت مل في سيرة حياته اذ يقول:

ان اباه قد علمه ان سؤال من الذي خلقني لا يكفي لاثبات وجود الإله اذ ينجم عنه تلقائياً سؤال: فمن الذي خلق الإله وقد اعتد (برتراند رسل) هذا الاعتراض الثاني كافياً لرفض مدلول السؤال الاول (1)

وقد تبنى بعض فلاسفة الماركسيين هذا الاعتراض ولكن مع محاولة اعطائه الصبغة العلمية ، فقالوا: ان التجربة تفيد بان الوجود

ص: 34


1- الاسلام يتحدى 75

بمختلف اشكاله يحتاج الى علة ، و هذه قاعدة عامة للكون ، فالله اذن يحتاج الى علة لوجوده.

والجواب عن هذا الاعتراض: ان ما يقولونه صحيح بالنسبة للنطاق المادي لان مستندهم في ذلك هو التجربة ، و التجربة مجالها لا يتعدى حدود المادة، ففي مجال المادة نسأل دائماً عن العلة لانها حادثة ولا بد لها من محدث ولكن الوجود بما هو وجود لا ينطبق عليه قانون العلية هذا ، لأنه ليس بحادث لنسأل عمن احدثه ، بل هو موجود دائماً بمعنى انه أزلى والقول بالأزلية لا يختص باصحاب المذهب الالهى ، بل أن هناك الماديين الذين يعتقدون بأزلية المادة وعندما يوصف شيء بأنه أزلي فلا يصح السؤال عمن أوجده سواء كان ذلك الأزلي الها أو مادة.

الاعتراض الثاني

مفاد الاعتراض الثاني: انّا نعترف بأن الكون حادث ولكننا لا نبحث عمن أوجده لأنه قد وجد صدفة. وقبل الخوض في مناقشة هذا الاعتراض لا بد لنا أولاً من توضيح معنى الحدوث ومعنى الصدفة

الحدوث: هو صفة لما كان مسبوقاً بالغير او العدم ، فيقال حادث الوجود اذا كان معدوماً سابقاً او على حال مغاير ويقال حادث العدم اذا كان موجوداً ثم عُدِم.

اما الصدفة فمعناها وجود الشيء الذي يستوي بالنسبة اليه الوجود و العدم من دون سبب ظاهر. ونأتي الان لطرح فكرة الصدفة ، يقول

هلسكي:

ص: 35

لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة ، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين فلا نستبعد ان نجد فى بعض الأوراق الاخيرة التي كتبوها قصيده من قصائد شكسبير. فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ظلت تدور في المادة لملايين السنين (1)

واحتجوا على جواز الصدفة بقانون (نيوتن) في الحركة القائل:

ان كل جسم يستمر على حالته من السكون او الحركة بسرعة ثابتة الا اذا اثرت عليه قوة غير متزنة (2)

ومعنى هذا القانون ان الجسم اذا كان ساكناً فانه يبقى على حالته من السكون الى ان توجد قوة تحركه، فاذا وجدت تلك القوة و تحرك ذلك الجسم فانه يستمر على حركته الى ان توقفه قوة اخرى. فقالوا:- ان الحركة كما يجوز ان تستمر بلا سبب فكذلك يجوز ان تحدث بلا سبب و اذا كانت الحركة تحدث بلا سبب فما المانع من وجود غيرها من الموجودات بلا سبب ايضاً؟ والحدوث بلا سبب هو معنى الصدفة. ثم ضربوا لذلك بعض الامثلة من الحوادث اليومية ، مثل ان تبحث عن كتاب معين في جميع المكتبات ولكن دون جدوى ، ثم تجده بالصدفة عند صديق لك. او ان تطلق سهماً في الهواء بقصد اللهو فتصيب طائراً كان يمر من فوقك دون قصد اي صدفة.

ثم حاولوا اعطاء فكرة الصدفة في نشؤ الكون الصبغة العلمية فقالوا:

ص: 36


1- الاسلام يتحدى. صفحة 106
2- الفيزياء العصرية. صفحة 208

ان تفسير الكون بواسطة قانون الصدفة ليس بكلام فارغ ، بل هو كما يعتقد السير جيمس جينز ينطبق على قوانين الصدفة الرياضية المحضة (1)

ويقول ايضا احد العلماء الامريكيين:

ان نظرية الصدفة ليست افتراضاً و انما هي نظرية رياضية عليا، و هي تطلق على الامور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية ، و هي تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الحق و الباطل و للتدقيق في امكان وقوع حادث من نوع معين ، وللوصول الى نتيجة وهي معرفة مدى امكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة (2)

الى هنا كنا نوضح فقط فكرة الصدفة و ننقل اقوال العلماء القائلين بها وطريقة استدلالهم عليها. وفيما يلي سنناقش كل ما ذكروه وذلك ضمن عدة نقاط نذكرها فيما يلي:

أولاً: ان فرضية القردة الكاتبة ليست مسلمة أبداً بل هي من السخف بمكان عظيم ، اذ حتى لو جلس جميع القائلين بالصدفة مع تلك القردة فانهم لن يتمكنوا من كتابة سطر واحد من قصائد شكسبير فضلاً عن قصيدة كاملة. ثم حتى لو مكّنت الصدفة تلك القردة بهذه المدة الطويلة من كتابة احدى قصائد شكسبير فان ذلك لا يعني أبداً امكانية نشوء العالم صدفة ، لأن العلم قد كشف عن عمر الكون و حجمه الخيالي ، وتطبيقاً لمبدأ الصدفة الرياضي فان الكون يحتاج الى مدة أطول بكثير من الزمان الذي استغرقه تكوينه بالفعل ، وهو أيضاً.

ص: 37


1- الاسلام يتحدى 107
2- الاسلام يتحدى. صفحة 107

يتطلب مادة يزيد مقدارها بمليون مرة عن المادة الموجودة الآن فى سائر الكون.

و يقول البروفيسور ايدوين حول هذه الفكرة:

ان القول بان الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع اعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة (1)

ثانياً: ان استدلالهم بقانون (نيوتن) عن الحركة لاثبات الصدفة خطأ فاحش و ذلك لامرين:

الاول: ان استمرار الحركة ليس بلا سبب ، فهم قد توهموا من خلال التجربة ان السبب الحقيقي للحركة هو تلك القوة الخارجية فاذا انقطعت تلك القوة وبقيت الحركة مستمرة فان استمرارها يكون بلا سبب. ولكن في الواقع ان التجربة لا يستفاد منها كون القوة الخارجية هي علة الحركة ، اذ من الجائز جداً ان يكون سبب الحركة الحقيقي هو قوة موجودة في نفس المتحرِّك و اما الاسباب الخارجية فما هي الا لاثارة هذه القوة الكامنة ، و على هذا فهناك علة لاستمرار الحركة و هي القوة الموجودة في المتحرك، فاستمرار الحركة اذن ليس بلا سبب.

الثاني: حتى لو اثبتت التجربة امكان استمرار الحركة دون علة فان هذا لا يعني ان تحدث تلك الحركة بدون علة ، و الا لما بقيت الاجسام الساكنة على سكونها ، لان تحركها ابتداء دون علة ممكن ،

ص: 38


1- الاسلام يتحدى. صفحة 107

وهذا الامكان يساوي الوجوب ، لان الامكان ينتظر العلة لخروجه عن دائرة الامكان الى دائرة التحقق ، وحيث لا لزوم للعلة فالوقوع والتحقق واجب.

ثالثاً: ان الحوادث الحياتية التي فسروها بالصدفة واستدلوا بها على فكرتهم منشؤها قصر النظر عن فهم مدلول الصدفة إذ أن لها مدلولين:

- أحدهما: الصدفة في القصد بمعنى أن الحادثة المعينة تحصل بأسبابها الطبيعية ولكن من غير قصد المحدِث كما في صورة غليان الماء نتيجة وضع الحداد الحديدته المحماة فيه ، فهو لم يكن يعني أن يغلي الماء بل أن قصده تعلق بتبريد الحديدة ، فالغليان قد حدث صدفة.

- ثانيها: - الصدفة في الحدوث بمعنى أن يوجد المعدوم دون علة والمعنى الأول للصدفة ليس مقصوداً لهم فإثبات أن الكون قد وجد صدفة معناه أنه قد وجد دون علة أي حدث صدفة والأمثلة التي يحاولون الإستدلال بها هي من الصدفة بالمعنى الأول وهم يستهدفون اثبات المعنى الثاني منها فتحصيل ذلك الكتاب عند صديقك له علله الطبيعية وهي شراء صديقك لذلك الكتاب وذهابك الى بيته فتحصيل الكتاب لم يصح إطلاق الصدفة عليه إلا لجهلك بوجوده عنده ، فلو كنت على علم سابق بوجوده لما سمي تحصيله صدفة. فالإستدلال إذا بهذه الحوادث اليومية لا يجدي نفعاً لإثبات الصدفة في حدوث الكون.

رابعاً: محاولتهم لتطبيق قوانين الصدفة الرياضية على الصدفة في

ص: 39

حدوث العالم هي أيضاً بسبب قصر النظر عن إدراك التفرقة بين مدلولي الصدفة فقانون الصدفة يحسب مثلاً إحتمال وقوع قطعة النقد على هذا الوجه المعين أو ذاك عند رميها إلى الأرض وهذه الحادثة لها أسبابها بخلاف ما يحاولون الاستدلال عليه.

وأكثر من ذلك فإن نفس قوانين الصدفة الرياضية هذه يمكن استخدامها بنجاح لإثبات وجود خالق للكون ، لأننا نلاحظ في هذا الكون عدداً كبيراً من الظواهر وكل منها ضروري لاستقرار الحياة على الأرض ، بحيث لو استبدلت ظاهرة مكان أخرى لكان في ذلك نهاية الحياة. فأفتراض أن جميع هذه الظواهر قد وجدت صدفة هو أحتمال ضئيل يقرب من العدم لأنه يستبطن مجموعة هائلة من الصدف بينما افتراض صانع حكيم لهذه الظواهر لا يحتاج لأفتراض ذلك فيكون الإحتمال الثاني أكبر بكثير من الإحتمال الأول طبقاً لقوانين الصدفة الرياضية.

خامساً: ان القائلين بالصدفة لا يفسرون لنا من اين وجدت هذه المادة التي هي أصل الكون.

الاعتراض الثالث

إن أصل الكون هو المادة وهذه المادة أزلية فلا تحتاج إلى خالق وقد توهَّم اصحاب هذا الإعتراض بأنهم بذلك قد نجحوا في إبطال ضرورة الله. و قبل مناقشة هذا الإعتراض لا بد من شرح معنى الأزلي.

- الأزلي هو الموجود الذي لم يكن لوجوده أوّل بمعنى أنه لم يسبق بالعدم. و ندخل الآن في مناقشة هذا الإعتراض فنجيب عنه بجوابين:

ص: 40

أحدهما: ما يجيب به الإمام علي (ع) هؤلاء حيث يقول:

- ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن و القضاء المبرم (1).

و لو فكروا في عظيم الخلقة وجسيم النعمة لرجعوا الى الطريق (2)

فالإمام (ع) يخاطب عقول هؤلاء هل يمكن لهذا الخلق العظيم. بما فيه من تدبير مدهش أن يوجد بلا موجد حكيم؟ الجواب طبعاً بالنفي.

و عن نفس هذا الطريق توصّل كبار العلماء الى معرفة ربّهم ، يقول بوسيت الفرنسي:

ليس علينا إلا أن ننظر إلى أنفسنا لنتحقّق أننا صادرون من أصل رفيع (3)

ويقول العلامة نيوتن:

وهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود إله منزّه عن الجسمانية حي حكيم موجود في كل مكان ويرى حقيقة كل شيء في ذاته ويدركه أكمل إدراك (4)

ص: 41


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 239
2- نفس المصدر ص 351
3- دائرة معارف القرن العشرين - ج1 - ص 493
4- نفس المصدر صفحة 497

ويقول لينيه الفرنسي:

إن الله الأزلي الكبير العالم بكل شيء و المقتدر على كل شيء قد تجلىَّ لي ببدائع صنائعه حتى صرت مبهوتاً فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أودعه مصنوعات يده سواء في أصغر الأشياء أو أكبرها (1).

فالجواب الأول على القول بأزلية المادة هو هذا التدبير المدهش و الخلق العظيم في هذا الكون ، لأن ذلك ينفي كون المادة هي الخالقة و في نفس الوقت يدل على إله خالق حكيم مدبر ... و نحن لن نخوض في استعراض آيات الله في خلقه إذ يغنينا عن ذلك كثرة المؤلفات حول هذا الموضوع. ويكفي أن نعرف أن بعض النجوم بدأت بإرسال نورها نحو الأرض منذ أن وجدت و حتى الآن لم يصل إلينا بعد بالرغم من سرعته الخيالية.

ولكن يبدو أن هذا التدبير المدهش في الكون لم يعط النتيجة المرجوّة منه لدى بعض العلماء و هؤلاء على قسمين:

- القسم الأول: يمثلهم هودسن تِتِلْ فيقول:

كل ما في الوجود من أول ذرة الهباء الى عقل الإنسان محكوم بقوانين ثابتة لا تتغير و بناء عليه لا صانع للوجود (2).

ص: 42


1- المصدر السابق صفحة 504
2- دائرة معارف القرن العشرين - ص 508

فهو قد بنى إلحاده على ما يشاهده من التنظيم المحكم لهذا الكون فما دام كل شيء يسير بانتظام فما الداعي لوجود الخالق المدبِّر؟ و هذا كأن نجد مدينة يحكمها حاكم قوي وضع لها السنن و القوانين و أجبر أهلها على إتباعها بالقوة فلا يجرؤ أحد على مخالفته فيأتي قائل فيقول: ما دام كل شيء في هذه المدينة يسير بانتظام فما حاجة أهلها إلى حاكم؟

القسم الثاني: وهذا القسم من العلماء قد بني الحاده على عكس القسم الأول ، فهناك على زعمهم أخطاء كثيره في الطبيعة و حوادث شاذة تحصل كلها تدل على عدم وجود خالق حكيم مدبِّر. يقول جيبيل الألماني:

ان الاستاذ فوجت شاهد وجود حیوانات خنثى لها اعضاء تناسل الجنسين معاً ، ومع ذلك فلا يستطيع الفرد منها ان يلقّح نفسه بنفسه فلاي فائدة وجد هذا التركيب؟ و يوجد من الحيوانات انواع كثيرة الاخصاب لدرجة لو انها تركت وشأنها لملأت البحار في مدى سنين قليلة ، وغطت سطح الارض بطبقة ارتفاعها كارتفاع البيوت، فلأي حكمة هذا

التركيب؟ (1)

ويقول ايضاً:

الطبيعة كان يمكنها ان تكوِّن الجسم الانساني بحيث تنفذ منه القنابل بدون ان تحدث به ضررا

ص: 43


1- دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 511

ويقبل ضربات الصوارم بدون ان ينجرح (1)

و هذا القول سخفة واضح، وأنا لست من علماء الفيزيولوجيا لاكشف الحكمة من وجود هذه الحيوانات ولكنني أعرف ان لكل شيء أسبابه الطبيعية وإذا كنا لم نكتشفها بعد ، فذلك لا يعني أبداً عدم وجودها بل يعني أن العلم لم يتوصل بعد إلى ادراكها فما توصل اليه العلم من كشف أسرار الطبيعة لا يعد شيئاً بالنسبة لما لا يزال خافياً عنه فللطبيعة ولا شك نواميس محددة فاذا وجدت حادثة لم يُتمكَّن من ارجاعها الى اسبابها فيجب وضعها على الرف الى أن يحين وقتها بتقدم العلم.

هذا كله بالنسبة للجواب الأول على كون المادة هي الخالقة.

الجواب الثاني: ان المادة يستحيل أن تكون أزلية ، وهذا ما تثبته سائر العلوم. يقول عالم الكيمياء جون كليفلاند:

تدلنا الكيمياء على ان بعض المواد في سبيل الزوال او الفناء ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة و الآخر بسرعة ضئيلة وعلى ذلك فان المادة ليست ابدية ، و معنى ذلك ايضاً انها ليست ازلية اذ ان لها بداية (2).

وقد قلنا بان الابدية تلازم الازلية دون العكس و يقول عالم الفلك وليام نوبلوتشي:

ص: 44


1- نفس المصدر ونفس الصفحة
2- حوار بين الالهيين والماديين. ص 62

علم الفلك يشير ان لهذا الكون بداية قديمة وان الكون يسير الى نهاية محتومة وليس مما يتفق مع العلم ان نعتقد ان هذا الكون از لي ليس له بداية او ابدي ليس له نهاية فالكون قائم على اساس التغير وفي هذا الرأي يلتقي العلم بالدين (1)

كما ان علم الفيزياء يبرهن على حدوث المادة يقول الدكتور ادوارد لوثر كيسيل:

العلوم تثبت بكل وضوح ان هذا الكون لا يمكن ان يكون ازلياً فهناك انتقال حراري مستمر من الاجسام الحارة الى الاجسام الباردة ولا يمكن ان يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الاجسام الباردة الى الاجسام الحارة ، ومعنى ذلك ان الكون يتجه الى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الاجسام وينضب فيها معين الطاقة ، و يومئذ لن تكون هناك عمليات كيميوية او طبيعية ولن يكون هناك اثر للحياة نفسها في هذا الكون ، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة ولا تزال العمليات الكيميائية والطبيعية تسير في طريقها فاننا نستطيع ان نستنتج ان هذا الكون لا يمكن ان يكون أزلياً والا لاستهلكت الطاقة منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود و هكذا توصلت العلوم - دون قصد - الى ان لهذا

ص: 45


1- نفس المصدر السابق صفحة 67

الكون بداية (1).

ونخرج من هذا البحث بخلاصة ان هذا الكون لا يمكن ان يكون قد حدث صدفة ، كما يستحيل ايضاً ان يكون ازلياً ، بل هناك خالق حكيم قد خلقه وأبدعه. ولكن بهذا لا ينتهي البحث حول الخالق اذ يقال: نفترض انا سلمنا كون الله هو الذي اوجد الكون ولكن هذا لا يعني انه الموجد الوحيد ، فمن المعقول والممكن ان يكون له شريك في ذلك فماذا يثبت وحدانيته؟

وهذا هو موضوع بحثنا في الفصل التالي.

ص: 46


1- الله يتجلى في عصر العلم 26

الفصل الثالث: توحيد الله سبحانه

اشارة

التوحيد هو الاصل الأول و الاهم الذي ارتكزت عليه العقيدة الاسلامية ، وهو ايضاً المحور و الاساس للشرائع الالهية و رسالات السماء وقبل الخوض في التفاصيل و حسب المنهج الذي اتبعناه نشرح اولاً معنى التوحيد.

التوحيد: هو الاعتراف بان الله عز وجل واحد ذاتاً وصفاتاً.

ونقصد بوحدة الذات معنيين:

الاول: ان الله واحد في الوجود لا شريك له.

الثاني: ان الله واحد ذاتا غير مركب.

ونقصد بوحدة الصفات: ان صفات الله تعالى عين ذاته و ليست زائدة عليها. فتبين من ذلك أن للتوحيد ثلاثة مفاهيم يجب الاعتراف بها جميعا لله سبحانه وتعالى فيجب:

اولا: توحيده في الوجود ، ومعناه انه تعالى واحد وجوداً لا شريك له

ثانياً: توحيده في الذات، اي ان ذاته تعالى واحدة لا تركيب فيها.

ثالثاً: توحيده في الصفات ، بمعنى ان صفاته

ص: 47

تعالى عين ذاته وتفصيل القول في ذلك ضمن المباحث التالية:

ص: 48

المبحث الأول: توحيده تعالى في الوجود

جميع شرائع السماء اتفقت على انه تعالى واحد لا شريك له وقد اجمل القرآن الكريم دعوة الشرايع باجمعها الى التوحيد فقال تعالى:

وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا إله الا انا فاعبدون (1) و التوحيد في واقعه ضرورة حياتية تجنب الانسان شر التمزق و الأغلال ، اذ انا نشاهد بالضرورة ان القبيلة الواحدة اذا لم تتفق على زعيم واحد تدين له بالطاعة فانها لا تنجو من التناحر والدمار، فكيف بهذه البشرية اذا لم تتفق على إله واحد؟ ويقول عليه السلام في توحيده تعالى:

واشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك (2)

ولا شريك اعانه على ابتداع عجائب الامور (3).

خلق الخلق على غير تمثيل ولا مشورة مشير ولا معونة معين (4)

فكلامه عليه السلام صريح في أنه تعالى واحد لا شريك له وان

ص: 49


1- سورة الانبياء اية 25
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 148
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 165
4- المصدر السابق صفحة 280

الخلق كله مخلوق له تعالى خلقه من غير استشارة ولا معونة من أحد ، والاعتقاد بوحدانيته تعالى هو الركن الأول الذي ابتنى عليه الاسلام ولكن هذا لا ينهي البحث، اذ يحق لنا أن نتساءَ:

اولا: ما معنى وحدانيته تعالى؟

ثانياً: كيف نستدل على هذه الوحدانية؟

الوحدة اللاعددية

عندما نقول ان الله تعالى واحد فلسنا نعني انه ليس باثنين ، وبهذا يقول عليه السلام:

- الاحد لا بتأويل عدد (1)

- واحد لا بعدد (2)

- کل مسمى بالوحدة غيره قليل (3)

فوحدته تعالى - على ما يبين (ع) - ليست وحدة عددية ليميز عن غيره في الوجود اذ لا وجود لغيره ، بل هي بمعنى انه واحد لا شريك له في اي معنى من المعاني التي يتصف بها ، فهو خالق وكل من سواه مخلوق ، وهو رب وكل من سواه مربوب ، والواحد هو اقل الاعداد فعندما يطلق على الاشخاص فانه يفيد الضعف و الوهن لان معناه ان ذلك الشخص واحد لا معين له ولا مساعد ولكن عندما يطلق على الله تعالى فانه يعني التفرد و هذا تعظيم وتنزيه له تعالى.

ص: 50


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 275
2- نفس المصدر ص 350
3- نفس المصدر ص 112

فمعنى الوحدة العددية هو أن توجد ماهية من الماهيات ويكون افتراض أي فرد آخر من هذه الماهية ممكناً - سواء تحقق أم لا - فالماهية التي وجدت يطلق عليها انها واحدة ، أي أنها ليست ثانية ، فلو تحقق فرد آخر من هذه الماهية فانه یصح أن يقال عنه أنه الثاني وهكذا الثالث والرابع ، فوحدة الماهية الأولى وحدة عددية ، ولكن هناك حالات اذا وجدت فيها الماهية فانه يستحيل افتراض فرد آخر منها - فضلاً عن وجوده - ويتضح ذلك بالمثال التالي: العلماء يبحثون في مسألتين:

الأولى: هل ان هذا العالم متناه ام لا؟

الثانية: هل هناك عالم جسمانیات آخر غير عالمنا هذا؟

ومن الواضح ان المسألة الثانية مترتبة على الاولى ، لأنّا لو قلنا بان العالم متناه بمعنى ان له حدوداً ونهاية فحينئذ يمكن افتراض عالم آخر للجسمانيات غير عالمنا ، فيصح البحث في المسألة الثانية. ولكن لو قلنا بان هذا العالم غير متناه ، بمعنى انه لا حد له ولا نهاية ففي اي تجاه سرنا في هذا الكون فلن نبلغ له غاية او طرف فالمسألة الثانية هنا تصبح غير واردة اذ لا يصح اطلاقا افتراض عالم اخر ، لانا كلما افترضنا من عالم جسمانیات فانه يكون جزءاً من عالمنا هذا. وافتراض إله اخر هو من قبيل افتراض عالم جسمانيات آخر مع كون الاول غير متناه ، لانا اذا افترضنا الثاني له حد ونهاية فانه لا يكون ثانيا ، لان الماهية ليست متشابهة فالاول غير متناه والثاني له نهاية. وان كان الثاني المفترض غير متناه ايضاً فان نفس افتراضه ممتنع ، اذ يستحيل افتراض لانهائيان ... وبذلك يتبين مقصودنا عندما نقول ان وحدة الله ليست

ص: 51

وحدة عددية، فان التعدد يقتضي الاثنينية ، فقصد عدم الاثنينية من الواحد يكون لغواً ، لان افتراض الثاني ممتنع.

الاستدلال على الوحدانية

بعد ان عرفنا معنى وحدانيته تعالى نأتي للاستدلال على هذه الوحدانية ، و في ذلك يقول عليه السلام من وصية لابنه الحسن (ع) ،

و اعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لاتتك رسله و لرایت آثار ملکه و سلطانه ولعرفت افعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه احد ولا يزول ابداً ولم يزل (1)

فلو كان هناك إله آخر لكان من المنطقى جداً ان يعرفنا نفسه و يدلنا على معرفته ، وذلك اما بمشاهدة آثاره او بارسال الرسل ، و لكننا بالوجدان لم نشاهد شيئاً من آثاره يدلنا عليه ، كما لم يصلنا منه رسول ليعرفنا به ، أما هذه الآثار التي نشاهدها فانها من صنع إله قد عرفنا نفسه ويستحيل أن يكون له شريك فيها ، لانا نشاهد أن القوانين التي تحكم هذا الكون واحدة، فلم نلاحظ أي اختلال في التدبير أو خطأ في التنظيم فلو كان هناك أكثر من مدبِّر لاختل النظام الكوني واضطرب لان افتراض الشركة يعني أن كلاً من الالهين عالم بعلم مغاير للآخر ، و قادر بقدرة غير قدرة الآخر ، و مريد بارادة تخالف الآخر. اذ لا يمكن تشابهما في ذلك وإلا لم يكونا اثنين ، فان قوام التعدد هو وجود ميزة بين المتعددين ، وكل ذلك يقتضي أن يعمل كل منهما عملاً مغايراً

ص: 52


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 44

للآخر ، لان كلا منهما يعمل على طبق علمه ، وذلك يستلزم الاختلال يالكون ، الشيء الذي لا نلاحظه فالدليل على وحدانيته تعالى هو التدبير والتنظيم في هذا الكون. و بهذا يستدل بعض كبار الفلاسفة ايضاً يقول صدر المتألهين في اسفاره:

ان مجموع العالم من حيث هو مجموع ، شخص واحد له وحدة طبيعية ، و ليست وحدته كوحدة اشياء متغايره اتفق ان صارت بالاجتماع و الانضمام كشيء واحد ، مثل اجتماع البيت من اللبنات و العسكر من الأفراد ، وذلك بان اجزاء العالم بينها علاقة ذاتية لانها حاصلة على الترتيب العلي المعلولي (1)

ويقول ليبنتز الألماني:

لما كان الوجود كله مترابطاً ببعضه ومفرغاً فى قالب واحد فلا سبيل لفرض وجود علة ثانية (2)

ويعترف (كنت) ايضاً بذلك فيقول:

ان الطبيعة واحدة ، و اجزاؤها مترابطة و اذا كان لكل كوكب و جرم قانون خاص فان هناك قانون يشمل الجميع ، و هذه الوحدة في القانون و الترابط تدل على تنظيم واحد و منظم واحد.

و بهذا ننهي كلامنا عن توحيده تعالى في الوجود.

ص: 53


1- الاسفار الاربعة. للملا صدرا
2- دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 495

ص: 54

المبحث الثاني: توحيده في الذات

و يعني توحيده تعالى في الذات، ان الذات القدسية واحدة بسيطة يستحيل فيها التركيب و بهذا يقول عليه السلام:

ولا تناله التجزئة والتبعيض (1)

فالله منزه عن التركيب بشتی اشکاله ، سواء كان كتركب الذات من الوجود والماهية ، او من المادة والصورة، أو من الجنس و الفصل او من الجوهر والعرض ، فكل ذلك يستحيل عليه تعالى لان المركب يفتقر الى اجزائه افتقار العلة الى العلول، فلا يتم الا بوجود جميع أجزائه التي هي بمثابة العلة ، والافتقار نقص ينافي الكمال المطلق المفروض لله تعالى.

كما ان المركب بحاجة الى مركِّب ، اي موجد ، وهو تعالى واجب الوجود.

ص: 55


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 148

ص: 56

المبحث الثالث: توحيده في الصفات

معنى توحيده تعالى في الصفات ان صفاته تعالى هي عين ذاته وليست زائدة عليها ، فالتعدد غير موجود لا بين الصفات و الذات لأن صفاته عين ذاته، ولا بين الصفات فيما بينها بمعنى أن ما يفعله ويعلمه بصفة فإنه يفعله ويعلمه بسائر الصفات.

ونوضح ذلك بالمثال فنقول: إن حقيقة الإنسان هي الحيوان الناطق وحقيقة العلم الكشف عن الواقع ، فإذا وصفنا الإنسان بالعلم فقلنا الإنسان عالم نكون قد وصفناه بما هو خارج عن طبيعته وزائد عن ذاته وإلا لو كان العلم ذاتياً للإنسان لكان عالماً من غير تعلّم. ووصف الله سبحانه بالعلم هو من قبيل وصف الانسان بالحيوان الناطق لا من قبيل وصفه بالعالم ، لأن العلم بالنسبة إليه تعالى هو صفة ذاتية لا خارجة عن ذاته ولذا فهو لا يحتاج الى تعلم. كما يصرح بذلك عليه السلام إذ يقول:

- العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد (1)

ويستدل (ع) على كون الصفات غير زائدة على الذات بقوله:

ص: 57


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 429

- فمن وصفه فقد حدّه ومن حده فقد عدّه (1)

- فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرفه فقد ثناه (2)

فكون الصفات زائدة على الذات يعني التركيب ، وهو مستحيل عليه تعالى لأنا نسأل أن هذه الصفات هل هي حادثه ام قديمة؟.. فإن قلنا بأنها حادثة لزم من ذلك محاذير كثيرة أهمها الإحتياج الى محدث ، و إن قلنا بأنها قديمة لزم من ذلك تعدد ذلك تعدد القديم وقد عرفنا سابقاً أنه تعالى الأزلي الوحيد.

حقيقة الذات

وهنا نتساءل عن مدى ادراكنا لحقيقة ذاته تعالى؟. ويجيب عليه السلام:

- ولا تحيط به الأبصار والقلوب (3)

- الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله حسن الفطن (4)

- لم يطلع العقول على تحديد صفته (5)

فتبينّ لنا أن ماهيته تعالى لا يمكن إدراكها ، لأن وسيلتنا الى ادراك

ص: 58


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 274
2- نفس المصدر صفحة 15
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 145
4- ) نهج البلاغة ج 1 - ص 184
5- نهج البلاغة ج 1 - ص 99

الامور هي الحس والعقل أما الحس فلا يدرك إلا الاشياء المحسوسة و هو تعالى ليس كذلك لأنه ليس بجسم. وأما العقل فإنه يدرك الأمور بالإستنباط ، أي التدرج من الكليات إلى الجزئيات ، والكليِّ هو ما يصدق على الغير والجزئى هو ما يصدق الغير عليه ، وذاته تعالى ليست كأي منهما. وبعض العلماء قد أدرك إمتناع معرفة ذاته تعالى ، ومنهم العلامة الاقتصادي برودون الذي يقول:

- الله هو الكائن الذي لا يدرك ولا يوصف ومع هذا فهو ضروري (1)

و لكن خالف بذلك بعض المتكلمين فزعموا أنّا ندرك حقيقة ذات الله ، بل زعموا أنه سبحانه لا يعرف من ذاته إلا ما نعرفه نحن ، وهذا كلام باطل بلا شك ، لأن العقول محدودة ، وما تدركه يجب أن يكون محدوداً أيضاً ، والله سبحانه هو المطلق الذي لا يُحدّ.

تبيَّن إذا إمتناع ذاته تعالى عن الإدراك ونفس الشيء يقال بالنسبة لصفاته تعالى الواقعية ، لأنا قلنا فيما سبق بأنها عين الذات وليست شيئاً آخر زائداً عنها. نعم ، نحن ندرك فقط صفات الله تعالى الذاتية والسلبية وهي موضوع بحثنا فيما يلي:

الصفات الثبوتية والسلبية

وهي مجرد اصطلاح بين العلماء لتوضيح حقيقة الكمال المطلق بحيث تهضمه العقول وتستسيغه الافهام، فالغرض من الصفات الثبوتية هو

ص: 59


1- دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 483

نفي اضدادها. فمعنى وصفه تعالى بالقدرة انه غير عاجز ، ووصفه بالعلم انه غير جاهل ، لان العجز والجهل صفتان لا تليقان به تعالی ، واما الصفات السلبية فالغرض منها تنزيهه تعالى عن جميع النقائص التي لا تليق بعظمة الالوهية. وفيما يلي يعدِّد عليه السلام بعض تلك الصفات فيقول:

فلسنا نعلم من كنه عظمتك إلا انا نعلم انك حي قيوم لا تاخذك سنة ولا نوم ، لم ينته اليك نظر ولم يدركك بصر (1)

فنحن لا ندرك حقيقة الماهية ، ولكن نعرف انه حي ، اي يتصف بصفات الاحياء من العلم والقدرة ، ونعرف انه قيوم اي يقيم الاشياء ويمسكها ، ونعرف ايضا انه لا تاخذه سنة ولا نوم ، لان ذلك صفات الاجسام وهو تعالى ليس بجسم وهو تعالى لا يدركه بصر لان ذلك يستلزم كونه في جهة وهو في كل مكان.

اذن فكل ما ندركه لا يعد من صفات الله الواقعية لانها فوق ادراك البشر ، وهذا يوافق ما جاء في الحديث الشريف:

ان الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الابصار وان الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم (2)

فما أثبت له من الصفات انما هو على قدر أوهامنا وما تصل اليه

ص: 60


1- نهج البلاغة ج 1 - ص: 29
2- حق اليقين ج 1 - ص 45

افهامنا ، فانا نعتمد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي نقيض بالنظر الى عقولنا القاصرة وهو تعالى أرفع وأجل.

وفي كلام الصادق ايضاً اشارة لهذا المعنى اذ يقول:

كل ما ميزتموه باوهامكم في ادق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود اليكم ولعل النمل الصغار تتوهم ان الله تعالى زبانتين ، فان ذلك كما لها وتتوهم ان عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما ، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به.

ولذا فنحن لن نبحث عن ذات الله ولا عن صفاته الواقعية ، بل سنقصر كلامنا على صفاته تعالى الذاتية والسلبية. وذلك ضمن الفصل التالي:

ص: 61

ص: 62

الفصل الرابع: الصفات الثبوتية و السلبية

اشارة

عندما نتطلع الى كلمات الامام علي عليه السلام حول صفات الله سبحانه وتعالى ، فان بامكاننا أن نصنفِّها الى فئتين:

الفئة الأولى: وفيها ينهى الامام عليه السلام عن وصف الله سبحانه

الفئة الثانية: وتشمل كلمات الامام التي يصف فيها الله سبحانه

و فيما يلي نبين كل فئة على حدة مع ما يقتضيه المقام من الشرح والتعليق.

اولا: الفئة الناهية عن الوصف

اذا دققنا النظر في هذه الفئة من كلامه عليه السلام ، نجد انه يتسلسل ضمن خطوات ثلاث ينتهي منها الى وجوب الامتناع عن وصف الله سبحانه ، والنهى طبعاً يتعلق بالصفات الواقعية ، اما الصفات الثبوتية والسلبية فلا مانع فيها ، اذ نجد ان الامام (ع) يصف الله بها - كما هو مفاد الفئة الثانية -

وهذه الخطوات الثلاث هي:

اولا: ان العقول مهما سمت لا يمكنها ادراك

ص: 63

صفات الله الواقعية.

ثانياً: ان عجز العقول عن الوصف مردّه الى سمو الذات القدسية.

ثالثاً: النتيجة الطبيعية لذلك هي وجوب رب الكف عن محاولة الوصف.

وفيما يلي نستعرض كلمات أمير المؤمنين عليه السلام فيما يختص بكل خطوة من هذه الخطوات. ففيما يتعلق بعجز العقل عن ادراك صفاته تعالى يقول (ع):

لم يطلع العقول على تحديد صفته (1)

لا تقع الاوهام له على صفة (2)

وردع خطراتهام هم النفوس عن عرفان كنه صفته (3)

فهذه النصوص - و كثير غيرها - صريحة في عجز العقل عن ادراك صفات الله الواقعية ، ولكن قد يتوهم من النصين الاول و الاخير ان هذا العجز مرده الى تقدير من الله و مشيئة ، بمعنى ان الله تعالى قد شاء و قدر بان لا يصل الى ادراكه عقل ، فلو شاء سبحانه لاستطاع تمكين العقول من معرفته وادراك صفاته. وهذا الوهم باطل بلا اشكال فان الله سبحانه لم يردع العقول عن ادراكه بفعل منه بل ان جلال

ص: 64


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 99
2- نهج البلاغة جزء 1 صفحة 148
3- نهج البلاغة نفس الجزء ص 403

عظمته و سمو ذاته يقفان سداً مانعاً امام العقول فلا تستطيع الوصول الى وصفه. فهذان النصان و ان اوهما اسناد الردع الى فعل من الله سبحانه إلا ان حقيقة المراد منهما ما شرحناه ، وهو ايضاً ما يستفاد من كلام امير المؤمنين عليه السلام الذي يشكل الخطوة الثانية في طريق النهي عن الوصف إذ يقول (ع):

ولا يوصف بشيء من الاجزاء (1)

الذي ليس لصفته حد محدود (2)

فالعلة الحقيقية لعجز العقل عن الوصف اذن هي امتناع الذات القدسية عن الوصف فالأشياء انما توصف بالحدود و الأجزاء ، وهو سبح ، غير متناه ليوصف بالحدود ، وليس مركباً ليوصف بالأجزاء -

والنتيجة الطبيعية لعدم التمكن من ادراك صفاته هي لزوم الكف عن محاولة وصفه ، لان كل محاولة من هذا القبيل تكون فاشلة بلا شك ، بل انها تؤدي الى الافتراء على الله سبحانه و وصفه بغير الحق

و هذه هي النتيجة التي يخلص اليها الامام عليه السلام اذ يقول:

من وصفه فقد حدَّه (3)

ما وحده من كيَّفه ولا حقيقته اصاب من مثله (4).

فالنتيجة اذن النهي عن الوصف لان الوصف يستلزم الحد ، فان

ص: 65


1- نفس المصدر السابق صفحة 357
2- نفس المصدر ايضا صفحة 14
3- نهج البلاغة. ج 1 - ص 275
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 354

الاشياء انما تعرف برسومها ، أي بلازم من لوازمها وصفة من صفاتها ولكنه تعالى لا يدرك بالرسم اذ ليس الحقيقته حد ليعرف به كما تعرف الاشياء المحدودة ، وهو تعالى لا يوصف بالكيفيات كالطعوم ، والالوان والاشكال والمعاني ، لان ذلك كله من صفات الاجسام.

وبذلك ننهي الکلام عن الفئة الأولى من كلامه عليه السلام التي ينهى فيها عن وصف الله سبحانه بالصفات الواقعية. وفيما يلي ننتقل الى الفئة الثانية من كلامه عليه السلام و هي التي يصف فيها الله سبحانه ، و نحن في استعراضنا لهذه الفئة سنسير على الطريق الذي رسمه علماء الكلام فنقول:

صفات الله سبحانه على قسمين

القسم الاول: الصفات الثبوتية ، و هي التي تثبت ما يليق بالذات القدسية كالعلم و القدرة. وهذه الصفات ايضا على نوعين:

أ - صفات الذات: وهذه الصفات هي عين الذات وليست زائدة عنها. ولا يمكن انفكاكها عنها ابداً فثبوت هذه الصفات يعني كمال الذات ، ونفيها يعني النقص في الذات.

ب - صفات الافعال: و هي صفات زائدة على الذات ومتأخرة عنها ، و هي منتزعة من مقام الفعل ، و لا يمكن ان تكون عين الذات لانها حادثة ، فهو تعالى رازق بعد حدوث المرزوق ، فالقول بانها عين الذات يستلزم حدوث الذات ، ونفي هذه الصفات لا يوجب نقصه تعالى.

و الاختلاف بين صفات الذات وصفات الافعال ليس من قبيل

ص: 66

اختلاف المتباينين ، بل من اختلاف الفرع عن الاصل، فصفات الذات هي الاصل ، وصفات الفعل هي الفرع ، فالخلق والرزق مثلاً يرجعان الى القدرة والسمع والبصر يرجعان الى العلم و هكذا.

القسم الثاني: الصفات السلبية و هي الصفات الممتنعة على الله تعالى لأن اتصافه بها لا يليق بكماله الذاتي ، و نفي هذه الصفات يعني التنزيه عن جميع النقائص.

و تفصيل الكلام في جميع ذلك كما يلي:

القسم الأول: الصفات الثبوتية.

و قد قلنا بان هذه الصفات تنقسم الى صفات الذات و صفات الافعال و فيما يلي نتحدث عن كل قسم من هذين القسمين.

اولا: صفات الذات

، ونذكر منها ، القدرة ، العلم ، الارادة السمع والبصر ، والقدم. والعلماء يذكرون صفاتا أخرى اضافة الى هذه كالصدق والحياة وغير ذلك ، ولكنا اكتفينا بهذه الخمس تبعاً لما يذكره الامام.

القدرة

ومعناها ان الله قادر على كل شيء فلا يعجزه شيء في الارض ولا فى السماء ، لان العجز نقص لا يليق بالكمال المطلق ولولا القدرة لاستحال عليه تعالى خلق هذا الكون وابداعه. وفي معنى القدرة يقول عليه السلام:

له الاحاطة بكل شيء والغلبة لكل شيء ، والقوة على كل شيء (1)

ص: 67


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 149

وكل قادر غيره يعجز (1)

وكل قوی غیره ضعیف (2)

وقادر اذ لا مقدور (3)

فالله سبحانه هو الذي قدّر المقدورات فلا بد انه موجود اذن قبلها ، وقدرته تعالى غير قدرة البشر ، فقدرة كل من عداه تعد ضعفاً بالنسبة الى قدرته ، ومن قدرته تعالى انه إن شاء فعل الفعل المعين وان شاء تركه ، فالكون باكمله قد أوجده الله باختياره لا كما يقول بعض الفلاسفة من ان ايجاده تعالى الكون هو من لوازم ذاته بحيث يستحيل انفکاکه لأن هذا معناه سلب للمقدرة عنه ، اذ يصبح مقهوراً على ذلك لا مختاراً كما يلزم منه ان يكون الكون قديماً بقدمه تعالى لانه تعالى على هذا يكون علة لوجود الكون ، والمعلول لا يتخلف عن علته.

وقدرته تعالى تشمل الحسن كما تشمل القبيح ، بمعنى انه تعالى لو اراد فعل القبيح فانه يستطيع ذلك ، و هو انما يترك فعل القبيح فلأنه ليس له داع الى فعله ففعل القبيح ممكن له ذاتا لكنه ممتنع عليه بالعرض ، و هذا الامتناع لا يخرجه عن كونه مقدوراً.

ولكن بعض المتكلمين وقعوا في الارتباك عند هذه المسألة اذ لم يدركوا هذه التفرقة بين القدرة وعدم الفعل ، فتوهموا ان القدرة تستلزم الفعل ، فقسم منهم قالوا بان الله لا يقبح منه شيء فما يفعله يكون حسناً، فمقياس الحسن والقبح عند هؤلاء هو فعل الله وعدم

ص: 68


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 112
2- نفس المصدر صفحة 112
3- نفس المصدر صفحة 275

فعله ، ولذا اضطروا الى القول ان العقل لا يدرك الحسن والقبح. واما القسم الآخر فقالوا ان الله لا يقدر على القبيح اصلاً ، اذ مع العلم بالقبح يكون فعله سفهاً واما الجهل به فيستلزم النقص.

و كلا القولين باطل ، ونحن غير مضطرين للاخذ بأي منهما بعدما بيناه من ان القدرة لا تستلزم الفعل. والخلاصة ان قدرته تعالى مطلقة ، ولكن هذا الاطلاق في القدرة فهمه البعض بشكل خاطيء ، اذ فسرَّوه بانه التحلل عن القيود ، كما توهم (بخنر) حيث يقول في كتابه المادة والقوة:

لم يشاهد ابداً في اي مكان حتى في ابعد مدى من الفضاء الذى ندركه بالتلسكوب حادثة شاذة عن النظام تسوغ للانسان الاعتقاد بضرورة وجود قوة

مطلقة ذات تأثير على الكائنات ومتميزة عنها (1)

فقد توهم ان معنى «القدرة المطلقة» هو ما يفهمه منها الناس وهو التحلل عن القيود ، اي ابرام شيء ثم نقضه ، فمع هذا التنظيم الرائع في الكون يستحيل وجود قوة مطلقة تفعل ما تشاء ، وإلا لرأينا اثارها في تشويش هذا الكون.

كما ان هذه القدرة مطلقة بالنسبة للمقدورات فقط ، فلا يستطيع سبحانه مثلا ان يجمع بين النقيضين ، وليس هذا معناه العجز والتوهين في مقدار القدرة و قد قيل لامير المؤمنين عليه السلام: هل يقدر ربك ان يدخل الدنيا فى بيضة من غير ان تصغر الدنيا وتكبر

ص: 69


1- المادة والقوة.

البيضة ، قال: ان الله تبارك و تعالى لا ينسب الى العجز و الذي سألتني لا يكون.

و من قدرته تعالى انه إن أراد شيئاً فانه يفعله في الحال لكن ليس كافعال البشر ، و بهذا يقول عليه السلام:

فاعل لا بمعنى الحركات والآله (1)

فاعل لا باضطراب آلة (2)

يقول لمن اراد كونه كن فيكون (3)

و هذا منتهى القدرة التي يمكن تصورها ، بان يأمر الشيء الذي يريد كونه فيكون حالاً

و هذا كله بالنسبة لتوضيح معنى القدرة و حدودها ، واما الاستدلال عليها ففيه يقول عليه السلام:

- مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسَمَها به من العجز على قدرته (4)

وتقريب هذا الاستدلال أن الله تعالى هو خالق كل شيء وكل هذه المخلوقات فيها جهة عجز ونقص ، فالإنسان مثلا عاجز عن البقاء فمصيره إلى الفناء والزوال وهو ايضاً يتألم ويغضب ويشقى وهذا عجز عن الصحة والحلم والسعادة ، وهذا العجز الذي فيه يجعله يعترف

ص: 70


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 16
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 354
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 357
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 350

بضرورة المطلق. فالفناء يضطره للإعتراف بالأزلي ، والعجز يضطره للإعتراف بالقادر.

العلم

الصفة الثانية من صفات الذات هي العلم. وعلمه تعالى ليس كعلم البشر يستفيده عن طريق التعلم والإكتساب ، بل كما يقول الإمام (ع):

- العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد (1)

- وكل عالم غيره متعلم (2)

فهو تعالى يعلم كل شيء إبتداء فلا يمكن طُرُوّ علم زائد عليه لأن العلم الحادث بالشيء معناه مسبوقية هذا العلم بالجهل وكما هو واضح فإن الله منزَّه عن الجهل.

و لكن ما هي حدود علمه تعالي؟ ... قيل بأنه تعالى يعلم الكلّيات دون الجزئيات فهو يعلم مثلاً أن الإنسان حيوان ناطق ولكنه لا يعلم زيداً من أفراد هذا الإنسان ، ولا يعلم أوصافه من طول وقصر ، أو عوارضه من صحة وسقم لأن العلم بكل ذلك يستلزم على زعمهم محذوراً لا يمكن التهرب منه وحاصله: أن العلم دائما يتبع المعلوم ، وهذه الصفات والأغراض حادثة ومتجددة فلو كان الله يعلم

ص: 71


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 429
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 112

بها للزم تبدل علمه. ويجيبهم الإمام (ع) على ذلك بقوله:

- وعالم إذ لا معلوم (1).

و توضيح هذا الجواب: أن ما يقولونه من كون العلم تابع للمعلوم يصح بالنسبة لعلم المخلوق ولكن علم الخالق لا يقاس عليه لأنه عالم بالأشياء قبل وجودها فعلمه تعالى قد سبق كل معلوم ، وليس الله بما وجد أعلم منه بما سيوجد ، فكلا العلمين سواء بالنسبة اليه.

و يوضِّح صدر المتألهين في كتاب المبدأ و المعاد ذلك بقوله:

- إن جميع الموجودات الكلية و الجزئية فائضة عنه ، وهو مبدأ لكل وجود عقلياً كان أو حسنياً ، ذهنياً كان أو عينياً. و فيضانها عنه لا ينفك عن انكشافها لديه. فمن قال أن الواجب تعالى لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي فقد بعد عن الحق بعداً كثيرا.

و ما قلناه من أن الله يعلم كل شيء فإنه ينطق أيضاً حتى على ما يسره الإنسان في نفسه ، و هذه النصوص من الإمام تؤيد ذلك:

- بطن خفيات الأمور (2)

- قد علم السرائر وخبر الضمائر ، له الإحاطة بكل شيء (3)

ص: 72


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 275
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 98
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 149

- خرق علمه باطن غيب السترات ، وأحاط بغموض عقائد السريرات (1)

- ومن سكت علم سره (2)

الإرادة

الإرادة هي الرغبة و النزوع نحو الفعل الذي يعتقده المريد مطابقاً لمصلحته ، فهو يحتاج أولاً الى تصور المراد ، و بعد ذلك تنزع نفسه إليه ولكن إرادته تعالى ليست بهذا المعنى بل هي عين تصوره و علمه فهي إذاً تختلف عن إرادة البشر و يوضح عليه السلام إرادته تعالى بقوله:

- مريد لا بهمة (3)

فهو تعالى يريد ولكن بدون اية مقدمات تمهيدية كالشوق و الرغبة ، بل ان ارادته ناشئة عن نفس علمه ، وتوضيح ذلك:

ان ارادة الفرد العادي منا تمر بعده مراحل حتى تصل الى درجة الفعلية والمطلوبية ففي المرحلة الأولى نتصور الشيء المعين بجميع جوانبه و خصوصياته ، ثم نأخذ في البحث عما فيه من المصلحة و المفسده بالنسبة لنا فاذا ادركنا فيه جهة مصلحة تنشأ لدينا ارادة لفعل هذا الشيء و اما اذا ادركنا فيه مفسدة مترتبة عليه بالنسبة لنا فان ارادتنا تتعلق بتركه. و هذه الارادة ليست ثابتة و على درجة واحدة ، بل انها تقوي و تضعف بحسب اهمية المصلحة و المفسدة المترتبة على الفعل

ص: 73


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 206
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 210
3- نهج البلاغة ج 1 ص 334

واما اذا لم ندرك في الفعل لا جهة مصلحة تدعونا الى فعله ولا جهة مفسدة تدعونا إلى تركه ، فان ارادتنا لا تتعلق بفعله أو تركه ، لأن الداعي الى الفعل مفقود كما أن الداعي الى الترك غير موجود.

ولكن بالنسبة الى ارادته تعالى فالامر يختلف تماماً ، اذا انه سبحانه لا مصلحة شخصية له في اي فعل من الافعال لان المصلحة في حقيقتها هي جلب الخير ودفع الشر ، والله مستغن عن كل احد ، وقاهر كل احد ، فلا يرجو فلا جو الاستفادة من احد ولا يخاف المفسدة مناحد. و لكن هذا لا يعني أن الله ليس له غاية من ارادته - والا لكانت عبثاً - بل ان غايته هي نفس علمه ، و قد قلنا أن علمه تعالى ليس شيئاً خارجاً عن ذاته ، اذن فغايته ليست خارجة عن ذاته أيضاً ، و القول بذاتية الغاية لا يتنافى مع ما هو مسالم عليه من أن الغاية من أفعاله تعالى هي مصالح العباد ، لأن ذاته تعالى تتصف بالكمال المطلق ، ومن مستلزمات هذا الكمال الخير والمصلحة للبشر.

السمع والبصر

الصفة الرابعة من صفات الله الثبوتية الذاتية ، صفة السمع و البصر وليس المراد من كونه تعالى سميعاً بصيراً انه يسمع بجارحة السمع و يبصر بآلة البصر لان ذلك يقتضي كونه ذا اجزاء بل المرادانه تعالى عالم بجميع المبصرات و المسموعات دون جارحة فمرجع هاتين الصفتين في الحقيقة الى علمه تعالى و انما افردا بالذكر فلانه سبحانه قد افردهما في كتابه الكريم. و فيما يلي سنتناول كل صفة من هاتين الصفتين على حدة ، و ذلك بما يمكن ان نستفيده من كلام امير المؤمنين عليه السلام. فبالنسبة لصفة البصر يقول عليه السلام:

ص: 74

بصير لا يوصف بالحاسة (1)

والبصير لا بتفريق الة (2)

وهذا صريح في انه تعالى يبصر ولكن لا بحاسة كابصار البشر ولكن ما مدى ما يبصره تعالى؟ هل يبصر فقط نفس مبصرات البشر ام انه يتصف بابصار خارق؟ يجيب عليه السلام بقوله:

و كل بصير غيره يعمى عن خفي الالوان و لطيف الاجسام (3)

و ذلك لان حاسة البصر عند الانسان محدودة لا تتمكن من رؤية غير المحسوسات بينما الله يبصر لا بحاسة ، فهو المطلق، فكم من الأجسام اللطيفة السابحة في الفضاء و التي نعجز عن رؤيتها و كم من الألوان التي آمن العلم بوجودها و سماها و لكن دون ابصارها.

وننهي بحثنا عن صفة البصر بمعرفة كون هذه الصفة أزلية ام حادثة يقول (ع):

بصير اذ لا منظور اليه من خلقه (4)

فكلام امير المؤمنين يدل على كون هذه الصفة قديمة ، فهو تعالى بصیر منذ الازل قبل ان يخلق المبصرات. و معنى ذلک انه یصح منه تعالى ادراك المبصرات عند وجودها فقولنا بصير في الازل يصح ،

ص: 75


1- نهج البلاغة. ج 1 - ص 335
2- نهج البلاغة. ج 1 - ص 375
3- نهج البلاغة. ج 1 - ص 112
4- نهيج البلاغة. ج 1 - ص 16

ولكن لا يصح ان نقول مبصر في الازل لان المبصر هو المدرك بالفعل لا القوة.

هذا كله بالنسبة لكونه تعالى بصيراً اما كونه سميعاً فمعناه انه يسمع لكن لا بجارحة كما تقدم في البصر ، و ينص على ذلك (ع) بقوله:

و السميع لا باداة (1)

و يأتي أيضاً نفس الكلام المتقدم عن وصفه تعالى بالبصير فهو تعالى يسمع كل شيء ، وبذلك يقول الامام:

و كل سميع غيره يصمّ عن لطيف الاصوات و يصمه كبيرها (2)

لان كل ذي سمع من المخلوقات يسمع بآلة جسمانية ، و هي ذات قدرة متناهية لها حد تقف عنده ، فلذا تضعف عن سماع الاصوات الخفيفة ، و تتأثر من قويها وشديدها.

القدم والبقاء

الصفة الخامسة و الاخيرة من صفات الذات الثبوتية التي يذكرها عليه السلام صفة القدم. اي ان الله تعالى قديم ، و معنى كونه كذلك انه لم يسبق بالعدم مطلقاً فكلما افترضنا من زمان سابق فان الله موجود فيه و القدم يستلزم البقاء عقلا ، فعندما نقول ان الله قديم فان ذلك

ص: 76


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 275
2- نهيج البلاغة ج 1 - ص 112

يستلزم القول بأنه باق إلى الأبد. و توضيح ملازمة البقاء للقدم:

ان كون الله تعالى ازلياً يعني أنه لا علة لوجوده ، و إلا لو كان هناك علة لم يكن قديماً اذن فهو غني عن كل علة من اجل وجوده ، وما وجد غنياً عن العلة عن يستمر وجوده كذلك فلا يحتاج في بقائه الى علة ايضاً ومن هنا فلا يتصوَّر انعدامه بحال ، و هو معنى الابدي نعم البقاء لا يستلزم القدم فمن الممكن افتراض بداية للابدي.

و فيما يلي نستعرض كلمات الامام علي عليه السلام حول صفة الازلي والابدي فنتسلسل في ذلك من تعريف الازلي الى ايراد خصائصه ، الى الاستدلال عليه ثم ننتقل الى معنى الابدي و كيف ان الامام يربط كثيراً بينهما ، و ننهي بحثنا في هذه الفقرة بالاجابة عن السؤال التالي:

إذا كان الله موجوداً دائماً فاين هو؟

يقول عليه السلام في توضيح معنى الأزلي:

و لم يتقدمه وقت ولا زمان (1)

قبل كل غاية ومدة (2)

سبق الاوقات كونه والعدم وجوده والابتداء ازله (3)

موجود لا عن عدم (4)

ص: 77


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 339
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 301
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 355
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 16

فهذا هو معنى الازلي انه موجود دائماً لم يخل منه زمان قط فكلما رجعنا القهقرى وجدناه وكلما افترضنا من زمان فان الله تعالى موجود فيه ، بل هو تعالى موجود قبل الزمان ، لان الزمان عبارة عن تعاقب الليل و النهار نتيجة حركة الكواكب وهي مصنوعة ومخلوقة الله تعالى ومن هنا صح قول الامام أنه تعالى لم يتقدمه زمان ، وكذلك فان الله موجود ولكن لم يُسبق بالعدم، لان العدم لا يُفرض الا حيث يكون الوجود ، فلو قلنا بأن الله مسبوق بالعدم لكان أيضاً مسبوقاً بالوجود وبذلك لم يعد هو الأزلي الوحيد كما أنا لو قلنا بمسبوقته بالعدم الاضطررنا الى البحث عن العلة التي أوجدته ، لأن كل مسبوق بالعدم يبقى على حاله الى أن تتوفر له علة تخرجه الى عالم الوجود ، و الله سبحانه غني عن كل علَّة.

ومن مستلزمات مسبوقيته تعالى للزمان انه كما يقول الامام:

لا يقال له متى (1)

اي لا يسأل عنه تعالى متى وجد ، لان متى مفادها السؤال عن الزمان ، وهو تعالى موجود قبله.

وكما انه تعالى موجود قبل كل شيء - حتى العدم والزمان - فكذلك لم يقارنه شيء في وجوده ، بل كل شيء موجود بعده لانه هو الذي اوجده وفي معناه يقول (ع):

ورب اذ لا مربوب (2)

ص: 78


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 300
2- نهج البلاغة ج 10 - ص 275

لانا لو افترضنا وجود شيء معه فلازمه ان يكون ازلياً ايضاً و بالتالي يجب له كل ما وجب للباري تعالى من العلم و القدرة وغيرها من الصفات فيكون بذلك الهاً آخر ، وقد تقدم توحيده تعالى وتنزيهه عن الشريك فهو الرب وكل من سواه مربوب. (1)

ومن مستلزمات ازليته تعالى انه لا يطرأ عليه اى تبدل او تغيير ، لان التبدل سيكون لا محالة نحو الانقص لا الاكمل ، لانا افترضنا منذ البداية تحلّيه تعالى بالكمال المطلق ، و معنى المطلق انه لا يتصور اكمل منه بل هو نهاية الكمال وغايته ، فلو افترضنا التبدل لكان نحو الانقص لا محالة ، وهو تعالى منزّه عن النقص. فهو تعالى ثابت ، و هو ما يقرره عليه السلام بقوله:

ولا بغيره زمان(2)

ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان (3)

لا يتغير بحال ولا يتبدل بالاحوال (4)

وقد ادرك ارسطو هذه الحقيقة ايضاً - استحالة التبدل والتحول فى حق الباري تعالى - حيث يقول في كتابه المسمى اثولوجيا:

ان واجب الوجود لا يتغير لان انتقاله

ص: 79


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 185
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 332
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 339
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 357

يكون الى الشر لا الى الخير لان كل رتبة هي دون رتبته وكل شيء يناله هو دون نفسه (1)

والى هنا نكون قد اوردنا كلام امير المؤمنين عليه السلام في معنى الازلية وخصائصها، و فيما يلي نقرر استدلاله عليه السلام على ازليته تعالى ، وذلك ضمن نصوص كثيرة تذكر منها قوله:

الدال على قدمه بحدوث خلقه (2)

الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته (3)

عندما نلاحظ الكون المحيط ينا بكل ما فيه نجد ان كل شيء قادم على فناء ، - على ما يثبته العلماء - فالخلق اذن ليس بأبدي ، و هذا يستلزم ان لا يكون ازلياً لانا قلنا بان الازلية تستلزم الابدية وكونه ليس بازلي معناه انه حادث و بالضرورة فانا نتساءل عن محدثه ، و هذا المحدث لا بد ان يكون ازليا والا لزم التسلسل ، وبذلك نكون قد برهنا على الخالق الازلي من طريق الخلق الحادث على ما يفيده كلام امير المؤمنين عليه السلام. وهذا بنفسه برهان «كلارك» على ازليته تعالى ، اذ يقول في كتابه: اثبات وجود الله:

لا بدّ من فرض ان شيئاً وجد من الازل بدليل وجود الاشياء الآن ، و هذا الفرض حقيقة لا شك فيها ، لان كل موجود يجب ان يوجد سبب اوجده او

ص: 80


1- نقلا عن دائرة معارف القرن العشرين ج 1 - ص 489
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 350
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 274

اصل قام عليه وجوده ، وهذه الاشياء اما موجودة بذاتها فهي اذن قديمة ازلية ، واما ان تكون موجودة بموجد تقدّم عليها فيكون هو القديم (1)

وقريب منه برهان «بوسويت» الفرنسي لاثبات الازلي حيث يقول:

من بين الحقائق المقررة الازلية التي ادركتها حقيقة جليلة القدر و هي انه يوجد في العالم شيء موجود بذاته و هو ابدي لا يدركه تحول ولا يعتريه تبدل لانه اذا فرضنا انه كان وقت ليس فيه شيء مطلقاً في العالم اي لا شيء قائم بغيره، و لا شيء قائم بنفسه من القدم فلم يكن غير العدم، و العدم لا يصلح لايجاد شيء ، فلا يصح ان يقال ان العدم حقيقة ابدية ، وان لا حق الى الابد الا العدم، اذن فلا بدَّ ان يكون فى الوجود شيء كان قبل كل شيء فيه من الازل ، و فيه تركزت جميع الحقائق الكونية (2)

إلى هنا نكون قد انتهينا الى نتيجة ان الله از لي ، وقد قلنا سابقاً ان الازلي يستلزم الابدي ، وفي كلام الامام عليه السلام ما يشير الى هذا المعنى حيث نجده كثيرا ما يربط بين المعنيين في سياق واحد ، وفيما يلي بعض النصوص التي تشهد على ما نقول:

ص: 81


1- دائرة المعارف ج 1 - ص 498
2- نفس المصدر صفحة 494

الاول لا شيء قبله ، والاخر لا غاية له (1)

الاول قبل كل اول ، والآخر بعد كل آخر (2)

هو الاول لم يزل والباقي بلا اجل (3)

ولن نطيل في التعليق على هذا التلازم بل نكتفي بما ذكرناه في اوائل البحث ولكن نورد كلام الامام في شرح معنى الابدية اذ يقول:

الذي لا غاية له فينتهي ولا آخر له فينقضي (4)

وكونه تعالى لا نهاية لوجوده من مستلزمات الازلية كما قلنا ، وكما تقدَّم من انه لا يسأل عنه تعالى (بمتى) أي متي وجد ، فكذلك لا يستفهم عنه «بحتى» اي حتى متى يبقى موجودا ، لان السؤال بحتى هو سؤال عن الزمان ايضاً من جهة الغاية و الانتهاء ، وهو تعالى ابدي لا غاية له ، و لذا ينهى عليه السلام عن السؤال بحتى فيقول:

ولا يضرب له امد بحتى (5)

و بعد ان وصلنا الى هذا النقطة من البحث ، و بعد ان عرفنا انه تعالى ازلي ابدي ، كان موجوداً دائماً و يبقى كذلك ، يحق لنا ان نتساءل عن مكان وجوده تعالى؟ يجيب الامام بقوله:

ص: 82


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 148
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 194
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 300
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 184
5- نهج البلاغة ج 1 - ص 300

وانه لبكل مكان ، وفي كل حين وأوان (1)

ولا يحويه مكان (2)

فكلما افترضنا من مكان فان الله موجود فيه ، ولكن هذا لا يعني ان ذلك المكان يحويه ، اذ انه تعالى قد خلق المكان فكيف يحويه ما هو مخلوق له؟

ولكن القول بانه تعالى في كل مكان قد اوهم بعض المتكلمين بانه قد اتّحد بالموجودات ، و هو قول بعض الصوفيين ، اذ قالوا «انه تعالى نفس الوجود و كل موجود هو الله تعالى» (3). وبعضهم الآخر قالوا بانه تعالى يحل في غيره و الفرق بين الاتحاد والحلول ، ان مقتضى الاول صيرورة الله و الموجود الذي اتحد به شيئاً واحداً ، واما الحلول فلا يستلزم ذلك ، والامام عليه السلام ينفي كلا الامرين ، فالله سبحانه في كل مكان لكن لا على وجه الاتحاد ولا الحلول ، والنصوص على ذلك كثيرة كقوله (ع):

لم يحلل في الاشياء فيقال هو فيها كائن (4)

لم يقرب من الاشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق (5)

ص: 83


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 403
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 332
3- احقاق الحق ج 1 - ص 179
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 113
5- نهج البلاغة ج 1 - ص 300

قريب من الاشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباین (1)

اذن فكل من الاتحاد و الحلول باطل ، اما بطلان الاتحاد فلانه - كما قلنا - يقتضي صيروره الشيئين شيئاً واحداً و هو باطل بالضرورة ، و اما الحلول فانه باطل لانه يستلزم كون واجب الوجود ممكناً ، لان الحال في شيء مفتقر الى الشيء الذي يحل فيه ، و المفتقر الى الغير لا يكون واجباً لان وجوده يتوقف على ذلك الغير، والله تعالى هو الغني الواجب الوجود.

و الخلاصة انه تعالى موجود في كل مكان ، وهذا امر يعترف به كل من آمن بوجوده تعالى ، يقول باسكال الشهير:

الخالق كرة لا نهاية لها ، مركزها في كل مكان و محيطها ليس له مكان (2)

ويقول ايضاً روسو:

انه موجود ليس في السموات التي يحركها ، و لا في الكوكب الذي يضيء علينا، و لا في ذاتي ، بل هو يوجد ايضا في النعجة الذي ترعى وفي العصفور الذي يطير ، و في الحجر الذي يسقط و في الورقة التي يستطيرها الريح (3).

ص: 84


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 334
2- دائرة المعارف ج 1 - ص 483
3- نقلاً عن دائرة المعارف - ج 1 - ص 502

و بذلك نكون قد انتهينا من البحث عن صفات الذات التي يذكرها امير المؤمنين عليه السلام.

ثانيا: صفات الافعال

قلنا بأن صفات الافعال امور اعتبارية منتزعة ، و هذه الصفات حادثة. ولا يلزم من انتفائها النقص لانها ليست من صفات الكمال ، فكونه تعالى ليس رازقاً او ليس خالقاً لا يعدّ نقصاً فيه ، بل النقص في عدم قدرته على الخلق والرزق ، وقد قلنا ان الله قادر على كل شيء ، وضابط الفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال ان الاولى هي ما يتصف الله بها ويمتنع عليه الاتصاف باضدادها فبالنسبة لقدرته تعالى مثلاً لا يقال انه قادر على كذا وغير قادر على كذا ، بينما صفات الافعال يمكن اتصافه بها وباضدادها فيقال ان الله خلق كذا ولم يخلق كذا.

ويذكر الامام عليه السلام. من صفات الافعال: الرازق ، الخالق ، والمتكلم ، وسنتكلم فيما يلي عن كل واحدة من هذه الصفات على حدة.

الرازق

بمعنى انه سبحانه هو الرازق الوحيد للبشر ، فجميع ارزاقهم تستند اليه تعالى ، يقول عليه السلام في ذلك:

عياله الخلق ضمن ارزاقهم وقدّر اقواتهم (1)

ص: 85


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 160

وسئل عليه السلام ، كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟

فقال (ع) كما يرزقهم على كثرتهم (1)

وصفة الرزق حادثة على ذاته تعالى ، اذ من اجل ان يسمى رازقاً يجب افتراض المرزوق اولاً ، أي المخلوق ، وجميع المخلوقات حادثة.

و هنا سؤال ، اذا كانت الارزاق مصدرها الله سبحانه، و هو تعالى عادل بلا شك ، اذن فلماذا نشاهد هذا التفاوت في ارزاقهم؟ و الجواب عن هذا السؤال يأتي في مبحث الارزاق ان شاء الله.

الخالق

الله سبحانه و تعالى هو الخالق ، وكل من عداه مخلوق له. وعن الازهري:

من صفات الله تعالى الخالق و الخلّاق ، ولا تجوز هذه الصفة بالألف و اللام لغير الله عزّ و جلّ ، وهو الذري اوجد الاشياء جميعها بعد أن لم تكن موجوده (2)

ومعنى الخلق هو ابداع الشيء على غير تمثيل لشيء سابق ، فكون

ص: 86


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 208
2- لسان العرب الجزء: 10 - ص 85

الله خالق كل شيء معناه انه قد ابتدع كل شيء ابتداعاً من دون تقليد و تمثيل ، و هذا هو المستفاد من كلام الامام علي حيث يقول:

خلق الخلق على غير تمثيل (1)

انشأ الخلق انشاء وابتدأه ابتداء (2)

الذي ابتدع الخلق على غير مثال (3)

فالله قد خلق كل شيء بابداع منه وابتكار ، ودون تقليد لاشياء اخرى اذ لا يصح اصلاً افتراض اشیاء غیر مخلوقة له ، لانها اما ان تكون ازلية و اما ان تكون مخلوقة لخالق غيره ، وكلاهما مستحيل.

و هنا تتبادر الى الذهن عدة اسئلة:

أولا: من اي شيء خلق الله الخلق؟

ثانيا: كيف خلق الله ما خلق؟

ثالثاً: لماذا خلقه؟

و فيما يلي يتضح كيف أن الامام قد أجاب عن كل هذه الأسئلة فبالنسبة للسؤال الاول - من اى شيء خلق الله الخلق؟ - يقول (ع):

لم يخلق الاشياء من اصول ازلية (4)

ص: 87


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 280
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 16
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 163
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 301 1

وهذا جواب للماديين الذين يستندون في انكارهم للخالق بارجاع مصدر الكون الى اصول ازلية ، ويزعمون ان هذه الأصول قد تطوُّرت وتبدلت بفعل الزمن من شكلها البدائي الى هذه الصورة التي نراها الان، و فيما سبق اثبتنا بطلان قولهم هذا، و اما الالهيون فقد اعترفوا بوجود خالق للكون هو المصدر الاول و الوحيد له ، ويستحيل افتراض مصدر آخر مشارك له ، فالله سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء ، و عندما ابتدع الخلق ابتدعه من لا شيء ، و إلا لكان هذا الشيء ازلياً فيجب ان نفترض له كل ما للازلي من علم و قدرة ، و بذلك يكون إلهاً ثانياً و قد أثبتنا تنزيهه تعالى عن الشريك.

و اما السؤال الثاني: كيف خلق الله الخلق؟ فيجيب عنه (ع) بقوله:

خلق الخلق على غير روية اذ كانت الرويات لا تليق الا بذوى الضمائر (1)

الخالق من غير روية (2)

والخالق لا بمعنى حركة و نصب (3)

والخالق من غير منصبة (4)

فهذه النصوص تؤكد بان خلقه تعالى للاشياء و ابداعه لها لم يكن نتيجة تفكير و تأمل ، و لم يكن نتيجه تعبه تعالى ، وهذا هو المفترض

ص: 88


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 206
2- نهج البلاغة ج 1 ص 158
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 275
4- نهج البلاغة ج 1 - ص 345

بالعالم المطلق و القادر المطلق لان التروي و التأمل ينزه عنه العالم المطلق فعندما يتروى الانسان او يتأمل و يطيل التفكير بامر ما فان ذلك لجهله بعواقب هذا الأمر و ما يصير اليه ، فيأخذ في تقليب وجوهه و احتمالاته ، ويضع في حسابه احتمال الفشل و النجاح ، واحتمال الربح و الخسارة الى ان يخرج بنتيجة يعمل على مؤداها، فاما ان يقدم او يترك، و لكن العالم المطلق لا يحتاج الى كل ذلك لانه يعلم منذ اللحظة الأولى بما يكون عليه هذا الأمر وما سوف يصير اليه فلا يحتاج الى التروي و التفكير.

و كما ان الله يخلق ما يريد من غير تر و فكذلك يخلقه من غير تعب و منصبة ، لان التعب و الراحة من صفات الاجسام وهو تعالى منزه عن الجسمانية ، كما ان التعب يكون وليد الحركة المستمرة ، وخلقه تعالى للخلق لم يكن وليد حركة ، بل كما يقول الامام:

يقول لمن اراد كونه كن فيكون (1)

و اما كيف يوجد الشيء من العدم بمجرد امره تعالى له بان يكون. فهو مما لا نستطيع ادراكه ، و لكنا نؤمن به لاعتقادنا بقدرة الله المطلقة و بالنسبة للسؤال الثالث: فلماذا خلق الله الخلق؟ فيجيب عليه الامام امير المؤمنين بقوله:

لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان ، و لا استعانة على ندِّ مشاور ، ولا

ص: 89


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 357

شريك مكاثر ، ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون و عباد داخرون (1)

خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم (2)

ولا له بطاعة شيء انتفاع (3)

الله سبحانه حين خلق الخلائق لم يكن ذلك منه وليد الحاجة اليهم ، لان هذه الحاجة المفترضة اما ان تكون لتشديد سلطانه و تحصين ملكه ، وهو باطل لكونه تعالى قوياً على كل شيء ، وهو الخالق لكل شيء ، وجميع خلقه يدين له بالطاعة. واما ان تكون حاجته اليهم ليستعين بهم في ايام عجزه كما يفعل البشر ، و هو مستحيل عليه تعالى اذ انه لا يتبدل ولا يتغير ، فكيف يطرأ عليه الفتور و الضعف لكي يحتاج الى مساند؟ واما ان تكون حاجته الى الخلق من اجل الاستعانة بهم على غريم له يحتاج الى من يناصره عليه - كما يقول المجوس - حيث زعموا أن علة خلق العالم هي التحصنّ من العدو الذي هو الشيطان ، و هذا كلام باطل بالضرورة.

اذن فالله لم يخلق الخلق لحاجته اليهم بل خلقهم ليعبدوه كما في الذكر الحكيم.

ص: 90


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 113
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 295
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 301

المتكلم

الصفة الثالثة و الاخيرة من صفات الافعال التي يذكرها الامام عليه السلام هي التكلم بمعنى أن الله تعالى متكلم. ومسألة كلام الله من أقدم مسائل علم الكلام، و من اجلها سمي بهذا الاسم. و تكلمه تعالى ليس كتكلم البشر فهو لا يحتاج الى روية وتفكّر ، كما انه لا يصدر عن حركة اللسان. بل هو تعالى كما يخبر عليه السلام:

متكلم لا برويَّة (1)

يخبر لا بلسان ... يقول و لا يلفظ (2)

فهو تعالى يخلق الكلام فيما يشاء من الاجسام ليفهم من يريد افهامه بغاياته ومآربه ، فيوجد حروفاً واصواتاً مسموعة قائمة بتلك الاجسام كما كلم سبحانه موسى عليه السلام من الشجرة ، فهو فاعل للكلام ، وهذا معنى المتكلم في اللغة العربية. ولا جدال في كل ذلك ، وانما وقع الكلام والبحث في ان كلامه تعالى هل هو قديم ام حادث؟ فان قلنا بقدمه استلزم ذلك كونه من صفات الذات التي لا تكتمل الذات بدونها ، كالعلم والقدرة والارادة ، وإن قلنا بحدوثه فانه يكون من صفات الافعال كالرزق والخلق.

وقد تشعبت الأقوال في هذه المسألة و تعددت و كثرت الأدلة و البراهين وبرر كل موقفه بما يجده مناسباً له في الكتاب والسنة ، ونحن

ص: 91


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 334
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 357

في هذا الكتاب لن نهتم بنقل هذه الاقوال والبراهين، وانما نكتفي بتوضيح معنى الحدوث والقدم بالنسبة لكلامه تعالى ، ثم نذكر القول الفصل في هذه المسألة ، وذلك بما يمليه علينا أمير المؤمنين عليه السلام ، فنقول:

الكلام تارة نلاحظه بما هو كلام في ذاته ، واخرى نلاحظه من حيث غايته والغرض من وجوده. فان لاحظناه بما هو في ذاته فانه يستحيل اتصافه بشيء من القدم و الحدوث ، لان القدم معناه عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني ، والحدوث معناه مسبوقيته كذلك ، فهما اذن من خصائص الحقائق الخارجية ، بينما الكلام بما هو في ذاته من الامور الاعتبارية لانه فى حقيقته عبارة عن مجموعة من الاصوات تدل بالوضع والاعتبار على معنى معين في الذهن ، ومن الواضح ان المعاني الذهنية لا تحقق لها في الخارج بل المتحقق في الخارج هو تلك الاصوات التي تدل على ما في الذهن ، والذي جعلها تدل كذلك هو الوضع والاعتبار ، وهذا معنى ما قلناه من ان الكلام من الأمور الوضعية الاعتبارية فلا يمكن اتصافه بالقدم والحدوث لانهما من الامور الخارجية.

هذا - كما قلنا - اذا لاحظنا الكلام بما هو في ذاته ، واما اذا لاحظناه من حيث غايته والغرض منه ، فيمكن حينئذ اتصافه بكل من القدم و الحدوث ، حيث ان الغرض منه هو الكشف عن مكنونات الضمير ، والكشف من الامور الحقيقية فصفات الشيء الذاتية كلام لذلك الشيء لانها تكشف عن حقيقته كما يكشف الكلام عن ذلك تماماً. وما دام الكلام من حيث غرضه من الأمور الحقيقية فيمكن

ص: 92

حينئذ اتصافه بالقدم والحدوث، فيصح أن نتساءل: ان كلامه تعالى هل هو حادث أم قديم؟ و الجواب:

ان الكلام انطلاقا من هذه الحيثية - حيثية الكشف - يتصف تارة بالقدم و اخرى بالحدوث ، وذلك تبعاً لوجوده ، فعلمه تعالى مثلاً - الذي هو كلام له لانه من صفاته - قديم بقدم ذاته ، بينما خلقه لزيد و عمر و كلام حادث له ، لان وجود زيد و عمر و حادث بلا شك ، و هكذا في سائر صفاته تعالى: فالصفات الذاتية كالقدرة و الارادة كلام قديم له لانها قديمة بينما صفات الافعال كالرزق فتعتبر كلاما حادثاً لانها حادثة.

و لكن قد يقال هنا ، اذا كانت المسألة على هذه الصورة فما معنى الخلاف حول حدوث كلامه تعالى و قدمه؟ والجواب: ان الخلاف منشؤه الاختلاف في تحقيق معنى الكلام، فهل يطلق الكلام بمعناه الحقيقي على ذات اللفظ الدال على معنى ، ام انه لا يطلق الا على المعنى القائم بالنفس؟ فمن قال ان الكلام يطلق على ذات اللفظ فانه يضطر للقول بحدوثه ، لان اللفظ حادث بحدوث التلفظ به ، ومن قال بان الكلام يطلق فقط على المعنى القائم بالنفس فانه قائل بلا شك بقدم كلامه تعالى ، لان المعانى القائمة بنفسه تعالى قديمة بقدم علمه.

و نحن قد اوضحنا بان الكلام في ذاته من الامور الاعتبارية التي لا تتصف بالقدم و الحدوث ، نعم الاصوات التي تشكل الكلام يمكن اتصافها بذلك لان لها وجود خارجاً و هي حادثة بلا شك ، لانه تعالى انما يوجدها تبعاً للحاجة اليها ، فاوجدها مثلاً ليخاطب بها موسى عليه السلام، ولكن في الازل حيث لم يكن معه احد لم يكن هناك داع.

ص: 93

لايجادها. وهذا معنى كلام الامام عليه السلام الذي يقول:

و انما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ولو كان قديما لكان الهاً ثانياً (1).

بمعنى ان هذه الاصوات انما اوجدها سبحانه لمخاطبة عباده بها ، لان هذا هو الداعي الوحيد لها و إلا لكانت عبثا و لغواً ، فلو كانت هذه الاصوات و الالفاظ قديمة لاقتضى ذلك افتراض مخاطب قديم ايضاً و حينئذ يجب له ما وجب للباري من الصفات ، فيكون بذلك إلهاً ثانياً.

كما ان هذه الاصوات عبارة عن حروف متتابعة زماناً ، و الحرف اللاحق حادث بالضرورة و السابق على الحادث بزمان متناه يكون حادثاً ايضاً و النتيجة هي استحالة كون هذه الالفاظ و الحروف قديمة. هذا كله بالنسبة للقسم الاول من صفاته تعالى ، وهي الصفات الثبوتية بقسميها ، اي صفات الذات و صفات الافعال. و فيما يلي نتكلم عن صفاته تعالى السلبية

القسم الثاني: الصفات السلبية

الصفات السلبية هي التي تنفي عنه تعالى جميع النقائض و ذلك من لوازم اثبات الكمال ، لان الكمال لا يكون مع وجود النقص ، و هذه الصفات لا حصر لها ، فكلما كان هناك من صفة توجب النقص

+

ص: 94


1- نهج البلاغة. ج 1. ص 357 - 358

للمتصف بها ، وجب تنزيهه تعالى عنها ، ومن هذه الصفات نفي. الشريك له ، وهو معنى توحيده في الوجود ، ومنها انه ليس بمركب وهو. معنى توحيده في الذات ومنها انه تعالى لا يرى ، وانه لا يحل ولا يتحد بغيره. الى غير ذلك.

ونحن قد فصلنا الكلام في جميع ذلك عند الكلام عن الصفات الثبوتية لذا لا نجد داعياً للاعادة.

ص: 95

ص: 96

الفصل الخامس: العدل

اشارة

العدل من صفات الله سبحانه ، وهو احد اركان العقيدة الاسلامية ، و كان يجب اندراجه ضمن الفصل الرابع الذي تحدثنا فيه عن صفاته تعالى ولكنا أفردناه بالبحث تبعاً للمتقدمين ، لكثرة مسائله كما قلنا ، و لارتباطه الوثيق بالانسان ومصيره.

و العدل ضد الظلم ، ولا شك أن العقل يحكم بحسن العدل و قبح الظلم ، والعمل بمقتضى العدل و السير على هديه ضرورة ملحة للبشرية من أجل سعادتها المنشودة ولا يرتاب أحد بأن العدل رأس الفضائل الانسانية. يقول برجسون:

لافكار الاخلاقية كلها متداخلة ، ولكن فكرة العدالة اصلها لانها تشمل سائر الافكار الأخرى ، انها في كل الازمنة تشير في الذهن الى افكار المساواة.

فاذا كان العدل راس الفضائل افلا يجدر بالله سبحانه ان يكون عادلاً؟ يقول علي عليه السلام:

و ارتفع عن ظلم عباده و قام بالقسط في خلقه و عدل عليهم في حكمه (1)

ص: 97


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 35

ومن الضروري جداً ان يكون الله عادلاً و الادلة العقلية على هذه الضرورة كثيرة نذكر منها دليل واحد مفاده ان الباعث للظلم - الذي هو ضد العدل - احد أشياء ، اما الجهل بقبح الظلم ، او الحاجة اليه لتثبيت ملك او سلطان ، او العجز عن تفاديه ، و كل هذه الامور ممتنعة عليه تعالى ، لان كونه عالماً يقتضي علمه بقبح القبيح ، و كونه غنياً مطلقاً يقتضي عدم حاجته الى الغير، و كونه القادر على كل شيء يقتضي قدرته على تفادي الظلم. واذا كان الظلم مستحيلا عليه تعالى فان العدل يكون ضرورياً.

ولكن بعض فرق المسلمين جوزوا عليه تعالى ما ينافي العدل ونحن - بإذن الله - سنفصِّل كلامهم ضمن المسائل التالية:

المسألة الأولى: التكليف بغير المقدور

سبب اندراج هذه المسألة تحت مبحث العدل واضح ، لان تكليف انسان على فعل شيء لا يستطيعه ثم معاقبته على ذلك قبيح بلا شك و هو ظلم لذلك الانسان. ولذا نقول انه يستحيل في عدل الله وحكمته ان يكلف احداً فوق طاقته لقوله تعالى:

«لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» (1)

ويدل عليه قول الامام عليه السلام:

وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً (2)

ص: 98


1- سورة البقرة آية 286
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 153

الا الاشاعرة فانهم قالوا بجواز التكليف بما لا يطاق على الله سبحانه: ولكن قبل الدخول في ايراد حجتهم ومناقشتها ، نتساءَل عن اصل التكليف هل هو حَسَن ام قبيح؟ مع ما نعرف من ان التكليف مأخوذ من الكلفة و هي المشقة ، فهل من العدل ان يكلف الله العباد و يشق عليهم؟

و الجواب: ان التكليف حسن منه تعالى لان فيه مصلحة للعباد، و حاصلها تعريض المكلفين للثواب و تمكينهم من الوصول الى درجات و مراتب لم يكونوا ليصلوا اليها الا بعد اختبارهم بالتكاليف و اجتيازهم لها، مع ما في التكاليف من ضرورات لتنظيم حياة الانسان الاجتماعية ، لان الانسان اجتماعي بطبعه وهو يعيش ضمن مجموعة من البشر لكل فرد آراء خاصة و معتقدات خاصة تدعوه للعمل و العيش على طبقها ، و ترك كل انسان يعيش على طبق معتقده و هواه يؤدي الى التعدي على حريات الآخرين و معتقداتهم و مهمة التكليف هي وضع سيرة و دستور يسير عليه الجميع دون استثناء مما يؤدي الى حفظ الحقوق بمقدار متساوٍ للجميع. اذن فالتكليف حسن بلا شك بل هو ضروري شرط ان يكون تطبيقه مقدوراً للمكلفين.

وخالف بذلك الاشاعرة - كما قلنا - فاجازوا عليه سبحانه التكليف بغير المقدور او المستطاع:

«فجوّزوا ان يكلف الله تعالى مقطوع اليد بالكتابة ، ومن لا مال له بالزكاة ومن لا يقدر على المشي للزمانة بالطيران الى السماء وان يأمرهم بالكتابة الجيدة ولا يخلق لهم الأيدى والآلات ، وان

ص: 99

يكتبوا في الهواء بغير دوات ولا مداد ولا قلم (1)

و احتجوا على ذلك بان الله قد اخبر بعدم ايمان ابي لهب ، و مع ذلك كلّفه الايمان ، فتكليفه هذا تكليف بما لا يطاق لانه لا يستطيع الايمان حتى لو اراده ، والا لا ستلزم ذلك كذب الاخبار بعدم ايمانه.

و الحق أن هذا الذي يسمونه دليلاً عبارة عن شبهة هزيلة وسخيفة فان القرآن لم يخبر أصلاً بعدم ايمان أبي لهب ، بل أخبر بأنه سيصلى ناراً ذات لهب وهو لا يستلزم عدم ايمانه ، اذ من الممكن أن يؤمن و مع ذلك يصلى النار جزاءً لفسقه وفجوره.

او يقال: ان الإخبار بدخول ابي لهب النار انّما هو على تقدير بقائه على الكفر وعدم الايمان.

المسألة الثانية: التوفيق للطاعة

التوفيق للطاعة يعني وجوب اللطف عليه تعالى للعباد بان يقربهم الى طاعته ويمكنهم منها ، ويبعدهم عن معصيته وينهاهم عنها ، ولكن من دون اكراه او اجبار على ذلك ، والا لم يعد العبد مستحقاً للعقاب والثواب. ويوضح هذا المعنى في شرح التجريد بقوله:

اللطف هو ما يكون المكلف معه اقرب الى فعل الطاعة وابعد من فعل المعصية. ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ حد الالجاء (2)

ص: 100


1- حق اليقين. ج 1 - ص 58
2- شرح التجريد صفحة 181

و وجوب اللطف يقضي به العقل فان الله سبحانه عندما امر بالواجبات ونهى عن المعاصي فانه كان يريد من العباد ان يفعلوا ما امرهم به ويتوقفوا عند ما نهاهم عنه ، وامتثال كل ذلك فيه بعض المشقة ويتطلب الجهد والعناء لذا كان من الواجب عليه تعالى ان يقربهم الى الامتثال ، لان ترك ذلك منه معناه تفويت غرضه ، وهو قبيح لا يصدر منه تعالى. ويقول عليه السلام في معنى اللطف والتوفيق للطاعة:

نحمده على ما وفق له من الطاعة ، وذاد عنه من المعصية (1)

فهو عليه السلام يحمد الله على توفيقه للطاعة ، التي هي واجبة عليه سبحانه وطبعاً ليس المراد بوجوبها انها مفروضة عليه من خلقه بل المراد ضروره اتصافه بها كاتصافه بواجب الوجود بلا فرق.

المسألة الثالثة: الآجال

الاجل هو الوقت المحدود ، واجل الانسان هو وقت موته. والمسألة هى هل للانسان اجل محدود ام لا؟ بمعنى ان المقتول في ساحة الحرب هل كان من الممكن ان لا يموت لو انه قد اقام في بيته؟ ام ان الموت واقع به على اية حال؟ و المقتول لو لم يقتله قاتله هل كان من المعقول ان يعيش فترة اخرى ام ان موته محتم؟ بمعنى لو لم يمت عن هذا الطريق هل كان من الواجب ان يموت من طرق اخرى؟.

ص: 101


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 400

قد يتسرع البعض بنفي الاجل للانسان ، اذ يلاحظ بان الجليس في بيته نصيبه من احتمال الموت اقل بكثير ممن يعرض نفسه للمهالك و المرديات ، كما انا لو القينا نظرة على ساحة القتال بين جيشين متناحرين لوجدنا القتلى بالمئات والالوف ، وهؤلاء لم يكونوا ليموتوا باجمعهم دفعة واحدة وفي وقت واحد لولا تلك الحرب التي اختاروها بانفسهم ، اذ الحرب تأكل القوي كما تأكل الضعيف.

ولكن بقليل من التروي نعرف بطلان هذا الكلام ، فلندع ساحة المعركة قليلاً ولننتقل الى مشهد اخر ، ونفترضه تصادم قطارين ، فالقتلى هنا قد يكونون بالمئات ايضاً ولكن مع ذلك نقول ان اجل الراكبين قد انتهى عند تصادم القطارين ، فلا نقول لو لم يتصادما لكان من الممكن ان يعيش هؤلاء مدة اخرى لان التصادم كان خارجاً عن الارادة فليس للانسان يد فيه فوقوعه محتم وموت هؤلاء كذلك.

وقد يقال هنا: فرق كبير بين تصادم الجيشين وتصادم القطارين ، فان الاول واقع باختيار البشر فلو ارادوا لما كانت الحرب ولما قتل كل هؤلاء فان الحرب التي ارادوها باختيارهم هي التي وضعت اجلهم ، بخلاف تصادم القطارين فانه خارج عن الارادة.

والجواب ان الحرب ايضاً خارجة عن الارادة البشرية ، لان سببها عبارة عن نزعة حيوانية لدى الانسان تدفعه الى التقاتل و محاولة السيطرة على الآخرين ، فاسبابها موجودة لدى كل انسان ولكنها خارجة عن ارادته.

ويؤكد الامام عليه السلام على وجود الاجل بقوله:

والاجل مساق النفس والهرب منه موافاته (1)

ص: 102


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 368

فلكل اجل کتاب (1)

ولا يعمَّر معمر منكم يوماً من عمره الا بهدم آخر من اجله (2)

ان لكل اجل وقتاً لا يعدوه وسبباً لا يتجاوزه (3)

وكلامه عليه السلام صريح في أن للانسان عمراً محدوداً يعيشه يأتي الموت بعده لا محالة فالمقتول اذن لم يكن ليعيش لو لم يقتله قاتله ، ولا يعني ذلك أن يموت بسبب آخر ، فان طريقة موته محددة أيضاً لمكان قوله عليه السلام: (وسبباً لا يتجاوزه).

وقد يلاحظ على ذلك ان كون اجله محدوداً بقتل القاتل إياه ، معناه ان القاتل مجبر على القتل ، اذ لو كان مخيراً لكان من الممكن ان يحدث ما يردعه عن التنفيذ وبذلك يبطل الاجل وكونه مجبرا يستلزم عدم معاقبته بمقتضى العدالة. والجواب: ان القاتل ليس مجبراً على ذلك على الاطلاق ، فهو يستطيع الامتناع لو شاء ، ولكنه لا يمتنع والله سبحانه يعلم بعدم امتناعه لانه عالم بكل شيء. فاجل الانسان محدد لا يعيش بعده كما انه لا يموت قبله ، فمن كان اجله مئة سنة فلا بد له ان يستكملها ، وبهذا يقول عليه السلام:

ص: 103


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 208
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 263
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 400

وان الاجل جنة حصينة (1)

كفى بالاجل حارساً (2)

وقال عليه السلام وقد خُوِّفَ من الغيلة:

ان علىِّ من الله جنة حصينة فاذا جاء يومي انفجرت عني واسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم (3)

فنراه عليه السلام لا يخاف من الاغتيال لانه يعترف بوجود اجل محدد له ، وحين يأتى لا تبقى فائدة من الاحتياط و الحذر ، واذا كان لا يزال فيه متَّسع فلا خوف حينئذ من شيء. فالاجل اشبه بالحارس القوي الذي لا يسمح لشيء بالوصول الى من يحرسه.

وقد يفهم البعض كلامنا هذا بانه دعوة الى التخلي عن الحيطة والخوض في المهالك والمخاطر، فما دام في اجل الانسان فسحة فلا يخاف عليه من شيء فلا باس مثلاً ان يلقي بنفسه في احضان السبع المفترس لانه لن يستطيع ايذاءه قبل حلول أجله.

و جوابه يفهم من كثير من الآيات القرآنية والاخبار التي تصرِّح بان للانسان اجلين ، اجلاً محتوماً لا بد من حصوله ، واجلاً موقوفاً تمكن الزيادة فيه او النقيصة ، فما يزيد فيه مثلاً: الصدقة والدعاء وصلة

ص: 104


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 182
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 209
3- نهج البلاغة ج 1 - ص 108

الرحم ، ونستشهد بقوله عليه السلام:

وصلة الرحم فانها مثراة في المال ، ومنسأة في الاجل (1)

ومما ينقص في الاجل قطيعة الرحم و المعصية ، وإلقاء المرء نفسه في المهلكات يعد ايضاً من منقصات الاجل ، فنفترض مثلاً ان الاجل المحتوم لزيد من الناس هو خمسون سنة فهي لا تزيد و لا تنقص ، واما الاجل الموقوف فقد يكون ثلاثين سنة ، وهي تقبل الزيادة الى مئة بشرط ان يعمل هذا الانسان اعمالا معينة من صدقة و دعاء وغيرها ، فكلما عمل شيئا من ذلك زاد الله في أجله، فيصح ان نقول هنا ان اجله موقوف على هذه الاعمال و لكن الله سبحانه العالم بكل شيء يعلم بان هذا الانسان سيعمل من تلك الاعمال ما يحدد له من الاجل خمسين سنة فقط ، وهذه المدة هي اجله المحتوم، الذي لا يعلمه الا الله ، ولذلك نراه عليه السلام يقول قبيل موته بعد ضربة ابن ملجم لعنه الله له:

كم اطردت الايام ابحثها عن مكنون هذا الامر، فأبى الله الا اخفاءه هيهات.. علم مخزون (2)

و الخلاصة: ان الاجل امر لا بدّ من الاعتراف به، و لو اجمالا.

ص: 105


1- نهج البلاغة ج 1 - البلاغة ج 1 - ص 215 - 216
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 268

المسألة الرابعة: الارزاق

الرزق هو كل ما ينتفع به، والرازق هو الله سبحانه ، فكل ما يناله العباد في حياتهم هو رزق منه تعالى وهو يشمل جميع العباد فيستحيل ان يوجد مخلوق و لا يوجد له رزق ، كما يستحيل ان يوجد رزق ولا يوجد له من يرتزق به. لان الغذاء الذي يرتزق به الانسان يصبح جزءا منه ، فتستمر حياته به: ففي الحقيقة يوجد هنا شيئان ، انسان وهو المرتزق، و غذاء و هو الرزق. و كل من المرتزق و الرزق قد تبدل و تغيَّر نتيجة عملية الارتزاق ، فالاول قد نما و الثاني قد اصبح جزءا من الاول. و بكلمة اخرى انهما تطورا لانتقالهما من طور الى آخر ، والتدبير الالهي المحيط بكل شيء محيط ايضاً بهذا التطور والانتقال. وهنا نتساءل هل من الممكن وجود هذا الشيء المنتقل المتطور ولا يوجد معه ما يحتاجه من اجل انتقاله وتطوره؟ والجواب الصحيح هو النفي. لان اثبات ذلك ينافي القول بالتدبير المطلق للكون ، و بذلك نصل الى المطلوب و هو اثبات تساوي الرزق و المرتزق. وهذا بعينه يستفاد من كلمات الامام عليه السؤال كقوله:

عياله الخلق ضمن ارزاقهم وقدَّر اقواتهم (1)

فالاقوات مقدرة على العباد - وهي الارزاق - لا تزيد عليهم ولا يزيدون عليها و قد يستفاد ذلك ايضاً من قوله عليه السلام:

ولا تُجدِّد له - اي الانسان - زيادة في اكله الا بنفاذ ما قبلها من رزقه (2).

ص: 106


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 160
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 363

والخلاصة انه يستحيل وجود رزق لا يوجد له مرزوق ، كما يستحيل ان يوجد مرزوق ليس له رزق ، بل لا بد له من رزق مقدر ولكن هذا لا يعني ابداً تساوي الارزاق لجميع الخلق ، ولا يعني كذلك عدم طر و الزيادة و النقيصة عليه ، و بهذا يقول عليه السلام:

فان الامر ينزل من السماء الى الارض كقطرات المطر الى كل نفس بما قسم لها من زيادة او نقصان (1)

و هذه الزيادة والنقيصة ليست اعتباطية بل هي تابعة لاسباب محددة تماماً كما في الآجال ، والامام عليه السلام يذكر بعض الاسباب التي تزيد في الرزق كما يذكر بعض ما ينقصه ، وفيما يلي نستعرض كلماته فيما يتعلق بكل من الفئتين. اما الفئة الأولى فيقول فيها:

وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق (2)

استنزلوا الرزق بالصدقة (3)

ان الله في كل نعمة حقا فمن اداه زاده منها (4)

ص: 107


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 60
2- نهج البلاغة ج 1 - ص 260
3- نهج البلاغة ج 2 - ص 170
4- نهج البلاغة ج 2 - ص ص 190

فالصدقة و الاستغفار ودفع الحقوق كل ذلك مما يزيد في الرزق واما ما ينقصه - وهو مضمون الفئة الثانية - فيقول فيه عليه السلام:

ان لله في كل نعمة حقاً فمن ادّاه زاده منها ، ومن قصرَّ عنه خاطر بزوال نعمته (1)

ان لله عباداً يختصهم الله بالنعم لمنافع العباد فيقرها في ايديهم ما بذلوها فاذا منعوها نزعها منهم ثم حوَّلها الى غيرهم (2).

والخلاصة ان الارزاق قابلة للزيادة و النقيصة وهي تابعة لاسبابها و عللها ، وتقدير الارزاق يكون تبعاً لتحقق هذه الاسباب والعلل. ولكن قد يقال هنا بان معنى هذا ان الرزق يصل الى صاحبه حتى ولو لم يعمل له فيكفيه ان يتصدق ويستغفر ثم يجلس في بيته بانتظار رزقه ان يأتيه من السماء. وفي كلام الامام ما يوهم ذلك ايضاً كما ورد من انه قيل له:

لوسُدَّ على رجل بيته و ترك فيه ، من اين كان ياتيه رزقه ، قال عليه السلام ، من حيث ياتيه اجله (3)

ويجب ان نوضح هنا ان معنى كون الرزق يأتي من حيث الاجل انه يأتي من حيث لا نعلم ، فكما ان الاجل يأتي من حيث لا نعلم

ص: 108


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 190
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 235
3- نهج البلاغة ج 2 - ص 219

فكذلك الرزق ، لا ان مقصوده عليه السلام المقايسة بينهما من جميع الوجوه حتى يرد عليه ان الانسان - بل كل حي - يحمل معه سبب موته بينما لا يحمل معه رزقه. ومن كلامه الذي يوهم ذلك ايضاً قوله عليه السلام:

الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك ، فان لم تأته اتاك (1)

والحاصل انه قد يستنتج من كل ما تقدَّم ان الرزق ما دام مقدراً فانه سيصل الى صاحبه على اية حال ، فلا حرج على المرء أن يجلس في بيته ينتظر رزقه ، ولكن الصحيج والواقع خلاف ذلك ، فان كلام الامام في هذين الموضعين معارض بكلام آخر له عليه السلام كقوله:

للمؤمن ثلاث ساعات ، فساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يرمَّ معاشه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل وليس للعاقل ان يكون شاخصاً الّا في ثلاث مرمة لمعاش ، او خطوة في معاد ، او لذّة في غير محرم (2)

فنراه عليه السلام يعتبر طلب الرزق من خصال المؤمن الحميدة، ويقرن بينه وبين العبادة لله ، ومن الواضح ان الدعوة لطلب الرزق واعتباره من الصفات الحميدة يقتضي كونه لا يحصل للعبد الا عن طريق طلبه.

ص: 109


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 227
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 229

واما الكلام المتقدم عنه عليه السلام فان توضيحه غير ما توهَّم منه هؤلاء فبالنسبة لجوابه بان الرزق ياتي من حيث ياتي الاجل فالمراد منه: ان الله قادر على كل شيء فلو راى مصلحة في حياة هذا العبد المحبوس و اراد استمرار حياته فانه يستطيع ان يوصل اليه رزقه ، قد يكون بانزال مائدة من السماء ، او من اي طريق آخر لا نعلمه ، تماماً كما ياتي الاجل من حيث لا نعلم ، وهذا لا يكون الا بمعجزة خارقة للعادة تحصل لمصلحة ، قد تكون في مقامنا هذا اثبات قدرة الله تعالى على كل شيء ، ومن هنا فلا يقاس على مثل ذلك ، فانا نشاهد بالضرورة ان من يحبس في بيته من دون ماء ولا طعام فانه يموت بلا شك ، واما بالنسبة لكلام الامام الآخر وهو تقسيم الرزق الى رزقين فان المراد منه كذلك غير ما تُوهِّم ، ويتضح معناه من كلام آخر له عليه السلام اذ يقول:

الرزق رزقان ، طالب و مطلوب ، فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها ، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها (1)

فمن مجموع كلامه عليه السلام في الموضعين نستطيع ان نوضح معنى تقسيم الرزق الى رزقين بان نقول:

ان الرزق الطالب هو الرزق المقدَّر للانسان باحد اسبابه المتقدمة ولكن على الانسان ان يسعى اليه من طريقه ، نعم اذا لم يستطع

ص: 110


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 236

الانسان الاهتداء الى الطريق الذى يجب عليه ان يسلكه للوصول الى رزقه فان الرزق يأتيه من طريق آخر يتمكن هذا الانسان من الاهتداء اليه ، فيصل الى رزقه و بذلك يصح ان يقال ان الرزق هو الذي طلب الانسان. واما الرزق المطلوب ، فهو الرزق الزائد عما قدر للانسان ، والزائد عما يتمكن من تحصيله والوصول اليه مهما سعى ، وهو طلب الدنيا برمتها فان الانسان مهما كسب في هذه الدنيا من رزق فانه لا يكتفي بل يطلب المزيد دون التوقف عند حد او الالتفات الى الوراء قليلاً حيث الموت يطارده. ولا شك انه سيصل اليه يوماً ما وهو غافل عنه ، فيخطفه وهو لم يدرك بعد الرزق الذي يطلبه. اذن فالفرق بين الرزق الطالب والمطلوب ان الاول يدركه العبد بالسعي اليه لانه مقدر له ، واما الثاني فمهما سعى الانسان اليه فلن يستطيع ادراكه لعدم تقديره له. فهو في سعيه يدرك فقط ما قدر له ، ويلخص عليه السلام كل ذلك قائلاً:

ان الله لم يجعل للعبد وان عظمت حيلته و اشتدت طلبته وقويت مكيدته اكثر مما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته وبين ان يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم.(1)

ففي هذا دلالة واضحة على ان العبد لا يكسب الا ما قدر له من الرزق حتى لو كان ما اكتسبه عن طريق الحرام، وهذا لا طريق الحرام ، وهذا لا يعني ابدا ان

ص: 111


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 202

الله قد كتب عليه ان يكون رزقه من الحرام بل العبد هو الذي شاء اكتسابه عن هذا الطريق فحسب عليه رزقا.

و يخلص الامام من كل ذلك الى دعوة الانسان لترك التكالب في تحصيل الرزق لانه لن ينال في النهاية الأ ما قدِّر له ولا يبخل بما بين يديه ادخاراً له لضمان الغد ، ولا يغتم بالتفكير في ايامه اللاحقة وعن كيفية اكتساب رزقه فيها ، فيخاطب عليه السلام هذا الانسان بقوله:

يا ابن آدم لا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتك على يومك الذي قد اتاك فانه إن يك من عمرك يات الله فيه برزقك (1)

ويقول ايضاً:

فلا تحمل همَّ سنتك على هم يومك ، كفاك كل يوم بما فيه ، فان تكن السنة من عمرك فان الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قَسَمَ لك ، وان لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك؟ ولن يسبقك الى رزقلك طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطىء عنك ما قدِّر لك (2)

فهمّ الرزق لهذا اليوم يكفيك فلا داعي لان تضيف اليه هم رزق الغد فكما رزقك الله في هذا اليوم فكذلك يرزقك في الغد ، هذا ان

ص: 112


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 200
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 227

كان قد كتب لك ان تعيش حتى الغد، و اما اذا كان الاجل قد حان فما داعي الهم لشيء ليس لك؟ فهو عليه السلام يدعو الى التروي والتمهل في طلب الرزق ، هذا اولاً. ويدعو ثانياً الى الاقتناع بما حصل عليه الانسان ، وبهذا يقول عليه الصلاة والسلام:

و من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته (1).

فكثيراً ما تتيح الفرص للانسان ان يكتسب الرزق و المال بقليل الحنكة ، والتدبير ولكنه لا يعرف كيف يستغل ذلك فتفوت الفرصة من يده ، حزيناً على ما فاته ، لمثل هذا ينصح الامام بالرضى و القناعة بما بين يديه ونسيان ما قد فاته.

المسألة الخامسة: الجبر والتفويض

مسألة الجبر والتفويض من المسائل القديمة التي بحثها العلماء والفلاسفة وخاضوا غمراتها ، وقد كان لها اهتمام خاص منهم بسبب ارتباطها الوثيق بالانسان و افعاله فبعض هؤلاء العلماء آمن بالجبر وان آمنوا الانسان مجبر على افعاله و القسم الآخر على النقيض منهم بالتفويض ، وفيما يلي نوضح معنى الجبر و التفويض ونذكر استدلالات العلماء على ذلك ، ومن خلال البحث سيتبين لنا بطلانها، وحينئذ ننتقل الى القول الفصل وهو الذي يرشدنا اليه الامام (ع).

القول بالجبر

وقبل استعراض اقوال الجبريين ومناقشتها علينا ان نوضح اولا

ص: 113


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 217

معنى الجبر قال الشيخ المفيد في توضيح معناه:

ان الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار اليه بالقسر و الغلبة ، وحقيقة ذلك ايجاد الفعل في الخلق من غير ان يكون لهم القدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه ، وقد يعبَّر عما يفعله الانسان بالقدرة التي معه على وجه الاكراه له على التخويف والالجاء انه جبر. والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه (1).

اذن فالجبريون يعنون بقولهم بالجبر ان افعال الانسان خارجة عن ارادته ، فلا فرق بين الصاعد الى السطح والساقط منه كما لا فرق بين رفع اليد وارتعاشها. ونتيجة هذا القول انكار حكم العقل بالحسن والقبح ، اذ اعترض عليهم بان العبد ما دام مجبوراً على افعاله فكيف يمكن ان يثاب او يعاقب عليها؟ لأن العقل حاكم بقبح عقاب المجبر على المعصية فكان جوابهم ان العقل عاجز عن ادراك الحسن والقبح بل هما تابعان لفعل الله وعدم فعله

يلي:

واستدلوا على مذهبهم الجبري هذا بعدة ادلة نستعرض بعضها فيما

الدليل الاول:

ان الفعل معلول للارادة وصادر عنها والارادة ان كانت غير ارادية فهو المطلوب وان كانت ارادية فانها تكون صادرة عن ارادة اخرى

ص: 114


1- شرح الاعتقاد للمفيد

ومعلولة لها ، وهذه الارادة الاخيرة لا بدَّ و ان تنتهي الى امر غير ارادي و الا لزم التسلسل وبما ان الفعل معلول للارادة ، والارادة معلولة لامر غير ارادي ، فان الفعل ايضاً يكون غير ارادي وهو معنى الجبر.

والجواب عن هذا الاستدلال ان ارادة الانسان غير ارادية له بمعنى ان اتصافه بالارادة لم يكن اختيارياً له ، ولكن ما يصدر عن هذه الارادة من افعال فانه يكون صادراً عن اختياره وارادته اذن فهو غير مجبر عليه.

الدليل الثاني.

يبتني على ما قد تقدم عند الكلام في علمه تعالى حيث قلنا بان الله تعالى عالم بجميع الموجودات ومنها أفعالنا. وكونه تعالى عالماً بافعالنا يعنى اننا مجبرون على فعلها ، والا لو كان لنا الاختيار في ذلك لكان من الممكن ان ينقلب علمه جهلاً تبعاً لمطابقة افعالنا لعلمه وعدمها.

والجواب: ان الافعال الاختيارية الصادرة عن الانسان لها مقدمات لا بد من وجودها لتتحقق تلك الافعال. وهذه المقدمات هي الشوق للفعل والقدرة عليه والعلم بالمصلحة فيه ومنها ايضاً الاختيار و الارادة لذلك الفعل. والله سبحانه كما يعلم بافعالنا كذلك يعلم بهذه المقدمات ، وقد قلنا بان من هذه المقدمات «الاختيار» وبذلك يكون سبحانه عالماً بصدور افعالنا عن الاختيار فلا يتبدل علمه.

الدليل الثالث:

لو أراد الله أمراً وأراد العبد خلافه ، فان تحقق الارادتين معاً مستحيل لأنه يستلزم اجتماع النقيضين، أي وجود الشيء وعدمه. وتحقق ارادة العبد دون ارادة الله يقتضي كون العبد أقدر من خالقه.

ص: 115

اذن فلا بدّ من افتراض تحقق ارادة الله ونفي قدرة العبد. وهو معنى الجبر.

وجوابه: ان تحقق الارادتين ليس مستحيلاً ، لان اراده العبد لا تتعدى دائرة العزم و التصميم ، ولكن هذا العزم لا يتحقق الا بارادة من الله سبحانه ، بان يمكن العبد من فعل ما يريده.

الدليل الرابع:

ان كثيراً من الآيات القرآنية تنسب الاضلال الى الله سبحانه فيمكن ان يستفاد منها انه تعالى خالق الضلال و الكفر في عباده. ومعنى ذلك انهم مجبرون على الكفر ومن هذه الآيات «قل الله يضل من يشاء و يهدي اليه من أناب» (1)

وقوله تعالى: «فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء» (2)

و الجواب: ان الله سبحانه ينسب الأضلال في آيات أخر الى ابليس و اعوانه فذمهم وامر بالاستعاذة منهم وعدم اتباعهم. ومع ذمِّه تعالى للمضلين كيف يكون هو ايضاً مضلاً؟ اذن فالمقصود من اضلاله تعالى ، ان سمو ذاته و الجهل بعرفان كنه حقيقته قد سبب ضلال العباد عن الصواب. وقد يحمل ايضا اضلاله تعالى على انه اضلال للكافرين عن الجنة ، أو غير ذلك من الوجوه الكثيرة التي تذكر في هذا المقام.

وبذلك نعرف ان جميع ادلة القائلين بالجبر باطلة. اضافة الى ذلك ان القول به مخالف لما يدركه الانسان بفطرته من انه قادر على فعل

ص: 116


1- سورة الرعد الآية 27
2- سورة ابراهيم الآية 4

كثير من الافعال او تركها فلو فعلها فانه يشعر بانه كان مستطيعاً لتركها. ولو تركها فانه يحس بوجدانه ان لو شاء لفعلها.

القول بالتفويض

بعد ان تبينَّ بطلان الجبر اتجه بعض المتكلمين - وهم المعتزلة - الى القول بالتفويض ، بمعنى ان العبد هو الذي يختار افعاله و ليس الله تعالى اي تأثير في ذلك. صحيح ان الله هو الذي اقدر العباد على افعالهم ، ولكن الأمر خرج من يده فيستطيع العبد ان يفعل ما يشاء ولا يتمكن الله من توقيفه. فمبادىء الافعال - من العلم بالمصلحة و القدرة على الفعل والشوق اليه - كلها مخلوقة الله سبحانه ، ولكن استمرارها في الوجود لا يحتاج اليه. تماماً كالكاتب الذي يؤلف كتابا ، فان استمرار وجود الكتاب لا يحتاج اليه. فالله سبحانه قد مكَّن العباد من الافعال ورفع يده.

والجواب: انكار كون مبادىء الافعال مستغنية في استمرار وجودها عن المؤثر ، وذلك لانها ممكنة الوجود. ومن المعلوم ان ممكن الوجود يحتاج في بقائه و استمراره الى المؤثر كما يحتاجه من اجل حدوثه و وجوده لان وجوده لا يخرجه عن دائره الإمكان ، تماماً كالتيار الكهربائي بالنسبة للضوء ، فان استمرار بقاء الضوء مفتقر لاستمرار وصول التيار الكهربائي.

فالقول بالتفويض اذن ايضاً باطل كالقول بالجبر. ولكن يبقى هناك احتمال ثالث وأخير ، لأن افعال العباد حسب الحصر العقلي دائرة بين ثلاث احتمالات:

الاول: ان يكون حصولها بقدرة الله وارادته ولا دخل لارادة العبد في ذلك وهو معنى الجبر

ص: 117

الثاني: ان يكون حصولها بقدرة الانسان و ارادته فقط بحيث لا يكون لارادة الله اي تاثير. وهو معنى التفويض.

الثالث: ان يكون حصولها بقدرة العبد منضمة الى قدرته تعالى ، بحيث تكون قدرة العبد هي المؤثرة و لكن بانضمامها الى قدرة الله. وهذا الاحتمال هو المتعين. وهو معنى الأمر بين امرين الذي يستفاد من كلمات الامام عليه السلام حيث يقول:

ان الله سبحانه امر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً ، ... ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً (1)

وقد اوضح الشيخ المفيد معنى الامر بين امرين بقوله:

ان الله اقدر الخلق على افعالهم ، ومكنهم من اعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك ، و نهاهم عن القبائح بالزجر و التخويف والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبراً لهم عليها ، و لم يفوض الاعمال اليهم لمنعهم من اكثرها ، ووضع الحدود لهم فيها ، و امرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها.

اذن فالله سبحانه امر عباده ببعض الافعال ولكن لم يجبرهم عليها ، بل ترك لهم الخيار في الفعل وعدمه ، ونهاهم عن بعض

ص: 118


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 153

عنه

الافعال بان حذَّرهم من فعلها. فاذا اطاع العبد ما امر به لم يكن ذلك لاضطراره الى الطاعة ، لانه ليس مجبرا ، واذا عصى ما نهي فلا يكون ذلك لعجز الله عن ردعه.

والخلاصة انه (لا جبر ولا تفويض ، ولكن امر بين امرين) و هذا هو المتواتر عن ائمة اهل البيت عليهم السلام.

المسألة السادسة: القضاء والقدر

هذه المسألة من اقدم المسائل العلمية والفلسفية التي لفتت انتباه العلماء والفلاسفة فكثر كلامهم حولها منذ عهد ارسطو - وهو اول من تعرض لها - وحتى اليوم. وموضوع هذه المسألة هو مصير الانسان ، فهل ان للانسان مصيرا فرض عليه فرضاً بحيث لا يستطيع تبديله وتغييره ، ام ان ذلك في استطاعته لو شاء؟

والبحث في هذه المسألة ليس من الترف العلمي والفلسفي وانما هي تبحث لما لها من ارتباط وثيق في تكييف حياة الانسان اذ فرق بعيد بين الانسان الذي يرى لنفسه القوة على صياغة مصيره كيفما يشاء ، و بين الانسان الذي يعتقد ان مصيره مفروض عليه فرضاً فلا يستطيع تبديله. فان الاول يعمل نهاره و يسهر ليله جاهداً للوصول الى مستقبل افضل و حياة اكمل. واذا ما اخطأ او فشل فانه يلوم نفسه و يحاول الاستفادة من خطأه وفشله للمرات القادمة واما الشخص الثاني فانه يتكل دائماً على القدر ، واذا ما فشل فانه يلعن قدره المشؤوم بدل البحث عن سبب فشله

ومسألة القضاء و القدر من المسائل الدقيقة التي لا يدركها الا

ص: 119

الراسخون في العلم ، واما من سواهم فتحتار عقولهم في فهمها مما قد يؤدي بهم الى الوقوع في هوَّة الجبر او هوَّة التفويض. كما حدث بالنسبة لذلك الشامي مع الامام علي عليه السلام عندما كان منصرفاً من صفين ، اذ قال له: يا امير المؤمنين اخبرنا عن مسيرنا الى اهل الشام ابقضاء من الله وقدر؟ فقال له امير المؤمنين ، اجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الابقضاء من الله وقدر. فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا امير المؤمنين (1)

فهذا الشيخ فهم من كون مسيره بقضاء من الله و قدر ، انه مجبر على ذلك ولذا تأسف على معاناته في مسيره ، لانه يدرك - ككل عاقل - ان المجبر لا يكافأ كما لا يعاقب ، فهو و الجالس في بيته بمنزله سواء. ولكنه عليه السلام يدفع له هذا التوهم فيوضع له معنى القضاء و القدر بقوله:

ويحك ظننت قضاء لازماً و قدراً حاتماً ولو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و سقط الوعد و الوعيد ، ان الله سبحانه امر عباده تخييراً ونهاهم

تحذيرا (2)

وجوابه عليه السلام في الكافي طويل، ولكنا اكتفينا بمختصره كما يذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة.

و كما نرى فانه عليه السلام يوضح بان القضاء والقدر لا يستلزمان

ص: 120


1- الكافي للكليني
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 135

الجبر ، والا لبطل الثواب والعقاب بل ان معناهما شيء غير ذلك، وهو اذ يكتفي بهذا المقدار من الجواب فلان العقول ليست كلها بقادرة على التعمق في هذه الابحاث واستيعابها ، ولذلك نراه عليه السلام في مكان آخر وقد سئل عن القدر يجيب بقوله:

طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر الله فلا تتكلفوه (1)

و واضح أن المقصود بهذا النهي أولئك الذين لا قدرة لهم على الخوض في أمثال هذه المسائل

مضاعفات المسألة

وقد اتخذ البحث في مسألة القضاء و القدر الواناً و اشكالاً أخرى، ففسرت المسألة بما يناسب الاغراض والاهواء ، ولكن اتجاه جميع هذه التفسيرات واحد ، و هو عدم التفرقة بين القول بالقضاء و القول بالجبر ، فالقضاء عندهم يستلزم نتيجة واحدة والتي هي الجبر. ونستشهد على ذلك بما يذكره السيد جمال الدين الافغاني في العروة الوثقى ، اذ يقول.

واعتقد اولئك الافرنج انه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بان الانسان مجبور محض في جميع

افعاله (2)

ص: 121


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 205
2- العروة الوثقي صفحة 50

وقد اخذوا هذا التلازم بين القول بالقضاء والقول بالجبر كمقدمة أساسية ومسلمة وأخذوا يبنون عليها المذاهب المغرضة التي تناسب اهواءهم. فأحد هذه التفسيرات يزعم بأن الاعتقاد بالقضاء والقدر يؤدي الى التكاسل والخمول ، لأن المعتقد بذلك يضع مسؤولية كل شيء على القدر ، ويهرب هو منها و لنستمع الى الأفغاني حيث يقول في تقرير ذلك:

وتوهموا - اي علماء الغرب و فلاسفته - ان المسلمين بعقيدة القضاء يرون انفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما تميل ، ومتى رسخ في نفوس قوم انه لا خيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون ، وانما جميع ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة فلا ريب تتعطل قواهم ، و يفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك و القوى. و تمحى من خواطرهم داعية السعي و الكسب. وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود الى عالم العدم (1)

وتفسير آخر ينتهجه اصحاب الفلسفة المادية وحاصله: ان العقيدة بالقدر معناها الاعتقاد بان جميع افعال الانسان مخلوقة لله سبحانه ، وليس للانسان اي اراده في اختيار ما يشاء من الافعال ، و هذا ما تحاول اثباته السلطة الحاكمة من اجل الحفاظ على مصالحها ، اذ بذلك تقنع طبقة الشعب المستعبدة بما هي فيه اذ تلقي اللوم على القدر ، فما دام الله سبحانه هو الذي اراد لها ذلك و قدَّره لها فما على الجماهير المستعبدة الا ان ترضى بقدر الله وقضائه ، فتبقى على ما هي

ص: 122


1- العروة الوثقى صفحة 50

عليه من الذل والاستعباد وتبقى الطبقة الحاكمة ترتع في نعيمها و سلطانها. وفيما يلي بعض ما يقوله هؤلاء الماديون:

ليس الغرض من هذه العقيدة (القضاء و القدر) الا اخماد ثورة العمال و الفلاحين و العبيد الكادحين ، بوجه الاشراف و البر و جوازيين والارستوقراطيين. اذ ان هذه الفكرة انما حملت من قبل تلك الطبقة الجائرة على المجتمع البشري لتكون صبراً و سلوى للطبقات الفقيرة ، فان مجاري الامور - على هذه العقيدة - ترتبط كلها: خيرها وشرها ، زينها و شينها ، بقضاء الله و قدره الذي لا محيص عنه و لا مفر منه الا اليه ، و لا تغيير لها ولا تبديل ، ولا صرف عنها ولا تحويل ، فلا ثورة عليها ولا نهضة ، ولا تمرد عليها ولا لحظة (1)

وبذلك نرى كيف ان هذين التفسيرين للقدر اعتبرا ان العقيدة بالقدر ما هي الا عامل ركود وخنوع ، ركود عن التطور نحو الاحسن ، وخنوع للطبقة الحاكمة الجائرة. و الخطأ في هذين التفسيرين منشؤه الربط بين الاعتقاد بالقدر والقول بالجبر. وقد حاول بعض المدافعين عن الاسلام وعقائده ان يبطل مثل هذه التفاسير والاستنتاجات قال ان الاعتقاد بالقدر ليس عامل خضوع وجمود على الاطلاق ، بل هو عامل اساسي في بعث النشاط والسعي نحو الافضل دائماً ولكن هذا الكاتب أيضاً - كما سنرى - اعتبر أن القول بالقضاء و القدر هو قول بالجبر ، ولنستمع اليه حين يقول:

القاعدة السادسة والاخيرة من قواعد العقيدة الاسلامية ، هي

ص: 123


1- القضاء والقدرص 33 نقلاً (عن عرفان وأصول مادي)

الجبرية ، وقد اقام محمد جلَّ اعتماده على هذه القاعدة لنجاح شؤونه الحربية فقد قرَّر ان كل حادث يقع في الحياة قد سبق في علم الله تقديره ، فكتب في لوح الخلد قبل ان يبرأ الله العالم و أن مصير الانسان و ساعة اجله قد عينت تعييناً لا مردَّ له ، فلا يمكن أن تتقدّم وتتأخر باي مجهود من مجهودات الحكمة الانسانية او بعد النظر. وبهذا الاقتناع كان المسلمون يخوضون غمار المعارك دون ان ينال منهم الخوف فما دام الموت في هذه المعارك هو عدل الاستشهاد الذي يسرع بصاحبه الى الجنة ، فقد كانت لهم الثقة بالفوز في حالي الاستشهاد والانتصار (1)

فهذا الكاتب حاول الدفاع عن العقيدة بالقدر امام آراء الماديين المتقدمة ، فحيث كانوا يعتبرون العقيدة بالقدر عامل جمود و خنوع اعتبرها هو عامل تقدم و انتصار ، ولكنه مع ذلك لم ينج مما وقعوا فيه من الخلط بين معنى القدر و معنى الجبر. ولكن حقيقة الامر غير ذلك ، فان القول بالقدر ، والقول بالجبر ، بينهما مئات الفواصل كما سيتضح لنا ذلك عند تفصيل معنى القضاء و القدر.

معنى القضاء

لو تردد امر مملوكية عين ما بين شخصين بان كان كل منهما يدعيها فهنا لا نستطيع الجزم بملكية اي منها لها. و لكن لو قضى القاضي بها لأحدهما - بعد الاطلاع على دعوى كل منهما وسماع دليله - فان الملكية تتعين له و تنقطع عن الآخر ، وبذلك يرتفع التردد. هذا في الأمور الوصفية

ص: 124


1- حياة محمد (ص) صفحة 549

الاعتبارية و لو ترددنا في فعل أمر خارجي أو عدم فعله ، ثم حصلت لدينا بعض الأسباب التي تدعوها الى فعله. فهنا أيضاً يرتفع التردد عن هذا الفعل.

و نفس الشيء نجده بالنسبة للامور الكونية حيث انه لا يتعين لها التحقق و الثبوت الا بعد وجود عللها و اسبابها المقتضية لها.

و هذا هو بالتحديد معنى القضاء أي وجود العلل والشرائط التي تقتضي تعين وجود الشيء او عدمه. فحكم القاضي مثلاً هو العلة التي اقتضت تعين العين لهذا الشخص دون ذاك و المصلحة في الفعل الخارجي هي التي رجحت فعله على تركه ، ووجود العلل هو الذي أدى الى حصول الحادثة المعينة وهكذا. ومن هنا نستطيع أن نفهم معنى قضائه تعالى ، فان الحوادث كلها تستند في وجودها الى فعله تعالى ، بمعنى ان العلة الموجبة لوجود الشيء او عدمه، هي فعله تعالى وعدمه فالحادثة - اى كانت - تبقى فى دائرة الامكان بين الوقوع واللاوقوع الى ان يشاء الله ايجادها ، فيكون ذلك بمثابة العلة التامة لتعيينها في دائرة الوقوع. اذن فقضائه تعالى هو ارادة وجود الشيء.

معنى القدر

القدر هو الهندسة من الطول و العرض والبقاء على ما في الخبر عن الرضا عليه السلام فالله سبحانه قد خلق كل شيء وقدر وجوده بمعنى انه حدَّد ماله من الآثار والخصوصيات، و وضع ماله من العلل والشرائط التي إن وجدت وجد ذلك الشيء بينما فقدانها يعني عدم وجوده. فالموجودات التي خلقها الله سبحانه تهتدي في مسارها بما رسمه وقدره الله لها. وهذا هو معنى قوله عليه السلام:

ص: 125

قدَّر ما خلق فاحكم تقديره ، ودبره فالطف تدبيره (1)

وبذلك يتضح ان هناك فرقاً كبيراً بين معنى القضاء ومعنى القدر ، كما يتضح ايضاً ان القضاء والقدر ليسا من العوامل الخفية المؤثرة في مصير الانسان ، بل هما عبارة عن السنن و القوانين الالهية التي تحكم الكون ، فالانسان هو الذي يقرر مصيره بنفسه نتيجة اختياره لاحدى تلك السنن دون الأخرى. ولذلك نجد في الخبر:

ان امير المؤمنين عليه السلام عدل من حائط مائل الى حائط آخر ، فقيل له: يا امير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: افر من قضاء الله الى قدر الله (2)

و معنى ذلك ان القضاء و القدر كلاهما من الله ، ولكن البقاء تحت هذا الجدار الماثل معناه الموت المحقق ، لان السنن التي تحكم الكون تقضي بسقوط الجدار اذا بلغ حداً معيناً من الميلان ، و سقوط الجدار على انسان يعني تهشيمه و القضاء عليه ، فالبقاء تحت هذا الجدار معناه الموت المحتم تنفيذاً لقضاء الله. و لكن الجدار الاخر لم تتحقق به الشروط التي تقضي سقوطه فقضاء الله لم يتعلق بسقوطه ، نعم قدر الله متعلق به لأن معنى قدره تعالى: انه لو مال هذا الجدار فانه يصبح معرضاً للسقوط.

وطبعاً هذه السنن ثابتة لا تتغير، لأنها بمثابة العلل التي لا تتخلف أبداً عن معلولاتها ، و الانسان يقرر مصيره تبعاً لما يختاره من هذه

ص: 126


1- نهج البلاغة ج 1 - ص 165
2- التوحيد للصدوق صفحة 369

السنن بنفسه وبذلك نستطيع أن نفهم كلام الامام عليه السلام الذي يوهم بأن القضاء والقدر هما اللذان يقرران مصير الانسان كقوله (ع):

- تذل الامور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير (1)

- ان اخسر الناس صفقه و اخيبهم سعياً رجل اخلق بدنه في طلب ماله ولم تساعده المقادير على ارادته (2)

فهذا الرجل الذي لم يستطع الوصول الى ما يريده ليس المانع له من ذلك هو وقوف القدر في سبيله بالمعنى الذي قد يتبادر لأول وهلة ، بل المانع له هو عدم ادراكه التام لسنن الكون ، فهو يطلب المال والغنى ولكن من غير الطريق المقدر والمرسوم.

القضاء المحتوم و المخروم

قد يقول القائل: اذا كان هذا معنى القضاء و القدر ، فماذا يعني ما ورد من الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية ، من ان القضاء منه محتوم و منه مخروم؟ و ان القضاء المحتوم هو الواقع لا محالة ، ولا يعلمه الا الله ، و أما القضاء المخروم فهو الذي يمكن تبديله وتغييره ، اما بالدعاء أو بالصدقة أو غير ذلك؟

ص: 127


1- نهج البلاغة ج 2 - ص 141
2- نهج البلاغة ج 2 - ص 236

والجواب ان هذا التقسيم لا يعني ابداً ان من القضاء ما يكون مفروضاً على الانسان ، بل الذي نفهمه ان الانسان بنفسه هو الذي يختار قضائه دائماً ، فالقضاء المحتوم يفرضه الانسان على نفسه باختيار طريقه والقضاء المخروم كذلك ، وانما سمي هذا محتوماً فلان الانسان سيختاره لنفسه لا محالة ، فالله يعلم منذ الازل باختيار الانسان ذلك ، واما المخروم فسمي كذلك لانه ليس من الحتم ان يختاره الانسان بل اختياره مردد بين هذا وذاك. نعم الدعاء والصدقة وامثال ذلك يساعده على اختيار الأفضل والأصلح لأن الانسان يتقرب بها الى الله سبحانه فيكافئه الله على ذلك بارشاده الى الأصلح له بمعنى أنه يزرع في نفسه اختيار هذا الطريق دون ذاك.

وبالكلام عن القضاء والقدر ينتهي كلامنا حول موضوع الفلسفة الالهية. كتابنا المقبل سنتناول فيه موضوع (الخلافة والخلفاء) وذلك بما يرشدنا اليه كلام سيد البلغاء وأمام الحكماء علي بن أبي طالب علية السلام ، فنسأل الله أن يوفقنا لذلك بلطفه ومنِّه ، انه حسبنا ونعم

ص: 128

الفهرس الموضوعي لكلمات نهج البلاغة الواردة في هذا الكتاب

امكان الرؤية وامتناعها.

وأمتنع على عين البصير. ج 1 - ص 98

وكل بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام. ج 1 - ص 112

ولا تحيط به الأبصار. ج 1 - ص 148.

المعروف من غير رؤية. ج 1 - ص 158.

لا تراه النواظر. ج 1 - ص 350

وبها - أي الادوات المخلوقة لله - امتنع عن نظر العيون. ج 1 ص 356

احقّ و أبين مما ترى العيون. ج 2 - ص 280

الايمان بالله والإستدلال على وجوده.

أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به. ج 1 ص 14

ص: 129

ودلَّت عليه أعلام الظهور. ج 1 - ص 98

لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته. ج 1 - ص 99

فهو الذي تشهد له أعلام الوجود. ج 1 - ص 99

فصار كل من خلق حجة له و دليلاً عليه. ج 1 - ص 164

المتجلي لخلقه بخلقه و الظاهر لقلوبهم بحجته. ج 1 - ص 206.

و بالايمان يعمر العلم. ج 1 - ص 283

فبالايمان يستدل على الصالحات و بالصالحات يستدل على الايمان. ج 1 - ص 283

تدركه القلوب بحقائق الايمان. ج 1 - ص 334

و تؤمن به ايمان من رجاه ، موقناً و أناب إليه مؤمناً ، وخنع مذعناً ، وأخلص له موحداً ، وعظمه ممجِّداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً ج 1 ص 339

ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن و القضاء المبرم. ج 1 - ص 339

تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة. و تشهد له المرائي لا بمحاضرة. ج 1 - ص 350

ولو فكروا في عظيم الخلقة و جسم النعمة لرجعوا الى الطريق. ج 1 - ص 351

ص: 130

ولا ايمان كالحياء و الصبر. ج 2 - ص 163

فورم

عجبت لمن شكِّ في الله و هو يرى خلق الله. ج 2 - ص 166

الايمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان وعمل بالأركان. ج 2 - ص 186

و ان الايمان يبدو لمظة في القلب كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة. ج 2 - ص 195

الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك وأن لا يكون في حديثك فضل عن عملك وأن تتقي الله في حديث غيرك. ج 2 - ص 241

توحيد الله سبحانه

فمن وصف الله سبحانه فقد قَرَنَه و من قرنه فقد ثناه. ج 1 - ص 15

لم يطلع العقول على تحديد صفته. ج 1 - ص 99

كل مسمى بالوحدة غيره قليل. ج 1 - ص 112

و لا تحيط به الأبصار و القلوب. ج 1 - ص 145

جا وأشهد أن لا الله الا الله وحده لا شريك له. ج 1 - ص 148

ولا تناله التجزئة والتبعيض. ج 1 - ص 148.

ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور. ج1 - ص 165

الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله حسن الفطن. ج 1 ص 184

ص: 131

فمن وصفه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه. ج 1 - ص 274

الأحد لا بتأويل عدد ،. ج 1 - ص 275

خلق الخلق على غير تمثيل ولا مشورة مشير ولا معونة معين. ج 1 - ص 280

فلسنا نعلم من كنه عظمتك، إلا أنا نعلم أنك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم لم ينته إليك نظر ولم يدركك بصر. ج 1 - ص 290

واحد لا بعدد. ج 1 - ص 350

العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد. ج 1 - ص 429

وأعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله و ترأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه أحد و لا يزول أبداً ولم يزل. ج 2 - ص 44

صفات الله سبحانه

الذي ليس لصفته حد محدود. ج 1 - ص 14

موجود لا عن عدم عن عدم ... فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة ... بصير اذ لا منظور إليه من خلقه ... أنشأ الخلق إنشاء و أبتدأ. ج 1 - ص 16.

بَطَنَ خفيات الأمور. ج 1 - ص 98

لم يطلع العقول على تحديد صفته. ج 1 - ص 99

ص: 132

وكل قوي غيره ضعيف وكل عالم غيره متعلم وكل قادر غيره يعجز ... وكل سمع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها ... و كل بصير غيره يعمى عن خفيِّ الألوان و لطيف الأجسام. ج 1 - ص 112

لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان و لا تخوف من عواقب زمان و لا استعانة على ندِّ مثاور ولا شريك مكاثر ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون و عباد داخرون ... لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن. ج 1 - ص 113

الأول لا شيء قبله و الآخر لا غاية له ، لا تقع الأوهام له على صفة. ج 1 - ص 148

قد علم السرائر و خير الضمائر له الاحاطة بكل شيء والغلبة لكل شيء ، والقوة على كل شيء. ج 1 - ص 149

الخالق من غير رويّة. ج 1 - ص 158

عياله الخلق ضمن أرزاقهم وقدَّر أقواتهم. ج 1 - ص 160

الذي ابتدع الخلق على غير مثال. ج 1 - ص 163

الذي لا غاية له فينتهي ولا آخر له فينقضي. ج 1 - ص 184

لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج. ج 1 - ص 185

الأول قبل كل أول و الآخر بعد كل آخر. ج 1 - ص 194

خلق الخلق على غير روية إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوي

ص: 133

الضمائر ... خرق علمه باطن غيب السترات و أحاط بغوض عقائد السريرات. ج 1 - ص 206

سئل عليه السلام: كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم فقال (ع) كما يرزقهم على كثرتهم. ج 1 - ص 208

ومن سكت علم سره. ج 1 - ص 210.

الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته. ج 1 - ص 274

من

والخالق لا بمعنى حركة ونصب ... والسميع لا باداة ... وصفه فقد حدّه ... و عالم إذ لا معلوم وعالم إذ لا معلوم ... و رب إذ لا مربوب ... و قادر إذ لا مقدور. ج 1 - ص 275

خلق الخلق على غير تمثيل. ج 1 - ص 280

هو الأول لم يزل و الباقي بلا أجل ... ولا يحويه مكان ... لا يقال له متى ... لم يقرب من الأشياء بالتصاق ولم يبعد عنها بافتراق.. ج 1 - ص 300

قبل كل غاية ومدة ... لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ... ولا له بطاعة شيء انتفاع. ج 1 - ص 301.

لا يغيره زمان ، ولا يحويه مكان. ج 1 - ص 332

قريب من الاشياء غير ملامس بعيد منها غير مباين ، متكلم لا بروية مريد لا بهمّة. ،. ، بصير لا يوصف بالحاسة. ج 1 - ص 334

ص: 134

لم يتقدمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان. ج 1 - ص 339

والخالق من غير منصبه. ج 1 - ص 345

الدال على قدمه بحدوث خلقه ... مستشهد بحدوث الاشياء على أزليته وبما وسمها به من العجز على قدرته. ج 1 - ص 350

ما وحده من كيِّفه ، و لا حقيقته أصاب من مثله ... فاعل لا باضطراب آلة. ج 1 - ص 354

سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والإبتداء أزله. ج 1 - ص 355

لا يتغير بحال ولا يتبدل بالأحوال ... ولا يوصف بشيء من الأجزاء يخبر لا بلسان ... يقول ولا يلفظ ... يقول لمن أراد كونه كن فيكون وإنما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانيا. ج 1 - ص 357

والبصير لا بتفريق آلة. ج 1 - ص 375

خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم. ج 1 - ص 395

وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته ... وإنه لبكلِّ مكان و في كل حين و أوان. ج 1 - ص 403

العالم بلا اكتساب و لا أزدياد و لا علم مستفاد. ج 1 - ص 429

ص: 135

عدل الله سبحانه

فان الامر ينزل من السماء الى الارض كقطرات المطر ، الى کل نفس بما قسم لها من زيادة او نقصان. ج 1 - ص 60

ان عليّ من الله جنة حصينة فاذا جاء يومي انفرجت عني و أسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم و لا يبرأ الكلم. ج 1 - ص 108

عياله الخلق ضمن ارزاقهم وقدِّر اقواتهم. ج 1 - ص 160.

قدر ما خلق فاحكم تقديره ، و دبره فالطف تدبير عياله الخلق ضمن ارزاقهم و قدر اقواتهم. ج 1 - ص 165

لكل اجل كتاب. ج 1 ص 208

وصلة الرحم فانها مثراة في المال ومنسأة في الاجل. ج 1 - ص 215

و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق. ج 1 - ص 260

ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره الا بهدم آخر من أجله. ج 1 - ص 263

كم اطردت الايام ابحثها عن مكنون هذا الامر ، فابى الله الا اخفاءه ، هیهات علم مخزون. ج 1 - ص 268

و ارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه. ج 1 - ص 350

ص: 136

ولا تجدّد له - اي الانسان - زيادة في اكله الا بنفاذ ما قبلها من رزقه. ج 1 - ص 363

والاجل مساق النفس والهرب منه موافاته. ج 1 - ص 368

نحمده على ما وفق له من الطاعة وذاد عنه من المعصية ... ان لكل اجل وقتاً لا يعدوه وسبباً لا يتجاوزه. ج 1 ص 400

و يحك ظننت قضاء لازماً و قدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطل الثواب و سقط الوعد و الوعيد ، ان الله سبحانه امر عباده تخييراً و نهاهم تحذيراً. ج 2 - ص 135

تذل الامور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير. ج 2 - ص 141

ان الله سبحانه امر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً ... ولم يعصى مغلوباً ، ولم يطع مكرها. ج 2 - ص 153

استنزلوا الرزق بالصدقة. ج 2 - ص 170

ان الله في كل نعمه حقاً فمن ادّاه زاده منها ، ومن قصرَّ عنه خاطر بزوال نعمته. ج 2 - ص 190

يا ابن آدم لا تحمل هم يومك الذي لم ياتك على يومك الذي قد اتاك فانه ان يك من عمرك يات الله فيه برزقك. ج 2 - ص 200

ان الله لم يجعل للعبد و ان عظمت حيلته واشتدت طلبته وقويت مكيدته أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه

ص: 137

وقلة حيلته وبين ان يبلغ ما سمّى له في الذكر الحكيم. ج 2 ص 202

(وقال (ع) وقد سئل عن القدر) طريق مظلم فلا تسلكوه وبحر عميق فلا تلجوه و سر الله فلا تتكلفوه. ج 2 - ص 205

و من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته. ج 2 - ص 217

(وقيل له (ع) لوسد على رجل بيته و ترك فيه من اين كان ياتيه رزقه) قال (ع): من حيث ياتيه اجله. ج 2 - ص 219

الرزق رزقان ، رزق تطلبه ورزق يطلبك فان لم تأته أتاك، فلا سنتك على هم يومك ، كفاك كل يوم بما فيه ، فان تكن السنة من عمرك فان الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قَسَمَ لك وان لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك؟ ولن يسبقك الى رزقك طالب. ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطىء عنك ما قدّر لك. ج 2 - ص 227

للمؤمن ثلاث ساعات فساعة يناجي فيها ربه و ساعة يرمَّ معاشه ، وساعة يخليّ بين نفسه وبين لذّتها فيما يحل و يجمل وليس للعاقل ان يكون شاخصاً الا في ثلاث ، مرمّة لمعاش ، او خطوة في معاد ، اولذة في غير محرَّم ، ج 2 - ص 229

ان لله عباداً يختصهم الله بالنعم لمنافع العباد فيقِّرها في ايديهم ما بذَّلوها ، فاذا منعوها نزعها منهم ثم حولها الى غيرهم. ج 2 - ص 235

اكورة

أن اخسر الناس صفقة و أخيبهم سعياً رجل أخلق بدنه في طلب

ص: 138

ماله و لم تساعده المقادير على ارادته. ج 2- ص 236

الرزق رزقان: طالب و مطلوب، فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها ، و من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها. ج 2 - ص 236

ص: 139

ص: 140

الفهرس

الاهداء ... 3

التمهيد ... 5

المقدمة ... 7

معنى الفلسفة الالهية ... 8

منهج البحث ... 9

الفصل الأول: امكان الرؤية وعدمها ... 12

الرؤية والوجود ... 14

الفصل الثاني: الاستدلال على وجوده تعالى ... 17

ضرورة الايمان بالله ... 17

معنى الايمان ... 21

الاستدلال على وجوده تعالى ... 24

اولا: دليل الفطرة ... 24

ماهية الفطرة ... 26

وجود الفطرة ... 30

الفطرة والغريزة ... 32

ص: 141

ثانياً: دليل الخلق ... 33

الاعتراض الأول ... 34

الاعتراض الثانى ... 35

الاعتراض الثالث ... 40

الفصل الثالث: توحيد الله سبحانه ... 47

المبحث الأول: توحيده في الوجود ... 49

الوحدة اللاعددية ... 50

الاستدلال على الوحدانية ... 52

المبحث الثاني: توحيده في الذات ... 55

المبحث الثالث: توحيده في الصفات ... 57

حقيقة الذات ... 58

الصفات الثبوتية والسلبية ... 59

الفصل الرابع: الصفات الثبوتية والسلبية ... 63

أولاً: الفئة الناهية من الوصف ... 63

صفات الله سبحانه ... 66

صفات الذات ... 67

القدرة ... 67

العلم ... 71

الارادة ... 73

السمع والبصر ... 74

ص: 142

القدم والبقاء ... 76

صفات الافعال ... 85

الرازق ... 85

الخالق ... 86

المتكلم ... 91

الصفات السلبية ... 94

الفصل الخامس: العدل ... 97

التكليف بغير المقدور ... 98

التوفيق للطاعة ... 100

الأجال ... 101

الأرزاق ... 106

الجبر و التفويض ... 113

القول بالجبر ... 113

القول بالتفويض ... 117

القضاء والقدر ... 119

مضاعفات المسألة ... 121

معنى القضاء ... 124

معنى القدر ... 125

القضاء المحتوم والمخروم ... 127

الفهرس الموضوعي لكلمات نهج البلاغة ... 129

ص: 143

صدر عن الدار العالمية للطباعة و النشر

1 - درب السلام الصعب - هنري كيسينجر

2 - الثلاثي العاملي في عصر النهضة - هاني فرحات

3 - الفلسفة الإلهية - علي سليمان اليحفوفي

4 - الخلافة والخلفاء - على سليمان اليحفوفي

5 - عقيدة المؤمن - الشيخ عبد الأمير قبلان

6 - خلق المؤمن - الشيخ عبد الأمير قبلان

ص: 144

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.