المشككون بنهج البلاغة و الرد عليهم

هوية الکتاب

المشككون بنهج البلاغة و الرد عليهم

تأليف

على الفتال

دار المحجة البيضاء

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى

1426 ه_ - 2005م

ص: 1

اشارة

المشككون بنهج البلاغة و الرد عليهم

تأليف

على الفتال

دار المحجة البيضاء

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى

1426 ه_ - 2005م

حارة حريك - شارع الشيخ راغب حرب - قرب نادي السلطان

ص.ب: 547 / 14 - هاتف: 03/287179 - تلفاكس: 01/552847

E-mail:almahajja@terra.net.lb

www.daralmahaja.com

info@daralmahaja.com

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

قديماً قيل: «من ألف وصنّف فقد استُهدِف»

ذلك القول يصدق في كل زمان ومكان.

فالذين يتعاملون مع الفكر و القلم مستهدفون أبداً، لماذا؟

لأنهم:

1- سيطرحون آراء قد لا تتفق مع هذا و ذاك من حملة الأقلام فتبدأ السهام تتراشق فيما بينهم.

2- قد يكون هذا المفكر أو ذاك متفوقاً على بعض أقرانه فيحاول هؤلاء الأقران أن يظهروا فساد قول هذا المتفوق عليهم. غيرة و حسداً أو تقرباً من ذوي السلطة والجاه.

3 - قد يسلط هذا المتفوق الضوء على بعض الظواهر المدانة التي تمس بعض من يمتّون بصلة إلى أصحاب الظواهر المدانة تلك فيحملون معاول الهدم و النيل من هذا المتفوق الذي

ص: 5

ينشد الحق في ما يطرح بهدف قلب الحقائق و تشويهها حتى ولو كانت على حساب المبدأ و العقيدة.

و هكذا كان الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة إذ لمجرد ورود خطبة أو كلام معين لا يتفق مع رأي البعض صاروا يشككون بما جاء في «النهج» هذا.

ولأنهم لا يستطيعون النيل من شخص الإمام علي علیه السلام فقد لجأوا إلى طرق ملتوية و منافقة تظهر غير ما تبطن. وهذه الطرق تناولت نهج البلاغة تناولاً ظاهره الحق و باطنه يجأر بالباطل:

فقد شككوا في جامع النص؛ أهو الشريف الرضي أم الشريف المرتضى ثم راحوا يشككون في عائدية النهج نفسه فمنهم من قال إنه ليس من كلام الإمام علي علیه السلام و منهم من قال إن بعضه للإمام و بعضه من وضع الشريف الرضي و بعضه من وضع ابن أبي الحديد. وهكذا صاروا يتخبطون خبط عشواء وهم يدركون إن ما في نهج البلاغة كله للإمام علي ولكن ما الحيلة وقد وردت فيه خطبة تمس بعض من التفّوا على مبدأ الحق فحرفوه عن جادته التي رسمها لهم صاحب الدعوة الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم وهؤلاء يسيرون في خط أولئك المحرفين.

فهم قالوا إن في «النهج» «غثاثة» لا يمكن أن يكون هذا الكلام للإمام علي علیه السلام و هو من «سن الفصاحة لقريش».

إنها كلمة حق يراد بها باطل.

وقالوا إن في النهج تعريض بالصحابة وعلي علیه السلام بريء من

ص: 6

كلام يتعرض بالصحابة. إذن فالنهج لا يمكن أن يكون بزعمهم كله من كلام علي علیه السلام.

و مما قالوا أيضاً إن «الوصي» أو «الوصية» كمصطلح لم تكن معروفة في زمن الإمام علي علیه السلام فهي عرفت في عصور لاحقة. ثم إن الإطناب و الإيجاز - في رأيهم - لم يكن معروفاً إلاّ في عصور متأخرة كالعصر العباسي.

و قل مثل ذلك عن السجع الذي زعموا أنه ما كان له أثر في زمن الإمام علیه السلام لذلك قرروا أن الكلام المسجوع هو من وضع شخص أو أشخاص عاشوا في عصور لاحقة بعد عصر الإمام.

أما دقة وصف الطاووس و النحلة و الجرادة والخفاش فقد استبعدوا أن يكون هذا الوصف الدقيق للإمام علي علیه السلام لأنه لم يكن معروفاً في زمانه علیه السلام.

و هكذا صاروا يفتشون في مفردات نهج البلاغة ليجدوا ما يعينهم على إبعاد نسبة «النهج» إلى الإمام علیه السلام، و كلما «اكتشفوا» واحدة من تلك اللقى فرحوا بها وصاروا يفتشون عن «لقية» أخرى تعينهم على منهجهم العلمي هذا!! فالألفاظ الاصطلاحية التي وردت في النهج لا يمكن أن تكون من كلام علي علیه السلام لأنها من كلام «فلاسفة» متأخرين عن عصر الإمام علیه السلام بقرون. و كذلك التقسيمات العددية التي وردت في النهج لا يمكن أن تكون - حسب زعمهم - للإمام علي علیه السلام لأنها غير معروفة في زمانه أيضا.

أما التنبؤات و التوقعات فهي موضوعة ومنسوبة إليه علیه السلام.

ص: 7

وهكذا عابوا عليه الزهد في الحياة.

كما أنكروا الوصف الدقيق للحياة الاجتماعية في زمان الإمام علیه السلام و قالوا إن الذي ورد في النهج لم يكن من قول الإمام نفسه لما فيه من مصطلحات هي بعيدة عن عصره علیه السلام.

و نحن في هذا الكتاب حاولنا أن نسلط الضوء على ما أوردنا من أقوال المشككين و نناقشها و نرد عليها بمنهج علمي معتمدين الحقائق التاريخية و المنطقية التي لا تقبل الطعن و الرد. و قد توخينا بعملنا هذا مرضاة الله جل في علاه و إعادة الحق إلى أصحابه و تبصير من زاغوا عن طريق الحق إما جهلاً منهم أو عناداً. بهدف أن يعودوا إلى جادة الصواب فيتخذوا من شخصية الإمام علیه السلام مثلهم الأعلى في مناصرة الحق و محاربة الباطل و بذلك نكون كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضنا بعضاً فنقف بوجه من يحاولون جاهدين حرفنا عن الدين الذي جاء به الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم من الله تعالى ليخرجنا من الظلام إلى النور -كمقدمة - للقضاء على هذا الدين الحنيف الذي وجدوا فيه النور الذي تعشو منه أبصارهم. عسى أن نكون ممن ساهموا في وضع الحقائق في نصابها فإن استطعنا فمن الله التوفيق و إن أخفقنا فنسأله جل شأنه أن يغفر لنا و أن يسدد خطانا لما فيه نصرة ديننا الذي ارتضاه لنا إنه هو القدير المكين ومنه نستمد العون و التمكين.

علي الفتال

2002/10/5

ص: 8

المبحث الأول: المشككون بنهج البلاغة

إذا ما رجعنا إلى سيرة الشريف الرضي سنعرف أنه هو الذي جمع مفردات «النهج» و ذلك في 400ه_ ولكن ثمة من نسب جمع النهج إلى الشريف المرتضى أخي الرضي، من هولاء جورجي زيدان (1) إذ قال و الصحيح إنه من جمع الشريف المرتضى، وكذا قال بروكلمان (2)، أما شوقي ضيف فقد قال في كتابه (تاريخ الأدب العربي - العصر العباسي / 128: «إن اعتراف الشريف الرضي بجمعه النهج دليل على وضعه إياه، وبذلك قد خلط بين الوضع و الجمع».

في الحقيقة إن تلك الأقوال لا تريد التشكيك في من جمع (النهج) بقدر ما تريد التضبيب حول عائدية النهج أصلاً، إلى الإمام علي علیه السلام، و ذلك للتقليل من شأنه وشأن أمير المؤمنين علیه السلام.

والمسألة قديمة؛ إذ أن خصومه علیه السلام، منذ بزوغ نجمه -

ص: 9


1- تاريخ آداب اللغة العربية 181/1 و 288/2
2- تاريخ الأدب العربي 64/2

سواء في الغزوات و الحروب في بدء الدعوة الإسلامية وفي تقريب النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم إياه قولاً وعملاً - أخذوا ينالون منه بوسائل شتى - إن ظاهرة أو مبطنة، و يرجع تاريخ تلك الخصومة و العداء إلى یوم غدير خم، الذي رفع الرسول الكريم فيه علياً و قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادٍ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» أو قبل ذلك يوم زوّجه ابنته فاطمة الزهراء و من خلال أحاديثه صلی الله علیه و آله و سلم الكثيرة في حق الإمام علیه السلام كقوله صلی الله علیه و آله و سلم و هو يخاطبه «يا علي ... حبك إيمان وبغضك نفاق؛ وأول من يدخل الجنة محبك، وأول من يدخل النار مبغضك».

وقد أحسّ خصوم الإمام بأنه سيكون له شأن في البنيتين الفوقية و التحتية للهيكلية الإسلامية فصاروا ينالون منه بطرق خبيثة، حتى في زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أو بعده، ففي زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم نذكر الرواية التي تقول؛ إن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم له بعث علياً علیه السلام في سريّة ليقبض الخمس فاصطفى منه سبيّة؛ واتفق أربعة من شهود السرية أن يبلغوا ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم متعاقبين واحداً بعد واحد في قول واحد فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد تغيّر وجهه فقال ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن

ومؤمنة.

وقال لأحدهم: أتبغض علياً؟ قال:

- نعم.

قال صلی الله علیه و آله و سلم:

ص: 10

- لا تبغضه فإن له الخمس أكثر من ذلك أي أكثر من السبية التي اصطفاها ... لا تبغضه و إن كنت تحبه فازدد له حباً.

و الرواية التي تقول: إنه صلی الله علیه و آله و سلم و بعث الإمام علياً علیه السلام إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن أتباعه أن يركبهم إبل الصدقة ليريحوا إبلهم فأبى فشكوه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعد رجوعهم، و تولى شكايته سعد بن مالك الشهيد فقال:

- یا رسول الله لقينا من علي الغلظة و سوء الصحبة والتضييق ... و مضى يعدد ما لقيه حتى ضاق به الرسول ذرعاً فهتف به، وهو في أثناء كلامه:

- يا سعد بن مالك الشهيد بعض قولك لأخيك علي فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله.

وفي رواية أخرى قال صلی الله علیه و آله و سلم للشاكين من الإمام علي علیه السلام:

- أيها الناس لا تشكو علياً إنه لجيش في ذات الله.

و الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كان يعلم أن ثمة من يضمر العداوة و البغضاء للإمام علي علیه السلام حسداً له من قربه من ابن عمّه صلی الله علیه و آله و سلم فكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يؤكد - كما يقول إبن عباس - لهم منزلته العالية في الدنيا و الآخرة في قوله:

- أنت سعيد في الدنيا و سعيد في الآخرة من أحبّك فقد أحبّني، و حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله طوبى لمن أحبّك و الويل لمن أبغضك.

و بعد زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم صاروا يقلبون الحقائق و يحوِّرون الكلم

ص: 11

بما يقلِّل من شأن الإمام علي علیه السلام؛ فقد روى البخاري أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجده (أي عليا علیه السلام ) في المسجد نائماً و قد ترب جنبه فجعل يمسح التراب عن جنبه ويقول:

- قم يا أبا تراب.

ويرى العلامة محمد صادق الصدر إن كلمة (أبو تراب) كناية عن كثرة عبادته و صلواته لأن المسلمين في السابق كانوا يسجدون على التراب، و كان الإمام علي علیه السلام معفَّر الجبين لكثرة ما يسجد. فقوله: (قم يا أبا تراب) على حد قوله: (قم يا كثير العبادة).

و قد كانت هذه الكنية من احب الكنى إليه صلی الله علیه و آله و سلم إذ كان كثيراً ما يدعوه بها.

و لكن معاوية بن أبي سفيان ومن حوله أحسّوا برفعة هذه الكنية و ميزة،صاحبها، فأخذوا يموِّهون على الناس بأن سبّوه بها على المنابر مظهرين أنها منقصة له (1).

كانت تلك البداية؛ إذ بدأوا بشخص الإمام علیه السلام فنالوا منه ما يشاؤون ليأتوا إلى معطياته الجهادية و الأخلاقية والفكرية والإبداعية فيحطّوا من قدرها ويقللوا من شأنها، فلا غرابة - إذن - إذا ما قرأنا هنا وهناك و في هذا العصر أو ذاك، تشكيكاً في عائدية «النهج» إلى الإمام علي علیه السلام أو الطعن في بعضه بطريقة مبطّنة كتبطين كلمة الحق يراد بها الباطل. فظهرت الأصوات

ص: 12


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 4/1

صريحة مرة و مبطَّنة أخرى وخفيّة تارة و صارخة حيناً؛ ف محمود محمد شاكر يرى إن نهج البلاغة موضوع و ملفّق على الإمام علي علیه السلام «لأنه كلام كثير عثاثة» (1).

تلك غمزة لم يكن محمود محمد شاكر وحده قد غمز بها «النهج» و صاحبه، فقد شاركه بها - و بطريقة أكثر ضلالاً - الدكتور شفيع السيد. فكتب يقول (2):

« ... فضلاً عما اشتهر به الإمام من بلاغة القول و رصانة العبارة، على نحو لا تستبعد معه نسبة تلك النصوص إليه من حيث تركيبها اللغوي و تشكيلها البياني.»

لا شك أن القارىء الكريم قد لفتت نظره عبارة لا تستبعد نسبة تلك النصوص إليه ... إذن فهو يشكك بنسبتها إليه علیه السلام و لكنه لا يستبعد ذلك ليس هذا فحسب بل إنه يذهب إلى غمزة أخرى للنيل من النهج و صاحبه إذ يقول الدكتور شفيع السيد عن الشيعة:

إن بعضاً منهم غالى في تقديره له (أي للإمام علي علیه السلام ) حتى رفعه إلى مستوى من اصطفاهم الله بالوحي، و من هؤلاء الرضي نفسه في مقدمته للكتاب، فقد علل سبقه - رضي الله عنه - في مضمار البيان و تفوقه على كل من عداه من الخطباء و البلغاء؛ بأن كلامه صلی الله علیه و آله و سلم الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه

ص: 13


1- مجلة الكاتب المصرية العدد 170 مايو 1975م/ 30 - 31
2- مجلة الهلال العدد /12 السنة 1983/ 95

عبقة من الكلام النبوي (1). وعدَّ ذلك غلواً من الشيعة. و قد نسي الدكتور شفيع السيد و غيره ممن هم على شاكلته في نمط التفكير؛ أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم نفسه كان يقول: إن النظر إلى وجه علي عبادة - و قد نقلنا ذلك في مبحث فائت من هذا الجزء - و نسي - هو و غيره - قول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لعبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن أنتم أصحابي و علي بن أبي طالب مني و أنا من علي فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، و من آذاني فعليه لعنة ربي يا عبد الرحمن إن الله أنزل عليَّ كتاباً مبيناً و أمرني أن أبيّن للناس ما أُنزل إليهم ما خلا علي بن ابي طالب فإنه لم يحتج إلى بيان لأن الله تعالى جعل فصاحته و درايته كدرايتي.

لا أدري ماذا يقول «السيد» و غيره في «ما خلا» و في «لم يحتج إلى بيان» وفي درايته كد رايتي؟ فأيهما «غالي» أكثر الشيعة - و منهم الرضي في مسحته و عبقته - أم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في ما نقلنا؟

إن قليلاً من التأمل و قليلاً من الركون إلى الحق و قليلاً من الخروج إلى دائرة الضوء تجعلهم يقولون الحق و ينظرون إلى الأشياء بمنظار الحق و الإنصاف فلا يغمزون و لا يلمزون إن علي ابن أبي طالب عربي و إنه إبن عم الرسول وكاتب وحيه و ربيب بيته و رفيقه في حله و ترحاله أكثير على كلامه أن تكون فيه مسحة العلم الإلهي وعبقة من الكلام النبوي؟ ألا يدعو ذلك إلى الفخر أن عربياً و مسلماً و قريباً من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يحمل إلينا هذا المعطى

ص: 14


1- المصدر السابق نفسه /95

العظيم والفكر الخلّاق في بلاغة وفصاحة ومنهج علمي ثابت وينبري عربي آخر بل ومسلم؛ ومن البيت نفسه إلى جمع هذا المعطى في كتاب أسماه نهج البلاغة أليس ذلك مما یجب ان نفخر به؟ لا أدري لم هذا التشكيك؟ هل لأنه يحمل إسم الإمام علي علیه السلام؟ أم لأنه حظي بما لم يحظ به أي كتاب قبله و بعده من اهتمام المؤلفين و الشراح؟

و قد بلغت شروحه (75) شرحاً بقول الأميني في غديره (1) و (101) شرحاً بقول الشيخ عبد الزهراء الخطيب الحسيني (2) و لم تقتصر الشروح تلك على الشيعة بل كان معظمهم من غير الشيعة. و ليس كما ذهب الدكتور شفيع السيد إلى القول إن معظم شراح نهج البلاغة هم من الشيعة. (3)

لنترك قول الشريف الرضي و لنقرأ قول الشيخ محمد عبده الذي هو ليس شيعياً ولا من أهل البيت، إذ يقول: وليس في أهل هذه اللغة إلّا قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام و أبلغه بعد كلام الله و كلام نبيه و أغزره مادة و أرفعه اسلوباً و أجمعه لجلائل المعاني.(4)

أما الدكتور زكي نجيب محمود وهو مثل الشيخ محمد عبده في المذهب يقول:

ص: 15


1- الغدير 164/4 - 169
2- مصادر نهج البلاغة و أسانيده. لعبد الزهراء الخطيب 248/1 و 313
3- مجلة الهلال العدد 12/ 96/1983
4- من مقدمة نهج البلاغة شرح محمد عبده 5/1

ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970 - 1016 م) و أطلق عليها (نهج البلاغة) لنقف ذاهلين امام روعة العبارة و عمق المعنى فإذا حاولنا ان نصنف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها؛ وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسة ثلاثة هي نفسها الموضوعات الرئيسة التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم و حديثهم على السواء ألا و هي: الله والعالم والإنسان.

إذن فالرجل - و إن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، و إن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم ان يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ و نتائجه و أما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه و ظروفه (1)

في الحقيقة إن بذرة التشكيك بذرها إبن خلكان إذ قال عن نهج البلاغة: إنه ليس من كلام علي و إنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه (2).

و أيده في ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات (3)، و اليافعي في مرآة الجنان (4)، و إبن حجر في لسان الميزان (5)

يبدو أن بذرة إبن خلكان قد نمت وصارت شجرة ولكنها

ص: 16


1- المعقول و اللامعقول في التراث العربي/ 30
2- وفيات الأعيان لابن خلكان 3/2
3- المصدر السابق نفسه 375/2
4- المصدر السابق نفسه 55/3
5- المصدر السابق نفسه 223/4

شائكة فتفيأ في ظلالها بعض كتابنا الذين عز عليهم أن يكون علي ابن أبي طالب علیه السلام هو قائل كلام نهج البلاغة، فصاروا يرددون أقوال إبن خلكان و غيره ممن تابعوه من القدماء؛ فجرجي زيدان يقول: إنا كنا نرى أن كثيراً من تلك الخطب ليس لعلي بدليل اختلاف الاسلوب و مخالفة ما فيها من المعاني لعصره (1)

و ظل شوقي ضيف يتأرجح في كلامه يبدو أن النهج قد دوَّخه فراح يخبط خبط عشواء؛ فمرة يقول: إن علياً قد خلف خطباً كثيرة واخرى يقول: إن - النهج - من وضع الشريف الرضي و لكي يعزز قوله هذا و يدعمه يقول: إن الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي.

أية حزّورة هذه التي «حزرها» شوقي ضيف؟

أما محمود محمد شاكر فقد قال: و هو يرد على قول الدكتور زكي نجيب محمود لننظر كم اجتمع في هذا الرجل (يعني الإمام علي علیه السلام ) من أدب وحكمة و فروسية و سياسة قال محمود محمد شاكر: ألم يكن أسلم له في طريقه و يريد الدكتور زكي نجيب محمود أن يسأل وأن يحاول أن يفكر على الأقل حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي رضي الله عنه؟ إنه إذا بطل ان يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى علي كان استخراج صورة علي منه ضرباً من العبث (2).

ص: 17


1- تاریخ آداب اللغة العربية 2/ 288
2- مجلة الكاتب العدد 170، 15 مايو 1975/ 30

و لكن محمود محمد شاكر هذا لم يكتفِ بما قال إذ أراد أن يؤكد شيئاً آخر في نفسه ظل يتغرغر به زمناً طويلاً فقال: «إن النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام تقطع بأن

كثرته الكاثرة لم تجرِ على لسان علي رضي الله عنه إلا أقل من العشر ... (1).

و هنا سيتنفس محمود محمد شاكر الصعداء بعد أن يؤكد إن إبن سلام عندما شرح غريب ما في النهج لم يكن فيه من كلام علي علیه السلام الربع من حديث عمر (2).

و هنا خرجت الغرغرة و ارتاح الرجل لهذه المقارنة التي جهد لها في مقاله ف_ ربع حديث عمر هي ركيزة المقال و مقصوده.

و على غرار بعض الكتاب الذين يوردون جملة الأمور، و لما لم يكن في حوزتهم شيء آخر يقولونه ختموا ذلك التعداد بقولهم: و غيرها و غيرها أو «وما إلى ذلك» أو الخ .... و هكذا فعل محمود محمد شاكر و هو يحاول جاهداً تأكيد بطلان كون ما في النهج ل_ علي بن أبي طالب علیه السلام فقال: و هناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين (3) لأنه عجز أن يورد أدلة أخرى كأنه أدرك أن ما أورده من الأدلة لم تقم حجة على بطلان نسبة ما في النهج إلى الإمام بل قامت دليلاً على بطلان كلامه هو، وأعني كلام محمود

ص: 18


1- المصدر السابق نفسه / 30
2- المصدر السابق نفسه / 31
3- المصدر السابق نفسه / 31

محمد شاكر، و لأنه أدرك ذلك أراد أن يستغفر لنفسه و يكفر عنها هذا الخطأ في المنهج العلمي في تناول موضوعات كهذه أسرع إلى القول، و لكنه قول مبطن أيضاً فقال: فكتاب كهذا الكتاب، يدل صريح العقل و النظر و صريح النقل والتثبت على أنه کتاب قريب النسب ...» (1)

و ممن يعني هذا القرب بالنسب؟ هل من الإمام علي علیه السلام أم من الشريف الرضي رحمه الله؟.

هكذا غلَّف قوله ليموِّه على القارىء في نظره. و مع فإنه يؤكد أنه كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه دون أن يفحصه و يتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة - و قد كتب أكثره بعد دهور متطاولة - ممثلاً لعلي بن ابي طالب و ممثلاً للقرن الأول من الهجرة (2).

سامحك الله يا رجل ...! إنك أردت ان تُعرف بين الناس ك_ كاتب و باحث و «أديب» و محقق فشهرت سيفك هذا ولكنه كان سيفاً نابياً فصرت كالبائل في بئر زمزم ... ونحن نقول لك:

ما هكذا تورد - يا سعد - الإبل.

إذ إنك أردت أن تتواصل مع إبن خلكان في تشكيكه بصحة نسبة النهج إلى الإمام علي علیه السلام و لكنك، و ابن خلكان و غيركما علي كثير، ركبتم افراساً كبت و شهرتم سيوفاً،نبت فبقيتم في

ص: 19


1- المصدر السابق نفسه / 31
2- المصدر السابق نفسه / 31

صحرائكم تلهثون و ماء زمزم تنشدون حتى فيض الله لكم من يرشدكم أن بئر زمزم لا يجعل من أيِّ منكم رسولاً كمحمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم و لكنكم بقيتم تغطون وجوهكم بغربال لئلّا ترون شمس الحقيقة، و إلّا ماذا يعني قول الدكتور شفيع السيد إن نسبة الشريف الرضي - جامع الكتاب - إلى البيت العلوي ... يمكن أن تكون مدعاة للشك و دافعاً إلى الإتهام بالتحيز و التعصب ... و قد قال عنه بعض واصفيه: كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ ... و كان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي رضي الله عنه في جزالة الألفاظ و متانة السبك (1)

إن الدكتور شفيع السيد مثل «ربعه» يغالط نفسه بل يدينها من فمه، كيف؟

إذا كان يعترف أن الشريف الرضي «شاعر مفلق» و«فصيح النظم» و «ضخم الألفاظ» و كاتب بليغ و متين العبارة فماذا يمنعه أن ينسب ما في النهج إلى نفسه ليحلق بشهرته في سماء الأدب و الفكر أكثر؟ نحن نعرف و الدكتور يعرف أن ثمة من ينشدون الشهرة يسطون على هذا العمل الإبداعي أو ذاك لينسبوه إليهم لأنهم قاصرون أن يأتوا بمثله. و نحن قد اعترفنا بعدم قصور الشريف الرضي، بل و تمكنه من ادواته فما الداعي أن ينسب كلاماً لنفسه وهو لغيره؟ هذه أول إدانة للدكتور الفاضل ...! و ثاني إدانة أنه اعترف أن كلام الإمام علي علیه السلام يتسم ب_ «جزالة اللفظ

ص: 20


1- مجلة الهلال العدد 12 السنة 1983 / 95 - 96

ومتانة السبك»، إذن، إذا كان ما جاء به الشريف الرضي جزل اللفظ ومتين السبك فما يمنع أن يكون للإمام علي علیه السلام؟ بل أليس الأقرب والأكثر معقولية أن يكون له من أن يكون للرضي رحمه الله؟ سيما ونحن نعرف مكانة الإمام علي علیه السلام الفكرية والأدبية، وقد مر بنا شيء منها كثير لا يقبل الطعن.

ولكنه بئر زمزم ...! يا له من بئر مغرٍ قصاده الواهمين ...! الحاملين على أكتافهم مقولة: «خالف تُعرف».

لعلهم وجدوا خيطاً هنا و خيطاً هناك فشدوا أنفسهم بهما حتى و إن كانا من خيوط العنكبوت ليتأرجحوا فيراهم الناس وبذلك يحققون الشهرة التي يريدون والمجد الذي ينشدون. وكان أحد الخيوط العنكبوتية ما ذكره ابن أبي الحديد و هو يختم شرح نهج البلاغة بكلمات حكيمة قصار إذ قال: ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه أي (الإمام علي علیه السلام ) فبعضه مشهور عنه و بعضه ليس بذلك المشهور ولكنه قد روي عنه و عزي إليه، و بعضه من كلام غيره من الحكماء لكنه كالنظير لكلامه و المضارع لحكمته ولما كان ذلك متضمناً فنوناً من الحكمة نافعة رأينا أن لا نخلي هذا الكتاب منه لأنه كالتكملة والتتمة لكتاب نهج البلاغة، وربما وقع في بعضه تكرار يسير شذ عن أذهاننا التنبه له لطول الكتاب وتباعد أطرافه، و قد عددنا ذلك كلمة كلمة فوجدناها ألف كلمة (1). فراحوا يشككون بالنهج كله فيدّعون بأنه ليس من كلام الإمام علي علیه السلام.

ص: 21


1- شرح النهج 420/4

و بذلك حاكوا ابن خلكان الذي بذر بذرة التشكيك الأُولى - كما ذكرنا - إذ قال في وفيات الأعيان 3/3: «و قد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي رضي الله عنه، هل جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ و قد قيل إنه ليس من كلام علي، و إنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه».

كما حاكى - من قبل - كل من الصفدي في الوافي بالوفيات و اليافعي في مرآة الجنان و ابن حجر في لسان الميزان و غير أولئك من القدامى و المحدثين منهم الذهبي في ميزان الاعتدال 101/15 في ترجمة الشريف الرضي: إنه هو المتهم بوضع نهج البلاغة، ثم قال: و من طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصريح، و الحط على السيدين أبي بكر وعمر ... الخ.

و منهم محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته الشرح النهج إذ يقول:

إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي.

و أنكر آخرون أن يكون النهج للإمام علي علیه السلام بسبب ما فيه من ذكر الوصي والوصاية (1)، أو طول بعض الخطب و الكتب كالقاصعة و الأشباح، و عهد مالك بما لم يك مألوفاً في صدر الإسلام (2).

ص: 22


1- أثر التشيع في الأدب العربي 66
2- المصدر السابق نفسه / 56 و الإمام علي لأحمد زكي صفوة /131

والسجع قام دليلاً آخر - عندهم - على عدم نسبته إلى الإمام علیه السلام إذ لم يعهده عصر الإمام و لا عرفه، وإنما طرأ ذلك على العربية بعد العصر الجاهلي و صدر الإسلام و افتتن به أُدباء العصر العباسي و الشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم و طريقتهم.(1)

ليس ذلك فحسب بل الوصف و دقته دليلهم الآخر على ذلك الإكتشاف الذرّي إذ أن فيه استفراغ صفات الموصوف، و أحكام الفكرة، و بلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش و الطاووس، و النملة و الجرادة وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأول، ولا أدباؤه ولا شعراؤه وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان و الفرس الأدبية و الحكمية، ويدخل في هذا استعمال الألفاظ الإصطلاحية التي عرفت في علوم الحكمة من بعد كالأين و الكيف و نحوهما، و كذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل و في تقسيم الفضائل أو الرذائل مثل قوله (و يعني الإمام علي علیه السلام ): الاستغفار على ستة معانٍ» و «الإيمان على أربع دعائم» و «الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر منها على أربع شعب» (2). و علم الغيب كان ركيزتهم الأخرى في هذا الاكتشاف، لأنهم وجدوا في الكتاب ما يُشَم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب و هذا أمر يجل عن مثله مقام علي و من كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسالة، و رأى نور النبوة (3).

ص: 23


1- مقدمة محمد محيي الدين عبد الحميد لشرح النهج
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه

ثم ماذا بعد هذا؟ هل انتهى ما في جعبتهم من «أدلة ...!»؟

كلا، فهم أخذوا عليه ما فيه من الحث على الزهد وذكر الموت، وقرض الدنيا على منهاج المسيح علیه السلام (1) و وصف الحياة الاجتماعية على نحو لم يُعرف إلا في عصور متأخرة، ترى في هذه الخُطب طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق وفي الذمم والضمائر، واصفاً القضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة (2).

ثم إن بعض ما رُوي عن علي في نهج البلاغة عن غيره في غيره، كقوله:

كان لي فيما مضى أخٌ عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيه و هذا مرويّ عن ابن المقفع. و كقوله: «الدنيا دار مجاز ... يُروى لسحبان وائل (3)

وأخيراً: «خلو الكتب الأدبية من كثير مما في (نهج البلاغة )» (4).

ص: 24


1- أنظر التشيع في الأدب العربي/ 60 - 61
2- المصدر السابق نفسه 66
3- ترجمة علي بن أبي طالب - أحمد زكي..صفوة
4- المصدر السابق نفسه 122

المبحث الثاني: الرد على المشككين بنهج البلاغة

اشارة

تلك كانت أهم اكتشافات المشككين في نسبة ما في (نهج البلاغة) إلى الإمام علي علیه السلام فهل نتركهم ينعمون بما توصلوا إليه!؟ ونحن نعرف أنهم وارثوا تطلع ...! صاحب بئر زمزم ...! (رحمه الله) فقد كان يريد أن يُعرف ويُشار إليه بالبنان ... كما عُرف محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم وأشير إليه بالبنان فكان له ما أراد ...! ولكن شتان بين ما عُرف به الرسول العظيم ومحمد صلی الله علیه و آله و سلم و ما أشير إليه بالبنان وما عُرف به صاحب بئر زمزم ...! و ما أشير إليه بالبنان ...!

إذ أينما كان يولّي وجهه يُشار إليه بقولهم: «هذا الذي بال في بئر زمزم ... جاء ... ذهب ... قام ... قعد ... الخ فذكره التاريخ واشتهر ...! حتى جاء أحفاده فأرادوا السير على منهجه فلم يجدوا بئر زمزم وعصر بئر زمزم وأهمية بئر زمزم لقوافل العرب، فلجأوا إلى نهج البلاغة فأدلوا فيه بآرائهم تلك فكان لهم ما أرادوا من الشهرة ... والصيت ... وإنهم كانوا فرسان حلبتهم في التشكيك

ص: 25

بأقوال الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام، و بذلك تواصلوا مع صاحب بئر زمزم و ابن خلكان أقول: هل نتركهم و «اكتشافاتهم» ... تلك؟

بالتأكيد لا ... لذلك سنرد عليهم بما يرضي الله جل و علا وما يرضي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وما يرضي العقيدة و المبدأ وما يرضي الضمير وما يرضي المنهج العلمي في مقارعة الحجة بالحجة مستعينين بالله الواحد الأحد و ما توفر لدينا من مصادر في هذا المجال.

1 - جامع النهج:

قال الشريف الرضي، في كتابه «المجازات النبوية» ص 40 عندما ذكر حديث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ (1) ذو حظ من صلاة قال ويبين ذلك قول أمير المؤمنين علیه السلام في كلام له «تخففوا تلحقوا» وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم نهج البلاغة الذي أوردنا فيه مختار جميع کلامه صلى الله عليه و على الطاهرين من أولاده.

و في كلامه على الحديث: أسر عكن لحاقاً بي أطولكن يداً قال:

و مثل ذلك قول أمير المؤمنين علیه السلام: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة.

ص: 26


1- الحاذ بالحاء المهملة و الذال المعجمة و هو قول بعضهم طريقة المتن من الإنسان و ما وقع عليه من اللبد من ظهر الفرس

وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب_ نهج البلاغة (1) و كلامه على الاستعارة في قوله صلی الله علیه و آله و سلم في خطبة له: ألا و إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة و إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة قال:

و يُروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، و قد أوردناه في كتابنا الموسوم ب_ نهج البلاغة و هو المشتمل علی مختار كلامه علیه السلام في جميع المعاني و الأغراض و الأجناس والأعراض (2).

وحول قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «ما نزل من القرآن آية إلا و لها ظهرٌ و بطنٌ، و لكل حرف حد و لكل حد مقطع». قال: «المراد إن القرآن يتقلب وجوهاً و يحتمل من التأويلات ضروباً كما وصفه أمير المؤمنين عليا علیه السلام في كلام له فقال: القرآن حمّال ذو وجوه ... و قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم ب_ نهج البلاغة.

و عن قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «القلوب أوعية بعضها أوعى من بعضها» قال:

و ربما نُسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين على خلاف في لفظه فقد ذكرناه في جملة كلامه لكميل بن زياد النخعي في كتاب نهج البلاغة (3).

إضافة إلى ذلك فإن الرضي كان يذكر المجازات النبوية

ص: 27


1- المجازات النبوية 60
2- المصدر السابق نفسه 152
3- المصدر السابق نفسه 188

أثناء شرحه النهج كقوله صلی الله علیه و آله و سلم: «العين: وكاء له» (1). فقال الرضي: و هذا من الاستعارات العجيبة ... و قد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم ب_«مجازات الآثار النبوية» ... و من الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي علیه السلام، و قد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرد في كتاب المقتضب في باب اللفظ بالحروف، و في الأظهر الأشهر إنه للنبي عليه الصلاة و السلام.

فعلى ماذا تدل عبارة و في الأظهر الأشهر ألا تدل على أمانة تاريخية في نقل النصوص و التثبت من صحة نسبتها؟ إذ لو كان النهج من وضع الرضي لما احتاج إلى أن يحتاط هذا الاحتياط فيرفع كلاماً ظهر له أنه ليس للإمام علي علیه السلام بل هو للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، تلك واحدة.

و في كتابه رحمه الله الموسوم ب_ في حقائق التأويل و الذي طُبع منه الجزء الخامس فقط يقول الرضي في ص 167: و إني لأقول أبداً: لو كان كلامه يلحق بغباره، أو يجري في مضماره بعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لكان ذلك كلام أمير المؤمنين علیه السلام، إذ كان متفرداً في الفصاحة لا تزاحمه عليه المناكب، ولا يلحق بعقوه الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه فلينعم النظر في كتابنا الذي ألّفناه و وسمناه ب_ «نهج البلاغة»، و يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، في جميع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع من خطب وكتب، ومواعظ وحكم .... وتلك ثانية.

ص: 28


1- المصدر السابق نفسه 284

و الثالثة؛ قال الرضي رحمه الله في جانب من نهج البلاغة:

فإني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة علیهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم، و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب و جعلته أمام الكلام و لما فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً صلوات الله عليه، و عاقت عن إتمام الكتاب محاجزات الأيام و مماطلات الزمان و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبواباً، و فصلته فصولاً فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه و متعجبين من نواصعه وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه و متشعبات غصونه من خطب و كتب ومواعظ وأدب (1).

و قوله و هو يذكر قول الإمام علي علیه السلام: «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة، وأنفع نطفتها من حكمة، وقد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها (2). تلك الثلاث تدل بما لا يقبل الطعن أن الشريف الرضي هو جامع «نهج

ص: 29


1- شرح النهج 263/2
2- المصدر السابق نفسه 44/1

البلاغة و ليس المرتضى رحمه الله ومن يرى غير ذلك - بعد تلك التصريحات من الشريف الرضي - فهو: سفه الرأي و إصرار على الخطأ ... فالرضي روى ما رأى و أورد ما ورد ... (1).

2- الغثاثة

مررنا بكلام لمحمود شاكر تجنى فيه على الإمام علي علیه السلام فقال إن في كلامه - في النهج - كثيراً من (الغثاثة) و كان في طرحه هذا (الاكتشاف) مفتقراً إلى الحجة المنطقية المقنعة، لذلك فإننا سنسلك معه طرقاً علمية و منهجية لعله يستنير بها هو و غيره، مما أرهقت أبصارهم و بصائرهم ظلمة الطريق التي سلكوها و الدرب الذي اختاروه لأنفسهم.

يقول الشريف الرضي في مقدمة نهج البلاغة: كان أمير المؤمنين علي مشرّع الفصاحة ومورِّدها، و منشىء البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخِذَت قوانينها، وعلى أمثلته أخذ كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلک فقد سبق وقصّروا وتقدّم وتأخروا؛ لأن كلامه علیه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي و فيه عبقة من الكلام ... النبوي وهو البحر الذي لا يساجل و الجم الذي لا يُحافَل (2).

أما الشيخ محمد عبده فقد قال في مقدمة شرحه نهج

ص: 30


1- المصدر السابق نفسه 49/1. وانظر خصائص الأئمة/ 187، الذي ألفه الرضي سنة 383ه_.
2- نهج البلاغة 65/20

البلاغة: «فقد أوفى لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب نهج البلاغة مصادفةً بلا تعمد أحببته على تغير حال وتبلبل بال و تزاحم أشغال، وعطلة من أعمال فحسبته تسلية وحيلة للتخلية فتصفّحت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات، و موضوعات متفرقات، فكان يُخَيل إليَّ في كل مقام أن حروباً شبت و غارات شُنّت و أنّ للبلاغة دولة، و للفصاحة صولة ... وأن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح الأبلج، و القويم الأملج ... وإن مدبّر تلك الدولة و باسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حُلَل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية و تدنو من القلوب الصافية ... و أحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فُصِل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاثيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، و نما به إلى مشهد النور الأجلى، و سكن به إلى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس (1).

وهذا عبد الحميد الكاتب يقول: حفظت سبعين خطبة من خطبه (أي من خطب الإمام العالمي ) ففاضت ثم فاضت.

ص: 31


1- مناقب آل أبي طالب 7/2

ولما سُئل ما الذي خرّجه في البلاغة؟ قال: «خطب الأصلع (1).

ومثل ذلك قال ابن نباتة المصري: حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلا سعة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.

أما الشريف المرتضى فقد روى إن الحسن البصري كان بارع الفصاحة بليغ المواضع كثير العلم و جميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أو جلّه مأخوذ لفظاً و معنى أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فهو القدوة والغاية» (2)

و كان ابن المقفع يقول عن خطب الإمام علي علیه السلام: شربت من الخطب رياً و لم أضبط لها روياً، ففاضت ثم فاضت فلا هي نظاماً، وليس غيرها كلاماً» (3).

أما الأستاذ أحمد محمد الحوفي فقد أوجز لنا في كتابه بلاغة الإمام علي صفات تعبيرات الإمام علي علیه السلام فقال:

1 - تخير المفردات بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس مطابقة للعاطفة التي أزجتها و الفكرة التي

ص: 32


1- العقد الفريد 357/2
2- شرح ابن هيثم ج 1
3- انظر: إتقان المقال 192، أسد الغابة 42/2 الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 567

أملتها. و يورد أمثلة على ذلك مثل قوله في كتاب إلى عماله على الخراج:

إنكم خزان الرعية، و وكلاء الأمة، وسفراء الأئمة». و قوله لمعاوية:

لست بأمضى على الشك مني على اليقين». و قوله: «كلما أطل عليكم منسر ... أغلق كل رجل بابه و انجحر انجحار الضبة في جحرها و الضبع في وجارها».

وقوله: «من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه». وقوله: «إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم.

2 - قوة التعبير: ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله تعبيراً عن عواطفه و أفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها ومن الأمثلة والنماذج قوله:

«والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي عليَّ يومي». وقوله:

ألا و إني لم أرَ كالجنة نام طالبها و لا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى

ص: 33

يجرُّ به الضلال، ألا و إنكم قد أمرتم بالظعن و دللتم على الزاد و إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل».

و قال في خطبة يخوّف بها أهل النهروان: «فأنا نذيرٌ لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، و بأهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم و لا سلطان مبين معكم قد طوّحت بكم الدار و احتبلكم المقدار وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليَّ إباء المخالفين، المنابذين حتى صرفت رأيي إلى هواكم و أنتم معاشر أخفّاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آتِ - لا أبا لكم - بجراً، ولا أردت بكم ضراً

3 - سهولة التعبير مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر: فعند الله نحتسبه ولداً،ناصحاً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً دافعاً، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه و أمرتهم بغياثه قبل الوقفة، و دعوتهم سراً و جهرا، وعوداً وبدءا، فمنهم الآتي كارهاً، و منهم المعتل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً.

و قوله في رسالة إلى عمر بن العاص قبل التحكيم:

«أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ولن يصيب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً يؤيده فيها رغبةً و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ و من وراء ذلك فراق ما جمع و السعيد من وُعظ بغيره فلا تحبط أبا عبد الله أجرك».

وقوله في خطبة له:

ص: 34

اسمعوا قولي وأطيعوا أمري فوالله لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون خذوا للحرب أهبتها، وأعدّوا لها عدّتها، فقد شبّت نارها ... ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع و المكر و الجفاء بأولى في الجد في غيهم و ضلالتهم من أهل البِر و الزهادة و الإخبات في حقهم وطاعة ربهم.

إني والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقةٍ وبيّنة ويقين وبصيرة.

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1).

4 - قِصر الفقرات: مثل قوله لمّا أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر: منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دينٌ يجمعكم، ولا حمية تحشّمكم، أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ

بكم مرام.

أو كقوله:

فتداكوا عليّ تداك الإبل يوم وردها، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتليّ أو بعضهم قاتل بعض

ص: 35


1- سورة التوبة، الآية: 41

لديّ، و قد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره، حتى منعني القوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلی الله علیه و آله و سلم فكانت معالجة القتال أهون عليّ من معالجة العقاب، و موتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة.

و قوله في كتاب إلى أمراء جيوشه:

ألا وإن لكم عندي ألّا احتجز دونكم سراً إلا في حرب و لا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، و لا أؤخر لكم حقاً عن محلّه، و لا أقف به دون مقطعه و أن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة ولا تنكصوا عن دعوة و لا تفرطوا في صلاح وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق.

5- كثرة الصيغ الإنشائية و هي الأمر و النهي و الاستفهام والترجّي والتمني والنداء والقسم والتعجب وهي أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً للسامعين وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً

وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب و أفكاره لأن أفكاره و مشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها، ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء. و هذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية أخرى».

ذلك ما قاله الدكتور أحمد محمد الحوفي، ولكي يعزز قوله بالدليل أورد أمثلة على ما قال وهي:

ص: 36

1 - من الأمر قوله: فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ.

و فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته و وقائعه ومَثُلاته، و اتعظوا بمثاوي خدودكم و مصارع جنوبكم واستعيذوا بالله من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر. و قوله: ليتأسّ صغيركم بكبيركم و ليرأف كبيركم بصغيركم.

- من النهي قوله: فلا تجعلن للشيطان فيك نصيباً، و لا عن نفسك سبيلاً. و قوله: ولا ترخصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدمان على المعصية، و لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب ولا تباغضوا فإنها الحالقة.

و فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود.

و فإن نهضوا فانهضوا و لا تسبقوهم فتضلوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا.

و «عباد الله لا تركنوا إلى جهّالكم ولا تركنوا إلى أهوائكم».

و لا يؤنسنكم إلا الحق و لا يوحشنكم إلا الباطل.

و فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الجرب.

و فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما

ص: 37

يُتحفظ به عند أهل البادرة و لا تخالطوني بالمصانعة و لا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق أو مشورة بعدل.

3- ومن الاستفهام قوله: أبعد إيماني برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هجرتي معه، و جهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت، إذن، وما أنا من المهتدين.

و قوله «هل يُحس به - ملك الموت - إذا دخل منزلاً؟ أم تراه إذا توفّى أحداً؟ بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؛ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم ساكن معه في أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟.

وقوله أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى؟

أين القلوب التي ذهبت لله و عوقدت على طاعة الله؟

4 - ومن الترجي قوله: «فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسی أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السيوف.

و لعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة».

و لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفورٌ له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذبٌ عليها.

و هيهات أن يغلبني هواي و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز و باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.

ص: 38

5 - و من التمني قوله: يا أشباه الرجال و لا رجال ... لوددت أني لم أركم و لم أعرفكم.

و قوله: «قد دارستكم الكتاب و فاتحتكم الحجاج و عرفتكم ما أنكرتم و سوغتكم ما مججتم لو كان الأعمى يلحظ أو النائم يستيقظ».

6 - ومن النداء، قوله: «أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة».

وقوله: «فاتقوا الله عباد الله، و فروا إلى الله من الله».

و قوله، يخاطب فئة من الناس: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهم الصم الصلاب و فعلكم يُطمع فيكم الأعداء ....

7- ومن القسم، قوله: «أما والله ما أتيتكم اختياراً ولكن جئت إليكم سوقاً».

و قوله: «والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟».

8 - و من التعجب قوله سبحانك ما أعظم شأنك، سبحانك ما أعظم ما نرى من ملكوتك و ما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك، و ما أسبغ نعمك في الدنيا، وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك وما أصغرها في نعم الآخرة».

و قوله: إستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته و المجانبة لمعصيته، فإن غداً من اليوم قريب.

ص: 39

وقوله: ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر.

و قوله: «فيا عجباً عجباً و الله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرقكم عن حقكم.

9 - السجع والترسل، جاء في إحدى خطبه علیه السلام: «فليقبل امرؤ كرامة بقبولها و ليحذر قارعة قبل حلولها، و لينظر امرؤ في قصير أيامه، و قليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله و معارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه و تجنب من يرديه و أصاب سبيل السلامة ببصر من بصره و طاعة هادٍ أمره، و بادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه و تقطع أسبابه و استفتح التوبة و أماط الحوبة، فقد أقيم على الطريق و هدي نهج السبيل.

و من قوله حين أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: «إنّا لم نحكّم الرجال؛ إنما حكَّمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان و إنما ينطق عنه الرجال، و لما دعانا القوم إلى أن نحكِّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله - سبحانه وتعالى - وقد قال الله - عز من قائل -: ﴿ففَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1). فردُّه إلى الله أن نحكِّم بكتابه وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في التحكيم ... فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل،

ص: 40


1- سورة النساء، الآية: 59

و يتثبت العالم و لعل الله أن يصلح في الهدنة أمر هذه الأمة و لا تؤخذ بأكظامها أي مخارج الأنفاس.

10 - التوازن كثيراً ما تجيء الجمل في نهج البلاغة متوازنة بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، و هذا ضرب آخر من موسيقى التعبير يحببه إلى السمع ويقربه إلى

الذوق.

يقول الدكتور الحوفي: و التوازن أو الموازنة بهذا المعنى أهم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل: القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل: القريب و الشهيد و الجليل. فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف.

و من الموازنة قول الإمام علي علیه السلام: «لم يَؤُده خلق ما ابتدأ، و لا تدبير ما ذرأ و لا وقف به عجز عما خلق، و لا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر بل قضاء متقن و علم محكم، و أمر مبرم.

وقوله: إن غاية تنقصها اللحظة و تهدمها الساعة، الجديرة بقصر المدة، وإن غائباً يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة، و إن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة، فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، و أن تؤديه أيامه إلى الشقوة نسأل الله - سبحانه - أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره النعمة، و لا تقصر عن طاعة ربه غاية و لا تحل به بعد الموت ندامة و لا كآبة.

و قوله: إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم، وإن

ص: 41

ضحكوا ... و يشتد حزنهم و إن فرحوا و يكثر مقتهم أنفسهم و إن اغتبطوا بما رزقوا.

و يقول الدكتور الحوفي: «وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله علیه السلام: الحمد لله غير مقنوط من رحمته و لا

مخلوٌ من نعمته، و لا ميؤوسٌ من مغفرته، ولا مُستَنكَفٌ عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تُفقد له نعمة.

فقد وازن علیه السلام بين مقنوط و مخلوق و ميؤوس، إضافة إلى السجع، كما استعرض الدكتور الحوفي مطالب بلاغية أخرى كالجناس و الطباق و المقابلة و التوشيح ... مما ورد في خطب و أحاديث و مراسلات و وصايا الإمام علي علیه السلام. كما استعرض التشبيه و الكناية والاستعارة والمجاز ... التي برع فيها الإمام علیه السلام براعة منقطعة النظير في شتى شؤون المعرفة و العقل والنفس وفي مختلف قضايا البشر والدين والدنيا.

و قبل الدكتور الحوفي قال معاوية، وهو يرد على ابن محفن عندما قال له: جئتك من عند أعيا الناس قال له معاوية: ويحك، كيف يكون أعيا الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره وقبل معاوية قال الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنا مدينة العلم، أو الحكمة وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه صدق رسول الله و كذب محمود محمد شاكر في ادعائه إن في قول الإمام «غثاثة».

اللهم اشهد إن كانت البلاغة بفروعها والفصاحة بأصالتها،

ص: 42

و نقائها وصفائها التي وردت على لسان إمام البلاغة و سيد الفصحاء الإمام علي علیه السلام، و التي وقفنا على بعضها في ما نقلنا من فقرات ... أقول: إن كانت تلك البلاغة و الفصاحة «غثاثة» فأنا أول المتمسكين بها؛ فغث الإمام سمين و سمين أعدائه غث، لأنه رضع لبانها من منبع النبوة الصافي فوضع لنا أسسها و شيد بنيانها فكانت أقوى الأسس و أجمل بنيان و أحكمه.

و لا نريد أن نضيف شيئاً إلى ما جاء به الدكتور الحوفي عسى أن تكون تلك الشواهد على بلاغة و فصاحة الإمام علي علیه السلام شموعاً تنير درب التائهين الحياري أمثال محمود محمد شاكر وقاه الله يوم لا مفر منه.

3 - عائدية نهج البلاغة:

لقد تكلمنا في الفقرة (1 - جامع (النص) و بيّنا بالدليل الواضح أن الشريف الرضي - و ليس المرتضى - هو جامع النهج و رددنا على المشككين في كون النهج للإمام علي علیه السلام أو أن بعضه له و بعضه ليس له ثم رددنا على محمود محمد شاكر في فقرة (2 - الغثاثة(وعلينا في هذه الفقرة أن نتبسط في الكلام فنبين - بالحجة الدامغة، كما هو منهجنا دائماً - أن ما في نهج البلاغة من ألفه إلى يائه يعود إلى الإمام علي علیه السلام و للرضي جهد الجامع لا الواضع.

و قبل أن نورد ما عندنا من دليل على عائدية ما في النهج إلى الإمام علي علیه السلام علينا أن نستأنس بأقوال قيلت في بلاغته

ص: 43

و فصاحته علیه السلام لأنها ستساعدنا على فهم شخصية علي بن أبي طالب علیه السلام في هذا المجال و بذلك نكون قد مهدنا لموضوعنا و سهلنا على المشككين كثيراً من مغاليق أفهامهم ليمكن فتحها ليطلوا على رحاب الحقيقة الواضحة.

لنقرأ قول غيره فيه:

قال معاوية بن أبي سفيان: ما رأيت أحداً يخطب ليس محمداً أحسن من علي إذا خطب، فوالله ما سن الفصاحة لقريش غیره.

و قال الحارث الأعور: والله لقد رأيت علياً وإنه ليخطب قاعداً كقائم ومحارباً كمسالم.

و قال الشريف الرضي: في مقدمة النهج: وعلى أمثلته حدا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ.

أما ابن الجوزي فقال في التذكرة كان علي ينطق بكلام قد حفَّ بالعصمة، و يتكلم بميزان الحكمة كلام ألقى الله عليه المهابة، فكل من طرق سمعه راقه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة و الملاحة والطلاوة و الفصاحة لم تسقط له كلمة ولا بارت له حجة أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق في السابقين.

ولنقرأ قول محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول الفصاحة تنسب إليه - أي الإمام علي علیه السلام - والبلاغة تنقل عنه و البراعة تُستفاد منه، و علم البيان والمعاني غزيرة فيه.

ص: 44

و نكرر قول عبد الحميد الكاتب: إذ سُئل ما الذي خرجك في البلاغة؟

قال: حفظت سبين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت.

و كذا قال ابن المقفع.

و لنقرأ قول ابن أبي الحديد المعتزلي في طيات شرح «النهج»: «و اعلم أننا لا يخالجنا الشك في أنه علیه السلام أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين و الآخرين إلا من كلام الله سبحانه، و كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... حتى يقول: و اعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يُتعب، و صاحبه منسوب إلى السفه، و جاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً أشد سفهاً ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها.

و أخيراً قال محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة مهما اختلفت الناس في شيء من مناقب أمير المؤمنين و فضائله وميزاته وخصائصه فإنهم لا يختلفون بأنه إمام الفصحاء و سيد البلغاء و إن كلامه أشرف الكلام و أبلغه بعد كلام الله و كلام نبيه و أغزره مادة و أرفعه أسلوباً و أجمعه لجلائل المعاني.

تلك كانت نتف من أقوال منها من مضطرين و منها من منصفين ولكنها جميعاً كانت تقول: إن علي بن أبي طالب علیه السلام سيد البلغاء و سيد الفصحاء و إذا ما عرفنا أن فترة تولي الإمام علیه السلام كانت فترة صاخبة؛ فمن حرب الجمل إلى حرب صفين فالنهروان فإنه من الطبيعي أن يعالج الإمام علیه السلام تلك الأحداث

ص: 45

بكتبه و خطبه و وصاياه. و هي مسألة طبيعية لكل حاكم و في كل عصر، و إذا كان ذلك طبيعي - و هو طبيعي فعلاً - فإن من الطبيعي جداً أن ينبري من المختصين إلى جمع تلك الخطب و الأحاديث و المراسلات و الوصايا، سواء في زمانه أو بعد زمانه كوثائق تاريخية عن عهده علیه السلام.

و قد بلغ اهتمام الناس بكلامه علیه السلام و شغفهم به أن أطلقوا على بعض خطبه أسماء خاصة للتعريف بها و التمييز بينها مثل:

«التوحيد، و الشقشقية و الهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء، والقاصفة و الافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة، والطالوتية والقصبية والنخيلة والسليمانية والناطقة والدامغة والفاضحة والمخزون والديباج والبالغة، والمنبرية والمكاييل، والمؤنقة، - أي الخالية من الألف - و العارية عن النقط، والزهراء.

إذن، اهتم الناس بجمع خطب و أحاديث و كتب و وصايا الإمام علیه السلام و لم يكن الشريف الرضي رحمه الله هو السابق إلى جمع كلام أمير المؤمنين علي علیه السلام و لا الأول في تدوينه؛ فقد عني الناس به عناية بالغة و حظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء - على كثرتهم - قبل الإسلام و بعده، ودوّنوه في عصره، وحفظوه في أيامه وكتبوه ساعة إلقائه.

هذا زيد بن وهب الجهني وكان من أصحابه، وشهد معه بعض مشاهده جمع كتاباً من،خطبه سلام الله عليه وهذا الحارث الأعور، صاحبه و كان من المنقطعين إليه والمجاهدين

ص: 46

بحبه و تفضيله على غيره، روى عنه و أخذ من علومه الذي توفى سنة 65 ه_. فقد دوّن بعض خطبه علیه السلام ساعة إلقائها.

و هذا الأصبغ بن نباتة المجاشعي، وكان من خاصة أمير المؤمنين، روى للناس عهده للأشتر النخعي لما ولّاه مصر، و وصيته لولده محمد ابن الحنفية وشريح القاضي وكميل بن زياد النخعي، ونوف البكالي وضرار بن ضمرة الضبائي ... كلهم سمعوا بعض كلامه فحفظوه و رووه للناس كما سمعوه.

و ذكر الجاحظ: إن خطب علي علیه السلام كانت مدونة محفوظة مشهورة.

و قال ابن واضح في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم كان علي بن أبي طالب علیه السلام، مشتغلاً أيامه كلها في الحرب إلّا أنه لم يلبس ثوباً جديداً، ولم يتخذ ضيعة، ولم يعقد على مال (أي لم يجمعه) إلّا ما كان بينبع و البعبعة (عين بالمدينة) مما يتصدق به و حفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه، و هي التي تدور بين الناس، و يستعملونها في خطبهم.

و أحصى المسعودي - في مروجه - ما كان محفوظاً من خطبه علم فقال:

و الذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة و نيف و ثمانين.

و قال سبط بن الجوزي الحنفى فى تذكرة الخواص: أخبرنا

ص: 47

الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسيني باسناده إلى الشريف المرتضى قال: وقع إليّ من خطب أمير المؤمنين علیه السلام أربعمائة خطبة.

و ذكر القطب الراوندي أنه وجد بمكة كتاب في واحد و عشرين جزءاً كله في كلام الإمام علي علیه السلام.

تلك هي أقوال من تقدموا على الشريف الرضي بزمان طويل، إذ أكّدت أن خطب الإمام علي علیه السلام كانت مدونة و محفوظة و قد أربت على أربعمائة خطبة. و إذا ما علمنا أن الشريف الرضي لم يختر منها إلا (121) خطبة فقط ظهر لنا جلياً أن ما في النهج هو للإمام علي علیه السلام و ليس من وضع الشريف الرضي أو غيره، ما خلا ما صرّح به ابن أبي الحديد؛ أنه اختار جملاً قصاراً في آخر النهج منها للإمام و منها لغيره و لكنها تشبه كلامه، و ليته ما اختارها وليته ما صرّح به لأنها كانت قميص عثمان في يد المشككين ولكن الحقيقة تبقى كما هي لا يمكن نكرانها إذا ما انبرى لها من يكشف عن وجهها الناصع، و ها نحن فعلنا ذلك مع من فعل من قبلنا.

و زيادة في التأكيد على أن ما في النهج هو للإمام علي علیه السلام نشير إلى بعض المؤلفات التي أُلفت قبل «النهج» الذي ألّفه الشريف الرضي، و كلها تتحدث عن كلام الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام وهي:

1- خطب أمير المؤمنين علیه السلام على المنابر في الجمع و الأعياد و غيرها لزيد بن وهب الجهني، و هو أول كتاب جمع

ص: 48

في كلامه علیه السلام، إذ إن مؤلفه أدرك الجاهلية و الإسلام، و توفي سنة 96ه_. (1).

2 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام المروية عن الإمام الصادق علیه السلام. وقد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) و كتب عليها أنها كتبت بعد المائتين من الهجرة. وعن هذا الكتاب والذي بعده نقل الرضي خطبة الأشباح في نهج البلاغة (2)

3 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام، لمسعدة بن صدقة العبدي، و هو من علماء الجمهور، و كان هذا الكتاب موجوداً إلى زمن السيد هاشم البحراني المتوفى سنة 107 أو 109 و نقل عنه كثيراً في تفسيره (البرهان) و ذكره في مقدمة كتابه المذكور.

4 - كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين لأبي مخنف لوط ابن يحيى بن مخنف بن سليم الأزدي شيخ أصحاب الأخبار في الكوفة المتوفى سنة 157 ه_.

5 - خطب أمير المؤمنين لإسماعيل بن مهران بن أبي النصر زيد السكوني الكوفي ذكره النجاشي في فهرسه.

6 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام: للسيد الجليل عبد العظيم بن عبدالله بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب علیهم السلام.

7 - خطب علي علیه السلام: لإبراهيم بن الحكم بن ظهير

ص: 49


1- انظر نهج البلاغة 659/1
2- الإمام علي، روائع نهج البلاغة

الفزاري. وقد ذكره الطوسي في فهرسه و هو من أصحاب أواخر القرن الثاني.

8 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام: برواية الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني المتوفى سنة 207.

9 - خطب علي علیه السلام: لأبي الفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار، و كان من علماء الأخبار و شيخ أصحاب المغازي و السير وصاحب كتاب «صفّين» الذي احتوى على كثير من خطب الإمام و كتبه و وصاياه يوافق بعضها بعض ما جاء في نهج البلاغة و هو من علماء القرن الثاني. إذ قال إبن النديم عنه إنه من طبقة أبي مخنف، و قيل إن وفاته كانت سنة 202ه_. ولا شك أن الرضي اعتمده مصدراً من مصادره في (النهج)

1 - خطب علي كرّم الله وجهه: لأبي المنذر بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 205 ه_ و قيل 206 ه_. و كان قد نشأ في الكوفة، وهو نسّابة و عالم بأخبار العرب و أيامها، و قد اتصل ابوه بالإمامين الباقر و الصادق علیهم السلام، فأخذ هشام عن أبيه أخباره و علومه، و لأنه من بيت معرفة بالتشيع، لأهل البيت علیهم السلام لم يدخله الذهبي بين الحفاظ المشاهير و سماه محمد بهجة الأثري - من المعاصرين - ب_(الزنيم) في حاشيته على بلوغ الإرب 5/2. و لهذا السبب انمحت آثاره.

11 - خطب علي وكتبه إلى عمّاله لأبي الحسن علي بن محمد المدائني، و قد ذكره إبن النديم في فهرسه وقد صنّف كتباً كثيرة منها: خطب النبي صلی الله علیه و آله و سلم و خطب علي وكتبه إلى عماله

ص: 50

و كتاب من قتل الطالبيين وكتاب الفاطميات.

و قال صاحب الكنى و الألقاب إنه قد توفي سنة 225 ه_.

12 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام: لصالح بن حماد الرازي وقد عدّه النجاشي في فهرسه من رجال المائة الثالثة، إذ كان قد صحب الإمام الحسن العسكري علیه السلام

13 - مائة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد اختارها الجاحظ من كلام الإمام علي علیه السلام، واختار الرضي منها النهج وذكرها الخوارزمي في المناقب بسنده عن أبي بكر محمد بن دريد صاحب أبي عثمان الجاحظ فقال: كان الجاحظ يقول لنا زماناً إن لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مائة كلمة كل كلمة منها تفي بألف كلمة من محاسن كلام العرب، قال: وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها لي و يمليها علي، و كان يعدني بها، و يتغافل عنها، ظناً بها ... فلما كان آخر عمره أخرج جملة الكلمات المائة هذه ثم ذكرها.

وروي ذلك في الحدائق الوردية عن كتاب جلاء الأبصار عن الحاكم بإسناده إلى الجاحظ.

و لم يرض الآمدي عن الجاحظ لاقتصاره على هذه المائة و قال عنها:

إنها بعض من كل وطلّ من وبل مما دعاه إلى تأليف كتابه غرر الحكم و درر الكلم.

14 - رسائل أمير المؤمنين علیه السلام و أخباره و حروبه ذكره

ص: 51

الطوسي في فهرسه بأنه إبراهيم بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي، و كان زيدي الرأي ثم تحول إلى الإمامية، كما قال صاحب تأسيس الشيعة، و ذكر وفاته بأنها في سنة 283ه_.

15 - الخطب المعربات: لإبراهيم بن جلال بن عاصم بن مسعود الثقفي صاحب كتاب رسائل أمير المؤمنين علیه السلام و أخباره وحروبه الذي ذكرناه بالرقم (14).

قال عنه السيد هبة الدين في كتابه «ما هو نهج البلاغة» و هو ينقل عن النجاشي: إن هذا الكتاب من جملة المؤلفات في كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

و يحتمل عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه «مصادر نهج البلاغة و أسانيده» أن يكون إسم هذا الكتاب «الخطب المقريات» إذ قال: و قد يسمى هذا الكتاب بالخطب المقريات (بالقاف بعد الميم والمثناة التحتانية بعد الراء )

16 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام: ذكر النجاشي لأبي إسحاق إبراهيم بن سليمان بن عبيد الله بن خالد الخراز الكوفي النهمي (نسبة إلى بطن من همدان) بعنوان (الخطب) و ذلك عن رواة آخرهم حميد بن زياد المتوفى سنة 310ه_ مما يدل على أن النهمي كان في أواخر القرن الثالث الهجري، و ذكره السيد هبة الدين في كتابه (ما هو نهج البلاغة) بأنه لأمير المؤمنين علیه السلام.

17 - خطب أمير المؤمنين علیه السلام مع شرحها: للقاضي النعمان المصري المتوفى سنة (363ه_ ) عدّه من تصانيفه في كتابه (الهمة في معرفة الأئمة) و قد ألّفه سنة 310ه_. و كان الرضي قد ولد سنة

ص: 52

359ه_. و هذا يعني أن الكتاب لم يكن شرحاً ل_ «نهج البلاغة» كما صدر عن البعض، و قد نبّه إلى ذلك صاحب كتاب «الذريعة».

18 - خطب امير المؤمنين علیه السلام.

19 - مواعظ علي علیه السلام.

20 - رسائل علي علیه السلام، و قد ذكره النجاشي في فهرسه.

21 - كلام علي علیه السلام.

22 - الملاحم، و قد ذكره النجاشي في فهرسه.

قال عبد الزهراء الخطيب في كتابه مصادر نهج البلاغة و أسانيده و هو يعتمد كتاب المراجعات الريحانية للإمام كاشف الغطاء مصدراً له:

إن هذه الكتب - و هو يشير إلى الخمسة المذكورة آنفاً - كلها مجموعة من كلام علي علیه السلام، ألفها الشيخ عبد العزيز يحيى الجلودي البصري المتوفى سنة (332ه_)، و هو من أكابر علماء الإمامية و الرواة للآثار و السير عدد له علماء الرجال ما ينيف على مائتي كتاب بل ما يقرب من ثلاثمائة كتاب كلها من عجائب الكتب. منها أربعون كتاباً فيما يتعلق بخصوص أمير المؤمنين علیه السلام في غزواته مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم. و حروبه من الجمل وصفين والغارات والحكمين وبني ناجية وما نزل في الخمسة، و تزويج فاطمة، و من أحبه و من أبغضه و من سبه من سبّه الخلفاء، و كتاب التفسير عنه، و ما نزل في القرآن في خصوصه، و كتاب شعره و كتاب خطبه و خلافته و عمّاله و ولاته والشورى وما كان بينه و بين عثمان

ص: 53

وقضائه، و رسائله و من روى عنه من الصحابة، وكتاب شيعته و من مال بعده.

أفرد لكل هذه المذكورات كتاباً، ثم على مثل هذا ألف في كل واحد من أهل البيت كتاباً ... و له عشرات من الكتب تتعلق بعبد الله بن عباس ... ثم بقية كتبه في سائر العلوم و أحوال سائر الأمم عامة و العرب خاصة و الشعراء على الأخص.

بعد تلك الجولة مع الكتب المؤلفة في خطب و احاديث أمير المؤمنين علي علیه السلام قبل جمع نهج البلاغة، بل قل قبل ولادة الشريف الرضي و هي بعض من كل إذ لا شك أن ثمة غيرها قد أُلِّفت و لكن عوادي الزمن لم تحفظها لنا مثلما لم تحفظ كثيراً مما ذكرنا عناوينها. و ثمة الكتب التي أُلّفت بعد صدور نهج البلاغة للرضي، و لكنها كانت مستقياتها في كثير منها غير نهج البلاغة و غير الشريف الرضي.

أقول ... بعد تلك الجولة: ألا يكفي ذلك دليلاً على أن دور الشريف الرضي كان دور الجامع فحَسْب لمحتويات نهج البلاغة؟

و إن تلك المحتويات هي من كلام الإمام علي علیه السلام بقضها و قضيضها و من ألفها إلى يائها؟ و أخيراً لا بد لي أن أتساءل بما تساءل به عبد الله حسين في كتابه (مصادر نهج البلاغة):

أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي و كلامه؟ و أين ذهبت الأربعمائة من كلماته؟ أليس في كل هذا ما يؤكد أن ما اختاره الرضي في نهج البلاغة هو بعض ما كان

ص: 54

مدوناً و محفوظاً و مشهوراً بين الناس؟ أليس هذا ما يدفع أولئك القائلين بأن ما في النهج موضوع و منحول على لسان الإمام علي؟».

ثم ماذا نقول عن أقوال الأدباء و المفكرين و الفلاسفة في نهج البلاغة و في كونه من كلام علي علیه السلام ؟ هل نضع هؤلاء كلهم «خانة» الخطأ؟

لنقرأ أقوالهم عسى ان تكون - ليس رداً على المشككين - بل شمساً تضيء لمن يريد أن يستضيء بنور الحقيقة، وتحرق من يصر على تعصيب عينيه بخرقة سوداء. و لأهمية تلك الأقوال نضعها تحت عنوان مستقل هو:

أقوال المنصفين في «نهج البلاغة»:

- قال ابن أبي الحديد: إن سطراً واحداً من «نهج البلاغة» يساوي ألف سطر من كلام إبن نباتة و هو الخطيب الفاضل الذي اتفق الناس على أنه واحد عصره في فنّه.

- وقال الدكتور زكي مبارك: لا مفر من الإعتراف بأن نهج البلاغة له أصل و إلّا فهو شاهد على أن الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ.

- أما خليل هنداوي فقال: لا نكاد نرى كتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة و الأسلوب الواحد كما نراه في نهج البلاغة لذا نقرر ونكرر أن النهج لا يمكن ان يكون إلا لشخص واحد، نفخ فيه نفساً واحداً.

ص: 55

- وقال محقق شرح النهج الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمته: و منذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره و تألق نجمه أشأم و أعرق و أنجد و أتهم وأعجب

به حيث كان و تدارسوه في كل مكان لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى، والمعنى المشرق و ما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض محكم السبك، يعد في الذروة العليا من النثر العربي الرائع.

- وقال السيد الأميني في أعيان الشيعة و غير خفي أن من يريد اختيار أنفس الجواهر من الجواهر الكثيرة لا بد أن يكون جوهرياً حاذقاً، فكان الرضي باختياره أبلغ منه في كتاباته، كما قيل عن أبي تمام لما ديوان الحماسة من منتخبات شعر العرب: إنه في انتخاباته أشعر منه في شعره.

و قد لاقى ديوان الحماسة من القبول عند الناس إقبالاً كثيراً و شرحه أعاظم العلماء، وكذلك نهج البلاغة من الشهرة و القبول أهله، وشرح بشروح كثيرة تنبو عن الإحصاء و كان مفخرة

هو من أعاظم مفاخر العرب والإسلام.

- في حين قال الشيخ محمد عبده في مقدمة شرحه على نهج البلاغة:

وقد جمع الكتاب ما يمكن ان يعرض للكاتب و الخطيب أغراض الكلام فيه الترغيب و التنفير والسياسات و الجدليات و الحقوق و أصول المدنية و قواعد العدالة والنصائح والمواعظ، فلا يطلب الطالب طلبته إلا ويرى فيها أفضلها، ولا تختلج فكرة إلا وجد فيها أكملها.

ص: 56

- وقال محمد حسن نائل المرصفي و نهج البلاغة ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن علياً كان أحسن مثال حي لنور القرآن وحكمته وعلمه وهدايته وإعجازه وفصاحته.

اجتمع لعلي في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، و أفذاذ الفلاسفة و نوابغ الربانيين من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، وحسبنا ان نقول إنه الملتقى الفذ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئن فيه و تأوي إليه بعد أن زلت بها المنازل في كل لغة.

- و أوجز الشيخ ناصيف اليازجي في قوله فأبدع إذ قال:

أقرانك في العلم و الأدب، و صناعة الإنشاء فعليك بحفظ القرآن و نهج البلاغة».

- و قال الشيخ أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي:

النهج البلاغة الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد المرتضى (كذا) الموسوي خطب الأمير كرّم الله وجهه و كتبه ومواعظه وحكمه وسمي نهج البلاغة كما أنه قد اشتمل على كلام يخيل أنه فوق كلام المخلوقين دون كلام الخالق عز وجل، قد اعتنق مرتبة الإعجاز و ابتدع أبكار الحقيقة و المجاز و لله در الناظم حيث يقول فيه:

ص: 57

ألا إن هذا السفر نهج البلاغة *** لمنتهج العرفان مسلکه جلي

على قمم من آل حرب ترفعت *** (كجلمود صخرٍ حطّة السيل من علِ)

- وثمة كلمة للأستاذ أمين نخلة في مقدمة كتابه مائة كلمة من كلام الإمام علي قال فيها:

إذا شاء أحد أن يشفي صبابة قلبه من كلام الإمام فليقبل عليه في النهج من الدفة إلى الدفة و ليتعلم المشي على ضوء نهج البلاغة.

- و قال محمد أمين النووي في كتابه جولات إسلامية»:

لقد كان علي في خطبه المتدفقة، يمثل بحراً خضمّاً من العلماء الربانيين و أسلوباً جديداً لم يكن إلّا لسيد المرسلين و طرق بحوثاً من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهی فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله فدانت لبیانه فسلست في منطقه وأدبه.

و قال: «حفظ علي القرآن كله، فوقف على أسراره و اختلط به لحمه ودمه والقارىء يرى ذلك في نهج البلاغة ويلمس فيه مقدار استفادة علي من بيانه وحكمته».

... و هكذا نجد في كلام علي الدين و السياسة و الأدب و الحكمة، و الوصف العجيب و البيان الزاخر.

- أما عباس محمود العقاد فقال في كتابه عبقرية الإمام:

ص: 58

في كتاب نهج البلاغة فيض من آيات التوحيد و الحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد و أصول التأليه وحكم التوحيد.

- و أما محمد محيي الدين عبد الحميد لم يستطع إلا أن يقول:

نهج البلاغة هو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه و هو الكتاب الذي ضم بين دفتيه عيون البلاغة و فنونها وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق - بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - منطقاً و أشدهم اقتداراً و أبرعهم حجة وأملكهم لغة يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه و الخطيب الذي ملأ القلب سحر بيانه العالم الذي تهيأ له من خلاط الرسول، وكناية الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحد سواه.

- و نعود إلى الدكتور جورج جرداق، إذ نقلنا رأيه في الإمام علي فننقل هنا رأيه في نهج البلاغة و هو يقول (1):

نهج البلاغة آخذ من الفكر و الخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؛ مترابط بآياته متساوق متفجر بالحس المشبوب والإدراك

ص: 59


1- انظر كتاب الفلسفة الإسلامية

البعيد، متدفق بلوعة الواقع و حرارة الحقيقة و الشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع؛ متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول والشكل بالمعنى إندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بد له أن يكون بالضرورة إلى غير كَوْن.

بيان لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدد الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء و أصوات! ولو انبسط في منطق لخاطب العقول و المشاعر فأقفل كل باب على حجّة غير ما يتبسط فيه! ولو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحس و أصل التفكير فساقك إلى ما يريده سوقاً، و وصلك بالكون وصلاً، و وحّد فيك القوى للإكتشاف توحيداً، و هو لو راعاك لأدركت حنان الأب و منطق الأبوة و صدق الوفاء الإنساني و حرارة المحبة التي تبدأ و لا تنتهي!

أما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود و جمالات الخلق و كمالات الكون، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!».

أحس علي إحساساً مباشراً عميقا بين الكائنات روابط لا تزول إلا بزوال هذه الكائنات و أن كل ما ينقض هذه الروابط ينقض معنى الوجود ذاته.

بيان هو بلاغة من البلاغة و تنزيل من التنزيل بيان اتصل

ص: 60

بأسباب البيان العربي ما كان منه و ما يكون حتى قال أحدهم في صاحبه إن كلامه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق.

- و أكثر إنصافاً قول المستشرق الفرنسي هنري كوربال في النهج، فإذا كان جورج جرداق، و هو مسيحي، قال ما قال في النهج فإنه عربي تربطه بالإمام علیه السلام صلة الإنتماء القومي و لكن هنري كوربال لم يكن عربياً و لم تربطه بالإمام علي أية رابطة سوى نظرته الموضوعية المنصفة إلى ما ضمّه النهج من روائع خلّدها التاريخ، لنقرأ قول هذا الرجل المنصف هنري كوربال:

وتأتي أهمية هذا الكتاب أي النهج بالدرجة الأولى؛ بعد القرآن و أحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً و حسب، بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي، و يمكن اعتبار نهج البلاغة منهلاً من المناهل التي استقى منها المفكرون الشيعة ... و إنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمّة من الترابط المنطقي في الكلام و من استنتاج النتائج السليمة؛ و خلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت على اللغة الأدبية و الفلسفية فأضفت عليها غنى و طلاوة، و ذلك أنها نشأت مستقلة عن تعريب النصوص اليونانية.

4 - التعريض بالصحابة

إن رابع عكازة تعكز المشككون عليها بنسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي علیه السلام هي التعريض بالصحابة»؛ فقد وقفنا على قول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على النهج

ص: 61

إذ قال: إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما لا یسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي ....اه_.

قبل الرد على محمد محيي الدين عبد الحميد و من تعكز على مثل عكازته يحسن بنا أن نتعرف على «الصحبة» لغة واصطلاحاً بشيء من الإيجاز؛ فالصحبة لغة هي المعاشرة. وتطلق على المعاشرة في الزمن القليل والكثير، ولذلك قيل صحبت فلاناً حولاً وشهراً ويوماً وساعة فيوقع إسم القليل على ما يقع منها كثير وتقع بين المؤمن و الكافر كما تقع بين المؤمن و المؤمن، قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (1). و قال تعالى مخاطباً مشركي قريش: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (2). و قال تعالى: (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) (3).

و قال صلی الله علیه و آله و سلم و قد أشير عليه بقتل عبد الله بن أُبي رأس المنافقين؛ بل نحن صحبته و نترفق به ما صحبنا و لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.

أما اصطلاحاً فهي: إن الصحابي من رأى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و قد أدرك الحلم فأسلم و عقل أمر الدين و رضيه و صحبه ولو ساعة من النهار.

و طبيعي أن من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يكونوا على درجة

ص: 62


1- سورة الكهف، الآية: 37
2- سورة النجم، الآية: 2
3- سورة سبأ، الآية: 46

واحدة من الإدراك المعرفي، بل حتى من الإخلاص والإيمان؛ ففيهم من بقي على صلته الروحية والإيمانية بالرسول العظيم فكان مثالاً في القول و العمل في السلم والحرب وفي الرقة والشدة وفيهم من نكص عن قيم الدعوة المحمدية وأدار وجهه عنها لينشغل بمغريات الدنيا وهذا الفريق ما تحدث عنه البخاري في صحيحه؛ إذ روى عن ابن مسعود قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: أنا فرطكم على الحوض ليرفعنَّ إليّ رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم، إختلجوا دوني فأقول: ربي أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك و في رواية سهل بن سعد ... فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي.

وقد نزلت في ذلك الفريق آيات كريمات تصفهم بأنهم: (ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) (1). (اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2) و (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (3).

و ثمة آيات كثيرة عرّضت ببعض من صحبوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حلّه و ترحاله، و قد أفرد - جل وعلا - لهم سورة أسماها: المنافقين.

و إذا كانت ثمة إشارات تعريضية ببعض الصحابة في نهج

ص: 63


1- سورة التوبة، الآية: 48
2- سورة التوبة، الآية: 107
3- سورة التوبة، الآيتان: 95 - 96

البلاغة، فالقرآن الكريم - كما مر بنا - قد عرّض بهم وهو سبق «النهج»، فضلاً عن أن أصحاب الصحاح و الأسانيد المعتبرة قد نقلوا لنا كثيراً من ذلك التعريض؛ فالإمام ليس وحده من عرض بالمنافقين من الصحابة، فما جاء في النهج إذن، (يصح صدوره عن مثل الإمام علي) بعكس ما تصور محمد محيي الدين عبد الحميد و غيره من المشككين، لأن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - كما بينا - ليسوا على درجة واحدة من الإيمان و الإخلاص، و الصحابة أنفسهم تلاعنوا و تسابوا وتناقدوا فيما بينهم، و هذا ليس بالأمر الغريب لأن مشاربهم مختلفة و دخولهم في الإسلام لم يكن - أصلاً - متفقاً تمام الإتفاق في الهدف و المرمى، فضلاً عن أن لكل إنسان رؤيته في تفاصيل الحياة الفكرية - خاصة - لذلك فإن النقد والطعن واللعن بل حتى التكفير لم يكن هدفه نيل طرف من طرف آخر لغرض النيل فحسب بل بسبب اختلاف النظرة إلى مفردات الحياة ودرجة الإرتفاع إلى مستوى المتغيرات الجديدة. والدعوة المحمدية ليست بالمتغير الجديد السهل على مجتمع کان غارقاً في جهله العقائدي و غافياً غفوة عميقة على معتقداته حتى جاء الإسلام فأحدث خضّة عنيفة في ذلك المجتمع فاستوعب فريق تلك القيم الجديدة بعمق إيماني واضح وتأرجح فريق آخر فجارى المتغيرات الجديدة تلك للحفاظ على مركزه الإجتماعي و هذا ما يحصل في كل زمان ومكان.

وإلا ماذا نقول عن طلحة والزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وغيرهم قبلهم وبعدهم هل يتساوون في درجة الإيمان مع أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ أمثال بلال الحبشي وسلمان

ص: 64

المحمدي و عمار بن ياسر و علي بن أبي طالب و غيرهم من الصحابة النظاف من تلوث أفكار الجاهلية الأولى؟

فالصحابة «قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم».

فهل يقف الإمام علي علیه السلام - وهو المسلم الأول و المؤمن الأول والمجاهد الأول والمدافع الأول عن قيم الإسلام قولاً و عملاً بشواهد تاريخية لا تُرَد - أقول ... هل يقف مثل ذلك الرجل مكتوف اليدين حيال ما يرى من افتئات على الإسلام و حرف مبادئه و محاولة إفراغه من محتواه من قبل أُولئك الذين صحبوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و زمناً قلّ أو كثر فسمّوا ب_ «الصحابة»؟

إن التاريخ حفظ لنا، وما يزال يسجل شواهد عن أن كثيراً ممن فجروا الثورات و أحدثوا الإنقلابات السياسية في هذا القطر أو ذاك وفي هذا العصر أو غيره كانوا في البداية (أصحاباً) تربطهم صحبة الوسيلة و الغاية، إلا أن عقدهم سرعان ما ينفرط بعد تلك الثورات والإنقلابات فتبدأ السقوطات على الطريق وتبدأ التصفيات الجسدية والسياسية والفكرية عموماً فيما بينهم، فماذا نسمي ذلك؟

إنه قانون الحياة الطبيعي لأن الناس كلهم ليسوا سواء في النظر و الرأي و المشرب و الإنحدار الطبقي و النَسَبي، وعند انخراطهم في بوتقة الثورة أو الإنقلاب نراهم يختلفون حول هذه المسألة أو تلك فيتساقطون على الطريق، لذلك قيل في المصطلح السياسي الثورة تأكل أبناءها».

فإذا ما عرفنا ذلك فإنه سيتوضح لنا، بيسر، أن صحابة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم - وهم ليسوا على درجة واحدة من الوعي والإدراك

ص: 65

والاستيعاب - لا بد - والأمر كذلك - أن يختلفوا فيما بينهم، على هذه المسألة أو تلك، وإذا ما علمنا أن ثورة الإسلام تفوق أية ثورة قبلها وبعدها لما أحدثته من انقلاب جذري في الكم والكيف، أدركنا فوراً أن السقوطات على الطريق أمر طبيعي أيضاً.

لذلك إن أي نقد أو تعريض، كما يسمونه، لأولئك الذين لم يستطيعوا مواجهة معطيات الثورة، أمر طبيعي كذلك.

وإذا ما عدنا إلى نهج البلاغة نجد أن جميع التعريض والسباب - على حد تعبيرهم ما هو إلا نقد بنّاء، ووصف للأعمال بلغة مهذبة، و ألفاظ متزنة لم يخرج بها عن حق، ولم يدخل فيها بباطل ونظرة واحدة في ثنايا الكتاب تغني عن سرد الشواهد، وتسطير الأدلة.

و إذا ما وجد في ثنايا النهج ما يسمونه «التعريض»، و هو نقد كما بينا، فإن في النهج إشادة بالصحابة الذين ترسموا خطى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ساروا على منهجه حتى النهاية، كقوله صلی الله علیه و آله و سلم:

لقد رأيت أصحاب محمد فما أرى أحداً منكم يشبههم. وقوله علیه السلام:

و أوصيكم بأصحاب محمد الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يأووا محدثاً ولم يمنعوا حقاً، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أوصانا بهم و لعن المحدث منهم ومن غيرهم.

إذن فليس كل صحابي منزهاً من الذم و ليس كل صحابي

ص: 66

محرماً من الثلب، لذلك فلا مانع - أبداً - أن يذكر علي بالذم والثلب من يستحق ذلك منهم، خصوصاً أن خصوصاً أن بعضهم قد شهر السلاح بوجهه وأعلن الحرب عليه وكان يود قتله وسفك دمه مهما كانت الوسائل وبأي سبيل كان.

ومن هنا نرى أن كلمات الذم هذه لم تكن بالشكل الذي لا يليق صدورها عن رجل مثل علي في دينه وعلمه وتقواه كما يزعم محمود محمد شاكر، ولم تكن ما يجب إنكاره «تنزيهاً لعلي عن الهبوط إلى هذا المستوى، كما يدعي الدكتور شفيع السيد.

فهل يُعد ذم الناكثين و القاسطين والطعن في المارقين والمنحرفين عملاً منافياً للتقوى، ومخالفاً لأحكام الدين؟

لذلك فلم يكن من المستبعد أن يذم علي هؤلاء وأشباههم، وليس في ورود مثل هذا الذم في كلامه ما يحمل على الشك في انتساب ذلك الكلام إليه، خصوصاً أنه قد أثنى على الصحابة الملتزمين الإثبات ثناءً جميلاً بلغ حد التأوّه و الحنين على فراقهم وعلى حنينه عليهم لأنهم تلوا القرآن فأحكموه، و تدبروا الغرض فأقاموه، أحيوا السنّة و أماتوا البدعة ... الخ.

أيكفي ذلك دليلاً على أن ما في «النهج» للإمام علي علیه السلام، وإن عكازة «التعريض» منخورة لا بد أن تُسقط صاحبها يوماً ما فيدرك ما كان عليه من خطأ في الرأي و قصور في النظرة. وإذا كان ذلك لا يكفي نقولها بصريح العبارة: إن الإمام علياً علیه السلام كان یعني ما يقول، وما قاله كان من إفراز معاناته من حق اغتصبوه منه؛ فخطبته الشقشقية التي أغضبتهم و بسببها صاروا يشككون ب_

ص: 67

النهج لأنه كان مخزوناً لأنه كان مخزوناً من صدق المعاناة، و ليس كما يدعي صبري ابراهيم السيد في كتابه تحقيق و توثيق نهج البلاغة إذ يقول:

و يبدو أن اشتداد التشيع لعلي أعمى شيعته عن حق السلف الصالح، فقالوا فيهم ما لا يقبله عقل و لا يؤيده تاريخ و ظنوا أن مكانة علي لا ترتفع إلا بالحط من قيم هؤلاء حطاً لا يقبله منصف ولا يرضی به علی نفسه.

فما أودع خطبته الشقشقية إن هو إلا أمر في غاية المعقولية، ومن إيداعات الإمام علیه السلام نفسه و ليس دساً في كلام مثبوت الرواية معروف للقدماء حتى يجوز على العقول و يصعب فيه التمييز.

و أي رجل في موقع الإمام علي علیه السلام من حيث قرابته من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وإسهاماته في الدعوة الإسلامية و شجاعته وعلمه وحصوله على «وصية» رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأمر من الله جلت قدرته في غدير خم بأن يكون ولي كل مؤمن ومؤمنة ... أقول ... أي رجل في موقعه و موقفه كان يفعل أكثر مما قاله الإمام علي علیه السلام في الشقشقية و ولكن الإمام علياً علیه السلام خاف على الإسلام أن ينفرط عقده فتسقط حباته في أيدي الجاهلية الأولى ف_ «سكت» على مضض، و لكن سكوته ذاك لا يعني رضاه، و لا يعني أنه ملزم أن لا يظهر ما يعتلج في صدره لاسيما وهو إبن بيت النبوة و المسلم الأول و المؤمن الأول و صاحب الخندق الذي قال عنه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يومها: خرج الإيمان كله إلى الكفر أو الشرك كله وكان

ص: 68

الخلفاء الثلاثة شهوداً على موقفه ذاك، إذ لو أخذناه وحده شاهداً على أحقيته بالخلافة، لكفى، إذ كانت معركة الخندق فيصلاً حاسماً بین أن يكون الإسلام أو لا يكون، فثبتت أركانه واتسع بفضل سيف علي بن أبي طالب وشجاعته وغيرته على التكليف الإلهي. فأية غرابة في كلامه علیه السلام في خطبته الشقشقية؟ أليست هي تشخيص لواقع حصل؟ ألم يحصل ذلك في بيعة السقيفة و الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مسجى في فراشه وعلي علیه السلام إلى جانبه وحده؟ أكثير على الإمام علي علیه السلام أن يقول: وإنه )أي أبو بكر) ليعلم أن محلي منها أي من الخلافة محل القطب من الرحي. ينحدر عني السيل و لا يرقى إليّ الطير؟

ألا يدل ذلك على أمرٍ (قد بُيِّت في ليل) مما دعا الإمام أن يقول:

... فيا عجباً بينا هو (أبو بكر) يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر عمر بن الخطاب بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها فصيَّراها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها و يخشن مسها، و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، و إن أسلس لها تقحّم فمني الناس لعمر الله، بخبط و شِماسٍ وتلون واعتراض.

ألم تكن تلك الصورة فوتوغرافيا لمسلسل تظهر خطوطه فيما بعد، بوضوح إنه تأمر ليس على الإمام علي علیه السلام فحسب، بل على الإسلام برمته لحرفه عن نقائه و صفائه و صدقه و جذره الإلهي.

و دليلنا الأول: ما حصل في (يوم السقيفة).

ص: 69

و دليلنا الثاني: ما أوصى الأول للثاني.

و دليلنا الثالث: دعوة عمر (رجال الشورى) و عهده إليهم باختيار الخليفة بعده.

و قد عرف الإمام هذا (المقلب) بثاقب بصيرته فصوره بكلمات قصار إذ قال:

فصغى رجل منهم لضغنه و مال الآخر لصهره، مع هن وهن.

و كان الإمام علیه السلام يقصد في كلامه كلاً من سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن أبي بكر و عثمان، الذي قال فيه: «إلى أن قام ثالث القوم، نافجاً حضنيه بين نثيله و معتلفه، و قام معه بنو أمية، يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله و أجهز عليه عمله و كبت به بِطنته.

و دليلنا الرابع: ما أسفرت عنه الأحداث بعد مقتل عثمان إذ كشف (بنو أمية) عن أوراقهم، و كان ما كان في حرب الجمل و صفين حتى مقتل الإمام علیه السلام فإذا كانت تلك المعاني التي وردت في الشقشقية «لا تتفق و سيرة علي مع الخلفاء، و لا تتلاءم مع ما أثر عنه من أقوال» كما يقول السباعي بيومي في كتابه تاريخ الأدب العربي في العصر الإسلامي.

فنحن نقول: إن ما جاء في الشقشقية شيء - و هو إفراز معاناة - و الانعكاسات السلوكية للإمام علیه السلام على مجريات الأحداث و منها علاقته بمن تولوا الخلافة شيء آخر، إذ أنه كان في ذلك

ص: 70

بعيد النظر يريد منه الحفاظ على قيم الإسلام و معانيه و عدم انفراط حباته - كما قلنا سابقاً - و لا يعني الرضا عنهم و عن مسلسلهم كما يُصَور للبعض.

5 - الوصي والوصاية

مثلما أخذوا على (النهج) أنه عرّض بالصحابة فقد أخذوا عليه ورود مصطلح (الوصية و الوصاية) و بنوا على ذلك رأيهم بأن محتواه كان منحولاً في نسبته إلى الإمام علیه السلام لأن ذلك المصطلح هو من المصطلحات التي عرفت بعد عهد الإمام علي علیه السلام.

إن هذا الإدعاء يفتقر إلى الدليل العلمي كسابقه لذلك سنرد على مطلقيه - كعادتنا - بالدليل القاطع و المقنع فنقول:

إن مصطلح الوصي و الوصاية ضارب بجذوره في عهد التاريخ العربي قبل نهج البلاغة بقرون. و كتب التفسير أو الحديث أو التاريخ أو السير و الأدب مليئة بذلك المصطلح.

جاء في صحيح البخاري و مسلم عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قوله:

ما حق امریءٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلته إلا و وصيته مكتوبة عنده. مما جعل عمر يقول: «ما مرّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.

و جاء في مشكاة الأنوار قوله صلی الله علیه و آله و سلم: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. و قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله».

ص: 71

و جاء في مستدرك الحاكم: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لعلي علیه السلام:

«أما إنك ستلقى بعدي جهداً»

قال علي:

- أفي سلامة ديني؟

قال:

- في سلامة دينك.

و مما أخرجه ابن عساكر و المحب الطبري في (الرياض) ... قوله صلی الله علیه و آله و سلم لعلي:

- ضغائن في صدور قوم لا يبدونها إلا من بعدي ...

و نقل لنا صاحب الغدير قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

يا علي إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن.

صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقد عانى ما عاناه الإمام علي علیه السلام من خصومه بعد النبي الكريمة صلی الله علیه و آله و سلم و هو لم يسلم من سهامهم حتى بعد موته وها هم يوجهون سهامهم إليه في معطى من معطياته الفكرية ألا و هو نهج البلاغة فيشككون في نسبته إليه ل_ (إقحام) مصطلح (الوصية و الوصاية) في طياته. و قد نسوا أو تناسوا أن ذلك المصطلح ولد في (مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهوره و حين أنزل الله تعالى عليه صلی الله علیه و آله و سلم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1) فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب و هم يومئذ أربعون رجلاً أو ينقصون، و فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة والعباس وأبو لهب. إذ قال صلی الله علیه و آله و سلم يا بني

ص: 72


1- سورة الشعراء، الآية: 214

عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟».

فأحجم القوم غير على و كان أصغرهم إذ قام وقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ رسول الله برقبته و قال: «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ....

و نقل لنا محمد بن جرير الطبري في (الولاية) أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قال: «إن الله تعالى أنزل إلي (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (1). وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقول في هذا المشهد. و أُعلِم كل أبيض و أسود أن علي بن أبي طالب أخي و وصيي وخليفتي والإمام بعدي.

و قوله صلی الله علیه و آله و سلم: يا معاشر الناس هذا أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي.

و جاء في كفاية الطالب أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال: «علي وعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتى منه.

و في (إكمال كنز العمال) جاء: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال الفاطمة علیها السلام إن الله اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار أباك فبعثه نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك و أوصى إلي فاتخذته وصياً.

ص: 73


1- سورة المائدة، الآية: 67

و في فرائد السمطين جاء قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا أفضل أنبياء الله و رسله وعلي بن أبي طالب أفضل الأوصياء ...» و قوله صلی الله علیه و آله و سلم: علي أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن و مؤمنة.

و نقل لنا الخوارزمي في مناقبه عن ابن عباس قوله: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأم سلمة: هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي يا أم سلمة هذا أمير المؤمنين و سيد المسلمين ووعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتى منه أخي في الدنيا و الآخرة و معي في المقام الأعلى ...».

و عن سلمان المحمدي - كما جاء في (الولاية) لمحمد بن جرير الطبري - قال:

قلت لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا رسول الله إنه لم يكن نبي إلا وله وصي فمن وصيك؟ قال وصيي وخليفتي في أهلي و خير من أترك بعدي، مؤدي ديني و منجز عداتي علي بن أبي طالب».

و عن المصدر نفسه قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: يا أنس يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين و سيد المسلمين وقائد الغر المحجلين و خاتم الوصيين قال أنس قلت اللهم اجعله رجلاً من الأنصار، وكتمته، إذ جاء علي فقال: من هذا يا أنس؟ قلت علي فقام مستبشراً و اعتنقه.

و جاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

ص: 74

«إن الله عز وجل عهد إلي في علي عهداً ... إن علياً راية الهدى و إمام أوليائي و نور من طاعتي و هو الكلمة التي ألزمها المتقين من أحبه أحبني و من أبغضه أبغضني فبشره بذلك، فجاء علي فبشرته بذلك فقال: يا رسول الله أنا عبد الله و في قبضته، فإن يعذبني فبذنبي و إن يتم الذي بشرني به فالله أولى به، قال علیه السلام: قلت اللهم اجل قلبه و اجعله ربيعة الإيمان فقال ربي عز وجل، قد فعلت به ذلك، ثم قال تعالى: إني مستخصه بالبلاء فقلت: يا رب إنه أخي و وصيي قال تعالى: إنه شيء قد سبق إنه مبتلى و مبتلى به.

وعن أحمد بن حنبل في مسنده قال أنس بن مالك قلنا لسلمان: سل النبي صلی الله علیه و آله و سلم عن وصيه فقال سلمان: يا رسول الله مَن وصيُّك؟ فقال: يا سلمان مَن وصي موسى؟ فقال: يوشع بن نون، قال: وصيي ووارثي يقضي ديني و ينجز موعدي علي ابن أبي طالب.

و ذكر الخوارزمي حديثاً طويلاً روته أم سلمة جاء في آخره: إن الله اختار من كل أمة نبياً و اختار لكل نبي وصياً فأنا نبي هذه الأمة و علي وصيي في عترتي و أهل بيتي وأمتي من بعدي.

و في ينابيع المودة عن أبي الطفيل عامر بن وائلة و هو آخر مات من الصحابة قال: قال رسول صلی الله علیه و آله و سلم: يا علي أنت وصيي حربك حربي و سلمك سلمي ...».

و في كتاب مودة القربى للهمداني: عن خالد بن معدان رفعه: إن مَن أحب أن يمسي في رحمة الله فلا يدخل قلبه شك

ص: 75

بأن ذريتي أفضل الذريات، و وصيي أفضل الأوصياء.

و في المحاسن و المساوىء للبيهقي: إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال:

هبط عليّ جبرئيل علیه السلام يوم حنين فقال: يا محمد إن ربك تبارك و تعالى يقرئك السلام و قال: إدفع هذه الأترجة إلى ابن عمك و وصيك علي بن أبي طالب علیه السلام فدفعتها إليه، فوضعتها في كفه، فانفلقت نصفين فخرج منها رق أبيض مكتوب فيه بالنور: من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب.

وجاء في المنتقى من تاريخ بغداد لابن الحداد الحنفي في الحديث ينادي منادٍ أي يوم القيامة هذا علي بن أبي طالب وصي رسول رب العالمين، و إمام المتقين، و قائد الغر المحجلين ... الحديث.

و سجل لنا نصر بن مزاحم في كتابه (صفين) شعراً للإمام علي وردت فيه كلمة (الوصي)، قال علیه السلام:

یا عجباً لقد سمعت نکرا *** كذباً على الله یشیب الشعرا

یسترق السمع و يغشي البصرا *** ما كان يرضى أحمداً لو خبرا

أن يقرنوا وصيه و الأبترا

و يريد بالأبتر: عمرو بن العاص، إذ نزلت في أبيه الآية: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (1)

ص: 76


1- سورة الكوثر، الآية: 3

أما الخوارزمي فنقل في مناقبه قوله صلی الله علیه و آله و سلم: أنا أخو رسول الله و وصيه.

و خطب الإمام الحسین علیه السلام كما في مستدرك الحاكم فقال: أنا ابن النبي و أنا ابن الوصي.

أما الإمام الحسين علیه السلام فقد قال في خطبته يوم عاشوراء:

«أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلی الله علیه و آله و سلم و ابن وصيه و ابن عمه و أول المؤمنين بالله ...؟ الخطبة.

كثيرة هي الأحاديث التي وردت فيها كلمة (الوصية و الوصي)، ونحن إذا اقتصرنا على ما ذكرنا من أحاديث فلأنني أتوخى المرور بالشواهد و الأدلة لئلا أطيل على القارىء الكريم و غير الأحاديث ثمة آيات قرآنية كثيرة وردت فيها تلك الكلمة

(الوصية) يمكن الرجوع إليها.

أما الشعر العربي قبل ظهور «نهج البلاغة» فكان هو الآخر قد حمل لنا تلك الكلمة يحسن بنا أن نلم بشيء منه: قال عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

و منا علي ذاك صاحب خیبرٍ *** و صاحب بدرٍ يوم سالت کتائبه

وصي النبي المصطفى و ابن عمه *** فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

ص: 77

وقال عبد الرحمن بن جعيل:

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظةٍ *** على الدين معروف العفاف موفقا

علياً وصي المصطفى وابن عمه *** و أول من صلى أخا الدين و التقى

ومن البدريين الهيثم بن التيهان إذ قال:

قل للزبير و قل لطلحة إننا *** نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا *** يوم القليب أولئك الكفار

کناشعار نبينا و دثاره *** يفديه منا الروح و الأبصار

إن الوصي إمامنا و ولينا *** برح الخفاء وباحث الأسرار

و خرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول:

نحن بني ضبة أعداء علي *** ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي

وفارس الخيل على عهد النبي *** ما أنا عن فضل علي بالعمي

و قال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضاً:

يا ربنا سلم لنا عليا *** سلم لنا المبارك المرضيا

المؤمن الموحد التقيا *** لاخطل الرأي و لا غويا

بل هادياً موفقاً مهديا *** ثم ارتضاه بعده وصيا

أما خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و كان بدرياً فقد قال يوم الجمل:

ص: 78

يا وصي النبي قد أجلت الحر *** ب الأعادي وسارت الأظعانُ

و استقامت لك الأمور من الشا *** م وفي الشام يظهر الإذعانُ

حسبهم ما رأوا وحسبك منا *** هكذا حيث كنا و كانوا

و أما كتب التاريخ فقد نقلت لنا في طياتها مصطلح الوصي والوصية) هي الأخرى يجدر بنا الوقوف عندها بمرور سريع:

قال ابن واضح في تاريخه: و من جملة احتجاج الخوارج على أمير المؤمنين علیه السلام أنه ضيع الوصية فكان من جوابه علیه السلام: «أما أقوالكم أني كنت وصياً فضيعت الوصية فإن الله عز وجل يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (1) أفرأيتم هذا البيت لو لم يحج إليه أحد كان البيت كفر؟ إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر و أنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا بتركي لكم ....

و قال واضح أيضاً: و قال مالك بن الحارث الأشتر لما بويع أمير المؤمنين علیه السلام:

«أيها الناس هذا وصي الأوصياء و وارث علم الأنبياء، العظيم البلاء الحسن المضاء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان، و رسوله بجنة الرضوان من كملت فيه الفضائل، و لم يشك في سابقته و علمه و فضله الأواخر و لا الأوائل».

أما أبو جعفر الإسكافي المعتزلي فقال في (نقض العثمانية):

ص: 79


1- سورة آل عمران الآية: 97

و قال عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

وإن ولي الأمر بعد محمدٍ *** علي، وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول الله حقاً وصنوه *** و أول من صلى و من لان جانبه

و نقل لنا الخوارزمي في مناقبه كتاب عمرو بن العاص إلى معاوية قبل أن يتفقا جاء فيه:

فأما ما دعوتني إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي و التهور في الضلالة معك، و إعانتي إياك على الباطل، و اختراط السيف في وجه علي و هو أخو رسول الله و وصيه ووارثه، و قاضي دينه و منجز وعده وزوج ابنته.

و أما المسعودي، في مروج الذهب، فقد نقل لنا كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية و إليك ما يتعلق بالوصية قوله: فكيف - لك الويل - تعدل نفسك بعلي و هو وارث رسول الله

و وصيه.

و مما نقلت لنا المصادر الموثوق بها أقوال بعض المشاهير ممن تأخر عن عصر النبوة و الخلافة الراشدية و قد ورد فيها مصطلح الوصية و الوصاية.

قال الكميت بن زيد الأسدي في الهاشميات:

و الوصي الذي أمال التجوبي *** به عرش أمة لا ته_دام

كان أهل العفاف و المجد و الخير *** ونقض الأمور و الإبرام

و الوصي الولي والفارس المعلم *** تحت العجاج غير الكهام

و وصي الوصي ذي الخطة الفصل *** و مردي الخصوم يوم الخصام

ص: 80

و قال قيس بن الرقيات:

نحن منا النبي أحمد و الصد *** يق منا النقي و الحكماء

و علي وجعفر ذو الجناحين *** هناك (الوصي) والشهداء

وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد ابن الحنفية:

تخبر من لاقيت أنك عائذ *** بل العائذ المحبوس في سجن عارم

وصي النبي المصطفى وابن عمه *** و فكاك أعناق و قاضي مغارم

و قال شارح الهاشميات محمود محمد الرافعي عن البيت الثاني:

«وأراد ابن وصي النبي، و العرب تقيم المضاف إليه في الباب مقام المضاف ...».

و لكن في تذكرة الأمة روي البيت هكذا:

سمي نبي الله وابن وصيه *** و فكاك أغلال وقاضي مغارم

فانتفت الحاجة إلى تخريج شارح الهاشميات.

و قال السيد إسماعيل بن محمد الحميري في قصيدته المذهبة التي شرحها السيد المرتضى:

و أن قلبي حين يذكر أحمداً *** و وصي أحمد نيط من ذي مخلب

أما دعبل الخزاعي - كما جاء في معجم الأدباء - فقال في رثاء الحسين علیه السلام:

ص: 81

رأس ابن بنت محمد و وصيه *** يا للرجال على قناة يُرفَع

وأما الكتب التي أُلفت في الوصية في القرون الأولى و الصدر الأول قبل القرن الرابع - أي قبل صدور «نهج البلاغة» - فكثيرة نذكر منها ما صدر في القرنين الأول و الثاني:

1 - كتاب الوصية لهشام بن الحكم المشهور.

2 - الوصية للحسين بن سعيد الأهوازي.

3 - الوصية للحكم بن مسكين المكفوف.

4 - الوصية لعلي بن المغيرة.

5 - الوصية لعلي بن الحسن بن فضال.

6 - الوصية لمحمد بن علي بن الفضل.

7 - الوصية لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي.

أما ما صدر في القرن الثالث نذكر منها:

1 - الوصية ليحيى بن المستفاد.

2 - الوصية لمحمد بن الصابوني.

3 - الوصية لمحمد بن الحسن بن فروخ.

4 - الوصية و الإمامة لعلي بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب.

5 - الوصية لعلي بن رئاب.

6 - الوصية لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.

ص: 82

7 - الوصايا لمحمد بن علي السلحفاتي المشهور.

ذلك غيض من فيض و من أراد الاتساع فليراجع كتاب مصادر نهج البلاغة و أسانيده للشيخ عبد الزهراء الحسيني الخطيب 1 / 139 - 179. فقد اعتمدناه في كثير من شواهدنا جزاه الله خيراً.

فهل مزقت تلك الشواهد الظلام الذي غطى على عيون الذين ادّعوا إن الرضي انفرد بذكر الوصية و الوصاية؟ و هل أذابت الضباب الذي حال دونهم لرؤية الحقيقة وسط أشعة الشمس

الساطعة؟

أرجو أن أكون قد أسهمت مع من أسهم في إلقاء الضوء على واحدة من أهم تشكيكات المشككين في نسبة «نهج البلاغة» إلى الإمام علي علیه السلام. عسى أن يهتدي من يطلب الهداية فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (1) صدق الله جلّت قدرته.

6 - الإطناب و الإيجار

و مما دعاهم إلى التشكيك في نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي علیه السلام كونه أطنب في بعض الخطب و الكتب و أطال، كالقاصفة و الأشباح و عهد مالك بما لم يكن مألوفاً في صدر الإسلام (2).

ص: 83


1- سورة الرعد الآية: 17
2- أثر التشيع في الأدب العربي

في الحقيقة إن طول الخطب و قصرها، أو الإطناب و الإيجاز فيها لم يكن مقتصراً على عهد دون آخر، بل إن ذلك يتساوق مع المرحلة و الحدث و متطلباتهما؛ فكلما سخنت المرحلة و تشعب الحدث تطلب الأمر الارتفاع إلى مستواهما و التوفر على مفرداتهما و التوغل في أعماقهما و الإحاطة بتفاصيلهما و إماطة اللثام عن مفاصلهما. و هذا يتطلب من القائد استقراء المرحلة و الحدث ليستطيع بالتالي من وصف الحالة و طرح الحلول، ولا يكون ذلك إلا بالإطالة، أو الإطناب في الكلام وهو مما تطلبه عصر الإمام علي علیه السلام لما فيه من سخونة استثنائية لم تشهدها العهود التي سبقته؛ فهو علیه السلام - على قصر فترته في قيادة الأمة الإسلامية - خاض ثلاث حروب ضارية هي: الجمل وصفّين والنهروان وواجه أُناساً انقلبوا على تعاليم الإسلام المتمثلة بالقرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم، محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأُناساً أغرتهم الدنيا بزخرفها فنكصوا عن جادة الحق، و أُناساً تأرجحوا بين هؤلاء و أولئك.

فما الذي يفعله الإمام إزاء ذلك كله؟

أليس عليه غير التوجيه و الإرشاد و النصح؟

أيكون ذلك بكلمات موجزات قصار؟

حتى القرآن الكريم لم تكن سوره على وتيرة واحدة من الأسلوب؛ فثمة السور القصار جداً، بل والآيات القصار جداً، وثمة السور الطوال، بل والآيات الطوال، كل ذلك لتنسجم مع المرحلة و الحدث.

ص: 84

فالذين أنكروا على الإمام علي علیه السلام أن يكون صاحب نهج البلاغة لذلك السبب لم يتوفروا على عصره و ما أحاطت به من أحداث وإن كانوا قد اعترفوا - مضطرين - بقبول ذلك بقولهم: «نحن لا نقول إن هذا القدر من الطول في الخطب غير مقبول عقلاً ...» (1).

و لكي لا نترك موضوعنا بلا إسناد تاريخي - كما هو منهجنا في البحث دائماً - نقول: إن سمة «الطول» في الخطب كانت معروفة و منتشرة في الجزيرة العربية قبل عهد الإمام علیه السلام ؛ فقد روي أن قيس بن خارجة بن سنان خطب يوماً إلى الليل فما أعاد كلمة و لا معنى (2). وكذلك فعل سحبان وائل عندما وجد أن الضرورة تقتضي الإفاضة في الكلام و هو في مجلس معاوية إذ خطب من انتهاء صلاة الظهر إلى حلول وقت العصر (3)، ولم يقل أحد أن ذلك مخالف للبلاغة أو خارج على أصول الكلام.

و مع إطنابه ذلك كان يوجز في الكلام غاية الإيجاز على ما تقتضيه الحال. و في ذلك يقول الدكتور زكي مبارك (4): و سحبان وائل الذي عرف بالتطويل و أنه كان يخطب أحياناً نصف يوم، أثرت عنه الخطب القصيرة الموجزة، و ذلك يدل على أن الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر، وأن القاعدة المطردة لم تكن شيئاً آخر غير مراعاة الظروف ...

ص: 85


1- الإمام علي: أحمد زكي صفوة
2- البيان والتبيين
3- شرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون
4- في كتابة النثر الفني

إن مسألة الإيجاز و الإطناب كانت تجري على مقتضى الحال فكان الكاتب يوجز تارة و يطنب أخرى على وفق الظروف التي فيها رسالته و كان من الخطباء من يطيل و كان منهم من يوجز، و لا يرجعون في ذلك إلى قاعدة غير المناسبات التي توجب الكلام، فتقضي مرة بالإطناب و تقضي حيناً بالإيجاز.

فالإمام على علیه السلام فضلاً عن أنه عاش تلك الظروف و خالط خطباء ذلك العصر، فهو من قال فيه الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا مدينة العلم و علي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه». وخاطبه مرة قائلاً: أنت سيد الفصحاء وسيد البلغاء»، و هو من قال فيه ابن عباس: ما رأيت - قط - أذكى من علي بن أبي طالب علیه السلام. وهو من خاطبه عمر: لا أبقاني الله بأرض لست فيها يا أبا الحسن. كما قال:

لولا علي لهلك عمر. ثم هو من قال عنه معاوية: «فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره.

فإذا كان الإمام علي علیه السلام كذلك في الفصاحة و البلاغة و الذكاء فمن باب أولى أن يكون متمكناً من أدواته اللغوية تمكن الصيرفي من نقوده؛ فهو يطيل متى رأى أن الموقف يتطلب الإطالة و يقصر على وفق مقتضى الحال، و قد أنصف الدكتور زكي المبارك عندما قال:

و رسائل علي بن أبي طالب وخطبه ووصاياه، وعهوده إلى ولاته في نهج البلاغة تجري على هذا النمط؛ فهو يطيل عندما يكتب عهداً يبين فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي

ص: 86

يرعاه و يوجز حين يكتب إلى بعض خواصه في شيء معين لا يقتضي التطويل (1).

فتشكيكهم، إذن، في هذا الجانب حظه مثل حظه في الجوانب الأُخر لم يستقوا فيه إلا من سراب ولم يركبوا إلا ظهور الأرانب.

7 - السجع:

والسجع عكازة أخرى تعكز عليها المشككون في نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام. فقال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على النهج: إن فيه من السجع و التنسيق اللفظي، و آثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام و لا عرفه و إنما ذلك طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي و صدر الإسلام و افتن به أدباء العصر العباسي و الشريف الرضي جاء بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم و طريقتهم و مع اعترافه بأن من عرف ابن أبي طالب حامي عرين الفصاحة و ابن بجدتها لم يعسر عليه السليم. أقول مع ذلك فإنه - و في مقدمته تلك - راح يبطن تشكيكه بكلمات ملفوفة إذ قال: «السجع إذا جاء من غير تصنع و تكلف ولم تظهر سماجته و لم يثقل استماعه كان آية من آيات البلاغة ودلائل الفصاحة و مع ذلك فليس ما في الكتاب كله سجعاً و ما فيه من السجع فهو مما لم تدع إليه الصنعة، و لا اقتضاه الكلف بالمحسنات، و أكثره مما يأتي عفواً

ص: 87


1- المصدر السابق نفسه

بلا كد خاطر و لا تجشم هول و مثله في عبارات عصره واقع ومن عرف ابن أبي طالب كان حامي عرين الفصاحة و ابن بجدتها لم يعسر عليه السليم.

أما أحمد أمين فقد شكك هو الآخر بنسبة ما في النهج إلى الإمام علي علیه السلام إذ قال في فجر الإسلام: و استوجب هنا الشك أمور ما في بعضه من سجع منمق، و صناعة لفظية لا تعرف

لذلك العصر كقوله: و يعني الإمام علیه السلام:

أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير و أصلك الذي إليه تصير.

و اعتمد في شكه هذا على هوار الذي سبق أن شك في نسبته إلى الله جل و علا. إذ نقل عنه طه حسين في الأدب الجاهلي قوله: إن ورود هذه الأخبار في شعر أُمية بن أبي الصلت مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن، دليل على صحة هذا الشعر من جهة و على أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى.

لنناقش هؤلاء عسى أن نتوصل نحن و إياهم إلى منبع الحقيقة الصافي فنرتوي منه الحق و العدل والإنصاف:

1 - يقول محمد م محيي الدين عبد الحميد: إن فيه من السجع والتنميق اللفظي و آثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه ....

إذا كان ما قرره محمد محيي الدين عبد الحميد صحيحاً

ص: 88

فماذا نسمي قول الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم: «إن الأعمار تفنى و الأجسام تبلى والأيام تطوى والليل والنهار يتطاردان تطارد البريد، يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد، و في ذلك - عباد الله - ما يلهي عن الشهوات ويرغب في الباقيات الصالحات»؟

و ماذا نسمي قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «إن مع العز ذلاً، و إن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حساباً، و لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، وإن لكل شيء رقيباً، و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميت فإذا كان كريماً أكرمك، و إن كان لئيماً أسلمك و لا تُبعث إلا معه و لا تُسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحاً فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لم تستوحش إلا منه وهو عملك.

و ماذا نسمي قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «أفشوا السلام و أطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلّوا بالليل و النهار و الناس نيام.

و ماذا نسمي قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنما الحياء من الله أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن وما حوى و تذكر الموت و البلى.

و قوله صلی الله علیه و آله و سلم: إرجعن مأزورات غير مأجورات.

و ماذا نقول عن خطبة أبي بكر: «أستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلال والردى، (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ (1)

و عن خطبته: يا معشر الأنصار إن شئتم أن تقولوا آويناكم

ص: 89


1- سورة الكهف، الآية: 17

في ظلالنا و شاطر ناكم في أموالنا و نصرناكم بأنفسنا، قلتم، و إن لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد وإن طال به الأمد.

وماذا نقول عن خطبة لعمر في الاستسقاء: اللهم قد ضرع الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعت الشكوى و أنت تعلم السر و أخفى.

و ماذا نقول عن خطبة لعثمان خطب بها الناس لما نقموا عليه ما نقموا: إن لكل شيء آفة وإن لكل نعمة عاهة و في هذا الدين عيابون ظنانون يظهرون لكم ما تحبون، و يُسرّون ما تكرهون، يقولون لكم و تقولون.

و قبل ذلك؛ ماذا نقول عن خطبة قس بن ساعدة الإيادي و من الرواة لها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نفسه، ومنها (1):

«أيها الناس اسمعوا و عوا من عاش مات و من مات فات، و كل ما هو آتٍ آت ليل داج و نهار ساج، و سماء ذات أبراج، ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرساة، و أرض مدحاة، و أنهار مجراة، إن في السماء مخبراً و إن في الأرض لعبراً ... الخ.

أليس تلك الأقوال سجعاً ظاهراً و واضحاً؟ ثم أليست هي في عصر الإمام؟ و إذا انتهينا من تلك الأقوال وعدنا إلى منبع الإسلام الأول - القرآن الكريم - نجد فيه السجع يشكل السمة الأكثر ظهوراً:

ص: 90


1- النثر الفني - زكي مبارك

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾) (1)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾) (2)

(قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ 1 مَلِكِ ٱلنَّاسِ 2 إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ 3 مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ 4 ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ 5 مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ 6) (3)

(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرِ ) (4).

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ () وَ وَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) (5)

إضافة إلى السور: الذاريات الطور النجم الرحمن الواقعة، ... و غيرها من السور الطوال.

فماذا يعني هذا؟ أليس يعني أن الإمام علياً علیه السلام هو امتداد لعصره و العصر الذي سبقه؟ إن ذلك التواصل أمر طبيعي ينسحب على كل مفردات الحياة و اللغة هي إحدى تلك المفردات، ثم أهو غريب عن شخصيةٍ مثل علي بن أبي طالب علیه السلام الذي وصفه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و غيره أنه إمام الفصحاء و سيد البلغاء أن نرث عنه هذا الإرث المتفرد في تدفقه العفوي الطبيعي والمتفرد في بنائه

ص: 91


1- سورة الإخلاص، الآيات: 1 - 4
2- سورة الفلق، الآيتان: 1 - 2
3- سورة الناس، الآيات: 1 - 6
4- سورة الفجر، الآيتان: 1 - 2
5- سورة الشرح، الآيتان: 1 - 2

المعماري المنسجم مع كل عصر في الشكل و الموضوع؟ وأين هي آثار الصنعة في قوله علیه السلام:

إن تقوى الله دواء داء قلوبكم و بصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم و صلاح فساد صدوركم، و طهور دنس أنفسكم، و جلاء غشاء أبصاركم، و أمن فزع جأشكم، و ضياء سواد

ظلمتكم؟

و قوله علیه السلام و هو يخوف فيها أهل النهروان: «فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، و بأهضام هذا الغائط، على غير بينة من ربكم و لا سلطان مبين معكم قد طرحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار؟

نحن نقيم الدنيا و نقعدها إذا ما قرأنا لأبي العلاء المعرّي لزومياته و ننبري لشرحها والإشادة بها كتراث عربي (وهي كذلك لا شك ولكننا نعُد تلك اللزومية المتدفقة بشكل عفوي المتساوقة مع المفردات التي قبلها و التي بعدها تساوقاً لا تجعلك تحس بأي أثر للصنعة؛ إذ جعل التقوى دواء القلوب و بصر الأفئدة و شفاء الأجساد و صلاح الصدور وطهر الأنفس، و جلاء الأبصار و أمن الفزع وضياء الظلم.

هذه الوحدة الموضوعية العجيبة و الوحدة العضوية المتماسكة و الجرس الموسيقي الذي تبعثه لزومية ال_ «كم» الجميلة المنبعثة من نفس تحترق لتضيء الطريق للآخرين، تبدأ ب_ «التقوى» لتعدد لنا تأثيراتها و نتائجها على النفس البشرية و السلوك الاجتماعي و النظرة الشمولية للحياة.

ص: 92

أقول ... إذا ما قرأنا ذلك لعلي بن أبي طالب علیه السلام نعُدّه من (آثار الصنعة)

لماذا يا قوم؟ أليست مفردات علي علیه السلام هي ذاتها المفردات العربية التي و رثناها من عصور ضاربة في عمق الزمن؟ ولكنها جاءت على لسانه بعفوية بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء على اللسان لذيذة الوقع في الآذان موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها و للفكرة التي أملتها (1).

أليس كذلك؟

قليلاً من التأني و الإنصاف في إصدار الأحكام على معطيات رجل كان و ما يزال و سيبقى معلماً مهماً، بل و متفرداً من معالم حضارتنا و إرثنا الأدبي.

2 - يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته تلك:

وافتتن به (أي السجع) أدباء العصر العباسي، و الشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم.اه_.

ومعنى هذا الكلام أن الشريف الرضي هو الذي وضع هذا السجع لينسجم مع «نهج» معاصريه.

لو ألقينا نظرة فاحصة و دقيقة و منصفة على مؤلفات الشريف الرضي التي وصلتنا لوجدناها مختلفة عما في نهج البلاغة في

ص: 93


1- تاریخ بغداد

تركيباتها اللغوية و سياقها العام تمام الاختلاف؛ فالرجل له أسلوبه البحثي النابع من ثقافته اختارها هو لنفسه و من تأصل في تركيبه الذهني. أما أسلوب النهج فليس فيه ذلك.

إن محتويات النهج بما فيها السجع كانت وليدة اللحظة و الحدث و المعاناة واستشراف آفاق المستقبل، ولكنها كانت مترابطة متماسكة متساوقة مع بعضها بحيث شكلت بمجموعها وحدة موضوعية واحدة هي الله و العالم و الإنسان هذا أولاً، و ثانياً - وقد ألمحنا إليه فيما سبق - إن الشريف الرضي لو كان واضع ذلك السجع في طيات نهج البلاغة لأشار إليه، أو لأفرده ضمن مؤلف يضاف إلى مؤلفاته العديدة و لو عرفنا أن الرضي يتمتع بالتزام أخلاقي و ديني لأدركنا أنه يحتاط أن ينسب ما لغيره لنفسه و ما لنفسه لغيره نتيجة ذلك الالتزام. فضلاً عن إن جمل السجع تلك تتحدث عن شواهد تاريخية معروفة، كمخاطبة الخوارج بهدف تخويفهم وقد مر ذلك.

و قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر: فعند الله نحتسبه ولداً،ناصحاً و عاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، و ركناً دافعاً ....

و قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر: منيت بمن لا يطيع إذا أمرت و لا يجيب إذا دعوت لا أبا لكم ما تنظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحشمكم.

و كتطبيق عملي لما احتاط به الشريف الرضي في نقله قوله علیه السلام:

ص: 94

«العين وكاء» (1)

قال الرضي رحمه الله: وهذا من الاستعارات العجيبة ... و من الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي علیه السلام، وقد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرّد في كتاب «المقتضب» في باب اللفظ بالحروف، و في الأظهر الأشهر أنه للنبي صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد احتاط الرضي رحمه الله في نقل هذا الحديث في النهج فقال:

فهذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي صلی الله علیه و آله و سلم و قد رواه قوم لأمير المؤمنين وذكر ذلك المبرد ....

لا أدري هل يكفي هذا لإثبات أن الشريف الرضي لم يضف السجع ليتفق و سمات عصره و نقله نقلاً واثقاً عن لسان إمام الفصحاء و سيد البلغاء علي بن أبي طالب علیه السلام؟

فإذا كان لا يكفي فما ذنب من أراد أن يخرق سجف الظلام في طريق من تلفعوا به ولكنهم أخذوا يستجيرون به لئلّا تحرق عيونهم أشعة الشمس.

3 - و قال محمد مع محيي الدين عبد الحميد: السجع إذا كان من غير تصنع و تكلف، ولم تظهر سماجته، ولم يثقل استماعه كان آية من آيات البلاغة و دلائل الفصاحة ....

ماذا يعني بكلامه هذا؟

ص: 95


1- بلاغة الإمام علي لأحمد الحوفي

إن المتبادر إلى الذهن لأول وهلة يظن أن مراده الإشارة بقول الإمام في هذا الفن (السجع) و لكن بعد التمحيص والتدبر يظهر الكلام على حقيقته و هو: إنه أراد به الغمز الخفي و الاتهام المستور بأن هذا اللون من الكلام لم يكن ذا صلة بالإمام أولاً، و أنه يشوبه التصنع و التكلف والسماجة ثانياً. أما كونه ذا صلة بالإمام فهذا ما تحدثنا عنه في الفقرة (2) السابقة، و نضيف أنه علیه السلام، خاطب أهل البصرة قائلاً:

يا أشباه الرجال و لا رجال ... لوددت أني لم أركم و أعرفكم ... و دارستكم الكتاب و فاتحتكم المجاج، وعرفتكم ما أنكرتم، و سوغتكم ما مججتم لو كان الأعمى يلحظ و النائم يستيقظ (1).

فهو شاهد تاريخي لا يقبل الجدال إنه من قول الإمام علي علیه السلام. أما كونه يشوبه التصنع و التكلف و السماجة، فهذا مما يمكن دحضه بشواهد من أقواله علیه السلام، كقوله علیه السلام:

فليقبل امرؤ كرامة بقبولها و ليحذر قارعة قبل حلولها و لينظر امرؤ في قصير أيامه و قليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلاً فليصنع لمتحوله و معارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه وتجنب من يرديه، و أصاب سبيل السلامة ببصر من يبصِّره، وطاعة هادٍ أمره وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه و استفتح التوبة و أحاط الحوبة، فقد أقيم على الطريق و حُدي نهج السبيل.

ص: 96


1- نهج البلاغة 263/2

و قوله علیه السلام: «و أشهد أن محمداً عبده و رسوله أرسله بالدين المشهور، و القلم المأثور، و الكتاب المسطور، و النور الساطع، و الضياء اللامع، و الأمر الصادع إزاحة للشبهات و احتجاجاً بالبينات و تحذيراً بالآيات و تخويفاً بالمثلات، و الناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين و اختلف النجر، و تشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل و العمى شامل ...».

و لولا خوف الإطالة لاستشهدنا بالكثير من أقواله المسجوعة التي جاءت عفو الخاطر ولكنها لم تكن ذا صلة بالسماجة و التصنع والتكلف. بل كانت آية من آيات البيان العربي و لوحات فنية تحكي مسيرة هذا الإنسان في حياته اللاحبة.

4 - لقد سلم محمد محيي الدين عبد الحميد بأن الإمام علياً علیه السلام حامي عرين الفصاحة. كأن الإمام علياً علیه السلام كان يحتاج لشهادة محمد محيي الدين بأنه حامي عرين الفصاحة و كأننا لم نعرف ذلك فتبرع ليدلنا عليه.

إن مثل هذا الأسلوب يبعد صاحبه عن قواعد المنهج العلمي البحت. و يضيع عليه الحقيقة النظيفة لأنه درب شائك لا يسلم صاحبه من العثرات في مطباته الكبيرة، و إلا من منا لا يعرف أن علي بن أبي طالب هو إمام الفصحاء، و سيد البلغاء، و قد نقل لنا التاريخ و الروايات كثيراً من الشواهد و الأدلة بأنه حامي عرين الفصاحة أما أن محمد محيي الدين يأتي في القرن العشرين فيسلّم بذلك تسليم المضطرين فهذا لا يسمن و لا يغني من جوع.

ص: 97

إن الشمس لا يحجبها غربال المشككين و الغمازين واللمازين، وإذا حجبتها بعض الغيوم يوماً أو ساعة فإنها تبقى محتفظة بخواصها الفيزيائية و الكيميائية بل إنها بخاصيتها تلك تذيب الغيوم من حولها لتشرق بأشعتها الأرجوانية من جديد فتملاً الحياة حباً خلواً من الثقوب السود.

5 - أما أحمد أمين فقد اعتمد رأي المستشرقين في بلاغة و فصاحة الإمام علي علیه السلام و أسلوبه في الكلام.

متى كان المستشرق يعرف ما في الدار أكثر من صاحبها؟ بل متى كان أكثر إخلاصاً في نقل الحقيقة عن أبناء قومنا؟ حتى الذين اعترفوا برجالاتنا و أشاروا إلى معطياتهم بشيء من الإنصاف لكنهم ليسوا بالبدلاء عنا في إقرار هذا الأمر أو ذاك، لأننا عشنا حضارتنا و تواصلنا معها جيلاً بعد جيل. ولكننا نبقى نردد مغنية الحي لا تطرب و لسان حالنا يقول:

فلو غوّرت في تاريخ شعري *** و أبصرت الحقيقة ما عميت

ولكني هجرت تراث قومي *** وأقصرت الطريق وقد عييت

فداهمني الغزاة بعقر داري *** فما نافحت عنها أو نهيت

لأني مذ خلقت خلقت خصماً *** لبعضي، بل تأكلني الشتيت

فلم أشطف ثيابي عبر طستي *** فحاطت بي من الدنيا طسوت

وصرت أذب عن أفكار غيري *** و عن أفكار قومي قد غويت

نصوصياً غدوت لكل قولٍ *** غريب عن جنى قومي سهوت

كأني ما ورثت لهم تراثاً *** بِعَدِّ الرمل لكني نسيت

ص: 98

وصرت أغض طرفي عن تراثي *** ولكن عن تراثهمُ رويت

و ثمري لا يقيت بأرض قومي *** و لكن لو أتى منهم يقيت

و مرّ طعامهم حلو مذاقاً *** و حلو طعام قومي زقنبوت

وإن أدعى لذبٍ عن تراثي *** أراوغ، إذ كاني ما دُعيت

و لكن لو دعاني الغرب يوماً *** أقول له: لإرثك قد فُديت

فذاك لي الرواء إذا ظميت *** ولي مأوّى يقيني أو مبيت

وذاك لي الدواء إذا اعتراني *** ذبول المحل قلت به شُفيت

و أما إرثي الموروث أضحى *** لظّى لي، بل وفيه قد شويت

و قد نعتوه بالسلفي ظلماً *** و عنه بعيدة تلك النعوت

و قالوا: إنه إرث مقيت *** تقولب و هو في هذا مميت

و قالوا لم يواكب عصر قومٍ *** تناهوا فيه، بل أضحى يميت

و ما يدرون أني تهت إن لمّ *** أعب من ريِّه، بل ما حييت

و هم يدرون لكن أي بلوًى *** بأن يدروا و هم عنه سكوت (1)

ذلك هو حالنا في تقييم تراثنا، و إلا هل يحتاج رجل مثل الإمام علي علیه السلام إلى كبير عناء في إثبات مكانته في الحضارة الإسلامية؟ و دوره الكبير في بلورة الجوانب الفنية للغتنا العربية؟ وهو القائل:

هل منا مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ، أو مزار، أو مجار. والقائل:

ص: 99


1- الأبيات من قصيدة طويلة للمؤلف تعداد أبياتها 121 بيتاً من ديوانه المخطوط ج 3

أين من جد و اجتهد، و جمع و احتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، و زخرف فنجّد.

ألا يأخذك الجرس الموسيقي بسحره الخلاب إلى عوالم حالمة تلك الثنائيات

مناص و خلاص معاذ و ملاذ مزار و محار هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر، بل هي مترعة بالدفق الموسيقي المنساب بعذوبة و فراهة وعفوية.

8 - دقة الوصف:

يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تحقيق نهج البلاغة:

إن فيه من دقة الوصف و استفراغ صفات الموصوف و إحكام الفكرة و بلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش و الطاووس و النملة و الجرادة و كل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأول و لا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان و الفرس الأدبية و الحكمية ...».

إن الإنسان في كل عصر و مكان يصدر أحكامه على النابغين من ما هو فيه فإذا رأى خارقية ما في إنسانٍ ما أنكر عليه لأنها تمخض استثنائي لم تستطع مداركه القاصرة من الوصول إلى استيعابها فيبدأ بإصدار أحكامه، التي يحسبها أدلة إنكارية قاطعة بلا عمقٍ في التأمل في شمولية الرؤية و أحياناً إنصاف في الحكم. و النابغ دائماً يكون هدفاً لذوي العقول القاصرة و النظرة الضيقة و التفكير المتحجر و الأذهان المنغلقة على نفسها.

ص: 100

و لأن النابغ سابق زمانه، فمن الصعب أن يجد من يفهمه و يستوعب قدراته و معطياته الفكرية اللهم إلا القلة القليلة من الذين يقتربون منه في الخاصية تلك و قلة هم أولئك النابغون في المجتمعات البشرية، إذ لا تزيد نسبتهم عن 1درصد إن لم تقل.

و هكذا كان الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام «استثناءً» في عصره و بقي استثناءً في كل العصور إلى يومنا هذا.

فليس غريباً - إذن - أن نقرأ لهذا الكاتب أو ذاك رأياً في نابغ و آخر ينكر عليه نبوغه لا لشيء إلا لكونه قاصراً في نظرته أو حاسداً إياه، أو مفترقاً عنه في المذهب أو العرق أو التفكير، أو هي مجتمعة كلها فيه. فتأتي أحكامه مبتسرة تفوح منها رائحة لم يألفها إلا هو.

لذلك نرى إن كثرة الشاكين في (النهج) لم يسلكوا طريقاً فنياً في التحليل، ولم يركنوا إلى مقياس علمي خلا العاطفة و الأغراض، و لم يكونوا صيارفة كلام أحرار متجردين عن كل شيء (1) و إلا متى كانت دقة التحليل و إجادة الوصف وقفاً على قوم دون قوم؟ أو ليس الشعر العربي مملوء بدقة الوصف و استكماله؟ ثم أليس لقرشي شهد تنزيل القرآن، و صحب أفصح العرب منذ نعومة أظفاره، و كتب له الوحي، و سمع ما يفجره الله تعالى على لسانه من ينابيع الحكمة أليس لهذا القرشي ميزة عن سائر الناس؟ (2)

ثم أما كان يجب على أولئك الكتاب الذين استكثروا على

ص: 101


1- تحت راية الحق
2- مصادر نهج البلاغة وأسانيده

الإمام علي علیه السلام دقة الوصف - مثلما استكثروا عليه أشياء كثيرة غيرها بلا وجه حق - أن يدرسوا شخصيته بكل جوانبها، و عند ذاك تكون أحكامهم متفقة و عظمة و استثنائية هذه الشخصية الفذة.

ثم إن علي بن أبي طالب كان يستعين بذاكرة قوية، و قدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة و أخبار البشر، و أوصاف الأشياء. و كانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة بسمات الشيء الباطنة قبل الظاهرة.

و بفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، و الصفة بالأخرى ليقدم رؤية شاملة تضع الجزئي في موضعه الحقيقي، ضمن العام و تضع البعض ضمن الكل، و بما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء و يعكسها بأجمل تعبير و أقوى إيماء، وأدق وصف وأجلى تعبير، فإن سحر البيان الذي أوتيه علي بن أبي طالب كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية (1). ولكن هذا الانعكاس الوصفي الفريد كان له رد فعل معاكس لا يساويه في المقدار البحثي العلمي المنهجي، بل ساواه في النكوص عن جادة الحق و التأمل المنصف، فكان ما جاء به محمد محيي الدین عبد الحميد و أحمد أمين في فجر الإسلام و الدكتور شفيع السيد و محمود محمد شاكر و غيرهم ممن أنكروا على الإمام علي علیه السلام

ص: 102


1- علي بن أبي طالب سلطة الحق - عزيز السيد جاسم

هذا التفرد في التفكير و النظرة و دقة الوصف هو من رد الفعل ذاك.

إن ما كان يتمتع به الإمام علي علیه السلام من خارقية فائقة التصور جعلت منه مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة، فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، و الأخلاقي، ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، فإن طبيعة النفس المرهفة و العقل النير تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف. فيصبح الموصوف في الصورة البلاغية يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف و يتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.

إن علي بن أبي طالب كان يستنطق الصفات واهباً إياها المقدرة على أن تستعرض نفسها بشفافية أكبر (1). تماماً كما يفعل المصور الفوتوغرافي عندما يريد التقاط صوره فهو يختار الجوانب الفنية للأشياء فتأتي صوره أكثر تأثيراً من الأصل المصور. وهنا يكون الاعتماد على قدرة هذا المصور الإبداعية في تحريك كاميرته و اقتناص اللحظة و الشكل و زاوية النظر فإذا كان مبدعاً حقاً جاءت صوره مترعة بدفق لوني ناطق بكل آيات الإبداع.

و علي بن أبي طالب علیه السلام تميز بقوة ملاحظة نادرة ثم بذاكرة واعية تخزن و تتسع فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي

ص: 103


1- المصدر السابق نفسه

فکره و تقوي خياله فتسهل عليه محاكمة الأشياء و المقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها و أفضلها للبقاء والتعميم (1).

فليس مستغرباً - إذن - على مثل علي بن أبي طالب علیه السلام - إلا لدى قلة قليلة - أن يصف لنا ذلك الوصف الرائع لبعض الحيوان مما جعل أصحاب «الرأي ...» يقفون مذهولين أزاء هذه الصورة بل اللوحات الزيتية الرائعة التقنية فلم يجدوا لأنفسهم مفراً منها إلا الإنكار من كونها من بنات أفكار علي علیه السلام الأن عصره يفتقر إلى تلك القدرة الإبداعية ...! و إن الجزيرة العربية - و المدينة - لم تدجن الطاووس - مثلاً - الذي وصفه الإمام علي علیه السلام فأبدع في وصفه على الرغم من أن ابن أبي الحديد قد أوضح لهم أن الإمام علياً لم يشاهد الطواويس في المدينة بل بالكوفة و كانت يومئذ تجبى لها ثمرات كل شيء، و تأتي إليه هدايا الملوك من الآفاق، ورؤية المسافدة مع الذكر و الأنثى غير مستبعدة» (2).

أقول على الرغم من ذلك ظلوا يشككون في نسبة هذا الوصف الرائع للإمام علي علیه السلام متذرعين بحجج لا تقوم على دليل علمي و منطقي.

و هذا كله من الجهل بمقام أمير المؤمنين وفضله ومبلغه من العلم (3). و لكي لا نترك الكلام عارياً من شواهد من وصفه (نذكر

ص: 104


1- المصدر السابق نفسه
2- شرح النهج
3- مدارك نهج البلاغة للشيخ هادي آل كاشف الغطاء

نتفاً من ذلك الوصف على أننا سنعود إليه في فقرة لاحقة إن شاء الله.

قال علیه السلام يصف نملة:

انظروا إلى النملة في صغر جثتها و لطافة هيأتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدق الفكر و كيف دبت على أرضها وصُبّت على رزقها؛ تنقل الحبة إلى جحرها و تعدها في مستقرها، و تجمع في حرها لبردها و في وردها لصدرها مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان و لا يحرمها الديان و لو في الصفا اليابس والحجر الجامس. و لو فكرت في مجاري أكلها، و في علوها و سفلها و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرأس من عينها و أذنها لقضيت من خلقها عجباً و لقيت من وصفها تعباً، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي (1)

و قال علیه السلام يصف الخفاش:

و من لطائف صنعته و عجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، و يبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها وردعها

ص: 105


1- مدارك نهج البلاغة للشيخ هادي آل كاشف الغطاء

بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، و أكنّها في مكامنها، عن الذهاب في بلج ائتلاقها فهي مسدلة الجفون في النهار عن أحداقها، جاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها أسداف ظلمته و لا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها و بدت أوضاع نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضباب في و جارها أطبقت الأجفان على مآقيها و تبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً و قراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش و لا قصب، إلا أنك ترى مواضع للعروق بينة أعلاماً، لها جناحان لما يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا و ولدها لاصق بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت لا يفارقها حتى تشتد أركانه، و يحمله للنهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره (1).

و قال علیه السلام يصف الجرادة:

و إن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق الله لها عينين حمراوين و أسرج لها حدقتين قمراوين، و جعل لها السمع الخفي و فتح لها الفم السوي، و جعل الحس القوي، و نابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض يرهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا بجمعهم حتى ترد الحرث في

ص: 106


1- خطب أمير المؤمنين / لأبي الخير صالح بن حماد سلمة الرازي

نزواتها، و تقضي منه شهواتها، و خلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة (1).

وقال علیه السلام يصف الطاووس:

و يمشي مشي المرح المختال و يتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً، و قد نجمت من طنبوز ساقه صيصية خفيفة، وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، و مخرج عنقه كالإبريق و مغرزها إلى حيث بطنه، كصبغ الوسمة البانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال (2).

ثم:

ولو كان كزعم من زعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، و أن أنثاه تطعم لذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنحبس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب (3).

هذا فضلاً عن وصفه الأرض بأنهارها وجبالها وهضابها ومنبطحاتها، والسماء ونجومها وما فيها من عجائب الخلق و دقائق الصنعة (4).

ص: 107


1- خطب أمير المؤمنين / المروية عن الصادق علیه السلام المتوفى سنة 148 ه_
2- خطب أمير المؤمنين / لأبي محمد أو أبي بشر مسعدة بن صدقة العبدي
3- خطب أمير المؤمنين / برواية أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي الأسلمي
4- رسائل أمير المؤمنين لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي المتوفى سنة 283 ه_

إن دقة الوصف تلك من لدن الإمام علي علیه السلام تُعد مفخرة الحضارتنا العربية و الإسلامية أن يبرز فيها مثل علي بن أبي طالب علیه السلام و هو يحمل في تلافيف دماغه خوارق عقلية و فكرية عجيبة يظل التاريخ مهما امتد واتسع يذكرها بفخر واعتزاز.

9 - الألفاظ الاصطلاحية

ومما تعكزوا عليه في نفي نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي علیه السلام، استعمال ألفاظ اصطلاحية، التي يزعمون أنها عرفت في علوم الحكمة بعد تعريب كتب اليونان و الفرس الأدبية

و الحكمية.

و لا أحسبني بحاجة إلى الإفاضة في هذا الموضوع لأنني قد تحدثت عنه في كثير من المواضيع التي مرت و أبرزها قول النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم:

أنا مدينة العلم و علي بابها لذلك وجدت من المفيد الاستئناس برأي العلامة الشيخ محمد جواد مغنية، إذ يقول (1):

إن في القرآن قضايا علمية و فلسفية و تشريعية لم تعرفها العرب في عهد النبي ولا قبله و قد استدل علماء الكلام و فلاسفة المسلمين بالآيات القرآنية و الأحاديث النبوية في كثير من الموضوعات الفلسفية التي تكلموا عنها فهل هذه الآيات منحولة مدسوسة؟ وهل من الضروري إذا اتفق قول مع قول أن يكون

ص: 108


1- فضائل الإمام علي - محمد جواد مغنية

أحدهما مصدراً للآخر، و قد أثبت علماء الغرب و الشرق من غير المسلمين بأن القرآن و السنة هما المصدر الأول للحضارة الإسلامية و علومها و فلسفتها و كلنا يعلم أن علياً هو صنو الرسول و تلميذه و نجيّه، وشريك القرآن، بل هو القرآن الناطق، و ما بين الدفتين القرآن الصامت.

و الغريب أن هؤلاء المنكرون لا يستكثرون على ابن خلدون الكلام في علم الاجتماع قبل أن يعرفه روسو (1) و مونتسكيو (2) و أن يقولوا عن علومه و معارفه: إنها تدفق فجائي و حدس باطني و اختمار لا شعوري ويستكثرون على باب مدينة العلم أن يصف الطاووس، و أن يقول: الله أيّن الأين فلا يقال له أين؟ وكيّف الكيف فلا يُقال له كيف؟ و لأن يصف الباري تعالى بصفات تليق بجلاله و هو أعرف الناس به بعد الرسول.

هذا إلى أن الإمام تكلم عن أشياء لا يعرفها اليونان ولا غير اليونان.

تلك هي كلمة الحق و الموضوعية و لكن المشككين يصمون آذانهم كي لا يسمعوها و يعصبون عيونهم كي لا يروا الحقيقة شمساً ساطعة.

ص: 109


1- جان جاك روسو ولد في جنيف سنة 1762م، من كبار الكتاب في علم الاجتماع الفرنسيين و من مشاهير الدعاة إلى الثورة الاجتماعية. توفي سنة 1778م
2- مونتسكيو مؤلف فرنسي له أصول النواميس و الشرائع ولد سنة 1679م و توفي سنة 1755م

10 - التقسيمات العددية

و من تشكيكاتهم في نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي علیه السلام ورود تقسيمات عددية فيه. يقول محمد محيي الدین عبد الحميد في مقدمته على النهج:

وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل في تقسيم الفضائل أو الرذائل مثل قوله: «الاستغفار على ستة معانٍ» الإيمان على أربع دعائم الصبر واليقين والعدل والجهاد و الصبر منها على أربع شعب.

و بمثل ذلك قال أحمد أمين و غيره.

لا أدري أين كان الكتاب من أقوال العرب قبل الإسلام و أقوال الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم و أقوال الصحابة رضوان الله عليهم؟

يبدو أنهم لم يطلعوا على ذلك، و هذا نقص في الباحث عن الحقيقة فلا يحق له إعطاء الرأي - إذن -. أو أنهم يعرفون ذلك و لكنهم يريدون طمس الحقائق من خلال نفي وجودها، و هذا ليس من حقهم لأنه تراث يخص حضارة العرب منذ أن دب عربي على الأرض. و قبل أن تكون المذاهب و التعصب المذهبي، فإن غيرهم قد (فتح) عينيه (جيداً) و رأى شمس الحقيقة ساطعة و لكنها مغطاة بغربال فمزقوا هذا الغربال فظهرت الشمس «على ال_ ...» و هو ما نحن بصدده، إذ ستوقظهم من نومتهم بشمس الحقيقة و تجعلهم (يفركون) عيونهم من ظلام أناخ بكلكله عليهم فحرمهم ضوء الشمس و متعة الضياء. ولكي يكون كلامنا لا ثاني له سنذكر ما جاء على لسان من تربى الإمام علي علیه السلام في حجره وأخذ عنه

ص: 110

علومه في مدرسة الإسلام الأولى وهو الرسول العظيم محمد صلی الله علیه و آله و سلم ولسان الصحابة و الخلفاء الراشدين. و هو بالتأكيد قبل صدور نهج البلاغة بقرون.

فإذا قال الإمام علي لقائل بحضرته أستغفر الله: ثكلتك أمك! أتدري ما الاستغفار؟ إن للاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معانٍ: أولها الندم على ما مضى، و الثاني العزم على ترك العودة إليه أبداً، و الثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز و جل أملس ليس عليك تبعة و الرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، و الخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله.

أقول ... فإذا قال الإمام ذلك فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال قبله:

ستة أشياء حسنة ولكنها من ستة أحسن العدل حسن و هو من الأمراء أحسن، و الصبر حسن و هو من الفقراء أحسن و الورع حسن و هو من العلماء أحسن و السخاء حسن و هو من الأغنياء أحسن، و التوبة حسنة و هي من الشباب أحسن والحياء حسن و هو من النساء أحسن و أمير لا عدل له كغمام لا غيث له، و فقير لا صبر له كمصباح لا ضوء له و عالم لا ورع له کشجرة لا ثمر لها و غني لا سخاء له كمكان لا نبت له، و شاب لا توبة له كنهر لا ماء فيه و امرأة لا حياء لها كطعام لا

ص: 111

ملح له (1) و قال: «معشر المسلمين إياكم و الزنى فإن فيه ستة خصال ثلاثة في الدنيا و ثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء، و يورث الفقر، وينقص العمر، و أما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب و سوء الحساب و الخلود في النار (2).

و قال: أخلاء ابن آدم ثلاثة واحد يتبعه إلى قبض روحه و الثاني إلى قبره و الثالث إلى محشره، فالذي يتبعه إلى قبض روحه فماله و الذي يتبعه إلى قبره فأهله و الذي يتبعه إلى محشره فعمله (3). و عن عبد الرحمن بن عوف قال: إنه دخل على أبي بكر الصديق في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتماً فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر أتراه؟

قال: نعم.

قال: إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، و رأيتم الدنيا قد أقبلت و لما تقبل و هي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير و نضائد الديباج و تألموا الاضطجاع على الصوف الآذري كما يؤلم أحدكم أن ينام على حسك، و الله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا و أنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً و شمالاً، يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر.

ص: 112


1- الإرشاد للديلمي
2- الخصال للصدوق
3- الترغيب والترهيب

فقلت له:

خفض عليك - رحمك الله - فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، و إما رجل خالفك فهو مشير عليك، و صاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيراً، و لم تزل صالحاً مصلحاً، و أنك لا تأس على شيء من الدنيا.

قال أبو بكر:

أجل إني لا أسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن و ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عنهن. فأما الثلاث التي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا فد غلقوه على الحرب و وددت أني حرقت الفجاءة السلمي وأني قتلته سريحاً، أو خليته نجيحاً، و وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر و أبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً.

أما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تمثل لي أنه لا شراً إلا أعان عليه ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا و إن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد ووددت أني إذ وجهت خالداً إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت قد بسطت يدي كليهما في سبيل الله، و مدَّ يديه. ووددت أني سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 113

لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ و العمة فإن في نفسي منهما شيء» (1).

وقال عمر بن الخطاب في حديث له:

النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش و لا تعين العيش على أهلها و أخرى وعاء للولد، و أخرى على قمل يضعه الله في عنق من يشاء و يكفه عمن يشاء.

و الرجال ثلاثة رجل ذو رأي و عقل، و رجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأي فاستشاره و رجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً و لا تبع مرشداً» (2)

تلك بعض الأحاديث النبوية و الأقوال التي وردت عن أبي بكر وهي جزء يسير مما لو أردنا الإفاضة به وهدفنا الإشارة فقط إلى أن هذا اللون من الكلام متجذر في عمق الحضارة العربية ولكن إزميل محمد محيي الدين و أحمد أمين و شفيع السيد ومحمود محمد شاكر و غيرهم، إما أن يكون قصيراً فلا ينوش العمق أو من معدن رخو فلا يستطيع التوغل في البحث أو مثلَّماً لا يصلح لعمل بحث علمي منهجي كهذا. أقول هذا مضطراً لأن المطابع في لبنان - خاصة - تضخ يومياً مئات العناوين من الكتب، و للكتب التراثية حصة كبيرة منها، ولكن مع ذلك نرى

ص: 114


1- أخرجه أبو عبيدة في (الأموال) و الطبري في تاريخه، و ابن قتيبة في الإمامة و السياسة والمسعودي في (مروج الذهب) وابن عبد ربه في (العقد الفريد)
2- غريب الحديث لابن قتيبة

أمثال هؤلاء الكتاب لم يشيروا إلى ما أشرنا، يبدو أنهم لا يريدون أن يطلعوا على تلك المصادر لكي يقنعوا أنفسهم بأن ما قالوه من المسلّمات.

أما نحن فقد أدينا مهمتنا فليؤمن من يريد أن يؤمن وليكفر من يريد أن يكفر و إنا لله وإنا إليه راجعون.

11 - التنبؤات و التوقعات

و من تشكيكاتهم في نهج البلاغة كونه احتوى بعض الخطب و الأحاديث التي تنبأ و توقع الإمام فيها وقوع أحداث مستقبلية فقالوا إنها منحولة ...! و من مدخول الكلام عليه.

قال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على نهج البلاغة:

إن فيه عبارات ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه على الغيب و هذا أمر يجل عن مثله مقام علي و من كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسول و رأى نور النبوة.

أما عباس محمود العقاد هو الآخر يقول:

إن التنبؤات التي جاءت في نهج البلاغة عن الحجاج و فتنة الزنج و غارات التتار و ما إليها من مدخول الكلام عليه مما أضاف النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أو طویل (1)

ص: 115


1- عبقرية الإمام علي

لقد تحدثنا في الفقرة التاسعة دقة الوصف) عن الخارقية التي كان الإمام يتمتع بها في شيء من الإيجاز أو بمرور كمرور الكرام، و في فقرتنا هذه نرى أن نتوقف عندها بشيء من التفصيل غير المتوسع فيه.

إن الخارقية كعلم لم يثبت أقدامه بعد في وطننا العربي ولكنه في غير وطننا العربي دخل المختبرات و صاروا يجرون عليه التحليلات المختبرية في جوانبه كلها كما في أمريكا و الاتحاد السوفياتي (سابقاً) و لقد اهتمت تلكما الدولتان بهذا العلم و سمي (الباراسايكولوجي) أي ما وراء النفس أو الإدراك الحسي العالي، أو الخارقية كما ثبّتنا في فقرتنا التاسعة و فقرتنا هذه.

في الواقع إن الخارقية موجودة في هذا الشعب أو ذاك و في أجناس مختلفة من العالم و في عصور هي الأخرى. و لكم قرأنا أو سمعنا أن شخصاً ما ظهر في هذا المكان أو ذاك و صار يتحدث بأشياء مستقبلية ويطبب المرضى ويؤثر في الأشياء سلباً و إيجاباً بنظرة من عينيه أو يستكنه الأشياء المخفية فيُدِل عليها و يعطي أوصافها و كمياتها أو مقاديرها. و إذا ما أردنا الخوض في هذا الموضوع فالأمثلة من الكثرة بحيث يمكن إفراد كتاب ضخم لها ولكننا سنضرب أمثلة قليلة ونمر بها سريعاً لندخل بعد ذلك في موضوعنا (التنبؤات والتوقعات عند الإمام علي علیه السلام )

في أحد الأيام دخل شاب ألماني إلى مدينة الألعاب عندهم (لونا بارك) وبعفوية محضة نظر إلى ساعته اليدوية وركز في نظره على أميالها فالتوت الأميال فتعجب من الأمر فرفع رأسه شاخصاً

ص: 116

ببصره إلى العربات الكهربائية السلكية و هي تجري كأنها تسير على سكة قطار على الأرض و صار يديم النظر بتركيز شديد فتوقفت العربات عن العمل وأصاب الناس الذعر فهرع مسؤولو مدينة الألعاب و فيما هم في حيرة من أمرهم أخبرهم الشاب الألماني أن توقفها كان بتأثير من عينيه و هنا سرعان ما استدعي ذلك الشاب إلى مقر لجنة من العلماء ليستفيدوا من قدرته الخارقية تلك.

و ثمة صبي اسمه (عليوف) كان طالباً في مدرسة متوسطة في مدينة (كييف) في الاتحاد السوفياتي (السابق). كان هذا الصبي لا يرتاح لدرس الأدب، و في أحد الأيام - و هو على رحلة الدرس - ركز نظره على المدرس المختص بدرس الأدب، حتى استطاع - دون أن يدري بادئ الأمر - أن يربك المدرس فصار يتلعثم بكلامه أو يذرع الغرفة جيئة و ذهاباً دون إرادته. و لما شعر المدرس بالإحراج كلف أحد الطلاب بقراءة الدرس فصار (عليوف) يركز نظره على زميله فأربكه هو الآخر فعرف (عليوف) أن ذلك كان بتأثير عينيه أخبر أهله بالأمر فصاروا يختبرونه إذ أخفوا عدة روبلات و سألوه عما أخفوا فأخبرهم ودلهم على مكانها.

و ثمة عائلة تسكن قضاء الكوفة التابعة حالياً لمحافظة النجف تعمل في صيد السمك يستطيع أفراد هذه العائلة رؤية ما خلف الثياب بقدرة خارقية من أبصارهم.

و ثمة عائلة أخرى في قضاء الهندية (طويريج) التابع لمحافظة كربلاء (حالياً) يستطيع أي واحد منها إيقاف السفن عن الحركة بمجرد النظر إليها بتركيز خاص.

ص: 117

و ثمة فتاة و أبوها في لبنان يستطيع الأب تسريب حرارة المحموم من جسمه بمجرد مسك يد المحموم فتتسرب الحرارة من جسمه إلى يد الرجل و منها تنتشر في الفضاء. فيما تستطيع الفتاة أن تحرك الأشياء دون أن تلمسها كما تستطيع قراءة أي كتاب بالمقلوب.

و في الستينيات من القرن العشرين ظهر صبي عراقي اسمه عادل شعلان يستطيع حل أي مسألة حسابية أو رياضية معقدة دون أن يستخدم القلم أو أي جهاز إلكتروني. و كان في الصف الخامس الابتدائي.

و مثله فتاة هندية.

و في أوائل السبعينيات ظهر صبي آخر في العراق اسمه ظافر إذ أظهره السيد كامل الدباغ في برنامجه التلفزيوني (العلم للجميع) كان يضرب أي رقم في أي رقم آخر مهما طال و يعطي النتائج بلا خطأ. حتى وصل حد الأرقام إلى ما لا توجد في أرقامنا فسماه مقدم البرنامج: (ظافريون).

و ثمة طفلة في كوريا لأبوين مدرسين في كلية الهندسة تستطيع حل أعقد المسائل الهندسية التي عجز الطلاب من حلها و قد عرضت في تلفزيون العراق.

و في العراق أشخاص كثيرون يتمتعون بكهرومغناطيسية في أجسامهم يستطيعون بواسطتها شفاء كثير من الأمراض.

كما أن بعض الأشخاص منهم لهم القدرة على التنبؤ بنتائج

ص: 118

الانتخابات العامة، و يتوقعون أحداثاً مستقبلية أغلبها، إن لم يكن كلها، كان صادقاً وواقعاً.

وأخيراً وليس آخراً هناك الطبيب الفرنسي الشهير صاحب التنبؤات المعروفة باسمه تنبؤات نوستر آداموس التي طبعتها الدار الوطنية لوزارة الثقافة و الإعلام في العراق. تلك التنبؤات التي اهتم بها العالم أيما اهتمام وصُوِّرت بالفيديو و عرضت على شاشات التلفزيون و هي عبارة عن رباعيات فيها توقعات أحداث خلال عشرة قرون قال شراحها إنها تحققت و ما زالت تنتظر التحقيق.

تلك كانت إلمامة سريعة عن ذوي القدرات الخارقية ومن أراد التوسع يمكنه أن يجد ذلك من خلال معاينات شخصية في الحياة أو خلال تناثرها هنا وهناك في بطون الكتب التراثية

والحديثة.

والآن نتساءل، أيهما أقرب إلى التصديق و القبول في امتلاك قدرة خارقية، الشاب الألماني أو عليوف أو عادل شعلان أو ظافر أو الطفلة الكورية أو الرجل اللبناني و ابنته أو العائلة الكوفية (السماكة) أو العائلة الطويرجاوية - نسبة إلى قضاء الهندية - أو نوستر آداموس أم الإمام علي بن أبي طالب؟

نحن لا نعرف عن أولئك الذين ذكرناهم الشيء الكثير في النسب والعراقة ولكننا نعرف عن علي بن أبي طالب علیه السلام أنه ربيب حجر النبوة، إذ تقول الروايات إنه علیه السلام عندما ولد جاءه الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله

ص: 119

بيده، وسماه علياً، و بصق في فيه و أصلح أمره ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام. و قد ذكرنا ذلك من قبل. و هكذا كان في اليوم الثاني.

إذن فعلي بن أبي طالب علیه السلام ما كان شخصاً عادياً مقطوع الجذور عن العراقة العربية و النبع الإسلامي الصافي؛ فهو إمام البلغاء و سيد الفصحاء و هو باب مدينة العلم، وهو الذي «سن الفصاحة لقريش»، وهو الذي تعلم من ذي علم، وهو الذي ورث علمه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. فهل كثير عليه أن يتنبأ ويتوقع؟

إن العالم يقيم الدنيا و يقعدها إذا ما برز شخص في جانبٍ ما فيه شيء من الخارقية فتبدأ الصحافة و الوسائل المسموعة و المرئية تتسابق في نشر الخبر و تنظيم اللقاءات معه، و الشواهد كثيرة عبر تاريخنا المعاصر.

فما بالنا نحن العرب - و قد برز فينا شخص قلما برز مثله في التاريخ - و أعني به الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لا نفخر به أمام العالم باعتباره يشكل الجزء الأكثر إضاءة في حضارتنا العربية و الإسلامية؟

و للأسف أقول إننا بدلاً من أن نزداد فخراً بشخصية علي بن أبي طالب علیه السلام انبرى بعض مثقفينا، لا للتقليل من شأنه علیه السلام فحسب بل توجيه السهام من خلال التشكيك بمعطياته الذهنية والإبداعية ناسين أو متناسين أن التشكيك بتلك المعطيات إنما هو تشكيك بحضارتنا العربية و الإسلامية لأن علي بن أبي طالب علیه السلام يقف في رأس تلك الحضارة كأبرز معلم من معالمها

التاريخية المضيئة.

ص: 120

لقد خُص علي بن أبي طالب بالمعرفة الإلهامية، مثلما خص بالتوقد العقلي و قد تلقى علي علیه السلام تلك المعرفة من النبي العظيم الذي كان يلقمه العلم، ويشهده التجربة، فكانت روحه ترى ما لا تراه العين و كان ذهنه الذي يتفتق عن المعارف و الأفكار يومض بالحدس و التوقعات التي تدخل ضمن رؤى أكدتها الأحداث والوقائع (1)

إن المغيبات في نهج البلاغة إنما هي نتيجة تعلم الإمام من ذي علم فإن الله تعالى أطلع نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم على أمور غيبية فعلّمها النبي لوصيّه و دعا له بأن يعيها صدره و تضطم عليها جوانحه، فأخبر أمير المؤمنين الناس ببعض ذلك حسب مقتضيات الأحوال، و أفضى إليهم ببعض ما سمع وما كذَب ولا كُذَّب (2).

قال الإمام موسى الكاظم علیه السلام مجيباً يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قال له:

جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟

فقال علیه السلام:

- سبحان الله ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت شعرة فيه و لا في جسدي إلا قامت.

ثم قال:

- لا والله ما هي إلا وراثة ورثتها عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. (3)

ص: 121


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده - عبد الزهراء الخطيب
2- أنظر أمالي الشيخ المفيد
3- أنظر عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي بن أبي طالب. وعزيز السيد جاسم: علي بن أبي طالب سلطة الحق

و قال الشيخ ميثم البحراني في شرحه نهج البلاغة في كيفية علم أمير المؤمنين علیه السلام بعض المغيبات:

لا يقال لا نسلّم أن ذلك علم ألهمه الله إياه، و أفاضه عليه، بل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أخبره بوقائع جزئية من ذلك، و حينئذ لا يبقى بينه و بين غيره فرق في هذا المعنى فإن الواحد منا لو أخبره الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بشيء من ذلك لكان له أن يحكي ما قاله الرسول و إن وقع الخبر به على مثل قوله و يدل على ذلك قوله بعد وصف الأتراك و قد قال له بعض أصحابه في هذا المقام؛

- لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك و قال للرجل وكان كلياً:

- يا أخا كلب ليس هذا بعلم غيب إنما هو تعلم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة و ما عدده الله سبحانه بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) (1).

من ذكر وأنثى وقبيح وجميل، وشقي وسعيد، ومن يكون للنار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيه صلی الله علیه و آله و سلم فعلمنيه، و دعا بأن يعيه صدري و تضطم عليه جوانحي.

وهذا تصريح بأنه تعلم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأنا لا نقول: إنا لم ندع علیه السلام يعلم الغيب بل المدعى أنه كان لنفسه القدسية

ص: 122


1- سورة لقمان، الآية: 34

استعداد أن تنتقش بالأمور الغيبية عن إفاضة جود الله تعالى، و فرق بين الغيب الذي لا يعلمه إلا الله و بين ما ادعيناه، فإن المراد بعلم الغيب هو العلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده و ذلك إنما يصدق في حق الله تعالى إذ كل علم لذي علم مداه فهو مستفاد من جوده إما بواسطة أو بغير واسطة فلا يكون علم غيب و إن كان إطلاعاً على أمر غيبي لا يتأهل للإطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس خُصّت بعناية إلهية كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ﴾ (1) فإذا عرفت ذلك ظهر أن كلامه علیه السلام صادق مطابق لما أردناه فإنه نفى أن يكون ما قاله علم غيب لأنه مستفاد من جود الله تعالى وقوله:

و إنما هو تعلم من ذي علم إشارة إلى واسطة تعليم الرسول له و هو إعداد نفسه على طول النصيحة بتعليمه، و إشارة أن كيفية و أسباب التطوع و الرياضة حتى استعد للانتقاش بالأمور الغيبية و الإخبار عنها و ليس التعليم هو إيجاد العلم - و إن كان أمراً قد يلزم إيجاد العلم - فتبين إذن، أن تعليم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن مجرد توقيفه على الصور الجزئية بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، ولو كانت الأمور التي تلقاها عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم صوراً جزئية لم يحتج إلى مثل دعائه وفهمه لها فإن فهم الصور الجزئية أمر ممكن سهل في حق من له أدنى فهم و إن ما يحتاج إلى الدعاء، وإعداد الأذهان له بأنواع الإعدادات هو الأمور الكلية العامة

ص: 123


1- سورة الجن، الآيتان: 26 - 27

للجزئيات و كيفية انشعابها عنها و تفريعها و تفصيلها وأسباب تلك الأمور المتعددة لإدراكها، و ما يؤيد ذلك قوله علیه السلام: «علّمني رسول صلی الله علیه و آله و سلم ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب». وقول الرسول: أعطيت جوامع الكلم وأعطي علي جوامع العلم. و المراد بالانفتاح ليس إلا التفريع و انشعاب القوانين الكلية عما هو أهم منها، و بجوامع العلم ليس إلا ضوابطه و قوانينه. و في قوله (أُعطي) بالبناء للمفعول دليل ظاهر على أن المعطي لعلي جوامع العلم ليس هو النبي علیه السلام ابل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطى النبي صلی الله علیه و آله و سلم جوامع العلم و هو الحق سبحانه

أما الأمور التي عددها الله سبحانه فهي من الأمور الغيبية، و قوله:

لا يعلمها أحد إلا الله كقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) (1) و هو محتمل للتخصيص كما هو في قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ) (2) و هذا الأمر واضح لا يحتاج العاقل إلى استكشافه إلى كلفة.

يظهر مما نقلنا عن البحراني - وقد أطلنا فيه - أن معطيات الإمام علي علیه السلام التنبؤية و التوقعية أو (الغيبية) مصدرها أمور ثلاثة هي:

1 - التكوين الخلقي: أي تكون الخلايا الدماغية التي

ص: 124


1- سورة الأنعام، الآية: 59
2- سورة الجن الآيتان 26 - 27

تتحسس ما هو فوق الإدراك الحسي الاعتيادي للإنسان كالحاسوب الذي بلغ من تطوره العملياتي ما تجاوز الأجيال التي سبقته في الصنعة شكلاً و محتوى أي في الحجم و الخلايا، وهذا التكوين من الله جلت قدرته.

2 - التعليم المستمر و الدربة المتواصلة والرياضة النفسية و هذا من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

3 - الاستعداد النفسي في التحمل و الصبر، وهذا ما ألزم نفسه به علیه السلام فهو منه.

إذن؛ إن الإمام علياً علیه السلام لو أراده الله أن يكون كذلك فأوصى إلى نبيه الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم أن يعدّه الإعداد الذي أراده الله فلبّى الرسول أوامر ربه خاصة أنه وجد في الإمام علیه السلام الاستعداد

المدهش لهذا التكليف الإلهي.

و قد كانت البصيرة المحمدية الملهمة، قد أعطت كلمات النبوءة التي فسّرت جميع ما مر به علي بن أبي طالب علیه السلام من محن أو صراعات و حروب مدمِّرة داخل الوسط الإسلامي، و من الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رجل يقال له ذو الثدية كان - قبل ذلك - يتجاسر على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو يوزع غنائم معركة (حنين).

- إعدل يا محمد!

فيتجاهله الرسول، فيكرر بصلافة:

- إعدل يا محمد!

ص: 125

ثم يكرر

- إعدل يا محمد فإنك لم تعدل!

فيجيبه الرسول غضباً:

- و يلك و من يعدل إذا لم أعدل؟

أراد البعض قتله، ولكن الرسول أبى ذلك، ثم قال لهم:

... سيخرج من ضئضى هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئاً، ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث الدم ... يخرجون على حين غرة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم آيتهم رجل أسود محدج اليد، إحدى يديه كأنها ثدي امرأة إنهم شر الخليقة يقتلهم خير الخلق و الخليقة و أقربه عند الله وسيلة ...».

و حلَّ وقت آخر و في زمن آخر توجه فيه علي علیه السلام إلى الخوارج الذين قادوا أنفسهم إلى المذبحة و الهزيمة.

كان علي متأكداً أن «ذو الثدية» من بين قتلى الخوارج قائلاً لأصحابه:

والله ما كَذَبتُ و ما كُذِّبتُ - أُطلبوا الرجل - إنه في القوم!».

و فتشوا الجثث واحدة واحدة حتى عثروا عليه فصاح الناس:

- ذو الثدية!

ص: 126

خرَّ علي ساجداً شاكراً و هو يقول:

- صدق الله و رسوله!

وهلل المسلمون.

-الله أكبر ... الله أكبر!

و تؤاتيه المعرفة الإلهامية بتنبؤ مدهش حين جاؤوه بمروان بن الحكم، بعد انتصاره في حرب الجمل، و كان قد استشفع له الحسن والحسين علیهم السلام لطالبين له الغفران.

وانتهى الفتيان بعد قليل من استرحامه واستنزال عفوه على الباغي المقهور، ثم أردفا يقولان:

- يبايعك يا أمير المؤمنين.

و تأتي و مضة أخرى تميط الغطاء عن أحداث مأساوية قادمة فيا لها من ومضة تكشف عن مأساة كالحة!

كان في طريقه إلى الشام فوقف عند بقعة؛ سيشتهر إسمها (كربلاء) و ظل يرنو إليها بنظرة واجمةٍ و يهمس بصوت حزين:

ههنا ههنا ههنا موضع رحالهم و مناخ ركابهم ههنا مهراق دمائهم.

فتأخذ الناس من حديثه رجفة و يسألون في توجس و إشفاق:

و ماذا يا أمير المؤمنين؟».

و يتمهل بهم حتى إذا دارت عينه فرأت الحسين، توقف

ص: 127

نظره على محيّاه في رنوة حانية ندية غائمة هتف يجيب:

ثقل لآل محمد ينزل ههنا ... فويل لهم منكم ... وويل لكم منهم ... ويل لهم منكم: تقتلونهم ... وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم إلى النار!

و يسير ناكس الرأس إلى مطيته (1).

و نضيف إلى ما أوردناه من تنبؤاته وتوقعاته علیه السلام تلك الرؤيا الواقعية التي جعلته يرى وجه قاتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي ... يرى يده ... و هيأته فيحدس حدس العارف بباطن الزمن الآتى كان رسول الله يقول له:

- يا علي ... أتعلم من أشقى الأولين؟

- نعم ... عاقر الناقة.

- أتعلم من أشقى الآخرين؟

- لا ...

- من يضربك ههنا (مشيراً إلى هامته)، و يخضب هذه (مشيراً إلى لحيته).

وهاهو الأشقى يأخذ حصته من العطاء، عليّ يتفحصه مردداً:

- من يحبس أشقاها؟

ص: 128


1- المصدر السابق نفسه

ما كان ابن ملجم يعلم ما ادّخره له القدر من دور خسيس، لكن علياً كان يتذكر كلمات الرسول، كان يتذكر نبوءة الدم، و فعلة الشقي، فكم قال لبعض خاصته المحبين الذين كانوا يشفقون عليه، حين الحرب من خوض الحشود، و اقتحام السلاح غير آبه شيئاً بما يصيبه أثناء القتال:

إني لا أُقتل محارباً، وإنما أُقتل فتكاً وغيلة ... يقتلني رجل خامل الذكر.

و التقت العيون المذعورة واسعة الحملاق حائرة النظرات، و تناثر في الجو حوله رشاش الهمسات في تساؤل و استفسار لكن الإمام مال عنهم إلى الوافد المشبوه، فمنحه عطاءه الذي جاء له، ثم تمثل ببيت شعر لعله أن يغني عن التفسير:

أُريد حياته ويريد قتل *** عذيرك مر مليلك من مراد

هنا انبثق من البيت المروي مثل شعاع أضاء في الخواطر ما قد غمض على الناس في بدء ذلك اللقاء، من كلام الإمام، الآن رفع الغطاء و برح الخفاء و انجاب الستر عن السر المسربل بالغيب، فلا حاجة بهم إلى تعقب أمره، أو تبين ملامحه من خلال غموض الإيماء ... فطالب العطاء الذي أثار قلق القوم، و حرك فيهم الشعور بالخطر حميري من اليمن فيما يعلم نفر منهم غير قليلين نسبة آل مراد أهو حليف المراد ...؟

هلا تقتله يا أمير المؤمنين؟

ص: 129

- فكيف أقتل قاتلي؟

ثم قال:

- إنه إن لم يقتلني فكيف أقتل من لم يقتل؟

أي كيف يقام القصاص بغير جرم و العقاب قبل الجريمة؟

و من تنبؤاته علیه السلام لما قال:

سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وسائقها.

قام إليه رجل فقال:

- أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر.

فقال له علیه السلام:

- و الله لقد حدثني خليلي إن على كل طاقة شعر من رأسك ملك يلعنك و إن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يغويك و إن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و كان ابنه قاتل الحسين علیه السلام طفلا يحبو - و هو سنان بن أنس النخعي (1).

وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي، عن سويد بن غفلة أن علياً علیه السلام خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي القرن، فوجدت خالد بن

ص: 130


1- شرح النهج ج 2

عرفطة قدمات، فاستغفر له، فقال علیه السلام:

- و الله ما مات و لا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال:

- يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حمار، وإني لك شيعة محب.

فقال:

- حبيب بن حمار؟

قال:

- نعم

قال له ثانية:

- الله إنك لحبيب بن حمار؟

فقال:

- إي والله.

فقال:

- أما و الله إنك لحاملها و لتحملنها، و لتدخلن بها من هذا الباب - و أشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة ...

قال ثابت:

فوالله ما مت حتى رأيت ابن زياد و قد بعث عمر بن سعد

ص: 131

إلى الحسين بن علي علیه السلام و جعل خالد بن عرفطة على مقدمته و حبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل» (1).

و من تنبؤاته علیه السلام: ما أخبر به أن أعشى همدان يقتل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي فكان ما أخبر به.

تلك التنبؤات ما هي إلا غيض من فيض و بعض من كل سقناها لا لغرض إحصائي، بل للإشارة فقط لعل الذين يشككون بأقوال الإمام و خارقيته أن يمزقوا تلك الشرائق التي لفوا أنفسهم بها، كما شكك العقاد رحمه الله بما ورد عنه علیه السلام عن الحجاج و فتنة الزنج و غارات التتار، فقال عنها: «إنها من مدخول الكلام عليه. هب أن الأخبار عن الحجاج و فتنة الزنج أضيفت إلى الكتاب بعد صدوره بزمن قصير أو طويل - لأنه لا يريد أن يتهم الرضي بالوضع - و لكن كيف تضاف إلى الكتاب الأخبار عن فتنة التتار، و كل حوادث التتار من حملات جنكيز خان إلى احتلال هولاكو بغداد كان ما بين سنة (616) و سنة (656) و هذه نسخ «نهج البلاغة» المخطوطة قبل هذا التاريخ ... و فيها نسخة المتحف العراقي المؤرخة سنة (556) ه_ أي قبل وقوع تلك الحوادث بمائة عام و فيها هذا الكلام الذي يشير فيه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام إلى تلك الفتن و المحن و هو لا يختلف عما في النسخ المطبوعة بل و المخطوطة أيضاً (2).

يقول ابن أبي الحديد في شرحه خطبة الإمام علي علیه السلام التي

ص: 132


1- المصدر السابق نفسه
2- مصادر نهج البلاغة وأسانيده - عبد الزهراء الخطيب

أشار فيها إلى التتار و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر علیه السلام عنه قد رأيناه عياناً، ووقع في زماننا، و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا، و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق ...».

لا أدري هل يكفي ما نقلنا من شواهد و ما ثبّتنا من عينات أولئك المشككين في نسبة نهج البلاغة إلى الإمام علي علیه السلام، إذا کانوا موضوعيين فإنه يكفي و إلا فهم في ضلال مبين لا يفرقون بين الليل و النهار و لا بين الظلمة والضياء، و لا بين الحق و الباطل.

فلو كان علي بن أبي طالب علیه السلام (نوستر آداموس) الطبلوا له وزمروا ولشرحوا رباعياته و عملوا لها أفلاماً عرضوها على الشاشة الصغيرة، و لقالوا فيه ما قالوا بالشواهد و الأدلة على صدق تنبؤاته. و لكن علي بن أبي طالب المسلم الأول و أصلب المجاهدين في سبيل الإسلام وابن عم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و زوج ابنته و وصيه وباب مدينة،علمه أقول ... و لكن علي بن أبي طالب علیه السلام أذهلهم بمعطياته الذهنية فراحوا في ضلالهم يعمهون و يقولون ما لا يفقهون و يلقون الكلم على عواهنه دون الرجوع إلى الأسانيد و الثوابت التاريخية التي لا تقبل الرد والطعن.

12 - الزهد:

و مما أخذوه على النهج ما فيه من الحث على الزهد و ذكر الموت، و قرض أو ذم الدنيا على منهاج المسيح علیه السلام.

ص: 133

فالحياة الدنيا انعكاسات سلوكية الإنسان عبر نشاطاته و فعالياته و معطياته المتعددة الجوانب، والإنسان نفسه - منذ أن هبط على هذه الأرض - كان أسير مفاصل الحياة؛ فكل مفصل یشده إليه بهذا القدر أو ذاك، منذ أن كانت تلك المفاصل بسيطة لا تتعدى الغابة و متطلباتها حتى تعقدت فشملت المدينة و تمخضاتها المتسارعة و المتشابكة بوتائر حرة تتساوق مع فهم الإنسان لها و استيعابه إياها و حيناً تسبقه في ذلك فيظل يلهث راكضاً خلف تلك التمخضات فيسقط في هذه الحفرة أو تلك و يصطدم بهذا الجدار أو ذاك و تأخذه الأمواج متلاطمة بين اصطفاق تلاطمها فلا ينجو منها إلا من كان يجيد السباحة فيرسو على البر متأملاً ذلك التلاطم في الأمواج تأمل من يريد أن يرسم له طريقاً يجعل الحياة معبراً إلى مستقر آخر يبعده عن تلك الحفر والجدران وذلك التلاطم في الأمواج.

وكان علي بن أبي طالب علیه السلام هو ذلك السابح الماهر الذي استطاع أن يتبين طريقه فيتجنب السقوط في حفر الحياة الدنيا و الاصطدام بجدرانها و الانجراف بأمواجها المتلاطمة، حتى إذا تمكن من ذلك تمكن الواثق من نفسه المعتمد على قدراته الإرادية المتفردة صار يراقب أولئك المتساقطين في حفر الحياة و المصطدمين بجدرانها و المنجرفين بتيارات أمواجها و عندما اكتملت الصورة لديه راح يخضعها لفحوصات مختبرية عديدة من حيث المنظور و التساقط اللوني و الأبعاد و غير ذلك من مقومات الصورة فخلص من تحليلاته المختبرية تلك إلى: إن على الإنسان - لكي يكون في مأمن من حفر الحياة وجدرانها وأمواجها

ص: 134

المتلاطمة - أن يعتمد في انعكاساته السلوكية ثالوثاً لا بد منه شاء أم أبى هو (الزهد - ذكر الموت - ذم الحياة. )

و الزهد في نظر الإمام علي علیه السلام له مفهوم خاص قد تفرد به بعد الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم إذ بدأ بمحاسبة نفسه محاسبة شديدة و نادرة تفوق تصور العقل الإنساني؛ فقد تحدى الإمام مغريات الحياة و زخرفها البراق الخداع بخط مستقيم و ثابت و اعتمد في ذلك قانوناً صارماً سنّه لنفسه فسار بمقتضاه طوال حياته العاصفة، و القانون هو:

من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه، قبل تعليم غیره.

و كان الرسول العظيم صلی الله علیه و آله و سلم أسوته الحسنة في ذلك إذ روى عنه قائلاً:

«لقد كان صلی الله علیه و آله و سلم يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد و يخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري و يردف خلفه، و يكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول:

يا فلانة لإحدى زوجاته غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها فأعرض عن الدنيا بقلبه و أمات ذكرها من نفسه و أحب أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتخذ منها رياشاً و لا يعتقدها قراراً و لا يرجو منها مقاماً».

و في التطبيق العملي نراه علیه السلام، بعد أن هاجر إلى المدينة مع

ص: 135

من هاجروا إشتغل في مزرعة لأحد اليهود، و بلغت ثروته ذات يوم أربعة دراهم فكره من أجلها نفسه، و سعى سعيه بالليل و النهار حتى أنفقها على ذوي حاجات فنزلت فيه الآية الكريمة: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ... ) (1)

و خاطب بعض معارضيه بقوله علیه السلام:

ما تنقمون مني؟ إن هذا من غزل أهلي (و أشار إلى قميصه. )

و رآه عدي بن حاتم و بين يديه شنّة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير و ملح، فقال:

- إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً و بالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك؟

فقال الإمام علیه السلام:

علل النفس بالقنوع وإلّا *** طلبت منك فوق ما يكفيها

ورد على الذين كانوا يرون في قوتها علیه السلام ما يضعف صحته، فيقعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان، فقال لي علیه السلام:

كأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، و منازلة الشجعان، ألا إن الشجرة البرية أصلب عوداً و الروائع الخضر أرق جلوداً، و النباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، و أنا من رسول الله

ص: 136


1- سورة البقرة الآية: 274

كالصنو من الصنو و الذراع من العضد و الله لو تظاهرت الدنيا، على قتالي لما وليت عنها.

إن زهد علي بن أبي طالب علیه السلام لم يكن لنزوة طارئة و لا الحاجة مرحلية بل هو يستند على قانون ثابت مستقيم كما بيّنا. إذ وضع نصب عينيه مقولة الرسول العظيم محمد علیه السلام منهجاً له في تعامله مع قوانين الحياة.

إذ يقول عمار بن ياسر:

- سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لعلي بن أبي طالب: يا علي إن الله عز و جل قد زيّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها: الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً و لا تنال الدنيا منك شيئاً، و وهب لك حب المساكين و رضوا بك إماماً ورضيت بهم أتباعاً، فطوبى لمن أحبك و صدق فيك، و ويل لمن أبغضك وكذب عليك (1).

إذن، فزهد الإمام علي ما كان إلا بأمر من الله على لسان رسول الله فما عليه إلا التنفيذ ليكون موضع ثقة الله و رسوله.

فالإمام في زهده ما كان هدفه أن يرسم منهجاً للناس في انعكاسات سلوكهم على بعضهم، بل كان ينفذ أمراً صدر إليه من صاحب القرار الأول على لسان رسوله و خازن وحيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

و نحن نستدل على هذا من كتبه و رسائله إلى عمّاله و نصحه أصحابه الخلّص. من ذلك كلامه مع عاصم بن زياد الحارثي حين

ص: 137


1- أسد الغابة

سمع عنه أنه لبس العباءة و تخلى عن الدنيا، فدعاه علیه السلام، فلما رأى ما هو عليه قال:

- يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك؟ أترى الله أحلَّ لك الطيبات و هل يكره أن تنالها؟ أنت أهون على الله من ذلك.

قال:

- يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشومة مأكلك؟

قال:

- ويحك إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.

و منه عهده لمحمد بن أبي بكر الذي جاء فيه:

إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون و أخذوا منها ما أخذ الجبابرة المتكبرون ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ و المتجر الرابح (1).

و منه رسالته لعثمان بن ضيف واليه على البصرة جاء فيها:

و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب

ص: 138


1- شرح النهج

هذا القمح و نسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً و حولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الزهد، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش» (1)

أما ذكر الموت في منهج الإمام علي علیه السلام - الذي ورد في النهج فأخذه المشككون حجة بعدم نسبته إليه - فهو مستمد من القرآن الكريم، الذي عاش الإمام علیه السلام تفاصيله من بدايات الدعوة الإسلامية حتى وفاة الرسول الكريم علیه السلام و انقطاع الوحي؛ فقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) (2).

وقوله - جل من قائل -: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (3)،

و قوله عز وجل:

(ففَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (4). وقوله جل شأنه: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) (5) وقوله جلت قدرته: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (6) و قوله عز من قائل:

ص: 139


1- المصدر السابق نفسه
2- سورة النساء الآية: 78
3- سورة آل عمران الآية: 185
4- سورة المائدة الآية: 106
5- سورة ق، الآية: 19
6- سورة الرحمن الآية: 26

(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (1) ... الخ.

و هذا من الأمور البديهية لأن الإمام علیه السلام منذ نعومة أظفاره تربى في حجر النبوة و رضع من لبان الإيمان و بنى نهجه على وفق ما رأى و سمع و تلقى من تفاصيل الدعوة الإسلامية، بما فيها الوحي و السلوك اليومي للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و ما جرى في تضاعيف تلك الدعوة من صراعات قبلية و مذهبية و انشقاقية (الردات) و حروب، وغيرها فكونت الأساسات الإرتكازية لبناء الإمام الفكري و العقائدي الشامخ؛ فشخصٌ تلك ارتكازاته لا بد له أن يجعل منها منهجه في الحياة تفكيراً و تطبيقاً، وهكذا إن ما ورد في نهج البلاغة إن هو إلا خلاصة ما نشأ و تربى عليه الإمام علیه السلام فهو - إذن - منتسب إليه علیه السلام بقضّهِ و قضيضه من ألفه إلى يائه بما فيه الزهد و الموت وذم الدنيا.

و مبدأ ذكر الموت قائم بالأساس - ليس على التشاؤم و اليأس و الهزيمة من متطلبات الحياة - على أنه يذكر الإنسان بأن يعيش شجاعاً لا يرهب سلطاناً، ولا يجبن في نزال، ولا يكف عن القتال كريماً لا يحرص على مال، عادلاً لا يظلم بريئاً الحرص و الطمع سالماً من الخبث و الجشع، صابراً في البأساء و الضراء، شاكراً عند الشدة و الرخاء لا تزعزعه الشدائد و لا تثني عزمه الأوابد (2)، عزيزاً لا يخزى و لا يذل عاملاً بجد لا يكل و لا يمل لا تريبه ريبة و لا يجزع لمصيبة، لا تفسده الشهوات،

ص: 140


1- سورة القصص، الآية: 88
2- الأوابد: جمع آبدة وهي الداهية

ولا تقوده اللذات ولا تضعضعه البليات، لا يؤخر عملاً إلى غد مخافة أن يدركه الأجل فيفوته أجر العمل.

وهذا هو السبب في عز المسلمين في الغابر، وذلهم في الحاضر، فإنهم كانوا يذكرون الموت في جميع أوقاتهم، حتى أن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كانوا لا يتركون الوضوء مخافة أن تدركهم و هم محدثون، فلما أيقنوا أنهم صائرون إلى الموت لا محالة وكانوا ذاكرين له في جميع حالاتهم هانت عليهم نفوسهم فأرخصوها في سبيل الله، وجدوا في العمل فأدركوا غاية الأمل ومن هانت عليه نفسه عز وأبى الذل وكان ذلك شعارهم في جهادهم وغزواتهم وأرجازهم وحروبهم.

هذا العباس بن علي علیه السلام في رجزه عند جهاده من هم أكثر منه عدداً وعدة:

لا أرهب الموت إذا الموت زقا *** حتى أداري في المصاليت لقى (1)

إني أنا العباس أغدوا بالسقا *** و لا أخاف الشر عند الملتقى

وقد اقتدى بذلك بأخيه الحسين علیه السلام إذ يقول في رجزه:

الموت خيرٌ من ركوب العار *** و العارُ أولى من دخول النار

و قد جرى شعراء المسلمين وأدباؤهم، في صدر الإسلام، في هذا المجرى فقال قائلهم:

و إذا لم يكن من الموت بدٌ *** فمن العار أن تموت جباناً

ص: 141


1- زقا: بمعنى صاح و المصاليت جمع مصلاة: و هو الرجل السريع المتشمر

وما أحسن قول المتنبي حين قال:

إذا غامرت في أمر مرومِ *** فلا تقنع بما دون النجومِ

طعم الموتِ في أمرٍ حقيرٍ *** كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ

و كانوا يعدّون نسيان الموت ضلالاً، و ذكره هدًى وكمالاً فقال شاعرهم:

صاحِ شمّر ولا تزل ذاكر ال_ *** _موت فنسیانه ضلالٌ مبینُ

بذلك حسنت حالهم و صلحت أعمالهم، و أدركوا ما أملوا، و عز سلطانهم وقويت شكيمتهم، و سخّروا البلاد، و خضعت لهم جبابرة العباد و لما حلت الدنيا بأعينهم و تناسوا ذكر الموت أسرعوا إلى اللذات و انقادوا إلى الشهوات و هابوا الموت ففزعوا لكل صيحةٍ وصوت وتداعت أركانهم، و تزعزع سلطانهم، فهلكوا وضلوا وخابوا وذلوا فذكر الموت حياة فيه رضا الرحمن، و نسيانه ممات فيه مرضاة للشيطان (1).

أما ذم الدنيا الذي ورد في النهج فاتخذه المشككون قميص عثمان بعدم نسبة ما في «النهج إلى الإمام علي علیه السلام، فهو مردود أيضاً لأن الإمام علیه السلام لم يرد بذم الدنيا بمعنى أن نعيش في كهوف حجرية و نغل أيدينا إلى أعناقنا و ندير ظهورنا عما فيها مما خلقه الله للإنسان رحمة و نعمة فهو الذي دعانا إلى أن نأكل من طيبات الدنيا و ننعم بخيراتها من ماءٍ و شجر وطير وحيوان ف_ (ألْمَالُ وَ الْبَنُونَ - هما - زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (2) فمن ترك ما خلق الله

ص: 142


1- إحياء الشريعة
2- سورة الكهف، الآية

في الدنيا لخدمته فهو ظالم نفسه في تركه ما وهبه الله إياه، فيبوء بخسران مبین.

و تأسيساً على ذلك إن الإمام علياً علیه السلام لم يذم ما حلل الله في الدنيا بل ذم ما حرم و ما حرّم ينسينا ذكر الله و نعمه علينا و يلهينا عما أوجبه علينا من إعداد أنفسنا لحياة الآخرة الدائمة.

فالدنيا في نهج البلاغة على ضربين:

دنيا تطلب لذاتها مع الغفلة عما ورائها و هي الغفلة عما ورائها و هي المذمومة والتي ذكرها الإمام علي علیه السلام بالدم.

و دنيا تطلب لما بعدها و تؤخذ من حلّها، و تنال من الوجه الذي أذن الله به وهي المحمودة - و قد أشار الإمام علیه السلام إليها أيضاً - لأن الدنيا خلقت لغيرها ولم تُخلق لنفسها (1). و هي دار صدق لمن صدقها و دار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن یزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله و مصلى ملائكة الله و مهبط وحي الله و متجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا فيها الجنة. (2)

فصفوة القول: إن أمير المؤمنين علیه السلام يرى أن ما أحل الله في الدنيا أكثر مما حرّم منها، و بمقدور الإنسان أن يتمتع بزينتها المحللة و يتناول من طيبات رزقها مع الحذر من اتباع الهوى

و طول الأمل.

ص: 143


1- شرح النهج
2- المصدر السابق نفسه

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (1)وإذا استعصى على الإنسان أن يتوصل إلى ذلك إلا بما حرّم الله، (فطوبى للزاهدين في الدنيا) (أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً، وماءها طيباً ) (2). و (و كلٌّ مقتصر عليه كافٍ) (3). و «و ما خير بعده النار بخير، و ما شر بشر بعده الجنة، و كل نعيم دون الجنة محقور، و كل بلاء دون النار عافية. (4)

و لهذا قال علیه السلام و الله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، و أَجَرُّ في الأغلال مصفداً، أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله و رسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد و غاصباً لشيء من الحطام. (5)

نخلص من ذلك كله إلى أن «الزهد و ذكر الموت و ذم الدنيا في نهج البلاغة إن هو إلا منهج اختطه الإمام علي علیه السلام لنفسه لأنه وعى حقيقة الإسلام أكثر من غيره منذراً نفسه لمعطياته التربوية، فهو امتثال لأوامر الله بنفس راضية مرضية و لم يرد من ذلك هجر ما وهبه الله للإنسان و السكن في الكهوف والغابات بدليل أنه علیه السلام تزوج و أولد أولاداً و أكل وشرب مما رزقه الله بالطيب الحلال ولكنه في ذلك كله ما كان ينسى الله وفضله على

ص: 144


1- سورة الأعراف الآية: 32
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه
5- المصدر السابق نفسه. و انظر: مصادر نهج البلاغة و أسانيده لعبد الزهراء الخطيب

العالمين فتجنب الباطل و تمسك بالحق في سلوكه اليومي فوصلتنا انعكاساته السلوكية من ناحية المعطى الفكري من خلال النهج فهو له ومنه وإليه يعود بالنسب الصحيح و القول الصريح.

13 - وصف الحياة الاجتماعية

و مما تعكزوا عليه من تشكيك في نسبة النهج إلى الإمام علي علیه السلام، قول أحدهم: إن فيه وصف الحياة الاجتماعية على نحو لم يُعرف إلا في عصور متأخرة ... لأنه رأى أن ما ورد فيه «يشكل طعناً شديداً على الوزراء و الحكام و الولاة والقضاة والعلماء في السلوك و الأخلاق وفي الذمم و الضمائر ووصفا للقضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة» (1).

نفهم من كلام أحدهم هذا أن الإمام علياً تناول في النهج:

1 - الولاة

2 - القضاة

3 - العلماء

بما «لم يُعرف إلا في عصور متأخرة».

في الواقع إنني ما كنت راغباً في خوض هذا الموضوع و لما ألحَّ عليَّ المنهج قررت أن أمرَّ به مروراً سريعاً لا لأنني أفتقر لأدوات الرد إنما لأن الموضوع من أساسه عنكبوتي النسج

ص: 145


1- أنظر أثر التشيع في الأدب العربي

في مقدماته ونتائجه، ولكن - و بعد إطراقة من التفكير و التأمل - وجدت أن الواجب يدعوني أن أفصّل فيه بعض التفصيل فأغوص في أعماق بحره لأُرِيَ الذين شدوا عيونهم بخرق سود لئلا يروا الشمس ساطعة فأنكروا عليها سطوعها.

أقول ... لأُرِيَهُم أن في بحر علي بن أبي طالب لمرجاناً كثيراً و ياقوتاً مختلفةً ألوانه.

لا شك أن أي متتبع - موضوعياً كان أم غير موضوعي - يعرف أن التاريخ الإسلامي - منذ بدء الدعوة المحمدية حتى نهاية الحكم الراشدي - كان يتميز بعدم الاستقرار السياسي و الاقتصادي و المالي وغيرها من مرتكزات أي نظام و ذلك أمر طبيعي لأن ما جاء به الرسول محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم بوحي من الله، لم يكن بالأمر الهيِّن ولا هو من طراز التغييرات الشكلية في البنى الفوقية، أو الهيكلية المعروفة في ذلك العهد أو غيره، مما قبله وبعده، بل كان يهدف إلى تغيير جذري وشامل في البناء الفوقي - ليس في الجزيرة العربية فحسب، بل في العالم كله -.

(وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (1)

و العلاقات التحتية مع قمة ذلك الهرم المبني على علائق اجتماعية غاية في التخلف السياسي و الاقتصادي و الفكري، هو قائم على مرتكزين أساسيين هما:

«السيد و المسود» أو «المالك والمملوك».

ص: 146


1- سورة الأنبياء، الآية: 107

و أي خروج على ذينك المرتكزين كان يُعد خروجاً على قيم هي موضع اعتزازهم الشديد، بل هي مما لا يمكن السكوت على أي تغيير يحصل في بنائه الهرمي ذاك، لأنها كانت متجذرة في عمق التاريخ العربي، ولكن جاءت الدعوة الإسلامية فخضخضت ذلك البناء فوجدته «نمراً من ورق» فوضعت على مرتكزاته معول الحق فانهار انهياراً عجيباً، وعبثاً كانت محاولاته في لعق جراحاته لأن معول الإسلام كان يحفر في العمق من ذلك الجذر ليقتلعه من أساسه، وهكذا بدأ الإسلام يؤسس مرتكزات جديدة لبناء قيم جديدة عليها بما لم تألفه الجزيرة العربية؛ إذ جعل العبد بإزاء سيده بل فضّله أحياناً عليه لا فضل لقرشي على حبشي إلا بالتقوى و كلكم لأدم و آدم من تراب و «كلكم سواسية كأسنان المشط و كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته و «المسلمون إخوة» و (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1). و تلك القيم الجديدة لا شك أنها ليست جديدة عليهم في التلقي و وجوب التنفيذ فحسب، بل هي مما شكلت صفعة قوية لذلك الموروث المتجذر في أعماق النفس العربية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (2)

و دليلنا أن أول من آمن بالدعوة الإسلامية، في ساعاتها و أيامها الأول هم أولئك العبيد الذين ارتبط مصيره_ بأراضي أسيادهم كالحيوان و الشجر بل الحيوان و الشجر أفضل منهم

ص: 147


1- سورة الحجرات، الآية: 13
2- سورة الرعد الآية: 11

لأنهما كانا يجدان من يخدمهما و لكن العبيد قد «خُلقوا للخدمة ...!» فقط فلا أحد يقيم وزناً لآدميتهم و تركيبهم الإنساني من مشاعر و عواطف و أحاسيس، حتى كانت الشرارة الأولى لثورة الحق فزحفوا نحوها و حملوا مشاعلها في طريق وعر لاحب.

أما السادة - ما خلا النفر القليل منهم - فقد دخلوا الإسلام مضطرين غير مؤمنين ليحافظوا على مياه وجوههم و مراكزهم الاجتماعية إزاء هذا الزحف النوراني الكبير.

و لكن هل يبقى أولئك السادة مستسلمين لهذا التغيير الجذري الشامل؟

إن التاريخ ليذكر - منذ بدء التدوين - أن لكل ثورة سقوطاتها على الطريق، و ثمة عبارة تقول: «الثورة تأكل أبناءها» و هذا أمر طبيعي جداً، خاصة في ثورة مثل الثورة الإسلامية الانقلابية ذات القيم الشمولية الجذرية - وقد ألمحنا إلى ذلك في فقرة سابقة - إذ ما إن استقرت الأوضاع لصالح الإسلام - كعقيدة - في الجزيرة العربية في الأقل حتى بدأ التململ يشكل ظاهرة في صفوف عِلية القوم فكانت الآيات القرآنية تنزل تباعاً ناصحة حيناً و مرشدة أحياناً ومحذرة مرة ومتوعدة تارةٌ وناعتة إياهم ب_ المنافقين والماكرين والمجرمين كما نعتتهم بالكذب والزور والبهتان والرياء والخديعة، وما إلى ذلك من صفات أولئك الذين دخلوا دين الله لتطمين مصالحهم وهم بذلك مضطرون حيال هذا الزحف الذي أفقدهم صوابهم.

وبعد صحوتهم تلك صاروا يخططون للالتفاف على «الثورة»

ص: 148

فأبدوا تقرباً عجيباً من قيادتها الأساسية محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم ثم من القادة الذين أعقبوا الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فتغلغلوا في المناصب المختلفة، السياسية منها و الإدارية والفقهية والقضائية والعسكرية، و بذلك استطاعوا أن يبسطوا نفوذهم على الهيكل الهرمي لدولة الإسلام - خاصة بعد رحيل الرسول الكريم علیه السلام إلى اللطيف الخبير - ليس بالنمطية العربية قبل الإسلام بل بنمطية جديدة تتفق و الواقع الجديد، بازدواجية غير منظورة إلا لمن يمتلك إدراكاً حسياً عالياً ومجسّات غاية في التحسس مثل الإمام علي علیه السلام فهم إما أن يكونوا تجاراً أو أرباب مهن فهؤلاء صاروا - باسم الإسلام - يوسعون قاعدتهم على حساب القيم الجديدة و باسمها.

فماذا ننتظر من الإمام علي علیه السلام، و هو الذي يمتلك «أُذناً واعية» و رضع لبان العلم من رضاب رسول الرحمة وقائد التغيير الجذري الشامل؟

هل يدع أولئك على كيفهم يحفرون لهم أسساً جديدة و يضعون فيها مرتكزات جديدة مخالفة - في تخطيطها و هندستها - ما جاء به الإسلام؟ أم يتصدى لهم لتبصيرهم أولاً و لتحذيرهم ثانياً و لتعريفهم للرعية ثالثاً؟

ذلك ما فعله منذ أول بادرة ظهرت للانحراف عن مبادئ الإسلام فقال عن أولئك المتاجرين بالإسلام المقيم منهم والمضطرب بماله و المترفق ببدنه فإنهم مطرد المنافع وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد و المطارح، في برِّك و بحرك، و سهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها و لا يجترئون

ص: 149

عليها، فإنهم سلم لا تُخاف بائقته و صلح لا تخشى غائلته، و تفقد أمورهم بحضرتك، و في حواشي بلادك ...». و أردف قائلاً: «و اعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، و احتكاراً للمنافع، و تحكماً في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسولالله صلی الله علیه و آله و سلم منع منه. و ليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف» (1)

ليس بتلك الإشارة التبصيرية وحدها أشار الإمام علیه السلام إلى عامله على مصر بل ترصد تحركاً آخر هو إبقاء الأرض يباباً بلا عمران لتظل أمور أولئك «التجار» «ماشية» في التفافهم على مبادئ القيم الجديدة مما جعل الإمام ينبّه عامله مالك الأشتر على مصر بقوله: (وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء أو قلة انتفاعهم بالعبر ... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لغيرهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، و لم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن يشكو ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالّة أي مطر يبل الأرض، أو إحالة أرض

ص: 150


1- من رسالة إلى مالك الأشتر / شرح نهج البلاغة

اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم و تبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قولهم؛ بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم و الثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم ... فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل بما حملته.

ولأنه علیه السلام يعلم بنواياهم و مقاصدهم و نوازعهم وركضهم الحثيث وراء منافعهم الذاتية نراه في اليوم الثاني من بيعته خطب قائلاً:

أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما لكم.. وعليَّ ما عليكم ... وإني حاملكم على منهج نبيكم، و منفذ فيكم ما أُمرت به، إنّ في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق أيها الناس.. ألا لا يقولن رجال منكم - غداً - قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل و اتخذوا الوصائف الروقة ... إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ... ألا وأيما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته فإن الفضل غداً عند الله و ثوابه وأجره على الله ... ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله فصدق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب

ص: 151

حقوق الإسلام وحدوده فأنتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، و للمتقين عند الله أحسن الجزاء فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله، ولا يتخلفن أحد منكم ... من أهل العطاء.

فهل يرضي ذلك أولئك الذين لم يعتنقوا الإسلام إلا بعد أن رأوا فيه واقعاً لا محيص عنه فرفعوا راية الاستسلام بدل راية الإسلام، ولكنهم ظلوا يتحينون الفرص لاستعادة مجدهم، ولما تولى الإمام علي علیه السلام، الأمر و صار يحكم بمبادئ القرآن وسنة محمد صلی الله علیه و آله و سلم توجهوا إليه بطريقة التفافية أن يخفف عنهم في سياسته، أجابهم علیه السلام:

أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟

و الله ما أطور به ما سمر سمير و ما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً ...! لو كان المال لي لسويت بينكم، فكيف وإنما المال مال الله؟

ألا و إن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه أو يضعه في الآخرة.

و هذه السياسة إن وافقت بعض المسلمين المؤمنين حقاً بمبادئ الإسلام فإنها لا توافق أولئك الذين أعمت الدنيا بصائرهم فأنستهم نقاء المبادئ و صفاء العقيدة و بهاء القيم النبيلة التي جاء بها الإسلام، الذي ساوى بين العبد و سيده و جعل التقوى مقياساً يُعرفُ به المسلم المؤمن من المنافق، و أبرز ما في المساواة الصلاة و الزكاة والحج، إذ أن الصلاة يستوي فيها العزيز والذليل

ص: 152

ويقفان موقفاً بمكان واحد ينطقان بنفس الألفاظ ويأتيان نفس الحركات ونلمس في الزكاة التي تؤخذ من الغني بعض عروض الحياة لتردها على الفقير حتى يشعر كلاهما، وإن باعدت بينهما الأنساب بشعور الإخاء، ونلمسها في الحج، تزدحم بأرضه المقدسة أقدام الرجال والنساء فلا يميز بينهم فارق واحد، بمناسك الحج حفاة شبه عراة لا يسترهم إلا ذات اللباس يستوي فيه كافة الناس أردية الأكفان التسوية الحقة هي جماع الإسلام و الغاية التي هدفت إليه شعائره و تعاليمه وأتاح لهم جميعاً تكافؤ الفرص في موقفهم أمام الله (1)

وهذا ما انتهجه الإمام علي علیه السلام في سياسته المالية إذ:

دخل على بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين و الأنصار فنظر إلى ما فيه من العين و الورق، فجعل يقول يا صفراء غري غيري و يا بيضاء غرّي غيري ... و أدام النظر إلى المال مفكراً، ثم قال:

«أقسموه بين أصحابي و من معي خمسمائة خمسمائة، ففعلوا فما نقص درهم واحد وعدد الرجال إثنا عشر ألفاً» (2)

و كان يخف دائماً إلى تقسيم الأعطيات على الناس، كلما اجتمع لديه منها شيء، ويكره أن يؤخرها عنهم، كأنما يتأثم من إرجائها، أو اكتنازها إلى حين» (3)

ص: 153


1- الإمام علي بن أبي طالب عبد الفتاح عبد المقصود
2- المسعودي / مروج الذهب
3- الإمام علي بن أبي طالب / عبد الفتاح عبد المقصود

وكان يخاطب أهل الكوفة بقوله: يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي، فأنا خائن».

لقد كان علیه السلام حريصاً على أموال المسلمين شديداً مع ولاته إن هم حادوا عن الطريق القويم، إذ كتب يوماً إلى زياد بن أبيه:

«وإني أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت في المسلمين شيئاً صغيراً وكبيراً، لأشدنَّ عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر، ضئيل الأمر ...».

وخاطبه في كتاب آخر: فدع الإسراف مقتصراً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف و الأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزيٌّ بما سلف وقادم على ما قدم ... والسلام.

وكذلك خاطب الأشعث بن قيس عامله في آذربايجان بقوله:

وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعًى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات (أي تستبد) في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يدك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، ولعلي ألا أكون شر ولا تك لك ... والسلام.

أما مصقلة بن هبيرة الوالي على بعض مقاطعات فارس فقد

ص: 154

ألزمه علیه السلام، بإعادة المبلغ الذي أخذه من بيت المال و الذي أنقذ فيه من الأسر خمسمائة رجل معظمهم من بني بكر بن وائل قوم مصقلة، فقال له في كتاب:

بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم و أريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً ولتخفّن عندي ميزاناً فلا تستهن بحق ربك، و لا تصلح دنياك بحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً.

و لما طلب منه علیه السلام المغيرة بن شعبة أن يبقي على الولاة الذين ولاهم عثمان أجابه علیه السلام بحزم:

و الله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا وليت هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.

ولما أكد المغيرة على إبقاء معاوية لأن له جرأة، وهو في أهل الشام يسمع منه ...» أجابه بالحزم نفسه:

لا والله.. لا أستعمل معاوية يومين أبداً.

وكذلك عندما طلب إبن عباس منه ذلك علیه السلام أجابه:

لا و الله، لا أعطيه إلا السيف.

و يرفع شعاره الذي اتخذه مرتكزه الأساس في سياسته العامة و هو:

ص: 155

إن الرعية لا تصلح إلا بصلاح الولاة.

و يطرح معادله الموضوعي في الربط بين الراعي و الرعية فيقول علیه السلام:

... و أعظم ما افترضه سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلِّ على كلِّ فجعلها نظاماً لالفتهم وعزاً لدينهم.

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم و قامت مناهج الدين و اعتدلت معالم العدل، و جرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان فطمع في بقاء الدولة، و يئست مطامع الأعداء، و إذا غلبت الرعية و اليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين أي الفساد وتركت حجاج السنن فعمل بالهوى و عطلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش لعظيم حق عُطِّل، ولا لعظيم باطل فُعل ...

فهناك تذل الأبرار، و تعز الأشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد فعليكم بالتناصح في ذلك، و حسن التعاون عليه فليس أحد - وإن اشتد على رضا الله حرصه وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله الطاعة له، من ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، و التعاون على إقامة الحق بينهم وليس امرؤ - وإن عظمت في

ص: 156

الحق منزلته و تقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يُعان على ما حمّله الله من حقه ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه (1)

وجعل علیه السلام من العدل جادته التي لا يحيد عنها و شمسه التي يستحم بدفئها و يستنير بضيائها، وفي هذا الإطار يكتب إلى الأسود ابن قطيبة صاحب جند حلوان بفارس يقول علیه السلام:

«أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض عن العدل. فاجتنب ما تنكر أمثاله، و ابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجياً ثوابه، و متخوفاً عقابه.

و اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها منها قط ساعةً إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة.

و إنه لن يغنيك عن الحق شيء أبداً، ومن الحق عليك حفظ نفسك و الاحتساب على الرعية بجهدك فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام.

و يجمل علیه السلام صفات الوالي العادل بقوله:

إن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هُدِيَ وَهَدى، فأقام سنةً معلومة وأمات بدعة مجهولة وإن السنن النيرة لها أعلام وإن البدع لظاهرة لها أعلام وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلَّ به فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة وإني

ص: 157


1- نهج البلاغة

سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول:

يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير ولا عابر فيلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها»(1)

ويستخدم الإمام علي علیه السلام المتقابلات في معادلات حسابية بسيطة لتوضيح معنى العدل ومعنى العلاقة بين العامة و الخاصة، أي بين الراعي والرعية فيقول من كتاب له إلى مالك الأشتر:

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، و إن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة و ليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف و أقل شكراً عند العطاء، و أبطأ عذراً عند المنع، و أضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، و إنما عماد الدين و جماع المسلمين و العدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، و ميلك معهم (2).

و كان علیه السلام يوصي عماله بعدم الاحتجاب عن الرعية و يدعوهم إلى مخالطتهم ليسمعوا منهم و ليقفوا على همومهم و تطلعاتهم.

قال علیه السلام يوصي قثم بن العباس عامله على مكة:

ص: 158


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه

لا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك فى أول ردها لم تُحمد فيما بعد على قضائها (1).

وكتب علیه السلام إلى الأشتر يوصيه:

... فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية، شعبة من الضيق و قلة علم بالأمور و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، ويقبح الحسن، و يحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على الحق سمات تُعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين؛ إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عنك مسألتك إذا أيسوا من نبلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب لإنصاف في معاملة ... و اجعل لذوي الحاجات قسماً تُفَرِّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقعِد عنهم جندك و أعوانك، من حرسك و شُرطك، حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع ...

ثم احتمل منهم الخرق و العين (الخرق: العنف و العين: العجز عن النطق) و نحِّ عنهم الضيق و الأنف، يبسط الله عليك

ص: 159


1- المصدر السابق نفسه

بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، و امنع في إجمال و إعذار ثم أمور من أمورك لا بد من مباشرتها، منها إجابة عمالك، بما يعيا عنه كتابك، و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك» (1).

وحذر علیه السلام الأشتر من أولئك الذين قلنا إنهم اعتنقوا الإسلام لا بسبب إيمانهم بمبادئه بل لكونه صار أمراً واقعاً فخافوا على مصالحهم و امتيازاتهم فانخرطوا في صفوفه، و مع ذلك فقد تغلغلوا في المناصب العليا فقال علیه السلام يوصي الأشتر و يحذره منهم:

إن شر وزرائك من كان للأشرار من قبلك وزيراً و من شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأئمة و إخوان الظلمة، و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفاذهم وليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه و لا آثماً على إثمه أولئك أخف عليك مؤونة، و أحسن لك معونة، و أحنى عليك عطفاً، و أقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك و حفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرِّ الحق، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك، مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، و ألصق بأهل الورع و الصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو و تدني من الغرة (2)

ص: 160


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه

ثم يعكس المعادلة فيوصيه باختيار من هم بالمروءة ألصق و كذلك بالكرامة و الشرف و الصدق إذ أنهم من يؤتمن جانبهم فلا يخونون صاحبهم، فقال علیه السلام:

ثم الصق بذوي المروءات و الأحساب وأهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، فإنهم جماع من الكرم و شعب من العرف (أي المعروف) (1).

وبعد أن ينتهي علیه السلام من إيصائه باختيار رجاله يوصيه بكبح جماح نفسه وصدها عن الشهوات التي تبعده عن دينه و تخلخل إيمانه، إذ يقول علیه السلام:

و إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت و أشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبة لهم و اللطف بهم ... ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ... اجتنب ما تنكر أمثاله ... إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، فيقولون فيك ما كنت تقول فيهم.

ثم يخلص علیه السلام من الخاص إلى العام فيحلل النفس الإنسانية تحليلاً علمياً لن يقول بغيره أحد علماء العصر، إذ يقول علیه السلام: الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق،

ص: 161


1- المصدر السابق نفسه

يفرط منهم و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك.

ثم حدد له أسس التعامل مع رعيته بما يضمن سلامة الحكم و تكافؤ الفرص وإشاعة الأمن و الاستقرار و نشر العدالة الإنسانية إذ يقول له علیه السلام:

لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان و تدريباً لأهل الإساءة على الإساءة (1).

ثم لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، و اجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنّها و الوزر عليك بما نقضت منها (2)

ثم و أكثِر من مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ثم إياك و المن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان و التزيد يذهب بنور الحق و الخلف يوجب المقت،

ص: 162


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه

عند الله،والناس قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (1)

ثم يذكر علیه السلام شروط الوالي (الحاكم) فيأتي بالسبب و نتيجته في صفات عديدة للوالي، فيقول له علیه السلام:

و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته و لا الجاهل فيظلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطل للسنة فيهلك الأمة.

وروي أن شریح بن الحارث القاضي، اشترى على عهده علیه السلام داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك فاستدعى شريحاً و قال له:

بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، و كتبت لها كتاباً و أشهدت فيه شهوداً.

فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين.

فنظر إليه علیه السلام نظرة المغضب ثم قال:

يا شريح أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك

ص: 163


1- سورة الصف، الآية: 3

خالصاً، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك و نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا و دار الآخرة! أما أنك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب بشراء هذه الدار بدرهم فما فوق.

أما عثمان بن حنيف الأنصاري عامل الإمام علي علیه السلام في البصرة، فقد دعي إلى وليمة قوم من أهل البصرة، فمضى إليها فبلغ ذلك الإمام علياً علیه السلام فكتب إليه مستنكراً ذلك قائلاً:

أما بعد يا بن حنيف، فإن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفو و غنيهم مدعو فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ثم تحدث علیه السلام عن منهجه في الحكم فدعا الولاة أن يعينوه على إنجاح هذا المنهج فقال علیه السلام مخاطباً ابن حنيف:

ألا و إن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (أي ثوبيه الباليين) و من طعمه بقرصيه (أي رغيفيه)، ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ و اجتهاد و عفة و سداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، و لا ادخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة التي عقر ظهرها فقل أكلها و هي في عيني

ص: 164

أوهى و أهون من عقصة مقرة ... و إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت على جوانب المزلق (كناية عن الصراط)، و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمح و نسائج هذا القز، و لكن هيهات أن يغلبني هواي و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة أو أبيت مبطاناً و حولي بطونٌ غرثى و أكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داءٌ أن تبيت ببطنةٍ *** و حولك أكبادٌ تحن إلى القدِّ

أأقنع من نفسي أن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة إلى شغلها تقممها (أي أن البهيمة السائبة شغلها أن تلتقط القمامة) تكترش من أعلافها، و تلهو عما يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتصف طريق المتاهة)

لم يكتف علیه السلام بمحاسبة ولاته عن أي حيدة عن الطريق الذي رسمه لهم الإسلام بل صار يحاسب نفسه أيضاً، و كمثال على ذلك نقرأ قوله علیه السلام و قد أرسل إليه أحد ولاته هدية هي عبارة عن حلوى ملفوفة في وعاء فقال له علیه السلام:

و أعجب من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونة شنئتها أي كرتها كأنما عجنت بريق حية أو قينها، فقلت: صلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت

ص: 165

فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية فقلت هبلتك الهبول (وهي المرأة التي لا يعيش لها ولد) عن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذو جِنّة أم تهجر أي تهذي.

و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة ... أسلبها جلب أي قشرة شعيرة ما فعلته و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة ما لعليِّ و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل، وقبيح الزلل وبه نستعين.

و قصة النجاشي شاعر الإمام الذي طالما مدحه و هجا خصومه و الذي تعرض هو الآخر إلى الجلد بعد أن وجده الإمام مفطراً في رمضان و ثملاً من السكر ليست بعيدة عن الأذهان.

كما أن الإمام علیه السلام قد حذّر من بعض القضاة الذين استغلوا مهنتهم لمآربهم الشخصية فقال علیه السلام:

إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان:

رجلٌ وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته، و بعد وفاته حمّالُ خطايا غيره، رهن بخطيئته.

و رجلٌ قمش جهلاً، مُوضعٌ (أي أمرع) في جهال الأمة عاد في إغباش الفتنة عم بما في عقد الهدنة قد سمّاه أشباه الناس عالماً و ليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر،

166

ص: 166

حتى إذا ارتوى من ماءٍ آجن و اكتنز من غير طائل جلس بين القوم قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رئاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشهوات في مثل نسج العنكبوت؛ لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب جاهل خباط،جهالات عاشٍ ركاب عشوات لم يعض على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليء - و الله - بإصدار ما ورد عليه و لا هو أهل لما فُوِّض إليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره و إن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه تصرخ من جور قضائه الدماء، و تعج منه المواريث ... و آخر قد تسمى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جهال و أضاليل من ضلال. و نصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، و قول زور و قد حمل الكتاب (يريد القرآن الكريم) على آرائه و عطف الحق على أهوائه يقول: أقف عند الشبهات و فيها وقع و يقول اعتزل البدع و بينها اضطجع.

فأولئك هم الذين: المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر عندهم ما أنكروا مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم و تعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امرىء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرًى ثقات و ألباب محكمات

و وضع أسساً لمواصفات الفقيه، فقال:

«الفقيه، كل الفقيه، من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم

ص: 167

يؤيسهم من روح الله و لم يؤمنهم من مكر الله.

تلك كانت قارئي العزيز إضمامة من أقوال الإمام علي بن أبي طالب في وصف الحياة الاجتماعية في زمانه تناول فيها الولاة و القضاة و العلماء، ومن خلالهم رسم منهجاً علمياً للقوانين الإدارية و السياسية و الاقتصادية (و الاجتماعية بصورة عامة) يصلح لكل زمان و مكان إلى يومنا هذا، فهو منهج تمخض عن توقد ذهن الإمام علیه السلام الثاقب و نظرته الشمولية إلى الحياة العامة.

فإذا كان ذلك لدى البعض لم يعرف إلا في عصور متأخرة (كما ادّعى أحدهم) فما ذنب الإمام علیه السلام و قد سبق عصره و العصور التي أعقبته، و لو أمعن النظر هذا (الأحدهم) في الحياة الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية في عهود الخلفاء الراشدين الثلاثة (أبو بكر وعمر وعثمان) لوجد أن الإمام علياً علیه السلام كان له الحضور الفاعل و المؤثر في مفاصل سياسة تلك العهود بل لم يستطع أي منهم تجاوزه في المشورة و حل المعضلات السياسية و الإدارية و الاقتصادية و القضائية، و لعل شهادة عمر بن الخطاب تغنينا عن كثير من الأدلة (الثبوتية) من أنه علیه السلام كان منقذ عمر من مطبات كثيرة؛ أليس هو القائل:

لولا علي لهلك عمر؟

و لا يفتين أحد في المسجد و علي حاضر؟

و«علي أقضانا»؟.

و لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن؟.

ص: 168

ثم أليس هو من استشار الإمام علیه السلام حين أراد الخروج بنفسه إلى غزو الروم فأشار عليه الإمام علي علیه السلام بقوله:

إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة (أي عاصمة) يلجأون إليها، دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً محرباً واحفز معه أهل البلاء و النصيحة فإن أظهره الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى، كنت رداء للناس و مثابة للمسلمين.

وعندما أراد عمر أن يشخص بنفسه لقتال الفرس استشار الإمام علياً علیه السلام فأشار عليه:

إن هذا الأمر لم يكن نصره و خذلانه بكثرة و لا بقلّة و هو دين الله الذي أظهره و جنده الذي أعدّه و أمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع و نحن على موعود من الله و الله منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيم بالأمر مكان النظام (أي السلك من الخرز يجمعه و يضمه، فإن انقطع النظام تفرق الخرز و ذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، و العرب اليوم، و إن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض إنتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم مما بين يديك.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، و طمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله

ص: 169

سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، و هو أقدر على تغيير ما يكره و أما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، و إنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.

تلك هي الشهادة التي لا يحتاجها الإمام و لكننا سقناها إلى أولئك الذين سلكوا في كتاباتهم درب الصد ما رد في تشكيكهم بنسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي، و منه هذه الفقرة التي نحن بصددها علّهم يتلمسون طريق العودة من «دربهم» ذاك إلى جادة الصواب و الحق. و عند ذاك لن يستكثروا على مثل الإمام علي علیه السلام أن يصف الحياة الاجتماعية بمثل ما وصف لأنهم سيدركون أن عصر الإمام، و عهده في الحكم - خاصة - كان شديد الاضطراب - على قصره - و عهد تلك سمته لا بد أن تختلط فيه الأوراق كما يختلط الحابل بالنابل فتهتز نفوس و تضطرب أخرى و تُغرى ثالثة بمباهج الحياة الدنيا فيقصر النظر و يضيق الإدراك و تتقاصر البصيرة ... حينذاك لا بد من شخص يتمتع بقدرات ذهنية استثنائية ليعالج تلك التخلخلات و الإنثلامات في المجتمع، فكان ذلك الشخص هو الإمام علي علیه السلام و كانت معالجاته في تلك الخطب و الأحاديث و الوصايا و المراسلات التي ضمها «نهج البلاغة».

فهل ذلك كثير على الإمام علي علیه السلام؟ الذي وصفه الرسول الكريم بأوصاف ما وصف مثله قط، وقد وقفنا على بعضها في كلام لنا فائت، فضلاً عن أقوال الخلفاء الراشدين فيه، بل حتى أقوال خصومه، كمعاوية و عمرو بن العاص وغيرهما.

ص: 170

إن قليلاً من التروي في إلقاء الكلام سيجعل من صاحبه منصفاً و متصفاً بالنزاهة والأمانة التاريخية.

نرجو أن يكون أولئك المشككون من هؤلاء الرجال - الذين وصفنا - يوماً ما إن كانوا أحياء و إن ماتوا فنرجو لهم غفراناً من ربِّ رحيم.

ص: 171

ص: 172

الفهرس

المقدمة ... 5

المبحث الأول: المشككون بنهج البلاغة ... 9

المبحث الثاني: الرد على المشككين بنهج البلاغة ... 25

1 - جامع النهج ... 26

2 - الغثاثة ... 30

3 - عائدية نهج البلاغة ... 43

أقوال المنصفين في نهج البلاغة ... 55

4 - التعريض بالصحابة ... 61

5 - الوصي والوصاية ... 71

6 - الإطناب والإيجار ... 83

7 - السجع ... 87

8 - دقة الوصف ... 100

ص: 173

9 - الألفاظ الاصطلاحية ... 108

10 - التقسيمات العددية ... 110

11 - التنبؤات والتوقعات ... 115

12 - الزهد ... 133

13 - وصف الحياة الاجتماعية ... 145

ص: 174

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.