الموعظة في نهج البلاغة

هوية الکتاب

الموعظة في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية

إخراج فني: زینب جواد

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة: 1433 ه_ / 2012م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 20

الموعظة في نهج البلاغة

إعداد مكتبة الروضة الحيدرية

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

تمهيد

الموعظة و النصيحة و الإنذار و التذكير وإن اختلفت من حيث المعنى اللغوي، لكنّ ثمرتها ومؤدّاها،واحد، وهو نداء وحثّ روحاني

يعلو بالإنسان نحو الكمال، ويدعوه إلى ترك ما عليه من سوء وغفلة، وعدم الخروج عن الغاية والهدف من الخلقة.

لذا نرى هذه الألفاظ وما يؤدّي مؤدّاها وردت كثيراً في القرآن الكريم والسنة الشريفة وروايات المعصومين علیهم السلام، وأقوال العلماء، حتى جعل التذكير أحد أسباب بعثة الأنبياء والرسل، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «واصطفى سبحانه من ولده [أي ولد آدم علیه السلام ] أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول ... الخطبة 1.

ص: 5

ولأهمية الموعظة في تقويم سلوك الإنسان، ولامتياز كتاب (نهج البلاغة) بمو بمواعظ شافية ونصائح كافية لطلاب الحق والحقيقة، خصّصنا هذه الحلقة من (سلسلة في رحاب نهج البلاغة) بما يخصّ المواعظ الصادرة عن أمير المؤمنين علیه السلام في هذا الكتاب الشريف، عسى أن يكون نافعاً، إن شاء الله تعالى.

ورتبنا البحث ضمن النقاط التالية:

ص: 6

1- أهمية الموعظة

لأهمية الموعظة في حياة الإنسان أمر الله تعالى نبيّه بأن تكون دعوته مقترنة بالموعظة الحسنة، فقال عز وجل: (وَادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) النحل: 125.

وكان الله تعالى هو أول واعظ للإنسان كما قال أمير المؤمنين علیه السلام «فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته» الخطبة: 198.

وقال علیه السلام: «انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله، وأقبلوا نصيحة الله، فإنّ الله تعالى قد أعذر إليكم بالجلية، واتخذ عليكم الحجة، وبيّن لكم محابه من الأعمال ومكارهه منها، لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه» الخطبة: 176.

ولأهميتها أيضاً أوصى علیه السلام الإمام الحسن وقال له: «أحي قلبك بالموعظة بل لم يكتف بذلك و أمره أن يتعدّى بالموعظة - بعد موعظة

نفسه - إلى غيره فقال له: «و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة» الكتاب: 31.

و كان علیه السلام يدعو المجتمع الإسلامي أن يعيش حالة التناصح

ص: 7

فيما بينهم، فكان يقول علیه السلام: «لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبون النصح» (1) و قال علیه السلام: «من أحسن الدين النصح» (2).

كما كان علیه السلام يدعو إلى الانتفاع بالمواعظ و الأخذ بها ويقول: «فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع، واعتبروا بالآي السواطع، وازدجروا

بالنذر البوالغ، وانتفعوا بالذكر والمواعظ» الخطبة: 84، وبنفس السياق: «فاتعظوا بالعبر واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر» الخطبة: 157، وقال علیه السلام أيضاً: «ألا أنّ أسمع الأسماع ما وعى التذكير و قبله» الخطبة: 104.

هذا مع الاحتفاظ بنقد الحالة السائدة آنذاك من عدم التناصح و عدم قبول المواعظ، كما قال علیه السلام: «إنّما أنتم إخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلّا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازرون، ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادّون» الخطبة: 112.

***

ص: 8


1- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 4557
2- م ن: 4553

2- ثمرة الموعظة

من أهمّ ثمرات الموعظة إصلاح النفس أولاً، ثم إصلاح المجتمع ثانياً، إذ انّ النفس إذا صلحت انعكس هذا الصلاح على سلوك الإنسان وبه تذهب كثير من المظاهر السيّئة عن الحياة الاجتماعية، وينتج منها السعادة المنشودة في النظم الاجتماعية والسياسية.

وبهذا الصدد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «المواعظ حياة القلوب» (1) وقال علیه السلام: «المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب» (2)، وقال علیه السلام: «المواعظ شفاء لمن عمل بها» (3).

وقال علیه السلام: «بالمواعظ تنجلي الغفلة» (4)، وقال علیه السلام: «ثمرة المواعظ الانتباه» (5)، وقال علیه السلام: «من قبل النصيحة أمن من

ص: 9


1- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 4523
2- م ن 4524
3- م ن: 4528
4- م ن: 4530
5- م ن: 4531

الفضيحة» (1) و قال علیه السلام: «من أقبل على النصيح أعرض عن القبيح» (2)، كما انّ «النصيحة تثمر الود» (3).

***

ص: 10


1- م ن: 4579
2- م ن: 4580
3- م ن: 548

3- شرائط الواعظ

لابدّ للواعظ أن يتحلّى بأمور تؤهّله لتصدي منصب الوعظ و الإرشاد، ليتمّ قبول قوله والإذعان إلى إرشاده، و من تلك الشرائط و الآداب:

1- القول الحسن و الرفق في القول، كما قال تعالى لموسى علیه السلام حينما أمره بإنذار فرعون: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه: 44.

و كما قال تعالى لنبيه الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) النحل: 125.

فاستجاب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لذلك، كما شهد له أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «فبالغ في النصيحة، ومضى على الطريقة، و دعا إلى الحكمة» الخطبة: 94.

2- الاتعاظ، وإلّا كيف يعظ غيره من لا يتعظ، و لذا كان يقول أمير المؤمنين عن نفسه الشريفة: «أيّها الناس، إنّي و الله ما أحثّكم على طاعة إلّا و أسبقكم إليها، و لا أنهاكم عن معصية إلّا و أتناهى قبلكم عنها» الخطبة 175.

ص: 11

وكان علیه السلام يأمر باتباع المتعظ من الناس و الاستماع إليه، لكثرة الدغل و الغش الذي ابتليت الأمة به آنذاك، فكان يقول علیه السلام: «أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، و امتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر» الخطبة: 104.

وكان يقول علیه السلام: «كيف ينصح غيره من يغشّ نفسه» (1).

3- أن يدعو الناس بفعله قبل قوله، قال علیه السلام: «انّ الوعظ الذي لا يمجّه سمع، و لا يعدله نفع، ما سكت عنه لسان القول، و نطق به لسان الفعل» (2).

و لذا كانت هذه المهمة ملقاة في الدرجة الأولى على عاتق الأنبياء و الأوصياء علیهم السلام، لينذروا الناس بقولهم وفعلهم، كما قال علیه السلام في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية» الخطبة: 161.

و قال علیه السلام أيضاً: «فصدع بالحق، ونصح للخلق، وهدى إلى الرشد وأمر بالقصد» الخطبة: 195

وكما قال علیه السلام عن نفسه الشريفة: «أيها الناس إنّي قد بثت لكم المواعظ التي وعظ بها الأنبياء أممهم، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى

مَنْ بعدهم» الخطبة: 182.

ص: 12


1- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 4563
2- م. ن: 4560

و قال علیه السلام: «انّه ليس على الإمام إلّا ما تحمل من أمر ربِّه: الإبلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة» الخطبة: 104.

وقريب منه قوله علیه السلام: «أيها الناس انّ لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق، فأمّا حقكم عليّ فالنصيحة لكم ...» الخطبة: 34.

ثم من بعد الأنبياء و الأوصياء، يأتي دور العلماء الربانيين، كما قال علیه السلام في وصف اهتمامهم بهذا الأمر: «قد وعظوا حتى ملّوا» الخطبة: 32.

ثم يأتي دور باقي الناس حيث يتبلور ذلك في فريضة الأم بالمعروف و النهي عن المنكر، أو من باب أخذ الحكمة و لو من المنافق أو الكافر، إذ كما قال علیه السلام: «ربما نصح غير الناصح» الكتاب: 31.

***

ص: 13

4- أسباب قبول الموعظة

لقبول الموعظة و الاستماع إليها وامتثالها مقدمات نفسية، لولاها لم تثمر المواعظ و لم تنتج، فكم من سمع المواعظ البليغة وأعرض عنها، أولئك هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف: 179

و قد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى عدّة أمور تسبب قبول الموعظة، وهي:

1- العقل، قال علیه السلام: «فإنّ الغاية القيامة، و كفى بذلك واعظاً لمن عقل» الخطبة: 190، و في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: لا تكن ممّن لا تنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه، فإنّ العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ إلّا بالضرب» الكتاب: 31، و قال علیه السلام: «لا يغش العقل من استنصحه» قصار الحكم: 272، وقال علیه السلام: «من لم يكن أملك شيء به عقله لم ينتفع بموعظة» (1).

2- الانتفاع من البلايا والتجارب، قال علیه السلام: «من لم ينفعه الله

ص: 14


1- تصنيف غرر الحكم: 4545

بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة، و أتاه التقصير من أمامه، حتى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف» الخطبة: 176.

3- القلب السليم، قال علیه السلام بعد ما ذكر الموت والحشر: «فيا لها أمثالاً صائبة، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاكية، وأسماعاً واعية، وآراء عازمة، وألباباً حازمة» الخطبة: 82 حيث يشير علیه السلام إلى انّ القلوب الزاكية تنتفع بهذه المواعظ وترتدع.

كما قال علیه السلام ذلك بالنسبة إلى همام لما سأله أن يصف له المتقين، حيث فارقت روحه بدنه بعد ما سمع تلك الأوصاف، فقال علیه السلام: «أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها» الخطبة: 193.

4- وجود الواعظ والرادع الباطني في نفس الإنسان، قال علیه السلام: «واعلموا انّه من لم يُعَنْ على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم

يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ» الخطبة: 89.

وقال علیه السلام: «من كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ» قصار الحكم: 84، كما أشار علیه السلام مرة أخرى إلى لزوم الواعظ الباطني بقوله: «فاتقى عبد ربه، نصح نفسه، وقدّم توبته، وغلب شهوته» الخطبة: 63.

5 - التواضع في قبول الموعظة من أيّ شخص كانت، قال علیه السلام: «اقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم» الخطة: 120

ص: 15

5- موانع قبول الموعظة

كما انّ لقبول الموعظة أسباباً وعللاً، فكذلك لعدم قبولها ورفضها أسباب وعلل، والذي يريد خير نفسه وسعادتها الأبدية، أن يسعى لرفع وإزاحة العلل المؤدّية إلى عدم الاستماع إلى الموعظة، وهي كما وردت على لسان أمير المؤمنين كالتالي:

1- حب الدنيا، قال علیه السلام في وصف البغاة وسبب بغيهم: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، و مرقت أخرى، وفسق آخرون، كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) «بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها» الخطبة: 3

وقال علیه السلام: «سبحانك خالقاً و معبوداً، بحسن بلائك عند خلقك، خلقت داراً، وجعلت فيها مأدبةً، مشرباً ومطعماً، وأزواجاً وخدماً، وقصوراً، وأنهاراً، وزروعاً، وثماراً، ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها، فلا الدّاعي أجابوا، ولا فيهما رغّبت [فيه] رغبوا، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفةٍ قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على

ص: 16

حبّها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعينٍ غير صحيحةٍ، ويسمع بأذنٍ غير سميعةٍ، قد خرقت الشّهوات عقله، وأماتت الدّنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبدٌ لها، ولمن في يديه شيءٌ منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها؛ لا ينزجر من الله بزاجرٍ، ولا يتّعظ منه بواعظٍ» الخطبة: 108.

وقال علیه السلام: «من عظمت الدنيا في عينه، و كبر موقعها من قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها و صار عبداً لها» الخطبة: 160.

2- الغفلة والغرور، قال علیه السلام: «بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرّة» قصار الحكم: 273.

و قال علیه السلام: «لو تعلمون ما أعلم ممّا طوي عنكم غيبه، إذاً الخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، و تلتدمون على أنفسكم، و لتركتكم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمّت كل امرئ منكم نفسه، لا يلتفت إلى غيرها، ولكنّكم نسيتم ما ذُكّرتم، وأمنتم ما حذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم» الخطبة: 115.

و تبع علیه السلام جنازة فسمع رجلاً يضحك، فقال علیه السلام: «كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحق فيها على غيرنا وجب، و كأنّ الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوّؤهم أجداثهم و نأكل تراثهم كانا مخلّدون، قد نسينا كل واعظ واعظة، ورمينا بكلّ جائحة» قصار الحكم: 116.

ص: 17

3- التمرّد والعناد، قال علیه السلام: اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً ... أو متمرّداً كأنّ بإذنه عن سمع المواعظ وقرأ الخطبة: 129.

4- القلب المنكوس، قال علیه السلام: «فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكراً، قُلب فجُعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه» قصار الحكم: 365.

و قال علیه السلام: «لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكن القلوب عليلة، والأبصار مدخولة» الخطبة: 185.

فهكذا قلب يأبى قبول الموعظة وينفر منها، و هذا ما فتّ عضد الدولة الإسلامية في زمن أمير المؤمنين علیه السلام، بسبب ابتعاد الأمة عن هدى النبي صلی الله علیه و آله و سلم و ما أمر بالتمسك به، فكان يقول علیه السلام شاكياً من تخاذلهم: «استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا ... أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ...» الخطبة: 96.

***

ص: 18

6- نتيجة ترك الموعظة

كما انّ الاتعاظ و الاستماع إلى الناصح يوجب السعادة في الدارين، كذلك ترك المواعظ و عدم الاستماع إلى الهداة يوجب الخسران في الدارين.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) يونس: 7-8.

كما أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى هذا الأمر قائلاً: «أما بعد فإنّ معصية الناصح الشفيق، العالم المجرّب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة» الخطة: 35.

***

ص: 19

7- أنماط الموعظة

اشارة

قد يتصوّر الإنسان في البداية انّ الموعظة أمر يخص الجانب الأخلاقي فقط كالتزهيد في الدنيا و التزوّد للأخرى وما شاكل، ولكن لو نظرنا إلى الموعظة نظرة شمولية، لرأينا إمكان تعميمها إلى مختلف الجوانب من حياة الإنسان، فتصبح شاملة للجانب السياسي والعقائدي

والاجتماعي وغيرها من الجوانب.

و لو صحّ هذا التوسّع، لأمكننا تقسيم الموعظة إلى: 1- عقائدية 2- أخلاقية 3- سياسية 4 - اجتماعية، لأنّ هذه الجوانب أهمّ ما يدور حولها الإنسان في حياته و سلوكه اليومي، و الموعظة و النصيحة فيها تعتبر المؤشّر المطمئن لسلوك الطريق الصحيح، والوصول إلى السعادة التي هي الهدف الأساس والعمود الفقري للمواعظ والنصائح.

و فيما يلي نلقي نظرة عابرة لكل جانب من هذه الجوانب:

1 - المواعظ العقائدية:

إذا كانت العقائد تنقسم إلى: الهيات، ونبوة وإمامة، و معاد، فالمواعظ فيها تتمحور حول تصحيح و سدّ الثغرات و الأخطاء التي تقع في طريق الفهم الصحيح لهذه المفردات، وإعطاء خطوط عامة و ضوابط

ص: 20

لتبيين السلوك الصحيح فقط، و هذا لا يعني الدخول في المباحث الكلامية المفصلة.

ففي مبحث الإلهيات مثلاً نكتفي بقوله علیه السلام: «ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين» الخطبة: 90.

هذا الكلام يعطي ضابطة عامة لطريقة فهم التوحيد الصحيح بعيدة عن التشبيه و التعطيل، فهو علیه السلام يقول من جهة: «لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلاً» الخطبة: 155، فينفي التشبيه، ويقول من جهة أخرى: «لم يُطلع العقول على تحديد صفته، و لم يحجبها عن واجب معرفته» الخطبة: 49، فينفي التعطيل، كما أنّه ينفي الشرك ويقول: «أما وصيتي فالله لا تشركوا به شيئاً» الخطبة: 149.

أما في مبحث النبوة والإمامة، فيشير علیه السلام في طيّات كلامه ومواعظه إلى انّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، بل أرسل إليهم الأنبياء لهدايتهم، فكان يقول علیه السلام: «واعلموا عباد الله أنّه لم يخلقكم عبثاً، ولم يرسلكم هملاً» الخطبة: 195.

كما يشير علیه السلام إلى لزوم التمسك بهدي النبي صلی الله علیه و آله و سلم و عدم التخطي عنه، ويقول فيما كتبه لمالك الأشتر: «واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

ص: 21

وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، و الردّ إلى الرسول الأخذ بستّته الجامعة غير المفرّقة» الكتاب: 53.

و كذلك يأمر بالتأسي بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم و يقول: «فتأسّ بنبيك الأطيب الأطهر، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى و عزاء لمن تعزّى، و أحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه، و المقتصّ لأثره ... فتأسّى متأس بنبيه، واقتصّ أثره، و ولج،مولجه، و إلّا فلا يأمن الهلكة» الخطبة: 160.

ثم يشير علیه السلام إلى مسألة الإمامة و يقول: «أنظروا أهل بيت نبيكم فألزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدو، وإن نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلّوا، لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا» الخطبة: 96.

و قال علیه السلام: «فأين يتاه بكم، و كيف تعمهون، و بينكم عترة نبيكم، و هم أزمة الحق، و أعلام الدين، و ألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، و ردوهم ورود الهيم العطاش» الخطبة: 86.

و كان يشير إلى نفسه ويقول: «أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، و امتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر» الخطة: 104.

و قال الا أيضاً: «فاستمعوا من ربانيكم، و أحضروه قلوبكم

ص: 22

و استيقظوا إن هتف بكم» الخطبة: 107.

فنصائحه علیه السلام كانت تتمحور حول تبيين مسألة لزوم وجود الحجج الإلهية، ثم التمسك بهم وعدم التخطي عن تعاليمهم.

أما بالنسبة إلى المعاد، فنصائحه كانت تتمحور حول عدم العبثية في الخلقة، و التذكير بالقيامة و صعوبة الحساب و الكتاب و ما شاكل، قال علیه السلام و هو يشير إلى حتمية المعاد لوجود المبدأ: «أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، وإليه يكون معادكم» الخطبة: 198.

ثم يصف ذلك اليوم قائلاً: «وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين و الآخرين لنقاش الحساب، و جزاء الأعمال» الخطبة: 101.

و يشير إلى حتمية ذلك و يقول: «انّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى» الخطبة: 156.

و يؤكّد علیه السلام انّ الموازين هناك موازين عادلة لا ظلم فيها لأحد، و يقول: «إذا رجفت الراجفة، و حقّت بجلائلها القيامة، و لحق بكل منسك أهله، و بكل معبود عبدته، و بكلّ مطاع أهل طاعته، فلم يجز في عدله و قسطه يومئذٍ خُرق بصر في الهواء، و لا همس قدم في الأرض إلّا

بحقه» الخطبة: 222.

2 - المواعظ الأخلاقية

اشارة

المواعظ الأخلاقية هي العمدة فى هذا الباب، وقد تنوّعت

ص: 23

مواعظ الإمام علیه السلام في نهج البلاغة، بحيث يتمكن الإنسان أن يتعظ و يعتبر من كل شيء، و فيما يلي نشير إلى أهمّ ما ورد في هذا الكتاب

الشريف.

1- الإسلام

حيث انّ الدين الإسلامي بما فيه من تعاليم شمولية للدنيا والآخرة، خير رافد للاتعاظ، لذا نرى انّ أمير المؤمنين علیه السلام یحمد الله تعالى على هذه النعمة و يقول: «الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، و أعزّ أركانه على من غالبه، فجعله أمناً لمن عقله، و سلماً لمن دخله، و برهاناً لمن تكلّم به، و شاهداً لمن خاصم به، و نوراً لمن استضاء به، و فهماً لمن عقل، و لُبّاً لمن تدبّر، و آية لمن توسّم، وتبصرة لمن عزم، و عبرة لمن اتعظ، و نجاة لمن صدّق، وثقة لمن توكّل، و راحة لمن فوّض، وجُنّة لمن صبر» الخطبة: 105.

و الخلاصة أنّه بمجموعه عبرة لمن اتعظ.

2- القرآن الكريم

قال علیه السلام: «واعلموا انّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، و الهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، و اعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى ... و استنصحوه على أنفسكم ... أنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل القرآن، فإنّه حبل الله المتين، و سببه الأمين، و فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره» الخطبة: 176.

ص: 24

وكتب علیه السلام إلى الحارث الهمداني: «و تمسّك بحبل القرآن و انتصحه ...» الكتاب: 69.

3- الدنيا

والمتصفّح لنهج البلاغة يرى انّ أمير المؤمنين علیه السلام بالغ بالتزهيد في الدنيا وبيان حقيقة حالها، ولزوم التزوّد منها، وأنّها دار ممرّ

وليست مقراً، وهي «دار موعظة لمن اتعظ بها» قصار الحكم 124 و أنّها قد «كاشفتك العظات» الخطبة: 222.

و يمكن أن نقسّم كلام الإمام علیه السلام في الموعظة بالدنيا ضمن النقاط التالية:

أ- الدنيا قنطرة، و هذا ما يؤكد عليه أمير المؤمنين علیه السلام في مواعظه حيث يقول: «الدنيا خلقت لغيرها ولم تخلق لنفسها» قصار الحكم: 451، و قال علیه السلام: «انّك في منزل قلعة، و دار بلغة، و طريق إلى الآخرة» الكتاب: 31

و قال علیه السلام: «انّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار» الخطبة: 132.

و أخيراً: «ألا وإنّ هذه الدنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم، ولا منزلكم الّذي خلقتم له و لا الذي دعيتم إليه، ألا و إنّها ليست بباقيةٍ لكم ولا تبقون عليها، وهي وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها، فدعوا غرورها

ص: 25

لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها، و سابقوا فيها إلى الدّار الّتي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخنّنّ أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها، واستتمّوا نعمة الله عليكم بالصّبر على طاعة الله، و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه.

ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع شيءٍ من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم، ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيءٌ حافظتم عليه من أمر

دنیاکم»

ب - ذم الدنيا، قال علیه السلام: «ما أصف من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، و من

افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته» الخطبة: 81

و قال علیه السلام: «أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرضٌ تنتضل فيه المنايا، مع كلّ جرعةٍ شرقٌ، و في كلّ أكلة غصصٌ، لا تنالون منها نعمةً إلّا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمّرٌ منكم يوماً من عمره إلّا بهدم آخر من أجله، ولا تجدّد له زيادةٌ في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثرٌ إلّا مات له أثرٌ، ولا يتجدّد له جديدٌ إلّا بعد أن يخلق له جديدٌ، ولا تقوم له نابتةٌ إلّا و تسقط منه محصودةٌ» الخطبة: 145.

وقال علیه السلام: «دار بالبلاء محفوفة، و بالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها، أحوال مختلفة، و تارات متصرّفة، العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم، و إنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة،

ص: 26

ترميهم بسهامها، و تفنيهم بحمامها» الخطبة 225.

وقال علیه السلام: «مثل الدنيا كمثل الحيّة، ليّن مسها والسم الناقع في جوفها، يهوي إليها الغرّ الجاهل، ويحذرها ذو اللب العاقل» قصار الحكم:

113.

وقال علیه السلام: في وصفها: «تغرّ و تضرّ و تمرّ، أنّ الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه، و لا عقاباً لأعدائه» قصار الحكم: 403.

ج - عدم الاغترار بالدنيا، قال علیه السلام: «ولا تغرنّكم الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية، و القرون الخالية، الذين احتلبوا درّتها، وأصابوا غرّتها، وأفنوا عدتها، و أخلقوا جدتها» الخطبة: 229

و وصف علیه السلام المغترّ بالدنيا بقوله: «و مثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره إليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه» الكتاب: 31.

و قال علیه السلام: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة» الخطبة: 112.

د- التحذير من الدنيا، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أمّا بعد فانّي اُحذّركم الدنيا، فانّها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، و تحببت بالعاجلة،

ص: 27

وراقت بالقليل، و تحلّت بالآمال، و تزيّنت بالغرور، لا تدوم حَبرتها، و لا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة غوّالة، لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها - أن تكون كما قال الله سبحانه و تعالى: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (1).

لم يكن امرؤ منها في حبرة الا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرّائها بطناً إلّا منحته من ضرّائها ظهراً، ولم تَطُلَّه فيها ديمة رخاء الّا هتنت عليه مزنة بلاء، وحريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب و احلولى، أمرّ منها جانب فأوبي.

لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً، إلّا أرهقته من نوائبها تعباً، و لا يمسي منها في جناح أمن، إلّا أصبح على قوادم خوف، غرارة غرور ما

فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من أزوادها إلّا التقوى.

من أقل منها استكثر ممّا يؤمنه، و من استكثر منها استكثر مما يوبقه، و زال عمّا قليل عنه، كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، و ذي أبّهة قد جعلته حقيراً، وذي نخوة قد ردّته ذليلاً، سلطانها دول، و عيشها رنق، و عذبها أجاج، و حلوها صبر، و غذاؤها

سمام، و أسبابها رمام، حيّها بعرض موت، و صحيحها بعرض سقم،

ص: 28


1- الكهف: 45

ملکها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، وجارها محروب.

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، و أبقى آثاراً، و أبعد آمالاً، و أعدّ عديداً، و أكثف جنوداً، تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، و آثروها أيّ إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ و لا ظهر قاطع.

فهل بلغكم انّ الدنيا سخت لهم نفساً بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة، بل أرهقتهم بالفوادح، و أوهنتهم بالقوارع، و ضعضعتهم بالنوائب، و عفّرتهم للمناخر، و وطئتهم بالمناسم، و أعانت عليهم ريب المنون، فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها، و آثرها و أخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد.

هل زودتهم إلّا السغب؟ أو أحلّتهم إلّا الضنك؟ أو نوّرت لهم إلّا الظلمة؟ أو أعقبتهم إلّا الندامة؟ أفهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدّار لمن لم يتهمها، ولم يكن على وجل منها.

فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها و ظاعنون عنها، و اتعظوا فيها بالذين قالوا من أشدّ منّا قوّة، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، و أنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، و جعل لهم من الصفيح أجنان، و من التراب أكفان، و من الرفات جيران، فهم جيران لا يجيبون

داعياً، ولا يمنعون ضيماً، و لا يبالون مندبةً، إن جيدوا لم يفرحوا، و إن قحطوا لم يقنطوا، جميع وهم آحاد، و جيرة وهم أبعاد، متدانون

ص: 29

لايتزاورون، و قريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطناً، و بالسعة ضيقاً، و بالأهل غربةً، و بالنور ظلمةً، فجاؤوها كما فارقوها، حفاةً عراةً، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية، كما قال الله سبحانه: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (1) الخطبة: 110.

و قال علیه السلام: «وأحذّركم الدنيا، فانّها منزل قلعة، و ليست بدار نجعة، قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزینتها، دار هانت على ربّها، فخلط

حلالها بحرامها، و خيرها بشرّها، و حياتها بموتها، وحلوها بمرّها لم يصفها الله لأوليائه، ولم يَضِنّ بها على أعدائه، خيرها زهيد، و شرّها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يُسلب، و عامرها يخرب. فما خير دار تُنقض نقض البناء، وعمر يفنى فناء الزاد، و مدّة تنقطع انقطاع السّير» الخطبة: 112

وقال علیه السلام: « ... و وصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، أقرب دار من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله! فغضوا عنكم - عباد الله - غمومها و أشغالها، لما قد أيقنتم به من فراقها و تصرّف حالاتها.

ص: 30


1- الأنبياء: 104

فاحذروها حذر الشفيق الناصح، و المجدّ الكادح، و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم: قد تزايلت أوصالهم، و زالت أسماعهم وأبصارهم، و ذهب شرفهم وعزّهم، و انقطع سرورهم و نعيمهم؛ فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها، و بصحبة الأزواج مفارقتها. لا يتفاخرون، و لا يتناصرون، و لا يتناسلون، ولا يتزاورون، ولا يتجاورون.

فاحذروا، عباد الله، حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، النّاظر بعقله؛ فانّ الأمر واضح، و العلم قائم، و الطريق جدد، و السبيل قصد» الخطبة رقم: 161.

و قال علیه السلام: «و أحذركم الدنيا، فإنّها دار شخوص، و محلّة تنغيص، ساكنها ظاعن، و قاطنها بائن، تميد بأهلها مَيَدان السفينة تصفقها العواصف في لحج البحار، فمنهم الغرق الوبق، و منهم الناجي على متون الأمواج، تحفزه الرياح بأذيالها، و تحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدرك، و ما نجا منها فالى مهلك» الخطبة رقم: 196.

و قال علیه السلام: «فاحذروا الدنيا فإنّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رضاؤها، ولا ينقضي عناؤها، و لا يركد بلاؤها» الخطبة رقم: 229.

و قال علیه السلام: «اتق الله في كل صباح ومساء، و خف على نفسك الدنيا الغرور، و لا تأمنها على حال، و اعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما

ص: 31

تحب مخافة مكروهه، سَمَت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، و لنزوتك عند الحفيظة واقاً قامعاً» الكتاب: 56.

ه_ نبذ الدنيا، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرظ، و قراضة الجلم، و اتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فانّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم» الخطبة: 32.

وقال علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبّوا تركها، و المبلية لأجسادكم و إن كنتم تحبون تجديدها، فإنّما مثلكم و مثلها كسَفر سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها، و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، و طالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها، فلا تنافسوا في عزّ الدنيا و فخرها، ولا تعجبوا بزينتها و نعيمها، و لا تجزعوا من ضرّائها و بؤسها، فانّ عزّها و فخرها إلى انقطاع، و زينتها و نعيمها إلى زوال، و ضرّاءها و بؤسها إلى نفاد، و كل مدة فيها إلى انتهاء، و كل حيّ فيها إلى فناء» الخطبة: 98.

و قال علیه السلام: «انّ السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم» الخطبة: 222.

و قال علیه السلام: «فقطّعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى» الخطبة 205

ص: 32

و قال علیه السلام: «ألا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها، أنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنة، فلا تبيعوها إلّا بها» قصار الحكم: 444.

و - سرعة انقضاء الدنيا، انّ الفترة الزمنية التي يعيشها الإنسان في الدنيا بالنسبة إلى عالم الخلود الذي سيرحل إليه، لا تكون إلّا قليلة، ولذا جاء في الذكر الحكيم: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (1) و كما في الحديث الشريف: «الدنيا ساعة فاجعلها في طاعة» (2).

انّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام مشحون بتذكير سرعة انقضاء الدنيا وحلول الموت، فيقول علیه السلام: «انّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهور، و أسرع الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر» الخطبة: 188.

و يقول أيضاً: «الأمر قريب و الاصطحاب قليل» قصار الحكم: 69.

و يقول: «الرحيل وشيك» قصار الحكم: 177. «ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به، و أبعد الميت من الحيّ لانقطاعه عنه» الخطبة رقم: 113. «ولينظر امرؤٌ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً» الخطبة: 214. «إذا كنت في إدبار و الموت في اقبال فما أسرع الملتقى»

ص: 33


1- المؤمنون: 112 - 113
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور 1: 285 ح 131

قصار الحكم: 490. و يحذرنا علیه السلام و يقول: «فاحذروا عباد الله الموت وقربه» الكتاب رقم: 27. و يقول لابنه الحسن علیه السلام: «وكأنّك عن قليل صرت كأحدهم» الكتاب رقم: 31.

و المتصفح لنهج البلاغة يجد الكثير من هذه العبارات التي تذكّرنا بقرب الرحيل و سرعة انقضاء الدنيا، وإليك بعضها:

«أما بعد فانّ الدنيا قد أدبرت و آذنت بوداع، وانّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع» الخطبة رقم: 28.

«فكأن قد علقتكم مخالب المنية، و انقطعت منكم علائق الأمنية، و دهمتكم مفظعات الأمور، و السياقة إلى الورد المورود» الخطبة رقم: 84.

«فإنّها [أي الدنيا] والله عمّا قليل تزيل الثاوي الساكن، و تفجع المترف الآمن ... فلا يغرنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم

منها» الخطبة رقم: 102.

«و ما هو إلّا الموت أسمع داعية، و أعجل حاديه» الخطبة رقم: 133

«ما أقرب اليوم من تباشير غد» الخطبة رقم: 150

«واعلموا انّ ملاحظ المنية نحوكم دانية، و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم، و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور ومعضلات المحذور» الخطبة رقم: 204

ص: 34

و لترسيخ هذه الفكرة في أذهاننا و قلوبنا يستخدم أمير المؤمنين علیه السلام أسلوب التشبيه، فتارة يشبّه سرعة انقضاء الدنيا ببقية الماء في الإناء ويقول: «ألا وانّ الدنيا قد ولّت حذاء، فلم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء اصطبها صابها» الخطبة رقم: 42. «ألا و انّ الدنيا قد تصرمت و آذنت بانقضاء ... فلم يبق منها إلّا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع» الخطبة رقم: 52

و تارة يشبّه سرعة انقضائها بالظل ويقول: «فانّها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قلص، و زائداً حتى نقص» الخطبة رقم: 62.

وأخرى بالمسافر فيقول: «فإنّما مثلكم ومثلها كسَفْرٍ سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه، وأمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها» الخطبة رقم: 98، «فإنّها أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير» الخطبة رقم: 157. «انّ أهل الدنيا كركب بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا» قصار الحكم: 403.

«و أنتم بنو سبيل على سَفَر من دار ليست بداركم» الخطبة رقم: 183.

و أخيراً التمثيل بالليل والنهار ومجيء الشمس والقمر، إذ انّ «الشمس و القمر دائبان في مرضاته، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد» الخطبة رقم: 89. «وان غائباً يحدوه الجديدان: الليل والنهار، لحريّ بسرعة الأوبة» الخطبة رقم: 63.

ص: 35

ويقول لابنه الإمام الحسن علیه السلام: «و اعلم انّ من كانت مطيته الليل و النهار، فانّه يُسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة و إن كان مقيماً و ادعاً» الكتاب رقم: 31.

ويقول علیه السلام: «و انصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى و شهر انقضى» الخطبة رقم: 190.

فلماذا هذه الغفلة يا إنسان، ألا تعلم انّ «نفس المرء خطاه إلى أجله» قصار الحكم: 69. و «رب مستقبل يوم ليس بمستدبره، و مغبوط في أول ليله قامت بواكيه في آخره» قصار الحكم: 370. و ليس هذا إلّا من طول الأمل و الاغترار بالدنيا، إذ «لو رأى العبد الأجل و مسيره لأبغض الأمل وغروره» قصار الحكم: 325.

و هذا ما ينبهنا عليه أمير المؤمنين علیه السلام و يقول: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة» الخطبة رقم: 112. و هذا هو سبب هلاك الماضين حيث يقول علیه السلام: «انّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، وتغيّب آجالهم» الخطبة رقم: 147.

فعلينا أن نستعد و نخشى حلول الموت و نحن في غفلة عنه، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فبادروا العمل و خافوا بغتة الأجل».

4- الموت

و هو من المواعظ المهمّة التي تطرّق إليها

ص: 36

أمير المؤمنين علیه السلام كثيراً، إذ أنّه من أهم الدواعي للتنفير من الدنيا و التزوّد للآخرة، فقد قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: «يا بني أكثر من ذكر الموت، و ذكر ما تهجم عليه، و تفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك، و شددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك» الكتاب رقم: 31.

و يقول أيضاً: «طوبى لمن ذكر المعاد، و عمل للحساب» قصار الحكم: 39

ويوصي علیه السلام المسلمين عموماً ويقول: «وأوصيكم بذكر الموت، وإقلال الغفلة عنه، و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فيمن ليس يمهلكم» الخطبة رقم: 188 و أيضاً: «أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم» الخطبة رقم: 112.

و قد وصف علیه السلام خلّص صحابة رسول الله علیه السلام و قال: «و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم» الخطبة رقم: 96.

و لذكر الموت فوائد كثيرة و منافع جمة، وقد ورد ذكر بعضها في نهج البلاغة وهي:

ألف: ترك اللهو و اللعب:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أما والله انّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت» الخطبة رقم: 138.

ص: 37

ب: ترك الشهوات والملاذ الدنيوية:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا فاذكروا هادم اللذات، و منغص الشهوات، و قاطع الأمنيات عند المساورة للأعمال القبيحة» الخطبة رقم: 98

و قال علیه السلام: «فانّ الموت هادم لذاتكم، و مكدر شهواتكم، و مباعد طياتكم» الخطبة رقم: 229. و قال علیه السلام: «اذكروا انقطاع اللذات، وبقاء

التبعات» قصار الحكم: 421.

وقال علیه السلام: في عهده للاشتر بعدما أمره بترك خصال: «ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك» الكتاب رقم: 53

ج: خشوع القلب:

قال أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام: «و أحي قلبك بالموعظة ... و ذالله بذكر الموت» الكتاب رقم: 31. و قال: «و بقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر» الخطبة رقم: 32.

د: القناعة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير» قصار الحكم: 339.

ص: 38

ه_: الأعمال الصالحة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أما بعد فانّ من لم يحذر ما من لم يحذر ما هو صائر إليه، لم يقدم لنفسه ما يحرزها» الكتاب رقم: 51. و قال علیه السلام: «ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات» قصار الحكم: 27. و قال: «من تذكر بعد السفر استعد» قصار الحكم: 271

حتميّة الموت للإنسان:

انّ من نتائج الانغمار في ملاذ الدنيا نسيان الموت، رغم ما نرى من كثرة الموتى حولنا، فكأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و هذه آفة لابد أن نتخلص منها و نتيقن بأنّنا ميتون، وهذا ما أمر به أمير المؤمنين علیه السلام ابنه الإمام الحسن علیه السلام حيث أمره بإحياء قلبه بالمواعظ وبصفات أخر، ثم قال: «و قرّره بالفناء» الكتاب رقم 31. ويأمرنا بذلك أيضاً ويقول: «فحقّقوا عليكم نزوله ولا تنتظروا قدومه» الخطبة رقم 196.

و تقريراً لذلك يذكر أمير المؤمنين علیه السلام شواهد ممن مات من الأنبياء والعظماء ويقول: «فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سلماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود علیه السلام الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس مع النبوة و عظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته، واستكمل مُدّته، رمته قسىّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية و المساكن معطلة، ورثها قوم آخرون، و انّ لكم في القرون السالفة لعبرة» الخطبة رقم: 182.

ص: 39

ان الموت يلازمنا ولا ينجو منه أحد، يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «فما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه» الخطبة رقم: 38. «والدنيا دار مُني لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء» الخطبة رقم: 45. ويوصينا علیه السلام ويقول: «فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال» الخطبة رقم: 52. و يذكرنا بانّ الدنيا «كل مدّة فيها إلى انتهاء، و كل حيّ فيها إلى فناء» الخطبة رقم: 98. والله تعالى وعد نفسه وألزمها بذلك، قال علیه السلام: «و وأى على نفسه ألّا يضطرب شبحٌ ممّا أولج فيه الروح إلّا و جعل الحمام موعده، والفناء غايته» الخطبة رقم: 165.

و هذه

الحتمية و هذا اللزوم لا ينفعه الفرار، إذ انّ «الأجل مساق النَفْس و الهرب منه موافاته» الخطبة رقم 149. وذلك لانّ «الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب» الخطبة رقم: 122. و قد قال علیه السلام أيضاً: «وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، و الدنيا تطوى من خلفكم» الكتاب رقم: 27. وأخيراً يوصي ابنه الإمام

الحسن علیه السلام و يذكره ويقول له: «و انّك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، و لابد انّه مدركه» الكتاب رقم: 31.

الاستعداد للموت:

بعدما قررنا قلوبنا بالفناء، و أثبتنا لها الموت و سرعة حلوله، لابد أن نستعد له و نأخذ حذرنا منه، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «واستعدوا

ص: 40

للموت فقد أضلكم، و كونوا قوماً صبح بهم فانتبهوا، وعلموا انّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فانّ الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى، و ما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به ... و انّ قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العُدّة، فتزوّدوا في الدنيا ما تحرزون به نفوسكم غداً» الخطبة رقم: 63.

و قال لابنه الحسن علیه السلام: «فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك» الكتاب رقم: 31. فيأمر ابنه بإصلاح المثوى، ويأمر غيره بالتجهيز ويقول: «تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل، و أقلّوا العُرجة على الدنيا، و انقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد» الخطبة رقم: 204. ويقول علیه السلام: «فاحذروا عباد الله الموت و قربه، و أعدوا له عدته، فانّه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبدا»ً الكتاب رقم: 27.

و قال علیه السلام في وصف أحبّ العباد إلى الله تعالى عبد: «أعدّ القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد» الخطبة رقم: 86.

و كثيراً ما نرى في نهج البلاغة الأمر بمبادرة الموت والاستعداد له، ونشير فيما يلي إلى بعضها:

قال علیه السلام: «رحم الله عبداً سمع حكماً فوعى ... و بادر الأجل، وتزوّد من العمل» الخطبة رقم: 75.

ص: 41

و قال علیه السلام: «وبادروا أمر العامة و خاصة أحدكم وهو الموت، فانّ الناس أمامكم، و أنّ الساعة تحدوكم من خلفكم» الخطبة رقم: 167.

و قال علیه السلام: «فبادروا المعاد، و سابقوا الآجال، فانّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، ويرهقهم الأجل، ويُسدّ عنهم باب التوبة» الخطبة

رقم: 183.

و قال علیه السلام: «وبادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله، و أعدوا له قبل نزوله ... وبادروا آجالكم بأعمالكم، فانّكم قوم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدّمتم، و كأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، و لا عثرة تقالون» الخطبة رقم: 190.

و قال علیه السلام: «و بادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، و إن أقمتم أخذكم، و إن نسيتموه ذكركم» قصار الحكم: 193.

الاحتضار وسكرة الموت:

قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (1).

و قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (2).

ص: 42


1- ق: 19
2- الأنفال: 50

وقال تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (1)

ابتداء من الاحتضار تبدأ رحلة الإنسان الأخروية، و هي عقبة مهولة و مصيرية، إما إلى الجنة و إما إلى النار، و حقيق بالإنسان أن يستعد

لها، و يطيل النظر حولها ليسلم من فزعاتها، إذ «انّ للموت لغمرات هي أفضع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» الخطبة رقم: 220.

و قد ورد في نهج البلاغة موارد مختلفة لوصف ساعة الاحتضار، و ما يحيق بالإنسان من شدائد و مصاعب، نوردها كما هي و من دون تعليق إذ ان كلام الأمير علیه السلام أبلغ في الموعظة من أي شرح و تعليق:

قال علیه السلام في صفة أهل الغفلة: «دهمته فجعات المنية في غُبّر جماحه، و سنن مِراحه، فظلّ سادراً، وبات ساهراً في غمرات الآلام، وطوارق الأوجاع و الأسقام بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل جزعاً، و لادمة للصدور قلقاً، و المرء في سكرة ملهية، و غمرة كارثة، و أنّة

موجعة و جذبة مكربة، و سَوقة متعبة» الخطبة رقم: 82.

و قال علیه السلام: «فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، و حسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغيّرت لها ألوانهم، ثم

ص: 43


1- القيامة: 26

ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، و انّه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه على صحة من عقله، و بقاء من لبّه، يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره، ويتذكّر أموالاً جمعها، أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، و أشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره و العبء على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنّى انّ الذي كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه و سمعه، فصار بین أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يُردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم، ثم ازداد الموت التیاطاً به، فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد أو حشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه لا يُسعد باكياً و لا يُجيب داعياً» الخطبة رقم: 108.

و يصف علیه السلام الإنسان حال كونه طريح الفراش قد أيس منه أهله و أصدقاؤه: «فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا و ترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيّرت نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه، فكم من مهم من جوابه عرفه فعيّ عن ردّه، و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه، من كبير كان يعظّمه، أو صغير كان

ص: 44

يرحمه و انّ للموت لغمرات هي أفضع من أن تُستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» الخطبة رقم: 220.

وقال علیه السلام: «فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، و حنادس غمراته، و غواشي سكراته، و أليم إرهاقه، ودجوّ أطباقه، و جشوبة ممذاقه» الخطبة رقم: 229

وقال علیه السلام أيضاً في وصف تلك الشدائد: «فإنّكم لو عاينتم ما من قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم وسمعتم و أطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، و قريب ما يطرح الحجاب» الخطبة رقم 20.

فعلينا التفكر في هذه الأوصاف الموحشة و الاستعداد و الاستعاذة بالله تعالى، فقد ورد في الدعاء: «اللهم أعنّي على سكرات الموت، اللهم أعنّي على غمرات الموت» (1).

و في مناجاة الإمام زين العابدين علیه السلام: «الهي الأمان عند سكرات الموت، وعند مفارقة الروح، و عند معاينة الموت» و علينا بالأعمال التي تخفف سكرات الموت من قبيل: الإحسان إلى الإخوان، صلة الرحم، بر الوالدين ترك الذنوب، صوم أربعة و عشرين يوماً من رجب أو صوم آخر رجب، و غيرها من الأعمال المذكورة في مظانّها.

5- القبر

وهو أيضاً من أهم موارد العظة، فقد قال أمير المؤمنين

ص: 45


1- المصباح للطوسي: 568

علیه السلام: «واذكر قبرك، فانّ عليه ممرك» الخطبة رقم: 153. و لما كان راجعاً من صفين مرّ على قبور بظاهر الكوفة فخاطبهم و قال: «يا أهل الديار الموحشة، و المحال المقفرة، و القبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق» قصار الحكم: 123.

هذا المنزل أيضاً مهول وعظيم، والإنسان لو سلم من المنزل الأول و هو الموت و الاحتضار، لاستقبله هذا المنزل الموحش الذي يجمع عدّة أهوال، و قد وردت الإشارة إلى بعضها في نهج البلاغة نذكرها فيما يلي:

1- وحشة القبر وضيقه وغربته:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و أعلقت المرء أوهاق المنية، قائدة له إلى ضنك المضجع، و وحشة المرجع ... و قد غودر في محلة الأموات رهيناً، و في ضيق المضجع وحيداً ... ثم أدرج في أكفانه مبلساً، وجذب منقاداً سلساً، ثم أُلقي على الأعواد رجيع وصب، ونضو سَقَم، تحمله حفدة الولدان، وحشدة الاخوان إلى دار غربته، ومنقطع زورته» الخطبة رقم: 82

و قال علیه السلام: واتعظوا فيها بالذين قالوا من أشد منّا قوة، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، وانزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، و جعل لهم من الصفيح أجنان، و من التراب أكفان، ومن الرفات

ص: 46

جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعياً، ولا يمنعون ضيما، ولا يبالون مندبة، إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جميع وهم آحاد، و جيرة أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطناً، و بالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة» الخطبة رقم: 110.

و قال علیه السلام: «فكأنّ كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، ومخط حفرته فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، و مفرد غربة» الخطبة رقم: 157.

و قال علیه السلام: «كفى واعظاً بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم غير راكبين، و انزلوا فيها غير نازلين، كأنّهم لم يكونوا للدنيا عماراً، و كأنّ الآخرة لم تزل لهم داراً، أوحشوا ما كانوا يوطنون، و أوطنوا ما كانوا يوحشون» الخطبة رقم: 188.

و قال علیه السلام: «فمحلّها [أي القبور] مقترب، وسكانها مغترب، بين أهل محلّة موحشين، و أهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران، على ما بينهم من قرب الجوار ودنوّ الدار» الخطبة رقم: 225.

وقال علیه السلام في صفة أصحاب القبور بانّهم لو نطقوا لقالوا: «كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجساد النواعم، ولبسنا أهدام

ص: 47

البلى، و تكاءدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة، و تهكمت علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا، و تنكرت معارف صورنا، و طالت في مساكن الوحشة اقامتنا، ولم نجد من كرب فرجاً، و لا من ضيق متسعاً» الخطبة رقم: 220.

2- تجسّم الأعمال وتلازمها للإنسان:

انّ الأعمال تتجسد للإنسان في القبر، فيراها بصورها الحسنة أو القبيحة قال علیه السلام: «و أعلقت المرء أوهاق المنية، قائدة له إلى ... معاينة المحل و ثواب العمل ... و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها، لاتستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سيّئ زللها».

و أشار علیه السلام إلى التلازم القائم بين الإنسان و بين عمله وقال علیه السلام: «ثم حملوه إلى مخطّ في الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله» الخطبة رقم: 108

وقال علیه السلام: «قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، والدار الباقية» الخطبة رقم: 110. و قال علیه السلام: «لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً،

ولا في حسن يستطيعون ازدياداً» الخطبة رقم: 188.

3 - ضغطة القبر:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس ... واختلاف الأضلاع، و استكاك الأسماع، و ظلمة اللحد،

ص: 48

وخيفة الوعد، وغمّ الضريح وردم الصفيح» الخطبة رقم: 190.

و قال علیه السلام: «و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه ... وضمكم ذلك المستودع» الخطبة رقم: 225.

و لشدة هذا الأمر وهوله كان الإمام الباقر علیه السلام يتعوذ منه و يقول: «اللهم انّي أعوذ بك من عذاب القبر، ومن ضغطة القبر» (1).

4- تناخر الأجسام:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «قد هتكت الهوام جلدته، وأبلت النواهك جدّته، وعفت العواصف آثاره، و محى الحدثان معالمه، و صارت

الأجساد شحبة بعد بضتها، والعظام نخرة بعد قوّتها» الخطبة رقم: 82.

و قال علیه السلام: «سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً سلّطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، و شربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، و ضماراً لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الأهوال، ولا يحزنهم تنكر الأحوال ... فلو كانوا ينطقون ... فقالوا: كلحت الوجوه النواضر، و خوت الأجساد النواعم، ولبسنا أهدام البلى ... فانمحت محاسن أجسادنا، و تنكرت معارف صورنا ... فلو مثلتهم بعقلك، أو كشفت عنهم محجوب الغطاء لك، و قد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت، و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت،

ص: 49


1- الكافي للكليني 2: 526

و تقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، و همدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها، و عاث في كل جارحة منهم جديد بلىً سمّجها و سهّل طرق الآفة إليها، مستسلمات فلا أيدٍ تدفع، و لا قلوب تجزع، لرأيت أشجان قلوب، و أقذاء عيون، لهم في كل فظاعة صفة حال لاتنتقل، و غمرة لا تنجلي، فكم أكلت الأرض من عزيز جسد و أنيق لون، كان في الدنيا غذيّ ترف و ربيب شرف، يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، و يفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به، ضنّاً بغضارة عيشه، و شحاحة بلهوه و لعبه» الخطبة رقم: 220.

و قال علیه السلام في وصف أصحاب القبور و عدم التزاور فيما بينهم مع قرب الجوار: «و كيف يكون بينهم تزاور، و قد طحنهم بكلكله البِلى، و أكلتهم الجنادل و الثرى» الخطبة رقم: 225.

5- المساءلة في القبر:

من الشدائد التي تواجه الإنسان في القبر سؤال منكر ونكير إياه و محاسبته، ولذا يُلقّن الميّت قبل الدفن و بعد الدفن.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «حتى إذا انصرف المشيّع، ورجع المتفجّع، اُقعد فى حفرته نجيّاً لبهتة السؤال، وعثرة الامتحان» الخطبة رقم: 82. و قد قال أبو ذر الله رحمي الله لما وقف على قبر ابنه: «و لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، و الله ما بكيت لك و لكن بكيت عليك، فليت

ص: 50

شعري ما قلت و ما قيل لك» (1) .

نسأل الله تعالى أن يعيننا في اجتياز هذا المنزل الصعب بمنّه و كرمه، و يوفقنا لأداء الفرائض و التمسك بأذيال آل محمد علیه السلام، فقد ورد في الحديث: «إذا مات المؤمن دخل القبر معه ستة أوجه، كل واحد أجمل و أعطر وأنظف من باقي الوجوه، فتستقر الوجوه الستة في ستة مواضع عن يمينه و شماله و خلفه و قدامه والى جانب قدميه، و أحلاها وأطيبها إلى جانب رأسه، فإذا أتاه السؤال أو العذاب من كل جانب منعه وجه من الوجوه الستة، و يسأل الوجه الأجمل باقي الأوجه: من أنتم جزاكم الله منّي خيراً؟

فيقول الوجه المستقر على يمين المؤمن: أنا الصلاة، ويقول الوجه المستقر على شمال المؤمن أنا الزكاة، و يقول المواجه لوجه المؤمن: أنا الصوم، و يقول المستقر خلف المؤمن: أنا الحج، ويقول المحاذي لقدميه: أنا البر و الإحسان للإخوة المؤمنين، ثم يسأله الجميع عن نفسه ومن أنت بجمالك البهي الفائق العطر؟ فيقول: أنا ولاية آل محمد علیهم السلام» (2).

و من هذا المنزل يبدأ البرزخ حيث قال تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 185 ح 558
2- البحار 76: 97 ح 2

بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (1) و قد قال الصادق علیه السلام: و لكنّي و الله أتخوف عليكم في البرزخ، قلت: و ما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة (2).

أعاذنا الله و جميع المؤمنين من أهواله بمنّه و كرمه، و ببركة شفاعة محمد و آل محمد علیهم السلام.

6 - القيامة

فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف أهوال القيامة: «و بالقيامة تُزلف الجنة، و تُبرز الجحيم للغاوين، و انّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى، قد شخصوا من مستقر الأجداث، و صاروا إلى مصائر الغايات، لكل دار أهلها،

لا يُستبدلون بها ولا يُنقلون عنها» الخطبة رقم: 156.

و يحذّرنا علیه السلام ذلك اليوم قائلاً: «احذروا يوماً تُفحص فيه الأعمال، ويكثر فيه الزلزال، و تشيب فيه الأطفال ... و كأن الصيحة قد أتتكم، و الساعة قد غشيتكم، و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، و اضمحلّت عنكم العلل، و استحقت بكم الحقائق، و صدرت بكم الأمور مصادرها» الخطبة رقم: 157.

و هي منزلة مهولة إذ لما ينفخ في الصور «تزهق كل مهجة، وتبكم

ص: 52


1- المؤمنون: 100
2- الكافي للكليني 3: 243

كل لهجة، وتذلّ الشمّ الشوامخ، و الصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومعهدها قاعاً سملقاً، فلا شفيعٌ يشفع، ولا حميمٌ ينفع، و لا معذرةٌ تدفع» الخطبة رقم: 195.

و قال علیه السلام: «انّ أمامكم عقبة كؤوداً، و منازل مخوفة مهولة، لابد من الورود عليها، و الوقوف عندها» الخطبة رقم: 204. «إذا رجفت الراجفة، و حقت بجلائلها القيامة، و لحق بكلّ منسك أهله، و بكل معبود عبدته، و بكل مطاع أهل طاعته» الخطبة رقم: 222. «و اعلم انّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، و مشقة شديدة، و أنّه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، و قدر بلاغك من الزاد مع خفّة الظهر» الكتاب رقم: 31.

و من الأهوال التي يواجهها الإنسان في هذا المنزل:

1- البعث من القبور ونفخ الصُّور:

قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) (1)

في هذه العقبة المهولة تبعثر القبور، و يخرج الإنسان و تجتمع أجزاء جسمه من كل مكان، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «حتى إذا تصرمت الأمور و تقضّت الدهور، و أزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور

ص: 53


1- الحاقة: 13 - 16

و أوكار الطيور، و أوجرة السباع، و مطارح المهالك سراعاً إلى أمره، معهطعين إلى معاده» الخطبة رقم: 82.

وقال علیه السلام: «حتى إذا بلغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و ألحق آخر الخلق بأوّله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء وفطرها، وأرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها ونسفها، ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلالته و مخوف سطوته، وأخرج مَن فيها فجددهم بعد أخلاقهم، و جمعهم بعد تفريقهم» الخطبة رقم: 108.

و لهول هذه العقبة كان يبكي منها الإمام السجاد علیه السلام ويقول: «أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يميني و أخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، و وجوه يومئذٍ عليها غيرة ترهقها قترة وذلة».

2 - المحاسبة

قال الله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ (1)

وهذه العقبة أيضاً من أشد العقبات، حتى ان أمير المؤمنين علیه السلام لما خانه أحد عماله خوّفه بيوم الحساب وكتب له: «أو ما تخاف نقاش

ص: 54


1- الأنبياء: 1

الحساب» الخطبة رقم: 41. وكتب علیه السلام إلى معاوية ينصحه: «وخذ أُهْبَةَ الحساب» الكتاب رقم: 10.

و قال علیه السلام في وصف وقوف الناس للحساب: «رعيلاً صموتاً، قياماً صفوفاً، ينفذهم البصر، و يُسمعهم الداعي، عليهم لبوس الاستكانة، وضرع الاستسلام و الذلّة، قد ضلّت الحيل، و انقطع الأمل، و هوت الأفئدة كاظمة، و خشعت الأصوات مهينمة، و الُجم العرق، و عظم الشفق، و أُرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب، ومقايضة الجزاء، و نكال العقاب، ونوال الثواب» الخطبة رقم: 82.

وقال علیه السلام: «و ذلك يوم يجمع الله فيه الأولين و الآخرين لنقاش الحساب و جزاء الأعمال، خضوعاً قياماً قد ألجمهم العرق، و رجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً، و لِنَفْسِه متسعاً» الخطبة رقم: 101.

و قال علیه السلام: «ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال و خبايا الأفعال، وجعلهم فريقين أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء» الخطبة رقم: 108 و يشير علیه السلام إلى الدقة في الحساب و رعاية العدل و الانصاف: «فلم يُجْز في عدله وقسطه يومئذٍ خرق بصر في الهواء، و لا همس قدم في الأرض إلّا بحقه، فكم حجة يوم ذاك داحضة، وعلائق عذر منقطعة» الخطبة رقم: 222

و هذه الدقة في الحساب تشمل جميع الأمور و لا تغادر شيئاً: «انّ

ص: 55

الله تعالى يُسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة و المستورة، فان يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم» الكتاب رقم: 27.

و قال علیه السلام: «القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه» الخطبة رقم: 176.

3- الصراط:

من العقبات المهولة والمصيرية في القيامة عقبة الصراط، وهو آخر مرحلة من مراحل القيامة حيث منه الجواز إلى الجنة أو الوقوع في النار.

و كان من دعاء الإمام السجاد علیه السلام: «و اكتب لي براءة من النار، و أماناً من العذاب و جوازاً على الصراط» و من دعاء الإمام الصادق علیه السلام: «وسلّمني على الصراط، وأجزني عليه» (1).

يقول أمير المؤمنين علیه السلام في تبيين صعوبة الصراط وهوله: «واعلموا انّ مجازكم على الصراط و مزالق دحضه، و أهاويل زلله وتارات أهواله.»

الخطبة رقم: 82.

و من الأمور النافعة لجواز الصراط حب أهل البيت علیهم السلام، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أثبتكم قدماً على الصراط أشدكم حباً لأهل

ص: 56


1- الكافي للكليني 2: 584

بيتي»(1)

ومنها إسباغ الوضوء، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أسبغ الوضوء تمر على الصراط مرّ السحاب» (2).

و منها صلة الرحم وأداء الأمانة، فقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «حافتا الصراط يوم القيامة الأمانة و الرحم، فإذا مرّ الوصول للرحم و المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنة» (3)

و منها صلاة أول ليلة من رجب، وصيام ستة أيام من رجب، و زيارة الإمام الرضا علیه السلام حيث ورد عنه علیه السلام: «من زارني على بعد داري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى أخلصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً و شمالاً، و عند الصراط، وعند الميزان» (4).

4 - شهود يوم القيامة:

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (5).

ص: 57


1- فضائل الشيعة للصدوق: 48
2- البحار 76: 4 ح 8
3- عدة الداعي لابن فهد: 81
4- الأمالي للصدوق: 106
5- النور: 24

*

و قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) (1).

و في هذا المجال قال أمير المؤمنين علیه السلام: «اعلموا عباد الله انّ عليكم رصداً من أنفسكم، و عيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و عدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج» الخطبة رقم: 157.

وقال علیه السلام: «أعضاؤكم شهوده، و جوارحکم جنوده، وضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه» الخطبة رقم: 199. و مضافاً إلى شهادة الجوارح فهناك من الملائكة الكرام ممّن يحصي علينا أعمالنا، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، قد و كل بذلك

حفظة كراماً، لا يسقطون حقاً، ولا يثبتون باطلاً) الخطبة رقم: 183.

و الله تعالى هو المحصي و الشاهد فوق كل هؤلاء، قال علیه السلام: «أحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفاسهم، و خائنة أعينهم وما تخفي

ص: 58


1- فصلت: 19 - 22

صدورهم من الضمير، ومستقرهم و مستودعهم من الأرحام و الظهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات» الخطبة رقم: 89.

7- الاتعاظ بالآخرين أو الاعتبار منهم

وهذا أيضاً نمط آخر من أنماط الموعظة في كلام أمير المؤمنين علیه السلام حيث كان يقول: «السعيد من وُعظ بغيره» الخطبة: 85، و قال علیه السلام: «واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم» الخطبة: 32، و قال علیه السلام: «و وعظتم بمن قبلكم» الخطبة: 176.

ويتم الاتعاظ بالآخرين من خلال دراسة حالهم و الوقوف عليها، والنظر فيما آل إليه أمرهم، قال علیه السلام: «واتّعظوا فيها بالّذين (قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، و أنزلوا [الأجداث] فلا يدعون ضيفاناً، و جعل لهم من الصّفيح أجنانٌ، و من التّراب أكفانٌ، ومن الرّفات جيرانٌ، فهم جيرةٌ لا يجيبون داعياً، و لا يمنعون ضيماً، و لا يبالون مندبةً، إن جيدوا لم يفرحوا، و إن قحطوا لم يقنطوا، جميعٌ و هم آحادٌ، و جيرةٌ وهم أبعادٌ، متدانون لا يتزاورون، و قريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، و جهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، و لا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطناً، وبالسّعة ضيقاً، وبالأهل غربةً، وبالنّور ظلمةً، فجاؤوها كما فارقوها، حفاةً عراةً، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة والدّار الباقية.

ص: 59

وقال علیه السلام: «و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير والشر أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم الخطبة: 192.

8 - التقوى

و قد أكثر أمير المؤمنين علیه السلام في موعظة الناس و تذكيرهم بالتقوى، فقد قال علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله الّذي ضرب لكم الأمثال، و وقّت لكم الآجال، و ألبسكم الرّياش، و أرفع لكم المعاش، و أحاط بكم الإحصاء، و أرصد لكم الجزاء، و آثركم بالنّعم السوابغ، و الرّفد الرّوافع، و أنذركم بالحجج البوالغ فأحصاكم عدداً و وظّف لكم مدداً في قرار خبرةٍ، ودار عبرةٍ أنتم مختبرون فيها، و محاسبون عليها» الخطبة: 82

قال علیه السلام: «فاتّقوا الله تقيّة من سمع فخشع، و اقترف فاعترف، و وجل فعمل، و حاذر فبادر، وأيقن فأحسن، و عبّر فاعتبر، و حذّر فحذر، وزجر فازدجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، واقتدى فاحتذى، وأري فرأى، فأسرع طالباً، ونجا هارباً، فأفاد ذخيرةً، وأطاب سريرةً، و عمّر معاداً، واستظهر زاداً ليوم رحيله و وجه سبيله وحال حاجته وموطن فاقته، و قدّم أمامه لدار مقامه، فاتّقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له، و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه، و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده و الحذر، من هول معاده» الخطبة: 82.

قال علیه السلام: «فاتقوا الله عباد الله تقيّة ذي لبٍّ شغل التّفكّر قلبه،

ص: 60

وأنصب الخوف بدنه، وأسهر التّهجّد غرار نومه، وأظمأ الرّجاء هواجر يومه، وظلف الزّهد شهواته، و أوجف الذّكر بلسانه، وقدّم الخوف لأمانه، وتنكّب المخالج عن وضح السّبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النّهج المطلوب، ولم تقتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور، ظافراً بفرحة البشرى، وراحة النّعمى، في أنعم نومه، و آمن يومه، قد عبر معبر العاجلة حميداً، و قدّم زاد الآجلة سعيداً، وبادر من وجلٍ، وأكمش في مهلٍ، ورغب في طلبٍ، وذهب عن هربٍ، وراقب في يومه غده، ونظر قدماً أمامه» الخطبة: 82.

قال علیه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله الّتي هي الزّاد وبها المعاذ، زادٌ مبلغٌ ومعاذٌ منجحٌ، دعا إليها أسمع داعٍ، و وعاها خير واعٍ، فأسمع داعيها، و فاز واعيها، عباد الله إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، و ألزمت قلوبهم مخافته حتّى أسهرت لياليهم، و أظمأت هواجرهم، فأخذوا الرّاحة بالنّصب و الرّيّ بالظّما، و استقربوا الأجل فبادروا العمل، و كذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل» الخطبة: 113.

قال علیه السلام: «وأوصاكم بالتّقوى و جعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه، فاتّقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلّبكم في قبضته إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، قد وكّل بذلك حفظةٌ كراماً، لا يسقطون حقّاً ولا يثبتون باطلاً و اعلموا أنّه من يتّق الله يجعل له مخرجاً من الفتن و نوراً من الظلّم، ويخلّده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل

ص: 61

الكرامة عنده، في دارٍ اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه و نورها بهجته، و زوّارها ملائكته، و رفقاؤها رسله» الخطبة: 183.

قال علیه السلام: «أوصيكم بتقوى الله فإنّها حقّ الله عليكم، والموجبة على الله حقّكم و أن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإنّ التّقوى في اليوم الحرز والجنّة وفي غدٍ الطّريق إلى الجنّة، مسلكها واضحٌ، وسالكها رابحٌ، ومستودعها حافظٌ، لم تبرح عارضةً نفسها على الأمم الماضين منكم و الغابرين لحاجتهم إليها غداً إذا أعاد الله ما أبدى و أخذ ما أعطى وسأل عمّا أسدى فما أقلّ من قبلها وحملها حقّ حملها أولئك الأقلّون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأهطعوا بأسماعكم إليها، والظّوا بجدّكم عليها، و اعتاضوها من كلّ سلفٍ خلفاً ومن كلّ مخالف موافقاً، أيقظوا بها نومكم، و اقطعوا بها يومكم، و أشعروها قلوبكم، و ارحضوا بها ذنوبكم، و داووا بها الأسقام، و بادروا بها الحمام، و اعتبروا بمن أضاعها و لا يعتبرنّ بكم من أطاعها، ألا فصونوها وتصوّنوا بها، وكونوا عن الدّنيا نزّاها وإلى الآخرة ولاهاً، ولا تضعوا من رفعته التّقوى، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا» الخطبة: 191.

قال علیه السلام: «أمّا بعد فإنّي أوصيكم بتقوى الله الّذي ابتدأ خلقكم وإليه يكون معادكم، و به نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، و نحوه قصد سبيلكم، و إليه مرامي مفزعكم، فإنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم،

ص: 62

وبصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وظهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم و أمن فزع جأشكم، و ضياء سواد ظلمتكم، فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم و دخيلاً دون شعاركم، و لطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، و شفيعاً لدرك طلبتكم، و جنّةً ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكناً لطول وحشتكم، و نفساً لكرب مواطنكم، فإنّ طاعة الله حرزٌ من متالف مكتنفةٍ، و مخاوف متوقّعةٍ، وأوار نيرانٍ موقدةٍ؟، فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها، و احلولت له الأمور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصّعاب بعد إنصابها، و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، و تحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها، و وبلت عليه البركة بعد إرذاذها، فاتّقوا الله الّذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، و اخرجوا إليه من حقّ طاعته» الخطبة: 198.

قال علیه السلام: «و اعلموا عباد الله أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و آجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الدّنيا في آخرتهم، سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون، ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ، و المتجر الرّابح، أصابوا لذّة زهد

ص: 63

الدّنيا في دنياهم، وتيقّنوا أنّهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا تردّ لهم دعوةٌ و لا ينقص لهم نصيبٌ من لذّةٍ» الكتاب: 27.

9 - الطاعة و العبودية

وقد حثّ عليها أمير المؤمنين علیه السلام و بالغ في الموعظة بها، فقال فيما قال: «عباد الله انّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه» الخطبة: 85، و قال: فاتقوا الله عباد الله، وفرّوا إلى الله من الله، وامضوا في الذي نهجه لكم، و قوموا بما عصبه بكم» الخطبة: 24 و كان ينادي علیه السلام ويقول: «أين القلوب التي وُهبت الله، وعوقدت على طاعة الله» الخطبة: 144، ويقول: «أطيعوا الله ولا تعصوه» الخطبة: 167، وكذلك: «استتمّوا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله» الخطبة: 173.

و قال علیه السلام أيضاً: «فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم و دخيلاً دون شعاركم، و لطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم، وجنّة ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكناً لطول وحشتكم و نفساً لكرب مواطنكم، فإنّ طاعة الله حرز من متالف مكتنفة، ومخاوف متوقّعة، و أوار نيران موقدة» الخطبة: 198.

و في عهده علیه السلام لمالك الأشتر: «أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، و اتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه و سننه التي لا يسعد أحد إلّا باتباعها، و لا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها» الكتاب: 53.

ص: 64

وفي كتابه إلى الحارث الهمداني: «وأطع الله في جميع أمورك، فإنّ طاعة الله فاضلة على ما سواها» الكتاب: 69

و للطاعة و العبودية مصاديق متعدّدة، وردت الإشارة إلى كثير منها في نهج البلاغة، و فيما يلي نشير إلى أهمها:

أ - الإخلاص، فقد كتب علیه السلام إلى بعض عمّاله: «آمره ألّا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه و علانيته، و فعله و مقالته، فقد أدّى الأمانة وأخلص العبادة» الكتاب: 26.

و في عهده علیه السلام للأشتر: «وليكن في خاصة ما تخلص الله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم و لا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ» الكتاب: 53.

ب - الاستعانة بالله تعالى، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: «و ألجئ نفسك في أمورك كلها إلى الهك، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز» الكتاب: 31 و في كتابه إلى محمد بن أبي بكر: «وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمّك، ويُعنك على ما ينزل بك إن شاء الله» الكتاب: 34

ج - التحميد و التمجيد الله تعالى، قال علیه السلام: «أوصيكم أيها

ص: 65

الناس بتقوى الله، و كثرة حمده على آلائه إليكم، و نعمائه عليكم، وبلائه لديكم فكم خصّكم بنعمة، و تدارككم برحمة، أعورتم له فستركم، و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم» الخطبة: 188.

د- الخشية والخوف من الله تعالى، قال علیه السلام: فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه، و اخشوه خشية ليست بتعذير» الخطبة: 23، و قال علیه السلام: «عباد الله أنّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشديد ...» الخطبة: 86، و قال علیه السلام: «إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله، و أن يحسن ظنّكم به فأجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، و انّ أحسن الناس ظنّاً بالله أشدّهم خوفاً» الكتاب: 27.

ه_ - الصلاة، قال علیه السلام: «تعاهدوا أمر الصّلاة و حافظوا عليها و استكثروا منها وتقرّبوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) و إنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق و تطلقها إطلاق الرّبق، و شبّهها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالحمّة تكون على باب الرّجل فهو يغتسل منها في اليوم و اللّيلة خمس مرّاتٍ، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن، و قد عرف حقّها رجالٌ من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاعٍ و لا قرّة عينٍ من ولدٍ ولا مالٍ، يقول الله سبحانه: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ

ص: 66

تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) و كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نصباً بالصّلاة بعد التّبشير له بالجنّة، لقول الله سبحانه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه» الخطبة: 199.

و كتب علیه السلام لمحمد بن أبي بكر: «صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها، ولا تعجّل وقتها لفراغٍ، و لا تؤخّرها عن وقتها لاشتغالٍ، و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبعٌ لصلاتك» الكتاب: 27.

و - الأعمال الصالحة، قال علیه السلام : «رحم الله امرأً سمع حكماً فوعى، ودعي إلى رشادٍ فدنا ... قدّم خالصاً، و عمل صالحاً، اكتسب مذخوراً و اجتنب محذوراً، ورمى غرضاً و أحرز عوضاً، كابر هواه و كذَّب مناه، جعل الصّبر مطيّة نجاته، والتّقوى عدّة وفاته، ركب الطّريقة الغرّاء، و لزم المحجّة البيضاء، اغتنم المهل، وبادر الأجل، و تزوّد من العمل» الخطبة : 75.

قال علیه السلام : « فالله الله معشر العباد و أنتم سالمون في الصّحة قبل السّقم، و في الفسحة قبل الضّيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها، أسهروا عيونكم، وأضمروا بطونكم، و استعملوا أقدامكم، و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم، و لا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً

ص: 67

حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فلم يستنصركم من ذلٍّ، و لم يستقرضكم من قلٍّ، استنصركم و له جنود السّماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم، و استقرضكم و له خزائن السّماوات و الأرض و هو الغنيّ الحميد، وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره، رافق بهم رسله، و أزارهم ملائكته، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نارٍ أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً و نصباً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم، أقول ما تسمعون، و الله المستعان على نفسي و أنفسكم و هو حسبنا و نعم الوكيل» الخطبة : 183.

قال علیه السلام في وصف المتقين: «لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون ... فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوّةً في دينٍ ... يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجلٍ» الخطبة: 193.

قال علیه السلام : «عباد الله الآن فاعملوا ، والألسن مطلقةٌ، و الأبدان صحيحةٌ، و الأعضاء لدنةٌ، والمنقلب فسيحٌ، و المجال عريضٌ، قبل إرهاق الفوت، و حلول الموت» الخطبة : 196 .

قال علیه السلام : «تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرّحيل، وأقلّوا العرجة على الدّنيا، و انقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد، فإنّ أمامكم عقبةً كؤوداً و منازل مخوفةً مهولةً لا بدّ من الورود عليها و الوقوف

ص: 68

عندها. و اعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانيةٌ، و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم، و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور و معضلات المحذور. فقطّعوا علائق الدّنيا واستظهروا بزاد التّقوى الخطبة : 204.

ز - المحاسبة، قال علیه السلام : «عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن ،توزنوا وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا، وتنفّسوا قبل ضيق الخناق،

وانقادوا قبل عنف السّياق الخطبة : 89

قال علیه السلام في وصف الذاكرين: «فرغوا لمحاسبة أنفسهم ... فحاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيبٌ غیرک» الخطبة : 221 .

قال علیه السلام : «من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر، و من خاف أمن» قصار الحكم:198.

قال علیه السلام : «أيّها النّاس تولّوا من أنفسكم تأديبها، و اعدلوا بها عن ضراوة عاداتها» قصار الحكم: 349 .

10 - ترك الذنوب والآثام

وقد بالغ علیه السلام أيضاً في ذلك، إذ يعدّ المكمّل للطاعة و العبودية، قال علیه السلام : «ألا و انّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها، و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار» الخطبة: 16 و قال علیه السلام : «احذروا الذنوب الموّرطة، و العيوب المسخطة» الخطبة: 82، و قال علیه السلام في ذكر يوم القيامة : «و أمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأيدي إلى

ص: 69

الأعناق، و قرن النّواصي بالأقدام، و ألبسهم سرابيل القطران، و مقطّعات النّيران، في عذاب قد اشتدّ حرّه، و بابٍ قد أطبق على أهله في نارٍ لها كلبٌ و لجبٌ و لهبٌ ساطعٌ، و قصيفٌ هائلٌ، لا يطعن مقيمها، و لا يفادى أسيرها، و لا تفصم كبولها، لا مدّة للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى» الخطبة: 108

قال علیه السلام : «اتّقوا معاصي الله في الخلوات، فإنّ الشّاهد هو الحاكم» قصار الحكم: 315

قال علیه السلام : «احذر أن يراك الله عند معصيته و يفقدك عند طاعته فتكون من الخاسرين، و إذا قويت فاقو على طاعة الله، و إذا ضعفت فاضعف عن معصية الله» قصار الحكم: 373

و من الذنوب و المعاصي التي حذّر منها علیه السلام :

أ - الشرك، قال علیه السلام : «أمّا وصيّتي فالله لا تشركوا به شيئاً ...» الخطبة : 149، الكتاب: 23 .

قال علیه السلام : «إنّ من عزائم الله في الذّكر الحكيم الّتي عليها يثيب و يعاقب، و لها يرضى و يسخط، أنّه لا ينفع عبداً و إن أجهد نفسه و أخلص فعله، أن يخرج من الدنيا لاقياً ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته ... » الخطبة : 153

قال علیه السلام : «و اعملوا في غير رياءٍ و لا سمعةٍ، فإنّه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له» الخطبة : 76 .

ص: 70

ب - أكل الحرام، قال علیه السلام : «ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام، فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية، و سهل لكم سبل الطاعة» الخطبة: 151

و في وصيته علیه السلام لعثمان بن حنيف: «فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، و ما أيقنت بطيب و جوهه فنل

منه» الكتاب : 45 .

ج - الكبر، قال علیه السلام «ضع فخرك ، واحطط كبرك» الخطبة : 153، و قال علیه السلام : و استعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدّهر، فلو رخّص الله في الكبر لأحدٍ من عباده لرخّص فيه الخاصة أنبيائه و أوليائه، و لكنّه سبحانه كرّه إليهم التّكابر و رضي لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، و عفّروا في التّراب وجوههم، و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا قوماً مستضعفين» الخطبة: 192.

د - الحسد ، قال علیه السلام : ولا تحاسدوا ، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» الخطبة: 85.

ه_ - الطمع ، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن : «وإيّاك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة» الكتاب: 31 .

و قال علیه السلام : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع» قصار الحكم: 209.

ص: 71

و - الظلم، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم ... و ظلم الضعيف أفحش الظلم» الكتاب: 31.

و في عهده علیه السلام للأشتر: «أنصف الله و أنصف النّاس من نفسك ومن خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوًى من رعيّتك، فإنّك إلا تفعل تظلم، و من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، و من خاصمه الله أدحض حجّته، و كان الله حرباً حتّى ينزع أو يتوب، و ليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله و تعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلمٍ، فإنّ الله سميعٌ دعوة المظلومين وهو للظّالمين بالمرصاد» الكتاب: 53 .

ز - العجب، وفي وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «و اعلم انّ الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب» الكتاب: 31.

و في عهده علیه السلام لمالك الأشتر : «وإيّاك و الإعجاب بنفسك، و الثّقة بما يعجبك منها، و حبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين» الكتاب: 53 .

ح - الغضب، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «و تجرّع الغيظ فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذّ مغبّة» الكتاب: 31، وفي كتابه إلى الحارث الهمداني: «واكظم الغيظ ، و تجاوز عند المقدرة، و احلم عند الغضب» الكتاب: 69.

ومن وصيته علیه السلام لابن عباس : «و إياك والغضب، فإنّه طيرة من الشيطان» الكتاب: 76.

ص: 72

ط - اتباع الهوى، قال علیه السلام : «أيّها النّاس إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة» الخطبة: 42 .

قال علیه السلام : «عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم، و لا تنقادوا لأهوائكم» الخطبة: 104 .

قال علیه السلام : «فرحم الله امراً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النفس أبعد شيءٍ منزعاً، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصيةٍ في هوًى» الخطبة : 176 .

و من كلام له علیه السلام مع هانئ بن شريح: «و اعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثيرٍ ممّا تحبّ مخافة مكروهه، سمت بك الأهواء إلى كثيرٍ من الضّرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، و لنزوتك عند الحفيظة واقعاً قامعاً» الكتاب: 56 .

3- المواعظ السياسية:

اشارة

تتبلور مواعظ أمير المؤمنين علیه السلام السياسية في كتبه و رسائله إلى أمرائه و جنوده، سيّما عهده علیه السلام إلى مالك الأشتر حيث يحتوي على كثير من المواعظ و النصائح السياسية، و كان اهتمامه علیه السلام بهذا الجانب كثيراً لما حلّ بالأمة الإسلامية آنذاك من هنات نتيجة سوء فعل المتقدمين.

ص: 73

ومن أهمّ ما أكّد عليه أمير المؤمنين علیه السلام في مواعظه و نصائحه السياسية لأمرائه و قادته ما يلي:

أ - العدل في السيرة

فقد كتب علیه السلام إلى عماله على الخراج: «فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنّكم خزّان الرعيّة، ووكلاء الأمّة، و سفراء الأئمّة، و لا تحسموا (1) أحداً عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته الكتاب : 51 .

و كتب علیه السلام لمالك الأشتر: «وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم، و اللطف ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرً لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنّك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، و الله فوق من ولّاك، و قد استكفاك أمرهم، و ابتلاك بهم» الكتاب: 53 .

و كتب علیه السلام إلى بعض أمرائه: «أما بعد، فإنّ الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنّه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله» الكتاب: 59.

ص: 74


1- لا تحسموا: أي لا تقطعوا

ب - المواساة

فقد كتب علیه السلام لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر: «فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، و آس بينهم في اللحظة و النظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم» الكتاب: 27 .

كما كتب علیه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، لحضوره مأدبة قوم حضر فيها الأغنياء، و أشار إليه بأنّ الحاكم لابدّ و أن يواسي الناس بقوله: «أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش» الكتاب: 45 .

ج - الاعتماد على أهل الطاعة

حيث كتب علیه السلام إلى بعض عماله: «و استغن بمن انقاد معك عمّن تقاعس عنك، فإنّ المتكاره مغيبه خير

من شهوده، و قعوده أغنى من نهوضه الكتاب: 4 .

د - الاهتمام بالطبقة السفلى

فقد كتب علیه السلام لمالك الأشتر: «ثمّ الله الله في الطّبقة السّفلى من الّذين لا حيلة لهم، و المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزّمنى، فإنّ في هذه الطّبقة قانعاً ومعترّاً، واحفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، و قسماً من غلّات صوافي الإسلام في كلّ بلدٍ، فإنّ للأقصى منهم مثل الّذي للأدنى، و كلٌّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطرٌ، فإنّك لا تعذر بتضييع التّافه لإحكامك الكثير المهمّ.

ص: 75

فلاتشخص همّك عنهم، و لا تصعّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لايصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون (1) ، وتحقره الرّجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التّواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالاعذار إلى الله تعالى يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرّعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، و كلٌّ فأعذر إلى الله تعالى في تأدية حقّه إليه.

و تعهّد أهل اليتم و ذوي الرّقة في السّنّ ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيلٌ، والحقّ كلّه ثقيلٌ، و قد يخفّفه الله على أقوامٍ طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، و وثقوا بصدق موعود الله لهم» الكتاب : 53 .

ه_ - الستر على عيوب الناس

ففي عهده علیه السلام للأشتر: «وليكن أبعد رعيّتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعائب النّاس، فإنّ في النّاس عيوباً، الوالي أحقّ من سترها، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّها عليك تطهير ما ظهر لك، و الله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحبّ ستره من رعيّتك. أطلق عن الناس عقدة كلّ حقدٍ، و اقطع عنك سبب كلّ وترٍ، و تغاب عن كلّ ما لا يضح لك (2)، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساعٍ، فإنّ السّاعي غاشٌ، وإن

ص: 76


1- تقتحمه :العيون: أي تزدريه النفوس فلا تقع عليه الأبصار
2- يضح: يظهر

تشبّه بالنّاصحين» الكتاب: 53

و - الوفاء بالعهد

ففي عهده علیه السلام للأشتر: «وإن عقدت بينك وبين عدوٍّ لك عقدةً، أو ألبسته منك ذمّةً، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّةً دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض الله عزّوجلّ شيءٌ النّاس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفريق أهوائهم، و تشتيت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، و لا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك، فإنّه لا يجترىء على الله إلّا جاهلٌ شقيٌّ.

و قد جعل الله عهده و ذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، يستفيضون إلى جواره، فلا إدغال، و لا مدالسة، و لا خداع فيه، و لا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعوّلنّ على لحن القول بعد التّأكيد والتّوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمرٍ لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيقٍ ترجو انفراجه و فضل عاقبته، خيرٌ من غدرٍ تخاف تبعته، و أن تحيط بك من الله فيه طلبةٌ، لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك» الكتاب: 53 .

ز - الاهتمام بدماء الناس و أعراضهم

ففي عهده علیه السلام للأشتر: «إيّاك و الدّماء و سفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيءٌ أدعى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، و لا أحرى بزوال نعمةٍ، وانقطاع مدّةٍ، من سفك الدّماء

ص: 77

بغير حقّها، و الله سبحانه مبتدىءٌ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدّماء يوم القيامة، فلا تقوّينّ سلطانك بسفك دمٍ حرامٍ، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه، بل يزيله و ينقله، ولا عذر لك عند الله و لا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطإٍ و أفرط عليك سوطك [ أو سيفك] أو يدك بعقوبة، فإنّ في الوكزة فما فوقها مقتلةً، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّي إلى أولياء المقتول حقّهم» الكتاب: 53 .

د - العمل بالشدّة واللين

فقد كتب علیه السلام إلى بعض عماله: «واخلط الشدّة بضغثٍ من اللين، و أرفق ما كان الرفق أرفق، و اعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلّا الشدّة» الكتاب: 46.

ط - قضاء حوائج الناس

ففي عهد الأشتر: «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متعتعٍ، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول في غير موطنٍ : «لن تقدّس أمّةٌ لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتعٍ».

ثمّ احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحّ عنك الضّيق و الأنف، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، و امنع في إجمالٍ و إعذارٍ. ثمّ أمورٌ من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك، و منها إصدار

ص: 78

حاجات النّاس عند ورودها عليك ممّا تحرج به صدور أعوانك) الكتاب: 53 .

ي - تفقّد أحوال الولاة و معاقبتهم عند الخيانة

ففي عهد الأشتر: «وتحفّظ الأعوان، فإن أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانةٍ اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التّهمة» الكتاب : 53 .

4 - المواعظ الاجتماعية

اشارة

انّ المواعظ الاجتماعية التي تطرق إليها أمير المؤمنين علیه السلام ، تدور حول إصلاح الوضع الاجتماعي الذي لابدّ أن ينهض به أبناء الشعب أنفسهم، وهي كما يلي:

أ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فقد قال علیه السلام :

قال علیه السلام : «وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي» الخطبة : 104 .

قال علیه السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فلعن الله السّفهاء لركوب المعاصي، و الحلماء لترك التّناهي» الخطبة: 192.

ص: 79

وفي وصيته علیه السلام : «الا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم» الكتاب: 47 .

قال علیه السلام : «أيّها المؤمنون إنّه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسّيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظّالمين هي السّفلى، فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطّريق، ونوّر في قلبه اليقين» قصار الحكم : 363.

قال علیه السلام : «فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل الخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه و التّارك بيده، فذلك متمسّكٌ بخصلتين من خصال الخير ومضيّعٌ خصلةً، و منهم المنكر بقلبه والتّارك بيده ولسانه، فذلك الّذي ضيّع أشرف الخصلتين من ثلاث وتمسّك بواحدةٍ، ومنهم تاركٌ لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميّت الأحياء، وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلا كنفثةٍ في بحرٍ لّجيٍّ، وإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يقرّبان من أجلٍ ، ولا ينقصان من رزقٍ، وأفضل من ذلك كلّه كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائرٍ » قصار الحكم: 364.

ب - لزوم الجماعة

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «وألزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة فإنّ الشاذ من الناس للشيطان، كما انّ الشاذة من الغنم للذئب» الخطبة: 127 .

ص: 80

وقال علیه السلام : «فإياكم والتلوّن في دين الله، فانّ جماعة فيما تكرهون من الحق، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل، وانّ الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى، ولا ممن بقي» الخطبة: 176.

وقال علیه السلام بعد ما ذكر الأمم السالفة: «فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فألزموا كل أمر لزمت العزّة به حالهم، و زاحت الأعداء له عنهم، ومدّت العافية فيه بهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، واللزوم للأُلفة، و التحاضّ عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي» الخطبة: 192.

ولا يفوت على القارئ الكريم بانّ الواجب هو لزوم الجماعة الصالحة، كما نبهنا عليه وكما ورد في كلام الإمام علیه السلام ، وإلّا فلا طاعة للأشرار ولا لزوم لجماعتهم، كما قال علیه السلام منبّهاً لذلك: «ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق، و أحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، و جنداً بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم» و كما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما سئل : أيّ الجهاد أفضل ؟ فقال : «كلمة حق عند إمام جائر» الخطبة : 192.

إذن الوصية بلزوم الجماعة لا تؤخذ على نحو الإطلاق.

ص: 81

ج - لزوم العشيرة

قال علیه السلام : « أنه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمّهم لشعثه، و أعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به» الخطبة: 23 .

و كتب علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «و أكرم عشيرتك ، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول» الكتاب: 31

و هذا ما التزم به أمير المؤمنين علیه السلام في سلوكه، فقد كتب إلى ابن عباس لما كان واليه على البصرة وسمع منه غلظة على بني تميم: «انّ لهم بنا رحماً ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، و مأزورون على قطيعتها» الكتاب: 18

طبعاً لزوم العشيرة لا يؤخذ أيضاً على اطلاقه، بل انّه مقيّد بالعشيرة الصالحة، وإلّا فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، و جاحدوا الله ما صنع بهم مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه، فانّهم قواعد أساس العصبية، و دعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية» الخطبة: 192 .

فالتقوى هنا تقتضى محاربة هكذا عشيرة، كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام حال المسلمين في زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم حيث قال: «فلقد كنّا مع رسول

ص: 82

الله صلی الله علیه و آله و سلم وانّ القتل ليدور بين الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات، فما نزداد على كل مصيبة و شدة إلّا إيماناً و مضيّاً على الحق، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح» الخطبة: 121 .

وقال علیه السلام : «ولقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً و تسليماً، ومضيّاً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدو» الخطبة : 55 .

د - التواصل

قال علیه السلام : «عليكم بالتواصل و التباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع» الكتاب : 47 ، وهذا التواصل ومساعدة الآخرين ومعونتهم يوجب سعادة الإنسان في الدارين، فقد قال علیه السلام في شرح أفضل ما يتوسل الإنسان به إلى ربه وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان» الخطبة: 109.

و قال علیه السلام : «من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، التنفيس عن المكروب» قصار الحكم 20 .

وفي وصيته للحسنين علیهم السلام: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي: بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدكم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام» الكتاب: 47 .

ه_ - ضوابط الصداقة

وكيفية اتخاذ الصديق، وهي ظاهرة اجتماعية مهمّة، قال أمير المؤمنين في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «يا بني

ص: 83

إيّاك ومصادقة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة البخيل فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، و إيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه، وإيّاك ومصادقة الكذّاب فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد و يبعّد عليك القريب» قصار الحكم: 34 .

وقال علیه السلام : «لا تصحب المائق فإنّه يزيّن لك فعله، ويودّ أن تكون مثله» قصار الحكم: 284 ، والمائق هو الأحمق.

وقال علیه السلام : «أحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنوّ، وعند شدّته على اللين و عند جرمه على العذر، ... و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً» الكتاب : 31.

و - التحذير من الفتن

قال علیه السلام : «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب» قصار الحكم 1 .

وقال علیه السلام : «وتثبّتوا في قتام العشوة، و اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها، ومدار رحاها، تبدأ في مدارج خفيّةٍ، وتئول إلى فظاعةٍ جليّةٍ، شبابها كشباب الغلام، و آثارها كآثار السّلام، يتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائدٌ لآخرهم، و آخرهم مقتدٍ بأوّلهم، يتنافسون في دنيا دنيّةٍ، ويتكالبون على جيفةٍ مريحةٍ، وعن قليلٍ يتبرّأ التّابع من المتبوع و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون

ص: 84

عند اللّقاء، ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، والقاصمة الزّحوف، فتزيغ قلوبٌ بعد استقامةٍ، وتضلّ رجالٌ بعد سلامةٍ، وتختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة، قد اضطرب معقود الحبل، وعمي وجه الأمر، تغيض فيها الحِكمة و تنطق فيها الظّلمة، وتدقّ أهل البدو بمسحلها، وترضّهم بكلكلها، يضيع في غبارها الوحدان، ويهلك في طريقها الرّكبان، ترد بمرّ القضاء، وتحلب عبيط الدّماء، وتثلم منار الدّين، وتنقض عقد اليقين، يهرب منها الأكياس ويدبّرها الأرجاس، مرعادٌ مبراقٌ، كاشفةٌ عن ساقٍ، تقطع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام، بريئها سقيمٌ وظاعنها مقيمٌ ...» الخطبة 151.

وقال علیه السلام في توضيح كيفية شروع الفتن: «إنّما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تتبّع و أحكامٌ تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيمزجان، فهنالك يستولي الشّيطان على أوليائه، وينجو الّذين سبقت لهم من الله الحسنی» الخطبة: 50

***

ص: 85

إلى هنا انتهينا من هذا البحث، حيث ذكرنا أهمّ ما ورد على لسان أمير المؤمنين علیه السلام في الموعظة، و كما هو مثبت في كتاب نهج البلاغة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين.

***

ص: 86

محتویات الکتاب

تمهید ... 5

أهمية الموعظة ... 7

ثمرة الموعظة ... 9

شرائط الواعظ ... 11

أسباب قبول الموعظة ... 14

موانع قبول الموعظة ... 16

نتيجة ترك الموعظة ... 19

أنماط الموعظة ... 20

1 - المواعظ العقائدية ... 20

2 - المواعظ الأخلاقية ... 23

الاسلام ... 24

القرآن الكريم ... 24

الدنيا ... 25

الموت ... 36

القبر ... 45

القيامة ... 52

الاتعاظ بالآخرين أو الاعتبار منهم ... 59

التقوى ... 60

الطاعة والعبودية ... 64

ترك الذنوب والآثام ... 69

ص: 87

المواعظ السياسية ... 73

العدل فى السيرة ... 74

المواساة ... 75

الاعتماد على أهل الطاعة ... 75

الاهتمام بالطبقة السفلى ... 75

الستر على عيوب الناس ... 76

الوفاء بالعهد ... 77

الاهتمام بدماء الناس وأعراضهم ... 77

العمل بالشدة واللين ... 78

قضاء حوائج الناس ... 78

تفقد أحوال الولاة ومعاقبتهم عند الخيانة ... 79

المواعظ الاجتماعية ... 79

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 79

لزوم الجماعة ... 80

لزوم العشيرة ... 82

التواصل ... 83

ضوابط الصداقة ... 83

التحذير من الفتن ... 84

محتويات الكتاب ... 87

ص: 88

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.