المعالم الحضارية في نهج البلاغة

هوية الکتاب

المعالم

في نهج البلاغة

تالیف: باقر شريف القرشي

تحقيق: مهدى باقر القرشي

الناشر: مؤسّسة الإمام الحسن علیه السلام

المطبعة: ستاره

الطبعة الأولى: 1433ه_ / 2012م

عدد النسخ: 1000 نسخة

حقوق الطبع و النشر محفوظة للمؤلف

www.hassanlib.com

البريد الالكتروني hasanlib@yahoo.com

النجف الأشرف - نهاية شارع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم

009647805694970

ص: 1

اشارة

المعالم الحضاريّة

في نهج البلاغة

ص: 2

ص: 3

المعالم الحضارية

في نهج البلاغة

تأليف

باقر شریف القرشي

تحقيق

مهدى باقر القرشي

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 5

ص: 6

تقدیم

1

في شخصيّة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ملتقى أصيل لدنيا من المواهب و العبقريّات، و نكران الذات، و التجرّد من منافع الدنيا، و التحلّى بكلّ صفة شريفة.

و كان من مثله حرصه البالغ على إقامة الحق، و بسط العدل، و توزيع خيرات الله تعالى على الذين تقتحمهم العيون من البؤساء و الفقراء الذين لا يجدون الرغيف، ولا ظلّ لهم أو مكانة في المجتمع، فاحتضنهم الإمام علیه السلام ، فكان أباً و صديقاً لهم، شاركهم في آلامهم وجشوبة عيشهم، وقد حمله ذلك رهقاً، فقد ثارت عليه في أيّام حكومته القوى النفعيّة التي هامت في اكتساب المال الحرام فيما قبله من العهود حتّى أنّ بعض عيونهم ترك بعد وفاته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس، و هذه القوى ناجزت الإمام علیه السلام و سدّت جميع النوافذ في وجهه حتّى استشهد (سلام الله عليه).

2

من أروع ما خلّفه الإمام من تراث رائع كان مدرسة للأجيال هو «نهج البلاغة» اذي هو ملء فم الدنيا في قيمه و أصالته، ويأتي في

ص: 7

الأهمية بعد القرآن الكريم، فقد اقتبس منه علماء الفلسفة والكلام وعلماء الحديث و علماء الفصاحة و البلاغة، و لا زال ينتهل من نميره العلماء، و يستمدون من آرائه في المجالات التربويّة و الاجتماعية و السياسيّة، و غيرها من شؤون الحياة و مناهجها.

3

و مهما اقتبس العلماء و الحكماء من غرر نهج البلاغة، و اقتبسوا من حكمه و آدابه، فإنّه لا يزال غضّاً تطفح ضفتاه بالقيم الكريمة، و محاسن الأخلاق، و آداب السلوك، لا تنفد كنوزه، ولا تفنى عجائبه، و هو يحكي مدى الثروات الهائلة التي يملكها الإمام علیه السلام رائد الحكمة و البيان، و المؤسس للقيم الحضاريّة التي يسمو بها الإنسان.

4

التقيت و أنا في دلهي الهند للمعالجة بالأخ الفاضل الدكتور مهدي نجفى و بسيادة الدكتور العلّامة مهدي خواجه بير، و هو من المؤمنين فضلاً و سلوكاً، و قد كلّفته الحكومة الإيرانيّة في دلهي الهند بالتقاط الآثار المهمة في الهند، وفعلاً فقد استنسخ مئات المخطوطات، كان منها نسخ من نهج البلاغة يعود خطّها إلى ألف سنة، وبعضها إلى تسعمائة سنة، و هي بخطوط جميلة تحكي التطوّر العلمي في تلک العصور، و قد عرض علينا أن نقيم في مكتبة الإمام الحسن علیه السلام في النجف الأشرف جناحاً خاصّاً إلى نهج البلاغة بعنوان «الأثر الخالد في الإسلام نهج البلاغة»، فرحّبنا بهذه الفكرة، وقد قدّم عدّة نسخ خطّيّة

ص: 8

من نهج البلاغة، و أوعد بالمزيد منها و من غيرها، وإنّا جادّون في تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

5

عرض عليَّ ولدي المحقّق العلّامة الشيخ مهدي وفّقه الله تعالى أن أبحث عن المعالم الحضاريّة للإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة و غيره من المصادر التي تناولت تراث الإمام علیه السلام ، فرحّبت بهذه افكرة، و شكرته على ذلك، و اتّجهت صوب هذا الموضوع، سائلاً من الله تعالى يوفّقنا لذلك، ويكتب لنا المزيد من الأجر، إنّه تعالى وليّ ذلك و القادر عليه.

النجف الاشرف

/17 / ربيع الأوّل 1433ه_

ص: 9

ص: 10

القرآن الكريم

اشارة

و انحنى الإمام إجلالاً وخضوعاً أمام القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد أضفى عليه أجمل الأوصاف، وأسمى النعوت.

لقد كان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في طليعة من قيَّم القرآن، و أشاد بفضله، و عظيم منزلته، و هذه كوكبة من الأخبار التي أدلى بها عن أهمية القرآن المجيد:

وصف القرآن

و وصف الإمام علیه السلام القرآن الكريم بهذه الصفات الرفيعة، قال علیه السلام : ( ظَاهِرُهُ أَنيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، ظَاهِرُهُ حُكْمٌ، وَبَاطِنُهُ عِلْمٌ (1).

حكت هذه الكلمات ما حفل به ظاهر القرآن و باطنه، فظاهره حكم و آداب، و باطنه علم و فضل و خير وهدى للناس.

القرآن نور

خطب الامام علیه السلام خطاباً مهمّاً تحدّث فيه عن نعمة الإسلام على النّاس و رحمته عليهم، ثمّ تعرّض للقرآن الكريم، فوصفه بالنور و السراج المنير.

قال علیه السلام :

ص: 11


1- الكافي: 2: 599. نهج البلاغة: 1: 55. البصائر و الذخائر: 7. و في ربيع الأبرار زيادة على ذلك: «وَلَا تَنقَضِي غَرَائِبُهُ».

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ - أي على الرسول - الْكِتَابَ نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لَا يَضِلَّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ، وَفُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءٌ لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ. وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وَ حَقَّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ.

فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ (1)، وَيَنَابِيعُ الْعِلْم وَ بُحُورُهُ، وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ، وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانَهُ، وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ (2)، وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَ مَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ، وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَ آكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ.

جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَ رَبيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَ حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَ مَعْقِلاً منيعاً ذِرْوَتُهُ، وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ، وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَ هُدىً لِمَن انتَمَّ بِهِ، وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَ بُرْهَانَا لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَ حَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَ مَطيَّةٌ لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ

ص: 12


1- البحبوحة: وسط المكان
2- الغيطان: جمع غاط، وهو المطمئن من الأرض

وَجُنَّةٌ لِمَنِ اسْتَلْأَمَ، وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى» (1).

أرأيتم كيف قيّم الإمام القرآن وثمّنه بهذه الكلمات الذهبيّة، التي حفلت بما في القرآن من ذخائر العلم، و مناجم الفكر، وهي تنمّ عن إحاطة الإمام و وعيه لجميع ما في القرآن من دقائق و أسرار!

القرآن ناطق

من كلمات الإمام الرائعة في وصف القرآن الكريم قوله: « وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ) (2). ما أجمل هذا الوصف ! و ما أروع هذا البيان ! فقد حكى ما في القرآن الكريم من عظيم الصفات.

القرآن يتحدّث عن أنباء الماضى و المستقبل

من أحاديث الإمام علیه السلام عن القرآن الكريم أنّه تحدّث عن أنباء الأُمم الماضية، والأُمم التي ستأتي قال علیه السلام : «وَ فِي الْقُرْآنِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَ حُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» (3). لقد قصّ القرآن الكريم أحوال الأمم السابقة، و ما جرى على بعضها من الدمار و الهلاك، وذلك بسبب انحرافها عن الحقّ، و معاداتها لرسل الله.

ص: 13


1- نهج البلاغة: 2: 315 و 316. بحار الأنوار::89: 21 و 22، الحدیث 21
2- نهج البلاغة: 2: 16. بحار الأنوار: 92: 33 شرح نهج البلاغة: 8: 273
3- نهج البلاغة: 530، الحديث 313. الدرّ المنثور: 5: 114، يرويه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم

القرآن حبل الله

أوصى الإمام علیه السلام أصحابه بالتمسّك بالقرآن، و وعى آياته لأنّه حبل الله المتين، قال علیه السلام : «عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ وَ النُّورُ الْمُبِينُ وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ وَ الرِّيُّ النَّاقِعُ وَ الْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ وَ النَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ؛ لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ وَ لَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَ وُلُوجُ السَّمْعِ؛ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ». (1).

إنّ كتاب الله العظيم حافل بكلّ مقوّمات الحياة، فهو النور الذي يهدي الضالّ، وهو العصمة لمن تمسّك به، والنجاة لمن التجأ إليه، فما أعظم عائدته على الإنسان !

القرآن ناصح

تحدّث الإمام علیه السلام عن فضل القرآن و مدى أهميته، قال علیه السلام :

«وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدًى، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى.

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ (2)، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ (3) فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ: وَهُوَ - أي الداء - الْكُفْرُ

ص: 14


1- بحار الأنوار: 92: 23 نهج البلاغة: 2: 219
2- الفاقة: الفقر والحاجة
3- اللأواء: الشدّة

وَالنَّفَاقُ، وَ الْغَيُّ وَالضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ. (1).

وصف الإمام علیه السلام القرآن الكريم بأجمل الصفات و أبدع النعوت، فقد وصفه بالناصح المشفق الذي يهدي الناس للتي هي أقوم، كما وصفه بالمحدّث الذي لا يكذب، وإنّما يتلو الحقّ، و يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، و هو الدواء الذي يعالج جميع أمراض الإنسان ويحسم مشاكله، و هو الشافع يوم القيامة لمن قرأه بإمعان وسار على هديه. هذه بعض الصفات التي أضفاها الإمام على القرآن.

القرآن هدى و نور

أوصى الإمام علیه السلام أصحابه برعاية القرآن و التّمسك به فإنّه نور و هدى، قال علیه السلام : «اِعْلَمُوا أَنَّ اَلْقُرْآنَ هُدَى اَلنَّهَارِ، وَ نُورُ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَ فَاقَةٍ (2).

ص: 15


1- ربيع الأبرار: 2: 82 و 83 نهج البلاغة: 252. بحار الأنوار: 89: 24
2- أصول الكافي: 2: 600. بحار الأنوار: 65: 212

القرآن هدى للناس، يُرشد الضالّ، ويُنير الطريق، ويُوضح القصد، ويهدي الحائر.

الحثّ على تعلّم القرآن

حثّ الإمام علیه السلام أصحابه على تعلّم القرآن الكريم، قال علیه السلام :

«تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ» (1).

و حفلت هذه الكلمات بآيات الثناء على كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

حفظ القرآن

ندب الإمام أصحابه إلى حفظ القرآن، وممن حثّه الإمام على ذلك الفرزدق الشاعر المعروف، فقد وفد مع أبيه على الإمام علیه السلام فقال الإمام لأبي الفرزدق: مَنْ أَنْتَ؟

- غالب بن صعصعة المجاشعي.

- أَنْتَ ذُو الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ؟

- نعم.

- ما فَعَلَتْ إِبلُكَ ؟

- أذهبتها النوائب، وذعذعتها الحقوق.

- ذاك - أي اذهاب الحقوق لها - خَيْرُ سَبِيلِها

ص: 16


1- نهج البلاغة: 164. بحار الأنوار: 2: 36

ثمّ التفت الإمام إلى غالب فقال له: مَنْ هذَا الْفتَى الَّذِي مَعَكَ ؟ - وأشار إلى الفرزدق.

- ابني وهو شاعر.

فأرشده الإمام إلى تعلّم ما هو خير من الشعر قائلاً: عَلِّمهُ القُرآنَ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ مِنَ الشِّعرِ.

و استجاب الفرزدق لنصيحة الإمام، فعكف على حفظ القرآن، وقد قيّد نفسه سنة حتى حفظه، وفي ذلك يقول:

وَما صَبٌ رِجلي في حَدِيدِ مُجاشِعٍ *** مَعَ القِدَّ إِلَّا حاجَةٌ لي أُرِيدُها (1)

لقد كانت الحاجة التي يريدها الفرزدق هي حفظ القرآن الكريم و الوقوف على معانيه.

دعاؤه علیه السلام عند ختم القرآن

كان الإمام علیه السلام يدعو بهذا الدعاء عند ختمه للقرآن الكريم:

اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِخْبَاتَ الْمُخْبِتِينَ، وَ إِخْلاَصَ الْمُوقِنِينَ، وَ مُرَافَقَةَ الْأَبْرَارِ، وَ اسْتِحْقَاقَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَ الْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَ السَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَ وُجُوبَ رَحْمَتِكَ، وَ عَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ» (2)

و اُثر عنه دعاء آخر كان يدعو به عند ختمه للقرآن، وهو:

ص: 17


1- نور القبس المختصر من المقتبس للمرزباني: 268. شرح نهج البلاغة: 21:10 و 22
2- الصحيفة العلويّة الثانية: 202، مكارم الأخلاق: 342. كنز العمّال: 2: 351. المناقب الخوارزمي: 86.

«اللّٰهُمَّ اشْرَحْ بِالْقُرْآنِ صَدْرِى، وَاسْتَعْمِلْ بِالْقُرْآنِ بَدَنِى، وَنَوِّرْ بِالْقُرْآنِ بَصَرِى، وَأَطْلِقْ بِالْقُرْآنِ لِسانِى، وَأَعِنِّى عَلَيْهِ مَا أَبْقَيْتَنِى، فَإِنَّهُ لَاحَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلّا بِكَ.» (1).

القرآن ربيع القلوب

أدلى الإمام علیه السلام في بعض خطبه عمّا في القرآن الكريم من الفوائد التي لا يستغنى عنها أحد، و التي منها أنّه ربيع القلوب، قال علیه السلام :

«فَإِنَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِينُ، وَ فِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَ مَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَيْرُهُ» (2).

و كثير من أمثال هذه الأحاديث أدلى بها الإمام علیه السلام في فضل القرآن الكريم والاشادة به، وهي تحكي بصورة واضحة عن وعيه الكامل لكتاب الله العزيز، وتدبّره التامَ لجميع ما فيه من حقول العلم والمعرفة، ولا شبهة إنّه ليس هناك أحد من الصحابة قد وقف على القرآن الكريم و فهم حقيقته غير الإمام علیه السلام الذي هو باب مدينة علم النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

و قد حفل نهج البلاغة المزيد من كلماته علیه السلام التي أدلى بها عن أهمّيّة القرآن المجيد.

ص: 18


1- الصحيفة العلويّة الأولى: 287. مستدرك الوسائل: 4: 378. بحار الأنوار 89: 209، الحديث 6
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 31 - بحار الأنوار:: 312 و 313، الحديث 76

العلم و التعليم

اشارة

لقد أشاد الإمام علیه السلام في كلماته و خطبه الرائعة في نهج البلاغة إلى نشر التعليم، و محو الأمّية، وإشاعة العلم بين الناس فقد اتّخذ جامع الكوفة مدرسة ومعهداً لإلقاء محاضراته العلمية و تعليم قيمه الفكرية، و التي كان منها الدعوة إلى الله تعالى، وإظهار فلسفة التوحيد وإقامة دعائم الإيمان بالله تعالى على ضوء ء الأدلّة العلمية الحاسمة التي لا تقبل الجدل و التشكيك، بالاضافة إلى مواعظه العملاقة التي كانت تهزّ أعماق النفوس خوفاً و رهبة من الله تعالى.

وقد تخرّج من مدرسته جماعة من عظماء الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، وحجر بن عدي، وكميل بن زياد، وأبي الأسود الدولي، وميثم التمّار، وغيرهم من الذين أقاموا صروح النهضة العلمية في الإسلام.

وعلى أي حال فإنّا نعرض بإيجاز لبعض ما أثر عن هذا الإمام الملهَم من الكلمات القيّمة في تبجيل العلم وذمّ الجهل، وتكريم العلماء، وبعض العلوم التي أقامها.

الإشادة بالعلم

أمّا العلم فهو من أفضل المحاسن التي يتحلّى بها الإنسان ويسمو إلى أرقى مستويات الكمال، وبالعلم تكون نهضة الاُمم وبلوغها إلى أهدافها، ومستحيل أن تحتلّ اُمّة من الاُمم مركزاً مهمّاً تحت الشمس وهي قابعة في مستنقع الجهل.

و قد أشاد إمام المتّقين كثيراً بالعلم، ولنقرأ بعض أحاديثه:

ص: 19

قال علیه السلام في حديثه مع تلميذه العالم كميل بن زياد:

يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَ أَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَ الْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَ الْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَ صَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.

يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَ جَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَ الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَ الْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.

يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْيَاءٌ وَ الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.(1)

حكى هذا الكلام أهمّية العلم، وأنّه أثمن شيء في الحياة، ولا يقاس به المال الذي هو شريان الحياة.

وقد تميّز العلم على المال؛ فإنّ العلم ينمو بإنفاقه على الطلاب والسائلين، وأمّا المال فإنّه يفنى بالإنفاق، كما إنّ العلماء باقون على امتداد التاريخ و أمّا أصحاب الثروات العظيمة فإنّهم يفنون بموتهم و تتلاشى ثرواتهم من بعدهم.

قال علیه السلام : «الْعِلْمُ إِحْدى الْحَيَاتَيْنِ» (2).

ما أروع هذه الكلمة التي أحاطت بقيمة العلم، فهو إحدى الحياتين اللتين يخلد بهما الإنسان.

ص: 20


1- نهج البلاغة: 3: 164 كنز العمّال: 10: 263. تفسير الرازي: 2: 192 تاریخ بغداد: 6: 376
2- مستدرك نهج البلاغة: 180

قال: «الْعِلْمُ تُحْفَةٌ فِي الْمَجَالِسِ، وَصَاحِبٌ فِي السَّفَرِ، وَأُنْسٌ فِي الْغُرْبَةِ...» (1).

حقاً إنّ العلم زينة المجالس، فيه تزهو و تسمو وتتميّز عن بقية المجالس العارية من العلم، كما إنّه صاحب و صديق مؤنس في السفر و اُنس في الغربة.

أهمّية العالم

وتحدّث الإمام عن أهمّية العالم، وسموّ مكانته الاجتماعية و إنّ موته خسارة على الناس.

قال: «إِذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ الْعَالِمُ تُلِمَ فِي الْإِسْلَامِ ثَلْمَةُ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ إِلَى يَوْمِ القيامة» (2)

تكريم العالم

وحثّ الإمام على تكريم العالم وتبجيله والاعتراف له بالفضل.

قال علیه السلام : «مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ عَلَيْكَ إِذَا أَتَيْتَهُ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَعَلَى الْقَوْمِ عَامَّةً وَتَجْلِسَ قُدَّامَهُ، وَلَا تُشِرْ بِيَدَيْكَ , وَلَا تَغْمِزْ بِعَيْنَيْكِ، وَلَا تَقُلْ: قَالَ فُلَانٌ خِلَافَ قَوْلِكَ، وَلَا تَأْخُذْ بِثَوْبِهِ , وَلَا تُلِحَّ عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلَةِ الْمُرْطِبَةِ لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ» (3).

وتحدّث علیه السلام بهذه الكلمات عن حقوق العالم، و لزوم رعايته واحترامه تكريماً لعلمه و إشادة بفضله لأنّه مصدر عطاء وفيض للمجتمع توجيهاً و سلوكاً وآداباً.

ص: 21


1- مستدرك نهج البلاغة: 186
2- مستدرك نهج البلاغة: 177
3- العقد الفريد: 2: 224 جامع بيان العلم و فضله لابن عبد البرّ: 1: 146

أخذ المحاسن من كلّ علم

قال علیه السلام : «العِلمُ أكثَرُ مِن أن يُحصى، فَخُذوا مِن كُلِّ شَيءٍ أحسَنَهُ» (1)

و هذه الكلمة من روائع الحكم، و من محاسنها فإنّ العلم كنز لا يحصى ما فيه، و على المرء أن يختار أبدع وأروع ما فيه، و قد نظم بعض الشعراء هذه الكلمة الحكمية للإمام علیه السلام بقوله:

ما حَوى العِلْمَ جَميعاً رَجُلٌ *** لَا وَلَوْ مَارَسَهُ أَلْفَ سَنَه

إِنَّمَا الْعِلْمُ بَعيدٌ غَورُهُ *** فَخُذوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَه (2)

تشجيعه علیه السلام للحركة العلمية

كان الإمام علیه السلام يدعو المجتمع إلى العلم ويحثّهم عليه، وقد خطب في الكوفة فقال: مَنْ يَشْتَرِي عِلْماً بِدِرْهْمٍ ؟

فقام الحارث الأعور فاشترى صحفاً بدرهم ثمّ جاء بها إلى الإمام علیه السلام ، فكتب له بها علماً كثيراً (3).

و قد دلّت هذه البادرة على مدى تشجيعه للعلم، و حثّه على تدوينه وكتابته.

العمل بالعلم

و أكّد الإمام على ضرورة العمل بالعلم في كثير من أحاديثه كان منها ما يلي قال: «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ؛ وَ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ

ص: 22


1- معجم الأدباء: 1: 73 تاريخ اليعقوبي: 2: 5
2- التمثيل والمحاضرة للثعالبي: 165. التحقيق في الإمامة: 131
3- تقييد العلم: 90. الطبقات الكبرى: 6: 116. تاريخ مدينة دمشق: 301:36

وَ إِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه (1).

و المراد من قوله علیه السلام : فإن أجابه و إلّا ارتحل عنه، أي أنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، ولم يسر على ضوئه فإن الله تعالى يسلبه عنه.

قال: « وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ... وَالْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ. فَلْيَنظُرْ نَاظِرٌ أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ ؟! (2).

أنّ الذي لا يهتدي بعلمه كالسالك في الطرق الملتوية القائمة التي تهوي به إلى مستوى سحيق من الانحطاط ما له من قرار.

قال علیه السلام : «أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَ أَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَ الْأَرْكَانِ...» (3).

قال علیه السلام : « رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ» (4)

وكثير من هذه الكلمات الذهبية أدلى بها أمير البلاغة والبيان وهي تهيب بالعلماء أن يعملوا بما علموا وأن تتوافق أعمالهم مع أقوالهم الداعية إلى الهدى و الصلاح.

أنواع طلاب العلم

تحدّث الإمام علیه السلام عن أصناف طلبة العلوم فقال:

ص: 23


1- تصنيف نهج البلاغة: 2302. تفسير ابن عربي: 2: 159 شرح نهج البلاغة: 19: 284
2- نهج البلاغة: الخطبة.110. شرح نهج البلاغة: 7: 221
3- المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 109. ينابيع المودة: 2: 240
4- ينابيع المودة: 2: 110

« طَلَبَةُ هَذَا اَلْعِلْمِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ أَلاَ فَاعْرِفُوهُمْ بِصِفَاتِهِمْ:

صِنْفٌ مِنْهُمْ يَتَعَلَّمُونَ اَلْعِلْمَ لِلْمِرَاءِ وَ اَلْجَدَلِ.

وَ صِنْفٌ لِلاسْتِطَالَةِ وَ الْحِيَل.

وَصِنْفٌ لِلْفِقْهِ وَ الْعَمَل.

فَأَمَّا صَاحِبُ اَلْمِرَاءِ وَ اَلْجَدَلِ فَإِنَّکَ تَرَاهُ مُؤْذِياً مُمَارِياً لِلرِّجَالِ فِي أَنْدِيَةِ اَلْمَقَالِ، وَ قَدْ تَسَرْبَلَ بِالتَّخَشُّعِ وَ تَخَلَّى مِنَ اَلْوَرَعِ، فَدَقَّ اَللَّهُ مِنْ هَذَا حَيْزُومَهُ، وَ قَطَعَ مِنْهُ خَيْشُومَهُ.

أَمَّا صَاحِبُ اَلاِسْتِطَالَةِ وَ اَلْخَتْلِ فَإِنَّهُ يَسْتَطِيلُ عَلَى أَشْبَاهِهِ مِنْ أَشْكَالِهِ وَ يَتَوَاضَعُ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ دُونِهِمْ فَهُوَ لِحُلْوَانِهِمْ هَاضِمٌ وَ لِدِينِهِ حَاطِمٌ فَأَعْمَى اَللَّهُ مِنْ هَذَا بَصَرَهُ وَ قَطَعَ مِنْ آثَارِ اَلْعُلَمَاءِ أَثَرَهُ وَ أَمَّا صَاحِبُ اَلْفِقْهِ وَ اَلْعَقْلِ تَرَاهُ ذَا كَآبَةٍ وَ حُزْنٍ قَدْ قَامَ اَللَّيْلُ فِي حِنْدِسِهِ وَ قَدِ اِنْحَنَى فِي بُرْنُسِهِ يَعْمَلُ وَ يَخْشَى خَائِفاً وَجِلاً مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إِلاَّ مِنْ كُلِّ فَقِيهٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَدَّ اَللَّهُ مِنْ هَذَا أَرْكَانَهُ وَ أَعْطَاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَمَانَهُ»(1).

وألمّ هذا الحديث الشريف بأنواع طلبة العلم و حكى أهدافهم، فبعضهم يطلبه الأغراضه الشخصية من دون أن يبتغي به رضا الله تعالى و الدار الآخرة، وهؤلاء هم الأخسرون عملاً، و أكّد الإمام هذا المعنى في حديث آخر له:

قال علیه السلام : «لَو أنَّ حَمَلَةَ العِلمِ حَمَلوهُ بِحَقِّهِ لَأَحَبَّهُمُ اللَّهُ ومَلائِكَتُهُ وأهلُ طاعَتِهِ مِن

ص: 24


1- مستدرك نهج البلاغة: 177

العلم والتعليم

خَلقِهِ، ولكِنَّهُم حَمَلوهُ لِطَلَبِ الدُّنيا، فَمَقَتَهُمُ اللَّهُ وهانوا عَلَى النّاسِ» (1).

إِنَّ من يطلب العلم ويتحمّل الجهد الشاقّ في سبيله إن كان هدفه رضا الله و الدار الآخرة فاز في دنياه وآخرته، وإن كان هدفه رغبات الدنيا و التفوّق على غیره فقد خسر خسراناً مبيناً.

ذمّ أهل الرأى

ذمّ الإمام علیه السلام أهل الرأي الذين يفتون بآرائهم من دون علم. قال علیه السلام :

«تتَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً - وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ! وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ! وَ كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ! أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ [تَعَالَى ] سُبْحَانَهُ بِالاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ!

أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ !

أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ!

أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى؟

أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً، فَقَصَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (2)، وَ فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ

ص: 25


1- بحار الأنوار: 2: 37. تحف العقول: 201 - نزهة الناظر: 64
2- الأنعام 6: 38

يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ (وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(1). (2)

عرض الإمام علیه السلام إلى ما يفتي به العاملون بآرائهم و أقيستهم، وأنّها على ضلال يا له من ضلال، فهي متناقضة متباينة ليس فيها بصيص من نور الإسلام و هديه.

بذل العلم

و حثّ الإمام علیه السلام العلماء على بذل العلم وإشاعته بين الناس، فقد جاء في كتابه: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ لأَنَّ الْعِلْمَ کَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ» (3).

لقد عنى الإمام بصورة إيجابية بإشاعة العلم و نشره بين الناس، وقد حتّ العلماء و ألزمهم بتعليم المجتمع و تثقيفه والسهر على رفع مستواه الفكري.

حثّه علیه السلام على جودة الخطّ

حثّ الإمام أصحابه وجهاز حكومته على جودة الخطّ، وقال لهم:: «الخَ الْخَطُّ الْحَسَنُ يُزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحاً» (4)

و من الجدير بالذكر أنّ المصحف الكريم لم يكن منقّطاً، و أوّل من نقّطه أبو الأسود الدؤلى، وذلك بتلقين وإرشاد من الإمام أمير المؤمنين علیه السلام (5).

ص: 26


1- النساء 4: 824
2- نهج البلاغة: 1: 60 و 61. المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 19
3- أصول الكافي: 1: 41. بحار الأنوار: 2: 67، الحديث 14
4- صبح الأعشى: 3: 25. الجامع الصغير: 1: 636. كنز العمال: 10: 244
5- صبح الأعشى: 3: 149. مفتاح السعادة: 1: 89، وفيه: «أنّ أوّل من نقط المصحف الإمام علي (ع)»

أنواع العلوم

كان الإمام علیه السلام خزانة من العلوم و المعارف لم يعهد له نظير في عظماء الدنيا و عباقرة العالم، و قد فتق أبواباً من العلوم تربو على ثلاثين علماً لم يكن يعرفها العرب و غيرهم من قبل حسبما يقول العقّاد، وقد أثر عنه القول: «الْعُلُومُ أَرْبَعَةٌ: الْفِقْهُ لِلْأَدْيَانِ، وَالطَّبُ لِلْأَبْدانِ، وَ النَّحْو لِلّسانِ، وَ النُّجُومُ لِمَعْرِفَةِ الزَّمانِ» (1).

و قد أعرب الإمام علیه السلام عن أساه و حزنه لأنّه لم يجد من يبثّ إليه علومه حتى تستفيد منها العامّة و تتطوّر بها الحياة، وقد قال علیه السلام : «إِنَّ هاهُنا - و أوما إلى صدره الشريف - لَعِلْماً جَمّاً، لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةٌ» (2).

لقد كان صدره الشريف خزانة لعلم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فهو باب مدينة علمه و وارث علومه وحكمه وآدابه»

ص: 27


1- مفتاح السعادة: 1: 303 ينابيع المودة: 3: 210
2- المصدر المتقدّم: 43. تاريخ بغداد: 6: 376

ص: 28

التربية

اشارة

إنّ من أهمّ العوامل التى عنى بها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام هي المكوّنات التربويّة الصالحة التي يجب أن ينشأ عليها الإنسان ليكون مواطناً صالحاً تسعد به الاُمّة، و يتكوّن منه المجتمع السليم الذي يبلغ مستواه من الحضارة و التطوّر.

و قد عهد الإمام علیه السلام بوصايا تربويّة إلى ولده الإمام الزكيّ الحسن علیه السلام ريحانة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، و سيّد شباب أهل الجنّة، كما عهد بوصيّة إلى ولده سيّد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام ، ون عرض لذلك:

وصيّته علیه السلام للامام الحسن علیه السلام

اشارة

أمّا وصيّة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فهي في منتهى الروعة و الحكمة، وفي أرقى مستويات الفصاحة و البلاغة، و هذا عرض لبعض فصولها:

دوافع الوصيّة

أمّا الدوافع التي دفعت الإمام علیه السلام إلى هذه الوصيّة، فقد أعرب عنها علیه السلام بقوله:

أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي، دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى

ص: 29

وَ فِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ، وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ.

فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ.

تحدّث الإمام الحكيم علیه السلام في هذا المقطع عن عوامل وصيّته التربوية لولده الإمام الحسن علیه السلام ، وهي:

إنّ الإمام قد بلغ سنّاً و هو ما يقرب الستّين عاماً، وفي هذا السنّ تهجم على الإنسان عوامل الشيخوخة التي تزحف بالإنسان إلى طريق الفناء والنسيان، و قد بادره الإمام بوصيّته لأنه كان في مقتبل العمر، الذي فيه تنفذ الوصايا الكريمة إلى أعماق نفسه و دخائل ذاته، كما أنّ النصائح التي سيدلي بها الإمام هي خلاصة التجارب التي تكفيه عن مؤونة طلبه لها.

بنود الوصيّة

أمّا بنود الوصية التي أدلى بها الإمام فهي من أروع النصائح و أثمنها، و هذه شذرات منها:

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ

ص: 30

الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ الْخُصُومَاتِ، وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ، فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ (1) وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ، وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ.

حكى هذا المقطع اُموراً بالغة الأهمية في بناء الشخصيّة و تماسكها، وهي:

1 - الأمر بتقوى الله تعالى، فإنّ من يتمسّك بذلك صان نفسه من كلّ زيغ و إثم، و طهّر نفسه من كلّ ضلالة.

2- الإقتداء بآبائه الصالحين الذين هم قدوة المجتمع في سلوكهم، ومعالي أخلاقهم و آدابهم.

ص: 31


1- العشواء: الضعيف البصر

3 - إنّه نهى عن تورّط الشبهات و الإنغماس في الباطل و الخصومات التي لا تجرّ إلّا الخسران.

4 - إنّه أمر بالإستعانة بالله تعالى خالق الكون و واهب الحياة.

هذه بعض بنود كلامه علیه السلام .

الإعتصام بالله عزّ وجلّ

من بنود هذه الوصيّة الخالدة الإعتصام بالله تعالى و الإنقطاع إليه، فإنّ ذلك من أعظم الذخائر للإنسان، قال علیه السلام :

فَتَفَهَّمْ یَا بُنَیَّ وَصِیَّتِی، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِکَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِکُ الْحَیَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِیتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِیَ هُوَ الْمُعِیدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِیَ هُوَ الْمُعَافِی، وَأَنَّ الدُّنْیَا لَمْ تَکُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَیْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ، وَالاِْبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِی الْمَعَادِ، أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تَعْلَمُ، فَإِنْ أَشْکَلَ عَلَیْکَ شَیْءٌ مِنْ ذَلِکَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِکَ، فَإِنَّکَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلاً ثُمَّ عُلِّمْتَ، وَمَا أَکْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الاَْمْرِ، یَتَحَیَّرُ فِیهِ رَأْیُکَ، وَیَضِلُّ فِیهِ بَصَرُکَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِکَ! فَاعْتَصِمْ بِالَّذِی خَلَقَکَ وَرَزَقَکَ وَسَوَّاکَ، وَلْیَکُنْ لَهُ تَعَبُّدُکَ، وَإِلَیْهِ رَغْبَتُکَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُکَ.

عهد الإمام في هذا المقطع لولده الزكيّ الإمام الحسن علیه السلام إلى الإعتصام بالله تعالى، والإنقطاع إليه، فإنّ بيده جميع مجريات الأحداث.

و عرض الإمام علیه السلام إلى أنّ الإنسان قد خلق جاهلاً لا يعي ولا يعقل أيّ شيء،

ص: 32

و عليه أن يعتصم بالله عزّ وجلّ في أموره وسلوكه كلّها.

أهمّيّة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم

عرض الإمام علیه السلام في وصيّته إلى الأهمّيّة البالغة للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، قال:

وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اَللَّهِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ اَلرَّسُولُ - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ - فَارْضَ بِهِ رَائِداً، وَ إِلَى اَلنَّجَاةِ قَائِداً، فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً. وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي اَلنَّظَرِ لِنَفْسِكَ - وَ إِنِ اِجْتَهَدْتَ - مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ.

حكى هذا المقطع إلى التمسّك بالنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، والأخذ بوصاياه، فإنّه أعظم موجّه وأكبر ناصح.

نفى الشريك لله عزّ وجلّ

من بنود هذه الوصيّة نفي الشريك لله تعالى، قال:

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتِهِ وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لَا يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ و عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ وَ الْخَشْيَةِ مِنْ

ص: 33

عُقُوبَتِهِ وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ.

تحدّث الإمام علیه السلام في هذا المقطع الذهبي من كلامه عن بعض قضايا التوحيد و هي:

1 - نفي الشريك عن الله تعالى في خلقه للأكوان، وإحاطته التامّة بجميع شؤون الموجودات، ولو كان له تعالى شريك لأنت لنا رسله و رأينا آثار ملكه التي تدلّ على وجوده، إنّه ليس هناك إلّا إله واحد لا شريك له.

2 - إنّ الله تعالى الخالق المبدع الذي لا أوّلية له، و لا ابتداء لوجوده، كما إنّه الآخر بلا نهاية له، أمّا تفصيل هذه البحوث و الاستدلال عليها فقد عرضت لها كتب الكلام.

3 - إنّ الخالق العظيم أعظم من أن تحيط بمعرفته القلوب و الأبصار التي هي محدودة المدارك.

كما تحدّت الإمام في آخر المقطع عن الأوامر والنواهي التي صدرت من الشارع، فقد ذهبت العدلية من الإمامية و المعتزلة إلى أنّ الأمر من الشارع لم يتعلّق إلّا بشيء حسن، فيه مصلحة تعود على العباد، و لم ينه عن شيء إلّا وهو قبيح وفيه مفسدة كامنة تعود بالضرر على الناس.

حال الدنيا

عرض الإمام علیه السلام في وصيّته الخالدة إلى وضع الدنيا و تغير أحوالها و وضعها.

قال علیه السلام :

يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَ حَالِهَا وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا التربية

ص: 34

وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِيهَا، وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَيْهَا. إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِيقِ وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَ لَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً، وَ لَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَ أَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ.

وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْه.

حكى هذا المقطع وصفاً دقيقاً و شاملاً لحال الدنيا و لمَن اغتر بها، وأنّها ليست مقرّاً ولا داراً، وإنّما الآخرة لهى دار الخلد التي ينعم فيها المحسن، و يعذّب فيها الضالَ.

معاملة الناس

تحدّث الإمام علیه السلام عن معاملة الناس، وأنّه ينبغي أن تكون قائمة على المودة والاُلفة. قال علیه السلام :

یا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ؛ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَ لَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ

ص: 35

مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.

وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لَا تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّك.

وضع الإمام المربّي علیه السلام في هذه الفقرات الذهبية آداب السلوك، ومحاسن الأخلاق التي يسمو بها الإنسان، فقد حفلت بما يلي:

1 - أن يجعل الإنسان نفسه ميزاناً فيما بينه و بين غيره، فيحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها، و من الطبيعي أنّ هذه الظاهرة الفذّة إذا سادت في المجتمع فإنّه يبلغ القمّة في كماله وآدابه.

2- التحذير من ظلم الغير، فكما أنّ الإنسان يشجب من يعتدي عليه كذلك عليه أن يحمل هذا الشعور مع الغير.

3 - على الإنسان أن يحسن للغير كما يحبُّ أن يحسن إليه.

4 - أن يستقبح الأعمال السيّئة التي تصدر منه كما يستقبح صدورها من الغير كما عليه أن يرضى من الناس ما يرضاه لنفسه.

5 - إنّه علیه السلام نهى عن القول بغير علم؛ فإنّه يؤدّي إلى المضاعفات السيئة للشخص و لغيره.

6 - حذّر الإمام من إعجاب الإنسان بنفسه، فإنّه من مساوئ الرذائل التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق.

ص: 36

7 - إنّه علیه السلام نهى عن الافراط في جمع الأموال التي تجرّ الويل و العطب، فإنّ من يبتلى بذلك يكون خازناً لغيره و ذلك إذا فارقته الحياة، خصوصاً إذا لم يؤدِّ الإنسان حقوق الله منها، فإن الوزر يكون عليه والمهنأ بها لغيره.

الدار الآخرة

عرض الإمام علیه السلام في وصيّته إلى الدار الآخرة التي ينبغي أن يستعدّ لها الإنسان بالعمل الصالح. قال علیه السلام :

وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَ أَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ (1) وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ. وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ؛ وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ.

دعا إمام المتقين و الزاهدين إلى التفكر الجادّ في النهاية الأخيرة من حياة الإنسان، فإنّ أمامه طريقاً ذا مسافة بعيدة فعليه أن يستعدّ له، ويقدّم له المزيد من عمل الخير الذي يضمن له النجاح و السلامة.

و أضاف الإمام مؤكّداً لما ذكره قائلاً:

ص: 37


1- الإرتياد: الطلب

وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ، وَ الْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ [أَمْراً] حَالًا مِنَ الْمُسْرِعِ، وَ أَنَّ [مَهْبِطَهَا بِكَ] مَهْبِطَكَ بِهَا لَا مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ؛ فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ(1) قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، «فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ»، وَ لَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ.

أكّد الإمام علیه السلام على ضرورة العمل الصالح الذي هو أعظم ذخيرة لنجاة الإنسان و سلامته من المسؤوليّة أمام الله تعالى.

أهمّيّة الدعاء

أكّد الإمام علیه السلام على ضرورة الدعاء إلى الله تعالى المالك لجميع الأحداث، و أنّ له أهمّيّة بالغة في سلامة الإنسان، قال:

وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ، وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ؛ وَ لَمْ يَجْعَلْ [بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ] بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يُعَيِّرْكَ بِالْإِنَابَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ [تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ] الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ

ص: 38


1- فارتد لنفسك: أي ابعث لك رائداً من طيباب الأعما

نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً، وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ؛ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ، فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِك، وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ الْأَرْزَاق .

ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ؛ فَلَا [يُقْنِطَنَّكَ ] يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ؛ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ، وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْ ءَ فَلَا [تُعْطَاهُ ] تُؤْتَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ؛ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَه .

حوى هذا المقطع بعض الأمور البالغة الأهمّية وهي:

1 - إن الله تعالى قد أذن لعباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة.

2 - إن الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده حجاباً، فقد فتح أبوابه للسائلين تفضّلاً منه ورحمة.

ص: 39

3 - إنّ الله تعالى قد تفضّل وتكرّم على عباده ففتح لهم أبواب التوبة إذا شذّوا في سلوكهم واقترفوا ما لا يرضيه ولم يعجّل لهم بالعقوبة، ولم يفضحهم بين العباد.

4 - وكان من لطف الله تعالى على عباده بأن جعل من يرتكب سيئة تسجّل له سيّئة واحدة، و من يفعل حسنة تسجّل له عشر حسنات تشجيعاً على عمل الخيرات والمبرّات.

5 - إنّ من ألطاف الله تعالى على عباده أن جعل بأيديهم مفاتيح خزائنه، و هو الدعاء، فإنّه من فيوضاته تعالى على العباد، و الدعاء ربّما يجاب بالوقت، و ربّما يؤخر لمصلحة تعود على العبد يجهلها.

الإنسان خلق للآخرة

أكّد الإمام علیه السلام في وصيّته الذهبيّة أنّ الإنسان خلق للآخرة التي لا يفنى فيها لا للدنيا التي هي معرض الفناء.

قال علیه السلام :

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ؛ وَ أَنَّكَ فِي [مَنْزِلِ] قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ.

حكى هذا المقطع المقطع وصيّة الإمام بأنّ الإنسان لم يخلق للدنيا، و إنّما هي دار

ص: 40

ممرّ، و أنّ الدار الآخرة هي دار البقاء و الخلود.

الإكثار من ذكر الموت

و عهد الإمام علیه السلام إلى ولده الزكيّ سيّد شباب أهل الجنّة علیه السلام أن يكثر من ذكر الموت، فإنّه يزهّده في رغبات الدنيا و مباهجها. قال علیه السلام :

يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَك. وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا، سُرُوحُ عَاهَةٍ (1) بِوَادٍ وَعْثٍ، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا(2)، سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا.

تحدّث الإمام علیه السلام عن غرور الدنيا، ونهي ولده علیه السلام من الاغترار بأهل الدنيا

ص: 41


1- السروح العامة:هي الإبل السائبة التي ترعى الآفات
2- يسيمها: أي يسرحها إلى المرعى

42

الذين غرقوا بشهواتها ومباهجها، وقد وصفهم الإمام علیه السلام بأنّهم كلاب عاوية، و سباع ضارية، يأكل عزيزهم فقيرهم، فيجب الإجتناب عنهم، والنظر إليهم بعين الإحتقار.

وأضاف الإمام علیه السلام بعد ذلك قائلاً:

رُوَيْداً، يُسْفِرُ الظَّلَامُ كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ. وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعا.

تحدّث علیه السلام عن سرعة عمر الإنسان، و أنّه لا بدّ أن يلحق بمَن كان قبله، فإنّ الإنسان يسرع به اللّيل و النهار إلى نهايته المحتومة.

الحذر من التهالك فى طلب الدنيا

حذّر الإمام علیه السلام من التهالك في طلب الدنيا، وأنّه ينبغي أن يخفض في طلبها، و لا يجهد نفسه على رغائبها. قال علیه السلام :

وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ؛ فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ (1) وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ؛ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً؛ وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً

ص: 42


1- الحرب: سلب المال

وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ، وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ؟!

و هذه اللوحة من كلام الإمام علیه السلام من ذخائر الآداب الإسلامية، وقد حفلت بما يلي:

1 - الإجمال في طلب الرزق، و أن ليس من الفكر التهالك على طلب الرزق، فإنّه مكتوب للإنسان، فليس الطالب بمرزوق ولا المجمل بمحروم.

2 - صيانة النفس عن كلّ دنيّة ومنقصة، فإنّ كرامتها أغلى و أثمن من كلّ شيء.

3 - أن لا يكون الإنسان عبداً لغيره، فقد جعله الله تعالى حرّاً، و الحرية من أثمن ما يملكه الإنسان في حياته.

و أضاف الإمام علیه السلام قائلاً:

وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ(1) بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ؛ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وَ آخِذٌ سَهْمَكَ، وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَ أَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْه.

عرض الإمام علیه السلام إلى النهي عن الطمع، فإنّه يورد الإنسان مناهل الهلكة، وعليه أن يلتجئ إلى الله تعالى، فإنّ اليسير منه خير من الكثير من غيره.

محاسن الاخلاق

عهد الإمام علیه السلام بوصيّته الخالدة لولده المحسن علیه السلام أن يأخذ بمعالي الأخلاق، و أفاضل الصفات، قال علیه السلام :

ص: 43


1- توجف: أي تسرع

وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ، وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ، وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ، وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ، وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ، مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ، قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ، وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً، رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً، وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ، وَ إِيَّاكَ وَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى، وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ.

و يستمرّ الإمام علیه السلام المربّي في تأسيس معالم التربية الفذّة التى يسعد بها الإنسان و تصلح بها الشعوب قائلاً:

بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً، لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ، وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ، لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ [مُهِينٍ] مَهِينٍ وَ لَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ، سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُه

أَكْثَرَ مِنْهُ، وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاج.

احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ (1) عَلَى الصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَ الْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ، وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَ امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً.

عرض الإمام علیه السلام المربّي في وصيّته إلى كثير من النقاط الاجتماعيّة التي يجب الاهتمام بها، ومن بينها شؤون الصداقة، و أنّها تجب أن تقوم في أعماق النفس، و ربّ صديق خبر من أخ.

و أضاف الإمام علیه السلام في الإدلاء ببنود وصيته قائلاً:

وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لَا أَلَذَّ مَغَبَّةً (2)، وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ [أَحَدُ] أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ (3)، وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا.

ص: 45


1- الصرم: القطيعة
2- المغيّة: العاقبة
3- الظفران: هنا ظفر الإنتقام، وظفر الإحسان، والثاني أحلي

مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ، وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ، وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ، وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ، وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ، وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَه.

أرأيتم هذه الغرر من الوصايا التربويّة الهادفة إلى تماسك المجتمع و ترابطه، وشيوع الثقة والمودة بين أبنائه، ومن المؤكّد أنّه ليس في الأسس التربويّة قديماً و حديثاً مثل هذه الأسس السليمة التي توحّد المجتمع و تعقد أواصر المحبّة و الترابط بين أبنائه.

الرزق

تحدّث الإمام علیه السلام عن أنواع الرزق، و غيره من الشؤون التربويّة. قال علیه السلام : وَاعْلَمْ - يا بُنَيَّ - أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ.

مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ.

اسْتَدِل عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِما قَدْ كانَ، فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاءٌ؛

ص: 46

وَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلَّا إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْآدَابِ وَ الْبَهَائِمَ لَا تَتَّعِظُ إِلَّا بِالضَّرْبِ

اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَ حُسْنِ الْيَقِينِ.

مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ(1) جَارَ؛ وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ(2)؛ وَ الصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ(3)؛ وَ الْهَوَى شَرِيكُ الْعَناءِ،وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ، وَ الْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ. مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ، وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ (4) فَهُوَ عَدُوُّكَ، قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكاً.

لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ، وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ، أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ، وَ قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ، مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ، لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ، إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ، سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ.

ص: 47


1- القصد: الاعتدال
2- الصاحب مناسب: أي يراعى فيه ما يراعى في النسب
3- المراد مراعاة حقّ الصديق في حال غيبته
4- من لم يبالك: أي لم يهتمّ بأمرك

و هذه الحكم الخالدة من مقومات التربية الإسلاميّة، ومن غرر الوصايا التي تهذّب النفوس، وتصلح الطباع، وتنمّي الوعي.

و يستمرّ الإمام الحكيم في وصاياه الخالدة قائلاً:

إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِك.

وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ (1) وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ؛ وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ؛ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ؛ وَ لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ(2)؛ وَ لَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لغَيْرِهَا.

ويستمرّ الإمام المربّي و الحكيم في وصيّته قائلاً: وَ إِيَّاكَ وَ التَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ (3)، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ وَ الْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ.

وَ اجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ

ص: 48


1- الأفن: ضعف الرأي
2- القهرمان: الذي يحكم في الأمور ويتصرّف فيها بأمره
3- التغاير: إظهار الغيرة على المرأة بسوء الظن فيها من غير موجب

أَلَّا يَتَواكَلُوا (1) في خِدْمَتِكَ.

وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ اَلَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَ أَصْلُكَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَ يَدُكَ اَلَّتِي بِهَا تَصُولُ.

اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ، وَ اسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَ الْآجِلَةِ، وَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ، وَ السَّلَام.

و انتهت هذه الوصيّة التي حفلت بجميع مقوّمات التربية و آداب السلوك، وغرر الأحكام التي هي دروس مهذبة للإنسان، ومن حقّها أن تنشر وتشاع في، معاهد دروس التربية و الآداب، فقد حوت على جميع المناهج التي يسعد بها الإنسان.

ص: 49


1- يتواكلوا: أي يتّكل بعضهم على بعض في خدمتك

وصيّة الإمام علیه السلام لولده الحسين علیه السلام

و من ألمع الوصايا التربوية للإمام أمير المؤمنين علیه السلام وصيّته لولده الإمام الحسين علیه السلام ، فقد حفلت بالمقوّمات والمكوّنات لآداب السلوك، ومحاسن الأخلاق، وهي وإن لم تكن موجودة في النهج، إلّا أنَا آثرنا ذكرها لأهمّيّتها البالغة، و هذا نصّها:

قال علیه السلام :

يا بُنَيَّ، أُوْصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ وَ كَلِمَةِ اَلْحَقِّ فِي الرِّضَا وَ اَلْغَضَبِ، وَ الْقَصْدِ فِي اَلْغِنَى وَ اَلْفَقْرِ، وَ الْعَدْلِ في الصَّدِيقِ وَ اَلْعَدُوِّ، وَ الْعَمَلِ فِي اَلنَّشَاطِ وَ اَلْكَسَلِ، وَ اَلرِّضَا عَنِ اَللَّهِ فِي الشِّدَّةِ وَ الرَّخَاءِ

أرأيتم هذه القيم و المكوّنات التي تسمو بالإنسان، و تهذّب سلوكه، و تكسبه الصفات الكريمة و محاسن الآداب.

ويستمرّ الإمام علیه السلام المربّي في وصيّته قائلاً:

أَيْ بُنَيَّ مَا شَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ بِشَرٍّ، وَ لَا خَيْرٌ بَعْدَهُ النَّارُ بِخَيرٍ، وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحقُورٌ، وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ.

و أخذ الإمام علیه السلام يعهد بوصاياه التربويّة التي لا تقدّر بنودها لأهمّيّتها البالغة قائلاً:

وَاعْلَمْ - أَيْ بُنَيَّ - إِنَّهُ مَن أبصَرَ عَيبَ نَفسِهِ شُغِلَ عَن عَيبِ

ص: 50

غَيْرِهِ. مَن تَعَرَّى مِن لِباسِ التَّقوى لَم يَستَتِرْ بشَيءٍ مِن اللِّباسِ. وَمَنْ رَضِيَ بِقَسْمِ اللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلى ما فاتَهُ. وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْي قُتِلَ بِهِ. وَمَنْ حَفَرَ بِئراً لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهَا، وَمَنْ هَتَكَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَتْ عَوْراتُ بَيْتِهِ. وَمَنْ نَسِيَ خَطِيئَتَهُ اسْتَعْظَمَ خَطِيئَةَ غَيْرِهِ. وَمَنْ كَابَدَ الْأُمُورَ (1) عَطَبَ (2) وَمَنِ اقْتَحَمَ الْغَمَراتِ (3). غَرِقَ. وَ مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ. ومَنِ اسْتَغْنى بِعَقْلِهِ زَلَّ. وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ. وَمَنْ جالَسَ الْعُلَماءَ وُقِّرَ، وَمَنْ خَالَطَ الْأَنْذالَ (4) حُقَّرَ. وَمَنْ سَفِهَ عَلَيْهِمْ شُتِمَ (5). وَمَنْ دَخَلَ مَداخِلَ السَّوْءِ اتُّهِمَ. وَمَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ. وَمَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثرَ خَطَأُهُ، وَمَنْ كَثرَ خَطَأُهُ قَلَّ حَياؤُهُ، وَ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النّارَ.

أرأيتم هذه القيم التربويّة التي يسعد بها الإنسان في سلوكه و سيرته. ويستمرّ الإمام الحكيم علیه السلام في وصيته قائلاً:

أَيْ بُنَيَّ،، مَنْ نَظَرَ فِي عُيوبِ النَّاسِ وَ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِهَا فَذاكَ

ص: 51


1- كابدها أي قاساها، وتحمّل المشاق في فعلها بلا إعداد إسبابها
2- أي هلك
3- الغمرات: الشدائد
4- الأنذال - جمع النذل - الخسيس من الناس، المحتقر في جميع أحواله، و المراد بهم ذوي الأخلاق الدنيّة
5- يعني: ومَن عابهم شتم وسبّ

الْأَحْمَقُ بِعَيْنِهِ. وَمَنْ تَفَكَّرَ اعْتَبَرَ. وَ مَنِ اعْتَبَرَ اعْتَزَلَ. وَ مِنِ اعْتَزَلَ سَلِمَ. وَ مَنْ تَرَكَ الشَّهَواتِ كانَ حُرّاً. وَمَنْ تَرَكَ الْحَسَدَ كَانَتْ لَهُ الْمَحَبَّةُ عِنْدَ النَّاسِ.

يَا بُنَيَّ،، عِزُّ الْمُؤْمِن غِناهُ عَنِ النَّاسِ، وَالْقَنَاعَةُ مالٌ لَا يَنْفَدُ. وَ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيا بِالْیَسِيرِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ.

أرأيتم هذه القيم التي أدلى بها الإمام علیه السلام لتكون مدرسة للأجيال، و مصدر الهام للنفوس الواعية.

و يأخذ الإمام في وصيّته قائلاً:

أَيْ بُنَيَّ، الْعَجَبُ مِمَّنْ يَخَافُ الْعِقَابَ فَلْمْ يَكُفَّ، وَرَجَا الثّوابَ فَلَمْ يَتُبْ وَ يَعْمَلْ.

أَيْ بُنَيَّ، الْفِكْرَةُ تُورِثُ نُوراً. وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةٌ. وَالْجَهالَةُ ضَلَالَةٌ. وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. وَالْأَدَبُ خَيْرٌ مِيراثٍ. وَ حُسْنُ الْخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ. لَيْسَ مَعَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ نَمَاءٌ، وَ لَا مَعَ الْفُجورِ غِنىً.

أرأيتم هذه الغرر التي منهاج للتربية الإسلامية القائمة على دراسة الأمور بحقائقها.

و يستمرّ الإمام الحكيم علیه السلام قائلاً:

يا بُنَيَّ، لَيْسَ مَعَ قَطِيعَةِ اَلرَّحِمِ نَمَاءٌ، وَ لاَ مَعَ اَلْفُجُورِ غَنَاءٌ.

أَيْ بُنَيَّ، اَلْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي اَلصَّمْتِ إِلاَّ بِذِكْرِ

ص: 52

اللهِ، وَ وَاحِدٌ في تَرْكِ مُجالَسَةِ السُّفهاءِ.

أَيْ بُنَيَّ،، مَنْ تَزَيّا بِمَعاصِي اللهِ فِي الْمَجالِسِ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلّاً، وَ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ عَلِمَ.

و يستمرّ الإمام الحكيم علیه السلام بإدلاء غرر الحكم و محاسن الصفات قائلاً: يَا بُنَيَّ،، رَأْسُ الْعِلْمِ الرّفْقُ، وَافَتُهُ الْخُرْقُ. وَمِنْ كُنُوزِ الْإِيْمَانِ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، وَ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى. كَثرَةُ الزِّيارَةِ تُورِثُ الْمَلالَةَ، وَ الطَّمَأْنِينَةُ قَبْلَ الْخُبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ. وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ عَقْلِهِ.

أرأيتم غرر هذه الحكم و الآداب التي هي مناهج تربية الإمام علیه السلام لا لأبنائه علیه السلام ، و إنّما لجميع المسلمين.

و يستمرّ الإمام علیه السلام في وضع الأسس التربويّة قائلاً:

يَا بُنَيَّ،، كَمْ مِنْ نَظْرَةٍ جَلَبَتْ حَسْرَةً ! وَ كَمْ مِنْ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً.

أَيْ بُنَيَّ،، لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الْإِسْلامِ، وَلَا كَرَمَ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوى. وَلَا مَعْقِلَ أَحْرَزُ مِنَ الْوَرَعّ. وَ لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَ لَا لِبَاسَ أَجْمَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ. وَ لَا مَالَ أَذْهَبُ بِالْفَاقَةِ مِنَ الرَّضِي بِالْقُوتِ، وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ تَعَجَّلَ الرّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ.

و معظم هذه الحكم فيها الدعوة إلى الإقتصاد و التوازن في الإسلام.

ويستمرّ الإمام علیه السلام في وضع المناهج التربويّة قائلاً:

ص: 53

يا بُنَيَّ، الْحِرْصُ مِفْتَاحُ التَّعَبِ، وَمَطِيَّةُ النَّصَبِ، وَدَاعِ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَالشَّرُّ جَامِعٌ لِمَساوِي الْعُيُوبِ، وَ كَفَاكَ أَدَبَاً لِنَفْسِكَ مَا كَرِهْتَهُ مِنْ غَيْرِكَ. لِأَخِيكَ مِثْلُ الَّذِي لَكَ عَلَيْهِ. وَ مَنْ تَوَرَّطَ فِي الاُمُورِ بِغَيْرِ نَظَرٍ فِى الْعَواقِبِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلنَّوائِبِ. التَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَل يُؤْمِنُكَ النَّدَمَ. مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآراءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأَ، الصَّبْرُ جُنَّةٌ مِنَ الْفَاقَةِ، الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، الْحِرْصُ عَلامَةُ الْفَقْرِ، وَصُولٌ مُعْدِمٌ خَيْرٌ مِنْ جَافٍ مُكْثِرٍ، لِكُلِّ شَيْءٍ قوتٌ وَ ابْنُ آدمَ قوتُ الْمَوْتِ.

و هذه الحكم الغرّاء هي من مناهج المقوّمات التربويّة في الإسلام التي وضعها إمام الفكر و الآداب.

و يأخذ الإمام علیه السلام في وصاياه قائلاً:

يَا بُنَيَّ،، لَا تُؤْيِسْ مُذنباً، فَكَمْ مِنْ عَاكِفٍ عَلَى ذَنْبِهِ خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ. وَ كَمْ مِنْ مُقْبِلٍ عَلَى عَمَلِهِ مُفْسِدِ لَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ صَائِرٍ إِلَى النَّارِ، نَعوذُ بِاللهِ مِنْها.

أَيْ بُنَيُّ كَمْ مِنْ عاصٍ نَجا، وَ كَمْ مِنْ عَامِلٍ هَوَىٰ. مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ خَفَّتْ عَلَيْهِ الْمُوَنِ، فِى خِلَافِ النَّفْسِ رُشْدُها، السّاعَاتُ تَنْتَقِصُ الْأَعْمَارَ، وَيْلٌ لِلْبَاغِينَ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَ عَالِمٍ بِضَمِيرِ الْمُضْمِرِينَ.

و يستمرّ الإمام الحكيم علیه السلام بوضع المناهج التربوية قائلاً:

ص: 54

يا بُنَيَّ،، بِئْسَ الزّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدوانُ عَلَى الْعِبَادِ، في كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ، وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ، لَنْ تُنَالَ نِعْمَةٌ إِلَّا بِفِراقِ أُخْرى، مَا أَقْرَبَ الرّاحَةَ مِنَ النَّصَبِ! وَ الْبُؤْسَ مِنَ النَّعِيمِ! وَ الْمَوْتَ مِنَ الْحَيَاةِ! وَ السَّقَمَ مِنَ الصِّحَةِ. فَطُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ عَمَلَهُ وَ عِلْمَهُ وَ حُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَأَخْذَهُ وَتَرْكَهُ وَكَلَامَهُ وَصَمْتَهُ وَفِعْلَهُ وَقَوْلَهُ. وَبَخٍ بَخٍ لِعَالِم عَمِلَ فَجَدَّ، وَ خَافَ الْبَياتَ فَأَعَدَّ وَ اسْتَعَدَّ، إِنْ سُئِلَ نَصَحَ، وَ إِنْ تُرِكَ سَكَتَ، كَلَامُهُ صَوَابٌ، وَ سُكوتُهُ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ عَنِ الْجَوابٌ. وَ الْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ بُلِيَ بِحِرْمَانٍ وَ خِذْلانِ وَ عِصْيانِ فَاسْتَحْسَنَ لِنَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَ أَزْرى عَلَى النَّاسِ بِمِثْلِ ما يَأْتي.

وَ اعْلَمْ - أَيْ بُنَيَّ - أَنَّهُ مَنْ لانَتْ كَلِمَتُهُ وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ.

وَ فَفَّكَ اللهُ لِرُشْدِكَ، وَ جَعَلَكَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ بِقُدْرَتِهِ، إِنَّهُ جَوادٌ کَریمٌ (1).

و انتهت هذه الحكم الرفيعة، و الآداب السامية التي يعجز البلغاء عن الإتيان ببعضها فضلاً عن مثلها.

إنّها المناهج التربويّة الحافلة بالقيم و المبادئ التي لا يستغني عنها الإنسان إن أراد تهذيب نفسه، وصلاح ذاته.

ص: 55


1- تحف العقول: 88 - 91

وصيّة الإمام علیه السلام الكميل بن زياد

اشارة

من الوصايا الرفيعة للإمام علیه السلام و وصيّته إلى صاحبه و خليله العالم كميل بن زياد، و قد رواها عنه سعيد بن زيد بن أرطأة، قال: لقيت كميل بن زياد و سألته عن فضل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فقال: ألا اُخبرك بوصية أوصاني بها يوماً هي خير لك من الدنيا بما فيها ؟

فقلت: بلی.

قال: قال لي على علیه السلام :

يا كُمَيْلُ، سَمِّ كُلَّ يَوْمٍ بِاسْمِ اللهِ وَ قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَ اذْكُرْنَا وَسَمْ بِأَسْمَائِنَا وَ صَلَّ عَلَيْنَا. وَاسْتَعِذْ بِاللهِ رَبِّنَا. وَ أَدْرأْ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِكَ وَ مَا تَحُوطُهُ عِنَايَتُكَ، تُكْفَ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

يا كُمَيْلُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و آله و سلم أَدَّبَهُ اللهُ، وَهُوَ أَدَّبَنِي، وَ أَنَا أَوَّدِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ أُوَرِّثُ الْأَدَبَ الْمُكْرَمِينَ.

يا كُمَيْلُ، مَا مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَ أَنَا أَفْتَحُهُ، وَ مَا مِنْ سِرٌّ إِلَّا وَ الْقَائِمُ علیه السلام يَخْتِمُهُ.

يا كُمَيْلُ، ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

يا كُمَيْلُ، لَا تَأْخُذْ إِلَّا عَنا تَكُنْ مِنّا

ص: 56

يا كُمَيْلُ، مَا مِنْ حَرَكَةٍ إِلَّا وَأَنْتَ مُحْتَاجٌ فِيهَا إِلَى مَعْرِفَةٍ.

يا كُمَيْلُ، إِذَا أَكَلْتَ الطَّعَامَ فَسَمَّ بِاسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ، وَ هُوَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ الْأَدْوَاءِ.

يا كُمَيْلُ، إِذَا أَكَلْتَ الطَّعَامَ فَوَاكِلْ بِهِ، وَ لَا تَبْخَلْ فَإِنَّكَ لَنْ تَرْزُقَ النّاسَ شَيْئًا وَ اللَّهُ يُجْزِلُ لَكَ الثَّوابَ بِذَلِكَ.

تحدّث الإمام علیه السلام في هذا المقطع عن صلته الوثيقة بالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم . و إنّه من ألصق الناس به، فقد أفاض عليه آدابه الرفيعة، وعلّمه ينابيع الحكمة، وهو علیه السلام بدوره يعلّمها و يعهد بها إلى المؤمنين، كما بيّن علیه السلام حاجة تلميذه إلى المعرفة و التزوّد من العلم، و بعد ذلك عرض الإمام إلى آداب الطعام، و أنّه ينبغي لمن يتناوله أن يذكر اسم الله تعالى الذي هو شفاء من كلّ داء، و أن لا يأكل الإنسان وحده بل عليه أن يشاركه في الطعام غيره من البؤساء و المحتاجين.

و يأخذ الإمام في وصيته قائلاً:

يا كُمَيْلُ، أَحْسِنْ خُلُقَكَ. وَ ابْسُطُ جَلِيسَكَ، وَ لَا تَنْهَرْ خَادِمَكَ.

أوصى الإمام علیه السلام كميلاً بحسن الأخلاق التي هي وصايا الأنبياء، كما أوصى بمراعاة الجليس و احترامه و رعايته، ثمّ أوصى بالبرّ والإحسان إلى الخادم، و أن لا ينهره و يعتدي عليه.

و أخذ الإمام في بيان كيفيّة تناول الطعام قائلاً:

يا كُمَيْلُ، إِذَا أَنْتَ أَكَلْتَ فَطَوِّلْ أَكْلَكَ لِيَسْتَوفِي مَنْ مَعَكَ وَ يُرْزَقَ مِنْهُ غَيْرُكَ.

يا كُمَيْلُ إِذَا اسْتَوْفَيْتَ طَعَامَكَ فَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا رَزَقَكَ

ص: 57

وَ ارْفَعْ بِذَلِكَ صَوْتَكَ يَحْمَدُهُ سِوَاكَ فَيَعْظُمُ بِذَلِكَ أَجْرُكَ.

يا كُمَيْلُ، لَا تُوقِرَنَّ مِعْدَتَكَ طَعَاماً، وَ دَعْ فِيهَا لِلْمَاءِ مَوْضِعاً وَ لِلرِّيح مَجالاً.

يا كُمَيْلُ، لَا تَنْقُدْ طَعَامَكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَا يَنْقُدُهُ.

يا كُمَيْلُ، لَا تَرْفَعْ يَدَكَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ تَسْتَمْرتُهُ - أي تستطيبه

يا كُمَيْلُ، إِنَّ صِحَّةَ الْجِسْمِ مِنْ قِلَّةِ الطَّعامِ وَ قِلَّةِ الْمَاءِ.

وضع الإمام علیه السلام بهذا المقطع برامج لآداب الطعام، كما وضع منهجاً صحياً لتناوله، و فيما يلي ذلك:

آداب الطعام

أمّا آداب الطعام فهي:

أولاً: إنّ الإنسان إذا أكل و معه غيره فعليه أن لا يسرع في القيام من المائدة لأنّه يوجب سرعة القيام لمن كان معه، وفي ذلك حرمان لهم

ثانياً: إنّ الإنسان إذا فرغ من تناول الطعام فعليه أن يحمد الله تعالى على ما رزقه من أطائب الأطعمة، كما ينبغي له أن يرفع صوته بالحمد له تعالى؛ لأنّ في ذلك تعليماً لغيره على شكر المنعم العظيم.

ثالثاً: إنّ الإنسان ينبغي له أن لا ينقد الطعام، لا سيّما إذا كان مدعوّاً عند الغير، تأسّياً بالنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فإنّه لم يُؤثر عنه مطلقاً أنّه نقد الطعام، وذلك من معالي أخلاقه.

ص: 58

المنهج الصحي

اشارة

أمّا المنهج الصحي في تناول الطعام الذي يضمن سلامة الجهاز الهضمي فهي:

أوّلاً: إنّ الإنسان إذا تناول الطعام فعليه أن لا يملأ معدته منه، ويدع فيها فراغاً لشرب الماء، و فراغاً للريح، وهذا من أهمّ الوصفات الصحية التي تضمن سلامة الجهاز الهضمي الذي هو بيت الداء، و مصدر الأمراض و الأسقام.

ثانياً: إن لا يسرف الإنسان في تناول الطعام، وأن يقوم من المائدة و هو يشتهي الطعام، فإنّ ذلك أضمن لصحّته، و أضمن القواه، كما أكّدت ذلك مصادر الطب الحديث.

ثالثاً: إنّ صحّة الجسم منوطة بقلة الطعام و قلّة الشراب، و هذا ما أكّده الأطباء و يستمرّ الإمام في وصيّته قائلاً:

يا كُمَيْلُ، الْبَرَكَةُ فِى الْمَالِ مَنْ إِيْتَاءِ الزَّكَاةِ وَمُوَاسَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَصِلَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَ هُمُ الْأَقْرَبُونَ لَنَا.

يا كُمَيْلُ، زِدْ قَرَابَتَكَ الْمُؤْمِنَ عَلَى مَا تُعْطِي سِوَاهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكُنْ بِهِمْ أَرْأَفَ وَ عَلَيْهِمْ أَعْطَفَ، وَ تَصَدَّقْ عَلَى الْمَسَاكِينِ.

يا كُمَيْلُ، لَا تَرُدَّ سَائِلاً بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ مِنْ شَطْرِ عِنَبٍ... فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَنْمُو عِنْدَ اللهِ.

عرضت هذه البنود إلى الوسائل التي تنمي المال و تزيده وهي:

ص: 59

1 - الزكاة

و تظافرت الأخبار عن أئمة الهدى علیه السلام ، في أنّ إعطاء الزكاة موجباً لسعة الرزق و تنمية المال، و قد حفلت مصادر الحديث و الفقه بالمزيد من الأخبار في أنّ مانع الزكاة ليس من الإسلام في شيء، و أنّ الدولة تقاتل مانع هذه الضريبة التي هي من مصادر واردات الدولة الإسلامية.

2 - مواساة المؤمنين

و ممّا توجب زيادة الثروة و تنميتها مواساة المؤمنين و الإحسان إليهم و البرّ بهم، و أفضل أنواع الإحسان و أجمل صوره الإحسان إلى السادة العلويّين زادهم الله تعالى شرفاً، فإنّ البرّبهم الصلة للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

3 - صلة الأرحام

و تظافرت الأخبار عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أوصيائه العظام أنّ صلة الرحم لها آثارها الوضعية التي منها تنمية المال، و طول العمر وغير ذلك.

4 - عدم ردّ السائل

حثّ الإمام علیه السلام على الإحسان إلى السائل، و عدم حرمانه و لو بشقّ تمرة.

5 - الصدقة تنمّى المال

أمّا الصدقة سرّاً كانت أم جهراً، فإنّها تنمّى المال و تزيد في الرزق، و تدفع البلاء المبرم، و يأخذ الإمام علیه السلام في وصيّته قائلاً:

يا كُمَيْلُ، حُسْنُ خُلُقِ الْمُؤْمِنِ التَّواضُعُ، وَجَمَالُهُ التَّعَفُّفُ،

ص: 60

وَ شَرَفُهُ الشَّفَقَةُ، وَعِزُّهُ تَرْكُ الْقَالِ وَ الْقِيلِ.

يا كُمَيْلُ، إِيَّاكَ وَ الْمِراءَ فَإِنَّكَ تُغْرِي بِنَفْسِكَ السُّفَهَاءَ إِذَا فَعَلْتَ وَ تُفْسِدُ الْإِخَاءَ.

يا كُمَيْلُ، إِذَا جَادَلْتَ فِي اللهِ تَعَالَى فَلَا تُخَاطِبْ إِلَّا مَنْ يُشْبِهُ الْعُقَلَاة.

يا كُمَيْلُ، هُمْ - أي الذين يجادلون في الله - عَلَى كُلِّ حَالٍ سُفَهَاءُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَ لكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (1).

عرض الإمام علیه السلام في هذا المقطع إلى بعض الأمور المهمة و هي:

1 - حسن الأخلاق

أما حسن الأخلاق فإنّه من أبرز الصفات الرفيعة و النزعات الشريفة، و في بعض الأخبار إنّه نصف الإيمان، و فى الحديث النبوي: «إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الْأَخْلَاقِ»، و يرتبط بالأخلاق الفاضلة التواضع و عدم الأنانية، وممّا يرتبط به التعفّف والشفقة.

2 - ترك المراء

و من بنود المقطع ترك المراء فإنّه يوجب شيوع الكراهية ونشر الفساد.

3 - المجادلة فى الله

أمّا المجادلة في الله تعالى خالق الكون، و واهب الحياة فإنّها إنّما تكون مع

ص: 61


1- البقرة 2: 13

62

العقلاء الذين يملكون طاقات من العلم و الفكر و يخضعون لمنطق الدليل، فإنّ وجود الله تعالى أمر ضروري و واضح كلّ الوضوح أمّا الذين لا نصيب لهم من الفكر والعلم فإنّ الحديث معهم في جميع الأمور العقائدية يكون لغواً.

هذا بعض ما احتوى عليه هذا المقطع من بحوث.

و يستمرّ الإمام علیه السلام في وصيّته لكميل قائلاً:

يا كُمَيْلُ، فِي كُلِّ صِنْفٍ قَوْمٌ أَرْفَعُ مِنْ قَوْمٍ، فَإِيّاكَ وَ مُنَاظَرَةَ الْخَسِيسِ مِنْهُمْ وَ إِنْ أَسْمَعُوكَ فَاحْتَمِلْ وَ كُنْ مِنَ الَّذِينَ وَ صَفَهُمُ اللهُ (وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) (1)

عرض الإمام علیه السلام إلى أنّ في جميع الأصناف في المجتمع الإنساني قوماً أرفع من قوم تفكيراً و فضلاً، و نهى الإمام علیه السلام كميلاً من مناظرة الطبقة الواطئة تفكيراً و عدم الخوض معهم في أي شأن من الشؤون، ثمّ عرض الإمام إلى فقرة أخرى من وصيّته قائلاً:

يا كُمَيْلُ، قُلِ الْحَقَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَ وَازِرِ الْمُتَّقِينَ، وَاهْجُرِ الْفَاسِقِينَ.

يا كُمَيْلُ، جَانِبِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا تُصَاحِبِ الْخَائِنِينَ.

أمر الإمام علیه السلام بهذه الكلمات أن يقول الإنسان الحقّ في جميع الأحوال، و أن يؤازر المتّقين و يهجر الفاسقين الذين هم من أراذل المجتمع. ويقول علیه السلام في وصيّته:

ص: 62


1- الفرقان 25: 63

يا كُمَيْلُ، إِيَّاكَ إِيَّاكَ وَ التَّطَرُّقَ إِلَى أَبْوَابَ الظَّالِمِينَ وَ الْإِخْتِلَاطَ بِهِمْ، وَ الْإِكْتِسَابَ مِنْهُمْ، وَ إيّاكَ أَنْ تُطِيعَهُمْ، وَ أَنْ تَشْهَدَ فِي مَجَالِسِهِمْ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَلَيْكَ.

يا كُمَيْلُ، إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى حُضُورِهِمْ فَدَاوِمْ ذِكْرَ اللَّهِ وَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَ اسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَ أَطْرِقْ عَنْهُمْ (1) وَ أَنْكِرْ بِقَلْبِكَ فِعْلَهُمْ، وَ اجْهَرْ بِتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى لِتُسْمِعَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَهَابُونَكَ وَ تُكْفى شَرَّهُمْ.

و في هذه الكلمات نهى الإمام علیه السلام من الاختلاط بالظالمين؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَ لَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (2)، و إذا اضطرّ الإنسان إلى حضور دوائرهم فعليه أن يذكر الله تعالى، و يستعيذ به من شرّهم و آثامهم فإنّ ذلك أدنى للتخلّص من حرمة مجالستهم.

و يأخذ الإمام لها في وصيته قائلاً:

يا كُمَيْلُ، إِنَّ أَحَبَّ مَا امْتَثَلَهُ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَ بِأَوْلِيَائِهِ التَّجَمُّلُ وَ التَّعَفُّفُ وَ الْإِصْطِبارُ.

إنّ التجمّل و التعفّف و الاصطبار من أبرز القيم الكريمة التي ترفع مستوى الإنسان إلى آفاق رفيعة من الفضل والكمال... و يقول علیه السلام :

یا كُمَيْلُ، لَا بَأْسَ بأَنْ لَا تُعْلِمَ سِرَّكَ...

ص: 63


1- أطرق عنهم: أي اسكت ولا تتكلّم
2- هود 113:11

إنّ إخفاء السرّ و ما انطوت عليه نفس الإنسان من عقائد و غيرها الأولى أن تكون طي الكتمان، لأنّ إظهارها للغير قد تجرّ له الويل والعطب... يقول علیه السلام

يا كُمَيْلُ، لَا تُرِيَنَّ النَّاسَ افْتِقَارَكَ، وَاصْطَبِرْ عَلَيْهِ احْتِساباً بِعِزَّ وَ تَسَتُّرٍ.

أوصى الإمام علیه السلام بعزّة النفس وكرامتها، و من المؤكّد أنّ إظهار الفقر و الحاجة من مرديات الإنسان و مسقطاته من أعين الناس، يقول علیه السلام :

يا كُمَيْلُ، لَا بَأْسَ أَنْ تُعْلِمَ أَخَاكَ سِرَّكَ.

يا كُمَيْلُ، و مَنْ أَخُوكَ ؟ أَخُوكَ الَّذِي لَا يَخْذُلُكَ عِنْدَ الشَّدَةِ، وَ لَا يَغْفُلُ عَنْكَ عِنْدَ الْجَرِيرَةِ، وَ لَا يَخْدَعُكَ حِينَ تَسْأَلُهُ، وَ لَا يَتْرُكُكَ وَ أَمْرَكَ حَتَّى تُعْلِمَهُ، فَإِنْ كَانَ مُمِيلاً (1) أَصْلِحْهُ.

يا كُمَيْلُ، الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِن؛ يَتَأَمَّلُهُ، وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ، وَيُجْمِلُ حَالَتَهُ.

يا كُمَيْلُ، الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وَ لَا شَيْءَ أَثَرُ عَنْدَ كُلِّ أَحْ مِنْ أَخِيهِ.

يا كُمَيْلُ، إِنْ لَمْ تُحِبَّ أَخَاكَ فَلَسْتَ أَخَاهُ.

تحدّث الإمام علیه السلام في هذا المقطع عن الاخوة الإسلامية و ما يلازمها من الآثار الوضعية و التي منها أن يحدّث المسلم أخاه في الإسلام عن أسراره وشؤونه، و قد حدّد الإمام الأخ و عرف واقعه في المنطلق الإسلامي، فالأخ هو الذي لا يخذل أخاه عند الشدّة، و لا يغفل عنه عند الجريرة، إلى غير ذلك من الآثار التي

ص: 64


1- المميل: صاحب الثروة و المال الكثير

ذكرها الإمام علیه السلام ، و هي نادرة الوجود أو معدومة في هذا العصر الذي طغت فيه المادة على كلّ شيء.

ص: 65

ص: 66

القضاء

و حفل نهج البلاغة بكلمات الإمام علیه السلام حول القضاء لأنّه من المراكز الحسّاسة في الدولة الإسلاميّة، واشترط الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمّه تقوى و ورعاً و كمالاً و نزاهة، و لنستمع إلى ما جاء في عهده لمالك الأشتر من البنود المشرقة التى تخصّ القضاة، قال علیه السلام :

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِکَ فِي نَفْسِکَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِکَ قَلِيلٌ.

ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ.

وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْکَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَکَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِکَ نَظَراً بَلِيغاً،

ص: 67

فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ کَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا.» (1).

حفل هذا المقطع الشريف من عهد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر و اليه على مصر باُمور بالغة الأهمية، لم يحفل بمثلها أي نظام اجتماعي عرض النظام الحكم والإدارة... لقد نظر الإمام علیه السلام بعمق وشمول إلى أهمّ جهاز في الدولة وهو القضاء، فألزم أن يكون أفضل مَن في الرعية علماً و تقوى وورعاً، و عليهم أن يتحمّلوا المسؤوليات التالية:

1- أن يكون القاضي واسع الاُفق، لا يضيق من الدعاوى التي ترفع إليه، و لا ينزعج و يتبرّم أمام المتخاصمين.

2 - أن لا يتمادى في الزلل، و عليه أن يقف أمام الأحداث التي تعرض عليه بتبصّر و تروّ.

3 - عليه أن يتبع الحق إذا تبيّن له.

4 - أن يبتعد عن الطمع، و لا تميل نفسه إلى حطام الدنيا.

5 - عليه أن ينظر في الدعاوى التي ترفع إليه نظرة فاحصة، و يبذل قصارى فهمه فيها حتى يكون حكمه مصيباً.

6 - عليه أن يقف في الشبهات، و لا يحكم حتى يتبيّن له الحقّ.

7 - أن يأخذ بحكمه بالحجج القاطعة.

8- لا يملّ و لا يسأم من مراجعة المتخاصمين.

ص: 68


1- نهج البلاغة: 3: 434 و 435

9 - أن يكون شديداً فى جانب الحقّ، و لا يميل لأي طرف من المتنازعين.

10 - أن لا يزدهيه إطراء الناس، و لا يستميله إغراؤهم.

ص: 69

ص: 70

الحريّة

اشارة

و من معالم الحضارة النابهة في نهج البلاغة الحرّيّة بنطاقها الواسع التي منحها مؤسّس الحضارة الإسلاميّة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، و هي ذات صور حسب ما جاء في النهج منها، و هذه شذرات منها:

الحرّية السياسيّة

منح الإمام أمير المؤمنين علیه السلام الحرّية السياسيّة للناس من دون أن يفرض عليهم رأياً معاكساً، و قد أتاح الإمام علیه السلام للناس اعتناق أي مذهب سياسي يذهبون إليه، و قد منح هذه الحرّيّة لخصومه الذين تخلّفوا عن بيعته، أمثال سعد بن أبي وقّاص، و عبد الله بن عمر، و حسّان بن ثابت، و كعب بن مالك، و اُسامة بن زيد، و أبي سعيد الخدريّ، و زيد بن ثابت، و أمثالهم (1).

ولم يتّخذ معهم أي إجراء حاسم، ولم يقابلهم بالمثل، وتركهم و شأنهم، و لم يتّخذ مثل ذلك أبو بكر في حكومته، فقد صبّ جام غضبه على بقيّة النبوّة و سيّدة نساء العالمين، فأحرق دارها، و أسقط جنينها، و كسر ضلعها، و اعتدى عليها بواسطة جلاوزته، مثل خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة وقنفذ بالضرب.

كما منع عنها مواريثها من نِحلة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لها فدكاً و غيرها، و ترك شبح الفقر ماثلاً في بيتها، و أعقبت الأحداث تتوالى على آل النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، و التي كان من أقساها

ص: 71


1- مروج الذهب: 3: 353

ومن أخلدها في تاريخ الأحزان رزايا كربلاء التي لم يمتحن ببعضها نبيّ من أنبياء الله تعالى، فأين وصايا القرآن و وصايا رسول ربّ العالمين في ذرّيّته و أبنائه، و الحكم الله تعالى و عند الساعة يخسر المبطلون. كتبت هذه الأسطر يوم الحزن، يوم الحادي عشر من محرّم.

و على أي حال، فلنعد إلى الحرّيّة التي منحها الإمام علیه السلام للشعوب والتي منها:

حرّيّة القول

و الناس أحرار فيما يقولون فى سياسة الإمام، و ليس للسلطة أن تحاسبهم و تمنعهم عن ذلك، وكان من بنودها ما رواه المؤرّخون أنّ أبا حنيفة الطائیّ لمّا رجع من واقعة النهروان و معه جماعة من إخوانه كان فيهم أبو العيزار الطائيّ، و كان من عيون الخوارج، فقال لعدي بن حاتم: يا أبا طريف، أغانم أم سالم؟

- بل غانم سالم.

- الحكم إذن إليك.

و أوجس منه خيفة، و ألقى عليه القبض، و جاء به مخفوراً إلى الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، و عرض عليه مقالته فقال له: ما أصنع به؟

- تقتله.

- أقتل مَن لا يخرج علَيَّ؟

- احبسه ؟

- ليست له جناية أحبسه عليها، خلّيا سبيل الرجل.

أرأيتم هذه الحرّيّة التي وفّرها وصيّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأعدائه و مبغضيه.

ص: 72

حرّيّة النقد

و من بنود الحرّيّة التي منحها الإمام لشعبه حرّيّة النقد، فقد كان أحد أعدائه يعارضه بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)(1).

فردّ عليه الإمام علیه السلام بقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)(2)

و لم يتّخذ الإمام علیه السلام أي إجراء حاسم، و لم ير الناس في جميع مراحل التاريخ حاكماً منح الحرّيّة التامّة لشعبه مثل ما منحها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 73


1- الحديد 6:57
2- الروم 30: 60

ص: 74

العدل

اشارة

و من بنود سياسة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام إشاعته للعدل الشامل لجميع شعوب رعيّته بلا فرق بين قوم وآخرين، و لم تعرف الإنسانيّة في جميع مراحل تاريخها حاكماً تبنّى العدل بجميع صوره و بنوده كالإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، و هو القائل: «الدَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى أَخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَ الْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى أَخُذَ الْحَقِّ مِنْهُ» (1)

و عزل أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة بأنّه قد جار في حكمه، فبكى الإمام علیه السلام و قال بحرارة:

اللّهُمَّ أَنْتَ الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَ عَلَيْهِمْ، أَنِّي لَمْ آمُرْهُمْ بِظُلْمٍ خَلْقِكَ، وَلَا بِتَرْكِ حَقِّكَ. ثمّ عزله في الوقت (2).

و روى المؤرّخون صوراً مذهلة من عدله لم يعرفها الناس من قبله و لا من بعده (3)

إبعاد المنحرفين و الطامعين

و كان من مظاهر سياسة الإمام علیه السلام إبعاد المنحرفين و الطامعين في الحكم،

ص: 75


1- نهج البلاغة: 1: 89
2- العقد الفريد: 1: 211
3- تاريخ اليعقوبي: 2: 117

و قد أعلن الإمام علیه السلام هذه الخطّة المشرقة بقوله لرفاعة بن شداد:

اعْلَمْ - يا رفاعَةُ - أَنَّ هَذِهِ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ، فَمَنْ جَعَلَهَا خِيانَةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ مَنِ اسْتَعْمَلَ حَائِناً فَإِنَّ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم بَرِيءٌ مِنْهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (1).

و لمّا أعلن الزبير و طلحة رغبتهما الملحّة فى ولاية البصرة و الكوفة امتنع من إجابتهما، فاستدعى عبدالله بن عبّاس، فقال له: بَلَغَكَ قَوْلُ هَذَيْن الرَّجُلَيْن

- يعني طلحة والزبير.

- نعم بلغني قولهما.

- ما تَرى؟

- أرى أنّهما أحبًا الولاية، فولّ الزبير البصرة، و ولّ طلحة الكوفة.

فأنكر الإمام علیه السلام رأيه وقال له:

وَيْحَكَ ! إِنَّ الْعِراقَيْنِ بهِما الرِّجالُ وَ الْأَمْوالُ، وَ مَتى تَمَلَّكا رقابَ النَّاسِ يَسْتَمِيلا السَّفية بِالطَّمَعِ، وَيَضْرِبا الضَّعِيفَ بِالْبَلاءِ، وَ يَقْوَيا عَلَى الْقَوِيّ بِالسُّلْطانِ، وَ لَوْ كُنْتَ مُسْتَعْمِلاً أَحَداً لِضُرِّهِ وَ نَفْعِهِ لَاسْتَعْمَلْتُ مُعاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ، وَ لَوْلا مَا ظَهَرَ لي مِنْ حِرْصِهِما عَلَى الْوِلايَةِ لَكَانَ لي رَأْيِّ فِيهِما (2).

من أجل هذه البنود التي تحمل حرص الإمام علیه السلام على إشاعة العدل و نشره بين الناس لم يولّهما الولاية، حتّى خرجا يريدان الغدرة، و التحقا بعائشة المركز

ص: 76


1- دعائم الإسلام: 2: 189
2- الإمامة والسياسة 1: 50

المهمّ للمعارضة حكومة الإمام، فكانت واقعة الجمل التي مهّدت الطريق لمعاوية في إعلان التمرّد على حكومة الإمام علیه السلام .

ص: 77

ص: 78

المساواة

و شيء آخر بالغ الأهمّيّة في سياسة الإمام علیه السلام هو المساواة بين الناس، فالقريب و البعيد على حدّ سواء، فلا فرق بين السبطين الحسن و الحسين علیه السلام و بين بقيّة أفراد الشعب، فكلّهم بمستوى واحد، و من صور مساواته:

المساواة في الحقوق و الواجبات.

المساواة في العطاء

المساواة في القانون.

و ألزم عمّاله بتطبيقها على جميع المواطنين، و قد قال في عهده الدولي لمالك و في غيره:

وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَناحَكَ، وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَ أَلِنْ لَهُمْ جانِبَكَ، وَ آسِ بَيْنَهُمْ فى اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ، وَ الْإشارَةِ وَ التَّحِيَّةِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظماءُ في حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ.

أرأيتم هذا السمو و الإخلاص للحقّ و العدل في سياسة عملاق هذه الأمّة و رائد حضارتها ومقوّماتها الفكريّة.

ص: 79

ص: 80

المواساة

و من بنود سياسة الإمام علیه السلام و مواساتها الرائعة و الشاملة لأبناء شعبه، فقد واسى الضعفاء في مكاره الدهر و جشوبة العيش، و هو القائل:

أَأَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أَشارِكُهُمْ فِي جُشويَةِ الْعَيْشِ وَ مَكارِهِ الدَّهْرِ، وَ لَعَلَّ فِي الْحِجَازِ وَ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ بِالْقُوتِ، وَ لَا طَمَعَ لَهُ بِالشَّيْعِ.

أَأَبِيْتُ مِبْطَانًا وَ حَوْلِى بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى ؟ أَوَ أَكُونُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَ حَسْبُكَ دَاءً أَن تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

هذا علىّ علیه السلام رائد الحضارة الإنسانيّة الذي حقدت عليه قريش و ناجزته الحرب لعدله و مساواته و سموّ سياسته.

و لو كان للمسلمين نصيب من التطوّر في عالم السياسة لارتقى الإمام علیه السلام منصّة الحكم بعد وفاة أخيه و ابن عمّه رسول الله علیه السلام ، ولكنّ الخطّ القرشيّ وضع أمامه الحواجز و السدود و حاربوه كما حاربوا أخاه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

و بهذا العرض الموجز نطوي الحديث عن بعض المعالم الحضاريّة في نهج البلاغة، وقد تحدّثنا في كثير من مؤلّفاتنا، خصوصاً في كتابنا (المناهج في حكومة الإمام علیه السلام ) و في شرحنا للعهد الدولي لمالك الأشتر، والإعادة تكرار و هو لا يخلو من الملل، و الله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 81

يوم 11 محرّم سنة 1433ه_ و أنا مصاب بوعكة صحّيّة

سائلاً منه تعالى الشفاء

ص: 82

مُحتَویاتُ الکِتابِ

الإهداء... 7

القرآن الکریم

11 - 18

وصف القرآن... 11

القرآن نور... 11

القرآن ناطق... 13

القرآن يتحدّث عن أنباء الماضي و المستقبل... 13

القرآن حبل الله... 14

القرآن ناصح... 14

القرآن هدى و نور... 15

الحثّ على تعلمّ القرآن... 16

حفظ القرآن... 16

دعاؤه علیه السلام عند ختم القرآن... 17

القرآن ربيع القلوب... 18

العلم و التعليم

19 - 27

الإشادة بالعلم... 19

ص: 83

أهمية العالم... 21

تكريم العالم... 21

أخذ المحاسن من كلّ علم... 22

تشجيعه علیه السلام للحركة العلمية... 22

العمل بالعلم... 22

أنواع طلاب العلم... 23

ذمّ أهل الرأي... 25

بذل العلم... 26

حثّه علیه السلام على جودة الخطّ... 26

أنواع العلوم... 27

التربية

29 - 65

وصيّته علیه السلام للامام الحسن علیه السلام ... 29

دوافع الوصيّة... 29

بنود الوصيّة... 30

الاعتصام بالله عزّ و جلّ... 32

أهمّيّة النبيّ علیه السلام ... 33

نفي الشريك الله عزّ و جلّ... 33

حال الدنيا... 34

معاملة الناس... 35

الدار الآخرة... 37

أهمّیّة الدعاء... 38

ص: 84

الإنسان خلق للآخرة... 40

الإكثار من ذكر الموت... 41

الحذر من التهالك في طلب الدنيا... 42

محاسن الأخلاق... 43

الرزق... 46

وصيّة الإمام علیه السلام لولده الحسين علیه السلام ... 50

وصيّة الإمام علیه السلام لكميل بن زياد... 56

آداب الطعام... 58

المنهج الصحّى... 59

1 - الزكاة... 60

2 - مواساة المؤمنين... 60

3 - صلة الأرحام... 60

4 - عدم ردّ السائل... 60

5 - الصدقة تنمّى المال... 60

القضاء

67 - 69

الحرية

71 - 73

الحرّية السياسية... 71

حرية القول... 72

حريّة النقد... 73

ص: 85

العدل

75 - 77

إبعاد المنحرفين و الطامعين... 75

المساواة

79

المواساة

81

محتويات الكتاب... 83

ص: 86

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.