الدنيا في نهج البلاغة

هوية الکتاب

الدنيا في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

:إعداد مكتبة الروضة الحيدرية

تنضيد وإخراج: نذير هندي الكوفي

عدد النسخ: ا نسخة

السنة: 1432 ه- / 2011 م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكترونى:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 3

الدنيا في نهج البلاغة

إعداد

مكتبة الروضة الحيدرية

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

تمهيد

انّ كتاب نهج البلاغة يزخر بالمعلومات عن المبدأ و المعاد و ما بينهما، وهو كتاب جامع لأصول الدين وفروعه، وفيه كفاية للمهتدي وموعظة للمتقي.

نحن في هذه الحلقة من «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» نسلّط الضوء على ما ورد من ذكر الدنيا و وصفها على لسان أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، وذلك لخطورة هذا الموضوع وأهميته، إذ انّ «بالدنيا تحرز الآخرة» (1) فهي بالنسبة لنا منعطف خطير، إما إلى الجنة وإما إلى النار و لا ثالث.

يمر الإنسان في سيره من المبدأ إلى المنتهى بأربعة عوالم: عالم الذر، عالم الخلقة (أو الجنينية)، عالم الدنيا، عالم الخلود (في الجنة أو النار)، و هو مسلوب الاختيار في هذه العوالم الّا في عالم الدنيا، حيث يتمكن من

ص: 5


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 156

إسعاد نفسه أو إهلاكها، و ذلك كما قال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) (1). و قال تعالى: (إإِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (2).

و هذا الاختيار هو الحافز القوي للسعي نحو الكمال، و تدارك ما فات من العمر، و عند تجاوز هذا العالم تنسدّ الأبواب «فشقوة لازمة أو سعادة دائمة» (3).

و لمعرفة عالم الدنيا حق المعرفة، و الوقوف على ما ينبغي فيها و ما لا ينبغي، نهدي إليك أيها القارئ الكريم هذه الحلقة وهي «الدنيا في نهج البلاغة».

ص: 6


1- النجم: 39
2- الإنسان: 3
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 157

(1) خلق العالم

اشارة

ان أمير المؤمنين علیه السلام يشير في طيات كلامه إلى انّ الله تعالى «أنشأ الخلق إنشاءً، و ابتدأه ابتداءً، بلا روية أجالها، و لا تجربة استفادها، و لا حركة أحدثها، و لا همامة نفس اضطرب فيها» (1).

و أيضاً: «خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحدٍ من خلقه» (2)، و ذلك انّه تعالى كان و لم يكن معه شيء، قال علیه السلام : «انّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها» (3)

ثم انّ الله تعالى خلق الكون بالتدريج و في مراحل، نوردها كما وردت في كلام أمير المؤمنين علیه السلام :

ألف: المرحلة الأولى: الماء و الهواء.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق

ص: 7


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 1
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 186
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 186

الأرجاء، و سكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيّاره، متراكماً زخّاره، حمله على متن الريح العاصفة، و الزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلّطها على شدّه، وقرنها إلى حدّه، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق.

ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبها، وأدام مُربّها، وأعصف مجراها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوّله على آخره، وساجيه على مائره، حتى عبّ عبابه، ورمى بالزبد رکامه، فرفعه في هواء منفتق، وجوّ منفهق» (1)

ب: المرحلة الثانية: السماوات و الأرض.

قال علیه السلام : «فسوّى منه سبع سماوات، جعل سفلاهنّ موجاً مكفوفاً، و عليهاهنّ سقفاً محفوظاً، و سمكاً مرفوعاً بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينتظمها، ثم زيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً، وقمراً منيراً في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر» (2).

و قال علیه السلام : «وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من

ص: 8


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 1
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 1

الأود والاعوجاج، و منعها من التهافت و الانفراج، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قوّاه» (1).

ج: المرحلة الثالثة: الملائكة

قال علیه السلام : «ثم فتق ما بين السماوات علیه السلام، فملأهنّ أطواراً من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان» (2).

د: المرحلة الرابعة: الإنسان.

قال علیه السلام : «ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتى خلصت، و لاطها بالبلّة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول و أعضاء و فصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود وأجل معلوم، ثم نفخ فيه من روحه فمثلت انساناً ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرّف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق و الباطل، والأذواق والمشام، والألوان و الأجناس معجوناً بطيئة الألوان المختلفة،

ص: 9


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 186
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 1

والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة من الحر والبرد، والبلّة والجمود، والمساءة والسرور»(1).

ثم انّ الله سبحانه و تعالى أسكن هذا الإنسان في دار «دبرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته» (2) و هذه الدار هي «دار البلية وتناسل الذرية» (3) «و انما وضعنا فيها لنبتلى بها»(4) و أرسل فيها رسله بعدما «بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة». (5)

فالانسان في هذه الدنيا كادح إلى مقرّه، ولابدّ أن يتزوّد منها بعد اتمام الحجة عليه، و عليه أن لا ينخدع بزخرفها و زبرجها، ولا يصغي إلى نفثات الشيطان، و هذا ما سنبيّنه في الفصول التالية.

ص: 10


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 1
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 186
3- المصدر نفسه الخطبة رقم: 1
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 55
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 1

(2) اتمام الحجة في الدنيا

ان الله سبحانه وتعالى قد أتم ّالحجة على الانسان، فأعطاه أولاً العقل ليكون الحجة الباطنية، ثم أردفه بالرسل والأنبياء «يستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته، ويثيروا لهم دفائن العقول» كما مرّ، وبذلك أتم الحجة على الانسان.

قال أمير المؤمنين علیه السلام بالنسبة إلى الأول: «ثم منحه قلباً حافظاً، و لساناً لافظاً، و بصراً لاحظاً، ليفهم معتبراً، و يقصر مزدجراً»(1).

وقال علیه السلام بالنسبة إلى الحجة الثانية: «ولم يُخْلِ الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة» (2).

و قال علیه السلام : «لقد بُصّرتم إن أبصرتم، و أسمعتم إن سمعتم، وهُديتم إن اهتديتم وبحق أقول لكم: لقد جاهرتكم العبر، و زُجرتم بما فيه مزدجر، و ما يبلّغ عن الله بعد رسل السماء الّا البشر» (3)

وقال علیه السلام : «انّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدى،

ص: 11


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 82
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 1
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 20

و لم يدعكم في جهالة ولا عمى، قد سمّى آثاركم، وعلم أعمالكم، وكتب آجالكم، وأنزل عليكم الكتاب تبياناً، وعمّر فيكم نبيه أزماناً، حتى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه، و أنهى اليكم على لسانه محابه من الأعمال و مكارهه، و نواهيه وأوامره، فألقى اليكم المعذرة، و اتخذ عليكم الحجة، وقدّم اليكم الوعيد، و أنذركم بين يدي عذاب شديد»(1)

و قال علیه السلام: «انّ الله تعالى قد أعذر اليكم بالجليّة، واتخذ عليكم الحجة، وبيّن لكم محابّه من الأعمال ومكارهه منها لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه» (2)

و قال علیه السلام : «فانّه لم يُخف عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه الا وجعل له علماً بادياً، و آية محكمة، تزجر عنه أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحد، و سخطه فيما بقي واحد» (3).

و الأنبياء مع كثرتهم لكن دعوتهم واحدة، قال علیه السلام : «ألا و انّ شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضلّ وندم» (4).

فمع وجود حجة العقل، وحجة النبوة لا غموض في الأمر، ولا حجة للانسان في التكاسل والتواني، قال علیه السلام : «ان الأمر واضح،

ص: 12


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 85
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 176
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 119

و العَلَم قائم، و الطريق جدد، و السبيل قصد» (1). و ذلك «انّ الله قد أوضح سبيل الحق و أنار طرقه» (2).

ويؤكد علیه السلام هذا الأمر مراراً لينفذ في الأسماع و يثبت في القلوب، و يقول: «اعملوا رحمكم الله على أعلام بينة، فالطريق نهج يدعو إلى دار السلام» (3). وقال علیه السلام : «ألا وانكم قد أمرتم بالظعن، و دللتم على الزاد»(4)

و هذا الطريق هو الطريق الوسط الذي لابد من سلوكه إذ انّ «اليمين و الشمال مضلّة، و الطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب، وآثار النبوة، و منها منفذ السنة، و اليها مصير العاقبة» (5)

ص: 13


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 161
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 157
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 93
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 28
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 16

ص: 14

(3) الدنيا قنطرة

الدنيا ليست هي الهدف، و لا هي الغاية و المنتهى و انّما هي قنطرة يعبر عليها الانسان ليصل إلى داره و مقره الأساسي، قال أمير المؤمنين علیه السلام تأكيداً لهذا الأمر: «الدنيا خلقت لغيرها و لم تخلق لنفسها»(1).

وهي أيضاً: «دار ممرّ إلى دار مقرّ» (2) و كما أوصى ابنه الحسن علیه السلام : «و انّك في منزل قلعة، و دار بلغة، و طريق إلى الآخرة» (3).

و قد أتينا إلى الدنيا لنُختبر فيها و نُبتلى بها، قال علیه السلام : «انّ الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملاً، ولسنا للدنيا خُلقنا، و لا بالسعي فيها اُمرنا، و انّما وُضعنا فيها لنُبتلى بها»(4)

لذا يجب على الانسان التزوّد من هذه الدار، إذ فيها الماء و الكلأ،

ص: 15


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 451
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 126
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 55.

وب ها تحرز الآخرة، قال علیه السلام : «وَلْيُمهد لنفسه وقدمه، وليتزوّد من دار ظعنه لدار اقامته» (1).

وقال علیه السلام : «انّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازاً لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار» (2).

و أخيراً قال علیه السلام : «ألا و انّ هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها، و أصبحت تغضبكم و ترضيكم، ليست بداركم و لا منزلكم الذي خلقتم له، و لا الذي دعيتم إليه، ألا و انّها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها، و هي و إن غرتّكم منها فقد حذّرتكم شرّها، فدعوا غرورها لتحذيرها، و أطماعها لتخويفها، وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم اليها، و انصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخننّ أحدكم خنين الأمة على ما زُوي عنه منها، و استتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله، و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه، ألا و انّه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم، ألا و أنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم» (3).

ص: 16


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 85
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 132
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 173

(4) ذم الدنيا

انّ ذم الدنيا من أبرز ما ورد على لسان أمير المؤمنين علیه السلام، فهو يصفها بالفناء و الغدر و الغرور، و غيرها من الصفات الذامة لها، كل ذلك للتزهيد فيها و انقطاع القلوب عنها، و فيما يلي نشير إلى أهم ما ورد عنه علیه السلام في هذا المجال:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «الدنيا دار مُني لها الفناء، و لأهلها منها الجلاء، و هي حلوة خضرة، قد عُجّلت للطالب، و التبست بقلب الناظر» (1).

و قال علیه السلام : «ألا و انّ الدنيا قد تصرّمت و آذنت بانقضاء و تنكر معروفها، و أدبرت حذّاء، فهي تحفز بالفناء سكانها، و تحذر بالموت جيرانها، و قد أمرّ منها ما كان حلواً، و كدر منها ما كان صفواً» (2). و قال علیه السلام : «ألا و انّ الدنيا دار لا يُسلم منها الّا فيها، و لا ينجى بشيء كان لها، ابتلي الناس بها فتنة» (3).

ص: 17


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 45
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 52
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 62

و قال علیه السلام : «ما أصف من دار أولها عناء، و آخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته» (1)

و قال علیه السلام : «انّ الدنيا دار فناء وعناء وغير وعبر، فمن الفناء انّ الدهر مُوتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا تؤسى جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينقع، ومن العناء انّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا مالاً حمل ولا بناء نقل، ومن غيرها انّك ترى المرحوم مغبوطاً، والمغبوط مرحوماً، ليس ذلك الّا نعيماً زلّ وبؤساً نزل، ومن عبرها انّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يُدرك و لا مؤمّل يُترك، فسبحان الله ما أغرّ سرورها، و أظمأ ريّها، وأضحى فيئها، لا جاءٍ يُرد، ولا ماض يرتد» (2).

و قال علیه السلام : «أيها الناس انّما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، و في كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة الّا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمّر منكم يوماً من عمره الّا بهدم آخر من أجَلِهِ، ولا تُجدد له زيادة في أكله الّا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثر الّا مات له أثر، ولا يتجدّد له جديد الّا بعد أن يخلق له جديد، ولا تقوم له نابتة الّا و تسقط منه محصودة»(3)

ص: 18


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 81
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 145

وقال علیه السلام : «أيّها الناس انّ الدنيا تغرّ المؤمل لها و المخلد اليها، و لا تنفس بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها، و ايم الله ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الّا بذنوب اجترحوها، لانّ الله ليس بظلام للعبيد» (1).

وقال علیه السلام : «و لا تشيموا بارقها، و لا تسمعوا ناطقها، و لا تجيبوا ناعقها، و لا تستضيئوا باشراقها، و لا تفتنوا بأعلاقها، فان برقها خالب، و نطقها كاذب، و أموالها محروبة، و أعلاقها مسلوبة، ألا و هي المتصدّية العنون، و الجامحة الحرون، و المائنة الخؤون، و الجحود الكنود، و العنود الصدود، و الحيود الميود، حالها انتقال، و وطأتها زلزال، وعزّها ذل، وجدّها هزل، وعلوّها سفل، دار حرب و سلب و نهب و عطب، أهلها على ساق و سياق و لحاق و فراق، قد تحيّرت مذاهبها، وأعجزت مهاربها، وخابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل، و لفظتهم المنازل، و أعيتهم المحاول، فمن ناج معقور، و لحم مجزور، و شلو مذبوح، و دم مسفوح، و عاض على يديه، و صافق لكفّيه، و مرتفق بخدّيه، و زار على رأيه، و راجع عن عزمه، و قد أدبرت الحيلة، و أقبلت الغيلة، و لات حين مناص» (2).

و قال علیه السلام : «دار بالبلاء محفوفة، و بالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، و لا يسلم نزّالها، أحوال مختلفة، و تارات متصرّفة، العيش فيها مذموم، و الأمان منها معدوم، و انّما أهلها فيها أغراض مستهدفة،

ص: 19


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 178
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 191

ترميهم بسهامها، و تفنيهم بحمامها» (1)

وقال علیه السلام: «أما بعد فانّ الدنيا مَشغلة عن غيرها، ولم يُصب صاحبها شيئاً الّا فتحت له حرصاً عليها، و لهجاً بها، و لن يستغني صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها، و من وراء ذلك فراق ما جمع، و نقض ما أبرم» (2).

وقال علیه السلام : «أما بعد فانّما مثل الدنيا مثل الحية، ليّن مسّها، قاتل سمّها، فأعرض عمّا يُعجبك فيها لقلّة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها، و كن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها، فانّ صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور، أو إلى ايناس أزالته عنه إلى إيحاش»(3)

وقال علیه السلام : «مثل الدنيا كمثل الحية، ليّن مسّها و السمّ الناقع في جوفها، يهوي اليها الغرّ الجاهل، ويحذرها ذو اللب العاقل» (4).

و قال علیه السلام : «انّما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، و نهب تبادره المصائب، و مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، و لا ينال العبد نعمة الّا بفراق اخرى، ولا يستقبل يوماً من عمره الّا بفراق آخر من أجله» (5)

ص: 20


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 225
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 49
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 69
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 113
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 181

و قال علیه السلام : «يا أيها الناس، متاع الدنيا حطام موبئ فتجنّبوا مرعاه، قُلعتها أحظى من طمأنينتها، و بُلغتها أزكى من ثروتها، حكم على مكثر منها بالفاقة، و اُعين من غني عنها بالراحة، من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمهاً، و من استشعر الشغف بها ملأت ضميره أشجاناً، لهنّ رقص على سويداء قلبه، همٌّ يشغله وغمّ يحزنه، كذلك حتى يُؤخذ بكظمه، فيلقى بالفضاء منقطعاً أبهراه، هيّناً على الله فناؤه، و على الاخوان إلقاؤه» (1).

و قال علیه السلام : «من هوان الدنيا على الله انّه لا يُعصى الّا فيها، و لا يُنال ما عنده الّا بتركها» (2).

و قال علیه السلام في صفة الدنيا: «تغرّ و تضرّ و تمرّ، انّ الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه، و لا عقاباً لأعدائه» (3)

ص: 21


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 357
2- المصدر نفسه، قصار الحكم 375
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 403

(5) مدح الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «وحقاًّ أقول، ما الدنيا غرّتك ولكن بها اغتررت، ولقد كاشفتك العظات، و آذنتك على سواء، و لهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، و النقص في قوّتك أصدق و أوفى من أن تكذبك أو تغرّك، ولرب ناصح لها عندك متهم، و صادق من خبرها مكذّب، و لئن تعرّفتها في الديار الخاوية، و الربوع الخالية، لتجدنّها من حسن تذكيرك، و بلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك، والشحيح بك، و لنعم دار من لم يرض بها داراً، و محلّ من لم يوطّنها محلاً، و انّ السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم»(1).

و قال الا وقد سمع رجلاً يذم الدنيا: «أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثم تذمها، أأنت المتجرّم عليها أم هي المتجرمة عليك، متى استهوتك، أم متى غرتك، أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع امهاتك تحت الثرى، كم علّلت بكفيك، و كم مرّضت بيديك تبغي لهم الشفاء، و تستوصف لهم الأطباء، غداة لا يغني عنهم دواؤك، و لا يُجدي عليهم بكاؤك، لم ينفع أحدهم إشفاقك، و لم

ص: 22


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 222

تُسعف فيه بطلبتك، و لم تدفع عنه بقوّتك، قد مَثَّلَتْ لك به الدنيا نفسك، و بمصرعه مصرعك، انّ الدنيا دار صدق لمن صَدَقَها، و دار عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزوّد منها، و دار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، و مصلّى ملائكة الله، و مهبط وحي الله، و متجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، و ربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمّها و قد آذنت ببینها، و نادت بفراقها، و نعت نفسها و أهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، و شوّقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية، و ابتكرت بفجيعة ترغيباً و ترهيباً، وتخويفاً و تحذيراً، فذمّها رجال غداة الندامة، و حمدها آخرون يوم القيامة، ذكّرتهم الدنيا فذكروا، وحدّثتهم فصدّقوا، و وعظتهم فاتعظوا» (1).

يظهر من هذه النصوص و كذلك ما ورد في ذم الدنيا أمور:

ألف: الدنيا ليست هي القرار و لا المقصد و المنتهى، بل هي وسيلة و مقدمة لغيرها، و مدحها أو ذمها يتبع سلوك الانسان فيها، فالنظرة اليها نظرة آلية لا استقلالية، فالانسان إذا استفاد منها و أحرز بها الآخرة و تزوّد منها تكون بالنسبة إليه حسنة، ولكن إذا اغتر ولم يعتبر ولم يتزوّد تكون بالنسبة له مضلّة، و لو صحّ التعبير لقلنا انّها مرآة للانسان تعكس ما هو عليه من صلاح أو فساد، و بتبعه تكون ممدوحة أو مذمومة، و هذا ما أكّده أمير المؤمنين علیه السلام في كلامه حيث قال مضافاً إلى ما مضى: «من أبصر بها بصّرته، و من أبصر اليها أعمته» (2).

ص: 23


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 124
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 81.

و قال علیه السلام : «انّما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئاً، و البصير ينفذها بصره و يعلم انّ الدار و راءها، فالبصير منها شاخص، و الأعمى اليها شاخص، و البصير منها متزوّد، و الأعمى لها متزوّد» (1).

ب: انّ نصيب الانسان من هذه الدنيا الذي سينفعه في العقبى هو العمل الصالح فحسب، قال علیه السلام : «انّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك» (2).

و قال علیه السلام : «لا خير في الدنيا الّا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، و رجل يسارع في الخيرات» (3).

و في غير هذه الصورة، لا يكون له سوى الحسرة في يوم القيامة، قال علیه السلام: واعلم ان الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها قط فيها ساعة، الا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة» (4).

ولذا نرى المؤمن يحذر منها أشدّ الحذر، ولا يأخذ منها الّا بقدر الضرورة، قال علیه السلام: «انّما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويقتات منها ببطن الاضطرار» (5)

ج: انّ الدنيا بالمعنى الثاني النابعة من سلوك الانسان الصحيح، يمكن أن تجتمع مع الآخرة، بل هي مقدمة للوصول اليها و سلّم الترقي

ص: 24


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 133
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 89
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 59
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 357

نحوها، و لكن الدنيا بالمعنى الأول النابعة من الاغترار بها و الخلود اليها، لا يمكنها أن تجتمع مع الآخرة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «انّ الدنيا و الآخرة عدوّان متفاوتان، و سبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا و تولاها أبغض الآخرة و عاداها، و هما بمنزلة المشرق و المغرب، و ماش بينهما كلّما قرب من واحد بَعُدَ من الآخر، و هما بعد ضرّتان» (1).

د: و من عجيب أمر الدنيا انّ من ركض نحوها ابتعدت عنه، و من تركها أتته، قال علیه السلام : «من ساعاها فاتته، و من قعد عنها و اتته»(2)

و على نفس الضابطة فانّ من اشتغل و اهتم بأمر الآخرة، سيصلح الله تعالى له أمر دنياه»(3) قال علیه السلام : «من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه» و قال علیه السلام : «من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه»(4). و قال الله علیه السلام : «من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها»(5)

و على العكس من هذا فانّ من ترك الآخرة للوصول إلى الدنيا سيتضرر كثيراً، قال علیه السلام : «لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم الّا فتح الله عليهم ما هو أضرّ منه» (6).

ص: 25


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 98
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 81
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 84
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 411
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 419
6- المصدر نفسه، قصار الحكم 101

(1) الاعتبار من الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «و خلّف لكم عبراً من آثار الماضين قبلكم، من مستمتعِ خلاقهم و مستفسحِ خناقهم، أرهقتهم المنايا دون الآمال، و شذّبهم عنها تخرّم الآجال، لم يمهدوا في سلامة الأبدان، و لم يعتبروا في أنف الأوان ... عباد الله أين الذين عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا، و اُنظروا فلهوا، و سُلّموا فنسوا، أمهلوا طويلاً، و منحوا جميلاً، وحدّروا أليماً، و وعدوا جسيماً» (1).

و قال علیه السلام: «فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع، و اعتبروا بالآي السواطع، و ازدجروا بالنذر البوالغ، و انتفعوا بالذكر و المواعظ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية، و انقطعت منكم علائق الامنية، و دهمتكم مفظعات الامور، و السياقة إلى الورد المورود» (2).

وقال علیه السلام : «فاعتبروا عباد الله، و اذكروا تيك التي آباؤكم بها مرتهنون، و عليها محاسبون، و لعمري ما تقدمت بكم ولا بهم العهود، و لا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب و القرون، و ما أنتم اليوم من يوم

ص: 26


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 82
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 84

كنتم في أصلابهم ببعيد»(1)

و قال علیه السلام : «أوليس لكم في آثار الأولين مزدجر، و في آبائكم الماضين تبصرة و معتبر، إن كنتم تعقلون، أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و الى الخلف الباقي لا يبقون، أولستم ترون أهل الدنيا يمسون و يصبحون على أحوال شتى: فميّت يُبكي، وآخر يُعزّى، و صريع مبتلى، و عائد يعود، و آخر بنفسه يجود، و طالب للدنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه» (2)

وقال علیه السلام : «رحم الله امرأ تفكّر فاعتبر، و اعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن، و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، و كل معدود منقض، و كل متوقع آت، و كل آت قريب دان» (3).

و قال له: «ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، و أبقى آثاراً، و أبعد آمالاً، وأعدّ عديداً، و أكثف جنوداً، تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، و آثروها أي ايثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، و لا ظهر قاطع، فهل بلغكم انّ الدنيا سخت لهم نفساً بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة، بل أرهقتهم بالفوادح، و أوهنتهم بالقوارع، و ضعضعتهم بالنوائب، و عفّرتهم للمناخر، و وطئتهم بالمناسم، وأعانت عليهم ريب المنون، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها و آثرها و أخلد اليها

ص: 27


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 88
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 98
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 102

حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، هل زوّدتهم الّا السغب، أو أحلّتهم الّا الضنك، أو نوّرت لهم الّا الظلمة، أو أعقبتهم الّا الندامة، أفهذه تؤثرون أم عليها تطمئنون، أم عليها تحرصون، فبئست الدار لمن لم يتهمها، و لم يكن فيها على وجل منها»(1)

و من كلام له علیه السلام: قبل موته: «و ستعقبون منّي جثة خلّاء، ساكنة بعد حراك، و صامتة بعد نطق، ليعظكم هدوّي، و خفوت إطراقي، و سكون أطرافي، فانّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع» (2).

و قال علیه السلام : «فلينتفع امرؤ بنفسه، فانّما البصير من سمع فتفكّر، و نظر فأبصر، و انتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي، و الضلال في المغاوي»(3)

وقال علیه السلام : «انّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة، أين الفراعنة و أبناء الفراعنة، أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين، أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الالوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن ؟ !» (4)

وقال علیه السلام : فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، و كان قد عبد الله ستة الآف سنة، لا يُدرى أمن

ص: 28


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 110
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 149
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 153
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182

سنيّ الدنيا أم سنيّ الآخرة، عن كبر ساعة واحدة، فمن بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته، كلّا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، أنّ حكمه في أهل السماء و أهل الأرض لواحد، و ما بين الله و بين أحد من خلقه هوادة في اباحة حمى حرّمه على العالمين»(1).

و قال علیه السلام : «واعتبر بما مضى من الدنيا ما بقي منها، فانّ بعضها يشبه بعضاً، و آخرها لاحق بأوّلها، وكلها حائل مفارق» (2).

وقال علیه السلام : «معاشر الناس اتقوا الله، فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، و بان ما لا يسكنه، و جامع ما سوف يتركه، و لعلّه من باطل جمعه، و من حق منعه، أصابه حراماً، و احتمل به آثاماً، فباء بوزره و قدم على ربه آسفاً لاهفاً، قد خسر الدنيا و الآخرة، ذلك هو الخسران المبين» (3).

و ختاماً يجمع هذا كله قوله علیه السلام : «ما أكثر العبر و أقلّ الاعتبار» (4).

و الخلاصة انّ أوجه الاعتبار كثيرة، منها الاعتبار بأحوال الماضين، و ما كانوا عليه و ما صاروا إليه، و منها أحوال الموتى، و منها تقلّبات الدنيا و عدم بقائها على و تيرة واحدة، و كذلك سرعة انقضائها، و منها أحوال ابليس و ما آل أمره إليه، و انّه ليس بين الله و بين أحد من خلقه هوادة، و انّ حكمه في أهل السماء و أهل الأرض واحد.

ص: 29


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 69
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 334
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 288

(7) الاغترار بالدنيا

اشارة

من الأمور التي حذّر منها أمير المؤمنين علیه السلام كثيراً، هو عدم الاغترار بالدنيا، و هذا ما دأب عليه دوماً و أكثر منه بأدنى حجة و في أكثر مناسبة، فبيّن غدر الدنيا و فناءها و سرعة انقضائها وغيرها من الصفات المذمومة، و نبّه على عدم الاغترار بها قائلاً: «أيّها الناس، انّ الدنيا تغرّ المؤمّل لها و المخلد اليها، و لا تنفس بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها (1)

وقال علیه السلام في وصف أبناء الدنيا: «أنسوا بالدنيا فغرتهم، و وثقوا بها فصرعتهم» (2)

و قال علیه السلام : «و لا تغرّنكم الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية، و القرون الخالية، الذين احتلبوا درتها، و أصابوا غرتها، و أفنوا عدتها، و أخلقوا جدّتها» (3).

و قال علیه السلام مخاطباً الدنيا: أين القرون الذين غررتهم بمداعبكِ،

ص: 30


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 178
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 188
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229

أين الامم الذين فتنتهم بزخارفكِ، هاهم رهائن القبور، و مضامين اللحود، و الله لو كنتِ شخصاً مرئياً و قالباً حسياً، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، و امم ألقيتِهِمْ في المهاوي، و ملوك أسلمتهم إلى التلف، و أوردتهم موارد البلاء» (1)

و من نتائج الاغترار بالدنيا امور:

ألف: نسيان الله تعالى

قال علیه السلام : «من عظمت الدنيا في عينه، و كبر موقعها من قلبه، آثرها على الله، فانقطع اليها و صار عبداً لها» (2).

ب: ترك الهدى و البينات

قال علیه السلام في وصف أهل البغي الذين حاربهم: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة و مرقت اخرى و فسق آخرون، كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (3) بلى و الله سمعوها و وعوها، و لكنّهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها» (4).

ج: التمسك بالدنيا

قال علیه السلام : «و مثل من اغترّ بها كمثل قوم

ص: 31


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 45
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160
3- القصص: 83
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم 3

كانوا بمنزل،خصيب، فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره اليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه و يصيرون إليه» (1)

و قال علیه السلام: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة» (2).

د: نسيان الموت

قال علیه السلام و قد تبع جنازة فسمع رجلاً يضحك: «كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحق فيها على غيرنا وجب، و كأنّ الذي نرى من الأموات سفرّ عمّا قليل الينا راجعون، نبوّئهم أجداثهم، و نأكل تراثهم، كأنّا مخلّدون، قد نسينا كل واعظ و واعظة، ورمينا بكل جائحة» (3)

ه_: الغفلة

قال علیه السلام: «فانّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم، الجزعتم و وهلتم، و سمعتم و أطعتم، و لكن محجوب عنكم ما عاينوا، و قريب ما يطرح الحجاب»(4)

و قال علیه السلام : «ألا و انّي لم أر كالجنة نام طالبها، و لا كالنار نام هاربها» (5)

ص: 32


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 31
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 116
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 20
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 28

و قال علیه السلام : «و لو تعلمون ما أعلم ممّا طُوي عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصعدات، تبكون على أعمالكم، و تلتدمون على أنفسكم، و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا خالف عليها، و لهمّت كل امرئ منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها، و لكنكم نسيتم ما ذكّرتم، و أمنتم ما حُذّرتم فتاه عنكم رأيكم، و تشتت عليكم أمركم».(1)

وقال علیه السلام: «كم من مستدرج بالاحسان إليه، و مغرور بالستر عليه، و مفتون بحسن القول فيه، و ما ابتلى الله أحداً بمثل الاملاء له» (2).

و قال علیه السلام : «يا أسرى الرغبة أقصروا فان المعرِّج على الدنيا لا يروعه منها الّا صريف أنياب الحدثان»(3)

و أخيراً ندعو الله تعالى و نقول كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و نحن نستقيل الله عثرة الغفلة» (4)

ص: 33


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 115.
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 110
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 349
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 361

(8) التحذير من الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أمّا بعد فانّي اُحذّركم الدنيا، فانّها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، و تحببت بالعاجلة، و راقت بالقليل، و تحلّت بالآمال، و تزيّنت بالغرور، لا تدوم حَبرتها، و لا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة، غوّالة، لا تعدو – إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها و الرضا بها - أن تكون كما قال الله سبحانه و تعالى: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (1).

لم يكن امرؤ منها في حبرة الا أعقبته بعدها عبرة، و لم يلق من سرّائها بطناً الّا منحته من ضرّائها ظهراً، و لم تَطْلِّه فيها ديمة رخاء الّا هتنت عليه مزنة بلاء، و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، و إن جانب منها اعذوذب و احلولى أمرّ منها جانب فأوبي.

لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً، الّا أرهقته من نوائبها تعباً، و لا يمسي منها في جناح أمن، الّا أصبح على قوادم خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من أزوادها الّا التقوى.

ص: 34


1- الكهف: 45

من أقل منها استكثر ممّا يؤمنه، و من استكثر منها استكثر مما يوبقه، و زال عمّا قليل عنه، كم من واثق بها قد فجعته، و ذي طمأنينة إليها قد صرعته، و ذي أبّهة قد جعلته حقيراً، و ذي نخوة قد ردّته ذليلاً، سلطانها دول، و عيشها رنق، و عذبها أجاج، و حلوها صبر، و غذاؤها سمام، و أسبابها رمام، حيّها بعرض موت، و صحيحها بعرض سقم، ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، و جارها محروب.

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، وأبقى آثاراً، و أبعد آمالاً، و أعدّ عديداً، و أكثف جنوداً، تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، و آثروها أيّ إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ و لا ظهر قاطع.

فهل بلغكم انّ الدنيا سخت لهم نفساً بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة، بل أرهقتهم بالفوادح، و أوهنتهم بالقوارع، و ضعضعتهم بالنوائب، و عفّرتهم للمناخر، و وطئتهم بالمناسم، و أعانت عليهم ريب المنون، فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها، و آثرها و أخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد.

هل زودتهم الّا السغب؟ أو أحلّتهم الّا الضنك؟ أو نوّرت لهم الّا الظلمة؟ أو أعقبتهم الّا الندامة؟ أفهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدّار لمن لم يتهمها، و لم يكن على وجل منها.

فاعلموا - و أنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها و ظاعنون عنها، و اتعظوا فيها بالذين قالوا من أشدّ منّا قوّة، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً، و أنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، و جعل لهم من الصفيح أجنان، و من التراب أكفان، و من الرفات جيران فهم جيران لا يجيبون

ص: 35

داعياً، و لا يمنعون ضيماً، ولا يبالون مندبةً، إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطناً، و بالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاؤوها كما فارقوها، حفاةً عراةً، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية، كما قال الله سبحانه: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (1)» (2).

و قال علیه السلام : «وأحذّركم الدنيا، فانّها منزل قلعة، وليست بدار نجعة قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزینتها، دارهانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرّها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يصفها الله لأوليائه، ولم يَضِنّ بها على أعدائه، خيرها زهيد، وشرّها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يُسلب و عامرها يخرب. فما خير دار تُنقض نقض البناء، و عمر يفنى فناء الزاد، و مدة تنقطع انقطاع السّير» (3).

وقال علیه السلام : « ... و وصف لكم الدنيا و انقطاعها، وزوالها وانتقالها، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، أقرب دار من سخط الله، وأبعدها من رضوان الله! فغضوا عنكم - عباد الله - غمومها وأشغالها، لما قد أيقنتم به من فراقها وتصرّف حالاتها.

ص: 36


1- الأنبياء: 104
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 110
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112

فاحذروها حذر الشفيق الناصح، و المجد الكادح، واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم: قد تزايلت أوصالهم، و زالت أسماعهم و أبصارهم، و ذهب شرفهم وعزّهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم؛ فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها، وبصحبة الأزواج مفارقتها. لا يتفاخرون، ولا يتناصرون، ولا يتناسلون، ولا يتزاورون، ولا يتجاورون.

فاحذروا عباد الله، حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، النّاظر بعقله؛ فانّ الأمر واضح، والعلم قائم، والطريق جدد، والسبيل قصد» (1).

وقال علیه السلام : «واحذّركم الدنيا، فانّها دار شخوص، ومحلّة تنغيص، ساكنها ظاعن، وقاطنها بائن، تميد بأهلها مَيَدان السفينة تصفقها العواصف في لجج البحار، فمنهم الغرق الوبق، ومنهم الناجي على متون الأمواج، تحفزه الرياح بأذيالها، وتحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدرك، وما نجا منها فالى مهلك»(2)

و قال علیه السلام : «فاحذروا الدنيا فانّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رضاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها» (3).

و قال علیه السلام : «اتق الله في كل صباح و مساء، وخف على نفسك الدنيا الغرور، و لا تأمنها على حال، و اعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروهه، سَمَت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، و لنزوتك عند الحفيظة واقماً قامعاً» (4).

ص: 37


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 161
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 196
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 56.

(9) نبذ الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرظ، وقراضة الجلم، واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فانّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم» (1).

وقال علیه السلام : أوصيكم عباد الله بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبّوا تركها، و المبلية لأجسادكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فانّما مثلكم ومثلها كسَفْر سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوه، و أمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري اليها حتى يبلغها، و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، و طالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها، فلا تنافسوا في عزّ الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها، فانّ عزّها و فخرها إلى انقطاع، وزينتها ونعيمها إلى زوال، وضرّاءها وبؤسها إلى

ص: 38


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 32

نفاد وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حيّ فيها إلى فناء» (1)

وقال علیه السلام: «انّ السعداء بالدنيا غداً هم الهاربون منها اليوم» (2).

وقال علیه السلام : «فقطّعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى» (3).

و قال علیه السلام : «ألا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها، انّه ليس لأنفسكم ثمن الّا الجنة، فلا تبيعوها الّا بها» (4).

ص: 39


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 98
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 222
3- لمصدر نفسه الخطبة رقم 205
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 444

(10) سرعة انقضاء الدنيا

انّ الفترة الزمنية التي يعيشها الانسان في الدنيا بالنسبة إلى عالم الخلود الذي سيرحل إليه، لا تكون الّا قليلة، ولذا جاء في الذكر الحكيم: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * ققَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (1) و كما في الحديث الشريف: «الدنيا ساعة فاجعلها في طاعة»(2)

انّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام مشحون بتذكير سرعة انقضاء الدنيا و حلول الموت، فيقول علیه السلام : «انّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهور، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر»(3)

ويقول أيضاً: «الأمر قريب والاصطحاب قليل» (4).

ويقول: «الرحيل وشيك» (5) «ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به،

ص: 40


1- المؤمنون: 112 - 113
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور 1: 285 ح 131
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 188
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 69
5- المصدر نفسه، قصار الحكم: 177

و أبعد الميت من الحىّ لانقطاعه عنه»(1) «و لينظر امرؤٌ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً» (2) «اذا كنت في إدبار و الموت في اقبال فما أسرع الملتقى»(3) و يحذرنا علیه السلام و يقول: «فاحذروا عباد الله الموت وقربه» (4)و يقول لابنه الحسن (5): «وكأنّك عن قليل صرت كأحدهم» (6).

و المتصفح لنهج البلاغة يجد الكثير من هذه العبارات التي تذكّرنا بقرب الرحيل وسرعة انقضاء الدنيا، وإليك بعضها:

«أما بعد فانّ الدنيا قد أدبرت و آذنت بوداع، وانّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع»(7)

«فكان قد علقتكم مخالب المنية، وانقطعت منكم علائق الامنية، و دهمتكم مفظعات الأمور، والسياقة إلى الورد المورود(8).

«فائّها [أي الدنيا] والله عمّا قليل تزيل الشاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن ... فلا يغرنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها»(9)

ص: 41


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 113
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 214
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 490
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 27
5-
6- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 28
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم 84
9- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 102

«و ما هو الّا الموت أسمع داعيه، و أعجل حاديه» (1)

«ما أقرب اليوم من تباشير غد» (2).

«واعلموا انّ ملاحظ المنية نحوكم دانية، وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور ومعضلات المحذور» (3).

و لترسيخ هذه الفكرة في أذهاننا و قلوبنا يستخدم أمير المؤمنين علیه السلام اسلوب التشبيه، فتارة يشبّه سرعة انقضاء الدنيا ببقية الماء في الاناء ويقول: «ألا وانّ الدنيا قد ولّت حذاء، فلم يبق منها الّا صبابة كصبابة الاناء اصطبها صابها» (4) «ألا و انّ الدنيا قد تصرمت و آذنت بانقضاء ... فلم يبق منها الّا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع» (5)

وتارة يشبّه سرعة انقضائها بالظل ويقول: «فائّها عند ذوي العقول كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص» (6).

و اخرى بالمسافر فيقول: «فائّما مثلكم و مثلها كسَفْرِ سلكوا سبيلاً

ص: 42


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 133
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 150
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 204
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 42
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 52
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 62

فكأنّهم قد قطعوه، وأمّوا علماً فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها» (1) «فانّما أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير» (2). «انّ أهل الدنيا كركب بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا» (3) و أنتم بنو سبيل على سَفَر من دار لیست بداركم»(4)

«وأخيراً التمثيل بالليل و النهار ومجيء الشمس والقمر، إذ انّ الشمس والقمر دائبان في مرضاته، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد» (5). «و انّ غائباً يحدوه الجديدان: الليل والنهار، لحريّ بسرعة الأوبة» (6)

ويقول لابنه الإمام الحسن علیه السلام : «واعلم انّ من كانت مطيته الليل والنهار، فانّه يُسار به وإن كان واقفاً، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً»(7). ويقول علیه السلام : «وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى وشهر انقضى»(8)

ص: 43


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 98
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 157
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 403
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 183
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 89
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 63
7- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
8- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190

فلماذا هذه الغفلة يا انسان، ألا تعلم أنّ «نفس المرء خطاه إلى أجله»(1) و «رب ور مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليله قامت بواكيه في آخره» (2) و ليس هذا الّا من طول الأمل و الاغترار بالدنيا، إذ «لو رأى العبد الأجل ومسيره لأبغض الأمل وغروره» (3).

و هذا ما ينبهنا عليه أمير المؤمنين علیه السلام ويقول: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة»(4). و هذا هو سبب هلاك الماضين حيث يقول علیه السلام : «انّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، وتغيّب آجالهم» (5).

فعلينا أن نستعد ونخشى حلول الموت ونحن في غفلة عنه، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل».

ص: 44


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 69
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 370
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 325
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 112
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 147

(11) أصناف الناس في الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «الناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض الّا مهانة نفسه، وكلالة حدّه، و نضيض وفره و منهم المصلت لسيفه، و المعلن بشرّه، و المجلب بخيله و رجله، قد أشرط نفسه، و أوبق دينه لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه. و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، و مما لك عند الله عوضاً.

و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، و قارب من خطوه وشمّر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، و اتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.

و منهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلّى باسم القناعة، و تزيّن بلباس أهل الزهادة، و ليس من ذلك في مراح و لا مغدىً.

و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادٍّ، و خائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وثكلان موجع، قد أخملتهم التّقیّة و شملتهم الذلّة فهم في بحر

ص: 45

أجاج، أفواههم ضامزةٌ، و قلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملّوا، و قهروا حتى ذلّوا، و قتلوا حتى قلّوا.

فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرض، و قراضة الجلم، و اتَّعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم؛ و ارفضوها،ذميمةً فانّها قد رفضت من كان أشغف بها منكم»(1).

و قال علیه السلام لكميل: «الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، و متعلّم على سبيل نجاة، و همج رعاع، أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، و لم يلجؤوا إلى ركن وثيق.

يا كميل، العلم خير من المال: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، و المال تنقصه النفقة، و العلم يزكو على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله.

ياكميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به، به یکسب الانسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، و العلم حاكم، و المال محكوم عليه.

ياكميل بن زياد، هلك خزِّان الأموال و هم أحياء، و العُلماء باقون ما بقي الدّهر: أعيانهم مفقودة، و أمثالهم في القلوب موجودة.

ها انّ هاهنا لعلماً جمّاً (و أشار إلى صدره) لو أصبت له حملة، بلى أصبت لقناً غير مأمون عليه، مستعملاً آلة الدّين للدنيا، و مستظهراً بنعم الله على عباده، و بحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحقّ، لا بصيرة

ص: 46


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 32

له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأوّل عارض من شبهة.

ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً بالّلذّة، سلس القياد للشّهوة، أو مغرماً بالجمع والادّخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبهاً بهما الأنعام السّائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه.

اللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته.

و كم ذا و أين أولئك؟ أولئك - والله - الأقلّون عدداً، و الأعظمون قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته، حتى يودعوها نظراءهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، و باشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، و الدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم»(1).

و قال علیه السلام: «الناس في الدنيا عاملان: عامل عمل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر، ويأمنه على نفسه، فيفني عمره في منفعة غيره.

و عامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظّين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله، لا يسأل الله حاجةٌ فيمنعه» (2).

ص: 47


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 137
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 260

و قال علیه السلام الجابر بن عبد الله الأنصاري: «ياجابر، قوام الدين و الدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، و جاهل لا يستنكف أن يتعلّم، و جواد لا يبخل بمعروفه، و فقير لا يبيع آخرته بدنياه؛ فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم، و إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه.

ياجابر، من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب عرّضها للدوام و البقاء، ومن لم يقم الله فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء» (1).

و قال علیه السلام : «الدنيا دار ممرّ إلى دار مقرّ، و الناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، و رجل ابتاع نفسه فأعتقها» (2).

وقال علیه السلام : «لا خير في الدنيا الا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، و رجل يسارع في الخيرات» (3).

و قال علیه السلام : «انّ أبغض الخلائق إلى الله تعالى رجلان: رجل وكَلَه الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشعوف بكلام بدعة، و دعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته، حمّالٌ خطايا غيره، رهنٌ بخطيئته.

و رجل قمش جهلاً، موضع في جهال الأمّة، غار في أغباش

ص: 48


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 362
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 126
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 89

الفتنة، عم بما في بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً و ليس به، بکَّر فاستكثر من جمع، ما قلّ منه خيرٌ ممّا كثر، حتى إذا ارتوى من ماء أجن، و أكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت: لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب.

جاهل خبّاط جهلات، عاش ركّاب عشوات، لم يعضَّ على العلم بضرس قاطع، يُذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليٌ - و الله - بإصدار ما ورد عليه، و لا هو أهل لما فوض إليه، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره، و لا يرى انّ من وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره، و إن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ منه المواريث.

إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً، و يموتون ضلَّالاً، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعاً و لا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرِّف عن مواضعه، و لا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر»(1)

و قال علیه السلام : «عباد الله، انّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، و انّ

ص: 49


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 17

أغشّهم لنفسه أعصاهم لربه»(1)

و قال علیه السلام : «عباد الله انّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، و تجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، و أعد القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشديد، نظر فأبصر، و ذكر فاستكثر، و ارتوى من عذب فرات سهِّلت له موارده، فشرب نهلاً، و سلك سبيلاً جدداً.

قد خلع سرابيل الشهوات، و تخلّى من الهموم، إلّا هماًّ واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى، و مشاركة أهل الهوى، و صار من مفاتيح أبواب الهدى، و مغاليق أبواب الردى.

قد أبصر طريقه، و سلك سبيله، و عرف مناره، و قطع غماره، و استمسك من العرى بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه الله - سبحانه – في أرفع الأمور، من إصدار كل وارد عليه، و تصيير كل فرع إلى أصله. مصباح ظلمات، کشّاف غشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم.

قد أخلص لله فاستخلصه، فهو من معادن دينه، و أوتاد أرضه قد ألزم نفسه العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحقّ و يعمل به، لا يدع للخير غايةً إلّا أمّها، و لا مظنّةً إلّا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده و إمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله، وينزل حيث كان منزله.

ص: 50


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 85

و آخر قد تسمّى عالماً و ليس به، فاقتبس جهائل من جهّال، و أضاليل من ضلَّال، و نصب للنّاس أشراكاً من حبال غرور، و قول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، و عطف الحقّ على أهوائه، يؤمن من العظائم، ويهوّن كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات و فيها وقع، و يقول: أعتزل البدع و بينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، و القلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، و لا باب العمى فيصدّ عنه، فذلك ميّت الأحياء» (1).

و قال علیه السلام : «انّ من أبغض الرجال إلى الله لعبد و كله الله إلى نفسه، جائر عن قصد السبيل، سائر بغير دليل، إن دُعي إلى حرث الدنيا عمل، و الى حرث الآخرة كسل، كأنّ ما عمل له واجب عليه، وكأنّ ما وَنى فيه ساقط عنه» (2)

وقال علیه السلام: «انّ أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه - وإن نقصه و كرثه - من الباطل وإن جرّ إليه فائدة وزاده» (3).

و قال علیه السلام : «انّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هُدِيَ وَ هَدَى، فأقام سُنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة، وإن السنن لنيّرة، لها أعلام، و إنّ البدع لظاهرة لها أعلام، و إنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ و ضُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة و إني سمعت

ص: 51


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 86
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 102
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 125

رسول الله علیه السلام يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها» (1).

و قال علیه السلام : «إنّ أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله، فورّثه رجلاً فأنفقه في طاعة الله سبحانه، فدخل به الجنة، و دخل الأوّل به النار» (2).

و قال علیه السلام : «إنّ أخسر الناس صفقةً، و أخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب آماله، و لم تساعده المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، و قدم على الآخرة بتبعته» (3).

ص: 52


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 164
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 417
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 418

(12) ضعف الإنسان في الدنيا

و قال أمير المؤمنين علیه السلام : «لقد عُلِّق بنياط هذا الإنسان بضعةٌ أعجب ما فيه: و ذلك القلب، و له موادّ من الحكمة و أضداد من خلافها، فإن سنح له الرّجاء أذلّه الطمع، و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص، و إن ملكه اليأس قتله الأسف، و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، و إن أسعده الرضا نسي التحفّظ، إن غاله الخوف شغله الحذر، و إن اتّسع له الأمن استلبته الغرة، و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع، و إن أفاد مالاً أطغاه الغنى، و إن عضّته الفاقة شغله البلاء، و إن جهده الجوع قعد به الضعف، و إن أفرط به الشبع كظّته البطنة، فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد» (1).

و قال علیه السلام : «ما لابن آدم و الفخر، أوّله نطفة، و آخره جيفة، و لا يرزق نفسه، و لا يدفع حتفه»(2)

ص: 53


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 103
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 441

(13) حب الدنيا

اشارة

صحيح انّ «الناس أبناء الدنيا و لا يلام الرجل على حبه امّه» (1)

و لكن ليس هذا معناه الانخداع بالدنيا و الاغترار بها الملازم لنسيان الآخرة، بل معناه انّ الناس خلقوا من تراب الدنيا، واودعت فيهم غرائز و شهوات لتلبية حاجاتهم الطبيعية، و استخدامها في الخيرات و المبرات، و هذه العلقة الجزئية لا ضير فيها إذ هي سلّم الكمال.

و المذموم انّما هو الانخداع و الاغترار بها، و هذا هو ما قال عنه أمير المؤمنين علیه السلام : «أعظم الخطايا حب الدنيا»(2) و قال علیه السلام : «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(3) وقال علیه السلام : «الوله بالدنيا أعظم فتنة» (4).

نستفيد من كلام أمير المؤمنين علیه السلام الوارد في نهج البلاغة و غيرها انّه ينتج من حب الدنيا مضار و مهالك كثيرة، نشير إلى أهمّها فيما يلي:

ص: 54


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 303
2- تصنيف غرر الحكم للآمدي رقم: 2461
3- المصدر نفسه: 2519
4- المصدر نفسه 2448

ألف: نسيان الله تعالى

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «من عظمت الدنيا في عينه، و كبر موقعها في قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع اليها و صار عبداً لها» (1) و قال علیه السلام : «كيف يدّعي حب الله من سكن قلبه حب الدنيا» (2)و قال علیه السلام : «إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا» (3).

ب: نسيان الآخرة

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «انّ الدنيا و الآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا و تولّاها أبغض الآخرة و عاداها، و هما بمنزلة المشرق و المغرب، و ماش بينهما كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرّتان»(4). وقال علیه السلام : «كيف يعمل للآخرة المشغول بالدنيا»(5). وقال علیه السلام: «لا تجتمع الآخرة و الدنيا» (6).

ج: الابتلاء و الشقاء و الهلاك

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إياك و الوله بالدنيا، فانّها تورثك الشقاء و البلاء، و تحدوك على بيع البقاء بالفناء»(7). و قال علیه السلام : «سبب الشقاء حب الدنيا»(8). و قال علیه السلام :

ص: 55


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 160
2- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 2512
3- المصدر نفسه: 2510
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 98
5- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 2487
6- المصدر نفسه: 2507
7- المصدر نفسه: 2460
8- المصدر نفسه 2463

«كلّما ازداد المرء بالدنيا شغلاً و زاد بها ولهاً، أوردته المسالك و أوقعته في المهالك» (1).

د: البعد عن التقوى و التورط في الآثام

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «حرام على كل قلب متولّه بالدنيا أن يسكنه التقوى» (2).

و قال علیه السلام : «حب الدنيا يوجب الطمع»(3)

و قال علیه السلام : «من لهج قلبه بحب الدنيا التاط قلبه منها بثلاث: هم لا يغنيه، و حرص لا يتركه و أمل لا يدركه» (4).

ص: 56


1- تصنيف غرر الحكم للآمدي: 2465
2- المصدر نفسه 2521
3- المصدر نفسه: 2520
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 218

(14) ضابطة - الفرح و السرور في الدنيا

يمرّ الانسان في حياته لا محالة بما يسرّه أو يسوؤه، و هذا لا ينفك عن الانسان، و هنا يعطينا أمير المؤمنين علیه السلام ضابطة جميلة لتعديل الفرح و السرور و المساءة، إذ انه علیه السلام ينتهز الفرصة دوماً لينقل الانسان إلى ما وراء هذا الظاهر الخدّاع، وينبّهه انّ هذا الظل الزائل لا يستحق كثير فرح أو مساءة فيه، و العمدة هو الآخرة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «أما بعد، فانّ المرء قد يسّره درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها، و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً، و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعاً، و ليكن همّك فيما بعد الموت» (1).

ص: 57


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 22

وقال علیه السلام: «أما بعد، فانّ العبد ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، و لكن إطفاء باطل أو إحياء حق، و ليكن سرورك بما قدّمت و أسفك على ما خلّفت، و همّك فيما بعد الموت» (1).

ص: 58


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 66

(15) أهل الدنيا

لأهل الدنيا علامات و سمات وردت في كلام أمير المؤمنين علیه السلام و هي خير ميزان لنا لنعرف هل انّنا من أهل الدنيا أو من أهل الآخرة؟! و نعالج الخلل مهما أمكن قبل الفوت و حلول الموت.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، و قارب من خطوه، و شمّر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، و اتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية، و منهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلّى باسم القناعة، و تزيّن بلباس أهل الزهادة، و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى» (1).

و قال علیه السلام : «حتى إذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبراً، و خبط سادراً، ماتحاً في غرب هواه، كادحاً سعياً لدنياه، في لذّات طربه، و بدوات أربه، لا يحتسب رزية، و لا يخشع تقية، فمات في فتنته غريراً، و عاش في هفوته أسيراً، لم يُفد عوضاً و لم يقض مفترضاً» (2).

ص: 59


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 32
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 82

و قال علیه السلام : «أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبّها، و من عشق شيئاً أعشى بصره و أمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، و أماتت الدنيا قلبه، و ولهت عليه نفسه، فهو عبد لها و لمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من الله بزاجر، و لا يتعظ منه بواعظ» (1).

و قال علیه السلام : «ازدحموا على الحطام، و تشاحّوا على الحرام، و رُفع لهم عَلَم الجنة و النار، فصرفوا عن الجنة وجوههم، و أقبلوا إلى النار بأعمالهم، دعاهم ربهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشيطان فاستجابوا

و أقبلوا» (2).

و قال علیه السلام : «يتنافسون في دنيا دنية، و يتكالبون على جيفة مريحة، و عن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند اللقاء» (3).

و قال علیه السلام : «من عظمت الدنيا في عينه، و كبر موقعها من قلبه، آثرها على الله، فانقطع اليها و صار عبداً لها» (4).

و قال علیه السلام: «أيّها الغافلون غير المغفول عنهم، و التاركون المأخوذ منهم، مالي أراكم عن الله ذاهبين، و الى غيره راغبين، كأنّكم نَعَمٌ أراح

ص: 60


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 108
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 144
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 151
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160

بها سائم إلى مرعى وبي، و مشرب دويّ، و انّما هي كالمعلوفة للمُدى، لا تعرف ماذا يراد بها، إذا احسن اليها تحسب يومها دهرها و شبعها أمرها» (1).

و قال علیه السلام : «وإياك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا اليها وتكالبهم عليها، فقد نبّأك الله عنها، و نعت لك نفسها، و تكشفت لك عن مساويها، فانّما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ بعضها بعضاً، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها، نَعَم معقّلة، و اخرى مهملة، قد أضلّت عقولها، و ركبت مجهولها، سروح عامة بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسیم يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى، و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، و غرقوا في نعمتها، و اتخذوها رباً، فلعبت بهم و لعبوا بها، ونسوا ما وراءها» (2).

و قال علیه السلام : «أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام»(3)

وقال علیه السلام لرجل سأله أن يعظه: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويرجِّى التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، و يعمل فيها بعمل الراغبين، إن أُعطي منها لم يشبع، و إن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، و يبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى و لا ينتهي، و يأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، و يبغض المذنبين و هو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، و يقيم على ما يكره

ص: 61


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 175
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 59

الموت له، إن سقم ظل نادماً، و إن صحّ أمن لاهياً، يعجب بنفسه إذا عوفي، و يقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعا مضطراً، و إن ناله رخاء أعرض مغتراً، تغلبه نفسه على ما يظن، و لا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، و يرجو لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر وفتن، و إن افتقر قنط و وهن، يقصّر إذا عمل، و يبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية و سوّف التوبة، و إن عرته محنة انفرج عن شرائط الملّة، يصف العبرة و لا يعتبر، و يبالغ في الموعظة و لا يتعظ، فهو بالقول مدلّ، و من العمل مقل، ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرماً، و الغرم مغنماً، يخشى الموت و لا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، و يستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن و لنفسه مداهن، اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه و لا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره و يغوي نفسه، فهو يطاع و يعصي، و يستوفي ولا يوفي، و يخشى الخلق في غير ربه، و لا يخشى ربّه في خلقه» (1).

ص: 62


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 140

(16) الأنبياء علیهم السلام و الدنیا

يشير أمير المؤمنين علیه السلام - على ما ورد في نهج البلاغة - إلى زهد بعض الأنبياء علیهم السلام في الدنيا، و هم كل من موسى و داود و عيسى علیهم السلام، و ذلك تنبيهاً لنا على ما كانوا عليه، لنتأسى بهم و نخطو خطاهم، قال بعد ما ذكر النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

«و إن شئت ثنيّت بموسى كليم الله إذ يقول: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(1) و الله ما سأله الّا خبزاً يأكله، لانه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل تُرى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله و تشذّب لحمه.

و إن شئت ثلّثتُ بداود صاحب المزامير، و قارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، و يقول الجلسائه: أيكم يكفيني بيعها، و يأكل قرص الشعير من ثمنها.

ص: 63


1- القصص: 24

و إن شئت قلتُ في عيسى بن مريم، فلقد كان يتوسّد الحجر، و يلبس الخشن، و كان إدامه الجوع، و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يخونه و لا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابته رجلاه، و خادمه يداه»(1)

ص: 64


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 160

(17) النبي صلی الله علیه و آله و سلم و الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف النبي صلی الله علیه و آله و سلم : «قد حقّر الدنيا وصغّرها، و أهون بها و هوّنها، و علم انّ الله تعالى زواها عنه اختياراً، و بسطها لغيره احتقاراً، فأعرض عن الدنيا بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً» (1).

و قال علیه السلام: «و لقد كان في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كاف لك في الاسوة، و دليل لك على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، و وطئت لغيره أكنافها، و فُطم من رضاعها وزُوي عن زخارفها ... فتأس بنبيك الأطيب الأطهر صلی الله علیه و آله و سلم فانّ فيه أسوة لمن تأسّى، و عزاءً لمن تعزّى - و أحب العباد إلى الله المتأسّي بنبيه، و المقتصّ لأثره - قضم الدنيا قضماً، و لم يعرها طرفاً، أهظم أهل الدنيا كشحاً، و أخمصهم من الدنيا بطناً، عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، و علم أنّ الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، و صغّر شيئاً فصغّره. و لو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله، و تعظيمنا ما صغّر الله، لكفى به شقاقاً لله، و محادّة عن أمر الله.

ص: 65


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 108

ولقد كان صلی الله علیه و آله و سلم يأكل على الأرض، و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يرقع بيده ثوبه، و يركب الحمار العاري، و يُردف خلفه، و يكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: «يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيّبيه عنّي، فانّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها».

فأعرض عن الدنيا بقلبه، و أمات ذكرها من نفسه، و أحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، و لا يعتقدها قراراً، و لا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، و أشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. و كذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، و أن يذكر عنده. و لقد كان في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما يدلك على مساوئ الدنيا و عيوبها: إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله محمداً علیه السلام بذلك أم أهانه ! فإن قال: أهانه، فقد كذب - و الله العظيم - وإن قال: أكرمه، فليعلم انّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه.

فتأسى متأس بنبيه، و اقتصّ أثره، و ولج مولجه، و إلّا فلا يأمن الهلكة، فإنّ الله عز وجل جعل محمداً صلی الله علیه و آله و سلم علماً للساعة، و مبشراً بالجنة، و منذراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً، وورد الاخرة سليماً، لم يضع حجراً على حجر، حتى مضى لسبيله، و أجاب داعي ربّه، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه و قائداً نطأ عقبه» (1).

ص: 66


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 160

(18) علي علیه السلام و الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «أما و الذي فلق الحبة، و برأ النسمة، لولا حضور الحاضر، و قيام الحجة بوجود الناصر، و ما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أولها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (1).

و قال علیه السلام : «أنا كاب الدنيا لوجهها، و قادرها بقدرها، و ناظرها بعينها» (2).

و قال علیه السلام : «و الله لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: اُعزب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى» (3).

و قال علیه السلام : «انّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة

ص: 67


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 128
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160

تقضمها، ما لعلي و نعيم يفنى، و لذّة لا تبقى» (1).

و قال علیه السلام : «ألا و انّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه، ألا و انّكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفة و سداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، و لا ادخرت من غنائمها وفراً، و لا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حُزت من أرضها شبراً، و لا أخذت منه أتان دبرة، و لهي في عيني أوهى وأهون من عفطة مقرة ... و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، و لباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** و حولك أكباد تحنّ إلى القِدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها،علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها و تلهو عمّا يراد بها ... اليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، و أفلتّ من حبائلك، و اجتنبت الذهاب في مداحضك ... اعزبي عنّي فو الله لا أذلّ لك فتستذلّيني، و لا أسلس لك فتقو ديني، وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله عز وجل،

ص: 68


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 223

لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، و تقنع بالملح مأدوماً، و لأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، و تشبع الربيضة من عُشبها فتربض، ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرّت إذاّ عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، و السائمة المرعية» (1).

و في خبر ضرار بن ضمرة لما دخل على معاوية و أمره أن يصف له علياً علیه السلام ، فقال: انّه رآه في الليل وهو يبكي ويقول: «يا دنيا يادنيا، إليك عنّي، أبي تعرّضت أم اليّ تشوّقت؟ لاحان حينك، هيهات غُرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير، آه من قلّة الزاد، و طول الطريق، و بُعد السفر، وعظيم المورد» (2).

و قال علیه السلام : «و الله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» (3).

ص: 69


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 72
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 227

إلى هنا قد انتهينا من ذكر ما ورد على لسان أمير المؤمنين علیه السلام في كتاب نهج البلاغة من ذكر الدنيا، فهذه هي الدنيا و حقيقة حالها، و هذا حال الأنبياء و الأوصياء و الأولياء في التعامل معها، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للاستنان بهم، و الأخذ منها بقدر الضرورة، و التزوّد فيها للآخرة، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين علیهم السلام

ص: 70

الفهرس

تمهيد ... 5

(1) خلق العالم ... 7

ألف: المرحلة الأولى: الماء والهواء ... 7

ب: المرحلة الثانية: السماوات و الأرض ... 8

ج: المرحلة الثالثة: الملائكة ... 9

د: المرحلة الرابعة: الإنسان ... 9

(2) اتمام الحجة في الدنيا ... 11

(3) الدنيا قنطرة ... 15

(4) ذم الدنيا ... 17

(5) مدح الدنيا ... 22

(6) الاعتبار من الدنيا ... 26

(7) الاغترار بالدنيا ... 30

ألف: نسيان الله تعالی ... 31

ب: ترك الهدى و البينات ... 31

ج: التمسك بالدنيا ... 31

د: نسيان الموت ... 32

ه_: الغفلة ... 32

(8) التحذير من بالدنيا ... 34

(9) نبذ بالدنيا ... 38

ص: 71

(10) سرعة انقضاء الدنيا ... 40

(11) أصناف الناس في الدنيا ... 45

(12) ضعف الإنسان في الدنيا ... 53

(13) حب الدنيا ... 54

ألف: نسيان الله تعالى ... 55

ب: نسيان الآخرة ... 55

ج: الابتلاء و الشقاء و الهلاك ... 55

د: البعد عن التقوى و التورط في الآثام ... 56

(14) ضابطة الفرح و السرور في الدنيا ... 57

(15) أهل الدنيا ... 59

(16) الأنبياء علیهم السلام و الدنيا ... 63

(17) النبي صلی الله علیه و آله و سلم و الدنيا ... 65

(18) علي علیه السلام و الدنيا ... 67

الفهرس ... 71

ص: 72

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.