العلاقة مع الآخر في نهج البلاغة

هوية الکتاب

العلاقة مع الآخر في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية

إخراج فني : نصیر شکر

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة : 1432 ه_ / 2011م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 13

العلاقة مع الآخر في نهج البلاغة

إعداد مكتبة الروضة الحيدرية

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

تمهيد

يوجد ترابط وثيق بين ال_ ( أنا) و (الآخر)، حيث انّ الأنا تشكل هوية الإنسان المادية و المعنوية، كما انّ الآخر المخلوق بامكانه أن يكون مرآة للأنا، و السبب في تكوين هذه الهوية من خلال تفاعله الوراثي والبيئي والاجتماعي على الأغلب، وكذلك عامل رئيسي في تنظيم الحياة الاجتماعية، حتى قيل: «انّ الإنسان مدنيّ بالطبع» بمعنى انّه لا يتمكّن أن يعيش إلّا عبر المجتمع و وجود الآخر.

هذا ما دعانا إلى تنظيم هذه الحلقة من «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» حيث نتعرّف على الآخر و كيفية التعامل من خلال نهج البلاغة، و ما جاء على لسان أمير المؤمنين علیه السلام .

و سيتمّ في هذه الحلقة تقسيم الآخر إلى خالق ومخلوق، و المخلوق إما أن يكون مجتمعاً متكوناً من عدّة أشخاص، و إما أن يكون فرداً واحداً، و إما أن يكون شيطاناً، و إما أن يكون ما تحتويه البيئة من سائر المخلوقات.

ص: 5

ثم انّ المجتمع الإنساني إما أن يكون موالياً، أو مخالفاً و معادياً و مفتتناً، أو متخاذلاً.

أما الفرد الواحد فهو أيضاً إما أن يكون نبياً و وصياً، وإما أن يكون حاكماً، وإما أن يكون محكوماً (رعية)، و الحاكم إما أن يكون عادلاً أو ظالماً، و المحكوم إما أن يكون أيضاً موالياً أو مخالفاً، والمخالف إما أن يكون كافراً و ذمياً، أو منافقاً، أو عدواً.

و سنتكلّم إن شاء الله تعالى عن هذه التفريعات للآخر - كما هو مبيّن في الجدول رقم (1) الآتي - كلّ في مورده.

***

ص: 6


1-

ص: 7

ص: 8

1۔ الخالق

أ - الله تعالى هو المبدأ و المنتهى :

لابدّ و أن تكون العلاقة مع الله تعالى هي الأساس في حياة الإنسان، و المنطلق الوحيد لجميع أعماله، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في عهده للأشتر: «و أن ينصر الله سبحانه بقلبه و يده و لسانه فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه» (1).

وقال علیه السلام أيضاً : «من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين النّاس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه» (2)، وبنفس السياق قال علیه السلام أيضاً : «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين النّاس» (3).

ص: 9


1- نهج البلاغة، الكتاب: 53
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 84
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 411

إذن يجب على الإنسان في تعامله مع خالقه، أن يبدأ بإصلاح نفسه ليصبح الخالق هو المبدأ والمنتهى لجميع أعمال الإنسان، وهذا المنطلق هو الذي سيصلح للإنسان باقي أموره الأخروية و الدنيوية، كما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام .

و بعكسه من يكون منطلقه منطلق الهوى والنفس، فإنّه سيخسر في آخرته و دنياه، وإن توهّم بعض النجاح في أموره الدنيوية التي لا تكون إلّا استدراجاً له و بلاء عليه، كما قال علیه السلام : «لا يترك النّاس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح عليهم ما هو أضرّ منه» (1).

ب - معرفة الله تعالى

لابدّ للإنسان بعد مجيئه إلى الدنيا أن يعرف خالقه، إذ انّ «أوّل الدین معرفته» (2) لکن السؤال الذي يطرح نفسه بجد، انّ الإنسان هل يستطيع أن يعرف كنه الباري تعالى، و هل يتمكن أن يحيط به علماً؟!

ربما تختلف المدارس و المذاهب الكلامية في الأديان المختلفة في الإجابة على هذا السؤال، ونحن لسنا هنا بصدد البحث عن الأقوال و الآراء و المناقشات المطروحة في هذا الأمر، و انما الذي يهمنا معرفة رأي

ص: 10


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 101
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 1

أهل البيت السلام في هذه المسألة، إذ انّهم أمناء الله تعالى على وحيه و دينه، و هم أهل الذكر الذين أمرنا بالسؤال عنهم.

و لما نراجع كلام أمير المؤمنين علیه السلام - وهو سيد العترة - في نهج البلاغة، نرى أنّه علیه السلام ينفي استطاعة الإنسان على معرفة كنه الباري تعالى، إذ يقول علیه السلام : «الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن» (1) و قال علیه السلام : «لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تعقد القلوب منه على كيفية» (2).

(3)

وقال صلی الله علیه و آله و سلم : «هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، و حاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عمیقات غیوب ملكوته، وتولّهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلّصة إليه سبحانه، فرجعت إذ جبهت معترفة بانّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، و لا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزّته ... فأشهد انّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، و تلاحم حقاق (4) مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه

ص: 11


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 1
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 84
3-
4- الحقاق: جمع الحق - بالضم - وهو رأس العظم عند المفصل

اليقين بأنّه لاندّ لك، وكأنّه لم يسمع تبرؤ التّابعين من المتبوعين إذ يقولون: ﴿تتَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (1).

كذب العادلون بك، إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم.

فأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافرٌ بما تنزّلت به محكمات آياتك، و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، وإنّك أنت الله الّذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها [ فتكون] محدوداً مصرّفاً» (2).

وقال علیه السلام : «فتبارك الله الذي لا تبلغه بعد الهمم، ولا يناله حدس الفطن» (3).

وقال علیه السلام : «من وصفه فقد حدّه، ومن حده فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله، ومن قال كيف فقد استوصفه، ومن قال أين فقد حيّزه»(4)

ص: 12


1- الشعراء: 97 - 98
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 90
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 93
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 152

وقال علیه السلام : «الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته ... لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلاً» (1).

وقال علیه السلام : «لا يدرك بوهم، ولا يقدّر بفهم»(2).

وقال علیه السلام : « لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه» (3).

بعدما عرفنا عجز الإنسان عن الوصول إلى معرفة كنه الباري، فهل هذا يعني تأييد نظرية تعطيل المعرفة؟! و للإجابة على هذا السؤال جع إلى نهج البلاغة مرّة ثانية، ونرى انّ أمير المؤمنين علیه السلام ينفي نظرية التعطيل، و يشير إلى انّ الإنسان يتمكن من المعرفة الإجمالية التي بها يثاب ويعاقب، فقد قال علیه السلام : «لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته» (4).

و هناك بعض الطرق للوصول إلى هذه المعرفة الإجمالية، وردت في نهج البلاغة، و هي كما يلي:

ص: 13


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 155
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 186
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 49

1 - الأعلام والآيات الإلهية : قال علیه السلام : «فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود» (1)

وقال علیه السلام : «و أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته، ما دلّنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته، وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته، وأعلام حكمته، فصار كلّ ما خلق حجة له ودليلاً عليه، وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة» (2)

وقال علیه السلام : «فلسنا نعلم كنه عظمتك إلّا أنّا نعلم انّك حيّ قیوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر، أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام» (3).

و قال علیه السلام : «الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه، و جلال كبريائه، ما حيّر مقل العقول من عجائب قدرته، وردع خطرات هماهم النفوس(4) عن عرفان کنه صفته» (5).

ص: 14


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 49
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 90
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160
4- هماهم النفوس: أفكارها
5- نهج البلاغة الخطبة رقم: 195

2 - مشاهدة القلوب: روي انّ ذعلب اليماني سأل أمير المؤمنين علیه السلام و قال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال علیه السلام : «أفأعبد ما لا أرى؟» قال : وكيف تراه؟ قال: «لا تدركه العيون بمشاهدة، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلّم بلا روية، مريد بلا همّة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، و تجب القلوب من مخافته» (1).

3- الرجوع إلى الثقلين :

قال علیه السلام : «فانظر أيها السائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ،به واستضئ بنور هدايته وما كلّفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأئمة الهدى أثره، فكِلْ علمه إلى الله سبحانه، فانّ ذلك منتهى حق الله عليك. واعلم انّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك

ص: 15


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 179

فتكون من الهالكين» (1).

ج - الأنس بالله تعالى:

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ووَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾(2)

انّ أولياء الله تعالى الذين جعلوا الخالق هو المبدأ والمنتهى الجميع أعمالهم لهم أشد حبّاً وأنساً به تعالى، وهم الذين «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى» (3).

ويشرح أمير المؤمنين علیه السلام هذا في دعاء ويقول: «اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطّلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفةٌ، وقلوبهم إليك ملهوفةٌ، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأنّ أزمّة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك» (4)

ص: 16


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 90
2- البقرة: 165
3- نهج البلاغة قصار الحكم: 137
4- المصدر نفسه، الخطبة: 226

وعلى عكسهم المغترّ بالدنيا حيث «يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه، ويفزع إلى السّلوة إن مصيبةٌ نزلت به، ضنّاً بغضارة عيشه، وشحاحةً بلهوه ولعبه» (1).

وهذا الأنس هو السبب في شدّة اشتياق المؤمن إلى لقاء ربه تعالى، وعليه يقول سيد المؤمنين بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «وإنّي إلى لقاء الله لمشتاقٌ ولحسن ثوابه المنتظرٌ راجٍ» (2) وكتب علیه السلام إلى معاوية يهدّده بصفوة أصحابه قائلاً: «متسربلين سرابيل الموت أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم» (3).

د - الاستعانة بالله تعالى

انّ الإنسان في علاقته مع خالقه يستعين به ويتوكل عليه، إذ يعلم بعجز نفسه عن أداء واجب حقه تعالى، و لذا قال أمير المؤمنين علیه السلام : «واستعينوا الله على أداء واجب حقّه، و ما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه» (4)، وأيضاً : «و نستعينه على رعاية حقوقه» (5).

ص: 17


1- نهج البلاغة، الخطبة: 220
2- المصدر نفسه، الخطبة: 180
3- المصدر نفسه، الكتاب 28
4- المصدر نفسه، الخطبة: 98
5- المصدر نفسه، الخطبة 99

وفي وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «وألجئ نفسك في أمورك كلّها إلى إلهك، فإنّك تلجئها إلى كهفٍ حريزٍ و مانعٍ عزيزٍ ... فاعتصم بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك، وليكن له تعبّدك وإليه رغبتك ومنه

شفقتك» (1)

وفي كتاب كتبه علیه السلام إلى محمد بن أبي بكر يقول فيه: «و أكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمّك، ويعنك على ما ينزل بك» (2).

وأخيراً يقول علیه السلام في كيفية الاستعانة: «وأستعينه فاقةً إلى كفايته، إنّه لا يضلّ من هداه، ولا يئل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه، فإنّه أرجح ما وزن، وأفضل ما خزن»(3)

وقال علیه السلام : «ونستعين به استعانة راجٍ لفضله، مؤمّلٍ لنفعه، واثقٍ بدفعه، معترفٍ له بالطّول، مذعنٍ له بالعمل والقول» (4).

ه_ - حسن الظن بالله تعالى:

انّ الإنسان في علاقته مع خالقه يحسن الظن به ويرجوه رجاءاً صادقاً، قال علیه السلام : «لا يصدق إيمان عبدٍ حتّى يكون بما في يد الله أوثق

ص: 18


1- نهج البلاغة، الكتاب : 31
2- المصدر نفسه، الكتاب : 34
3- المصدر نفسه، الخطبة 2
4- المصدر نفسه، الخطبة: 182

منه بما في يده» (1).

و قال علیه السلام : «وإن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله، وأن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه، وإنّ أحسن النّاس ظنّاً بالله أشدّهم خوفاً لله» (2).

و قال علیه السلام في تكذيب من يدعي الرجاء: «يدّعي بزعمه أنّه يرجو الله كذب و العظيم، ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله، وكلّ رجاءٍ إلا رجاء الله تعالى فإنّه مدخولٌ، و كلّ خوفٍ محقّقٌ إلا خوف الله فإنّه معلولٌ، يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصّغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرّبّ، فما بال الله جلّ ثناؤه يقصّر به عمّا يصنع بعباده أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعاً، وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده، أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه، فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضماراً و وعداً، وكذلك من عظمت الدّنيا في عينه وكبر موقعها من قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها وصار عبداً لها» (3).

ص: 19


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 301
2- المصدر نفسه، الكتاب: 27
3- المصدر نفسه، الخطبة 160

و - العمل الصالح:

انّ من أهم صفات المتقين و أولياء الله تعالى هو الاهتمام بالعمل، و عدم تضييع الفرصة، قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين: «استقربوا الأجل فبادروا العمل» (1) و قال علیه السلام أيضاً في خطبة المتقين: «يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل» (2) و ذلك لعلمهم بانّه «لن يفوز بالخير إلّا عامله، ولا يجزى جزاء الشر إلّا فاعله» (3).

ولابد للإنسان أن يراعي في مقام العمل عدّة أمور:

أولاً : المبادرة و عدم إضاعة الفرصة، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «واتقوا الله عباد الله، و بادروا آجالكم بأعمالكم، و ابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم». (4)

وذلك لانّ الإنسان لا يدري متى يوفق مرّة ثانية للعمل، فقد يحول بينه وبين العمل إما الموت أو المرض أو الغفلة أو الشيخوخة وحلول الضعف، لذا قال علیه السلام : «وبادروا بالأعمال عمراً ناكساً، أو

مرضاً حابساً، أو موتاً خالساً»(5).

ص: 20


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 113
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 193
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 33
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 63
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 229

وقال علیه السلام : «فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله، وفي فراغه قبل أوان شغله، وفي متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه، وليمهّد لنفسه وقدمه، وليتزوّد من دار ظعنه لدار اقامته» (1)

و قال علیه السلام : «فاعملوا وأنتم في نفس البقاء، والصحف منشورة، والتوبة مبسوطة، والمدبر يدعى، والمسيء يرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وتنقضي المدّة، وتسدّ أبواب التوبة، وتصعد الملائكة» (2).

فالمتقى سبّاق إلى العمل الصالح، فتراه إما ساكت فكور، واما ناطق نصوح، وإما دائب في الخيرات إذ أنّه يعلم «انّ الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها قط فيها ساعة إلّا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة»(3).

و ثانياً: التدبر في العمل قبل الإقدم عليه، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و الناظر بالقلب، العامل بالبصر، يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له؟! فان كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنده، فانّ العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلّا بعداً من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع»(4).

ص: 21


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 85
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 238
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 59
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 154

و ثالثاً: الإحساس بالتقصير، قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين: «لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إن زكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، و ربي أعلم منّي بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون ... يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل» (1)

و رابعاً: مطابقة السرّ والعلن، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه و يكرهه لعامة المسلمين، واحذر كل عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية، و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره و اعتذر منه» (2)

و كتب علیه السلام إلى بعض عمّاله: «و آمره ألّا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه وعلانيته و فعله ومقالته، فقد أدّى الأمانة، و أخلص العبادة» (3).

وخامساً : مداراة النفس، وذلك انّ مجاهدة النفس - سعة وضيقاً - تتبع مدى معرفة الإنسان، فكلّما كانت المعرفة أوسع كان الجهاد للنفس أشد، كما فعل أمير المؤمنين علیه السلام مع نفسه الشريفة حيث قال:

ص: 22


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 193
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 69
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 26

«و أيم الله يميناً استثني فيها بمشيئة الله عزّوجل، لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، و لأدعنّ مقلتي كعين ماءٍ نضب معينها، مستفرغة دموعها» (1)

أما نحن ما دام لم نصل إلى تلك المرتبة، فعلينا أن نخادع النفس و نأخذها شيئاً فشيئاً دون أن نقهرها رأساً و في بداية الأمر، وهذا ما أكّد عليه أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال : «و خادع نفسك في العبادة، و ارفق بها و لا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلّا ما كان مكتوباً عليك من الفريضة، فانّه لابد من قضائها و تعاهدها عند محلّها» (2).

وقال علیه السلام : «انّ للقلوب شهوة وإقبالاً و إدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فانّ القلب إذا أكره عمي» (3).

و سادساً : الإخلاص ونبذ الرياء، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «اعملوا في غير رياء ولا سمعة، فانّه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له» (4) وكتب علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «وأخلص في المسألة لربك، فإنّ بيده العطاء والحرمان» (5).

ص: 23


1- نهج البلاغة الكتاب رقم : 45
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 69
3- المصدر نفسه، قصار الحکم: 183
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 23
5- المصدر نفسه الكتاب رقم: 31

وكان في عهده علیه السلام للأشتر : «و ليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك : إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك و نهارك، و وفّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم و لا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ»(1)

و لأهميّة هذا الأمر ومحوريّته كان علیه السلام يدعو الله تعالى قائلاً: «اللهم أنّي أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، وتقبح فيما ابطن لك سريرتي، محافظاً على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه منّي، فابدي للناس حسن ظاهري، و أفضي إليك بسوء عملي، تقرّباً إلى عبادك، و تباعداً من مرضاتك» (2).

و سابعاً: النية الصالحة عند الحرمان من العمل، وذلك لانّ الإنسان ربما لا يوفّق لأداء بعض الأعمال لظروف تحيط به إما زمنية أو اجتماعية او لتداخل الأعمال وما شاكل، فهنا يأتي دور النية الصالحة

لتقوم مقام العمل، وليفوز الإنسان بثواب ما حرم من أدائه، قال علیه السلام : «انّ الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة» (3) و قد قال له بعض أصحابه: وددت انّ أخي فلاناً كان شاهداً ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال علیه السلام : «أهوى أخيك معنا؟

ص: 24


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 53
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 267
3- المصدر نفسه، قصار الحکم 38

قال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان.»(1).

و قال علیه السلام : «من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربّه عزوجل، وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً و وقع أجره على الله، و استوجب ما نوى من صالح عمله، و قامت النية مقام إصلاته لسيفه» (2)

هذه أهم النقاط التي يراعيها الإنسان في مقام العمل، وهو يعلم انّه «لا يقلّ عمل مع التقوى، وكيف يقلّ ما يتقبل» (3).

ز - الطاعة و العبودية :

انّ الله تعالى بفضله و كرمه جعل حقوقاً متبادلة بينه وبين عباده غنائه عنهم و احتياجهم إليه، و هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام مع قائلاً: «و لكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله» (4).

ص: 25


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 12
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 89
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 216

فالإنسان يكدح في طاعة الله تعالى لعلمه بأنه: «لا يخدع الله عن جنّته، و لا تنال مرضاته الّا بطاعته» (1) و هو يعلم أيضاً أنّه: «ليس أحد و إن اشتد على رضى الله حرصه، و طال في العمل اجتهاده، ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله من الطاعة له» (2).

و هذا ما كان يؤكّده أمير المؤمنين علیه السلام دائماً ويقول: «فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم و دخيلاً دون شعاركم، و لطيفاً بين،أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين وردكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم، وجنّة ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم و سكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم، فانّ طاعة الله حرز من متالف مكتنفة، و مخاوف متوقعة، و أوار نيران موقدة ... فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، و اخرجوا إليه من حق طاعته» (3).

وأخيراً يجمع هذا كله قوله علیه السلام : «اتق الله بطاعته، وأطع الله بتقواه» (4)

ص: 26


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 129
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 216
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 198.
4- تصنيف غرر الحكم للآمدي : 5838

ح - التقوى:

قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

(1).

تبيّن لنا هذه الآية الكريمة انّ الإنسان في علاقته مع خالقه لابدّ و أن يتقيه حق التقى، إذ أنّها «لم تزل عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين لحاجتهم إليها غداً، إذا أعاد الله ما أبدأ وأخذ ما أعطى، فما أقلّ من حملها حق حملها» (2)

وقال علیه السلام أيضاً : «وأوصاكم بالتّقوى، وجعلها منتهى رضاه و حاجته من خلقه» (3)

و قال علیه السلام أيضاً : «لا تقدم ولا تحجم إلّا على تقوى الله و طاعته تظفر بالنجح و النهج القويم»(4)

و قال علیه السلام : «إنّ تقوى الله مفتاح سدادٍ، و ذخيرة معادٍ، وعتقٌ من كلّ ملكةٍ، و نجاةٌ من كلّ هلكةٍ، بها ينجح الطّالب، وينجو الهارب، وتنال الرّغائب» (5).

ص: 27


1- آل عمران: 102
2- تصنيف غرر الحكم للآمدي ح: 5856
3- نهج البلاغة، الخطبة: 183
4- تصنيف غرر الحكم للآمدي ح: 5874
5- نهج البلاغة الخطبة: 229

وقال علیه السلام : «إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم، و طهور دنس أنفسكم، و جلاء عشا أبصاركم، و أمن فزع جأشكم، و ضياء سواد ظلمتكم» (1).

وأخيراً قال علیه السلام : «اتّق الله الّذي لابدّ لك من لقائه، و لا منتهى لك دونه» (2)، و من أراد المزيد عن التقوى فليرجع إلى كتاب «التقوى في نهج البلاغة» من هذه السلسلة.

ط - الدعاء :

انّ الإنسان في علاقته مع خالقه لا يستغني عن دعائه، و عرض حوائجه عليه، و في ذلك يقول علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «و اعلم أنّ الّذي بيده خزائن السّماوات و الأرض قد أذن لك في الدّعاء، و تكفّل لك بالإجابة، و أمرك أن تسأله ليعطيك، و تسترحمه ليرحمك، و لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التّوبة، ولم يعاجلك بالنّقمة، ولم يعیّرك بالإنابة، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدّد عليك في قبول الإنابة، و لم يناقشك بالجريمة، و لم يؤيسك من الرّحمة بل جعل نزوعك عن الذّنب

ص: 28


1- نهج البلاغة، الخطبة: 198
2- المصدر نفسه، الكتاب، 12

حسنةً، وحسب سيّئتك واحدةً وحسب حسنتك عشراً، و فتح لك باب المتاب، و باب الاستعتاب فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحّة الأبدان وسعة الأرزاق، ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنّك إبطاء إجابته فإنّ العطيّة على قدر النّيّة، وربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل، وأجزل لعطاء الآمل و ربّما سألت الشّيء فلا تؤتاه، و أوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خيرٌ لك فلربّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله فالمال لا يبقى لك، و لا تبقى له» (1)

ي - الإيمان والإسلام:

لابدّ للإنسان الذي يريد النجاة، أن يؤمن بخالقه ويتخذ الدين الذي ارتضاه له، و ذلك لأنّ ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(2).

ص: 29


1- نهج البلاغة الكتاب 31
2- آل عمران 85

و بهذا الصدد يقول أمير الؤمنين علیه السلام : «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه و تعالى الإيمان به وبرسوله» (1)، وقال علیه السلام : «لا شرف أعلى من الإسلام» (2).

وقال علیه السلام : «الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، وأعزّ أركانه على من غالبه، فجعله أمناً لمن عقله، و سلماً لمن دخله، و برهاناً لمن تكلّم به، و شاهداً لمن خاصم به، و نوراً لمن استضاء به، و فهماً لمن عقل، ولبّاً لمن تدبّر، و آية لمن توسّم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتّعظ، و نجاة لمن صدّق، وثقة لمن توكّل، وراحة لمن فوّض، وجنّةً لمن صبر.

فهو أبلج المناهج، واضح الولائج، مشرف المنار، مشرق الجوادّ، مضيء المصابيح، كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة، متنافس السّبقة، شريف الفرسان. التّصديق منهاج، والصّالحات مناره، و الموت غايته، و الدّنيا مضماره، و القيامة حلبته، و الجنّة سبقته» (3).

و قال علیه السلام : «انّ الله خصّكم بالإسلام و استخلصكم له، وذلك لأنّه اسم سلامة، و جماع كرامة، اصطفى الله تعالى منهجه، وبيّن حججه، من ظاهر علم، و باطن حكم، لا تفنى غرائبه، و لا تنقضي عجائبه، فيه

ص: 30


1- نهج البلاغة الخطبة : 109
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 360
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 105

مرابيع النعم، و مصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، و لا تكشف الظلمات إلّا بمصابيحه، قد أحمى حماه، و أرعى مرعاه، و فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي» (1).

و قال علیه السلام : «فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، و تنفصم عروته، و تعظم كبوته، و يكن مآبه إلى الحزن الطويل، و العذاب الوبيل» (2).

وقال علیه السلام : «ثم انّ هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبته، و أذلّ الأديان بعزّه، و وضع الملل برفعه، و أهان أعداءه بكرامته، و خذل محادّيه بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه، و سقى من عطش من حياضه، و أتاق الحياض بمواتحه (3).

ثمّ جعله لا انفصام لعروته، ولا فكّ لحلقته، و لا انهدام لأساسه، و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرائعه، ولا جدّ لفروعه، ولا ضنك لطرقه، و لا وعوثة لسهولته، و لا سواد لوضحه، ولا عوج لانتصابه، ولا عصل (4) في عوده، ولا وعث

ص: 31


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 152
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 161
3- أتاق: ملأ، و المواتح: الدلاء يمتح بها أي يسقى بها
4- العصل: الالتواء و الاعوجاج

لفجّه (1)، و لا انطفاء لمصابيحه، ولا مرارة لحلاوته» (2)

ثم بيّن علیه السلام انّ النطق بالشهادتين بداية التمسك بهذا الدين، حيث قال علیه السلام : «وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة ممتحناً إخلاصها، و معتقداً مصاصها، نتمسّك بها أبداً ما أبقانا، وندّخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنّها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمن، و مدحرة الشيطان، و أشهد ان محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور ...» (3)

و قال علیه السلام : «ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و انّ محمداً عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول و ترفعان العمل، لا يخف میزان توضعان فيه، و لا يثقل ميزان ترفعان منه» (4)

ويشرح علیه السلام كيفية الإيمان ويقول : «و نؤمن به إيمان من عاين الغيوب، و وقف على الموعود، إيماناً نفى اخلاصه الشرك، ويقينه الشك» (5).

وقال علیه السلام : «نؤمن به إيمان من رجاه موقناً، وأناب إليه مؤمناً،

ص: 32


1- وعث الطريق: تعسّر المشي فيه، و الفجّ: الطريق الواسع بين الجبلين
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 198
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 2
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 113

وخنع له مذعناً، و أخلص له موحّداً، و عظّمه ممجداً، ولاذ به راغباً مجتهداً» (1).

وبما «انّ الإيمان يبدو لمضة في القلب، كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة» (2). بدأ علیه السلام بذكر حقيقة الإيمان والإسلام وما لابدّ أن يتصف المؤمن به، فقال: «فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلّا بالحق» (3).

و قال علیه السلام : «الإيمان على أربع دعائم: على الصّبر، و اليقين، والعدل، والجهاد:

فالصّبر منها على أربع شعب: على الشوق و الشّفق، و الزّهد والتّرقّب: فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشّهوات، ومن أشفق من النّار اجتنب المحرّمات، و من زهد في الدّنيا استهان بالمصيبات، و من ارتقب الموت سارع في الخيرات.

واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، و تأوّل الحكمة، وموعظة العبرة، و سنّة الأوّلين: فمن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة، ومن تبيّنت له الحكمة عرف العبرة، و من عرف العبرة فكأنّما كان في الأولين.

ص: 33


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 182
2- المصدر نفسه قصار الحكم 5 / من غريب الكلام
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 167

و العدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، و غور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم: فمن فهم علم غور العلم، و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، و من حلم لم يفرّط في أمره وعاش في الناس حميداً.

و الجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، و النّهي عن المنكر، و الصّدق في المواطن، و شنآن الفاسقين: فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، و من شنئ الفاسقين و غضب لله غضب الله له و أرضاه يوم القيامة» (1).

و قال علیه السلام : «الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل» (2).

و قال علیه السلام : «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالأركان» (3).

و قال علیه السلام : « لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه

ص: 34


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 27
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 118
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 217

أوثق منه بما في يده» (1)

و قال علیه السلام : «علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وألّا يكون في حديثك فضل عن عملك، و أن تتقي الله في حديث غيرك» (2).

وقال علیه السلام : فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدلّ على الإيمان، وبالإيمان يعمر العلم ...» (3).

وأخيراً بين علیه السلام انّ درجات الإيمان متفاوتة وقال: «فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب، و منه ما يكون عواري بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدّ البراءة» (4)

***

ص: 35


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 301
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 446
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 189

ص: 36

2۔ المخلوق

اشارة

سبق و أن قسّمنا المخلوق إلى عدّة تقسيمات، حيث انّ المخلوق الآخر إما أن يكون مجتمعاً من الأفراد، أو فرداً واحداً، أو شيطاناً، أو سائر المخلوقات و الكائنات، و عليه كيف يرسم الإنسان خريطة حياته في تعامله مع هذا الآخر، و هذا ما سنبيّنه هنا إن شاء الله تعالى.

و قبل ذلك ليعلم انّ المخلوق الآخر حجة من الحجج الإلهية، و دليل من الأدلة للتعرّف و الاهتداء إلى الخالق جلّت عظمته، وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين علیه السلام : «فصار كلّ ما خلق حجّةً له و دليلاً عليه، و إن كان خلقاً صامتاً فحجّته بالتّدبير ناطقةٌ، ودلالته على المبدع قائمةٌ» (1).

و قال علیه السلام بعد ما ذكر دقيق خلق النملة: «ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدّلالة إلا على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّ شيءٍ، و غامض اختلاف كلّ حيّ، وما

ص: 37


1- نهج البلاغة الخطبة: 90

الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف في خلقه إلا سواءٌ، و كذلك السّماء و الهواء، و الرّياح و الماء، فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، والماء والحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللّغات و الألسن المختلفات. فالويل لمن أنكر المقدّر، وجحد المدبّر، زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارعٌ و لا لاختلاف صورهم صانعٌ، و لم يلجأوا إلى حجّةٍ فيما ادّعوا، ولا تحقيقٍ لما أوعوا، و هل يكون بناءٌ من غير بانٍ، أو جنايةٌ من غير جانٍ» (1).

ويجد المتصفّح لنهج البلاغة ذكر الكثير من الآيات و الحجج الدالة على وجود الخالق وصفاته، كخلق الخفاش والطاووس و السماوات و الأرض و غيرها من المخلوقات، حيث انّ كلها تشير إلى

وجوده جلّت عظمته، كما قال علیه السلام : «بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن والقضاء المبرم»(2)

أ - المجتمع الإنساني:

اشارة

كما قلنا انّ الإنسان مدني بالطبع، و لا يمكن أن يستغني عن

ص: 38


1- نهج البلاغة الخطبة : 185
2- المصدر نفسه، الخطبة: 182

الحكومة و تأسيس المجتمع، ليعيش في ظلّه و يقضي حوائجه بالتعاون مع الآخرين، و في ذلك يقول أمير الؤمنين علیه السلام في معرض ردّه على الخوارج الذين أنكروا الحكومة: «وإنّه لا بدّ للنّاس من أميرٍ برٍّ أو فاجرٍ، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيه الأجل، و يجمع به الفيء، و يقاتل به العدوّ، و تأمن به السّبل، و يؤخذ به للضّعيف من القويّ، حتّى يستريح برٌّ، ويستراح من فاجرٍ»(1)

ثم شاء التقدير الإلهي أن يكون المجتمع متنوعاً، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.(2)

وفي كلام لأمير المؤمنين علیه السلام يذكر فيه أسباب اختلاف الناس ويقول: «إنّما فرّق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنّهم كانوا فلقةً من سبخ أرضٍ وعذبها وحزن تربةٍ و سهلها فهم على حسب قرب أرضهم

يتقاربون و على قدر اختلافها يتفاوتون فتامّ الرّواء ناقص العقل، ومادّ القامة قصير الهمّة، و زاكي العمل قبيح المنظر، و قريب القعر بعيد السّبر، و معروف الضريبة منكر الجليبة و تائه القلب متفرّق اللّبّ، و طليق اللّسان حديد الجنان» (3).

ص: 39


1- نهج البلاغة، الخطبة: 40
2- الحجرات: 13
3- نهج البلاغة الخطبة: 233

وفي نصّ آخر يقسّم أمير المؤمنين علیه السلام الناس إلى أربعة أقسام ويقول: «و النّاس على أربعة أصنافٍ منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، و كلالة حدّه، ونضيض وفره، و منهم المصلت لسيفه، و المعلن بشره، و المجلب بخيله و رجله قد أشرط نفسه و أوبق دينه الحطامٍ ينتهزه، أو مقنبٍ يقوده، أو منبرٍ يفرعه، ولبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمناً وممّا لك عند الله عوضاً، ومنهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا قد طامن من شخصه و قارب من خطوه، و شمّر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر الله ذريعةً إلى المعصية، و منهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، و انقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة، وتزيّن بلباس أهل الزّهادة، و ليس من ذلك في مراح ولا مغدًى. و بقي رجالٌ غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر فهم بين شريدٍ نادٍّ، و خائفٍ مقموعٍ و ساكتٍ مكعومٍ وداعٍ مخلصٍ، وثكلان موجعٍ قد أخملتهم التّقيّة وشملتهم الذّلّة فهم في بحرٍ أجاج أفواههم ضامزةٌ و قلوبهم قرحةٌ قد وعظوا حتّى ملّوا وقهروا حتّى ذلّوا وقتلوا حتّى قلّوا» (1).

وقال علیه السلام أيضاً : «وإنّما النّاس رجلان متّبع شرعةً، ومبتدعٌ

ص: 40


1- نهج البلاغة، الخطبة: 32

بدعةً، ليس معه من الله سبحانه برهان سنّةٍ، ولا ضياء حجّةٍ» (1).

و قال علیه السلام أيضاً لكميل : «النّاس ثلاثةٌ، فعالمٌ ربّانيٌّ، و متعلّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمجٌ رعاعٌ أتباع كلّ ناعقٍ، يميلون مع كلّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، و لم يلجئوا إلى ركنٍ وثيقٍ» (2).

فالإنسان في علاقته مع المجتمع و تعامله معه، لابدّ و أن يكون ذا بصيرة عالية ليتمكن من السير على النهج القويم، و بالإمكان تقسيم المجتمع إلى: موالي، و متخاذل، ومخالف، و تعامل الإنسان و علاقته مع كلّ واحد تختلف عن الآخر.

1 - المجتمع الموالي:

تتلخّص سيرة الإنسان في المجتمع الموالي و الصالح ضمن نقاط نذكرها فيما يلي:

نصرة الدين و الصبر، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و لقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا و أعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا واله إيماناً وتسليماً ومضيّاً على اللّقم و صبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ ... فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النّصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه و متبوّئاً أوطانه»(3).

ص: 41


1- نهج البلاغة الخطبة: 176
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 137
3- المصدر نفسه، الخطبة 55

و منها العبودية لله تعالى، قال علیه السلام يصف خيرة أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : « لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، قد باتوا سجداً و قياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبلّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثّواب) (1).

وقال علیه السلام : «طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها (2)، و هجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم و تقشّعت بطول استغفار هم ذنوبهم أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون» (3).

و منها لزوم الجماعة، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإياكم و الفرقة فإنّ الشاذ من الناس للشيطان، كما انّ الشاذة من الغنم للذئب» (4) .

ص: 42


1- نهج البلاغة، الخطبة: 96
2- يقال : عرك فلان بجنبه الأذى : أي أغضى عنه وصبر عليه
3- نهج البلاغة الكتاب: 45
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 127

و قال علیه السلام : «فإياكم و التلوّن في دين الله، فانّ جماعة فيما تكرهون من الحق، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل، و انّ الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ممن مضى، و لا ممن بقي» (1).

و قال علیه السلام بعد ما ذكر الأمم السالفة: «فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزّة به حالهم، و زاحت الأعداء له عنهم، و مدّت العافية فيه بهم، و انقادت النعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة و اللزوم للاُلفة، والتحاضّ عليها، والتواصي بها، و اجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، و أوهن منّتهم: من تضاغن القلوب، و تشاحن الصدور، و تدابر النفوس، و تخاذل الأيدي»(2).

و لا يفوت على القارئ الكريم بانّ الواجب هو لزوم الجماعة الصالحة، كما نبهنا عليه و كما ورد في كلام الإمام علیه السلام، وإلّا فلا طاعة للأشرار ولا لزوم لجماعتهم، كما قال علیه السلام منبّهاً لذلك «و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحتكم مرضهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق، و أحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، و جنداً بهم يصول على الناس، وتراجمة

ص: 43


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 176
2- المصدر نفسه الخطبة رقم 192

ينطق على ألسنتهم» (1) و كما ورد عن رسول الله لما سئل : أيّ الجهاد

أفضل؟ فقال: «كلمة حق عند إمام جائر» (2)

إذن الوصية بلزوم الجماعة لا تؤخذ على نحو الإطلاق.

و منها لزوم العشيرة، انّ الإنسان في سلوكه الاجتماعي وصول للرحم سيّما لعشيرته، إذ «انّه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمّهم لشعثه، و أعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به» (3).

و كتب علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحك الذي به تطير، و أصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول» (4).

و هذا ما التزم به أمير المؤمنين علیه السلام في سلوكه، فقد كتب إلى ابن عباس لما كان و اليه على البصرة و سمع منه غلظة على بني تميم : «انّ لهم بنا رحماً ماسة، و قرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها» (5)

ص: 44


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192
2- مسند أحمد 314:4
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 23
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 31
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 18

طبعاً لزوم العشيرة لا يؤخذ أيضاً على اطلاقه، بل انّه مقيّد بالعشيرة الصالحة، و إلّا فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، و ترفعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة على ربهم، و جاحدوا الله ما صنع بهم مكابرة لقضائه، و مغالبة لآلائه، فانّهم قواعد أساس العصبية، و دعائم أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهلية» (1)

فالتقوى هنا تقتضي محاربة هكذا عشيرة، كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام حال المسلمين في زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم حيث قال: «فلقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انّ القتل ليدور بين الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات، فما نزداد على كل مصيبة و شدة إلّا إيماناً ومضيّاً على الحق، و تسليماً للأمر، و صبراً على مضض الجراح» (2).

و قال علیه السلام : «ولقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً و تسليماً، و مضيّاً على اللقم، و صبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدو» (3).

ثمّ إن كان الإنسان حاكماً فعليه أن يبني علاقته مع المجتمع الموالي ضمن النقاط التالية:

ص: 45


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 121
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 55

العدل، قال علیه السلام : «الذّليل عندي عزيزٌ حتى آخذ الحقّ له، والقوي عندي ضعيفٌ حتى آخذ الحقّ منه» (1)

و قال علیه السلام : «أتأمرونّي أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه، و الله لا أطور به ما سمر سميرٌ، و ما أمّ نجمٌ في السّماء نجماً» (2).

و قال علیه السلام : «و الله لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّداً، أو أجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبّ إلي من أن ألقى الله و رسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، و غاصباً لشيء من الحطام» (3).

و كتب علیه السلام إلى بعض أمرائه: «أمّا بعد فإنّ الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر النّاس عندك في الحقّ سواءً، فإنّه ليس في الجور عوضٌ من العدل» (4).

الألفة و الوحدة، قال علیه السلام وهو يكلّم الخوارج: «فإذا طمعنا في خصلةٍ يلمّ الله بها شعثنا، و نتدانى بها إلى البقيّة فيما بيننا، رغبنا فيها و أمسكنا عما سواها» (5).

ص: 46


1- نهج البلاغة الخطبة: 37
2- المصدر نفسه، الخطبة: 126
3- المصدر نفسه، الخطبة: 223
4- المصدر نفسه الكتاب: 59
5- المصدر نفسه، الخطبة: 121

أداء الشريعة وتبليغها، قال علیه السلام : «إنّه ليس على الإمام إلا ما حمّل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النّصيحة، والإحياء للسّنّة، وإقامة الحدود على مستحقّيها، وإصدار السّهمان على أهلها» (1).

و قال علیه السلام : «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطانٍ، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك»(2)(3)

المواساة، قال علیه السلام : «ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعى إلى تخيّر الأطعمة، و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً و حولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى ... أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش» (4).

الاستماع لحوائج الناس، قال علیه السلام في كتاب كتبه إلى عماله على الخراج: «فأنصفوا النّاس من أنفسكم، و اصبروا لحوائجهم، فإنّكم خزّان الرّعيّة، و وكلاء الأمّة، و سفراء الأئمّة، و لا تحشموا أحداً عن

ص: 47


1- نهج البلاغة الخطبة: 104
2-
3- المصدر نفسه، الخطبة: 131
4- المصدر نفسه، الكتاب: 45

حاجته، و لا تحبسوه عن طلبته» (1).

و في عهده علیه السلام للأشتر : «و اجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه الله الّذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول في غير موطن : لن تقدّس أمّةٌ لا يؤخذ للضّعيف فيها حقه من القويّ غير متعتعٍ. (2)

الإحسان إليهم، في عهده علیه السلام للأشتر : «و اعلم أنّه ليس شيءٌ بأدعى إلى حسن ظنّ راعٍ برعيّته من إحسانه إليهم، و تخفيفه المئونات عليهم، و ترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم» (3)

2 - المجتمع المتخاذل :

الإنسان سواء كان حاكماً أو غير حاكم يبني علاقته و تعامله مع المجتمع المتخاذل في البداية على النصيحة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو من الأهمية بحيث قال عنه أمير المؤمنين علیه السلام : «وما أعمال

ص: 48


1- نهج البلاغة، الكتاب: 51
2- المصدر نفسه، الكتاب 53
3- المصدر نفسه الكتاب 53

البرّ كلّها، و الجهاد في سبيل الله، عند الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر إلا كنفثةٍ في بحرٍ لجيٍّ»(1)

وقال علیه السلام يشتكي من قلّة الأمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر : «ظهر الفساد فلا منكرٌ مغيّر و لا زاجرٌ مزدجرٌ»(2)، و قال علیه السلام : «لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم» (3).

و قال علیه السلام أيضاً : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فلعن الله السّفهاء لركوب المعاصي، و الحلماء لترك التّناهي» (4).

و منها التأنيب و الزجر، كما صنعه أمير المؤمنين علیه السلام مع مجتمعه المتخاذل حيث كان يقول علیه السلام : «فقبحاً لكم و ترحاً، حين صرتم غرضاً یرمی، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى الله و ترضون ... يا أشباه الرّجال و لا رجال، حلوم الأطفال و عقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم معرفةً و الله جرّت ندماً، و أعقبت سدماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، و شحنتم صدري

ص: 49


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 364
2- المصدر نفسه، الخطبة: 129
3- المصدر نفسه، الكتاب: 47
4- المصدر نفسه، الخطبة: 192

غيظاً، وجرّعتموني نغب التّهام أنفاساً ...» (1)

و قال علیه السلام : «أصبحت و الله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدوّ بكم» (2).

و قال علیه السلام : «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، و لا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربّكم، أما دينٌ يجمعكم، و لا حميّة تحمشكم (3)، أقوم فيكم مستصرخاً، و أناديكم متغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، و لا تطيعون لي أمراً» (4)

و قد ذكر علیه السلام في مناسبة أخرى انّ السبب في كثرة تأنيبه لهم، استنهاضهم لئلّا يغلب عليهم العدو، فقال علیه السلام : «ولكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دولاً، و عباده خولاً، و الصّالحين حرباً، و الفاسقين حزباً فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام، و جلد حدّاً في الإسلام، وإنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم و جمعكم و تحريضكم، و لتركتكم إذ أبيتم و ونيتم»(5).

ص: 50


1- نهج البلاغة، الخطبة: 27
2- المصدر نفسه، الخطبة 29
3- تحمشكم: أي تغضبكم
4- نهج البلاغة الخطبة: 39
5- المصدر نفسه، الكتاب: 62

3 - المجتمع المخالف (المفتتن):

لقد أخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأنّ الأمة سيفتنون من بعده وقال لأمير المؤمنين علیه السلام : «يا عليّ إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة، و الأهواء السّاهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، و السّحت بالهديّة، و الرّبا بالبيع»(1)

و انّ من أهمّ أسباب افتتان المجتمع التي وردت الإشارة إليها في نهج البلاغة، الركون إلى الدنيا كما قال علیه السلام في حق البغاة: «كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول:﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بلى و الله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها» (2).

و قال علیه السلام في حق الفارين إلى معاوية: «إنّما هم أهل دنيا مقبلون عليها ومهطعون إليها»(3)

وقال علیه السلام أيضاً: «قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة،

ص: 51


1- نهج البلاغة، الخطبة: 156
2- المصدر نفسه، الخطبة 3
3- المصدر نفسه الكتاب 70

و العاجلة أذهب بكم من الآجلة ... قد تصافيتم على رفض الآجل و حبّ العاجل، و صار دين أحدكم لعقةً على لسانه» (1).

و قال علیه السلام : «فإنّ النّاس قد تغيّر كثيرٌ منهم عن كثيرٍ من حظّهم، فمالوا مع الدّنيا و نطقوا بالهوى»(2)

و منها البدع، قال علیه السلام : «إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، و أحكامٌ تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، و يتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غیر دین الله» (3)

و قال علیه السلام : «قد خاضوا بحار الفتن و أخذوا بالبدع دون السّنن» (4).

و منها الغفلة، قال علیه السلام : «و لكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، و أمنتم ما حذّرتم فتاه عنكم رأيكم، و تشتّت عليكم أمركم» (5).

و منها ترك الحق، قال علیه السلام : «و لعمري ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدي أضعافاً، بما خلّفتم الحق وراء ظهوركم» (6).

ص: 52


1- نهج البلاغة الخطبة: 112
2- المصدر نفسه الکتاب: 78
3- المصدر نفسه، الخطبة: 49
4- المصدر نفسه، الخطبة: 154
5- المصدر نفسه، الخطبة: 115
6- المصدر نفسه، الخطبة: 166

و منها متابعة السادة و الكبراء الضالين، قال علیه السلام : «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّروا عن حسبهم، وترفّعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة على ربّهم، و جاحدوا الله على ما صنع بهم، مكابرةً لقضائه ومغالبةً لآلائه، فإنّهم قواعد أساس العصبيّة، و دعائم أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهليّة» (1)

ومنها متابعة الشيطان، قال علیه السلام : «إنّ الشّيطان يسنّي [أي يسهّل] لكم طرقه و يريد أن يحلّ دينكم عقدةً عقدةً» (2)

و قال علیه السلام في صفة حزب الشيطان: «اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكاً، و اتخذهم له أشراكاً، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم، و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، و زيّن لهم الخطل» (3). انّ هذه الأسباب و غيرها تسبّب افتتان المجتمع أنّى حصلت، فما الحيلة إذن في تعامل الإنسان مع هكذا مجتمع، و كيف يرسم علاقته معه؟!

نستنتج من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، انّ وظيفة المؤمن أمام المجتمع المخالف و المفتتن تتلخّص ضمن النقاط التالية:

1 - متابعة الحق و التمسك به، قال علیه السلام بعد ما قبض رسول

ص: 53


1- نهج البلاغة الخطبة 192
2- المصدر نفسه، الخطبة: 120
3- المصدر نفسه، الخطبة: 7

الله صلی الله علیه و آله و سلم حيث وقعت الفتنة العظمى التي غيّرت وجه التاريخ الإسلامي عن مساره الصحيح: «أيّها النّاس شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة» (1).

و قال علیه السلام : «أين تذهب بكم المذاهب، و تتيه بكم الغياهب، و تخدعكم الكواذب، و من أين تؤتون و أنى تؤفكون ... فاستمعوا من ربّانيّكم، و أحضروه قلوبكم، و استيقظوا إن هتف بكم» (2).

و قال علیه السلام : «و قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر و الصّبر و العلم بمواضع الحقّ، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه» (3).

2- متابعة الحاكم العادل، قال علیه السلام : «فتنٌ كقطع اللّيل المظلم ... يجاهدهم في سبيل الله قومٌ أذلّةٌ عند المتكبّرين، في الأرض مجهولون، و في السّماء معروفون» (4)

3 - الخمول، قال علیه السلام : «و ذلك زمانٌ لا ينجو فيه إلا كلّ مؤمنٍ نومةٍ، إن شهد لم يعرف، وإن غاب لم يفتقد» (5).

ص: 54


1- نهج البلاغة، الخطبة: 5
2- المصدر نفسه، الخطبة: 107
3- المصدر نفسه، الخطبة: 173
4- المصدر نفسه، الخطبة: 101
5- المصدر نفسه، الخطبة 102

و قال علیه السلام : «كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهرٌ فيركب، ولا ضرعٌ فيحلب»(1).

4 - الفرار، قال علیه السلام عند ذكره لفتنة أهل البصرة في وقعة الجمل: «المقيم بين أظهركم مرتهنٌ بذنبه، والشّاخص عنكم متداركٌ برحمةٍ من ربّه» (2)

و قال علیه السلام : «ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف ... يهرب منها الأكياس ويدبّرها الأرجاس» (3)

و ليعلم انّ الفقرة الثالثة و الرابعة تكون عند خلوّ الساحة من إمام الهدى أو من ينوب عنه نيابة خاصة أو عامة، وإلّا فمع وجوده يلزم مراجعته و التمسك به كما مرّ.

هذا إذا كان الإنسان فرداً عادياً، أما إذا كان حاكماً فماذا عليه أن يصنع في تعامله مع المجتمع المفتتن والمخالف؟! و هنا أيضاً نستنتج من

كلام أمير المؤمنين علیه السلام عدّة نقاط، وهي كما يلي:

1 - النصيحة والتأنّي قال علیه السلام لما عوتب على تأخير القتال مع بغاة الشام: «فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي

ص: 55


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 1
2- المصدر نفسه، الخطبة: 13
3- المصدر نفسه، الخطبة 151

طائفةٌ فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إلي من أن أقتلها على ضلالها» (1)

و قال علیه السلام : «فإذا طمعنا في خصلةٍ يلمّ الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقيّة فيما بيننا رغبنا فيها و أمسكنا عمّا سوا ها».(2)

2- التهديد والتوعّد، فقد كتب علیه السلام لأهل البصرة: «فإن خطت بكم الأمور المردية وسفه الآراء الجائرة إلى منابذتي و خلافي فها أنا ذا قد قرّبت جيادي و رحلت ركابي ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعةً لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعقٍ» (3)

و كتب علیه السلام إلى معاوية: «فأنا أبو حسنٍ قاتل جدّك و أخيك و خالك شدخاً يوم بدر، و ذلك السّيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوّي» (4)

3- القتال، قال علیه السلام في حق البغاة: «فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف، و كفى به شافياً من الباطل و ناصراً للحقّ» (5).

ص: 56


1- نهج البلاغة، الخطبة: 54
2- المصدر نفسه، الخطبة: 121
3- المصدر نفسه، الكتاب: 29
4- المصدر نفسه، الكتاب: 10
5- المصدر نفسه، الخطبة: 22

و قال علیه السلام : «ولعمري ما عليّ من قتال من خالف خالف الحق و خابط الغيّ من إدهانِ ولا إيهانٍ» (1).

و قال علیه السلام : «مالي ولقريش، و الله لقد قاتلتهم كافرين، و لأقاتلنّهم مفتونين» (2).

و قال علیه السلام : «و لقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، و قلّبت ظهره و بطنه، فلم أر لي فيه إلا القتال أو الكفر بما جاء محمّدٌ» (3)

و قال علیه السلام : بنفس المضمون: «و قد قلّبت هذا الأمر بطنه و ظهره حتّى منعني النّوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّدٌ (4)

و كتب لأخيه عقيل: «و أمّا ما سألت عنه من رأيي في القتال، فإنّ رأيي قتال المحلّين حتّى ألقى الله»(5).

و في نهاية المطاف يدعونا أمير المؤمنين علیه السلام إلى الاعتبار من الأمم و المجتمعات الماضية و يقول: «و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، و ذميم الأعمال، فتذكروا في الخير و الشّرّ

ص: 57


1- نهج البلاغة الخطبة: 24
2- المصدر نفسه، الخطبة 33
3- المصدر نفسه، الخطبة 43
4- المصدر نفسه، الخطبة: 53
5- المصدر نفسه الكتاب 36

أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم» (1).

و في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «واعرض عليه [أي على قلبك] أخبار الماضين و ذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين و سر في دیارهم و آثارهم فانظر فيما فعلوا و عمّا انتقلوا وأين حلّوا و نزلوا» (2).

ب - الفرد الواحد:

اشارة

سبق وأن قلنا انّ الآخر الفرد من أفراد المجتمع يمكن تقسيمه إلى نبي و وصي، أو حاكم، أو غير حاكم، و الحاكم إما عادل وإما ظالم، و أما غير الحاكم فهو إما موالي وإما مخالف، و المخالف إما كافر أو ذمي، و إما منافق وإما عدو.

فحينئذٍ كيف يبني الإنسان علاقته مع هذا الآخر من أبناء و أفراد المجتمع؟!

و سنحاول فيما يلي - و بالاعتماد على نهج البلاغة - استخراج وظيفة الإنسان في بناء علاقته مع هؤلاء.

1 - النبي أو الوصي:

انّ الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، و هو القائل: (وَمَا خَلَقْنَا

ص: 58


1- نهج البلاغة الخطبة: 192
2- المصدر نفسه الكتاب: 31

السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (1)، و كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و اعلموا عباد الله أنّه لم يخلقكم عبثاً و لم يرسلكم هملاً» (2).

و عليه مسّت الحاجة إلى إرسال الأنبياء علیهم السلام لهداية الناس، وإتمام الحجة عليهم، قال أمير المؤمنين علیه السلام «بعث الله رسله بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجّةً له على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ (3) ثم أردفهم بالأوصياء للحفاظ على سلامة الدعوة و استمراريتها.

و كان لازماً على الإنسان في علاقته مع الأنبياء و الأوصياء، الطاعة و الانقياد كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : «انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدًى، و لن يعيدوكم في ردًى، فإن لبدوا فالبدوا، و إن نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلّوا، و لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا» (4).

و قال علیه السلام : «و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه، وبعث إلى الجنّ و الإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، و ليحذّروهم من ضرّائها،

ص: 59


1- ص: 24
2- نهج البلاغة، الخطبة: 195
3- المصدر نفسه، الخطبة: 144
4- المصدر نفسه، الخطبة: 96

وليضربوا لهم أمثالها، وليبصّروهم عيوبها، و ليهجموا عليهم بمعتبرٍ من تصرّف مصاحّها و أسقامها، و حلالها و حرامها، و ما أعدّ الله للمطيعين منهم و العصاة من جنّةٍ و نارٍ، وكرامةٍ و هوانٍ»(1)

و بخلاف ذلك سيكون الهرج و المرج و الضلال و الانحراف، قال علیه السلام و هو يصف حالة اختلاف الفرق و الانحراف الحاصل: «فيا عجباً و مالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبيٍّ، و لا يقتدون بعمل وصيٍّ»(2)

ثم انّ الأمر الآخر الذي يلزم على الإنسان رعايته في علاقته و تعامله مع الأنبياء والرسل، إنّما هو الاقتداء و التأسّي بهم، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و لقد كان في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كافٍ لك في الأسوة ... فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلی الله علیه و آله و سلم فإنّ فيه أسوةً لمن تأسّى، و عزاءً لمن تعزّى، و أحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه، و المقتصّ لأثره» (3).

2- الحاكم العادل:

انّ الآخر إذا كان حاكماً عادلاً فما هو موقف الإنسان في ربط

ص: 60


1- نهج البلاغة الخطبة: 183
2- المصدر نفسه، الخطبة: 87
3- المصدر نفسه، الخطبة: 160

العلاقة والتعامل معه؟! هنا يأتي أيضاً نفس الدور السابق و هو الطاعة و الانقياد و الوفاء بالبيعة، و هذا من الحقوق المتبادلة بين الحاكم و الرعية.

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف واجب الأمة أمام الحاكم العادل: «و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النّصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، والطّاعة حين آمركم» (1).

و قال علیه السلام في كتاب كتبه إلى أمرائه على الجيوش: «ولي عليكم الطّاعة، و ألا تنكصوا عن دعوةِ، و لا تفرّطوا في صلاح، و أن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ» (2)

و قال علیه السلام : «فاستمعوا من ربّانيّكم، وأحضروه قلوبكم، و استيقظوا إن هتف بكم»(3).

و عند رعاية هذه الحقوق المتبادلة بين الحاكم والأمة يستقر الأمر، كما قال علیه السلام : «فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه، و أدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحق بينهم وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة، و يئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرّعيّة و اليها، أو أجحف الوالي برعيّته،

ص: 61


1- نهج البلاغة، الخطبة: 34
2- المصدر نفسه، الكتاب: 50
3- المصدر نفسه الخطبة : 107

اختلفت هنالك الكلمة، و ظهرت معالم الجور، و كثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجّ السّنن، فعمل بالهوى، و عطّلت الأحكام، و كثرت علل النّفوس، فلا يستوحش لعظيم حقٍّ عطّل، و لا لعظيم باطلٍ فعل، فهنالك تذلّ الأبرار، و تعزّ الأشرار، و تعظم تبعات الله سبحانه عند العباد» (1).

طبعاً انّ طاعة الحاكم العادل تدور مدار الحق، فمتى ما خرج الحاكم عن جادة الحق فلا طاعة له، و في ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام في كتابه إلى أهل مصر لما ولّى عليهم مالك الأشتر : «فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ» (2).

3- الحاكم الظالم :

ربما يبتلى الإنسان بالحاكم الظالم، الذي يهلك الحرث و النسل و ربما تطول مدّة حكمه، و لكن الله تعالى له بالمرصاد، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و لئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه، و بموضع الشّجا من مساغ ريقه» (3).

ص: 62


1- نهج البلاغة الخطبة: 216
2- المصدر نفسه، الكتاب: 38
3- المصدر نفسه، الخطبة: 96

و الحاكم الظالم من شر الناس لأنّه سبب الفتنة و الضلال، قال علیه السلام : «وإنّ شرّ النّاس عند الله إمامٌ جائرٌ ضَلَّ وضُلّ به، فأمات سنّةً مأخوذةً، و أحيا بدعةً متروكةً» (1).

ثم أنّ الإنسان أمام الحاكم الجائر لابدّ و أن يقول كلمة الحق، كما قال علیه السلام : «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزقٍ، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائرٍ» (2)

ثم عليه أن يجاهد ويكافح لئلّا يغلب الباطل، وهذا ما أوصى به علیه السلام المسلمين حيث قال: «أمّا إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، و يطلب ما لا يجد، فاقتلوه ...» (3)

4- الفرد الموالي:

نقصد بالفرد الموالي من كان شريكاً مع الإنسان في العقيدة و الاتجاه، فهنا كيف يربط الإنسان علاقته مع هذا الآخر؟

انّ الآخر إذا كان من أهله و ولده فعليه بالإحسان إليهم و الرحمة

ص: 63


1- نهج البلاغة، الخطبة: 164
2- المصدر نفسه، قصار الحكم 364
3- المصدر نفسه، الخطبة 56

و المودة، قال أمير المؤمنين علیه السلام : «و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك» (1)،

وكذلك الإنصاف والعدل، قال علیه السلام : «وأنصف النّاس من نفسك ومن خاصّة أهلك» (2)

طبعاً الاهتمام بالأهل و الأولاد لابدّ أن لا يخرج الإنسان عن جادة الحق و إعلاء كلمة الله تعالى، قال علیه السلام لأحد أصحابه: «لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك و ولدك، فإن يكن أهلك و ولدك أولياء الله، فإنّ الله لا يضيع أولياءه، و إن يكونوا أعداء الله، فما همّك و شغلك بأعداء الله» (3)

ثم انّ الآخر إن كان صديقاً فعلى الإنسان أن يلاحظ أولاً سلوك هذا الصديق، ويرى هل أنّه أهل للصداقة أم لا، فقد ورد النهي عن مصادقة عدة أشخاص، كما في وصيّة أمير المؤمنين علیه السلام لابنه الإمام الحسن علیه السلام : «يا بنيّ إياك و مصادقة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرك، و إياك و مصادقة البخيل، فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، و إيّاك و مصادقة الفاجر، فإنّه يبيعك بالتافه، وإيّاك ومصادقة الكذّاب فإنّه كالسّراب يقرب عليك البعيد و يبعد عليك القريب» (4).

ص: 64


1- نهج البلاغة، الكتاب : 31
2- المصدر نفسه، الكتاب : 53
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 342
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 34

و قال علیه السلام أيضاً: «لا تصحب المائق فإنّه يزيّن لك فعله، و يودّ أن تكون مثله» (1). والمائق هو الأحمق.

فعندئذٍ يصادق الإنسان غير هؤلاء المذمومين، و يحاول جهد سعيه أن يحافظ على هذه الصادقة، لأنّ «أعجز النّاس من عجز عن اکتساب الإخوان، و أعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم»(2)

ويحاول دوماً أن يدارى الصديق و يصله، قال علیه السلام : «احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصّلة، و عند صدوده على اللّطف و المقاربة، و عند جموده على البذل، و عند تباعده على الدّنوّ، و عند شدّته على اللّين، و عند جرمه على العذر ... و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّةً يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً»(3).

و قال علیه السلام : «لا يكون الصّديق صديقاً حتّى يحفظ أخاه في ثلاثٍ في نكبته وغيبته و وفاته» (4).

و يشير علیه السلام إلى انّ الصداقة لابدّ و أن تتبع الموازين فلا يسهب الإنسان في الصداقة بحيث يفشي إليه سرّه و كل ما عنده، قال علیه السلام : «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، و أبغض

ص: 65


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 284
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 8
3- المصدر نفسه، الكتاب: 31
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 127

بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» (1).

و من الأمور التي لابدّ من مراعاتها في التعامل مع الآخر الاهتمام بصلاح ذات البين، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن و الحسين علیهم السلام: «أوصيكما و جميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، و نظم أمركم، و صلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّ كما صلی الله علیه و آله و سلم يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصّلاة و الصّيام» (2).

و منها التواصل مع الآخر، قال علیه السلام : «و عليكم بالتّواصل و التّباذل، و إيّاكم و التّدابر والتّقاطع» (3)

ومنها التواضع، قال علیه السلام : «و اعتمدوا وضع التّذلّل على رؤوسكم، و إلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، وخلع التّكبّر من أعناقكم، و اتّخذوا التّواضع مسلحةً بينكم وبين عدوّكم إبليس و جنوده (4). و قال علیه السلام في وصف المتقين: «و مشيهم التّواضع» (5)

ومنها كفّ اللسان عن الآخر، قال علیه السلام : «والله ما أرى عبداً

ص: 66


1- نهج البلاغة قصار الحكم 259
2- المصدر نفسه، الكتاب: 47
3- المصدر نفسه، الكتاب: 47
4- المصدر نفسه، الخطبة: 192
5- المصدر نفسه، الخطبة: 193

يتّقي تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه» (1)

و قال علیه السلام : «وإنّما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السّلامة أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية، ويكون الشّكر هو الغالب عليهم و الحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الّذي عاب أخاه وعيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذي عابه به، و كيف يذمّه بذنبٍ قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه ممّا هو أعظم منه، وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصّغير، لجرأته على عيب النّاس أكبر، يا عبد الله لا تعجل في عيب أحدٍ بذنبه، فلعلّه مغفورٌ له، ولا تأمن على نفسك صغير معصيةٍ فلعلّك معذّبٌ عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، و ليكن الشّكر شاغلاً له على معافاته ممّا ابتلي به غيره» (2).

و منها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، قال علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام : «و أمر بالمعروف تكن من أهله، و أنكر المنكر بيدك

و لسانك و باين من فعله بجهدك» (3).

ومنها المساعدة و المعونة سيّما في الشدائد و ساحة الحرب،

ص: 67


1- نهج البلاغة الخطبة: 176
2- المصدر نفسه، الخطبة: 140
3- المصدر نفسه الكتاب 31

قال علیه السلام : «و أيّ امریءٍ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأشٍ عند اللّقاء، و رأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً، فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته الّتي فضّل بها عليه كما يذبّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله» (1).

وكذلك مساعدة و معونة الأيتام و الجيران، قال علیه السلام : «الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، و الله الله في جيرانكم فإنّهم وصيّة نبيكم صلی الله علیه و آله و سلم ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم (2).

و منها قبول عذرهم وإقالة عثراتهم، قال علیه السلام : «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثرٌ إلا ويد الله بيده يرفعه» (3).

و منها إغاثته، قال علیه السلام : «من كفّارات الذّنوب العظام إغاثة الملهوف، و التّنفيس عن المكروب» (4).

و منها عدم الاستماع إلى القدح فيه، قال علیه السلام : «أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دينٍ و سداد طريقٍ، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، أما إنّه قد يرمي الرّامي و تخطئ السّهام، و يحيل الكلام، و باطل ذلك يبور ...» (5)

ص: 68


1- نهج البلاغة، الخطبة: 122
2- المصدر نفسه، الكتاب: 47
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 16
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 20
5- المصدر نفسه، الخطبة 141

و منها عدم البراءة منه إلّا بعد التثبت وفي نهاية المطاف قال علیه السلام : «فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب، ومنه ما يكون عواريّ بين القلوب و الصّدور إلى أجلٍ معلومٍ، فإذا كانت لكم براءةٌ من أحدٍ فقفوه حتّى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدّ البراءة» (1).

و منها أنّه ربما يكون ميزاناً للحق و الباطل، قال علیه السلام : «واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذي تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنّهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدّين و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدٌ صادقٌ، و صامتٌ ناطقٌ» (2).

و قال علیه السلام : «اتّقوا ظنون المؤمنين، فإنّ الله تعالى جعل الحقّ على ألسنتهم» (3).

و منها انّ الآخر ربما يكون مدعاة للشكر، قال علیه السلام : «وأكثر أن تنظر إلى من فضّلت عليه، فإنّ ذلك من أبواب الشكر» (4)

ص: 69


1- نهج البلاغة، الخطبة: 189
2- المصدر نفسه، الخطبة: 147
3- المصدر نفسه، قصار الحكم 300
4- المصدر نفسه الكتاب: 69

ومنها انّ معاشرة الآخر تسبب الصلاح، قال علیه السلام : «قارن أهل الخير تكن منهم، و باين أهل الشّرّ تبن عنهم» (1).

ومنها انّ التمسك بالآخر المهتدي سبب للنجاة، قال علیه السلام : «رحم الله امراً سمع حكماً فوعى، و دعي إلى رشادٍ فدنا، و أخذ بحجزة هادٍ فنجا» (2)

و قال علیه السلام في أهل الذكر : «يذكّرون بأيّام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنّجاة، و من أخذ يميناً و شمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة، و كانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات، و أدلّة تلك الشّبهات» (3).

5- الفرد المخالف الكافر أو الذمي:

الآخر المخالف ربما يكون كافراً فإذا كان محارباً لا شك في لزوم محاربته و الوقوف أمامه، إما إذا كان مسالماً أو في ذمة الإسلام، فهنا لابدّ من التعامل معه برفق ولين طالما لم يصدر منه ما يخالف القواعد الإسلامية و ما يخالف الذمة، قال علیه السلام في كتابه للأشتر: «و أشعر قلبك

ص: 70


1- نهج البلاغة، الكتاب: 31
2- المصدر نفسه، الخطبة 75
3- المصدر نفسه، الخطبة: 221

الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم ... فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق» (1).

كما يجب الدفاع عنه عند ما يتعرّض لغارة أو مساءة، كما تألم علیه السلام عند تعرّض نساء أهل الذمة للإساءة من قبل جيش معاوية، قال علیه السلام : «و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع و الاسترحام ... فلو أنّ امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً بل كان به عندي جديراً»(2).

كما ينبّه علیه السلام إلى أنّ التعامل معهم لابدّ و أن يكون بحذر ومشوب بالشدة واللين مشيراً إلى لزوم ترك القسوة و الظلم، فقد كتب إلى بعض عماله: «أمّا بعد فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظةً و قسوةً، و احتقاراً و جفوةً و نظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، و لا أن يقصوا و يجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللّين تشوبه بطرفٍ من الشّدّة، وداول لهم بين القسوة و الرّأفة، و امزج لهم بين التّقريب

و الإدناء، و الإبعاد و الإقصاء» (3).

ص: 71


1- نهج البلاغة الكتاب 53
2- المصدر نفسه، الخطبة: 27
3- المصدر نفسه، الكتاب: 19

6 - الفرد المنافق أو الذي يكون من أهل الدنيا:

انّ الإنسان في تعامله و علاقته مع الآخر المنافق أو المنغمس في الدنيا و الأهواء، يجب عليه الاجتناب والحذر منه وعدم متابعته.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : «أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، والزّالّون المزلون، يتلوّنون ألواناً، ويفتنّون افتناناً، و يعمدونكم بكلّ عمادٍ، و يرصدونكم بكلّ مرصادٍ قلوبهم دويّةٌ، و صفاحهم نقيّةٌ يمشون الخفاء، و يدبّون الضّراء و صفهم دواءّ، و قولهم شفاءّ و فعلهم الدّاء العياء حسدة الرّخاء، ومؤكّدوا البلاء ومقنطوا الرّجاء لهم بكلّ طريقٍ صريعٌ، و إلى كلّ قلبٍ شفيعٌ، ولكلّ شجوٍ دموعٌ يتقارضون الثّناء، ويتراقبون الجزاء إن سألوا الحفوا، و إن عذلوا كشفوا و إن حكموا أسرفوا قد أعدّوا لكلّ حقًّ باطلاً، و لكلّ قائم مائلاً، ولكلّ حيّ قاتلاً، و لكلّ بابٍ مفتاحاً، و لكلّ ليلٍ مصباحاً يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم يقولون فيشبّهون، ويصفون فيموّهون قد هوّنوا الطريق، وأضلعوا المضيق فهم لمة الشّيطان وحمة النّيران، أولئك حزب الشّيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون» (1).

و قال علیه السلام : «و لقد قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : إنّي لا أخاف على

ص: 72


1- نهج البلاغة، الخطبة: 194

أمتي مؤمناً و لا مشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المشرك فيقمعه الله بشركه، و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان، عالم اللّسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون» (1).

و كتب علیه السلام في عهده للأشتر : ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، و يعدك الفقر، و لا جباناً يضعفك عن الأمور، و لا حريصاً يزيّن لك الشّره بالجور، فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظَّنّ» (2)

و قال علیه السلام : «و أنعم الفكر فيما جاءك على لسان النّبيّ الأمّيّ صلی الله علیه و آله و سلم ممّا لا بدّ منه و لا محيص عنه، و خالف من خالف ذلك إلى غيره، و دعه و ما رضي لنفسه» (3).

و قال علیه السلام : «إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجلٌ وكله الله إلى نفسه، فهو جائرٌ عن قصد السّبيل، مشعوفٌ بكلام بدعةٍ ودعاء ضلالةٍ، فهو فتنةٌ لمن افتتن به، ضالٌّ عن هدي من كان قبله، مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. و رجلٌ قمش جهلاً، موضعٌ في جهّال الأمة، عادٍ في أغباش الفتنة، عمٍ بما في عقد

ص: 73


1- نهج البلاغة، الكتاب: 27
2- المصدر نفسه، الكتاب: 53
3- المصدر نفسه، الخطبة: 153

الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً و ليس به» (1)

7- الفرد العدو :

ليعلم انّ وجود الآخر العدو من الابتلاءات التي يبتلي الله تعالى بها عباده الصالحين، كما ذكر ذلك أمير المؤمنين علیه السلام لمعاوية حيث قال

له: «و قد ابتلاني الله بك و ابتلاك بي، فجعل أحدنا حجّةً على الآخر» (2).

ثم انّ العلاقة مع الآخر العدو تختلف باختلاف الزمان و المكان فتارة يتعامل معه بالشدّة و تارة أخرى بالصفح والعفو ابتغاء الأجر، كما قال علیه السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله : «إن أبق فأنا وليّ دمي، و إن أفن فالفناء ميعادي، و إن أعف فالعفو لي قربةٌ، و هو لكم حسنةٌ، فاعفوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم» (3)

وفي سياق تشجيعه علیه السلام على العفو عن العدو عند القدرة عليه، و عندما يأمن الإنسان من جانبه يقول علیه السلام : «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه» (4)

و كذلك معاملة العدو بالفضل كما قال علیه السلام : «و خذ على عدوّك

ص: 74


1- نهج البلاغة الخطبة: 17
2- المصدر نفس الكتاب 55
3- المصدر نفسه الكتاب 23
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 7

بالفضل فإنّه أحلى «الظفرين»(1)

كما صنع هو علیه السلام لما غلب على الماء في أيام صفين و لم يمنع جيش العدو من الماء كما صنعوا هم في أول الأمر لما سيطروا على الماء حيث منعوا جيش المسلمين من الماء.

أما إذا كان الآخر العدو في ساحة الحرب، وبعد دخوله في مواجهة علنية، فهنا يجب الثبات و الحزم و الاستعداد الكامل، قال علیه السلام في وصيته يوصي بها الجيش: «إيّاكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، و إذا غشيكم اللّيل فاجعلوا الرّماح كفّةً (2)، ولا تذوقوا النّوم إلا غراراً أو مضمضةً» (3).

أما بعد الانتصار و وقوع الهزيمة بالعدو، يقول علیه السلام : «فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، و لا تصيبوا معوراً، و لا تجهزوا على جريحٍ، ولا تهيجوا النّساء بأذًى» (4).

إلى هنا انتهينا من تبيين كيفية العلاقة مع الآخر سواء كان مجتمعاً أو فرداً واحداً، و هذه العلاقة هي التي تحدّد تحدد مسير الإنسان و تدخله في

ص: 75


1- نهج البلاغة الكتاب: 31
2- الكفّة الدائرة، وكل ما استدار فهو كفّة
3- نهج البلاغة، الخطبة: 11
4- المصدر نفسه، الكتاب: 140

معسكر الخير أو الشر، و حسن العاقبة أو سوء العاقبة، بحيث حتى انّ الرضا و السخط بأفعال الآخرين لها دخل في مستقبل الإنسان الأخروي.

و بهذا الصدد يقول أمير المؤمنين علیه السلام : «أيها النّاس، إنما يجمع النّاس الرّضا والسّخط، و إنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحدٌ فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السّكّة المحماة في الأرض الخوارة» (1).

***

ص: 76


1- نهج البلاغة، الخطبة: 201

3- الشيطان

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (1)

و قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)(2).

بعد التدبر في هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات التي تذكر الشيطان وعداوته للإنسان، كان لزاماً علينا الاهتمام بهذا الجانب و رسم خطة عمل في كيفية التعامل مع هذا العدوّ للتخلّص من وساوسه، إذ انّه حلف بعزة الله أن يغوينا بأجمعنا: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (3).

ص: 77


1- يس: 60
2- النساء: 119
3- ص: 82

و له طرق مختلفة في الإغواء قال عنها أمير المؤمنين علیه السلام : «الشّيطان موكّلٌ به يزيّن له المعصية ليركبها، و يمنّيه التّوبة ليسوّفها» (1).

و قال علیه السلام : «إنّ الشّيطان يسنّي لكم طرقه، و يريد أن يحلّ دينكم عقدةً عقدةً، و يعطيكم بالجماعة الفرقة، و بالفرقة الفتنة» (2).

و هكذا يستمر الشيطان مع الإنسان حتى يدخله في حزبه، و يكون كمن قال عنهم أمير المؤمنين علیه السلام : «أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالکه، و وردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه» (3).

و قال علیه السلام في وصف حزب الشيطان: «اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكاً، و اتّخذهم له أشراكاً، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل، و زيّن لهم الخطل» (4).

وقال علیه السلام : «دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، ودعاهم الشّيطان فاستجابوا و أقبلوا» (5)

ص: 78


1- نهج البلاغة الخطبة: 63
2- المصدر نفسه، الخطبة: 120
3- المصدر نفسه، الخطبة 2
4- المصدر نفسه، الخطبة: 7
5- المصدر نفسه، الخطبة: 144

ثم انّ وظيفة الإنسان في تعامله مع هكذا عدو الحذر وعدم الاصغاء إليه، قال علیه السلام : «فاحذروا عباد الله عدوّ الله أن يعديكم بدائه، و أن يستفزّكم بندائه و أن يجلب عليكم بخيله و رجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، و أغرق إليكم بالنّزع الشّديد، ورماكم من مكانٍ قریبٍ، فقال ربّ بما أغويتني لأزيّننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(1).

و قال علیه السلام : «أوصيكم بتقوى الله الذي أعذر بما أنذر، و احتجّ بما نهج، وحذّركم عدوّاً نفذ في الصّدور خفيّاً، و نفث في الآذان نجيّاً فأضل و أردى، و وعد فمنّى، و زيّن سيّئات الجرائم، و هوّن موبقات العظائم، حتّى إذا استدرج قرينته، و استغلق رهينته، أنكر ما زيّن، و استعظم ما هوّن، و حذّر ما أمّن» (2).

كما يأمرنا علیه السلام بالاعتبار من حال إبليس و عدم الاغترار و الاعتداد بالنفس بسبب إتيان الصالحات و الخيرات و المبرات، ويقول: «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل، وجهده الجهيد، و كان قد عبد الله ستّة آلاف سنةٍ لا يدرى أمن سني الدّنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعةٍ و احدةٍ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته، كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به

ص: 79


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192
2- المصدر نفسه، الخطبة: 82

منها ملكاً، إنّ حكمه في أهل السّماء و أهل الأرض لواحدٌ، و ما بين الله و بين أحدٍ من خلقه هوادةٌ في إباحة حمًى حرّمه على العالمين» (1)

***

ص: 80


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192

4- البيئة

هل الإنسان مسؤول أمام البيئة التي يعيش فيها، و هل سوف يسئل عن كيفية سلوكه وتعامله مع بيئته التي يسكن فيها؟!

لو نظرنا إلى الأمر من منظار الدين لقلنا نعم انّ الإنسان كما يلزم عليه رعاية ضوابط في سلوكه مع مجتمعه ومع الآخرين، كذلك يلزم

عليه رعاية ضوابط في سلوكه و تعامله مع البيئة، و في ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام : «اتّقوا الله في عباده و بلاده، فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع و البهائم» (1).

و لذا كتب علیه السلام في عهده للأشتر: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، و من طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد، و أهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً» (2).

ص: 81


1- نهج البلاغة، الخطبة: 167
2- المصدر نفسه الكتاب 53

و كان علیه السلام يكتب إلى من يستعمله على الصدقات بالنسبة إلى البهائم التي تؤخذ زكاة: «فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقةٍ و بين فصيلها، ولا يمصر (1) لبنها فيضرّ ذلك بولدها، و لا يجهدنّها (2) ركوباً و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها، و ليرفّه على اللاغب (3) و ليستأن بالنقب و الظّالع (4)، وليوردها ما تمرّ به من الغدر، و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق و ليروّحها في السّاعات، و ليمهلها عند النّطاف (5) والأعشاب.»(6).

كما انّ البيئة آية من آيات الله تعالى تدلّ على وجوده وصفاته كما مضى ذلك.

إلى هنا ننهي الكلام عن العلاقة مع الآخر في ظلّ نهج البلاغة، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين.

***

ص: 82


1- المصر: حلب ما في الضرع جميعه
2-
3- اللاغب: ما أعياه التعب
4- بعير نقب: دقيق الخف، و الظالع: الذي طلع أي غمز في مشيه
5- النطاف: المياه القليلة
6- نهج البلاغة الكتاب : 25

الفهرس

تمهید ... 5

1 - الخالق ... 9

أ - الله تعالى هو المبدأ والمنتهى ... 9

ب - معرفة الله تعالى ... 10

ج - الأنس بالله تعالى ... 16

د - الاستعانة بالله تعالى ... 17

ه_ - حسن الظن بالله تعالى ... 18

و - العمل الصالح ... 20

ز - الطاعة والعبودية ... 25

ح - التقوى ... 27

ط - الدعاء ... 28

ي - الإيمان والإسلام ... 29

2 - المخلوق ... 37

أ - المجتمع الإنساني ... 38

ص: 83

1 - المجتمع الموالي ... 41

2 - المجتمع المتخاذل ... 48

3- المجتمع المخالف (المفتتن) ... 51

ب - الفرد الواحد ... 58

1 - النبي أو الوصي ... 58

2 - الحاكم العادل ... 60

3- الحاكم الظالم ... 62

4- الفرد الموالي ... 63

5 الفرد المخالف الكافر أو الذمي ... 70

6 - الفرد المنافق أو الذي يكون من أهل الدنيا ... 72

7- الفرد العدو ... 74

3 - الشيطان ... 77

4 - البيئة ... 81

الفهرس ... 83

***

ص: 84

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.