نظرية الرزق في الإسلام

هوية الكتاب

نظرية الرزق في الإسلام

الشيخ عبد الهادي الخفاجي

إصدار:

معهد تراث الأنبياء علیهم السّلام

للدراسات الحوزوية الإلكترونية

التابع للعتبة العباسية المقدسة

الطبعة الأولى: 1441ھ

رقم الإصدار: 17

العدد: 500 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

نظرية الرزق في الإسلام

الشيخ عبد الهادي الخفاجي

إصدار:

معهد تراث الأنبياء علیهم السّلام

للدراسات الحوزوية الإلكترونية

التابع للعتبة العباسية المقدسة

الطبعة الأولى: 1441ھ

رقم الإصدار: 17

العدد: 500 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية تُدرِّس المناهج الدّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنت و ليست مباشرة.

يساهم المعهد في نشر و ترويج المعارف الإسلاميَّة و علوم آل البيت علیهم السّلام و وصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، و ذلك من خلال توفير المواقع و التطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين و المصمِّمين في مجال برمجة و تصميم المواقع الإلكترونية و التطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب و الهواتف الذكيَّة.

و بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أمِّ البنين علیها السّلام الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع و ملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات

ص: 3

رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

علىٰ أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوىٰ الإيجابي على شبكة الانترنت و وسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت علیهم السّلام و توجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة و بأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي و بأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

و المعهد يقوم بطباعة و نشر الإنتاج الفكري و العلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات -صدر منها إلى الآن(16) إصداراً في مختلف العناوين العقائدية و الفقهية و الأخلاقية -الّتي تهدف إلى ترسيخ العقيدة و الفكر و الأخلاق، بأسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت علیهم السّلام الموروثة.

و بين يديك عزيزي القارئ، كتاب (نظرية الرزق في الإسلام) لمؤلفه سماحة الشيخ عبد الهادي الخفاجي، حيث تناول فيه ما يتعلق بنظرية الرزق بتوضيح سلس و بيان علمي خالٍ من

ص: 4

التعقيد، و بأسلوب واضح، معتمداً فيه على القرآن الكريم و سُنَّة الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و أهل بيته الطاهرين علیهم السّلام و ما استفاده من كلمات العلماء الأعلام.

نسأل الله عزّوجلّ أن يجعل عملنا في عينه، و أن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

الإهداء

إلى من حملتني في بطنها جنيناً، و أخرجتني إلى الدنيا وليداً، و ربتني في حجرها صغيراً، و سددتني بدعائها كبيراً..

إلى من لم تطلب على كل ذلك جزاء أو شكوراً..

إلى أُمِّي الغالية..

أهدي ثواب هذا الجهد المتواضع..

و أسأل الله تعالى أن يتقبله مني و ينفعني به، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ص: 6

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

مع انبثاق النور المحمدي الأصيل، و بعد إثبات الركائز الأساسية في المجتمع الإسلامي الحنيف ظهرت الحاجة إلى تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، و تنظيم علاقتهم مع الله عزّوجلّ، و تقوية الإيمان به، مما يساعد في بناء مجتمع تسوده المحبة، و الألفة، و الإخلاص، خالياً من الحسد، و التكبر، و الغرور، فمن الأمور التي اهتمَّت بها الآيات المباركة و أولتها عناية خاصة مسألة الرزق و ما يتعلق بها، و بينت ذلك بشكل مفصل حتّى تكرر ذكر لفظ الرزق في القرآن الكريم عشرات المرات، بالإضافة إلى الأحاديث المباركة الواردة عن الرسول الأكرم و أهل بيته المعصومين علیهم السّلام، فتشكلت نظرية متكاملة و رؤية واضحة يزول معها كل شك و ريب في مرجعية الخالق تعالى و قدرته و عدالته.

و من الواضح أن اهتمام الشريعة المقدسة بأمر ما يكشف عن مدىٰ أهميته و تأثيره على سلوك الفرد و المجتمع، خصوصاً إذا كان

ص: 7

الأمر مرتبطاً بحياة الناس و معيشتهم، فان تأمين لقمة العيش و مستلزمات الحياة الضرورية من أولويات الأفراد في المجتمع، بل تعقدت الأمور أكثر و أكثر في زمننا فأصبحت كثير من الاحتياجات الجانبية تعد من الضروريات الأساسية، حتّىٰ أصبحت مصدر قلق يراود فكر الإنسان صباحاً و مساءً؛ لإحساسه بان عدم تأمينها يوقعه في حرج شديد، خصوصاً مع غياب روح الاطمئنان و التوكّل على الله تعالى.

بالإضافة إلى ان اختلاف الأرزاق مع اتحاد القابليات و الاستعدادات يولد نوعا من الاعتراض على عدالة الله تعالى و حكمته.

و هنا لابد للفرد المؤمن ان يتعرف على النظام الرائع الذي أسسه الخالق تعالى -تكويناً و تشريعاً- في تقسيم أرزاق العباد، و تقديرها، و سبب التفاوت فيها، و معرفة أسبابها، و ما يؤدي إلى زيادتها و نقصانها، و معرفة الشبهات التي يمكن أن ترد من هنا و هناك عليها و كيفية دفعها؛ حتّى لا نخدش بعدالة الله تعالى و حكمته.

و سنحاول -إن شاء الله تعالى- إعطاء فكرة عن مجموع النصوص التي تعرضت لهذه المسألة المهمة و الخطيرة، و التي

ص: 8

شكلت ظاهرة قرآنيه واضحة في مجمل الآيات و الروايات المباركة ضمن الفصول الآتية.

و لا أدَّعي الإحاطة التامة بمفاصل هذه المسألة، بل أعرض ما أمكنني الوصول إليه، متوكلاً على الله تعالى في كل ذلك، و أنتظر التسديد و التصحيح من كل ذي علمٍ و رأي.

28/ صفر / 1441ھ

ذكرىٰ وفاة الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله - النجف الأشرف

عبد الهادي الخفاجي

ص: 9

ص: 10

تمهيد

مفهوم نظرية الرزق و شروطها و مقوماتها:

النظرية لغة: مصطلح مشتق من الكلمة الثلاثية (نَظَر)، و معناها التأمّل أثناء التفكير بشيء ما، قال ابن منظور في لسان العرب: النَّظَرُ: الفكر في الشيء تُقَدِّره و تقيسه منك(1). و المراد من الفكر: هو ترتيب أمور في الذهن يتوصل بها إلى مطلوب يكون علماً أو ظناً(2). أو هو ترتيب أمور معلومة يتأدىٰ [بها] إلى مجهول(3).

و المراد من نظرية الرزق في المقام: النظر و التفكر في مجموعة المبادئ و القواعد و الحقائق المرتبطة بموضوع الرزق، التي يمكن

ص: 11


1- لسان العرب ابن منظور، ج 5، ص 217.
2- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي: أحمد بن محمد المقري الفيومي، ج2، ص 479.
3- مجلة تراثنا: مؤسسة آل البيت، ج 34، ص 17.

من خلالها الوصول إلى نتائج علمية و عملية لها ارتباط وثيق بعقيدة الإنسان المؤمن و علاقته مع خالقه العظيم.

فمما لا شك فيه أن الدين الإسلامي الحنيف جاء بمنظومة حياتية متكاملة على المستويين النظري و العملي، قال تعالى: «وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً وَ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل: 89).

و لكن الوصول إلى تلك النظريات و القوانين و الأنظمة يحتاج إلى إعمال جهد فكري استثنائي، قد يكلف الإنسان الباحث أوقاتاً طويلةً من عمره، بل قد يكلفه العمر كله، و هذا عين ما يقوم به علماء المذهب الشريف (رحم الله الماضين منهم و حفظ الباقين)، فليس من السهل أن يصل الإنسان إلى النتائج المرجوة لكل واقعة و حادثة ما لم يكن متضلعاً و خبيراً في علوم الفقه و الأصول و النحو و البلاغة و الصرف و التفسير و المنطق و غيرها. و من هنا نجد التفاوت الكبير في النتائج العلمية بين مدرسة أهل البيت علیهم السّلام و المدارس الأخرىٰ.

و الرزق من المواضيع التي اعتنت بها الآيات المباركة و الأحاديث الشريفة بشكل ملحوظ؛ لما له من أهمية كبيرة في استقرار المؤمن فكرياً و سلوكياً، و من هنا دعت الحاجة إلى تتبع قواعده و مبادئه لنصل إلى النتائج التي أرادها الله تعالى و رسوله

ص: 12

و أهل البيت (صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين) فتتشكل عندنا نظرية متكاملة تضاف إلى النظريات الإسلامية الأخرىٰ.

شروط نظرية الرزق و مقوماتها:

الرزق من المواضيع المهمة ذات الطابع الإبتلائي لمجموع أفراد المجتمع، و له تشعبات كثيرة، يرتبط بعضها بعقيدة الفرد و نمط تفكيره، و بعضها الآخر في تطبيقه الخارجي و سلوكه العملي، فهو بمجمله يمثل نظرية متكاملة من جميع النواحي، و معلوم أن كل نظرية علمية لها مجموعة من الشروط و المقومات التي تعتمد عليها، و عليه سوف نشير إلى مجمل تلك الشروط و المقومات.

أمّا الشروط: فهنالك شروط عامة تذكر لكل نظرية علمية(1)، و الباحث لابد له من الالتفات إليها و من أهمها:

1- أن تكون مكوناتها واضحة، و دقيقة، و محددة الألفاظ و المعاني و المضامين.

2- أن تعبر على ما تدل عليه بإيجاز يبين محتواها و أغراضها و أهداف كل جزء من أجزائها.

ص: 13


1- انظر إلى مقال (تعريف النظرية): جهينة العيسىٰ، نقلاً عن (اتجاهات نظرية في علم الاجتماع: عبدالباسط عبد المعطي)، الموقع الالكتروني (مدونة جهينة)، المقال بتاريخ (الاثنين - 16 - يناير - 2012م).

3- أن تشتمل على معظم الجوانب التي تكوّن تلك النظرية و تحللها و تفسرها قدر الإمكان.

4- لابد أن تكون ذات موضوع و إطار تفسيري خاص بها بحيث لا تتداخل مع نظرية أخرىٰ تتناول و تفسر نفس الموضوع و قضاياه.

5- أن تستمد إطارها المرجعي و التفسيري من حقائق و ملاحظات واقعية يمكن اختبارها علمياً بشكل يثريها و يمنحها الخاصية العلمية.

و من خلال البحث في نظرية الرزق في الإسلام سيتَّضح توفر الشروط المذكورة و بشكل واضح؛ فالرزق لا غموض في مكوناته و ألفاظه و معانيه؛ مع وضوح الأهداف في فصوله و تقسيماته؛ و الإحاطة بكل تفاصيله و أجزائه، مع البيان و التفسير لأغلب الفقرات قدر الإمكان؛ بحيث ظهر بوضوح عدم تداخله مع موضوعات أخرىٰ مختلفة، و كل ذلك بالاعتماد على حقائق و ملاحظات واقعية ذات طابع علمي عملي.

و أمّا المقومات: فهي تمثل مجموعة العناصر التي ترتكز عليها النظرية، و التي يمكن من خلال التأمل في مفرداتها الانتقال إلى الحقائق و النتائج الصائبة، و نشير هنا إلى مقومات نظرية الرزق في المفهوم الإسلامي:

ص: 14

1- مجموعة الحقائق و المفاهيم التي تتعلق بموضوع الرزق، التي تمثل الحالة الوصفية و العلمية لهذا الموضوع، و هذه نستمدها من الآيات المباركة، و الأحاديث النبوية، و أحاديث الأئمة المعصومين، مضافا إلى السيرة العطرة لهم علیهم السّلام.

2- الارتباط الوثيق بين تلك الحقائق و المفاهيم، بما يشكل نسقاً منطقياً محكماً يمكن الانتقال فيه من المقدمات إلى النتائج، و كلما كانت المقدمات مسلمة أو موثوق بها كانت النتائج أدق و أوضح و أقرب إلى إصابة الواقع، و لعل هذا ما يميز النظرية الدينية عن غيرها، عندما يلتزم الباحث بالمصادر الإسلامية السليمة.

3- التفاسير الواردة لكثير من الحالات المرتبطة بموضوع الرزق، حيث إن الرسول الأكرم و أهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) تعرضوا لحالات ربطوا فيها بين الرزق و السعي، أو بينه و بين التوكل على الله تعالى أو بينه و بين حالات أخرىٰ سنتعرض لها خلال البحث -إن شاء الله-، مع تفسير معين لهذا الارتباط؛ فلابد من النظر إلى هذه التفاسير و ربطها بالواقع، مع إخضاعها إلى التجربة -إن أمكن-، و تصبح النظرية مؤكدة و قوية كلما فسرت وقائع أكثر.

ص: 15

ص: 16

الفصل الأول

اشارة

و نتعرض فيه إلى نقطتين:

النقطة الأولىٰ: مفهوم الرزق:

الرزق في اللغة هو العطاء، و هو ما ينتفع به(1). و ليس المقصود في هذا المقام بيان المعنىٰ الموضوع له، بل بيان المعنىٰ الذي استعمله القرآن الكريم، والروايات المباركة.

و من خلال التتبع وجد أنه استعمل بمعنىٰ أعم من أن يكون دنيوياً أو أخروياً، مادياً أو معنوياً، فعلىٰ هذا يكون كل ما فيه نصيب للعباد من قبل الله تعالى و ينتفعون منه -من مواد غذائية، و مسكن، و ملبس، أو علم، و عقل، و فهم، و إخلاص- يسمىٰ رزقاً(2).

الرزق الدنيوي: و هو على نوعين مادي و معنوي.

ص: 17


1- لسان العرب: ابن منظور، ج 10، ص 115.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ناصر مكارم الشيرازي، ج 6، ص 468ط.

1- الرزق الدنيوي المادي:

و هو من أوضح مصاديق الرزق حيث يشمل المأكل، و المشرب، و الملبس، و المسكن، و وسائل النقل، و الصحة، و السلامة، و نحو ذلك، و هذا لا يقتصر على الإنسان بل يشمل كل الكائنات الحية، مهما كانت قوية أو ضعيفة، صغيرة أو كبيرة، في البر أو في البحر أو في الجو، و لعل هذا المعنىٰ للرزق هو الشائع في الاستعمال العرفي.

2- الرزق الدنيوي المعنوي:

و هو ما لم يكن من الأنواع التي ذكرناها للرزق المادي كالتوفيق، و الإيمان، و البركة، و نحو ذلك، و هذا المعنىٰ تجده واضحاً في أدعية الأئمة علیهم السّلام، فقد ورد عنهم «اللهم ارزقني التقوىٰ ما أبقيتني، و الصلاح ما أحييتني، و الصبر على ما أبليتني، و الشكر على ما آتيتني، و البركة فيما رزقتني»(1)، و ورد كذلك: «اللهم ارزقنا توفيق الطاعة، و بعد المعصية، و صدق النية، و عرفان الحرمة»(2).

ص: 18


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 87، ص 305.
2- المصباح: الكفعمي، ص 280.

الرزق الأخروي:

أشارت الآيات المباركة، و الأحاديث الشريفة، أن أهل الآخرة -سواء كانوا من أهل اللجنة أو النار- لهم رزق عند الله تعالى من المأكل و المشرب، و الكرامة، و نحو ذلك، بحيث يمكن أن نقسمه إلى نوعين أيضاً، مادي و معنوي.

1- الرزق الأخروي المادي:

وردت آیات مباركة تبين الرزق المادي لأهل اللجنة و أهل النار، فأمّا أهل اللجنة فقد بيّن الله تعالى أنهم منعمون بأفضل النعم، و أن رزقهم يأتيهم بلا طلب، و لا نصب، قال تعالى: «وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينُ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْتِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سلاماً (26)» (الواقعة 10-26).

ص: 19

و هذا المعنىٰ يعتبر من الأمور الواضحة جداً في الإسلام؛ فالله تعالى يثيب العبد المؤمن بما لا عين رأت و لا أُذُن سمعت، و بما لا يخطر على قلب بشر.

ورد أن الإمام الحسن علیه السّلام اغتسل و خرج من داره في حلة فاخرة، و بزة طاهرة، و محاسن سافرة(1)، و قسمات(2) ظاهرة... و وجهه يشرق حسناً... فعرض له في طريقه من محاويج(3) اليهود، همَّ في هدم(4)، قد أنهكته العلة، و ارتكبته الذلة، و أهلكته القلة، و جلده يستر عظامه و ضعفه يقيد أقدامه،- أي: كان فقيراً معدماً-... فاستوقف الحسنَ علیه السّلام و قال: يا بن رسول الله: انصفني، فقال علیه السّلام: «في أي شيء»؟ فقال: جدك يقول: «الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»، و أنت مؤمن و أنا كافر، فما أرىٰ الدنيا إلّا جنة تتنعم بها، و تستلذ بها، و ما أراها إلّا سجناً لي قد أهلكني ضرّها، و أتلفني فقرها.

فلما سمع الحسن علیه السّلام كلامه أجابه قائلاً: «یا شیخ، لو نظرت إلى ما أعد الله لي و للمؤمنين في الدار الآخرة مما لا عين رأت، و لا

ص: 20


1- سافرة: سفر الصبح: أضاء و أشرق كأسفر، و المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر.
2- قسمات: القسمة بكسر السين و فتحها: الحسن.
3- محاويج: محتاجون. و المراد من فقراء اليهود المحتاجين.
4- هم في هدم: الهم بالكسر الشيخ الفاني، و الهدم بالكسر: الثوب البالي، أو المرقع، أو خاص بكساء الصوف، و الجمع أهدام و هدم.

أُذن سمعت، لعلمت أني قبل انتقالي إليه في هذه الدنيا في سجن ضنك، و لو نظرت إلى ما أعد الله لك و لكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم، و نكال العذاب المقيم، لرأيت أنك قبل مصيرك إليه الآن في جنة واسعة، و نعمة جامعة».(1)

و أمّا أهل النار فقد قال تعالى: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ أضل الجحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67)» (الصافات: 62-67)، و قال تعالى: «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينِ(2) (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخاطئونَ (37)» (الحاقة: 35-37)، و قال تعالى: «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25)» (النبأ: 24 - 25)، و قال تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارُ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ

ص: 21


1- بحار الأنوار المجلسي، ج 43، ص 347.
2- قال الشيخ الطوسي رحمه الله: و الغسلين هو الصديد الذي يتغسل بسيلانه من أبدان أهل النار. و وزنه (فعلين) من الغسل و قال ابن عباس: هو صديد أهل النار. و قيل: أهل النار طبقات منهم من طعامه الضريع، و منهم من طعامه الغسلين، لأنّه -تعالى- قال في موضع آخر «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» [الغاشية: 6]، و قال قطرب: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبر عنه بعبارتين، و قال قوم: يجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلّا من ضريع و لا شراب إلّا من غسلين، فسماه طعاماً [التبيان في تفسير القرآن: ج 10، 106].

لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءهُمْ» (محمد: 15).

و من هنا نلاحظ أن أهل النار يضجّون من هذه الحالة، و يستغيثون بأهل الجنة، و يطلبون منهم شيئاً مما رزقهم الله تعالى، و لكن من دون جدوىٰ لأنها محرمة عليهم، و هذا ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: «وَ نادىٰ أصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» (الأعراف: 50).

2- الرزق الأخروي المعنوي:

الآخرة هي دار الكرامة و الرضوان للإنسان المؤمن، قال تعالى: «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ َذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)»(التوبة: 72)، و قال تعالى: «و لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)» (الواقعة: 25 - 26).

و هي دار الذل و الهوان للإنسان الكافر و المنافق، قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالداً فيها ذلِكَ الحِزْيُ الْعَظِيمُ(63)» (التوبة: 63)، و قال تعالى: «يَوْمَ

ص: 22

لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)» (غافر: 52).

طرق إيصال الرزق:

و طرق إيصال الرزق من الله تعالى إلى المخلوقات المختلفة مذهلة و محيرة حقاً، فانظر إلى الجنين الذي يعيش في بطن أمِّه و لا يعلم أحد من أسراره شيئاً، و إلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيات الأرض، و المخلوقات التي في الأشجار و على قمم الجبال أو في أعماق البحار، و في الأصداف.

فرزق بعض أنواع الطيور يكون مدّخراً بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة، هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذىٰ من حيوانات البحر، تحتاج أسنانه إلى (منظف طبيعي) فيأتي إلى ساحل البحر و يفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي ادُّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم -دون وحشة و لا اضطراب- و تبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، و تريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه (هذه الفضلات) من جهة أخرى، و حين تخرج الطيور و تطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء و يعود إلى أعماق البحر(1).

ص: 23


1- الأمثل: ج 6، ص 470.

كان من دعاء داود علیه السّلام: يا رازق النعاب في عشه، قال: و ذلك أن الغراب إذ فقس عن فراخه، خرجت بيضاً، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل الله تبارك و تعالى لها ذباباً يدخل في أجوافها، فيكون ذلك غذاءً لها حتّى تسود، فإذا اسودَّت عاد الغراب فغذّاها، و يرفع الله تعالى الذباب عنها(1).

النقطة الثانية: الرازق هو الله تعالى:

اشارة

بسبب اعتماد الإنسان على الأسباب الطبيعية التي اعتادها في حياته اليومية تصور أن الحياة عبارة عن مسابقة كبرىٰ، يربح فيها من كان أكثرهم همَّةً و جرياً، و أمضاهم مكراً و دهاءً، و غفل عن الحقائق الإلهية التي تسير الحياة الدنيا و الآخرة، فإذا أيقن الإنسان أن رزقه بيد الله تعالى لا غير، و أن كل ما عداه هو بتسبيب منه تعالى، حينئذٍ يمكنه أن يعيش حراً في أفكاره و انتماءاته، و لما أصبح آلة بيد غيره يحركه كيفما شاء، فمحاربة الناس بأرزاقهم من أبشع صور الاستغلال التي تمارس من قبل المتنفذين و المتسلطين.

إذن الحقيقة التي لابد لكل مسلم أن يتيقَّنها هي أن الله تعالى هو الرازق لكل المخلوقات في برها و بحرها و جوِّها و أرضها، قال تعالى: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)» (هود: 6)، بل

ص: 24


1- حياة الحيوان الكبرىٰ: كمال الدين دميري، ج 2، ص 482.

جعله عزّوجلّ أحد المغيبات الخمسة التي لا يعلمها إلّا هو، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما في الأرحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أرْضِ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)» (لقمان: 34).

و بالرغم من أنَّ نسبة الرزق إلى الله سبحانه و تعالى من الضروريات و الواضحات في الدين، قال تعالى: «قلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرضِ قُلِ اللهُ (24)» (سبأ: 24)، و قال سبحانه: «وَ الَّذِي هُوَ یُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79)» (الشعراء: 79)، و الآيات الدالة على ذلك غزيرة جداً، و مع ذلك فنحن ننسبه إلى أنفسنا و أن الرزق قد حصل بعملنا و بكدِّ أيدينا، قال سبحانه: «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (78)» (القصص: 78)، و القائل هو قارون الذي كان «مِنْ قَوْمِ مُوسى»، و لئن كانت هذه الآية خاصة به، فهناك آية عامة لكلّ أحد، قال جلّ جلاله: «ثُمَّ إذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» (الزمر: 49)، و هذا في واقعه من أشكال الشرك الخفي(1).

الرزق حق على الله تعالى:

ضمان الرزق يعني حالة الطمأنينة و الاستقرار، فكثير من الناس يستقر حاله و يرتب معاشه على نمط معين عندما يكون له

ص: 25


1- ما وراء الفقه: ج 1، ص 137.

راتب معين من الحكومة، و ما ذلك إلّا لإيمانه بوصول رزقه إليه كاملاً في كل شهر من غير أن ينقص منه شيئاً، و لكن ما أروع الإنسان المؤمن حينما يعلم تلك الحقيقة الغائبة عنه، و هي أن الله تعالى جعل رزق العباد حقاً عليه، حيث جاء في القرآن الكريم أن الرزق من أفعاله تعالى المختصَّة به، و أنه حق للخلق عليه، و هذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية المباركة بوضوح كقوله تعالى: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلُّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (هود: 6)، فقوله: «عَلَى اللهِ رِزْقُها» دال على وجوب الرزق عليه تعالى، و لا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، و لذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الانعام: 12)، و قوله تعالى: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (الروم: 47).

و من الآيات الدالة على أن الرزق حق على الله عزّوجلّ قوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ» (الملك: 21)، و قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (الذاريات: 58)، و قوله: «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» (الذاريات: 22)، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 26

روي أنَّ رجلاً لازم باب عمر، فضجر منه، فقال له: يا هذا، هاجرت إلى الله تعالى أم إلى باب عمر؟ اذهب فتعلم القرآن؛ فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل و غاب مدَّة حتّى افتقده عمر، فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة، فأتاه عمر فقال له: إني اشتقت إليك، فما الذي شغلك عنّا؟! قال: إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر و آل عمر، فقال: رحمك الله فما وجدت فيه؟ قال: وجدت فيه «وَ في السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» (الذاريات: 22)، فقلتُ: رزقي في السماء و أنا أطلبه في الأرض، إني لبئس الرجل، فبكىٰ عمر و قال: صدقت، و كان بعد ذلك ينتابه و يجلس إليه(1).

و أشار إلى هذا المعنىٰ الرازي في تفسيره، عندما تعرض لقوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ» (الملك: 21) حيث قال: و المعنى: من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم، و هذا أيضاً مما لا ينكره ذو العقل، و هو أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر و النبات و غيرها لما وجد رازق سواه(2).

و الأئمة علیهم السّلام أكَّدوا هذا المعنى في حياتهم العملية ليلفتوا المؤمنين إليه، عن أبي حمزة الثمالي قال: ذُكر عند علي بن

ص: 27


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد: ج 19، ص319-320.
2- تفسير الرازي: ج 30، ص 72.

الحسين علیهما السّلام غلاء الأسعار، فقال: «فما عليَّ من غلائه، إن غلا فهو عليه، و إن رخص فهو عليه»(1).

و قد يحارب الإنسان في رزقه، فيطرد من وظيفته، أو يهجّر من بلده، أو يمنع من دخول السوق، أو غير ذلك من الموانع، و لكن الله تعالى يفتح له باباً آخراً، و قد يكون أوسع من الباب الأول، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «ما سد الله عزّوجلّ على مؤمن باب رزق إلّا فتح الله له ما هو خير منه»(2)، فكم من مؤمن هُجِّر من بلده ففتح الله عليه في بلد آخر، بل إن البلد الآخر صار سبباً لازدياد خدمته و شهرته و مكانته، و أمثلة ذلك شاخصة أمام أعيننا كما حصل لعدد من العلماء و الخطباء و المبلغين.

حق من غير استحقاق

عندما نقول: إن الرزق حق على الله تعالى جعله على نفسه، لا يتصور أن ذلك لاستحقاق الإنسان، و أن هذا الحق في مقابل شيء آخر، كلا، نحن لا نستحق شيئاً على الله تعالى حتّى يكون ذلك سبباً للحق عليه تعالى.

و أشار إلى هذا المعنى العلامة الطباطبائي، حيث قال: فالرزق مع كونه حقاً على الله تعالى لكونه حقاً مجعولاً من قِبَله، عطية منه

ص: 28


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 57.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 53.

من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه، بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق(1).

و كذلك أشار إليه الرازي، عندما تعرض لتفسير قوله تعالى: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبينٍ» (هود: 6)، حيث قال: تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية و قال: إن كلمة (على) للوجوب، و هذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله، و جوابه: أنه واجب بحسب الوعد و الفضل و الإحسان(2).

رزق بغیر حساب:

أشارت أكثر من آية قرآنية مباركة إلى أن رزق الله تعالى بغير حساب، كما في قوله عزّوجلّ: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (البقرة: 212)، و قوله تعالى: «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قال يا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (آل عمران: 37).

ص: 29


1- تفسير الميزان: ج 3، ص 140.
2- تفسير الرازي: ج 17، 186.

و قد ذكر الفخر الرازي في تفسيره ثلاثة وجوه لبيان المراد من الرزق بغير حساب(1):

الوجه الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد؛ إذ ليس فوقه ملك يحاسبه، بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب.

الوجه الثاني: أن رزق الله تعالى غير مقدور و لا محدود، أي: غير خاضع للتقدير، بل هو مبسوط للعباد و موسع عليهم، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة من غير تقدير.

الوجه الثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق، لأن من أعطىٰ على قدر الاستحقاق فقد أعطىٰ بحساب، و قال بعض من ذهب إلى هذا المعنىٰ: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم، و الله أعلم.

و يمكن أن نقول: إن الوجه الثالث هو الصحيح؛ لأن توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض و لا استحقاق؛ لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً، فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى(2).

ص: 30


1- تفسير الرازي: ج8، ص10.
2- تفسير الميزان ج 3، ص 141.

و أمّا ما ذكر في الوجه الأول -من كون نفي الحساب راجعاً إلى نفي وجود مخلوق أعلىٰ منه له القدرة على محاسبته-، فهو بعيد؛ لأن الآيات المباركة الوارد فيها هذا المعنىٰ تتكلم مع المؤمنين المقرِّين لله تعالى بالوحدانية و القدرة و القيومية على جميع المخلوقات؛ فلا يتوهَّمون وجود مخلوق فوقه قادر على محاسبته، حتّى تأتى هذه الآيات على كثرتها لنفيه.

و ما ذكر في الوجه الثاني -من كون نفي الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنىٰ كونه غير محدود و لا مقدر- فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (القمر: 49)، و قوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (الطلاق: 2-3)، فالرزق منه تعالى عطية بلا عِوَض، لكنه مقدَّر على ما يريده تعالى(1).

رزق بغير احتساب:

جاء في بعض الآيات المباركة و الروايات الشريفة أن الرزق قد يكون من غير احتساب كما قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» (الطلاق: 2-3)، أى: أن الله تعالى جعل أسباباً للرزق خافية عن الإنسان المؤمن، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «أبىٰ الله عزّوجلّ أن يجعل أرزاق المؤمنين

ص: 31


1- تفسير الميزان ج 3، ص 141.

إلّا من حيث لا يحتسبون»(1)، و في هذا تربية رائعة للفرد المسلم في الاعتماد على الله تعالى في رزقه و في جميع الأمور، فالإيمان الكامل يقتضي عدم الوثوق بالأسباب، و إن كان مطلوباً منه تحصيلها و السعي إليها.

و حرص أئمتنا علیهم السّلام على تربية أصحابهم بما يتناغم و تلك الثقافة المتوارثة عن القرآن الكريم، و سُنَّة رسوله العظيم صلّی الله علیه و آله، قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «كن لما لا ترجو أرجىٰ منك لما ترجو؛ فإن موسى علیه السّلام خرج يقتبس ناراً لأهله فكلَّمه الله عزّوجلّ و رجع نبياً، و خرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان، و خرج سحرة فرعون يطلبون العز لفرعون فرجعوا مؤمنين»(2).

و هنالك ثمرات كبيرة تترتب على هذا الخلق الرفيع:

منها: الارتباط بالله تعالى وحده، و الإيمان بأن أسباب الرزق و إن تعددت فمرجعها إليه، و لا يكون شيء إلّا بإذنه.

و منها: كثرة الدعاء و التوسل بالله العظيم الذي بيده خزائن السماوات و الأرض، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إن الله عزّوجلّ جعل أرزاق المؤمنين من حيث لا يحتسبون، و ذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه»(3).

ص: 32


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 67.
2- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 68.
3- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 68.

و منها: حالة الاستقرار النفسي، فكلّ عاقل إذا تيقَّن أن مصدر رزقه بید رجل، کریم، نبیل، حكيم، غني، عادل، اطمأنَّ لذلك و عاش عيشة هادئة مستقرة، فكيف إذا كان رزقه بيد أكرم الكرماء، و أنبل النبلاء، و أحكم الحكماء، و أغنىٰ الأغنياء، و من لا يظلم عنده مثقال ذرة في السماوات و الأرض؟

و منها: الرضا برزق الله تعالى، عندما يتيقَّن الإنسان المؤمن أن رزقه بيد الحكيم العادل، الذي يعطي لحكمة، و يمنع لحكمة، و رحمته وسعت السماوات و الأرض، فلا يحزن على ما فاته، و لا يأسف على ما في يد غيره، قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «و من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته»(1). و في رواية أخرىٰ عنه علیه السّلام: «و من رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره»(2)، بخلاف من لا يرضىٰ برزقه، عن الإمام علي علیه السّلام، عن النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله -في حديث المناهي- قال: «من لم يرض بما قسمه الله له من الرزق، و بث شكواه، و لم يصبر، و لم يحتسب، لم ترفع له حسنته، و يلقىٰ الله عزّوجلّ و هو عليه غضبان إلّا أن يتوب»(3).

ص: 33


1- نهج البلاغة: ج 4، ص 81.
2- الكافي: ج 8، ص 19.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج 17، ص 22.

ص: 34

الفصل الثاني

اشارة

و نتكلم فيه عن نقطتين:

النقطة الأولىٰ: نسبة الرزق إلى غير الله تعالى:

بعد أن أوضحنا أن الرازق هو الله تعالى، و أن الرزق حق عليه، مجعول من قِبَل نفسه، نلاحظ أن هنالك آيات مباركة تنسب الرزق إلى غيره تعالى، كما في قوله: «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» (البقرة: 233)، حيث نسبت الرزق إلى الوالد؛ لأنه فاعل «رِزْقُهُنَّ»، و كذلك في قوله تعالى «وَ اللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (الجمعة: 11)، مما يدل على وجود رازقين و الله خير منهم، و هكذا في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» (النساء: 5)، و من هنا تصدّىٰ المفسرون للإجابة عن هذا السؤال بأن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلّا إليه، فما ينسب إلى غيره تعالى -كما في الآيات المتقدمة- كل ذلك من

ص: 35

قبيل النسبة بالغير، كما أن الملك و العزة لله تعالى في ذاته، و لغيره بإعطائه و إذنه، فهو الرزاق لا غير(1).

و لما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه، فإن (الرازق) و (الرزّاق) بمعناهما الحقيقي لا يستعملان إلّا فيه فقط، و إذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنها من باب المجاز(2).

فالمصدر الأول لعالم الخلق و جميع العطايا و الإمكانات الموجودة عند الناس هو الله، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس لبلوغ العزة و السعادة. و هو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذل و التعاسة. و على هذا الأساس يمكن إرجاع كل تلك الأمور إليه، و ليس في ذلك أي تعارض مع حرية إرادة البشر، لأن الإنسان هو الذي يتصرَّف بهذه القوانين و المواهب و القوىٰ و الطاقات تصرفاً صحيحاً أو خاطئاً(3).

و هذا المعنى نجده في القرآن الكريم في موارد أخرى، كما في نسبة قبض الأرواح، حيث إن بعض الآيات تنسبه إلى الله تعالى، كما في قوله: «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» (الزمر: 42)،

ص: 36


1- تفسير الميزان، ج 3، ص138.
2- المثل، ج 6، ص 348.
3- الأمثل، ج 2، ص 453.

و في بعضها الآخر تنسبه إلى ملك الموت، كما في قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» (السجدة: 11)، و نسب إلى الرسل في آية أخرى، كما في قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ» (الأنعام: 61)، و إلى الملائكة في آية أخرى، كما في قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (النحل: 32).

في الاحتجاج عن أمير المؤمنين علیه السّلام أنه سئل عن قول الله تعالى: «اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها»، و قوله: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ»، و قوله عزّوجلّ: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»، و قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ»، فمرة يجعل الفعل لنفسه و مرة لملك الموت و مرة للرسل و مرة للملائكة، فقال علیه السّلام: «إن الله تعالى أجلّ و أعظم من أن يتولىٰ ذلك بنفسه، و فعل رسله و ملائكته فعله؛ لأنهم بأمره يعملون، فاصطفىٰ من الملائكة رسلاً و سفرة بينه و بين خلقه، و هم الذين قال الله فيهم: «اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ» [الحج: 75]، فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، و من كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة، و لملك الموت أعوان، من ملائكة الرحمة و النقمة، يصدرون عن أمره، و فعلهم فعله، و كل ما يأتونه منسوب إليه، فإذا كان فعلهم فعل ملك الموت

ص: 37

ففعل ملك الموت فعل الله؛ لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء، و يعطي و يمنع و يثيب و يعاقب على يد من يشاء، و إن فعل أمنائه فعله، كما قال: ﴿وَ ما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ» [الإنسان: 30](1).

فتبين أن اختلاف النسبة نظراً إلى اختلاف مراتب الأسباب، فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت، و فوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجري لأمر الله، و الله من ورائهم محيط، و هو السبب الأعلى و مسبب الأسباب، و مثال ذلك كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب و اليد كاتبة و الإنسان كاتب(2).

فالعمل الذي يتم بوسيلة معينة، ينسب فعل هذا العمل تارة للوسيلة ذاتها، و أخرى للذي أوجد و صنع هذه الوسيلة، و كلا النسبتين صحيحتان(3).

النقطة الثانية: الرزق الحرام:

اشارة

هنالك مسألة يذكرها العلماء و هي: أن الكسب الحرام هل هو رزق أو ليس برزق؟ و عندما نقول: بأنه رزق فهذا يعني أنه من الله تعالى، و ينسب إليه؛ لأنه تقدم أن الرزق ينسب حقيقة إليه تعالى و إلى غيره مجازاً، و هذا الفهم -و هو أن الكسب الحرام رزق

ص: 38


1- الاحتجاج: الطبرسي، ج 1، ص 367.
2- تفسير الميزان ج 16، ص 215.
3- الأمثل: ج 3، ص 410.

من الله تعالى- نلاحظه يستعمل عند الفسقة من أهل الرقص، و الغناء، و الخلاعة، و الميوعة، أو من البنات التي تدخل سلك الرياضة الفاضحة العارية؛ بحيث إن أحدهم يقول: وفقني الله تعالى و استطعت التفوق و أخذ الميدالية الكذائية، أو تقول الراقصة أو المغنية: كنت غير معروفة و لكن الحمد لله تعالى بعد ذلك اشتهرت و توفقت، و هم يعتبرون أن ما حصلوا عليه من أموال، و سمعة، و شهرة، هو رزق من الله تعالى لهم.

و ممن ذهب إلى أن الرزق المحرَّم ينسب إلى الله تعالى هم الأشاعرة(1)، و هذا ينسجم مع مذهبهم العقائدي؛ حيث إنهم يقولون بالجبر، و ينسبون الأفعال كلها لله تعالى صالحها و طالحها، و أن الإنسان مجبور في أفعاله و ليس مخيَّراً، و هذا هو مذهب الجبر، و قد بيَّن علماؤنا في العقائد أن هذا المذهب باطل، و يلزم عليه عدَّة لوازم فاسدة، منها نسبة القبيح إلى الله تعالى عندما يقتل الإنسان الآخر ظلماً و عدواناً و يقولون هو فعل الله، و منها إبطال الثواب و العقاب؛ لأنه إذا كان الفعل فعل الله تعالى فلماذا يعاقب عليه يوم القيامة؟ و توجد لوازم فاسدة أخرى مذكورة في محلها في العقائد.

ص: 39


1- إنما نركز على قول الأشاعرة لأنه يمثل الجانب العقائدي عند أغلب أبناء العامة؛ و لأنه يخالف مذهب أهل البيت علیهم السّلام في أغلب المسائل العقائدية.

بيان شبهة الأشاعرة:

استدلت الأشاعرة على مطلبها بثلاثة أمور، ذكرها الفخر الرازي في تفسيره، و الفخر الرازي يعد من أبرز علماء الأشاعرة، و الأمور الثلاثة هي:

الأمر الأول: الرزق في كلام العرب هو الحظ، قال تعالى: «وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» (الواقعة: 82)، أي: حظكم من هذا الأمر، و الحظ هو: نصيب الرجل و ما هو خاص له دون غيره(1). إذن فهم اعتمدوا على استعمال الرزق في أصل اللغة، و لما كان الرزق في أصل اللغة هو الحظ و الحظ هو نصيب الرجل و ما هو خاص له دون غيره و الآية نفت أن يكون الإنسان هو الذي يجعل رزقه فلابد أن يكون الرزق الحرام رزقاً.

قال الرازي: و قال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً، فحجة الأصحاب من وجهين:

الأول(2): أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ و النصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً و نصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له(3).

ص: 40


1- تفسير الرازي: ج 2، ص 30.
2- و الوجه الثاني هو ما سنذكره في الأمر الثاني.
3- تفسير الرازي: ج 2، ص 30.

الأمر الثاني: التمسك بقول الله تعالى: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها» (هود: 6)، حيث قال الرازي: تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً، قالوا: لأنّه ثبت أن إيصال الرزق إلى كلّ حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد و بحسب الاستحقاق، و الله تعالى لا يخل بالواجب، ثم قد نرىٰ إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه، فيكون تعالى قد أخل بالواجب و ذلك محال، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً(1).

الأمر الثالث: استدلّ الأشاعرة بما رووه عن صفوان بن أمية قال: كنّا عند رسول الله صلّی الله علیه و آله إذ جاء عمر بن قرّة، فقال: يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقوة فلا أراني أرزق إلَّا من دفّي(2) بكفّي فأذن لي في الغناء، فقال صلّی الله علیه و آله: «لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة، كذبت أي عدوّ الله، و الله لقد رزقك الله حلالاً طيباً، فاخترت ما حرّم الله عليك مكان ما أحلّ الله لك من حلاله»(3).

قال الرازي: هذا الخبر حجة لنا، لأن قوله صلّی الله علیه و آله: «فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراماً(4).

ص: 41


1- تفسير الرازي: ج 17، ص 168.
2- الدف: آلة اللهو.
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 6، ص 293.
4- تفسير الرازي: ج 2، ص 30.

جواب الشبهة:

و لنا وقفتان:

إحداهما: الإجابة عن كلّ استدلال بخصوصه من الاستدلالات التي ذكرت.

و ثانیتهما: في ذكر ما يدل على بطلان أصل الدعوىٰ.

الوقفة الأولىٰ: الإجابة عن كل استدلال بخصوصه:

أمّا ما ذكره في الأمر الأول: فلا نسلم أن معنىٰ الرزق في أصل اللغة هو الحظ و النصيب، و لم يذكر دليلاً على ذلك، بل ذكر الفيروز آبادي في القاموس المحيط: أن الرزق بالكسر هو ما ينتفع به(1).

و نفس المعنىٰ ذكره الزبيدي في تاج العروس: و نقل عن ابن بري: الرزق بمعنىٰ العطاء(2).

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم عندما يستعمل مفهوماً معيناً و لم يذكر فيه تفسيراً و لم يتصد لبيانه، فهذا يعني أنه أحاله إلى الفهم العرفي، و عليه نرجع إلى العرف في فهم معنىٰ الرزق، و العرف لا يفهم منه أنّه الحظ و النصيب، بل يفهم منه معنىٰ العطاء أو ما ينتفع به.

ص: 42


1- القاموس المحيط: الفيروز آباد، ج 3، ص 235.
2- تاج العروس الزبيدي، ج 13 ، ص 162.

و أمّا ما ذكره في الأمر الثاني: لا نسلم مادة النقض، أي: لا نسلم وجود إنسان لم يرزق الحلال طول عمره، أو كان رزقه حراماً طول عمره، و الإخلال بالواجب إنما يكون قبيحاً إذا وجد هكذا إنسان و لم يصله رزقه إلّا من الحرام، و نحن لا نسلم مادة النقض ببيانين:

البيان الأول:

إن الرزق -باتّفاق الأشاعرة و المعتزلة- أعم من الغذاء، و هو يشمل الهواء، و الأمور الطبيعية التي سخرها الله تعالى للإنسان، و لا يوجد إنسان إلّا و هو منتفع منها، و معلوم أنها (الهواء و الأمور الطبيعية) ليست من المحرمات بل هي أمور مباحة. و الإنسان المتنعم بها يعد مرزوقاً بالرزق المباح، فلا يوجد إنسان لم يرزق إلّا الحرام طوال عمره كما يدَّعون. و هكذا فإن الرزق يشمل الأمور المعنوية، و هي لا تتَّصف بالحلال و الحرام، كالذكاء و الفطنة، و التعقل، و نحو ذلك.

البيان الثاني:

كل ما يأكله الإنسان في أيام الصِغَر و عدم التكليف فهو لا يتَّصف بالحرمة و لا غيرها من الأحكام التكليفية الخمسة؛ لأنه غير مخاطب بالتكاليف الشرعية، فلا يوجد عليه شيء واجب أو حرام أو نحو ذلك باتّفاق المسلمين، فكيف يمكن فرض وجود شخص لم يرزق إلّا الحرام طول حياته؟

ص: 43

و أمّا ما ذكره في الأمر الثالث: فيمكن الإجابة عنه بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول:

إنه مطعون في سنده(1).

الجواب الثاني:

على تقدير صحته لابد من تأويله، بأن إطلاق الرزق على الحرام فيه لمشاكلة قوله: (فلا أراني أرزق إلّا من دفّي بكفّي)، على حدِّ قوله: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ» (آل عمران: 54)، و باب المشاكلة و إن كان نوعاً من أنواع المجاز، لكنه واسع كثير الورود في الكتاب و السنة، معروف الاستعمال في نظم البلغاء و نثرهم فلابد من المصير إليه جمعاً بين الأدلة(2).

الجواب الثالث:

أن يحمل كلام رسول الله صلّی الله علیه و آله على فكرة المقاصة التي ذكرتها الأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و عن أهل البيت العصمة علیهم السّلام، و حاصلها: أن الله تعالى جعل رزق كل إنسان من حلال، و أن الرزق الصادر منه تعالى و الواصل إلى عباده هو الرزق الحلال، فإذا انحرف الإنسان و لم يرض برزقه الحلال و أخذ الحرام، فإن الله تعالى يقص من رزقه الحلال بمقدار ما

ص: 44


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 6، ص 293.
2- نفس المصدر السابق.

تناول من الحرام. فالحرام ليس رزق الله تعالى، بل هو تصرف من الإنسان نفسه و تجاوز على حدود الله عزّوجلّ و نتيجته أنه يقص من رزقه الحلال بمقدار ما ارتكب و أخذ من الحرام. و من الأحاديث الدالة على هذه المعنىٰ:

عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إن الله عزّوجلّ خلق الخلق، و خلق معهم أرزاقهم حلالاً، فمن تناول شيئاً منها حراماً قص به من ذلك الحلال(1).

عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «ليس من نفس إلّا و قد فرض الله لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصها من الحلال الذي فرض لها»(2).

عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «قال رسول الله صلّی الله علیه و آله في حجة الوداع: ألا أن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تبارك و تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً، و لم يقسمها حراماً، فمن اتَّقىٰ الله و صبر أتاه الله برزقه من حله، و من هتك حجاب الستر

ص: 45


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 46.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 45.

و عجل فأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال، و حوسب عليه يوم القيامة»(1).

فلو كان الرزق الحرام من الله تعالى فكيف يحاسبه عليه يوم القيامة، و لعلَّ هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السّلام بقوله: «و قف عند منتهىٰ رزقك»، قال محمد جواد مغنيه: أي: الحلال الطيب و دع الحرام الخبيث(2).

الوقفة الثانية: ما يدل على بطلان أصل الدعوىٰ:

و هنا نذكر خمسة أدلة على بطلان أصل الدعوة من جهة و نبين مطلوبنا من جهة أخرىٰ.

الدليل الأول:

إن ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرماً لكونه سبباً للمعصية لا ينسب إليه تعالى؛ لأنه نفىٰ نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (الأعراف: 28)، و قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» (النحل: 90)، و حاشاه سبحانه أن ينهىٰ عن شيء ثم يأمر به، أو ينهىٰ عنه ثم يحصر رزقه فيه.

ص: 46


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 44 - 45.
2- في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص 383.

و لا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقاً بحسب التشريع و كونه رزقاً بحسب التكوين؛ إذ لا تكليف بالتكوين حتّى يستتبع ذلك قبحاً، و ما بيَّنه القرآن من عموم الرزق هو بحسب حال التكوين(1).

فالله تعالى من جهة التشريع أمرنا بالحلال و نهانا عن الحرام، فما يأخذه الإنسان من الحرام لا ينسب إليه تعالى، إذ كيف ينسب إليه شيء نهىٰ عنه و جعل عليه العقاب يوم القيامة، و هذا لا يمنع أن الله تعالى له رزق تكويني يشمل الجميع البر و الفاجر، و الحلال و الحرام، و بهذا المعنىٰ يمكن أن نطلق الرزق على الحلال و الحرام.

و كما أن الرحمة رحمتان، رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن و كافر، و متَّقٍ و فاجر، و إنسان و غير إنسان، و رحمة خاصة و هي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان و التقوى و الجنة، كذلك الرزق، منه ما هو رزق عام و هو العطية الإلهية العامة الممدودة لكل موجود في بقاء وجوده، و منه ما هو رزق خاص و هو الواقع في مجرىٰ الحل، و كما أن الرحمة العامة و الرزق العام مکتوبان مقدران، قال تعالى: «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» (الفرقان: 2). كذلك الرحمة الخاصة و الرزق الخاص مكتوبان مقدران(2).

ص: 47


1- تفسير الميزان: ج 3، ص138.
2- تفسير الميزان ج 3، ص 140.

الدليل الثاني:

لا ينبغي التأمّل في أنّ هذا النزاع بين الفريقين ليس في مجرّد وضع اللفظ و محض اللغة، كيف و المرجع فيها إلى أربابها، مع أنّ الخطب في مثله سهل، و لا في أنّ كثيراً من النّاس بل أكثرهم ينتفعون بالحرام، بل ربما يعيشون به طول أعمارهم، و لا في أنّ صفة الحرمة الشرعية ثابتة لكلّ من الأخذ، و الأكل، و القنية إذا لم يكن على الوجه المباح المأذون فيه في الشرع، إنّما الكلام بين الفريقين في أنّ الله تعالى هل جعل أرزاق العباد في الأشياء الطيّبة المباحة و إن اختاروا بسوء اختيارهم غيرها، بل و عاشوا بالأشياء الخبيثة المحرّمة طول عمرهم؟ أو أنّه جعل أرزاقهم في كلّ ما يعيشون به و ينتفعون منه؟ فالعدليّة لمّا ذهبوا إلى التحسين و التقبيح العقليين، و استحالوا القبح على الله سبحانه، اختاروا الأوّل، و الأشاعرة لمّا لم يقولوا بالعدل ذهبوا إلى الثاني، و من هنا يظهر أنّ الأولىٰ تفريع هذه المسألة على ذلك الأصل، و كأنّهم إنّما استدلّوا ببعض هذه الوجوه في المقام تأييداً و تقريباً للأصل(1).

فروح الجواب يرجع إلى خلاف عقائدي جوهري بين فرق المسلمين في مسألة التحسين و التقبيح، فالأشاعرة يقولون: إن

ص: 48


1- تفسير الصراط المستقيم: السيد حسين البروجردي، ج 4، ص 159.

الحسن ما حسنه الشرع، و القبيح ما قبحه الشرع، فكل ما يفعله الشرع فهو حسن و إن كان قبيحاً بحكم العقل.

و العدلية -الإمامية و المعتزلة- يقولون: إن الحسن ما حسنه العقل، و القبيح ما قبحه العقل، و عليه يعتبرون أن الله تعالى لم يجعل أرزاق العباد في المحرمات؛ لأنه من القبيح أن يجعل الله تعالى أرزاق العباد في المحرمات ثم ينهاهم عنها و يعاقبهم على فعلها.

الدليل الثالث:

لو كان الحرام رزقاً للزم أن يكون أموال الناس رزقاً للغاصبين و الظالمين، و يلزم فيمن وطئ زوجة غيره أن يكون

ذلك رزقاً له كما أنّه إذا وطئ زوجة نفسه يكون كذلك(1).

الدليل الرابع:

إنّ الله تعالى أمرنا بالإنفاق ممّا رزقنا فقال تعالى: «وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْنَاكُمْ» (المنافقون: 10)، و لا خلاف بأنّ الله تعالى نهانا عن الإنفاق من الحرام. فهذا يثبت عدم صحّة تسمية الحرام برزق(2).

ص: 49


1- الاقتصاد، الشيخ الطوسي: ص 105.
2- الاقتصاد، الشيخ الطوسي: ص 105.

الدليل الخامس:

إنّ الله تعالى مدح المؤمنين على إنفاقهم مما يرزقهم، فقال تعالى: «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (البقرة: 3)، و لا خلاف بأنّ المنفق من الحرام لا يستحق المدح، بل يستحق الذم -و قد بيّنت الشريعة الإسلامية ذلك- إذن لا يسمّىٰ الحرام رزقاً(1).

ص: 50


1- الاقتصاد، الشيخ الطوسي: ص 105.

الفصل الثالث

اشارة

و نتعرض فيه إلى أربع نقاط:

النقطة الأولىٰ: تقدير الأرزاق:

اشارة

دلَّت بعض الآيات المباركة و الروايات الشريفة على أن أرزاق العباد مقدرة عند الله تعالى و معينة، أمّا الآيات فكقوله تعالى: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (هود: 6)، و قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (القمر: 49)، و قوله تعالى: «إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (الطلاق: 3).

و أمّا الروايات فكما عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «إن الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها، و لكن لله فضول، فاسألوا الله من فضله»(1).

ص: 51


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 54.

و عن أمير المؤمنين علیه السّلام أنه خطب، فحمد الله، و أثنىٰ عليه، و قال: «... و اعلموا أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لم يقرّبا أجلاً و لم يقطعا رزقاً، أن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كلّ نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان...»(1).

بیان شبهةٍ:

و من هنا قد يكون هنالك ذريعة للبعض للقول بأن الإسلام يعد أفيون الشعوب، حيث إن الله تعالى تكفل رزق العباد و تكفل إيصاله إليهم سواء عملوا أم لم يعملوا، و من لم يستطع الحصول على شيء يقول: إنه ليس من رزقي! و لو كان من رزقي المقدر لوصل إليَّ، و هذا معناه القضاء على الطاقات، و حرمان الإسلام من نشاطه الحيوي الإيجابي، و بالنتيجة يكون الدين الإسلامي أحد عوامل الركود الاقتصادي، و تقبل الحرمان، و إماتة النشاطات الإيجابية في الحياة، و كلّ هذا بسبب التمسك بنظرية التقدير في الأرزاق و الاعتماد على مقولة: إن من خلق الأشداق قدر لها الأرزاق.

ص: 52


1- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول)، ج 11، ص 45.

و جوابها:

إن هذا بعيد كل البعد عن الروح الإسلامية و التعاليم السامية التي جاء بها؛ لأن الإسلام يعد أساس أي استفادة مادية و معنوية للإنسان هو السعي و الجد و المثابرة، حتّى أننا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع، و هي الآية الكريمة: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سعىٰ» (النجم: 39)(1). و هذا ما أكدته الآيات

و الروايات الدالة علىٰ الحث علىٰ طلب الرزق كما سنبيّن في النقطة الثانية.

النقطة الثانية: الحث على طلب الرزق:

اشارة

و في مقابل الآيات و الروايات الدالة على كون الأرزاق مقدرة من الله تعالى، هنالك آيات و روايات تدل على استحباب طلب الرزق و السعي له.

أمّا الآيات، فكقوله تعالى: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (الجمعة: 10).

و أمّا الروايات، فهي كثيرة في هذا المعنى:

ص: 53


1- الأمثل: ج 6، ص 471.

منها: عن موسى بن بكر قال: قال لي أبو الحسن علیه السّلام: «من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عزّوجلّ...»(1).

و منها: عن كليب الصيداوي قال: قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: ادع الله عزّوجلّ لي الرزق، فقد التاثت(2) عليَّ أموري، قال: فأجابني مسرعاً: «لا، اخرج فاطلب»(3).

و منها: عن أيوب أخي أديم بياع الهروي، قال: كنا جلوساً عند أبي عبد الله علیه السّلام إذ أقبل علاء بن كامل فجلس قدام أبي عبد الله علیه السّلام فقال: ادع الله أن يرزقني في دعة، قال: «لا أدعو لك، أطلب كما أمرك الله عزّوجلّ»(4).

و منها عن سليمان بن معلیٰ بن خنيس، عن أبيه قال: سأل أبو عبد الله علیه السّلام عن رجل و أنا عنده، فقيل: قد أصابته الحاجة، قال: «فما يصنع اليوم»؟ قيل: في البيت يعبد ربه عزّوجلّ، قال: «فمن أين قوته»؟ قيل من عند بعض إخوانه، قال أبو عبد الله علیه السّلام: «و الله للذي يقوته أشد عبادة منه»(5).

ص: 54


1- الكافي: ج 5، ص 93.
2- التاثت: التفت و أبطأت. و قوله (لا) أي: لا أدعو.
3- الوافي: ج 17، ص 24.
4- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، 20.
5- تهذيب الأحكام: ج 6، ص 324.

و قد مارس الأنبياء السابقون علیهم السّلام و نبينا الكريم صلّی الله علیه و آله العمل، و السعي في طلب الرزق، و أكدوا على ذلك عملياً، و هذا المعنىٰ أشار إليه الإمام الباقر علیه السّلام حيث قال: «و ما بعث الله نبياً إلّا زراعاً، إلّا إدريس -علیه السّلام- فإنه كان خياطاً»(1)، و عن أبي عبد الله علیه السّلام أن أمير المؤمنين علیه السّلام قال: «أوحىٰ الله عزّوجلّ إلى داود علیه السّلام أنك نِعْمَ العبد لولا أنك تأكل من بيت المال و لا تعمل بيدك شيئاً، قال: فبكىٰ داود علیه السّلام الأربعين صباحاً؛ فأوحىٰ الله عزّوجلّ إلى الحديد: أن لِن لعبدي داود، فألان الله عزّوجلّ له الحديد، فكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة و ستين درعاً فباعها بثلاثمائة و ستين ألفاً و استغنىٰ عن بيت المال)(2). و عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يضرب بالمَرّ و يستخرج الأرضين، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يمص النوىٰ بفيه و يغرسه فيطلع من ساعته، و أن أمير المؤمنين علیه السّلام أعتق ألف مملوك من ماله و كدِّ يده»(3).

و ما أروع ما ينقله لنا التاريخ عن الإمام الباقر علیه السّلام حيث جسَّد هذه المعاني الإسلامية الرائعة، فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السّلام أنه قال: «إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن

ص: 55


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 42.
2- الكافي، الكليني: ج 5، ص 74.
3- الكافي، الكليني: ج 5، ص 74.

أن علي بن الحسين علیه السّلام يدع خلقاً أفضل منه، حتّىٰ رأيت ابنه محمّد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمّد بن علي علیهما السّلام، و كان رجلاً بادناً ثقيلاً و هو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة، على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا، أما لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه، فردَّ عليَّ بنهر، و هو يتصاب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة، على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك و أنت على هذه الحال، فقال: لو جاءني الموت و أنا على هذه الحال، جاءني و أنا في طاعة من طاعة الله عزّوجلّ أكف بها نفسي و عيالي عنك و عن الناس، و إنما كنت أخاف لو أن جاءني الموت و أنا على معصية من معاصي الله، فقلت: صدقت يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني»(1).

و من ذلك ما روي عن الإمام علي بن محمد الهادي علیه السّلام حيث قال الراوي: رأيت أبا الحسن علیه السّلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ فقال: «يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه و من أبي»،

ص: 56


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 20.

فقلت له: و من هو؟ فقال: «رسول الله صلّی الله علیه و آله و أمير المؤمنين و آبائي علیهم السّلام كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم و هو من عمل النبيين و المرسلين و الأوصياء و الصالحين»(1).

فلو كان رزق الله يصل إلى الإنسان بدون سعي و جدّ و طلب، لكان الأنبياء و الأئمة المعصومون علیهم السّلام أولىٰ بذلك، و لما احتاجوا إلى السعي و العمل.

سؤال: كيف يمكن التوفيق بين ما دلَّ على كون الأرزاق مقدَّرة من الله تعالى لكل العباد من أول يوم إلى آخر يوم من حياتهم، و بين الحث الذي دلَّت عليه الآثار على طلب الرزق و السعي له؟

و في الجواب نقول: إن رزق كل أحد مقدَّر و ثابت، إلّا أنه مشروط بالسعي و الجد، و إذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط(2). فإن للحياة سنناً و قوانيناً تجري عليها، و لا تتخطاها بحال، لأن تصور الفوضىٰ في الكون يرفضه الحس و المشاهدة، و هذه السنن و القوانين من صنع الله تعالى؛ لأنه هو خالق الطبيعة و ما فيها، و بديهة أن القوانين الطبيعية تأبىٰ أن تمطر السماء مالاً و صحةً و علماً، و إنما تأتي هذه و أمثالها من طرقها و أسبابها الطبيعية.

ص: 57


1- الكافي، الشيخ الكليني: ج 5، ص 75 - 76.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج 6، ص 417.

فالعلم من التعلُّم، و الصحة من الغذاء و الوقاية، و المال من العمل، فمن تعلَّم علم، و من اتَّقىٰ أسباب الداء سَلِم، و من انتحر مات، و من زرع حصد، سواء أَ كان طيباً أم خبيثاً، مؤمناً أم كافراً، فالطيبة أو الإيمان لا ينبت قمحاً، و لا يشفى داءً، و لا يجعل الجاهل عالماً، كل هذه و ما أشبه تجري على سنن الطبيعة، و سنن الطبيعة تجري على مشيئة الله، ما في ذلك ريب، لأنه هو الذي جعل التعلم سبباً للعلم، و الوقاية سبباً من أسباب الصحة، و الزراعة سبباً للحصاد، أنه خالق كل شيء، و إليه ينتهي كل شيء(1).

و الخلاصة أن الرزق يستند إلى أمرين: السعي و إرادة الله معاً، فمن ترك السعي عاش كلًّا على الناس، و من سعى رَزَقَه الله من سعيه(2).

و في نفس الوقت لا ننكر أن بعض الأرزاق تصل إلى الإنسان سواء سعى لها أم لم يسع، كما إذا حصل على المال و نحوه بالإرث، أو الوصية، أو الهدية، أو الجائزة، أو اللقطة و نحوها. و كالانتفاع من نِعَم الله تعالى التي سخَّرها لكل البشر كالهواء، و نور الشمس، و موارد الطبيعة، و قوة التفكير و التعقُّل و الاستعداد المذخور فينا، فكل ذلك من رزق الله تعالى الواصل إلى كل عباده بلا سعي و تحصيل، بل تفضلاً منه تعالى.

131.

ص: 58


1- التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية، ج 3، ص 131.
2- التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية، ج 3، ص 133.

و أشار أئمتنا علیهم السّلام إلى هذه الحقيقة في أحاديثهم، و منها: ما ذكره الشيخ المفيد قدّس سرّه في المقنعة، قال: قال الصادق علیه السلام: «الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما واصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه و الآخر معلق بطلبه، فالذي قسم للعبد على كل حال آتيه و إن لم يسع له، و الذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه، و هو ما أحله الله له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب علیه برزقه و حوسب به»(1).

و هي واضحة الدلالة على أن الرزق قسم منه يصل إلى الإنسان بلا حاجة إلى السعي و الطلب، و لعل هذا ما أشرنا إليه كالمطر و الهواء و نحوهما، و قسم آخر مقدَّر للإنسان و مقسوم له، و لكنه مشروط بالسعي و الطلب من وجهه الحلال.

و أشار أمير المؤمنين علیه السّلام إلى هذا كثيراً في خطبه، و منها قوله: «و اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ و رِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ...»(2).

و من باب الشيء بالشيء يُذكر يُقال: دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها، و هو فقير لا مال له، فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض، فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها، فظهر لهم في ذلك الموضع

ص: 59


1- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 47.
2- شرح نهج البلاغة: ابن ميثم البحراني، ج 5، ص 57.

نقب وسيع، فأمرهم بحفره، فوجدوا فيه أموالاً عظيمة و ذخائر لابن ياقوت.

ثم استلقىٰ يوماً آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها فرأىٰ حية في السقف، فأمر غلمانه بالصعود إليها و قتلها، فهربت منهم، و دخلت في خشب الكنيسة، فأمر أن يقلع الخشب و تستخرج و تقتل، فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت.

و احتاج أن يفصل و يخيط ثياباً له و لأهله فقيل: هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت، و هو رجل منسوب إلى الدين

و الخير، إلّا أنه أصم لا يسمع شيئاً أصلاً، فأمر بإحضاره، فأحضر و عنده رعب و هلع، فلما أدخله إليه كلَّمه، و قال: أريد أن تخيط لنا كذا و كذا قطعة من الثياب، فارتعد الخياط و اضطرب كلامه، و قال: و الله يا مولانا ما له عندي إلّا أربعة صناديق ليس غيرها، فلا تسمع قول الأعداء في. فتعجب عماد الدولة و أمر بإحضار الصناديق، فوجدها كلها ذهباً و حلياً و جواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت(1).

ص: 60


1- شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد، ج 16، ص 115.

إرادة الخالق فوق إرادة المخلوق:

عندما يسيطر بعض الظالمين على مقدرات الناس، و يتصور أن أرزاقهم بيده، بحيث يعطي و يمنع، و يفعل ما يشاء، يغفل عن الإرادة الإلهية التي لا يستطيع أحد منعها أو ردعها مهما أوتي من قوة و سلطان.

فكثير من الناس لم يقصروا في السعى لطلب الرزق، و لكن سجنوا أو قهروا من بعض الظلمة، أو نفوا إلى ديار خالية من كلّ مقومات المعيشة، و هنا تتدخل الإرادة الإلهية لاستمرارهم في الحياة، و استيفاء رزقهم المكتوب، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إن دانيال علیه السّلام كان في زمن ملك جبار، فأخذه و طرحه في الجب و طرح معه السباع لتأكله، فلم تدن إليه، فأوحىٰ الله -تعالى جلَّت عظمته- إلى نبي من أنبيائه (صلوات الله عليهم): أن ائت دانیال بطعام، قال: يا رب و أين دانيال؟ قال: تخرج من القرية فيستقبلك ضبع فيدلك عليه، فخرج فانتهىٰ به الضبع إلى ذلك الجب، فإذا بدانيال علیه السّلام فيه فأدلىٰ له الطعام، فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسىٰ من ذكره، و الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه، و الحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً و بالصبر نجاة»، ثم قال أبو عبد الله علیه السّلام: «أبىٰ الله أن يجعل أرزاق المؤمنين إلّا من حيث لا يحتسبون...»(1).

ص: 61


1- الأمالي: الشيخ الطوسي، ص 300، الوافي، الفيض الكاشاني، ج 9، 1649.

قيل لأمير المؤمنين علیه السّلام: لو سدّ على رجل باب بيته و ترك فيه، من أين كان يأتيه رزقه؟ فقال علیه السّلام: «من حيث يأتيه أجله»(1).

النقطة الثالثة: كيف يتحقق طلب الرزق؟

من الأمور المهمة التي شغلت بال الكثير من المشرِّعين في الدول الحديثة، و عند طيف كبير من الناس، خصوصاً الشباب، مسألة توفير فرص العمل المناسب، لذلك تذكر حلول كثيرة في هذا المجال تحت عنوان (القضاء على البطالة)، و على أثر ذلك انطبع في أذهان كثير من الشباب، و الراغبين في العمل أن فرص الرزق، و توفير مكتسبات المعيشة مرتبط بالوظيفة الحكومية، و التعيينات التابعة لها؛ حتّى أن الشاب الذي لم يوفَّق في الدراسة، أو وفّق و لم يتعيَّن، يرىٰ أن سبل المعيشة مسدودة في وجهه، و أنه غير قادر على مواصلة الحياة.

و هذا التفكير له مردودات سلبية كبيرة على الفرد و المجتمع، حيث لا يلتفت الإنسان أن لديه طاقات كبيرة، و فرص عظيمة للوصول إلى مراحل متقدمة من الإبداع و الإنتاج، و في شتّىٰ المجالات، بل و لا يحاول الاستفادة من الموارد الطبيعية التي وفّرها الله تعالى له، و من هنا نشاهد كثير من الشباب في الأرياف هجروا الزراعة، و تركوا العمل في الحقول و تربية الحيوانات، إيماناً منهم أنها لا تلبي طموحاتهم في الحياة؛ خصوصاً عندما

ص: 62


1- نهج البلاغة: ج 4، ص 83.

يتأثرون بأفراد قليلين سمحت لهم الفرصة في التعيين، أو الالتحاق بالقوات المسلحة و نحوها، و هكذا في أبناء المدينة، الذين كانت لآبائهم مهن شريفة و مشهورة، كالخياطة، و النجارة، و بيع الخضار، و نحوها، و مع ذلك هجروها، و لم ينتفعوا منها، و بالنتيجة تولدت عندنا حالات كثيرة من البطالة، و البطالة المقنعة، حتّى وصل بنا الأمر أن يكون بلدنا -بلد الرافدين- مستهلكاً، و مستورداً لأبسط الحاجات و السلع الرخيصة، و غير قادرين على صناعة أواني الطعام، و أكياس النفايات!

مع أننا لو اتَّبعنا تعاليم الإسلام الحنيف لما وصلنا إلى هذا الحال، كان أمير المؤمنين علیه السّلام يقول: «من وجد ماءً و تراباً ثم افتقر، فأبعده الله»(1). أي: أن من وجد المادة الأولية في العمل فعليه استغلالها و الانتفاع منها، و ما أكثر الخيرات و أعظمها في بلادنا، لو استغلت بالشكل الصحيح.

و مع كل ذلك لا ينبغي اليأس من عطاء الله تعالى، فعلى المرء أن يسعىٰ و ليس عليه أن يكون موفَّقاً، و أدنىٰ ما يحقق السعى هو أن يخرج الإنسان إلى معرض العمل، و يهيئ وسائله، و الباقي على الله تعالى، فمن كان عنده دكاناً يفتحه، و يعرض ما كان فيه، و هكذا من كان نجّاراً، أو خيّاطاً، أو غير ذلك.

و هذا المعنىٰ نجده واضحاً جدّاً في ثقافة أهل البيت علیهم السّلام، عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: أي شيء على الرجل في طلب

ص: 63


1- قرب الإسناد: الحميري القمي، ص 115.

الرزق؟ فقال: «إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك»(1)، و عن أبي عمارة الطيار قال: قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: إنه قد ذهب مالي، و تفرق ما كان في يدي، و عيالي كثير، فقال له أبو عبد الله علیه السّلام: «إذا قدمت الكوفة فافتح باب حانوتك، و ابسط بساطك، وضع ميزانك، و تعرض للرزق من الله عزّوجلّ»، قال: فلما أن قدم الكوفة فتح باب حانوته، و بسط بساطه، و وضع ميزانه قال: فتعجب من حوله بأن ليس في بيته قليل و لا كثير من المتاع، و لا عنده شيء، قال: فجاءه رجل فقال: اشتر لي ثوباً، قال: فاشترىٰ له ثوباً و أخذ ثمنه فصار الثمن إليه، قال: ثم جاءه آخر، فقال: اشتر لي ثوباً، قال فطلب له في السوق و اشترىٰ له ثوباً و أخذ ثمنه و صار في يده، و كذلك يصنع التجار يأخذ بعضهم من بعض، ثم جاءه رجل آخر، فقال له: يا أبا عمارة إن عندي عدلاً من كتان فهل تشتريه مني و أؤخرك بثمنه سنة؟ قال: نعم، احمله و جئ به، قال: فحمله إليَّ، فاشتريته منه بتأخير سنة، قال: فقام الرجل فذهب، ثم أتاه آتٍ من أهل السوق فقال له: يا أبا عمارة ما هذا العدل؟ قال: هذا عدل اشتريته، قال: فبعني نصفه و أُعجِّل لك ثمنه، قال: نعم، فاشتراه منه و أعطاه نصف المتاع و أخذ نصف الثمن، قال: فصار في يده الباقي إلى سنة، قال: فجعل يشتري بثمنه الثوب و الثوبين و يعرض و يشتري و يبيع حتّى أثرىٰ و عرض وجهه و أصاب معروفاً(2).

ص: 64


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 99.
2- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 100.

عن البجلي قال: كان رجل من أصحابنا بالمدينة، فضاق ضيقاً شديداً و اشتدت حاله، فقال له أبو عبد الله علیه السّلام: «اذهب فخذ حانوتاً في السوق، و ابسط بساطك، وليكن عندك جرّة من ماء، و الزم باب حانوتك»، قال: ففعل ذلك الرجل فمكث ما شاء الله، قال: ثم قدمت رفقة من مصر و ألقوا متاعهم، كل رجل عند معرفته و عند صديقه حتّى ملأوا الحوانيت، و بقي رجل لم يصب حانوتاً يلقي فيه متاعه، فقال له أهل السوق: هاهنا رجل ليس به بأس و ليس في حانوته متاع، فلو ألقيت متاعك عنده في حانوته، فذهب إليه فقال له: ألقي متاعي في حانوتك؟ فقال له: نعم، فألقىٰ متاعه في حانوته، و جعل يبيع متاعه الأول فالأول، حتّى إذا حضر خروج الرفقة بقي عند الرجل شيء يسير من متاعه فكره المقام عليه، فقال لصاحبنا: أخلف هذا المتاع عندك تبيعه و تبعث إليَّ بثمنه، قال: فقال: نعم، فخرجت الرفقة، و خرج الرجل معهم، و خلف المتاع عنده فباعه صاحبنا و بعث بثمنه إليه. قال: فلما أن تهيأ خروج الرفقة من مصر بعث إليه ببضاعة فباعها و ردَّ إليه ثمنها، فلما رأىٰ ذلك منه الرجل أقام بمصر و جعل يبعث إليه بالمتاع و يجهز عليه، قال: فأصاب و كثر ماله و أثرىٰ7(1).

ص: 65


1- الوافي الفيض الكاشاني، ج 17، ص 101.

النقطة الرابعة: الإجمال في طلب الرزق:

تبيَّن مما تقدَّم أن الشريعة المقدسة في الوقت الذي بيَّنت أن الله تعالى قدر الأرزاق للعباد، و تكفّل بها، طلبت منه السعي إلى تحصيلها، و لكن مع ذلك ينبغي الالتفات إلى حدود ذلك؛ حتّى لا نقع في الإفراط أو التفريط، فبعض الناس ترك طلب الرزق إلى حدِّ الاعتماد على الآخرين في قوته، و قوت عياله، و أصبح عالة على المجتمع، و بعض آخر بالغ في الأمر فجعل همّه الانشغال بالعمل، و تحصيل الأموال مما أدّىٰ إلى تضييع حقوق الله تعالى، و حقوق المجتمع.

قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «قد تكفل لكم بالرزق و أمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه و الله لقد اعترض الشك و دخل اليقين، حتّى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، و كأن الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل و خافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجىٰ من رجعة العمر ما يرجىٰ من رجعة الرزق. ما فات من الرزق رجي غداً زيادته. و ما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته. الرجاء مع الجائي، و اليأس مع الماضي. فاتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلّا و أنتم مسلمون»(1).

ص: 66


1- نهج البلاغة خطب الإمام علي علیه السّلام، ج 1، ص 226.

كثير من الناس لا يقوم بترتيب أوقات عمله، فتراه مشغولاً في العمل على طول الوقت، في وقت الصلاة، و وقت الراحة، و في كل وقت، و بعضهم يستمر من بداية النهار إلى منتصف الليل، فلا يكاد يتناول وجبة العشاء حتّى يذهب إلى النوم، فلا ينتفع به أقرب الناس إليه، لا بموعظة، و لا بحكمة، و لا بتوجيه، مع أننا اليوم بأشد الحاجة إلى جلوس الإنسان المؤمن بين أفراد عائلته، و محاولة فهمهم، و فهم مشاكلهم، و بيان الضار و النافع لهم، فالأبناء يتأثرون كثيراً بالآباء، و يمتثلون لنصائحهم.

و من هنا جاءت الشريعة المقدسة لتبيِّن لنا ضابطة طلب الرزق على لسان الإمام الصادق علیه السّلام حيث قال: «ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع و دون طلب الحريص، الراضي بدنياه، المطمئن إليها، و لكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف و تكتسب ما لابد منه، إن الذين أعطوا المال ثم لم يشكروا لا مال لهم»(1).

و لا يخفىٰ أن الامتثال لهذه الضابطة يحتاج إلى إيمان حقيقي بالكفالة الإلهية، و الوعود الربانية، و أن الإنسان إذا سعىٰ إلى رزقه فلا يأخذ إلّا ما كتبه الله تعالى إليه، و قد أشار أمير المؤمنين علیه السّلام إلى ذلك بقوله: « و اعلم أنه لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن

ص: 67


1- الكافي: الشيخ الكليني، ج 5، ص 81.

يغلبك عليه غالب، و لن يحتجب عنك ما قدّر لك، فكم رأيت من طالب متعب نفسه مقتر عليه رزقه، و مقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير و كل مقرون به الفناء»(1). و قيل لبعض الحكماء:

ما الغنىٰ؟ قال: قلة تمنيك، و رضاك بما يكفيك.

قال الشاعر:

اقنع بعيشك ترضه و اترك هواك و أنت حر

فلرب حتف فوقه ذهب و یاقوت و در

و قال آخر:

إلى متىٰ أنا في حل و ترحال

من طول سعىٰ و إدبار و إقبال

و نازح الدار لا أنفك مغترباً

عن الأحبة لا يدرون ما حالي

بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها

لا يخطر الموت من حرص علىٰ بالي

و لو قنعت أتاني الرزق في دعة

أن القنوع الغنىٰ لا كثرة المال(2)

ص: 68


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 26.
2- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 19، ص 163.

و قد بيّن أمير المؤمنين علیه السّلام تحليلاً رائعاً لذلك حين قال:

«الرزق رزقان: رزق تطلبه و رزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك، فلا تحمل همَّ سَنَتِك على همِّ يومك، و كفاك كل يوم ما هو فيه، فإن تكن السنة من عمرك فإن الله عزّوجلّ سيأتيك في كلّ غدٍ بجديدٍ ما قسم لك، و إن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بغمّ و همّ ما ليس لك»(1).

و من هنا يتبيَّن وَهْم من يتصور أن سعة الأرزاق مرتبط بذكاء الشخص أو حيلته، و تسقط مزاعم كلّ من يدّعي أنّه توصل إلى ما توصل إليه بامتيازاته و قدرته، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين علیه السّلام كثيراً ما يقول: اعلموا علماً يقيناً أن الله عزّوجلّ لم يجعل للعبد و إن اشتد جهده، و عظمت حيلته، و كثرت مكائده، أن يسبق ما سمىٰ له في الذكر الحكيم، و لم يخل من العبد في ضعفه و قلة حيلته أن يبلغ ما سمىٰ له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنّه لن يزداد امرؤ نقيراً بحذقه، و لن ينقص امرؤ نقيراً لحمقه، فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته، و العالم لهذا التارك له أعظم الناس شغلاً في مضرته»(2).

ص: 69


1- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق، ج 4، 386.
2- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 17، ص 49.

ص: 70

الفصل الرابع

اشارة

و نتناول فيه ثلاث نقاط:

النقطة الأولىٰ: سعة الأرزاق و ضيقها:

اشارة

تطرح الآيات القرآنية مفهوماً واضحاً تبيّن فيه أن الله تعالى يرزق من يشاء، و يمنع و يضيق على من يشاء، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (سبأ: 36). و قد صرَّح علماء التفسير: أنّ المراد من القدر في اللغة هو التضييق، و منه قوله تعالى: «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» (الطلاق: 7). و منه قوله تعالى: «وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» (الفجر: 16). أي: يضيق(1). و المعنى واضح، و هو أنّ الله تعالى يبسط الرزق و يوسعه لبعض الناس، و يضيق و يقدر على البعض الآخر.

ص: 71


1- تفسير الرازي: ج 20، ص 195.

بيان شبهة:

قد يشكك البعض في عدالة الله تعالى، و أنه كيف يكون ذلك بما يشاء، و ما هي ضوابط المشيئة؟ أي: لماذا يوسع الله تعالى الرزق البعض الناس، و يمنع البعض الآخر منه، مع أنه ظاهراً لا يختلف عنه في المؤهّلات و الاستعدادات، و هذا التساؤل لا يختص في مسألة الرزق فقط، بل هو سيّال في مطلق التفاوت بين أفراد المجتمع، فالبعض يسأل: لماذا أنا عليل مريض، و فلان سليم و صحيح؟ و لماذا أنا قبيح و فلان جميل؟ و لماذا أنا قصير و فلان طويل؟ إلى غيرها من الأسئلة.

جواب الشبهة:

لابد للفرد المؤمن أن يعلم بأن الله تعالى، عادل، و غني، و قادر، و حكيم، فلا محالة تكون تصرفاته موافقة للحكمة و الضوابط العادلة، و لا ينبغي الشك في ذلك أبداً، أمّا التفاوت في الرزق بحيث يكون موسعاً على بعض و مضيقاً على بعض آخر فذلك لأسباب معينة، كالحكمة الإلهية، أو مراعاة مصلحة العبد، أو لأجل الابتلاء و الاختبار، أو لأجل الاستدراج، أو لأجل تكفير العقاب و تعجيل الثواب، أو لاختلاف الاستعدادات و القابليات.

و سيأتي في النقطة الثانية من هذا الفصل شرحاً مفصلاً لهذه الأسباب الستة، الموجبة للتفاوت في الرزق.

ص: 72

النقطة الثانية: أسباب تفاوت الأرزاق:

أ) الحكمة الإلهية:

لم يبیِّن لنا الله تعالى في كتابه الكريم و لا في السُنَّة المطهَّرة أسباب كثير من التشريعات الصادرة منه تعالى، و عندما يصل إليها العلماء ينسبون ذلك إلى حكمته و أنه تعالى أعلم بها، و ليس من الضروري أن يطَّلع الإنسان على علل الكون و التشريعات الصادرة منه عزّوجلّ، فمَن منّا يعلم تشريع الحج و أنه لابد من الطواف حول الكعبة سبعة أشواط، و رمي الجمرات، و المبيت في عرفات و مزدلفة؟ و من منّا يعلم علة كون الصيام في شهر رمضان و ليس في غيره من الأشهر؟ و هكذا أغلب التشريعات الإلهية و الأسرار الكونية، و هنا كذلك، ليس من الضروري أن نعلم سبب تفاوت الأرزاق مادام نعلم أنه تعالى حكيم و عادل و غني و بيده كل شيء.

فلقد أعطى الله تعالى الصحة و المال و الجمال لشرار خلقه و فسقتهم، و حُرم من ذلك كثير من الأنبياء و الأولياء و الصالحين علیهم السّلام، نعم، مما لا شك فيه و لا شبهة أن هذا الحكمته تعالى، و الله تعالى لا ينقض حكمته بكرمه، كما قال الإمام علي علیه السّلام: «إنّ كرم الله سبحانه لا ينقض حكمته»(1).

ص: 73


1- ميزان الحكمة: ج 2، ص 876.

ب) مراعاة مصلحة العبد:

خلق الله العباد و هو أعلم بحالهم و بما يصلحهم و يفسدهم، فقد يكون الفقر لبعض دواءً و رادعاً؛ لأنه لو كان غنياً لأفسد فى الأرض و لارتكب الفواحش و طغىٰ و علا، و قد يكون الأمر بالعكس حيث يكون الغنىٰ أصلح للعبد؛ لأنه لو صار فقيراً لصار سارقاً و قاطعاً للطريق، قال تعالى: «وَ لَوْ بَسَط اللهُ الرّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرُ» (الشورىٰ: 27). قال الرازي في تفسيرها: يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلّا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح(1).

روي عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «لما أُسرِيَ بالنبي صلّی الله علیه و آله قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمّد... و إن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الغنىٰ و لو صرفته إلى غير ذلك لهلك، و إن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الفقر و لو صرفته إلى غير ذلك لهلك...»(2).

و قد أشار إلى هذا المعنىٰ الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي(3).

ص: 74


1- تفسير الرازي: ج 2، ص 196.
2- الكافي: ج 2، ص 352.
3- التفسير الصافي: الفيض الكاشاني، ص189 - 190.

و أشار القرآن الكريم إلى مثال يدل على تأثير الفقر في بعض الناس البعيدين عن ثقافة التوكل على الله تعالى، قال عزّوجلّ: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْاً كبيراً» (الإسراء: 31).

فهم كانوا يقتلون بناتهم مخافة الإفلاس، أي: خوفاً من الفقر و عجزاً عن النفقة عليهن(1)، فهنا مجرد الخوف دفعهم لقتل بناتهم، فلو كانوا أغنياء لانتفىٰ هذا الخوف عندهم، و لما قتلوا بناتهم، فيكون الغنىٰ إصلاح لهم. و مع الأسف نلاحظ حصول كثير من حالات الإسقاط المتعمد التي تمارس من بعض المسلمين، و تحت أعذار واهية، و هم بذلك يتعرضون لقتل نفس بريئة يحاسبهم الله تعالى على قتلها يوم القيامة.

ج) الابتلاء و الاختبار:

قد تكون السعة في المال و البسط في الرزق لاختيار الإنسان و أنه كيف يتعامل مع تلك النعمة الإلهية المعطاة من الله تعالى، فكثير من الناس يقول: لو كنت غنياً و ذا مال لأعطيت الفقراء و بنيت المستشفيات و فعلت كذا و كذا، و لو كان عندي إبل أو محاصيل زراعية لأخرجت زكاتها و خمسها و نحو ذلك من الادِّعاءات، فعندما يكون على المحك و تعطىٰ له تلك الأمور فإنه سيختبر بها، ليُعرف أنه هل يستطيع الوفاء أو لا؟

ص: 75


1- تفسير الطبرسي: ج 6، ص 247.

و هنالك قسم من الناس يتكلم عن الصبر و التحمل لأنه يعيش الرخاء و السعة، فيصاب بالفقر و الفاقة ليختبر في مدعياته، و أنه هل يبقىٰ على الصبر و التحمل أو لا؟

جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علیه السّلام قال: «و قدّر الأرزاق فكثرها و قللها، و قسمها على الضيق و السعة، فعدل فيها، ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها»(1).

و قال تعالى: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (الفجر: 15-16). فالتعبير القرآني واضح في أن الله تعالى يختبر الإنسان و يمتحنه في حالتين، حالة الإكرام و السعة في الرزق، و حالة التضييق في الرزق. و لكن الإنسان إذا لم ينجح في الاختبار فسوف يتصور أن حالة التوسعة في الرزق هي نوع من التكريم الإلهي له. و أن حالة التضييق في الرزق هي نوع من الإهانة الإلهية له.

و لقد أشار العلامة الطباطبائي إلى هذه الحقيقة الإنسانية حينما قال: و أمّا الإنسان فإنه إذا أنعم الله عليه بنعمه حَسِب أن ذلك إكرام إلهي له أن يفعل بها ما يشاء فيطغىٰ و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حَسِب أنه إهانة إلهية فيكفر و يجزع(2).

ص: 76


1- نهج البلاغة: خطب الإمام علي علیه السّلام، ص 177.
2- تفسير الميزان ج 20، 282.

د) الاستدراج:

قد تكون النِعَم الإلهية و زيادتها و تواليها على الإنسان لأجل عقوبة الاستدراج، فكثير من الناس من يبارز الله تعالى بالمعصية ليلاً و نهاراً و سرّاً و جهاراً، و مع ذلك فإن الله تعالى لا يقطع نعمةً عنه، بل يزيده في الأموال و الأولاد، و ليس حبّاً له، بل لأنه يريد أن يعاقبه بتلك النِعَم.

قال تعالى: «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين» (الأعراف: 182-183). قال الإمام علي علیه السّلام: «كم من مستدرج بالإحسان إليه، مغرور بالستر عليه، مفتون بحسن القول فيه، و ما أبلىٰ الله عبداً بمثل الإملاء له»(1).

و جاء عن أبي عبد الله علیه السّلام أنه قال: «إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً أَتْبَعَهُ بِنَقِمَةٍ و يُذَكِّرُه الاسْتِغْفَارَ، و إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِ شَراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً أَتْبَعَه بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَه الاسْتِغْفَارَ و يَتَمَادَىٰ بِهَا، وَ هُوَ قَوْلُ الله عزّوجلّ: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» بِالنِّعَمِ عِنْدَ المَعَاصِي»(2).

و الذي يستفاد من هذا الحديث -و الأحاديث الأخرىٰ في هذا المجال- أن الله تعالى يمنح -أحياناً- عباده المعاندين نعمةً و هم غارقون في المعاصي و الذنوب، و ذلك كعقوبة لهم،

ص: 77


1- بحار الأنوار: ج 70، 100.
2- الكافي: الشيخ الكليني، ج 2، ص 452.

فيتصورون أن هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم و لياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف، و تستولي عليهم الغفلة، إلّا أن عذاب الله ينزل عليهم فجأة، و يحيط بهم، و هم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة، و هذا في الحقيقة من أشد ألوان العذاب ألماً.

و هذا يصيب من هو ليس بأهلٍ للتوبة و لا للعودة للرشد بعد التنبيه له، لذا يجب أن يكون الإنسان المؤمن يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه(1).

جاء في الحديث أن أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام قال: إِنِّي سَأَلتُ الله عزّوجلّ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالاً فَرَزَقَنِي، و إِنِّي سَأَلتُ الله أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَداً فَرَزَقَنِي وَلَداً، و سَألتُه أَنْ يَرْزُقَنِي دَاراً فَرَزَقَنِي، وَ قَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً، فَقَالَ: «أَمَا و الله مَعَ الحَمْدِ فَلَا»(2).

ھ) تكفير العقاب و تعجيل الثواب:

ورد في كثير من الروايات أن الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً فإنه يبتليه بنقص من الأموال و الأولاد، أو بسقم في بدنه، أو ضيق في عيشه، أو نحو ذلك، و ما ذلك إلّا لتكفير الذنوب. و أن الله تعالى

ص: 78


1- الأمثل: ج 18، ص 557 - 558.
2- الكافي: ج 2، ص 97.

قد يعجِّل عقوبة المؤمن في الدنيا حتّى يلقاه و هو أملس لا تبعة عليه.

و في المقابل إذا أراد بعبد سوءاً فإنه يعجِّل له ثواب أعماله في الحياة الدنيا، فإذا عمل عملاً صالحاً من صدقة، أو قضاء حاجة، أو نحو ذلك، يوسع له في المال، و الرزق، و الصحة، و كثرة الأولاد، و زوال الهموم و الغموم، حتّى يلقىٰ الله تعالى و ليس له من الأجر شيئاً.

و ينبغي أن يكون هذا نذيراً للإنسان و أن لا يغتر عندما يبارز الله تعالى بالمعصية و يقابله بالرخاء و الأمان و الرزق. فما أقبح حال العبد عندما يقف بين يدي الله عزّوجلّ و هو خالي اليدين، و لا يحمل رصيداً من الأعمال لأنه استوفاها في الحياة الدنيا.

و هذا غير الاستدراج؛ لأن عقوبة الاستدراج تتم حتّى لو لم يعمل الصالحات، أي: ليس النظر فيها إلى أنه في مقابل أعماله الصالحة، بخلاف ما نحن فيه؛ فالاستدراج يعاقب به العاصي الغارق بالمعاصي حتّى لو لم يعمل شيئاً من الحسنات و الأعمال الصالحة، أمّا تكفير العقاب و تعجيل الثواب فهو عندما يعمل عملاً صالحاً يقابل بالتوسعة و الرفاهية حتّى يستوفي أجر هذا العمل في هذه الدنيا الفانية و لا يبقىٰ له في الآخرة شيئاً، و فرق كبير بين المعنيين.

ص: 79

و الروايات الدالة على هذا المعنىٰ كثيرة، نذكر بعضها:

فمنها عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: قال الله عزّوجلّ: و عزتي و جلالي لا أُخرج عبداً من الدنيا و أنا أُريد أن أرحمه حتّى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إمّا بسقم في جسده، و إمّا بضيق في رزقه، و إمّا بخوف في دنياه، فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت.

و عزتي و جلالي لا أُخرج عبداً من الدنيا و أنا أُريد أن أعذبه حتّى أوفيه كل حسنة عملها، إمّا بسعة في رزقه، و إمّا بصحة في جسمه، و إمّا بأمن في دنياه، فإن بقيت عليه بقية هوَّنت بها عليه الموت»(1).

و منها: عن أبي عبد الله علیه السّلام: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجَّل عقوبته في الدنيا، و إذا أراد بعبدٍ سوءً أمسك عليه ذنوبه حتّى يوافي بها يوم القيامة»(2).

و منها: عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «مرَّ نبي من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط و بعضه خارج منه قد شعثته الطير و مزقته الكلاب، ثم مضىٰ فعرضت له مدينة، فدخلها، فإذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجىٰ بالديباج حوله المجامر، فقال: يا رب أشهد أنك حكم عدل، لا تجور، هذا عبدك

ص: 80


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 5، ص 1034.
2- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 5، ص 1034.

لم يشرك بك طرفة عين أمتَّه بتلك الميتة، و هذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمتَّه بهذه الميتة، فقال: عبدي، أنا كما قلت حكم عدل لا أجور، ذلك عبدي كانت له عندي سيئة أو ذنب أمتَّه بتلك الميتة لكي يلقاني و لم يبقَ عليه شيء، و هذا عبدي كانت له حسنة فأمتَّه بهذه الميتة لكي يلقاني و ليس له عندي حسنة»(1).

إذن زيادة الرزق و نقيصتها قد تحدد بعمل الإنسان نفسه و اختياره، و هنا تتجلىٰ الرحمة الإلهية لعبده المؤمن، و كيف أن الله تعالى يكفر له خطاياه في هذه الحياة الدنيا.

و من هنا نفهم الأحاديث الكثيرة الواردة عن أهل البيت علیهم السّلام من أن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه، و أنه من استشعر ولاية أهل البيت علیهم السّلام و تولاهم حقاً فإنه يغته بالبلاء غتاً.

عن أبي عبد الله علیه السّلام أنه قال و عنده سدير: «إِنَّ الله إذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّه بِالبَلَاءِ غَتّاً، و إِنَّا و إِيَّاكُمْ يَا سَدِيرُ لَنُصْبِحُ بِهِ و نُمْسِي»(2).

و عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «إِنَّ الله تَبَارَكَ وَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّه بِالبَلَاءِ غَتّاً، و ثَجَّه بِالبَلَاءِ ثَجّاً، فَإِذَا دَعَاهُ قَالَ لَبَّيْكَ عَبْدِي لَئِنْ عَجَّلْتُ لَكَ مَا سَأَلْتَ إِنِّي عَلَى ذَلِكَ لَقَادِرٌ، وَ لَئِنِ ادَّخَرْتُ لَكَ فَمَا ادَّخَرْتُ لَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»(3).

ص: 81


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 5، ص 1036.
2- الكافي: ج 2، ص 253.
3- الكافي: ج 2، ص 253.

و) اختلاف الاستعدادات و القابليات:

خلق الله تعالى المخلوقات بشكل متفاوت في كثير من الجوانب الذاتية و العرضية، فجعل منها البحار، و الجبال، و الكواكب، و الإنسان، و الحيوانات، و الملائكة، إلى غيرها من أنواع المخلوقات المختلفة، و تبعاً لذلك اختلفت البنية الأساسية لكل واحد منها، فمنها الكبير و الصغير، و الطويل و القصير، و السماوي و الأرضي، إلى ما شاء الله من الاختلافات، و أودع تعالى قابليات و استعدادات في كل نوع منها تتناسب مع مكوناته و طبيعته؛ فالكوكب الكبير له الاستعداد أن يحجب الشمس و النور عن جانب كبير من الأرض بخلاف الكوكب الصغير، و الدابة الكبيرة تتحمل الأعباء أكثر من الصغيرة، و بعض الحيوانات له القدرة على خداع فريسته أكثر من غيره؛ لما يتمتع به من فطنة و ذكاء، أو لما زوّد به من الإمكانيات الخاصة.

و أفراد الإنسان ليسوا ببعدين عن هذا النظام الإلهي العام؛ فسُنَّة الاختلاف جارية بين الجميع؛ فالرجل يختلف عن المرأة في الخصائص الجسمية و الروحية، فهو أقوىٰ و أشد على تحمل المصاعب و الظروف الخارجية المتعددة؛ لذا أُنيط به الجهاد و القتال، و إدارة البلدان و غيرها من الأعمال الشاقة، أمّا المرأة فهي ريحانة كما عبرت عنها الأحاديث المباركة:

ص: 82

سُئل النبي صلّی الله علیه و آله عن الرجل يقبّل امرأته و هو صائم، قال: «هل هي إلّا ريحانة يشمها»(1).

و في رسالة الإمام علي علیه السّلام إلى ولده الحسن علیه السّلام قال: «فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة»(2).

بل هي كتلة من المشاعر و الحنان، و هذا ما يناسبها لأداء وظائفها الحياتية.

و حينئذٍ يتفاوت الطرفان من جهة الرزق المعنوي و المادي، ففرصة الرجال تكون أكبر من النساء للحصول على الشهادة و أجر الجهاد في سبيل الله، و لا يخفىٰ أن من رزق الشهادة في سبیله تعالى فقد فاز فوزاً عظيماً، و هذا المعنىٰ كان واضحاً عند المسلمين، حتّى أن بعض النساء استفسرت من رسول الله صلّی الله علیه و آله عن سبب هذا التفاوت:

قيل: إن أُم سلمة قالت: يا رسول الله! يغزو الرجال و لا تغزو النساء، و إنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزو و نبلغ ما يبلغ الرجال. فنزل قوله تعالى: «وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً» (النساء: 32)(3)، كما أن فرصة الرجال للرزق

ص: 83


1- الوافي: ج 11، ص 212.
2- الوافي: ج 11، ص 212.
3- تفسير مجمع البيان: ج 3، ص 73.

المادي تكون أكبر بما يملكه من قوة الجسم و التحمل للعوامل الخارجية القاسية.

و المرأة كذلك لها استعدادات خاصة تمكنها من الحصول على بعض أنواع الرزق المعنوي و المادي دون الرجل؛ فلها القابلية على الحمل و إنجاب الأولاد و إرضاعهم، و هذا مما يترتب عليه رزقاً معنوياً كبيراً من الأجر و الثواب العظيم، قالت أم سلمة: یا رسول الله، ذهب الرجال بكل خيرٍ، فأيّ شيء للنساء المساكين؟ فقال صلّی الله علیه و آله: «بلى، إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحدٌ ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة كعدل عتق محرر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها و قال: استأنفي العمل فقد غفر لك»(1).

مضافاً إلى أنها لها الحق في أخذ الأجرة في مقابل تربية الأولاد و رضاعهم؛ مما يجعل لها باباً من الرزق المادي دون الرجال.

و هنالك قابليات و استعدادات أخرىٰ كثيرة تجعل بعض الأفراد أكثر رزقاً من البعض الآخر، و هذا ما نلمسه في واقعنا الاجتماعي المعاصر، و من أمثلة ذلك ما يتمتع به البعض من فطنة و ذكاء في مجال عمله؛ بحيث يكون متميزاً على أقرانه و مدعاة لجذب الآخرين إليه دون غيره؛ فيكون طبيباً حاذقاً، أو مهندساً

ص: 84


1- وسائل الشيعة آل البيت، ج 21، ص 451.

متميزاً، أو خياطاً ماهراً، و غير ذلك، و منها المواهب الأخرىٰ المتعددة، كموهبة الشِعر و الأدب و الرياضة و الفن، إلى غير ذلك.

و بالجملة فمما لا شك فيه و لا ريب، أن من أحد أسباب التفاوت في الرزق هو تلك المواهب و الإمكانيات التي تكون لبعض الأفراد دون غيرهم.

و قد يُعترض على الله عزّوجلّ بأنه لماذا يكون هنالك اختلاف في الاستعدادات و القابليات؟ فلو خلق الله تعالى الناس على مستوىٰ واحد من حيث الصفات و الكمالات و القدرة و العزيمة، لتساوىٰ الناس في الرزق، و لما حصلت الطبقية في المجتمع بين الأغنياء و الفقراء.

و الجواب عنه واضح جداً، فإنه لو تساوىٰ الناس جميعاً من جميع النواحي و كانوا كلّهم على شكل واحد، و فكر واحد، و ذوق واحد، و قوه واحدة، و تحمل واحد، فإن الجميع سيتحرك في جهة واحدة، الكل يريد شيئاً واحداً، و يحبون غذاءً واحداً، و لا يرغبون إلّا بعمل واحد! و هذا يعني تعطيل الحياة و انقراضها؛ لبقاء أغلب الميادين الضرورية خالية من الفعالية و الحياة؛ فالحياة بنيت على التفاوت الذي ينتج لنا فلاحاً، و مهندساً، و طبيباً، و عاملاً و... إلخ.

و إذا لم نقل بتعطيل الحياة فلا أقل من أنها ستكون حياة رتيبة متشابهة و فاقدة لكل روح؛ فالاختلاف سنة من السنن الكونية التي تضمن بقاء النوع و ديمومته و حياته.

ص: 85

النقطة الثالثة: الأعمال التي تؤدي إلى زيادة الرزق أو نقيصته:

1- الدعاء:

من الأمور الواضحة و المسلمة في الشريعة المقدسة الدعاء لأجل الرزق، قال تعالى: «وَ سأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (النساء: 32)، عن الصادق، عن آبائه علیهم السّلام قال: «من لم يسأل الله من فضله افتقر»(1).

و هذا المعنىٰ ورد في كلمات الأولياء و الصالحين كثيراً، فعبارة «اللهم ارزقني» لا يكاد يخلو منها دعاء من الأدعية، على اختلاف متعلقها، فقد يكون مالاً، أو توفيقاً، أو صحة، أو أماناً، أو نحو ذلك، و من ذلك الدعاء المروي عن الإمام المهدي عجّل الله فرجه: «اللهم ارزقنا توفيق الطاعة و بعد المعصية و صدق النية و عرفان الحرمة...»(2)، و منه دعاء الإمام زين العابدين علیه السّلام إذا قتر عليه الرزق و هو الدعاء التاسع و العشرون من الصحیفة السجادية(3).

و عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «أتىٰ رسول الله صلّی الله علیه و آله رجل من أصحاب البادية، فقال: يا رسول الله، إن لي بنين و بنات، و إخوة و أخوات، و بني بنين و بني بنات و بني إخوة و بني أخوات، و المعيشة علينا خفيفة، فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن

ص: 86


1- مستدرك الوسائل: ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 13، ص 39.
2- المصباح: الكفعمي، ص 280.
3- الصحیفة السجادية ص 99.

يوسع علينا، قال: و بكىٰ، فرقَّ له المسلمون، فقال له رسول الله صلّی الله علیه و آله: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينِ [هود: 6]، من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها، صب الله عليه الرزق صباً كالماء المنهمر، إن قليلاً فقليلاً، و إن كثيراً فكثيراً، قال: دعا رسول الله صلّی الله علیه و آله و أمّن له المسلمون»، قال: فقال أبو جعفر علیه السّلام فحدثني من رأىٰ الرجل في زمن عمر، فسأله عن حاله، فقال: من أحسن من حوله حالاً و أكثرهم مالاً(1).

و قد ذكر السيد علي بن طاووس في مهج الدعوات: عن أمير المؤمنين علیه السّلام، أنه قال: «من تعذر عليه رزقه، و تغلقت عليه مذاهب المطالب في معاشه، ثم كتب له هذا الكلام في رق ظبي، أو قطعة من أُدُم، و علقه عليه، أو جعله في بعض ثيابه التي يلبسها فلم يفارقه، وسع الله رزقه، و فتح عليه أبواب المطالب في معاشه، من حيث لا يحتسب: اللهم لا طاقة لفلان بن فلان بالجهد، و لا صبر له على البلاء، و لا قوة له على الفقر و الفاقة، اللهم فصلّ على محمّد و آل محمّد، و لا تحظر على فلان بن فلان رزقك، و لا تقتر عليه سعة ما عندك، و لا تحرمه فضلك و لا تحرمه من جزيل

قسمك، و لا تكله إلى خلقك، و لا إلى نفسه فيعجز عنها،

ص: 87


1- مستدرك الوسائل: ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 13، ص39.

و يضعف عن القيام فيما يصلحه و يصلح ما قبله، بل تفرد بلم شعثه و تول كفايته، و انظر إليه في جميع أموره، فإنك إن وكلته إلى خلقك لم ينفعوه، و إن ألجأته إلى أقربائه حرموه، و إن أعطوه أعطوا قليلاً نكداً، و إن منعوه منعوا كثيراً، و إن بخلوا فهم للبخل أهل، اللهم اغن فلان بن فلان من فضلك، و لا تخله منه، فإنه مضطر إليك، فقير إلى ما في يديك، و أنت غني عنه، و أنت به خبير عليم «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» [الطلاق: 3]، «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» [الشرح: 5-6]، «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2-3]»(1).

2- حُسن الخلق:

هنالك ارتباط وثيق بين الأخلاق الحسنة و كثرة الرزق و زيادته، و بين سوء الخلق و ضيق الرزق و نقصانه، و الأخلاق الحسنة عبارة عن مجموعة الكمالات التي ينبغي أن يتحلىٰ بها الفرد المؤمن، و الكلام فيها كلام موسع جدّاً لابد أن نرجع فيه إلى الكتب المؤلفة في هذا الجانب، و أمّا العلاقة بين الأخلاق الحسنة

ص: 88


1- مستدرك الوسائل: ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 19، ص 41.

و زيادة الرزق فقد أشارت إليها كثير من الروايات، منها: ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام حيث قال: «في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق»(1)، و قال علیه السّلام: «من ساء خلقة ضاق رزقة»(2)، و ما ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام حيث قال: «حسن الخلق يزيد في الرزق»(3).

3- التقوىٰ:

قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» (الطلاق: 2-3)، عن الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام قال: «من أتاه الله برزق لم يخط إليه برجله و لم يمد إليه يده و لم يتكلم فيه بلسانه و لم يشد إليه ثيابه و لم يتعرض له كان ممن ذكره الله عزّوجلّ في كتابه «وَ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا (2) وَ يَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»»(4)، و عن الإمام الصادق علیه السّلام: «ما ناصح الله عبد مسلم في نفسه، فأعطىٰ الحق منها و أخذ الحق لها، إلّا أعطي خصلتين: رزقاً من الله عزّوجلّ يقنع به و رضىٰ عن الله ينجيه»(5).

ص: 89


1- الكافي: ج 8، ص 23.
2- ميزان الحكمة: ج 1، ص 807.
3- مستدرك الوسائل: ج 8، ص 445.
4- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 17، ص 69.
5- الخصال: الشيخ الصدوق، ص 46.

4- الجلوس بين الطلوعين:

عن حماد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول: «لَجلوس الرجل في دبر صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أنفذ في طلب الرزق من ركوب البحر»(1).

و عن الإمام الصادق علیه السّلام قال: «الجلوس بعد صلاة الغداة في التعقيب و الدعاء حتّى تطلع الشمس، أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض»(2).

و قال علیه السّلام: «نومة الغداة مشومة، تطرد الرزق، و تصفر اللون و تقبحه و تغيره، و هو نوم كل مشوم، إن الله تعالى يقسم الأرزاق ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و إياكم و تلك النومة، و كان المنّ و السلوىٰ ينزل على بني إسرائيل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام تلك الساعة لم ينزل نصيبه، و كان إذا انتبه فلا يرىٰ نصيبه احتاج إلى السؤال و الطلب»(3)، و قال الإمام الصادق علیه السّلام في قول الله عزّوجلّ: «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (الذاريات: 4): «الملائكة تقسم أرزاق بني آدم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام فيما بينهما نام عن رزقه»(4).

ص: 90


1- الكافي: ج 5، ص 310.
2- تهذيب الأحكام: ج 2، ص 138.
3- تهذيب الأحكام: ج 2، ص 139.
4- تهذيب الأحكام: ج 2، ص 139.

5- التعقيب بعد الصلاة:

عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «التعقيب أبلغ في طلب الرزق من الضرب في البلاد»، يعني بالتعقيب الدعاء بعقب الصلاة(1).

6- أعمال يوم الجمعة:

وردت أعمال خاصة ليوم الجمعة المبارك، كالغسل، و قص الأظافر، و قص الشارب، و نحو ذلك. و هذه الأعمال لها آثار كبيرة على مستوىٰ الثواب و الرزق الدنيوي، قال رجل لعبد الله بن الحسن: علمني شيئاً في الرزق، فقال: ألزم مصلاك إذا صليت الفجر إلى طلوع الشمس، فإنه أنجع في طلب الرزق من الضرب في الأرض، فأخبرت بذلك أبا عبد الله علیه السّلام فقال: «ألا أعلمك في الرزق ما هو أنفع من ذلك»؟ قال: قلت: بلىٰ، قال علیه السّلام: «خذ من شاربك و أظفارك كل جمعة»(2)، و قال أبو عبد الله علیه السّلام: «تقليم الأظفار و قص الشارب و غسل الرأس بالخطمي كل جمعة ينفي الفقر»(3)، و في رواية عن رسول صلّی الله علیه و آله: «تقليم الأظفار يمنع الداء الأعظم و يدر الرزق»(4)، و يظهر منها أن قص الأظافر مطلقاً -أي سواء كان في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام- له

ص: 91


1- تهذيب الأحكام: ج2، ص 104.
2- الكافي: ج 6، ص 491.
3- الكافي: ج 6، ص 491.
4- الكافي: ج 6، ص 490.

تلك الفائدة، و يمكن حملها على يوم الجمعة بملاحظة الروايات الأخرىٰ.

7- الاستغفار:

قال تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أنهاراً (نوح: 10-12)، و قال تعالى: «وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» (هود: 52)، و عن الإمام علي علیه السّلام: «الاستغفار يزيد في الرزق»(1)، و عنه علیه السّلام: «استغفر ترزق»(2)، و عنه علیه السّلام: «و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق و رحمة الخلق، فقال سبحانه: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً»(3).

8- الصدقة:

عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: تصدقوا فإن الصدقة تزيد في المال كثرة، تصدقوا رحمكم الله»(4)، و قال أبو عبد

ص: 92


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 2277.
2- ميزان الحكمة: ج 3، ص 2277.
3- ميزان الحكمة: ج 3، ص 2277.
4- الوافي: ج 10، ص 397.

الله علیه السّلام لمحمد ابنه: «يا بني، كم فضل معك من تلك النفقة»؟ قال: أربعون ديناراً، قال: «اخرج فتصدق بها»، قال: إنه لم يبقَ معي غيرها، قال: «فتصدق بها فإن الله تعالى يخلفها، أما علمت أن لكل شيء مفتاحاً، و مفتاح الرزق الصدقة، فتصدق بها»، ففعل، فما لبث أبو عبد الله علیه السّلام إلّا عشرة أيام حتّى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: «يا بني أعطينا لله أربعين ديناراً فأعطانا أربعة آلاف دينار»(1).

و عن أبي الحسن علیه السّلام قال: «استنزلوا الرزق بالصدقة»(2).

و عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «ما أحسن عبد الصدقة في الدنيا إلّا أحسن الله الخلافة على ولده من بعده»، و قال علیه السّلام: «حسن الصدقة يقضي الدَّيْن و يخلف على البركة»(3)، و قال الإمام علي علیه السّلام: «فَرَضَ الله الإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ... و الزَّكَاةَ تسبيباً لِلرِّزْقِ»(4).

9- الزواج:

قال السيد اليزدي في العروة الوثقىٰ: و المستفاد من الآية «وَ أَنْكِحُوا الأيامىٰ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ

ص: 93


1- الوافي: ج 10، ص 397.
2- الوافي: ج 10، ص 397.
3- الوافي: ج 10، ص 397.
4- نهج البلاغة: تحقيق صالح، ص 512.

إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (النور: 32)، و بعض الأخبار أنّه (الزواج) موجب لسعة الرزق، ففي خبر عن إسحاق بن عمّار، قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: الحديث الذي يرويه الناس حق، أنّ رجلاً أتىٰ النبي صلّى الله عليه و آله فشكا إليه الحاجة، فأمره بالتزويج حتّى أمره ثلاث مرات، قال أبو عبد الله علیه السّلام: «نعم، هو حق» ثم قال علیه السّلام: «الرزق مع النساء و العيال»(1)، و قد يكون الأمر بالعكس، كما أشار إليه الحديث، عن عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السّلام، فأتاه رجل، فشكىٰ إليه الحاجة، فأمره بالتزويج، قال: فاشتدت به الحاجة فأتىٰ أبا عبد الله علیه السّلام فسأله عن حاله فقال له: اشتدت بي الحاجة فقال: ففارق، ثم أتاه فسأله عن حاله؟ فقال: أثريت و حسن حالي، فقال أبو عبد الله علیه السّلام: «إنّي أمرتك بأمرين أمر الله بهما، قال الله عزّوجلّ: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» [النور: 32]، و قال: «وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كَانَ اللهُ واسِعاً حكيماً» [النساء: 130]».

10- قراءة بعض السور و الآيات:

مما لا شك فيه أن القرآن الكريم فيه أسرار عجيبة غريبة، لم نطلع على كثير منها، إلّا أنّه هنالك روايات كثيرة بيَّنت آثاره في

ص: 94


1- المباني في شرح العروة الوثقى: موسوعة السيد الخوئي، ج 15، ص 301.

الرزق و نحوه، فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «من قرأ سورة والذاريات في يومه أو في ليلته أصلح الله له معيشته، و أُتي برزق واسع، و نور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة»(1)، و روىٰ أبو بصير عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال: «إن لكل شيء قلباً، و قلب القرآن يس، فمن قرأ يس في نهاره، قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتّى يمسي، و من قرأها في ليله، قبل أن ينام، وكّل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم، و من كل آفة، و إن مات في نومه أدخله الله الجنة، و حضر غسله ثلاثون ألف ملك، كلّهم يستغفرون له و يشيعونه إلى قبره بالاستغفار له، فإذا أدخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون الله، و ثواب عبادتهم له، و فسح له في قبره مدّ بصره، و أمن من ضغطة القبر، و لم يزل له في قبره نور ساطع إلى عنان السماء إلى أن يخرجه الله من قبره، فإذا أخرجه، لم تزل ملائكة الله معه يشيعونه، و يحدثونه، و يضحكون في وجهه، و يبشرونه بكل خير، حتّى يجوزوا به الصراط و الميزان، و يوقفوه من الله موقفاً لا يكون عند الله خلق أقرب منه إلّا ملائكة الله المقربون، و أنبياؤه المرسلون، و هو مع النبيين واقف بين يدي الله، لا يحزن مع من يحزن، و لا يهتم مع من يهتم، و لا يجزع مع من يجزع، ثم يقول له الرب تعالى: اِشفع عبدي أشفعك في جميع ما تشفع، و سلني عبدي أعطك جميع ما

ص: 95


1- ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق، ص 115.

تسأل، فيسأل فيعطىٰ، و يشفع فيشفَّع، و لا يحاسب فيمن يحاسب، و لا يذل مع من يذل، و لا يبكت بخطيئة، و لا بشيء من سوء عمله، و يعطىٰ كتابه منشوراً، فيقول الناس بأجمعهم: سبحان الله لما كان لهذا العبد خطيئة واحدة! و يكون من رفقاء محمّد صلّی الله علیه و آله»(1).

إذن هي تشمل كل أنواع الرزق، الدنيوي و الأخروي، المادي و المعنوي، و هنالك موارد أخرىٰ تطلب من محلها.

11- الذنوب تمنع الرزق:

الذنوب لها كثير من الآثار السيئة على الإنسان المؤمن، فقد يكون سبباً للبلاء و المصائب، و من آثار الذنوب الحرمان من الرزق، و هذا المعنىٰ ورد واضحاً في روايات أهل البيت علیهم السّلام، عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُزْوِي عَنْه الرِّزْقُ»(2)، و في رواية أخرىٰ عنه علیه السّلام: «إِنَّ الذَّنْبَ يَحْرِمُ العَبْدَ الرِّزْقَ»(3)، و عن أبي جعفر علیه السّلام قال: «إن الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق»، و تلا هذه الآية: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ» (القلم: 19-17)(4). قال الفيض الكاشاني في

ص: 96


1- تفسير مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 255، ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 110.
2- الكافي: ج2، ص 270.
3- الكافي: ج 2، ص 271.
4- وسائل الشيعة (آل البيت): ج 15، ص 301.

الوافي في بيان الحديث: الآية نزلت في قوم كانت لأبيهم جنة، فكان يأخذ منها قوت سنته و يتصدق بالباقي، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا أن يقطعوها، و قد بقي من الليل ظلمة، داخلين في الصبح، منكرين و لم يستثنوا في يمينهم، أي: لم يقولوا: إن شاء الله، فطاف عليها بلاء أو هلاك طائف، أي: محيط بها، و هذا كقوله سبحانه: «وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ» [الكهف: 42]، قيل احترقت جنتهم فاسودت، و قيل يبست و ذهبت خضرتها و لم يبق منها شيء(1).

و عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر علیه السّلام قال: سمعته يقول: «إنه ما من سنة أقل مطراً من سنة، و لكن الله يضعه حيث يشاء، إن الله عزّوجلّ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم، و إلى الفيافي و البحار و الجبال، و إن الله ليعذب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلها بخطايا من بحضرتها، و قد جعل الله لها السبيل في مسلك سوىٰ محلة أهل المعاصي»، قال: ثم قال أبو جعفر علیه السّلام: «فاعتبروا يا أولي الأبصار»(2).

و الحمد لله رب العالمين

ص: 97


1- الوافي: الفيض الكاشاني، ج 5، ص 1001.
2- الكافي: ج 2، ص 272.

ص: 98

المصادر

1- القرآن الكريم.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- تحقيق: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام لإحياء التراث، الطبعة الثانية -سنة الطبع: 1414- المطبعة: مهر -قم- الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام لإحياء التراث بقم المشرفة.

3- الكافي -الشيخ الكليني- الطبعة الخامسة -سنة الطبع: 1363 ش- المطبعة: حيدري -الناشر: دار الكتب الإسلامية-

طهران.

4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- الطبعة الثانية المصححة -سنة الطبع: 1403 - 1983م- الناشر: مؤسسة الوفاء -بيروت- لبنان.

5- شرح نهج البلاغة -ابن ميثم البحراني- الطبعة الأولى -سنة الطبع: تابستان 1362ش- المطبعة: چاپخانه دفتر تبليغات إسلامي -الناشر: مركز النشر- مكتب الإعلام الإسلامي - الحوزة العلمية - قم - إيران.

ص: 99

6- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- الطبعة الأولىٰ -سنة الطبع: 1378 - 1959م -الناشر: دار إحياء الكتب العربية-

عيسىٰ البابي الحلبي و شركاه.

7- التفسير الكاشف -محمد جواد مغنية- الطبعة الثالثة -سنة الطبع: آذار (مارس) 1981- الناشر: دار العلم للملايين -بيروت- لبنان.

8- التفسير المبين -محمد جواد مغنية- الطبعة الثانية منقحة و مزيدة -سنة الطبع: 1403 - 1983م- الناشر: مؤسسة دار الكتاب الإسلامي.

9- تفسير الميزان -السيد الطباطبائي- الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

10- تفسير الرازي -فخر الدين الرازي- الطبعة الثالثة.

11- في ظلال نهج البلاغة -محمد جواد مغنية- الطبعة الأولىٰ -سنة الطبع: 1427- المطبعة: مطبعة ستار- الناشر: انتشارات كلمة الحق.

12 - تصنيف نهج البلاغة -لبيب بيضون- الطبعة الثانية - سنة الطبع: محرم 1408 - المطبعة: مطابع مكتب الإعلام الإسلامي - الناشر: مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي.

13- التفسير الصافي -الفيض الكاشاني- الطبعة الثانية - سنة الطبع: رمضان 1416 - 1374ش - المطبعة: مؤسسة الهادي - قم المقدسة - الناشر: مكتبة الصدر - طهران.

ص: 100

14- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: 1415 - 1995م - الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

15- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه - محمد تقي المجلسي- (الأول) - الناشر: بنیاد فرهنگ اسلامي حاج محمد حسين کوشانپور.

16- لسان العرب - ابن منظور - نشر أدب الحوزة - قم - إيران 1405 ھ 1363 ق.

17- المصباح - الكفعمي - الطبعة الثالثة - سنة الطبع: 1403 - 1983م - الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات -بيروت.

18- حياة الحيوان الكبرىٰ - كمال الدين دميري - الطبعة الثانية - سنة الطبع: 1424 - الناشر: دار الكتب العلمية.

19- جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي - المطبعة العلمية - قم - سنة الطبع: 1399.

20- الأمالي - الشيخ الصدوق - الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: 1417 - الناشر: مركز الطباعة و النشر في مؤسسة البعثة.

21- الوافي - الفيض الكاشاني - الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: أول شوال المكرم 1406 ھ. ق 19 / 3 / 65 ھ.ش -المطبعة: طباعة أفست نشاط أصفهان - الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي علیه السّلام العامة - أصفهان.

ص: 101

22- نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: 1412 - 1370 ش - المطبعة: النهضة - قم - الناشر: دار الذخائر - قم - إيران.

23- الاحتجاج - الطبرسي - الناشر: دار النعمان للطباعة و النشر - النجف الأشرف.

24- مجلة تراثنا: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام - سنة الطبع: 1414 - المطبعة: مهر - قم الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام لإحياء التراث - قم المشرفة، ملاحظات: العدد الأول - السنة التاسعة محرم 1414.

25- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - الطبعة الرابعة - المطبعة: مطبعة الإسلامية بطهران - الناشر: بنیاد فرهنگ إمام المهدي عجّل الله فرجه.

26- القاموس المحيط - الفيروز آباد.

27- تاج العروس - الزبيدي - المطبعة: دار الفكر - بيروت - الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع - بيروت.

28- تفسير الصراط المستقيم - السيد حسين البروجردي - المطبعة: الصدر - قم - سنة الطبع: 1416 ھ - 1995م - الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة و النشر.

29- الاقتصاد - الشيخ الطوسي - سنة الطبع: 1400 - المطبعة: مطبعة الخيام - قم - الناشر: منشورات مكتبة جامع

چهلستون - طهران.

ص: 102

30- تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي – الطبعة الثالثة - سنة الطبع: 1364 ش - المطبعة: خورشيد - الناشر: دارالكتب

الإسلامية - طهران.

31- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي - أحمد بن محمد المقري الفيومي - الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع.

32- قرب الاسناد - الحميري القمي – الطبعة الأولىٰ – سنة الطبع: 1413 - المطبعة: مهر - قم - الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام لإحياء التراث - قم.

33- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق – الطبعة الثانية - الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

34- ميزان الحكمة - الطبعة الأولىٰ - المطبعة: دار الحديث - الناشر: دار الحديث.

35- التبيان في تفسير القرآن - الشيخ الطوسي – الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: رمضان المبارك 1409 - المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي - الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي.

36- مستدرك الوسائل - ميرزا حسين النوري الطبرسي - الطبعة الأولىٰ المحققة - سنة الطبع: 1408 - 1987م - الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السّلام لإحياء التراث - بيروت - لبنان.

37- الصحيفة السجادية - الطبعة الأولىٰ - سنة الطبع: 1418 - الناشر: دفتر نشر الهادي.

ص: 103

38- المباني في شرح العروة الوثقىٰ - موسوعة السيد الخوئي- المطبعة: نينوىٰ - الطبعة الرابعة - سنة الطبع: 1430 ھ، 2009م - الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه.

39- ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق – الطبعة الثانية - سنة الطبع: 1368ش، المطبعة: أمير - قم - الناشر: منشورات الشريف الرضي - قم.

40- ما وراء الفقه - السيد محمد الصدر - الطبعة الثالثة، سنة الطبع: 1427 - 2007 م المطبعة: قلم - الناشر: المحبين للطباعة و النشر.

41- الخصال - الشيخ الصدوق - تحقيق: تصحيح و تعليق: علي أكبر الغفاري - سنة الطبع: 18 ذي القعدة الحرام 1403 - 1362 ش، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

ص: 104

الفهرست

مقدمة المعهد...3

الإهداء...6

مقدمة المؤلف...7

تمهید...11

مفهوم نظرية الرزق و شروطها و مقوماتها:...11

شروط نظرية الرزق و مقوماتها:...13

الفصل الأول...17

النقطة الأولىٰ: مفهوم الرزق:...17

1 - الرزق الدنيوي المادي:...18

2 - الرزق الدنيوي المعنوي:...18

الرزق الأخروي:...19

1- الرزق الأخروي المادي:...19

2- الرزق الأخروي المعنوي:...22

طرق إيصال الرزق:...23

ص: 105

النقطة الثانية: الرازق هو الله تعالى:...24

الرزق حق علىٰ الله تعالى:...25

حق من غير استحقاق:...28

رزق بغیر حساب:...29

رزق بغیر احتساب:...31

الفصل الثاني...35

النقطة الأولىٰ: نسبة الرزق إلى غير الله تعالى:...35

النقطة الثانية: الرزق الحرام:...38

بيان شبهة الأشاعرة:...40

جواب الشبهة:...42

الوقفة الأولىٰ: الإجابة عن كل استدلال بخصوصه:...42

الوقفة الثانية: ما يدل علىٰ بطلان أصل الدعوىٰ:...46

الفصل الثالث...51

النقطة الأولىٰ: تقدير الأرزاق:...51

بیان شبهةٍ:...52

و جوابها:...53

النقطة الثانية: الحث علىٰ طلب الرزق:...53

إرادة الخالق فوق إرادة المخلوق:...61

النقطة الثالثة: كيف يتحقق طلب الرزق؟...62

ص: 106

النقطة الرابعة: الإجمال في طلب الرزق:...66

الفصل الرابع...71

النقطة الأولىٰ: سعة الأرزاق و ضيقها:...71

بيان شبهة:...72

جواب الشبهة:...72

النقطة الثانية: أسباب تفاوت الأرزاق:...73

أ) الحكمة الإلهية:...73

ب) مراعاة مصلحة العبد:...74

ج) الابتلاء و الاختبار:...75

د) الاستدراج:...77

ھ) تكفير العقاب و تعجيل الثواب:...78

و) اختلاف الاستعدادات و القابليات:...82

النقطة الثالثة: الأعمال التي تؤدي إلى زيادة الرزق أو نقيصته:...86

1- الدعاء:...86

2- حُسن الخلق:...88

3- التقوىٰ:...89

4- الجلوس بين الطلوعين:...90

5- التعقيب بعد الصلاة:...91

6- أعمال يوم الجمعة:...91

ص: 107

7- الاستغفار:...92

8- الصدقة:...92

9- الزواج:...93

10- قراءة بعض السور و الآيات:...94

11- الذنوب تمنع الرزق:...96

المصادر...99

الفهرست...105

ص: 108

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.