خديجة سلام الله علیها أم المؤمنين

هوية الکتاب

خديجة أم المؤمنين

(تأليف )

(السيد عبد الحميد افندي الزهراوي )

مبعوث حماه ( سورية )

«نشرت متفرقة في مجلة المنار »

«وجمعت منها في هذا الكتاب »

(حقوق الطبع محفوظة )

(الطبعة الأولى بمطيعة المنار بشارع درب الجاميز بمصر سنة 1328 )

www.attaweel.com

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة تمهيدية ( أو ) أهداء السيرة (إلى )(روح والدة المؤلف )

ص: 3

بسم اللهُ الرحمن الرحیم

(ذكر الله تعالى والثناء عليه والشكر له قبل كل شيء )

دخل هذه الدار عدد لا يحصى من بني آدم بمجموعهم عمرت القرى والامصار ، وتحركت أفلاك العلوم والاعمال ، وتعاقبت أسلاك الاجتماع والاحوال ، واذا فتحت كتب السير والتاريخ لا تجد ذكراً لعُشر من دخلها ولا لعُشر عُشرهم ولا للواحد في الالف ، ولا للواحد في ألف الالف منهم فماذا يعني المؤرخون بهذا القليل من بني آدم ويهملون الكثير منهم ؟

ليس بمجيب ما صنع المؤرخون فان الاكثرين من بني آدم منشا كلو السيرة ، متشابهو الحالة والغاية ، على ما بين سيرهم من التغاير، وبين أحوالهم من التفاوت ، وذلك أنّ حاصل أمرهم تعب وكد ومزاحمة وحيرات وحسرات في تحصيل ما اشتهوا أو تعودوه من المطالب جل أو حقر، فماذا هي أن يذكر المؤرخ من حكايات هؤلاء التي يمكن أن تكتب كلها هكذا : « جاءوا الى هذه الدنيا فاشتغلوا بأسباب معايشهم وعاشوا

ص: 4

خاضعين للغالب وذهبوا غير تاركين أثراً في هذه الدار الا إن كان ولداً على شاكلتهم » .

وأما أولئك الافراد القليلون الذين لهم بعد مماتهم وجود ظاهر بالآثار فإنّ في سيرهم للتاريخ ذخر آمن غرائب الاستعداد الإنساني، وبدائع مظاهره ، وجلائل آثره، وامثلة التفاوت بين أفراده، والارتقاء والتكامل في مجموعه ، بواسطة آحاد من جملته ، بذلك يستمد التاريخ جدته كل يوم، ويأخذ المزيد لرونقه عند كل فرد وكل قوم .

واولئك الافراد صنوف : فرسول مبشر ، وحكيم مبصر، وكاتب مفكر ، وشاعر مذكر ، وفاتح منير، ومخترع محير، وكاشف منور، وباحث مصور ، واجتماعي محور ، وشرعي مقرر ، ونصاح مبرر ، ولساني مفسر ، ومفضال ميسر .

هؤلاء الصنوف أقطاب التاريخ على أخباهم يدور ، ومآثرهم مشارقه منها يستمد النور، ووراءهم في الذكر يأتي من اشتهروا بخلق من الاخلاق ، ومن عرفوا في عشيرة بطيب الاعراق، ومن هنا يظهر لنا أنّ الشهرة ليست بشيء عند التاريخ اذا لم تؤيد بمآثر . ولولا هذا لتعب المؤرخون في سرد أسماء كثيرة لا يستطيعون أن يبيضوا وجوه دفاتر هم بشيء من أعمال أصحابها ممن كانوا كباراً في العيون لأنّهم أبناء أماجد مثلا وهم لم تجدهم همة ، ولم تؤثر عنهم منقبة ، ويظهر لنا أيضاً أنّ إعراض التاريخ عن ذكر من لم تبهر مآثرهم هو احسن درس في الاخلاق ألقاها علينا المؤرخون عن عمد أو بالتصادف وذلك لأنّ النفوس إنّما يتريها بالباقيات الصالحات

ص: 5

تذكار اهلها وتمداحهم، وانما ينهنهها عن الحول سرعة انطفاء الخاملين ، وطول اشراق الباقي ذكرهم في العالمين .

نuم ان من لهم الباقيات الصالحات التي يبقون ويذكرون بها هم افعل الحداة بالنفوس وانهض بها الى المكرمات فحكاية أحوالهم هي أفضل مآخذ الاخلاقيين الذين يجتهدون في أن يفهموا قارثيهم كيف يتكمل الانسان وكيف يصير من الاقطاب اقطاب التاريخ .

***

اللّهمّ إني أستسقي جودك وإحسانك لأرواح المؤرخين الذين تركوا كنوزاً كثيرة لنفوسنا من سير الأقطاب من آبائنا، وأستغفرك عن زلة زلها أكثرهم من حيث لا يشعرون وهي إهمالهم كثيرا من سير الأقطاب من أمهاتنا،

لقد علمنا أنّ الفرق ليس بكبير في الفطرة بين الرجل والمرأة ، وليست المرأة بمحرومة من المزايا التي يعلو قدر المتحلى بمثلها من الرجال، ذلك أنّنا نرى لهنّ عقولاً سليمة ، وقلوباً كريمة ، وهمما عظيمة ، وهل للرجال ينابيع للمكارم غير هذه العقول والقلوب والهمم . ونرى الاديان اعتبرت المرأة كالرجل في التكليف بالعقيدة والعبادة والآداب . وترى الاجتماع اعتبر المرأة كالرجل في التكليف بالعمل وما زال نصيبها منه كبيراً وتابعاً لتقسيم الاعمال على حسب مرتبة محيطها من العالم ثمّ على حسب مرتبتها من محيطها. وهذا غير ما نعلمه من فضل بعض الفاضلات

ص: 6

الماضيات اللّاتي تصلح سيرهنّ أن تكون هدًى للرجال قبل النساء ، ولولا تلك الزلة التي ذكرناها للمؤرخين لكان اللاتي نعلمهنّ أكثر وما اللاتي نعلمهنّ الآن من الفاضلات بقلائل .

من هؤلاء سيدة قد سمع بفضلها العالم كله ولكن العارفين سمع بتفاصيل فضائلها ومزاياها قليلون . الشرق سمع بهذه السيدة والغرب، الترك يعظمون اسمها والعرب ، وفارس والهند ، والافغان والسند ، وفي أرض الصين تعظم ، وفي الدنيا الجديدة تكرم، وإذا فتحت دفاتر المؤرخين عفا الله عنهم لا تجد فيها تحت اسم هذه السيدة الجليلة الاكلمات يسيرة في ترجمة حالها، وشرح خلالها، ولكنا نحن شاكروهم على هذه الكلمات التي يملأ سناها العقول والقلوب فتهتدي بها على قلتها الى عظيم أمرها كما يدرك المبحرون عظمة المنار اذا كانت أشعته عظيمة السطوع .

ولقد كنت تفكرت في ان اكافئ والدتي بعض المكافأة فتبينت بعد طول التفكر ان عظيم فضلها علىّ هو أبعد من أن يوفى شيء من حقه ولكن تراءى لي أنّه يسرّها أن أعلن للملإ فضل جنسها وأذكرهم بما نسوه من احترام حقوق هذا الجنس ولم أجد أحسن طريقة الى هذه الغاية الجليلة من شرح سيرة هذه السيدة التي هي احدى جداتها

فمن مدد تلك الكلمات القليلة التي تركها لنا المؤرخون في ترجمة

ص: 7

حال هذه السيدة أؤلف هذه القصة الحقيقية والى روح والدتي أرفعها هدية على راحة خشوعي وضعفي ، ومن خزائن رحمة الله ورضوانه أستنزل تحية طيبة مباركة لهذه الروح البارّة .

ومن راقه هذا المؤلف الصغير وحصلت له به لذة وفائدة فلي حق أن أرجوه شيئا ولا أرجوه إلّا ان يكون مساعداً في اقامة حقوق المرأة وكرامتها وآدابها . ان النساء أمهاتنا معشر الرجال وعلى حسب تربيتهنّ نكون فلنطلب من محيطنا أن يهذب بالعلم الامهات ويسعى لترقية مدارکهنّ و آدابهنّ !

ص: 8

خديجة ام المؤمنين

( مقدمة )

إشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

قبل ثلاثة عشر قرناً على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جداً لم يحدث بعده مثله الى الآن ، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا وأفريقيا وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الارض و تغیر جسيم في أحوال الأمم والشعوب ، ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعاً الى كلمة النبي الذى قام فيهم منهم وهو محمّد عليه الصلاة والسلام وشروعهم جميعاً بالهجوم على الممالك وفوزهم بهذا الهجوم وانتصارهم وغلبتهم على الامم وانضمام أمم كثيرة الى عقيدتهم وتكون ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الاطلانتيكي شرقاً وغرباً و من سواحل البحر الاحمر الى سواحل بحر قزوين شمالاً و جنوباً في أسرع ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة .

هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر كأنّه معتاد الحدوث كثيراً فلا يبحث هؤلاء عن سرّ حدوثه ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة

ص: 9

جديرة أن نشبهها بلمح البصر . وبعضهم يتلقاه كما هو أي يفهم أنّه حادث من أكبر الاحداث التي حدثت في الدنيا ويراه جديراً بالبحث والتأمل وامعان النظر ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمّ بهما هذا الحادث العظيم الاول النبي محمّد عليه الصلاة والسلام والثاني الذين آمنوا به و نصروه من العرب. وبديهى أنّ أول مؤمن به هو صاحب الفضل الاول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم .

ومن الامور التي يحقّ أن يفخر بها جنس النساء أنّ هذا الفضل الاول أي السبق بالايمان به والموافقة له كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة خديجة بنت خويلد من قريش . ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع الاحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزممت ان أقدم في هذه الاوراق لمحبي الفوائد الادبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم هدية مقتطفاً هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجميلة ولكن رأيت من اللازم جداً قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمرّ به مرة على قومها العرب عامة ثمّ قريش خاصة فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة .

العرب

العرب كسائر الامم أوائلهم مجهولة ، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة نقف الآن عند هاتين الكامتين وتلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام ثمّ نعود الى سياق حديثنا

ص: 10

يزعم كثير من الاقوام اهم يعرفون أصول أمتهم الى أبي البشر الاول ومن الاقوام من يزعمون أنّهم يعرفون سلاسل أصول الامم كلها حتّى يصلوا بها إلى ذلك الاصل الاول .

ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الاصول والاوائل . ومن تسامح بتصديق ما يروى يتشابه عليه الامر فيحار في تصديق المتناقضات، والترجيح بين المختلافات ، ومهما جنح الحريص على المعرفة الى الاستئناس بما يمكن قبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير منها ممّا تقوم الادلّة على بطلانه.

لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل ؟ لاندري ولكن يلوح لنا انّه لذت للأكثرين دعوى هذه المعرفة فابتدع كلّ قوم اسطورة في بيان أصلهم ينقلها الآباء للابناء ويسطرونها في كتبهم تسطيراً .

اماّ الباحثون عن انساب الشعوب فلمّا يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من المميزات وقد أنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول ان البشر المعروفين اليوم هم من ثلاث سلالات (1) السامية و (2) الاريانية و (3) التورانية .

وظاهر من هذا انّهم لما أرادوا وضع اسماء الاصول القليلة التي تفرعت منها هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقول بعض ما لفق في حكاية البشر ممّا قبل التاريخ ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين ولا غليل الخياليين فسيظل المحققون صابرين على جهل مثل هذا، ويبقى

ص: 11

الخياليون مستمسكين بما قد حكي لهم من قبل وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها وما تماثيلها إلّا أساطير الاولين .

امّا نحن فنرى انّه لا حاجة للتسلي بتلك الاساطير لانّنا اذا اشتهينا المعرفة فأمامنا ممّا قد نستطيع معرفته ما تنفد مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في ميدانه شوطاً بعيداً ، وما الوصول الى غاية في هذا الميدان ممّا يجوز ان نطمع فيه .

فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع بمعرفة سلسلتهم الآدمية الى آدم أو الى نوح بالتفصيل كما قطعنا طمعها من معرفة ذلك في سائر الامم فلهذا لا حاجة الى ما يذكره علماء الانساب من كون هذا الجيل من الاجيال السامية اذ يقال أنى لهم العلم بسام ابي الشعوب السامية وكيف يبني أهل الفن مبادىء على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني ، وما أغنى من يريد ان يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الاولين .

***

يقول المؤرخون انّ العرب ثلاثة أقسام (1) بائدة و (2) عاربة و (3) مستعربة. امّا البائدة فهم العرب الاول الذين ذهبت عنّا تفاصيل اخبارهم لتقادم عهدهم وهم عاد، وثمود ، وطسم ، وجديس، وجرهم الأولى ، واما العرب العاربه فهم عرب اليمن من ولد قحطان ، والعرب المستعربة هم ولد اسماعيل بن ابراهيم .

هذا قولهم وهو لا يعجبني لأنّ البائدة ليست موجودة حتى تعدّ وان كانوا يعدوّنها لأنّ منها اشتقّ غيرها فهذه شهادة بأنّها لم تبدء وقد

ص: 12

ذكروا في هذا التقسيم عرب اليمن من ولد قحطان قسماً مستقلاً ولم يذكروا لنا ممّن هو قحطان هذا . وذكروا أولاد اسماعيل بن إبراهيم قسماً مستقلاً ولم يأتوا بدليل قويم على أنّه تفرع من اسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة . وجلّ ما ذكروه انّ اسماعيل الذي كان غربياً في جوار مكة المكرمة تزوّج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت حولها، فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر اذا ذكر العرب ثمّ تبارك نسل اسماعيل الغريب وحده حتى صار قسماً مستقلاً هو ثالث ثلثة أو ثاني اثنين اذا ذكر العرب ؟ لسنا ندري ولكنّنا نعرف انّ هذا من جملة الاقوال التي تكتسب بكثرة الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول فتغر الاكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر على النقد والحك فليت أولي الالباب يكثرون من حك هذه المشهورات .

وانّما يعجبني جداً في هذا الباب ما روي من أنّ النبي العربي عليه السلام كان اذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه ويقول كذب النسابون (1)و يعني بذلك الذين يزعمون معرفة الانساب إلى آدم أو الى نوح .

امّا الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئاً فهو انّ العرب يوم ظهر فيهم النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل كل قبيلة تذكر لنفسها نسباً تقف فيه عند رجل معروف لديها وتمسك عما وراءه. والمشهور انّ لقبائل الحجاز أصلاً، ولقبائل اليمن أصلاً آخر ، والقبائل بعد ذلك أصول متفرعة من أحد الاصلين .

ص: 13


1- رواه ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس وتتمته : قال الله تعالى «وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا».

و عرب العراق والشام ترجع الى أحد هذين الاصلين أيضاً ، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالباً، وقحطان هو أبو عرب اليمن والعراق والشام غالباً .

وان قال قائل كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون، متقاتلون متذابحون ، لا ملك لهم ،جامع ، ولا شرع فيهم وازع ولا يد لهم في الاعمال الاجتماعية ، ولا نصيب لهم في الشؤون السياسية، وليس لهم قبل الاسلام كتاب معروف تدون فيه أخبارهم، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم ، فمن أجلّ ذلك لا تجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلّا بالاسلام، فالاسلام قد جمع الاوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو ، وهذا لا يثبت أنّ العرب كانوا يعرفون لقبائلهم أصولاً وأنّهم كانوا يتعارفون بأنسابهم ؟؟

نقول لصاحب هذا القول انّ العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم فإذا قلنا انهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي ديوان سيرهم ، واذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الاسم المجاورة لهم . فالفرس قد سبروهم لأنّ من العرب ملوكاً كانوا لهم خاضعين، وقواداً كانوا بأمرهم عاملين . والروم قد خبروهم لأنّ في مملكتهم ملوكا وقواداً وولاة من العرب، والديانة المجوسية تعرفهم لأنّ منهم من كان على دين ملوك فارس، والكنائس تعرفت بهم لأنّ منهم نصارى بل قسيسين ورهباناً، وبيع اليهود ماجهلتهم، والناسفة ما أنكرتهم، والحضارة قد ألمت بمساكنهم ( في اليمن والعراق والشام) ومخالطة الامم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم، فكيف يكون هذا الجيل مجهولاً بعد كل هذا ؟

ص: 14

إنّ العرب كانوا معروفين . وممّا عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم القومية فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار والعصبية عند التناصر فإذا رجعوا الى ما ينهم كانوا قبائل شتّى تنسی كل قبيلة الى أب لها ثمّ يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا. ولا يستبعد من أمّة محتاجة الى التناصر وليس لها كسائر الامم كتاب يجمع أخبارها وسير ابطالها أن يعني كثير من أفرادها یحفظ ذلك في أذهانهم وأية أمة ممن نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم . وقد كان الرجل من العرب اذا عظم أمره أو كثر ماله إنفرد بأهله وانتمت اليه الذرية ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من الارتباط بالنسبة الاولى لأنّ لهم عند التناصر حظا منها عظيما .

يذكر أحد علماء هذا الشان انّ العرب كانت قبائلهم ارحاء وجماجم فالارحاء هي القبائل التي أحرزت دوراً ومياهاً لم يكن للعرب مثلها ولم تبرح من أوطانها ودارت في دورها كالارحاء على أقطابها إلّا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب والجماجم هي القبائل التي يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت باسمائها دون الانتساب اليها فصارت كانّها جسد قائم وكلّ عضو منها مكتف باسم معروف بموضعه .

وكان علم النسب من جملة علوم العرب قد أثره عنهم أهل الرواية أول كل شيء . ونقلوا فيه حكايات كثيرة (منها) ماذكروه عن يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس وذلك أنّه رأى في منى رجلاً على راحلة ومعه عشرة شباب بأيديهم المحاجن ينحون الناس عنه ويوسعون له

ص: 15

فدنا منه وقال له : ممن الرجل فقال «انّي رجل من مهرة ممن يسكن الشجر» قال یزید فكرهته و وليت عنه فناداني من ورائى مالك قلت «لست من قومي و لست تعرفني ولا أعرفك » قال ان كنت من كرام العرب فسأعرفك قال يزيد فكررت عليه راحلتي وقلت «انّي من كرام العرب» قال فمن أنت ، قلت « من مضر » قال «فمن الفرسان أنت أم من الارحاء» فعلمت انّه أراد بالفرسان قيساً وبالارحاء خندفاً . فقلت : بل من الارحاء قال أنت امرؤ من خندف قلت نعم ، قال «من الارومة أنت أم من الجماجم ؟»

فعلمت أنّه أراد بالارومة خزيمة وبالجماجم بني ادّ بن طابخة . قلت « بل من الجماجم» قال «فأنت امرؤ من بني ادّ بن طابخة » قلت «أجل » قال فمن الدواني أنت أم من الصميم : فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومزينة وبالصميم بني تميم . قلت «من الصميم » قال « فأنت اذا من بني تميم » قلت أجل ، قال «فمن الاكثرين أنت أم من الاقلين أو من اخوانهم الآخرين؟» فعلمت أنّه أراد بالاكثرين ولد زيد وبالاقلين ولد الحارث وبإخوانهم الآخرين بني عمر و بني تميم . قلت «من الاكثرين» قال «فأنت اذا من ولدزيد» قلت «أجل » قال «فمن البحور أنت أم الذرا أم من الثماد ؟» فعلمت أنّه أراد بالبحور بني سعد وبالذرا بني مالك بن حنظلة وبالثماد امرأ القيس ابن زید، قلت « بل من الذرا». قال «فأنت رجل من بني مالك بن حنظلة »، قلت «أجل »قال «فمن السحاب أنت أم من الشهاب أم من اللباب» فعلمت أنّه أراد بالسحاب طهية وبالشهاب نهثلا وباللباب بني عبد الله بن دارم. فقلت له « من اللباب» قال« فأنت من بني عبد الله من دارم» قلت «أجل» قال« فمن البيوت أنت أم من الدوائر؟» فعلمت انّه أراد بالبيوت ولد زرارة وبالدوائر

ص: 16

الاحلاف . قلن « من البيوت» ، قال « فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة ابن زرارة بن عدس وقد كان لأبيك امرأتان فأيهما أمك ؟»

***

ولقد غلط من ظنوا انّ العرب لم يكن لهم من حضارة ولم يكونوا على شيء مما عليه الامم من الروابط كلا بل كان لهم حضارات وملوكهم التبابعة في اليمن معروف أمرهم عند المشتغلين بالتاريخ . وملوك الحيرة ( في العراق ) مشهورون من عرف تاريخ الفرس عرفهم و إن جهل تاريخ العرب أولهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس من سلالة الازد من ولد كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وكان ملكه في أيام ملوك الطوائف الفارسيين وملك بعده أخوه عمرو بن فهم ثمّ ملك بعد عمرو ابن أخيه جذيمة الابرش بن مالك بن فهم وجذيمة هذا هو صاحب الحديث المشهور مع الزباء ( زوبيا ) صاحبة تدمر وخلاصة الحديث فيما يروي مؤرخو العرب ان حذيمة قتل أباها فاحتالت عليه الزباء وأطمعته في نفسها حتى اغتر وقدم الیها فقتلته وأخذت بثار ابيها . وبعد قتله انتقل الملك الى يد ابن اخته عمر و اللخمي جد الملوك المناذرة اللخميين .

والملوك الغسانيون في الشام مشهورون أيضاً لا يجهلهم من عرف تاريخ الرومان اذا جهل تاريخ العرب . وأصل غسان من اليمن من بني الازد ابن الغوث ، تفرقوا من اليمن بسيل العرم ، ونزلوا على ماء بالشام يقال له غسان فنسبوا اليه وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهسم الضجاعمة من سليح فأخرجتهم غسان من ديارهم وقتلوا ملوكهم وصاروا موضعهم.

ص: 17

وأول من ملك من غسان جفة بن عمرو بن ثعلبة ، وكان ابتداء ملكهم قبل الاسلام باربع مئة سنة وقبل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة وقتل ملوك سلیح دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبنى بالشام عدة مصانع ولما مات ملك بعده ابنه عمرو بن جفنة ، وبنى بالشاء عدة ديور منها دير حالي ودير أيوب ودير هند ، ثمّ ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغرير في أطراف حوران ممّا يلي البلقاء. ثمّ ملك الحارث بن ثعلبة ، ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث وبنى القناطر وأدرح والقسطل ، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة وكان مسكنه بالبلقاء فبنى بها الحفير ومصنعه ثم ملك بعده المنذر الاكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة الاول ، ثمّ ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث ثمّ ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث ثم ملك بعدهم أخوهم الايهم بن الحارث و بنى دير ضخم ودير النبوة . ثمّ ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك جفنة الاصغر بن المنذر الاكبر ، وهو الذي أحرق الحيرة ، وبذلك سموا ولده آل محرق ثم ملك بعده أخوه النعمان الاصغر بن المنذر الاكبر ثمّ ملك النعمان بن عمرو بن المنذر ، وبنى قصر السويدا ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكا وفي عمرو المذكور يقول النابغة الذبياني

علىّ لمرو نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب

ثمّ ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان ، وهو الذي قابل المنذر اللخمي بن ماء السماء . ثمّ ملك بعده النعمان بن الايهم بن الحارث بن ثعلبة ، ثمّ ملك أخوه الحارث بن الايهم ، ثمّ ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث ، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة وكان قد خربها بعض

ص: 18

ملوك الحيرة اللخميين ، ثمّ ملك بعده المنذر بن النعمان ، ثمّ ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان ، ثمّ ملك أخوها حجر بن النعمان ، ثم ملك ابنه الحارث بن حجر ، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث ، ثم ملك ابنه الحارث ابن جبلة ، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث ، ثمّ ملك بعده الايهم بن جبلة ابن الحارث وهو صاحب تدمر وكان عامله يقال له القين بن خسر وبنى له قصراً بالبرية عظما ومصانع. ثمّ ملك بعده اخوه المنذر بن جبلة ثمّ ملك بعده اخوهما شراحيل بن جبلة ثمّ ملك اخوهم عمرو بن جبلة ثمّ ملك بعده ابن اخيه جبلة بن الحارث بن جبلة ، ثمّ ملك بعدهم جبلة بن الايهم بن جبلة ، وهو آخر ملوك بني غسان ، وهو الذي اسلم في خلافة عمر ثمّ عاد الى الروم .

***

ومن ملوك العرب ملوك كندة الذين من سلالهم امرؤ القيس الشاعر المشهور أولهم حجر آكل المرار بن عمرو وخلف على الملك ابنه عمرو المقصور سمّی بالمقصور لانّه اقتصر على ملك أبيه ثمّ ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو و قوي ملك الحارث المذكور لأنّه وافق كسرى قباذ بن فيروز على الزندقة والدخول في مذهب مزدك فطرد قباذ المنذر ابن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة وملك الحارث المذكور موضعه فعظم شان الحارث المذكور فلما ملك انوشروان أعاد المنذر وطرد الحارث المذكور فهرب وتبعته تغاب وعدة قبائل فظفروا بأمواله وبأربعين نفساً من ذوي قرباه فقتلهم المنذر في ديار بني مرين وهرب الحارث إلى ديار كلب وبقي بها حتى مات . ومن أولاد الحارث هذا حجر أبو امرؤ

ص: 19

القيس الشاعر وكان حجر قد ملكه ابوه على بني أسد بن خزيمة فبقي أمره متماسكا فيهم مدّة بعد ذلك ثمّ تنكروا عليه فقاتلهم وقهرهم ودخلوا في طاعته ثمّ هجموا عليه بغتة وقتلوه غيلة وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس أبياتاً منها

بنو أمد قتلوا ربهّم *** ألا كل شيء سواه خلل

وطالب امرؤ القيس بهذا الملك بعد ابيه فاستنجد ببكر وتغلب على بني أسد فأنجدوه وهربت منهم بنو أسد وتبعهم فلم يظفر بهم ثمّ تخاذلت عنه بكر وتغلب وتطلبه المنذر بن السماء فتفرقت جموع امرئ القيس خوفاً من المنذر ، وخاف امرؤ القيس منه أيضاً فصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس الى أناس حتى قصد السموأل بن عاديا اليهودي فأكرمه وأنزله وأقام عنده ثمّ سار الى ملك الروم مستنجدا به وأودع أدراعه عند السموأل وكانت مئة وفي مسيره إلى ملك الروم قال قصيدة تشعر بلسان حاله ومنها قوله

تقطع أسباب اللبابة والهوى *** عشية جاوزنا حماة وشيزرا

بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه *** وأيقن انا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنّما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وقد مات في هذا السفر بعد عودته من عند قيصر .

فبالله كيف تكون مجهولة الامة التي فيها الملوك والاقيال، وقد وقفت أمام الامم و الاجيال، سنين من الدهر ، لا يعرف لها حصر، لعمرک انّ القول بأنّ هؤلاء القوم كانوا مجهولين، وأنّهم كانوا متشتتين، من غير ملك جامع، ولا شرع وازع ، هو قول برسله صاحبه من غير ان يكاف نفسه بحثا وهو لما يحط بذلك خبرا

ص: 20

ومتى كان العرب معروفين عند غيرهم كما أوضحنا - ولدينا مزيد- كانوا هم أحق بمعرفة انفسهم وحفظ مفاخرهم وعصبياتهم . وما نقل إلينا عنهم من ذلك ليس منه شيء فوق العقل ولا وراء الحسّ بل القرائن له شاهدة ،وأمثاله أمام أعيننا مشاهدة ، واذا لم تجز الثقة بما ينقل من هذه الاخبار لم يكن غيرها أحقّ بالثقة لعمر الحق فإنّ تزوير الاساطير لا يستبعد وقوعه في كل أمّة من الامم ذوات الزبر والاسفار وليست الكتب أحق بالصدق من القرائن الشاهدة والنظائر الناطقة .

فمن شاء أن لا يثق بمنقول البتة لا يضرني رأيه ولا يضر التاريخ والمنقول ولا يضر العلماء الذين يحترمون التاريخ كثيرا وإنّما يضره وحده . يقلل استفادته من المنقول ، ويكثر وساوسه وغروره ، ثمّ يصل الى درجة لا يثق معها أحد بمعقوله .

ومن شاء أن يثق بالمنقول عن الامم دون العرب لا أناقشه لأنّه شهد لي على نفسه شهادة كافية ولا أزيده شيئاً على ما أوضحت به أنّ العرب تجوز الثقة ببعض ما ينقل عنهم كما تجوز الثقة ببعض ما ينقل عن غيرهم .

***

من أجل هذا نؤمن بما نقل الينا من نسب سيدتنا التي نروي هنا سيرتها وهي خديجة القرشية فإنّ هذا النقل من النقول التي لا تجد النفس حاجة للتردد في قبولها .

وقد قلنا آنفاً انّ لهؤلاء العرب المعروفين أصلين معروفين عندهم و مجهول ما وراءهما وهما عدنان و قحطان ، فامّا قحطان فقد أخذت ذريته

ص: 21

يحظها من الملك لأنّ كل ملوك العرب المشهورين كانوا من ذريته وامّا عدنان فإن حظ ذريته تأخر قليلا ولكنّه كان لمظمه متجاوز النسبة أي أنّه لا نسبة بين حفظ القحطانيين الذين كان يقوم منهم ملوك ثمّ ينطفىء مجدهم و حظّ اخوانهم العدنانيين الذين أشرق منهم نورمبين بهر العالمين أجمعين .

فلذلك فلم هنا بذكر الذرية العدنانية دون الذرية القحطانية لأنّنا نريد أن يتعرف القاري، بقوم خديجة الخصوصيين . «فعدنان »ولد له «معد» و«معد »ولد له« نزار » وأولاد نزار أربعة «مضر» وإياد وربيعة وأنمار وقد فارق إياد الحجاز وسار بأهله الى أطراف العراق . و من ذريته كعب بن مامة الايادي المشهور بالجود وقس بن ساعدة الايادي المشهور بالفصاحة. ومن ذرية ربيعة بن نزار قبائل عنزة وبكر ووائل وتغلب ومن تغلب كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس فهاجت لقتله الحرب بين بني وائل وبين بني بكر وبين بني تغلب. ومن بني بكر ابن وائل بنو شیبان ومن مشهوريهم مرة وابنه جساس قاتل كليب وطرفة ابن العبد الشاعر ومن بني بكر بنو حنيفة ومن مشهوريهم سيلمة الكذاب .

وولد لمضر بن نزار« إلياس » وقيس عيلان وكثرت ذرية قيس هذا فمن ذريته قبائل هوازن و من هوازن بنو سعد بن بكر الذين منهم مرضعة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أو من ذريته بنو كلاب وقبائل عقيل وبنو عامر و صعصعة وخفاجة وبنو هلال وثقيف وبنو نمير وباهلة ومازن وغطفان وبنو عبس الذين منهم عنترة المشهور وقبائل سليم وبنو ذبيان وبنو فزارة وكان بين بني عبس وبني ذبيان حرب داحس التي ظلت أربعين عاماً ، ومن بني ذبيان النابغة الذبياني الشاعر المشهور

ص: 22

وولد لالياس بن مضر «مدركة » وطابخة ومن ذرية طابخة بنو تميم والرباب و بنو ضبة وبنو مزينة .

وولد لمدركة بن الياس «خزيمة » وهذيل والى هذيل هذا انتسب جميع قبائل الهذليين ومنهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور .

وولد لخزيمة بن مدركة «كنانة » وأسد والهون و ولد لكنانة ابن خزيمة «النضر » وملكان وعبد مناة وعمرو وعامر ومالك فمن ملكان بنو ملكان ومن بني عبد مناة بو غفار ومن مشهوريهم أبو ذر ، و بنو بكر. ومن بني بكر هؤلاء الدئل ومن مشهور يهم أبو الاسود الدئلي وبنو ليث وبنو الحارثة وبنو مدلج وبنو ضمرة .

وولد للنضر بن كنانة «مالك » ولم يعرف له ولدسواه وولد لمالك هذا «فهر» وفهر هذا هو الذي سمّی قريشاً ولم یولد لمالك غير فهر

وولد لفهر «غالب» ومحارب والحارث فمن محارب بنو محارب ومن الحارث بنو احلج ومن مشهوريهم أبو عبيدة بن الجراح وجميع ذراري فهر يقال لهم قرشيون .

وولد غلالب بن فهر « لژی » وتيم الادرم و من تيم المذكور بنو الادرم ومعنى الادرم ناقص الذقن .

وولد للؤي بن غالب «كعب »وسعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة . ومن ذرية عامر بن كعب عمرو بن ود فارس العرب الذي قتله عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

وولد لكعب بن لؤي «مرة » وهصيص وعدني فمن هصيص

ص: 23

بنو جمع ومن مشهوريهم أمية بن خلف وأخوه أبي بن خلف وكلاهما كانا عدوين عظيمين للنبیّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومن هصيص أيضاً بنوسهم ومن عدي بنو عدي ومن مشهور يهم عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد .

وولد لمرة بن كعب «كلاب » وتيم ويقظة فمن تيم بنو تيم ومن مشهوريهم أبو بكر الصديق وطلحة ومن يقظة بنو مخزوم ومن مشهوريهم خالد بن الوليد وأبو جهل عمرو بن هشام .

و ولد لكلاب بن مرة « قصي » وزهرة ومن ذرية زهرة سعد ابن أبي وقاص وآمنة أم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعبد الرحمن بن عوف وقد كان قصي هذا عظيماً في قريش وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من بني خزاعة وهو الذي أثل مجدهم .

وولد لقصي بن كلاب «عبد مناف » وعبد الدار وعبد العزى فمن بني عبد الدار بنو شيبة حجاب الكعبة ومن مشهوريهم النضر ابن الحارث كان من اشداء اعداء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ، ومن عبدالعزى ايضاً سيدتنا خديجة بنت خويلد التي تروي سيرتها وولد لعبد مناف بن قصي «هاشم » وعبد شمس والمطلب ونوفل فمن عبد شمس امية ومنه بنو امية ومنهم عثمان بن عفان ومعاوية بن ابي سفيان مؤسس الملك الاموي. ومن المطلب ابن عبد مناف المطلبيون ومن ذريتهم الامام الشافعي ومن نوفل النوفليون .

وولد لهاشم «عبد المطلب» ولم يعلم له ولد سواه . وولد لعبد المطلب «عبد الله » وحمزة والعباس جدّ الملوك العباسيين

وولد لعبد الله بن عبد المطلب « محمد » النبي عليه الصلاة والسلام

ص: 24

الفصل الأول (مكة وحالة قريش الاجتماعية عند البعثة )

نشأت خديجة في بلد شأنه عجيب ، قصي عن العمران ، في واد غير ذي زرع ، لاتنساب فيه الأمواه، ولا تكتنفه الحدائق، ولا تقوم للصناعات فيه دولة ، ولا يجد مبتغي الزخارف لديه مجالاً ، ولكن أبدله الله جمالاً معنويا، وكساه جلالاً روحانياً ، فالافئدة تهوي اليه، والمطايا تزجى له من كل فج عميق ،

هذه البلدة المقصودة هي «مكة» المكرمة الشهيرة التي لا يجهل اسمها وشهرتها أحد، هي أم البلاد العربية واقعة في القطعة المسماة الحجاز من شبه جزيرة العرب، قائمة بيوتها في سفوح جبال محيطة بها .

لم نقف على مقدار عدد نقوسها في تلك الايام التي نشأت فيها خديجة والمكن عدد مقاتلها لم يكن يتجاوز الالفين في الغالب فيمكننا ان نحزر أهليها اذ ذاك بنحو خمسة عشر ألفا كلهم أولاد أب واحد قد ورثوا باستعدادهم لا ينسبهم هذا المقام الكريم والبلد الشريف ممّن كان قبلهم من القبائل . وذلك أنّ قصي بن كلاب استطاع أن يجمع جميع ذراري فهر بن مالك إلى مكة ويزاحم بهم من كان فيها من القبائل فلم تلبث أن صارت لهم خاصة

ص: 25

و في مكة هذه بيت مقدس قديم العهد يكاد يكون أول أمره مجهولاً عند المشتغلين بالتاريخ اسمه بيت الله أو الكعبة . وكان جميع عرب الحجاز يعظمون هذا البيت أكثر من كل البيوت التي شرّفوها ويحجون اليه ، ويتعارفون ويتعاطفون لديه .

كانت هذه البلدة المشرفة تضم بين تلك الجبال المهيبة أمة صالحة الاستعداد للرقي متى أريت طريقه كما تضم الصدفة جوهرة لا يظهر بهاؤها ورواؤها حتى تعالج بعض المعالجة وتزال عنها القشور أما من حيث الحضارة فلم تكن كما ينتظر ابن حضارة هذا العصر من البلدان و إنّما هي بيوت ساذجة مبنية بالحجارة واللبن ومسقوفة بجذوع النخل خالية من الزخرف .

وهذا البلد الامين باق الى يومنا هذا لم يزدد على طول القرون إلّا تشريفاً وتكريماً ولم يتغير فيه إلّا أشكال الابنية وازدياد التجارة والبيت المشرف لم يتغير وضعه ولا وضع الشعائر التي حوله و إنّما بني هناك زيادات وتحسينات اقتضتها الدواعي .

ومكة معدودة اليوم من جملة بلاد الدولة العلية العثمانية بيدانها لم تحرم حتى الآن من أمير عربي يتصل نسبه بسيدتنا خديجة هذه ، ونفوذه فيها وفيما حولها نفوذ تام يستمده من السلطان العماني ومن احترام العرب لهذه السلالة .

ومن الآثار المشهورة الباقية في مكة بئر زمزم ويقولون انّ قبيلة جرهم كانت دفتها ثمّ احتفرها عبد المطلب بن هاشم جد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكان ذلك من مفاخر عبد المطلب لأنّه لم يكن بمكّة من ماء إلّا في آبار

ص: 26

بعيدة عن البيت المشرف فلما أخرج عبد المطلب زمزم في جوار البيت انصرف الحاج اليها . ولحفر زمزم حديث طويل خلاصته تدلّ على شغف عبد المطلب بتسهيل الماء على الحجاج فإذا تأملنا في حرص القوم على مثل هذه العناية بالغرباء وابناء السبيل نعلم شيئاً من روح تربية الهمم وترقیة العواطف في ذلك المجتمع الذي نشأت فيه «خديجة »

وكان من جيد أمر أهلها في مجتمعهم ذلك أنّهم اقتسموا النظر في الامور العمومية فيما بينهم فكأنّهم كونوا حكومة جمهورية من غير رئيس عام وكان أمر هذه الجمهورية الغريبة الوضع سائراً على منتهی النظام ولكن لم يكن هذا النظام لسرّ في ترتيب هذه الجمهورية فإنّها لا يؤمل منها فى حد ذاتها ان تثمر نظاماً بالغاً منتهى الجودة والقوة وإنّما ذلك أثر من آثار تربيتهم العمومية فالاخبار كلها دالّة على أنّ القوم بالجملة كانوا كأنّهم مفطورون على التضامن التام فلذلك كان من مزايا ذلك الاجتماع الذي لا نعهد له نظيراً انّ كل فرد من أفراده تامّ الحرية لا يشعر بقهر حاكم ولا يخشى سطوة جبار وكل منهم في أمن من قوات الحقوق واعتداء الحدود . الجنايات قليلة، وكرامة الناس محفوظة ، والآداب سليمة ، والحدود غير متجاوزة ، والحقوق مصونة ، وذرائع الفساد مسدودة ، وسلامة الفطر غالبة، والمزايا التي بها كمال الانسانية راجحة .

فإذا أضفنا الى كلّ ذلك احترام الغريب وتوقيره اياهم وتوقيه أذاهم نجد أنّ ذلك المجتمع لا يكاد يوجد نظيره ولكن مع كل هذا الجمال والحسن والصلاح في هذا المجتمع كان فيه عيوب فإذا أزيلت يصبح أول مجتمع راق في الدنيا وخليقاً ان يفيض على جيرانه من بركات العقول التي أشربت

ص: 27

بديع جماله ، وأشرأبت إلى عظيم كماله، ثمّ تاقت الى تعريف العالم بما أ كنت تلك البقعة التي لم تكن شيئاً مذكوراً من العقول المنيرة والارواح العالية .

وقد وقع ذلك فإنّ الذي منه تنشأ الاسباب واليه ترجع الامور قد أتاح لهذا البلد الجمهوري، من ينظفه من تلك العيوب التي اشرنا إليها فكان بعد ذلك كما هو المنتظر منه أي تمّ ظهوره فصار مشرقاً لنور عظيم بلغ مشارق الأرض ومغاربها فأخذ كل قوم منه بقدر استعدادهم .

امّا الجمهورية التي أشرنا الى أنّها كانت في هذا البلد فقد أقاموها على على أساس يأمنون منه من الزلزال وذلك أنّهم رأوا الشرف انتهى الى عشرة رهط من عشرة بطون لاشتهارهم بأعمال مجيدة، ثمّ اجمعوا امرهم على أن يكون النظر في الأمور العمومية من خصائص هذه البيوت العشرة و تراضوا على أن يكون لكل بيت من هذه العشرة وظيفة يختصّ بها تعدّ من مفاخره فهم بهذا الصنيع قد أخذوا بشيء من أصول حكم الاشراف وبذلك أعطوا الاعمال التي يمجد بها الفرد أو الاسرة حقها من التكريم والتشريف ليزداد نشاط أربابها وحرص غيرهم على التشبه بهم وأخذوا أيضاً بشيء من أصول الحكم النيابي وهو أعظم الآيات على وجود التضامن الذي هو أحد الاركان التي تحفظ بها سعادة الامم .

أما الشورى فقد وفّروا منهم حظها، وعظموا في أنفسهم حقها ، وبها كانوا يشرعون ما يشرعون من الاحكام والحدود ، ويفصلون ما يفصلون في بعض القضايا والحقوق.

وقد ألغوا الرئاسة العامة من بينهم كأنّهم عدوّها لغواً اذا صدقوا في تضامنهم وصلحوا في تشاورهم وارادتهم الحق وقليلة الجدوى اذا مرض

ص: 28

تضامنهم و وهي نظامهم . أو أنّهم خشوا أن يكون حب الرئاسة اذا وجدت مدعاة لكثرة تنازعهم وتنافسهم فلا يأمنون بعد ذلك كثرة الفشل والشقاق وسقوط الهيبة من نفوس الغرباء ووقوع الفتور في نفوس الأقربين . أو أنّهم أنفوا أن يملكوا عليهم أحداً لأنّهم كلهم يحملون بين أضالعهم نفوس الملوك وجمهوريّتهم هذه لم يكن لها رئيس عام ولكن كانوا يقيمون واحداً في وظيفة رئيس عام موقتاً .

أهل هذا المجتمع اللطيف لم يكونوا أولي شغف بالمحاربات فعلاقاتهم الخارجية مع جيرانهم من القبائل وأهل القرى والبلاد كانت حسنة ولكن هذا لم يقعدهم عن أن يكون استعدادهم تامّاً لما ينزل بهم فإن نزل بهم ما يطيقونه كشفوا الثم عن قوتهم و برزوا من غير تريث و إن نزل بهم ما لا قبل لهم به تريثوا وعمدوا إلى الاناة و فتقوا من الحيلة أبواباً يخرجون منها مالاً إلى السعة من الضيق ومن قلّ الجيوش بالحسام الى فلها بالبيان وقد أعطوا من هذا حظاً عظيماً .

ومن أشهر حوادتهم الخارجية التي ضاقوا بها ذرعا هجوم القائد الحبشي أبرهة الذي كان قلب على بعض بلاد اليمن فقد دهمهم بجيش عظيم لم يروا لانفسهم طاقة به فقابله عبد المطلب جد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكان يومئذ رئيس قريش فأحسن مقابلته ولطف بعض التي من حدته التي كان بها مسوقا لهدم «بيت الله » على زعمه لاسباب فصلها رواة الاخبار ثمّ أصابته داهية سماوية فقفل بجيشه ثانياً عزمه لأنّه رأى في اهل هذا البلد مالم يكن يخطر له في بال .

نعم رأى في مقدمه هذا على هؤلاء القوم عجباً من الأمر وذلك

ص: 29

انّه لما أتاهم أرسل اليهم رجلاً حميرياً كان معه اسمه حناطة وأوصاه ان يسأل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها فيبلغه ان الملك لا يريد الحرب وإنّما جاء لهدم هذا البيت فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فدلوه على عبد المطلب بن هاشم فجاءه وبلغه ما أمره به أبرهة فكان جواب عبد المطلب إنّنا لا نريد حربه قال حناطة انّه أوصاني بأنّه يريد مواجهتك إن لم تريدوا الحرب فانطلق عبد المطلب مع حناطة اليه فلما رآه أبرهة رأى الوسامة والجلال فأعظمه واكرمه وأخذه الى جانبه وقال للترجمان سله أن يقول ما يبدو له فلم يكن من عبد المطلب إلّا أنّه صرف لسانه عن الخوض في عزم القائد على هدم البيت و جداله فيه بل أظهر الاقتناع بضرورة المسالمة وعدم معارضة القائد في أمر هذا المعبد وقال له إذا لم يكن لك غير هذا الأرب فردّ علينا أبلنا قال أبرهة للترجمان قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثمّ قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في الاموال وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك فأجابه عبد المطلب إنّنا نحن أرباب المال وأما البيت فله ربّ هو سيمنعه فقال له انّه ماكان ليمتنع مني فأجابه أنت وذاك و ردّ ابرهة الابل على عبد المطلب وبقى مصراً على عزمه ورجع عبد المطلب على قريش فأمرهم ان يعتصموا بالجبال، ولا يأتوا أمراً حتى یروا ماذا يكون وقد أتى من لدن العناية الغيبية ما لم يكن في الحساب فإنّ أبرهة لما أصبح وتهيأ لدخول مكة برك الفيل الذي كان يركبه وحرن واتوا كل باب من أبواب الحيل ليقوم ويمشي تلقاء مكة فلم يقم ثمّ رأوا حجارة تسقط عليهم من أرجل صنف من الطير فتشاءم ابرهة وتذكر ما انذره به ذلك الرجل الجليل السني

ص: 30

الطلعة عبد المطلب من حماية هذا البيت بطريقة لا يبلغها عقله فخمدت في صدره جذوة الحدة والتهور وخذل أمام هؤلاء القوم الذين حاربوه بالسلم ورموا عقله بسهم نافذ من بيان عبد المطلب مع رمي الطير جيشه بحجارة من سجيل .

وهذه أكبر حوادثهم الخارجية واشهرها . وفي عام هذه الحادثة ولد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد سمّوه عام الفيل لما ذكرنا من قصته . ورجال هذه الحملة قد عرفوا بعدها باسم أصحاب الفيل وقد أشير الى مجمل هذه الحادثة في القرآن المجيد .

الفصل الثاني (بيونات قريش وخصائصها )

أما بيوت شرفهم العشرة فهي

هاشم ، وامية ، ونوفل ، وعبد الدار ، واسد ، وتيم، ومخزوم، وعدي ، وجمع ، وسهم ،

واما الأمور التي كان توليها من خصائص هؤلاء فهي : السقاية ، والعمارة ، والعقاب ، والرفادة ، والحجابة ، والسدانة ، والندوة ، والمشورة ، والاشناق ، والقبة ، والاعنة ، والسفارة ، والايسار ، والاموال المحجرة ، هذه الاسماء أكثرها اصطلاحي يحتاج الى تفسير يوافق العصر الذي نحن فيه حتى نفهم شكل ذلك المجتمع الذي سميناه جمهورياً على حسب اصطلاح عصرنا .

ص: 31

فأمّا السقاية فقد تفهم من اللفظ نفسه أي سقاية الحجاج الذين كانوا يأتون « بيت الله » من کلّ جانب و لا یخفی علی أحد انّ العناية بهؤلاء الغرباء وتوزيع المياه عليهم من أهم الامور العمومية في ذلك الظرف وكان بنو هاشم هم أهل هذه الوظيفة .

وأما العمارة فهي منع من یتكلم في «بيت الله » بكلام سفيه قبيح أو يرفع فيه صوته وكانت هذه الوظيفة أيضاً في بني هاشم الذين منهم العباس صاحبها .

وأما العقاب فهي راية قريش كان من شأنهم فيها انّهم يحفظونها في بيت من البيوت العشرة فإذا وقعت حرب أخرجوها فان اتفقوا على أحد منهم اعطوه راية العقاب وان لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدموه وقد كانت هذه الوظيفة أي حفظ هذه الراية من خصائص بني أمية الذين منهم أبو سفيان صاحبها .

وامّا الرفادة فمعناها الاسعاف وكانوا يجمعون من أنفسهم أموالاً لرفد المنقطعين من الحجاج وكانت الرفادة في بني نوفل الذين منهم الحارث بن عامر صاحبها .

واما السدانة والحجابة فمعناها خدمة « بيت الله » و حفظ مفتاحه والظاهر من هذه الوظيفة انّها دينية ولكن متولي هذه الوظيفة الدينية مشترك مع عشيرته بتدبير الشؤون الاجتماعية وهذا العمل الديني نفسه قد كان عند القوم من أهم الامور العمومية في مدنيتهم وجمهوريتهم .

وقد نستطيع ان نشبهها من بعض الوجوه بوظائف كبار رؤساء الدين في الامم المتمدنة اليوم ولا يخفى انّ وظائفهم من متممات مدينتهم، ولمن

ص: 32

يتولونها شأن يذكر عندهم. وقد كانت الحجابة والسدانة في بني عبد الدار الذين منهم عثمان بن طلحة صاحبها .

وامّا الندوة فمعناها ظاهر من اللفظ نفسه وكانت دار الندوة في بني عبد الدار ايضاً .

واما المشورة فيريدون بها رئاسة الشورى وليس ببعيد عن الصواب إذا شبهناها من بعض الوجوه برآسة الوزراء أو رآسة مجلس الاعيان وكانت هذه الوظيفة من خصائص بني أسد وكان يتولّاها منهم يزيد بن زمعة ابن الاسود وكان من شأنهم في هذه الوظيفة انّ رؤساء قريش كانوا لا يجتمعون على أمر حتى يعرضوه على صاحب هذه الوظيفة فإن أعجبه وافقهم عليه والا تخير وكانوا له أعواناً .

واما الاشناق فهي الديات والمغارم فقد كانوا يساعدون من يستحق المساعدة ممن حمل مغرماً أودية وكان النهوض مع صاحب المغرم لجمع المطلوب من خصائص بني تيم الذين منهم أبو بكر الصديق فكان أبو بكر اذا نهض من أحد صدقه قريش واعانوا من نهض معه وان نهض غيره خذلوه .

واما القبة فأشبه شيء بنظارة الحربية ولكن كانوا يعمدون إليها وقت الحرب فقط وامل ذلك لسذاجة الحرب اذ ذاك أو لاستعدادهم لها كل وقت إذا تأججت نيرانها وقد كانوا يضربون قبة فيجمعون إليها ما يجهزون به الجيش وكان ذلك من خصائص بني مخزوم الذين منهم خالد بن الوليد صاحبها .

واما الاعنة فيمناها رئاسة الخيالة وكانت هذه الوظيفة للمخزومي أيضاً و خالد صاحب هذه الوظيفة هو ذلك الفاتح العظيم القائد العام في

ص: 33

الاسلام الجيوش أبي بكر خليفة النبي عليه الصلاة والسلام وما أظن تاريخ فنّ التعبئة اليوم يخلو من الاستئناس بذكر تلك التدابير المخزومية كان لها شأن عظيم في الاسلام كما هو شأنها في الجاهلية (أو الجمهوريّة).

وأما السفارة فالمراد بها ظاهر وقد كانوا يحتاجون إلى السفارة في الحروب أي في أوائلها أو بعد شبوب نارها وتعاظم أوزارها ويحتاجون إليها اذا نافرهم حي للمفاخرة . وقد كانت هذه الوظيفة من خصائص بني عدي الذين منهم عمر بن الخطاب صاحبها وناهيك بذلك الخليفة الثاني الشهير بكل منقبة صالحة اذا كان سفير قوم .

وأما الايسار فهي الازلام والقداح كانوا يضربون بها إذا أرادوا أمراً وكان هذا من خرافاتهم وعيوبهم ويحقّ لنا أن نبالغ في استهجان هذه الخرافة التي كانوا عليها إلّا أن يكون لهم شيء من النظر من وراء الخرافة كما هو الحال في كثير من الامور الباطلة التي تروج في الامم بسماح من العقلاء أو بترويج منهم لها وقد كانت هذه الوظيفة لبني جمح الذين منهم صفوان بن أمية صاحبها .

و أمّا الاموال المحجرة فهي الاموال التي سمّوها لآلهتم ويصح أن تسمى هذه الاموال أم الاوقاف الخيرية اي ان بينهما تشابهاً . وقد كانت هذه الوظيفة أي تولي النظر في الاموال المحجرة من خصائص بني سهم الذين منهم الحارث بن قيس صاحبها .

هذا ماكان من حيث ترتيب التضامن واقتسام الاعمال المهمة. و أمّا الامور الجزئية التي كان الافراد يختلفون فيها فتفصل فيها كبار أسرهم عشائرهم في الغالب على طريقة التحكيم ولم يكن للقوم من شريعة مكتوبة

ص: 34

وانما كانوا يقضون في الامر كما يبدو لهم الصواب فيه ويقيسون الامور باشباهها .

وهنا يخطر في بال القارئ أن يسأل عن الضعيف الذي لا يأوي الى ركن شديد من رهطه كيف كان حاله اذا أهين أو ظلم في ذلك المجتمع الذي لا شريعة فيه مكتوبة ولا قوة عمومية من شأنها وخصائصها دفع القوي عن الضعيف. وقد بحثنا في هذه المسألة المهمة فوجدا القوم لم ينسوها ولم يهملو شأنها وذلك انّهم قرروا في مؤتمر لهم حماية الضعيف والذود عنه وكان من حديث ذلك المؤتمر ان قبائل من قريش اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان الشهير وتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا في مكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته قسمت قريش ذلك حلف الفضول وكانت الارهاط المتعاقدة بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزي و بني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرة .

نعم كان من النقص في نظامهم ذلك أن لا تكون حماية الضعيف من خصائص الجمهور ولكن يظهر أنّهم كانوا يكتفون في الضعيف بأن يجيره واحد من بيوت العزة والقوة فانّه يصير مثل مجيره في نظر الجمهور فلا يجسر أحد أن يبغي عليه .

ويمكننا ان نستخلص من كل ما تقدم ان القوم كان لهم شبه قانون أساسي إلّا انّه غير مكتوب ولم يكن لهم قوانين مدنية أو جنائية قط . والأمر في الامور المدنية سهل في المجتمعات البسيطة الصغيرة فكل انسان يستطيع فيها ان يحتفظ بحقوقه أو يستعين عليها بالتحكيم وما أشبه. وأما الحوادث

ص: 35

الجنائية فلا يجوز اهمالها وتركها من غير أن يتولى الفصل فيها أناس مقيدون بقوة تنفيذية مخافة أن تكثر الجنايات ولكن تكافؤ القوى في العشائر والبطون المتساكنين في بلد واحد قد يكون مانعاً من كثرة الجنايات و إذا اضيف الى ذلك صلاح الاخلاق والتربية العمومية كان هذا نعم الظهير على تقليل العدوان وقد كان القوم يتواصون باجتناب الظلم ولاسيما في البلد الامين ومن وصاياهم في ذلك قول إحدى نسائهم توصي ابناً لها:

أبنيّ لا تظلم بمك ***ة لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها بنيّ*** ولا يغرنك الغرور

أبنيّ من يظلم بمك***ة يلق أطراف الشرور

أبنيّ يضرب وجهه ***ویلح بخديه السعير

أبنيّ قد جربتها ***فوجدت ظالمها يبور

والله آمنها وما *** بنيت بعرصتها قصور

والله آمن طيرها *** والعصم تأمن في ثبير

وتواصيهم بالنهي عن الظلم يغرينا بتعرف فلسفة القوم التي كانت تحتهم على مثل هذا .

الفصل الثالث -ديانة أهل مكة عند البعثة

ويظهر لنا أنّهم طرقوا كسائر الامم باب الضالة المنشودة وهي معرفة ما هي نفوسنا ومن أين مبدأها وإلی أین منتهاها و ماذا يزكيها وماذا يدسّيها .

نعم طرقوا هذا الباب ولكن لم يفتح لهم عن الطريق الموصل إلى

ص: 36

هذه الحقائق المكنونة بل كان نصيبهم كنصيب الاكثرين ظنوناً ورجماً بالغيب .

أدرك القوم انّ للعالم خالقاً و مدبّراً هو الذي خلق السموات والارض وما فيهنّ، وهو الذي خلق السمع والابصار والأفئدة ، وقالوا كما يقول سواهم انّه تستحب الرغبة اليه والرهبة منه ولكن في هذا السبيل تاهوا فتركوا ههنا العقل والتفكر وقلدوا الامم واتخذوا من الحجارة أوثاناً وقالوا انّ تعظيم هذه الاوثان يقرب الى الله لأنّ هذه الاوثان تماثيل أو كتماثيل لاناس صالحين محبوبين عند الله فتعظيمهم الى درجة العبادة يقرب الى الله .

لقد غلطوا في ظنّهم انّ الله يحب هذه الحجارة. وأخطأوا بزعمهم انّ تنزيل العقول إلى تعظيم هذا الجماد ( بهذه الصورة ) تعظيماً قلبایً يرضي الله تعالى . وحادوا عن الحق بتخيلهم انّ هؤلاء يشفعون لهم عند الله تعالى .

وقد كان الواجب أن لا يكون في قلوبهم حبّ وعبودة الّا للحيّ القيوم ولم يكن جائزاً ان يشركوا به الجماد ،

وكان لهم أغلاط أخرى كثيرة في ذات الله سبحانه وصفاته وأفعاله فقد زعم بعضهم انّ الملائكة بناته ، وزعم بعضهم انّ الجن شركاؤه في الملك وظنّوا جميعهم أن لن يبعث الله بشراً ليعلمهم ويزكيهم ،

غلطوا في كل هذا وتسفات فيه عقولهم ولكن اعتقادهم بأنّ للعالم صانعاً مدبراً عظيماً هو ربّ الكل وأنّه يجب ان يتقرب اليه العبيد قدرقق على ما فيه من النقص والبعد عن الطريق القويم قلوب كثير منهم وكأنّه أعدها لقبول حق سيظهر نوره فيمحق خطيئاتهم الاعتقادية

ص: 37

ان

والمشهور انّ القوم لم يكونوا يقولون بالمعاد والجزاء الاخروي ولكن الحقيقة أنّهم كانوا في ريب وشكّ أي لم يكونوا جازمين بشيء في هذا الباب وكان أناس منهم تذهب بهم عقولهم إلى وجوب المعاد والجزاء الاخروي ولكن عدم اعتقادهم بالجزاء الاخروي لم يكن مانعاً من تكون قلوبهم منجذبة الى الاخلاق والاعمال الطيبة التي تحثّ على مثلها الديانات من البر والإحسان والعدل والصدق والكرم وحماية الضعيف وترك العدوان والابتعاد عن الخيانة والبغي وما أشبه هذه المناقب وعقولهم انّما طرأ عليها التسفل الى تعظيم الجماد لأنّ الوثنية هي الغالبة في عصرهم ولا يبعد عن الصواب من يقول انّ الوثنية هي الغالية على طباع البشر كلهم إلّا قليلاً .

فاذا صرفنا نظراً عن تلوث عقولهم بنزغات الوثنية لا نجد من بعدها هذه العقول مظلمة وهي التي اضاءت لهم فعرفوا بها الاخلاق الصالحة والفاسدة ولم يكن يعوزهم إلّا أن يقوم فيهم مرشد يهديهم للتي هي أقوم من طرائق الاعتقاد بالله وصفاته والتقرب اليه بتوجيه الوجه واسلام القلب اليه ولولا انّ للقوم عقولاً صافية لما رجي لمجيء المرشد من فائدة لأنّه لا يظهر نور الارشاد إلّا في اللوح النقي ولكن الرجاء بالقوم في محله فإنّه لما جاء المرشد لقي أراضي في منتهى الاستعداد لما أراد أن يلقي البذار وإلى جانبها أراض أخرى فيها من أعشاب التمسك بالقديم ما يحتاج الى زمن في معالجة ازالته وقليل من الأراضي كانت سبخة ليس في الامكان أن ينتج فيها البذار.

لا يهولنك من القوم سقم عقولهم فيما كانوا يعتقدون فإنّ البشر

ص: 38

كلهم إلّا قليلاً كانوا ولا يزالون يعتقدون أمثال معتقدات القوم فوا أسفاه انّ هذا العيب عام وراسخ في البشر و من أصعب الاشياء استئصال جذوره ولا ندري السر في هذا ، ولكن انظر الى هذه الجماعة القليلة كيف أقامت لها شأناً رفيعا في العرب كلهم اذ غلبتهم على التوطن في جوار البيت المشرف وأحسنت المقام في هذا الجوار الشريف فقامت بحقوق حجاجه من سقايتهم ورفادتهم ، وقامت بحقوق المستضعفين فيه من حمايتهم وتأمينهم ، وقامت بسنن التضامن والتعاون والتواصي بالعدل والاحسان حتى رضي العرب بتقديمهم عليهم إذا تقدموا واياهم لأمر عظيم وشرف جسيم على أنّهم ليسوا في العرب أكثر عدداً ، ولا أقوى ناصراً . لا جرم قد خصهم الله بأفراد كانوا في نقاء القلوب آية ، وبلغوا في صفاء العقول الغاية ، والأمم والشعوب تحيا بافراد وتموت بأفراد .

واذا سخر الإله سعيداً ***لاناس فانهم سعداء

و ممّا هو جدير بالذكر في هذا الصدد حريتهم التي كانوا عليها فإنّهم لما خلصوا من تمليك أحد عليهم خلصوا من شرور كثيرة تتبع التمليك فكانت معاشراتهم ساذجة خالية من عبارات الملق والخنوع وكانت مكاسبهم لانفسهم لا يشاركهم فيها مشارك ولا يعرفون المغارم المرتبة والاتاوات المضروبة .

وهم في أمن من حيف القضاة لأنّهم يتحاكمون يوم يشاءون إلى من يرضونه من كبرائهم ولا قانون لهم في المسائل الجزئية ترتعد من أحكامه فرائصهم وانما يخشون بأس بعضهم فيرتدعون عن الشرالذی يثأر له العموم أو يثأر له من أصابهم خاصة .

ص: 39

وكان جائزاً لأحدهم أن يتدين كما يريد بشرط أن لا يعيب دينهم الذي كانوا عليه ولا يدعو إلى ابطاله وقد كان لبعضهم فلسفة في النشور والجزاء الأخروي ولبعضهم انصراف عن عبادة الأوثان ولبعضهم ميل إلى تقليد أهل الكتاب فلم يكونوا يحاسبون أحداً على مثل هذا .

ولم يكن لديهم نوع من المبايعات حراماً بل يبيعون ويشترون كما يشاءون وكل منهم عارف بمصلحته ولهم همة في التجارة والرحلة فيها إلى الشام وغيرها في الصيف والشتاء .

أما أهل الصنعة فيهم فلم يكن لهم من قيمة والغالب أن يكون الصناع غرباء .

ولهم ازاء حسنة الحرية سيئة كبيرة وهي امتهان الرقيق واحتقاره وتكليفه الشاق من الامور ولم يكن بعضهم يأنف من إكراه امائه على البناء ليأخذ ما يعطين في سبيله .

أمّا نساؤهم الحرائر فلم يكن جائزاً لهنّ الزنا ولا سيما إذا كان لهنّ بسولة بيدانه لم ينقل لنا أنّهم رتبوا على الزواني عقاباً بل كان عقابهنّ الى رأي أهليهنّ اذا شاء وا .

وكان لنسائهم كثير من الحقوق ولهنّ أن يواجهن الرجال ويبرزن أما مهم حاسرات ويمكن أن يقال بالاجمال أنّ حرية الرجال والنساء كانت تامة ولذلك نعجب من قوم هذا شأنهم اذا رأيناهم لم يرثوا لحال الرقيق ولم يذكروا أنّه يستحق الرحمة لأنّه مسلوب أفضل كساء كساهموه ربّهم الأعلى، الذي خلق فسوّى،

ص: 40

الفصل الرابع -(مقام النساء في قوم خديجة )

ملك كانت أحوال قوم خديجة في نظام اجتماعهم ذلك ولم يكن مقام المرأة فيهم مقاماً مهيناً بل كان لها لديهم مقام كريم وجلّ ما عرف عنهم من انحطاط مقام المرأة انّهم كانوا يكرهون البنات وانّهم كانوا يئدونهنّ أي يدفنونهنّ في التراب وهنّ على الحياة «58:16 وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ».

هذا ما عرف عنهم ومن أخذ هذا الامر على ظاهره واطلاقه يستخف بهؤلاء القوم لأنّ انحطاط قيمة المرأة ومقامها عندهم دليل على انحطاطهم ولكن أخذ الامر على ظاهره واطلاقه ليس من شأن الذين يحبون معرفة الحقائق .

إنّ كل بلد فيها الفقراء وذوو اليسار، وفيها الحمقی واولو الألباب ، وفيها القساة وأهل المرحمة . فليس من العقل ولا العدل أن يجعل عمل بعض الحمقى او القساة او الفقراء في بلد مثالاً ومرآة لأعمال جموع أهل البلد .

كان في مكة فقراء وحمقی وقساة كما هو الحال في سائر البلاد وكان

ص: 41

أناس قليلون من هذه الاصناف يأتون هذا العمل الفظيع نعني الوأد ( دفن البنات في الحياة في سن الطفولية ) فلا ينبغي أن يقال بدون تقييد إنّ القوم الذين نشأت منهم سيدتنا هذه كانوا يئدون البنات . إنّ قوماً نبغت فيهم مثل هذه السيدة لا يعقل أن يكونوا قتلة بنات كلا أنّهم لم يكونوا يقتلون الاجساد، ولم يكونوا يقتلون منهن العقول والارادات ، وامّا الذى نقل عنهم فهو عمل نفر يكادون لا يذكرون من فقرائهم او حمقاهم او قساتهم .

ولم يكن الذين يئدون بناتهم يأتون هذا العمل الفظيع تغيظاً من هذه النسمات البريئة او احتقاراً الجنس المرأة كما يلوح لأول وهلة بل كان يسوقهم إلى ذلك فساد في الخيال وضعف عظيم في الطبيعة . و إنّ الخيال الفاسد ليزين المنكر حتى يظنه صاحبه من المعروف كما يشاهد كل واحد منا كثيراً .

كان منهم فقراء يزين لهم خيالهم الفاسد ان فتاتهم اذا ظلت في ميدان الحياة ربّما نالها ضيم من فقرهم وربما عجزوا عن ان يكرمنهنّ بنفقة تساويهنّ باترابهنّ من ذوي قرباهنّ او جوارهنّ فيرون مواراتهنّ فى التراب ، خيراً لهنّ من بقائهنّ دون الاتراب ،

لا نكران للحق ان هذا الخيال باطل ولا سيما عند المؤمنين ولكن هذا الخيال الباطل لم يوح الى صاحبه ان القناة شجرة خبيثة يجب اجتناثها قبل النمو ويستحسن حرمان الوجود من ثمراتها و إنّما زين له سوء عمله هذا من طريق اخرى هى كرامة فتاته .

ص: 42

يتخيل ذلك المسكين ان فتاته إن عاشت تعيش مثله في غصص تذيب الفؤاد ولوقد من الجلمود ، وكرب تسود الوجوه البيض وتبيض الشعور السود ، فيزين له خياله ان يحمي كریمته فلذة كبده من مثل هذه الحياة التي بلاها فقلاها وان يتقي بألم ساعة عند توديعها وتسليمها إلى الابد آلام سنين يراها فيها كثيرة النصب قليلة النصيب كما يتقي أحدهم بألم الكي آلام سقم مزمن .

وكان منهم حمقی توسوس لهم شياطين الخواطر بأنّ الفتاة ربما وقعت في يد من لا يرعى له ولها حرمة. ولو قضي على كل البشر بمثل هذه الوساوس لآذنت الدنيا بالانقضاء ولكن الموجد لم يشأ إلّا أن تكون الدنيا على هذا النمط من الاستمرار فلذلك لم يوجد لهذه الوساوس سلطاناً على قلوب البشر إلّا قليلاً ممّن بلغنا شيء عنهم من هذا القبيل .

ساء ما يزيّن لهؤلاء الفقراء والحمقى الذين كبر نصيبهم من النسوة مع نصيبهم من الفقر والحمق فلو علم المعدم أنّ اليسار ليس محتکراً في بيوت معينة واشخاص مختصة وإنّما يتاح للعاملين المحسنين مع الظروف المناسبة ، وانّ قيمة كل امرىء ما يحسنه ، وان ليس عليه إلّا أن يعمل بالمعروف عند قومه ويصبر قليلاً حتى يتاح له ما يقوم به شأنه، لما سهل عليه ان يقصف ما بيديه غصناً منه أنبته الله ولا لذة أكبر من تربيته وتنميته .

ولو علم الاحمق انّ الفرار من توهم العدو نهاية الجبن وغاية الخذلان ويثمر أقصى درجات الخسران لرأي أنّه جدير بالبكاء على حظه من ضعف النفس .

و هيهات أن يكون قوم «خديجة » على هذا النمط من ضعف النفوس

ص: 43

وهم المعروفون بالشجاعة والاقدام . وأي قوم تطيب لهم الحياة اذا كانوا لا يرون سلامة حرمهم الا بافنائها ؟و أنّى يجد الشخص الطمأنينة اذا كان دأبه الهرب، من غير ما طلب ؟

أما انهم كانوا يكرهون البنات اذا بشر أحدهم بها فلا يستطيع أحد انكاره لأنّ القرآن المجيد هو الذي سجل هذه الحقيقة التاريخية وقد سرى هذا إلى نفوسهم من شدة احتياجهم إلى البنين الذين سيكونون المدافعين في ذلك المجتمع القائم بنفسه قيام المجتمعات الكبيرة . وليس معناه انّ البنت تظل طول دهرها مكروهة او انّ النساء لا قيمة لهنّ ولا قدر عند أولئك القوم. ما ذنب القوم اذا كان تفر من فقرائهم وحمقاهم قد ضعفت نفوسهم فاستسلموا إلى الاستراحة مما يلذ للكرام التعب فيه ؟ وما إجرامهم الى الانسانية من بعد أن يقوم أمجادهم بافتداء كثير من الفتيات اللاتي تصدى آباؤهنّ لو أدهن من الفقر ؟

إنّ العرب كافة وقريشا خاصة كانوا يعزّون المرأة ولا يهينونها وقد أعطوا النساء كل مالهنّ من الحقوق في نظر العدل ولم ينسوا أنّ المرأة كالرجل هي انسان يحمل دماغا فيه إدراك وأنّ لهذا الانسان المؤنث نفساً كنفس ذلك الانسان المذكر تنضب وترضى وتنعم وتشقى فأعطوا دماغها ونفسها حقيهما .

وقد رووا لنا انّ هنداً بنت عتبة وهي من قوم سيدتنا خديجة جاءها أبوها يشاورها في رجلين من قومها رغبا الزواج بها فقالت صفهما لي فقال « أما أحدهما ففي ثروة و سعة من العيش ان تابعتيه تابعك، وان ملت عنه حطّ اليك، تحكمين عليه في أهله وماله، واما الآخر فموسع عليه،

ص: 44

منظور اليه في الحسب الحسيب ، والرأي الاريب ، مدره أرومته ، وعن عشيرته ، شديد النيرة ، لا ينام على ضمة ، ولا يرفع عصاه عن أهله » (1) فقالت يا أبت الاول سيد مضياع للحرة فما عست ان تلين بعد إبائها ، وتضيع تحت جناحه إذا تابعها بعلها فأشِرَرَتْ ، وخافها أهلها فأمنت ، فساء عند ذلك حالها ، وقيح عند ذلك دلالها ، فإن جاءت بولد أحمقت ، وأن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت ، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه عليّ بعد . وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة ، الحرة العفيفة ، وأني لاخلاق مثل هذا الموافقة، فزوجنيه ، فزوجها الثاني وكان هو أبا سفيان بن حرب فولدت منه معاوية مؤسس دولة بني امية الشهيرة وأحد نجباء العرب ودواهيهم.

فهكذا كان مقام المرأة في قوم سيدتنا « خديجة » لا يفتات أهلها عليها في حقها وهكذا كان رأي ذوات الحجى والزكانة منهنّ.

ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة والأمور العمومية. وناهیك أنّ الحرب التي ظلّت مستمرة نحواً من أربعين سنة بين بني ذبيان وبني عبس لم يتفكر في اطفاء نارها إلّا امرأة ولم تتمكن اطفائها إلّا بما لها من المكانة وحسن الرأي وذلك أنّ بيهسة بنت أوس ابن حارثة بن لام الطائى لما زوجها ابوها من الحارث بن عوف المري وأراد أن يدخل عليها قالت التفرغ للنساء والعرب يقتل بعضها بعضاً تعني بني عبس وبني ذبيان فقال لها ماذا تقولين قالت « اخرج الى هؤلاء القوم فأصلح بينهم ثمّ ارجع اليّ» فخرج وعرض الامر الخارجة بن سنان فاستحسن ذلك وقاما كلاهما بهذا الامر فمشيا بالصلح ودفعا الديات من أموالهم

ص: 45


1- كناية عن اليقظة

و حسبك من اشتهرن من العربيات في السياسية منهنّ اللاتي كنّ من شيعة الامام عليّ (علیه السلام) ايام مناصبة معاوية له كسودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية، وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ، و امّ سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية، وعكرشة بنت الاطرش بن رواحة ، ودارمية الحجونية ، و امّ الخير بنت الحريش بنت سراقة البارقي . وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية .

وفدت سودة على معاوية بعد موت على فاستأذنت عيله فأذن لها فلمّا دخلت عليه سلمت سودة فقال لها كيف انت يا ابنة الاشتره ؟قالت بخير یا امیر المؤمنين . قال لها انت القائلة لاخيك :

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ***يوم الطعان وملتقى الاقران

وانصر علياً والحسين ورهطه ***واقصد لهند وابنها بهوان

ان الامام أخا النبي محمد (1)***علم الهدى ومنارة الايمان

فُقِدَ الجيوش وسر أمام لوائه ***قدما بابيض صارم وسنان

قالت يا امير المؤمنين «مات الرأس، وبتر الذنب ، فدع عنك تذكار ما قد نسي » فقال هيهات ليس مثل مقام أخيك ينسى » قالت «صدقت والله يا امير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ، ذليل المكان ، ولكن كما قالت الخنساء :

وان صخراً لتأتم الهداة به ***كأنّه علم في رأسه نار

وبالله اسألك يا امير المؤمنين اعفانی مما استعفيته» قال : قد فعلت فقولي حاجتك : فقالت يا امير المؤمنين «إنّک للناس سيّد ، ولا مورهم

ص: 46


1- أخوة الدين

مقلّد والله سائلك عما افترض عليك من حقنا ، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ، ويبسط بسلطانك ، فيحصدنا حصاد السنبل ، ويدوسنا دياس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسألنا الجميلة ، هذا ابن ارطاة قدم بلادي ، وقتل رجالي ، وأخذ مالي ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فاما عزلته فشكرناك ، واما لا فعرفناك ، فقال معاوية « اياي تهددين يقومك والله لقد هممت ان اردّك اليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك فسكتت ثمّ قالت :

صلى الإله على روح تضمنه ***قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبني به تمناً*** فصار بالحق والايمان مقروناً

قال : ومن ذلك : قالت : عليّ بن ابي طالب رحمه الله تعالى : قال ما أرى عليك منه أثراً قالت : بلى أتيته يوماً في رجل ولّاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائماً فانفتل من الصلاة ثمّ قال برأفة وتعطف ألك حاجة فأخبرته خبر الرجل فيكي ثمّ رفع يديه إلى السماء فقال « اللهم اني لم امرهم بظلم خلقك ، ولا ترك حقك ، ثمّ أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه « بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَاوْفُوا الْكَيْلَ وَالْميزان ولا تبخسوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، بَقِیَّظُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كنتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفيظ • إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ يما في يديك حتي يأتي من يقبضه منك والسلام »قال معاوية اكتبوا لها بالانصاف لها والعدل عليها فقالت « ألى خاصة ام القومي عامة» فقال « ما

ص: 47

انت وغيرك » قالت « هي والله الفحشاء واللؤم ان كان عدلاً شاملاً و إلّا يسعني ما يسع قومي » قال اكتبوا لها بحاجتها

ووقدت بكارة الهلالية ايضاً على معاوية بعد موت علىّ (علیه السلام) فدخلت عليه وكان بحضرته عمرو بن العاصي ومروان وسعيد بن العاصي فجعلوا يذكرونه بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي ومعاداة معاوية فقالت أنا والله قائلة ما قالوا وما خفي عنك مني أكثر فضحك وقال ليس يمنعنا ذلك من برك.

وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد اليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها و أن يوسع لها في النفقة علماً وفدت على معاوية قال مرحبا قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك ؟ فقالت بخير ياأمير المؤمنين ثمّ قال لها ألست الراكبة الجمل الاحمر والواقفة بين الصفين تحضين على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك ؟قالت يا أمير المؤمنين «مات الرأس وبتر الذنب، ولا يعود ماذهب ، والدهر ذو غير ، ومن تشكر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر» قال لها أتحفظين كلامك يومئذ ؟ قالت «لا والله لا احفظه» قال لكني أحفظه وتلا عليها خطبة من خطبها التي هي في منتهى البلاغة ثمّ قال لها والله یا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه قالت «احسن الله شارتك وأدام سلامتك، فمثلك يبشر بخير و یسر جليسه» قال «أو يسرك ذلك ؟ »قالت «نعم والله » فقال «والله لو فاؤكم له بعد موته، أعجب من حبكم له في حيانه ، اذكري حاجتك فقالت يا امير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعّنتُ عليه أبدا . ومثلك من أعلى من غير مسألة . وجاد عن غير طلبة . قال صدقت وامر لها وللذين جاؤا معها بجوائز .

ص: 48

ووفدت عليه ايضاً ام سنان بنت جشمة، وعكرشة بنت الاطرش، ولما حجّ سأل عن دارمية الحجونية فجيء بها إليه فقال لها « بعثت اليك لأسألك علام أحببت علياً وابغضتني ، وواليته وعاديتني ؟ » فاستعفته فلم يفعل فقالت له « احبت علياً على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية ، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالامر ، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت علياً على حبه المساكين، وإعظامه لاهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى» ثمّ قال لها : يا هذه هل رأيت علیاً؟ قالت أي والله قال فكيف رأيته قالت « رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك » قال فهل سمعت كلامه قالت نعم والله فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست. قال صدقت فهل لك من حاجة قالت « نعم تعطيني مئة ناقة حمراء، قال ماذا تصنعين بها قالت أغذو بألبانها الصغار، وأستحي بها الكبار، واكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين المشائر » قال ، فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محل عليّ بن ابي « طالب : قالت « سبحان الله أو دونه » فقال «اما والله لو كان عليّ (علیه السلام) حيّاً ما أعطاك منها شيئاً » قالت لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين ».

وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة ووفدت عليه أروى بنت الحارث وجرى لها معه حديث من مثل ما تقدم .

فهكذا كان مقام المرأة العربية، من أخوات سيدتنا القرشية، وهكذا كان حظّهنّ من الفصاحة والحصافة ، ومبلغهنّ من المشاركة في الامور العمومية والاخذ بالاسباب ، والمشايعة لبعض الاحزاب، وما أتينا إلّا باليسير توطئة لمعرفة مقام السيدة خديجة في قومها

ص: 49

الفصل الخامس -مقام خديجة ، عند قومها

ما اكرم هذا المقام !اواني بليغ لا تأخذه الهيبة اذ ادعي لتصور هذه المنزلة ؟

سيدة بطلعتها الفخامة والشرف يتجلّيان ، والجمال والكمال يتألّقان

ومزايا كالزهر تفحاً وطيباً ***وكزهر السما بهاءاً ونورًا

من شرف حسب ، إلى كرم محمّد ، إلى سؤدد قبيل ، إلى عن عشيرة ، إلى جمال ذات ، إلى كمال صفات ، إلى فضل حجى إلى طهارة نفس، ذلك ما كانت تزین به سيدتنا « خديجة » وذلك ما كانت تحلّ به بين قومها في المكانة المالية والمقام الكريم .

هذه المزايا ليست بالبدع من الاشياء ، ولا نبأها بغريب من الانباء ، بل هي معهودة في كثير من النسوة ، ومع ذلك لم يكن لاسمهنّ نصيب بغير الخمول ، قد طويت أعلامهنّ ، ولم ينشر ذكرهنّ ، ولم يسمُ في أقوامهنّ مقامهنّ ، فكيف تسامي اسم « خديجة » وعلت منزلتها ؟

إنّما كان لخديجة ذلك الشرف بشيء آخر غير مزاياها ، ذلك الشيء هو ارتقاء مدارك قومها وسلامة أذواقهم وحسن انتظام مجتمعهم. وليس بكاف لتعالي امرىء أن يكون كاملاً بل بدمع ذلك من احاطة قومه علماً بفضائله ووجود ميل فيهم للفضائل والكمال ومن المشهوران الحجارة

ص: 50

الكريمة عند من لا يعرف مزيتها لا قيمة لها وهي عند عارفيها فوق القيم فالحق أنّ ارتفاع من يستحق الرفعة في قوم ليس دليلاً على فضله وسعادة جده وحده بل هو دليل ايضاً على فضل اولئك القوم وسعادة جدهم ، فقد ربح قوم كان للافاضل منزلة كريمة لديهم ، وخسر قوم لا يعلو بينهم إلّا من استمان بجيش من الحيل والخداع ، وحواشٍ من النقائص المتغلبة على الطباع ،

واذا كنا معجبين بالسيدة «خديجة» لو فرة مزاياها الشريفة فنحن بقومها الذين شرفوا هذه المزايا أشد إعجابا . وليست «خديجة» وحدها هي التي نالت مقاماً كريماً في قريش بل كثير من فضليات نسائهم نلن المقام الكريم فيهم وكان لكثير منهنّ آثار مشكورة في مساعدة الاسلام الذي نقل العرب وغيرهم إلى أعلا مما كانوا فيه ولم يستطعن ذلك إلّا بمالهنّ من القدر الذي يليق بانسان ذي رأي معدود، وعقل مذكور ، ونفس مشابهة وحسبك من هذا ان ذلك الرجل العظيم عمر بن الخطاب ابا العدل وابا الفتوح وابا السياسة والادارة لم يكن اسلامه إلّا بمحاورة سيدة من اولئك السيدات القرشيات هي اخته فاطمة زوجة ابن عمه سعید بن زید بن عمرو بن نفیل .

نحن نعلم أنّ أكثر الناس يمرون بالمزية يعهدون أمثالها فلا يلتفتون اليها مالم تكن رائعة وفوق ما اعتادوا وهذا عندنا ضارّ لأنّ فيما يعهدونه ايضاً ما يستحق الالتفات اليه ، ويغري بالانتفاع منه إن كان مفيداً، والتغافل عن الانسان المفيد اذا لم يكن فوق العادة يوصل الى الحرمان البتة من ذلك الرائع المنشود ، والسامي الذي هو فوق المعهود

ص: 51

ولا يشكنّ القارىء في أنّ كثيراً من الاشياء التي صرفتنا الا لفة عن إجلال شأنها هي في جلالة الشأن عند الامعان فوق ما تتصور. وفي كثير مما لا تتفكر فيه منها ما تخر الافكار صاغرة أمام زاخر فوائده وباهر أسراره فلذلك أحببنا أن نمر بقارتنا مرة في تفصيل جملة تلك المزايا التي شرفها قوم «خديجة» حتى كانت بها كريمة المقام فيهم لأنّه ربما اختلج في صدره التعجب من إكبارنا شأن مزايا معهودة في كثيرين وقد يكون قارئنا من حزب الاكثرين الذين لا يبالون بالمعهودات ، ولا يطربون بغير الغرائب .

نعم ، نعم نحن لم نطرف بما فوق المعهود ، ولم نُهدر ما وراء المشهود، ولا عذنا بمبتدعات التصور ، ولا لذنا بغرائب الحوادث، وشواذ المصادفة و خوارق العادة ، ولم تمت إلى افئدة القراء إلّا بمعروف له أمثال، ومألوف لا تضيق بتصديقه الافكار ، ولكن الأمر عندنا في هذه المعهودات على ما قلنا . واذا ثبنا اليها بنظر الإمعان غير وسنانة عين بصيرتنا ألفينا فيها عند سأم النفس من لذة الحس ، أعظم ما تتوق اليه من لذة التصور وفائدة الإدراك .

واذا كانت الحياة واحدة كان جديراً بنا أن نقف متذكرين هذه الوحدة ابداً أمام كثرة اختلاف المظاهر وشدة احتجاب الاسرار ولم يكن حسناً بنا أن ننسى أحاسن ما تلده لنا هذه الامّ من الصور التي لا تحصى .

ما انّنا بتذكرنا من سادوا وشادوا ، وتذكرنا من صلحوا وأصلحوا ،

ص: 52

و بتذكرنا من أوجدوا وابتدعوا نتذكر تاريخ امنا الحياة وترتاح تفوسنا باستجلاء أحسن صورها ، وتتوارد عليها اللذة باشتياقها الى نصيب من ثروة تلك الام التى جادت بمقادير منها عظيمة على اخوتنا أصحاب تلك المظاهر ولابسي تلك الصور ، ولم لا نتوق الى حديث ذلك التراث وهو يملأ كنوزاً ان عجزت أفكارنا ان تحيط بكنه جواهره مخبراً فهي لا تعجز ان تأتينا بلذة من التأمل في بديع كيانها والامل ببلوغ ما تميل اليه النفس منها .

الفصل السادس -فضائل ( خديجة ) والفضائل عند قومها

تبارك واهب الحياة ، فقد أبدع لنا في «خديجة» المثال الاسنى منها ، وأطلع لنا في شخصها زواهر الانسانية الفضلى ، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش في الافق الأعلى، وتربيتهم الادبية والعقلية في المنزلة العليا .

نحن معشر بني الحياة متفاوتون كثيراً في قوى النفوس وأكثرنا في الحقيقة مغبون الحظ منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئة شريفة مسعدة لصاحبها وغيره وقليل منا من رزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة والحبور . ولدى التأمل نجد استعداد فطرة الشخص هو الاساس في حسن الحظ من هذه القوى النافعة ثمّ للتربية دخل كبير فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن وتربية حسنة كان حظه عظيماً من

ص: 53

فضائل النفس وقد اجتمعا في «خديجة » فرأينا في سيرتها ذلك المثال السني ، والكمال السمي .

عرفنا حسن استعدادها لأنّ التربية وحدها لا تفعل شيئا في جوهر النفس إذا كان غير صالح لفعلها، كما لا يصلح الماء، لأن تطبع فيه ماتشاء ، وعرفنا حسن تربیتها لأنّ الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع .

ومن حسن استعداد هذه السيدة وحسن تربيتها عرفنا شيئاً آخر جديراً بالتنویه وقلما رأينا من نوّه به او التفت اليه فلذلك عنينا به نحن كثيراً في صدد هذه السيرة وهو ارتقاء قوم «خديجة » ارتقاء عظيماً فإنّ التربية الشخصية مقتبسة فى الغالب من التربية العمومية . والمجتمع غالباً اشبه بالمرآة يرينا من الاشياء مقبولا ومردوداً ومسكونا عنه . وتشتهر المقبولات حتى يطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتى يطلق عليها اسم المنكر ، ويضطر الناس إلى تمرير تربية عمومية هي اذ لا يخالف المعروف ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبح في المسكوت عنه من الاشياء حتى یرى كل منهم رأيه فيها ، فهذا يستحسن شيئاً حتى يوجبه على نفسه ، وذاك يستقبح شيئا حتّى يحرمه عليها. وأعقل الناس في هذه الاشياء المسكوت عنها من جعل المعروف والمنكر معياراً لها في كل ما قرب من المعروف كان حسناً ويكون وجوبه على حسب درجة قربه من المعروف، وكلّ ماقرب من المنكر كان مسترذلاً ويكون حظره على حسب درجة قربه من المنكر. والاصل فى المنكر هو الاذى والعدوان، وعليه قيس الاصل في المعروف قياس الضد فالاصل فيه العدل والاحسان .

ص: 54

فعلى هذين الاصلين تقوم دعامة النظريات في التربية وعليهما تشاد الاعمال فيها .

وأي باحث لا تأخذه هيبة إذا اطلع على ما كان لقوم «خديجة» من التعمق في دقائق هذا الفن من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل ، أي والله انّ هؤلاء القوم النازلين في ذلك البلد الصغير البعيد ، واخوانهم الآخرين الضاربين في تلك الفيافي، يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع الطويل فى فن التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك . فتراهم مثلاً لما كانت السماحة ضرورية ولا سيما لذلك الاجتماع جعلوها في المقام الاول ولم يألوا يطبعها في النفوس حتى نبغ فيهم أجواد بلغوا بهمتهم في الجود الكواكب وازیّنت الارض بمناقب هممهم ، وايثار اخيهم الإنسان على انفسهم، كما فعل كعب بن مامة الذي آثر رفيقه بمائه ومات هو عطشاً .

ولما كانت الشجاعة ضربة لازب لكل شخص و كل جماعة في كل زمان وكل مكان تجدهم جعلوها شعارا لمحامد و تاج المناقب وسيروا فيما ضربوه من الامثال قولهم «الشجاع موقی، والجبان ملقى» وكانوا یتمادحون بالموت قتلاً ويتهاجون بالموت على الفراش ولما بلغ عبدالله بن الزبير - وهو ابن أخي خديجة - قتل أخيه مصعب خطب فقال « إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه اننّا لا نموت حتفا ولكن قطعاً بأطراف الرماح وموتاً، تحت ظلال السيوف وان يقتل المصعب فإنّ في آل الزبير خلفاً منه ، ذلك لأنّهم کانوا یکرهون الحياة اذا لم تشرف ويرون الحياة الرذيلة معرضة للعدم أكثر من الحياة الشريفة ولمثل هذا يقول علي ابن أبي طالب (علیه السلام)«بقية السيف أنمي عدداً، وأطيب ولداً» وتقول الخنساء وهي احدى الشهيرات في العرب:

ص: 55

نهين النفوس وبذل النفو*** س يوم الكريهة أبقى لها

لا يستنكرنّ احد اذا قيل له إنّ الشجاعة -وهي السجية التي لا ترقى الامم إذا خلت منها -كانت في العرب من الاخلاق الفاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم تكن فيه وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها لأنّ أكثر شيء كانوا يتناقلونه هو حديث الشجعان واقدامهم في الشدائد حتى فضلوا ، والجبناء واحجامهم فيها حتى رذلوا، وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل السحر فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها الى الخوف على الشرف حتى تهون النفوس في سبيله كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم:

بكَرَتْ تخوفني الحتوف كأنّني ***أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها ان المنية منهل ***لابدان أسقی بكاس المنهل

فاقني حياء لا ابالك واعلمي ***أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

وقد يظن ظانّ انّ شجاعة العرب وبأسهم لم يكن إلّا فيما بينهم ومثل هذا الظنّ من قلة الاطلاع على جملة أخبارهم فنحن لا نريد أن نأتي بآية على شجاعتهم مما فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم فإنّ ذلك مشهور ولكن حسبنا أن ندل القارئ على ما كان من باس العرب يوم ذي قار اذ أراد كسرى أن يوقع سوءا ببني بكر بن وائل لسبب لا محل لتفصيله فجهز عليهم جيشاً كثيفاً ليهلكهم به وبلغهم خبره فتجهزوا له واعانهم قبائل أخرى فتوافوا بواد اسمه ذوقار وكانت الهزيمة على جيش كسرى حتى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية وهي واقعة مشهورة كثرت فيها الاشعار وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار ، وحى الذمار ، واتقاء العار،

ص: 56

وفي هذه الواقعة يقول الاعشى اعنى بني بكر :

و جند كسرى غداة الخو صبحهم ***منا غساريف ترجو الموت وانصرفوا

لقوا ململمة شهباء يقدمها *** للموت لا عاجز منا ولا خرف

فرع نمته فروع غير ناقصة *** موفق حازم في أمره أُنُف

فيها فوارس محمود لقاؤهم ***مثل الاسنة لاميلٌ ولا كُشُف

لما رأونا كشفنا عن جماجمنا *** ليعلموا انّنا بكر فينصرفوا

قالوا البقية والهنديّ يحصدهم *** ولا بقية إلّا السيف فانكشفوا

لو أنّ كل مَعَدٍ كان شاركنا *** في يوم ذي قارما أخطاهم الشرف

لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ***ملنا يبيض لمثل الهام تختطف

اذا تطفنا عليهم عطفة صبرت *** حتى تولت وكاد اليوم ينتصف

بطارق وبني ملك مرازبة *** من الاعاجم في آذانها الشُّنُف

من كل مرجانة في البحر أحرزها *** تيارها و وقاها طينها الصدف

کأنّما الآل في حافات جمعهم *** والبيض برق بدا في عارض يكف

ما في الخدود صدود عن سيوفهم ***ولا عن الطعن في اللبّات منحرف

وفي هذه الواقعة يقول العديل بن الفرج العجلي :

ما أوقد الناس من نار لمكرمة *** إلّا اصطلينا وكنا موقدي النار

وما يعدون من يوم سمعت به *** للناس أفضل من يوم بذي قار

جئنا باسلابهم والخيل عابسة *** لما استلينا لكسرى كل أسوار

وفيها يقول شاعر آخر من بني عجل

إن كنت سافية يوماً ذوي كرم *** فاسقي الفوارس من ذُهل بن شيبانا

ص: 57

واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم *** واعلي مفارقهم مسكا وريحاناً

وهي واقعة شهيرة ظهرت فيها الشجاعة العربية أكمل مظهر وكان المنذر لهم بنية كسرى وعزمه لقيط الايادي اذ كتب الى بني شيبان يخبرهم بذلك في شعر مشهور غاية في البلاغة والتحميس واستثارة العزائم وفيه يقول :

قوموا جميعاً على أمشاط أرجلكم ***ثمّ افزوا قد ينال الامن من فزعا

وقلدوا أمركم لله درّكمو ***رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفاً أن رخاء العيش ساعده *** ولا اذا عض مكروه به خشما

مازال يحلب هذا الدهر أشطره *** يكون متبعا طورا ومتبعا

حتى استمرّ على شزر مريرته *** مستحكم الرأي لا فعما ولا ضرعا (1)

وليس يشغله مال یئمّره*** عنكم ولا ولد يبغى له الرفعا

فعلی مثل ما ذكرنا كان نصيب العرب عامة وقبيلة خديجة خاصة من الشجاعة التي لا قوام الامم بدونها وكانوا لا يعتدون بالجبان ولا يعدونه شيئا مذكورا . ينبئك بذلك قول احد شعرائهم

خرجنا نريد مغاراً لنا *** وفينا زياد ابو صعصعة

فستة رهط به خمسة *** وخمسة رهط به أربعة

ثمّ لم يكن نصيب قوم «خديجة » في فقه النفس والحكمة والمعارف بأقل من نصيبهم العظيم في الشجاعة فقد كانوا يتناقلون المعارف ويتدارسونها من غير كتب وكان لهم المام قليل بحركات الكواكب والانواء التي

ص: 58


1- المريرة طاقة الحبل والحبل الشديد القتل. والشزر و الفتل عن اليسار والمعنى استحكم امره وقويت شكيمته ، والفحم الرجل الهرم والضرع الضعيف

تتبعها . وهو يقتضي شيئاً من معرفة الحساب وكان لهم معرفة غير قليلة بالطب و حفظ الصحة سواء كان طب الانسان اوطب الحيوان. والطب يقتضي ايضاً نصيباً من علم الخواص التي اودعها البارى في المعدن والنبات والحيوان. اما معرفتهم بالاخبار اي التاريخ فحدث عنها ولا حرج وكانوا يعبرون عن هذا العلم يعلم النسب فإنّ علم النسب في الحقيقة ليس عبارة عن معرفة نسب الاشخاص والقبائل فإنّ هذه معرفة بسيطة لا تستحق أن تسمى علماً وإنّما كان النسابون يعرفون أخبار أولئك الاشخاص وأخبار تلك القبائل وهذا هوالتاريخ وربما كان السبب في اشتهار هذه المعرفة باسم علم الانساب أن عارفي الاخبار كان إليهم المرجع في معرفة الانساب التي من أهم فوائدها معرفة تفريع القبائل وإلحاق الفروع بأصولها على شدة البعد بين الاصول وتلك الفروع أحياناً . وقد كان منهم اختصاصيون بهذا العلم يلقون منه على من يتحلقون حولهم . قال رؤبه بن العجاج قال لي النسابة البكري «يا رؤبة لملك من قوم ان سكت منهم لم يسألوني وان حدثتهم لم يفهموني »، يعيب بذلك على الذين لا يرغبون في تلقي هذا العلم حق الرغبة قال رؤبة فقلت له : إنّي أرجو أن لا اكون كذلك . قال فما آفة العلم ونكرته وهجنته ؟ قلت : تخبرني : قال « آفة العلم النسيان ، ونكرته الكذب ، وهجنته نشره عند غير أهله »

وأمّا الحكمة والآداب والبيان فقد بلغ فيها هذا الشعب العربي من الانصباب على حفظها ودراسة الكلم الجوامع فيها مبلغاً عظيماً ويمكنني أن أقول إنّها من أشهر ما اشتهر عنهم .

وهل يجد الباحث معنى من المعانى التى مخطر للنفس فيها الاستحسان

ص: 59

أو الاستهجان الا ويجد لهم الشافي الوافي من البيان في تصويره وإبرازه بأبدع حلة ولا ينبئك ببعض ذلك شيء كالمأثور من كلمهم الجوامع التي سارت مسير الامثال ، وكانت كالدرر الفرائد بين سائر الاقوال، ولا نستطيع أن نأتي هنا بقليل من ذلك الكثير لكيلا تبعد بالقارى، عن سياق السيرة ولكنا نذكر خبراً واحداً يدل على مقدار عناية العرب بتذاكر الحكم والآداب، وصياغتها بابدع البيان، ومقدار ما وسعت منها تلك الافكار. ذكروا أنّ عمرو بن الظرب العدواني و حممة بن رافع الدوسي اجتمعا عند ملك من ملوك حمير فقال: تساءلا حتى اسمع ما تقولان. فقال عمرو لحممة أين تحبّ أن تكون أياديك ? قال « عند ذي الرتبة العديم ، وعندذي الخلة الكریم والمعسر العديم ، والمستضعف الحليم » قال : من احقّ الناس بالمقت ؟ قال « الفقير المختال » والضعيف الصؤال ، والغني القؤال ». قال فمن أحق الناس بالمنع ، قال « الحريص الكاند ، والمستميد (1) الحاسد والمخلف الواجد» قال من أجدر الناس بالصنيعة ؟ قال «من اذا أُعطي شكر ، واذا مُنع عذر ، واذا مُطل صبر ، واذا قدم العهد ذكر» قال من أكرم الناس عشرة ؟ قال «من اذا قرب منح، واذا ظلم صفح، وان ضويق سمح » قال من ألام الناس ؟ قال «من اذا سأل خضع ، واذا سئل منع ، واذا ملك كنع (2) ، ظاهره جشع، وباطنه طبع »(3) قال فمن أجلّ الناس ؟ قال « من عفا اذا قدر ، وأجمل اذا انتصر ، ولم تطفه عزة الظفر » قال فمن أحزم الناس ؟ قال « من أخذ رقاب الاسود بيديه ، وجعل

ص: 60


1- المستميد هو المستعطي
2- معنى كنع هنا انكمش
3- الطبع بفتحتين هو الدنس

العواقب نصب عينيه ، ونبذ النهيب دبر أذنيه » قال فمن أخرق الناس ؟قال «من ركب الخطار، واعتسف المثار ، وأسرع في البدار قبل الاقتدار (1) » قال من أجود الناس ؟ قال « من بذل المجهود ، ولم يأس على المفقود» قال فمن أبلغ الناس : قال : «من حلى المعنى العزيز ، باللفظ الوجيز ، وطبق المفصل قبل التحزيز » قال من أنعم الماس عيشا قال «من تحلى بالعفاف ، ورضي بالكفاف، وتجاوز مايخاف الى مالا يخاف» قال فمن أشقى الناس ؟ قال « من حسد على النعم ، وسخط على القسم، واستشعر الندم ، على ما انحتم » قال من أغنى الناس ؟ « قال من استشعر الياس، وأظهر التجمل للناس ، واستكثر قليل النعم ، ولم يسخط على القسم » قال فمن أحكم الناس ؟ قال من صمت فادّكر ، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر » قال من أجهل الناس ؟ « قال من رأى الخرق مغنما ، والتجاوز مغرما ».

وما ذكرناه من جهة معارف القوم الذين نشأت منهم هذه السيدة كاف في الدلالة على أنّه كان من جملة ما يعنون به من التربية تثقيف ناشئتهم بما عندهم من المعارف على الطريقه التي ألفوها وتعودوها في التعليم وهي الطريقة الطبيعية الساذجة الخالية من الاصطلاحات والتعاريف والتفاصيل التي يحتاج إليها نفر قليلون ويستغني عليها الآخرون. ولكل فرع أهله الذين بهم استعداد لالتقاطه بسهولة ولا يكلف البليد في شيء ان يكد في تفهمه مدركته، أو ينفي في حفظه ذاكرته، أو في توسيعه مخيلته .

ثمّ قد كان مما عني به العقلاء من رهط خديجة التربية على العدل ولقد اسلفنا شيئا عن ولعهم به وحرصهم على حماية المظلوم ووقاية المهضوم

ص: 61


1- يريد بالبدار معالجة الخصم

وكذلك ولعوا بتمداح العفاف وتشريف الاعفاء والمفائف، واجلال الطهارة وأهلها وكان من أكرم ألقابهم وأجلها لقب الطاهر والطاهرة وقد حازت السيدة «خديجة » هذا اللقب الشريف باستحقاق إذا كان يقال لها «الطاهرة».

فإذا عرف المطالع الكريم انّ لهؤلاء القوم حظا كبيراً من هذه الاشياء التى هي أصول الفضائل نعني السماحة والشجاعة والحكمة والآداب والبيان والعدل والتعفف كان جديراً به أن لا ينظر إلى صفر شأن ذلك المجتمع إذا قورن ببلاد الحضارة فإنّ الفضل الانساني الممنوح من يد الفاطر المبدع لا يتوقف على زخرف البيوت وكثرة الدور في البلد الواحد بل يصل ذلك الفضل بإرسال رباني من يده سبحانه الى الذرات الصغيرة التي في الأدمغة ويختص به سبحانه أفراداً ممن عنوا بتوجيه العقول والقلوب إلى تصفية النفس وتزكيته من النقائص وتحليتها بالفضائل ممن لم يجعلوا أكبر همهم تجويد المأكل والملبس والمسكن والفراش . فإذا كثر من هؤلاء الافراد في أمة ظهرت وان حل الخفاء بهم، واستوفت وان بخس الوزن لهم ، ولم يكن الافراد الذين تلقوا هدية الفضل الانساني من الاحسان الرباني قليلين في قوم « خديجة » الفاضلة بل كانت كثرتهم خير مقدمة لخير نتيجة هي ظهور ذلك الرسول الكريم الذي كان من أكبر مميزات جماعته الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اولئک الذين وافاهم الوحي ينعتهم بماهم أهله قائلاً «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».

ص: 62

الفصل السابع -جمال خديجة والجمال عند قومها

الجمال محبوب لذاته عند الطبع، ومحبوب لفائدته عند العقل ، ومع كثرة ما ألفت العيون رؤيته ، والآذان سماع أحاديثه ، لاتزال أسراره موضوع التفكر ، ولا تزال دقائق تأثيراته محل الإعجاب ، كيف لا وهو السر الاعظم في جذب الانسان إلى مقاماته العلى من الابداع ، والسبب الاكبر في ابعاد ما بينه وبين الحيوان في مراقي الوجدان والادراك، فشرفه مجمع عليه عند بني آدم بغير خلاف بينهم. و ايّما قوم حرموه فقد باؤا بحرمان عظيم. ولذلك لم نجد بدّاً عن ذكر هذه المزية الاخري لقوم «خديجة » فإنّها مزية جديرة بالذكر لا سيما بعد أن اشتهر عند من لم يعرف هؤلاء القوم انّهم كانوا لا حظّ لهم من الجمال ، ولا ذوق لهم في الحسن ، ولا نصيب من توجه النفس الى الاحسن .

كَبُرت سبةًّ أن يكون قوم «خديجة» على ما يظنّ هؤلاء الذين لا يتالف في ذهنهم أن يكون القوم سكان اقليم حار وذوي شظف من العيش ثمّ يكونوا مع ذلك ذوي خلقة جميلة وصورة بديعة .

وكَبُر منّا تقصيراً أن لا نبين في هذا الباب ما هو من جملة مناقب هذه السيدة وقومها فإن استغرب قوم لم يعيروا اسرار الخليقة نظرة تخصيصنا فصلاً لهذا الموضوع فإنّهم سيرونه فيما بعد مكيناً في موضعه على أنّه سيجد فيه المتفكرون صاحبهم الانيس ويجد هو فيهم أهله الكرام

ص: 63

ان العرب قد تناسبت أجزاؤهم، وتناسقت أوضاعهم ، واعتدلت أشكالهم ، بياضهم جميل ، ليس فيه بهق بعض الاجيال ، وأدمتهم لطيفة، . ليس فيه حلكة بعض الاقوام ، ولعلّ من فازت من حساتهم بخط عظيم من الجمال تقل نظائرها في حسان الآخرين ، وتكون آية المنتهى في جمال العالمين ،

والمشهور أنّ الجمال يختلف في أذواق الناس ولكل جيل قياس في الحسن لا يأتي عليه قياس جيل آخر ولكن من أمعن بما يتناقله الكل من صفات الحسن يجد ثمة جهة جامعة ومقياساً واحداً تتفق معه المقاييس كلها وذلك انّ الحسن الذي لا خلاف فيه ليس هو بلون الاديم إنّما هو باعتدال القامة ، واستواء الهامة ، وتناسب اجزاء الوجه ومقاطعه ، وحلاوة المبسم، وملاحة العينيين ، ولطف الحاجبين ، ورقة الشفتين ، ولعلّ هذه المذكورات تكثر في العرب حتى ندر أن تجد غير موصوف او موصوفة بالحسن من مشهوريهم ومشهوراتهم. وإذا اضيف إلى ما ذكرناه بياض الاديم وتشربه بحمرة او صفرة كان ذلك فضلاً في الجمال، قد يبلغ به منتهي الكمال ، ولم يكن هذا اللون قليلاً في العرب عامة وقوم خديجة خاصة .

والعرب لم يكثروا في كلامهم من شيء بمقدار ما أكثروا من وصف الجمال وقد رأيناهم يستحسنون هذين اللونين كثيراً : البياض المشرب بحمرة اوالبياض الغارب إلى صفرة وقال ذو الرمة أحد شعرائهم :

بيضاء صفراء قد تنازعها *** لونان من فضة ومن ذهب

وهذا اللون هو لون اللؤلؤ وقد جاء في القرآن المجيد تشبيه حسان

ص: 64

الجنة باللؤلؤ المكنون ولا يختلف أحد إلى عهدنا هذا في أنَّ هذا اللون هو الذي تكون صاحبته أقرب إلى الكمال في الجمال إذا أخذت بحظ من تناسب بقية الاوضاع ، فإنّه عند ما ينطبع فيه الاحمرار لسبب من الاسباب تكون حمرته ألطف من الحمرة الملازمة لبعض البيض وعن مثل هذا عبر عدي بن زيد أحد شعراء العرب بقوله :

حمرة خلط صفرة في بياض *** مثلما حاك حائك ديباجا

ولكثرة البياض اللطيف في العرب شبّهوه بالصبح واشتقوا من الصبح لوناً فقالوا للابيض صبيح، واشتقوا من الزهر لوناً فقالوا للأبيض المشرب بحمرة أزهر. وتشبيبهم بورد الخدود دليل على كثرة هذا اللون فإنّ هذه الحمرة لا تنطبع إلّا على أديم أبيض ورأيناهم يشبهون الاعناق كثيراً بأباريق الفضة كما قالت قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان في أعمامها وأخوالها .

وليس بمجيب بعد أن كان الجمال الرائع من جملة خصائص العرب أن نجدهم مغري القلوب بمجالي تجلياته ، منصرفی الوجوه إلى مشارق أنواره ، ثمّ لا بدع بعد ذلك اذا وجدنا حبّ الجمال قد لطف أذواقهم ، وعودهم على الاستحسان ، ونقلهم من حال إلى حال ، إلى أن تهيأ وا لقبول الدعوة التي رقت بهم من هذا الجمال إلى أعلى ، ومن هذا الغرام إلى ماهو أولى، نقلهم إلى تصور الجمال الالهي مصدر كل جمال، ورقت بهم إلى عشق الكمال المعنوي الذي هو فوق كل كمال ، فلم يصعب على أولئك

ص: 65

الذين شغفهم الجمال المحسوس، أن يفهموا الجمال المعقول ، و أن يزدادوا نصيباً منه مع نصيبهم من ذلك ولم يمنّ عليهم أن ينتقلوا إلى العالم الجديد الذي دعوا اليه لأنّه تبدّى لهم أجمل مما كانوا عليه .

ونحن إذ نرى للعرب الحظ الاوفر من الشغف بالحسن والاستحسان يزيد قدرهم في اعتقادنا و نرى من غير تردد انّهم كانوا لذلك العهد من أرقى الاجيال الراقية على بعدهم عن الزخرف ، وعدم نطقهم بكل أسباب الحضارة، ولعلّنا إذا بحثنا عن المؤثر الاعظم في وفرة جمال هذا الجيل نجد ذلك لأنّهم خصوا بأخذ المعتدل من المعاش، والتنقل في المعتدل من الاقاليم، وحبّب إليهم المعتدل من المهن والاعمال ، وأضافوا إلى ذلك أنّهم لا يتزوجون من غير رؤية غالباً وللانتخاب دخل كبير في تحسين الجنس وتجويد النسل .

وإن بدا لأحدهم أن يتزوج بمن سمع بجمالها سماعاً نجده لا يقصر في البحث والتدقيق بواسطة من يثق بحسن ذوقهنّ ، وجودة امعانهنّ والحكاية الآتية تدلنا على مقدار حرصهم على اختيار الجميل وعلى مبلغ هذا الشعب من الجمال :

أراد ملك من ملوكهم ( هو عمرو بن حجر ملك كندة جد امرى القيس ) أن يتزوج ابنة عوف بن محلم ( الذي يقال فيه لاحرّ بوادي عوف لافراط عزّه ) وكانت ذات جمال فوجّه اإيها امرأة يقال لها عصام لتنظر إليها و تمتحن ما یلفه عنها فلما رجعت قال لها الملك « ما وراءك ياعصام » .

قالت : رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة يزينها شعر حالك ، إن أرسلته خلته السلاسل، وان مشطته خلته عنا قيد كرم جلاه الوابل، ومع ذلك حاجبان

ص: 66

كأنهما خطا بقلم ، أوسودا بحجم، قد تقوسا على مثل عين المبهرة ، التي لم يرعجها قانص ولم يذعرها قسورة ، بينهما أنف كحداء سیف المصقول، لم يخاس به قصر ولم يمض به طول حفّت به و جنتان كالارجوان ، في بياض محض کالجمان ، شق فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرر، ذوات أشر، يتقلب فيه لسان ، ذو فصاحة وبيان، يزين به عقل وافر ، وجواب حاضر ، یلتقی بينهما شفتان حمراوان كالورد ، يجلبان ريقا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدرها تمثال دمية ، يتصل به عضدان ممتلئان لحماً ، مكتنزان شحماً، وذراعان ليس فيهما عظم يمس ، ولا عرق يجس ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما ، تعقد ان شئت منهما الانامل ، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين يحرقان عليها ثيابها - إلى أن قالت حين انتهت إلى وصف ساقيها - وشيتا بشعر أسود ، كأنّه حلق الزمرد ، يحمل ذلك قدمان ، كحذو اللسان ، - فتبارك الله مع صغرهما ، كيف يطيقان حمل ما فوقهما ، » ووصفهم الحسن والجمال في الشعر مشهور كقول بعضهم من قصيدة

ویزین فوديها إذا حسرت *** صافي الغدائر فاحم جعد

فالوجه مثل الصبح مبيضّ *** والفرع مثل الليل مسودّ

وجبينها صلت وحاجبها ***شخت المخط أزج ممتد

وكأنّها وسنى إذا نظرت ***أو مدنف لما يفق بعد

فهذا مثال من أمثلة الجمال العربي الذي كان لرهط خديجة حظ منه كبير ولم يكن حظها هي منه قليلاً

ص: 67

الفصل الثامن -ثراؤها والثراء عند قومها

وكان للسيدة « خديجة » مع ما آتاها الله من الجمال وفضائل النفس حظّ من الثراء ايضاً وثراؤها في حياة أبیها وكانت تاجرة و لعلّ اباها نحلها رأس المال باديء بدء .

لم يكن اشتغال سيدتنا هذه بالتجارة شيئاً يعجب منه في قومها فإنّهم كادوا يكونون كلهم تجاراً . تقضي بذلك طبيعة مقامهم في ذلك البلد، وشريعة تربيتهم على طلاب المجد واتساع السؤود ، ومنافسة الاقرب والأبعد، ولولا شغفهم بهذا لما سمعنا بصدى همتهم في التجارة من بين إخوانهم الآخرين . ولولاه لاستطلبوا من العيش ما استطابه ذلك الاعرابي الذي سئی عن طعامهم في البادية فقال لسائله : « بخ بخ عيشنا عيش تعلل جاذبه (1) وطعامنا أطيب طعام واهنؤه وأمرؤه ، القت (2) والهبيد (3) والصليب (4) و العلهز (5) والذآنين (6) والعراجين (7) والضباب (8) واليرابيع (9) والقنافذ (10) وربما أكلنا والله القدّ (11) واشتوينا الجلد ،

ص: 68


1- تعلل من العلل وهو الشرب بعد الشرب
2- القت الفصفصة وهي الرطبة من علف الدواب
3- الهبيد الحنظل يكسر ويستخرج حبه وينقع لتذهب مرارته و یتخذ منه طبخ يؤكل عند الضرورة
4- الصليب الودك يستخرجونه من العظام بعد أخذ اللحم منها
5- العلهز قراد كبير ونبات ينبت في بلاد بني سليم وطعام يتخذ في المجاعة من الوبر والدم
6- الذآنين جمع ذؤنون نبت طويل ضعيف له رأس مدور
7- العراجين جمع عرجون العود من النخل
8- 10 الضباب و اليرابيع والقنافذ حيوانات معروفة
9- 10 الضباب و اليرابيع والقنافذ حيوانات معروفة
10- 10 الضباب و اليرابيع والقنافذ حيوانات معروفة
11- القد جند السخلة

فما نعلم أحداً أخصب منّا عيشاً، ولا أرخى بالاً ، ولا أعمر حالاً ، أوما سمعت قول شاعر وكان والله بصيراً برقيق العيش ولذيذه :

إذا ما أصبنا كل يوم مُذَيقةً (1)*** وخمس تميرات صغار كوانز

فنحن ملوك الناس خصباً ونعمة ***ونحن أسود الناس عند الهزاهز

وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله *** ولو ناله أضحى به حق فائز

فالحمد لله على ما بسط من حسن الدعة ، ورزق من السعة ، وإياه نسأل تمام النعمة

هذا ما استطابه الاعرابي وحمد الله عليه هذا الحمد. وما الاعراب إلّا بشر قد يستطيب غيرهم من البشر ما يستطيبون إذا خلصوا إلى مثل معيشتهم ومارسوها لكن من الناس من لا يطلبون في الحقيقة ما يقيم مادة البدن فقط كما تطلبه سائر الحيوانات بل يتسابقون إلى ما به الغبطة من الفتیات ،والذخائر، ويتبارون في ما به التمايز من المستحسنات والبدائع، ويمثل هؤلاء يزيد الله الانسان بسطة من المعارف، وقوةً في المدارك .

وقريش كما عرف القارىء كانوا ممن أعدّهم الله لعمل عظيم في الارض ولا يتم ذلك بحسب سنته سبحانه مالم يكن في سابق تربيتهم و طرق حياتهم ما يلائم الطريق الذي سيستأنفونه وما أمامهم إلّا المغامرة في السيادة على شعوب العالم بقدر ما يستطيعون فلم يكن لائقاً بمن هم عتيدون لمثل ذلك ان يقبعوا في بلدهم ولا يعرفوا العالم ، ولا تميل نفوسهم إلى خيرات السماء والأرض الفائضة في ملك الله الواسع ، بل اللائق

ص: 69


1- المذيقة تصغير مذقة وهي شربة من اللين الممزوج بماء كثير

بهؤلاء أن يكون كل واحد منهم أنطق حاله يقول ذاك الشاعر من أبناء ملوك العرب (امرء القيس)

فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ***كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ***وقد يدرك المجد الموثّل امثالي

و حقا كانت حال القرشيين ناطقة بمثل هذا الكلام ، وكلّ منهم له في المجد أرب، فلا بدع إذا انصرفت أنفسهم إلى تحصيل المال فإنّه أعظم أدوات هذا المطلوب وقد نجح فيه منهم كثيرون ونقعوا بانعني قومهم عند الشدائد منهم عبد الله بن جدعان الشهير بجفنته التي كان يقدمها للفقراء والمساكين من زوار مكة وأهلها وقد أمد قومه بالسلاح في حرب حاربوها وساح مئة كمي من غير قومه ممن حارب معهم وفي هذه الحرب قتل أحد الخوة السيدة « خديجة » العوام ابو الزبير (1) ومنهم أمية بن خلف ابن وهب وابنه صفوان الذي أثر عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انّه قال فيه « إنّ صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه» أي بلغ ماله القناطير (2) وكثيرون غير هؤلاء

فيالله ما أشبه قريشا الضاربين في أغوار رمال العرب وأنجادها لنقل المتاع من هذه البرية وإليها على مراكبهم سفن البر ، بالفینیقیین الضاريين

ص: 70


1- تحاربت في هذه الحرب قريش وهوازن وكان عمر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيها اربعة عشر عاماً وحضرها مع اتمامه بهئ لهم النبل. وعبدالله بن جدنان سري شهير ومثر كبير وهو من جحد بني جمح
2- أمية من جحد بنی جمح أيضاً وقد قتل في وقعة بدر وكان مع أعداء النبیّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اما بینه صفوان فاسلم بعد فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم

في أكباد تلك المياه وأطرافها لنقل البضائع من هذا الثغر إلى ذلك على مراكبهم قلائص البحر . فلئن كان لأبناء تلك السواحل رحلنا شتاء وصيف بين زئير الامواج ، ومعاركة الامواه، فلأبناء هذه البراري أيضاً رحلتا شتاء وصيف بين عُواء السباع ، ومعالجة الرمال .

لعمر الحق قد أدرك القوم ان الخير كل الخير لأنفسهم وبإيرانهم انّما هو في أن یخفّوا للتجارة لأنّها في الامم أقوى الاسباب المقربة من البدائع ، المبعدة عن الحياة الوحشية ، فقاموا بهذا المرغوب غير كسالى فكان لذلك ربحهم عظيماً من المال ومن ملكة الاختلاط بالاقوام في ذلك العصر السحيق والمكان البعيد. وكان بلدهم على هذا البعد عن العمران المتصل وسطاً صالحاً للتجارة في تلك البرية بواسطة الحج الذي كانت تحجه العرب إلى البيت المعظم الذي فيها وجدير ببلدة يحجّ إليها العرب ذلك الحج ان تكون للأمن داراً ، وإنّما تبقى شجرة التجارة في رياض الامن .

وكانوا يقيمون من حولها أسواقاً موقتة في العام قبيل أيام الحج ويفدون اليها ليبيعوا و يشروا . أشهرها سوق عكاظ كانت تقوم في أول يوم من ذي القعدة « وعكاظ » بين مكة والطائف ومن أسواقهم هذه «ذو المجاز » وهو عند عرفات و «مجنّة » وهي موضع باسفل مكة و «بدر» وهي بين مكة والمدينة

ولقد كان السوق عكاظ من خطير الشان ان النعمان بن المنذر ملك الحيرة على اتصاله ببلاد الحضارة وبعده عن مكة كان يبعث كل عام الى سوق عكاظ جمالاً محملة بزّا وطيوباً لتباع في هذه السوق ويشرى له

ص: 71

بثمنها من أدم الطائف (1) مايحتاج إليه ولم يكن یرسلها في هذا الطريق البعيد التي تمر فيه على قبائل شتى حتى یجيرها له شريف من شرفاء العرب .

وهذا يدلنا على أنّ تلك البلاد لم تكن تأتي بالحاصلات من غيرها فقط بواسطة التجارة بل كانت تخرج إلى غيرها حاصلاتها أيضاً ومع أنّ الشام مشهورة بأعنابها وفواكهها كان تجار مكة يأخذون اليها من زبيب الطائف ذلك الزبيب الذي أدهش حسنه وكثرته سليمان بن عبد الملك لما رأي یبادره فقال : لله در قيس في أي عش أودع فراخه : يريد يقيس ثقيفاً فكذلك كان اسمه وحسبك ان النعمان بن المنذر كان يرسل يأخذ أدمها

فتجار مكة لم يكونوا يذهبون فارغي الاحمال الى الشام والى غيرها أحياناً بل كانوا يذهبون ببضاعة حجازيه مما تخرج تلك الارض من نبات و معدن ويرجعون بضاعة شامية او غيرها مما تخرج الارض وتصنع الايدي . وآخرون مقيمون غير ظاعنين ليقيموا السوق الدائمة في تلك البلدة «أم القرى».

ولا یستريح القارئ حتى يعلم ماذا كانت تخرج تلك الديار إلى غيرها من الاشياء فإنّه كلما تصورها غير زراعية وغير صناعية يضيق ذهنه عن معرفة ما يصلح أن يخرج منها وله العذر في ذلك اما نحن فنذهب حيرته ببيان وجيز لا يسعنا اكثر منه لئلّا ينقطع الحديث فنقول ان تلك البلاد في نفسها رأس مال طبيعي كسائر البلاد. ذلك بما تشتمل عليه من معادن و نباتات برية یصلح بعضها للصبغ وبعضها للديغ وبعضها للطب وبعضها

ص: 72


1- الادم بضمتين وفتحتين الجلود المدبوغة والواحد أديم

للطيوب وبعضها للتنظيف فإذا أضفت إلى ذلك ما كانوا يجففونه من ألبان الحيوانات وما يستخرجونه منها من الزبد و من أصوافها وأوبارها وجلودها وما كانوا يجففون من التمر والزبيب وغيرهما تجد بضاعة غير يسيرة بحمل مثلها إلى أطراف بلاد الشام مما هو إلى الحجاز أقرب بل ربما راج بعضه في العواصم.

نحن اليوم لا نتصور مجتمعاً حضرياً إلّا بأن يكون فيه أمير مسيطر و جند له حافظون، وزراع وصناع و تجار للمعاش ضا منون ، وقد رأى القارىء ان مجتمع «خديجة » قام بغير مسيطر و جند له فعسى أن لا يقيس على استغنائه عن سيطرة الامير استغناء عن الزراعة والصناعة والتجارة كلأ فإنّ هذه الثلاث لا قوام القوم بدونها . ونحن إذا ذكرنا ما كاز من النصيب لقوم «خديجة» منها لا نقصد به عدّ مفاخر لهم إلّا من جهة أنّهم تغلبوا بمداركهم وهمهم على كل ما كان يحول بينهم وبين المغامرة في إدراك شأو الأمم والابتعاد عن البداوة من بعد أن أوشك جوار البادية أن يجذبهم إليها كما جذب إخوانهم الآخرين .

فهم تحضروا في ذلك البلد بين أهل البادية وفي منقطع عن العامرة وأعطوا الحضارة حقّها على صعوبة الوفاء لها بهذا الحق. وتراهم مع هذا لم يخالفوا سنن العرب فيما يأنفون منه ويترفعون عنه فأقاموا ما احتاجوا إليه من الصناعة في بلدهم ولكن على أيدي عبيدهم لأنّ العرب كانت تأنف من بعض الصناعة وكذلك أقاموا ما احتاجوا إليه من الزراعة على أيدي عبيدهم ولم تكن الزراعة كثيرة في بلدهم ولكن لم يكن خالياً

ص: 73

منها البتة فهناك اودية يجود فيها الزرع والغراس وتجري فيها العيون . وما الطائف عنهم ببعيد وهو أبو الزراعة .

اما التجارة فلم تكن العرب تأنف منها فلذلك باشرها القوم بأنفسهم كما باشر بعضهم بعض الصناعات التي ماكانوا يأنفون منها . فمنهم من كان يبيع اللباس، ومنهم من كان يبيع الادهان ، ومنهم من يبيع اللحم ، ومنهم من يبيع الاداة والماعون والسلاح ، ومنهم من يبيع الرقيق خاصة . وبالجملة كان فيهم باعة لكل الاشياء التي تدور عليها حاجة الإنسان المتحضر من صنوف الاكسية المعتادة ، وضروب الاطعمه والاشربة المعهودة ، وصنوف الماعون والاداة اللازمة، والمناقير المعروفة، والحيوانات المتداولة والاسلحة الشائعة . ولم تكن سوقهم تلك خالية من السماسرة ويقال إنّ عمر بن الخطاب الخليفة الثاني الشهير كان بزازا ويقال انه كان سمساراً كما انّ أبا بكر الخليفة الاول كان بزازا ( رضي الله عنهما ).

ومهما كان ذاك المجتمع أقلّ تشبتاً بالزخرف وأبعد عن التسابق إلى المتاع الزائد عن الحاجة نرى أنّ حاجاته التي تحتاج إلى عمل التجارلم تكن قليله ونرى أنّها وحدها كافية لأن يكسب بعضهم بواسطتها كثيراً من المال فالتجارة ولا شك هي السبب الاول في ثراء قريش وكثرة المثرين منهم لأنّنا لم نعهد لهم إلى ذلك العهد وجها من وجوه المرابح ونماء المال أعظم منها .

وأصناف الاموال التي كان الثراء بها عندهم هي الذهب والفضة ، والابل ، والرقيق ، والاراضي للزرع والفراس ، والاراضي للمعدن ،.

أما الذهب والفضة فهما الواسطة العظمي في تبادل العروض والاعيان

ص: 74

ومن مطالعة أخبار القوم يظهر أنّه كان لديهم منهما شيء كثير . من شواهد ذلك قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) « ان صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه » ومن شواهد ذلك أنّه بعد أن ظهر الاسلام وانقسموا قسمين أحدهما مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في دار هجرته ( المدينة ) والآخر عدوّ له في وطنه (مكة) أدّت تصاريف العداوة إلى اشتعال حرب بين الفريقين في المحل المسمى ببدر بين مكة والمدينة فكان الظفر لاصحاب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ووقع في أيديهم من عشيرتهم سبعون أسيراً افتدوا أنفسهم ووزنوا في فدية الواحد أربعة آلاف درهم فتكون الجملة نحو مائتين وثمانين ألف درهم أي نحو عشرین قنطاراً مصريا من الفضة ولم يحدث في ذلك البلد الصغير أقل ضيق من هذا المقدار الذي وزن أهل كل أسير منه ماعليه . وما هو بالمقدار الكبير ولكنه يدل بالجملة على وفرة هذه الدراهم وتيسرها عند القوم. ومنها ما ورد من أنّهم انفقوا على حرب النبي في أُحد رمح العير التي جاء بها ابوسفيان من الشام وقدره خمسون الف دينار .

وكانت النقود التي يتداولونها من ضرب الروم غالباً وبعضها كروي ولكن لم يكونوا يتداولونها إلّا بالوزن ولعلّ ذلك لعدم اتقان ضربها على وتيرة واحدة وقد ظلّت النقود الأجنبية إلى أيام عبد الملك بن مروان فهو الذي أحدث النقود المكتوب عليها بالعربية .

وأمّا الابل فهي أوفر أصناف أموالهم والابل مال كثير البركة لصاحبه فالقليل منها فيه الغنى والغناء، والنعمة والهناء ، من درّها الغذاء ، ومن أوبارها الكساء ، ومن جلودها الماعون والحذاء، ومن بعرها الوقود

ص: 75

للطبخ و كشف الظلماء ، وظهورها مراكب للظعن والحمل والنجاء ، (1) وبطونها أعظم بها واسطة للنماء ، فبعيشك أيها المطالع ! في أي صنف من أصناف الاموال الحضرية يجد أحدنا مثل هذه البركة، التي لا تحتاج إلى شيء عظيم من الحركة ؟

وأما الرقيق فقد كان في ذلك العهد يعدّ مالاً في جميع جهات الارض وكان هؤلاء القوم من أغنى الناس في الرقيق و إذا صرفنا النظر عن استهجان هذه المادة نرى أن لا شيء أنفع من عمل الآلة المتحركة بنفسها ، النامية بطبيعتها ، المدركة بخلقتها ،

وأمّا الاراضي للزرع والفرس فكان فهم أفراد يملكون منها كثيراً ومن متمولي قريش من كان يملك اراضي في الطائف كعتبة وشيبة ابني ربيعة (من فخذ بني عبد شمس) وغيرهما .

وكان نظر القوم الى الزرع والضرع أعظم من نظرهم الى الذهب والفضة فقد سئل بعضهم عن الذهب والفضة فقال حجران يصطكان إن أقبلات عليهما نقدا، وان تركتهما لم يزيدا، ان أفضل المال برة سمراء ، في تربة غبراء، اوعين خرّارة ، في أرض خوّارة ، أشار بهذه الكلمات القليلة إلى أنّ الموجب لنماء الثروة هو العمل في استخراج الخيرات الطبيعية من الارض التي هي اول رأس مال أمّا الذهب والفضة المتداولان فواسطة لوزن حركات دولاب الاعمال فقط. وهذا هو الأس الصحيح في علم ثروة الامم .

واما أراضي المعدن فالظاهر أنّ بعضها كان مشاعا و بعضها كان مملوكاً اما كون بعضها مشاعاً فنأخذه من عادة العرب في جاهليتهم من أنّهم لم

ص: 76


1- التجاء الهرب

يكونوا خاضعين لمثل سنن البلاد التي فيها ملوك . والمعادن إنّما يجعل لها حمي وحرماً الملوك الذين يعدونها من جملة الاموال العمومية التي هي حق للخزانة العمومية خزانة المملكة . واما كون بعضها كان مملوكاً فنستفيده مما قرأناه عن ملك بعضهم لبعضها كالحجاج بن علاط السلمي (1) الذي كان يملك معادن بني سليم . وكأنّهم لشيوع ملك بعض الناس بعض المعادن كان من الناس من يطلب من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد الفتوح أن يقطعه شيئاً منها فقد طلب بلال بن الحارث أن يقطعه معادن القَبَليّة (منسوبة إلى قَبَل بفتحتين) وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة ايام فأقطعه أياها وأقطعه جبل قدس (2)للزرع .

هذه هي أصناف الاموال التي كان بها ثراء هؤلاء القوم يضاف إليها العروض والامتعة التي كانت تتداول في التجارة وإلى مثلها يؤول اليوم كل ثراء فإنّ ملك الارض والمعادن لا يزال ايضاً ينبوعاً ثرورا للثروة ، واستخدام الفعلة بأجر بخس نوع من الاستعباد والاسترقاق اعني أنّ فائدته المادية كفائدته ، والنقود لا تزال كثرتها وقلتها ايضا معيارا

ص: 77


1- الحجاج بن علاط ليس بقرشي بل هو من بني سليم ولكنه كان متزوجا من قريش «من بني عبد الدار رهط خديجة » وكانت أمواله تستثمر في مكة وكان مكثراً من المال . أسلم يوم فتح خيبر ثمّ جاء إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال له أنّ لي ذهباً عند امرأتي « في مكة » وأن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي فائذن لي لأسرع السير واخبر أخباراً اذا قدمت أدراً بها عن مالي ونفسي فأذن له النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقدم مكة وأخذ أمواله بحيلة .
2- جبل قدس معروف في جوار المدينة

عظيماً لثروة الاسم، وعلي مقدار ما تقدم كله يكون محور التداول للعروض والامتعة والاثاث والرياش .

وقد كان من لا يستطيع أن يباشر التجارة بنفسه أو السفر من أجلها يعطي من ماله إلى آخر على أن يتجربه ويكون الربح بينهما أو يعطيه بالربا وكان معهوداً فيهم أو يستأجر آخر ليقوم له بتجارته والامانة هي الغالبة فلم يكن بأس على المال بتسليمه إلى من يتجر به بالمؤاجرة أو المضاربة فلذلك لم تصعب التجارة على السيدة «خديجة » التى كان لها ما لنساء قومها من الاستقلال في أموالهنّ، ولم يكن لأبيها ولا اخوتها سلطان في ذلك المال الذي كانت تبعث به إلى التجارة مع ذوي الامانة ذاهبا وآيبا .

وفي إيثار هذه السيدة إرسال أموالها في التجارة على الاتجار بالنقود في مكّة كما يفعل المرابون دلالة على بعد نظرها ، وعلوّ همّتها ، وعظيم عطفها وحنانها على وطنها ان الأوطان تسمو باقدام أرباب اموالها علی نشر اسمها في العالم بالبيع والشراء واظهار صنوف الثراء، ولا يكون لها مثل ذلك بشيوع المتاجرة بالنقود

ص: 78

الفصل التاسع -زواجها قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم

تزوجت خديجة قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم) مرتين تزوجت أبا هالة النبّاش بن زرارة وتزوجت عتيق بن عابد المخزومي. وكان الزواج المرضي في الجاهلية كالزواج في الاسلام أي انّ الرجل يخطاب إلى الرجل بنته او من له عليها ولاية ويقدم صداقها فيزوجه . واما ما يذكر من أنواع أنكحة الجاهلية الاخرى فهو من باب السفاح لا من باب الزواج المرضي ولم يكن السفاح والمخادنة من فعل الشرائف والكرائم، وإنّما يفعل اغلب ذلك الإماء والحقائر .

و ولدت هذه السيدة ولداً من أبي هالة وسمته «هنداً»، على عادة العرب اذ كانوا يضعون للذكور احياناً أسماء الإناث فهند هذا هو ربیب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخو فاطمة لأمّها عليهما السلام وقد عاش وأدرك الاسلام وأسلم. روى عنه ابن اخته الحسن بن علي حديث وصف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المشهور في الشمائل وكان هند وصافاً وحديثه هذا أبلغ ما وصف به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد قتل هند مع علي يوم الجمل .

سيعجب القارىء من زيادة تعريفنا لإبنهاها هذا ونحن لا نكتمه السبب وذلك أنّنا نحبّ ان لا ندع شيئا مما يتعلق بسيرة هذه السيدة مغفلاً ومهملاً ولا سيما بعداذ رأينا أكثر الذين كتبوا في سيرتها لم يتعرضوا لذكر ولدها هذا فكاد يضيع ويخفى إلّا علی المنقبين في بطون الاسفار الواسعة وعذرهم

ص: 79

في ذلك انّهم إنّما يتعرضون لسيرة هذه الفاضلة على الغالب منذ تشر فها بزواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) .

وانّ لنا - والحق يقال -حقاً على هؤلاء الناس الذين يريدون أن يعرفونا بشخص ممّن مضى فيمسكون أنفسنا بالشيء من أخباره ثمّ يقطعون ويجذبونها إلى شيء آخر .

على أنّني لا أنكر أنّه اذا علمت الشمس لا يبقى لبصيص السراج مكان. فمن ذا الذي يعلم أنّ هذه السيدة اتصلت بشمس الهدى « محمد » صلى الله عليه وسلم وولدت منه «فاطمة» الزهراء أمّ الحسنين ثمّ يرجع باحثاً عن إبنها ذاك من زوجها الأول ابي هالة ؟

لعمرك إذا وصلت بسیرتها إلى هذا المقام تضاءلت امام نظرك كلّ ما تسمع عن أيامها الماضية واستشرفت نفسك إلى الاطلاع على هذا الشأن الجديد الذي سيكون لهذه السيدة مع هذا الزوج الكريم الذي رنّ الكون كلّه باسمه الشريف.

فمن هنا بدء الحياة العليا لهذه السيدة ، ومن هنا بده خلود اسمها في لوح الوجود ، وبدء إشراق مواهبها في سماء السعود ، أمامها الآن الشمس بلا حاجز ، فليستمد جوهرها القابل، وليفض نوراً وسناءً ، وليتبارك كمالاً وبهاءً

ص: 80

الفصل العاشر -محمد ( عليه الصلاة والسلام ) قبل نزوج خديجة

وإذا العناية صاحبت مرءاً *** فلا تكثر سؤالك فيه كيف ولِمَ وما

ودع التردد إن أتاك حديثه ***مهما حوى مهما نما مهما سما

لا تسأل كيف أبدع الإنسان من فتق الكواكب من رتق موادها، و قدر مدارات لحركاتها ، ونظامات لتقابلوا ، وأنشأ منهنّ المقسّمات ليلنا ونهارنا ، المدبرات صيفنا وشتاءنا ، الناظمات في أحشائهنّ شملنا ، المادّات بنسائمهنّ نسماتنا ، وبأرواحهنّ كياننا ، ولا نسأل لّمَ خلق لنا الأرض جميعاً نشرح أحشاءها ، ونقطع أوصالها ، ونستخرج أفلاذها ، قد حصرناها على عظمها في یدنا ، وحشرنا كلّ ما فيها في ذرات صغيرة من دماغنا ، إن شئنا رفع من شأنها بما نركّب من أجزائها، فيأتي منها من البدائع ما يدهش ألبابنا ، ويسحر أبصارنا ، وإن شئنا لم نعبأ بها ، واستشرفت نفوسنا إلى غيرها ، فاطلعنا إلى مصادر الأرواح ومواردها ، ومشارق الأسرار ومغاربها، وارتفعنا إلى ينابيع الأكوان ومظاهرها ، وتلمسنا ثمة حياة لا نحتاج فيها الى ماء الارض وهوائها، وترابها ونارها .

ولا تسأل كيف تقاربت صورنا معشر الإنس وتباعدت حقائقنا ، ولم طالت امالنا وأعمالنا ، وقصرت آجالنا وأعمارنا ، ولم جشمت نفوسنا بتكثير الصور ثمّ شغفت كل نفس بأنواع منها ، وتخالفنا في تمييزها وترجيح

ص: 81

بعضها على بعض ، وتدابرنا في مناهج طلابها ، وتقاطعنا في سبيل اكتسابها ، ولم هذا البون في أنصبائنا ، والفرق في مرامينا ، والبعد في مدارجنا ، والغين فى معارجنا ،

ولماذا منا أناس مع الكواكب مداركهم سابحة في أفلاك الحقائق، وبروج الرقائق والدقائق، ومع الأنوار سيرهم منتشرة في سابق الدهور ولاحقها، بادي الشعوب وحاضرها ، وآخرون مع الديدان مشاعرهم دابّة بين أوراق الآجام وأحطابها ، أو تحت دخان القفار ونقعها ، ومع العصف صورهم منطوية في احشاء الاواكل ، ومندرجة في الاواخر مع اخوانهم الاوائل .

لا تسأل عن هذا كله إن كانت نفسك قد وقفت عند مطمأنها من معرفة الاول الآخر ، الظاهر الباطن ، ذي الحياة الازلية الساري سرها في الاكوان والوجودات ، البادي خط جلالها وجمالها على لوح الآيات البينات ، من الاشكال والتنوعات ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ

ص: 82

اذا وقفت نفسك عند هذا المطمان من المعرفة فلعلّها تصل بك إلى معرفة أنّ ذا الحياة الازلية ذو حكمة ليس في وسع استعدادنا أن نحيط بأسرارها خبراً مهما حامت حولها آمال مداركنا ، ومهما طافت في سوح قدسها صوافي سرائرنا ، فأخلق بأحدنا أن يتذكر فى هذه المسامح الفكرية عجز أجنحة عقولنا عن أن تصل بنا إلى ما دون هذا السر الاعظم، ووقوعها بنا في كثير من أشراك الاوهام في الوجودات التي هي تحت حسوسنا ، وفي جوار جسومنا ونفوسنا .

وعسى أن ترقى بك هذه المعرفة إلى الاذعان بأنّ هذا الحي الازلي الحكيم ذو عناية ربانية لا يحاسب على ما يختص بها ممن يشاء فله الامر كله فيما يبدي، ويصور، وله الحكمة فيما ينوّع ويميز ، منه كل شيء واليه المآب .

و إن كنت في ريب من الحكمة الازلية، والعناية السرمدية، فدع نفسك واقفة ماشاءت في عتمة النفي ، أو دائرة في سجن الشك ، أو طائرة في جو الوهم لاقرار لها . وإنّما نحكي هنا للذين هم بربهم يؤمنون .

***

سبق في العناية الازلية أن تكون هداية شعوب كثيرة إلى أقوم سبل الحياة على يد رجل من العرب يرتفع به اسمهم في العالمين وكان من هذا الشرف الذي أعتده الله للعرب أعظم نصيب لعبد المطلب الذي أخرج الله انسان هذه الهداية من أولاده .

كان عبد المطلب (1) من كبار أشراف قريش ورزق عشرة أولاد

ص: 83


1- اسم عبد المطلب شيبة ولتسميته بعبد المطلب حكاية وهي أنّ أباه هاشماً كان قد تزوج أمه من بني النجار في « یثرب » ( المدينة ) فلما ولدته تركه عندها حتى كبر وكان هاشم تاجراً خرج بتجارة إلى الشام فمات في «غزة » فذهب أخوه المطلب بن عبد مناف ليأتی بابن أخيه فأبت والدته أن تعطيه إيّاه حتى أقنعها بأن اقامته في بلدته وبين قومه وعشيرته خير له ولما جاء به كان مردفه خاصه على بعير فظنت قريش أنّه عبد ابتاعه فقالوا عبد المطلب وقال لهم المطلب ويحكم إنّما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة ولكن ذاعت كلمة عبد المطلب فاشتهر بها وصارت كأنّها علم له .

من الذكور وكان ابنه عبد الله أحبّهم اليه فزوّجه شريفة من شرائف قريش من بني زهرة تدعى آمنة فحملت منه وقبل أن تضع حملها توفّي فلمّا وضعت كفل وليدها جدّه وكان هذا الوليد المبارك محمداً صاحب القرآن .

فما أسعدك ياعبد المطلب أكنت تدري وأنت في أبواب أبرهة الحبشي تتطلب منه رد ذلك القليل من الإبل الذي لك مما استاقه من إبل مكة أن سيولد لك في هذا العام حفيد تنثني أعناق الملوك في الاجيال المقبلة خاضعة لذكره .

أكنت تفكر اذ قصارى أملك حفظ مقامك بين قومك المنقطعين في تلك البرية ان اسمك سترن به المحافل في الامصار النائية والشعوب المختلفة على مدى عصور تشيرة كلّما اذكر نسب حفيدك العظيم الذي أعتده الله لمنصب يتبعه من أجله العالًم ويبقي ذكره فيهم إلى الابد .

أخطر على قلبك أنّ بلدك المقدس الذي لم يكن يحج اليه إلّا العرب ستحجّ اليه كل شعوب الارض اتباعاً لما جاءهم به حفيدك من الهداية .

أجاء في خلدك ان كنّتك آمنة الزهرية إنّما ولدت من يشرف الله به قومك ويجمع به كلمتهم ويعلي سلطانهم وينشر لفّهم ويقيم لهم مجداً مع الدهر مذكوراً، وفي كتاب العالم مسطوراً

ص: 84

هل كنت ملهما اذ سميته محمداً؟ ؛ وكنت على رجاء كبير بأن يقيم له العالمون تحميداً لا ينقطع ، وتجيداً لا يزول ؟

أعرفت أنّك بحفظك هذا اليتيم وكفالتك ايّاه وعنايتك به إنّما كنت تحفظ للعالم كله التحفة التى أتاهم الله من كرمه ، والوديعة القدوسية التي اختص الله بيتك لظهورها، وقومك لانتشار مبدأ نورها .

فأنت بما أوتيت من هذه السعادة الخالدة جدير ايها المخصوص بعناية الحي الأزليّ ، فليدم ذكرك جمالاً للمحافل واسمك سامياً مع اسم حفيدك نبيّ الشعوب وبركة العالم .

***

كانت ولادة محمد في القرن السادس من ميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام أی حوالي سنة سبعين وخمسمائة منه وحوالي السنة الثامنة والأربعين من ملك كسرى انوشروان . ولم يكن قومه يعرفون سنیّ الامم ، تواريخها ولا سنيّ انفسهم وإنّما كانوا يحفظون الأعمار ويوقتون آجال الأشياء بالوقائع الشهيرة والحوادث العظيمة كما هو شأن الاميين إلى عهدنا .

ولد عام الفیل وهي سنة اشتهرت بهذا الاسم لوقوع حادثة فيها عندهم تدور صفوة حكايتها على حرت فيل القائد النجاشي و ابائه المسير تالماء مكة لذلك سميت بهذا الاسم. وحادثة الفيل شديدة الشهرة ويصحّ أن نقول انّها من التاريخ المقدس عند المسلمين أي إنّها ذكرت في القرآن ولكن على اسلوبه في القصص التي يذكرها لاجل العبرة فقط لا على أسلوب المؤرخين ونبلة الاخبار.

وقد أعطي المرضمة على عادة قريش في اعطائهم الأولاد للمراضع من القبائل النازلة قرب مكة ابتغاء أن تتربى أجسامهم في البادية حيث الارض النظيفة قد كسيت من الازاهر أبدع النمارق الطبيعية ، والنسائم

ص: 85

متحملة من ذلك العبير تهديه الى النفوس رائحة وغادية .

***

اذا بزغ رأس النهار أرسل إلى أفئدة أهل النشاط روحاً مبشراً بطيب عقبى العمل، وسوء منقلب الكسل ، وكأنّ بينه و بين سكان البراري وساسة الأنعام عهداً أن لا يقبل بطاعته الباسمة الا وهم . ستقبلوه بالتحيات الطبيبات من مباسم هممهم و ثغور اجتهادهم، ورافعون إليه آيات الشكر على ماله من الايادي البيضاء في اخضرار عيشهم، وابيضاض وجوه آمالهم

یزغ الفجر يوماً على نسمتين في أباطح تهامة قد أسفر عليهما البشر، ونفذت الغبطة من أعماق جوانحهما إلى أسارير وجهيهما، ولم يكن ذلك الانس والبشر لما حولها من مجالي عرائس الطبيعة لأنّ السماء كانت شحيحة عليهم تلك السنة فلم تترع حياضهم، ولا أونقت رياضهم، ولو لم يصن الوادي لهم القليل مما أغيثوا به مرة لقتلهم الظلماً - ولا لما حولهما. من وافر الرزق وسابغ النعم لأنّهما لم يكونا يملكان إلّا غنیمات قد جارت عليها السنة، وقتلها الجهد والجدب، ولكن كان ذلك السرور بنعمة جديدة أصاباها فلاتهما فرحاً، وأشبعتهما ابتهاجاً، ولم يكونا يفتران من هذا الحديث الذي كانا يتغذيان به صباح مساء ، ويجددان به شکراً على هذه النعماء ، وهذا ما كانا يحدثان به :

- حقاً يا حليمة انّك قد جئتنا بتحفة سنية ونسمة مباركة

- أي والله يا حارث وانظر ما أجمله ، انظر إلى هذه الاشفار الهدب ، انظر إلى هذه العيون الدعج ، انظر إلى هذا الجبين الأزهر، انظر ما أبهى انعکاس هذا الضياء المقبل من الشرق على مرآة هذا الجبين .

كان هذا الحديث يجري بين امرأة وزوجها من قبيلة بني سعد صبيحة يوم كانا قبله في مكة وكانت هذه المرأة هي التي جاءت بحفيد عبد المطلب

ص: 86

لترضعه وقد حدثت هي حدیثها كيف جاءت به و کیف رأت من برکته قالت :

خرجت مع زوجي وابن لي صغير على أتان لي قمراء (1) معنا شارف(2) لنا والله ما تبض بقطرة وما تنام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثدییّ ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه ، ولكنا كنّا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت (3) بالركب ضعفاً وعجفاً حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلآ وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها انّه يتيم وذلك لنا إنّما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فکنّا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت إلّا أخذت رضيعا غيري فلمّا أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي « والله إنّی لأكره أن أرجع من بين صواحى و لم آخذ رضيعاً و الله لأذهبنّ إلى ذلك اليتيم ولأخذته» . قال لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ، قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على اخذه إلّا إنّي لم أجد غيره . قالت فلمّا أخذته رجعت به إلى رحلي فلمّا وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتي روي وشرب معه أخوه حتى روي ثمّ ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا انّها حافل (4) فحلب منها ما شرب و شربت معه حتى انتهينا ريا و شبعاً فبتنا بخير ليلة قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله یا حلیمة قد أخذتِ نسمة مباركة قالت فقلت والله إنّی لأرجو ذلك. قالت ثمّ خرجنا و ركبت أتاني وحملته عليها معى فوالله

ص: 87


1- القمرة بالدم لون إلى الخصر أو بياض فيه كدرة حمار أحمرو أتان قمرا
2- الشارف الناقة المسنة
3- أذمت بالركب أي حبستهم لانقطاع سيرها من عجفها أي هزالها وضعفها
4- حافل كثيرة اللبن

لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى أنّ صواحبي ليقلن لي «يا ابنة ابي ذؤيب ويحك اربعي علينا (1) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟» فأقول لهنّ بلى والله إنّها لهي . فيقلن «والله إنّ لها لشأناً

قالت ثمّ قدمنا منازانا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً فتحلب ونشرب وما يجلب انسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعياتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب . فتروح أغنامهم جياعاً ما تبضّ بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبناً فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شباباً لا يشبه الظمأن»

فيالك من سعيدة يا حليمة إذ كتب لك ارضاع اليتيم الذي تربيه العناية الخاصة ولم يكشف لك من آثارها إلّا هذه البركة التي ملأت بينك و ويلکن أيتها المراضع الغبيات المعرضات عن اليتيم التماساً للرضعاء الذين لهم آباء . لقد فاتكن الحظ وما الحظوظ بالاختيار، وعزاء لكم أیها اليتامى فقد عاش محمد العظيم يتيماً

***

بعد ان ربّي « محمد » (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بني سعد عند السعيدة حليمة جيء به إلى أمه فذهبت به وهو ممتلئ قوة وهو ابن ست سنين إلى المدنية لتزيره اخواله من بني عدي بن النجار وفي عودتها إلى مكة توفيت في مكان يسمی الأبواء . وكان عبد المطلب شديد العناية بحفيده ويتوسم فيه علو الشأن فلمّا بلغ الثامنة من عمره ودّعه مفارقاً هذه الدار وأودعه لدى الجناب الآلهیّ الذي من لدنه واردات البر والبركات اليه ، ونوافح الرأفة والحنان عليه،

ص: 88


1- أربعی أی ارفقي واقتصري

وقام مقامه ابنه ابو طالب شقيق عبد الله ابي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فادخله في آل بيته وتعهد تربيته وتثقيفه .

وكان أبو طالب امرءاً نبيهاً شهما صادق المروءة، ماضي العزيمة، نصاراً للعدل والانصاف . عرفنا كل ذلك فيه من تكليفه نفسه اقصى ما يمكن أن تكلف النفس في حماية ابن أخيه لما قام بالدعوة ومن مواقفه أمام قريش في نصره والذود عنه. وقد خلف ابو طالب أباه عبد المطلب في المقام السامي بین قومه فكان ابن عبد الله يتنقّل في بروج العزّ والسؤدد والسعادة في آفاق الشرف الهاشمي، وتنطبع في جوهره الكريم صور البر والعدل والإحسان على مثال الخلال الشريفة التي كان يتحلّي بها ذلك الرجل السامي التربية (أبو طالب) .

نحن قد رأينا من آثار العناية الازلية بذلك اليتيم العزيز ما يصحّ القول معها انه كان مستغنيا عن تربية أحد ولكن لماذا لا نقول إنّ إعداد ذلك العم الفاضل لتربيته في الصغر كان من جملة آثار العناية الفائقة به .

أما تربيته اياه التربية الجسدية فقد كانت على غاية ما يتصور علماء الصحة ولذلك جاء من آثارها قوة جسدية لهذا المبارك لا نظير لها وصار على صورة من الجمال كانت تجعل الذين يرونه يقولون لم نر مثله . ولا يتم الجمال إلّا بصحة البدن وهي إنّما تمّ بحسن التربية الجسدية .

و اما تربيته اياه التربية العقلية فكانت جديرة أن يسجد أمامها فلاسفة النفس وأساطين العقل وهناك من آثارها قبل النبوة ما يجعلنا في حيرة من أمر هذه القبيلة الصغيرة المبتعدة في دارها عن مناشى الارتقاء العقلي ، ومناجم الإشراق الفكري ، لا كتب يدرسونها ، ولا قوانين للمعارف يرتبونها ، ولاشيء إلّا غرائز طيبة يتوارثونها، وقواعد عامة يتناقلونها، وحصافة أوتوها

ص: 89

في نقش أصحّ التجارب في المدارك، والاحتفاظ بأثبت الفوائد في الذواكر ،

وكذلك يفعلون في التربية الأخلاقية ينشئون الذرّية على دروس المشاهدة في مدارج العمل ، ودروس القصد والاعتدال في معارج الأمل، فيأتي من تلك السلائل التي لم تلحقها عدوى الاجيال الفاسدة نوابغ في العقول والاخلاق، أفذاذ في الهمة والاعمال، بطبع من المربين ، ونقش من المثقفين ، وذلك كأنّ شأن أبي طالب ودأبه مع ابن أخيه العزيز ، وريببه النجيب ،

نشأ «محمد» (صلوات الله عليه) في أمثل التربية بأنواعها كلها على يد ذلك الفاضل العظيم فجاه منه رجل أحسن الناس خلقاً وخلقاً ، أذكاهم عقلاً ، وأزكاهم نفساً ، وأصدقهم لساناً ، أنداهم في العرف يداً ، واثبتهم في الأزم قلباً ، أرحمهم للضعيف، وأشجعهم على القوي ، أبرهم للقريب ، وأعد لهم للبعيد ، أقربهم إلى المعروف سمعاً، وأبعدهم في الامور نظراً ، أسدهم رأيا ، وأشدّهم اقداماً ، ألينهم للصاحب جانباً، وأكرمهم للخير صاحباً، وحسبك أنّه عرف منذ صباه بالأمين وما زال على هذا المنوال حتى أكرمه الله بذلك المنصب العظيم فزاده جمالاً وجلالاً وكمالاً والله أعلم حيث يجعل رسالته .

نشاء ذلك المربي على كل ما يزين الرجال من الاعمال فلما كان ابن اثنتي عشرة سنة سار به إلى الشام وكان أبو طالب تاجراً فأوقفه في هذا السفر على ما تكن الارض وتعلن من طبائع الاقاليم المتغيرة ، وأحوال العالم المتحولة ، ففي طريقهم من مكة إلى الشام منازل أمم كانت فبانت . كانوا على وجه الارض جمالاً لها فلمّا فسقوا عن السنن التي تحيا بها الامم شالت نعامتهم طرا، وطارت نعمتهم جميعاً ، وأصبحوا كأن لم يكونوا « فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلّا قليلا» وفي رؤية أمثال هذه المنازل الخاویة

ص: 90

أو المنتقلة إلى غير أهلها عبرة عظيمة هي أجل ما في السفر من الفوائد. ولقد كان فيما أوحي إلى هذا المنعم عليه بعد أن صار نبيّاً قوله سبحانه «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ».

وفي طريقهم هذه أوقفه عمه على قرى الشام ودساكرها ، ومزارعها ومصانعها ، ومتاجرها وحكومتها ، وأراه كيف يكدح الناس جميعاً ليأكل نفر منهم خبزه بعرق جبينه ، وليتمتع نفر آخرون ثمرات تلك الارض الطيبة ، ونفائس ما تعمله تلك الايدي الثقفة ، وكيف يعمل هذا لهذا في الاجتماع ليتم قوامه، ويحفظ نظامه .

ومرّ به على الاديار والصوامع حيث ينقطع نفر آخرون عن المزاحمة في هذا الحطام الزائل ، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الذي يليق بالروح الغريبة في هذا الهيكل الجسماني غير ممدودة أيديهم إلى شيء من هذه الارض إلّا إلى ما يقي البدن من جوع وعري وذلك يتيسر ببعض حبوبها وأعشابها ، وبعض أصواف حيوانها وأوبارها .

في بعض تلك الأديار في «بُصرى » وقف به على الراهب «بحيرا » وكان على حظ عظيم من علم الفراسة أو الكهانة فأنبأه بما سيكون لإبن أخيه من الشأن العظيم وأوصاه بمزيد العناية به .

وفي هذه السفرة مراته على أساليب التجارة ، وأطلعه على ضروب البضاعة ، وصنوف الاداة والماعون التي يتعاطى النجار تبادلها وكيف يحمل كل منهم من بلده مالا يكون في غيره ثم يحمل إلى بلده ماليس فيه وكيف

ص: 91

يكون لهؤلاء الوسطاء في نقل حاج الناس من الفضل العظيم في ترقية البدائع الانسانية ماليس لغيرهم .

فناهيك بما ملأ به أبو طالب ذهنه في هذه السياحة التجارية من صنوف المعارف وأنواع التجارب وفي درس كهذا من فوائد التربية العملية ماليس في ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية .

ولما كان ابن أربع عشرة سنة أحضره معه في حرب الفجار وهي حرب هاجت بين قريش وبين قيس فرأى فى هذه الواقعة كيف تسبّأ الصفوف ، وتتقابل الابطال، وكيف يصبر الشجعان وان أودى بهم الصبر إلى حتفهم، وكيف تكون نتائج الصبر وحسن التدبير في الحروب، وكيف عاقبة الذين تنقطع قلوبهم جبناً، وتخور عزائمهم جزعاً .

ولم يباشر في هذه الحرب قتالاً وإنّما كان ينبّل على أعمامه أي يناولهم النبل أو يرد عنهم النبل . وكان ذلك كافيا لتمرنه على مواطن النزال، ومواقف النضال ، وليس یخاف أنّ الاخذ بيد الناشيء إلى معارك أبطال المبايعات ثمّ معارك أبطال المقابلات والمقاتلات ، هو أعظم الوسائل التي تجعله أهلاً للمقامات العلى بين الرجال، حتى اذا أتاحه الله للاخذ بقوم الى سوح العز والسؤدد والصلاح والفلاح، كان نعم الدليل الهادي، ونعم السائق والحادي.

فلما بلغ خمساً وعشرين سنة عرضت عليه سيدتنا « خديجة» أن يخرج في تجارة لها إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار وأشار عليه عمه بقبول ذلك وطلب له أضعافاً فرضيت وسار بتجارتها مع الركب إلى الشام ومعه عبد لخديجة اسمه « ميسرة» فلما رجع بالبضائع إليها باعتها فريحت أضعافاً و كان هذا بدء تاريخ جديد للسيدة «خديجة » معه

ص: 92

الفصل الحادى عشر -(الحب الشريف )

إنّ أشرف السير سير أهل الفضيلة وما الفضيلة إلّا من خصائص النفوس فمن كان من عشاق الفضائل حسن به أن لا تفتر نظرات بصيرته إلى النفس فهي مستقر الخوارق ، ومستودع العجائب .

النفس مجلى الآيات الكبر، ومهبط الفيوضات العلى، والمرآة العظمى التي ينكشف بها الازل والأبد، والمطبعة العظمى التي ترتسم بها الاشياء وتكثر الصور ،

هي السلك الممدود بين مبدع الطبائع ، ومقيم الشرائع، وبين الجواهر المتألفة الصامتة ، والظواهر المسخرة المطيعة ، فهي خليفة عليها، واقفة على خطواتها ، مشرفة على حركاتها ، وهي مجذوبة من طرف إليها بجاذبية الانس والعادة ، ومجذوبة من طرف آخر إلى مصدر بوارقها بجاذبية الحب والشوق ، فبانجذاب النفس إلى الظواهر تأخذ الظواهر حظها من الانكشاف ، وبانجذاب النفس إلى مانح الظهور تأخذ النفس حظها من الشهود والاشراف، فيحق لها في الحالتين أن تتمجد بما میزها به فاطرها تباركت عظمته ، وتعالى شأنه ،

أعظم خصائص النفس الحب والبغض بل إنّ هاتين الطبيعتين المتضادتين أعظم نواميس الاكوان والوجودات كلها، لكن اختلفت

ص: 93

المحبات ، وتباينت الاشواق ، وأوتيت النفس الانسانية أعظم نصيب من هاتين الطبيعتين لاتساع المحيط الذي تدور فيه، ولإتصلها بعالم الحس وعالم الغيب، وترددها بالانجذاب بينهما فهي ان وقفت يوماً مع الظواهر أنست بها فعشقتها لما رش عليها مبدعها من الحسن الذي هو وصفه ، وان ارتفعت إلى المبدع دهشت فتولهت فتدلهت لما هنالك من المجالي الازلية التي تطير السرائر شوقاً إلى التمتع بها .

الفضائل والرذائل، الخيرات والشرور ، الحزن والسرور ، الرغبة والرهبة ، الاقدام والاحجام ، الكسل والنشاط ، الارتفاع والهبوط ، كل ذلك من مبتدعات الحب والبغض وآثارهما. وكل درجة من هذه الاشياء فإنّما هي على مقاييسهما ، هما بالاختصار ركنا السعادة والشقاء فمن هدي إلى تصريفهما والجري بهما على سنة مثلى فقد أهديت إليه السعادة وأوتي بالحب الشريف والبغض الشريف حظا من الخير عظيما .

***

كانت السيدة « خديجة » ذات قلب طاهر والقلب الطاهر مركز الحب الشريف فماذا أحبت سيدتنا هذه كان قلبها توّاقاً إلى معالي الأمور، عظيم الشنف بمحاسن الاخلاق ، وقد أمد الله فطرتها امداداً عظيما فقويت معرفتها بالمكارم ، وعظم علمها بأنّ الفضائل هي التي تليق بالانسان سواء وقفت نفسه مع هذه المحسوسات أم أرادت أن تتدرج في زمرة عشاق المجالي الازلية .

عرفت هذه السيدة صلة النفس الانسانية بمن منه انشقت أسرارها،

ص: 94

وانفتقت أنوارها، فكان لها تشوّف إلى جود عظيم يفيض عليها من العناية الربانية، كما هو شأن ذوي السرائر الصافية، وحصل لها من هذه الحالة الطيبة قوة فراسة والفراسة نور، فكانت تهتدي بها فيما هي حائمة الروح عليه من الفضائل ، ومن أحبّ شيئاً أحبّ أهله من أجله، فلما عرفت ابن عبد الله ووجدت فيه ما يعشق من المزايا العملية، انتثرت حبَّة من تلك المحبّة الشريفة التي كانت بها تنشد المكارم فوقعت في محل من قلبها لتنبت شوقاً إلى هذا الرجل الصالح الذي ألفت المكارم كلها لديه، وأيقنت أنّ معرفتها هذا السعيد بمزاياه العظيمة ، هو أعظم الآثار التي كانت تتشوف إليها من لدن العناية المرجوة .

الآن وجدت محبة الفضائل والمحامد أعظم من تتجلى الفضائل والمحامد فيه فكيف ينفر منه قلبها بل كيف لا يميل اليه فؤادها ؟ فالامانة هو ذلك الشهير فيها وقد سبرته في متجرها فربحت بواسطته أضعافاً ، والشجاعة هو المنشأ فيها على يد عظيم الهمة أبي طالب، والنباهة هو الذي تسطع في محياه طوالعها، والحكمة هو الذي تقرأ في سيماه آياتها، والعفة هو ربها ، والمروءة هو مجمع شواردها، ومحاسن الخلقة هو النسخة الصحيحة منها، فأي الفضل تنشد بعد هذا مُحبة الفضل، وأي المحامد تريد بعد هذه مريدة المحامد ؟ كمال خَلق وكمال خُلق ، جمال شخص وجمال نفس ، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه من الشبان ، و وقار لم يحظ بأقله الكبار، وهمة لا تقف أمامها الصعاب وعزيمة لا تني أمام الثقال ، قوي شديد، حليم رشيد، كما يقول فيه عمه أبو طالب وهو به جدير :

فمن مثله في الناس أي مؤمل *** إذا قاسه الحكام عند التفاضل ؟

ص: 95

حلیم رشید عادل غير طائش *** يوالي إلها عنه ليس بغافل

لقد علموا ان ابننا لا مكذَّب *** لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تقصر عنه سورة المتطاول

فما أكثر غبطة السيدة «خديجة » اذ عرفت هذا السيد الجليل، وما كان أجدرها بأن يتعلق قلبها الطاهر به، وما أقوى نور فراستها اذ علمت انّه لا نظير له، و إنّ سعادتها لا تتم الابه، وما أحقها ان تفتنم الفرصة وتسبق إلى تزوج هذا الشريف الذي جمع إلى شرف النسب شرف الخلال

الفصل الثاني عشر -تفاؤل هذا وقته

كانت الكهانة شائعة في ذلك الزمان كما هو شأنها في كل الازمنة إلى زماننا هذا وكان علماء التوراة ينبئون دائما بظهور نبي منتظر وبعضهم كان يقول إنّه سيظهر من العرب. والراهب بحيرا تفرس بابن أخي أبي طالب إذ كان معه صغيراً وقال له: سيكون لإبن أخيك هذا شأن : ولم يكن بعيداً عن المألوف أن يخبر بعض الناس بالمغيبات ولكن لم يكونوا يصدقون كل شيء من هذا القبيل ولا يكذبون كل شيء كما هو الشأن في أهل زماننا أيضاً .

وقد كثر التكهن قبيل ظهور النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولكن أكثر الناس لم يكونوا يبالون بتلك الاخبار لأنّهم تعودوا أن يروا شيئاً من كذب الكهانة مع مصادفة صدقها أحياناً فلم تكن الثقة بها في الحقيقة تامة ولا سيما في الامور العظيمة .

ص: 96

وبينما نساء من قريش مجتمعات في عيد لهنّ في الجاهلية اذ تمثل لهنّ رجل فلما قرب نادى بأعلا صوته: يا نساء أهل مكة سيكون في بلدكنّ نبي يقال له أحمد فمن استطاع منكنّ أن تكون زوجاً له فلتفعل، فكذبنه ورمينه بالحصى وكانت فيهنّ « خديجة » فلم ترمه كما رمينه .

لم يكن هذا المنبيء كاهنا معروفا فلذلك احتقره النساء لأنّهن لا يعبأن في الغالب الاباهل الشهرة . ولكن كان قومهنّ يعتقدون بالهاتف وهو على اعتقادهم روح ينطق بالشيء من حيث لا يرى أو يتمثل بصورة بشرية فيقول قولاً من هذا القبيل ثمّ يغيب فكأنّ السيدة «خديجة »، اعتقدت أنّ هذا المنادي هاتف فلم ترمه كما رماه تراثيها ولعلّها صداقت إذ ذاك وتفاءلت خيراً ورجت أن تكون صاحبة هذ الحظ .

وان صحّ ظننا هذا بالسيدة كان لنا دليل جديد على عظيم تطلعها إلى بركات الجناب القدسي فإنّ الرغبة في تزوج المنعم عليهم بالنبوة لا تعظم إلّا من العارفة بذلك الجناب الاعلى الذي يتفضل بخلعة النبوة على من يشاء .

كانت النبوة معروفة عند قومها بما سمعوه من أخبار أنبياء جيرانهم بني اسرائيل ومعروف أنّ النبيّ رجل كالرجال ولكن يصطفيه الله ويرفع درجة نفسه على درجات سائر نفوس البشر حتى يطلعه على ما لم يطلع عليه أحدا من أسرار عالم الغيب ، وليست النبوة ملكا أو حظوظا زائدة من نعيم الدنيا بل جل الانبياء الذين سلفوا كانوا مقلين ولم يكن حظهم إلّا مقاومة الناس اياهم وتعذيبهم . والنساء إنّما يرغبن بالنعيم والرفاهية ورغد العيش وكثرة الحلل والحلي وكل هذا لا يرجى لدي الانبياء الذين تنصرف

ص: 97

أنظارهم عن متاع الغرور ويلتفتون إلى مافيه غبطة الروح فلا تتصور السعادة من النساء عند الانبياء إلّا اللاتي أنعم الله عليهنّ بسلامة الفطرة وقوة الاستعداد كالسيدة «خديجة ».

ولما رجع عبدها « ميسرة » من الشام في تلك السفرة التي ذهب بها مع الهاشمي « محمد » أخبرها بأحوال غريبة رآها منه لا يكون أمثالها إلّا لمن سمعت أخبارهم من الصالحين المباركين فما لبث أن رنّ في قلبها صدى ذلك الصوت الذي سمعته بأذنها، صوت ذلك المنادي في النساء المجتمعات اللاتي كانت معهنّ في العيد . وكان هذا الصدى الذي رنّ في قلبها تتألف منه هذه الكلمات :

«تفاؤل هذا وقته»

الفصل الثالث عشر -الخواطر في قلب « خديجة »

كانت «خديجة» تعرف أن ليست النبوة بالكسب والاجتهاد و إنّما هي محض عطاء واختصاص من الحي الازلي الدائم ولكن كانت تعيد على خواطرها ما حكاه لها عبدها « ميسرة » ويرنّ على أثره ذلك الصدى في قلبها فتقول في نفسها أي مانع يمنع رجائي بفضل الله بأن أكون صاحبة الحظ من الرجل المبارك الذي أنبأ به الهاتف ؟ أي مانع يمنع فضل الله عن قومي إذا أراد أن يخرج منهم ذلك الانسان الذي يقول عنه علماء التوراة وكان لها ابن عمّ من جملة علماء هذا الكتاب .

ص: 98

ثم إذا مرّ بقلبها خاطر آخر يقطع عليها هذه الآمال وينهاها عن هذه الاحلام - التي كانت تراها في اليقظة -ترجع إلى الشيء المحقق الذي لا ينازع فيه خاطر ولا يماري فيه حجى وهو ما لى به ابن عبد الله من صفات الكمال فتتمثل في فكرها تلك الطلمة السنية ويلمع أمامها برق من تلك العينين الدعجاوين، وتنسى الشمس وسائر الدراري حين تذكر دائرة ذلك الوجه المتألق ، ويقوى ايمانها بالملائكة إذ ترى في هذا الشخص البشري آيات القدس والطهارة ، فتقول في نفسها أفليس حسبي أن أكون ربة النصيب من فتى قريش الوحيد الذي كمله الله ان لم أكن صاحبة الحظ من الصالح الذي أنبأ به الهاتف .

ثمّ تتراجع إليها الخواطر ويقلبها ذلك الحبّ الشريف الذي تمت حبته في قلبها على ضروب من الحيرة فتقول في نفسها مرة أخري من لي بهذا المكمل الذي مال إليه قلبي، وحامت حوله خواطري، وعكفت في دائرة محاسنه نفسي ، أليست تمنع العادات بأن أكون أنا الخاطبة ؟ أف للمادات ما أنقل أحكامها ، وما أظلم قضاءها، وما أشد عتمة مسالكها ، وما أسوأ عواقب الجمود عليها ، وما أبخس صفقة الذين لا يتزحزحون عنها ،

نعم نعم أف للعادات فكم أوقفت بعض الاجيال في سجون ضيقة مظلمة من التقليد الضارّ ، وحجبت عنهم أنوار التبصر والتدبر والتفكر فانطمست عليهم سبل الارتقاء في معارج الاستحسان والتحسين، وعمت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس .

افٍّ ثمّ افٍّ للمادات فهي قاطعة الطريق على نتائج المقول تزج بها في مهاوي العدم ، أو تذرها في سجن أقفر ممنوعا عنها كل ما يربها، و يا عجبا

ص: 99

لبني آدم الذين يضعون المادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم أليس لهم مايذكرهم بأنّ العادة من صنعة أيديهم و تصوير أحلامهم أليس لهم ما يبصرهم بأنّ العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة ، ومنقادة لا قائدة ، حتى اذا فتحت أمام بصائرهم أبواب أخر لما هو خير ودعوا عادتهم تلك محمودة على قدر ما نفعت و مذمومة على مبلغ ما اضرّت، واستقبلوا أخري مصاحبيها على مقدار ما يدوم من أسبابها، وينفع من أبوابها .

تبرمت «خديجة» بالمادة كثيراً ، وتأقت من تقلبها طويلاً ، وسردت كل سيئات الجمود عليها في نفسها التي هي أعلى من نفوس الغافلين عن المقدمات والنتائج ، لما خصها الله من سلامة الفطرة ، وفضل الفطنة وقوة الة المعرفة ، ومزيد حرارة الهمة ،

ثمّ عادت تعذر الضعفاء الذين لا يستطيعون التغلب على الثابت الراسخ وهم الاكثرون وتذكرت أسباب رسوخ بعض العادات ومنها وفرة فوائدها في أوقات سلفت ، وأحوال مضت ، ورأت انّ الناس يرثون من السالفين كلّ شيء ولا يميلون إلى التغيير حتى يميل بهم الدهر ميلة شديدة على يد عاصف من الحوادث، أوهبة شديدة من إرادة بعض الاشخاص وكم دكت الارادات القوية أطوداً من العادات .

ربما كانت هذه السيدة تستطيع التغلب على العادة فلا تجد بأسا بأن تخطبه بنفسها لأنّها كانت قوية الارادة . ولكن من لها بأنّه لا يرد خطيتها وهي أرملة في الاربعين من العمر ، وهو في الخامسة والعشرين يشف محياه عن ماء الفتوة ، وينشر شذى الشباب ، والمرأة مهما قويت ارادتها تذكر

ص: 100

الخيبة فيغل---ب احجامها اقدامها وهذا بعض أسباب العادة في أن تكون هی المخطوبة .

ما أصعب الخواطر على المرأة التي تجد ضالتها من السعادة ولا تستطيع الاقدام على تحصيلها! هي صعبة على الرجل أيضا ولكنها على المرأة أصعب لأنّها أضعف على كل حال . بيد أنّ ضعفها الذي زيّنها الله به في عين الرجل به تمّت نعمتها وعلت كرامتها لديه . فقوة الخفر والحياء من ضعفها، وذلك أعظم حلية طبيعية تزدان بها، ومن عطل من هذه الحلية منهنّ رغب عنها الكرام من الرجال . وشدة الرحمة من ضعفها وما أعلى وأجمل وأزين هذا الضعف الذي بدونه تمقت المرأة . والجين من ضعفها ولولاه لما حصل الاعتدال في اقتسام الاعمال بينها و بين الرجل .

فماذا تصنع قوة ارادة السيدة « خديجة » أمام شدة خفرها وحياتها، وماذا تنفع شجاعتها أمام خشيتها من الخيبة ، وماذا تجدي قوة عزيمتها وصبرها عند المزعجات من خواطر الحبّ الشريف الذي ملأ قلبها الطاهر بعد أن كان حبة صغيرة ألقيت فيه .

اللّهمّ رحماك فليست القلوب من حديد، ولم تقدّ من صخر، ان نسيم الخواطر فيها يصدع ان جاءها برائحة الياس، وبرأب ان أتاها برائحة الرجاء وكذلك كانت خواطر السيدة « خديجة » صادعة ورائبة ، بيد ان رجاءها كان أغلب ، ولو كشف لها الغطاء عما يحف بها من السعادة المغيبة عنها إذ ذاك لانقلاب رجاؤها يقينا . والمكن لتستكمل الغرائز حظها من النفوس كتب على الانسان أن يغيب عنه آتيه من السعادة والشقاء فترى منحوسا يضحك ويلعب والشقاء يساوره عما قريب يأخذه بياناً أو يصبحه وساء

ص: 101

صباحاً. وترى مسعودا يتململ ويمسي ويصبح على مضاجع الحيرة والارق واجماً سادماً والسعادة من حوله مرفرفة باجنحتها ستقف عما قريب على رأسه وتشمله ويتبارك بها بيته .

فما أشد حاجة هذه السيدة السعيدة في مواقف حيرتها تلك إلى هاتف ينشرها بقرب اتصال السعادة التامة بها ما أشد حاجتها إلى من ينبئها بأنّها هي الجوهرة النفيسة التي أنتدت لذلك الذي ميزته العناية الازلية أكمل تمييز . ولكن ليظهر مزيد فضلها في الميل إلى رب الفضائل والمكارم التي لا تباري حجب عنها كل هاتف وحبست عنها البشري حتى أخذت الخواطر حظها من قلبها الكريم وتمكن منه كلّ التمكن ذلك الحب الشريف لذاك الذي أجمعت فيما بعد قلوب الملايين التي لا تحصى على حبه .

الفصل الرابع عشر -الزواج

لا بدع إذا قلب الشوق نفوس المحبين في يد الخواطر كالكرة بيد اللاعب فإنّ قوام الكائنات بشوق ذراتها بعضها إلى بعض وكان جديرا أن يتجلى هذا المعنى بزيادة في غريزة خليفة الله في الارض نعني الانسان . كيلا يكون بنو آدم وحواء أنقص من الجمادات حظا في هذا الناموس الكبير الفائدة .

فبعد أن تمكن من «خديجة » الشوق الشريف هذا التمكن أصبحت جديرة أن تتناول هدية سعادتها ، وتنكشف لها الحجب عن الرحمة التي

ص: 102

ترعاها ، فهبط على قلبها خاطر جديد كان به الوصول إلى النعمة الجديدة .

خطر لها أن تبعث إلى الذي سكنت مكارمه و معاليه فؤادها رسولاً تسبر به رغبته تستنبیء به سعدها مما ينزل على قلبه من الالهام بهذا الشأن وساقها إلى هذا الخاطر قوة رجلیها بالله سبحانه وحسن ظنّها بأنّ هذا المكمَّل لا يرد رغبة مثلها وهي الجامعة لصنوف من المعالي يقل اجتماعها في سواها .

كانت لها صديقة اسمها « نفيسة » (وهي أخت يعلى بن أمية ) فقصت عليها حديثها وائمتمنّها على هذه الرسالة ولم يكن بالصعب أن تؤدي الصديقة هذه الامانة لأنّها ستتكلم كأنّها صاحبة رأي تشير به حتى إذا وجدت مجالاً كانت وكيلة بإبداء القبول .

لم تكن النسوة إذ ذاك محتجبات ولم يكن ممنوعات من مكالمة الرجال فلم تكن رسول «خديجة » محتاجة إلّا لشي من قوة الجنان أمام ذلك المهيب العظيم وقد أمدت من سعد مرسلتها بحظ منه

ومن يكن راعيه السعد فقل *** ما شئت في تيسير ما يرجوه

جاءت «نفيسة » هذه ابن عبد الله وفي القبيلة الواحدة، يعرف الناس بعضهم بعضاً فقالت له ما يمنعك أن تتزوج فاعتذر لها بقلة المال اللازم للقيام بشؤون العائلة قالت له فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة قال لها «ومن ؟» قالت له «خديجة».

قالت هذه الكلمة وصمتت تنتظر ما سيبدو منه وأحدث هذا الكلام حركة في فؤاده وبأي شي. يتحدث ذلك الفؤاد الطاهر حينئذ إلّا بقوله : خديجة الشريفة المعروفة بالطاهرة ، هي المناسبة، هي الموافقة، هي الصالحة

ص: 103

اذهبي يا نفيسة فإنيّ سأخطبها .

فرجعت تحمل هذه البشرى وكانت ميمونة النقيبة في هذه الرسالة فالله يعلم كيف أجزلت السيدة خديجة كرامتها ولم تنتظر كثيراً حتى أتى خاطباً ومعه عمه حمزة فقال عمها عمرو بن أسد بن عبدالعزي « هو الفحل لا يقدع أنفه » وهو مثل عربي يقال للكفؤ الذي لا يرد ان خطب.

ما كان هذا الخاطب الكفؤ غنياً اذ ذاك ولكنه لم يكن أيضاً معدماً فهو من آل عبد المطلب العامرة بيوتهم بقرى الضيفان واغاثة اللهفان ففي هذا السبيل تذهب أموالهم ثمّ يخاف الله عليهم من وجوه المكاسب وأبواب المرابح بما أوتوا من الهمم والشمم ولم يكن اعتذاره ذلك اعتذار المعدمين وإنّما هو اعتذار المتربص أن يتوفر له مقدار أكبر . فمع قلة ماله في ذلك الحين أصدقها عشرين بكرة لأنّ اعطاء الرجل للمرأة صداقاً سنة عربية لم يكن ليحسن تركها .

والزواج العربي ليس محتاجاً إلى رؤساء ديانات، ولا تلاوة الرؤساء صلوات، بل هو عقد كسائر العقود المدنية يتوثق برضا المرأة وأوليائها و رضا الرجل، فيخطبة من الرجل وتقديمه الصداق واجابة من المرأة وأوليائها تصبح المرأة زوجة شرعية للخاطب . وهكذا أصبحت «خديجة » الطاهرة زوجة ، «محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) » الامين بكلمة أعلنها عمها عمرو بن أسد فما أعظمها من كلمة جمعت بين القمرين .

ص: 104

الفصل الخامس عشر -(بيت خديجة بعد الزواج (

وبدأت السيدة «خديجة » بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر الكريم الذي أتاحه الله اليها فألقت إلى يد هذا الامين بكل ما تملك ولم يرعها أنّ الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على اخراج نصيب كبير من هذا المال إلى الضعيف والمائل فإنّ سيدتنا لم تكن - مع تدبيرها - بالشحيحة الكاظة على المال الفاني بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود . وهل بعد معرفتها بهذا الكفؤ الشريف ترى لنفسها معه أمراً ينافي أمره ، أو رأياً يغاير رأيه ، وهي تلك العاقلة الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماه الفيض الالهي نور منه .

وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا ، فقصدته الايامي، وشبعت فيه اليتامى ، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حنيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال .

كانت تلك البلاد احياناً تصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الانسانية ولكن قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والاوهام التي تنهى عن الاتفاق خشية الاملاق أما سيدتنا

ص: 105

فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا المالية التي تقرّ بها عينها .

وفي احدى الازمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد الصبيان وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت إلّا وهو امام للناس في الخير والصلاح .

و كان هو لاهيا عما أُعِدّ له ، وعابثا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا الصبي يتيماً بل كان أبوه حياً ولكن أبناء السعادة، أبناء المجد الابدي ابناء المجد السرمدي ، تستأثر المناية الازلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصة وظاهرة یراها من استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد.

لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالايتام في غير بيته لأنّه هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير «أبو طالب» ولكن اشتداد الازمة في احدى السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه « العباس» ، وابن أخيه «محمد الامين » بأن يأخذ كل واحد منهما ولداً من أولاده تخفيفا عنه فكان هذا الاسعد الذي أخذه الامين هو علياً الذي صار الامام أبا الائمة، وبدر سماه السيادة في الأئمة .

كانت تربية عليّ (علیه السلام) في هذا البيت من جملة المكتوب للسيدة «خديجة» من حسن الحظ فاإنّ الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت .

لعله لم يخطر في بال أهل هذا البيت اذ ذاك أنّ هذا الصبي الذي يدرج أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف السيدة «خديجة » أنّه لا يعيش لها من الذكور ولد وأنّ هذا الصبي الصغير قد أعده الغيب ختنا كريما وبعلاً صالحا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم

ص: 106

أنه لا يتسلسل لها عقب إلّا من تلك الكريمة «فاطمة الزهراء» والى يخطر في بالها أنّها إنّما كانت تربي هي وزوجها جدا لعترة تتصل بهذا البيت سيعدها العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة في الارض دهوراً طويلة عالية المنار ، عظيمة الشأن .

نعم كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك ولم يكن الذي في القلب إلّا القيام بالواجب الذي يقضي به التضامن .

نعم ! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على تربيته التي سبقت له فان بين ذوي القربي لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن ولكن كان هذا البيت المملوء نعما يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم لأنّ لأهله نفوساً لا تعرف الاستئثار ، بل تراه من العار والشنار ، لاسيما اذا بئس الجار.

وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا اليه أما عليّ (علیه السلام) فإنّما خصصناه بالذكر ليعرف من عرفه أوسمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت السعيد مسعداً للارواح، كما كان مسعدا للاشباح ، وليعرف القاريء بسهولة أنّ البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبياً قد كان مهدا لأكرم الآداب وأعلاها فإنّ عليا المرتضى هو من عرفه العالم كله ، هو ذلك الامام الاكبر الخليق ان يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقي الاسرار العظمى و مظهر الولاية الكبرى .

فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته قد رأينا الامين يجد فيه مجالاً للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورا رحبة ، وأيدي مبسوطة، ولديه خيّم الجود والسخاء، كما خيّم العدل

ص: 107

والوفاء، ومنه اشرقت الآداب العالية ، والتربية الكاملة ، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك يا ترى ؟

الفصل السادس عشر –( العمل الروحي )

أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه ، صعبة مسالكه ، وصلنا إلى ساحل هذا البحر ولا بد من جوزه ، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته، ولا یسو ثوب الهداية رأس ما لهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر والنجوى .

ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة، بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه و حدّه و رسمه، هنا قد بلغنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أنّ بعلها كان من دأبه أن يتعبد بعض الاوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه «حِراء» فماهو هذا التعبد وكيف هو، وما الذي ساق نفسه اليه ، وأي دين فرضه عليه ؟

هذا هو النبأ العظيم الذي تمسك بنا العقول المستقلة إذ تسمعه ولا تدعنا نجوزه إلى غيره من غير أن نوضحه ، وإذا أخذنا بايضاحه نخشى أن نبعد بالقارىء عن سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الايضاح ظننا بأنّ الراوي الذي يشرح كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الاخبار سرداً.

إنّ الاديان كلّها رسمت أعمالا اسمها عبادات ولكن بعل السيدة «خديجة » لم يكن تابعا اذ ذاك لدين لأنّ دين قومه كانت عبادته عبارة

ص: 108

عن تمجيد بعض الاحجار التي هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم .

العبادة التي عرفت في الاديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات پرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبّها فأشواق روحية تقوم في نفس العابد أمام معبوده ويصحّ أن نسميها عملاً روحياً حينئذ .

كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء باريء السموات والارض ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك اليها، ولم يكن مقيماً أعمالاً رسمية .

إنّ البحث عن سبب تسمية تلك الاعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكاف به مشرح اللغة ، والبحث عن اسباب اختيار الاقوام السالفين هذه الصور والاعمال المخصوصة تحت اسم العبادة يكلف به مشرح التأريخ ، أما البحث من الاشواق الروحية أو التعبد المحمدي في «حراء » فمکلف به كاتب سيرة السيدة « خديجة ».

العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أنّ روحه كانت من أعلى الارواح ونحن نؤمن بهذا ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معني ايماننا بهذا ؟ لا جرم أن تعرّفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرى لأنّ كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة :

ص: 109

ما نحن ؟

هذا سؤال قد علم الذين بعد نظرهم في ماضي البشر أنّه من جملة فضل الله عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينا وديانة وملة واحد الاصول والاسباب في ترقي هذا النوع الانساني وتكمله .

هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها . ههنا مرسى سفينة العقل الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل ادراك هذا الجوهر.

مواقف الباحثين كادت تساوى أمام صوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية قطعية في نفي شيء أو اثبات شيء في جوابه ، ولكن إذا عزّت. هذه البراهين لا يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات ومن فضل الله على اهل هذه الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا يُحرمه إلّا قليل تُزمن فيهم الحيرة لاسباب محسوسة وغير محسوسة .

هذه الوجودات قد ملئت آيات ، فإذا حالت دونها الحجب لجّ العقل في معارات أو عمايات ، واذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات .

إنّها لمن تأمّل مراتب وصفوف، ولكلّ وجود قوة، ولكل قوة أثر ، واختلاف القوى وآثارها ، هو على مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيزها، ولما رزق الانسان هذا النطق الواسع وضع أسماء لكل ما لاح له من وجود وظنّ المسكين أنّه بوضع الاسماء أحاط بالحقائق وهي لم تزده عنها إلّا بعداً.

الانسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب حسب عادته إلى

ص: 110

سماء فالروح للانسان اسم للقوة العظمى التي فيه ، اسم لما يكون به الانسان مستقلا متميزا يقول أنا ويقال عنه هو وان عفا أثره .

آمن الناس بهذا الاسم متفقين ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباینهم وحار نظرهم في ادراك حقائق هذه القوى التي في الانسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه و بين كثير من صفوف الجمادات والذي يزيد حيرتهم شدة تسامی بعض الارواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه السيرة .

بحثت كالباحثين ، وحرت كالحائرين، ثم ّوجدت كالواجدين ، فما الذها على القلب من حيرة عقباها بلوغ الغابة والحمد لله رب العالمين.

إليك حديث نفسي بشأنها : أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنّني وليد هذه الساعة ، لأنّنی قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الاكوان، ولم أحسّ بما فيها من الاصوات والألوان، ولم أكن أشعر بملاثماتي ومؤلماتي ، فكأني كنت غير هذا الموجود الجديد ،

أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأنّي بما على هذا البساط ، وأنّى كان ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء ، وزواخر هذه الغبراء ... ومن حولي الآن أغاني طيور، ورقص غصون ، وأريج زهور ، وبدائع نقوش ، و ترتيب صنوف، وحركات نور ، وتجليات سكون ، و فيّ أنا آثار انفعال من كلّ هذا قد تحرك بها ما اسمه فكري ثمّ تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول « سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلا ».

سبحانك يا فاطر يا باري، يا مصور ولك الحمد : أنا متذكر الآن أنني

ص: 111

أبصرت هذه المرائي ، وسمعت هذه الامالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا فأين ذهب ابصاري وسمعي بين ذينك الابصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الابصار والسمع اللذين اتياني الآن وأنا متذكر أنّ هذا الامر وقع لي مرارا كثيرة ألوفا من المرات فما هذا الاحتجاب ثمّ الظهور، وأين كان الاحساس محتجبا قبل أن عرفته أول مرة ؟

رباه من اسائل عن هذا ...؟ إنّ هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب لعلّها لاتسمعني ، أو لعلّي لا أسمعها ، أو لعلّها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف أصبر على جهلي بشيء يتعلق بي ، كيف لا أبحث عن أصل احساسي وعن احتجابه ؟ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثمّ يعود ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطباً ثمّ رماداً ؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها على جهة ثمّ يغيب عنها ثمّ يعود إليها وهو لا يزول أبداً؟. كيف أقنع للنفس الانسانية بحالة هذه الشجيرات وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه الارض. كلا سأسائل اثم كلا سأسائل .

رفعت رأسي الى السماء فألفيت بواهر ولا مجيب ، وأهويت به إلى الارض فألقيت بواهر ولا مجيب !

فضاء أمامي ، لا أعرف له ساحلاً وحدّاً ، تارة يفيض نوراً، وأخرى يحتجب بالظلمات، أراني وأرضي محمولين فيه ولا أعرف من هذا المتن العظيم إلّا اسماء وضعوها له لا تشرح كنهاً ولا تؤذن بدلالة كافية .

تتلاعب فيه النسمات لعلّها ناسية أنّ الامر جدّ ، وماهو بالهزل واللعب، وتتناغي فيه الاصوات كأنّها تحسب أنّ في كل موجود دماغا يأخذ بحظ منها ولعل حسابها خائب !

ص: 112

بيني و بين كل ماهو محمول في الفضاء مثلى علاقة قد عرفتها بهذا النور البازغ ،فهل بزغ هذا النور لأعرفها أم لتعرفني ؟ وهل كانت لی أم كنت لها ام كنا جميعا لهذا النور أم كان هو لنا ؟ولكني أعرف ینورانه لولاك لما عرفت شيئاً.

سلام عليك أيها النور با حاملاً نعمة المعرفة إلینا وشكرا لمن تسبح ايّها النور بجلاله ، وتهدينا إلى آيات جماله .

بالنور عرفت ما عرفت ولكن لست ادري كيف عرفت، قد نقشت السموات والارض على عظمتها في لوح لا يكاد يحسّ في دماغي، فهذا اليمُّ الذي يمجُّ الآن أمام غرفتي اصبح لا شيء عندي على اتساعه لأنّه محدود وهذه الشمس العظيمة التي بدأت تبزغ هذه الساعة قد غدت صغيرة في عینی لأنّنی احطت بها ، وهذه الارض التي اراها كسريرلي قد تلاشت في نظري إذ وجدتها هي وكل بحورها ذرة طافية في ذلك اليمّ الذي لا ساحل له، ادركت في هذه الساعة أنّ هذه الأشياء كلها مهما عظم حجمها فهی كالصفر بالنسبة إلى مالا يتناهي ، فعلمت أن ليس فيما أحاط به حسي ما يدفع عن فكري عطشته .

راقني جمال هذه الكائنات ثمّ حيرني منها انّها كلّها مسخرة لنا وما نحن لها بمسخرين فهل نحن على صغر حجمنا اكرم معنى منها ؟

تركت حيرتي ههنا والتفت إلى هذه الشجيرات التي اراها تتزين كعرائس الانس وسألتها فلم تجب او لم افهم حفيفها ، وانثنیت إلى هذه اليمامات الراقصة باعناقها فسألتها فلم تجب او لم أفهم هديلها ، لكنّني استأنست بهذه وتلك اكثر من استئناسي بالمتحجرات لاشوق يخالط منها

ص: 113

الجنان ، ولا حركة لها إلّا على يد الانسان ، وطال أنّني بهذه الخضر المترنحات، والورق المتغنيات، حتى كدت أفقه حديثها ، وأفسر تبيانها ، هذه ذكرتني بمعنى الحياة وأعادتني إلى تقسي وهي ضالتي المنشودة وبها الهدى إلى ما أنشده.

لم أجد غير نفسي يجيبني عن نفسي بعد أن ساح حسّی وفكري في هذه العوالم المحدودة .. ايّاها ناجيت ، وكلامها وعيت ، فهي التي حدثتني أنّي لست إلّا ذرة صغيرة جداً سابحة في هذا الفلك، وفي هذه الذرة الصغيرة ذرات كثيرة كلّ واحدة منها بالنسبة إلى الذرة الجامعة هي كواحد من ألوف ألوف ألوف الالوف ، وفي كل واحدة توجد الحياة ولكن ليست كلها مركزاً للحياة لأنّنا نجد أنّ ألوف ألوف ألوف من هذه اذا أفسد وضعها لا تزول الحياة ولكن هناك بعض ذرات اذا أفسد وضعها تزول الحياة كلها من جميع هذه الذرات التي يتكون من مجموعها الجسم فهذه الذرات القليلة التي هذا شأنها هي مركز الحياة.

أعظم مجالي الحياة في نظري هو الادراك الفكري وهو قارّ في ذرات قليلة لا يحاط بها .

أدهشني هذا الموقف الذي وصلت اليه ، وهذا المرأى الذي وقفت عليه ، حيرني من هذه الذرات أن تسع صور السموات والارض وصور أعمال البشر منذ كانوا إلى اليوم ، وحيرني منها أنّ هذه النتائج العظيمة التي تصدر عنها انّما تصدر إذا كانت بوضعها المخصوص وما أسرع زوال هذه النتائج إذا اختل وضع الذرات.

رأيت هذا الامر العجيب ولكن لا مستقر للفكر عند هذا المرأى اذ قصاراه

ص: 114

أنّي عرفت شيئا صغيراً جداً يسمع أشياء لا تحصى مع أنّي انما أبغي أن أعرف ماهو ذلك الشيء الصغير مبناه جداً جداً العظيم معناه جداً جداً ؟ ماهو ذلك الشيء الذي وجوده على حالة مخصوصة يكون هذا الجسم متحركا حساساً يحيط بالسموات والارض وبتغيره يفدو هذا الجسم تراباً صامتا صابراً تحت الاقدام : ما هي تلك الحالة المخصوصة ؟ وما هو تغيرها وكيف نظامها ؟ هل هو في احاطته تلك تابع لهذا النظام أم النظام تابع له ؟ هل هو يحتاج إلى هذا النظام بعينه أم يستطيع أن يؤلف نظاماً آخر متى تغير نظامه هذا وان كان تابعاً لهذا النظام بعينه فهل وجدت هذه الصبغة لنزول بأسرع من لمح البصر بالنسبة إلى عمر غيرها على ما يتخلل وجودها من الاحتجابات ؟؟

محارات بعد محارات ، ولكن تلوح خلالها آيات ، اذ قد ملأنا رب الوجود أمثالاً ، وأتاحت لنا معرفتنا بالامثال أنّ حقائق الاشياء محتجبة، الظاهر إنّما هو آثارها : فهذا النور الذي يملأ الفضاء لا تعلم كنهه ، وهذه الشمس وما حولها لا ندري كيف قامت ، قصارانا أنّا عرفنا سبحها في هذا الفضاء، لا يسندها عمد ، ولا يعتريها سكون، وهي مع ذلك سائرة بنظام ، ودائرة بإحكام ، لا تخرج عن مستقرّاتها، ولا تحيد عن مجاريها ، ولكن ما هو ذلك السر الذي قامت به هذا المقام ؟ سموا شيئاً من ذلك بالجاذبية فهل هذه التسمية دالة على الكنه والحقيقة ؟

إنّ قصارى ما نعرفه من هذه المركبات أنّها قابلة للتحلل فإذا حللناها انتهينا إلى عناصر قليل عدها لا تتحول ولا تتحلل هي الامهات ثمّ هي تنتهی إلى أم واحدة لا نعرف من أمرها شيئاً !

المشاهدة هي أكبر وسائط معارفنا، ولكن الة هذه المشاهدة عاجزة

ص: 115

عن أن ترينا الاشياء كما هي ، ولو اقتصر الامر عليها لكانت علومنا بهذه الكوائن خطأ من أولها إلى آخرها .

هذه الشمس التي نحن وأرضنا في نظامها الكبير أقل من حبة رمل في جبل عظيم - ليست أمام المشاهدة الخصوصية لكل واحد منّا إلّا كمصباح بسيط يشتعل ساعات وينطفيء ساعات، وماهي إلّا بحجم كرة مما يلعب بها اللاعبون !

على هذه النسبة من الخطأ نرى كل شيء أقل من حجمه وعلى خلاف وضعه ، فقد نرى واحداً وهو متعدد ، وبسيطاً وهو متركب ، وساكنا وهو متحرك ، وصغيرا وهو كبير ، حتّى نصل إلى ماهو صغير جداً فلا نراه البتة كما دلتنا التجارب بعد أن اهتدينا للآلات الصناعية التي تساعد بواصرنا الطبيعية ايما مساعدة .. بهذه الآلات استطعنا أن نرى أنواعاً من الحيوانات كانت خافية على الابصار دهورا دهارير . و لعلّنا سنهتدي إلى ما یرينا أصغر من تلك الصغائر . ونحن في مثل هذه الهدايات العظيمة التي جاءتنا هدية من الفاطر على يد التجارب لا نجد ما يمنعنا من الظنّ بأنّنا مهما استمعنا بالآلات نبقى في مشاهداتنا بعيدين عن كشف الاشياء كما هى وتبقى أشياء كثيرة خافية على ابصارنا وآلاثنا مهما بلغنا بها.

فما اكرمك يا عیني عليّ : أنتِ أنتِ كنت سبب ارشادي إلى حقيقتي إذ لم تریها لأنّنی عرفت بالتجربة انّك مسكينة عاجزة لاترين كل شيء ولاترين شيئاً مما ترينه على وضعه وحقيقته فاضطررت أن أقيس وجودي على وجود غيري .... لاجرم انّ لي حقيقة مستترة عنك وراء وجودي الجسمي الذي تشاهدينه كما انّ وراء النور حقائق مستترة ولا جرم انّ حقيقتي هي سبب وجودي كما انّ الحقائق المستترة وراء النور هي سبب وجوده .

ص: 116

إنّ الحقيقة العظمى التي هي باطنة من وراء الاشياء كلها ، وظاهرة عليها كلها هي حقيقة واجب الوجود، حقيقة من لا بد لوجودنا من وجوده ، ولا بد لتشكلنا وتنوعنا من فيض تخصيصه وجوده .. هي حقيقة من له الحياة الازلية الابدية لأنّ الحياة التي نعرفها منه صدرت ، وله العلم الازلي الابدي لأنّ العلوم التي نعمهدها من فضله أتت، وله الارادة الازلية الابدية لأنّ الارادة التي نجدها من لدنه أهديت ، وله القدرة التامة الشاملة لأنّ القدرة من عنده نشأت هي حقيقة من لا مثال له في كمال وجوده ، وعنه صدرت امثلة الكمال في الوجودات الظاهرة .. هي حقيقة البارى، المصور الذي برأ حقيقة مثال كامل حيّ سميع بصير مريد وجعل حجابه هذا الهيكل البشري .

أصبحت لا أرتاب في أنّ الحقيقة العظمى هي التي تهدینا بآثارها و بإمداداتها إلى كل شيء ممّا نعرفه ، ولكن لشدة ظهورها الذي قد يعادل البطلون ربما تخفى ، فإذا نطلب معرفة النفس تظهر آياتها العظمى فسبحان الله من عرف ربّه فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربّه .

عرفت الآن من أمر نفسي أو روحى أنّها لا يعرف كنهها ولم يزدني جهلي بکنهها إلّا ايماناً بحقيقتها الجليلة المستقلة عن الجسد لأنّني لم أعرف من أمر كل جزء من اجزاء الجسد إلّا مشابهته لهذه الجمادات التي أمامي وليس فيما أمامي شيء يجمع فيه ما تجمعه هذه الروح . وقد حاولت كما يفعله بعضهم أن انسب هذه الخواص إلى المجموع المركب من هذه المواد على نظام خاص فلم يسلس له فكري بل جمح عنه كثيراً لتذكره النظام الشمسي وذهابه إلى أنّه إنّما قام بما يسمونه الجاذبية ولم تقم هي به..

ص: 117

فما نفسنا أو روحنا إلّا جاذبية النوع وكهربائية الخصائص والمزايا ، وهي هي مؤلفة الهياكل وناظمتها. لا بدع في ذلك فالكوائن كلها من اصل لا يرى ولم تنفصل عنه ولا يكون الاصل تابعا للفرع ولا ضرورة لتغير الاصل اذا تغير الفرع . ولا يصعب فهم هذا على من عرف كيف يتجسد مالايرى فيصير مما يرى ، وكيف يتلطف ما يرى فيصير مما لا يرى . الصناعة بهذا ضمينة ، والتجربة فيه هادية امينة، ولا يصعب ايضاً على من عرف آيات النفس التي تظهر في بعض الاشخاص لنتعلم بها أنّ لها شؤونا غريبة جداً فوق المعهود منها والمألوف من دخولها في قيد الحس، سبحان الله كم لها من انطلاق منه يظهر معه أن لا حاجة لها بهذه الآلات العضلية والعظمية والعصبية .

نحن شاهدنا من هذا كثيراً، وشاهد مثلنا خلق لا يحصون ، والباحثون المحققون شاهدوا ايضاً أو نقل اليم ثقات كثيرون مجموعهم يدفع عن تفوسهم الريب وما علمنا أنّهم وجدوا لهذا الامتياز الفائق اسباباً جلية !غاية ما صنعوا أنّهم وضعوا لبعض هذه الامور اسماء وظنّ القاصرون أنّ هذه الاسماء تحل الاشكال ، وتحكي حقيقة الحال !

وسمعنا سماعا لا يستطيع الريب منه البقاء أنّ اشخاصاً يشفون امراضاً معضلة بغير علاج ولم يقل لنا علماء الابدان في تعليل هذا الامر إلّا أنّه شفاء بالوهم فيا عجبا ماهو هذا الوهم الشافي ولماذا لا يشفى بالوهم كل شخص !؟

حالة المنوَّم تنويماً مغنطيسيا هي من الادلة الصريحة في هذا الباب على شدة غرابة أمر هذا الموجود الصغير الكبير واستعداده لخرق الحجب الكثيفة ، وقدّ القيود الحسية، وعمله الاعمال العظيمة من غير حركة يبديها او واسطة يأتيها !

***

ص: 118

هذا حديث نفسي وخلاصة ماظهر لي أنّ الروح خلق مستقل ذو ظهورات فائقة ، واحتجابات محيرة ، هو اقسام كثيرة ، نصيبنا منه عظیم ، وارتقاء نوعنا لولاه عديم ، هو الحي السميع البصير المريد المستعد للظهور والاجتنان، المصنوع آية كبرى دالة على جامع الاكوان .

وظهر لي أنّ خصائص الروح الشوق ، ولو قلت إنّ الروح هو الخلق ذو الشوق لما وجدت هذا غريبا في تعريفها . ولكل روح شوق بناسبها وعلى نسبة شوقها تكون رتبتها وصفها في عالمها الذي هي منه ، وفي عالم المثال والعيان الذي دفعها إليه شوقها إلى الظهور .

***

كانت روح هذا السيد بعل سيدتنا « خديجة» من اعلى الارواح وكان شوقها ازکي شوق واقدسه كانت عظيمة الشوق إلى رؤية فاطرها ولكن هل الفاطر عز وجل يُرى ؟ لعلّها حارت زمنا في هذا الأمر، ولعلّها قالت لو كان يُرى لكان محدوداً وكيف يدخل في حد من برأ الحدود ! ولعلّها عادت إلى زيادة التبصر فقالت هل الرؤية مخصوصة بهذه الباصرة ؟ وهل يشترط أن يكون المرئي متشخصاً ، أليس القصد من الرؤية العلم ، ألا يمكن العلم بالفاطر مع انه غير متشخص ؟

هذا ما كانت تحوم حوله هذه الروح العلوية التي كان مظهرها وبيتها الصوري في بيت «خديجة» ومطافها ومطارها ملكوت الحق ، ملكوت الوجود الاعلى .

ولعلها يئست من أن تجد فيما حولها ما يروي اوارها من معرفة فاطرها الذي اشتدّ شوقها اليه بل لعلّها غلب عليها ذلك الشوق حتى اصبحت

ص: 119

زاهدة في كل رؤية و کلّ سمع لأنّها تريد أن ترى وتسمع الذي إليه طارت شوقا ولذلك رأينا «محمدا » ( صلى الله عليه وسلم ) قد حببت إليه الخلوة والانفراد ولاسيما اذ شارف الاربعين من سفيه وكان لغار «حراء» الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها وطبيب شوقها

من ذا الذي يعلم غير الله ما كان يقوله هذا المنقطع في ذلك الغار ولكن يصحّ لنا أن نظنّ بأنّه كان يساقط الدموع ويناجي المقصود المطلوب بقوله : رباه رباه : كيف الوصول إلى حضراتك كيف السبيل : إلى مشاهدات تجلياتك ؟ إليك ايّها المولى من مزيد حبي قيامي وقعودي وركوعي وسجودي ، ومن مزيد شوقي ذرف دموعي، وفرط ولوعي، رحماك رحماك يا ربيّ كبد تذوب وعين تسيل، وفكر يتدله ، وانت انت مطلوبي وانت انت ذو الكرم والجود !

***

على هذا المثال كانت حاله ، وهذا هو العمل الروحي الذي شغل به باله ،وقد فهم القريبون من فهم الروح مقدار فوائد هذه النجوى القدسية وأما البعيدون عن هذا الشوق فيعجبون وينكرون ، وليتهم يتذكرون محن الناس وتدلهاتهم بهذه المتغيرات من صور وأشكال لا تتوقف الحياة عليها، ولا يجدون الطمأنينة لديها ، هذه المحن والتدلمات أقضي بالعجب لعمر الحق لو كانوا يعقلون . وأما ابتعاد روح عن المحسوسات في سبيل الاقتراب من حضرة من لا تدركه الابصار فسعي وراء مبتغى جليل .

العمل الذي فيه لذة لا مضرة على الغير فيها لا ينكره عقل، ولأرباب الاعمال الروحية لذات لا يستبدلون بها كل لذات المفتونين بالمحسوسات

ص: 120

فعسى أن يتذكر العقل المستقل هذا المعنى فلا يكبر عليه أن يفهم أقل الحكم في الاعمال الروحية وهي لذة أربابها و انتعاشهم وتفتح بصائرهم لرؤية المعالي كما هي فلا يحزنهم شيء بعد في نيلها ولا تقف هممهم أمام حزن في طريقها .

كانت السيدة « خديجة » شديدة الفهم وعظيمة الثقة ببركات هذا العمل الروحي فساعدت عليه ولم تلم صاحبه ولا عتبته، كانت عظيمة الايمان بالقوة العظمى، والحقيقة الكبرى، فلم تر بأساً بل لم تر إلّا الخير یتوجه وجه زوجها الكريم تلقاء سوانح الامدادات الفائضة من لدن ذلك الملكوت الذي لا حدّ له.. كانت قد عرفت أنّ هذا الغار في «حراء » الفارغ من كل كان حريا مشتهى حسي کان حریاً أن يكون مثابة لهذا الشبح الشريف الحامل قلباً قد فرغ من كل شيء غير الوله بالمعالي القدسية ، والشوق إلى الحضرات الربانية . فكانت تبارك على هذا النار الفارغ وتسأل الله أن يملأه معالي وبركات وقد أجاب الله تعالى كرمه سؤلها وكتب «حراء » في الصف الاول بين الاماكن التي تتوج بتمجيد الناس وتحياتهم ومحامدهم . وكم قد ترجمت فرائح الشعراء عن احتراماتهم وتكريماتهم لهذا الغار أو لهذا المطلع الذي فاق بدره البدور، قال قائل منهم :

سلام عليك حراء الشهير *** أمطلع ذاك الضياء العظيم

سلام فؤاد ذكور شكور*** بقدر الذي قد صحبت عليم

**

لأنت يتيمة عقد الوطن *** ففيك أضاء السراج المنير

بذكراك يلقي الفؤاد السكن *** فذكراك ذكرى عطاء كبير

ص: 121

الفصل السابع عشر -(بين روح وروح ) أو (بدء الوحي )

في « حراء » حدثت الحادثة الاولى من التأريخ الجديد الذي سنرى فيه بعل السيدة «خديجة » فائقا فواقا عظيما مدهشا : وهذه الحادثة العظمى التي هي مبدأ هذا التأريخ هي أنّ روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اجتمع هناك في « حراء » بروح غير بشري وأبلغه هذا الروح الغريب رسالة شأنها عظيم .

نحن في الفصل السابق ذكرنا من أمر الروح ما فيه كفاية، ذكرنا فيه ما لعل القاري. ينشرح به صدره إلى القول بوجود موجودات ذات حياة على أنواع شتى ولا يشترط في بعضها أن تكون لها أشباح كالأشباح البشرية . وهذا قد سبقنا البشر كلهم إلى القول به ولم يشذ عنه إلّا قليل وهم كلّهم قائلون إنّ بين الروح الذي هو انسان وبين الارواح الاخرى اتصالات، فأنا كاتب هذه السطور لست بمبتدع خبراً ليس له مثال بذكر هذه الحادثة التي قد يراها غریبة من يحبون التباعد عن الروحيات ،

ص: 122

ومن يؤمنون بها احياناً ويكفرون بها أحيانا من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون .

هذه حادثة عظيمة في السيرة التي نحن آخذون بتحريرها ، ونحن مقتنعون بوقوعها، ولا يدعونا إلى استماع هواجس المنكر إلّا الحرص على القيام بحسن المرافقة . فإن كان المنكر ينكر عالم الروح من حيث هو فالحق أنّ حيلتنا البيانية معه قليلة ، ولكني اظنّ أنّ محادثتنا اياه بهذه المسألة في الفصل السابق قد تجديه . و إن كان ينكر العلاقة بين الروح الذي هو الانسان والأرواح الأخرى فليس لنا ما تتوسط به إلى ابلاغه هذا المشهد غير نفسه ، فليرجع إليها كثيراً وليدقق في حديثها جيدا . وإن كان ينكر صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم) في تحديثه بهذه الحادثة مع أنّه لا ينكر وقوع مثلها لغيره فالخطب في مذاكرته سهل .

كان «محمد» صادقاً شديد الحرص على الصدق واشتهر منذ حداثته بلقب «الامين » ، قد عرفنا صدقه كما عرف الناس شجاعة أناس من الشجعان ، وكرم أفراد من الكرماء ، وعلم جماعة من العلماء ، وكما عرف بنو اسرائيل صدق الانسان موسى الذي كان قد سمع الكلام الالهي ، وظهرت له الارواح العلوية ، وكما عرف النصاري صدق الانسان عيسى الذي كان روحا من الله ، وكما عرفوا صدق تلاميذه وأنصاره الذين حكوا حكايته وبثوا بشارته .

هذا الصادق الامين وجع ذات يوم من «حراء» منتقع اللون ، مرتجف الصدر ، يعلوه اضطراب الوجل الحائر ، وخشوع المخبت الصابر، فما وقم نظر السيدة « خديجة » عليه حتى عرفت أنّ أمراً عظيماً قد المّ به

ص: 123

فخفق لأول وهلة قلبها ، وساءلت بسرعة البرق نفسها : ماذا أصاب حبيبي ما خطب ذلك القلب الذي لا تفزعه الرجال ، ولا تجزعه الاهوال ؟ ما بال ذلك الصدر المبسوط تثنيه الرجفات ، وما بال ذلك الطرف القرير تكاد تبادره العبرات ؟ رباه : رباه ! ماذا اصاب حبيبي ؟ قل لي أيها الحبيب ما ذا أصابك ؟ حنانيك قل لي ! قل لي !

- دثروني . دثروني

-لا صبر لي عن معرفة الامر الآن فقصه عليَّ

-بينا أنا في «حراء» اذ جاءني روح فقال لي أقر أقلت له «ما أنا بقارى» فأخذني وغطني غطة (1) وقال لي «اقرأ» قلت « ما أنا بقارىء » ثمّ غطني الثانية وقال لي اقرأ فقلت « ما أنا بقارى» . قال لی « «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ*»

-ألم تسأله من أنت ، ومن جاء بك ، وماذا تريد مني ؟

- سمعته يقول أنا جبريل جئت ابلغك رسالة ربّك

***

هذه هي الاولى من الكلمات التي سمعها محمد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك الروح الذي ظهر له باسم جبريل وهو من النوع المسمى ملائكة والآن قد فتح لصاحب« حراء »بابان: باب حيرة جديدة وباب هدى فأما الحيرة فظاهرة يكاد يراها كلّ من سمع هذه الحادثة فإنّ ظهور الارواح غير البشرية لافراد النوع الانساني ليس من المألوف، فإذا صادف أحد

ص: 124


1- ضمني بشدة وضغط

الافراد شيئاً من هذا القبيل لا يقوى طبعه البشري لأول وهلة على تحمل مواجهته والانس به . كل واحد منا يعرف هذا من مفاجأة الامور التي لم تكن تخطر في باله مع أنّها من الامور التي تقع كثيراً فكيف الحال بالامور التي وقوعها نادر إلى حد أنّ بعض الناس لا يصدق بوقوعها .

إنّه ليخيل الينا أن صاحب «حراه » قد دهش لما سمع صوت ذلك الروح يناديه «اقرأ»، يخيل الينا أنّه قال في نفسه : رباه ماهذا الذي اسمع ؟ ربّاه ليس ههنا من بشر فهل يتكلم غير البشر ؟ ربّاه ماذا يراد بي ؟ إنّنی أعلم أني في يقظة لا في منام، و إنّني اسمع كلاماً لا ريب فيه، وإنّني أحسّ بضاغط يضغطني ولا عهد لي بمثل هذا من قبل !. ربّاه إنّ هذا أمر يدهش فكن اللّهمّ عوني، وخذ بيدي ، وثبت فؤادي ، وقوّني على مواجهته إذا عاودني .

نعم إنّه ليخيل إلينا أنّ المفاجأ بذلك الروح هكذا كان يتناجى في نفسه ويناجي ربه بمثل هذه الكلمات وهو ذاهب إلى خديجة فلما لقيها قال «دثروني دثروني ».واختصر لها الحديث اختصاراً .

دثرته «خديجة» وجعل العرق يتصبب منه . وقد عاوده الروح بعد ذلك . وقال له «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ *وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ *»

***

إنّ من يفاجأ بمثل هذا جدير بالحيرة وهذا ما أشرنا إليه هنا ولكن مع هذه المفاجأة قد أونس باسم ربّه فكان هذا الاسم الجليل حريّاً أن يكون دواء شافيا من تلك الحيرة وكافياً أن يفتح باب الهدى والطمأنينة

ص: 125

الروح «جبريل » يقول له أنا من عند ربك ، جئت أبلغك رسالته، جئت ألقي عليك وحياً من عنده ، وفي هذا الوحي الذي جاءه به مفتاح لتلك المغالق التي اشرنا إليها آنفاً التي كانت تقف أمامه دائما.. في هذ الوحي مبدأ ارشاد وتعريف له بربّه خالق الانسان، في هذا الوحي اهابة بفكره لتناول معارف عليا ، وتعاليم عظمى، في حقائق الوجود .

كانت الحيرة تردفها الحيرة . وأما هذه الحيرة فإنّ الهدى يردفها لأنّ العناية الالهية ظهرت أتم ظهور ، والعطاء الرباني سُلّم جليا لتلك اليد التي كانت مرفوعة في «حراء » تلقاء السماء .

وكان أول معراج عرج بصاحب هذه اليد عليه إلى تلك الحضرات القدسية هو اعلامه علم اليقين بأرواح عالية تتكلم هي غير الارواح الانسانية الحالة في هذه الصور البشرية وذلك بجعل واحد من هذه الارواح واسطة بينه وبين مفيض الحياة والعلم والارادة .

هذه عنابة كبيرة جداً لم يرو التأريخ وقوع مثلها إلّا لقليلين : منهم النبيّ ابراهيم، والنبيّ موسى، والنبي عيسيّ ( عليهم السلام ) .

يقول له الروح «جبريل » « «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ » فهذا القول العربي الجليل يصور له من النشأة المادية في خلق الانسان صورة يتجلى فيها عظيم قدرة البارىالمصور، وعظيم ضعف هذه الصورة البشرية لولا روح الله الممد لها .

بقول له الروح « جبريل» « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»، وهذا القول المجيد يصور له من النشأة الروحية في كون الانسان صورة يدهش الالباب فيها عظيم صنع الله في ترقية

ص: 126

الانسان بواسطة قصبة لا يؤبه لها لدى النظر . نعم بواسطة قصبة نعني بها القلم كان الرقي العظيم العقلي لهذا الكائن الذي خصت العناية الازلية نوعه بمزيد خصائص.

وغريب في الأمر أنّ المواجه بهذا الخطاب لم يكن من ارباب اليراعة بل كان أميا لا يعرف القراءة ولا الخط بالقلم فما معنى أن يكون أول وحي يوحي اليه هو الامر بالقراءة والتنويه بالقلم .

لا بدع . لا بدع . ان معنى ذلك هو تكرم الله عز وجل على البشر باعطائهم آية أخرى يفقهون بها أنّه قادر أن يعلم من لدنه بغير ماعرفوا من الوسائط من شاء ما شاء إذا شاء . وأن يجعل غير القارى قارثاً ولكن يقرئه بالروح صحفا ربانية قد أنزلها الله على قلوب البشر بأساليب شتى أجلها وأعلاها هذا الاسلوب

***

ما أجل هذه العناية وما أجدر « خديجة» بالسرور الذي ليس فوقه بها ولكن هل عرفت هذا السر الرباني تماما ؟ نعم كان قلبها القوي خليقا أن لا يفزع أمام هذه الحادثة التي هي غريبة في ظاهرها بيد أنّها كانت محتاجة أن تطرق تفسير هذا السر وهذا المظهر الجديد من أبوابه .

ص: 127

الفصل الثامن عشر -(عظم المنة باتساع المنة )

كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قوي القلب جداً تدلّ على ذلك سيرته كلها من أولها إلى آخرها . ولكن مهما قوي قلب أمام الحوادث المعتاد وقوع أمثالها بين الناس فلا يدلّ ذلك على أنّه لا تأخذه روعة أمام صوت غير بشري ، يهيب به إلى أمر غير حسي . لذلك لا ينبغي أن نستغرب الروعة التي أخذت لأول وهلة ذلك القلب القوي العظيم فإنّه دعي من لدن الحق بواسطة الروح إلى وظيفة تنوء بحملها المنن ، ويجب بحسب حدودها قلب السّنن .

إي لعمر الحق لا غرابة في روعة تنقض الظهر ، إذا حدثت لمن نودي هذا النداء بهذا الامر ، وبديعي احتياج هذا المأمور إلى شرح الصدر ، والتأبيد ورفع القدر ، ولا بدع إذا ضمن له كل تأييد من أراد أن يكون قلبه محلاً لتنزلات وحيه الأعلى

نعم ألمت الروعة بقلب صاحب « حراء» لما نزل عليه الروح بما نزل به عليه وقد صرح لخديجة بذلك وقال لها « لقد خشيت على نفسي » ولكن التأييد حافٌّ به ، والايناس صافٌّ من حوله ، وناهيك أنّ في منزله

ص: 128

الذي اليه يثوب روحاً شريفاً كأنّ الله قد أوجده خاصة لتأييده وشرح صدره باديء بدء هو روح السيدة « خديجة ».

لم تكن هذه السيدة أقوى منه من بطلها الكريم ولكن هو واجهته روائع الجلال مواجهة، فأخذته بين حيرة وشوق وخشية عجز عن القيام بالوظيفة . وأما هي فسمعت بالامر سماعاً ، ووجدت للتفكر فيه مجالاً، ولا يناس الرفيق مقالاً.

ولو بدهت امرأة بما بُدهت به هذه السيدة من هذا النبأ العظيم وكان ينقصها ماحلأها الله به من الفطنة وبعد الادراك وسلامة الفطرة وما أعطاها من قوة التميز في وزن الامور ومعرفة مقاييسها لتراخت مفاصلها ووهت قوتها أمام هذا الحادث الغريب . ولكن العناية الازلية التي لها اليد في اظهار هذا المظهر الاعلى قد أتمت العمل من أوله إلى آخره و نسقته على أحسن منوال فلا بدع بما نراه في هذه السيدة من الصفات التي تساعد على استقبال أمور عظيمة لأنّها خلقت لتكون زوجة لذلك الرجل الذي سيأتيه أعظم الامور ویأتي به .

تفکرت «خديجة» في هذا الامر وأخذت تسائل نفسها بنفسها وللأمل ههنا وجه والخوف وجه : فالأمل يقول لها إنّ الامين لصادق و إنّ روحه تزكية قوية لا سلطان لروح الشر عليها والروح الذي جاءه إنّما بلَّغه باسم ربّه أنه اصطفاه رسولاً والله على هذا قدير ، وباختصاص من شاء بما شاء جدير ، وأيّ شيء يمنع ربّ العالمين إذا أراد أن يتكرم على هذا البيت بإنزال وحيه فيه فيغدو بعد الآن مشرقاً لا تضاهيه المشارق

ص: 129

يفيض النور على القبائل والشعوب ، انت اللّهمّ على هذا قادر إذا أردت ولا مانع لما أعطيت ! والوجل يقول لها ما هذه الحال التي أخذت حبيب قلبي فراعته ، إنّي لأخشى أن يكون أمراً جسمانيا بحتاً كما قد يعرض للأفراد ، إنّی لأخاف أن يصبح هدفاً لري الاضداد. ولكن سرعان ماغلب الأمل على الوجل ، والمنة على الضعف ، ووشكان ما تبدت لها وجوه الادلة على أنّ ما أتى بعلها الكريم هو یريد خير عظيم، ومقدمة فلاح عميم ، وكانت أدلتها على ذلك عقلية ونقلية تقدمت العقلية منها على الثانية .

الفصل التاسع عشر- (الأدلة العقلية )

لما قال « محمد » ( صلى الله عليه وسلم ) لخديجة « لقد خشيت على نفسي» قالت له «كلا والله مايخزيك الله أبدا . إنّک لتصل الرحم ، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم ، ونقري الضيف ، وتمين على نوائب الحق ، و تصدق الحديث، وتؤدي الامانة ».

إنّ هذا الكلام الذي صدر منها على الفور هو نتيجة معرفة سابقة ، هو نتيجة تفكر جميل قد أعطى الثمرة سريعاً ، هذا الكلام الوجيز يؤلف استدلالاً عقليا من أعظم الاستدلالات فإنّه قد أتى ساذجا نظيفا لا غبار عليه من التكلف ، ولا شيء منه بواقف أمام الذهن ، هو قياس باهر النتيجة ، مطوي بعض الحواشي ، ومن أبدع الأقيسة نظما ، ومن أجملها وقعاً، بيد أنّ الافهام كدأبها في التفاوت ، وعلى سنتها في التخالف ، لا

ص: 130

يستغني كثير منها عن تشريح هذا القياس لتطلع على قلبه وأعضائه واحدا واحدا. فحينئذ یلوح لها انطواء الافادات الغزيرة ، في هذه الكلمات الوجيزة ، وتعلم من قريب أنّ الحكمة بيد الله يؤتيها من يشاء .

(1)

يخرج من كلام هذه السيدة أنّ النوع الانساني محل لعظيم تجليات رب الانواع كلّها . ولذلك يحب كلّ ما يؤدي إلى تسامي هذا النوع ويخلق الاسباب لذلك ويأخذ بيدها لتتغلب على ما اظهره بحكمته التي لا نعلمها من أضدادها .

(2)

ويخرج من كلامها أنّ الله عز وجل مطلع على اعمالنا ومجاز عليها و أنّه يحب منّا أعمالاً ويكره أخرى وأنّ الذي يحبه منّا على حسب تفكرها هو الاستقامة ومساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة الضعفاء .

(3)

ويخرج منه أنّ من يفعل الخير لا يأتيه إلّا الخير . والخير الذي نعبر عنه بهذا اللفظ قد جاء في عبارة السيدة بتفصيل اعمال كلها من باب مساعدة الانسان للانسان فهذه المساعدة في نظرها كل خير أو هي كل الخير فهل يكافىء الله فاعل الخير بغير الخير ؟ إنّ هذا لا يكون على حسب تفكرها .

(4)

ونتيجة قياسها أو أقيستها انّ هذه رسالة ربانية فيها الخير لا الضير وأنّ الله عزّوجلّ سيتفضل بتأييد هذا المأمور في حمل هذه الامانة على ثقلها وصعوبة تأديتها لقوم ينكرونها ولا يعرفونها .

ص: 131

الفصل العشرون -(شرح حكمة السيدة خديجة )

ان محيط جلال الله الذي ليس له حد لا تبلغ سفن العبارات شيئاً من سواحل التعريف به حق التعريف . وإنّما هي لتستعين النفس على بث حبّها له عزّوجل وتمجيدها إيّاه و ليزداد شوق النفوس إلى الكمال، وتعبدها لذلك الجلال ، لقد عزت صفات واجب الوجود عن أن ترسمها اللغات، كما عزت ذاته عن أن تحدها الجهات، وانّ حقيقته لهي فوق المجاز والاستعارات .

لكن الانسان خلق عظيم الشوق إلى تصور ربّه ، وغير صبور عن الاشارة إلى وصفه ، وليت شعري أنّى يبلغ الواصفون صفة من كنهه محتجب في خزائن الغيب الاعظم ؟

لقد نفد صبر الانسان في هذا الامر من قديم الازمان وأقدم على وصف ربّه فلم يجد غير الاستعارة حيلة فوصفه بما يتصف به الانسان نفسه ولذلك وقع تناقض كثير في أوصاف الواصفين لأنّ رب العالمين غير حادث ولا تشبهه الحوادث تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

ولقد ظهر بين البشر رجال منهم أتتهم الارواح وكلمتهم من عند الله فأيد كلام الله بواسطة الروح مادرج عليه الناس من الاستعارة فأصبح هذا الأمر عاماً لا فرق بين الناس فيه إلّا فيما اختلفت فيه عباراتهم .

والافكار المستقلة تؤدي إلى قبول هذا الاسلوب أيضاً لأنّ التفاهم في هذه الابواب لا يستغنى عنه ولا يمكن إلّا بالعبارة

ص: 132

إلى الله سبحانه يرجع كل شيء فهو أنشأ الانسان على هذا المثال ، وهو علمه ماقد عرفه الى الآن ، وخلاصة ما عرفناه من ظواهر التكوين أنّ البارى المصور عزّوجلّ لما أراد أن يكون هذا الانسان مميزا عليماً أظهر الاشياء أمامه مبنية على التضاد ، وجعل تميز الاشياء بأضدادها، وأودع فيه ضدين جعل عليهما مدار سيرته كلها في حياته هما الاستحسان وضده، وجعل مع الاستحسان الشوق والحبّ، ومع ضده النفرة والبغض. واقتضى ناموس التضاد الذي عليه مدار تمييز الانسان أن تتخالف أفراد هذا النوع في الاستحسان وضده فكثرت أسباب تخالفهم فنشأ بينهم الضدان المسمي أحدهما خيراً والآخر شراً . واحتاجوا إلى جواذب تجذب الخير ودوافع تدفع الشر فرجعت كل معارفهم إلى معرفة هذه الجواذب والدوافع . ومن نمي منهم علمه بها وسما عمله على موجب هذا العلم سموه حكيماً.

و هل جائز أن يكون بعض افراد الانسان حكيماً و البارى غير حكيم ؟ كلا، ثمّ كلا بل ليست حكمة الانسان إلّا من الله ، والله هو العليم الحكيم.

نعم ، بيد أنّنا نفقه معنى حكمة الانسان لأنّنا نميزها بضدها وليس لعلم الله وعمله وارادته جل جلاله من ضد.

انظر تجدنا نعرف الاسرار في كل دقيقة من الدقائق التي يؤلف الانسان منها شكلاً من الاشكال لأنّ الانسان إنّما يصنع ما يصنع للاحتياج والاستفادة وأما الذي اراد ظهور الاشياء بهذا التنوع فلم يرد هذا لحاجة او جدوى تعود عليه . ثمّ انظر تجد أنّنا نسمى ما يصنعه الانسان لا لفائدة عبثا ولا نسمي عمل المستغني عن الفائدة عبثاً مع أنّنا لا نرى فائدة في عمله لا له لاستغنائه وتقدسه، ولا للمصنوع من معدن و نبات وحيوان وغيرها .

ص: 133

فإذا أمعنت النظر يظهر لك أنّنا لا نستطيع أن نعلم ماهي حكمة الله في ظهور الاشياء على ماهي عليه ولكن نقص هذا العلم لم يمنعنا عن القول بأنّ له حكمة في كل شيء وتعلم من هذا وضوح عجز العبارة في كشف خدور هذه الحقائق مع عدم الاستغناء عنها .

ثمّ إذا رجعنا النظر إلى علاقة هذه الظاهرات بالانسان يبدو لنا أمر يحمل على مزيد التفكر والتذكر ذلك أنّ كل شيء منها يفيد الانسان حكمة إذا تصدى لقراءته على صفحات الاعتبار ، انّ الانسان ليرى إذا تأمل نظاماً بديعا في هذه الظاهرات ويرى له نصيبا في كل شيء منها .

فمن هذا الوجه قد يصحّ لنا القول بأنّ من جملة حكم الله تعالى في هذه الظاهرات تجلي آلاته وكرمه بجعل علاقة النفع والانتفاع بين هذه الانواع والصنوف التي لا تحصى وبين هذا الكائن الصغير الجرم .

هذه العلاقة ظاهرة يكاد يراها كلّ من تأمل في استفادتنا معشر البشر من كل هذه الظاهرات . أما محبو الحكمة فيعمقون نظرهم ويتلمسون الاسرار في تشكلاتها وتألفاتها على هذه الوجوه والاوضاع. ولو فرضنا أنّها جاءت على غير هذه الوجوه لتوجهت انظارهم إلى استجلاء فوائدها ثمة أيضا لأنّها كلها من الله ، وما من الله لا يكون عبثا بل يستفيد منه الانسان حكمة أو شيئاً آخر فكأنّ الانسان أكرم من كل هذه الظاهرات وكأنّه هو المقصود بأن تنكشف له الحكم والاسرار الربانية .

هذا هو الاساس الذي أقيمت عليه قواعد حكمة الانسان وهو مبدأ سيره لمعرفة حكمة الله الحكيم الاعلى جلّ وتقدست أسماؤه .

***

ص: 134

حكمة الانسان في الحقيقة هدية ربانية يختص بها مرجع الاشياء من أراد اظهاره سليم الفطرة ، حاد الفكرة ، فهو يكون كثير الذكر ، قليل النسيان ، والكائنات كلها عبر ، وتعليم لمن تذكر . وليست حكمة الانسان تلقيناً يقدم له كل مرء ، وبؤتاه كل احد في كتاب يكتب ، او خطاب يخطب، لكن مع أنّه لم يكن أحد مستعداً أن ينال الحكمة نجد الحكمة ذات بركة شاملة تزور بيوت غير الحكماء ايضاً فتملأها فوائد كثيرة من غير أن يشعر أربابها بحركتها وحركة حاملي لوائها

***

كانت السيدة « خديجة » ذات نصيب من هذه الهدية العليا الربانية هدية الحكمة ، وقد رأى القارى، آنفا شيئاً من حكمتها وجميل تفكرها وتذكرها و نحن في هذا نشرح ذلك الاجمال، وتزيد المقام حظا من ذلك الجمال:

(1) فهي رأت أنّ النوع الانساني محل لعظيم تجليات رب الانواع وأنّه سبحانه يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذا النوع. وحق ما رأت فإنّ اظهار هذا النوع على هذا المثال هو أوضح ضياء یرى به المدلج أنّ الله سبحانه أحبّ أن يُعرف فاقتضت ارادته ظهور هذا النوع مستعداً للمعرفة وعظيم الشوق إليها . والانسان في ظهوره جسماً وروحاً وتفاوت أفراده بالارواح تفاوتاً عظيماً قد أصبح دون ريب من أكبر الآيات في هذا الباب على ذلك الشأن العظيم من المراد الالهي ، وأضحي مجمع أسرار وكنز حقائق لا يماري فيها إلّا من جعل النسيان بينهم وبين الملكوت الاعظم حجباً.

و من المشاهد أنّ الباري عزّوجلّ يخلق الاسباب المساعدة على ترقي هذا النوع ويأخذ بيدها لتتغلب على ما أظهره بحكمته التي لا نعلمها

ص: 135

من أضدادها . إنّنا قد شاهدنا ماجرى ويجري من الدفاع والجدال بين جواذب الانسان الى حنادس الجهل ، وجواذبه إلى مشارق العلم، فوجدنا الغلبة للثانية على الاولى، وحسبك انّ الانسان بعد أن كان كسائر الحيوان لا يفقه غير حاجته إلى عشب يصد به ألم جوعته، وماء يرد به ألم عطشته، أصبح يعرف الغوامض من أمور الكواكب، وبحسب من حركاتها ما هو أقلّ من لمح البصر حتى تسنى له بذلك أن يعرف متى يكون الخسوف والكسوف ، دع عنك معرفته بما فوق الثرى وما تحته، ودع عنك توصله إلى استخدام الروح الساري في هذه الظاهرات الدنيا نعني به الكهرباء ودع عنك استفادته من الارواح العليا . واتيانه بواسطتها بالانباء البعيدة والمحجوبة .

(2) ورأت السيدة «خديجة » أنّ البارىء عزّوجلّ مطلع على أعمالنا و مجاز عليها وأنّه يحب منّا أعمالاً ويكره أخري ... ومن تذكر ما حررناه في مقدمة هذا الفصل يعرف أنّ مثل هذا التعبير يقصد به تصوير معان من كمال الله تعالى فهو سبحانه محيط بالوجودات كلها وقد جعل لها سنناً من جملتها أن جعل أفراد النوع الانساني محتاجين إلى ارشاد بعضهم لبعض ومعاونه بعضهم لبعض ولا تنس أنّ الله سبحانه قضى بالتضاد ليميز به الانسان فما قرب من سننه محبوب عنده، وما بعد عنها مكروه لديه . هيهات هيهات أن نعرف ما معنى محبته سبحانه وكراهيته لأنّه سبحانه لا ضدّ له ، ولكن هذا العجزلا يثنينا عن الاعتقاد بأنّه يحب ما ينفعنا ويكره ما يضرنا كما هو مقتضى حكمته ورحمته بحسب ايماننا وإنّما خلق الضارّ والمكروه مع النافع والمحبوب ليتم ناموس التضاد الذي قضت به حكمته

ص: 136

ومن أمعن النظر بكل ما سلف هنا يتبين له أنّ في مقدمة المحبوب لديه مساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة القوي للضعيف. ومن يرزق هذا الروح لا يكون إلّا سليم الفطرة ، طيب القلب ، غير متهيج لنقص حظ ، ولا متعال بزياده نصيب ، فلا يكون إلّا محبوباً تأتيه المساعدة من قبل عالم الغيب وعالم الحس والشهادة .

(3) على هذا ترى هذه السيدة أنّ الله سبحانه لا يكافئ فاعل الخير بغير الخير في هذه الحياة ، وأهل الملل يقولون هذا القول باعتبار ما يلقى المرء في الحياة الثانية التي إنّما تكون لنيل الجزاء، وأما في هذه الحياة فمنهم من يذهب هذا المذهب الذي ذكرناه ومنهم من يقول إنّ فاعل الخير يبتلي في هذه الحياة بالشرور .

ونحن لا ينبغي أن ننسى أنّ مذهب هذه السيدة مشوق لفعل الخير لأنّ المجازاة عليه في هذه الحباة والحباة الاخرى مما يزيد محبيه حباً فيه. واليه أذهب ، وبه أثق ، ولا عبرة بمن يشذ عن قاعدة هذا المذهب ممن ظاهرهم الخير والله أعلم بسرائرهم .

هذا بعض تفصيل لما جاء مجملاً في حكمة السيدة «خديجة» ولم نسوغ الزيادة على هذا المقدار خشية تعب الرفيق القارئ ومنه يعلم رفيقنا أنّ هذه الاستدلالات العقلية كافية لمن كان له قلب سليم کقلب سيدتنا أن يعرف معرفة تدفع الريب أنّ الروح الذي وافى معدن الخير محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إن هو إلّا روح خير وسلام ، وفلاح ونعمة واكرام ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظیم.

ص: 137

الفصل الحادي والعشرون - ( الدليل النقلي )

اقتداء الناس بعضهم ببعض أمر قد ألفته طباعهم عظيم الالفة. وربما كان من سنخ غرائزهم، ومن مادة تصورهم ، إذ رأيناه عريقا في مرافقة الاجيال، والتنقل في الانسال، وموغلا في الرسوخ والاستقرار، والدوام والاستمرار ، لا يزحزحهم شيء عنه ، ولا يفصل بينهم وبينه فاصل .

هذا الاقتداء نفع البشر كثيرا ، واضرّ بهم كثيرا ، فاما نفعه اياهم فلأنّ الاكبر سناً ، والاكثر فهماً ، والاشد قوة، والاغزر تجربة، يجعلون المقتدين بهم يبتدئون حيث انتهوا هم ، ويمهدون لهم ما لا يستطيعون أن يمهدوا لأنفسهم ، ولو بقي الطفل والغبي والضعيف والغر خالين من طبيعة الاقتداء لراحت اكثر التجارب والاختراعات والتفكرات والاعمال العظيمة سدى ، ولولا الاقتداء لما تعددت الاعمال والصناعات، ولا كثرت البدائع ، ولا ارتقي التمدن ، ولانمي العمران، ولاسيما النظام . وأما اضراره فلأنّه ساق أحيانا إلى الاقتداء بالجاهلين والمفسدين ، ووقف أحياناً بهم بأقوام مع ماسن لهم اسلافهم وقفة الصخور ، وجعلهم يحرمون مما يأتي على أيدي الحكماء من الهدى متى خالف ماعرفوا من قبل ، و إن اصبح ماعرفوه منكر ا لدى أهل زمانهم أجمعين .

البحث عن نقمه واضراره ، ووضع الموازين للدرجات فيه، لا قرابة

ص: 138

بینه و بین موضوعنا ، ولكن اتخاذ الناس بعض كلام الآخرين من جملة الادلة هو الذي حملنا أن نقدم هذه الكلمات في وصف عراقته وبيان أنّ بعضه نافع كما وقع للسيدة « خديجة » .

***

كان للسيدة «خديجة » ابن عم قد شبع من الاعوام ، وارتوى من حديث الانام ، قد تعلم العبرانية وقرأ بها الاسفار ، وعرف بها الاديان ورضي بدين ابن مريم ( عليه السلام ) ديناً وهو « ورقة بن نوفل ».

هذا الشيخ الجليل كان جديراً أن يكون اماماً لخديجة تتخذ قوله حجة و هديه معتصماً لأنّ هناك وجوهاً كثيرة تدفع عن نفسها الريب بأنّ هذا الرجل أعلم منها بهذه الامور و أنّه لا يصدر عنه إلّا النصح لها. فهو بالدرجة الاولى ابن عمّها بل بحسب السن مع القرابة هو في مقام ابيها ، فلو أنّ ورقة غشاش مخادع لما كان منه الغش والخداع لبنت عمه فكيف وهو مستمسك إذ ذاك بدین ذلك الانسان المملوء قدساً الذي كان اكبر همه حث الناس على التحابّ ونفع بعضهم لبعض، ونهیهم عن التشاحن وايذاء بعضهم لبعض . وهو مع قرابته وسموّ التعاليم التي تزكت بها نفسه كان في نظر خديجة سامي الهمة جداً.

ذلك ما حملها على الاسراع إليه لتقص عليه الخبر وترجع في هذا الامر إلى علمه وأخذت معها بعلها ليقص هو نفسه على سمعه ما رأى.

كان ورقة بحسب ما قرأ وعرف مصدقا بأن ليس هذا الهيكل البشري إلّا مظهراً لشيء يحل فيه هذه المدة القصيرة بإذن الله وهو الروح، وأنّ للروح ظهورات غريبة في بعض الهياكل، و أنّه توجد أرواح من شأنها الاجتنان عن الحس والعيان تتمكن من الانسان من حيث لا يشعر، صنف منها يحب جذبه إلى سبل التكمل ، وصنف منها يحب بقاءه في

ص: 139

حضيض البهيمية ، يقال في العربية للاول ملائكة وللثاني شياطين .

كان مصدقاً بكلّ هذا ومؤمناً أيضاً بأنّ بعض الارواح الذين هم الملائكة يختصم الفاطر المصور يزيد خصائص ويجعلهم نواميس أي وسطاء الوحي الأعلى للذين يريد سبحانه أن تكون ظهورات الروح فيهم سامية جداً.

كان قد قرأ الانبياء وعرف مجيء الارواح إليهم وعرف أنّه يقوم أنبياء كذبة وأنبياء صادقون وأنّ لهؤلاء وهؤلاء علامات. فنحن لما سمعنا ذهاب خديجة إلى هذا العالم المسيحي خطر ببالنا أنّه لا يكون سهلاً تصديقه بقدسية الروح الذي أتى محمداً (صلى الله عليه وسلم ) لأن يوحنا الرسولي يقول في رسالته الاولى «أيها الاحياء لا تصدقوا كلّ روح بل امتحنوا الارواح هل هي من الله لأنّ أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله . كلّ روح يعترف بيسوع المسيح أنّه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكلّ روح لا يعترف بيسوع المسيح أنّه قد جاء في الجسد فليس من الله ، ولكن الذي خطر ببالنا أنّ وقوعه صعب قد رأيناه أمراً واقعا فإنّ ورقة بعد أن سأل بعل ابنة عمّه يضع مسائل قال له هذا هو ناموس موسى أي الروح الذي جاءه . والظاهر أنّه لم يقل هذا القول ولم يصدق هذا التصديق إلّا بعد أن عمل الامتحان الذي أوصى به يوحنا الرسولي وظهرت له العلائم الدالة على أنّ هذا الروح من الله على حسب ما أعلم من الكتب .

نحن لاندعي العلم بتفسير هذه الكلمات التي ليوحنا ولا طريقة الامتحان التي أشار بها ولكن نظنّ أن ذلك العالم القريب من ذلك العهد بالنسبة إلى زماننا هذا كان لا يجهل هذا التفسير . وكذلك لا ندعي العلم بتفسير قول موسى لبني اسرائيل «إنّ نبياً مثلي سيقيم لكم الرب الهکم من

ص: 140

اخوتكم» ولا تفسير الاصحاح الثاني والاربعين من «اشعياء» ولكن يظهر لنا أنّ ورقة قد فهم من قول موسى هذا ومن اشعياء أنّه سيكون نبي من العرب يكون مقامه حوالي سلع ذلك الجبل المعروف في البلاد العربية. وهذا نص مافي أشعيا :

«1-هوذا عبدي الذي أعضده ، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم 2 -لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته .3- قصبة مرضوضة لا يقصف ، وفتيلة خامدة لا يطفىء إلى الامان يخرج الحق . 4- لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته . 50 هكذا يقول الله الرب خالق السموات و ناشرها ، باسط الارض و نتائجها ، معطي الشعب عليها نسمة، والساكنين فيها روحاً 6 -أنا الربّ قد دعوتك بالبرّ ، فأمسك بيدك ، فأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للامم. 7- لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة . 8- أنا الرب هذا اسمي ومجدي ، لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات. 9- هوذا الاوليات قد أتت ، والحديثات أنا مخبر بها ، قبل أن تنبت أعلمكم بها . 10- غنوا للربّ اغنية جديدة ، تسبيحة من اقصى الارض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها . 11- لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا. 12 -ليعطوا للرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر ».

***

قد قلت وأعيد قولی إنّني لا أدعي العلم بتفسير هذه الكتب ولكنّي لما رأيت ورقة قال لزوج بنت عمّه هذا هو ناموس موسى بحثت عن منشأ

ص: 141

قوله هذا فوجدت فيما ذكرت آنفاً من قول موسى واشعيا ما يشبه أن يكون مأخذاً فمن أراد أن يقول لي لا يفهم من قول موسى وأشعيا ما فهمت لا يجدني آسفاً على عدم إصابة ظنّي بخصوص ما حمل ورقة بن نوفل على قوله هذا فإنّه يجوز أن يكون قد عرف ذلك بغير ما ظننته . ولست في هذا المقام بذي حجاج ومناظرة إن أنا ههنا إلّا كاتب سيرة أجتهد باستقصاء فروع حوادتها وتفسيرها على قدر فهمي ومبلغ ما وصلت اليه من النقول .

وههنا مسألة جليلة لا نستطيع مفارقة هذا المقام من غير أن نوضحها ونسهل فهمها على القارئ وهي إنّ الارواح قد تعلم بعض الاشياء قبل وقوعها إذا كشف الله تعالى لما عنها بواسطة النواميس أو واسطة غيرها .

هذا المعني كان بنو اسرائيل يقولون به کما کان كثير من الامم الاخرى تذهب إليه وقد جاءت كتبهم حاملة سلسلة من أخبار هؤلاء البشر الذين كان الروح الالهي ينزل عليهم فينبشهم بما سيكون . وتبتديء هذه السلسلة المهمة في كتبهم بحديث نوح الذي أنبئ فأنبأ بأنّه سيكون طوفان ويموت كلّ من على وجه الارض وهدي إلى صنع الفلك فصار الطوفان ونجا هو وأولاده ونساؤهم وتناسلوا بعد الطوفان ثمّ تفرقوا ثمّ اصطفى الله من هذه الانسال ابراهيم (1) وكان ينزل عليه روحاً من عنده و شاخ، ابراهیم وزوجته سارة من غير أن يصير لهما نسل ولكن حبلت منه أخيراً هاجر جارية زوجته ونزل عليها الروح وقال لها سيكثر نسلك فلا يعد من الكثرة فولدت له إسماعيل ثمّ أنبئ أنّ زوجته سارة ستحبل وتلد بعد هذه الشيخوخة

ص: 142


1- ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفکشاد بن سام بن نوح ( كذا في التكوين )

وطول هذا العقم فولدت له اسحاق وأنبئ إنّ نسل اسحاق سيكون كثيراً أيضاً. وغضبت سارة على هاجر فطردتها وغلامها فنزل على هاجر الروح وقال لها لاتخافي لأنّ الله قد سمع صوت الغلام وسيجعله أمة عظيمة وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية برية فاران التي قال عنها موسى (علیه السلام) إنّ الله سبحانه تلألأ فيها .

وتأخذ كتب بني اسرائيل بعد ذلك بسرد أخبار من تناسل من اسحاق بن ابراهيم وأما أخبار من تناسل من أخيه اسماعيل (علیه السلام) فلا تذكرها فابن اسحاق يعقوب (علیهما السلام) وهو اسرائيل (علیه السلام)كان الروح ينزل عليه ، ويوسف بن يعقوب (علیهما السلام) كان الروح يجيء اليه .

و یوسف هو سبب مجي بيت يعقوب إلى مصر وهناك تناسلوا وكثروا حتّى ولد فيهم موسى صاحب الشريعة الشهيرة. هذا أيضاً كان ينبّأ وينزل عليه الروح وهذا قال لقومه « إنّ نبياً مثلي سيقيم لكم الرب الهكم من اخوتكم».

واسس موسى لبني اسرائيل ملكاً على الوحي الروحي وخلفه بعد موته تلميذه يوشع بن نون و بعد موت يوشع بدأ الفساد والضعف يحل بهم ثمّ انتشلهم داود وسليمان وتعاظم الملك في أيام سليمان ثمّ طرأت عليه بعده الطوارئ حتى زال . ولم يخل زمان من أزمنة ملوكهم وبعدها من نبیّ أو عدة أنبياء حتى نزل الروح أخيراً على مريم أم عيسى (علیه السلام)وبشرها بأنّه يكون لها ولد من غير أن يمسّها بشر ، وقد ولدت مريم عيسى على هذه الصورة التي بشرت بها وصار نبيّاً أيضاً ولكن قومه كذبوه ولم يصدقه ؤلّا قليل. وقد كذبوا من قبله أكثر الانبياء الذين كانوا ينذرونهم بزوال الملك إذا ظلوا على الفساد .

ص: 143

أنا لا أعرف لماذا يكذب بعض الناس بأشياء هم مصدقون بمثلها ، أو يصدقون باشياء هم مكذبون بمثلها . هذا أمر وقع كثيراً ويقع دائماً أمام أعيننا واسماعنا فهل التصديق والتكذيب بحسب وزن الاشخاص وما هو الميزان في الاشخاص ؟ أم بحسب وزن العقل وما هو سبيل العقل في التصديق والتكذيب بمثل هذا ؟

أنا أرى أنّ من آمن بسعة قدرة الله ، وبعجائب صنع الله، ونفذت بصيرته لرؤبة آثار روح الله ، وآمن بمجيء ناموس الله لعبده موسى (علیه السلام) لا ينبغي له أن ینكر قدرة الله في اخراج عيسى من مريم (علیهما السلام) بغير واسطة بعل ، ولا يجدر به أن يكذب نزول روح الله عليه كما نزل على أخيه موسى (علیه السلام). ومن آمن بعجائب موسى وعيسى ابني اسحاق وبنزول روح الله عليهما لا ينبغي له أن يستبعد نزول هذا الروح على أخ لهما من بني اسماعيل .

هذا أقوله للذين صدقوا بما هنالك من العجائب والغرائب الموسوية والعيسوية وأما الذين لا يصدقون بهذي وتلك ولا يحكمون إلّا للحس والعقل فهؤلاء أمضي بهم إلى التجارب والمشاهدات وأنا واثق أنّا لا نعدم في خزائنها كثيراً مما يؤيد أنّ بعض البشر يخبرون عن بعض الحوادث قبل وقوعها .

فإن قال لي هؤلاء نعم قد يوجد أناس على هذا النحو ولكن ليس هذا سبب اخبار من روح كما تقولون قلت لهم إذا توافقنا في ثبوت الاصل فلا ضير علينا بعد ذلك بالاختلاف في الاسباب وأسمائها .

و إن قالوا لي ما الفرق بين هؤلاء الذين قد نراهم في أزمنتنا هذه من هذا القبيل وبين من تحدثونا عنهم قلت لهم إنّ هذا الفرق ظاهر لأنّ الاختصاص كلّه من الله فهو يعطي انساناً معرفة بعض الوقائع الآتية

ص: 144

و يجعله شارعاً وقائد أمم ومؤيداً بتأييد عظیم لا تحيط به العبارة ويعطي انساناً آخر مثالاً صغيراً من هذه المعرفة من غير أن يجعله شارعاً وقائد أمم ومؤيداً بتأييد عظيم فالاول يقول أنا نبيّ أو أنا رسول ویظهر الله صدقه فيما يقول والثاني لا يستطيع أن يقول هذا و إن قاله لا يظهر قوله حقا. فهل ينكر هذا الفرق الكبير ذو بصيرة لا يعدوها الاخلاص إلى الله والادب مع مجالي أمره ، ومظاهر سره !؟

اقد كان ورقة على ما ظهر لنا شديد الاخلاص متوغلاً في علم الروح ومعرفة النواميس الالهية وأخبارها ، وكان على نور فراسة من ربّه وسرعة استطلاع فلمّا سمع هذا النبأ الجديد تفرس بصاحبه وتذكر ما نقل عن الانبياء واصحاب النواميس من قبل، وتذكر قول موسى لقومه بني اسحاق « سيقيم الله نبيا مثلي من اخوتكم» وما اخوتهم إلّا بنو اسماعيل فقال له هذا هو الناموس الذي نزل على موسى (علیه السلام).

ثمّ تذكر ایذاء الناس للانبياء مع قول اشعيا «لترفع البرية صوتها، الديار التي سكنها قيدار » وقيدار هو ابن اسمعيل ، وقوله « لتترنم سكان سالع» وسالع او سلع جبل على مقربة من «يثرب » من أشهر جبال العربية فلاح له أنّ قريشاً ستضطر هذا النبي الى مفارقة بلده « مكة » فقال له «ليتني فيها جذعاً - اي شاباً - اذ يخرجك قومك » .

و بعد برهة قليلة توفي ورقة . أما «خديجة» فاستمسكت بكلام هذا الرجل أيّما استمساك وأضافت علومه إلى ماقد عرفته هي بدلالة عقلها وتجربتها فأصبح ايمانها بنبوة بعلها ورسالته إلى الناس اثبت من الرواسي

ص: 145

الفصل الثاني والعشرون -) الايمان والآيات وخوارق العادات )

قال بعض الناس في تلك الأيام لا عجب إذا آمنت «خديجة» ببعلها فإنّ رابطة الزوجية تستدعي مثل ذلك ولكن ذا القدرة العظيمة قد أتى هؤلاء القائلين بما يعارض مزاعمهم اذ طقق بعض من سمع هذا النبأ يؤمن به ولم يبق المصدق به « خديجة » وحدها فاضطروا أن يخترعوا أسباباً أخرى للايمان به .

حرب فكرية قامت أمام هذا النبإ الجديد عند شيوعه ، ارتجت له مكة وما حولها، انقسمت الافكار، تباينت الانظار ، وفي مثل هذه المواقف يعرف الراجعون بحسن الفطرة ، وقوة الفطنة إذ يكونون من السابقين في رؤية الدقائق ، والوصول إلى الحقائق .

قال نفر منهم :

« لقد عرفنا محمداً طول هذه السنين فما عرفنا الكذب صاحباً له ، ولا عرفناه صاحباً للخداع، وقد قام اليوم يخبرنا بأمر وقع له ليس هو بدعاً من الامور ، ولا هو بضارنا شيئاً. أتانا يخبرنا بأمر يشبه ما نسمعه عن أمر موسی نبیّ بني إسرائيل ولم يكن أمر موسى إلّا نافعاً لقومه فلعلّ الله سبحانه يريد أن يهدي إلینا نفعاً بواسطة هذا الرجل الصادق الامين منا.»

قالوا :

«يقول صاحبنا إنّ روحاً أتاه وأوحى اليه ما أوحى ، ولا شيء من

ص: 146

هذا ببعيد عن العقل إذا تأدب العقل ووقف أمام بحر القدرة الازلية الابدية وقفة العارف أنّ هذا بحر لا حد له . ويقول إنّه أمر بتبليغ الناس هذا الوجي وما سيتلوه».

قالوا :

« إنّ هذه الدعوى عظيمة فإن كان ما ادعاه حقاً كان من العار العظيم والضرر الكبير أن نرد هدية ربنا عزّوجلّ الذي أهدى إلينا العقل من قبل وهو يعزز اليوم تلك الهدية بهدية أخرى ربما كانت من نوعها وربما كانت من نوع أعلى وهل يرد حامل العقل مثل هذه الهدية بعد أن يذيقه العقل طعم الرشد والمعرفة و یأتيه بروائح ما يهب الفاطر جلّ وعلا من صنوف المعارف . و إن كان ما ادعاه غير حق فإنّ حبله سيكون قصير لأنّ لدينا عقولاً ولا يضرنا حينئذ ظهور أمره ».

وقال نفر:

«لماذا يدعي الصادق الامين هذه الدعوى إن لم تكن صحيحة ، هل فقد عقله ؟ کلا فإنّا لا نزال نرى صحته واعتداله على أنهما ، هل تغيرت أخلاقه؟ كلا فإنّ من الاخلاق ما يرسخ مع كثرة الاعوام وقل ان يثيض الصادق ماثنا . كلابل الامر جد ، والدعوى صدق ، و إنّ لهذا الامر لناصر آمن قوة ساقته بعد أن عاش أربعين سنة - إلى الاتيان بهذا الامر الغريب الصعب عليه ، و إنّ الايمان بقدرة الله تعالى ليدعونا إلى اجابة هذا الداعي من لدنه ، و إنّ الاخلاص ليدفعنا إلى اعلاء الكلمة التي تنزلت إلينا فضلاً من ربنا ورحمة ، إنّا به مؤمنون!».

ص: 147

كان في مقدمة هذا النفر أبو بكر ذلك الرجل الذي لم يعرف إلى ذلك الوقت بعيب عند قومه وليت شعري لماذا تجول الظنون وتحوم في تلمس الاسباب لإيمان أمثال هؤلاء الافاضل مع اتفاق العقلاء على أنّ الذي رسمنا صورته من تفكراتهم هو المطابق لحكمة المعتدلين.

القائل إنّ «خديجة إنّما آمنت ببعلها لأنّه بعلها هو في سعة من ظنّه هذا اذا شاء . ولكن بما مهدنا له من المثل بايمان أبي بكر تتمنى أن يكون انتفع بمعرفة أنّ طريقة ايمان « خديجة » كانت أعلى مما يظنّ .

إنّ الذي آمن به أبو بكر ثمّ مئات ثمّ ألوف غيره لا يجوز للعاقل المنصف أن يحرم زوجته العاقلة من شرف الطريقة التي آمن بها هؤلاء الافراد ثمّ الجماعات

إنّ ظنون الناس تكون على حسب أخلاقهم وطباعهم وتصوراتهم فالذين يصرون على ادعاء أنّ السيدة «خديجة» لم تؤمن بهذا الروح الجديد إلّا لأنّ صاحبه هو بعلها هم إما جامدون في معرفة الاخلاق البشرية على شيء يستعيذ العاقل بالله من تفاهته وهو القسم الرديء منها، وإما هم مجبولون على العناد، وامام مستعظمون لتصديق الانسان بالامور العظيمة من غير أدلة وآيات .

نحن لا نسوغ لأنفسنا أن نعيب أحداً ممن كان حظهم قليلاً من علم اخلاق الناس ولا ندعي أنّا نستطيع بالكلمات القليلة التي نقولها الآن بمساعدة واذن من الصدد أن نودع في أفكارهم علماً جديداً واسعاً ولكنّا نستطيع أن نذكرهم بأنّ أخلاق الافراد ليست على شاكلة واحدة بل منها ماهو في أسفل السفل ومنها ما هو في أعلى العلى ، ومن الناس من يغلب عليهم من الصدق والاخلاص ما يملك قلوبهم و یجعلها بعيدة عن التصنع

ص: 148

والرياء ، وعن الارتياب بالامور التي ليست غريبة عن محيط القدرة والحكمة والعناية الازليات إذا حدث بها المعروفون عندهم بالصدق والامانة ، ويجعلها قريبة من كل ما فيه تمجيد اسم الفاطر جلّ وعلا وتعظيم مظاهر أمره وسره . وبعد هذه التذكرة نستطيع أن نقول لهم إنّ سيدتنا هذه كانت من أهل هذا الخلق الجليل كما تشهد سيرتها . ومتى تزحزح هؤلاء عن مركزهم في علم الاخلاق سهل عليهم أن يشتركوا معنا في معرفة أنّه ليس محكوماً على «خديجة » بالحرمان من الايمان الصحيح المبني على أسباب صحيحة لا على كونه بعلها .

وأما المجبولون على العناد ، والغرور والاعجاب ، فلا تتعبهم بسماع أقوالنا اذ ربما أنت ثقيلة عليهم ، ولا تتعب انفسنا بمخاطبتهم إذ قد تأتي علينا ثقيلة . فلهم دينهم فيما توقفهم فيه جبلّهم ولي ديني فيما يمشي معه قلبي.

و بقيت لي كلمة مع الذي يستعظم تصديق الانسان بالامور العظيمة من غير أدلة وآيات كثيرة . إنّ هذا معذور في نظري والتفاهم بيني و بينه سهل لأنّي لا أطلب ان يترك ما بيده من النظريات بل أمشي معه في الحديث وهي في يده فنبلغ معه غاية حسنة تصلح أن تكون ملتقى لنا معما تشعبت حولها آراء اخرى لكل واحد منّا .

أنا أقول معك يا صاحبى إنّ الذي يطالبه غيره بالتصديق له أن يطالب هو بالأدلة والآيات ، ولكن إذا سمعت بصدق ولم تسع قصة طلبه للدليل والآية فلا تحكم بأنّه آمن من غير دليل وآية إلّا اذا كنت تعرفه من قريب وتعرف أنّ بضاعته كلها تقليد الآباء والمعلمين .

أنت تعرف أنّ أبا بكر وامثاله ممن صدقوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم)

ص: 149

لم يكن لهم آباء سبقوهم في تصديقه، ولا معلمون حملوهم على تأييده و تعرف أنّهم كان لهم حلوم راقية رائقة ، وألباب زكية فائقة ، فهل تظنّ أنّهم صدقوه بنير آيات بينات ، وأدلة ساطمات ؟

المشارب في الاستدلال مختلفة وأخشى أن يكون مشربك فيه كمشرب الذين لا يعدون الآية إلّا الامر الخارق للعادة ولذا رأيت أن لا أودع هذا المقام من غير أن أحادثك بالآيات والخوارق بعد أن اسلفت طريقة « خديجة » على النحوين لتعلم كيف يمكن أن يكون ايمان كل مؤمن بحمّد ( عليه الصلاة والسلام ) .

إذا وقع شيء خارق للعادة لا يستطيع احد حينئذ أن ينكر أنّ آية عظمى ولكن ماهي العادة وهل يمكن أن تخرق ( أي تخالف ) وهل وقع شي من هذا ؟

يعنون بالعادة عادة الاشياء وطبيعتها ويعبر بعضهم منها بسنة الله تعالى في الكوائن والذين بحثوا في امكان خرق العادة لم يفرقوا بين شيء وشيء بل جعلوا الكلام في هذا الموضوع على اطلاقه ومن هنا اشتد خلافهم. والذاهبون إلى وقوع الخوارق لم يذكروا في الامثلة التي أوردوها من صور هذه الخوارق إلّا شيئاً يسيراً جداً لا يصلح أن يلتفت اليه خصومهم فضلاً عن أن تكون به قناعتهم .

إنّ الله عز وجل سننا في كل موجود ، أو نقول إنّ لكل موجود مادة وطبيعة، والشمس مثلاً من جملة الموجودات فهل يقول الذين يعتصمون بالخوارق يمكن أن تصير هذه الشمس برغوثا وتبقى هذه الارض على حالها ويقال الناس فيها ناساً يبصر بعضهم بعضاً بغير نور ويحيون هذه الحياة عينها متمتعين بحدائق وفواكه، ولحوم وشحوم، ومياه جارية، وأزهار

ص: 150

زاهية ، وصيف وشتاء وربيع وخريف ... إلى آخره ... الى آخره ؟

أنا لا أعرف ماذا يقولون ولكنّي مع ايماني کإیمانهم أو أكثر بعظيم قدرة الله تعالى يجدونني إذا قالوا في هذه المسألة « نعم » مفارقاً لهم وقائلاً إذا تغيرت سنة الله سبحانه في الشمس فصارت هي برغوثاً تتغير سنته فيّ ايضاً فأصير أنا غير انسان وغير باحث عن الخوارق .

الذكي يفهم من هذا المثال أنّ بحث الخوارق المدون في كتب جميع الملل لا يقف أمام نفخة من روح الله الحكيم إذا أراد عزّوجلّ اعلان الغيرة على حكمته وسننه ، ويفهم أيضاً أنّ الدين الذي هو من أكبر هدايا العناية الازلية لا يتوقف عليها إذ لو توقف عليها وكان لا بدّ في ظهور صدق المأمور بتبليغه من ظهور خارقة لما تيسر تصديق أحد لأنّ كل واحد حینئذ يخترع فيقترح صورة من الخوارق لسنن الله، وناظم الكون سبحانه لم يشأ إلى الآن نثره على ما يهواه المقترحون .

الاقتراحات لاحدّ لها ولا عد ولا نظام، هذا يقترح مثلاً أن تصير الشمس برغوثا ، وآخر يقترح أن یصير المشتري عصفوراً، وآخر يقترح أن يكون المريخ (طرطوراً) واخر يقترح أن يصير القمر قمرياً ، وآخر یقترح أن يكون عطارد عطاراً، وآخر يقترح أن تكون الزهرة زهرة لا تذبل أبداً، وآخر يقترح أن ينضب البحر كله وتظل الانهار جارية، وآخر يقترح أن يصير البحر كله براً او البرّ كلّه بحر أو الناس كلّهم سمكات مؤمنات مصليات صائمات ، وآخر يقترح أن يكون التراب كله ذهباً ، و تنبت عليه اشجار التفاح والليمون والاعناب والزيتون ، وآخر يقترح أن يصير الوقت كله ليلاً وتحبس الشمس في حجرة من حجرات الملوك ،

ص: 151

واخر يقترح أن يصير الوقت كلّه نهاراً ويذهب النوم إلى الشجرات الدائمة اليقظة ... الى آخره ... الى آخره ...

نعم إنّ مبدع - منظومات الكون لم يشأ إلى الآن نثرها ولا نستطيع أن نقول إنّه ينثرها على حسب الاقتراحات لتأييد الرسل فما معنى مباحثاتنا معشر البشر بأنّه هل يستطيع ذلك أم لا يستطيع بعد ايماننا بعدم تحدد قدرته و بعد سماعنا وحيه يرشدنا بهذا الكلام العالي « فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ».

بعد تقرير هذا اقول إنّ البشر لا يستطيعون أن يعرفوا كل سنن الله تعالى او كلّ عادات الاشياء وطبائعها بل لا يستطيعون أن يعرفوا جميع اسرار كائن من الكائنات وجميع طبائعه بالتمام ، ثمّ هم لا يعرفون ايضاً مقدار عنايه عزّوجلّ بالانسان وانّه مازال یمده بصنوف الهدايات ، وأنّه قد يشاء اعلان آية له لاظهار عنايته به فيريه شيئاً مثلاً على خلاف ما تعلمه من عادات بعض الاشياء التي لا يترتب على تخلف المعروف من عادتها نثر المنظومات ومن امثلة ذلك أنّ النار شأنها الاحراق وقد تقتضي سنته تعالى لا علاء معارف الانسان وهدايته أن يريه النار غير محرقة لسبب تتعلق القدرة بإخفائه.

إنّ مثل هذا یقع ونعده من جملة سنن الله تعالى لأنّ من جملة سننه ابداع هذا الانسان واطلاعه على واسع القدرة ، وبديع الصنعة، واحتجاب الحكمة ، واختصاص العناية .

ومن هذا التفصيل يتبين للقارئ أنّا مؤيدون للآيات لا منكرون لها. وقصارى ما نقول إنّ الدين لا يتوقف على الخوارق بقدر ما يقترح المفترحون ، ويظن الظانون، ويخترع المخترعون ، و إنّما يؤيده الله تعالى بآيات تنشرح لها البصائر المستعدة ، ولا نقول إنّ هذه الآيات فيها

ص: 152

تحويل لسنة الله تعالى او عادة الاشياء وطبائها إذ لا تبديل لسنته سبحانه و إنّما فيها معونة ربانية نعرفها بآثارها .

و ربما كرهنا التعبير بالخوارق الذي اصطلح عليه المدونون وان كانت المناقشة على الالفاظ بغيضة إلينا وبعيدة عن رأينا . ونحب التعبير بالايات (كما عبر القرآن الحكيم ) ویا لله ما اكثر الآيات على أنّ ما أتى به هذا المختار هو فضل رباني وأمر روحاني .

اقد أنبته الله نباتاً حسنا ، وشمله بالعناية منذ كان في الصبا ثمّ الشباب وهو غير شائن ذلك الاهاب حتى دخل الكهولة وتاق إلى التكمل وفي هذه السن بدأه بتحبيب العزلة وتفريغ الفكر من الصور الفواني ليشرق فيه الجلال الذي لا يفنى ثمّ أعلن لروحه روحاً من لدنه كما منح هذا من قبله رجالاً كثيرين من المصطفين كابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ويوسف و موسى وعيسى (علیهم السلام) ومن الآيات انّ هذا الوحي صالح مصلح لنا ولم نجده طلب منّا أن نعبده من دون الله وإنّما قال لنا أنا عبد الله جئتكم بّلاغ من عنده أنّه وحده له الحكم ، و أنّه وحده إليه المرجع والمآب ، ولو قال لنا أنا الهكم لوجدنا مقترحين عليه أن يجعلنا خالدين ، اذن لوجدناه عاجزاً .

الحمد لله لقد جاءنا هذا الرسول بآيات كثيرة لا نستطيع عدّها : جاءنا بالعلوم وهو امي، وجمع كلمة الشعوب وهو وحيد ، ورفع الله له من الذكر مالم يرفع لمثله وجعل هديه باقياً ، وصوته عالياً ، وروح تأييده سارياً ، ولذا ليس اليوم بنا من تعجب حين نسمع ايمان أقرب الناس منه واعرفهم به بل نحن بخديجة وابي بكر مقتدون ، ولو بنا على هذه المنايات والآيات شاكرون ، وبوحي الله لهذا المصطفى مؤمنون

ص: 153

الفصل الثالث والعشرون –(اعلان الدعوة ، واحتمال الاذى ، والثبات )

لم تقف فضائل السيدة « خديجة » عند ما ذكرناه إلى الآن من سيرتها بل هي كالينابيع الثرور لا تغيض. والآن يشرف القارئ معنا على مجلي من اعظم المجالي لفضائل هذه السيدة الجليلة . جاء الآن دور الثبات في سبيل الحق ، وهذا الثبات لا نجده في كل عصر إلّا في صحائف أفراد ندرتهم بين بني آدم أعظم من ندرة الياقوت بين الحجارة ، وكثرة فوائدهم أعظم من قطرات الغيث.

لقد مرّ على بني آدم ألوف من الاعوام وفي كل عصر وجد منهم ألوف الالوف ومن كل هذا العدد العظيم لا نعرف مئة ثبتن في سبيل الحق مع شدة المعارضة ثبات « خديجة »، أما ثبات بعلها الكريم فلا ينبغي أن نقيس به بعد ما قدمناه ثبات أحد فإنّا قد وصلنا في الفصول السابقة إلى بيان أنّه مؤيد أعظم تأييد ، وأنّه سمع الوحي الإلهي آمراً إیّاه أن يقوم بأعباء الرسالة والتبليغ ، فأصبح الفرق بينه وبين غيره عظيماً جداً منذ أتاه هذا الوحي. وعندنا معشر المؤمنين به أنّه هو المختار الاعظم ، والمصطفى الاكبر ، فلذلك لا نرى ثباته في سبيل الحق يعادله أو يقاس به ثبات .

ظلّ هذا المختار ثلاث سنين يدعو سرّا ثمّ أمر أن يجهر بالامر فلم

ص: 154

يجد إلى جانبه زوجة تثبط وتخوف أو يضعف قلبها فتؤثر الراحة وطمأنينة البيت على النصب واحتمال الاذى بل وجد قرينة صالحة القلب للوقوف معه بالصبر والسكينة أمام المعارضين والمعارضات وما أشدّ ما كان أمام هذا الداعي إلى غير ما عرف القوم وما أحوج هذه الحالة إلى قلوب كلما كبر المعاندون كيداً تقول «الله اكبر »؟!

الله اكبر ، كان المعاندون افراداً وجماعات قد امتلكت الانفة والعزة تفوسهم، واجتذبت قلوبهم، وامتصت من أفئدتهم النداوة فأصبحت نسمات الهدى تزعجها ، وحرارة الانذار تكاد تحرقها،

قريش وما قريش ؟! قبيلة ترى لنفسها السبق بكل فضيلة والشرف على كل فصيلة ، لها انوف شامخة كأنّها تطاول السماء ، وأعناق متامة كأنّها تتصيد كل علياء ، تعادّ كل قوم بالنجباء فتكثُرُهم ، وتفاخر من تشاء بالعظماء فتخُرُهم ، مثلها بين القبائل كالشمس مكانة ، وكالروضة نضرة وعبيراً.

هذه القبيلة التي حالها ما وصفنا من قوة الشكيمة وشدة الاباء ومزيد التعالي كانت قد أصيبت من الاقتداء بمضرته إذ كانت بعض العقائد التي صادفتها في موردها ومصدرها في البلاد المجاورة قد التصقت بمقولها حتى أصبحت ترى التصدي لاقتلاعها منها اعتداء على حقوقها، وانتهاکاا لحرماتها .

هذه القبيلة كان لها من نور الذكاء ما يبهر الناظرين ولكن قد تراكمت على افكارها سحائب من آثار التقليد حالت بين ذكائها وبين الحقائق العالية حتي رأيناها تدرج مع البلداء في مدرج واحد من تألیه صور صماء عمياء بكماء جامدة قد صنعتها الأيدي فقامت تحسب أنّ هذه الصور تخسر وتنفع، وتجلب وتدفع، وتقرب إلى الخالق الأعظم وتشفع،

ص: 155

وراحت تعلن أنّ لهذه الصور مجداً، وتستحق شكراً وحمداً ، وظلت تصنع لها ما تصنع الامم لآلهتنا من ذبح القرابين، ونذر النذور ، وتوجه القلوب ، وإخبات الصدور ، وتعلق القلوب .

نعم ساورت تلك العقائد قلوبها حتى صارت الانفس فيها لا تنبسط لشيء انبساطها لتمجيد تلك الآلهة ولا تنقيض لشيء انقباضها للطعن فيها أو النقص من تكريمها .

هذه حال القوم الذين أمر هذا الرسول أن يقوم فيهم منذراً وداعياً إلى معرفة الله تعالى وتوحيده ، وكانت قريش تعرف هذا الاسم الجليل الدال في هذه اللغة على واجب الوجود موجد السموات والارض ولكن لم تكن تعرف ما ينبغي أن يكون عليه جلال الذي يعبر عنه بهذه الكلمة من الكمال والبعد عن مشابهة الحوادث ، وقد جرها الجهل بالله تعالى وسفنه و آياته إلى ماجر كثيراً من الامم إليه من جهل كثير من الحقائق. وإنّي ما أشبه نتائج الجهل به عزّوجلّ إلّا بسلسلة طويلة يستدرج بها ذلك الجاهل الى أسوإ النهايات إذا لم تتداركه الاسباب من عناية الرءوف الرحيم جلت آلاؤه ، وتعالت أسماؤه

ولقد كاد حظ قريش من هذه السلسلة - سلسلة الجهل - يصل بها إلى مستقر لا تغنيها فيه الرفعة على أمثالها من ضرب الجهل خيامه عند خيامهم، ولا تجديها القوة اليسيرة التي كانت تجدها في اجتماعها ذلك . كاد الاتكال على الاصنام يعني كلّ اثار القطرة منها ، ويطمس كل رسوم الذكاء ، ويذهب بماركه فيها من المحاسين بعض فضلاء الاسلاف قبل عهده بهذه الآلهة التي فتنوا بها . أصبحت لانعي ما هو فضل الله، وماهي

ص: 156

رحمة الله ، وما هي عناية الله ، وغدت بعيدة عن معرفة ماهو الروح وما هي خصائص الروح، وما هي عبادة الروح للاحد المحيط بكل شيء ، وراحت معرضة عن العلم بمراقي الامم واتساع دائرتها، وعن معرفة وظيفتها من تتميم ارادة الفاطر بإظهار البدائع على يدها، وظهور آلائه وآثار عنايته عليها ، وأصبح قصارى مايجول بفكر الواحد من هؤلاء القوم أحد شيثين يشيلان في ميزان العقلاء : شيء يرضي به وهمه في التزلف إلى تلك الحجارة التي اتخذها آلهة ، وشيء يرضي به وهمه في الكبرياء ، ولم يدر مغرورهم أن التزلف إلى تلك الحجارة وأمثالها هو منتهى التسفل العقلي ، وأن تلك الكبرياء ، لا تجديهم شيئاً إذا دهمهم داهم خارجي كما وقع لهم يوم «أبرهة».

هذه السلسلة الطويلة من نتائج الجهل بالله تعالى وسننه وآياته اصبحت قيداً لمداركهم قد أحكمت حلقاته فهم لا يستطيعون ما دام موجوداً أن يبرحوا ماهم فيه أنّن جاذبا منه يجذبهم من حيث لا يرونه كلما تحركوا .

هذه هي السلسلة التي اقتضت عناية البارئ أن تظهر آية عظيمة في قدها وتخليص تلك الفطر من قيدها ، واقتضت الحكمة البالغة والتدبير الاسمي أن يكون ذلك بواسطة من انفسهم ، وأن تجري الهداية على سفنها في الاولين فيلاقي الواسطة ما يلاقي ، ويعبر ما يصبر ، ويتم الله ما يريد. ولذلك لما قام هذا المصطفي يعلن هذه الدعوة : أتي تلك الصوادم وما تلك الصوادم جهل وغرور، وكبرياء وعتو، وقسوة وفظاظة، وتعصب للمألوف، ونقرة من الوعظ والنصح، واباء أمام الانذار، وطغيان وبهتان وعدوان، واقدام على قتل الذي يذكر آلهتهم بما يكرهون .

أي قلب لولا التأييد الرباني يجد إلى الصبر سبيلاً أمام هذه الصوادم،

ص: 157

وأي ناصية لولا العون الرحماني تظهر للقاء هذه الصوادم ، وأي امرأة غير «خديجة »، ترى بعلها في جوف هذه الغوائل ثمّ لا تزيده إلّا حمداً على القيام بوظيفته وايناسا بوقوفها معه في وجه كل خصم لدود .

أوذي (عليه صلوات الله وتسليماته) بأنواع الأذى لما أسمعهم الدعوة، تكاثر المفتاتون عليه والمفترون ، وظاهر سوادهم الجاحدون والممترون، من اقرب اقربائه ظهر الجافون المتباعدون عنه، و الهازئون به والساخرون منه ، دع عنك البعداء ، ومن اكل قلبهم حسد أو بغضاء ، قال المفترون هو یطلب الملك علينا ، وقالوا عن الوحي الالهی هو شعر جاء به الينا، وقد حشروا ما عرفوه من العیوب وأرادوا عزوها اليه لينفروا الناس منه وينتقمو ا لآلهتهم التي بدههم بجحودها، وكشف لهم عوار جمودها، وأيسر ما فعلوه سبهم اياه والهزء به والافتراء عليه ومجافاته ثمّ مجافاة من لم يجافه.

فعلوا كل هذا وهو متدرع بالصبر ،مثابر على الصدع بالامر ، وفي هذا كانت معه هذه الزوجة الشريفة الفاضلة تعلم محبي الحق كيف يكون الصبر من أجله ، وتهدي إلى الاجيال الآتية اجمل صورة لثبات الجأش أمام الصعوبات .

ویا ما أحلى الصبر إذا كانت عاقبته كعاقبة صبر هذا الرسول الكريم فقد كانت العقبي ذلك الفوز العظيم الذي بقل في الدنيا من لم يسمع خبره ولنعم عقبى الصابرين

-خلاصة الدعوة -

أما الدعوة الشريفة التي أعلنها فهذه أصولها :

(1) العلم بأن لاشيء يستحق التأليه إلّا الله الخلاق العظيم الذي

ص: 158

لا يشبه الحوادث ولا يشبهه شيء منها .

(2) بأنّ هذا البارئ المصور فو عناية خاصة بالنوع الانساني ومن عنايته به اتحافه بصنوف الهدايات ومنها الهداية بواسطة وحي أعلى للرسل المصطفين .

(3) العلم بأنّ هذا الداعي الجديد إلى الله هو رسول مصطفى قد أرسله الله بدين يدعو الى السعادة في هذه الحياة وحياة أخرى يوم الجزاء .

(4) العلم بأنّ الايمان بهذا الرسول يقتضي الاذعان والتسليم إلى كل ما جاء به .

هذه أصول الدعوة التي كان مأمورا أن يبدأ بها الناس وهي ملخصة بهاتين الجملتين الشريفتين «لا إله الا الله محّمد رسول الله» فمن قالها مطمئناً بهما قلبه دخل تحت اللواء المحمود لواء المحمدية الذي بظل مئات الملايين في يومنا هذا .

والرسالة المحمدية لم تكن لقريش ولا للعرب خاصة بل هي الناس كافة ولكن البدء بالعشيرة الاقربين كان هو الذي تقتضيه الحكمة حتى إذا أجابوا كانوا عونا للدعوة لا هونا عليها .

الفصل الرابع والعشرون -( بعد عشر سنين )

بعد عشر سنين من عهد الرسالة كان المؤمنون قد كثروا واخذ العناد من الخصوم يزيد، وجعل الحسد يلتهب في قلوبهم لهذا النجاح الذي كانوا يحسبونه محالاً وكم يحسب أمثالهم مثل هذا الحسبان

ص: 159

كان الجاحدون في نار من ذلك الحسد، والمؤمنون في جنة من الفرح بنعمة الله ورحمته، كان الجاحدون يفكرون كيف يزهقون هذا الروح الجديد، والمؤمنون ينتظرون من مولاهم اعلاء شأنه ، كان الجاحدون حيارى في هذا الداعي فطورا يسبونه وطورا يهزأون به ، وأحياناً يرجعون إلى أنفسهم ويحاسبون حسهم وعقلهم فيه فيجدونه بعيدا عن المين وسائر المظانّ التي كانوا يظنّون ، وكان المؤمنون من يقينهم في حظ عظيم من الطمأنينة وانشراح الصدر و فرح الضمير. كان الجاحدون يرجعون إلى تلك الحجارة فيشكون إليها المحمّدیين وما أتوه من مخالفة قومهم وتأييد ذلك الرجل الذي لا يذكر آلهتهم إلّا بسوء، وكان المؤمنون يرجعون إلى من لا تدركه الابصار متوجهة إليه وجوههم، مسلمة إليه قلوبهم لا يتوكلون إلّا عليه ولا يأخذون إلّا بسنته . كان الجاحدون عكوفا حول تلك الاصنام الجامدة ، وكان المؤمنون يقولون سبحان الله سبحان الله عما يصفون، تعالى الله علواً كبيراً . كان الجاحدون كثيري الغم والهم، وكان المؤمنون مع شدة ما لاقوه من الاذى فرحين مستبشرين قد أبدل الله لهم مرارة الصبر حلاوة ، وذلة القلة عزة ،

وفي أواخر تلك السنين العشر الشداد كان على سرير الاحتضار شخص عزيز جداً عند المؤمنين ولم يشمت الجاحدين في تلك الايام شي ممثل مغادرة هذا الشخص لذلك العالم الاسلامي الذي نشأو ترعرع بينهم بالرغم منهم .

كان في هذا الشخص العزيز روح ترفرف في هذا المحيط الصغير، تارة ترفع البصر إلى مقرها الاقدس عند المحيط الانتظام فتحاول الطيران إليه ، وتارة تلقي به على هذا المحيط الذي أنست به فتظل مرفرفة عليه ، وجانحة

ص: 160

الى العكوف لديه ، وكان جاذب من قلوب هذا العالم الاسلامي يتمنى بقاءه ، وجاذب من امر الله وسنته يقضي بطيرانه ، وأمر الله أعلى واليه المصير .

هل عرف القارئ من هذا المودع العزيز ؟ ذلك كان شبح سيدتنا «خديجة » فقف أيّها القلم خاشعاً ، لقد ماتت من تركت للفضائل حياة لا تفنى ، لقد انتهى هذا العمر الذي أمدك بهذه المواد السامية ، ولن تجد لك أيها القلم شرفاً بعد هذه السيرة إلّا اذا سرت بنقل التاريخ المحمدي

***

سبحان رب الكون هذا حكمه*** في الروح قد سيمت بهذا الواقع

مرآتها هذا الشخوص بها ترى *** زمنا وترجع للمحيط الواسع

لقد مرت روح سيدتنا « خديجة » بهذه الدار فرأينا منها ما نقلناه للقارئ والآن هي لدى المحيط الواسع فهل تتجلى اليوم على هذا العالم الذي مرت به وترى أنّ تلك الكلمة التي قاست في سبيلها مع بعلها الكريم ما قاست قد أعلاها الله تعالى وعظم شأنها ونصرها العرب وغير العرب وأصبحت برور الارض وبحورها مملوءة كل هذه المصور إلى يومنا هذا بمن يقول من جميع اجناس البشر « لا اله إلّا الله محمد رسول الله » .

وقد ولدت سيدتنا « خديجة » من زوجها الكريم بنين وبنات وبقيت لها من بنتها السيدة «فاطمة الزهراء (علیها السلام)» ذرية مباركة في أكثر أقاليم الارض والحمد لله ولكن هل تتجلی اليوم تلك الروح الشريفة وترى أنّ كل المؤمنين يعدون اليوم أولادها؟ فالسلام عليك يا أم المؤمنين ، سلام الله ورحمته وتحياته على روحك الطاهرة يا أماه

ص: 161

(فهرس سيرة السيدة خديجة )

صفحة

4 –( مقدمة تمهيدية او اهداء السيرة )

9- ( المقدمة )

10 -العرب - أصولهم وانسابهم

12- العرب البائدة

13- العرب ولد اسماعيل

14- العرب - اختلاطهم بالأمم

15 -العرب - تاريخهم وعلم النسب عندهم

17- العرب - حضارتهم قبل الاسلام الغسانيون

19 -ملوك كندة

20- ملوك كندة وخبرامرئ القيس

21 -عدنان وقحطان اصلا العرب

22-عدنان سلالته ونسب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

25 - ( الفصل الاول - مكة وحالة قريش الاجتماعية عند البعثة )

27 - مكة وحكومة قريش فيها

29 - مكة حال قريش الحرية وقصة أبرهة

31 -( الفصل الثاني - بيوتات قريش وخصائصها )

33 -الندوة والاشناق والفية والاعنة

34- السفارة و الايسار والأموال المحجرة

35 -حلف الفضول وقص نظام قريش

36 –( الفصل الثالث ديانة أهل مكةعند البعثة )

39 -حرية أهل مكة

40 -البيع والرق وحقوق النساء في مكة

41 - ( الفصل الرابع - مقام النساء في قوم خديجة )

42 - وأد البنات - اسبابه

45 - مشاركة نساء العرب للرجال في الامور العامة

46 -النساء اللاتي شايعن علياً (رضی الله عنه)

47 -خبر سودة الهمدانية مع معاوية

48 -خبر بكارة الهلالية والزرقاء الهمدانية مع معاوية

49- دامية الحجونية

50 - ( الفصل الخامس - مقام خديجة عند قومها)

51 النساء - ارتفاع شأنهنّ عند العرب

52 - المألوف وغير المألوف

53 - الفصل السادس – (فضائل خديجة والفضائل عند قومها )

54 -المعروف والمنكر ميزانا الارتقاء عند العرب

55-تربية ملكتي الكرم والشجاعة عند العرب

56- شجاعة العرب و يوم ذي قار

57- أشعار في يوم ذي قار

58 -علوم العرب وحكمتهم

59-علوم العرب بالطب والادب

60 -حكم العرب ومحاوراتها

61- العدل

ص: 162

صفحة

عند العرب

62- أصول الفضائل عند العرب اعدتهم للإسلام

63 – (الفصل السابع - جمال خديجة والجمال عند قومها )

64 -أفضل ألوان الحسان عند العرب

65 -استعداد العرب يحب جمال الخلقة الى معرفة جمال الخالق

66 و 67 وصف الجمال 68 - ( الفصل الثامن ثراء خديجة والثراء عن قومها )

69 -قريش - استعدادها للاسلام

70 - قريش حبها للمجد والثروة

71 - قريش أسواقها مجامع العرب

72 -صادرات- بلاد الحجاز و وارداتها

73- حضارة قريش

74- التجارة في الجاهلية واصناف الأموال

75- النقود والابل في الجاهلية

76- الرقيق والزرع والضرع في الجاهلية

77- الثروة ينابيعها متحدة في كل زمان

79 – ( الفصل التاسم - زواج خديجة الأول )

80 -الاشارة إلى حياة خديجة الجديدة

81 – ( الفصل العاشر - محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قبل نزوج خديجة )

83,82 عناية الله تعالى بالعرب وبعيد المطلب خاصة

84 -شرف عبد المطلب بالنبي ّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

85- تاريخ مولد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

86- خبر رضاع النبي ومرضتعه حليمة السعدية

و 87 -بركته عليها

88 -وفاة أم النبي

89 -كفالة أبي طالب للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

90- سفر أبي طالب بالنبيّ الى الشام

92 -رؤية النبي لحرب الفجار

93 - ( الفصل الحادي عشر - الحب الشريف )

94 -الحب الشريف طبيعة النفس

95- محبة خديجة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومزاياه

96 - ( الفصل الثاني عشر - تفاول هذا وقته )

97 -معرفة العرب بالنبوة

98 - ( الفصل الثالث عشر - الخواطر في قلب خديجة )

99- أماني خديجة وخواطرها في الزواج بمحمد

100 -ضرر التقليد بالعادة

101 -خواطر المرأة الكاملة

102- ( الفصل الرابع عشر - الزواج)

ص: 163

صفحة

103-طريقة خطبة خديجة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

104 -الصداق وسنة العرب فيه

105 - ( الفصل الخامس عشر - بيت خديجة بعد الزواج )

108 - ( الفصل السادس عشر العمل الروحي )

110 ما نحن؟

119- بحث في العمل الروحي

122 - ( الفصل السابع عشر بدء الوحي )

128 - ( الفصل الثامن عشر - عظم المنة باتساع السُّنة )

130 - ( الفصل التاسع عشر - الدلالة العقلية على صدق الرسالة )

132 –( الفصل العشرون - شرح حكمة السيدة خديجة )

138 - ( الفصل الحادي والعشرون - الدليل التقلي على صدق محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) )

139 -ورقة بن نوفل - ايمانه بالدليل

140 -استدلاله بكتب العهد الجديد، على صدق محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

141 -استدلاله، بالعهد القديم على ذلك

142- قول نبي اسرائيل بالنبوة

142 -اساس ملك اسرائيل الوحي والانبياء

144 -امكان الوحي و وقوعه

145 -خديجة - استدلالها ، على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم يعلم ورقة

146 – ( الفصل الثاني والعشرون - الايمان والآيات و خوارق العادات )

147 -الايمان بالدليل

148 -ايمان خديجة لم يكن بتأثير الزوجية

150 -الاختلاف في الاستدلال - الخوارق لا تغير سنن الكون

151- الخوارق عدم توقف صحة الدين عليها

152 -تعذر الاكتناه

153 -عناية الله بالنبي المختار

154 – ( الفصل الثالث والعشرون – اعلان الدعوة واحتمال الاذى والثبات)

155 - معاندة قريش وعدم اهتدائها

156 - الجاحدون والمؤمنون

158 خلاصة الدعوة

159 - ( الفصل الرابع والعشرون -، بعد عشر سنين )

160 -الجاحدون والمؤمنون - مقابلة . وفاة خديجة

ص: 164

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.