مواعظ من نهج البلاغة

هوية الکتاب

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

بيروت. لبنان. المعمورة. الشارع العام

هاتف: 01/471070

ص.ب. 25/327024/53

الإعداد و الإخراج الالكتروني

www.almaaref.org

الكتاب: مواعظ من نهج البلاغة

تأليف: مركز نون للتأليف و الترجمة

نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

جمادى الأولى 1433ه_ - نيسان - 2012 م

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 3

ص: 4

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة للعالمين و قدوةً للمؤمنين أبي القاسم محمّد و على آله الطيبين الطاهرين.

بعد أن لاقى كتاب الموعظة الصادر عن مركز نون للتأليف و الترجمة في جمعية المعارف الإسلاميّة صدى إيجابيّاً لدى العلماء الكرام، سعى المركز لوضع اثنتي عشرة موعظة جديدة لتكون مادّة وعظيّة بين أيديهم. و هذه المواعظ المختارة مستقاة من حاجة بعض مجتمعاتنا وبيئاتنا، و ممّا قد يعانيه بعض الأخوة الأعزاء، و لم نتعرّض لصلب المشاكل الاجتماعية الجزئيّة، تاركين ذلك لوعي وخبرة العلماء الكرام، مكتفين بالإشارة؛ لأنّ اللبيب تغنيه الإشارة، و عليه أن يفرّع الأمثلة من البيئة الّتي يعيشها.

وحيث إنّ هذه المواعظ لا تُعطى إلّا لأهلها، ولمن يريد تهذيب نفسه و الرقيّ بها وبمجتمعه نحو مجتمع أفضل وأسمى، حاولنا قدر الإمكان إغناء هذه المواعظ بالآيات الكريمة، و الأحاديث الشريفة، لأنّها المعيار الفاصل في عمليّة التكامل الإنسانيّ. وقد اخترنا بعض الحِكم والمواعظ من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام من النهج الشريف، لما لكلماته الصادرة من ينبوع الحكمة و الموعظة من أثر على النفوس الإنسانية الساعية نحو الرقيّ والكمال.

ص: 5

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ بهذا الكتاب فراغاً في الساحة الاجتماعيّة، و يعالج بعض الظواهر والمشكلات الّتي يسعى لمعالجتها المخلصون، وأن يرزقنا حسن العاقبة والفوز بالجنّة والرضوان مع محمّد وآله صلوات الله عليهم أجمعين.

مركز نون لتأليف و الترجمة

ص: 6

1- حكمة الاختبار

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام :

« ... و لكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلاً إلى عفوه».

نهج البلاغة الخطبة.192

ص: 7

ص: 8

الامتحان الإلهيّ سنّة خالدة

يشير الإمام علي علیه السلام إلى حقيقة و سنّة إلهية جارية على الناس في حياتهم الدنيوية، و هي سنّة الاختبار و الامتحان، وهي حقيقة كثيراً ما أشار لها القرآن الكريم.

يقول تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (1)

ويقول سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (2)

«يفتنون» مشتق من «الفتنة» و هي في الأصل وضع الذهب في النار لمعرفة مقدار خلوصه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كلّ امتحان ظاهريّ و معنويّ.

ص: 9


1- سورة العنكبوت، الآيتان: 2 - 3
2- سورة البقرة، الآيات: 155 - 157

لماذا الاختبار الإلهي؟

في مجال الاختبار الإلهيّ تطرح بحوث كثيرة. و أوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أنّ الله سبحانه و تعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، و هو العالم بكلّ الخفايا و الأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه حتّى يظهر له بهذا الامتحان؟!

والجواب: إنّ مفهوم الاختبار الإلهيّ يختلف عن الاختبار البشريّ.

اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهيّ قصده «التربية» و إيصال الإنسان إلى الكمال بإخراج الدفائن المكنونة فيه.

كثيراً ما تحدّث القرآن عن الاختبار الإلهيّ، باعتباره سنّة كونية مستمرّة من أجل تفجير الطاقات الكامنة، و نقلها من القوّة إلى الفعل، و بالتالي فالاختبار الإلهيّ من أجل تربية العباد، فكما أنّ الفولاذ يتخلّص من شوائبه عند صهره في النار، كذلك الإنسان يخلص و ينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحدّيات.

الاختبار الإلهيّ يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة و تبدأ بالنموّ، ثمّ تصارع هذه البذرة كلّ المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحرّ اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.

و من أجل تصعيد معنويات القوّات المسلّحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحرّ والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة. وهذا هو سر الاختبارات الإلهية.

يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ

ص: 10

وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (1).

ويقول أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهية: « ... وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوابُ وَ الْعِقَابُ» (2).

أي أنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب و العقاب، فلا بدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، و الله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، و لكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقّون الثواب أو العقاب.

لو لم يكن الاختبار الإلهيّ لما تفجّرت هذه القابليّات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهيّ في منطق الإسلام.

الاختبار الإلهيّ عامّ

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، و كلّ الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتّى الأشجار تعبّر عن قابليّاتها الكامنة بالأثمار. من هنا فإنّ كلّ البشر، حتّى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهيّ كي تنجلي قدراتهم.

الامتحانات تشمل الجميع و إن اختلفت شدّتها و بالتالي تختلف نتائجها أيضاً، يقول سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (3).

القرآن يعرض نماذج لاختبارات الأنبياء إذ يقول: ﴿* وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ (4).

ويقول في موضع آخر بشأن اختبار النبي سليمان علیه السلام: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ...) (5).

ص: 11


1- سورة آل عمران الآية: 154
2- نهج البلاغة الكلمات القصار، رقم 93
3- سورة العنكبوت الآية: 2
4- سورة البقرة الآية: 124
5- سورة النمل، الآية: 40

يقول الإمام عليّ علیه السلام: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ، وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ، وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ، وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَ لَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ». (1)

و يقول علیه السلام: «إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ الْبَرَكَاتِ وَ إِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ، لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ» (2)

طرق الاختبار

إنّ اختبار الله تعالى للناس متنوّع و متعدّد و لا يقتصر على الجانب السلبيّ.

يقول سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (3).

هذه الآية الكريمة تشير الى البلاء و الاختبار في الجانب السلبيّ، لكنّ الآية التالية تعمّم الاختبار، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (4)

يروى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام مرض فعاده قوم فقالوا له: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ فقال: أصبحت بشرّ، فقالوا له: سبحان الله هذا كلام مثلك؟! فقال: يقول الله تعالى: «و نبلوكم بالخير والشرّ فتنة. فالخير الصحة و الغنى، والشرّ المرض و الفقر، ابتلاءً واختباراً» (5).

ص: 12


1- نهج البلاغة، الخطبة 88
2- م. ن، الخطبة 143
3- سورة البقرة، الآيات: 155 - 157
4- سورة الأنبياء، الآية: 35
5- الدعوات، قطب الدين الراوندي، ص 169

13

وعنه علیه السلام في قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (1) : «و معنى ذلك أنّه سبحانه يختبر عباده بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه و الراضي بقسمه، و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثواب و العقاب» (2).

إذاً، فالامتحانات الإلهية تأتي بصور مختلفة:

فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوّث بالمفاسد و الوساوس تحيط بهم من كلّ جانب، فإنّ امتحانهم الكبير في مثل هذا الجوّ و الظروف، هو أن لا يتأثّروا بلون المحيط و أن يحفظوا أصالتهم و نقاءهم.

و الجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان و الفقر، يرون أنّهم لو صمّموا على ترك رأس مالهم الأصيل «الإيمان» فإنّهم سرعان ما يتخلّصوا من الفقر و الحرمان لكنّ ثمن ذلك هو فقد انهم للإيمان والتقوى والكرامة والحريّة و الشرف، فهنا يكمن امتحانهم ...

و جماعة آخرون على عكس أولئك غرقى في اللذائذ و النعم، و الإمكانات المادية متوفّرة لديهم من جميع الوجوه، ترى هل يؤدّون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم، أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة و حبّ الذات و الأنانية، غرقى الشهوات و الاغتراب عن المجتمع و عن أنفسهم؟!

و جماعة منهم كالمتغرّبين في عصرنا، يرون بعض الدول بعيدة عن الله و الفضيلة و الأخلاق حقّاً، و لكنّها تتمتّع بالتمدن المادّيّ المذهل و الرفاه الاجتماعيّ. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفيّة إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القیم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها، ويبيعون أنفسهم أذلّاء عملاء لتلك الدول،

ص: 13


1- سورة الأنفال، الآية: 28
2- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 18، ص 248

14

ليوفّروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة ... و هذا نوع آخر من الامتحان.

المصائب، و الآلام و الهموم، و الحروب و النزاعات، والقحط والغلاء، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيراً الأمواج النفسية القوية و الشهوات، كلّ منها وسيلة للامتحان في طريق عباد الله، و السائرين في الميادين التي تتميّز فيها شخصيّة الأفراد و تقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحرّيتهم.. الخ.

ولكن لا طريق للانتصار في هذه الامتحانات الصعبة لاجتيازها إلّا الصبر والجدّ والسعي المستمر، والاعتماد على لطف الله سبحانه.

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) يقول فيه: «يُفتنون كما يُفتن الذهب، ثمّ قال: يخلصون كما يخلص الذهب» (1)

و على كلّ حال، فإنّ طالبي العافية الذين يظنّون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين و في أعلى علّيين في الجنّة مع النّبيين و الصدّيقين والشهداء والصالحين، فهم في خطأ كبير.

و على حدّ تعبير أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة: «والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلنّ غربلة، ولتساطنّ سوط القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم» (2).

ص: 14


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 370
2- نهج البلاغة، الخطبة 16

مطالعه

صبر وتحمّل الإمام عليّ علیه السلام

بعد أحداث التحكيم في «دومة الجندل» أصبح الكثير من أصحاب أمير المؤمنين عالم بالأمس أعداءه اليوم، و هم الخوارج الذين خرجوا عن طاعته و رفعوا شعار «الحكم لله لا لك يا عليّ» و ذلك بعد واقعة التحكيم. و لقد كان الإمام يعاني منهم الأمرّين خصوصاً أنّهم كانوا يعيشون في الكوفة و بين أتباعه.

و يروى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان جالساً في أصحابه إذ مرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال علیه السلام :

«إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَ إِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا؛ فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ، فَلْيُلَامِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ.

فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه.

فوثب القوم ليقتلوه.

فقال : رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب!) (1).

وهذه الحادثة تبيّن لنا طبيعة الحياة السياسية الّتي أشاعها أمير المؤمنين علیه السلام في دولته الفتيّة بالرغم من كلّ الصعوبات و العراقيل الّتي أوجدها معارضوه في طريق هذه الدولة. فهذه الحادثة تبيّن:

1 - سيطرة أمير المؤمنين علیه السلام على البلاد.

2 - الجوّ الديمقراطيّ الّذي أشاعته حكومة الإمام علیه السلام.

3 - سعة صدر الإمام علیه السلام و عفوه حتّى عن أعدائه.

4 - إضافة إلى مسألة أخلاقية تبيّنها الحادثة و هي أسلوب القضاء على فوران الغريزة الجنسية بالالتجاء إلى الطريق الحلال في إشباعها.

ص: 15


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 13

ص: 16

2- كيد الشيطان

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام :

«اتَّخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له أشراكاً. فباض وفرّخ في صدورهم. و دبّ و درج في حجورهم. فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم. فركب بِهم الزَّلل وزيّن لهم الخَطَل فِعْلَ من قد شَرِكَهُ الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه». (نهج البلاغة، الخطبة 7)

ملاك الأمر: ما به قوامه و ديمومته.

الأشراك: جمع شرك حبائل الصيد.

باض و فرّخ: كناية عن توطنه صدورهم و طول مكثه فيها، لأنّ الطائر لا يبيض إلا في عشّه. وفراخ الشيطان وساوسه.

دب: مشى على اليدين والرجلين كالطفل.

درج: مشی

الحجور : مفردها حجر الحضن و فلان نشأ في حجر فلان أي في كنفه و منعته.

الزلل: الخطأ.

زيّن: له الأمر حسّنه و الشيء زخرفه

الخطل : أقبح الخطأ.

ص: 17

ص: 18

أخلاق الشيطان

إنّ الإنسان المؤمن كما أنّه مدعوّ لمعرفة الله تعالى و أخلاقه ليتخلّق بها: «تخلّقوا بأخلاق الله» كذلك هو مدعوّ لمعرفة عدوّه الشيطان الرجيم ليبتعد عن أخلاقه.

و الشيطان هو كلّ موجود مؤذٍ مغوٍ طاغٍ متمرّد، إنساناً كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو و جنده الدوائر بأبناء آدم دوماً (1).

و للشيطان أخلاق وصفات منها:

1- الاستكبار والعصبية

ففي خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام : وهي تتضمّن ذمّ إبليس لعنه الله، على استكباره وتركه السجود لآدم، و أنّه أوّل من أظهر العصبية وتبع الحميّة، وتحذير الناس من سلوك طريقته.

«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ، وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ،

ص: 19


1- انظر الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج 1، ص 171

الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ» (1)

لذلك على الإنسان المؤمن أن لا يتعصّب إلّا للحقّ و الدين، ويبتعد عن أيّ عصبيّة أخرى حتّى لو كان لأهله وإخوته وأقاربه.

2 - اتّباع الهوى

من صفات الشيطان اتّباع هواه، فهو يريد عبادة ربّه حسب هواه، فعن الإمام الصادق علیه السلام: «أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فقال : يا ربّ و عزّتك إنْ أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها، قال الله جل جلاله: إنّي أحبّ أن أطاع من حيث أريد» (2).

و كم نرى من الناس من يتّصف بهذه الصفة حيث يريد ديناً حسب ما تشتهي نفسه، فبعضهم تقول له أطع الله، صلّ الصلوات الخمس، زكِّ، خمّس، انته عن المعاصي، يجيب: إنّما الإيمان في القلب، و ينسى أو يتناسى أنّ الإيمان بالقلب لا يكفي إن لم يلزمه العمل الصالح. لذلك نرى في كثير من الآيات الكريمة قرناً دائماً بين الإيمان والعمل الصالح، يقول تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) (3).

ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ (4).

فنلاحظ في الآية الشريفة أنّ أيّ عمل للصالحات لا بدّ حتّى يؤتي ثمرته وهي دخول الجنّة أن يكون مقروناً بالإيمان.

ص: 20


1- نهج البلاغة، الخطبة 192
2- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 2، ص 262
3- سورة العصر، الآيات: 1 - 3
4- سورة النساء، الآية: 124

خُطُوَاتِ الشَّيْطَان

من الأمور التي تساعد على مجابهة الشيطان معرفة خططه، ومن خططه أنّه لا يوقع الإنسان المؤمن في المعاصي الكبيرة بخطوة واحدة و بشكل مكشوف، بل يعطيه السموم على جرعات، و هذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فعبارة (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، و هي أنّ الانحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجيّ، لا دفعيّ فوري. فتلوُّث شابٍّ بالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدّرات، يتمّ على مراحل:

- فمثلاً يشترك أوّلاً متفرّجاً في جلسة من جلسات لعب الورق، ظانّاً أنّه عمل اعتيادي لا ضير فيه.

- ثمّ يشترك في اللعب نفسه للترويح عن النفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول شيئاً من المخدّرات بحجّة رفع التعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.

- وفي الخطوة الأخرى يمارس العمل المحرّم قاصداً أنه يمارسه مؤقتاً.

- و هكذا تتوالى الخطوات واحدة تلو الأخرى و يصبح الفرد مقامراً محترفاً أو مدمناً مريضاً.

فوساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط. و ليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كلّ الأجهزة الشيطانية تنفّذ خططها المشؤومة على شكل «خُطُوات». لذلك يحذّر القرآن كثيراً من اتّخاذ الخطوة الأولى على طريق الانزلاق.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (1). ويقول سبحانه: ﴿* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا

ص: 21


1- سورة البقرة الآية: 168

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (1)

و عن الإمام عليّ علیه السلام: «وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ» (2).

و عنه علیه السلام : «إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ، وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً» (3).

ما يساعد الشيطان على الإنسان

ثم إن هناك أموراً عديدة تساعد الشيطان على الإنسان منها:

1 - مجالسة أهل الهوى

عن أمير المؤمنين علیه السلام: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ» (4).

من هنا حذّر الإمام من مجالسة أهل الأسواق لأنّ أكثرهم أهل هوى: «وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ الْفِتَنِ» (5).

2 - الافتراق عن جماعة أهل الحقِّ

فعنه علیه السلام: «وَ مَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَ ضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ» (6).

فلذلك لا بدّ أن يحرص الإنسان على البقاء في أجواء أهل الحق و الذكر و عمل الخير و لا يشذّ عنهم كي لا يقع في شرك و مصيدة إبليس اللعين.

ص: 22


1- سورة النور، الآية: 21
2- نهج البلاغة، الخطبة 151
3- م. ن، الخطبة 121
4- م. ن، الخطبة 86
5- م. ن، الكتاب 69
6- م. ن، الخطبة 127

3- الظلم والكبر

فعنه علیه السلام: «فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ» (1)

فلذلك لا بدّ من الاجتناب عن الظلم و الكبر كي لا يقع المؤمن في مكيدة إبليس.

4- الانشغال بعيوب غيره عن عيوب نفسه

فعنه علیه السلام: «فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ» (2).

و هذه آفّة عظيمة عند الإنسان حيث يلقي بالملامة دائماً على غيره ويبرّئ نفسه، بينما نجد الأولياء يقولون: ﴿* وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (3).

5- الوقوع في الفتنة

فعنه علیه السلام: «وَ لَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى» (4).

فلا بدّ من المعرفة و التعلم و الوعي لكي يستطيع الإنسان أن يميّز بين الحقّ و الباطل، و عليه بالرجوع إلى العلماء وإلى المخلصين الواعين من المؤمنين كي ينصحوه فلا يقع في الفتنة و بالتالي يضلّ الطريق.

ص: 23


1- نهج البلاغة، الخطبة 192
2- م. ن، الخطبة 157
3- سورة يوسف، الآية: 53
4- نهج البلاغة الخطبة 51

6- الإعجاب بالنفس وحبّ المدح

فعنه علیه السلام: «وَإِيَّاکَ وَالاِعْجَابَ بِنَفْسِکَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُکَ مِنْهَا، وَ حُبَّ الاِطْرَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِکَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَکُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ» (1).

فإنّ الإعجاب بالنفس و انتظار مدح الناس له يؤدّي إلى محق العمل فيدخل إبليس من هذا الباب و تكون نهاية الإنسان التعب في الدنيا والخسران في الآخرة.

7 - الشكّ

عنه علیه السلام: «وَ مَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ» (2).

لذلك لا بدّ من أن يخطو الإنسان المؤمن في كل خطواته بثقة و علم ومعرفة ويقين لا سيما في المعتقدات، حتّى لا يقع تحت وطأة حوافر الشياطين.

8 - الغضب

فعنه علیه السلام: «وَ احْذَرِ الْغَضَبَ، فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ» (3).

«وَإِيَّاكَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» (4).

و من الواضح أنّ الغضب نار تشتعل في الإنسان فتطغى على العقل و بالتالي يقع بالمفسدة و الضرر.

9 - الإفراط في حبّ النساء و الخلوة بالأجنبية

عن الإمام عليّ علیه السلام : «الفتن ثلاث: حبّ النساء و هو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان، و حب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان» (5).

ص: 24


1- نهج البلاغة الكتاب 53
2- م. ن، الحكمة 31
3- م. ن، الكتاب 69
4- م. ن، الكتاب 76
5- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 2، ص 107

وفي الرواية أنّه قال إبليس لموسى علیه السلام: يا موسى لا تخل بامرأة لا تحلّ لك، لام فإنه لا يخلو رجل بامرأة لا تحلّ له إلا كنت صاحبه دون أصحابي (1).

فلشدّة خطورة هذه الخطوة و لأنها سريعة في إيقاع المؤمن بالمعصية يتدخّل إبليس بنفسه ليوقع المؤمن بما يغضب الله، لذلك لا بدّ من أخذ الحيطة للدين و الحذر من الخلوة بالمرأة الأجنبية.

10- حب المال و الترف

عنه علیه السلام من كتاب له إلى معاوية : «فإنّك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، و جرى منك مجرى الروح و الدم» (2).

وعنه علیه السلام : «إنّ الشيطان يدير ابن آدم في كلّ شيء، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته» (3).

وهذه مصيبة عامّة البلوى، تأخذ بالإنسان برقبته و تورده المهالك، فعلى الإنسان أن يعي أنّ المال ليس إلّا وسيلة للعيش في هذه الدنيا الفانية برضا الله و التقرّب إليه فيها للوصول إلى ذلك العالم، فالمال وسيلة لرضا الله سبحانه، وليس هدفاً بنفسه.

11 - الحسد والعداوة

يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ...) (4)

وعن الإمام الصادق علیه السلام: «يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد و البغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك» (5).

ص: 25


1- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج13، ص 350
2- نهج البلاغة، الكتاب 10
3- شرح أصول الكافي، المولى محمّد صالح المازندراني، ج9، ص337
4- سورة المائدة، الآية: 91
5- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 72، ص 278

مطالعة

توبة النبيّ آدم علیه السلام

خلق الله آدم علیه السلام و وهبه المعرفة الّتي يفرّق بها بين الحق و الباطل، و أسكنه سبحانه داراً أرغد فيها عيشته و آمن فيها محلّته، و حذّره إبليس و عداوته.

و لكنّ إبليس اللعين انتهز منه غرّة فأغواه، و كان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود في دار المقام و مرافقته الأبرار من الملائكة الأطهار، فأدخل عليه الشكّ في أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان قد نهاه الله عن تناول ما يوجب له اليقين بحظره عليه.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «اغْتَرَّهُ نَفَاسَةً عَلَيهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ، فَبَاعَ الْيقِينَ بِشَكِّهِ، وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا، وَ بِالاغْتِرَارِ نَدَماً، ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ، وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيةِ، وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيةِ.» (1)

فقد أخرجهما مما كانا فيه و غفر خطيئتهما بعدما تابا ولم يرجعهما إلى الجنّة (2)، بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها. ولو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة و ظهور السوأة حتماً مقضياً، والرجوع إلى الجنّة مع ذلك محالاً، لرجعا إليها بعد حطّ الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنّة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوأة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين (3).

ص: 26


1- نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 20
2- يعتقد بعض الناس أن الجنّة الّتي كان فيها آدم هي جنّة الخلد، وهذا القول غير سليم حيث تنفيه الكثير من الروايات منها ما روي عن أبي عبد الله بعد أن سئل عن جنّة آدم فقال: جنّة من جنان الدنيا، يطلع عليها الشمس والقمر، و لو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبداً. نور الثقلين 1: 62
3- تفسير الميزان العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 197-193

3- الشيطان أضعف ركناً

عن أمير المؤمنين علیه السلام :

«و عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ». نهج البلاغة الخطبة 192

ص: 27

ص: 28

ما يساعد الإنسان على الشيطان

لقد أشرنا في الدرس السابق كيف يستطيع إبليس عبر خطوات أن يوقع الإنسان في الهاوية، ولا بدّ من التعرف إلى ما يساعد هذا الإنسان للتغلّب على إبليس، فإنّ الله سبحانه أودع هذه القوّة في الإنسان ليستطيع الوصول إلى الجنّة بعد هذا الامتحان الكبير فيستحقّ بذلك رضا الله و الجنّة. نذكر منها:

1- العبادة

في خطبة للإمام عليّ علیه السلام بعد أن يحذّر من الشيطان يذكر ما يحرس منه فيقول: «وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيّام المفروضات» (1).

2 - الدعاء

يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (2).

ص: 29


1- نهج البلاغة الخطبة 192
2- سورة غافر، الآية: 60

وعن الإمام عليّ علیه السلام : «أكثر الدعاء تسلم من سورة الشيطان» (1)

فالدعاء وهو من لحظات الأنس مع الله سبحانه من أهمّ الأمور المقرّبة منه تعالى، والتي تعين على الابتعاد عن إبليس اللعين.

3 - ذكر الله

عن الإمام الصادق علیه السلام : قال إبليس : خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة وسائر الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتَّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه» (2)

قصّة لطيفة

روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه: لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ...) (3) صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له : ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا : يا سيّدنا لمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال : لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس أنا لها، قال : بماذا؟ قال: أعدهم و أمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها فوكّله بها إلى يوم القيامة» (4).

4 - الاعتصام بالقرآن والنبيّ و الآل

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «من أحبّ أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة

ص: 30


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 75، ص 9
2- م. ن العلامة المجلسي، ج 60، ص 248
3- سورة آل عمران الآية: 135
4- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 66، ص 349

الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليوالِ عليّاً بعدي، وليعاد عدوّه، وليأتمّ بالأئمّة الهداة من ولده، فإنّهم خلفائي وأوصيائي و حجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمّتي، و قادة الأتقياء إلى الجنّة. حزبهم حزبي، و حزبي حزب الله عزّ وجلّ، و حزب أعدائهم حزب الشيطان» (1).

و عن الإمام عليّ علیه السلام: «ففَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وآله وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ» (2).

وفي زمن غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالی فرجه ينبغي الاعتصام و اللجوء إلى الوليّ الفقيه، فإنّه بما يملك من علم و عدالة و بصيرة و شجاعة و زهد في الدنيا و مخالفة لهواه، يؤمِن المؤمنين من الفتنة و الاختلاف، فعن الإمام العسكريّ علیه السلام : «من كان من الفقهاء صائناّ لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (3).

و عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى قضاة الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم قاضياً، فقد جعلته عليكم قاضياً فتحاكموا إليه» (4)

وفي المكاتبة عن الإمام المهديّ عجل الله تعالی فرجه : «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» (5)

ص: 31


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 23، ص 144
2- نهج البلاغة الخطبة 91
3- العروة الوثقى، السيد اليزدي، ج 1، ص 26
4- عوالي اللآلي ابن أبي جمهور الإحسائي، ج 3، ص 518
5- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج27، ص 140

5 - البصيرة

عن أمير المؤمنين علیه السلام: «ألا و إنّ الشيطان قد جمع حزبه، و استجلب خيله و رجله، و إنّ معي لبصيرتي» (1).

فالإنسان المؤمن مدعوّ لامتلاك الوعي و البصيرة و زيادتهما لكي لا تنطلي عليه حيل و مكر الشياطين.

7 - التوكّل على الله

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (2).

إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً

ينبغي للإنسان المؤمن أن لا يخاف إلّا الله و لا يخاف من شياطين الإنس و الجن، فإنّما يخوّف أولياءه: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (3)

فكيد الشيطان ضعيف أمام صلابة ووعي وبصيرة الإنسان المؤمن: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (4)

و عن الإمام الكاظم علیه السلام في وصيّته لهشام: «فله - أي لإبليس - فلتشتدّ عداوتك، و لا يكوننّ أصبر على مجاهدته لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته، فإنّه أضعف منك ركناً في قوته، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شرّه، إذا أنت اعتصمت بالله فقد هديت إلى صراط مستقيم» (5).

فالشيطان ليس له سلطان على الإنسان إلا أن يساعده الإنسان على نفسه : ﴿وَ قَالَ

ص: 32


1- نهج البلاغة، الخطبة 10
2- سورة النحل، الآية: 99
3- سورة آل عمران الآية: 175
4- سورة النساء، الآية: 76
5- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 75، ص 315

الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1).

فابرأ من الشيطان الضعيف قبل أن يبرأ منك يوم لا ينفع الندم: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (2).

وعن الإمام علي علیه السلام : «إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ، وَهُوَ غَداً مُتَبَرِّئُ مِنْهُمْ، وَ مُتَخَلَّ عَنْهُمْ» (3)

و نحن نرى بأمّ أعيننا كيف أنّ شياطين الإنس مثل أمريكا و إسرائيل يستعملون عملاءهم ثمّ يلفظونهم و يتركونهم لمصيرهم المشؤوم.

فاحذروا أن تكونوا قرناء الشياطين بين طابقين من نار، فعن أمير المؤمنين علیه السلام: «أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ» (4)

مطالعة

إنّ الشيطان قد استقلَّهم

كان الخريت بن راشد مع ثلاثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع الإمام علي علیه السلام بالكوفة قدموا معه من البصرة، و كانوا قد خرجوا إليه يوم الجمل، و شهدوا معه صفّين و النهروان، فجاء إلى عليّ علیه السلام في ثلاثين راكباً من أصحابه،

ص: 33


1- سورة إبراهيم، الآية: 22
2- سورة الحشر، الآية: 16
3- نهج البلاغة، الخطبة 181
4- م. ن، الخطبة 182

فقال له: والله يا عليّ لا أطيع أمرك و لا أُصلّي خلفك وإنِّي غداً لمفارقك.

فقال له الإمام علیه السلام: ثكلتك أُمّك، إذاً تعصي ربك و تنكث عهدك ولا تضرّ إلّا نفسك، خبّرني لِمَ تفعل ذلك.

قال: لأنّك حكمت في الكتاب و ضعفت عن الحقّ إذا جدّ الجدّ، و ركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليهم زارٍ، و عليهم ناقم و لكم جميعاً مباين.

فقال له الإمام علیه السلام: هَلُمَّ أدارسك الكتاب، و أُناظرك في السنن، و أُفاتحك أموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك، فلعلّك تعرف ما أنت له الآن منكر، و تستبصر ما أنت عنه الآن جاهل.

قال: فإنّي عائد إليك.

قال: لا يستهوينّك الشيطان، ولا يستخفنّك الجهل، و والله لئن استر شدتني و استنصحتني وقبلت منّي لأهديتك سبيل الرشاد.

فنفر الخريت مع أصحابه ليلاً ولم يعد إلى أمير المؤمنين علیه السلام، فأرسل علیه السلام رجلًا من أصحابه يستعلم حالهم، فلمّا عاد إليه الرجل قال له : أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين.

فقال علیه السلام: «بُعْداً لَهُمْ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ، أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَ صُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ. إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍ عَنْهُمْ، فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَ ارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَ الْعَمَى وَ صَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي التِّيهِ» (1)

ص: 34


1- نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 2، ص 102 نهج السعادة، ج 5، ص 173

4- اجتناب الشبهات

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام :

«إنّ من صرّحت له العِبَرُ عمّا بين يديه من المَثُلات، حجزته التَّقوى عن تَقحُّم الشّبهات».

نهج البلاغة الخطبة: 16

صرّحت: كشفت.

العبر: بكسر ففتح جمع عبرة: الموعظة.

المثلات: العقوبات.

الشبهات: جمع شبهة: الالتباس، ما يلتبس فيه الحقّ بالباطل و الحلال بالحرام.

ص: 35

ص: 36

من کلام له علیه السلام

إنّ قول الإمام عليّ علیه السلام فيه إشارة إلى أمرين لا بدّ من مراعاتهما لمن يريد السّلوك إلى الله تعالى، و هما:

1- الاعتبار

«إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات».

يعتبر الإسلام ربط الماضي بالحاضر و الحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأنّ الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي و الحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، و يوقفها على واجبها.

و هذا يعني أنّ لله في الأُمم سنناً لا تختصّ بهم، بل هي سنن وقوانين عامّة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، و هي سنن للتقدّم و البقاء وسنن للتدهور و الاندحار، التقدّم للمؤمنين المتّقين المجاهدين المتّحدين الواعين، و التدهور و الاندحار للأُمم المتفرّقة المتشتّتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

إن للتاريخ أهمّية حيوية لكلّ أمّة من الأُمم، لأنّ التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية و الأعمال الصالحة و غير الصالحة، و الأفكار التي كانت سائدة في الأجيال

ص: 37

السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، و نجاحها و فشلها في العصور الغابرة المختلفة.

و بكلمة واحدة: إنّ التاريخ مرآة الحياة الروحية و المعنوية للمجتمعات البشرية و هو لذلك خير مرشد محذّر للأجيال القادمة.

إنّ آثار الماضين خير عِبرة للقادمين، و بالنظر فيها والاعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك و الحياة.

و لهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض و النظر بإمعان و تدبّر في آثار الأّمم و الشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (1) ﴿فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾ (2).

و قد أشار الإمام عليّ أمير المؤمنين علیه السلام إلى هذه الحقيقة في كلمات و خطب عديدة منها قوله

«فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومُثُلاته واتّعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم و استعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر ...

و احذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم و زاحت الأعداء له عنهم، و مدّت العافية به عليهم، و انقادت النعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة و اللزوم للألفة و التحاضَ عليها، و التواصي بها، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور و تدابر

ص: 38


1- سورة آل عمران الآية: 137
2- سورة الحشر الآية 2

39

النفوس، و تخاذل الأيدي ...» (1)

و لذلك نرى القرآن الكريم عامراً بقصص الماضين، يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا﴾ (2)، ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (3). (كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (4). ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (5) ... و يقول أيضاً: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (6).

2 - التقوى

«حجزه التَّقوى عن التَّقحّم في الشبهات».

و الوجه فيه هو أنّ الإنسان العاقل إذا اعتبر بما وقع من الحوادث على الأمم الماضية في القرون السّالفة و علم أنّ العلّة و السّبب فيها لم تكن إلّا العصيان و المخالفة لأوامر الله تعالى و ارتكاب المنهيات و عدم الانقياد للنّواميس الشّرعية التي بعث الله تعالى الأنبياء لأجلها فلا جرم يكون هذا الاعتبار مانعاً له عن الدخول في الشّبهات فضلاً عن المحرّمات.

يقول الإمام الخميني قدس سره:

« ... للورع مراتب كثيرة: فورع العوام: الاجتناب عن الكبائر، وورع الخواصّ: الابتعاد عن الشبهات خشية الوقوع في المحرّمات. و ورع أهل الزهد : الاجتناب عن المباحات للابتعاد عن وزرها. و ورع أهل السلوك : ترك النظر إلى الدنيا لأجل الوصول إلى المقامات. و ورع المجذوبين: ترك المقامات لأجل الوصول إلى باب

ص: 39


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192
2- سورة الأعراف الآية: 101
3- سورة هود، الآية: 120
4- سورة طه، الآية: 99
5- سورة الأعراف الآية: 176
6- سورة يوسف، الآية: 111

الله، و مشاهدة جمال الله. و ورع الأولياء: الاجتناب عن التوجه إلى الغايات» (1)

و قد أشير إلى ورع الخواصّ في روايات عديدة منها :

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «حلال بيّن و حرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات و من أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم» (2) و ذلك لأنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

و عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «إنّ لكلّ ملك حمى وإنّ حمى الله حلاله و حرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات» (3).

و عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قلت له: مَن الورعِ من النّاس؟ قال علیه السلام : «الذي يتورّع من محارم الله و يجتنب هؤلاء فإذا لم يتَّق الشّبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه» (4).

وعن أبي عبد الله علیه السلام: «أورع النّاس من وقف عند الشبهة ...» (5).

ازدواج الشخصية

إنّ هناك أناساً يملكون شخصية مزدوجة، فهم أتقياء ورعون محتاطون في أمور و غير مبالين في أمور أخرى.

ص: 40


1- انظر: الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 29، ص 425 - 426
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 68
3- بحار الأنوار العلّامة المجلسى، ج 2، ص 259
4- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 177
5- م. ن، ج 11، ص 278

يقول الإمام الخميني قدس سره :

«نجد الكثير من ذوي الوسوسة التي لا مبرّر لها و الجهلة المتنسّكين، لا يحتاطون في مواضع يجب الاحتياط فيها أو يستحب. هل سمعت أحداً يعيش حالة الوسوسة في الشبهات المالية؟ مَن من [الوسواسيين] دفع الزكاة و الخمس مرات عديدة و ذهب إلى الحجّ لأداء الواجب مرات متكرّرة؟ و أعرض عن الطعام المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلّية في الأطعمة المشتبهة جارية وأصالة الطهارة في مشكوك النجاسة غير جارية؟ ...

كان أحد الأئمّة المعصومين [الإمام الكاظم ] سلام الله عليه و عليهم السلام إذا ذهب لقضاء حاجته رشّ الماء على فخذيه، حتى إذا ترشّحت لدى الاستبراء أو الاستنجاء قطرات من الماء لم يحسّ بذلك. فهو لم يحتط و لم يتوسوس.. و هذا المسكين الذي يرى نفسه محتذياً حذو الإمام المعصوم عالم و أخذاً دينه منه، لا يتّقي لدى التصرّف في الأموال، ولا يحتاط تجاه الطعام بل يتّكل على قاعدة أصالة الطهارة و يأكل، ثم يقوم و يغسل فمه و يديه. إنّه حين الأكل يتمسّك بأصالة الطهارة و بعد أن يشبع يقول : كل شيء نجس» (1).

مثال لاجتناب الشبهات

«إنّ تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، يضرّ بحالها أيضاً. لأن النفس تميل نحو الشرور و القبائح، فمن المحتمل أن ينجرّ [الإنسان] رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى و هي الموارد المحرّمة، كما أنّ الدخول في الشبهات غير محمود، رغم جوازه، لأنّها حمى المحرّمات و من الممكن أنّ الاقتحام في الحمى يفضي إلى الدخول في المحرّمات. يجب على الإنسان مهما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال

ص: 41


1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 25، ص 367 - 368

المسموحة، ويحترز عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس» (1)

قصص لاجتناب الشبهات

دعا أبوعبد الله علیه السلام مولى له يقال له : مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال: له تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإنّ عيالي قد كثروا، قال : فتجهّز بمتاع و خرج مع التجّار إلى مصر فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة و كان متاع العامّة (2) فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء فتحالفوا و تعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً فلمّا قبضوا أموالهم و انصرفوا إلى المدينة فدخل مصادف على أبي عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم و معه كيسان في كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال و هذا الآخر ربح، فقال: إنّ هذا الربح كثير ولكن ما صنعته في المتاع؟ فحدّثه كيف صنعوا و كيف تحالفوا : فقال: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألّا تبيعوهم إلّا ربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ الكيسين (3) فقال: هذا رأس مالي و لا حاجة لنا في هذا الربح، ثمّ قال: يا مصادف مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال (4).

قصة أخرى

إنّ المراجع لسيرة علمائنا الأبرار يلاحظ مدى احتياطهم و بعدهم عن الشبهات، و هذه بعض قبساتهم المعبّرة.

يروى عن آية الله السيّد محمّد باقر الدرجه أي ما يلي:

دعاه أحد التجار الأثرياء مع عدد من العلماء و الطلّاب، و مدّ سفرة وسيعة أنيقة مكلفة، عليها أنواع الأطعمة، و كعادته رحمه الله اكتفى بتناول مقدار قليل من الطعام،

ص: 42


1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 19، ص 292 - 293
2- (متاع العامة) أي الذي يحتاج إليه عامة الناس
3- وفي مستدرك الوسائل: «أحد الكيسين»
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص162

و بعد الانتهاء من تناول الطعام و غسل الأيدي، قدّم صاحب الدعوى للسيّد سنداً يتضمّن أمراً حراماً بحسب فتواه، و طلب منه أن يوقّع عليه.

أدرك (رضوان الله عليه) أنّ هذه الوليمة كانت مقدّمة لإمضاء هذا السند.

إنّ فيها إذن شبهة الرشوة، فتغيّر لونه و ارتعدت فرائصه و قال : أيّة إساءة أسأتها إليك حتّى وضعت في حلقي هذا الزقّوم؟

لماذا لم تأتِ بهذا السند قبل الغداء حتّى لا ألوّث يدي بهذا الطعام؟

ثمّ نهض مضطرباً و مضى مسرعاً إلى المدرسة و جلس بجوار الحديقة المقابلة لحجرته، و وضع إصبعه في فمه حتّى استفرغ، ثمّ تنفس الصعداء (1).

ص: 43


1- سيماء الصالحين، ص 47

مطالعه

عمّار و المغيرة

قال أمير المؤمنين علیه السلام لعمّار بن ياسر (رضي الله عنه) و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاماً:

«دَعْهُ يَا عَمَّارُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلّا مَا قَارَبَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَلَى عَمِد لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ، لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ».

قال ابن أبي الحديد: إنّ أصحابنا غير متّفقين على السكوت على المغيرة، بل أكثر البغداديين يفسّقونه، و يقولون فيه ما يقال في الفاسق، و لمّا جاء عروة بن مسعود الثقفيّ إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عام الحديبية نظر إليه قائماً على رأس رسول الله مقلّداً سيفاً، فقيل: من هذا؟

قيل: ابن أخيك المغيرة.

قال: و أنت ها هنا يا غدر! و الله إنِّي إلى الآن ما غسلت سوأتك.

و كان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح، ولا إنابة ونيّة جميلة. كان قد صحب قوماً في بعض الطرق، فاستغفلهم وهم نيام، فقتلهم و أخذ أموالهم، و هرب خوفاً أن يُلحق فيُقتل، أو يؤخذ ما فاز به من أموالهم، فقدم المدينة فأظهر الإسلام، و كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يردّ على أحد إسلامه، أسلم عن علّة أو عن إخلاص، فامتنع بالإسلام، و اعتصم وحمى جانبه (1).

ص: 44


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج20، ص 8

5- اتباع الهوى و طول الأمل

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«أيّها النّاس : إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، و أمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة».

نهج البلاغة، الخطبة 42

ص: 45

ص: 46

يتحدّث أمير المؤمنين علیه السلام عن أمرين خطيرين على سلوك الإنسان نحو الله تعالى، الأمر الأول: اتّباع الهوى، الأمر الثاني: طول الأمل.

الأمر الأوّل : اتّباع الهوى

لا شكّ أنّ للنفس الإنسانية رغبات و غرائز و متطلّبات و حاجات و ميولاً مختلفة، فالإنسان - مثلاً - يحتاج إلى الارتباط بزوج ليلبّي حاجته الجسدية بالإضافة إلى حاجته للأولاد، و يحتاج إلى المال ليحفظ به نفسه و عياله و يطوّر حياته، و يحب أن يكون محترماً بين الناس عزيزاً، و أن يكون حراً.

هذه بعض الحاجات و الغرائز الموجودة في الإنسان، وجميعها ضروريّ لبقاء حياته، ولا شكّ أنّ مبدع الوجود خلقها جميعاً لهدف تكامليّ.

و الهدف التكامليّ يتحقّق بأن لا تتجاوز الغرائز و الحاجات حدها، و تخرج عن التوازن و الحدّ الوسط إلى الإفراط أو التفريط، و ذلك بالتمرّد على الشرع و العقل، و بذلك تكون سائرة مع الهوى المذموم و تابعة له.

فالحاجة الجسدية إذا خرجت عن التوازن إلى التفريط بأن لا يتزوّج، أو إلى الإفراط بأن يلبّي حاجته هذه بأيّ شيء دون رقيب أو حسيب من دين أو عقل، بأن

ص: 47

يرتكب المحرّمات مثلاً - و العياذ بالله - فهذا وذاك اتِّباع للهوى.

و الحاجة إلى جمع المال إذا أبطلها الإنسان و زهد فيها زهداً سلبياً، أو انكبّ على الجمع من أيّ طريق و بأيّ وسيلة ولو كانت من حرام كالسرقة و الغصب و الاحتيال و الربا، فهذا وذاك من اتِّباع الهوى.

و حبّ الاحترام و العزّة بين الناس إذا أعدمه الإنسان و أذلّ نفسه، أو إذا طلب الجاه بطرق منحرفة، فكلا الحالتين من اتِّباع الهوى.

و حبّ الحرية إذا أبطله الإنسان و أصبح يألف العبودية للاستعمار مثلاً، أو أرخى لنفسه العنان دون ضابط، فكلاهما من اتّباع الهوى.

و هكذا كلّ حاجات الإنسان إذا خرجت عن الاعتدال فهي تتبع الهوى و الهوى يصدّ عن الحق كما قال الإمام علیه السلام.

وقد حذّرنا الله تعالى من اتِّباع الهوى في كثير من آيات القرآن، منها، قال سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (1) ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (2)

والروايات في ذمّه كثيرة، منها عن الإمام عليّ علیه السلام : «و الشَّقي من انخدع لهواه و غروره ... و مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، و محضرة للشيطان ...» (3)

«عباد الله: لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، فإنّ النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع ...» (4)

ص: 48


1- سورة الجاثية، الآية: 23
2- سورة ص، الآية: 26
3- نهج البلاغة، الخطبة 82
4- م. ن، الخطبة 105

رغبات النفس لا تنتهي

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: اعلم أيها العزيز، أنّ رغبات النفس و آمالها لا تنتهي و لا تصل إلى حدّ أو غاية. فإذا اتّبعها الإنسان و لو بخطوة واحدة، فسوف يضطرّ إلى أن يتّبع تلك الخطوة خطوات، و إذا رضي بهوى واحد من أهوائها، أجبر على الرضى بالكثير منها. و لئن فتحت باباً واحداً لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبواباً عديدة له.

إنّك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد، و من ثم سوف تُبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق. لا سمح الله. جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما أخبر الله بذلك في نصّ كتابه الكريم، و كان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين و وليّ الأمر، و المولى، و المرشد و الكفيل للهداية و الموجّه للعائلة البشرية علیه السلام» (1).

و هذا يعني أنّ على الإنسان أن يقطع الطريق على الهوى من بداية الطريق حتّى لا يسقط في الهاوية السحيقة؛ لأنّ الإنسان في البدايات هو أقدر على السيطرة على الأمور من المراحل المتقدّمة فضلاً عن النهايات.

سدّ طرق الحرام

إنّ قطع الطريق على الشهوة المحرّمة ينبغي أن يكون من أوّل الطريق فلا ينبغي للإنسان أن يتبع هواه في أن ينظر النظر المحرّم سواء النظر المباشر أم عبر الإعلام، أو يختلي بامرأة لا تحلّ له، أو يمازح امرأة لا يجوز له ممازحتها، أو يختلط النساء بشكل لا ضابط فيه، فإنّ كلّ ذلك مقدّمات إن لم يقطعها الإنسان من أوّل الطريق يخشى عليه أن يقع في الهاوية السحيقة.

فإنّ هوى النفس كالنار لا تشبع، و عليك أن تقطع عليه المزيد بقناعتك بحلال

ص: 49


1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 10، ص 166

الغرائز و الميول و الاحتياجات.

و قد حذّر الإمام علي علیه السلام من أوّل الهوى و بداياته: «إيّاكم و تمكّن الهوى منكم، فإنّ أوّله فتنة وآخره محنة» (1)، و عنه علیه السلام: «أول الشهوة طرب، و آخرها عطب» (2)، و عنه علیه السلام : «إيّاكم وغلبة الشهوات على قلوبكم، فإنّ بدايتها ملكة، ونهايتها هلكة» (3)، و عنه علیه السلام : «كم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً» (4).

فعلى الإنسان المؤمن أن يحذر الهوى كما يحذر أعداءه، فعن الإمام الصادق علیه السلام: «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم» (5) و «أشجع الناس من غلب هواه» (6) كما عن رسول الله.

مرّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقوم يتشايلون حجراً، فقال: ما هذا؟ فقالوا نختبر أشدّنا و أقوانا، فقال: ألا أخبركم بأشدّكم و أقواكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال: «أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، و إذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، و إذا ملك لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ» (7).

فإذا كنا نريد الجنّة فعلينا بنهي النفس عن الهوى، يقول سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) (8). ﴾ (8)

الأمر الثاني: طول الأمل

ينبغي الإلفات إلى أنّ أصل (الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهمّ في إدامة حركة الحياة و التطوّر البشريّ في الأبعاد المادية و المعنوية.

ص: 50


1- عيون الحكم و المواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 101
2- م. ن، ص 112
3- م. ن، ص 101
4- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 13، ص 299
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 335
6- جامع أحاديث الشيعة، ج 13، ص 250
7- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 361
8- سورة النازعات، الآيتان: 40 - 41

إذا سُلب الأمل من قلب (الاُمّ) فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها وتحمُّل أنواع المشقّة و الألم بتربيته و تنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبويّ الشريف «اَلأمَلُ رَحْمَةٌ لأُمَّتِي وَلَوْلاَ الأَمَلُ مَا رَضِعَتْ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا» (1).

إنّ من يعلم مثلاً بأنّ هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة و يغادر الدنيا فإنّه سيترك جميع ما في يده من أعمال و شاطات في دائرة المعيشة و العلاقات الإجتماعية. و في الحقيقة فإنّ ذلك يعني انطفاء شعلة الحياة. و لعلّ أحد الأسباب لخفاء الأجل هو أن يبقى الإنسان في حالة الأمل و الرجاء ويعيش الحركة الطبيعية في أمور المعيشة.

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليغرسها» (2).

وعن المسيح علیه السلام أنّه: «بينما عيسى ابن مريم علیه السلام المجالس و شيخ يعمل بمسحاة و يثير الأرض، فقال عيسى علیه السلام : اللهمّ انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة و اضطجع فلبث ساعة، فقال عيسى : اللهمّ اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى عن ذلك، فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟ فألقيت المسحاة و اضطجعت، ثم قالت لي نفسي: و الله لا بدّ لك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي» (3).

ومن هنا قال الشاعر:

أعلّل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

فالأمل ضروري لإيجاد التحرّك أكثر لدى أفراد المجتمع من موقع النظر إلى المستقبل في حركة الحياة.

ص: 51


1- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 74، ص 173
2- كنز العمال، المتقي الهندي، ج 3، ص 892
3- انظر بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 14، ص 329

52

و لكنّ نفس هذا الأمل الّذي يُعدّ رمز حركة الإنسان وسعيه في حياته الدنيوية و الماء الّذي يسقي أرض حياته الميّتة و يُنعش إحساساته و عواطفه بغد أفضل، نفس هذا الأمل إذا تجاوز حدّه المرسوم أصبح على شكل سيل مدمّر يأتي على الأخضر و اليابس و يُغرق الإنسان في و حل حبّ الدنيا و الظلم و الجريمة و الإثم.

يروى عن الإمام الكاظم علیه السلام: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، و اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (1). فالشطر الأول من الحديث يشير إلى الأمل الإيجابيّ الإعمار الدنيا، و الشطر الثاني من الحديث يشير إلى ضرورة أن لا ينسى الإنسان الموت لإعمار الآخرة.

و قد حذّر الإسلام من طول الأمل المذموم الذي يُنسي الآخرة، قال تعالى واصفاً الكفار: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (2) و قال :سبحانه (۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (3).

و عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قوله: «أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَ طُولُ الأمَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا» (4).

و عن أمير المؤمنين علیه السلام قوله: «مَنْ أَطَالَ اَمَلَهُ سَاءَ عَمَلُه» (5).

و عن فاطمة بنت الحسين علیه السلام عن أبيها الإمام الحسين علیه السلام عن جدّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «اِنَّ صَلَاحَ اَوَّلِ هَذِهِ الْاُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَ الْيَقِينِ وَ هَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ [بِالشَّكِّ] وَ الْاَمَلِ» (6).

ص: 52


1- تحرير الأحكام العلامة الحلي، ج 2، ص 249
2- سورة الحجر، الآية: 3
3- سورة الحديد، الآية: 16
4- تفسير القرطبي، ج 5، ص 3618، ورد شبه له مع اختلاف يسير في بحار الأنوار، ج 70، ص 16
5- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 70، ص 163
6- م.ن، ج 70، ص 164

من العوامل المهمّة لانتصار المسلمين في صدر الإسلام الإيمان و اليقين الراسخ بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا و بريقها، حيث تسبّب ذلك في أن يرد المسلمون الأوائل إلى ميدان القتال و الجهاد بشجاعة فائقة و شوق بالغ فلم يكونوا يرون إلّا الله تعالى و الدار الآخرة.

و لكن عندما امتدّت إليهم الآمال الطويلة و ملكتهم العلائق الدنيوية و خدعتهم ظواهر الدنيا حلّ الشكّ و الترديد محلّ اليقين، و الشغف باُمور الدنيا محلّ الزهد، و بدأوا يتراجعون أمام أعدائهم و يسلكون سبيل التخلّف و الانحطاط الحضاري و الثقافيّ، فلا سبيل لهم اليوم لتجديد عظمتهم الأولى سوى إحياء اليقين و الزهد وقصر الأمل و ذكر الموت و الآخرة وعدم نسيانهما.

ففي وصية رسول الله لأبي ذرّ: يا أبا ذرّ: إيّاك و التسويف بأهلك، فإنّك بيومك و لست بما بعده، فإن يكن لك غد فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد، لم تندم على ما فرطت في اليوم. يا أبا ذرّ: كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، و منتظر غداً لا يبلغه. يا أبا ذر : لو نظرت إلى الأجل و مصيره لأبغضت الأمل و غروره. يا أبا ذرّ: كن كأنّك في الدنيا غريب أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أصحاب القبور. يا أبا ذرّ: إذا أصبحت لا تحدّث نفسك بالمساء، و إذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح» (1).

و في رواية: أنّه اجتمع عبدان من عباد الله فقال أحدهما للآخر: ما بلغ من قصر أملك؟ فقال: أملي إذا أصبحت أن لا أمسي، و إذا أمسيت أن لا أصبح. فقال: إنّك لطويل الأمل. أما أنا فلا أؤمل أن يدخل لي نفَس إذا خرج، ولا يخرج لي نفَس إذا دخل.

و يروى أن حذيفة قال يوماً لرجل: أراك إذا دخلت الكنيف أبطأت في مشيتك و إذا خرجت أسرعت، فقال: أدخل و أنا على وضوء و أخرج و أنا على غير وضوء فأخاف أن

ص: 53


1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 1، ص 400

يدركني الموت قبل أن أتوضّأ، فقال له حذيفة: إنّك لطويل الأمل، لكنّي أرفع قدمي فأخاف أن لا أضع الأخرى حتى أموت (1).

قد لا تستطيعون أن تكونوا قصيري الأمل بهذه الدقّة و لكن أعينوا رسول الله و الأئمة والأولياء قدر مستطاعكم.

أعاننا الله على محاربة الهوى و طول الأمل، فانتصارنا عليهما مقدّمة مهمّة لانتصارنا على أعداء الله و الإنسانية.

ص: 54


1- أعيان الشيعة السيّد محسن الأمين، ج 4، ص 603

مطاله

الاستغفار و التوبة الحقيقية

قال شخص بحضرة أمير المؤمنين علیه السلام: أَسْتَغْفِرُ اللَّه!

فقال له أمير المؤمنين علیه السلام: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاِسْتِغْفَارُ؟ إِنَّ الاسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَ هُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ:

أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى.

وَ الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْمَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً.

وَ الثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ عزّ وجلَّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ.

وَ الرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَة عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا.

وَ الْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ، حَتَّى يَلْصِقَ الْجِلْدُ بِالْعَظْمِ، وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ.

وَ السَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ.

فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ. (1)

ص: 55


1- نهج البلاغة، الحكمة 417

ص: 56

6- الوفاء توأم الصدق

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«أيّها النّاس إنّ الوفاء توأم الصّدق و لا أعلم جُنّةً أوقى منه. و لا يَغْدِرُ من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحُوَلُ القُلّب وجه الحيلة و دونها مانع من أمر الله و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين».

نهج البلاغة الخطبة 41

الجُنّة: بضم الجيم: الوقاية.

الكيس: العقل.

الحوّل: البصير بتحويل الأمور.

القلّب: الخبير بتقلّبها.

ينتهز: يبادر.

الحريجة: التحرّز.

ص: 57

ص: 58

نقض العهد من الكبائر

إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية، إذ بدونها لا يتمّ أيّ نوع من التعاون و التكافل الاجتماعيّ، و إذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية و آثارها أيضاً.

و لهذا تؤكّد مصادر التشريع الإِسلاميّ بشكل لا مثيل له - على قضيّة الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة و الشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى و عمّ الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، و زوال الثقة يعتبر من أكبر و أخطر الكوارث.

و نقض العهد من الكبائر، و قد استَشْهَدَ الإمام الصادق علیه السلام لاعتبار هذا الذنب من الكبائر بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (1). و في أكثر من موضع في القرآن الكريم، اعتبر الوفاء بالعهد واجباً، يقول تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (2).

ص: 59


1- سورة الرعد، الآية: 25
2- سورة الإسراء الآية: 34

(يأيهَا الَّذينَ ءَامَنوا أَوفوا بِالعُقودِ) (1).

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (2).

و الروايات في قبح نقض العهد كثيرة منها:

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «لا دين لمن لا عهد له» (3)

و عن أمير المؤمنين علیه السلام: «الخُلف يوجب المقت عند الله و عند الناس، قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (4).(5)

و عن الإمام الباقر علیه السلام: «أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه و يكافئك بالإحسان إليه إساءة. و رجل لا تبغي عليه و هو يبغي عليك، و رجل عاهدته على أمر فمن أمرِك الوفاء به ومن أمرِه الغدر بك. و رجل يصل قرابته و يقطعونه» (6).

إنّ قبح نقض العهد من الشناعة بحيث لا أحد على استعداد لأن يتحمّل مسؤوليته بصراحة إلّا النادر من الناس حتّى أنّ ناقض العهد يلتمس لذلك اعذاراً و تبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته.

نقض العهد على نحوين

1 - نقص العهد مع الله تعالى:

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (32) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (7).

ص: 60


1- سورة المائدة، الآية: 1
2- سورة البقرة، الآية: 177
3- بحار الأنوار، ج 72، ص 96
4- سورة الصف، الآية: 3
5- التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 5، ص 168
6- الخصال، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 230
7- سورة الأعراف، الآيتان: 172 - 173

إنَّ الله تعالى خلق أرواح البشر في عالمٍ قبل الحياة الدنيا بنحو لديهم إدراك و شعور و لياقة للمخاطبة و المكالمة، و أخذ منهم إقراراً بربوبيّته، و عهداً بأن يثبتوا على ذلك و لا يشركوا به ولا ينحرفوا عن رسالات الأنبياء، و لا يتّبعوا الشيطان، و عاهدهم الله تعالى في مقابل ذلك على أن يعينهم و يرحمهم و يسكنهم جنّته، و إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه في ذلك العالم لم يعطهم ما عاهدهم عليه. و نقض العهد الإلهيّ من الذنوب الكبيرة.

و من أنواع العهد مع الله تعالى أن يقول مثلاً : عاهدت الله، أو عليّ عهد الله أن أفعل كذا أو أترك كذا، إذا رُزقت العافية أو رجعت من السفر سالماً أن أدفع مبلغاً ما للفقير.

فالعهد مع الله إذا تحقّقت شروطه الموجودة في كتب الفقه يجب الالتزام به. وقد ذمّ الله تعالى من ينقض العهد مع الله بقوله :(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (1).

وقد وصف الله تعالى من ينقض العهد معه بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) (2).

الآية تشير إلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، و كانت هي و عاملاتها يعملن من الصباح حتّى منتصف النهار في غزل ما عندهنّ من الصوف و الشعر، و بعد أن ينتهين من عملهنّ تأمرهنّ بنقض ما غزلن، ولهذا عُرفت بين قومها ب_ (الحمقاء) (3).

ص: 61


1- سورة التوبة، الآيات: 75 - 76-77
2- سورة النحل، الآية: 92
3- انظر: التفسير الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج 8، ص 305

فما كانت تقوم به (رابطة) لا يمثّل عملاً بلا ثمر - فحسب - بل هو الحماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهداً مع الله و باسمه، ثمّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، و إنّما هو دليل على انحطاطه و سقوط شخصيته.

2 - معاهدة الناس

فيجب الوفاء بالعهود معهم ويحرم نقضها كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (1).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (3).

و عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم : «من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليف إذا وعد» (4).

فهو يشمل العهود و المواثيق الخاصّة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية و المعاشية، و في العمل و الزواج، و هو يشمل أيضاً المواثيق و المعاهدات بين الحكومات و الشعوب.

خلف الوعد من صفات اليهود و المنافقين

و قد ذمّ الله تعالى اليهود لاتّصافهم بصفة نقض العهود مع الله و مع الناس يقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ) (5)

نزلت هذه الآية في يهود بني قريظة الذين عاهدوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن لا يعينوا أعداء الإسلام، ثمّ نقضوا عهدهم في معركة بدر حيث زوّدوا المشركين بالسلاح، ثمّ قالوا لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : نسينا عهدنا، و عاهدوه مرّة ثانية ثم نقضوا عهدهم

ص: 62


1- سورة الإسراء، الآية: 34
2- سورة المائدة، الآية: 1
3- سورة المؤمنون، الآية: 8
4- بحار الأنوار، ج 74، ص 149
5- سورة الأنفال، الآيتان: 55-56

في معركة الخندق، حيث اتحدوا مع أبي سفيان في حربه ضدّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. و قد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في صفات المنافق: «ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً وإن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم : من إذا ائتُمن خان، و إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف» (1).

احترام المعاهدة

إنّ الوفاء بالعهد لا يختصّ بالمسلمين فيما بينهم فقط بل ينبغي لهم أن يفوا بما عاهدوا عليه غير المسلمين.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «ثلاثة لم يجعل لأحد فيها رخصة: برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين، و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر و أداء الأمانة إلى البرّ و الفاجر» (2).

و بعد اقتدار المسلمين و قوّة شوكتهم أمر الله تعالى في سورة براءة بجهاد المشركين و تطهير مكّة المعظّمة من الشرك و عبادة الأصنام لكنّه استثنى أولئك المشركين الذين كان بينهم و بين المسلمين معاهدة.

قال سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (3).

و الشواهد كثيرة من تاريخ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على مزيد اهتمامه بالوفاء بالعهد.

من جملة تلك الشواهد ما حدث في صلح الحديبية بينه و بين مشركي مكّة، و الّذي يقضي أنَّ من حقٌّ قريش أن تقبل من يلجأ إليها من المسلمين ولا يحق للمسلمين أن يقبلوا من يلجأ إليهم من قريش.

ص: 63


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 291
2- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 128
3- سورة التوبة، الآية: 4

64

يروي أبو رافع: أرسلتني قريش إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلّما رأيته أشرق في قلبي نور الإسلام فقلت: يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لا أعود إلى قريش.

فقال صلی الله علیه و آله و سلم : «إنّي لا أخالف عهداً عاهدته، ارجع إليهم».

و لكنّ المؤسف أنّه بعد رسول الله جاء من يتسمّى باسم المسلمين ولكنّه لا يحفظ عهداً، أمثال معاوية و عمرو بن العاص حيث كانا ينتهزان الفرصة من أوّل الحرب في صفّين في إجراء الحيلة برفع المصاحف فلمّا ظهرت لهما آثار الفتح و الغلبة من الإمام عليّ علیه السلام و أصحابه تمسّكا بالقرآن حيلة منهما، ثمّ بعد هذه القضيّة وقبلها لم يعملا به أصلاً كما هو شأن الخائن. و أنت إذا تأمّلت المقام وتصفّحت الكتب تعلم أنّ الغدر في الأمور من صدر الخلقة و وجود البشر في هذه الدّنيا كان بمعزل عن الأنبياء و الأوصياء و الصّلحاء بل كان أنيساً رفيقاً للفجّار والفسّاق. وهذا ما أشار إليه الإمام علیه السلام : «وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين».

و قضيّة صلح معاوية مع الإمام الحسن و نقض معاوية لبنود الصلح معروفة تاريخياً.

فلسفة احترام العهد

كما هو معلوم فإنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثّل أهمّ دعائم رسوخ المجتمع، بل من دعائم تشكيل المجتمع و إِخراجه من حالة الآحاد المتفرّقة و إِعطائه صفة التجمّع، بالإضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الاجتماعية و التعاون على مستوى واسع.

و العهد و القسم من مؤكّدات حفظ هذا الارتباط و هذه الثقة، وإذا تصوّرنا مجتمعاً كان نقض العهد فيه هو السائد، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عامّ في ذلك المجتمع، و عندها سوف يتحوّل المجتمع إلى آحاد متناثرة تفتقد الارتباط و القدرة و الفاعلية الاجتماعية.

و لهذا نجد أنّ الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة

ص: 64

الوفاء بالعهد و الأيمان، و تعتبر نقضها من كبائر الذنوب.

و قد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام و الجاهلية و اعتبره من أهمّ المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر «فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً من تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر» (1).

و جملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر» معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.

و نجد في أحكام الحرب الإسلامية أنّ إعطاء الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدوّ يوجب مراعاة ذلك على كلّ المسلمين!

نقل عن الإمام علي علیه السلام أنّ العهد حتّى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به، و ذلك في قوله: «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان» (2).

من الآثار السلبية لنقض العهود و الأيمان شياع سوء ظنّ الناس و تنفّرهم من الدين الحقّ، و تشتّت الصفوف و فقدان الثقة حتّى لا يرغب الناس في الإسلام، و إِنْ عقدوا معهم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به. و هذا ما يؤدّي لمساوئ و مفاسد كثيرة و بروز حالة التخلّف في الحياة الدنيا.

يقول المؤرّخون و المفسّرون: من جملة الأُمور التي جعلت الكثير من الناس في صدر الإسلام يعتنقون هذا الدين الإلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود و المواثيق و رعايتهم لأيمانهم.

ص: 65


1- نهج البلاغة، الرسالة 53
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 2، ص 250

و نظراً لما لهذا الأمر من أهميّة قال سلمان الفارسيّ: «تهلك هذه الأُمّة بنقض مواثيقها» (1).

أي أنّ الوفاء بالعهد و الميثاق كما أنّه يوجب القدرة و النعمة و التقدّم، فنقضهما يؤدّي إلى الضعف و العجز و الهلاك.

و الكلام الذي يجري على الوفاء يجري على الصدق فإنّهما توأمان كما قال الإمام علیه السلام.

فالصدق من علامات صدق الإيمان و رأسه، عن الإمام عليّ علیه السلام : «الصدق أقوى دعائم الإيمان» (2).

و عنه علیه السلام: «الصدق رأس الدين» (3). وعنه : «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرُّك، على الكذب حيث ينفعك» (4)

و عن الإمام الصادق علیه السلام: «لا تغترّوا بصلاتهم و لا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة و الصوم حتّى لو تركه استوحش، و لكن اختبروهم عند صدق الحديث و أداء الأمانة» (5).

هذا و طريق الصدق هو طريق الأنبياء و الأولياء الربّانيين، حيث كانوا يتجنّبون كلَّ كذب و غشِّ و خداع و حيلة في أفكارهم و أقوالهم و أعمالهم، و هذا بخلاف شياطين الإنس من الزعماء و الرؤساء و الملوك الذين ديدنهم الكذب و الخداع و الغشّ، و هذا من أسباب فشل المسلمين، ذلك أنّهم اتّبعوا شياطين الإنس الكاذبين و تركوا الأشخاص الصادقين، في حين أنَّ الله تعالى أمرنا أن نكون مع الصادقين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (6).

ص: 66


1- مجمع البيان في تفسير الآية (94)
2- غرر الحكم و درر الكلم، الآمدي، حكمة 4310
3- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص25
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 12، ص 255
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 104
6- سورة التوبة، الآية: 119

مطالعه

أنين عقيل من حرارة الحديد

كان لفاطمة بنت أسد، أُم عليّ علیه السلام، أربعة أولاد، و هم على الترتيب: طالب، عقيل، جعفر، و عليّ علیه السلام، و كان عقيل ثاني أبناء أبي طالب و اعياً و شجاعاً و سريع الجواب، و كان حاضراً في معركة صفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام. و كما وقف عقيل مع أخيه الإمام عليّ علیه السلام ضدّ أعدائه، وقف ابنه مسلم بن عقيل مع ابن عمّه الإمام الحسين علیه السلام في واقعة كربلاء.

يقول الإمام علي علیه السلام في خطبة له :

«وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً؛ وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ؛ وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي. فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا؛ فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ، أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ، أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟! (1).

سأل معاوية عقيلاً يوماً عن قصّة الحديدة المحماة، فبكى و قال: نعم، أقويت و أصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تندّ صفاته، فجمعت صبياني و جئته بهم، و البؤس و الضرّ ظاهران عليهم. فقال : ائتني عشيّة لأدفع إليك شيئاً، فجئته يقودني أحد ولْدي فأمره بالتنحي، ثمّ قال: ألا فدونك! فأهويت حريضاً قد غلبني الجشع أظنّها صرّة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً! فلما قبضتها نبذتها وخرْت كما

ص: 67


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد : ج 11، ص 245

يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك أُمّك! هذا من حديدة أوقدت له (1) نار، الدنيا، فكيف بي و بك غداً إن سلكنا في سلاسل جهنم؟ ثمّ قرأ: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ) (2) ثمّ قال: ليس لك عندي فوق حقّك الّذي فرضه الله لك إلّا ما ترى، فانصرف إلى أهلك.

فجعل معاوية يتعجّب و يقول: هيهات! هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله.(3)

ص: 68


1- و فى رواية «لها»
2- سورة المؤمنون، الآية: 71
3- مواقف الشيعة الأحمدي الميانجي، ج 1، ص 234

7- لا تسألوا فوق الكفاف

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَ لَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَ لَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَ لَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ.

وَ الدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ وَ هِيَ حُلْوَةٌ [خَضِرَةٌ] خَضْرَاءُ وَ قَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ وَ الْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ؛ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ وَ لَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَ لَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغ».

نهج البلاغة، الخطبة 45

ص: 69

ص: 70

معنى القناعة

الرضا بالكفاف يعني القناعة «و القناعة ... الرضا بالقسم ... و في الحديث: «القناعة كنز لا يفنى»؛ لأنّ الإنفاق منها لا ينقطع، كلّما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه و رضي. و في الحديث: «عزّ من قنع و ذلّ من طمع، لأنّ القانع لا يذلّه الطلب فلا يزال عزيزاً ... و في المثل : خير الغنى القنوع، و شر الفقر الخضوع ...» (1).

فالقناعة لغة هي الرضا بالقسم، و هو يلتقي مع معناها في المرتكزات الشرعية حيث تعني القناعة: أن يقنع الإنسان بما قسم الله له من الأمور الدنيوية، بمعنى أنّ الإنسان إذا كانت طاقته لا تتحمَّل أن يتقدّم مادياً، و ظروفه لا تساعده، فعليه أن يقنع بما هو عليه من المستوى الماليّ، إلى أن يفتح الله عليه باباً من أبوابه الحلال. و هذا لا يعني أن لا يسعى الإنسان إلى تحسين حاله المادّيّ إن استطاع عن طريق الكسب الحلال.

و لا تعمُّ القناعة الأمور المعنوية، فالإسلام دعا المسلمين إلى التزوّد و التنافس

ص: 71


1- لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص298

في الأمور المعنوية، كالعلم و الإيمان و التقوى و الخصال الأخلاقية الحميدة.

قال تعالى: ﴿ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (1)

وقال سبحانه: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾ (2)

و عن الإمام علیّ علیه السلام: «إن كنتم لا محالة متنافسين، فتنافسوا في الخصال الرغيبة» (3).

المجتمع الغربيّ و الحرص

و إذا أردنا أن نعرف أهميّة صفة القناعة، فما علينا إلّا أن ننظر إلى المجتمعات المادية، كالمجتمعات الغربية (أوروبا و أمريكا)، فإنّ هذه المجتمعات لا قناعة فيها، و قيمها قيم مادية، يتنافس الناس في هذه البلاد على جمع الأموال و تحصيل المناصب، و يتكالبون على الدنيا نهما و شراسة، لذلك وقع هذا المجتمع في أمراض روحية و نفسية و سلوكية خطيرة.

و إليكم تقرير يشهد لما نقول ففي إحصاء صدر في الولايات المتحدة الأميركية «أنّ أكثر من 6 صلی الله علیه و آله و سلم من السكّان يعانون نوعاً من سوء التوافق (أي تعب نفسي)، و أنّ واحداً من كلّ عشرة من السكّان يحتاج إلى معونة الطبيب النفسيّ إن عاجلاً أو أجلاً، و أن واحداً من كلّ ثمانية عشر شخصاً ينفق بعض الوقت في مشفى عقليّ، و أن عدد من يدخلون في المشافي في كلّ عامّ يساوي عدد من يتخرّجون من الجامعات، و أنّ المصابين بأمراض عقلية أي جنون يشغلون من أسرة المشافي أكثر مما يشغله جميع المرضى بكافّة الأمراض الأخرى، و أنّ نصف من يتردّدون على أطبّاء لعلل جسمية يعانون في الواقع من اضطرابات نفسية» (4)

ص: 72


1- سورة المطففين، الآية 26
2- سورة البقرة، الآية: 197
3- ميزان الحكمة الري شهري، مج 3، ص 146، ح 5042
4- الصحة النفسية، د. مصطفى فهمي، ص 7

فمن هذا التقرير نشهد مدى ما يعانيه المجتمع الغربيّ من متاعب نفسية وأمراض نفسية، و ما ذلك إلّا لأنّهم يحبّون المال حبّاً جماً و يحرصون على جمعه و الاستزادة منه، تاركين التنافس على المعنويات.

فالمجتمع الغربيّ لا يعيش الحياة الطيّبة التي تسبّبها القناعة. سُئل الإمام علي علیه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (1)، قال : «هي القناعة» (2). فمن الأمور المهمّة في طمأنينة الروح و سعادة الحياة، و طيب العيش، و راحة البال، القناعة الّتي هي كنز لا ينفد.

آفات الحرص

و لعدم القناعة على مستوى الفرد (و التي تنسحب على المجتمع) آفات كثيرة منها :

1- الغمُّ في الدنيا: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّاً» (3).

2 - الحسد : فإنّ من لا يقنع بما رزُق، فمن المحتمل أن يقع في آفّة الحسد. و الوقاية من آفّة الحسد والطمع سكينة وعافية، فعن الإمام عليّ علیه السلام : «صحة الجسد من قلّة الحسد» (4). أمّا الطمع فصاحبه طول حياته هائم و حائر، كيف يجمع و يدَّخر.

3 - الوقوع في الشَّرَ : فغير القانع ربَّما يسلك مسالك منحرفة لكي يحصل على الأموال، فربّما يسرق أو يغصب أو يقتل، يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «خير المؤمنين

ص: 73


1- سورة النحل، الآية: 97
2- ميزان الحكمة الري شهري، ح 17124
3- جامع السعادات، الشيخ النراقي، ج 2، ص 103
4- فلسفة الأخلاق في الإسلام، الشيخ محمد جواد مغنية، ص208

القانع، وشرّهم الطامع» (1).

4 - فساد النفس: يقول الإمام عليّ علیه السلام: «أعون شيء على صلاح النفس القناعة» (2)، فالحرص لا يساعد على صلاح النفس.

5- ذلّة النفس: في الحديث: ثمرة القناعة العزّ» (3) فمن لا يقنع يذلّ نفسه.

إلى كثير من الآفّات التي تشكّل خطورة كبيرة على حياة الإنسان الدنيوية و مصيره في الآخرة.

علاج الحرص و الطمع (عدم القناعة)

1 - أن تعرف مضارّ عدم القناعة، و تأخذ العبرة من المجتمعات و الأشخاص المبتلين بعدم القناعة.

2 - أن لا تطلب فوق طاقتك، وفوق ظروفك، بمعنى أن ترضى بما قسم الله لك، و بما أعطاك من طاقة، و هيّأ لك من ظروف.

3 - أن يكون اهتمامك في المعنويات، و تنافسك في معالي الأخلاق، لا في اكتساب الأموال.

4 - أن تأخذ بنصيحة الإمام الصادق علیه السلام: «أنظر إلى من هو دونك في المقدرة و لا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما

قسم لك» (4)

و نصيحة أخرى للإمام الصادق علیه السلام، فقد جاءه شخص يشكو إليه عدم القناعة فقال له: «إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك، و إن كان

ص: 74


1- ميزان الحكمة، الري شهري، حديث 17142
2- م. ن، حديث 17161
3- م. ن، حديث 17160
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 244

ما يكفيك لا يغنيك فكلّ ما فيها لا يغنيك» (1)

5 - أن تعرف أنّ الله يوم القيامة لا ينظر إلى الأموال بل ينظر إلى الأعمال الخالصة (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (2).

عن النبيّ الأكرم: «اقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب» (3)

خاتمة

إذا أردتم راحة الدنيا قبل الآخرة، و سعادة الأولى قبل الآخرة، فما عليكم إلّا بالتمسُّك بصفة القناعة في المادّيات.

و إن كنتم لا تقنعون، فلتكن عدم قناعتكم في المعنويات، فلتتنافسوا فيها، لتعمر نفوسكم و عقولكم بالغنى، فإنّ الغنى الحقيقيّ هو غنى المعنويات، لا غنى المادّيات.

عن نوف البكاليّ قال: «بتّ ليلة عند أمير المؤمنين علیه السلام فكان يصلّي الليل كلّه، و يخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء و يتلو القرآن، قال: فمرّ بي بعد هدوء من الليل، فقال : يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين، قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك الذين اتّخذوا الأرض بساطاً، و ترابها فراشاً، و ماءها طيباً، و القرآن دثاراً، و الدعاء شعاراً، و قرضوا من الدنيا تقريضاً، على منهاج عيسى ابن مريم علیه السلام ...» (4).

و قال علیه السلام: «طوبى لمن ذكر المعاد، و عمل للحساب، و قنع بالكفاف، و رضي عن الله» (5).

ص: 75


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص139
2- سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89
3- ميزان الحكمة الريشهري، حديث 17168
4- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج66، ص 275
5- نهج البلاغة الحكمة 44

مطالعه

طلب المزيد و الكمال المطلق

يقول الإمام الخميني قدس سرة : «لا يخفى على كلّ ذي وجدان أنّ الإنسان، بحسب فطرته ... يعشق الكمال التامّ المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق و الكامل من جميع الوجوه، وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها ...

غير أنّ كل امرىء يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله و مقامه، فيتوجّه قلبه إليه، فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة و درجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله ...

و أهل الدنيا عندما رأوا أنّ الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتّجهوا فطرياً نحوها. و لكن على الرغم من كلّ ذلك، فإنّه لمّا كان التوجّه الفطريّ و العشق الذاتيّ قد تعلّق بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضياً و من باب الخطأ في التطبيق.

إنّ الإنسان مهما كثُر ملكه ... و مهما نال من الملكات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه و السلطان، ازداد اشتياقه شدّة، و نار عشقه التهاباً.

فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، و اشتدّت نار شوقه إليها.

كذلك النفس التي تطلب الرئاسة فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرةٍ طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنّها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها.

إلا أنّ هذه النفس المسكينة لا تدري بأنّ الفطرة إنّما تتطلّع إلى شيء آخر ...

إنّه لمّا كان الإنسان متوجّهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنّه مهما جمع من زخرف الحياة فإنّ قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا و زخارفها هي الكمال

ص: 76

ازداد ولعه بها، و اشتدّت حاجته إليها، و تجلّى أمام بصره فقره إليها، بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجّههم نحو الآخرة، قل التفاتهم و اهتمامهم بهذه الدنيا، و تلاشت حاجتهم إليها، و ظهر في قلوبهم الغنى، و زهدوا في الدنيا و زخارفها، كما أنّ أهل الله مستغنون عن كلا العالَمَيْن (الدنيا و الآخرة) ... و كلّ حاجتهم نحو الغنيّ المطلق ...» (1).

ص: 77


1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 6، ص 126 - 127

ص: 78

8- الأهل و العشيرة

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ، وَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ، وَ لِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يَرِثُهُ غَيْرُهُ. أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لَا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ، وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ، وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ».

نهج البلاغة الخطبة 23

الحيطة: بفتح الحاء - الرعاية، و بكسرها الصيانة والمعنيان متقاربان

الشعث: بفتح العين - التفرّق. و النازلة: المصيبة.

لسان الصدق: حسن الذكر بالحق ...

الحاشية الجانب و الجناح

ص: 79

ص: 80

الإسلام دين التواصل

إنّ من يراجع مصادر الإسلام، من خلال القرآن الحكيم و الأحاديث الشريفة، يرّ بكلِّ وضوح و جلاء، حقيقة و هي: أنّ كثيراً من وصايا الإسلام و واجباته و أحكامه تدعو إلى إزالة الحجب و الحواجز القائمة بين الناس جماعات و أفراداً.

يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1).

فالقاعدة الأولية في الإسلام هي التعارف و التعاون و تبادل الخبرات بين الأمم فلا ينبغي للمسلمين التقاطع و التحارب مع الشعوب الأخرى، بل السلام و الوئام هما الحاكمان على علاقات المسلمين مع غيرهم.

فالإسلام لا يخاف أيّ فكر آخر؛ لأنّه يملك الحجّة و الدليل و البرهان على صدقيته، و إنّما يخاف من لا منطق عنده و لا حجّة.

و كما دعا الإسلام إلى الوئام مع غير المسلمين فبالضرورة دعا إلى ذلك بين المسلمين أنفسهم.

قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (2).

ص: 81


1- سورة الحجرات، الآية: 13
2- سورة آل عمران الآية: 103

و عن رسول الله: «مثل المؤمنين في توادّهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء بالسهر و الحمّى» (1).

فإذا ما تكاتف المجتمع داخلياً، و أمِن من داخله، فحينئذ من السهولة أن ينتصر على أعدائه، أمّا إذا كان المجتمع مقاطعاً بعضه بعضاً، فحينئذ على هذا المجتمع السلام، و لن يستطيع أن ينتصر على أعدائه.

و التاريخ الإسلاميّ يؤكَّد لنا هذه الحقيقة، أنّ المسلمين تراجعوا حينما تقاطعوا، و إذا أرادوا الرجوع إلى ميدان قيادة الأمم فما عليهم إلّا أن يتواصلوا و يتكاتفوا.

و هذا التواصل ينبغي أن يبدأ في العشيرة و الأسرة و العائلة، أي بين الأرحام، ليكون البيت الداخلي،آمناً، و من ثمَّ ينجرّ الكلام إلى الوحدة و التواصل الاجتماعيّ الإسلاميّ بشكل عام والإنسانيّ بشكل أعمّ.

و هذا الجانب من العلاقة الحسنة مع العشيرة هو ما يدعو إليه أمير المؤمنين.

بين العصبية وصلة الرحم

رغم أنّ الإسلام دعا إلى التواصل و المرحمة، لكنّه في الوقت نفسه نهى عن التعصُّب الأعمى للعائلة و الأرحام.

يقول الإمام الخميني قدس سره: «العصبية واحدة من السجايا الباطنية النفسانية، و من آثارها الدفاع عن الأقرباء، و جميع المرتبطين به و حمايتهم، بما في ذلك الارتباط الدينيّ أو المذهبيّ أو المسلكيّ، و كذلك الارتباط بالوطن و ترابه ...

و العصبية من الأخلاق الفاسدة و السجايا غير الحميدة، و تكون سبباً في إيجاد مفاسد في الأخلاق و في العمل ...

إنّ المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّته و دافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحقّ ودحض الباطل، فهو تعصّب محمود و دفاع عن الحقّ و الحقيقة ...

ص: 82


1- كنز العمال، المتقي الهندي، ج 4، ص 2837

أما إذا تحرّك بدافع قوميته و عصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه و أحبّته في باطلهم و سايرهم فيه و دافع عنهم، فهذا شخص تجلّت فيه السجيّة الخبيثة سجيّة العصبية الجاهلية، و أصبح عضواً فاسداً في المجتمع ... و صار في زمرة أعراب الجاهلية ...» (1).

جاء في الكافي عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «من تعصَّب أو تعصّب له فقد خُلِع رِبقُ الإيمان من عنقه» (2).

و عنه علیه السلام قال: «من تعصّب عصّبه الله بعصابة من النار ...» (3).

فصلة الرحم و الأقرباء و التعاون معهم و التكافل مطلوبة إسلامياً، و لكن إذا كان التعاون معهم على الباطل و الظلم فهذا غير مطلوب، يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (4)

و قد أمرنا الله تعالى في كتابه الكريم، أن لا نكون متعصِّبين لمن يمتُّ إلينا بصلة القربى، وأن يكون رائدنا هو الحقُّ و العدل، وأن نقول الحقُّ و لو على أرحامنا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾ (5).

أسباب القطيعة

هناك أسباب عديدة تؤثّر سلباً على علاقات الناس و تواصلهم، و تنسحب هذه الأسباب على علاقات الأقارب و الأرحام منها:

1 - سيطرة روح المادّية على المجتمع و الأفراد، مما يسبِّب تمحور كلّ إنسان حول ذاته، بالشكل الذي يؤدّي إلى عدم الاهتمام بالآخرين. و هذا ما نراه في

ص: 83


1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 8، ص 143
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 307
3- م. ن، ج 2، ص 308
4- سورة المائدة، الآية: 2
5- سورة الأنعام، الآية: 152

المجتمعات الغربية التي لا تقيس علاقاتها مع الآخرين إلّا بالقياس المادّي، و يختصرون علاقاتهم بقياس الجيب و ما يحويه من المال.

و هذه الروح المادّية رفضها الإسلام العزيز، داعياً إلى عدم الاستغراق في حبِّ الدنيا، و حبّ المال، المؤدِّيين إلى كثير من المساوئ، و منها قطع الرحم.

إنّنا نرى كثيراً من الأغنياء المنكبّين على جمع المال، لا يتواصلون مع أقاربهم، و ما ذلك إلّا لأنّهم فقراء، لا يستفيدون منهم شيئاً، بمقياس الجيب و المصالح المادّية.

و هذا ما نبّه عليه أمير المؤمنين علیه السلام: «أيّها الناس إنّه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته و دفاعهم عنه ... و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة» (1).

2 - التكبّر : يؤدّي بالإنسان الذي تغلّب عليه حبّ العظمة، إلى التكبُّر على الآخرين و احتقارهم، و قد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر» (2). و إذا كان التكبُّر مذموماً في الإسلام، فإن التكبُّر على ذي الرحم أشدُّ قبحاً؛ فكم نرى غنياً، أو ذا جاه، لا يصل رحمه الفقير أو الذي لا جاه له، و لا يعرف له قرابته ويتكبُّر عليه، أمّا إذا رأى رحمه الغنيّ الوجيه احترمه، و هذا في الحقيقة ليس صلة للرحم، بل اعتناء بالمال و المصالح الضيّقة، لا بشخص الرحم، فهذا قد احترم المال و لم يحترم قريبه، ألا يعلم هذا المتكبِّر أنّ الله (لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (3).

3 - سوء الظنّ: و هو مسبِّب للكثير من العداوات و الأحقاد، و كم من أخوين تقاطعا لأنّهما أساء الظنّ؟ و كم من عائلات و أسر تفكّكت بسبب هذه الخصلة المدمِّرة؟

ص: 84


1- نهج البلاغة، الخطبة 23
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 310
3- سورة لقمان الآية: 18

و لذلك حذّرنا الله من هذه الرذيلة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (1)

و الأحاديث في هذا الصدد كثيرة منها ما روي عن أبي عبد الله قال: قال: أمير المؤمنين علیه السلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه و لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً و أنت تجد لها في الخير محملاً» (2)

4 - :الحسد: و هو أيضاً ماحق للدِّين، و مقطِّع أوصال الأحبّة و المؤمنين، ولقد حدّرتنا الشريعة الإسلامية من هذه الخصلة.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (3)

(وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (4).

و عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال لأصحابه: «ألا إنّه قد دبّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم و هو الحسد ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدين» (5).

ألم يكن الحسد سبباً لقتل قابيل لأخيه هابيل؟ فعن الإمام الصادق علیه السلام: «و الحسد أصله من عمى القلب ... و بالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد و هلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً ...» (6).

ألم يحاول إخوة النبيّ يوسف علیه السلام قتله انطلاقاً من صفة الحسد، و قصّته معروفة؟

5- الغيبة: و هي أيضاً مسبّبة لتفكّك العوائل، في حين أنّ الله تعالى ينهانا عنها لمصلحتنا.

ص: 85


1- سورة الحجرات، الآية: 12
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 362
3- سورة النساء، الآية: 54
4- سورة الفلق، الآية: 5
5- الوسائل، الحرّ العاملي، ج 15، ص 368
6- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 18

(وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (1).

6 - النميمة، و الحقد، و الغضب، و فحش الكلام، و عدم وجود الاحترام المتبادل، فضلاً عن الغزو الثقافيّ الغربيّ لنا، بحيث نكاد نصير كالغرب في أخلاقه و قيمه و توجّهاته.

هذه الأسباب لم نفضّل فيها، حتّى لا يطول المقام، و يحسن مراجعة الكتب الأخلاقية، التي تتحدَّث عن هذه المواضيع بإسهاب، و تعطي العلاج لهذه الرذائل، فبعلاجها يعالج موضوع قطيعة الرحم، و كثير من العداوات و الأحقاد في المجتمع ككلّ.

خاتمة

لقد تبيّن ممّا مر أنّه لا العصبية الجاهلية مقبولة و لا القطيعة للرحم مقبولة أيضاً، و إنّما المطلوب من الإنسان المؤمن أن يتقرّب من عشيرته و أهله و أقاربه و أرحامه، بشتّى أنواع التقرّب الذي يرضي به الله سبحانه و تعالى، لأنّه إن انقطع عنهم فقد خسروا هم رجلاً واحداً بينما هو قد خسر العشيرة كلّها، و أمّا إذا تواصل و تقرّب منهم بالحقّ فقد كسب رضا الله في الآخرة و عشيرته و أقاربه و أهله في الدنيا، حيث يجد عونهم و مؤازرتهم له في الشدائد و النوائب.

أعاننا الله على التواصل الحسن مع الناس ومع أقاربنا.

ص: 86


1- سورة الحجرات، الآية: 12

مطالعة

الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وأحد ولاته الخونة

من كتاب له علیه السلام إلى المنذر بن الجارود العبديّ (1) و قد كان استعمله على بعض النواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولّاه من أعماله:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِیکَ غَرَّنِی مِنْکَ وَ ظَنَنْتُ أَنَّکَ تَتَّبِعُ هَدْیَهُ وَ تَسْلُکُ سَبِیلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِیمَا رُقِّیَ إِلَیَّ عَنْکَ لاَ تَدَعُ لِهَوَاکَ انْقِیَاداً وَ لاَ تُبْقِی لآِخِرَتِکَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْیَاکَ بِخَرَابِ آخِرَتِکَ وَ تَصِلُ عَشِیرَتَکَ بِقَطِیعَةِ دِینِکَ.

وَ لَئِنْ کَانَ مَا بَلَغَنِی عَنْکَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِکَ وَ شِسْعُ نَعْلِکَ خَیْرٌ مِنْکَ وَ مَنْ کَانَ بِصِفَتِکَ فَلَیْسَ بِأَهْلٍ أَنْ یُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ یُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ یُعْلَی لَهُ قَدْرٌ أَوْ یُشْرَکَ فِی أَمَانَةٍ،أَوْ یُؤْمَنَ عَلَی خِیَانَة.

فَأَقْبِلْ إِلَیَّ حِینَ یَصِلُ إِلَیْکَ کِتَابِی هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.» (2)

وفد الجارود على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في سنة تسع، و قيل: في سنة عشر، و ذكر صاحب الاستيعاب: أنّه كان نصرانياً فأسلم و حسن إسلامه.

ص: 87


1- اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى، و إنّما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره: كما جرد الجارود بكر بن وائل
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 18، ص 54

9

ص: 88

9- معرفة الزمان وأهله

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام :

«حسب المرء ... من عرفانه، علمه بزمانه».

بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 80

ص: 89

ص: 90

أهمّيّة الزمن

يقسم الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بالزمان، كما في قوله تعالى:

(وَالْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (1). (وَالضُّحَى) (2)

و في قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ (3)

و ما تلك الأقسام بالزمان إلّا للإشارة إلى أهميَّة الزمان. و الزمان مؤلّف من ماض و حاضر و مستقبل، و من الضروريّ للإنسان أن يعرف الماضي أي التاريخ الذي مضى على الناس أفراداً و جماعات؛ ليعتبر ويتّعظ، فيأخذ بحسنات الماضي و يترك سيئاته و ضلاله و هفواته. يقول الإمام علي علیه السلام في وصيّته للإمام الحسن علیه السلام: «أي بُنيّ إنّي و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، و فكّرت في أخبارهم، و سرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم. بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، و نفعه من

ص: 91


1- سورة العصر، الآيات: 1-2-3
2- سورة الضحى، الآية: 1
3- سورة المدثر، الآية: 34

ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله و توخّيت لك جميله، و صرفت عنك مجهوله، و رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق و أجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر و مقتبل الدهر ...» (1).

معرفة الحاضر و المستقبل

و من المهمّ للإنسان أيضاً أن يعرف حاضره أي عصره و زمانه الذي يعيش فيه، فلكلّ عصر أهله و خصائصه و ضروراته و متطلّباته و أولويّاته، وهي تنطلق من المتغيرات الاجتماعية و الفكرية و الثقافية و السياسية الطارئة على مفاصل الحياة. فالمؤمن الواعي هو الذي يفهم أهل عصره و ضروراته و متطلّباته، و يدرك المشاكل و الأولويّات. أمّا أولئك الذين لايدركون هذه المسائل، أو لايتفاعلون معها بسبب عدم انتمائهم إلى عصرهم، فهم الهامشيون المنعزلون الذين يحسبون أنّهم يعيشون في صحراء منعزلة فلا يقدرون على التأثير و لا على المعالجة، بل يقفون دوماً متأسّفين و متحسّرين و شاكين و مشتبهين و مستسلمين.

و هذا ما أشار إليه أمير كلّ زمان الإمام عليّ علیه السلام: «حسب المرء ... من عرفانه، علمه بزمانه» و عنه علیه السلام: «أعرف الناس بالزمان، مَن لم يتعجب من أحداثه» (2)، و عنه : «مَن أمنَ الزمان خانه، و من أعظمه أهانه» (3). و في وصية أمير المؤمنين للحسن صلوات الله عليهما «يا بنيّ إنّه لا بدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه، فليحفظ لسانه، وليعرف أهل زمانه» (4).

وعن الإمام الصادق علیه السلام: «العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس» (5). واللوابس تعني الشبهات.

ص: 92


1- نهج البلاغة، الخطبة 31
2- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 126
3- م. ن، ص 431
4- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج68، ص 281
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 27

و معرفة العصر الحاضر تفيد في قراءة المستقبل و في صناعته، فإنّنا بصناعتنا للحاضر نصنع مستقبل أولادنا و أحفادنا.

من أسباب ضياع فلسطين أنّ أهل ذلك العصر لم يقرأوا حاضرهم بشكل صحيح، لذلك لم يصنعوا مستقبل أولادهم و أحفادهم بشكل صحيح.

فعلينا أن لا نضع الحقّ على الزمان في فشلنا و تراجعنا و انهزامنا ف_ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (1)

عن الريّان بن الصلت: أنشدني الرضا علیه السلام لعبد المطّلب:

یعیب الناس كلّه_م زمانا *** وما لزماننا عيب سوانا

نعيب زماننا والعيب فينا *** و لو نطق الزمان بنا هجانا

و إنّ الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

لبسنا للخداع مسوك طيب *** و ويل للغريب إذا أتانا (2)

علم الأنبياء و الأئمة بزمانهم

كان الأنبياء جميعهم يدركون متطلّبات عصورهم، فيقودون مجتمعاتهم على أساسه. و إن نسخ الأديان الماضية من قبل الأنبياء من أولي العزم أفضل دليل على إثبات دور الزمان في القيادة، حسب رؤية الأديان السماوية كلها.

إنّ معرفة العصر في الحقيقة أحد العناصر الأصلية للوعي السياسيّ و الاجتماعيّ. وكلّما ازدادت معرفة القائد بشعبه و أدرك مطالبه وحاجاته المادية و المعنوية بنحو أدقّ و أحاط بنقاط قوّته و ضعفه كان أنجح.

و لا جرم أنّ الأنبياء علیهم السلام جميعاً كانوا يتّسمون بهذه الصفة.

ورد عن الإمام الصادق علیه السلام: «ما كلّم رسول الله علیه السلام العباد بكنه عقله قطّ. قال

ص: 93


1- سورة الرعد، الآية: 11
2- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 49، ص 111

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» (1).

وتدلّ دراسة سيرة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم - من منظار معرفته بزمانه و إدراكه لمتطلّبات عصره - على أنّه نموذج بارز للقائد العارف بزمانه، يتلوه أمير المؤمنين عليّ علیه السلام و الأئمة من بعده.

و في عصرنا الحاضر الوليّ الفقيه هو من يتولّى قيادة الأمّة فهو العارف بزمانه فلذلك لا تهجم عليه اللوابس، فينبغي لنا إطاعته ففي طاعته هدي من الضلال و أمان من الفتنة و من كيد الأعداء.

... يقول الإمام الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه في دور معرفة الزمان في هداية الناس و قيادتهم، و في ضرورة الاطّلاع على متطلّبات العصر بوصفه شرطاً للاجتهاد:

«الزمان و المكان عنصران حاسمان في الاجتهاد. و المسألة التي كان لها حكم في الماضي ربّما يكون لها حكم جديد في العلاقات التي تحكم الشؤون السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية لنظام من الأنظمة. أي: إن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية تجعل الموضوع الأوّل الذي لم يختلف عمّا كان عليه في الماضي من حيث الظاهر موضوعاً جديداً يتطلّب حكماً جديداً لا محالة. و ينبغي للمجتهد أن يلمّ بقضايا عصره. و لا يستسيغ الناس و الشباب بل حتّى العوامّ أن يقول المرجع و المجتهد: لا رأي لي في القضايا السياسية، فالاطّلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد العالميّ، و معرفة ضروب السياسة و السياسيين و معادلاتهم المفروضة، و إدراك الموقع الذي يحتلّه النظام الرأسماليّ والشيوعيّ في العالم، و التعرّف على نقاط قوّتهما و ضعفهما إذ هما اللذان يحدّدان استراتيجية التسلّط على العالم، كلّ ذلك من صفات المجتهد الجامع» (2).

ص: 94


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 23
2- صحيفة النور، ج 21، ص 98، نداء الإمام إلى علماء البلاد و مراجع المسلمين بتاريخ 15 رجب 1409 ه_

من أسباب نجاح غير المؤمنين

إنّ هناك أسباباً لتقدّم و نجاح وانتصار بعض الكفّار و الفاسقين في الحياة الدنيا، و تأخّر بعض المؤمنين، و من هذه الأسباب أنّ الطائفة الأولى رغم خلوّهم من عنصر الإيمان يتحلّون - أحياناً - ببعض نقاط القوّة الّتي يحقّقون في ظلّها ما يحقّقون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخّرهم و انحطاطهم. فنحن نعرف أشخاصاً - رغم انقطاعهم عن الله - يتّسمون بالجديّة الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالاستقامة و العزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، و المعرفة بقضايا العصر ومتطلّباته، ومقتضياته ومستجدّاته، ومن الطبيعيّ أن يحقّق هؤلاء مكاسب كبيرة و يحرزوا انتصارات و نجاحات في حياتهم المادية، و ما هم في هذا الأمر - في الحقيقة - إلّا مطبقين لتعاليم الدين و برامجه من دون إسنادها إلى الدين وإعطائها صفته و صبغته.

وفي المقابل، هناك أشخاص متديّنون أوفياء للعقائد الدينية، لكنّهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن و الإحجام، ويفتقرون إلى الشهامة و الاستقامة و يفقدون عنصر الثبات و الاستمرار و الاتّحاد و التعاون، وقراءة العصر و الواقع، و طبيعيّ أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة. ولكنّ هذه الهزائم و الإخفاقات ليست أبداً بسبب إيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، و ما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، و موجبات السقوط و الإخفاق.

إنّهم يتصوّرون (و بالأحرى يظنّون) بأنّهم سيتنصرون بمجرّد إيمانهم بالله و انتسابهم إلى الدين في جميع المجالات، و ينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج و المناهج العملية الحيوية للتقدّم و النجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل و السقوط و الهزيمة. إنّ لكلّ شيء سبباً، و لكلّ نجاح مفتاحه الخاص، و وسيلته الخاصة، و قد أتى الدين بكلّ ذلك، و بيّنه في تعاليمه و توصياته،

ص: 95

فلا يمكن أن يتحقّق نجاح بغير هذه التعاليم و بغير هذه الوسائل، و من هذه التعاليم المهمّة المعرفة بالزمان.

فالنجاح في الحياة والانتصار يقتضيان الوعي ولا يكفي الإيمان الساذج البسيط.

ص: 96

مطالعة

أنين الإمام علي علیه السلام في محراب العبادة

دخل ضرار بن ضمرة الكتّانيّ على معاوية فقال له: صف لي عليّاً.

فقال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك!

قال له: و إذ لابدّ منه فإنّه و الله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، و يحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، يستوحش من الدنيا و زهرتها، و يستأنس بالليل و ظلمته! كان و الله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفّه ويخاطب نفسه، ويعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب! كان و الله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، و يجيبنا إذا سألناه، و كان مع تقرّبه إلينا و قربه منّا لا نكلّمه هيبة له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، كان يعظّم أهل الدين، و يحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله و لا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه. و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه. يتمثّل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين، فكأنّي أسمعه الآن و هو يقول:

ياربّنا ياربّنا - يتضرّع إليه - و يقول للدنيا: أبي تعرّضت؟ أَإِليَّ تشوّقت؟ هيهات هيهات غرّي غيري قد طلّقتك ثلاثاً فعمرك قصير، و عيشك حقير و خطرك يسير، آه آه من قلّة الزاد و بعد السفر، و وحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها و جعل ينشّفها بكمّه، و قد اختنق القوم بالبكاء (1).

ص: 97


1- نهج السعادة، ج 3، ص 199

ص: 98

10- ذكر الموت

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ؛ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ».

نهج البلاغة، الخطبة 188

ص: 99

ص: 100

كيف نذكر ما نخاف؟

يوصي الإمام عليّ علیه السلام في هذه الخطبة من نهج البلاغة بذكر الموت و الحال أن أكثر الناس يخاف الموت، فكيف نوصيهم بذكره؟ فإنّ الإنسان يبتعد عن ذكر ما يخيفه، و ينساه أو يتناساه لكي لا يتألّم ولا يقلق ولا يزعج باله و يشغل خاطره.

أسباب الخوف من الموت

في الحقيقة إنّ للخوف من الموت أسباباً:

1 - الخوف من الفناء و العدم

إنّ كراهة معظم الناس للموت و خوفهم منه لأجل أنّ الإنسان حسب فطرته التي فطرها الله سبحانه، و جبلّته الأصيلة، يحبّ البقاء و الحياة، ويتنفّر من الفناء و الممات، و حيث إنّ في فطرة الإنسان هذا الحبّ و ذاك التنفّر، فإنّه يحبّ و يعشق ما يرى فيه البقاء، ويحبّ ويعشق العالم الذي يرى فيه الحياة الخالدة، و يهرب من العالم الذي يقابله. و حيث إنّ كثيراً من الناس لا يؤمن إيماناً يقينياً بعالم الآخرة، و لا تطمئنّ قلوبهم نحو الحياة الأزلية، و البقاء السرمديّ لذلك العالم، فإنّهم يحبّون هذه الدنيا، و يهربون من الموت حسب تلك الفطرة و الجبلّة.

ص: 101

إنّ أكثر الناس تنشدّ قلوبهم إلى تعمير الدنيا، و تغفل عن تعمير الآخرة، و لهذا لا يرغبون في الانتقال من مكان فيه العمران و الازدهار إلى مكان فيه الدمار و الخراب. و هذا ناتج من نقص في الإيمان و الاطمئنان. و أمّا إذا كان الإيمان كاملاً، فلا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدنيوية المنحطّة و يغفل عن بناء الآخرة.

2 - الجهل بالموت

عن الإمام الجواد علیه السلام - لمّا سئل عن علّة كراهة الموت -: «لأنّهم جهلوه فكرهوه، و لو عرفوه و كانوا من أولياء الله عزّ و جلّ لأحبوه، و لعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا، ثم قال علیه السلام: يا أبا عبد الله (1) ما بال الصبيّ و المجنون يمتنع من الدواء المنقّي لبدنه و النافي للألم عنه؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء، قال علیه السلام: و الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً إنّ من استعدّ للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات و اجتلاب السلامة» (2).

و عن الإمام العسكري علیه السلام: «دخل عليّ بن محمّد علیه السلام على مريض من أصحابه و هو يبكي و يجزع من الموت، فقال له : يا عبد الله تخاف من الموت لأنّك لا تعرفه أرأيتك إذا اتّسخت وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب وعلمت أنّ الغسل في حمّام يزيل ذلك كلّه أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يا ابن رسول الله، قال: فذاك الموت

هو ذلك الحمّام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك و تنقيتك من سيئاتك، فإذا أنت وردت عليه و جاوزته فقد نجوت من كل غم و همّ و أذى، و وصلت إلى كلّ

ص: 102


1- وفي نسخة كتاب الاعتقادات للشيخ الصدوق: «يا عبدالله»
2- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 6، ص 156

سرور و فرح، فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمض عين نفسه ومضى لسبيله» (1)

3- الخوف من العقاب

و مثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم و هم مثقلون بالآثام و الأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخّر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.

ورد عن الإمام عليّ علیه السلام: «لا تكن ممّن ... يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له ... يخشى الموت، و لا يبادر الفوت» (2).

و عن الإمام أبي عبد الله علیه السلام قال: «جاء رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ فَقالَ: يا أبا ذَرِّ ما لَنا نَكرَهُ المَوْتَ؟ فَقالَ: لأَنَّكُمْ عَمَّرْتُمُ الدُّنْيا و أَخْرَبْتُم الآخِرَةَ، فَتَكْرِهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِن عِمْرانِ إِلى خَرابِ، فَقَالَ لَهُ : فَكَيْفَ تَرى قُدُومَنا عَلَى الله؟ فَقالَ: أَمَّا المُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ، وَ أَمَّا المُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ ...» (3).

هذه الأسباب للخوف من الموت - خوف العدم و الجهل بالموت و خوف العقاب - عالجها الإسلام حيث أحيا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، و بذلك أبعد شبح الفناء و الانعدام من الأذهان و بيّن أنّ الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.

ومن جهة أخرى دعا الإسلام إلى العمل الصالح و الابتعاد عن عصيان الله تعالى، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب.

التهيّوء لساعة الموت

و كوننا نحن مؤمنين بالحياة بعد الموت و أنّه ليس فناءاً و أنّه قنطرة نعبرها إمّا الى جنّة و إما إلى نار - كما عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «الموت الموت! ألا ولا بدّ من الموت،

ص: 103


1- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 6، ص 156
2- نهج البلاغة، الحكمة 150
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 458

جاء الموت بما فيه، جاء بالروح و الراحة و الكرة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه بالشقوة و الندامة و بالكرّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم» (1)، و عن أمير المؤمنين علام : «و ما بين أحدكم و بين الجنة أو النار إلّا الموت أن ينزل به، و إنّ غاية تنقصها اللحظة، و تهدمها الساعة، لجديرة بقصر المدّة، و إنّ غائباً يحدوه الجديدان: اللّيل والنّهار، لحريّ بسرعة الأوبة، و إنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً» (2) - إذا كان الموت هكذا بهذه الخطورة و المصيرية ينبغي لنا أن نتهيّأ لتلك الساعة التي لا مفرّ منها لأي أحد.

وعن الإمام علي علیه السلام : «و بادروا الموت و غمراته، و امه_دوا له قبل حلوله، و أعدّوا له قبل نزوله» (3)

فالإنسان الحكيم لا يغمض عينيه عن الأمور الخطيرة و المصيرية و لا يفعل كالنعامة التي تضع رأسها في التراب متوهّمة أنّ الذئب الآتي إليها لن يفترسها!

الإنسان الحكيم يتهيّاً للأمور الخطيرة و المصيرية و لا ينساها و لا يتناساها لأنها لا تنساه.

فالموت لا ينسانا و إن نسيناه أو تناسيناه «و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فيمن ليس يمهلكم؟».

التفكّر بالموت

إنّ الله تعالى كما أنّه خلق الحياة كذلك خلق الموت: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيَوَةَ

ص: 104


1- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 14، ص 60
2- نهج البلاغة، الخطبة 64
3- م. ن، الخطبة 190

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (1).

فالإنسان المؤمن عليه أن يفكّر في الحياة الدنيا و في الموت الذي هو قنطرة للحياة الأبدية الباقية: ( ... كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ...) (2).

ولكنّ المؤسف أنّ الإنسان يفكّر في دنياه الزائلة ولا يفكّر في الموت الذي هو باب إلى الآخرة الى الحياة السرمدية، بل إنّ التفكير بالموت له تأثير على حياته الدنيوية فضلاً عن آخرته.

فإنّ وجهة نظر الإنسان نحو الموت و ما بعده مهمّة جداً في حياته، فكلّما كانت نظرته واقعية و موضوعية و صحيحة، كلّما كانت حياته سعيدة و نشطة و متحرّكة و متفائلة، و العكس صحيح أيضاً.

فتركيبة الإنسان النفسية و من ثمّ سلوكه و أخلاقه تتأثّر جداً من خلال نظرته إلى الموت و ما بعده.

فليس التفكير في الموت و ما بعده أو بالأحرى ليس الاعتقاد بوجهة نظر معيّنة تجاه الموت و ما بعده فكرة عابرة تمرّ بالخيال و ترحل، ولو حاول الإنسان أن يخرجها من خياله و شعوره، فإنّها ستنزل رغماً عنه إلى لا شعوره و عقله الباطنيّ و كيانه النفسيّ و تطبعه بطابع معيّن إما سلباً أو إيجاباً.

فعلى هذا ليس التفكير في الموت و ما بعده موتاً بل حياة، أي له دخالة في حياة الإنسان و بنائه الروحيّ والنفسيّ والعقليّ.

و أنتم إذا دققتم جيداً ستعرفون أنّ الإنسان إذا كانت نظرته إلى الموت على أنّه فناء ستكون تركيبته النفسية معقّدة خائفة متشائمة مضطربة مستهترة متحلِّلة،

ص: 105


1- سورة الملك، الآية: 2
2- سورة البقرة، الآيتان: 219 - 220

أمّا إذا كانت نظرته على النقيض من ذلك واعتقد بأنّ الموت ليس انحلالاً تاماً و لا فناءً محضاً، إنّما حياة ثانية لها نكهتها الخاصّة، فستكون حياته النفسية و تركيبته الروحية متفائلة مطمئنة ملتزمة.

اكتشاف ما بعد الموت يحيي أمماً و أفراداً

يقول بعض الفلاسفة: «إنّ اكتشاف الموت هو الذي ينتقل بالشعوب و الأفراد إلى مرحلة النضج العقليّ أو البلوغ الروحيّ» (1)

صحيح قول هذا المفكّر و تؤيّده الوقائع التاريخية، و للتدليل على هذه الفكرة نعطيكم مثالاً واحداً.

كان أكثر الأمّة العربية قبل الإسلام منكراً للحياة بعد الموت، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (2).

(إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (3)

(أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (4).

فكيف كانت حياتهم؟ كانت حياتهم حياة جهلٍ و تخلّف و تبعيّة، و لكن عندما جاء الإسلام، و غيّر نظرتهم إلى الموت و ما بعده، تغيَّر العرب تغيّراً جذرياً، فانطلقوا في الدّنيا بكل انشراح و قوّة وغيّروا مجرى التاريخ بعد أن كانوا هملاً.

فيتبيّن ممّا مرّ أنّ ذكر الموت و التفكّر فيه و عدم نسيانه ضروريّ للفرد و المجتمع، فهو صمّام أمان للفرد، ودفع للمجتمع للتغيير، فشتّان بين من يحسب الموت فناء ومن يقطع بأن الموت حياة أخرى، فالأوّل جبان كما عليه اليهود ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ

ص: 106


1- انظر: تغلب على الخوف، مصطفى غالب، ص 74
2- سورة الجاثية، الآية: 24
3- سورة السجدة، الآية: 10
4- سورة الصافات، الآية: 47

مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (1)، (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (2)، و الثاني شجاع كما عليه أبناء الإسلام.

و لهذا الاعتقاد درجات يترقّى فيها الإنسان حتّى يصبح الموت بالنسبة له أمراً عادياً على حدّ تعبير الإمام عليّ بن الحسين علیه السلام: «لا أبالي وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا».

ص: 107


1- سورة البقرة، الآية: 96
2- سورة الحشر، الآية : 14

مطالعة

الموت بعزّ أفضل من العيش بذلّ

كان نزول الإمام عليّ علیه السلام بصفين لليالٍ بقين من ذي الحجّة سنة ستّ و ثلاثين. و كان أبو الأعور السلميّ على مقدّمة معاوية، و كان قد ناوش مقدّمة الإمام عليّ علیه السلام و عليها الأشتر النخعيّ مناوشة ليست بالعظيمة، ثمّ انصرف أبو الأعور عن الحرب راجعاً، فسبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقنّاسرين إلى جانب صفّين، و ساق الأشتر يتبعه، فوجده غالباً على الماء، وكان في أربعة آلاف من أهل العراق، فدعا الأشتر بالحارث بن همام النخعيّ فأعطاه لواءه ثمّ صاح الأشتر في أصحابه فدتكم نفسي شدّوا شدّة المحرج الراجي للفرج فإذا نالتكم الرماح التووا فيها فإذا عضّتكم السيوف فليعضّ الرجل على ناجذه فإنّه أشدّ لشؤون الرأس ثمّ استقبلوا القوم بهامكم.

و عن صعصعة قال: أقبل الأشتر يوم الماء فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتّى كشفهم عن الماء و حمل أبو الأعور و حمل الأشتر عليه فلم ينتصف أحدهما صاحبه.

و قال عمرو بن العاص لمعاوية، لمّا ملك أهل العراق الماء: ما ظنّك يا معاوية بالقوم إن منعوك الماء كما منعتهم أمس أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه؟ ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوءة؟

فقال له معاوية: دع عنك ما مضى فما ظنّك بعليّ بن أبي طالب؟

قال: ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استحللت منه و أنّ الذي جاء له غير الماء.

و قال أصحاب الإمام عليّ علیه السلام: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك.

فقال : لا، خلّوا بينهم و بينه لا أفعل ما فعله الجاهلون فسنعرض عليهم كتاب الله و ندعوهم إلى الهدى فإن أجابوا و إلّا ففي حدّ السيف ما يغني إن شاء الله.

ص: 108

قال: فو الله ما أمسى الناس حتّى رأوا سقاتهم و سقاة أهل الشام و رواياهم و روايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنساناً (1).

و كان ممّا قاله الإمام علیه السلام لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات:

«قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ؛ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ.

أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّة» (2).

ص: 109


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 32، ص 443
2- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 3، ص 312

ص: 110

11- معرفة القرآن الكريم

عن أمير المؤمنين علیه السلام:

وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ. كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ ...».

نهج البلاغة الخطبة 1.

ص: 111

ص: 112

فضل القرآن و عظمته

لقد أرسل الله تعالى الأنبياء لهداية البشرية إلى سواء السبيل، و أنزل على بعضهم كتباً لتكون منارات يستهدي بها الناس، ولكن للأسف حرّف الناس كتب الله تعالى كما في التوراة والإنجيل، و بذلك انحرفوا عن الصراط المستقيم و وقعوا في ضلال مبين.

إلى أن أرسل الله تعالى نبيّه الكريم محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم ليرجع الناس إلى طريق الله، ويزيلهم عن الانحراف، وينير لهم الطريق، فأنزل على قلبه الكتاب الكريم القرآن المجيد و حفظه تعالى من التحريف: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (1).

فكان الهادي و المبين و الموعظة و المنير الطريق السالكين إلى الله تعالى، فهو الكتاب السماويّ الوحيد الذي لم تمسّه يد التحريف. يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (2).

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ

ص: 113


1- سورة الحجر، الآية: 9
2- سورة الإسراء الآية 9

مواعظ من نهج البلاغة

صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (1)

(هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (2).

و حسب القرآن عظمة و كفاه منزلة و فخراً و فضلاً أنّه كلام الله العظيم، و معجزة نبيّه الكريم، و أنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم و أطوارهم و في جميع أجيالهم و أدوارهم، و هي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى و السعادة الكبرى في العاجل و الآجل.

هو كلام الله و «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (3).

هو وصيّة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الأولى و الثقل الأكبر الذي خلّفه قائلاً: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض» (4)

يصف الإمام عليّ كتاب الله و يبيّن منزلته حين يقول: «ثمّ أنزل عليه الكتابَ نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، و سراجاً لا يخبو توقُدُه، و بحراً لا يدركُ قعرُه، و منهاجاً لا يُضِلَّ نهجُه، و شعاعاً لا يُظِلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمدُ بُرهانُه، و تبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، و عزاً لا تُهزَم أنصارُه، و حقّاً لا تُخذَلُ أعوانُه.

فهو معدِن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، و رياض العدل وغدرانه، و أثافيّ الإسلام و بنيانه، و أودية الحق و غيطانه، و بحرٌ لا ينَزْفَه المستنزفون، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون، و منازل لا يضلّ نهجَها المسافرون، وأعلامٌ لا يعمى عنها السائرون، و آكامٌ لا يجوز عنها القاصدون.

ص: 114


1- سورة إبراهيم، الآية: 1
2- سورة آل عمران الآية: 138
3- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 6، ص 89
4- الحديث متواتر رواه خمسة و ثلاثون صحابياً (راجع مصادره في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الأول والثاني)

جعله الله ريّاً لعطش العلماء، و ربيعاً لقلوب الفقهاء، و محاج لطرق الصلحاء، و دواءً ليس بعده داء و نوراً ليس معه ظلمة، و حبلاً وثيقاً عروته، و معقلاً منيعاً ذروته، و عزاً لمن تولّاه، و سلماً لمن دخله، وهدىً لمن ائتمّ به، و عذراً لمن انتحله، برهاناً لمن تكلّم به، و شاهداً لمن خاصم به، و فلجاً لمن حاجّ به، و حاملاً لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسّم، وجُنّة لمن استلام، و عِلماً لمن وعى، و حديثاً لمن روى و حكماً لمن قضى» (1).

اعتراف المفكّرين بعظمة القرآن

و قد اعترف بعظمة القرآن و فضله المنصفون من الملل الأخرى، يقول ول ديورانت: «وقد ظلّ (القرآن) أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرتهم (المسلمين)، يستثير خيالهم، و يشكّل أخلاقهم، و يشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس ... أسهل العقائد، و أبعدها عن التقيّد بالمراسم و الطقوس، و أكثرها تحرّراً من الوثنية والكهنوتية. و قد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي و الثقافيّ، و هو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعيّ و الوحدة الاجتماعية، و حضّهم على اتّباع القواعد الصحية، و حرّر عقولهم من كثير من الخرافات و الأوهام، ومن الظلم و القسوة، و حسن أحوال الأرقاء، و بعث في نفوس الأذلّاء الكرامة و العزة، و أوجد بين المسلمين (إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين) درجة من الاعتدال و البعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أيّة بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض ...» (2).

ص: 115


1- نهج البلاغة، الخطبة 198، بحبوحته: وسطه، و أثافيّ : جمع أثفيّة، و هي ما يوضع عليه القِدْر، فالمراد أنه قواعد الإسلام وبنيانه. غيطانه: المستقر من الأرض. الماتحون: الذين ينزحون الماء من البئر أو العين. لا يغيضها : لا ينضبها، غيض الماء: جفّ و نضب. معقلاً: ملجأ، ذروته: أعاليه. فلَجاً: الفلّج هو الظُّفْر و الغلبة، استلام: لبس اللأمة أي الدرع، و الجُنَّة: الوقاية، فهو وقاء لمن أراد أن يدّرع ليقي نفسه الأخطار
2- قصة الحضارة، ول ديورانت، مج 1 - 2، ج 1، ص 48، دار الجيل

هذه شهادة - من شهادات كثيرة - للقرآن الكريم من أحد الغربيين، وهو مؤرّخ كبير معروف، أليس في شهادته دلالة على فضل القرآن وعظمته؟

أليس في شهادته وشهادة أمثاله، دلالة على مدى تأثير القرآن و فاعليته و هدايته للبشرية؟

العمل بالقرآن

و لأجل ما يحمل القرآن الكريم من فضل و عظمة و أهميّة كان وصيّة أمير المؤمنين علیه السلام : «فالله الله أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، واستودعكم من حقوقه ... و أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء، و عمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتّى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضي لنفسه، و أنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال و مكارهه، ونواهيه و أوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد» (1).

والوصية بالقرآن تعني العمل به وإلّا ما فائدة أن نقرأ القرآن لقلقة لسان، كما أنّه لا فائدة لوصفة الطبيب دون أن نعمل بها.

و من هنا يوصي الإمام عليّ علیه السلام بالعمل بالقرآن: «و الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم» (2).

فهل نستفيد من القرآن الكريم إن زيّنّاه و ألبسناه ذهباً وعلّقناه في المنزل؟!

هل نعطي للقرآن حقّه إن نسيناه في زوايا البيوت و علاه الغبار؟!

هل إن تعلّمنا رسوم التجويد وحسّنّاً أصواتنا في ترتيله، هل بهذا نؤدّي حقّه؟! نعم إنّ ذلك مطلوب وجيّد ولكن ليس هو الهدف والمبتغى و ما لأجله نزل القرآن الكريم.

ص: 116


1- نهج البلاغة الخطبة 86
2- م. ن، الخطبة 47

هل نستفيد من القرآن المجيد إن تلوناه على الأموات و كان مقروءاً في مناسبات الموت أمّا في مناسبات الحياة فنحن ناسونه ومعرضون عنه؟! هل إنْ طبعنا عدداً كبيراً من القرآن المجيد و وزّعناه في مناسبات الموت ثمّ ألقينا به على الرفوف ليعلوه الغبار، هل نكون قد أدينا واجبنا؟!

القرآن الكريم جاء للحياة لنحيا به، جاء ليسلك طريقه في الحياة الفردية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و كل مجالات الحياة.

الإمام علي علیه السلام يحذّرنا

لقد حذّرنا الإمام علي علیه السلام من الإعراض عن العمل بالقرآن وأن لا يبلغ ألسنتنا وبذلك ندخل النار: «ومن قرأ القرآن فمات، فدخل النّار، فهو ممّن كان يتّخذ آياتالله هزواً» (1).

ولقد نبّه الإمام علیه السلام إلى أنّه سيبتعد الناس عن القرآن فقال: «يأتي على الناس زمان، لا يبقى فيهم من القرآن إلّا رسمه و من الإسلام إلّا اسمه» (2).

اللهمّ إنّا نعوذ بك من أن ندخل النار و نحن نقرأ القرآن.

اللهمّ أعنّا على تلاوة القرآن والعمل به.

اللهمّ أعنّا على تعليم أولادنا القرآن الكريم ف_ «حق الولد على الوالد : أن يحسّن اسمه، ويحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن» (3).

اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات المتّقين فقد قال علیه السلام يصف المتّقين: «أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً. يحزّنون

به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها

ص: 117


1- نهج البلاغة الحكمة 228
2- م. ن، الحكمة 369
3- م. ن، الحكمة 399

طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم» (1).

اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات الزاهدين فقد قال علیه السلام في صفة الزاهدين: «أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطاً، و ترابها فراشاً، وماءها طيباً، و القرآن شعاراً (2)، والدعاء دثاراً» (3).

مطالعه

أمَّن هو قانت

تلے

خرج أمير المؤمنين علي ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من الليل و معه كميل بن زياد وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (4) بصوت شجيّ حزين فاستحسن کميل ذلك في باطنه و أعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلوات الله عليه و آله إليه و قال : يا كميل لا تعجبك طنطة الرجل إنّه من أهل النار و سأنبئك فيما بعد!

فتحيّر كميل لمكاشفته إيّاه على ما في باطنه ولشهادته بدخول النار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى

ص: 118


1- نهج البلاغة، الخطبة 191
2- الشعار: ما يلي البدن من الثياب، أي يقرؤون القرآن سرًا للتفكر والاتّعاظ
3- نهج البلاغة الحكمة 104
4- سورة الزمر، الآية 9

ما آل وقاتلهم أمير المؤمنين علیه السلام و كانوا يحفظون القرآن كما أنزل فالتفت أمير المؤمنين علیه السلام إلی كميل بن زياد وهو واقف بين يديه و السيف في يده يقطر دماً و رؤوس أولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس و قال:

يا كميل (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) أي هو ذلك الشخص الّذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه و استغفر الله و صلّى على مجهول القدر (1).

و جاء في نهج البلاغة أيضاً أنّ أمير المؤمنين علیه السلام سمع رجلاً من الحرورية (الخوارج) يتهجّد و يقرأ فقال علیه السلام: «نَوْمٌ عَلَى يَقِين خَيْرٌ مِنْ صَلاة فِي شَكّ» (2).

وقد تكون مقولته هذه مرتبطة بهذا الشخص.

ص: 119


1- بحار الأنوار العلّامة المجلسي، ج 23، ص 399
2- نهج البلاغة، الحكمة 97

ص: 120

12- محبّة أهل البيت علیهم السلام

اشارة

من خطبة له علیه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على

أعدائك.

فقال له علیه السلام : «أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شهدنا. و لقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال و أرحام النساء، سيرعف بهم الزمان و يقوى بهم الإيمان».

نهج البلاغة الخطبة 12

ص: 121

ص: 122

تمهيد

قال الله سبحانه و تعالى في محكم كتابه: ﴿ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (1).

أجمع أهل البيت وأولياؤهم على أنّ المقصود في (القربى) هنا إنّما هم : عليّ و فاطمة و أبناؤهما، والمعنى: قل لا أسألكم على أداء الرسالة أجراً إلا أن تودّوا قرابتي وتحفظوني فيهم. وهذا في الحقيقة ليس أجراً له صلی الله علیه و آله و سلم ، لأنّ قرابته حجج الله البالغة على الخلق، ونعمه السابغة لديهم، فمودّتهم لازمة للخلق، ونفعها عائد عليهم، كما قال في سورة سبأ - وهو أصدق القائلين-: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرِ فَهُوَ لَكُمْ) (2)، يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرَض الدنيا ليتّهمني المنافقون، و ما طلبت منكم أجراً من مودّة قرابتي فإنّما هو لكم.

و قد روى الزمخشريّ وهو من أعلام المفسّرين السنّة، قال: «أتت الأنصار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا

ص: 123


1- سورة الشورى، الآية: 23
2- سورة سبأ، الآية: 47

وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه (النبي صلی الله علیه و آله و سلم و تلاها عليهم)» إلى أن قال (أي الزمخشري): «و الظاهر العموم في أيّ حسنة كانت إلا أنّها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّليّاً كأن سائر الحسنات لها توابع» (1)

وروى ابن حجر الهيثميّ و غيره: عن ابن عبّاس قال : لما نزلت (قُل لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ و فاطمة و ابناهما» (2).

وفي الحديث المتواتر عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بلغة للباحث و هداية للطالب وقد ذكره أعلام المسلمين في كتبهم، إذ يقول صلی الله علیه و آله و سلم : «من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ...» (3).

و بعد هذا كلّه يتبيّن لنا أنّ محبّة أهل البيت علیهم السلام و مودّتهم الخالصة هي سبيل النجاة، و سبب الفلاح، ومنطلق الوصول إلى ساحة رضا الله تعالى، و بدونها لا يقبل العمل إذ إنّ سائر الحسنات لها توابع.

و لنعم ما قيل:

إذا أنا لم أهوَ النبيّ وآله *** فمن غيرهم لي في القيامة يشفع

فلا دين إلا حبّ آل محمّد *** ولا شيء في يوم القيامة أنفع

لماذا أمرنا الله سبحانه و تعالى بمحبّتهم علیهم السلام؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يظهر ممّا روي عن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام

ص: 124


1- راجع الكشاف الزمخشري، ج 3، شرح ص 468
2- مجمع الزوائد، الهيثمي، ج 7، ص 103
3- تفسير الرازي، ج 27، ص 166

حيث روى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن محمّد عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري أنّ العالم كتب إليه يعني الحسن بن عليّ العسكريّ علیهما السلام: إن الله تعالى بمنّه و رحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليها بل رحمة منه إليكم - لا إله إلا هو - ليميز الخبيث من الطيّب و ليبتلي ما في صدوركم و ليمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، و لتتفاضل منازلكم في جنّته ففوّض عليكم الحجّ والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرايض، و مفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمدصلی الله علیه و آله و سلم و الأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرايض، و هل تدخل قرية إلا من بابها؟!

فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم صلی الله علیه و آله و سلم قال الله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ و فرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم ومشربكم ويعرّفكم بذلك البركة و النماء و الثروة و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب، و قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) فاعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء إليه لا إله إلا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون ثمّ تردّون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون (1)

و العاقبة للمتّقين و الحمد لله ربّ العالمين» (2).

فمحبّة أهل البيت علیهم السلام و اتّباعهم هي امتحان للمؤمنين برسالة النبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بها يميّز الله سبحانه الخبيث من الطيب و يرفع الدرجات و يجعل البركة في الدنيا و الآخرة.

ص: 125


1- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (سورة التوبة، الآية: 105)
2- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 250

ولنعم ما قال الفرزدق

هم معشر حبّهم دين و بغضهم *** كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبّهم *** ويستربّ به الإحسان والنعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم *** في كلّ برّ و مختوم به الكلِم

كيف تكون المحبّة؟

إنّ المحبّ صنفان فصنف أحبّ بقلبه و لم يظهر ذلك الحبّ بعمله وصنف أحبّ بقلبه وأيّد ذلك بعمله، فأيّ الصنفين يُقصد من محبة أهل البيت علیهم السلام؟

نجد الجواب عن هذا السؤال أيضاً في كلام إمامنا الباقر علیه السلام حيث قال لجابر بن عبد الله الأنصاريّ: «يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله و أطاعه؛ و ما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع و التخشّع و الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال علیه السلام: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول : أحبّ عليّاً و أتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خير من عليّ صلی الله علیه و آله و سلم ثمّ لا يتّبع سيرته و لا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله و اعملوا لما عند الله، ليس بين الله و بين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ و جلّ [و أكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً

ص: 126

فهو لنا وليّ و من كان الله عاصياً فهو لنا عدوّ، و ما تنال ولايتنا إلّا بالعمل و الورع» (1).

إنّ كثيراً من الروايات جاءت دالة على نفس هذا المعنى و فيه تحذير واضح لكلّ من ادّعى محبّة وودّ و ولاية أهل البيت ولم يعمل بعملهم، فالأمر الإلهيّ بمودّتهم علیهم السلام لا عن عبث بل المراد منه أنّهم وصلوا إلى هذه الدرجة بطاعتهم لله فكلّ عمل يقدمون عليه لا يمكن أن تشوبه شائبة المعصية، و إلّا فكيف يأمر الله تعالى بمودّة العصاة و محبّتهم، إنه سبحانه يأمر بمودّة المطيعين، لأنّ محبّتهم من محبّة عملهم، فإن كنت من أهل هذا الحبّ فعليك بالعمل الموافق له، و إلّا تكون كما قال الفرزدق للإمام الحسين علیه السلام في وصفه لأهل الكوفة: «قلوبهم معك و سيوفهم عليك».

الاقتداء بالإمام عليّ علیه السلام في جميع الأبعاد

و في هذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سرة : «نُقِل عن أمير المؤمنين علیه السلام شغله بعامَّة المسلمين و فكره بالجائعين، فكان يُعاني شظفَ العَيْش و شدّة الجوع خشية أن يكون أحد في الثغور الإسلاميّة من هو أكثر جوعاً منه.

ذلك أميرُنا هو سيّدنا، إمامُنا، وما أكثر ما نقول عنه : إمامُنا، ولا نقتدي به!

فليس لنا اقتداء في الأعمال، أهذا هو معنى (الإمام)؟! في حين أن معنى الإمام و الشيعة هو أن يتقدّمَهم، و يقتفوا أثره (فلو كان هناك جنازة فيها نعش ومن يريد تشييع صاحب النعش يمشي في طريق غير طريقه أكان يسمّى مشيّعاً؟!).

هكذا يجب أن يكون الشيعة؛ أن يتّبعوا علياً - علیه السلام - (في أعماله و أفعاله) ولا قدرة لنا طبعاً أن نكون مثلَه (يعني أن نصل إلى مقامه و منزلته). لا أحد يمتلك هذه القدرة، لكن (بالإمكان أن) نتّبعه في الزهد و التقوى و الانتصار للمظلومين و مساعدة الفقراء» (2).

ص: 127


1- الكافي، الكليني، ج 2، ص 75
2- صحيفة نور، ج 8، ص19

و من خطبة للإمام عليّ علیه السلام: «ألا و إنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه (الثوب الخلق)، ومن طعمه بقرصيه. ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك و لكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد» (1).

أهوى أخيك معنا؟

فمن كان يمتلك هذه الخصائص ولديه هذا الحبّ فهو ممّن ذكره أمير المؤمنين علیه السلام في معركة الجمل إذ سأله بعض أصحابه فقال: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له علیه السلام : «أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: «فقد شهدنا، و لقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال و أرحام النساء، سيرعف بهم الزمان و يقوى بهم الإيمان» (2).

إنّ الجواب من الإمام علیه السلام فيه أمل المحبّ و منية المريد إذ معناه أنّ من كان يحبّنا و يميل بقلبه إلينا فهو معنا و مشارك فيما صنعنا و شريك في أجرنا حتّى إن لم يكن معنا في مكاننا و زماننا.

و نحن نلاحظ تأكيد الإمام علیه السلام على الهوى، فإنّ من كان قلبه معه فهو مشارك في هذا المشهد، إذ لا فرق بين حاضر و غائب، ولا بين زمان و مكان، و قد أنبأ الإمام أنّه سيأتي رجال يرعف و يجود بهم الزمان بعد حين، تكون قلوبهم معنا، يفرحون لفرحنا و يحزنون لحزننا، و هؤلاء كأنّما هم حاضرون معنا في معركتنا هذه ...

فالهوى هنا هوى من لو أدرك أمير المؤمنين علیه السلام لكان معه في جنده وحارب بين يديه وبين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في معارك بدر وأحد و خيبر و الأحزاب، بل كان

ص: 128


1- نهج البلاغة الخطبة 45
2- م. ن، الخطبة 12

ممّن نصر الإمام الحسين علیه السلام بكربلاء و وقاه بنفسه الحتوف وحدّ السيوف.

نقول في زيارته علیه السلام: «لبّيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني فقد أجابك قلبي و شعري و بشري و رأيي و هواي» (1)

ص: 129


1- كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، ص388

مطالعة

عاشق الإمام عليّ مع أحد الحاقدين

قال الأصبغ بن نباتة : كنت جالساً عند أمير المؤمنين علیه السلام و هو يقضي بين الناس، إذ أقبل جماعة و معهم أسود مشدود الأكتاف، فقالوا: هذا سارق يا أمير المؤمنين، فقال علیه السلام : يا أسود أسرقت؟

قال: نعم يا مولاي

قال : ويلك، أُنظر ماذا تقول. أسرقت؟ قال: نعم.

فقال له: ثكلتك أُمّك إن قلتها ثانية قطعت يدك، أسرقت؟

قال: نعم، فعند ذلك قال علیه السلام: اقطعوا يده، فقد وجب عليه القطع، قال: فقطعت يمينه، فأخذها بشماله و هي تقطر، فاستقبله رجل يقال له ابن الكوّاء فقال له: يا أسود مَنْ قطع يمينك؟

قال له : قطع يميني سيّد الوصييّن، وقائد الغرّ المحجّلين، و أولى الناس باليقين ... خاتم الأوصياء لصفوة الأنبياء، القسور الهمام، و البطل الضرغام، المؤيّد بجبرئيل، و المنصور بميكائيل المبين، فرض ربّ العالمين، المطفي نيران الموقدين، و خير من نشأ من قريش أجمعين، المحفوف بجند من السماء، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام على رغم أنف الراغمين، ومولى الخلق أجمعين.

قال: فعند ذلك قال له ابن الكوّاء: و يلك يا أسود، قطع يمينك و أنت تثني عليه هذا الثناء كلّه؟ قال: وما لي لا أثني عليه و قد خالط حبّه لحمي و دمي؟ و الله ما قطع يميني إلّا بحقّ أوجبه الله تعالى عليَّ.

قال ابن الكوّاء: فدخلت إلى أمير المؤمنين علیه السلام وقلت له: يا سيدي رأيت عجباً.

ص: 130

فقال: وما رأيت؟

قلت: صادفت الأسود و قد قطعت يمينه، و قد أخذها بشماله، وهي تقطر دماً، فقلت: يا أسود مَنْ قطع يمينك؟

فقال : سيّدي أمير المؤمنين، فأعدت عليه القول و قلت له : ويحك قطع يمينك، وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه؟ فقال: ما لي لا أثني عليه وقد خالط حبّه لحمي و دمي، و الله ما قطعها إلّا بحقّ أوجبه الله تعالى، فالتفت أمير المؤمنين علیه السلام إلى ولده الحسن و قال له: قم وهات عمّك الأسود.

قال: فخرج الحسن علیه السلام في طلبه فوجده في موضع يقال له: كندة، فأتى به إلى أمير المؤمنين، فقال: يا أسود، قطعت يمينك وأنت تثني عليَّ؟

فقال : يا مولاي يا أمير المؤمنين، و ما لي لا أثني عليك و قد خالط حبّك لحمي و دمي؟ فوالله ما قطعتها إلّا بحقّ كان عليَّ ممّا ينجي من عذاب الآخرة.

فقال علیه السلام: هات يدك، فناوله إيَّاها، فأخذها و وضعها في الموضع الذي قطعت منه، ثمّ غطّاها بردائه، و قام فصلّى علیه السلام و دعا بدعوات لم تردّ، و سمعناه يقول في آخر دعائه: آمين، ثمّ شال الرداء و قال: اتّصلي أيّتها العروق كما كنت.

قال: فقام الأسود و هو يقول: آمنت بالله وبمحمّد رسوله وبعليّ الّذي ردّ اليد بعد القطع، و تخليتها من الزند، ثمّ انكبّ على قدميه وقال: بأبي أنت وأمّي يا وارث علم النبوّة (1).

و هذه القصة تؤكّد قوله علیه السلام: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني. وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: «يا عليّ لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك منافق» (2).

ص: 131


1- الخرائج و الجرائح، قطب الدين الراوندي، ج 2، ص 561، ح 19
2- نهج البلاغة الحكمة 45

ص: 132

الفهرس

المقدّمة ... 5

1- حكمة الاختبار ... 7

الامتحان الإلهيّ سنّة خالدة ... 9

لماذا الاختبار الإلهيّ؟ ... 10

الاختبار الإلهيّ عامّ ... 11

طرق الاختبار ... 12

2 - كيد الشيطان ... 17

أخلاق الشيطان ... 19

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ... 21

ما يساعد الشيطان على الإنسان ... 22

3- الشيطان أضعف ركناً ... 27

ما يساعد الإنسان على الشيطان ... 29

قصّة لطيفة ... 30

إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً ... 32

ص: 133

4 - اجتناب الشبهات ... 35

من كلام له علیه السلام ... 37

ازدواج الشخصية ... 40

مثال لاجتناب الشبهات ... 41

قصص لاجتناب الشبهات ... 42

قصّة أخرى ... 42

5 - اتباع الهوى وطول الأمل ... 45

رغبات النفس لا تنتهی ... 49

سدّ طرق الحرام ... 49

6 - الوفاء توأم الصدق ... 57

نقض العهد من الكبائر ... 59

نقض العهد على نحوين ... 60

خلف الوعد من صفات اليهود و المنافقين ... 62

احترام المعاهدة ... 63

فلسفة احترام العهد ... 64

7- لا تسألوا فوق الكفاف ... 69

معنى القناعة ... 71

المجتمع الغربيّ و الحرص ... 72

آفات الحرص ... 73

علاج الحرص والطمع (عدم القناعة) ... 74

خاتمة ... 75

ص: 134

8- الأهل والعشيرة ... 79

الإسلام دين التواصل ... 81

بين العصبية وصلة الرحم ... 82

أسباب القطيعة ... 83

خاتمة ... 86

9- معرفة الزمان وأهله ... 89

أهمّيّة الزمن ... 91

معرفة الحاضر والمستقبل ... 92

علم الأنبياء والأئمّة بزمانهم ... 93

من أسباب نجاح غير المؤمنين ... 95

10 - ذكر الموت ... 99

كيف نذكر ما نخاف؟ ... 101

أسباب الخوف من الموت ... 101

التهيّوء لساعة الموت ... 103

التفكّر بالموت ... 104

اكتشاف ما بعد الموت يحيي أمماً و أفراداً ... 106

11 - معرفة القرآن الكريم ... 111

فضل القرآن وعظمته ... 113

اعتراف المفكّرين بعظمة القرآن ... 115

العمل بالقرآن ... 116

الإمام علي علیه السلام يحذّرنا ... 117

ص: 135

12 - محبّة أهل البيت علیهم السلام ... 121

تمهيد ... 123

لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحبّتهم علیهم السلام؟ ... 124

كيف تكون المحبّة؟ ... 126

الاقتداءُ بالإمام عليّ علیه السلام في جميع الأبعاد ... 127

أهوى أخيك معنا؟

الفهرس ... 133

ص: 136

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.