عالم الغد: الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والإسلام

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:حسيني شيرازي، محمد، 1305-1380.

عنوان المؤلف واسمه:عالم الغد: الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والإسلام / السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.

مواصفات المظهر:760ص.

شابك:7-248-204-964-978

حالة الاستماع:فيپا

لسان:العربية

موضوع:اسلام -- آينده نگری

موضوع:اسلام -- تجديد حيات فکری

تصنيف الكونجرس:1394 2ع5ح/229BP

تصنيف ديوي:04/297

رقم الببليوغرافيا الوطنية:4035482

عالم الغَد

---------------

آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي

الناشر: دارالعلم

المطبوع: 1000 نسخه

المطبعة: قدس

الطبعة / الأولی 1437ه- .ق

----------------------

شابك 7-248-204-964-978

7-248-204-964-978ISBN

----------------------

دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح الله،

نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298

چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443

عالم الغد

قراءة متجددة لكتاب

(الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام)

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة للمؤلّف

الطبعة 1436ه

الأولی 2015م

ص: 2

عالم الغد

قراءة متجددة لكتاب

(الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام)

المرجع الديني

آية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي

(أعلى الله درجاته)

اعداد نخبة من الباحثين

في مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

www.annabaa.org

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة المؤسسة الناشرة

تنظر كل شعوب العالم إلى دولة عادلة، كحلم يراودها منذ فجر البشرية، وقد تتهيأ أسباب هذه الدولة في عصر من العصور، إلا أنها تفتقر إلى أسباب البقاء التي تجعل منها نموذجاً يُحتذى به، ولم يأت التاريخ البشري بنظرية متكاملة لحكم هذا العالم بمثل ما جاءت به شريعة الإسلام التي ضمنت العدالة والحرية والسعادة لجميع أبناء البشر.

فكيف ينظر مفكرو الإسلام إلى هذا العالم، وما هي موجبات الصياغة الجديدة له، بعد هذا التعقيد والتشابك الذي انتاب بنيته، والذي أبعده عن فطرته السليمة، بحيث غدا عاطباً يحكمه الجنون، أكثر مما يحتكم إلى العقل والتوازن الطبيعي، الذي جبله الله في النفس البشرية.

وكتاب (الصياغة الجديدة) هذا من الأسفار التي تبصرت في الروح العامة للتاريخ، فتوقفت عند الحاضر، واستشرفت المستقبل، بنظرة فاحصة يؤيدها الفكر الوقاد وتعضدها الأمثلة الحية وتسندها الأدلة الشرعية، حيث وضع سماحة المرجع الديني الأعلى والمفكر الإسلامي الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)، نصب أعين المسلمين أولاً، ثم شعوب الأرض التواقة إلى دولة العدالة ثانياً، عالماً يقوده الإيمان وتسوده الحرية وينعم بالرفاه والسلام.

ولن نستعجل استعراض بحوث الكتاب تشويقاً للغور في تفصيلاته والتي سيجد القارئ فيها المتعة قبل الفكرة.

ويكفي أن نذكر أن هذا الكتاب هو من الكتب الرئيسية التي ضمت نظرية

ص: 5

سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في الفكر الإسلامي والسياسة والاجتماع مع كتاب سماحته (السبيل إلى إنهاض المسلمين) وبعض الكتب المكملة الأخرى، من بين مؤلفاته التي بلغت المئات.

ويعد نشر هذا الكتاب وتوزيعه عالمياً خدمة جليلة للفكر الإسلامي وتوطئة وتمهيداً لإقامة حكومة العدل العالمية..

ص: 6

المقدمة المنهجية للكتاب

موضوع الدراسة وعنوانها

«الصياغة الجديدة»، هو عنوان هذه الدراسة في الكتاب، والذي يفصح عن فحواه ومضمونه، فمفردة «الصياغة» لغة، هي مصدر للفعل صاغ، ومعناها اللفظي ينصرف الى عمل الحُلِيّ من فِضَّة وذهب ونحوهما، ويحسن صِيَاغة عباراته، تعني إِنشاءهَا وبِنَاءهَا، فالكلامٌ حَسَنُ الصِّياغة، هو الجيِّد المُحكَم، فهي إستعارة عن ذلك المعنى، كونها تعدّ من الأعمال التي تستوجب الدقة والأناة، والحكمة والإبداع والجمال.

أما «الجديدة»، فهي دلالة الى المستقبل، الذي سيكون زمنا لتلك الصياغة الموعودة، أما المكان، فهو العالم الأرحب، بما يشمله من بيئة إجتماعية وسياسية وإقتصادية وأمنية، وبذلك يتشكّل عنوان «الصياغة الجديدة»، لهذا الكتاب، ليقدم رؤية مستقلية مثلى، تتسم بالرقي والإبداع، والسعادة والرفاه، والعدل والسلام وأسباب المنعة، بما يراها الكتاب ويدعو اليها.

إن هذه الصيرورة المستقبلية للعالم، التي يهدف الكتاب الى صياغتها، وفق إشتراطاتها وبناها، ومدركاتها ومساراتها، تنظر الى بنية العالم الجديد، من نافذة رؤى بحثية إستقرائية، ضمن فضاءات الفكر والسياسة والإجتماع، بما يعد توطئة وتمهيدا، لإقامة الدولة الكونية الفاضلة، على أسس العدل والمساواة، وتقديم البديل الحضاري الواعد، الذي يؤطره المشروع المستقبلي، في هذه «الصياغة الجديدة».

ص: 7

مشكلة الدراسة ومعضلتها

إن انفصام الشخصية (Multiple Personality)، هو اضطراب عصبي ونفسي، يكون للشخص فيه أكثر من شخصية، ويحدث دون وعي في سلوكه في كل شخصية، فقد يكون للمنفصم شخصيتان أو أكثر، كل منها تختلف عن الأخرى، بالأسماء والوظائف والسلوك.

أما الفصام، والذي يدعى بالشيزوفرينيا (Schizophrenia)، المشتقة لغة من مفردتي (Schizo) أي الفصام و(phrnia) أي العقل، فهو مرض عقلي أو ذهني، يفقد الإنسان به الإدراك والقدرة على التفكير، دون استبصار بحالته العقلية والشخصية والسلوكية.

إن تفاقم هذه الحالات المرضية، وإنتقالها من مستوى الفرد الى سقف المجتمع والعالم، اللذين باتا يعانيين من إشتداد هذه الأزمة المجتمعية والإنسانية، يبين ضرورات الدراسة المعمّقة، في تشخيصها وإسقراء أسبابها، وفق ضرورات معالجاتها، ضمن الصياغة الجديدة.

فتشخيص جذور الأزمة الإنسانية العالمية، ومعالمها ومساراتها، وإستقراء مفاعيلها، وتبيان معطياتها وحقائقها، ومعرفة مقدماتها، وما خلصت اليه من مخرجات ونتائج وخيمة، على الفرد والمجتمع، فضلا عن العالم والطبيعة عموما، هو النافذة الواسعة، للولوج الى ثنايا الحل، على طريق تأسيس الصياغة الجديدة للعالم، وفق ثوابتها وموازينها.

وبالتالي فإن تجفيف مصادر الأزمة، التي سيجري رصدها في هذا العالم، سيفضي الى دقة ونجاعة تقديم الحلول لوأدها، بهدف التطلع الى مستقبل واعد وعادل ومزدهر، ترفل فيه الإنسانية جمعاء، بالخير والعدل والرفاه، وفق ما ستخلص إليها هذه الدراسة الموضوعية، ومنهجية البحث الرصين فيها.

تنصرف معضلة الدراسة، الى رؤية العالم المعاصر، بنظرة ثاقبة وفاحصة،

ص: 8

إن كان عالم عقلاء أم غيره، فالعاقل هو الذي يمارس الأعمال بحكمة، وفق أدوات ناجزة وفاعلة، بما ينفع نفسه وينفع الآخرين، لجهة سلوك الافراد والجماعات والانظمة السياسية، في عالم اليوم.

غير أن إستشراء ثقافات العنف، التي خلّفت الملايين من الضحايا، خلال القرن المنصرم، ولا زالت جمارها مستعرة حتى يومنا هذا، تاركة العالم ممزقاً ومدمراً، مليئاً بالدماء والدموع والعوق والجوع والفقر، وغيرها من الخسائر الفادحة، تؤشر الإجابة السلبية لتساؤل البحث، فضلاً عن وقوف المنظمات الدولية، لتقدم مثالاً موازياً للواقع المرير، في مناقضة العقل، وهدر حقوق الضعفاء، لصالح الأقوى والأكثر إستبداداً، مما تعد بمجملها، أسباباً حاكمة، لضرورات الدراسة المستقبلية، من أجل إعادة الصياغة للعالم، وتشكيل البديل الحضاري الأمثل له.

أهمية الدراسة وضروراتها

إن إنحراف الانسان عن الطريق الصحيح، ينعكس عليه شخصياً أولاً، ثم بالتالي على المجتمع والعالم والإنسانية جمعاء، مخلّفاً تداعيات نفسية وجسمية وإجتماعية، خاصة إن كان الفرد فاعلاً ومؤثراً وقائداً في مجتمعه، فقد ورد في الحديث الشريف، (إذا فسد العالِم فسد العالَم)، فالعالِم المنحرف، سيضرّ دنياه وآخرته، مثلما يضر الآخرين من حوله، وعموم المجتمع.

ولمعرفة تواصل المجتمع في مساراته، وإجتياز مراحله بصواب، لجهة توصيفه كمجتمع سليم أم غيره، يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في هذا المجتمع، ومطابقتها للمقياس المعياري الصحيح، وفق قواعد ومتبنيات فلسفة التأريخ، فإن كانت كذلك، كان المجتمع سليماً، أما إذا لم تكن مطابقة لتلك القوانين الحاكمة، كان المجتمع منحرفاً ومريضاً ومعوقا، وهذا يؤشر ضرورة الدراسة وفق هذه المنهجية، في التقييم والتقويم.

ص: 9

إن الازمة العالمية المعاصرة، قائمة في ثقافة الحياة بمجموعها، ومؤشرة في طبيعة الإنسان أولا، ثم ما يلائم هذه الطبيعة الانسانية وفطرتها ثانيا، وبالتالي الإنسجام بين الفطرة والسلوك، ليتبين من ذلك، إن كان المجتمع مكوّنا من الملائم أم المنافر.

فهذا التناقض المنطقي، خلق حالات الإنفصام والفصام والإنفصال، في الشخصية العالمية، حتى بات الإنسان أجنبياً عن نفسه، فالإنفصام يكون عن النفس، والفصام عن العقل، بينما الإنفصال حالة، قد يعبر عنها في التقاطع عن المجتمع والبيئة، أو عن الطبيعة، ومرد ذلك شعور الإنسان بحاجته الى المجتمع، والتي يحققها عادة، بالحالة الإجتماعية، وفق طرائق إرتباطه بالآخرين، وإرتباط الآخرين به، وإرتباطه والآخرين تحت سقف قانون عام، دون قدرة في البين، للإلتحاق والإستلحاق، إنما هي جماعة يريدون الانضمام بعضهم إلى بعض ليعيشوا بسلام.

فالإنسان محوراً، يُعطى له كل قيمة، أما سائر الأشياء فلا قيمة لها، إلّا بقدر خدمتها للإنسان واستفادة الإنسان منها، وهكذا أصبح الإجتماع في العالم، في الوقت الحاضر، مع الفارق بين درجات الانحراف، مما سبب تفاوت في انحراف الظواهر الاجتماعية، ولا علاج للانحراف إلا بالرجوع إلى الجذور، وتطهيرها وتقويمها حتى تستقيم الظواهر، وجميع هذه المؤشرات، من مقاصد الدراسة الرئيسة.

يظهر المشروع العتيد في «الصياغة الجديدة» للعالم، أهمية الدراسة وحتمية ضروراتها، في إنهاء حالات الإنحراف العالمي، من خلال معالجة مسبباتها الرئيسة، والتي في مقدمتها عامل الفقر، بهدف رسم المسالك المنتخبة، لهدم النظم العالمية العاجزة والفاشلة، المسؤولة عن حالة الفقر في عموم العالم، على إختلاف آثارها.

أما العامل المحوري الآخر المطلوب للدراسة، والمنشئ لمشاكل العالم المعاصر، فهو الجهل، في مصاديقه بعدم فهم كيفية العيش، وإن توفرت أسباب

ص: 10

المعرفة الأخرى، فهو يوجب عدم تمكن الإنسان من فهم الحياة، ضمن مساحاتها الإستراتيجية الشاملة، في مرتكزات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأمن.

نطاق الدراسة

إن العالم المعاصر، مؤطر بالأنانية والاثرة والتفاوت الطبقي، وهذا يتجسد في الموازين الحاكمة غير الإنسانية، فالحالة التي يعيشها العالم المعاصر، تُعد حالة مرضية، مردّها عدم إنسانية الفكر وعوقه، على كافة الأصعدة التكوينية الضيّقة، وذلك يتطلب وضع مخرجات فاعلة، للعلاج المستقبلي لها، للخروج من الحاضر المتداعي في مشاكله المريرة، ضمن صياغة جديدة، مستقبلية ومثلى، مبيّنة ماهية الإنسان وطبيعته، وفي أية جهة يسير.

إن ما يشهده عالم اليوم، من المظاهر السيئة في الانحراف والانفصام، إنما هي وليدة جذور منحرفة، فلا يمكن التخلص من هذه المظاهر السيئة، إلا بتقويم الجذور وتعديلها، فإن لكل ظاهرة، خلفية ترسم لها صيرورتها، فتحسن الظاهرة أو وتسوء، نسبة لها، وذلك يمثل حاجة رصينة لدراسة خلفيات الظواهر المعاصرة، وبالتالي ستقدّم مخرجات الدراسة، تقويما ناجعا لها.

وعليه فإن هذه الدراسة، ستستهدف الفرد أولا، في رؤية أزمته النفسية والشخصية والسلوكية، مع ذاته ومع الآخر، ثم الجماعة في أزماتها البينية، التي تشكل مدخلاً واسعاً للأزمة المجتمعية، والتي تنفذ بدورها، على الإنسانية والعالم والطبيعة عموما، لتكون مرتسما للأزمة الإنسانية العالمية، وبالتالي ستعمل مخرجات الدراسة، على نطاق تقديم البديل الحضاري، والمشروع المستقبلي الواعد، ضمن مرتسمات الصياغة الجديدة للعالم.

أهداف الدراسة وغاياتها

تزعم الدراسة، أن الحريات العامة، يكفلها الشرع والمنطق، بما تضمن

ص: 11

آدمية الإنسان، واحترام حقوقه في الرأي والمعتقد والعمل، وفي السلام والأمن، وفي الصحة والعيش الرغيد، دون إكراه أو استبداد أو قمع، بما يكفل ذلك جميعا، القانون الإسلامي، فالكيانات السياسية والمتنفذة في قمة السلطات القائمة، تتحمل المسؤولية الكاملة، في ضمان الحريات وفق البديل الحضاري، الذي تتوخاه بأهدافها، مفردات الصياغة الجديدة.

فالدراسة في أهدافها وفي مخرجاتها، ترنو الى وضع قاعدة رصينة للإدارة والحكم، وفق الرؤية الإسلامية، التي شوهتها أنظمة الحكم المترهلة، في إنحراف المنهج السياسي لها، وفي تداخل العامل الخارجي الهادم فيها، فتسببت في التخلف وتحطيم كيان الحضارة الاسلامية، مما يستوجب وضع البدائل الناجعة، لإعادة البناء الحضاري، ضمن إطارات الصياغة الجديدة.

وغاية الدراسة، إستقراء مشاكل العالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بهدف تجفيف جذور أسبابها، الناشئة عن عدم الإيمان بثوابت المقدسات العقدية، والذي يفضي الى ضياع التقوى، التي تخلص الى نتائج سلوكية وخيمة، تتمثل بثقافة الظلم والعنف وسلب حقوق الآخرين، والتي من نتائجها، البطالة والإسراف والتبذير.

فالكتاب بذلك، يؤسس لمشروع مستقبلي متكامل، يضمن للإنسان سعادته، ضمن البيئة التي توفر أسباب الرقي، وأدوات البناء السليم، ومعالم الإزدهار والرفاهية، وفق رؤى المنظومة الفكرية فيه، وتصوراتها العقدية والمنهجية، ومنطلقاتها في شورى الفقهاء والمراجع، وعموم مبادئ الشورى، التي تشكّل الأساس العام، لمسارات الصياغة الجديدة، واشتراطاتها وتصوراتها، لتحقيق مدركاتها، والتي بخلافها، لن تتشكل هذه الصياغة الواعدة، وتنحسر مقومات حضورها، وبالتالي نتائجها ومخرجاتها.

مناهج الدراسة

من الطبيعي للمؤسسة الإجتماعية، إذا سارت على الطريق الصحيح، فإنها

ص: 12

ستعطي للإنسان الحريات المعقولة، فإذا تمت صياغة المؤسسة الاجتماعية بشكل صحيح، وكانت الفرضية التي ينتهجها الإنسان في حياته صحيحة، كان الفرد صحيحاً أيضاً، وكان الاجتماع المُصاغ من اللبنات الفردية الإنسانية الصحيحة، صحيحاً أيضاً، وإلّا كان الفرد والإجتماع، منحرفين ومريضين، وهو ما يبين أهمية إختيار المنهج السليم، في مسالك الدراسة، إنطلاقا من سلامة مقدماتها، وإنتهاء برصانة وموضوعية مخرجاتها.

فالصحة في الفرد وفي الاجتماع، إنما تكون بسلامة الفرضية الذهنية من ناحية، وسلامة النظام المسيطر على المؤسسة الاجتماعية، من ناحية أخرى، مما يؤشر منهجا، الحاجة الى فرضية ذهنية، لتسيير المؤسسة الإجتماعية، لرسم الطريق في حياة الانسان، وفق المعنى العام الجامع للإجتماع، الذي يستوعب فضاءات الاقتصاد والسياسة والتربية والثقافة، وفق الرؤية الإستراتيجية الشاملة.

ويتطلب في منهج البحث، الجانب العملي والممارسة التطبيقية في مخرجاته، بما يقدم سياقاً متسلسلاً بمساراته ومراحله، متمثلاً في البديل الحضاري، وفق مفردات الصياغة الجديدة، ليجعل من فرص التقدم، حالة منظورة وقابلة للإنجاز، وفق خطوات عملية، يجري دراستها وتحديد آفاقها بعناية، وواقعية وموضوعية، لتكون تلك الخطوات المرسومة، بمثابة برنامج متكامل، يعتمد الأفق الإستراتيجي في معالجاته، ويقدم الرؤية المستقلية، في الإطار القابل للتحقيق، وبذا ستكون تلك المعام والرؤى والآفاق، المادة التي يبنى على أساس طبقاتها الصيرورية، في منجز الصياغة المستقلية للعالم.

ولهذه الأسباب، فقد سلكت الدراسة منهجا نقليا رصينا، يعتمد النصوص المقدسة والروايات الشريفة الموثقة، في استدلالاتها وحجياتها، وهو منهج يعتدّ به في التحقيق الفقهي والتأريخي، لجهة توافر حجيّاته، على درجة من القطع واليقين، كما جرى التعاطي في المقدمات البحثية، مع قوانين وثوابت فلسفية، وقواعد منطقية، قد ركن فيها الى حجّيات الفلسفة والمنطق، لإثبات معطيات

ص: 13

البحث وأركانه ومنطلقاته، لتكون ضمن مساحة البداهة، فضلا عنها في سد الذرائع.

وجرى إلحاق التحقيقات البحثية، وفق المنهج المنطقي العقلي، القائم على الإستدلال والإحتجاج وصحة الفرضية الذهنية، والذي يستنبط فيه، جزئيات مخرجاته، من خلال الكلّيات الفكرية والتأريخية والمعرفية، لتكون النتائج عملية ومقنعة، وقابلة للتحقيق والتنفيذ، ضمن تفريعات الصياغة الجديدة المقصودة.

هيكلية الدراسة وشكليتها

تتشكل هيكلية الكتاب من بابين رئيسين، وهما الأول الموسوم «الأزمة في العالم النشأة والجذور»، والثاني الموسوم «البديل الحضاري»، وجرى تفريعهما الى عدة فصول، تفرعت عنها عدة مباحث، وعناوين رئيسة وجانبية، وقد تصدّرت الكتاب، مقدمة تعريفية به، بقلم المؤسسة الناشرة وجهد التحقيق، وتلتها هذه «المقدمة المنهجية».

وقد تضمنت «المقدمة المنهجية»، التعريف بموضوع الكتاب وعنوانه ومادته، ثم مشكلته البحثية ومعضلته، التي جعلت منه ضرورة ملحة للبحث والدراسة، وثم أهمية الدراسة موضوع الكتاب، وبالتالي غايتها وأهدافها، ونطاق البحث فيها، والمناهج والمنهجية التي سلكتها، ثم قدّمت صورة لشكل الكتاب وهيكليته وبنائه، وأسلوب الهوامش والإرجاعات فيه.

بينما ينصرف الباب الأول من الكتاب، الى تشخيص أسِّ الأزمة الإجتماعية الإنسانية العالمية وجذرها، سواء في أشكال الإستبداد السياسي والمجتمعي، والفكري والثقافي، والعقدي والديني، أو في ثقافات العنف والظلم، أو في أزمات الإقتصادات العالمية، واستشراء التعسف والفساد فيها، وصولا الى تشخيص واقع الأمراض المزمنة، المجتمعية والعالمية، المتمثلة في حالات الفصام والفصال والإنفصال، الفردي والمجتمعي، والإنساني والعالمي.

ص: 14

ويناقش الباب الأول مادته، من خلال فصوله، وهي «الإنسان ومشكلة الفصام»، و«المجتمع وشروط النجاح»، و«الإقتصاد وحضارة بيت المعنكبوت»، و«الأنظمة الحاكمة»، و«الأحزاب».

يتشكّل الباب الثاني من الكتاب، من فصول «الرسول الأكرم والنموذج الأمثل»، و«تشييد الحضارة وتجسيد الأخلاق»، و«الحرية المفهوم المقدس»، و«السلم أساس البناء الحضاري» و«فرص التقدم»، وأخيرا عرضت مخرجات الدراسة في الفصل الأخير، «الصياغة الجديدة ومسارات آفاق المستقبل»، الذي أختتم بأجوبة عن تساؤلات، لامست موضوعة البديل الحضاري المستقبلي.

فقد انصرف الباب الثاني من الكتاب، الى تقديم فضاءات المشروع الحضاري المستقبلي، الذي تتشكل به الصياغة الجديدة، مستشرفا بها «آفاق المستقبل»، من خلال مرجعية فكرية، تبنى على أن الإسلام قد حقق تقدماً حضارياً، إستند به على الدعائم التي أقام على أساسها بناءه الحضاري، ضمن بنيته التكوينية والتشريعية القانونية.

وهذه الدعائم هي الدولة، في مباني العدل والمساواة والإحسان، والترشيد في الإنفاق وعدالته وتوزيع الثروة، وثم دعامة الشورى والحكم الرشيد، ثم دعامة الأمة في وحدة كلمتها، ودعامة الشريعة في كلمة التوحيد فيها، ودعامة الأخوة وتكافؤ الفرص بين الجميع، على أساس الأسبقية للكفاءة والأهلية.

والدعامة المحورية التي ناقشتها مباحث هذا الباب، كأساس في المشروع الحضاري المستقبلي، هي «الحرية»، في الحقوق السياسية والشخصية والحريات العامة، وحريات الفكر والرأي.

مبيناً أن هذه الدعائم، ضمن الرؤية الإسلامية، من شأنها إعادة زمام المبادرة للإسلام، ليستأنف مسيرة التقدم الحضاري الإنساني، ويحقق بناءه المستقبلي الواعد، لتتكون بها مخرجات الكتاب البحثية، وتوصياته العملية، التي أفضى اليها في فصله الأخير، ضمن آليات محددة، ومنظومة معالجة منطقية، متسلسة الخطوات، ولتكون المادة التكوينية، لمشروع الصياغة الجديدة.

ص: 15

وأخيرا أشفع الكتاب بخاتمة موجزة، أجملت الرؤية المستقبلية للمشروع النهضوي، ضمن مفردات البديل الحضاري، في الصياغة الجديدة.

الجوانب الشكلية للإرجاعات والهوامش

ولأسباب شكلية ومنهجية، تتعلق بتوافر شكلين من الإرجاعات والهوامش، وكلاهما ضروري لإستكمال مباني المتن ونصوصه، وإغناء بعض مفرداتها، وتوضيح مقاصدها، فضلاً عن تبيان مصادر البحث والدراسة فيها ومراجعها، فقد جرى الإبقاء على مسارين من الهوامش والإرجاعات، وبتسلسلين مستقلين لكل منهما.

الشكل الأول من التهميش، يشار له بالأرقام العربية «الأوربية حاليا»، بحجم كبير، للدلالة على هوامش الإرجاعات البحثية في أصل الكتاب، التي تبين المصادر والمراجع، أما التهميش الآخر، ويشار له بالأرقام العربية بالحجم الصغير، فيختص بتعليقات جهد التحقيق، وتوضيحاته وشروحه، أما إرجاعات الآيات الشريفة، فقد جرى تبيانها ضمن المتن، وإزاءها مباشرة.

ص: 16

الباب الأول: الأزمة في العالم.. النشأة والجذور

اشارة

ص: 17

ص: 18

الفصل الاول: الانسان ومشكلة الإنفصام

عالم العقلاء، أم عالم المجانين..؟!

هناك قاعدتان مشهورتان في الفلسفة:

القاعدة الأولى تقول: (تعرف الأشياء بأمثالها).

والقاعدة الثانية تقول: (تعرف الأشياء بأضدادها).

وكلتا القاعدتين صحيحتان، فالإنسان لا يعرف خصوصيات النهار إلا إذا جاء الليل، ولو كان النهار مستمراً لم يعرف الإنسان حقيقة النهار، والعكس صحيح أيضاً، كما أن الإنسان لا يعرف حقيقة العطش إلا بعد معرفة حقيقة الارتواء، وبالعكس، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا قيل في قاعدة أخرى: (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد)، فالأمور المتماثلة كلها تجوز عليها أشياء معينة، كما لا تجوز عليها أشياء معينة، فالأبيض والأبيض كلاهما يفرّق نور البصر وكلاهما لا يقبض نور البصر، كما أن الأسود والأسود كلاهما يقبض نور البصر وكلاهما لا يفرق نور البصر، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا.. إذا أردنا أن نعرف عاقلاً، فقد نعرفه بالقياس إلى عاقل آخر، فكلاهما موزون الحركات، وكلاهما لا تبدو عليه ملامح الاضطراب والفوضى في كلامه و سلوكه، وأكله وغير ذلك.

ص: 19

وقد نعرف العاقل بالمجنون، كما أن المجنون يعرف بالعاقل، فإذا رأينا عاقلاً متّزن الحركات علمنا أن المجنون هو ليس كذلك، وإذا رأينا مجنوناً فوضوي الحركة، علمنا بأن العاقل ليس كذلك.

وإذا قبلنا بهذه المعادلة البسيطة، نسأل:

هل العالم في عصرنا هذا، عالم عقلاء أم عالم مجانين؟!

ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ من البديهي أنه عالم العقلاء، والمجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين أو في المصحّات العقلية.

لكن هذا هو ظاهر من الأمر، ولعل التعمّق في الأمر يبنئ عن غير ذلك.

ثم لنتساءل: من هو المجنون ؟ حتى نعرف أن العالم بمجموعه مجنون أم عاقل، ومن هو العاقل؟ حتى نعرف هل أن العالم بمجموعه عاقل، أم لا؟!

إن المجنون: هو الذي يمارس الأعمال العشوائية، مما يضرّ نفسه ويضرّ الآخرين، أما العاقل، فهو الذي يمارس الأعمال بحكمة مما ينفع نفسه وينفع الآخرين، أليس كذلك..؟

فاذا كان الافراد والجماعات والانظمة السياسية في عالم اليوم، يدّعون أنهم عقلاء، لماذا إذن؛ قُتل الملايين من البشر خلال نصف قرن في حربين عالميتين، تركت العالم ممزقاً ومدمراً، مليئاً بالدماء والدموع والأشلاء والمعوقين وغيرها من الخسائر الفادحة(1)؟

وتُعد المنظمة الدولية مثالاً آخراً على مناقضة العقل، فالأمم المتحدة، باتت مكاناً لهدر حقوق الدول الضعيفة لصالح الدول القوية، فهي تجعل دولة يبلغ عدد

ص: 20


1- - بعد الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية، بدأت سلسلة من الحروب الاقليمية في العالم، وقفت خلفها القوى الكبرى، بما سُمي آنذاك، ب-(حروب بالنيابة)، فانتعشت مصانع انتاج الاسلحة الخفيفة والثقيلة، وايضاً اسلحة الدمار الشامل، وابرز الشواهد على الحروب بالنيابة واستخدمت فيها الاسلحة الكيماوية بشكل واسع ومريع، الحرب العراقية – الايرانية التي استمرت ثمان سنوات وحصدت حوالي مليون ونصف انسان، ما عدى الجرحى والمعوقين.

سكانها ألف مليون إنسان – مثلاً- مع دولة ذات مائة ألف إنسان على قدم المساواة في التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا النوع من التعامل اللامتكافئ والبعيد عن الإنصاف والعدل، يثير التساؤل والاستفهام.. فهل من المعقول والصحيح أن نساوي بين مائة ألف إنسان وبين ألف مليون إنسان؟ أليس هذا يعد هدراً لتسعمائة ألف انسان في تلك الدولة ذات العدد السكاني الكبير؟ ألا تشبه هذه المعادلة، أن نعطي لإنسان واحد عشرة أقراص من الخبز، ثم نعطي رغيفاً واحداً لألف إنسان!

ولنا مثالٌ آخر على صعيد المال.. نلاحظ، ويلاحظ العالم معنا، تكدّس المليارات عند أفراد معدودين، بينما الملايين يتضورون جوعاً، ويموت الآلاف من الأطفال بسبب المجاعة و سوء التغذية، فهل هذا من العقل؟

فلو كان هنالك أب يعطي أحد أبنائه عشرة أقراص من الخبز، ويترك عشرة آخرين من أولاده جائعين حتى الموت، فهل يُعد هذا الأب عاقلاً؟ وإن كان عاقلاً، فمن يكون المجنون؟!

ثم نلاحظ أمراً غريباً آخراً في عالم العقلاء، حيث تُشيّد المستشفيات الفخمة، وتجهّز بأحدث المعدات الطبية، والمختبرات المتطورة، بل ويعكف العلماء والنوابغ لإنتاج الأدوية والعلاجات لامراض عديدة، وأكثر من ذلك، يشيدون الجامعات وكليات الطب ومراكز البحث والدراسة لتخريج أطباء وعلماء أكفاء.. كل ذلك، من اجل مواجهة أمراض تصيب الانسان في عينه او جهازه الهضمي او اعصابه او دمه او غير ذلك، لكن لا نلبث أن نشهد أعمال تؤدي الى الموت والدمار الذي يعمّ الملايين من البشر.

إن هذا يشبه الى حدٍ بعيد، بأب يذهب بابنه الى إلى الطبيب لمعالجته من وعكة صحية، و يعتني به بشكل فائق حتى يبرأ، ثم بعد ذلك يأخذ السكين ويبتر يد ولده الآخر، أو يقلع أحد عيناه، أو يصم أذنه، أو يجدع أنفه، أو يبتر رجله..! فهل يصدر هكذا تصرف من انسان عاقل؟

ص: 21

في عالم العقلاء اليوم، تُحرق المحاصيل الزراعية، أمثال القمح والسكّر والأرز، وتلقى في البحر ملايين الأطنان من الحليب المجفف.(1)

فهل هذا العمل وغيره، يصدر من أناس تصدق عليهم صفة العقل ؟ ثم ألا تكون هكذا تصرفات وأعمال دليلاً على أن العالم الذي نعيش فيه قد فقد توازنه ؟

القرآن الكريم يصوّر عالم الجنون

لنقرأ القرآن الحكيم، فهو يؤكد على حقيقة أن الابتعاد عن قيم السماء، تؤدي بالانسان الى الانحراف نحو العبثية والسَفَه، وقد جاء ذلك في آيات متعدّدة، منها قوله سبحانه: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (سورة البقرة: 130).

بمعنى إن السفيه، هو ذلك الذي يرغب عن ملّة شخصٍ مصطفى في الدنيا وصالح في الآخرة.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142).

بل إن الذي ينتقد الصالحين والمصلحين، هو الآخر يُعد سفيهاً، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد العقل إلا السفاهة؟

وفيما يتعلق بالتصرف بالأموال، تقول الآية الكريمة: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (النساء: 5).

فالذين يتصرفون في أموالهم بشكل غير حكيم، يُعدون سفهاء أيضاً، ويُحظر على الإنسان أن يعطي أمواله لهكذا أشخاص، فمجرد امتلاك الانسان للمال، لا يعطيه الحق التصرف بها كيفما شاء. وقد جاءت مفردة (أموالكم) في الآية

ص: 22


1- - نقلت مواقع النت مؤخراً خبراً مفاده أن مزارعين في هولندا اعترضوا على تدني اسعار الحليب في اسواقهم، وعدم دعم الدولة لهم، فاقدموا على إفراغ الحليب من خزانات ضخمة وعديدة على الارض.

الكريمة، لأن الله تعالى جعل المال كله، للبشر كلهم، فإذا أعطي المال للسفيه وتصرف فيه تصرفاً غير صحيح، كان في ذلك ، حدوث نقصان في مجموع أموال البشر. لنفرض أن هنالك ألف إنسان وهنالك ألف دينار، فاذا حصل سوء تصرف من هذه الفئة من الناس بمقدار مائة دينار – مثلاً- بأن ألقوها في البحر، فمعنى هذا، حصول نقص في رأسمال ألف إنسان.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) (الجن: 4)، أي الذي يقول على الله الشطط فهو سفيه.

وفي رواية: مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على جماعة، فقال: على ما اجتمعتم؟ قالوا: يا رسول الله.. هذا مجنون يصرع، فاجتمعنا عليه، فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنه المبتلى، ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه... يتمنى على الله جنته وهو يعصيه (1).

وعندما ينحرف الانسان عن الطريق الصحيح، فان انحرافه هذا ينعكس عليه شخصياً، كما لو تناول المسكر، او ارتكب جريمة الزنا، فذلك يسبب له أمراضاً نفسية وجسمية واجتماعية، أما على الصعيد العام، فان مجنون الشهرة والعظمة والهيمنة ، فانه يضر بنفسه وبملايين الناس، لذا ورد في الحديث الشريف: (إذا فسد العالِم فسد العالَم).

فالعالِم المنحرف، لا يضر آخرته فحسب، وإنما يضر دنياه قبل آخرته، كما يضر الآخرين(2).

من هنا نعرف؛ أن عالم اليوم، عالم المجانين، وليس بعالم العقلاء..

ص: 23


1- بحار الأنوار : ج66 ، ص233 ، دارالمعارف - بيروت.
2- - كما نلاحظ اليوم، علماء الاقتصاد، وما يسدوه من خدمات لأصحاب الرساميل الضخمة، ومن بيدهم مقدرات الشعوب، أو علماء الكيمياء والفيزياء الذين يسهمون بشكل مباشر في انتاج أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البعيدة المدى، وقسّ على ذلك..

عالم المرضى وليس بعالم الأصحاء.. عالم المنحرفين، وليس بعالم المستقيمين.

وبذلك يتبين أن من غير الصحيح القول: (إن كل مجتمع واصل طريقه، واستمر في اجتياز المراحل، فهو مجتمع سليم)، إذ يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في هذا المجتمع، وهل إنها مطابقة للمقياس الصحيح أم لا..؟ فإن كانت كذلك، كان المجتمع سليماً، أما إذا لم تكن مطابقة كان المجتمع منحرفاً ومريضاً ومجنوناً.

ولا يحتاج الأمر إلى أن ننتظر مدة من الزمن حتى يصطدم هذا المجتمع بصخرة الحقيقة، لنعرفه جيداً، إنما هنالك علامتان للمجتمع المريض:

العلامة الأولى: أن نرى المجتمع وقد ظهرت فيه النواقص.

والعلامة الثانية: اللحظة التي يتعرض فيها الى السقوط والانهيار.

وكلا الأمرين موجودان في مجتمع اليوم، فهو مثله، كالسيارة المعطوبة التي تحمل معها اسباب انحرافها عن الطريق وانقلابها واحتراقها .

والمجتمع الذي نعيش فيه، تخيّم عليه الأزمات المتفجرة ، فهناك الحروب، وهناك الثورات، وهناك سباق التسلّح بشكل جنوني.. كما هناك اللف والدوران والمكر والخداع والغش والاحتكار.. فهنالك الرأسمالية المنحرفة، والتمايز الطبقي، إلى حد أن بطوناً تُتخم وبطونا تُحرم.. قسم يذهبون إلى القبور بسبب التخمة، وقسم يذهبون إلى القبور بسبب الفقر والجوع. وهذا هو واقع الاجتماع الآن.

أما على صعيد المستقبل، فان المجتمع آخذ في الانحدار نحو نقطة النهاية والدمار، حيث فناء الحضارة التي حققها الإنسان طيلة القرون طويلة.. وهذا دليل آخر على انحراف المجتمع، وعدم تعقله.. ثم أليس هذا الواقع يلحُّ على عقلاء العالم للتفكير في كيفية العلاج والخلاص لكل العالم، لا لأمة خاصة أو مدينة خاصة أو جماعة خاصة أو ما أشبه..؟

ص: 24

لماذا الإنفصام؟

اشارة

هنالك أزمة وشحة في الثقافة بين أبناء المجتمع، والثقافة ليست ضمن أطر محدودة، مثل الثقافة الصحية أو الثقافة السياسية او الثقافة الاقتصادية او الثقافة الاجتماعية وغيرها، إنما الازمة في ثقافة الحياة بمجموعها، ومن أجل ان نقف على أبعاد وتفاصيل هذه الازمة، من الجدير معرفة التالي:

أولاً: طبيعة الإنسان.

ثانياً: ما يلائم طبيعة الانسان وفطرته ؟

ثالثاً: هل المجتمع مكوّن من الملائم أم المنافر؟ فليس من الصحيح القول باتباع الأكثرية، كما ليس من الصحيح القول بالحياد، وعدم اتخاذ موقف المعارضة، كما ليس من الصحيح ايضاً القول بوجوب المعارضة دائماً، لأن كل شيء في موضعه حسن، فإذا كانت الأكثرية مستقيمة يجب اتباعها، وإن كانت منحرفة يجب مخالفتها، وإن لم تكن مستقيمة ولا منحرفة، وإنما بين ذلك سبيلا، فالواجب اتباع الصحيح ومخالفة المنحرف.

أولاً: طبيعة الإنسان

تعرض الانسان وما يزال، الى عملية تشويه وسحق لفطرته السليمة والنقية التي فطره الله عليها.. وقد قال الله سبحانه وتعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30).

إن لكلّ شيء في الحياة فطرة وخاصية، حسب ما قرره الله سبحانه وتعالى. فكما نجد الفطرة الخاصة عند النبات، تختلف عما عند الحيوان. كذلك نرى للإنسان فطرة خاصة، وهذه الفطرة هي التي تملي عليه ما يلائمها وما ينافرها، وقد قال سبحانه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء: 84).

وهذا ما لا يؤمن به جماعة من المفكرين في الغرب وفي الشرق، إذ يظنون أن الإنسان صفحة بيضاء، يمكنه استقبال أي نوع من المؤثرات التي تحرك

ص: 25

مشاعره وعواطفه، وايضاً افكاره، لذا نجد هنالك منهج الدعاية مترسخاً في الحياة هناك ، بل هنالك تهافت على عمليات غسل الدماغ، ومحاولات التلاعب في قناعات الانسان.

فمثلاً ترى في البلاد الغربية أن وسائل الثقافة والاعلام، تركز جهدها على توجيه الناس نحو الرأسمالية، بينما في البلاد الشرقية نجد الجهد منصبّاً على تكريس الاشتراكية ، بينما في بعض البلدان هناك التوجيه نحو القومية..

هذه المحاولات المناقضة للفطرة السليمة للانسان، تؤدي الى حدوث انفصام في الشخصية، فمن ناحية، للإنسان نداء ضمير وصياح فطرة، ومن ناحية اخرى يواجه نفس الانسان محاولات من الدعاية والإعلام ما يخالف فطرته. لذا نجد الساسة والمفكرون في تلك البلاد يسوقون الإنسان هناك، مرةً ذات اليمين، ومرةً ذات الشمال، وهذا ما خلق حالة الانفصام في الشخصية العالمية، حتى بات الإنسان اجنبياً عن نفسه، وقد نبّه على هذه الحقيقة القرآن الحكيم بعبارة دقيقة حيث قال سبحانه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).

بمعنى؛ أن لا استقامة للهوى.. فاذا ارتبط مصير الانسان بهواه، فانه سيعيش التذبذب وعدم الاستقرار النفسي، ويكون معرضاً للتشتت والتمزّق في أي لحظة، ويكون حاله مثل حبّات العنب المنفرطة، إذ لن يبقى قوامٌ لحبات العنب المنفرطة بعد ذلك.

لذا كان من الضروري على الإنسان أن يحرص على نقاوة فطرته، وخلوها من الأهواء الداخلية والمُضلات الخارجية، فإذا نمت هذه الفطرة بشكل طبيعي، كان الإنسان سليماً، وكان المجتمع المتشكل من هؤلاء الأفراد، سليماً ايضاً، أما إذا لم تتم تنمية الفطرة كما هي، وفرض على الانسان أفكار وقناعات دخيلة، سيصاب بالامراض، ثم يكون المجتمع تبعاً لهذا الإنسان، مريضاً ايضاً، وهو ما تعاني منه مجتمعات العالم في الوقت الحاضر.

ص: 26

ثانياً: الوئام بين الفطرة والسلوك

وفي هذا المجال نلاحظ انحرافاً آخر على الصعيد الاجتماعي، وهو: أن يكون الإنسان مع الناس كيفما كانوا، وقد اشتهر عند جماعة من الناس قديماً وحديثاً القول: «حشر مع الناس عيد»، بينما الحشر مع الناس المستقيمين عيد، أما الحشر مع المنحرفين، فهو عزاء وضلال، أترى أن الإنسان إذا ذهب إلى أهل الشرق و حُشر معهم، هل يمكنه أن يحشر نفسه مع أهل الغرب..؟! وهل يمكن أن يكون للإنسان عيدان: عيد إلى أقصى اليمين وعيد إلى أقصى اليسار؟! إن هذا هو مصداق أن ينفصم الانسان عن نفسه بنفسه.

والحقيقة؛ إن المجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية المتعارضة ، يُعد مجتمعاً منحرفاً ومريضاً، مما يسبب للإنسان أن يكون في ضيق من الحياة وضنك من العيش، كما قال سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه: 126،124).

وإنما يبتلى الإنسان في الحياة بضنك العيش لأن داخله شيء وخارجه شيء آخر، فهنالك تمزق وانفصام بين الداخل والخارج. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: وجود القوانين الوضعية التي تقيد الإنسان، وتضع على كاهله مهام ثقيلة، هي الأخرى، تسبب له ضيقاً وضنكاً في العيش، فهنالك ضيق وضنك نفسي، وضيق وضنك جسدي. فسفره محظور، وإقامته محظورة، وبنائه محظور، وعمله محظور، وهكذا فان سائر حقوقه وحرياته، مكبوتة ومقيدة، كما نشاهد في عالم اليوم، فالانسان يعيش في ضنك العيش في هذه الحياة، وفي الآخرة هو أعمى!

ولذا كان قادة المسلمون في العهود الأولى للإسلام، يخاطبون الأمم الأخرى التي يدعونها إلى الإسلام، بأنهم جاؤوا لإخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله، ومن ضيق الأرض إلى رحابها.

نعم؛ الإنسان الذي يعبد الحجارة يعيش في ضنك نفسي، وأزمة روحية

ص: 27

وانفصام، ففطرته تكفر بالحجارة وبالصنم وبالآلهة البشرية، بينما مجتمعه - الذي فرض هذا الإنسان على نفسه اتباعه إما خوفاً وإما رغبةً وإما جهلاً - يعبد الحجارة.. وهنا يكون الانفصام والخروج من موازين الحق والعدل والفطرة، وهذا ما يخلق ضنك العيش وضنك الحياة، كما نلاحظ هذين الأمرين في زمننا الحاضر وفي العالم، حيث رجع العالم إلى الجاهلية التي كانت قبل الإسلام، لكن بلون آخر.

ثالثاً: بين التطابق والتعارض للفطرة

إذا كان المجتمع متطابقاً مع الفطرة، فهو سليم ويجب مواكبته، أما إذا كان معارضاً، فهو مريض ويجب مخالفته، أما إذا كان المجتمع خليطاً منهما، فانه يكون مصداقاً قوله سبحانه وتعالى: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) (التوبة: 102).

فيلزم اتباع المتطابق واجتناب والمعارض، فلا يمكن إطلاق القول بالاتباع، كما لا يمكن إطلاق القول بالاجتناب والمخالفة، وهكذا لا يمكن إطلاق القول بعدم الاتباع وعدم المخالفة، أي العيش حيادياً «لهم دينهم، ولي دين»، وإنما يلزم اتباع الصحيح ومخالفة الباطل.

بين الإنسان والطبيعة

حسب المصطلح الفلسفي، هنالك (مواليد ثلاثة)، وهي: النبات، والحيوان، والإنسان، ونلاحظ أن هنالك اختلاف في الطبيعة، فالنبات بقي جزء من الطبيعة غير منفصل عنها، ولذا فهو مرتبط بالأرض وهو جزء منها، وإنما اهتزت الأرض وربت، حتى صار النبات في شكله.

أما الحيوان فلم ينفصل عن الطبيعة طرداً مطلقاً، ولم يبق على الطبيعة بقاءً مطلقاً، ولذا فهو مرتبط بالطبيعة بنسبة خمسين بالمئة، ليس له كل شؤون المنفصّم الفطيم، ولا كل شؤون المرتبط الرضيع.

ص: 28

أما الإنسان - ثالث المواليد - فهو: منفصل عن الطبيعة بشكل مطلق، بسبب عقله ومعرفته وتسلطه على ذاته، وتسلطه على الطبيعة أيضاً، وقابليته للنمو العقلي والعاطفي والفكري.

لذا كان اللازم على الإنسان أن يعرف كيف ينسق بين نفسه، عندما ينفصم عن نفسه أحياناً، أولاً؛ وكيف ينسق بين نفسه وبين مجتمعه، ثانياً؛ و كيف ينسّق بين نفسه والطبيعة، ثالثاً. وحيث يدرك الإنسان بفطرته أن له إلهاً حكيماً يلزم عليه تنسيق رابع بين نفسه وبين ربه.. فإذا توافقت عمليات التنسيق الأربع، عاش الإنسان في بحبوحة من العيش، وعمّه الخير والرفاه والسعادة النفسية والجسدية، أما إذا تعرقلت بعض التنسيقات حصل الضرر والدمار بقدر ذلك الانفصام.

هذه الانفصامات الأربعة ليست مطلقة، وعليه لا يكون التنسيق مطلقاً، إنما تتدرج من انفصامات ثلاثة، وانفصامين اثنين، وانفصام واحد، وهناك قسم آخر من الانفصام، وهو الانفصام في أحد الأمور الأربعة في الجملة، فربما يكون التنسيق والانفصام في أحد هذه الأمور الأربعة، وقد يكون في بعض كل واحد من الأمور الأربعة على اختلاف المراتب، ولذا نشاهد في الآيات الكريمة الإشارة إلى هذين الأمرين..

يقول القرآن الحكيم: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 66).

فإذا حدث التنسيق بين كل الأمور - والذي يتلخص في إقامة التوراة والإنجيل والقرآن - لكانت حياة الإنسان رغداً هنيئاً، وكان الإنسان سعيداً، أما إذا لم يحدث التنسيق فإن الأمر يكون بالعكس، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).

فالفساد إنما يكون بسبب عدم التنسيق بين الأمور الأربعة، والإنسان إنما

ص: 29

يتلقى ثمرة عمله، ولذا يقول الله تعالى في آية أخرى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم: 42).

إنهم بسوء أعمالهم والانفصام في الأمور التي يجب التنسيق بينها، ذاقوا وبال أمرهم، ثم يقول الله سبحانه وتعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم43-44-45).

من هنا لا يقاس الإنسان بالنبات الذي هو جزء من الطبيعة، ولا بالحيوان الذي هو نصف منفصل، عن الطبيعة، وإنما يجب أن يلاحظ نفسه منفصلاً عن الطبيعة، منفلتاً من مخالبها، ثم يبني حياته على أساس انسانيته، أما إذا صار الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ومسكنه وما أشبه، تابعاً للحيوان ناسياً إنسانيته فإنه يصبح حينئذٍ كالبهائم بل أسوأ منها، لأنه ملك شيئاً ثم ضيعه، بينما البهيمة لا تملك ذلك الشيء، يقول الله سبحانه وتعالى مشيرا إلى هذه الحقيقة، وكيف أن الكفار يصبحون كالبهائم في كيفية العيش والارتباط بالطبيعة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد: 12). (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (محمد: 12).

وبما أن الأنعام تتحول الى تراب بعد موتها، ولا تكون مستحقة لكرامة الجنة، فان الكفار في الحياة بمنزلة الأنعام، لإنهم ضيعوا منزلتهم السامية التي حباها الله للانسان، وهذا ما يجعل الكافر يتمنى أن يكون ترباً، كما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (النبأ: 40). حيث يرى الكافر أن الأنعام تبدلت إلى تراب ولن يبقى لها وجود، أما هو فيبقى على كينونته، لكن في حالة العذاب الأليم، لأنه ملك شيئاً وضيّعه.

هذا من ناحية كيفية العيش في الحياة، أما من ناحية أنه أضاع الشيء الذي مُنح ولم يعبأ به، فقد قال سبحانه وتعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

ص: 30

ويشير القرآن الحكيم إلى تضييع الإنسان ما شرّفه الله سبحانه وتعالى به وظلم نفسه وجهل قدره، مما سبب له الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة حيث يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72).

وثمة حقيقة نصب عين الإنسان.. فإن النبات ليس محتاجاً إلى التحرك وبذل الجهد لتوفير مستلزمات حياته، إنما خلقه الله سبحانه وتعالى بحيث تتكفل السماء والأرض ونحوهما بتزويده بحاجاته تلقائياً.

أما الحيوان فإنه يحتاج لتوفير ما يكفيه، لأن يتحرك ويسعى لسد جوعته وإرواء ظمأه وقضايا جنسه إلى غير ذلك.

أما الإنسان فلأنه منفصل عن الطبيعة، فانه يسعى بنفسه لإنجاز كل حاجاته ومستلزماته، فحيث إنه ليس كالملائكة بعيداً عن الطبيعة كل البعد، لذا يحتاج إلى توفير مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه وغير ذلك، وليس هذا هو الفارق بينه وبين الحيوان، وإنما الفارق ما يحتاجه الإنسان من الأمور النابعة من نفسه وروحه وكونه مرتبطا بالسماء كارتباطه بالأرض، فإذا تمكن من تصحيح التنسيق والارتباط بين هذه الجهات المتخالفة، كان إنساناً سليماً، والمجتمع المحتوي على مثل هذه اللبنات الإنسانية، هو مجتمعاً سليماً، بينما إذا لم يتمكن من تصحيح مسيره كان الفرد غير سليم، سواء كان في غاية المرض، بحصول الاختلال في كل التنسيقات، أو كان مصاباً ببعض المرض، أو إذا حصل الاختلال في بعض الجهات المحتاجة للتنسيق .

وقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة، إلى هذه الاحتياجات الإنسانية النابعة من كيفية خلقته فقال: (ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأمد معلوم، ثم نفخ فيها

ص: 31

من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق والمشام والألوان والأجناس، معجوناً بطينة الألوان المختلفة والأشباه المؤتلفة والأضداد المتعادية والأخلاق المتباينة من الحر والبرد والبلة والجمود).

إلى أن يقول (عليه السلام): (وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية، واصطفى سبحانه من ولده أنبياءً أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أماناتهم لما بدل أكثر خلق الله عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه واجتالتهم الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم وأوصاب تهرمهم وأهداف تتابع عليهم)(1).

فالإنسان في منطق الواقع الذي بيّنه الإمام عليه الصلاة والسلام:

أولا: مركّب من جسد ومن روح.

ثانياً: جسده خليطٌ من أشياء، كما أن روحه أيضا خليطٌ من أشياء، وكما في أحاديث أخرى، فإن الجسم كما هو خليط مما ذكره الإمام (عليه السلام)، كذلك الروح خليط من أشياء ذكرها الأئمة عليهم السلام في مسألة (جنود العقل) و(جنود الجهل)، على تفسير مذكور في كتب الأحاديث، وبالفعل يجد الإنسان في داخله ما ذكروه عليهم السلام، علماً إننا ما نزال نجهل أعماق النفس وخصوصياتها، في وقت تمكن الانسان من اختراق آفاق السماء وأعماق الأرض .

ثالثاً: يذكر الإمام عليه الصلاة والسلام كيفية التنسيق بين هذين المتضادين (الجسم والروح)، ثم يبيّن متضادات الجسم ومتضادات الروح، وهو ما نحن بصدده

ص: 32


1- -[1] نهج البلاغة: ص24، من خطبة له (عليه السلام) في ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (عليه السلام)، طبع دارالمعرفة، بيروت.

الآن. ثم يبقى سؤال بعد كل ما تقدم: كيف ينسّق الإنسان بين هذه الأمور الأربعة، سواء بعضها مع بعض أو التنسيق في داخل كل وحدة وحدة من هذه الوحدات الأربع المذكورة؟

فإذا تمكن الإنسان من هذين التنسيقين بين الوحدات وبين كل وحدة وحدة، فقد أصبح سليماً، والمجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية مجتمعاً سليماً، بينما إذا لم يتمكن من التنسيق وحدث الانفصام والافتراق يصبح الفرد والمجتمع المبني عليه سقيماً، إما بنحو متطرف في السقم أو بنحو خفيف في السقم.

أشكال الانفصام

اشارة

في معرفة الانفصام والانفصال، ثمة أمرين:

الأمر الأول: أقسام الإنفصام والانفصال، التي تخلق للانسان حياة النكد والمعاناة، وهي كما يلي:

1- الانفصام عن النفس

وهو قد يكون في جانب النفس، وقد يكون في جانب الجسد، مثلا: كلٌ من المتهور والجبان منفصل في جهة النفس، وكذلك كل من يأكل أكثر من المتعارف أو أقل منه منفصل في جهة الجسد، وقد أشار القرآن الحكيم إلى الانفصال عن النفس بقوله سبحانه: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) (الحشر: 19).

فالذي ينسى الله سبحانه وتعالى ينتهي نسيانه لله إلى نسيانه نفسه، ويكون منفصلاً عن ذاته، وهذا يكون في جهة الجسد، و في جهة الروح أيضاً، وفي كل واحد منهما، إما أن يكون في جهة الإفراط، أو في جهة التفريط.

2- الانفصال عن المجتمع

وهو أن لا ينسق الإنسان مع المجتمع، وقد قال سبحانه في دعوته الى

ص: 33

التنسيق: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). وقال سبحانه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83).

وقد وردت آيات عديدة تأمر الإنسان بالتنسيق مع المجتمع، وبغير ذلك يحصل بينهما الانفصام. يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103).

إلى أن يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105).

3- الانفصال عن الطبيعة

وهذا ما لا ينبغي أن يكون، لأن الله سبحانه وتعالى سخّر الطبيعة للإنسان، فإذا اتخذ الإنسان الطبيعة معبوداً، وصار المسخَّر مسخِّراً، كان معنى ذلك الانفصام عن الطبيعة.

يقول الله سبحانه وتعالى حول كون الطبيعة مسخرة للإنسان، وأن الذي يمتطي الطبيعة، هو الذي لا ينفصم عنها، وإنما يستعملها في شأنها كمن يستعمل المركوب في الركوب عليه:

(الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار) (إبراهيم: 32-33-34).

أما بصدد المنفصم فيقول الله سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا جَنَّ (الأنعام: 76-77-78).

ص: 34

4- الانفصال عن الله

وبصدده فقد قال سبحانه: («اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (المجادلة: 19-20).

وهكذا إذا غاب التنسيق، وحصل الانفصال، يعود ذلك بالوبال على الإنسان.

الأمر الثاني: كيف يتم التنسيق؟

عودة الى السؤال الآنف الذكر: كيف يتحقق التنسيق في العلاقة بين الانسان، وبين كل من نفسه ومجتمعه والطبيعة حوله، ومع الله تعالى، حتى يضمن الفرد والمجمتع سلامتهما معاً؟

إن التنسيق إنما يحصل باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى، لأن الله هو الذي خلق الإنسان والمجتمع والطبيعة، وهو يعرف داء هذه الأمور ودواءها، وقد قال سبحانه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).

فالاتباع لمناهج السماء هو الذي ضمن نجاح التنسيق بين الوحدات المذكورة، وبين كل وحدة و وحدة في داخلها، أما إذا أعرض الإنسان عن هداية السماء، سيقع في متاهة من القوانين والأنظمة والأفكار والعقائد التي لا تمتّ إلى الحقائق بصلة. وقد اعترف العلماء بأن العلم، رغم تقدمه واكتشافاته، لم يتوصل الى معرفة كامل تفاصيل جسم الانسان ، فكيف بالنفس؟، كما أنهم يعترفون أن العلم لم يصل إلى حقائق الطبيعة، بل يعترفون أن هناك بوناً شاسعاً بين العلم وبين معرفة كنّه الأشياء، وما وصل إليه العلم هو شيء طفيف من المعلومات المودعة في داخل الإنسان جسماً ونفساً، وفي خارج الإنسان، سماءً وأرضاً وطبيعة.

وعندما ينقطع الإنسان عن الطبيعة، تقف الطبيعة عاجزة عن إعطائه حاجاته

ص: 35

المادية والمعنوية تلقائياً، بدون العمل والجهد، بينما نجد الطبيعة تتمكن من إمداد النبات والحيوان دون كثير من التعب والجهد.

ومن هنا كان لا بد للإنسان من إيجاد روابط جديدة لجسمه وروحه معاً، ووضع قوانين خاصة لاستمراره في الحياة، ولا يمكن ذلك إلا بأن يتبع الإنسان قوانين تربطه بالطبيعة من ناحية، وبالمجتمع من ناحية ثانية، وهذه القوانين إما أن تكون موضوعة من قبل نفس الإنسان، كأن تكون مؤسسات دستورية، أو من قبل شريحة مثقفة أو من قبل الديكتاتور، أو أن تكون موضوعة من ناحية السماء، حيث إن الإنسان لا يتمكن من العيش بدون قوانين.

وهذه القوانين تكون في جهتين:

الأول: التعاون.

الثاني: دفع التباغض.

فالاجتماع الذي يحتاج إليه الإنسان، يضم جهتين: التعاون: حيث كل واحد من أفراد الإنسان يحتاج إلى غيره في مأكله ومشربه ومسكنه، وسائر شؤونه. وايضاً، جهة دفع التباغض والتحاسد والعداء. حيث إن الاجتماع بحاجة إلى قوانين تدفع مشكلاته، وبما إن الإنسان بكل أصنافه؛ أي الشعب و النخبة ، و الدكتاتور، لا يتمكن من وضع القوانين الصحيحة والمتكاملة، فلا بد أن يكون الواضع للقوانين بهذه المواصفات الكاملة، هو الله سبحانه وتعالى، وبذلك يتمكن الإنسان من أن يعيش حياة سعيدة.

والقانون الذي يوضع لأجل الإنسان يجب أن يكون مشتملاً على أمور:

1- أن يكون عاماً للجميع

أي أن يكون عاماً لكل الناس، وإلا لزم التدافع أولاً؛ ويكون القانون ناقصاً ثانياً، وذلك لأنه إذا وضع لجماعة من الناس قانون، ولجماعة آخرين قانون آخر، أورث التدافع بين الطائفتين. فالقانون يشكل (حدوداً خاصة)، فاذا كان هنالك

ص: 36

حدوداً لهذه الجماعة من الناس، ولا حدود لجماعة أخرى، فان النتيجة هي الفوضى والصراع بين جماعات الناس.

مثلا إذا قال القانون: إن الإنسان حر في أن يتزوج ما يشاء من الزوجات، أو في أن تتزوج المرأة ما تشاء من الأزواج، ثم حدد قانون آخر هذه الحرية، وقال: (لا يحق للرجل إلا أن يتزوج واحدة، ولا يحق للمرأة أن تتزوج إلا واحداً)، فمن الطبيعي أن يحدث التصادم بين هذين القانونين. وهكذا في سائر القوانين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

هذا بالإضافة إلى أن القانون لو لم يكن عاماً، كان ناقصاً، لإن فطرة الإنسان واحدة، - كما هو الملاحظ - كما أن فطرة الأفراد المختلفة المجتمعة في جامع واحد - في النبات والحيوان - أيضا فطرة واحدة، مثلا:

فطرة شجرة الرمان واحدة في جميع أفرادها، والاختلافات بينها جزئية، وكذلك فطرة الشاة واحدة وان كانت هنالك جزئيات محددة، وحيث إن الفطرة في كل الأنواع واحدة بالنسبة إلى بني ال-نوع، فمن الطبيعي أن تكون فطرة الإنسان واحدة بالنسبة إلى نوعه، والفطرة هي مبعث القانون، سواء القانون الذي يضعه الإنسان أو القانون الذي تضعه السماء، مع فارق أن مصدر القانون في الأول هو الإنسان المحدود، ومصدر القانون في الثاني هو الله سبحانه وتعالى غير المحدود، وما يشهده العالم من الحروب والأزمات فهو في كثير من الأحيان بسبب اختلاف القوانين من بلد الى آخر، فهذا البلد يريد الاستعمار ويعطي الحق لنفسه أن يستعمر الآخرين، وذلك البلد لا يريد الاستعمار، أو يريد الاستعمار أيضا للبلد الذي يريد البلد الأول استعماره، وبذلك يقع التدافع بين الجانبين وينتهي الأمر إلى الاقتتال.

2- أن يستوعب كل أبعاد الإنسان

يلزم أن يكون القانون مستوعِباً، بأن يعطي حاجات الإنسان الجسدية والعقلية والعاطفية، سواء منها على الصعيد الفردي أو الصعيد الاجتماعي، وفي

ص: 37

مختلف أبعاد الإنسان، فلو لم يكن القانون كذلك يحصل الاصطدام والتبعثر والانفصام من ناحية، والنقص والفراغ من ناحية ثانية، فإن الإنسان مركب من جسد له حوائجه، وعقل له موازينه، وخصوصياته ومزاياه، وعاطفة لها شروطها وملائماتها ومنافراتها، فإذا لم يكن القانون بهذا النحو من الاستيعاب والشمول يكون ناقصا، و مصدراً للتقاطع والاصطدام، وهذا يحصل في الجانب النطري وفي الجانب التطبيقي للقانون، لأن القانون يلزم أن يراعى فيه أمران:

الأول: القانونية.

والثاني: التطبيق.

إن القانون مهما كان صحيحاً، لابد له من طرق للتنفيذ، فيكون بعضه صحيحاً والبعض الآخر غير صحيح، فاللازم أن يلاحظ القانون من كلتا الناحيتين، من الناحية القانونية ومن الناحية الإجرائية والتطبيقية.

3- أن يوازن بين الأخذ والعطاء

يلزم أن يكون القانون في حالة وسطية، بين إعطاء الحاجة بقدر، وسلب الحرية بقدر، فمن الواضح أن كل قانون يسلب بقدر معين، من حرية الإنسان، ولذلك يجب أن يلاحظ في وضع القانون (الأهم والمهم) وتقدير كل جانب من الجانبين، سواء بالنسبة إلى حرية الإنسان ملحوظاً فيها حرية الآخرين، أو بالنسبة إلى حرية الإنسان ملحوظا فيها الصالح لنفس الإنسان، مثلا: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) (النساء: 3).

وكذلك يجب أن تلاحظ مصلحة الفقراء والمصالح العامة من ناحية، ومصلحة كون الإنسان هو الذي يتولى استخراج المال لنفسه بالتجارة أو الزراعة أو ما أشبه من ناحية ثانية، فيوضع قانون: (الضريبة) بحيث لا يجحف بهذا الطرف، ولا بذلك.

والإنسان حرّ في أن يعمل في داره ما يشاء، مثل فتح جهاز التلفاز، لكن

ص: 38

تنتهي حريته حيث تبتدئ حرية الجيران، فلا يحق له مشاهدة القنوات الفضائية مع رفع صوته عالياً، بحيث يزعج الجيران.

وإذن؛ إذا لم يكن القانون متوسطاً بين الأمرين كان ناقصاً، في جهة الإفراط، وفي جهة التفريط، و أوجب خبالاً، سواءً على الفرد أو على الاجتماع، وسواء على الجسد، أو على العاطفة، أو على العقل، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143). وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها)(1).

وعندما يكون القانون مستوعباً لكل جوانب حياة الانسان، يلزم ان يجيب عن ثمانية أسئلة:

السؤال الأول: من أوجدنا؟

السؤال الثاني: كيف أوجدنا؟

والسؤال الثالث: لماذا أوجدنا؟

ومن الواضح أن الأديان السماوية تجيب على هذه الأسئلة الثلاثة بشكل يختلف عما يجيب عليه الطبيعيون، كما أنه ثمة اختلاف في الخصوصيات بين نفس أجوبة الأديان وبين نفس أجوبة الطبيعيين.

ثم يأتي دور السؤال الرابع: ما هو المصير؟

والخامس: لماذا المصير؟

والسادس: كيف المصير؟

وهذه أسئلة ثلاثة لا إثنان.. مثلاً، إذا قال الأب: يلزم علينا أن نسافر فهناك أسئلة تثار من قبل العائلة، إلى أين نذهب؟ ولماذا نذهب؟ وكيف نذهب هل بالطائرة؟ أو بالسيارة؟

ص: 39


1- بحار الأنوار: ج70، ص166، دارالمعارف - بيروت.

وبعد هذه الأسئلة الستة يأتي دور سؤالين أساسيين في حياة الإنسان مرتبطين بحياته الحاضرة وهما:

السؤال السابع: لماذا نستمر في الحياة؟

والسؤال الثامن: كيف نعيش بسلام لنحظى بالرفاه الحاضر والتقدم في المستقبل؟ إذ من الواضح أن التقدم والتطور، ما فُطر عليه الإنسان، فهو لا يريد العيش بسلام فقط، وإنما يضيف إلى ذلك، الطموح إلى مستقبل أفضل.

والإنسان رغم فطرته المحبة للتقدم والتطور، ربما يتقهقر أحيانا إلى الوراء بسبب عوامل معينة، فهناك ثلاثة أمور بالنسبة إلى الإنسان: (التقدم) و(التوقف ) و(التأخر).

لكن التقدم ربما يثير عنده نوعاً من المخاوف، إذ لا يعلم إلى أين يتقدم؟ وهل ينجح إذا ترك حياته الحالية لتقدم مرجو في المستقبل ؟ أو ربما يسقط؟ أو أنه يبدل شيئاً بشيء مماثل؟

أما التوقف: فهو خلاف فطرة الإنسان وخلاف نفسيته التقدمية.

وأما التقهقر فهو الانتكاس والتخلف.

يضاف إلى ذلك أن التوقف، وإن كان أسلم من الأمرين الآخرين، إلا أنه يسبب التأخر، فإن النفس الخلاقة تموت بالتأخر، ولذا ورد في الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يومه شرها فهو ملعون...)(1).

البحث عن العلاقة مع المجتمع

حيث يشعر الإنسان بحاجته إلى المجتمع، عليه أن يحقق الحالة الاجتماعية لديه بأحد طرق ثلاث:

الأولى: الارتباط بالآخرين.

ص: 40


1- بحار الأنوار: ج 64، ص 173.

الثانية: ارتباط الآخرين به.

الثالثة: ارتباطه هو والآخرون تحت لواء قانون عام، فلا قدرة في البين للإلتحاق والإستلحاق، إنما جماعة يريدون الانضمام بعضهم إلى بعض ليعيشوا بسلام.

وفي الحالات الثلاث يحس الإنسان بنوع من الهدوء والسكينة في باطنه، وإن كان هنالك فرق بين الحالتين الاُوليين والحالة الثالثة، حيث أنه في الحالتين الاُوليتين - اللتين سببت القدرة الارتباط والاسترباط فيهما - يكون وضع الطرفين سيئاً، مثلاً:

فرعون ربط الناس بنفسه بالقوة، وادعى أنه إلهٌ لهم، وانه هو مصدر القوانين فسواء كان فرعون هو الذي استلحق الناس بنفسه أو كان الناس هم الذين إلتحقوا بفرعون، فإن الجميع لم يتذوقوا طعم الراحة والطمأنينة، لأنهم لم يتخذوا قادة من أنفسهم، ولم يضعوا قوانين تساوي بينهم، ولم يدخلوا تحت مظلة قوانين سماوية ترى التساوي بين الجميع، إذ الفرق واضح وكبير بين قوانين السماء وقوانين البشر، لأن الارتباط بين القوي والضعيف ارتباط خوف ورهبة، خوف الضعيف من القوي، لأنه يفعل ما يشاء، وخوف القوي من الضعيف لأنه ربما يثور، ويطيح بسلطانه ويبدد قوته، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى الصورة الأولى: (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) (القصص: 4).

ويقول بالنسبة إلى الصورة الثانية: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء: 54 - 56).

وفي آية أخرى: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26).

بينما يقول الله سبحانه وتعالى في الحالة الثالثة: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 16).

ص: 41

ثم إن الإنسان الذي ينضم إلى المجتمع يوفر لنفسه ثلاثة أمور:

الأول: خروجه من الوحدة التي يحسّ بها في باطنه، فالإنسان يحسّ في باطنه بالوحدة والانفراد في هذا الكون الرحب، فإذا انضم إلى غيره خفّت حدة هذا الإحساس.

والثاني: تكون أعماله حينئذ موجهة في وجهة خاصة، وضمن الإطار الاجتماعي الذي يقبله الجميع قانوناً، وتخرج أعماله حينئذ عن كونها فُرطاً، وفي هذا أيضا رغبة إنسانية، إذ يميل الإنسان بفطرته إلى النظام في قبال الفوضى والانفراط والانفصام.

والثالث: يحصل على التعاون من أفراد المجتمع، في مختلف شؤون حياته، من العمل والسكن والزواج والأمن وغيرها من الامور التي لن تتحقق إلا بالتعاون بين افراد المجتمع على تلبية كل فرد حاجة الآخر.

وإذا تمّ الانضمام إلى الجماعة حصل أمران:

الأمر الأول:

تقوية الإنسان باطناً، حيث يرى الإنسان نفسه أنه في داخل كل إنسان، كما يجد كل أفراد الإنسان في داخله، وهذا ما يسمى ب(المشاركة الوجدانية)، فكأنهما إنسانان في جسد واحد، أو كأن المجتمع بكله إنسان واحد، وهذا غير (الوحدة الاعتبارية) التي تحصل خارجا من الانضمام وإنما هي (وحدة باطنية).

وقد فسّر بعض المفسرين قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32)، بهذه الحقيقة.

إذاً؛ فالإنسان وحدة واحدة، فمن أحياها أحيا هذه الوحدة، ومن قتلها قتل هذه الوحدة، ولا يحتاج الأمر إلى قتل الجميع أو إحياء الجميع، فالمجموع كثوب يخرق الإنسان بعضه أو يخيط بعضه، فإن الثوب لو انخرق جزء منه يصبح منخرقاً، وإن خيط جزء منه يصبح غير منخرق.

ص: 42

الأمر الثاني:

يسبب هذا الانضمام تقليل او تحجيم استقلالية الإنسان، فليس الفرد المنفرط كالفرد المنضمّ إلى غيره في الاستقلال، فالفرد المنفرط، يتمتع بكامل الاستقلال في ما يعمل ويأكل، ويتصرف، أما الفرد المنضم، فإن كل شيء منه مقيّد، فهو مقيد في أكله وشربه، في لبسه وزواجه، في مسكنه ومركبه، في ذهابه ومجيئه. صحيح أن التقييد ليس كلياً، لكنه تقييد على أي حال وهذا يسمى ب(التقييد الإطاري).

مثلا: الفرد الذي ينضم إلى المسلمين يتقيّد في مأكله ومشربه، بأن لا يتناول خمراً أو خنزيراً، وفي ملبسه بأن لا يكون في ملبسه ما ينهى عنه الإسلام، كالذهب والحرير للرجال، وفي زواجه بأن لا يتزوج أكثر من أربع، إلى غير ذلك.

وهكذا الفرد المنضم إلى المسيحيين يتقيّد في حياته بأن يصلي في الكنيسة كل أسبوع مرة، وفي زواجه بأن لا يتزوج أكثر من واحدة، وفي طلاقه بأن لا يطلق زوجته.

وهكذا بالنسبة إلى سائر أنواع الانضمام بين البشر، وسواء كان الدين سماوياً أو قانوناً أرضياً، وسواء كان القانون قد وضعه نخبة المجتمع ، أو وضعه الحاكم الدكتاتور أو الشعب بمجموعه، كما يزعمون في الحكومات الديمقراطية من أن مصدر القانون هو الشعب وحده.

وحيث إن الانضمام موجب للتقوية و التضعيف، فاللازم أن يزن الإنسان الانضمام، ويحدد ما يأخذ منه، وما يعطيه، فيعطي من استقلاله، ويأخذ من فوائد انضمامه.

وعليه، فالعلاقة الاجتماعية نقيض للوحدة والفردية، وهي في نفس الوقت توجب الوحدة الاجتماعية، وهي تقلل الأنانية الفردية، في حال إنها توجب الأنانية الاجتماعية. و الانضمام الاجتماعي نوع من التواضع، إذ معناه إنك

ص: 43

تحب نفسك وتحب غيرك، وكونك في داخله، وكونه في داخلك، بخلاف عدم الانضمام حيث يكون الإنسان في تلك الحالة أنانياً، لا يحب إنسانية الغير وحياته، وإنما يحب نفسه فقط، ولذا تكون الأنانية نوعاً من العجب والوحشة.

وفي كلام للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (و أوحش الوحشة من العجب)(1).

فالإنسان الأناني لا يشارك المجتمع في شؤونه، لكنه بنفس القدر يظل غريبا عن المجتمع وتطوقه الوحدة والوحشة وإن كان في المجتمع، بخلاف المتواضع الاجتماعي الانضمامي، حيث لا يحسّ بهذه الوحشة، وإنما يحس بالألفة وان كان خارج الاجتماع.

ثم إن عملية الانضمام بين الفرد والمجتمع، تكون على قسمين:

انضمام أخذ وعطاء، وانضمام أحدهما فقط.

مثلاً: انضمام الأخوين، هو انضمام أخذ وعطاء، بأن يعطي كلٌ للآخر ويأخذ منه، أما انضمام الأب والأم والطفل فهو انضمام الأخذ فقط من جانب الطفل، والعطاء فقط من جانب الأبوين، فإن الأبوين يحبان الولد ويقومان بخدمته ويعطيانه حوائجه، أما الولد فهو في حالة الأخذ. صحيح أنه في كثير من الأحيان يعطي الأبوان حتى يأخذا في المستقبل، كعمل النسيئة، لكنه من الصحيح أيضاً أنه في كثير من الأحيان يكون عطاءً بدون أخذ من جانب الأبوين، كالأبوين الهرمين الذين لا يرجوان أخذاً من جانب الولد، بالإضافة إلى أنه إذا وصل الولد إلى مرحلة العطاء يكون أخذه وعطاءه متساويين في كثير من الأحيان، إذ يصبح الأبوان والولد مثل الأخوين: كل يعطي للآخر ويأخذ من الآخر.

إذاً؛ لاحظنا الانضمام والانفراط، فقد يكون الانضمام من العدم إلى الوجود، وفي عكسه يكون الانفراط من الوجود إلى العدم، ومثال الأول:

ص: 44


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص11. طبع دارالمعرفة، بيروت.

الزوجان فإنهما يتحولان من الانفراط إلى الاجتماع، بينما الطلاق مثال العكس، حيث ينفرط الزوجان من الاجتماع إلى الانفراط.

ثم إذا لاحظنا علاقة الإنسان بالمحيط الخارجي، نراها على خمسة أقسام:

الأول: أن لا تكون له علاقة بمحيطه الخارجي إطلاقاً، وذلك بالانكماش على نفسه.

والثاني: أن تكون العلاقة أقل من القدر المتعارف.

والثالث: أن تكون العلاقة أكثر من القدر المعتاد.

والرابع: أن تكون علاقة بقدر المعتاد، لكنها منحرفة.

والخامس: أن تكون العلاقة معتادة.

ونستطيع أن نمثل للأمور الخمسة بالزواج.

فقد لا يتزوج الرجل، وقد يتزوج دون القدر الذي تحتّمه القاعدة ، وقد يتزوج أكثر من القاعدة، مثلاً:

رجل ضعيف المزاج تكفيه امرأة واحدة، ثم يتزوج أكثر، أو إذا كان غير متدين، يتزوج عشرين أو ثلاثين زوجة، كما كان معتاداً في أيام الجاهلية، ويعتاد أيضا الآن في بعض البلاد الإفريقية.

وقد تكون العلاقة منحرفة، كما إذا بدلت علاقة الزواج بعلاقة الزنا واتخاذ الخليلات والأخلاء.

وهؤلاء الأربعة كلهم مرضى باستثناء العلاقة المعتادة.

وهذه الأمور الخمسة، كما تأتي في الزواج تأتي في الصداقة، وتأتي في الانضمام إلى الاجتماع في وحدات خاصة، كالحزب أو المنظمة أو الهيئة أو الجماعة أو الجمعية أو المؤسسة أو الشركة وغيرها، وكذلك تأتي هذه الأمور في الأمة بما هي أمة، بالنسبة إلى سائر الأمم، حيث قد تكون للأمة علاقة مع سائر الأمم بأقسامها الأربعة، وقد لا تكون للأمة علاقة بأية أمة أخرى.

ص: 45

من هنا على الإنسان أن يتحرى دائماً العلاقة المستقيمة، لا الأقسام الأربعة الأخر، فإن كل تلك الأقسام الأربعة الأخر - بالإضافة إلى أنها حالات مرضية واضحة، سواء في الفرد أو المؤسسة أو المجتمع أو الدولة أو ما أشبه - لا يمكن أن تجتمع مع العلاقة المعتادة في كون كلها حقاً، وفي القرآن الحكيم: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (يونس: 32).

ومن الواضح فلسفياً أنه لا يمكن تعدد الحق في غير المصاديق الداخلة تحت كلّي واحد، فإن الحق واحد، وفي قباله أباطيل كثيرة، مثلاً: الطريق بين المدينتين في خط مستقيم طريق واحد، أما سائر الطرق فإنها إما أن لا توصل إلى المدينة، وإما أن توصل، لكن بجهد مضاعف، حيث إن بين كل الأشياء خطين: خط استقامة، وخط انحراف - وبعبارة أخرى، خط تناقض- ولا يمكن أن يكون الانحراف استقامة، كما لا يمكن الجمع بين النقيضين، وقد قُرر في الفلسفة أن المحالات - حتى استحالة جمع الضدين، أو رفع الضدين اللذين لا ثالث لهما أو ما أشبه- كلها ترجع إلى التناقض، والتناقض بديهي الاستحالة.

أما العلاقة الشاذة، التي لا تميل إلى المحيط الخارجي بشكل صحيح، فهي على أقسام:

منها: ميل الإنسان للزواج بمحارمه كالأم والأخت والعمة والخالة، وذلك حيث إنه يستوحش من الارتباط بالميحط الخارجي، وكذلك ميل المرأة للزواج بمحارمها، إذ أن العلاقة المستقيمة هي العلاقة التي تكون خالية من الصراعات والتستّر والانطواء، داخل الإطارٍ المحدود، بينما العلاقة المنحرفة تتضمن هكذا مواصفات.

والشذوذ الجنسي أيضاً من الظواهر المرضية في علاقة الانسان مع محيطه الخارجي، حيث يخشى كل من الطرفين ، من الانبساط إلى الجنس المؤنث، مما يولّد حالة الشذوذ في الحياة الجنسية. وكذلك الحال في المساحقة حيث يخشى الطرفان من الانبساط إلى الجنس المذكر.

ص: 46

هذا كله على نحو الأصل والقاعدة الكلية، وإن كان هناك شواذ وشاذات يمارسون الانحراف مع وجود العلاقات المستقيمة لهم في حياتهم الزوجية.

والزنا أيضا من العلاقات المنحرفة، حيث يمثل هروباً من مسؤوليات شريك الحياة.

وكل هذه الأمور - بالإضافة إلى كونها علاقات مرضية بالنسبة إلى استقامة العلاقة مع الواقع الخارجي - هي أمور تهدم كيان العائلة، والعائلة كما نعلم تشكل اللبنة الصالحة لبناء الاجتماع الصالح، بينما الحالة المقابلة ، تُعد لبنات منحرفة تنتهي إلى بناء الاجتماع المنحرف.

وكما ان الخلل يصيب العلاقات مع الواقع الخارجي، على صعيد الفرد والأسرة والاجتماع، فان العلاقات المنحرفة، تكون ايضاً على الأصعدة القومية، والوطنية، واللونية، واللغوية، والقبلية، وغيرها، حيث ينزع الإنسان في علاقاته الى القبلية والقومية وغيرها، ويظهر تخوفاً وتهرباً من الخروج عن الإطار الذي يتقوقع فيه، بينما نجد العلاقات المعتدلة والمستقيمة، في العلاقات الأخوية، واعتماد الكفاءات، بحيث لا تعطي أكثر من أخذها ولا تأخذ أكثر من عطائها.

وفي عكس ذلك أيضاً تكون العلاقة منحرفة، كما إذا ترك الإنسان قومه وقبيلته وما أشبه وانبسط إلى المحيط الخارجي كلية، أو إذا ترك قبيلته واتخذ قبيلة ثانية أو ترك قومه واتخذ قوماً آخرين وهكذا، فإن هذا أيضاً يُعد انحرافاً في العلاقة، فالكفاءة كما تكون في المحيط الخارجي ، ربما خارج تكون في الدائرة الضيقة للانسان، فمن يحصر الأمر في المحيط الخارجي، فهو كمن يحصر الأمر في محيطه الداخلي، وكلاهما انحراف عن العلاقة المستقيمة وعن تحكيم الكفاءات.

الخلّاقية بين الهدم والبناء

لما تبين أن الانعزال يزيد الإنسان انكماشاً حول نفسه، والعلاقة المنحرفة تسبب خللاً في العلاقات الاجتماعية، نقول: إن هذه المعادلة تنعكس على حالة

ص: 47

الخلاقية التي فُطر الإنسان عليها، فإذا لم يوظف هذه القدرة والإمكانية في البناء، فانه بالضرورة سيوظفها في الهدم، سواء في هدم نفسه أو هدم مجتمعه، لأن حالة الخلّاقية موجودة في أفراد الإنسان، كما موجودة في الحيوان والنبات.. فالنبات يخلق الأوراق والأزهار والأثمار والأغصان وما أشبه، والحيوان أيضاً يُخرج الذرية والبيض والريش والصوف وغير ذلك، لكن الفرق بين خلاقية الإنسان وخلاقية أخويه: أن خلّاقية الإنسان واعية، بينما خلاقية الحيوان والنبات غريزية، كما هو المعروف في علم الحيوان وعلم النبات. وإن كان هناك قول بوجود شعور في النبات والحيوان أيضاً، بل هنالك قول: بأن كل الأشياء تشعر، وقد استدل على ذلك ببعض الآيات الكريمات كقوله سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) (الأحزاب: 72). و قوله سبحانه: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (سبأ: 10).

وإذاً؛ فالإنسان بفطرته خلاق، وهذه النفس الخلاقة، إما أن تخلق الحياة، وإما أن تخلق الدمار، والحياة المخلوقة للنفس، إما أن تكون حياة مستقيمة أو حياة منحرفة.

فالذي يقتل إنساناً أو يهدم داراً، فإنه يخلق الدمار، أما من يوجد الولد فقد يوجده مستقيماً عن طريق حلال، وقد يوجده منحرفاً عن طريق حرام، وكذلك من يبني الدار، قد يبنيها بناية هندسية معتدلة، وقد يبنيها بناية منحرفة غير مطابقة للضوابط الهندسية، وحسب الحاجة المطلوبة، فالانسان يمتلك خلاقية واعية، بمعنى أنه يوجد شيء أو يصنع حدثاً بملء إرادته ، سواء أكان الأمر في الطريق الخطأ أو الصواب.. مثلاً؛ نسمع أن البعض يقدم على الانتحار، وذلك عندما وجّه خلاقيته في الانعزال والانطواء والابتعاد عن الناس، بمعنى أن الدافع للانتحار، هي النفس الخلاقة للدمار والفناء، فهنا الانسان اختار الموت من خلال معصية الله تعالى، متجاهلاً وجود الآخرة والثواب والعقاب. بينما نجد هنالك من يمتلك نفساً خلاقة للحياة والعطاء والبحث عن الافضل، فاذا يفكر

ص: 48

بالانتقال إلى مكان أحسن من هذه الحياة، بمعنى انه مؤمن بوجود حياة أخرى بعد الموت، دائمة لا تزول، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

ولذا نرى أولياء الله سبحانه وتعالى، يقدمون على الموت طواعية ورغبة، بل يتسابقون لنيل الشهادة في سبيل الله، بينما نجد في الجهة الأخرى، الحالة المعاكسة لدى اليهود، وقد وصفها القرآن الكريم على شكل محاججة مفحمة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (الجمعة: 6، 7).

ثم إن الإنسان - بملاحظة الجذور- ينقسم إلى أربعة أصناف: فله جذور في الطبيعة توجب ارتباطه بها نوعاً ما، وان لم يكن مثل الارتباط الشديد للنبات، والارتباط المتوسط للحيوان، بل ارتباط من حيث الاحتياج الى الغذاء والكساء والمسكن وما أشبه.

وله جذور بالأبوين توجب ارتباطه بهما، وله جذور في الاجتماع الصغير وهي العائلة.

وله جذور في الاجتماع الكبير، وهو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.

والخلّاقية الإنسانية التي ذكرناه آنفاً - سواء في الهدم أو في البناء- ترتبط ارتباطاً كبيراً بهذه الجذور، فالإنسان الذي يعيش بين أبوين خلاّقين، يكون مثلهما غالباً، وكذلك إذا كان الأبوان هدّامين. ولذا ورد في الحديث: (الولد سر أبيه)، وكذلك بالنسبة إلى الاجتماع الصغير، والاجتماع الكبير.

بل ترتبط الخلاقية بشكل أو بآخر، بالطبيعة أيضاً، فالمناخات الموجودة في بعض البلاد، ربما تدفع الإنسان الى خلاّقية الهدم، فيما مناخات أخرى ربما تدعوه للبناء على مختلف مراتبهما، مثلاً: البلاد الحارة، تخلق الطبيعة الحادة في الهدم أو في البناء، بينما البلاد الباردة بالعكس من ذلك، كما قُرر ذلك في علم الاجتماع وعلم النفس.

ص: 49

والخلّاقية غالباً، حالة تحتاج لنموها، الى التشجيع والعناية والأرضية الصالحة، ولن تنمو من دون ذلك، بغض النظر عن حالتي الهدم والبناء.

نعم؛ ربما تنمو الخلّاقية في بعض الأفراد - وهم قلائل- ، سواء وجد التشجيع والعناية أم لم يوجد، وقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة)(1).

وهذا واضح، لان الخلاقية الموجودة في شخصية مثل الإمام (عليه السلام)، هي خلّاقية طبيعية وأصيلة، فلا يؤثر فيها التشجيع أو عدمه، في الزيادة والنقيصة. بالمقابل نجد بعض الأفراد لا ينفع معهم التشجيع والعناية والأرضية.

وفي كل الاحوال، فلكل واحد من جذور الإنسان - سواءً في الطبيعة أو في الأبوين أو في الاجتماع الصغير أو في الاجتماع الكبير- خصوصيات وآثار، و لنكتف هنا بمثال واحد ، وهو جذور الإنسان في الأبوين، فالأب حيث لا يلد كما تلد الأم، وحيث أنه مشرف وقوّام كما في الآية الكريمة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: 34). لذا فان جذوره بالنسبة إلى أبيه، قانونية، وهذه الجذور القانونية تقتضي مايلي:

أولاً: الولاية للأب.

ثانياً: عدم التساوي بين الذكر والأنثى في الإرث. حيث يرجح القانون، الذكر على الأنثى، لأن النفقات والتكاليف تقع على الذكر.

ثالثاً: التزام الأب بتوفير مستلزمات الحياة العائلية من المأكل والمشرب والمسكن وغيره، سواء للأم أو لأبنائه، كما قال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233).

ص: 50


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص62، طبع دارالمعارف، بيروت.

رابعاً: تكون الدية على أقرباء الأب في الخطأ مما يسمى ب(العاقلة) في الشريعة الإسلامية.

أما الأم، فحيث إنها تحمل وتلد ولادة صعبة، وترضع، فتكون الجذور بالنسبة إليها، جذوراً عاطفية، والجذور العاطفية تقتضي:

أولاً: عدم الولاية لها لأن الولاية تقتضي نوعاً من الخشونة، والخشونة لا تناسب العاطفية.

ثانياً: التأكيد على برّها، حيث ورد: أن رجلاً سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله من أبِرّ؟ قال: أمك.

ثم قال له ثانياً: من أبرّ؟ قال: أمك.

ثم قال له ثالثاً: من أبِرّ؟ قال: أمك.

ثم قال له رابعا: من أبِرّ؟ قال: أباك.

ثالثاً: تساوي الإرث بالنسبة الى من يرتبط بالأم، كالخال والخالة وغيرها، لتساوي العاطفة بين الابن والبنت، وذلك حسب الشريعة الإسلامية.

رابعاً: عدم تحملها مسؤولية تلبية لوازم الحياة.

خامساً: عدم تحملها (العاقلة).

وما ذكرناه، إنما هو من الناحية القانونية، والقانون لا يلاحظ العلل، وإنما الحِكَم – حسب الاصطلاح الأصولي- حيث لا يلزم في الحكمة، (الاطراد) و(الانعكاس) ، إنما تلاحظ الأغلبية، بينما يلاحظ في (العلّة) كل فرد في المجتمع، فإن تعرض القانون للخرق، يجب أن يكون على نحو العموم، وإلا لزم الانفراط في القانون، فحيث تكون الحكمة العامة يكون القانون، وإذا خرج فرد أو أفراد، من الحكمة إيجاباً أو سلباً، يجري عليه القانون ، مثلا: قانون (التأشيرة) عند الخروج من البلد في العالم الغربي، إنما وضع لأجل التنسيق العام والإحصاء وعدم التهريب وغير ذلك، كما إن هذا القانون يشمل رئيس الدولة

ص: 51

أيضاً إذا أراد الخروج، فإن اللازم عليه أن يحصل على التأشيرة، مع العلم بأن تلك الحِكم، أو المبررات، غير موجودة في رئيس الدولة مثلاً، وإنما يشمله القانون لأنه يجب أن يكون عاماً، فلا ينخرم حتى لا يتمكن أحد من خرق القانون بدعوى أنه خارج عن العلّة التي وضع القانون بسببها.

وقد روي أن رجلاً قال لعلي عليه الصلاة والسلام: (هل يتنجس بدن رسول الله بالموت كما يتنجس بدن سائر الناس؟ فقال علي (عليه الصلاة والسلام): لا. فقال له الرجل: فلماذا غسلتموه؟ فأجاب علي (عليه الصلاة والسلام): (لجريان السنة).

والمراد ب(جريان السنّة) في هذا الحديث هو أن القانون إذا خُرق او انتهك، يلزم أن يشمل الكل، لا أن ينتهك من شخص واحد وحسب، سواء كانت تلك الحكمة التي وضع القانون من أجلها موجودة في هذا الفرد الخاص أو لا.

وعليه؛ فان من عقلانية الأب وقيمومته، وعاطفية الأم ورحمتها، تنشأ في الإنسان هاتان الصفتان: صفة (الآمرية والزاجرية)، وصفة (العطف والحنان)، فالأب يقول للأولاد: يجب أن تعملوا هذا العمل ويجب أن تتركوا ذاك، وإذا خالفتم حقّ عليكم العقاب، أما الأم فإنها تعطف على أبنائها، سواءً أطاعوا أم عصوا، وإن لم تكن بعض الأمهات كذلك، كما أن بعض الآباء ربما لا يمتلكون الحزم والصرامة، فإن الأم تستأسد، والأب ينقلب إلى حمل وديع! إلا أن الشواذ لا توجب انخراقاً للقانون.

ثم إن تبدل أحوال الأم العاطفية، تابع لتبدل قسم من الإفرازات الغددية التي قررها الله سبحانه وتعالى في الأم لأجل عدم انسياق حياة الأم العاطفية، مما يوجب خللاً في الحياة، فقد ثبت في العلم الحديث: أن المرأة - بالإضافة إلى تغيّر حالاتها النفسية والبدنية أثناء الحمل والحيض كما ألمع إليهما القرآن الحكيم- تطرأ عليها تغيرات بسبب الإفرازات التي تفرزها الغدد مرتين في كل شهر، فإنه تفرز في كل شهر هرمونات تسمى ب(هرمونات الأمومة) وتبقى فاعليتها لمدة أربعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً وتصل إلى ذروتها في الأيام الأخيرة حيث نرى

ص: 52

المرأة تعامل الجميع كأنهم أولادها الصغار وتكلأهم بحنانها وعطفها، ثم بعد ذلك تنقلب نفس المرأة، إلى امرأة أخرى، حيث تفرز الغدد هرمونات الأنوثة، في فترة شبيهة بفترة هرمونات الأمومة السابقة، وعندما تصل هرمونات الأمومة ذروتها ينقلب البيت جحيماً لا يطاق، إذ تعمل الغيرة النسائية عملها وتعكر الجو العائلي، وكثيرا ما يستغرب الرجال والأولاد من أن تلك الأم الوديعة والزوجة الحنونة، كيف انقلبت هكذا شرسة، شديدة الحساسية والانفعال والتهجم؟! لأن الغالب يغفلون عن حقيقة أن تغير الحالات المزاجية تابع لتغير إفراز الهرمونات الداخلية مما قد جعله الله سبحانه وتعالى لأجل عدم إنسياق جو عاطفي عام يفسد الأمر عليها وعلى العائلة، فالإنسان محتاج إلى يدين: يد الشدة، ويد اللين، وهذه الحالة موجودة في ذات المرأة أيضاً على تفصيل مذكور في الكتب المعنية بهذا الشأن.

وعلى أي حال، فجذور الإنسان إلى أبيه وأمه تولّد له حالة وجدانية متوازنة بين (الوجدان الأصولي) و(الوجدان العاطفي)، حيث إن كلاً منهما ضروري في الحياة، لكن هذين الوجدانين في داخل الرجل يختلف عنهما في داخل المرأة، حيث إنه في داخل الرجل يترجح الوجدان الذكوري، بينما في داخل المرأة يترجح الوجدان الانثوي، ولذ نجد عند الآباء أيضاً بعض العاطفة، كما نجد عند الأمهات أيضاً بعض القوانين والضوابط.

وتبعاً لوجدان الأم العاطفي لم يجعل الإسلام للمرأة منصب (القضاء) و(الامارة) و(الولاية) ونحوها، بينما جعل هذه المناصب للرجل، وقد اثبتت المرأة بنفسها عدم انسجامها مع هذه المناصب، ولذا نشاهد في عالم اليوم أن المرأة لم تخترق حواجز الرئاسات والوزارات والامارات ودور القضاء وما أشبه - إلاّ نادراً - مع أن غالب البلاد رفضت قوانين السماء وقررت التساوي بين الرجل والمرأة في كل الشؤون، وليس السبب: أن هناك حائلاً قانونياً يحول دون تسلم المرأة تلك المناصب، وإنما الحائل نفسي – طبيعي، مودع في داخل المرأة، فإنها غير منسجمة مع مثل هذه الأعمال، كالسيارة الصغيرة التي هي كاملة في حد ذاتها لكنها لا تطيق حمل الحديد والإسمنت وغيرها، بينما السيارة الكبيرة تطيق

ص: 53

ذلك، لكنها ليست صالحة لنقل الركاب، لا من جهة نفسها، إنما من جهة الركاب، حيث جلوس الركاب على متنها، يسبب لهم مشاكل ومتاعب، وربما إصابات في أبدانهم. إذن؛ كل واحدة من السيارتين كاملة في جهاتها، لكن كمال كل واحدة منهما يلائم الاستفادة الصحيحة منها.

الإنقطاع عن السماء

للإنسان جذور من نوع آخر، تابعة للروح، حيث قال سبحانه: (ونفخت فيه من روحي) (الحجر: 29).

وتبعاً لهذه الجذور كان الإنسان أفضل من الملائكة، ولذلك أيضاً أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لآدم، وبهذه الجذور السماوية يميل الإنسان إلى الأعلى، وقد قال سبحانه في صفة من مال إلى الأرض وترك جذوره السماوية: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف: 176).

إن طبيعة الأرض، هي طبيعة الكلاب المتهارشة، لأن المادة محدودة، والمحدود يتنازع عليه الناس، بينما الروح لها آفاق واسعة جداً، ولا تنازع في الآفاق الواسعة.

وقد ورد في الدعاء بهذا الصدد، الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى والشكاية إليه، (من دنيا قد استكلبتني..)، بمعنى أن الدنيا ربما تجعل الإنسان أشبه بالكلب..!

وفي حديث آخر: (الدنيا جيفة وطلابها كلاب).

فكما أن الكلاب تتشاجر على الجيفة، كذلك يكون حال من تثاقل إلى الأرض وقطع علاقته بالسماء، أما طبيعة السماء، فهي؛ الوحدة والصفاء والخير والوئام والانسجام، ولذا ورد في الحديث: (تخلقوا بأخلاق الله)(1).

ص: 54


1- بحار الأنوار: ج54، ص129.

والتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى يجعل الدنيا، دنيا صفاء وسلامٍ ووئام، بالاضافة إلى الآخرة التي يحرزها الإنسان بسبب هذا التخلق وهي الجنة: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (آل عمران: 133). وهناك حيث لا ضيق ولا ضنك ولا تنازع، وبهذا الصدد يقول أحد فلاسفة الشعراء:

(أرواح الخنازير والكلاب متفرقة، أما أرواح الأسود المرتبطة بالله فهي متحدة).

وفي القرآن الكريم نجد التمثيل لهذه الجذور الصاعدة ولتلك الجذور الهابطة حيث يقول الله سبحانه: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (المطففين: 18-28).

فالأبرار الذين يبّر بعضهم بعضاً ويرتبطون بالسماء، يكون كتابهم في عليين، وهو مكان يشهد فيه المقربون من الله سبحانه وتعالى.

أما من قطع جذوره بالسماء، فيقول عنه سبحانه: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ) (المطففين 7: 8). وهنا، لا يشهد هذا الكتاب المقربون، لأنه يذهب إلى الأسفل.

وفي وصف أصحاب الجنة يقول الله تعالى: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (الواقعة: 26)، فهنا سلام وصفاء، (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 10)، فالارتباط هنا بالله وحمده.

يقول سبحانه وتعالى في وصف أصحاب النار: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص: 64)، فأهل النار يتخاصمون، فكما كانوا في الدنيا متخاصمين كذلك هم في الآخرة، لأن الآخرة هي آخر مطاف الدنيا، فالدنيا إذا كانت صفاءً ووئاماً وسلاماً، انتهى كل ذلك إلى الآخرة الرفيعة، والعكس بالعكس، وكلما قويت هذه الجذور النابعة من الروح، ساد الوئام والصفاء.

ص: 55

أما إذا قويت جذور الجسم- بكل أقسامها الأربعة التي ذكرناها - قوي التشاجر والتخاصم.

ولذا نشاهد أن الأنبياء عليهم السلام يؤيد بعضهم بعضا، بخلاف الملوك المرتبطين بالدنيا. قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأنبياء (عليه السلام): (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 135).

حيث إن اليهود والنصارى فرقوا دينهم ولم يكونوا على ملة إبراهيم (عليه السلام)، ولذا يقول الله تعالى عقيب هذه الآية: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136-141).

فالأنبياء أخوة من أمهات شتى- كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وإنما ذكر الأمهات دون الآباء احتراماً لعيسى المسيح عليه الصلاة والسلام، حيث لم يكن له أب، والوحدة بينهم هي صبغة الله. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138)، فالصبغة المقابلة لصبغة الله، هي صبغة التفرق والتنازع.

وعلى هذا فإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام لم يكونوا يهوداً ولم يكونوا نصارى، وإنما كانوا على صبغة الله، وهي صبغة الوحدة والإخلاص والواقعية.

وعلى أي حال: تلك أمة قد ذهبت ومضت وأما أنتم أيها البشر المعاصرون فإنكم مكلّفون بأن تهتدوا بنحو تلك الهداية من الوحدة والصفاء والوئام.

بينما الملوك التابعين لجذور الأرض، القاطعين العلاقة مع السماء، فيقول الله تعالى عنهم: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: 34).

فالملوك لا يحارب بعضهم بعضاً، ولا يسببون الانشقاق والتمزّق على صعيد

ص: 56

الواقع الخارجي فحسب، وإنما يسري ذلك إلى داخل النفس، يقول الله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) (القصص: 4).

وهاتان الطبيعتان؛ التجزئة و التوحيد، تكمنان في نفس الإنسان، فطبيعة التوحيد تقول: (جاري مثلي).. يجب عليّ ان احفظ حقوقه. و(ذلك الحيّ السكني، مثل الحيّ السكني الذي أعيش فيه، لابد أن اهتم به). وهكذا ...

بينما التجزئة تقول: (بلدي أفضل من سائر البلدان)، و(مدينتي خير من المدينة الاخرى)، و(شارعي خير من الشارع الآخر الذي ليست فيه)، ثم (داري خير من دار جاري)، و(أنا خير من غيري)، وهكذا.. ثم تنتهي التجزئة إلى الفردية، بينما تنتهي الوحدة إلى وئام كل العالم.

وما نشاهده في عالم اليوم من الحروب والدمار والنازعات والمهاترات وغيرها، ليست إلا وليدة قطع العلاقة بالسماء، والارتباط بجذور الأرض، كما قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ) (التوبة: 38).

فالارتباط بالأرض إرتباط بالحياة الدنيا، والارتباط بالسماء، ارتباط بالآخرة، والبشر حيث خرج عن مظلة الأنبياء وقع في هذا التخاصم والتناحر، والله يبين هذه الحقيقة، حيث يقول: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة: 14).

فإن قطعهم جذورهم السماوية سبب أن يكون بينهم العداء والبغضاء إلى يوم القيامة.

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) (الكهف: 4).

فإن القول باتخاذ الله ولداً معناه الانقطاع عن جذور السماء، والخلود إلى جذور الأرض، والخلود إلى

ص: 57

جذور الارض - باتباع الهوى وعدم اتباع هداية السماء - يسبب هذه التفرقة، ولذا يقول الله تعالى في فردٍ منحرف: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (الأعراف: 176)، كما تقدم.

بعد أن عرفنا نتائج ومآلات الانقطاع عن السماء، علينا معرفة العوامل والاسباب وراء هذا الانقطاع والانفصال.. وبمعرفتها، يمكننا تحاشي تلك المآلات السيئة والخطيرة.

فمن المعروف أن أمور خمسة ترتبط بالإنسان، إن سمت وارتفعت نحو السماء، ارتقى معها الانسان، والعكس بالعكس: النفس، والجسد، والتاريخ، والمحيط الاجتماعي، والمحيط الطبيعي.

أولاً: النفس

وهي مبعث فساد الكل، أو صلاح الكل، فهي إن ارتفعت عن جذورها المادية صلح الكل، وإن انحطت إلى جذورها المادية وقطعت جذورها العليا، فسد الكل.

وإن فسدت نفس الإنسان، تتحول الى بؤرة للحقد والكراهية والحسد والنفاق والتفرقة، وغيرها من الحالات السلبية.

ثانياً: الجسد

والإنسان الفاسد النفس ايضاً، يكون جسده معرضاً للآلام والمصائب سواء من داخله أو من خارجه. أما من داخله فإذا صارت عليلة أثرت على البدن، لأن كلاً من النفس والبدن يتفاعل أحدهما مع الآخر، فالجسم إذا مرض مرضت النفس، والنفس إذا مرضت مرض الجسم، ولذا نرى أن الخائف يصفرّ لونه حيث تؤثر نفسه في جسمه، كما نرى أن المضروب على جسمه كئيب النفس حيث يؤثر جسمه في نفسه.

ثالثاً: التاريخ

فالإنسان قد يُفسد التاريخ، وقد يصلحه ، مثلاً: فرعون أفسد التاريخ، أما

ص: 58

موسى عليه الصلاة والسلام فقد أصلحه، لأن التاريخ عبارة عن الناس الذين يعيشون في قطعة من الزمان، عيشة حسنة أو سيئة.

رابعاً: المحيط الطبيعي

أما المحيط الطبيعي، فهو أيضاً تابع للإنسان، فيمكن للإنسان أن يصلح المحيط الطبيعي فيعمر الأرض ويجري الأنهار إلى غير ذلك، كما أنه يتمكن أن يفسد المحيط الطبيعي ويدمره.

خامساً: المحيط الاجتماعي

كذلك المحيط الاجتماعي أيضاً تابع للإنسان، لأنه إنما يتكون من لبنات انسانية، فإن صلحت تلك اللبنات صلح المحيط الاجتماعي والعكس بالعكس، ولذا نرى أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي صلح أفراده، أما إذا كانت اللبنات الإنسانية فاسدة فيكون المحيط فاسداً. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خير القرون قرني)(1).

وذلك لأن الصحابة كانوا على الأغلب أناساً صالحين، نعم؛ كان فيهم المنافق، لكنه كان شاذاً، والشاذ لا يتمكن من صبغ المجتمع بصبغته، وإنما الأكثرية التي تتمكن صبغ المجتمع بصبغتها، وبصورة مطلقة.

ومن المحيط - فاسداً كان أو صالحاً - تنشأ أنظمة الحكم أيضاً، ففساد أو صلاح هذه الأنظمة نابع من صلاح أو فساد ما يحيط بها، ولذا ورد في الحديث، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كيفما تكونوا يولى عليكم)(2).

إذ من الطبيعي أن المحيط الصالح ينشئ الأفراد الصالحين الذين يصلون إلى الحكم، فيما المحيط الفاسد ينشئ الأفراد الفاسدين الذين يصلون إلى الحكم أيضاً.

ص: 59


1- المبسوط، للسرخسي: ج1، ص3، طبع دارالمعرفة، بيروت.
2- کنز العمال: ج6، ص89، طبع مؤسسة الرسالة.

فالحكم أيضاً أمر سادس في هذا السُلّم: وهو جزء من المحيط الاجتماعي، فبصلاح المحيط الاجتماعي التابع لصلاح النفس يصلح الحكم، وبفساده يفسد.

من هنا، من يقطع جذوره بالسماء ليخلد إلى الأرض، يتلقى الجزاء الطبيعي لهذا المسلك الذي اتخذه في حياته، ونفس الحالة لمن يقطع جذوره من الأرض ليطمأن إلى السماء.. سواء كان فرداً أو جماعةً أو أمةً.

هنالك خمسة أنواع من الجزاء يتلقاها الإنسان إذا اتخذ أحد السبيلين: الجزاء الشخصي، والجزاء والتاريخي، والجزاء البرزخي، والجزاء المحشري، والجزاء في الجنة أو النار.

فالجزاء الشخصي هو أن الإنسان المحسن يُحسن إليه، والإنسان المسيء يُساء إليه، فمن أهان الناس أهين، ومن احترم الناس كسب احترامهم.

يقول الشاعر:

ومن هاب الرجال تهيبوه *** ومن وهن الرجال فلن يُهابا

فهذا هو الجزاء الشخصي الذي يتلقاه الإنسان، إن خيراً فخير، وان شراً فشر.

وفي الشعر المعروف:

إنك لا تجني من الشوك العنب *** ولا من الحنظل قد تجني الرطب

وكذلك الإنسان، فهو الذي يصنع تاريخه، فربما يكون تاريخ رحمة وخير، و ربما يكون لعنة وشر.

والبرزخ.. وهو الفاصل بين الدنيا والآخرة، والمحشر.. وهو محل الحساب، فالنار أوالجنة.. وهو المحطة الأخيرة للإنسان، أيضاً تكون من صنع الإنسان نفسه، والجزاء الأوفى يكون في الآخرة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (النجم: 41).

لأن الدنيا قطعة صغيرة، والبرزخ والمحشر أيضاً قطعتان صغيرتان بالنسبة إلى المحطة الأخيرة، أي النعيم أو الجحيم.

ص: 60

ولذا نشاهد في التاريخ، ما من مُسيء إلا وقد أسيء إليه على الأغلب، ولا محسن إلا وقد أحسن إليه على الأغلب.

نعم؛ كان هنالك شواذ من الجانبين، لكن ذلك قانون ثانوي، والأهم؛ القانون الأول، حيث إن الأهم يقدّم على المهم، مثلا: نلاحظ في المائز بين «ابن زياد» والإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، فمن الناحية الشخصية، قُتل الأول ، شر قتلة، ولُعن شرّ لعنة تاريخياً، من يومه إلى هذا اليوم، والى يوم القيامة. أما الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام فله تاريخ مشرق جميل.

وربما يقال: فلماذا قتل الإمام الحسين؟ فهل كان جزاء إحسانه القتل ؟ أليس هذا نقيضاً للقاعدة المذكورة؟

الجواب: إن الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام اختار القتل بنفسه، ولذا كان يفرّق الناس من حوله ويقول لهم: (وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وتفرقوا في سواده فإن القوم إنما يطلبونني)(1).

فالذي يريد البقاء والحياة، لا يفرق الناس من حوله، إنما يحاول كسبهم لتقوية شوكته وجبهته أملاً بالانتصار.

إن الإمام الحسين (عليه السلام) أراد بنفسه أن يُقتل تبعا لإرادة الله سبحانه وتعالى، ولأمر أهم، حيث ورد في الحديث: (إن الله شاء أن يراك قتيلاً، وشاء أن يرى أهلك سبايا)(2).

فقد اختار (عليه السلام) العمل الصعب لأجل إنقاذ البشرية، ولأجل أن يكون أسوة لهم. فهنالك (جيش في جبهة الحق، وهو الذي اختار العمل الصعب، لأجل الإنقاذ ولأجل أن يكون أسوة). فهل يقال: أسيء إلى الجيش ؟ إن مثال هذا، هو مثال الطبيب والمهندس والفقيه والخطيب الذين يختارون العمل الصعب بالدراسة

ص: 61


1- بحار الأنوار: ج40، ص316.
2- بحار الأنوار: ج40، ص364.

والسهر وحرمان النفس عن الملذات لأجل علو المنزلة أو لأجل إنقاذ الناس من مشاكل الحياة..

وعليه فليست الجذور التي ذكرناها - السماوية والأرضية - مجرد طائفتين من الجذور، وإنما لكل طائفة آثارها الحسنة أو آثارها السيئة على الإنسان نفسه: شخصا وتاريخا وبرزخا ومحشرا وجنة أونارا.

التطرف في العلاقة بالأرض

ولا يتوهم من الكلام السابق أننا يجب أن نقطع الجذور مع الأرض بشكل كامل، فالإنسان بحاجة الى الجذور الأرضية بمقدار معين، إنما يجب عدم الارتكاز على الجذور الأرضية، و قطع الجذور السماوية، فكلٌ من الجذرين يجب ملاحظته في حدوده المقررة له، فالجذور الأرضية هي لإعطاء حاجات الجسد، ولإنماء الروح، كالأرض التي تنمي الإنسان والنبات والحيوان.

أما الجذور السماوية فهي لتكريس القيم الأخلاقية والإنسانية مثل الأخوة والتعاون والإحسان والإيثار وغيرها، ودحض الامتيازات الوهمية، مثل اللغة والقومية والعرقية وغيرها، وتحكيم معيار الكفاءة وحسب، ثم يكون لكل فرد مكانته الخاصة به، فالطبيب له مكانته في المجتمع، كما للعامل مكانة في المجتمع ايضاً.. فكفاءة الطبيب أو المحامي او المهندس، لا يجب أن تكون مبرراً لإجحاف الآخرين، كما إن وجود الكفاءات والقدرات العلمية والمالية في المجتمع، لا يعطي المبرر والمسوغ للانسان غير المتعلم وغير الثري، أن يتحرك للقيام بأعمال عنف وانتفاضات، تسبب الفوضى والدمار، وهذا التعارض والتقاطع ما نلاحظه في أنظمة الشرق من جهة، وأنظمة الغرب من جهة أخرى، ففي الغرب تطغى الكفاءات على العمال والفلاحين، وفي الشرق يطغى العمال والفلاحون على الكفاءات والقدرات المالية والعلمية(1). علماً إنه حتى ثورة

ص: 62


1- - التجربة الماركسية الفاشلة التي تم فرضها على عدد كبير من شعوب العالم خلال القرن الماضي.

الشيوعيين في روسيا، وهي أول ثورة من نوعها في العالم اندلعت عام 1917، استغلت (الحكومة الاشتراكية) بكفاءاتها وقدراتها، امتيازات العمال والفلاحين.

وهنا يأتي سؤال فلسفي: لماذا خلق الله الكفاءات والقابليات المختلفة، فهذا أكثر استعدادا، وذاك أقوى بُنية، والثالث أكثر فطنة وذكاءً وهلمّ جرا..؟ ألم يكن من الأفضل أن يخلق الله سبحانه وتعالى الأشياء متساوية حتى لا تكون هذه الامتيازات الكفائية أيضاً؟

الجواب: إنما خلق الله الكفاءات المختلفة لأمرين نشعر بهما نحن، ولعل هناك أموراً أخرى أيضاً:

أولا: حتى يتحقق جمال الكون.. فالجمال إنما هو بالتنوع، فالحديقة ذات الأزهار الحمراء فقط، أو الصفراء فقط، أو البيضاء فقط، لا ترضي الشعور الجمالي للإنسان، بقدر ما ترضيها حديقة ذات أزهار متنوعة الألوان والاشكال، تفوح منها روائح زكية.

ثانيا: لأن كل شيء - مما يعبّر عنه في لسان الفلسفة ب(المهيّة) - يطلب الوجود بلسان الحال، ومن جود الفياض المطلق، أن يفيض الوجود على كل ما يتطلب الفيض، فيما لم يكن هنالك محذور يصادم ذلك، فطلب الوجود من (المهيّات) يقتضي إعطاء كل مهيّة حقها، ومثل ذلك: أفراد يأتون إلى ساقي الماء، وكل يطلب الماء، لكن هذا إناءه صغير، وذاك إناءه كبير وثالث إناءه مربع ورابع إناءه مدور وخامس إناءه مستطيل، وغير ذلك.. فالمهيات - بلسان الحال - تطلب من الله سبحانه وتعالى إفاضة الجود، والله يفيض الجود على الجميع لأنه الجواد الكريم كما أشار إليه في الآية الكريمة: ( أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد: 17).

فالأودية تحتمل كل واحدة منها بقدرها من الماء النازل من السماء، وهكذا حال ماء الوجود المفاض على المهيّات المختلفة التي هي مثل أودية الماء المختلفة.

ص: 63

وعليه، فهل من الصحيح عدم إعطاء كل ذي حق حقه؟ أو عدم التنويع الموجب للجمال؟

من هنا، نعرف أن كل شيء خلقه الله تعالى، يحمل نوعاً من الجمال، حتى وإن رأى الانسان فيه نوعاً من السوء، فالشر غير مخلوق من الله تعالى، إنما ذلك يأتي من فعل الانسان نفسه.. وقد ذكرنا هذه الحقيقة في كتاب (الأصول) بأن ما نجده سيئاً فإن له نوعا من الجمال، مثلا: كل من العقرب والثعبان وغيرها من الحيوانات الخطرة، لها نوع من الجمال، كذلك الإنسان الشرير، فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلقه هكذا، إنما يخلقه سوياً ونقي الفطرة، منتهى الأمر أنه يخلق الجيد والأجود، إنما الإنسان بنفسه يحوّل الطيّب خبيثاً، ويبدل النعمة كفرا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)(1).

ويقول القرآن الحكيم بصدد من يبدل الخير شرا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: 28).

فالنعمة بما هي نعمة قد تبدّل بالنقمة والكفر، كالذي يصنع من الرطب الطيب خمراً.

وقد ذكر قسم من الفلاسفة: إن الوجوه المتصورة في الخلقة خمس، والله سبحانه يخلق منها اثنين لوجود المحذور في الثلاثة الأخر، لأن الشيء إما خير محض، وإما شر محض، وإما متساوي الخير والشر، وإما خيره أكثر من شره، وإما شره أكثر من خيره، والله سبحانه وتعالى إنما يخلق (ما هو خير محض) و(وما خيره اكثر من شره) أما الأقسام الثلاثة الأخر - من (متساوي الأمرين) و(ما شره أكثر) و(ما هو شر محض) - فإن الله سبحانه وتعالى وإن كان قادرا على خلقها، لكن الحكمة مانعة عن خلق مثل ذلك، فإن من صفات الله سبحانه وتعالى، (الحكمة) الموجبة لصد سائر الصفات عن الفيضان(2).

ص: 64


1- المراد أنه قابل لهما، لا أنه سبحانه يخلق الشر، ولذا قال صلی الله عليه وآله وسلم: «کمعادن الذهب والفضة».
2- هذا من باب التشبيه وضيق التعبير.

مثلاً: الله سبحانه وتعالى مُعطي و رزاق وخالق وغيرها من الصفات، فإذا لم تكن (الحكمة) آخذة بأزمة تلك الصفات لكانت كل تلك الصفات (على فرض المحال) تتجاوز حدودها، مثلا يخلق الله عوض مليار من المجرات مليارات المليارات من المجرات.. وهكذا في سائر الأمثلة.

وعلى هذا، فمن المحظور، الطغيان في محبة الجذور الأرضية لأنه يسبب التالي:

أولا: الفساد والتمايز

وثانيا: الجمود والسكون وعدم تقدم الحياة، فإن تقدم الحياة إنما هو بالكفاءات، والطغيان في محبة الأرض والجذور الارضية يوجب عدم ظهور الكفاءات، ولذا قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).

إن محبة هذه الأمور زائدا عن المتعارف، هو فسق وخروج عن الاعتدال، والله لا يهدي الذين يخرجون عن الاعتدال عن علم وعمد، فانه سبحانه وتعالى إنما يهدي من يريد الاعتدال، ويسلك الطريق المستقيم لا من يسلك الطريق المنحرف، وقد قال الإمام علي عليه الصلاة والسلام في شعر منسوب إليه:

تفرج هم واكتساب معيشة *** وعقل وآداب وصحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة *** وقطع الفيافي وارتكاب شدائد

فموت الفتى خير له من قيامه *** بدار هوان بين واش وحاسد(1)

إن الخلود إلى الأرض، سواء تمثل للانسان البلد الواحد، أو القومية او غيرها من الانتماءات، ومن غير سبب، لهو مدعاة للتخلف والحرمان، ومنع

ص: 65


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص71، طبع دارالمعرفة بيروت.

الانسان من الرقي والتقدم. ولذا قرر الإسلام (الهجرة)، أما من لم يكن يحب الهجرة لمشكلاتها فقد قال الله في شأنه: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) (المائدة: 26).

بمعنى أن الإنسان الذي يخلد إلى الأرض ولا يحب التقدم والرقي والموازين الإنسانية، سيبقى يتيه في الأرض، حتى ينقلع عن تلك الجذور المنحرفة، وقد ذكر بعض المفسرين أن مدة تبدل الأمم من حالة إلى حالة هي أربعون سنة، حيث يذهب القوم السابقون خلال ما يقارب العشرين سنة، وينمو القوم الذين بعدهم خلال عشرين سنة اخرى.

من هنا؛ فان الجذور الأرضية واجبة بقدر، وباقي الطاقات والقدرات يجب أن تصرف إلى الجذور السماوية، ولذا قال سبحانه: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77).

وهذا الامر صعب جدا لأن الإنسان يميل أكثر إلى قومه ووطنه وداره وأبويه.. ويحب المفاخرة بها، كما كان الجاهليون يفاخرون بذكر آبائهم، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك وقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة: 200-202).

حيث نرى في هذه الآية الكريمة أن قسما من الناس يريدون الدنيا والآخرة، لكن إرادتهم للدنيا أضعف من إرادتهم للآخرة، حيث قال سبحانه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201).

فجعل الله تعالى حسنة الدنيا حسنة واحدة، أما ما يرتبط بالآخرة فجعله جزءين: جزءاً إيجابياً (حَسَنَةً) وجزءاً سلبياً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

وبعد ذلك قال سبحانه: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) (البقرة: 202). ثم

ص: 66

أردف ذلك بقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة: 202). بمعنى إن الدنيا تطوى بسرعة، وإنما البقاء للآخرة، والجذور السماوية هي المحكمة في الآخرة الطويلة العريضة، فمثلا: الإنسان يعيش في الدنيا خمسين سنة، أما في الآخرة فمليارات من السنوات والى ما شاء الله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (النساء: 57).

أما كيفية تطويع الإنسان نفسه ليميل الى الارتباط بالسماء، ويرتقي عن الجذور الأرضية، فهنالك (ترويض النفس) التي قال عنها أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى)(1).

وهذا يكون باختيار الانسان للأعمال الشاقة والصعبة في طريق الهدى والفلاح، وهذا يكلف الإنسان أثماناً كبيرة قطعاً، لكن بالمقابل يجني الانسان نتائج باهرة في الدنيا والآخرة ، لذا ورد في الحديث: (حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)(10).

وفي حديث آخر: (أفضل الأعمال أحمزها)(2).

والنتائج الكبيرة بعد المشاق، تشبه حالة الأب الرؤوف الذي يجبر ولده على الذهاب إلى المدرسة والانقطاع عن أصدقاء السوء، وليس ذلك إلا لمصلحة نفس الولد ورقيه وتقدمه ، فالولد، وإن توهم أن الأب يضغط عليه ويجبره بلا مبرر، لكن الواقع أن الضغط والجبر لهما مبررهما الوجيه عند العقل والشرع وسيدركه نفس الولد، عندما يكبر ويبلغ مرحلة النضج الذهني.

ضيق الفكر الإنساني

إن تساوي الناس - إلا من جهة الكفاءات - هو الذي جاءت به الأديان. مثلاً: صار المسيح عليه الصلاة والسلام بلطف الله أولاً؛ وأتعابه ثانياً؛ في عداد خيرة الله، في مقابل اليهود الأثرياء المستكبرين الذين قالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤهُ) (المائدة: 18).

وهكذا لما جاء المسيح، جعلت الإنسانية على قدم المساواة، فلا فضل لبعض على الآخر إلا بالتقوى، ورجع اليهود إلى الوراء، لكن لم يمض زمان حتى انحرفت المسيحية فصار المسيح أيضاً (ابن الله)، وصارت الروحانية

ص: 67


1- المبسوط، للسرخسي: ج30، ص254، طبع دارالمعرفة، بيروت.
2- بحار الأنوار: ج63، ص191.

المسيحية في خدمة الدولة المستكبرة وشرّعوا قانون: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).

وقد أشير إلى ذلك في القرآن الحكيم في آيات متعددة:

قال سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (النساء: 171-173).

وقال سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 71-75).

ويقول الله سبحانه وتعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-31).

إلى غيرها من الآيات التي تشير الى محاولات السيد المسيح لإرجاع الناس إلى واقعهم الإنساني، بعد انقلاب الموازين، ولذا جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليردّ الأمور إلى نصابها الواقعي، وجعل المؤمنين أخوة. وقال الله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10).

ونقرأ في التشهد: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).

كما صار الميزان الكفاءة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

وتم تحكيم الاستشارية، كما قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159).

ص: 68

وقال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).

وأصبح تعيين القيادة - الجامعة للشروط - في زمان الغيبة، بيد الناس..

وسيأتي في هذا الكتاب موضوع الانتخابات من قبل الأمة للقائد الذي يحكم المسلمين.

وقد جربت الشعوب في الغرب هذا الضيق في الأفق في فترات الكبت الشديد والاضطهاد من طبقة الحكام، حيث ظهرت الطبقات المتفاوتة والمتباعدة بعضها عن بعض، والى جانب هذا العسف الطبقي، كانت الكنيسة تفرض طقوساً دينياً غريبة، حتى أنها أحرقت آلاف العلماء وعشرات الآلاف من الناس وحظرت العلم، حتى ترجمة التوراة والإنجيل، بل كانت تسلط بعض الأقوام على أقوام آخرين، وقد نتج عن ذلك كله، أمور:

الأول: الإفراط في الحرية

فإن (كل فعل له رد فعل، يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه)، وقد يكون رد الفعل أحياناً أقوى، في حالات مذكورة في علم الاجتماع وغيره. فالحرية المفرطة هي التي سببت المشاكل التي يتخبط فيها الغرب في الوقت الحاضر. كما أن الطبقات المتباعدة سببت ردة فعل أخرى، فكان التساوي المفرط بين افراد المجتمع، وحصل هذا في مسألة تقييم الرجل والمرأة اللذين لم يكن بينهما تساو لا خلقة، ولا عاطفة، ولا عقلاً، إلا في جوامع مشتركة بينهما، كما أن تشدد الكنيسة من الناحية الدينية، سبّب ردة فعل بالتحلل من الدين والفضيلة جملة وتفصيلاً، وتفشي الإلحاد والرذيلة بشكل فضيع. كما ان تسلط الأقوام الآخرين، سبّب ظهور القومية المرتبطة باللغة واللون والأرض والقبيلة وغيرها، إلى حد الإفراط البعيد عن موازين العقل، فيرجح جاهل القوم على عالم الأقوام الآخرين، وصارت القومية الصنم الجديد الذي يعبد من دون الله ومن دون الموازين الإنسانية، ومن النزعات القومية التي نشأت في الغرب؛ «النازية»

ص: 69

و«الفاشية» اللتين أغرقتا العالم في حربين عالميتين مدمرتين خلال نصف قرن من الزمن

وحيث تراجع الدين عن الساحة، وأخذت المادة مكانه، وجد (الاستعمار)

و(الاستغلال) للشعوب الأخرى، لأن المادة - كما تقدم- ضيقة المجال، فتوجب التشاجر والتناحر والاستغلال والاستعمار، أما الدين الحق فهو رحب يسع صدره مختلف الأقوام والشعوب.

وحيث حدث التطرف في رأس المال، حصل رد الفعل بالمقابل، متمثلاً ب(الماركسية)، و ظهور (الشيوعية)، وقد ادعت أنها ضد (رأس المال)، لكنها سقطت في بؤرة رأس المال بشكل أفضع، حيث جمعت بين (رأس مال الدولة) و(دكتاتورية الدولة)، ففي الغرب، رأس المال بيد أفراد، والدولة بيد أفراد آخرين، وبين هاتين المجموعتين يتوفر شيء من الحرية، تمكن العامل والفلاح و ذو الدخل المحدود من التحرك ولو بقدر قليل، لكن في الشيوعية جمعت جماعة خاصة بين (الدولة) و(رأس المال) فسحقوا كل الطبقات، وجروا على الشعوب الويلات المعروفة.

بينما لا نرى كل ذلك في الإسلام، لأن توفرت فيه الحريات المعقولة، ولم تكن فيه طبقات يسندها القانون، ولا تشدد من الدين ورجاله، بل عفو وتسامح، ودعوة بالتي هي أحسن، ولم يكن فيه تسلط أقوام على آخرين، بل كان من دخل في الإسلام يصبح كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإنما الكفاءات تصل إلى أرقى المناصب، سواء في الحكم أو في العلم أو في القضاء أو في غيرها، ولذلك نرى مثلاً أن سلمان الفارسي يتسلّم منصب الحاكم على الإمبراطورية الفارسية، بعد أن تحولت إيران الى الإسلام.. لذا لم يكن في الإسلام استعمار ولا استغلال ولا ردود فعل.

وهكذا امتد الإسلام وزحف إلى الأمام باستثناء بعض الفترات التي سيطر فيها حكام منحرفون خرجوا عن الموازين الإسلامية جملة وتفصيلاً، فأوقفوا

ص: 70

زحف الإسلام الإصلاحي، وباستثناء الفترة الأخيرة حيث ابتعد كثير من المسلمين عن القرآن الكريم الذي كان هو خُلق المسلم، مما سبب تمكن الغرب والشرق من الزحف عليهم وتنصيب حكام عملاء عليهم وتبديل القوانين الإسلامية إلى القوانين الوضعية المكبلة.

وهكذا فقد العالم، القيادة الرشيدة، و ظهرت لنا مشكلات عالمية لها أول وليس لها آخر، ارتطمت بها الشعوب كلها، وإن كانت على نسب مختلفة.

من هنا يمكن القول: إن الحالة التي يعيشها العالم في الوقت الحاضر، تُعد حالة مرضية بكل خصائص المرض، وما لم تعالج، سيبقى العالم يتخبط في دياجير وظلمات ومشاكل أسوأ من المشاكل التي كان يتخبط فيها الانسان قبل ظهور الإسلام، فهي (جاهلية ثانية) أسوأ من (الجاهلية الأولى).

إن العالم اليوم، مؤطر بالأنانية، والأثرة، والتفاوت الطبقي، وهذا يتجسد في الموازين الحاكمة مثل (القومية) و(الوطنية) و(المادة) و(اللغة) وغيرها، لا الموازين الإنسانية، ولذا تجد كل إنسان لا يرتبط بالوطن الخاص والشعب الخاص ونحو ذلك، يُعد غريباً ليس له أي حق في الحياة، فهو يولد في العالم الحاضر دون حق، وينظر إليه بالشبهة والريبة، لا يُزوّج، ولا يتزوج منه، ويطرد من البلاد، ولا حق له في البيع والشراء إلى غير ذلك، إلا في نطاق خاص وتحت شروط قاسية جداً، لم يكن لها مثيل حتى في الجاهلية الأولى.

وما دامت الدنيا لا تضع الحب مكان الكراهية، والأخوة، مكان الطبقية والوطنية والقومية ونحو ذلك، وحسن الظن بدل سوء الظن، وحب الإنسان بما هو إنسان بدلاً عن الأنانية والمصلحي، ونحوها، والتعاون بدل التقاطع، وأصالة الصحة في عمل الإنسان وفي قوله، بدل أصالة الفساد، وأصالة البراءة حتى تثبت الجريمة بدل أصالة الشبهة، وأصالة الحرية في كل شيء بدل أصالة الكبت، لن تنتهي مشاكل العالم، بل تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، كما المريض الذي يبقى على مرضه دون تناول الدواء وتلقي العلاج، فانه المرض يستفحل عليه حتى ينتهي به إلى الموت.

ص: 71

ومن صور ضيق الأفق الذي يحكم عالم اليوم، أن الإنسان الغربي أو الشرقي إذا قال لزملائه: (إني لا أحب بلادي)، يقابل بالاستنكار، أما إذا قال: (إني أريد استعمار سائر البلاد أو إني أريد الاستيلاء على خيرات البلاد الأخرى)، أو (أريد قتل الطائفة الفلانية.. التي هي غير منتمية الى بلدي)، فلا يقابل بالاستنكار، إلا عند فئة خاصة.

إن مردّ ذلك، عدم إنسانية الفكر، وضيقه، سواء على الصعيد القومي أو الوطني أو اللغوي أو اللوني أو غير ذلك. ولكن نجد في الإسلام الآفاق الواسعة للفكر الإنساني، كما هو موجود في سائر الأديان السماوية، بل نقل عن المسيح عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (أحبوا أعداءكم).

وفسره البعض بأن حب الأعداء هو حب للنفس، لوجود الجذور الإنسانية في كل إنسان سواء كان عدواً أو صديقاً، وفي القرآن الحكيم: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

وهنالك غير قليل من الأحاديث الشريفة التي تحثنا على هذا المفهوم، منها: ما ورد في الحديث: (إنصاف الناس من نفسك)(1).

وفي حديث آخر: (فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك)(2).

وفي حديث الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: (الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

كما أنه ورد عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لا فضل للعربي على العجمي إلا بالتقوى)(3).

والإنسان لا ينقلع عن هذا الضيق في أفقه الفكري الذي يتبعه أيضاً عمله

ص: 72


1- بحار الأنوار: ج62، ص381.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص45، دارالمعارف - بيروت.
3- بحار الأنوار: ج22، ص348، دارالمعارف - بيروت.

الخارجي، إلا إذا توسعت آفاقه الذهنية ورأى الإنسانية وحدة واحدة، وكما قال الشاعر:

بنو الإنسان أعضاء جسم واحد***لأنهم مخلوقون من جوهر واحد

فإذا سبب الزمان لبعضهم ألماً***يتألم سائر الأفراد لألمه

فإذا لم تحزن لمصائب الآخرين***فلا ينبغي أن تسمى إنساناً(1)

وهذا هو منطق العقل، والرشد الفكري وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مثل المؤمن في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعي سائره بالسهر والحمى)(2).

وفي عكسه قال شاعر آخر معبراً عن منطق الغربيين والشرقيين الذين يحصرون الأمور في القوميات ونحوها:

(الناس بعضهم أعداء بعض، لأنهم في الخلقة سيئ فأسوأ، فإذا سبب الزمان لبعضهم ألماً فإلى جهنم! فما بال سائر الأعضاء؟ إنك إذا لم تحزن لمصاب الآخرين فمن الحق أن تسمى آدمياً).

فإذا تمكن إنسان اليوم أن يدخل تحت مظلة الأنبياء عليهم السلام وأن يجعل جذوره إنسانية لا عنصرية أو طائفية أو قومية، فعندئذٍ يسود الوئام والسلام، وتتبدل معامل صنع السلاح إلى معامل صنع الأغذية، ولا تجد ألف مليون إنسان يتضورون جوعاً بينما أفراد آخرون يسبحون في اللبن - كما نشاهد في عالم اليوم - كما لن توجد في ذلك اليوم السجون المفتحة والحاجات المعطلة، ولا تجد بعض الناس يسكنون القصور الباذخة بينما السواد الأكبر يسكنون الأكواخ ويعيشون نصف عراة، وقد جاء في نهج البلاغة عن علي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك)(3).

ص: 73


1- أصل الآبيات باللغة الفارسية.
2- بحار الأنوار: ج103، ص173، دارالمعارف - بيروت.
3- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص78، دارالمعرفة - بيروت.

وروى الآمدي في (الغرر)، عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال: (زكاة العلم نشره، وزكاة الجاه بذله، وزكاة الحلم الاحتمال، وزكاة المال الأفضال، وزكاة القدرة الإنصاف، وزكاة الجمال العفاف، وزكاة الظفر الإحسان، وزكاة البدن الجهاد والصيام، وزكاة اليسار برّ الجيران وصلة الأرحام، وزكاة الصحة السعي في طاعة الله، وزكاة الشجاعة الجهاد في سبيل الله، وزكاة السلطان إغاثة الملهوف، وزكاة النعم إصطناع المعروف، وزكاة العلم بذله لمستحقه وإجهاد النفس في العمل به)(1).

إلى غيرها من الآيات والروايات التي تعطي للإنسان آفاقاً إنسانية واسعة حتى بالنسبة إلى الكافر كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (لكل كبد حرى أجر)(2).

فإذا لم تحكّم هذه الموازين في العالم، تبقى المجتمعات تعاني الامراض العديدة، ولا يرجى شفاؤها، إلا بعودتها إلى مظلة السماء ورسالة الأنبياء، وإلى جذورها الإنسانية.

من هنا؛ يعيش الإنسان على مفترق ثلاثة طرق: (أنا)، و(نحن القوم أو العشيرة أو الوطن)، و(نحن البشر)، ومن المعلوم أن الإنسان - بحكم العقل والمنطق - يجب عليه اتباع الطريق الثالث، فإن (أنا) وما يشتق منه (الأنانية)، تمثل الأفق الضيق إلى أبعد حد، و(نحن الوطن أو القوم) وغيرها، أيضاً أفق ضيق، وإن كان أوسع من السابق. أما (نحن البشر) فإنه يعبر عن آفاق إنسانية واسعة.

ثم إن أضرار نهج (الأنا) و (نحن الوطن)، يعود بالدرجة الاولى على الانساني الأناني الذي ربما يكون حاكماً ديكتاتورياً، كما يعود بالدرجة الاولى على (الوطن والقوم والقبيلة) وغيرهم، في نهج (نحن الوطن أو القوم) ، ولذا ورد في الآية الكريمة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس: 9).

ص: 74


1- مستدرک الوسائل: ج7، ص46، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
2- بحار الأنوار: ج67، ص370، دارالمعارف - بيروت.

و ورد أيضاً: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات: 40). وفي الآية الكريمة: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء: 52).

بمعنى إن (أنا) و (نحن الوطن)، تشكل أصناماً تشبه (الأصنام الحجرية)، في العمل على تضييق دائرة الإنسان.

وفي آية أخرى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: 31). وفي آية أخرى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (المائدة: 116).

إن كل تضييق في أفق الإنسان يسبب تضييقاً على الذات في الحياة، ويفقد الإنسان المجالات الرحبة للسير والتقدم، كما يشاهد في أحوال الدكتاتوريين الذين يقولون (أنا)، وفي أحوال القوميين والوطنيين والإقليميين، الذين يحصرون دائرة أفقهم في أقوام خاصة.

وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام استحباب السكن في المدن الكبيرة الواسعة. وهذا نابع من النفس الرحبة والمنطلقة، فالمدينة الصغيرة تضيّق دائرة النشاط الإنساني سواء أراد الانسان الزواج، أو أراد العمل أو أي نشاط آخر، أما المدينة الكبيرة فتتسع دائرة الإنسان فيها بقدر سعة المدينة، مثلاً: إذا عاش الإنسان في قرية تحتوي على عشر عوائل، انحصرت الفتاة التي يريد الزواج منها في عشرة اشخاص، أما إذا سكن مدينة تحتوي على مليون إنسان فإنه يستطيع أن ينتخب زوجته من بين ما يقارب مائة ألف فتاة، ومن الطبيعي أنه كلما اتسعت خيارات الإنسان في الانتخاب، كان اختياره أفضل وأجود، وهكذا في سائر الأمور.

وهذا يُعد من أسباب ابتلاء الاجتماع العالمي اليوم بالأزمات والمشاكل المعقدة، والذي يدفع الثمن، مكونات هذا الاجتماع من الشعب والقوم والوطن، ولن يتخلص العالم من هذا المرض إلا بتبديل (أنا) و(نحن الوطن ونحوه) بنهج (نحن البشر).

ص: 75

يتصور البعض، أن الرأسمالية المنحرفة، تمثل اقتصاد السوق وحرية التجارة والعمل، في حين هي بالحقيقة تُعد أيضاً نوع من عبادة الأصنام وتضييق لآفاق النفس، لإن معاني الرحمة والإنسانية والعطف والحنان وغيرها من القيم الإنسانية والاخلاقية، تموت في نفس الرأسماليين، حيث إنهم يرون آلاف الجياع، والأطفال الذين يصرعهم الجوع والمرض، لكن لا يحرّك ذلك فيهم أي ساكن، والأسوأ من ذلك انهم يواصلون سباق التسلّح بانتاج مختلف المعدات الحربية وآلات القتل الجماعي الرهيب، التي تسبب عوق الانسان او تسممه او تشوهه وموته، لمجرد أن ذلك يدرّ عليهم المال الوفير.

ونفس الجريمة ترتكبها البنوك الربوية والمرابون في هذا النظام الاقتصادي، وبشكل آخر، حيث تجعل الإنسان أشبه بأسير حرب، بسبب الديون والفوائد وهواجس الخسارة والانهيار.. كل ذلك بسبب ضيق الأفق الذي يعود على الإنسان قبل غيره، بالشر ثم على غيره، وقد قال سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه: 124).

أليس سباق التسلح حالة مرضية أخذت بخناق العالم في الوقت الراهن، وكلما كان السلاح أفتك يكون سرور الرأسماليين به أكثر، لأنه أكثر إبادة لمن يتصورون من الأعداء وأكثر دراً للأرباح؟

بينما نلاحظ النظام الإسلامي، فإنه لا يضمن فقط سلامة الإنسان الفرد والمجتمع والأمة، بل إنه يحفّ بالاحترام والأمن والعطاء على غير المسلمين، بل حتى الكفار والقتلة.

فقد ورد في الحديث أن رجلاً سب مجوسياً بحضرة الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، فزجره الإمام (عليه السلام) ونهاه فقال له الرجل: إنه تزوج بأمه.. فقال عليه السلام: (أما علمت أن ذلك عندهم النكاح)(1).

ص: 76


1- وسائل الشيعة: ج17، ص596، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

وفي حديث آخر: أن الإمام الصادق قال لبعض أصحابه ما فعل غريمك..؟ قال: ذاك ابن الفاعلة..! فنظر إليه أبو عبد الله عليه الصلاة والسلام نظراً شديداً، قال: فقلت: جعلت فداك إنه مجوسي نكح أخته..! قال عليه السلام: أوليس ذلك في دينهم نكاحاً)؟ (10).

وفي وصايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه السلام لما ضربه ابن ملجم قال (عليه السلام): (وأطعموه وأحسنوا أساره...) (11).

ثم هنالك ألوان في (أنا) الضيقة في الاجتماع.. مثلاً؛ (أنا العالم)، (أنا المهندس)، (أنا العراقي)، (أنا التاجر)، (أنا الشرطي)، (أنا الموظف)، وغيرها، فإن كل ذلك سبباً للتعارف كان سليماً، ولذا قال سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13). أما إذا كان سبباً للامتياز والطبقية كان خاطئاً.

ولا يظن أحداً إن (أنا..) مسألة بسيطة، فإن الإنسان ربما يخاطر حتى بحريته وأمواله وأهله بل وحياته في سبيل إبراز (أنانيته)، فإذا كان (أنا) صحيحاً كان معناه صحة الأمور كلها، وإلا كان معناه الكبرياء والعدوان.

وهذا لا ينطبق على (أنا المسلم)، لأن الإسلام، يُعد هوية الصحة البشرية، فهو مثل (أنا البشر)، مضافاً إليه البرمجة السليمة، فالبشر اليوم يفتقدون للبرمجة والمنهج المتكامل، ثم إنهم عبارة عن هذه الأفراد المتناثرة التي تجمعها جامعة تسمى بالبشر، وهم بين شقي و سعيد، وخيّر و شرير، و مستقيم و منحرف، وعالم و جاهل.. فإذا أردنا تحويل البشر إلى البشر الصحيح المستقيم المحب للخير والمحترم للإنسان، صار لونه (الإسلام). قال سبحانه: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138).

ص: 77

ثم إن هناك ثلاثة أسئلة تعطي نتائج مختلفة حسب الأجوبة المختلفة:

السؤال الأول: ما هو الإنسان؟

السؤال الثاني: من هو الإنسان؟

السؤال الثالث: في أي جهة يسير الإنسان؟

الجواب الأول:

قد يقال: (الإنسان جسم فقط)، وقد يقال: (الإنسان جسم و روح).

ولا نقصد ب(الروح)، الروح التي في الحي مقابل الميت، لأن كل البشر يقرّون بها، وإنما المراد ب(الروح)، الروح المنفوخة في الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان مركب من ثلاثة أشياء:

1 - جسم سفلي.

2 - و روح علوية.

3 - ونفس بين ذلك قد تميل إلى فوق وقد تميل إلى تحت.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم هذه الأمور الثلاثة.

الأول: الجسم، فهو مخلوق من: (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر: 26 و28 و33). ومن: (صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن: 14).

الثاني: الروح، فإن الله تعالى يقرنها بالتعظيم فيقول: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر: 29).

الثالث: من جهة النفس، فإن الله سبحانه وتعالى يجعلها بين الأمرين: الجسم الثقيل الأرضي، والروح الخفيفة السماوية، فيقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9 - 10).

ويقول: (وهديناه النجدين) (البلد: 90). ويقول: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات: 34 - 41).

ص: 78

وعلى هذا، فاللازم أن يعرف الإنسان أنه جسم و روح، ولكل واحد منهما مقوماته ومتطلباته وحاجاته.

الجواب الثاني: تحديد الخصوصيات

كلما كان تفكير الإنسان مطابقاً لواقعه، كان في خط الصواب، وكلما كان تفكيره أقرب إلى لونه الواقعي كان أقرب إلى الصواب.

فخريج الجامعة إذا فكر بأنه ليس بعالم، فإنه يكون بعيداً عن الواقع، أما إذا فكر بأنه خريج ثانوية فقط، فإنه يكون أقرب إلى الواقع.

وليس التفكير بالخصوصيات والكيفيات مجرد تفكير، وإنما له آثاره، مثلاً: إذا تصور الجاهل نفسه عالماً قديراً فعرّض نفسه للامتحان سقط وسبب له الفشل والمهانة، وكذلك إذا فكر الضعيف الجبان بأنه قوي وشجاع ثم عرض نفسه لمواقع الهلكة سقط وأودى بحياته.

فليس الجواب عن السؤال الأول أو الثاني مجرد أمر فكري وجواب علمي، وإنما يؤثران في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

الجواب الثالث: تبيّن وجهة السير

من يقول: ثم يفكر؛ هل أن هذه الفرضية مطابقة للعقل والمنطق والواقع أم لا؟ أما إلباس الجهة التي يسير الإنسان فيها، بالعقل والمنطق الادعائيين فليس بمنتج، وقد قال سبحانه: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 53).

ومن لا يراعي المنطق والعقل والواقع في قرارة نفسه، وإنما يلاحظها بالإدعاء فقط يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) (فاطر: 8).

وإذا رأي الإنسان عمله السيء حسناً اعتباطاً وادعاءً، ينتهي به الأمر إلى الفشل والهلاك، ولذا قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) (غافر: 37).

ص: 79

وكانت نتيجة هذا العمل السيئ ما يقوله الله تعالى في آية أخرى: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) (نوح: 25).

وإنه يوم القيامة: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (هود: 98).

وهكذا أفنى فرعون نفسه، وأفنى أهله وبقوا لعنة للتاريخ منذ أكثر من أربعين قرناً، ثم إن آخرتهم على ذلك المنوال السيئ.

وعليه فاللازم على الإنسان أن يلاحظ (شخصه) ويلاحظ هويته (من هو)، ويلاحظ اتجاهه (جهة سيره)، حتى يأمن الهلاك والفشل، فإذا كان أحد هذه الأمور غير صحيح فالإنسان غير مستقيم، والاجتماع الذي يتكون من هكذا لبنات إنسانية، يكون اجتماعاً غير مستقيم أيضاً.

ثمة أحاديث شريفة عن المعصومين عليهم السلام، في النهي عن التعصب لغير الحق.

عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)(1).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)(2).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار)(3).

وعن حبيب بن ثابت، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: (لم يدخل

ص: 80


1- وسائل الشيعة: ج11، ص269، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
2- نفس المصدر: ص296.
3- نفس المصدر: ص297.

الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث السلا(1) الذي ألقي على النبي (صلّى الله عليه وآله)(2).

وعن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب وقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف: 12).

وعن علي بن اسباط رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل)(3).

وعن الزهري قال: سُئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن العصبية التي يأثم عليها صاحبها فقال: (أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)(4).

ص: 81


1- السلا: الجلدة الرقيقة التي يکون فيها الولد من المواشي، وقصة السلا مذکورة في باب مولد النبي صلی الله عليه وآله وسلم في الکافي: ج1، ص449.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص297.
3- نفس المصدر: ص297.
4- نفس المصدر: ص298.

ص: 82

الفصل الثاني: المجتمع وشروط النجاح

اشارة

للإنسان مشتركات مع الجماد ومع النبات ومع الحيوان، كما له سمة يختصّ بها هو كإنسان. فهو يشترك مع الجماد في الطول والعرض والعمق. ومع النبات في الحاجة إلى الغذاء والهواء والنور وغيرها. ومع الحيوان في الحس والحركة والحاجة إلى الأكل والشرب والوقاية من الحرّ والبرد وغيرها.

أما مختصاته بما هو إنسان فإنه وحده بحاجة إلى ما يرتبط بالروح الإنسانية من (الفرضية) التي ذكرناها في الفصل السابق. فاذا كان (الاجتماع) و(الهوية) و(تحكيم الخلّاقية) و(درك الحقائق)، وغيرها، ،لا تعط الإنسان حاجاته الروحية والجسدية، سيصاب بالمرض، وكان الاجتماع المكوّن من هذه اللبنات المريضة، اجتماعاً منحرفاً.

أما السبيل الى تحقيق الحالة الصحية في حياة الإنسان - فرداً أو اجتماعاً - فهو أن يُعطى له كل حاجاته الجسمية والروحية. وعملية العطاء هذه، سواءً أكانت صحيحة أم سقيمة منوطة بأمرين:

الأول: النظام السائد وهو ما يسمى بالدين أو الطريقة أو الفرضية أو غير ذلك.

الثاني: المؤسسة الاجتماعية التي تُصاغ في الحالتين الصحيحة أو الخاطئة.

فإذا تمت صياغة المؤسسة الاجتماعية بشكل صحيح، وكانت (الفرضية) التي ينتهجها الإنسان في حياته صحيحة، كان الفرد صحيحاً ايضاً، وكان الاجتماع -

ص: 83

المُصاغ من اللبنات الفردية الإنسانية الصحيحة - صحيحاً أيضاً، وإلا كان الفرد والاجتماع منحرفين ومريضين.

مثلاً إذا كانت هنالك آلهة متعددة، كما قال الكفار عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5).

فمن الطبيعي أن يقع بين عبّاد هذه الآلهة التحارب والتضارب، لأن هذا يقول: إلهي أفضل، وذلك يقول: إلهي أفضل..!

وكذلك إذا لم يكن يؤمن الإنسان بالله واليوم الآخر، ولم ير رقيباً على نفسه وعمله فإنه يكون منحرفاً تلقائياً، فلا يجد راداعاً أمامه من السرقة أو القتل أو انواع التجاوزات على حقوق الآخرين.

فالفرضية الفكرية المنحرفة تؤدي الى الانحراف، بينما الفرضية الفكرية المستقيمة تأتي بالاستقامة.

إذن؛ كلاً من (الفرضية الفكرية) و(المؤسسة الاجتماعية) يؤثر أحدهما في الآخر.. فالفرضية الفكرية تؤثر في المؤسسة الاجتماعية، لأن الإنسان يبني اجتماعه حسب فكره، كما أن المؤسسة الاجتماعية تؤثر في الفرضية الفكرية - مستقيمة كانت أو منحرفة - فمن يولد في بلاد المسيحيين يكون مسيحياً على الأغلب، ومن يولد في بلاد المسلمين يكون مسلماً على الأغلب.. ولذا ورد في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)(1).

ومعنى الفطرة، طبيعة الإنسان، حيث يفكر أن للكون إلهاً وخالقاً، وأن هنالك يوماً يعاقب فيه الإنسان على سيئاته ويثاب فيه على حسناته، وأنه لا بد أن يكون لخالق الكون سفراء.. هذه هي الفطرة على تفصيل مذكور في (علم الكلام).

ص: 84


1- وسائل الشيعة: ج11، ص296.

البحث عن المنهج الصحيح

إذا كانت المؤسسة الاجتماعية على الطريق الصحيح، ستعطي للإنسان الحريات المعقولة، كحرية الزراعة والتجارة والصناعة والسفر والإقامة وتحصيل العلم والزواج واتخاذ المسكن والاستفادة من المباحات، ومثل هذه المؤسسة توجب صحة الأفراد جسمياً وتوفر العمل، حتى يتجنبوا البطالة، كما أنها توفر للإنسان المسكن والملبس والمأكل والمشرب والزوج أو الزوجة وغير ذلك.

أما إذا كانت المؤسسة الاجتماعية منحرفة، فإنها لا توفر الحريات للإنسان، أو ربما توفر له حريات، لكنها في طريق الانحراف، مثل حرية الزنا وحرية الربا وحرية الاحتكار، وفي كلا الحالتين، يسبب ذلك مرض الاجتماع، ومرض الاجتماع يسري إلى الفرد، وقد ثبت في (علم الاجتماع) أن كل واحد من الفرد والاجتماع، يؤثر في الآخر، فمثلاً: الفرد الصحيح في مؤسسة تعليمية يسبب رقيّ الطلاب، كذلك العكس، فإذا كان الاجتماع فاسداً فإنه يؤثر في أفراده تأثيراً سيئاً.

فمن هاتين الناحيتين: (الفرضية الذهنية)، و(النظام الحاكم على المؤسسات الاجتماعية)، تظهر صحة الاجتماع من فساده، فإذا كانت الروح السائدة في المجتمع، مفعمة بالحب للآخرين والتعاون معهم، وساد في الاجتماع القانون الصحيح، عاش الاجتماع بخير جسماً وروحاً، وأخذ في التقدم وإلا كان العكس.

وهذا تحديداً ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وما جاء به نبينا الخاتم المصطفى صلى الله عليه وآله، فقد أعطوا النظام الصحيح للجسم والروح، و للروح فلأنهم يحكّمون العقل والاستدلال والبحث الحر، لا التقليد والعادات الباطلة كما كان يقول المشركون والمنحرفون؛ (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: 22).

ص: 85

ولذا كان القانون في الإسلام حكيم، فهو قانون العقل والبحث الحر والتفكر والتدبر.

وكذلك بالنسبة إلى قانون المؤسسة الاجتماعية، فإنه مبني في عرف الأنبياء (عليهم السلام) على الحب. (فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك)(1). هذا الحب ناشئاً عن حب الإنسان بما أنه إنسان، لا حب الإنسان للانتفاع والكسب من خلاله، كما أنه مبني على الكفاءات. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). وعلى احترام الآخرين وعدم إهانتهم، حتى إذا كان الآخر مجرماً، فإن المجرم يعاقب بقدر جريمته - إذا لم يعف عنه - ولا يهان، وفي الحديث أن أحد الصحابة قال عن شخص مجرم (إنه عقص كما يعقص الكلب) فنهره النبي (صلّى الله عليه وآله).

وتدعو النبوات إلى توسعة حدود العلم كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)(2). وقال: (اطلبوا العلم ولو بالصين)(3).

وتوسعة العقل بإنماء الملكات الصالحة، فإن الأرضية الموجودة في النفس قابلة للنمو، كالأرض القابلة لزرع النبات فيها..

فإذا سادت في المجتمع هذه القوانين العقلية والاجتماعية، تقدم الإنسان إلى الأمام وكان المجتمع سليماً، ولذا ورد في القرآن الحكيم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201).

أما ما تقوله المسيحية في الوقت الحاضر: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فإنه قانون منحرف إذ (ما لقيصر) و(ما لله) كله لله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى أنه يولد التناقض، فان قيصر هذا؛ هو الذي أراد قتل عيسى، لولا أن رفعه الله سبحانه وتعالى، فكيف يكون المائز بين (ما لقيصر) و(ما لله) ؟ إلا أن يخضع (ما لله) ل(ما لقيصر)!! كما نشاهد ذلك بالفعل في العالم الغربي، حيث إن الكنائس

ص: 86


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص45، دارالمعرفة - بيروت.
2- وسائل الشيعة: ج18، ص13، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
3- نفس المصدر ص 14.

المسيحية خاضعة للحكومات في قوانينها، فإن الحكومات هي التي تضع القوانين كافة، وعلى الكنائس اتباعها، إلا في بعض القوانين الشاذة النادرة مما لا يمكن أن يسمى (ما لله لله)، ولذا فإن هذا القانون غير صحيح ونسبته إلى السيد المسيح عليه السلام غير تامة.

ومثل هذا الكلام ما رواه بعض المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث زعموا أنه قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ولكن: كيف يكون الناس أعلم بأمور دنياهم من الرسول المرتبط بالوحي؟

وكيف كان، فالصحة في الفرد وفي الاجتماع إنما تكون بسلامة (الفرضية الذهنية) من ناحية، وسلامة (النظام المسيطر على المؤسسة الاجتماعية) من ناحية أخرى.

وهنا ثمة سؤال: هل نحن بحاجة الى (فرضية ذهنية) لتسيير (المؤسسة الاجتماعية)؟ وهل وجود هذه المؤسسة يكفي لرسم الطريق في حياة الانسان؟

بدايةً؛ نقول: ليس مرادنا بالمؤسسة الاجتماعية، (علم الاجتماع) في مقابل علم الاقتصاد وعلم السياسة وغيرها، إنما الاجتماع بالمعنى العام، الشامل للاقتصاد والسياسة والتربية والثقافة وغيرها من الأمور التي تحكم الاجتماع.

ومن ذلك ظهر خطأ تصور أن (المؤسسة الاجتماعية بالمعنى الواسع هي الكل في الكل، ولا مجال بعد ذلك للفرضية الذهنية إطلاقاً)، ومن أصحاب هذه النظرية (فرويد)، الذي ضيّق محور دائرة المؤسسة الاجتماعية في الجنس فقط، بدعوى أنه هو الذي يسير كل شيء من الدين والأخلاق والقانون وغيرها، وهو كلامٌ خال من الدليل، وكذا قول (ماركس) بمثل ذلك ، مع الفارق أنه يرى حركة المجتمع خاضعة للعامل الاقتصادي تماماً، بينما (فرويد) يبني الاقتصاد على الجنس لا الجنس على الاقتصاد .

وثمة قول ثالث: بأن المسيّر للاجتماع بكل خصوصياته؛ (حب الرئاسة).

ص: 87

وقول رابع: بأن المسيّر هو (الاقتصاد الخاص)، لا الاقتصاد بصورة مطلقة، فالذين يعيشون على الزراعة تسيّر الزراعة حياتهم في كل شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والعسكرية وغيرها، كما في (فرعون مصر)، حيث إن الزراعة كانت هي الأصل، وبنيت على الزراعة ألوهية فرعون وأنظمتهم الاجتماعية والسياسية.

والذين يعيشون على الماء يسيّر الماء حياتهم بكل شؤونها، كما في (سد مأرب)، ولذا لما انهدم السد، تفرقوا شيعاً وانهدم القانون والدين وكل شيء عندهم.. إلى غير ذلك من الأقوال التي يجدها القارئ في بعض الكتب.

هذه الأقوال لا دليل عليها، بل هنالك الدليل على خلافها، فالذي يضمن سلامة الاجتماع، هي (الفرضية) و(المؤسسة الاجتماعية) بمعناها الوسيع، وعلى هذا فاللازم أن نجد أصول الأمراض العالمية التي ابتلي العالم بها في هذين الأمرين: (الفرضية العقلية) و(المؤسسة الاجتماعية).

وحيث انحرف كلا الأمرين في العالم، - انحراف الفرضية في أكثر العالم، وانحراف المؤسسة الاجتماعية في كل العالم- نجد أن العالم ابتلى بأمراض لا قبل له بها من الحروب والثورات والأمراض والفقر والجهل والفوضى والعداء والشحناء.

أما كيف نتحقق من صحة (الفرضية) أو بطلانها، وصحة (النظام الحاكم على المؤسسة الاجتماعية) وبطلانه؟ فإن ذلك لا يكون إلا بالاستدلال المجرد عن الأهواء، وبالبحث الحر والنزيه، ولذا نجد القرآن الحكيم يبني كل أموره، سواء في (الفرضيات الذهنية) أو في (الأمور الاجتماعية - بالمعنى الوسيع -) على الاستدلال.

مثال، قوله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

ص: 88

(البقرة: 258). ف(إبراهيم) (عليه السلام) - وهو من الأنبياء العظام - بنى استدلاله مع (نمرود) - الذي كان يدعي الألوهية لنفسه - على الاستدلال والاحتجاج، وعندئذ، بهت الذي كفر.

ويقول القران الحكيم بالنسبة إلى ادّعاء المسيحيين بألوهية عيسى المسيح عليه السلام، أو بنوّته لله سبحانه، كونه ولد من غير أب: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (آل عمران: 59 - 61)..

فلو كان عيسى إلهاً أو ابن إله، لأنه ولد من غير أب، لكان آدم أجدر أن يكون إلهاً أو ابن إله، لأنه خلق من غير أب ولا أم، وحيث انقطع المسيحيون في الاستدلال ولجأوا إلى العناد، طرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، عليهم مسألة (المباهلة)، والكل يعرف بأن مسألة المباهلة انتهت بانسحاب المسيحيين.. فهم قد سقطوا في كلتا المرحلتين: مرحلة (الاحتجاج) ومرحلة (المباهلة)، ولذا وافقوا على أن يقدموا لرسول الله صلّى الله عليه وآله الجزية.

وهكذا نجد القرآن الحكيم في كل (الفرضيات العقلية) - أصول الدين- يأتي بالاحتجاج العقلي، ويقول في قبال المشركين الذين كانوا يقولون بتعدد الآلهة: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22).

ويقول أيضاً: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91).

وبالنسبة إلى عصمة الإمام يقول القرآن الكريم: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).

في القصة المعروفة التي يرويها القرآن الكريم عن نبي الله ابراهيم عليه السلام.

بل إن القرآن الحكيم يأتي بالاستدلال، حتى في الأمور الأخلاقية وفروع الدين، ، مثلاً: يقول بالنسبة إلى بعض ما كان اليهود يحرّمونه وينسبون تحريمه

ص: 89

إلى الأنبياء يقول تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون. قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (آل عمران 93 - 95).

فالتحريم لم يكن موجوداً في التوراة، بمعنى أن الله أباح لبني اسرائيل ما كان حلالاً في شريعة إبراهيم، والحلال باق على حليته حتى يأتي الوحي بحرمته، و لذا كانت نسبة التحريم إلى الله سبحانه وتعالى، افتراء بحت، وفي آية أخرى: (ءالله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس: 59).

من هنا؛ فان تصحيح الفرضيات الباطلة، كتصحيح الاجتماعات السقيمة، إنما يكون بالبحث الحرّ الخالي عن الهوى والأغراض والشهوات، وعند ذلك يصل الإنسان بعقله السليم إلى (الواقعيات) في الفرضيات، وفي الأنظمة التي يجب أن تحكم المؤسسة الاجتماعية، وحينئذٍ يخرج العالم من المرض إلى الصحة.

صياغة المنهج

ويبرر بعض علماء الغرب المشاكل الموجودة في المجتمعات إلى الاختلاف الطبيعي بين الإنسان وبين الاجتماع، فمثلاً (فرويد) يقول: طبيعة الإنسان تقتضي الميول الجنسية. و(ريكارد) يقول: طبيعة الإنسان تقتضي الاقتصاد الرأسمالي. و(دارون) يقول: طبيعة الإنسان من جهة البيئة توجب تنازع البقاء. و(مكيافيلي) يقول: إن طبيعة السلطة تولد المشكلة والتدافع، وكل هذه الطبايع الموجودة في الأفراد، تصادم طبيعة المجتمع مما يسبب المآسي والمشكلات ولهذا لا يمكن رفعها.

بينما نرى أن الواقع خلاف ذلك كله.. فإن الإنسان بفطرته خلق للتعارف لا للتحارب، ولذا قال سبحانه: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ

ص: 90

الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). وقال في آية أخرى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).

فالفطرة هي التي تقتضي التعارف لا التناكر، والتعاون لا التحارب.

ثم لننظر هل إن زواج الرجل من إمرأة يودّها ويستريح إلى إلفتها، أو (يسكن اليها) كما يعبر القرآن الكريم، واتخاذه داراً مناسبة للسكنى، ينافي الحالة الاجتماعية؟

وهل ان اختيار الانسان عمل محترم يدرّ عليه معاشه، و حصوله على حرية معقولة توجب نموه في مختلف الأبعاد، وفرصة للتعليم وارتقاء مدارج العلم والرقي، وضمان أمنه وسلامته ومستقبله، ينافي الحالة الفردية أو الحالة الاجتماعية؟

إن الجواب بالنفي قطعاً .

وعليه فالذي سبب مشكلة الإنسان هو انحراف (الفكر) و(النظام)، الذي وضعه العلماء المغرضون والساسة المنحرفون إرضاءً لشهواتهم الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية.

وإذاً ؛ فالمشكلة ليست وليدة التدافع بين الفرد والاجتماع، بل هي وليدة التفكير والنظام الفاسد، ولذا نشاهد أنه كلما كان الفكر والنظام أقرب إلى الإستقامة في مجتمع ما، كان المجتمع أقرب إلى السلامة، أما إذا كان الفكر والنظام سليماً مطلقاً كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد علي عليه الصلاة والسلام، فنرى أنه لم تكن هناك مشكلة - سوى الحروب التي كان يشعلها المنحرفون من الكفار، ضد النبي في صدر الاسلام، أو المنحرفون من المسلمين، في عهد علي عليه الصلاة والسلام -.

نعم؛ لا شك أن مشاكل الأمم تختلف قلّة وكثرة.. فمشاكل البلاد التي لا تعيش تحت الاستعمار ولا تحت الأنظمة الدكتاتورية البحتة، أقل من مشاكل

ص: 91

البلاد التي يسيطر عليها المستعمرون، ولذا نشاهد أن مشاكل الغرب أقل من مشاكل العالم الثالث والعالم الشيوعي، حيث إن هذين العالمين تغمرهما المشاكل التي لا قبل للبشرية بها.

ثم إنه يمكن أن يوجّه إلى القائلين بالتناقض بين الفرد والاجتماع السؤال التالي: هل الاجتماع في مصلحة الفرد، أم في ضرره؟

لا شك أن الاجتماع في مصلحة الفرد، ولكن نظرية التناقض تعطي عكس ذلك، نعم؛ لا ريب في أن نشاط الفرد يُحدّ في الاجتماع بقدر استفادته منه، وهذا غير أن يكون الاجتماع ضاراً للفرد لحصول التناقض بين الفرد والاجتماع.

لذا؛ لا إطلاق في أحد الجانبين: سواء جانب الفرد إلى الاجتماع، أو جانب الاجتماع إلى الفرد.

وبناءً على ذلك، يجدر بنا الأخذ بنظر الاعتبار (الأسلوب الاجتماعي)، وهو عبارة عن حالة في الاجتماع تتجسّد في أفراده، وتختلف في أفراد اجتماع آخر. هذا الأسلوب يكون وليد خصائص معينة، كما أن ذلك الأسلوب يوجب آثاراً خاصة. مثلاً: العقيدة المعينة، والثقافة الخاصة، والأخلاق الخاصة، والعوامل السياسية والاقتصادية، من زراعة وصناعة وغيرها، كل هذه الأمور المتفاعل بعضها في بعض، تولد أسلوباً خاصاً في الاجتماع، وهذا الأسلوب يكون غالباً ذا ثبات ودوام نسبي، وإن كان يطرأ عليه التغيير خلال مُدد طويلة بسبب تغير مبناه.

وكل فرد في المجتمع إنما يعمل في نطاق ذلك الأسلوب في كل شؤونه، تاركاً الأسلوب الذي يريده لنفسه في كثير من الأحيان، وإلا كان (شاذاً)، وإن كان (الشذوذ) قد يكون صحيحاً بنفسه، لأن الاجتماع اجتماع منحرف، إذ الشذوذ معناه الانفراد بأعمال خاصة، والانفراد الذي يسمى بالشذوذ متعاكس مع الأسلوب العام للاجتماع، وإن كان الأسلوب العام للاجتماع صحيحاً كان الشذوذ غير صحيح، إذا لم يكن منحرفاً في جهةٍ أخرى.

ص: 92

ويكون الأسلوب دائماً مزيجاً من تفاعل متطلبات الفطرة والعقيدة والحاجة والاقتصاد وما أشبه، فمثلاً: فطرة الحرية والعقيدة بوحدة الإله، والحاجة إلى الكساء والزواج والمسكن والاقتصاد الزراعي أو التجاري أو الصناعي.. كلها أمور تتفاعل مع بعض، ثم تعطي أسلوباً خاصاً للاجتماع، وعلى وفق ذلك التفاعل توضع القوانين والأعراف والعادات، حتى أن القوانين السماوية إنما وضعت وفق ذلك التفاعل الذي يكون بين الفطرة والعقيدة والحاجة والاقتصاد وما إلى ذلك، فلا فرق في وضع القوانين من هذه الجهة بين أن يكون الواضع هو الله سبحانه وتعالى، أو يكون هو الإنسان - مع اليقين أن قانون الله كامل، وقانون الإنسان ناقص - ومن غير فرق في وضع الإنسان بين أن يكون الواضع فرداً دكتاتوراً، أو جماعة من النخبة، أو الشعب بكامله.

لكن إذا تغيرت العقيدة أو الاقتصاد - مثلاً - أخذ الأسلوب الاجتماعي في الانهيار ليبني أسلوباً آخر من جديد، وفق تفاعل جديد بين العوامل المؤثرة للاجتماع.

فإذا انحرفت العقيدة والإيمان بالله تعالى، إلى العقيدة بالطبيعة، أو تحول الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، أو غير ذلك.. اختلف الأسلوب الاجتماعي تبعاً لذلك. فمثلاً: روسيا القيصرية في أيام عقيدتها بالمسيحية كان لها أسلوب خاص من الحياة، وعندما تحولت عقيدتها إلى العقيدة الشيوعية والمادية، اصبح لها أسلوباً آخر من الحياة، كذلك الغرب، لما كان الاقتصاد الزراعي هو السائد، كانت الحياة مطبوعة بأسلوب خاص وليد من مزيج العقيدة بالكنيسة والحاجة إلى الزراعة، وعندما تحولت متطلبات الحياة في تلك البلاد من الزراعة إلى الصناعة، تحول الأسلوب الخاص، وإن بقيت العقيدة المسيحية سائدة.

والسؤال هنا: كيف ينتقل (الأسلوب الاجتماعي) من جيل لآخر..؟

هذه المهمة يقوم بها الآباء عن طريق (النمط السلوكي)، الذي يراه الأبناء من

ص: 93

آبائهم، فإن (أنماط السلوك) تصوغ ذهنية وأعمال الأبناء وفق النمط الذي يسلكه الآباء، كما يصاغ عن طريق التعليم الشفهي ضمن النصائح والقصص والصداقات والعداوات، طرق معالجة الأمور.. إلى غير ذلك من الأمور التي تسبب نقل الأسلوب الاجتماعي من قبل الآباء إلى الأبناء.

النموذج الأول؛ محورية المادة

مثالٌ على ذلك؛ الغرب يرى (المادة)، هي المحور، فكلما يجلب المادة فهو أمر قانوني، وإن كان عبر الربا، والاحتكار، وفتح المواخير، وتجارة المخدرات ، وصناعة السلاح والمتفجرات، واستعمار، والإبادة الجماعية للشعوب، وغير ذلك.. بينما الإسلام يرى أن المحور هو (الإنسان)، فكل ما يسعده، هو القانون اللازم الاتباع، ولذا فان كل تلك الأمور (القانونية) في الغرب المادي، خلاف (القانون) في المنطق الإسلامي.

النموذج الثاني؛ فصل الدين عن الدنيا

مثال آخر: تقول المسيحية الحالية: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).. فكل أمر مرتبط بالعبادة والكنيسة مرتبط بالله، من صلاة ودعاء، وقراءة الإنجيل وما أشبه. أما الأمور الدنيوية فكلها يجب أن تكون برضى (قيصر) وحسب قوانينه، بينما الإسلام يرى ما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (الأنعام: 57) و (يوسف: 67). (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (يوسف: 40).

فالحكم يجب أن يكون صادراً عن الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد من الأمة أو للدكتاتور أو للأشراف أو للشعب حق وضع القوانين، بل يلزم أن يؤطر عمل الإنسان برضى الله سبحانه وتعالى وبقوانينه، لا برضى قيصر وقوانينه، ومن الواضح الفرق الشاسع بين القوانين التي يضعها قيصر، سواء قيصر الفردي أو الاشرافي أو الشعبي، والقوانين التي وضعت من قبل الله سبحانه وتعالى.

النموذج الثالث؛ دكتاتورية الأنظمة

في البلاد التي تتبنى النظرية الماركسية، نرى تجسيد الديكتاتورية في الحكم،

ص: 94

وهي أن تكون السلطة ورأس المال بيد شخص واحد، أو جماعة واحدة، كانت تتمثل في (الحزب الشيوعي)، - وإنما قلنا بيد انسان واحد او جماعة واحدة، لان من طبيعة الديكتاتور جمع القدرات الى حدّ الانفجار، كما حصل لكثير من رموز الديكتاتوريات في العالم.

وعليه: فكل قانون يوضع في تلك البلاد، إنما يصدر عن هذا المنطلق، أي منطلق الدكتاتور سواء كان فرداً أو حزباً، بينما الإسلام يرى لزوم ملاحظة حرية الإنسان في كل قانون يوضع طبقاً لقوله سبحانه: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).

ولقول الامام علي عليه الصلاة والسلام: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(1).

وطبقاً لقانون: (الناس مسلطون على أموالهم)(2)، فأي قانون يوضع ضد هذه الحرية فهو باطل في نظر الإسلام .

وحيث إن من المعلوم أن: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)(3)، هو المعيار في كل الأمور، فليس مرادنا بوضع القانون في الإسلام - الذي يجب أن يكون مطابقاً للحرية - وضع القوانين الأصولية، وإنما تطبيق القوانين الكلية في الإسلام على الصغريات في الواقع الخارجي، فإن التطبيق بالنسبة إلى الصغريات المنافية للحرية غير جائز، بينما التطبيق على الصغريات الملائمة للحرية جائز في الشريعة الإسلامية.

مثلاً: لو كانت المصلحة الاجتماعية في (تخفيض أسعار البضاعة)، وأمكن ذلك من خلال نظام فر ض الحاكم للتسعيرة، مما يسلب التاجر حريته، ومن خلال استيراد الحكومة البضاعة وبيعها بسعر أقل، مما يفتح أبواب التنافس

ص: 95


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص51، دارالمعرفة - بيروت.
2- بحار الأنوار: ج2، ص272، دارالمعارف - بيروت.
3- المصدر السابق: ج26، ص35.

الحر، ويؤدي الى خفض التاجر أسعار بضاعته، لم يجز للحاكم سلوك الطريق الأول، لأن ذلك خلاف قانون: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، وإنما الواجب عليه سلوك الطريق الثاني، حيث إنه لا يوجب سلب التاجر حريته في التسعير.

وفي مثالٍ ثانٍ: إذا اضطر الحاكم إلى جعل قانون ينافي حرية الناس المالية أو البدنية، وكانت هناك صغريان: صغرى تعطي ضغطاً أقل للمال أو للنفس، وصغرى تعطي ضغطاً أكثر فاللازم وضع القانون الذي يعطي الضغط الأقل لأن: (الضرورات تقدر بقدرها)، فإن قانوناً يزيد في سلب الناس حرياتهم لا يوضع، في وقت يمكن فيه الأقل من ذلك.. وهكذا في سائر القوانين التي توضع بالنسبة إلى تطبيق الكبريات على الصغريات، ولذا ذكرنا في كتبنا (السياسة) أن البرلمان الذي يسمى في الغرب السلطة التشريعية، لا يمتلك عندنا سلطة (التشريع) بل له قدرة (التطبيق والتأطير)، أي أن للبرلمان الحق في تطبيق القوانين الإسلامية على الصغريات الخارجية مع ملاحظة (الأسهل فالأسهل) و(الأكثر حرية فالأكثر حرية) و(الأهم فالمهم) وهكذا.. بينما في الغرب ونحوه يكون للبرلمان الحق في تشريع القوانين، لأنهم يقولون: (دع ما لقيصر لقيصر)، فالقوانين الأرضية كلها تابعة لقيصر ولا تتبع السماء.

أما في النظم الشيوعية، فالأمر أفضع.. حيث إنهم لا يعترفون بالإله إطلاقاً فليس عندهم بند (دع ما لله لله)، وإنما كل منطقهم يتلخّص في أنك يجب أن تكون تابعاً لقيصر في كل ما يقول ويعمل ويضع..!

فهناك - إذاً - فرق ظاهر بين هذه الأنظمة الثلاثة: (إن القانون كله لله) و (إن القانون بعضه لله وبعضه للناس) و (إن القانون كله للدكتاتور).

ومن الواضح: إن هذه الأنماط الفكرية والعملية تؤثر في حياة الناس وأسلوب عيشهم، فالاقتصاد في منطق الإسلام هو في خدمة الإنسان لأن (الإنسان) هو المحور، بينما صار الإنسان في النظام الغربي والشرقي في خدمة الاقتصاد.

ص: 96

كما أن العلم والعلماء في المنطق الإسلامي في خدمة الإنسان، بينما هم في الشرق والغرب في خدمة الاقتصاد، الذي أصبحت أزمته بيد الرأسماليين، سواء من التجار كما في الغرب، أو من الحكام كما في الشرق. ولذا حرم الإسلام كل اقتصاد وكل علم يضر الإنسان، بينما أباحهما الغرب والشرق، حيث يدرّان المال الوفير للرأسماليين الغربيين والشرقيين، مثلاً: الإسلام، في ميدان العلم، يحرم السحر والشعوذة والغناء والقيافة والكهانة وكتب الضلال وما أشبه، كما أن الإسلام، في ميدان الاقتصاد، يحرم الربا والاحتكار وصنع المواد الضارة والأسلحة المدمرة وفق الأسلوب الغربي، بينما الغرب والشرق يبيحون كل ذلك، بل و يسنون من أجلها الأنظمة والقوانين التي تدعم كل هذه الأمور.

إذا كان (الإنسان) هو المحور، والعلم والعلماء والاقتصاد وسائر الأمور في خدمة هذا المحور، تكون نتيجة أعمال الإنسان الاقتصادية كافية لكل البشر، بحيث يعيش الكل في رفاه وسعادة واكتفاء ذاتي، لكن ذلك بحاجة إلى أمرين:

الأول: عدالة القانون

القانون العادل الذي يعطي نتيجة عمل كل إنسان، ويبيح له الإستفادة من خيرات الأرض، كما قرر ذلك الإسلام حيث قال سبحانه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39). وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: (من سبق إلى فهو أحق به يومه وليله)(1).

الثاني: نزاهة الحكام

أي أن يكون إجراء القانون بيد العدول من الأمة كما قرره الإسلام أيضاً، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: (اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي)(2).

ص: 97


1- وسائل الشيعة: ج3، ص 542، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
2- المصدر السابق: ج18، ص65.

وفي الأحاديث: لزوم أن يكون الحاكم، - أو الحكام في شورى المراجع- عدولاً، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (فأما من كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)(1).

بينما نشاهد في القوانين الأرضية - سواء في السابق أو في الحال - ظواهر معاكسة.. منها: إن القانون منحرف، حيث إن القانون لا يعطي نتيجة عمل كل إنسان له، ففي القانون الغربي تُعطى أكثر النتائج للرأسماليين من التجار ومن إليهم، وفي القانون الشرقي تعطى أكثر النتائج للحكام، بينما يعيش الناس في فقر مدقع وسوء تغذية وما إلى ذلك.

أما بالنسبة إلى الحكام، فحيث لا يشترط الديمقراطيون والاشتراكيون ، في الحاكم (العدالة)، ولا الخوف من الله سبحانه وتعالى، عندئذ يكون القانون ألعوبة بيد الحكام، حتى إذا افترضنا وجود شيء من العدالة، فإن الحكام لا يطبقون تلك العدالة الموجودة في القانون ولو بقدر ضئيل.

ففي السابق كانت القدرة المباشرة من الحكام تحول دون توزيع البضائع الاستهلاكية وسائر الحاجيات توزيعاً عادلاً، فبينما كان للحكام مئات المقاطعات وألوف الزوجات كان كثيراً من الناس يعيشون في جوع وفقر وعري، وليس لهم حتى زوجة واحدة.

أما في الوقت الحاضر فإن القدرة غير المباشرة، الموجودة بيد الحكام والمغلفة بستار (قانوني)، في ظل الأنظمة الحالية في العالم، تمارس خلف الكواليس، نفس العمل السابق وتخلق بين الطبقات فجوة سحيقة، بحيث يعيش حفنة من الناس في بحبوحة من العيش الرغيد، إلى حد التخمة في كل شيء، بينما يعيش أكثرية الناس في مستنقع الفقر والمرض والجهل والتخلف والحرمان، حتى من أوليات الحياة، مثل المأكل والمشرب والمسكن والمنكح والمركب والرفاه والتعليم والأمن والصحة وغير ذلك.

ص: 98


1- بحار الأنوار: ج2 ، ص88، دارالمعارف - بيروت.

إن الأمور الثلاثة: (محورية الإنسان أو المادة) و(استقامة القانون أو انحرافه) و(عدالة الحاكم أو جوره)، تترك أثرها البالغ - في نهاية المطاف - في إعطاء الحاجيات لكل البشر أو عدمه.

وقد وضع الإسلام القوانين الصحيحة الكفيلة بتوفير كل هذه الأمور، بينما انحرفت كل هذه الثلاثة في الغرب والشرق، مما أدى إلى إلحاق الضرر بالإنسان وشرّه، مع تفاوت أن الشرق أسوأ من الغرب، حيث إن بعض الحرية الموجودة في الغرب، وبعض القوانين، تسهل لعامة الشعب، الطريق للحصول على شيء من لقمة العيش، لكن هذه الفرصة غير موجودة في الشرق.

لقد أوجبت محورية المادة آثاراً سيئة في حياة الانسان، الى جانب عدم حصوله على لقمة العيش، منها:

أولاً: الاستعمار

وذلك لإرضاء الجشع الرأسمالي الذي عمل على فتح الأسواق في العالم، بهدف تحصيل المواد الأولية بأسعار زهيدة، ثم تحويلها الى سلع وبضائع تباع بأسعار باهضة، حتى أن بعض الإحصاءات تدل على أن الفرق بين المادة الا ولية البسيطة، وبين المادة المصنّعة، يصل أحياناً إلى أكثر من خمسمائة ضعف!

ثانياً: فقدان الحريات

يدّعي الغرب إنه يمثل العالم الحر، إلا أن الحرية عنده في الواقع، عبارة عن ثوب مهلهل على جسد الدكتاتورية، فإن القوانين هي التي تحدد شروط العمل وقدر الأجر وساعات العمل وما أشبه.. كل ذلك وفق مصالح وحسابات تلحق الضرر بالاجتماع، وملزمة لطالب فرصة العمل من العامل والفلاح والموظف وغيرهم، من ذوي الدخل المحدود، ولا مجال لهم للتخلص من هذه القوانين، وإن زعم هؤلاء - لبساطة في تفسيرهم للأمور- بأنهم أحرار، فانهم في الواقع ليسوا كذلك، بل حتى النقابات التي يشكلها العمال، هي الأخرى لا فائدة كبيرة منها، حيث إن القوانين التي يمتلك أزمتها الرأسماليون، على ما ذكرنا تفصيله في

ص: 99

كتاب (الفقه السياسة) تكون لصالح الرأسماليين على طول الخط، سواء الرأسماليون الحكوميون كما في الشرق أو الرأسماليون التجار كنا في الغرب.

ثالثاً: تحطيم القيم

إن محورية (المادة) تجعل كل شيء فداءً لها، بالإضافة إلى أن التنافس لجمع أكبر قدر من المادة، يؤدي الى ضرب أي عائق عن طريق سير المادة إلى الأمام، ومن الواضح فإن الدين والأخلاق والعائلة والفضيلة وغيرها، تشكل عوائق أمام التقدم العشوائي للمادة.

مثالٌ على ذلك؛ الدين والأخلاق والفضيلة، تحرّم قتل الناس وصنع السلاح، لأجل التجارة من غير ملاحظة الموازين الدينية والأخلاقية، كما تحرم إشاعة الفحشاء والمنكر وفتح دور القمار والرذيلة، وفسح المجال أمام تجارة المخدرات وتوزيعها، لكن تحكّم المادة بمقاليد الامور، يوجه ضربة قوية لكل تلك القيم والمفاهيم والاحكام.

كذلك الحال بالنسبة لمسألة ترويج الاباحية الجنسية والتحلل الخلقي، وهو ما تعارضه الأسرة والعائلة بشدة، لذا فمن أجل ان تسود هذه الحالة، لابد من حصول المواجهة بين الاباحية والرذيلة، على أعتاب حصون العائلة والأسرة الملتزمة بالقيم والاخلاق والفضيلة، بمعنى ان هذه الحصون تشكل أماناً من انهيار بعض العوائل أمام تلك الهجمات، وانزلاق بعض الشباب والشبابات في مهاوي الرذيلة والفساد.

أين المعيار..؟

... وحيث إنا نتوخى الاجتماع السليم، ونريد الابتعاد عن العالم المريض، وتبديله إلى عالم صحيح، فهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو معيار وميزان الاجتماع، حتى يقاس به الصحة والمرض؟

الجواب: إن مرض الاجتماع يكون، إما بمرض الفرضية، أو بالنقص في الجسم، أو بالنقص في حاجات الجسم.

ص: 100

أما مرض الفرضية فهو أن تكون الفرضية غير مطابقة للقواعد العقلية، مثلاً: القاعدة العقلية تقول: (لا يمكن أن يكون الجزء أعظم من الكل)، أو مساوياً له، و (لا يجتمع النقيضان)، (ولا يرتفعا)، و(ولا يجتمع الضدان)، (ولا يرتفع الضدان اللذان لا ثالث لهما)، (ولا يتسلسل الشيء إلى غير النهاية)، (ولا يكون معلولاً بلا علة)، و (ولا يدور موجودان دوراً مصرحاً)، (ولا دوراً مضمراً)، وغيرها من القواعد، فإذا رأينا الفرضية مخالفة لمثل هذه القواعد نعرف أن الفرضية سقيمة، ودليل سقمها، مرض الروح والفكر والذهن، وقد تقدم أن مرض الروح يسري إلى الجسد ومرض الجسد والروح يسريان إلى الاجتماع، لأن الاجتماع مكون من لبنات إنسانية.

ونقص الجسم، فهو بأن يكون الشخص فاقداً بعض الأعضاء أو القوى أو الحواس، أو لا يستطيع تحريك جسمه بشكل طبيعي. أما نقص الحاجات، فتتمثل في افتقاره الى المأكل، والمسكن والملبس والمركب والمنكح وغير ذلك.

فإذا كان الاجتماع أو الفرد يشتكي من إحدى هذه الأمراض، فإن المجتمع والفرد مريضان، ويجب علاجهما بإرجاعهما إلى الحالة الطبيعية المطابقة للعقل والمطابقة للمعتاد في الخلقة.

وبذلك يظهر، أنه لو نما جسم الإنسان ولم ينمُ عقله، أو بالعكس، أو لم ينم كل واحد منهما، فهو مريض، مثلاً: لو كان للإنسان البالغ، عقلية الطفل ذي السنة، أو كان للطفل عقلية الإنسان البالغ أربعين سنة مثلاً، فإن هذا يكون خارج المألوف، ويوجب انحرافاً في صحته.

أما بالنسبة إلى الأطفال الذين هم أنبياء أو أئمة حيث إنهم يتكلمون ويعقلون. كما قال عيسى عليه السلام، وهو في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 30 - 32). فهم وإن لم تنم أجسامهم بعد، وكان لهم عقل الإنسان الكامل، إلا أن كمال عقولهم لم يكن يسبب تقويض النظام العام في

ص: 101

الحياة، فإنا نقول: (الجسم غير المكتمل إذا كان فيه عقل مكتمل يكون مريضاً)، فيما إذا كانت عقلانية الطفل توجب تقويض النظام، مثلاً: الرضيع ذو العقل الكامل لا يرتضع من الثدي، ولا يستعد لأن يجرى عليه ما يجرى على سائر الأطفال لخجله وحيائه.

أما إذا لم يوجب كمال العقل في الصغير تقويض النظام، فهو من المحاسن لا المساوئ، ومن المعجزات أحياناً، إذ أنه أمر خارق للعادة.

وفي كل الاحوال، فقول بعض الفلاسفة في تعريف الحالة المرضية للاجتماع بأنها (بقاء المجتمع على حالة البداوة رغم مرور عشرات الآلاف من السنين) أو (رجوع الإنسان بعد الحضارة إلى البداوة)، إنما هو من باب المثال، وإلا فقد عرفت أن الميزان في الصحة والسقم ليس هذا فحسب، وإنما هو كلّي ينطبق على هذا المثال وعلى غيره أيضاً.

ومن معايير صحة وسلامة المجتمع أن يعطي حاجات الروح والبدن في نطاق الطاقة الإنسانية والطاقة الكونية، لا في نطاق الهوى والميول النفسية، فإن إرضاءهما غير ميسور في عالم الدنيا، فالدنيا أضيق من إرضائهما حيث إن الإنسان خلق للآخرة، وإنما الدنيا قنطرة للعبور فقط، مثلاً: لا يمكن أن يكون في بلد واحد مائة رئيس جمهورية..! كما لا يمكن أن ينال الإنسان منتهى أمانيه في العلم بأن يحصل - مثلاً - على مائة شهادة دكتوراه في علوم مختلفة، أو على صعيد المادة: من غير الممكن أن يكون كل إنسان صاحب الملايين، أو يكون كل إنسان ذو شخصية كبيرة، إذ الطاقة البدنية تأبى تحصيل مائة شهادة دكتوراه، والمادة ليست بقدر أن يكون كل إنسان صاحب ملايين، والحاجات المتنوعة للإنسان تأبى تساوي الناس في السيادة، بل هناك الحاجة إلى العطار والخباز والكنّاس وغيرهم، مهما تدخلت الآلة في حياة الإنسان، فالحاجة إلى هؤلاء كالحاجة إلى العالم والوزير والرئيس والسفير وغيرهم، وقد أشير في القرآن الحكيم الى الحقائق التالية:

ص: 102

أولاً: عدم يسر الأمرين: إعطاء كل حاجات الروح والجسد، بقوله تعالى: (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف: 145). حيث لا يمكن الأخذ بالكل: الحَسِن والأحسن.

ثانياً: لزوم التفاوت بقوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21). وقال سبحانه: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32).

ثم إن نظرة واحدة إلى عالم اليوم، تفيد بعدم حصول الانسان على حاجاته كاملة، سواءً في الأمم الفقيرة والمستعمَرة، - بالفتح- أو في الأمم الغنية والمستعمِرة – بالكسر- كالبلاد الغربية في الوقت الحاضر، حيث إنها لم تتمكن أن تعطي للناس حاجاتهم، فهل كل الناس في الغرب يحصلون على الشهادات الاكاديمية؟ وهل كلهم أثرياء؟

جاء في تقرير على أنه يوجد في أمريكا - زعيمة الرأسمالية والاستعمار في عالم اليوم - أكثر من ثلاثين مليون فقير، من الذين لا يجدون حتى أوليات العيش إلا بصعوبة بالغة وبمعونة الجمعيات الخيرية، مما لا يناسب الكرامة الإنسانية، كما جاء في تقرير: إن في امريكا هنالك سبعة ملايين عانس ، ومن الواضح أن المرأة التي لا زوج لها - سواء لم تتزوج أصلاً كالعانس أو التي تزوجت ثم ترملت - تعيش أزمة نفسية شديدة، فهل الدنيا تمكنت أن تعطي حاجات الإنسان؟

هذا بالإضافة إلى الخوف والقلق المسيطرين على العالم كله، مما بيّنه الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في كلمة له في أحوال الجاهلية، حيث قال: (وشعارها الخوف ودثارها السيف).

فالخوف يكمن في باطن الإنسان، والسيف وسيلة الحماية.. والسيف في هذا اليوم، هو الأسلحة الذرية، و مختلف انواع اسلحة الدمار الشامل، وحتى سباق التسلح السائد في العالم، حيث توفر بعض الدول الحماية لامنها من خلال الترسانات العسكرية الضخمة.

ص: 103

ومن الواضح، إذا لم يحصل الإنسان على حاجاته تبدل المجتمع إلى مجتمع العداء والبغضاء، و صُرفت الخلاقية في البناء إلى خلاقية الهدم، وأبتلي الإنسان بالقلق والأمراض، كما نشاهد كل ذلك في عالم اليوم.

ومن المعايير الاخرى لصحة وسلامة المجتمع؛ وجود العلماء في مشاريع البناء بما يخدم المجتمع نفسه.. بينما نجد كثيراً من العلماء في العالم، يسخّرون جهودهم وعلومهم لخدمة الحكام وأهل السلطة واصحاب الرساميل، وبدلاً من يكون العلماء وسيلة لتعزيز قوة المجتمع وحمايته، يتوجهون للدفاع عن حياة الحكام والعمل على ديمومة الأنظمة الحاكمة.. والنتيجة تكون، تعرض المجتمع للتصدّعات والمشكلات دون ان يجد من يساعده على رفعها وحلها، وجلّ ما يفعله علماء السلطة والمصالح الخاصة، أنهم يبقون على الوضع القائم في المجتمع، مهما كان، فيُبصمون على سلامته، وأنه لا يمكن أن يكون أكثر سلامة من هذا الذي نشاهده اليوم..! هذا النمط من العلماء يتجهون بانفسهم الى الخسران والهلاك ، وقد حذرهم القرآن من هذا المصير في قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34 - 35).

وفي آية أخرى، مثّل سبحانه وتعالى الذين يميلون إلى المادة والى الحكام ويتركون هدى السماء، بعالم كان في بني إسرائيل، مال إلى السلطان والمادة وترك الرحمن والحق فقال عنه سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا

ص: 104

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 175 - 179).

هنا يورد القرآن الكريم تشبيهاً دقيقاً وقوياً، للذين آتاهم الله سبحانه وتعالى العلم، فوظفوه لخدمة التضليل والانحراف، بدل أن يخدموا الرشاد والهدى والإنسانية، بانهم مثل (الكلب)، بمعنى أن الله تعالى يتركهم وشأنهم، وهذا نوعاً من الإضلال والطرد من الهداية الإلهية، ثم الجزاء يوم القيامة هو العذاب الأليم. وهكذا العلماء الذين يلهثون ضد الطبقة الفقيرة والمضطهدة، فسواء تكلمت ضدهم أم لم تتكلم، فهم في حالة (اللهاث)، لانهم ماضون خلف الاموال والموائد والامتيازات.

(ولقد ذرأنا لجهنم)، واللام للعاقبة يعني: إن عاقبتهم الذهاب إلى النار، إذ لهم قلوب لكن لا يفقهون بها، ولهم أعين لكن لا يبصرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها، بل يسخرون قلوبهم ومشاعرهم وتفكيرهم للدفاع عن الطبقة الحاكمة والمتجبرة، فيما يغضون الطرف عن معاناة الناس وحرمانهم، كما أنهم يصمّون آذانهم عن سماع أنين البشرية حتى لا يساعدوهم.

ص: 105

ص: 106

الفصل الثالث: الاقتصاد وحضارة بيت العنكبوت

اشارة

للإنسان حقوق في إطار ثلاث مجالات: جهده العضلي، وجهده الذهني.. بشرط أن يكونا على الطريقة المحللة، أي أن يكون عمله وفكره حلالاً، وأن يكون ما يتعلق بعمله الفكري حلالاً أيضاً. والمجال الثالث؛ في مقدار ما يرث، مع ملاحظة أن يكون المورِث قد حصّل المال من الحلال، من الجهد العضلي والجهد الذهني ، ومن جهة ما يتعلق بالاثنين.

وبعد ذلك يلزم على الإنسان الذي يكتسب عضلياً وذهنياً أن يلاحظ الامور التالية:

أولاً: عدم الإجحاف بالآخرين.. لأن الإجحاف محرّم في شريعة الإسلام تبعاً لشريعة العقل.

ثانياً: عدم خلق أجواء الإكراه في العمل، لأن هذا النوع من الإكراه، حاله حال الإكراه الفردي، فكلاهما محرمان، إذ لا فرق بين أن يكره الإنسان عاملاً على أن يعمل في داره بأجر معين، أو أن يخلق أجواء ومسببات، يكون العامل في ظلها، مكرهاً على القيام بعمل مضاعف، وبنفس الأجرة.

ثالثاً: عدم استغلال الآخرين المعاصرين له بأن يأخذ أكثر مما يستحق.

رابعاً: عدم هدر حقوق الأجيال القادمة.. مثلاً: المعادن المودعة تحت الأرض، إنما هي حق الأجيال الحاضرة والقادمة، كل بقدر أن يعيش عيشاً متوسطاً بلا تقتير ولا تبذير، فإذا أخذ هذا الجيل من المعادن أكثر من حقه، أي

ص: 107

على شكل الإسراف والتبذير، كان هذا بمعنى هدر للمال العام، وايضاً لأموال الأجيال القادمة.

خامساً: تجنب الإضرار بالآخرين

مثلاً: إذا كان هنالك مائة صياد على شاطئ البحر، يحصل كل واحد من البحر بمقدار قوت يومه من الأسماك، لا يحق لأحد الصيادين أن يسبق إلى البحر ويأخذ قوت نفرين أو ثلاثة أشخاص، مما يوجب أن يبقى الآخرون جائعين، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الخيرات للجميع، فاللازم أن يستفيد الجميع، لا أن تكون الفائدة محصورة بأفراد معدودين، قال سبحانه: (خَلَقَ لَكُمْ) فالكون للجميع لا للبعض، فهو (لَكُمْ) لا (له).

وعن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت نعمة موفورة إلا والى جانبها حق مضيع).

والمراد بالموفورة، ليست الوفرة بمعنى العيش الرغيد، بل بمعنى الأكثر من الحق حتى يكون في قباله الحق المضيع.

فإذا أُخذت كل هذه الأمور الخمسة بنظر الاعتبار، إضافة إلى ما ذكرناه آنفاً، لن يبق هناك محتاج، سواء للمسكن أو للملبس أو للمركب أو للزوجة أو للزوج أو غير ذلك، كما لن يبق رأسمالي واحد على الأسلوب الغربي، أو على الأسلوب الشرقي، وإنما تكون الخيرات للجميع، وإن كان هنالك تفاوت حسب تفاوت الكفاءات، فان الاكتساب الأكثر عند البعض، يكون بسبب قوته العضلية، أو فطنته وذكائه ونشاطه الذهني، بينما يكتسب البعض الآخر، قليلاً لضعفه الجسدي أو لعدم تفوقه الذهني، لكن هذا الفرق لا يوجب الفجوة الطبقية الهائلة التي يشهدها عالم اليوم، التي تسببت وجود مقدار ربع العالم، ممن يعيشون برفاه و رغد فقط، بينما ثلاثة أرباع العالم ربما يفتقدون حتى الضروريات لحياتهم.

ص: 108

لماذا احتكار الثروة ؟

هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح:

لماذا يأخذ الرأسمالي في عالم التجارة والاقتصاد، وأيضاً الطبيب وأمثالهم، أكثر من حقهم، في حين اللازم أن يكون المال بقدر سعي الإنسان العضلي والذهني، الى جانب ما يأتيه من الإرث؟

هناك أجوبة أعدها الرأسماليون ومن إليهم للتخلص من هذا السؤال.

مثلاً.. يقولون: لأن الرأسمالي عرّض رأسماله للخطر، والإنسان الذي خاطر بماله يجب أن يأخذ في قباله شيئاً.

و يقولون: لأن الرأسمالي قد زهد في طعامه وشرابه ومسكنه وملبسه، قبل ثرائه، و بذل الجهود ليلاً ونهاراً حتى تمكن من جمع هذا المال، فاللازم أن يكون الربح له في قبال أتعابه وحاجته السابقة في وسائل العيش المتعددة.

و يقولون: إن المال عمل متراكم، فالربح في قبال العمل، وليس الربح اعتباطاً.

و يقولون: إن المعمل الذي يملكه الرأسمالي يُستهلك بالعمل، فاللازم أن يعطي من الربح في قبال الاستهلاك.

ويقولون: إن المال بحاجة إلى مخزون كبير للمصارف الثقيلة، وإلا فمن يبني المطارات والمستشفيات وغير ذلك مما يحتاج إلى الأموال الكبيرة؟ فاللازم أن يكون للمال مخزون كبير بيد الرأسماليين حتى يتمكنوا من قضاء الحاجات التي هي حاجات لكل الناس وتستفيد منها الطبقات السُفلى، كما تستفيد منها الطبقات العليا.

وبشأن الطبيب ونحوه، يقولون: لأنه استهلك ما مضى من عمره، ربما عشرين سنة أو أكثر، في التعلّم، وأتعب نفسه، وأسهر ليله وأجهد نهاره، حتى

ص: 109

صار طبيباً ينفع الناس، فله أن يأخذ أموالاً ضخمة من المراجعين ليكون كفوءاً و وفاءً لما فاته من عمره.

ردود غير مقنعة

كل هذه الأعذار لا تصمد أمام الحقيقة والواقع، انطلاقاً من الأجوبة نفسها..

فالجواب على المقولة الأول: لا خطر بعد التأمين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا كان المعيار (الخطر)، فلماذا لا يستحق عمّال المناجم هذا الاهتمام والحرص، وهم في ظروف أكثر خطورة على ابدانهم، من الرأسمالي الذي يخاف على أمواله وثروته؟

وأي الخطرين أكبر: الخطر على النفس، أم الخطر على المال؟

وعلى المقولة الثانية: بأن للرأسمالي الحق في أن يأخذ بقدر ما فاته، بينما نشاهد أن الرأسمالي يأخذ أكثر وأكثر وأحياناً تصل الزيادة إلى آلاف الأضعاف، إذا لم تكن ملايين الأضعاف.

وعلى المقولة الثالثة: بأن له أن يأخذ بقدر حق العمل الذي تجسّد في المال، لا أن يكون له الأكثر من ذلك.. صحيح أن المال عمل متراكم، لكن: كم للعمل من المقابل؟ هل هو هذا المقابل الهائل الذي يستفيده الرأسمالي ويأخذه من العمال ومن إليهم؟

وعن المقولة الرابعة: إن حق العمل إنما هو بقدر استهلاكه لا أكثر من ذلك، بينما نشاهد أن الرأسمالي يستولي على ما يربو آلاف المرات، على قدر الاستهلاك، ولا مانع، من أن يأخذ بقدر استهلاك المعمل، مثلاً: قيمة المعمل مائة ألف دينار فيكون للثري الحق في أن يأخذ بقدر مائة ألف دينار إلى زمان وفاته، أما أن يأخذ الرأسمالي الملايين من الدنانير، فإن ذلك خارج عن نطاق الاستهلاك.

ص: 110

وعن المقولة الخامسة: إذا صح الاحتياج إلى المخزون، فلماذا يكون المخزون لجماعة خاصة من الرأسماليين، ولماذا لا يكون المخزون مشتركاً بين الجميع؟ فالدليل لا يفي بالمقصود، فإن المقصود أن يكون هنالك مخزون، وهذا صحيح، أما أن يكون المخزون للرأسماليين فحسب دون كل الناس فهذا غير صحيح، فاللازم أن يعطى لكل إنسان حقه، وهذه الحقوق تتجمع، وبتجمعها يكون المخزون الذي يعطي الحاجيات الكبيرة.

وعن المقولة السادسة: بدايةً؛ إذا صح قول الطبيب، فلماذا لا يكون للمعلم حق استحصال المال من الناس، مثل الطبيب، مع أنه أيضاً قد استهلك وقته وأفنى عمره؟ ولماذا لا يكون ذلك لموظف الدولة، وهو أيضاً قد درس وتخرج من الجامعة؟

ثم، إذا كان للإنسان أن يأخذ بقدر ما استهلك من وقته لا أكثر، فهل الطبيب وغيره، يأخذون بقدر ما استهلكوا من أوقاتهم؟

الواقع يؤكد أن الطبيب إنما يأخذ كثيراً لأمرين: أحدهما: أمر ترسّبي، وثانيهما: أمر مستجد.

أما الأول: فإن الأطباء كانوا قليلين في السابق، ولكثرة الحاجة إليهم كانوا يتقاضون من واقع أجورهم، حسب قانون العرض والطلب، وهذا الأمر باق إلى الآن، وقد اعتاد الناس على ذلك، فالأطباء غير مستعدين للتنازل عما اعتادوا عليه، مثلاً: عملية جراحية تستغرق ساعة يتقاضى الطبيب في قبالها أجر مائة دينار، بينما غاية الأمر أن يكون للساعة أجر دينار مثلاً.

أما الحالة الترسبية الباقية من العادات والتقاليد، فهي التي تعطي للطبيب الحق في أن يأخذ مائة دينار، وقد أخذ الناس يتململون من هذا الشيء، وأخذت بعض البلاد التي تسمّي نفسها ب(الاشتراكية) تقف دون هذا الشيء، لكن هذا الموقف اتسم بالتفريط في مقابل إفراط الأطباء في العالم الرأسمالي، فقد أممت الانظمة الاشتراكية الطب ، بينما التأميم أيضاً غير صحيح، وإنما الصحيح أن يكون الطبيب حراً في عمله لكنه يتقاضى بقدر أجره لا أكثر من ذلك.

ص: 111

والأمر الثاني، وهو المستَجَد: فهو قلة الأطباء في كثير من البلدان في الوقت الحاضر مما سبب أن يكون عرض الطبيب قليلاً وطلب المرضى كثيراً، ومن الطبيعي أنه إذا قل العرض وزاد الطلب ترتفع القيمة، وهذا غير صحيح أيضاً، إذ قلة العرض وكثرة الطلب لا يبرر أن يأخذ الإنسان أكثر من قدر حقه، لكن هذا هو الشيء الموجود فعلاً، ويجب معالجة الأمرين ومعالجتهما إنما تكون بالأخلاق والعلاقات الاجتماعية الحسنة، ونسف التقاليد والعادات التي، وإن ذهبت مبرراتها لكنها ما تزال باقية.

من هنا؛ من غير الصحيح إطلاق العنان ل- (رأس المال) يفعل ما يشاء على حساب الآخرين، كذلك الحال بالنسبة ل- (الجاه)، إذ إن المال والجاه، يجب أن يكون موزعاً بين الجميع، كلٌ بقدره وحقه. فهذا العنصران يتميزان بأنهما لا يعرفان حداً للوقوف، فهناك فرقاً بين الحاجات البدنية عند الانسان، والحاجات غير البدنية، فالحاجات المادية، مثل الطعام والشراب والزوجة واللباس والسكن وغيرها، لها حد يتوقف عندها الانسان، لأنه لا يتمكن بأي حال من الاحوال، أن يأكل في اليوم مائة كيلو غراماً من الطعام والشراب، كما لا يتحمل جسمه ارتداء عشرين ثوباً – مثلاًوهكذا... بل إن الجسم هو الذي يحول دون تكديس هذه الأمور، وإن كان المترفون يفعلون ذلك أحياناً، كما يُحكى عن أحد الحكام العباسيين، أنه كان له أربعة ملايين نوعاً من الملابس، و حاكم آخر كانت له أربعة آلاف جارية، وهذه من النوادر التي بقيت حكايات وعبر في بطون التاريخ.

أما الحاجات غير البدنية، مثل الثروة والجاه، فلا حد لهما، وهي ممتدة امتداداً كبيراً، فالإنسان الثري، يتمنى صبّ كل ثروات الدنيا في جيبه، والإنسان ذو الجاه، يتمنى تكديس كل أقسام الجاه حول نفسه، ولذا وردت أحاديث كثيرة في هذا الشيء، مثل قولهم عليهم الصلاة والسلام: (ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاؤها بأضر في دين المسلم من حب الرئاسة)(1).

ص: 112


1- بحار الأنوار: ج66، ص154، دارالمعارف - بيروت.

فاللازم أن يقف الاجتماع بقوانينه الصحيحة دون تمكن فرد أو جماعة من الناس من استقطاب الأموال والثروات، ومن استقطاب الجاه والمنصب والرفعة الاعتبارية.

هذا بالإضافة إلى أن في إطلاق الثروة، التي تتقدم وتتقدم على حساب الآخرين، ضرراً أخلاقياً كبيراً فإنه لا مبرر لأن يعيش إنسان في غاية الرفاه، بينما آلاف الناس يعيشون الفقر المدقع والذل وليست لهم حتى الأوليات، ومن الواضح أن المجتمع الذي يتجاوز على الأخلاق، يقف أمام السقوط والفناء، وقد قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

حيث إن الروابط بين الناس تحكمها مفاهيم أخلاقية، مثل التعاون والتكافل والاحسان وغيرها، وأي شيء يناقض هذه المفاهيم، يولّد العداء والبغضاء وتفاوت الطبقات بعضها عن بعض، وتكون النتيجة، التمزق وانهيار الاجتماع، مما يلحق الضرر بالجميع، دون استثناء، سواء الأغنياء و الفقراء.

الانسان عاملاً وليس أجيراً

ولو عدنا الى الوراء قليلاً، نجد أن الفلاحين في عهد (الإقطاع) مرتبطين في عملهم بالمالك، وهذا الارتباط كان يوفر لهم الحماية وتسهيل شؤون الحياة، في مقابل استثمار المالك لجهد الفلاح، علماً أن (الإقطاع) بهذا المعنى غير صحيح في نظر العقل والشرع، على ما جاء تفصيله في الكتب المعنية بالشؤون الاقتصادية.

أما في الرأسمالية العالمية في الوقت الحاضر، فان استغلال العمال يتم بإزاء أجر مجرد، من دون أي التزام بالدفاع عنهم، وتهيئة وسائل الحياة لهم.

ووجه عدم استقامة كلتا المعاملتين: إن الفلاح في ظل الإقطاع الأولى كان مجبوراً لأنه كان مرتبطاً بالأرض ولا إرادة له من نفسه، وكانت الاستفادة الأكثر

ص: 113

للمالك، حيث إن الفلاح كان يعيش على لقمة العيش فقط، بالإضافة إلى سائر المفاسد التي كانت مترتبة على الإقطاع.

أما في ظل الإقطاعية الجديدة، فالأجير وإن لم يكن مرتبطاً بالأرض ذلك الارتباط الذي كان بالنسبة إلى الفلاح، إلا أنه أيضاً مجبور من حيث الظروف القاسية التي يعيشها، فإذا لم يعمل الأجير للمالك، سيواجه صعوبات وأزمات خانقة في توفير مستلزمات حياته من مسكن ومأكل وملبس وغيرها، والرأسمالي من جانبه، إذا توقف عن العمل سيولّد بطالة حتى الموت، بالإضافة إلى أن المالك يستفيد من الأجير أكثر من حقه بينما يلزم أن يكون الحق موزعاً بينهما كل بحسب إدارته أوعمله، لكن الرأسمالي لا يقتنع بهذا القدر.

ثم تشكلت النقابات ووضعت القوانين، وبذلك استراح الفلاح والعامل من بعض مظالم الإقطاعيين والرأسماليين، فتحسنت الأجور، كما تحسنت ظروف العمل بالنسبة إلى الفلاح، وتراجعت قساوة الظروف المحيطة، وحصل العامل والفلاح على كفالتهما الاجتماعية، لكن بقي قدر كبير من الظلم يتطلب العلاج.

هذا بالنسبة إلى البلاد الرأسمالية أما في البلاد الشيوعية فالعمال والفلاحون إنما هم آلة بسيطة في معمل كبير لا شيء لهما إطلاقاً، إنما كل الخيرات في جيوب السادة الحكام الذين جمعوا بين (الرأسمالية) و(الحكم).

وعلى أي حال، فالرأسمالي في الغرب والشرق يبقى نفس الرأسمالي، يستفيد أكثر من حقه آلاف المرات، بينما يعطي شيئاً قليلاً بمقدار لقمة العيش، بالإضافة إلى بقاء حالة (الإكراه غير المباشر)، أو ربما المباشر.. إلى سائر مفاسد رأس المال على ما تقدمت الإشارة إلى بعضها، وذكرنا تفصيلها في كتبنا الاقتصادية.

العمل الاجتماعي لا يستلزم أن يكون هنالك رأسمالي، وأن يكون هنالك عامل، وكما قال سبحانه: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32).

ص: 114

وهنا؛ إضاءة لمسألتين:

الأولى: في النظام الرأسمالي القائم حالياً، ثمة حالة معكوسة.. فالمال هو الذي يستخدم صاحبه، لأن الانسان في ظل الرأسمالية، ليس المحور.. ولذا نلاحظ أن الرأسمالي يأخذ أكثر من حقه، ويأخذ العامل الأقل، بينما اللازم أن يستخدم الإنسان رأس المال، وأن يكون مستخدماً للشيء.

والثانية: يجب أن يشتري الرأسمالي عمل العامل، بل يشتركان في العمل والربح بينهما، حتى لا يكون هنالك آمر ومأمور، وهذا ما نهى عنه الإسلام، حيث نهى عن عمل الأجير، ولا نقصد بالأجير هنا، أجرة عامل البناء – مثلاً- أو غيره.. بل نقصد الأجراء عند الرأسماليين.. فمن المكروه شرعاً أن يصبح الإنسان أجيراً عند إنسان آخر، كما وردت بذلك جملة من الروايات وإن كان جائزاً في نفسه.

فقد روى الكليني بسند صحيح عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق)(2).

قال: وفي رواية أخرى: (كيف لا يحظره؟ وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره)(3).

نعم.. إذا لم يكن هنالك إكراه فردي ولا من حيث الظروف، وكان ما يأخذه العامل عدلاً، ولا يكون الإيجار وسيلة لتكديس رأس المال، أما في حالة الإكراه السائد حالياً في النظام الرأسمالي، فإنه يعني أن الانسان المستخدَم، صار أجيراً دون إعطاء حقه كاملة، كما الانسان صاحب رأس المال صار مستخدماً وطيعاً لأمواله وثروته، وليس العكس.

ربما يشكل البعض على القول بخطأ وجود علاقة الآمر والمأمور بين

ص: 115

الرأسمالي وبين العامل، وأن الواجب أن يكون بينهما تعاون واشتراك في الربح، بدعوى أن العلاقة بين المعلم والتلميذ أيضاً علاقة آمر ومأمور ومتفوّق ومتفوّق عليه..

لكن يُقال ايضاً: أن العلاقة بين المعلم والمتعلّم، ضمن إطار الاحترام، وفي طريق سعي المعلّم الارتقاء بمستوى المتعلّم، وهي العلاقة التي تضيّق الفاصلة بين المتعلّم وبين المعلم تدريجياً حتى يصل إلى مرتبة المعلّم.. وكل هذه العلاقات الحسنة معكوسة في علاقات الآمر بالمأمور في ظل النظام الرأسمالي، فهي علاقة السيد بالعبد، حيث إن السيد يريد استغلال العبد، ولا وجود لعلاقة احترام بينهما، ثم إن الفاصلة تزداد تزداد بين العبد وبين السيد، حيث إن السيد يرتفع أكثر فأكثر، والعبد ينخفض بالمقابل.

أما ما ذكرناه، من الشروط الإسلامية في الأجير، فليس فيه أي من هذه المحاذير، فالعلاقة ليست من منطلق القوة، إنما من الحب، ولن تزداد الفاصلة بين المستأجر والأجير، ولن تكون على شاكلة الآمر بالمأمور، وإنما علاقة اشتراك في المنفعة، وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بنظر الاحترام والحب لأنه يرى أن الآخر سبب لتقدمه.

وهنا ثمة أموراً ثلاثة يجب ملاحظتها فيما يتعلق بأنواع الاستيجار:

الأول: ليس الكلام في الاستيجارات الشخصية لبناء دار أو معمل أو غير ذلك.

الثاني: أن يكون الإيجار على النحو الرأسمالي المستغل للعمال.

الثالث: أن يكون الإيجار على النحو الشرعي الذي ليس فيه استغلال ولا استعباد.

وكما أن الإسلام كره أن يؤجر الإنسان نفسه - كما تقدم في بعض الروايات- كذلك ذكر الإسلام استحباب الإيجار الذي ليس بهذه الصورة، كما أن إيجار الإنسان لغيره لأجل أن يكتسب الشيء غير مكروه في الإسلام، وفي هذا الصدد

ص: 116

نقرأ قسمين من الروايات، كما قرأنا قبل ذلك قسماً آخر مما يفيد أن الأقسام ثلاثة.

عن الامام علي (عليه السلام) في بيان معائش الخلق قال: (وأما وجه الإجارة فقوله عز وجل (نحن قسَمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: 32).

فقد أخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ أنه سبحانه بحكمته بيّن هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه، ولو كان الرجل منّا يضطر إلى أن يكون بناءً لنفسه أو نجاراً أو حرفياً في شتى الصنوف، ويتولى بنفسه جميع ما يحتاج إليه من إصلاح وتعمير، ما استقامت أحوال العالم ولا اتسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنه اتفق تدبيره لمخالفتهم بين هممهم، وكلما يطلب مما تنصرف إليه همته، مما يقوم به بعضهم لبعض ويستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم.

وقد ورد في الروايات في تحريم ظلم الأجير.

1 - ما يشمل ظلمه أولاً.

2 - أو ظلمه أخيراً بأن يجحف عليه أو يكرهه.

3 - وأنه يجعل الأمر عادلاً في الإيجار، ثم ينقص من أجرته، فإن الظلم شامل لكل ذلك.

فقد روى الصدوق، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من ظلم أجيراً أجرته أحبط الله عمله وحرّم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)(1).. إلى غيرها من الروايات الكثيرة المذكورة في باب الإجارة من الفقه الإسلامي.

ص: 117


1- وسائل الشيعة: ج13، ص 247، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

من هنا؛ فإن الرأسمالية المنحرفة توجب:

أولاً: ظلم الأُجراء حقهم.

ثانياً: كون الاستيجار بالإكراه الأجوائي أو المباشري، فالأجير مكره على أن يؤجر نفسه.

ثالثاً: إن الأجراء يشعرون بنوع من المهانة مما يسبب البغضاء والتدافع بين الجانبين.

إضافة إلى سائر مفاسد الرأسمالية في الأسلوب الغربي والشرقي، وكل ذلك خلاف العقل والشرع.

وليست العلاقة بين المعلم والتلميذ – كما تمت الاشارة اليها على سبيل المثال- كهذه العلاقة العلاقة، فإنه لا إكراه، كما أن الظلم ليس بموجود، والتلاميذ يشعرون بنوع من الاعتزاز لأنهم يتبعون من هو أكثر منهم علماً وكفاءة، والإنسان لا يشعر بالمهانة إذا اتبع الأكثر علماً وكفاءة وتقوى وفضيلة، إنما يشعر بالمهانة إذا أراد شخص السيادة عليه بسبب اقتداره المالي أو العسكري، مما ليس في جهة الفضيلة والكفاءة، فإن نفس الإنسان خاضعة للفضيلة والكفاءة، بينما لا تخضع لمن هو مثلها أو دونها ولمن يريد أن يتطول عليها بقوة السلاح أو المال أو العشيرة أو غير ذلك.

وهذا الشعور بالمهانة - بالإضافة إلى سائر المفاسد - هو من أسباب هروب الناس عن التقليد إلى الاستدلال والمنطق في الأمور العقائدية والعلمية، حيث إن التقليد فرض وتحميل، وفيه إهانة لكرامة الفكر الإنساني، وهذا الشعور أيضاً من أسباب هروب الناس من الحكام الدكتاتوريين إلى الانتخابات أولاً؛ والى لزوم استشارتهم بعد اختيارهم حكامهم ثانياً، إذ أن التحميل من الحكام عليهم أو انتخابهم للحكام ثم استبداد الحكام بمقاليد الامور، بدون استشارتهم، كلاهما يمثل إهانة لكرامة الإنسان.. ولذا نجد في الإسلام ذمّ (التقليد) كما نجد فيه مدح (الشورى).

ص: 118

المادة هي المحور أم الإنسان

يُعد الإنسان محوراً يُعطى له كل قيمة، أما سائر الأشياء فلا قيمة لها إلا بقدر خدمتها للإنسان واستفادة الإنسان منها، لذا ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى: (خلقت الأشياء لأجلك)(1).

وقد تقدمت بعض الآيات القرآنية التي تدل على أن الكون مسخر لأجل الإنسان، فإذا لم يكن الإنسان، لم يكن لكل هذا الكون الفسيح والواسع أية قيمة. وإذا كان الإنسان، فأي نقص إذا لم يكن كل الكون - فرضاً - بأن يعيش الإنسان وحده..!

وإذا كان للإنسان قيمة فهو محترم بنفسه، وتوزن قيمة كل شيء بقدر فائدته للإنسان وخدمته له، كما يقاس ضرر كل شيء بقدر ضرره للإنسان، وإلا فلا فائدة ولا ضرر إذا استثنينا الإنسان عن الكون، فلتجف البحار أو لتتشقق الأرض، أو تخرّ الجبال هدّاً، فأي ضرر يحدث إذا لم يكن الإنسان في مجموعة هذه الأشياء التي في الكون؟

أما في العالم الرأسمالي - سواء الشرقي منه أو الغربي - فنرى الأمر بالعكس، فقد خرج الإنسان عن المحورية، وبقيت المحورية للمادة والمال، فالإنسان مطلوب لأجل الربح، فإذا أراد الشاب مثلاً الزواج سألوه عن ماله لا عن دينه وأخلاقه، كما أن الشاب نفسه يسأل عن مال المرأة وإرثها في المستقبل إذا مات أبوها أو أمها مثلاً، ولا يسأل عن أخلاقها ودينها، بينما نجد العكس تماماً في الإسلام حيث قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه)(2).

وفي العالم الغربي أو الشرقي، عندما تقع كارثة طبيعية، لا يلاحظ عدد

ص: 119


1- رسائل المحقق الکرکي: ج3، ص162، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
2- وسائل الشيعة: ج14، ص52، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

الضحايا من القتلى والجرحى والمعوقين، أو اعداد الاطفال المصابين واعداد النساء التي ترملت بسبب الكارثة، إنما يلاحظ الاضرار المادية، فيقال: تلك الحرب أو ذلك البركان أسفر عن خسائر تقدر بمئات الملايين من الدولارات. ويكتفون بالاشارة الى احصائيات للخسائر في الدور والسيارات وغير ذلك.

وإذا كان الإنسان قد فقد جماله وقيمته الإنسانية في عالم المادة، فكيف بسائر الأشياء؟ لذا لا يُنظر إلى الأشياء بما أنها أشياء، وإنما ينظر إلى روحها العامة وهي المادة، مثلاً؛ لا ينظر إلى الدار والبستان والكتب وما أشبه بما أنها أشياء ذات حقائق، وحقائقها هي المحور، وإنما ينظر إليها باعتبار القيمة، فيقال الدار الفلانية تسوى مليون دينار، والكتاب الفلاني يساوي عشرة دنانير.. وهكذا.

لقد استهلكت المادة كل جهد الانسان الذهني، فانقلبت الموازين، وأصبح الخادم مخدوماً، والسيد عبداً، وأدّى هذا الى أن يعمل الجميع حتى على حساب صحتهم وراحتهم ومستقبلهم وعائلاتهم وأولادهم، من أجل الكسب المادي، فالمهم أن يكون للإنسان مالاً أكثر، أما أن يفقد صحته لأجل ذلك - بل وأحياناً بعض أعضاءه وأحياناً عمره - فليس بمهم، بل وليس بمهم أن يفقد الإنسان شرفه وعائلته و علاقاته التي توجب له روحاً وراحة..!

وبذلك نجد أن الإنسان يعيش في العالم الحاضر، في أكبر أزمة، وفي أشد حالات القلق والاضطراب الاجتماعي والسياسي، حيث الظواهر الشاذّة والمشاكل الأسرية والمشاكل النفسية، الى جانب الحروب والازمات التي تغلي على صفيح ساخن، بما لم يشهده العالم في أي زمان من الأزمنة السابقة، ولا يحدثنا التاريخ بمثل هذه المآسي التي انصبت على إنسان اليوم. فقد كان الإنسان المحور، كما في تعاليم الأنبياء (عليهم السلام)، فكان كل شيء يُفدى لأجل الإنسان، وكان كل شيء يلاحظ قيمته الذاتية، لا قيمته باعتبار تحوله إلى المادة، وكان يخفف يوماً بعد يوم من فقر الإنسان ومرضه وآلامه.

ص: 120

ففي الوقت الذي تدعو تعاليم السماء الى تخفيف آلام الإنسان تدريجياً بإعطائه احتياجاته، بناءً على أن كل شيء في خدمته، نرى في المجتمع المادي ازدياد آلام الإنسان، لأن الحاجات تعطى لأجل المزيد من المادة، لا لأجل الإنسان، فالإنسان يعطى ويُفدى لأجل المادة، وليس المهم بعد ذلك أن يكون أكثر أهل العالم جياع، كما ليس المهم أن يموت كل عام خمسون مليوناً من البشر لافتقارهم الى الغذاء والدواء، كما ليس المهم أن يُقتل ملايين الناس بالاسلحة الفتاكة، أو أن يصابوا بمختلف العاهات والأمراض بسبب استخدام تلك الاسلحة، كما ليس المهم أن يبقى المرضى على مرضهم، أو أن تسوء حالة المرضى من أجل تسويق الأدوية الضارة، وليس المهم أن يمرض الملايين لأجل استعمال الأغذية والمساحيق والألوان الضارة، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمور، وإنما المهم أن يحصل الرأسماليون - الحكام كما في الشرق أو التجار كما في الغرب - على أكثر قدر ممكن من الارباح، وهذه الحالة المرضية اُبتلي بها العالم الغربي، ثم صدّروا أمراضهم إلى العالم الثالث، فابتلي العالم الثالث أيضاً بمثل هذه الأمراض الفتاكة التي هي أكثر فتكاً من القنابل الذرية والنيترونية.

فقدان التوازن = الإنفصام

في داخل الإنسان غرائز، ولكل منها متطلبات كغريزة الجنس، حيث تريد القضايا الجنسية، وغريزة المال حيث تحرك الإنسان إلى تحصيل الثروة، وغريزة الجاه حيث تسيّره نحو طلب الجاه، وغيرها من سائر الغرائز الموجودة في البشر، كما أن في الخارج أشياء، يستحق بعضها الاحترام، ولا يستحق بعضها الآخر الاحترام، ومراتب الاستحقاق - فيما يستحق - مختلفة حيث يستحق بعضها الاحترام إلى حد التأليه والعبودية كالله سبحانه وتعالى، أو إلى حد التواضع المتزايد كالعالم العادل وكالأبوين، وقد يستحق بعضها الاحترام إلى حدٍ ما كاحترام الإنسان للإنسان بما هو إنسان، كما أن بعضها لا يستحق أي احترام كالحيوان والنبات وما أشبه.

ص: 121

فإذا أعطى الإنسان غريزة من الغرائز أكثر من حقها أحدث ذلك انفصاماً للإنسان عن نفسه وابتعاداً عن شخصه، لأن النفس غير المنفصمة تعطي كل شيء حقه، لا أن تزيد في حق على حساب حق آخر، وكذلك الحال إذا عبد الإنسان ما لا يستحق العبادة وألّه ما لا يستحق الألوهية.

وهذا الانفصام الذي يحصل في الإنسان - سواء بالنسبة إلى الغرائز أو بالنسبة إلى الأشياء الخارجية المستحقة للاحترام بقدر أو احتراماً متزايداً أو عدم استحقاق الاحترام إطلاقاً - يعود بالضرر على الإنسان نفسه، ولذا قال سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية: 23).

أي أنه يعبد هواه، فكيفما يكون هواه يسير.

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة: 31).

فإن الأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم إنما يستحقون قدراً من الاحترام، لا احترام الآلهة، فالمسيح (عليه السلام) يستحق احترام النبي العظيم، والعدول من الأحبار والرهبان يستحقون احترام الإنسان للعالم، لا اتخاذهم آلهة وأرباباً وأخذ الأحكام منهم وإن كانت مخالفة لأحكام الله سبحانه وتعالى.

كما أن الله سبحانه وتعالى يقول بالنسبة إلى الانفصام في شخصية الإنسان، وأن ذلك يعود بالضرر إلى الإنسان نفسه: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر: 19). بمعنى إن الإنسان الذي ينسى الله ولا يتبع أوامره، لا يستقيم في أموره، وبالآخرة يكون ناسياً لخير نفسه وينفصم بنفسه عن نفسه.

وكل هذه الأقسام التي فيها انحراف عن جادة الصواب تدخل في (عبادة الصنم) سواء صنم الجنس، أو صنم المال، أو صنم الجاه، أو صنم الحجر، أو صنم البشر أو غير ذلك من أقسام الأصنام.

وقد أصيب العالم المادي المعاصر بهذا الانفصام فأخذ يسير إلى حيث

ص: 122

حتفه، وقد أودى بكل منطق وعقل وبرهان، وبذلك أصبح العالم المعاصر كالإنسان المسحور الذي يتبع هدف الساحر لا هدفه هو.. وتُعد هذه حالة مرضية خطيرة إذا لم تعالج تنتهي بالإنسان إلى الفناء والدمار، ولذا قال سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).

فهو يقع في ضنك العيش، والضنك ينتهي أخيراً الى الفناء والدمار في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وأما في الآخرة ينتظره العذاب الشديد، ولهذا نسمي هذه الحالة: (الانفصام عن الشخصية) ونقول: إن هذا الشخص اجنبي عن نفسه، وهل هناك شخصان حتى ينسى أحدهما الآخر كما في التعبير القرآني..؟ّ! الجواب: إن الأجنبي في المصطلح الدارج، هو الذي يتواجد في بلد آخر، ويعمل لا لصالح هذا البلد، إنما لصالح بلد آخر، وهذا حال الإنسان المنفصم عن نفسه، الذي يتبع إحدى غرائزه، أو يحترم من لا يستحق الاحترام إطلاقاً، أو من لا يستحق الاحترام المتزايد الذي يضفيه عليه فيحترمه احتراماً متزايداً، فإنه لو كان مع نفسه وحدة واحدة، و كان يسير في يتعامل مع الغرائز كلها بشكل متوازن، لا غريزة واحدة، لكان في الإتجاه الصحيح، وكانت فوائده تعود لنفسه هو، بينما يحصل العكس بالنسبة إلى الإنسان المنفصم، الذي لا يسير في الاتجاه المستقيم، فيعود عليه عمله بالضرر، لأن غرائزه تُكبت ولا تنمو ولا تُعطى متطلباتها بشكل صحيح، مما يؤدي إلى الدمار والهلاك.

ويندرج ضمن التعامل الخاطئ مع غرائز وحاجات الإنسان، عبادة المال، وعبادة الجاه، ومنها ايضاً البخل وعدم الانفاق وإعطاء الناس حقهم، كما يحدث ذلك في العالم المعاصر، الذي نشهد فيه عبادة المال بشكل متزايد، كما نشهد البحث عن الجاه بشكل لا يُحد، صحيح إن الديمقراطية الصورية موجودة في الغرب، لكنها بالحقيقة – وكما تقدم- تمثل ستاراً فضفاضاً لدكتاتورية من أبشع الدكتاتوريات، سواء بالنسبة إلى داخل بلادهم، أو بالنسبة إلى البلاد الأخرى، وإن كانت الدكتاتورية بالنسبة إلى البلاد الأخرى أفضع وأبشع، أما في البلاد

ص: 123

الشيوعية، فإنهه حتى هذا الستار الفضفاض غير موجود، والعالم الثالث منقسمٌ بينهما، فقسم يأخذ من الغرب وقسم يأخذ من الشرق.

هذا بالنسبة إلى عبادة الجاه، أما عبادة المال فهي أوضح، فالعالم منقسم أيضاً إلى من يعبد المال عبادة مطلقة كالبلاد الشيوعية، حيث إن الحكام هم الرأسماليون، أو عبادة شبه مطلقة كالبلاد الغربية، حيث إن المال بيد التجار فلم يجتمع الحكم والمال في أيد واحدة، وإن كان بينهما تنسيق وتعاون من أغرب أقسام التعاون، كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الاقتصاد من الفقه.

وأما بالنسبة إلى نسيان الصفات النبيلة كالرحم والمروءة والإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان واحترام الآخرين والعطف على البائس والمسكين وعدم أكل حق الناس بالباطل، فإن هذه كلها خصال مغروزة في نفس الإنسان، وقد حُرم منها العالم بشكل عام، نعم؛ ثمة أفراد قلائل هنا، أو هناك، لكنهم ليسوا بتلك المنزلة التي يُعتد بها، وليس الكلام فيهم، إنما في الاتجاه العام والإطار الموضوع على عالم هذا اليوم، ولذا فقد أصبح العالم منفصماً عن نفسه وأجنبياً عن ذاته، وأصيب بازدواجية بين (الواقع الإنساني) وبين (الاتجاه) الذي يسير فيه، واتخذ أهل العالم آلهتهم أهواءهم، فالأصنام التي يعبدها أهل العالم في هذا العصر أسوأ من الأصنام التي كان المشركون يعبدونها، لأن المشركون الذين كانوا يعبدون الأصنام - ويوجد أشباههم الآن في الهند وغيرها- لم يلحقوا ذلك الضرر البالغ بالعالم، وإن كانت كل أقسام عبادة الصنم توجب ضرر الإنسان، ومن ثم توجب ضرر الآخرين، لارتباط الاجتماع بعضه ببعض، فإذا تضرر فرد تضرر الآخرون، وإذا تضرر الاجتماع تضررت سائر الاجتماعات المرتبطة بذلك الاجتماع، إلا أن التاريخ لا يحدثنا بمثل هذا الضرر الكبير الذي يحصل في العالم المعاصر، حيث هذه العبادة الغريبة لأصنام المال والجاه والغريزة المنحرفة.

لقد تهدّم كيان الإنسانية بسبب هذا الصنيع الذي صنعه هو بنفسه، فأصبح المربوب رباً والمخلوق خالقاً، بل انهدمت إنسانية الإنسان، عندما أصبح فاقداً

ص: 124

للإرادة، تسيّره الآلة الصناعية التي صنعها هو، ثم هيمنت عليه، كمن يُحيك حول نفسه شبكة من السلاسل ثم لا يتمكن من الخلاص منها، ويكون حاله حال دود القز حيث ينسج حول نفسها، ثم يبقى داخل النسيج بلا حول ولا طول، حتى يأتيه الموت فيجرعه غصة بعد غصة.

فالرأسمالي يعمل للمال، والسياسي يعمل للمنصب، وسائر الناس، من المدير والعامل والفلاح والموظف وغيرهم، يبتلون بهذه الشبكة الواسعة من المال والمنصب فكلهم إنما يريدون مزيجاً من المال ومن الامتيازات السياسية، وهم لا يعرفون، لا مصدر المال، ومصرفه، ولا مصدر المواد الخام، ولا مصرفها، ولا أسواقها، ولا أي شيء منها، ولا البائع، ولا المشتري، وإنما كل يعمل في موضعه من شبكة مستحكمة حوله لا يجد مخلصاً منها كما إن السياسي أيضاً يعمل في شبكة مشابهة دون أن يعرف المصدر والمورد والمصب وغير ذلك، وإنما معلومات عامة عن أشياء لا يعرف أولها ولا آخرها، وقد صدق الله سبحانه في تشبيه أمثال هؤلاء بالعنكبوت، فقد قال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 41).

فمن خصائص بيت العنكبوت أنه شبكات متداخلة بعضها في البعض الآخر، لا تجد الفريسة فيها خلاصاً، وكذلك نجد المال والجاه في العالم الحاضر شبكات بعضها فوق بعض وبعضها دون بعض، حتى تستحكم هذه الشبكات حول الإنسان، فهو أسير هذه الشبكات ليل نهار، يصرف تفكيره وطاقاته وشبابه وعلمه وسائر شؤونه فيها، وليس ذلك فقط، بل إنه يحكم إحاطة هذه الشبكات حول نفسه كدود القز الذي لا يزال يحكم القز حول نفسه حتى يصبح المصنوع هو الذي يقرر مصيره، وإنما كان موهوناً (على حسب تعبير القرآن الحكيم) لأنه مبني على الخيال لا على الواقع، كالبيت المبني على الرمال، وإذا بقنبلة ذرية تهدم كل هذه الحضارة التي بنوها في عشرات السنين بمليارات من الأموال وأبحر من الجهود والطاقات.

ص: 125

ولم يكن العالم سابقاً بهذه الشاكلة، إنما كان (الإنسان) هو السيد آنذاك، ولم تكن أية قوة تستطيع هدم الحضارة الإنسانية في الزمان السابق، أما في الوقت الحاضر فقد غدا الأمر بالعكس حيث تتمكن الأسلحة الفتاكة أن تهدم أي حضارة، وتدمر كل العلاقات المادية المصنوعة، خلال ساعات قلائل.

ثم إن الثروة والجاه لا تكبل رجال المال والسياسة وحسب، بل تشمل في شراكها حتى الإنسان العادي الذي لا يرتبط بهما، بسبب نمط الحياة، حيث فُرض هذا النمط على أهل العالم بأجمعهم..

نعم، هناك فرق بين أحجام الشَرك والقيود، فالمنتمون إلى الأحزاب مقيدون بدرجة كبيرة، فيما رجال الأعمال واصحاب الرساميل والأسهم والثروات الكبيرة، فهم مقيدون بدرجة أكثر وأكبر من غيرهم، أما القيود العامة فهي تشمل الجميع.

ولا علاج للإنسان ولا خروج له من هذا المأزق، إلا أن يرجع إلى نفسه، ويكون سيد الموقف، ويترك الضار، ويأخذ بالنافع، وينمّي الغرائز كلها بشكل معتدل.

وأمام العالم طريق نجاة من هذه المآسي عبر اتباع الخطوات التالية:

1 - إعادة الإنسان إلى الاعتقاد بالله واليوم الآخر، والخوف منه تعالى، وتطبيق قوانينه في شؤون الحياة كافة.

2 - عودة المال إلى دوره الذي يكون فيه خادماً لا مخدوماً، وكذلك يعود الجاه إلى دوره فيكون مسؤولاً لا غروراً واستعلاءً.

3 - تلقائياً، و بعد الأمرين السابقين، تعود الصناعة إلى وضعها الصحيح حيث يجتنب الانسان الضار منها ويأخذ النافع، فالصناعة كالماء يضر وينفع، وكالنار تضر وتنفع، فحيثما أخذت السياسات المنحرفة والثروة المنحرفة بأزمّة الصناعة، دفعت بها إلى حيث الدمار والوبال وخطر إبادة الحضارة، أما إذا

ص: 126

أخذت الثروة الصحيحة والسياسة السليمة بزمام الصناعة، صرفتها إلى الطريق السليم، كالنار حيث تكون بيد مجنون أو بيد عاقل، فالعاقل يستفيد منها في طبخه وأكله ودفئه وغير ذلك، أما المجنون فإنه يحرق نفسه وغيره بالنار.

ثم إنه يمكن أن نفرّق بين الثروة الحرة العقلائية، والثروة المكبّلة التي نشاهدها في العالم الحاضر، والتي انحرفت عن طريقها المستقيم، بالأمور التالية:

1 - المالك هو الذي يحدد الإطار

في الثروة الحرة يعطي المالك الصورة للثروة فهو يخلق لها الإطار السليم بخلاف الثروة في العالم الحاضر حيث إن إطارها وصورتها ليست بيد المالك، وإنما بيد الشبكة الوسيعة التي يكون المالك جزءاً صغيراً فيها، يرتفع بارتفاعها، وينخفض بانخفاضها، ويميل نحو اليمين والشمال حيث مالت الثروة بصورة عامة، فهو أصبح كالطائر في القفص الذي لا يتمكن أن يطير إلا في مكان محدود جداً، بينما الثروة الحرة يكون المالك كالطائر خارج القفص يتمكن أن يطير حيثما يشاء.

2 - المالك هو المسؤول عن الأرباح والخسائر

إن المالك في نظام الثروة الحرة هو المسؤول عن الربح والضرر، أما الثروة في العالم المعاصر فلا مسؤولية للمالك، لا في الربح، ولا في الضرر، وإنما المسؤولية على المدراء الذين يجلبون المواد الخام أو الذين يصنعونها أو الذين يسوّقونها.

3 - القيمة بيد المالك

في نظام الثروة الحرة تكون القيمة بيد المالك، بينما في نظام الثروة المكبلة لا تكون القيمة بيد المالك، وإنما بيد السوق، فإذا شاء المالك الحر أن يبيع بأسعار باهضة او منخفضة، لهذا أو لذاك، فالاختيار بيده، أما المالك المكبّل

ص: 127

فلا اختيار له في ذلك وإنما الاختيار للشبكة الكبيرة المكونة من آلاف المدراء والخبراء والأسواق، بل ومواقف الزعماء وتوجيهاتهم وحروبهم..

4 - الثبات النسبي للقيم

في الثروة الحرة تكون القيمة شبه ثابتة، بينما في الثروة المكبلة تضطرب القيمة وتكون في ارتفاع وانخفاض.

5 - التسعيرة بيد المالك

التسعيرة في الثروة الحرة بيد المالك، أما في الثروة المكبلة فبيد السوق والبورصة والشبكة الاقتصادية ومن المعلوم إن في العصر الحديث تتحكم الموازين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها بالأسواق.

6 - حرية الاستفادة المطلقة من الأرض

في مثل الأرض، يتحكّم السوق في تبديلها بالمال فقط أو تركها أرضاً كما هي في نظام الثروة المكبّلة، أما في نظام الثروة الحرة فليس الأمر كذلك، وإنما صاحب الأرض يتمكن من الاستفادة من الأرض في أي شيء أراد، فهو يستطيع أن يجعلها بناءً أو حديقة أو معملاً أو أن يهبها لإنسان أو يعطيها للفقراء والمساكين أو غير ذلك، أما في نظام الثروة المكبلة فالمالك لا يستطيع إلا على تبديلها إلى المال فحسب، يعني أن خياراته بين أمرين فقط، أما خيارات الثروة الحرة فهي عديدة.. وكم الفارق بين أن يكون الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما، وبين أن يكون حراً طليقاً يختار ما يشاء!

7 - لا قلق على الأسواق

في الثروة الحرة لا قلق على السوق من المالكين، بينما في الثروة المكبلة قلق دائم على السوق حيث التنافس الخاطئ الشديد بين أصحاب الأموال.

8 - القدرات بيد المالك

في الثروة المكبلة تكون كل قدرات المالك - إلا ما شذّ- بيد غيره فهو لا

ص: 128

سلطة له على أمواله، كما أن السياسي لا قدرة له على السياسة فإن كل القدرات تنحصر في أيدي المدراء والبورصات والأسواق وغيرها، سواء في قدرة البيع أو الشراء أو التسويق أو نحوها، أما في الثروة الحرة فإن كل القدرات بيد المالك.

9 - المالك يتصرّف كما يريد

القوانين قد حالت دون تصرّف المالك المكبّل كيف يشاء في ثروته، إذ اللازم عليه أن يتصرف حسب القوانين الموضوعة وما أكثر تلك القوانين وأعقدها؟ بينما يكون المالك الحر متمكناً من التصرف في أمواله دون التدخل من القوانين.

نعم؛ في الشريعة الإسلامية قوانين قليلة جداً تحول دون تصرف المالك كيف يشاء، مثلاً: المالك في الشريعة الإسلامية لا يتمكن أن يتصرف في ماله بتبديله إلى الخمر والخنزير والمواد الضارة.

أما في الوقت الحاضر، فإن القوانين المكبلة كثيرة جداً، التي تحول دون تصرّف المالك.

10 - ثبات الضرائب وقلتها

إن قوانين الضرائب المتأرجحة تجعل الثروة في اضطراب دائم، بينما في الثروة الحرة لا يكون الأمر كذلك، فإن الضرائب في الإسلام أربعة فقط وهي ليست مجتمعة في مكان واحد، فبعض الأموال عليها (الخمس) وبعضها الآخر عليها (الزكاة) وبعض الناس عليهم (الجزية) وبعض الأراضي عليها (الخراج)..

هذه فحسب، هي قوانين الضرائب الثابتة التي كان الملاكون الأحرار يعرفونها في نظام الإسلام اليوم، وفي ظل نظام الثروة المكبلة فقد تأرجحت قوانين الضرائب وحسب أهواء الساسة والاقتصاديين، ومن يتحكمون بمصائر الأمم المستضعفة، ولذا نشاهد: إن الضرائب تزداد وتنقص حسب الشهوات والأهواء، وأنه إذا جاء رئيس جديد إلى الحكم يضع الأثرياء أياديهم على قلوبهم خوفاً من برنامجه الاقتصادي، و ماذا يريد أن يصنع؟.

ص: 129

11 - الثروة والأخلاق

أصبحت الثروة غير أخلاقية لأنها تقترن بالكذب والخداع وغير ذلك، وتختلط بدموع الفقراء ودماء المحرومين، وكثيراً ما يكون السلاح في خدمة الثروة حيث إن المنافس يقتل منافسه ليخلو له الجو، وأحياناً تكون الثروة بأيدي الساسة بمعنى أن السياسيين يحدثون انقلاباً في بلد مستضعف فقير حتى يمتصوا دماء الناس، كما هو المشاهد في عالم اليوم، بينما لم يكن هذا الشيء بالنسبة في ظل نظام الثروة الحرة.

12 - وأخيراً..

لو افترضنا أن صار للثروة المحللة، و للثروة المحرمة لونان، حيئنذ سيجد العالم آثار الدموع والدماء، ولرأت الشركات وأصحاب الأسهم و رؤوس الأموال الكبيرة على موائدهم آثار الدم والدمع، وإذا تحولت ثروتهم إلى أصولها ومصادرها الحقيقية، لوجدوا أنها لم تصلهم إلا بعد سقوط الأيادي المقطوعة والأرجل المبتورة والعيون المفقأة والآذان المبتورة والأنوف المجدوعة والأحشاء المتناثرة والعظام المتكسرة، كما رأوا كل تلك الويلات مجسّمة أمام أعينهم عوض جدران بيوتهم وستائرها والكراسي التي يجلسون عليها والطاولات التي يكتبون عليها، بل والأقلام والأوراق التي بأيديهم، والورود النابتة في حدائقهم، ولرأوا النيران المشتعلة في بطونهم وفي سائر أعضائهم وفي جوانب بيوتهم، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة: 49).

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10).

وقال سبحانه بالنسبة إلى أكل الربا: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) (البقرة: 275).

وإذا أزيلت الغشاوة عن بصائر الأثرياء الذين انحرفت ثروتهم، بسبب الربا ونحوه، لرأوا أنفسهم في حالة مجنون لا يتمكن أن يقوم من مكانه، و إذا أراد

ص: 130

القيام سقط على وجهه. (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: 275).

فهذه الثروات في الحقيقة، جُمعت من طريق الحرام والانحراف، إنما صورتها وشكلها يتغير أما الصورة الواقعية فهي تلك الأمور التي ذكرناها، وكما في الشجرة - مثلاً - فهي تتكون من التراب وتتحول بعد مدة إلى التراب، إذ الشجرة هي التراب، وإنما تغيرت صورتها إلى صورة الشجرة، وعندما يمضي زمان، تتحول إلى التراب كالسابق، وهكذا الثروات تتحول إلى واقعياتها بعد قليل من الزمن، (كما هو المعتقد في باب تجسم الأعمال).

الإنفصام بين الاستهلاك والإنتاج

المنهج الخاطئ في الإنتاج والاستهلاك، يسبب للإنسان حالة الانفصام عن نفسه، و يصبح غريباً عن الكون والمجتمع.. أما الإنتاج الصحيح فهو ما يتحقق من خلال طريقين:

الأول: المالك الخصوصي.

الثاني: الأكثرية.

أما إذا كان عن طرق الأقلية أو الأثرياء أو القانون، فهو إنتاج غير مستقيم، لعدم سيطرة المالك على الإنتاج.

وأكثر الإنتاج في العالم المادي، إنما يكون عن الطرق الثلاثة الأخيرة، فصاحب المال ليس مسلطاً على عمله، وهذا الأمر حصل عن طريق (الإكراه الأجوائي)، وإن زعم صاحب المال أنه يتصرف بملء رضاه.

أما من ناحية التصرف فلا يكون صحيحاً إلا بما يلي:

1 - أن يكون المال في مقابل العمل، سواء العمل الفكري أو الجسدي من الإنسان نفسه أو من مورثه - فيما إذا كان الإرث صحيحاً -.

ص: 131

2 - وأن يكون التصريف لأجل الحاجة الواقعية لا الحاجة الخيالية التي هي نوع من الإسراف والتبذير والانحراف، والحاجة الخيالية، إما صرف للمال بدون عنوان، وإما تزييف وإسراف في صرف الوقت، وإما حرق لحياة الإنسان وطاقاته فداءً لرأس المال، وإما تبديل للحب الواقعي إلى الحب المزيف.

وهنالك أمثلة كثيرة لذلك:

1 - شهادات فخرية، حيث يشتري الثري (الدكتوراه الفخرية).

2 - كتب المباهاة، كأن يشتري البعض مكتبة كبيرة لكسب المباهاة وإن لم يكن محتاجاً إليها.

وبذلك انحرفت شهادة الدكتوراه عن واقعها، كما انحرفت المكتبة عن واقعها الذي هو الاستفادة، ومن المعلوم أن الانحراف في الدكتوراه يعني إعطاء الإنسان شيئاً ليس مستحقاً له، والانحراف في شراء المكتبة يعني تجميد الكتاب عن فائدته، ولذا ورد في الأحاديث: (إنه لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن حبنا أهل البيت؟)(1).

3 - أدوات.. لإرضاء الغرور، كأن يشتري الانسان الدار الواسعة لأجل كسب الوجاهة، لا لسد الحاجة، فالانفاق للدار خيالي، لا واقعي، وكذلك في شراء السيارة والأثاث والبستان وغير ذلك مما ليس لأجل الصرف حسب الحاجة، بل لإرضاء الغرور والاستعلاء والمباهاة.

4 - احتياجات كاذبة، كأن يكون رأس المال لدى الإنسان، ليس وسيلة للراحة، إنما لأجل إشباع الغرور، وهذا يوجب أن يُرهق الإنسان نفسه ليل نهار لأجل شيء خيالي و وهمي.

5 - الانفصام بين الشعار والواقع، وهو نوع آخر من الغرور تمليه الأهواء

ص: 132


1- بحار الأنوار: ج35، ص300، دارالمعارف - بيروت.

على الإنسان، فيصرف الحاجة بدون جعل عنوان لها، مثل إن الثري يزوج ابنته بمهر خمسين فلساً مثلاً، ثم يشتري لها عشرة آلاف دينار من الأثاث العصري لأجل زواجها، فإنه يريد بجعل المهر خمسين فلساً إظهار نفسه بأنه فوق المال، بينما هو من أكثر الناس عبادةً للمال، فإن الحقائق تظهر بالأعمال لا بالأقوال.

6 - رأس المال يحدد ساعات العمل والفراغ، كما يعين رأس المال أوقات العمل والفراغ، مثل أن يعين كيفية صرف الوقت في الفراغ، مثلاً: يجعل وقت عمل العامل نصف الليل في تقسيم وجبات العمل (الشفتات) بين طائفتين أو ثلاث من العمال، أو يجعل لوقت فراغه أفلاماً حربية أو خليعة أو لعب كرة القدم أو ما أشبه، بدون ملاحظة أن الأهم أن يصرف العامل وقته في ماذا؟ وإنما يلاحظ رأس المال ما هو الأكثر درّاً للربح وإن كان بضرر المتفرج فكيف بنفعه؟

7 - حروب تفرض على الشعوب، كالحروب التي يفرضها الرأسماليون الغربيون على الشعوب، بينما يلزم أن تكون الحرب إما بآراء الكل، أو الأكثرية، ومن المعلوم كيف تهدر الحرب كل طاقات الإنسان في الدمار والفناء والهلاك!

8 - علاقات تجارية، فالعلاقات الإنسانية بالذات، مبنية على حب الإنسان للإنسان، لأن كل إنسان يجد نفسه في داخل الآخرين ورأيهم فيه كما الآخرين في داخل نفسه ورأيه فيهم، فإن الإنسانية شيء واحد موزع على الأفراد، ولذا ورد في الأحاديث: (فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك)(1).

و ورد قبل ذلك في الآية الكريمة: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

وقد أشرنا إلى ذلك في حديث سابق، أما في العالم الرأسمالي، فان الإنسان لا يحب أخاه الإنسان، وإنما يحب ما يتمكن أن يستفيد منه، ولذا صارت العلاقات رياءً وخواءً، حتى أن مسألة الأخلاّء والخليلات أصبحت علاقات

ص: 133


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص45، دارالمعرفة.

ريائية مكذوبة، فكل واحد منهما يريد الآخر للذة ولإشباع رغباته الجنسية فحسب، وليس هناك أيّ حب بينهما، وإن أظهرا الحب العميق في أقوالهما، ومن المعلوم أن الحب أساس الاجتماع لا اللذة العابرة والشهوة المشتعلة، ولذا نرى في العالمين الغربي والشرقي انهدام كيان الأسرة بشكل هائل.

وقد ورد في الحديث الشريف: (هل الدين إلا الحب)(1)، إشارة إلى ما بنيت عليه فطرة الإنسان المكونة للحياة السعيدة، فالحب عبارة عن حب الله، وعن حب رسوله، وعن حب الأئمة عليهم الصلاة والسلام، وعن حب العلماء والصالحين..

والحياة إنما هي لأجل الله سبحانه وتعالى والآخرة لا للذاتها، لأن حب الحياة للذاتها يوجب الفساد، كما نشاهد ذلك في معظم دول العالم، وكذلك حب العائلة وحب الإنسانية وحب الحيوان وغير ذلك.. من أقسام الحب والتي هي الجذوة الأولى في الإنسان وهي التي تسبب استقامة الحياة.

9 - العمل فوق القدرة، كصرف الإنسان وقته أكثر من طاقته، حيث إنه انحراف عن النهج المستقيم المودع في فطرة الإنسان التي هي ذات حد: إن زاد عليه كان إفراطاً وإن نقص كان تفريطاً، وذلك كأن يصرف الإنسان اثنتي عشرة ساعة في العمل لأنه يريد أجرة متزايدة أو ست عشرة ساعة مثلاً فإنه انحراف عن الحد المقرر للإنسان.

10 - طاقات معطلة، مثل الاستغناء عن الشيء الذي فيه بعض الطاقة، بإلقائه في النفايات كما نشاهد في كثير من البلاد المترفة أمثال فرنسا وأمريكا، فإن الناس لإرضاء غرورهم، والمزيد من التفاخر، يلقون بالأشياء والأثاث من مفروشات وكراسي وملابس وغيرها، في الشارع استغناءً عنها، بينما هي طاقات قابلة للاستعمال.

11 - الاعتناء بجانب وإهمال جوانب أخرى، والارتفاع في جانب من الحياة

ص: 134


1- بحار الأنوار: ج 62، ص 237، دارالمعارف - بيروت.

على حساب الانخفاض في جانب آخر، كالإسراف بإطعام وسقي الكلاب والهررة بالحليب واللحم وغيرها من المأكولات، وإلباسها وجعل المسكن لها، والوصية ببعض الأموال لأجلها، وتسهيل راحتها وفتح الدكاكين لأجل إصلاحها، وغير ذلك، على حساب ملايين الجائعين من بني البشر، الذين لا يجدون لقمة خبز، أولا يجدون ملبساً ولا مسكناً.

12 - الانحراف في تنظيم الاقتصاد، بحيث يحرم كثير من الناس، وتهدر كثير من المواد الاستهلاكية، فبينما نجد إن مئات من الناس يعيشون في حالة جوع وعريّ وفقر وسوء تغذية لعدم وجود الدواء والكساء اللازم لهم والعناية الصحية بهم، نرى أن كثيراً من البلاد المترفة تلقي بأطنان من الحليب والقمح والرز والفواكه في البحر بحجة تنظيم الاقتصاد، وليس ذلك إلا انحرافاً في المنهج العام في الاقتصاد.

13 - عدم توزيع العمال، وهو ما يسبب إرهاق كاهل فرد على حساب التخفيف عن فرد آخر، بتنظيم الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحيث إن جماعة تمثلها الدولة تقبض على أزمة كل شيء بينما تخفف كاهل الشعب من الاشتراك في الأعمال، فالتجارة والزراعة والمواصلات.. كلها ترتبط بالدولة، وهي كقطرات قليلة في بحر الناس الكثيرين، بينما الناس يمنعون عن مزاولة الأعمال في المنهج المسمى (بالاشتراكي) والموجود غالباً في العالم الثالث، فإن ذلك إنحراف عن المنهج القويم، إذ المنهج القويم يقسّم الأعمال والأرباح، فإذا اختص جماعة بالأعمال وجماعة بالأرباح كان هذا انحرافاً عن المنهج السليم.

14 - القرارات بيد النواب، فإنّ جعل القرارات بيد وكلاء الأمة في العالم الديمقراطي، يُعد انحرافاً كاملاً عن منهج الواقع لأنه كثيراً ما يختلف أكثرية الشعب عن أكثرية الوكلاء الذين يتخذون القرارات، بل اللازم أن يكون الوكلاء ذوي رأي خاص فيما ليس للشعب نظر خاص، أما إذا كان للشعب رأيه فاللازم أن يؤخذ بآراء أكثر الشعب مثلاً: قرارات الحروب أو الاقتصاد أو ما أشبه كثيراً

ص: 135

ما يبتّ فيها الوكلاء بأكثرية آرائهم، بينما إذا عرضت على الشعب نرى أن أكثرية الشعب يخالفون أمثال هذه القرارات، وهذا سلب للإنسان عن قدرته بسبب أجواء مكذوبة فرضت عليه، وكيف يمكن أن يعمل الوكيل كل شيء بدون رضى الأصيل؟

أما في الإسلام فإن معنى إعطاء المشورة - الواردة في القرآن والسنّة - لولي الأمر إنه مع كونه ولي الأمر لا يحق له الخروج عن رأي الأكثرية - بالنسبة إلى غير الرسول (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام) - حيث إنه إذا كان يحق له أن يستبد برأيه بعد المشورة لم تكن للمشورة ثمرة إلا ثمرة تلطيف الجو، أو أن يكون للمشورة دور إثارة شيء في ذهن الحاكم لم يخطر في باله فيأخذ به.

15 - التناقض بين العلاقة مع الاجتماع وبين العلاقة مع الافراد، مع أنهما نابعان عن حسّ واحد هو (إنسانية الإنسان)، وبذلك انفصم الإنسان عن نفسه، وصار غريباً عن ذاته، يحكم هنا بشيء ويحكم هناك بشيء آخر، بينما الحكمان يجب أن يصدرا عن مصدر واحد هو (الفطرة).

فالحب بين الأفراد منهار، بينما الاجتماع هو الذي يُحترم، ولذا نشاهد أن كل واحد منّا يعطي الضرائب للدولة - حيث إنه يحترم الدولة ويحترم القوانين الموضوعة، بل وفوق ذلك فإنه يعطي دمه في ظروف الحرب لوطنه وهل هذه الأمور إلا لاحترامه للإجتماع، ولكنه هل يساعد الأرملة والفقير والمحتاج؟ كلا، بل نشاهد أنه منقطع عن قريبه وجاره ولا يتعامل بالحب مع زبائنه وتلميذه ومعلمه وغيرهم .

وكيف يمكن أن يجمع بين إعطاء الدم وبذل المال وصرف الوقت والطاقة بالنسبة إلى الاجتماع العام، وعدم إعطاء حتى الشيء القليل لأية مشكلة فردية؟

رأي القرآن الكريم

وقد ألمع إلى ذلك القرآن الحكيم، في وصف اليهود الذين كانوا ماديين في وقت نزول القرآن، و قبل أن يفرضوا سيطرتهم الرأسمالية على العالم بقوله

ص: 136

سبحانه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83 - 86).

نلاحظ في هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى أخذ ميثاق بني إسرائيل، على لسان أنبيائهم وفي الكتب المنزلة عليهم، بعبادة الله وبالإحسان إلى الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين، وأن يقولوا لجميع الناس حسناً، وان يخلصوا العبادة لله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، كما أنه أخذ ميثاقهم أن لا يسفكوا الدماء ولا يخرجوا بعضهم من الديار، ولكن بني إسرائيل خالفوا أوامر الله سبحانه وتعالى، فبعضهم يقتل بعضاً، وفريق منهم يخرج فريقاً من الديار، ويتظاهر البعض على البعض الآخر بالإثم والعدوان، لكنهم إذا وجدوا بعضهم أسارى عند أناس آخرين فدوهم بأموالهم! فكيف يمكن الجمع بين الأمرين..؟ فإذا كان حباً بالنسبة إلى الأفراد كان معناه أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً، ولا يظاهر بعضهم ضد بعض، ويفادي بعضهم بماله البعض الآخر، الأسير في أيدي الآخرين، وإن لم يكن حباً فلماذا المفاداة؟ أفليس هذا دليلاً على انفصام في الشخصية وغربة النفس عن النفس، حيث تحكم النفس في مكان حسب الإنسانية، وتحكم في مكان آخر حسب القساوة وانقطاع الحب والوحشية؟

وهذه الحالة التي كانت في بني إسرائيل إبان نزول الآيات، تعمّ الآن العالم الغربي بأسره، لكن لا بالنسبة إلى النطاق المذكور في الآيات المذكورة فحسب، بل بالنسبة إلى كل شيء كما ألمعنا إلى جملة من ذلك في هذه البنود الخمسة عشر.

والمقولة الشائعة، (الدين لله والوطن للجميع)، إن صح أصله يلزم أن يراد به أن المقنن لجميع القوانين هو الله تعالى، لأن الدين هو مجموع القوانين، وإن الجميع لهم الحق أن يعيشوا بسلام وحب في الوطن الكبير الذي هو كل الأرض، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً، كما نجده في القوانين الإسلامية، ولذا نجد أن

ص: 137

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل (المدينة) ووجد فيها المهاجرين والأنصار والمشركين واليهود جعل عهداً بين الجميع بالدفاع عن البلد مجتمعين وعدم اعتداء بعضهم على بعض.

أما المعنى الذي قد يراد من تلك الكلمة المشهورة من أن المراد بالدين هو ما بين الإنسان وبين الله كما التزم المسيحيون وإن المراد بالوطن هو الوطن القومي والجغرافي.. فهذا معنى انفصامي أيضاً أي أنه انفصام الدين بعضه عن بعض، والوطن بعضه عن بعض، ومعنى انفصام الدين والوطن هو انفصام الإنسان، لأن الإنسان المنفصم ينفصم في الدين وفي الوطن أيضاً.

وعلى كل حال لو كان المهم الإنسان لشخصه الخاص، فلماذا إعطاء الضريبة من المال والوقت والدم للدولة وللمجتمع؟ وإن كان المهم الإنسان بما أنه إنسان لا بما أنه شخص، فلماذا عدم العطف على البائس والفقير والمحتاج؟

من هنا نشاهد في عالم اليوم أن كثيراً من الإنتاج والاستهلاك - سواء للإنسان أو لأوقاته أو لحاجاته - من قبيل الباطل، بمعنى انحرافه عن الطريق المستقيم، فلم يعد الإنسان سيد الموقف، إنما الأجواء والأهواء.

وحيث تبين لزوم أن يكون العمل في قبال العمل، ظهر بطلان كون النقد في قبال العمل، أو النقد في مقابل النقد، لأن النقد يُعد حوالة فقط، وربما كان النقد قد حصل من أتعاب الآخرين كما في الرأسمالية، حيث يحصل النقد بسبب الإكراه الفردي أو الإكراه الأجوائي، ولذا نشاهد ما يجري في العالم اليوم، من المفاسد والشرور، ولا علاج إلا بأن ترجع الأمور إلى نصابها الصحيح من الإنتاج والاستهلاك والصرف الصحيح سواء للإنسان عملاً، أو للإنسان فراغاً، أو لحاجياته التي يصرفها لأجل استمراره في الحياة. وإلا فالانحراف لا يولّد إلا الانحراف.

وهناك أمثلة أخرى للإنتاج الصحيح والفاسد، وللإستهلاك الصحيح والفاسد.

ص: 138

ومن المعلوم أن الإنتاج الصحيح واحد، وإنما الإنتاج الفاسد له شُعب كما أن من المعلوم أن الاستهلاك الصحيح واحد والاستهلاك الفاسد له شُعب. وإنما ألمعنا إلى أمرين في كل منهما إلماعاً لا على طريق الحصر والتعداد.

وعلى أي حال ، فإن ما ذكرناه هنا من الانحراف إن دل على شيء فإنما يدل على أن الإنسان يعيش في حالة غربة عن الكون وعن المجتمع وعن نفسه، وصدق قوله سبحانه وتعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (الحشر: 19).

فالإنسان الذي ينسى الله تعالى، ينسى نفسه أولاً، ثم جسده ثانياً، ثم مجتمعه ثالثاً، ثم العالم الطبيعي الذي يعيش فيه رابعاً، بينما إن لم ينس الإنسان الله سبحانه أخذ بقوانينه فلا ينسى نفسه، ولا جسده، ولا مجتمعه، ولا عالمه الطبيعي الذي يعيش فيه.

وهنا أربعة أمور:

الأول: الفطرة..

الثاني: الحاجة..

الثالث: الطبيعة..

الرابع: العالم المصنوع..

فالفطرة في داخل الإنسان.

والحاجة إنما تكون للجسد والنفس أيضاً.

والطبيعة هي العالم الذي صنعه الله سبحانه وتعالى، والذي يعيش فيه الإنسان سواء كان (عالماً طبيعياً) أو (عالماً اجتماعياً) أي سائر الناس الذين يكون الإنسان معهم من مجتمع واحد يتبادلون الحاجات والعواطف والمتطلبات، والعالم المصنوع هو الذي يصنعه الإنسان من الطبيعة لأجل أن يلائم حاجاته ومتطلباته.

مثلاً: الإنسان بحاجة إلى الأكل والملبس والمسكن والزوجة، فهو يزرع

ص: 139

ويحصد ويخبز ليلائم أكله لا كالحيوان يأكل العشب ويلتقط الحب وكذلك يربي الأغنام ليتخذ من صوفها ملابس بعد الغزل والنسج، و لا كالطيور والبهائم حيث تكتفي بما خلق عليها من الريش والوبر والشعر، وهكذا يصنع الآجر والجص والأبواب الخشبية والحديدية من تراب الأرض ومن الأشجار التي زرعها أو نبتت في الغابات أو المعادن ليسكن فيها بصورة الدار، أو يعملها بصورة حمام ليتنظف فيها، أو بصورة دكان ليجلس فيه ويبيع بضائعه، وليس كالحيوان الذي يعيش على الطبيعة في مسكنه أو بتطوير بسيط لها.

فلو استفاد الإنسان من العالم الطبيعي بشكل مستقيم، وصنعه معتدلاً، وأخذ منه حاجاته الحقيقية بغير إفراط ولا تفريط وتبديل واختلاف في الكم أو في الكيف، كان قد صرف الفطرة لأجل الحاجة، وأخذ من الطبيعة بقدر الواقع، وصنع للعالم المصنوع المحتاج إليه، المتوسط بين الإنسان وعالم الطبيعة طبقاً لحاجاته، وإلا كان انفصاماً في الفطرة، وتحريفاً لعالم الطبيعة، كما أنه تحريف للصنع والاستهلاك أيضاً..

مثلاً: لو أخذ ملابس كثيرة، أو أقل من المحتاج إليه، حتى أصبح عاراً عليه أمام أنظار الناس أو لم يُخط الثوب أو خاط الثوب خياطة بدقة متزايدة، أو خاطه بدون إتقان، أو لبس الثوب المهلهل، أو الثوب الضيق - بأن صنع الثوب على أحد النحوين - وكذلك إذا غالى في قيمة الثوب - بأن صنعه مطرزاً بالذهب واللآلئ - أو سفَّ في القيمة بأن يكون من جلد الحمير..!! كان ذلك كله خلاف الفطرة وصرفاً غير صحيح لأنه أما قلة أخذ من الطبيعة، أو كثرة أخذ منها، أو تشديد زائد في الصنعة، أو إسفاف فيها، أو الأخذ من العالم المصنوع بقدر أزيد من حاجاته، أو بقدر أقل منها، فكل ذلك زيادة ونقيصة وتبديل وتحريف.

وكذلك الحال مع الزوجة والمعاشرة مع المجتمع فإن كان هناك إسفاف ومغالاة فكلاهما انحراف، وكل ذلك معناه الانفصام في الإنسان عن الواقع وأنه يصبح الإنسان غريباً عن نفسه وغريباً عن الطبيعة، وغريباً عن مجتمعه.. كما

ص: 140

ابتلي بكل ذلك عالم اليوم، ففي جانب منه ارتفاع مغالي فيه، وفي جانب آخر انخفاض مغالى فيه، وبين ذلك تبديل وتحريف.

البحث عن الجذور

ولا يخفى إن ما يشهده عالم اليوم من المظاهر السيئة في الانحراف والانفصام، إنما هي وليدة جذور منحرفة، فلا يمكن التخلص من هذه المظاهر السيئة إلا بتقويم الجذور وتعديلها، فإن كل ظاهرة لابد لها من خلفية، فالظاهرة لها آثار حسنة إن حسنت خلفيتها، و تكون سيئة إن ساءت خلفيتها، ولنمثل لذلك بمثال ملموس في جانب من جوانب الحياة وجدناه في العراق قبل الحرب العالمية الثانية، ورأينا خلافه بعد الحرب، وعلى ذلك تقاس سائر الأمثلة، علماً بأن الاختلاف بين ظاهرتين حسنة وسيئة، ليس من جهة وجود الحرب، وكون الحرب فاصلاً بين السابق واللاحق، وإنما في كل مكان من العالم كانت الظاهرتان سابقة، ولاحقة، أما السابقة فهي حسنة على الأغلب لجذورها الحسنة، وأما اللاحقة فهي سيئة على الأغلب لتبدل الجذور من الحسنة إلى السيئة، وبعد ذلك أعطت الظاهرتان آثاراً حسنة وسيئة، كل منها بحسبها.

ونتكلم حول ذلك في أربعة أمور:

الظاهرة الحسنة المبنية على الخلفية الحسنة.

والظاهرة السيئة المبنية على الجذور السيئة.

أولاً: الظاهرة الحسنة وجذورها الحسنة

منزلٌ متواضع في بنائه، يحتوي على عشر غرف يسكنها أب وأم، لهما من الأولاد خمسة ومن البنات ثلاث، فزوجوا الأولاد بخمس فتيات، كما زوجوا البنات بأكفاء، وقد خرجت البنات من المنزل بدون احتياج إلى معونة الأب والأم، إلا معونات بسيطة كان الأبوان قد جمعاها لهن تدريجياً من بعض الملابس والأواني والمفروشات.

ص: 141

أما الأولاد فعندما تزوجوا اتخذ كل منهم مع زوجته غرفة من غرف البيت، لأن المهور كانت في غاية البساطة، كما إن الأثاث كان في غاية البساطة أيضاً، فاكتفى كل ولد مع زوجته بغرفة من غرف البيت، وبقيت غرفتان للأب والأم، وغرفة للضيوف وغرفة للطعام، يجتمع الكل فيها على مائدة واحدة مع حفظ الحجاب، وغرفة تحولت الى مستودع، وكان في البيت مطبخ مع مخزن للوقود كالحطب والفحم ومحفظة خشبية للأواني. وكان في الدار ثلاثة سراديب، سردابان كبيران وسرداب صغير: الصغير للأب والأم، وأحد السردابين الكبيرين للأولاد مع زوجاتهم - مع ستر بين كل ولد عن الولد الآخر - وسرداب لأجل صنع المخللات، وغير ذلك، وفي البيت ايضاً حوض يسحبون إليه الماء من البئر لأجل الاستعمال، أما ماء الشرب فيأتي به سقاؤون، ولا يوجد في البيت كهرباء، وإنما كانت المصابيح الزيتية، هي مصدر الإضاءة في ذلك الزمان. وكانت هنالك بئر مشتركة بين جارين، كل واحد منهما ينضح منها الماء، وكان عمل العائلة صنع المخللات. وكانت الأواني مصنوعة من الفخار، وهناك بعض الأواني الصغيرة للمخللات كالأكواب والدوارق، وكانوا يتخذون الخل من التمر والفواكه التي كانت تزرع في نفس البلاد، كالقثاء والشلغم والثوم وغيرها، والكل يتعاونون في الطبخ والكنس وغسل الملابس وغسل المنزل وغزل المغزل لأجل اللباس وغير ذلك.

وكان أبو العائلة يشتري أول العام الأرز والسكر والشاي والفحم والدهن والحبوب والطحين لأجل حوائج السنة أو ستة أشهر، أما اللحم والفواكه والخبز فإنها تُشترى كل يوم، مع أنه كان في البيت أيضاً تنور يخبزون فيه أحياناً لاسبوعهم.

وهكذا؛ كانت حياة هذه العائلة، حياة عفاف وكفاف وقناعة، وكان الرجال والنساء يتعاونون لأجل صنع المخللات، عملاً وانتاجاً و تسويقاً في دكانهم المتواضع، وفي أيام الجمعة والأعياد والوفيات كانوا يذهبون إلى الحرم الشريف والمزارات المقدسة، ويزورون بيوت الأقرباء والأصدقاء، وأحياناً كانوا يزورون

ص: 142

المقابر. كما أنهم كانوا يحضرون مجالس الوعظ والإرشاد. وكان الأب يعطي الخمس الزائد في رأس كل عام لمرجعه، كما أن الأب والأم والأولاد والزوجات كانوا يحضرون صلاة الجماعة في أكثر الأيام. وقد أصبحوا أثرياء بعد مدة، فاشتروا بستاناً كانوا يستعملون حطبه في وقودهم، وثماره في أكلهم ومخللاتهم، وكانوا يبيعون من البستان للانتفاع بأثمان المبيعات، ويتنزهون فيه جملة من الأيام في كل عام، وإذا اجتاحهم مرض كانوا يعالجونه بالأدوية البسيطة الرخيصة جداً، وعند الولادة يستخدمون بعض نساء العائلة كقابلة وإذا صعب الأمر، جاؤوا بقابلة محترفة، وفي كل عام في أشهر الربيع كان الأب يغلق دكانه ليذهب هو وعائلته إلى زيارة الكاظمية وسامراء والمراقد المقدسة الأخرى.

وهكذا كانوا يعيشون عيشةً رغيدة مرفهة بحنان ولطف وتعاون.

أما الحمّام فلم يكن في البيت، وإنما كانوا يستحمون في أغسالهم الواجبة والمستحبة وتنظيف أجسامهم في أشهر الصيف في داخل البيت، وفي الأشهر الأخرى كانوا يذهبون إلى الحمامات العمومية.

وكان أثاثهم غالباً، أثاثاً بسيطاً يقتنعون به مدة سنوات، سواء في الملابس أو المفروشات أو الملاحف أو غيرها مما يحتاج إليها الإنسان.

وكانوا يعيشون نظيفين حيث إنهم يعتقدون أن (النظافة من الإيمان)(1) حسب الحديث الوارد فكانوا نظيفين في أجسادهم وبيتهم وأثاثهم.

هذه الظاهرة الحسنة لهذه العائلة ومثلهم كثيرون، وارءها خلفية، وهي مبنية على خمسة أمور:

أولاً: الإيمان بالله

الإيمان بالله واليوم الآخر، والخشية من الله في ارتكاب المعاصي أو ترك الواجبات ولذا كانوا يلتزمون بالطاعة ويجتنبون المعصية، وكانوا يلتزمون حسب

ص: 143


1- نهج الفصاحة: ص636.

المقدور بالمستحبات ويتركون المكروهات، مثلاً: يلتزمون بغسل الجمعة، كما أنهم كانوا يتركون النوم بين الطلوعين، وبعض منهم يعرف القراءة والكتابة فيقرأ القرآن في كل صباح بصوت مرتفع لما ورد من أن ذلك يوجب الثواب في الآخرة والصحة والسلامة والثروة في الدنيا.

ثانياً: الفضيلة

فقد كانوا يتمتعون بالفضائل الخلقية كالقناعة، والتعاون، وحسن الخلق، واحترام الصغير للكبير، وعفو الكبير عن الصغير، والكفاف، والعفاف، وعدم الحرص والحسد، وغير ذلك، ولهذا تمكنوا أن يتعاونوا بينهم في صفاء ووفاء ووئام. وقد حصل للعائلة بعد سنوات عدة من الأولاد. فمن الأول ثلاثة ومن الثاني اثنان، ومن الثالث اثنان أيضاً، ومن الرابع واحد، ومن الخامس أربعة.

وقد حصلوا بسبب الأصهار والأنساب - سواء من أبنائهم أو من بناتهم - على صداقات كثيرة مع عوائل متعددة كانت ثمان عوائل، فكان بينهم التزاور والتضايف والتعاون على مختلف الأصعدة.

ثالثاً: الاقتصاد السليم

فقد كان الاكتفاء الذاتي سائداً على البلاد، و (كل إنسان يمد رجله بقدر بساطه) - كما يقول المثل المشهور- والرخص حاكم على المجتمع.

رابعاً: الخلفية السياسية

فقد كان في الناس نوع من الرشد، فما كانت الضرائب المرهقة، كما كانت الحريات الواسعة، ولم يكن الربا والاحتكار والغش والمفاسد الاقتصادية الأخرى في البلاد، التي تروج لها السياسة والاقتصاد المنحرفين.

خامساً: المجتمع المستقيم

حيث لم يكن في المجتمع التنافس المحموم، إنما كان التنافس الشريف نحو التقدم، وما كان السخط على العيش، بل كان الرضا هو السائد، ولم يكن

ص: 144

المتعارف بين الناس هضم حقوق الآخرين، إنما كان الجميع على علم بحرمة التجاوز على حقوق الآخرين، وعدم جواز أكل أموال الناس بالباطل والتعدي على حقوق الآخرين، سواء في الأموال أو في الأعراض أو غيرها.. فهذه الخلفية التي كانت مهيمنة على أذهان أفراد المجتمع، كانت تشكل تلك الظاهرة، وهذه الخلفية بدورها، تغذي الجذور.

ثانياً: الظاهرة السيئة وجذورها السيئة

عندما تتغير الخلفية، سيطراً التغيير على الجذور ايضاً، ومن علامات ذلك:

1 - ضعف الإيمان، وتراجع الخوف من الله سبحانه وتعالى، وعدم ارتقاب ثوابه والخشية من عقابه.

2 - تراجع الفضيلة، وبدل التعاون حلّ التدابر، وأخذ الحرص والطمع والاهتمام المفرط بالكماليات، وحلّ الاسراف والتبذير والأنانية والكبرياء والغرور مكان الفضيلة.

3 - صار الاقتصاد مرتبطاً بالخارج.. من الخلّ، الذي بدأ يغزو الاسواق في حاويات معلبة، إلى أنابيب الماء وأسلاك الكهرباء والقماش والغاز الذي حلّ محل الحطب، أو النفط المتزايد الذي لم يكن في السابق معروفاً بهذه الكيفية والكمية، وإنما كانت العائلة تشتري النفط لأجل المصابيح بثمن زهيد، كما استوردت الأدوية الحديثة بكثرة.

4 - حلّ الربا والاحتكار والغش والخداع وأكل أموال الناس بالباطل، مكان الانصاف والعدل والصدق والامانة، ولذا احتاج الناس إلى تثبيت كل شيء في سجلات وأوراق معقدة، وايضاً تسجيل عقد النكاح وغير ذلك، بينما كان الإنسان سابقاً، يكتفي بتسجيل العقد في ورقة صغيرة إذا باع داره أو بستانه، منتهى الأمر أن يزينوه بتوقيع عالم وشاهدين من كبار المنطقة، كما كانت القضايا تُحل عند عالم دين في المنطقة أو من المقربين منحيث صنف المهنة، أما بعد

ص: 145

ذلك حيث تبدلت الجذور، فقد باتت القضايا لا تُحل إلا بالمحاكم والمحامين والرشاوى!

5 - تبدل السياسة.. فقد فرضت الدولة الضرائب المرهقة، مما تسبب باستنزاف أموال الناس، وتضخم الجهاز الحكومي بشكل كبير جداً، وقمعت الحريات، مما أوجب عدم إمكان التحرك الاقتصادي بسهولة.

6 - تبدل الأخلاق.. فقد حل التباغض والحسد مكان التعاون وحب الخير للآخرين، وحلت الكماليات والحرص ، محل الكفاف والعفاف.

فكل شاب ينظر إلى شاب آخر تزوج قبله – مثلاً- فيقول: المهر الذي دفعه فلان ألف دينار فلا يمكن أن يكون المهر الذي أدفعه أقل من ذلك، وداره أحسن وضيافته أدسم ودكانه أفضل وأثاثه وسيارته أجمل.. إذن؛ فقد تغيرت كل الجذور والخلفيات، وحتى أن أصوات القرآن التي كانت تسمع من البيوت والدكاكين، والأدعية التي كانت تتلى في الصباح والمساء والعصر كلها اختفت، وأصبح مكانها المذياع والتلفزة والموسيقى والرقص والمجون، وتقلّص الحجاب تقلصاً سريعاً، وانتشرت الخمور ومحلات القمار ونوادي الفساد، وصار الشباب والشابات جيلاً منفصلاً عن الآباء والأمهات، فباتوا لا يحترمون الآباء والأمهات إطلاقاً، وإنما يرمونهم بالخرافة والرجعية والجمود، كما إن الآباء أيضاً عجزوا عن نصح الأولاد لأنهم رأوا المقابلة بالسوء من أولادهم.

أما الآثار السيئة التي ترتبت على تلك الجذور التي تبدلت من الجذور الحسنة إلى الجذور السيئة، فهي كبيرة وكثيرة منها - مثلاً - بقاء البنين والبنات عزاباً وعوانس إلى سن متأخرة، وبذلك تفشت العادات السيئة مثل الاستمناء والعلاقات الجنسية اللامشروعة والأمراض التابعة لها، كما كثر الفساد واختطاف البنات أو الأولاد لأغراض سيئة، وأخذ الشباب يسافرون مع زملائهم وزميلاتهم إلى أماكن المجون و بؤر التحلل الاخلاقي، كما كثرت البطالة حيث فقدت الأعمال المرجوّة لهؤلاء الشباب. فالشباب غير مقتنعين بعمل الآباء، وإنما

ص: 146

يذهبون إلى المدارس ويتوقعون الوظائف، و ازدادت السرقة، وارتفعت أسعار البضائع، وايجارات الدكاكين والبيوت، وأخذت تظهر تجمعات التخريب من الشباب الوافدين من الخارج ، وكثر العداء والبغضاء والتباعد الطبقي . ولذلك توترت العلاقات مع الأنظمة فلم يتعاون معها أحد.

وتبعاً لكل ذلك كثرت الجرائم والقتل، وامتلأت السجون، وبدأ التعذيب في السجون لانتزاع الاعتراف من جمعيات التخريب أو السراق والقتلة وأمثالهم.. وإذا بالمجتمع تبدل من الحسن إلى السيئ، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن مثل ذلك: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).

فظهور الفساد في البر والبحر إنما هو بما كسبت أيدي الناس، لأنهم بدلوا نياتهم وعقائدهم وأخلاقهم وأسلوبهم في الاقتصاد والسياسة والاجتماع فظهر الفساد.

وهكذا كانت الظاهرة السليمة مستندة إلى خلفية سليمة، كما حصلت الظاهرة المنحرفة ذات الآثار السيئة من جذور منحرفة.

وهكذا أصبح الاجتماع في العالم، في الوقت الحاضر، مع الفارق بين درجات الانحراف، مما سبب تفاوت في انحراف الظواهر الاجتماعية، ولا علاج للانحراف إلا بالرجوع إلى الجذور وتطهيرها وتقويمها حتى تستقيم الظواهر.

ثم إن الظاهرة التي ذكرناها في التفاوت بين الأسرة السابقة، المبنية على الصحيح، والأسرة الحديثة المبنية على السقم، ليست خاصة بالأسر فقط، وإنما كان ذلك مثالاً، بل ظهرت نفس الظاهرتين في المدارس والمستشفيات والمستوصفات والمعامل و الدوائر الحكومية والشركات والمحال التجارية، بل و دور العبادة أحياناً وغيرها، مع تفاوت بعضها عن بعض، فالصلاح كماء المطر إذا جاء سالت أودية بقدرها، والفساد كالنار إن شبت، كان لكل مكان نصيباً منه، ولذا قال سبحانه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (الأعراف: 56، 85).

ص: 147

وقال سبحانه في آية أخرى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة: 204 - 206).

ولذا نرى أن الإسلام عالج الجذور قبل كل أي شيء آخر، وبنى الأسس الكفيلة لسعادة الإنسان وعمارة الأرض، ونذكر من هذه الأصول عشرين:

1 - أصالة الإيمان، وهي (العقيدة).

2 - أصالة الخضوع لله، وهي (العبادة).

3 - أصالة الخضوع للرسول (صلّى الله عليه وآله)، ونوّابه (عليهم السلام): وهي (الطاعة) وتتبعها (البيعة).

4 - أصالة الأخوة، بأن يحب كل أحد لغيره ما يحب لنفسه وذلك يوجب الوحدة فيما بين الأفراد.

5 - أصالة التعاون، وبذلك تتشكل الأمة الواحدة التي ذكرها الله تعالى في قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).

6 - أصالة المساواة أمام القانون.

7 - أصالة المسؤولية، وذلك بأن يسأل الإنسان عن كل شيء من أفكاره وأعماله وأقواله.

8 - أصالة الجزاء، وذلك بأن يجازى كل إنسان بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

9 - أصالة العدالة، فإن لكلٍ حقه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحقوقه الأخرى.

10 - أصالة العقوبة، وذلك بمجازاة الإنسان المتعدي على إنسان آخر نفساً أو مالاً أو عرضاً فالزنا جزاؤه الجلد، والقتل جزاؤه القتل وهكذا..

ص: 148

11 - أصالة الإحسان، وذلك بإعطاء الإنسان أكثر مما يأخذ. وذلك مأمور به في الشريعة الإسلامية لأجل استقامة الحياة. قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90).

12 - أصالة الحرية، وذلك عبر انطلاق الكفاءات.

13 - أصالة الصحة، في عمل المسلم وقوله وسائر شؤونه.

14 - أصالة الطهارة، أي نظافة الإنسان وأشيائه وكل شيء في الحياة ما لم يعلم أنها قذرة.

15 - أصالة الإباحة، وتعني إباحة الأشياء للإنسان إلا ما خرج بالدليل.

16 - أصالة البراءة، أي أن كل إنسان لا يتحمل مالاً أو جرماً أو ما أشبه مما لم يثبت.

17 - أصالة احترام الإنسان في كل شؤونه، وهي: (الحرمة).

18 - أصالة الفضيلة، أي التخلّق بالأخلاق الحسنة فكراً وقولاً وعملاً. قال سبحانه: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 89).

وقال تعالى في الحالة المناقضة: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (الهمزة: 6 - 7). وقال سبحانه أيضاً: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الملك: 13).

هذا بالنسبة إلى الفكر؛ وأما بالنسبة إلى القول، فقد قال سبحانه: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).

إلى غير ذلك مما ورد في المؤاخذة على القول أو كون القول الحسن فضيلة، كما قال سبحانه: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) (إبراهيم: 24 - 25).

وقال تعالى، بالنسبة إلى الكلام السيئ: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم: 26).

ص: 149

وأما بالنسبة إلى الأعمال الجوارحية، كأعمال العين والأذن والفم والبطن والفرج واليد والرجل وغيرها، فقد قال سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).

وقال سبحانه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39).

فأصالة التخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب الرذائل هي: (الفضيلة).

19 - أصالة الملكية، أي كون الإنسان مالكاً لآثاره وما يحصله بسبب الأعمال وحيازة المباحات وما أشبه.

20 - أصالة العلاقات الاجتماعية، أصالة العلاقات النسبية والسببية كالزوجية والقرابة وهي (الصلة).

وبهذه الأصول العشرين التي ألمعنا إليها، يطهّر الإسلام الجذور بشكل كامل، وتبعاً للجذور النظيفة والطاهرة، تنبت الظواهر الحسنة، ولو سادت هذه الجذور في العالم - وكلها عقلية قبل أن تكون شرعية لأنها نابعة من الفطرة الإنسانية كما ذكرناها)- لصلح المجتمع، وساد الوئام والصفاء، ورفرف الخير على الفرد والمجتمع في كل مكان.

1 - نهج الفصاحة: ص636.

وعلى هذا، المجتمع السليم، هو المجتمع المؤمن بالله واليوم الآخر، الخاضع لأحكام الله ورسوله، ويكون الجميع فيه أخوة متساوين أمام القانون، والكل حرٌ مسؤول عن عمله بدون إكراه فردي أو أجوائي، وله أجره بدون استغلال إنسان لإنسان آخر، ولكل حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية على قدم المساواة، وبقدر الكفاءات، ولو تعدى إنسان على إنسان آخر عوقب المتعدي، وإن كان المتعدي عليه عفافياً، فالإنسان محترم، متخلق بالفضيلة وليس عبداً لشهوة أو مال أو جاه، وهو يملك كل آثاره مما حصله، فهو مسلط على نفسه وماله في إطار عدم الإضرار بالآخرين من جيله المعاصر والأجيال الآتية. وتُحفظ في مثل هذا المجتمع أواصر العائلة والأقرباء. والأصل في هذا المجتمع بالنسبة إلى كل فرد فرد (البراءة) حتى تثبت إدانته أو دينه، والأصل في

ص: 150

عمله الصحة فلا يحمل عمله على الفساد، وكل شيء للإنسان في هذا المجتمع طاهر حلال حتى يثبت خلافه، ومثل هذا المجتمع يصبح الفرد فيه كالمجتمع العام أيضاً باطنه الأمن والحب وظاهره التنعم والتقدم وليس مثل هذا المجتمع أجنبياً عن نفسه ومنفصماً عن ذاته، ولا له وجهان: ظاهر وباطن متخالفان، بل الظاهر والباطن والفرد والمجتمع كلها وحدة واحدة تسير إلى الأمام، وفي مثل هذا المجتمع يكون (الإنسان) المحور وسائر الأشياء خدم له.. فهو مجتمع إنماء الكفاءات والتعالي، وتبادل الحب، وتقدم الأفضل فالأفضل.

لكن مثل هذا المجتمع لا يوجد إلا تحت مظلة الأنبياء (عليهم السلام) أما المجتمع في الوقت الحاضر، الذي وجد تحت مظلة المادة والشهوة، فليس له سوى أن يتأخر يوماً بعد يوم، وهو مجتمع تحطيم الكفاءات، وتبادل الكراهية والبغضاء وتقديم الأسوأ فالأسوأ.

الفقر.. مثال الصياغة غير السليمة في العالم

إذا كانت «الصياغة الجديدة» للعالم، تطمح للقضاء على الفقر والانحراف العالمي، عليها أولاً: أن تهدم هذا النظام الرأسمالي ، الذي تمارسه بلاد كثيرة في العالم، لإن هذا النظام هو المسؤول عن ظهور وانتشار الفقر في الغرب لسببين، وفي الشرق لثلاثة أسباب، وفي العالم الثالث لأربعة أسباب، فما دام هذا النظام موجوداً، فان الفقر ضاربٌ بأطنابه على كل العالم.

أما سبب الفقر في الغرب فهو:

أولاً: سرقة الرأسماليين ثروات الفقراء تحت ستار مختلف القوانين والأنظمة، كأنظمة البنوك الربوية، وأنظمة الاحتكارات الجماهيرية، وعدم إعطاء حق العامل والفلاح والموظف ومن اليهم بقدر ما يعملون.

ثانياً: عدم إعطاء لا يعطي المجال لهؤلاء حتى تنطلق مواهبهم و يكونوا في مستوى عالٍ من القوم، فيتأخرون، ولذا يحرمون من استثمار مواهبهم و قدراتهم، التي تعود إليهم، مثلهم في ذلك مثل إنسان يعيش على معدن ويتمكن من

ص: 151

استخراج المعدن حتى يرفع حالته ويحسن معيشته، لكن الأنظمة التي وضعها الدكتاتوريين تمنع من استخراج المعدن.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في جملة حكمة بعثة الأنبياء (عليهم السلام): (ويثيروا لهم دفائن العقول)(1).

بمعنى: أن الأنبياء (عليهم السلام) يثيرون للناس دفائن عقولهم حتى يتمكنوا من الاستمتاع الكامل بالحياة و التطلع الى آفاق المستقبل.

هذا بالنسبة إلى الفقر في الغرب.

أما الفقر في الشرق(2)، فيضاف إلى السببين الموجودين في الغرب سبب ثالث، وهو: إن الدولة المستبدة تستنفذ آخر قطرة من ثروات الناس، وليس هناك في الشرق من يدافع عن العمال والفلاحين والموظفين وسائر طبقات الشعب، بينما في الغرب، ثمة ديمقراطية مهلهلة، ودفاع صوري يوقف الرأسماليين والدولة عند حدهما ولو بقدر، وهذا الشيء مفقود في الشرق الشيوعي.

أما في العالم الثالث - حسب المصطلح السائد- فيضاف إلى الأسباب الثلاثة سبب رابع هو: إن المواد الخام التي هي ملك طبيعي للناس، يشتريها الشرق والغرب منهم بأسعار زهيدة، ويتعامل معهم بصورة غير عادلة، لكنهم مضطرون للبيع للشرق والغرب، ثم إذا تحولت تلك المواد الى منتوجات وسلع، بيعت الى العالم الثالث بأثمان باهضة. ثم ان تابعية الأنظمة السياسية القائمة في العالم الثالث، الى الغرب، أو الى الشرق، في وقت ما، وبشكل علني أو مموه، ساعد على ديمومة هذه العلاقة غير العادلة.

ثم إنه إذا كان اختلاف سطح الثروة في بلدٍ ما ، يسبب فقر جماعة وغنى جماعة آخرين، كان الفقراء يعالجون المشكلة بالذهاب إلى البلاد الغنية، لأن

ص: 152


1- بحار الأنوار: ج39، ص291.
2- - في القرن الماضي كان هنالك ما يسمى ب- «المنظومة الشرقية» التابعة للاتحاد السوفيتي السابق، أو ما تعرف بدول حلف «وارشو».

الثروة للكل، والله سبحانه وتعالى لم يخلق البشر لأن يكون بعضهم رأسماليين كبار وأصحاب مليارات وملايين، وبعضهم يتضورون جوعاً ولا يجدون حتى لقمة العيش وغذاءً كافياً ودواءً ينقذهم من الأمراض، ولذا كان يتحقق نوعاً من التوازن، مثلاً: لما وجدت الثروة في أوربا نزحت جماعات كبيرة من الآسيويين إلى هناك، وعندما ظهرت أمريكا، نزحت الملايين من أوربا إلى أمريكا.

أما في الوقت الحاضر، فقد أوجدت الأنظمة المنحرفة للبلاد، طوقاً محكماً لا يتمكن الفقير من اختراقه والخلاص منه، ولذا بقي الفقراء على حالهم، بل ازدادوا فقراً، و ارتفع مستوى الغنى لدى الأغنياء إلى ما فوق حد التخمة، بينما كان مقتضى القاعدة أن يتمكن الإنسان (وهو عيال الله سبحانه وتعالى كما في الأحاديث) أن يذهب إلى أي مكان شاء من الأرض ويكتسب ويكد ويجتهد ويستخرج ثروات الأرض.

وعلى هذا، فقد حدث شيئان كلاهما خلاف فطرة الإنسان وخلاف شرائع السماء:

الأول: إن البلاد الغنية لا تتقبل الفقراء، فهناك جدار فاصل بين البلاد الغنية والبلاد الفقيرة يمنع دخول الفقراء في بلاد الأغنياء.

الثاني: إن البلاد الغنية تمتص الثروة من البلاد الفقيرة - كما تقدم - بمختلف الوسائل والسبل والأنظمة والحكومات العميلة، بسبب الخبراء، وبسبب تصدير المصنوعات، ونهب الخيرات والمواد الخام، وغير ذلك، في نفس الوقت يحظرون دخول الفقراء الى أرض الله الواسعة بهدف العمل والتكسّب، بينما كانوا في السابق يذهبون إلى البلد المتقدم الذي يزداد غنى ليكونوا أغنياء (كما هو غني أيضاً) نشاهد في الوقت الحاضر أنه لا يسمح للفقير بدخول أراضي الله الواسعة، وبالإضافة إلى ذلك تمتص البلاد الغنية بقايا الثروة الموجودة في بلاد الفقراء وتكدسها فوق ثرواتها، ولذا تجد في الغرب وفي البلاد الغنية أصحاب المليارات، وتجد في البلاد الفقيرة مئات الملايين من الجياع.

ص: 153

الفقراء يتحسّسون واقعهم!

ثم إن الفقراء في العالم السابق ما كانوا يحسّون بمشكلة فقرهم بمقدار ما يحسون بها في الزمن الحاضر، فقد زاد إحساس الفقراء بفقرهم، بشكل متزايد، مما سبب لهم عقداً نفسية ومشاكل جمة، وإنما زاد إحساس الفقراء بفقرهم لأسباب:

الأول: دخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي دخلت حياة الانسان، أوصلت العالم بعضه ببعض، من خلال الاتصالات السريعة، وشبكة (الانترنت) والقنوات الفضائية.

الثاني: سهولة السفر بين البلاد، التي سببت اتصال الفقراء بالأغنياء، وبالعكس، فوجد الفقراء العيش الرغيد عند الأغنياء، فيما هم يعيشون الحرمان وشضف العيش.

الثالث: الحروب التي استنزفت ثروات الشعوب، حيث إن القوى الكبرى تحتاج في حروبها الى المال والمعادن والنفط، فتقوم بالاستيلاء على ثروات البلاد الفقيرة، فعرف الفقراء كيفية عيش الأغنياء، وبذلك ازدادوا شعوراً بالفقر والظلم والاضطهاد والتخلف.

الرابع: شيوع ثقافة الفقر وتكريس حالة الحرمان في البلاد الفقيرة، بعد أن باتت القوى الكبرى في العالم بفضح بعضها البعض، حيث إن كل دولة ساعية لاستعمار البلاد الاخرى، فضحت الدولة الأخرى بأنها تعيش في رفاه وبحبوحة من العيش، على حساب الآخرين. مما كرّس حالة الإحباط والشعور بالهزيمة الضعة أمام القوى المتقدمة والمهيمنة في العالم، و هذا الشيء لم يمن موجوداً في السابق.

الخامس: انفتاح الفقراء في الأنظمة الديكتاتورية، على نمط حياة الشعوب المرفهة والسعيدة، فيتضح البون الشاسع بين حالهم، رغم ما يمتلكونه من ثروات

ص: 154

وامكانات، وبين تلكم الشعوب المستقرة والمتقدمة، لذا يطلبون تحقيق حياة مماثلة لما يرونه، لكن حيث لا يتحقق هذا الحلم، يقع النزاع بين النظام الحاكم والشعب، وينتهي الأمر إلى الانتفاضات والثورات والحروب والانقلابات وغير ذلك، مما يسبب إحساس الفقراء بالفقر أكثر فأكثر.

فالفقراء، بالإضافة إلى أن الفقر أمر واقعي في بلادهم، فهو شيء ملموس لهم، وفرق بين مريض لا يعلم بأنه مريض، وبين مريض يعلم بأنه مريض فهذه المعرفة تسبب له آلاماً نفسية بالإضافة إلى واقعه الخطير.

وعلى أي حال، فالفقراء يزدادون فقراً بصورة مستمرة لحساب تقدم بلاد الأغنياء وبصورة مستمرة.

أما ما يؤول اليه الفقر والتخلف فهي كثيرة نذكر منها عشرين:

الأول: ضعف العقيدة وانتشار الرذيلة، وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون كفراً)(1).

وفي حديث آخر: (الفقر سواد الوجه في الدارين)(2).

ومن الطبيعي أن الكفر والرذيلة مقترنان.

الثاني: ارتفاع نسبة الأمراض وكثرة الموت، ولذا نشاهد أن الأمراض في البلاد الفقيرة أكثر من الأمراض في البلاد الغنية، كما أن الموت المبكر يوجد في البلاد الفقيرة بصورة مذهلة، وكثير من الأطفال يموتون جوعاً أو لسوء التغذية أو لعدم استقامة البيئة، بينما هذه الأمور ليست موجودة في بلاد الأغنياء بهذا الشكل.

الثالث: قلة الزواج وكثرة العزاب والعوانس، فإن الزواج له تكاليفه، بحيث إن الفقير لا يتمكن من تحملها، فيبقى عازباً وعازبة، ومن الواضح إن عدم الزواج يسبب الآلام النفسية كما يسبب الآلام الجسدية والأمراض وغير ذلك.

ص: 155


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص23.
2- وسائل الشيعة: ج6، ص90.

الرابع: سوء التغذية.

الخامس: تلوث البيئة.

السادس: ارتفاع نسبة الجهل بشكل كبير.

السابع: كثرة النزاعات، فالفقر - بالإضافة إلى أنه بنفسه يسبب النزاع بين جانبين يتجاذبان شيئاً من الثروة - فهو يسبب سوء الخلق، وسوء الخلق ينتهي إلى النزاع والشقاق، والطلاق في بلاد الفقراء أكثر منه في بلاد الأغنياء.

الثامن: كثرة البطالة.

التاسع: العقد النفسية.

العاشر: قلة وسائل الراحة، فالفقير لا يتمكن من أوليات حياته، فكيف يتمكن من تهيئة وسائل الراحة لنفسه ولعائلته؟

الحادي عشر: تخلف المرأة عن قافلة التطور والرقيّ، وسقوط جملة منهن في بؤرة الرذيلة، وضياع حقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

الثاني عشر: قلة الاستهلاك تبعاً لقلة الدخل.

الثالث عشر: استخدام الأطفال قبل السن المقررة في ميدان العمل، لأن الفقراء يضطرون إلى استخدام أطفالهم في اعمال شاقة وبأجور زهيدة، لعلهم يتمكنون من سد بعض حاجاتهم الملّحة الضرورية.

الرابع عشر: الدكتاتورية في الحكم، ولذا لا تجد في البلاد المتخلفة حتى بلداً واحداً يسوده النظام الديمقراطي، ولو بقدر ديمقراطية الغرب.

الخامس عشر: قلة الوعي، والوعي الموجود يُعد نادراً، حتى يصح أن يقال بأنه كالعدم.

السادس عشر: التصحّر، وبقاء الصحارى يباباً، لأن الصحارى لا يمكن أن تثمر إلا بالوسائل، وبالمال، هذا إضافة إلى وجود قانون مثل: (الإصلاح

ص: 156

الزراعي)! الذي يفرض في أمثال هذه البلاد لأجل تحطيم الزراعة واللحوم والألبان ومنتجاتها حتى يبيع الغرب والشرق لمثل هذه البلاد: الحبوب ومنتجاتها واللحوم ومشتقاتها.

السابع عشر: تراجع النظام، فالإنسان الذي لا يتمكن من سد جوعه أو ستر جسده، هل يمكن أن يفكر في الالتزام بالنظام ؟

الثامن عشر: قلة النظافة.. ولذلك اسباب منها :

أولاً: قلة الوعي.

ثانياً: قلة الماء.

ثالثاً: قلة الوسائل.

التاسع عشر: عدم التمتع المنتجاب الصناعية، ففي البلاد التي لا يملك فيها الانسان قوت يومه، هل يتمكن من شراء السيارة أو الثلاجة والغسالة وغيرها؟

العشرون: عدم نمو الكفاءات، لأن الكفاءات إنما تتفتق في بيئة علمية حرة مشجعة لنمو الكفاءات، وكل هذه المؤهلات غير موجودة.

إلى غير ذلك من العلائم والآثار والأضرار النازلة بالعالم المتخلف.

ولن يكون علاج تخلف العالم الثالث بالمعونات المالية، أو تغيير الأنظمة بالانقلابات، أو عقد المؤتمرات ونحوها، إنما بتغيير النظام العالمي من الرأسمالية، إلى النظام المالي المعتدل الذي يعطي لكل إنسان حقه، ولكل إنسان عمله، وكل إنسان فيه حر في أن يكتسب ما يشاء بحيث لا يضر الآخرين، وان يتعلم، وان يسير وأن يتقدم كما يريد.

عاملان أساسيان وراء مشاكل العالم

وأخيراً: فإن كل مشاكل العالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها ناشئة عن أمرين أساسيين:

ص: 157

أحدهما: عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى بالنسبة إلى كثير من الذين يقولون: (إنا مؤمنون) فإن الإيمان أحياناً شعار ولفظ وأعمال مبتورة، وأحياناً يكون ناشئاً عن قلب الإنسان وعمقه بأن يكون الإيمان مخالطاً لحمه ودمه وظاهره وباطنه، فإن الإنسان المؤمن هو الذي يتقي الله في الظلم والتعدي وأكل حقوق الآخرين ويتقي الله أيضاً حتى من البطالة والإسراف والتبذير والتقتير وغير ذلك.

والثاني: الجهل، فإنه ربما يكون الإنسان مؤمناً واقعاً، لكنه جاهل، والجهل يوجب عدم تمكن الإنسان من فهم الحياة ، بمعنى فهم الاقتصاد وفهم السياسة وفهم الاجتماع، وغير ذلك.

ولا نقصد بالجهل أن يكون الإنسان أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، إذ في كثير من الأحيان - كما نشاهد في العالم الثالث وفي غير العالم الثالث- يكون خريج الجامعة والمهندس والدكتور والمحامي والطبيب وغيرهم أميين جهلاء بأسلوب الحياة، فإن معرفة الطب شيء ومعرفة كيفية تسيير الحياة شيء آخر، ولذا نجد في العالم الثالث آلاف الدكاترة والمهندسين والعلماء والأطباء وغيرهم من ذوي الشهادات الراقية، لكنهم لا يعرفوا كيف يعيشون؟

ومن الواضح، إن من لا يفهم كيف يعيش يُعدّ جاهلاً، وإن كان يعرف الكتابة والتأليف وعلاج المرضى والدفاع عن أطراف الدعاوي، وإلى غير ذلك.

من هنا؛ من الضروري تعميم الإيمان وتعميم العلم إذا أردنا اجتثاث جذور الفقر من العالم كله لا في بلادنا فحسب، بل في بلاد الشيوعيين، بطريق أولى لأنهم أجهل بطرق الحياة من العالم الثالث، وفي بلاد الغربيين أيضاً لأنهم أيضاً جهلاء بطرق العيش والحياة لأنهم لو كانوا يعلمون بطرق العيش والحياة لم تتحكم فيهم الرأسمالية الجائرة ولم يتحكم فيهم الاستعمار والاستغلال، لوضوح إن الإنسان بفطرته المدعومة بالإيمان والعلم يأبى حتى عن استعمار الآخرين واستغلالهم.

ولذا ورد في الأحاديث الكثيرة - تبعاً للآيات الشريفة - تأكيدات على الإيمان

ص: 158

وعلى العلم، وإنا نذكر طائفة من الروايات الواردة في هذا الباب حول العلم تتميماً للمقصد.

قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (... فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله)(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (طلب العلم فريضة)(2).

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحب بغات العلم)(3).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)(4).

وروى محمد بن علي القتال عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)(5).

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الشاخص في طلب العلم، كالمجاهد في سبيل الله، إن طلب العلم فريضة على كل مسلم)(6).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من تعلم باباً من العلم عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة)(7).

وروي أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (طلب العلم فريضة من فرائض الله)(8).

وروى المجاشعي، عن الرضا عن آبائه عن علي صلوات الله عليهم أجمعين قال:

ص: 159


1- مستدرک الوسائل: ج7، ص42.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص26.
3- مستدرک الوسائل: ج7، ص71.
4- المصدر السابق.
5- وهي مصر وکان ذلک في زمان عبد الناصر.
6- وسائل الشيعة: ج11، ص213.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق: ص214.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (العالم بين الجهال كالحي بين الأموات - إلى أن قال -: فاطلبوا العلم فانه السبب بينكم وبين الله عز وجل وإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)(1).

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساءً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلّوا أو أضلّوا)(3).

ومن الواضح، إن الإفتاء بغير علم ليس خاصاً بموازين القضاء والمرافعات والشكايات، بل يشمل كل أقسام العلم كالعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والحيوية وغيرها.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (أربع يلزمن كل ذي عقل وحجى من أمتي قيل: يا رسول الله ما هنّ؟

قال: استماع العلم وحفظه ونشره عند أهله والعمل به)(4).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه الصلاة والسلام قال: (اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار)(5).

إلى غيرها من الروايات الكريمة.

ص: 160


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

الفصل الرابع: الانظمة الحاكمة

اشارة

وضع الإسلام قاعدة رصينة للإدارة والحكم، تتمثل في «لابد للناس من أمير، باراً كان أم فاجراً». وفي فترات من التاريخ القديم والحديث، ابتلي المسلمون بأنظمة حكم وحكام، أهم وأبرز ما قاموا به، تكريس الفردية والاستبداد والتضحية بكل شيء من أجل كرسي الحكم. حتى وإن ذلك بهلاك البلاد والعباد. ولذا كانت أنظمة الحكم الفاسدة من جملة أسباب تخلف المسلمين وتحطم كيان الحضارة الاسلامية.

علماً، إن جماعات كثيرة من المسلمين حاولوا إنقاذ الأمة من براثن الدول الاستكبارية، لكن محاولاتهم لم تجد نفعاً لوجود جذور المشكلة في أرض الواقع، متمثلٌ بفساد الأنظمة الحاكمة. هذا الفساد ناشئ عاملين أساسيين: الأول: إنحراف المنهج السياسي لدى الحكّام المدعين الإسلام، والثاني: تآمر أعداء الأمة من الخارج، بمعنى؛ أن مشكلتنا السياسية تسير على خطين متوازين يمتدان معاً، المشكلة من الداخل، والتآمر من الخارج.

العامل الأول: إنحراف حكّام المسلمين

ما شاهده المسلمون أولاً، والعالم ثانياً من المظالم التي اقترفتها أنظمة سياسية تحت اسم (الدولة الإسلامية)، ابتداءً من نظام الحكم الأموي، بزعامة معاوية، ومن سبقه من الغاصبين، وانتهاءً بسقوط آخر خليفة عثماني في تركيا، خلق لدى معظم أهل العالم انطباعات سيئة عن الدولة الإسلامية، ظناً منهم أنها

ص: 161

هي نفسها التي أدارها الأمويون والعباسيون، ومن جاء بعدهم، لذا رأى الناس - مسلمون وغير مسلمون- أن في قيام الحكومة الإسلامية، تكرار للمآسي والدمار، ولذا أخذت الجلود تقشعر من اسم (الخليفة) و(الأمير) و(الحكم الإسلامي) وغيرها من الرموز.. ومن الواضح أن ذلك لم يكن ذنب الإسلام، وإنما كان ذنب المسلمين الذين رضوا بأن يحكمهم مثل أولئك الحكام المنحرفين عن الإسلام. وقد ورد في حديث تقدم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجوب عزل الحكام الظالمين، لكن المسلمين - غالباً - خنعوا وخضعوا وقبلوا بحكم أولئك لأسباب مختلفة، فالبعض طمعاً، والبعض الآخر، خوفاً، وبقي الآخر على الحياد، وكانت النتيجة:

أولاً: وقوع تلك المجازر المهولة ، والمظالم الكبيرة في البلاد الإسلامية كلها.

ثانياً: تلوث سمعة الحكومة الإسلامية، فأصبحت الحكومة الإسلامية تحمل طابع (الظلم) و(العدوان) و(الاستهتار) ونحو ذلك، واتسم الحاكم الإسلامي في أذهان المسلمين وغير المسلمين، بالاستبداد، والذي يصادر أموال الناس ويقتلهم بغير ذنب وبدون محاكمة، ويهتك الأعراض، ويملأ بيوته بالجواري والقيان والخصي، ويشرب الخمر، ويعربد ويلعب القمار، ويخاف منه حتى أقرب المقربين إليه، ولا يستشير من أحد شيئاً، ويقتل الصالحين ويترك الفاسقين ويعمل على تخلف البلاد والعباد، ومن الواضح أن مثل هذا الحكم لا يرغب فيه أحد.

نماذج من فساد الأمويين

ولا بأس بذكر جملة من الأعمال التي ارتكبها الأمويون والعباسيون ويقاس على تلك الأعمال ما ارتكبه العثمانيون ومن إليهم من المآثم والموبقات، حتى نعرف مدى ثقل التركة التي ورثناها - نحن المسلمون- من هؤلاء، مما سبب تنفر كثير من أهل العالم من حكم الإسلام.

ص: 162

قال معاوية على المنبر في الكوفة: (ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا... - إلى أن قال - وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم).

ويذكر الدميري في كتابه (حياة الحيوان): إن معاوية وجد رجلاً يزني بجاريته فقال له: ما جرأك على هذا!

قال الرجل: حلمك يا أمير المؤمنين! فعفا عنه وأعطاه تلك الجارية!

وقد احتال معاوية لكي يطلق رجل زوجته (أرينب) ليزوجها لابنه يزيد لما بلغه من جمالها.

وجرائم معاوية كثيرة، فهي تتنوع بين الخداع والمكر في حروبه التي شنها على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبين إغتياله المعارضين بدسّ السُمّ إليهم، وفي مقدمتهم الإمام الحسن (عليه السلام)، الذي قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي أخيه الإمام الحسين عليه السلام: (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا)(1).

وتحريضه ل- (جعدة بنت الأشعث) وتغريرها بالوعد إن هي دسّت السمّ في طعام الإمام الحسن (عليه السلام) ، يزوجها ابنه يزيد، ثم أخلف وعده فيما بعد، ثم جريمة رشق جنازة الإمام (عليه السلام) بالسهام من قبل عامله في المدينة مروان بن الحكم، فيما كان موكب المشيعين متجهين الى مرقد النبي الأكرم لدفن سبطه الحسن الى جواره. ثم اغتياله مالك الأشتر بنفس الطريقة، وهي دسّ السمّ اليه، و قوله زوراً: (إن لله جنوداً من العسل) ! واستحلاله البلاد الإسلامية بقتل المسلمين وحرقهم، كما أحرق ذات مرة في اليمن أربعين ألفاً من المسلمين، وإباحته قتل الأطفال وانتهاك الأعراض، كما فعل عامله في اليمن حيث قتل أولاد عبيد الله بن العباس، وسبّه للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وللخيرة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وشربه الخمر علناً حتى أنه كان يهدى إليه زقاق الخمر.. حتى خرقها أبو الدرداء في قصة مشهورة.. واستخلافه ليزيد بالقوة، وهو المعروف

ص: 163


1- المصدر السابق: ص215.

بمنكراته وموبقاته.. وحمله على رقاب المسلمين بالقوة مما أسفر عن أسوأ النتائج، وجعل الحكم الإسلامي ملوكية على شاكلة (الكسروية) و (القيصرية)، متجاوزاً مشورة الأمة أو أهل الحل والعقد، وعلى سنن معاوية سار جملة من الحكام الأمويين، أمثال ذلك الأمير الذي قال: (إن السواد – العراق- بستان لقريش)، فكان ينهب خيرات العراق، ويستأثر بالأموال لنفسه ولذويه ويترك المسلمين وغير المسلمين جياعاً، أو ذاك الأمير الآخر الذي كان يشرب الخمر ويصلي صلاة الصبح أربعاً، ثم يتقيئ الخمر في مسجد الكوفة...! ويقرأ في صلاته:

علق القلب الربابا *** بعدما شابت وشابا

وغير ذلك من أمثال هذه المآثم والموبقات التي كان الحكام والأمراء يرتكبونها.

ولما وصل الأمر إلى يزيد، أفرط في الآثام والموبقات، وكان في مقدمتها قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسين عليه السلام عطشاناً، مع أصحابه، بتلك الطريقة المفجعة، وتنكيله بجثثهم أسوأ تنكيل، وحرق خيامهم، وذبح أطفالهم، وسبي نسائهم من بلد إلى بلد، وهن عقائل الوحي، ثم قطع رأس الإمام الحسين (عليه السلام) و رؤوس أصحابه وأولاده وأنصاره، وجعلها على رؤوس الرماح، وتسيير موكب السبايا من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام، ثم إحضاره - الرأس الشريف- في مجلسه، وشربه الخمر أمامه، ونكثه ثنايا الإمام (عليه السلام) بقضيب كان بيده، وإنشاده الأشعار الإلحادية كقوله:

لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت *** تلك الشموس على ربى جيرون

نعب الغراب فقلت: صح أو لا تصح *** فلقد قضيت من الغريم ديوني

وقوله:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً *** ثم قالوا: يا يزيد لا تشل

ص: 164

قد قتلنا القوم من سادتهم *** وعدلناه بب-در فاعت-دل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل

وكان يزيد مدمناً على شرب الخمر، لاعباً للقمار، يخوض في دماء الناس وأعراضهم بما يشاء، حتى أنه كان يزني بأرحامه كعمته..! وقد هدم الكعبة بالمنجنيق في قصة مشهورة، وأباح المدينة المنورة، بلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والخيرة من المسلمين والصحابة الأطهار، في الواقعة المعروفة ب- (واقعة الحرة)، حيث أباح لجيشه الإقامة في المدينة ثلاثة أيام، لينهشوا بأعراض المسلمين، حتى لم تبق فتاة محافظة على بكارتها، بل أن اليزيديين ارتكبوا جريمة الزنا بإمراة مسلمة لاذت بمرقد النبي الأكرم...! ثم جرت الدماء الغزيرة في نفس مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فنهبوا الأموال، وقتلوا الأطفال في تلك الواقعة المعروفة.

الحجاج .. مثال الدموية

وعلى خطى معاوية ويزيد، سار الحجاج بن يوسف الثقفي. فعندما دخل الحجاج الكوفة، كوالٍ من قبل الخليفة الأموي الذي كان بيده نصف العالم الإسلامي الشرقي إلى باكستان، أخذ معه مجموعة من الجلادين وأمرهم أن يقفوا شاهرين سيوفهم عند أبواب المسجد، وأن ينفذوا أوامره ثم صعد المنبر وعمامته تستر وجهه وقد غصّ المسجد بالناس للاستماع إلى الوالي الجديد فقرأ الحجاج رسالة عبد الملك ابن مروان، ثم سكت، ثم قرأ العبارة التي فيها سلام عبد الملك إلى أهل الكوفة مرة أخرى وسكت، وكان ينتظر من الناس أن يردّوا الجواب على سلام الخليفة ولكن من دون جدوى، وفي المرة الثالثة وضع عمامته فبان وجهه وأنشد هذا البيت:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني

فلما وضعها عرف الناس أنه الحجاج، ذلك المجرم المعروف، فقد كانت له صورة مرعبة في أذهان المسلمين ثم تكلم وقال: (ويلكم عبد الملك يبلغكم السلام ولا تجيبونه..)!

ص: 165

فوقف الناس احتراماً للخليفة وخوفاً، وأجابوا: (وعليك السلام وعلى أمير المؤمنين السلام).

ولكن الحجاج استمر في كلامه قائلاً: (اسمعوا أيها الناس إن عليكم أن تجهزوا جيشاً للأهواز) وسكت..

فقام جماعة من الشباب واعتذروا.

فقال الحجاج للجلادين الذين كانوا ينتظرون أوامره بشغف: (إضربوا أعناقهم) وبعد لحظات كانت الرؤوس تتطاير في الهواء وكانت الجثث تملأ المسجد.

ثم قام جماعة من الشيوخ واعتذروا فأمر الجلادين فضربوا أعناقهم، وكل من أراد الهروب أخذه الجلادون الذين كانوا على أبواب المسجد وقتلوه.

وقد بدأ الحجاج الكلام قبل ضربه الناس بقوله: (ألا وإني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني أرى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى).

وبهذا الأسلوب خضع الناس للحجاج وأصبح هذا المجرم، الحاكم المطاع بقوة السيف، فيفعل ما يريد، يقتل وينهب، ويشرب الخمر ومعه في كل ذلك جلاوزته وزملاؤه.

ولم يكن الحجاج ليقتصر على قتل المجرم، بل كان يقتل كل من أساء به الظن، وليس هذا فقط، بل كان يقتل الأبرياء لإرواء نفسه المتعطشة للدماء، فكان يأمر بالشخص فيقتل، ثم يمدّ على جسمه السماط ويأكل ويقول: إني ألتذ أن أرى أطراف السماط تتراقص أمامي على أجساد القتلى، وأن آكل على مثل هذا السماط..!

وذات مرة سمع الحجاج وهو على شرفة قصره رجلاً من المارة يقول: (اللَّهِ أَكْبَرُ) فدعاه الحجاج وعندما مثل أمامه جرى بينهما الحوار التالي:

أين كنت؟

قال الرجل: في المسجد.

ص: 166

ماذا كنت تفعل؟

قال الرجل: أصلي العشاء.

والى أين كنت تذهب؟

قال الرجل: إلى البيت.

وماذا كنت تقول؟

قال الرجل: لم أقل شيئاً.

بل قلت: الله أكبر.

قال الرجل: نعم قلته.

قال الحجاج: ماذا قصدت من قولك؟

قال الرجل: لم أقصد شيئاً وإنما قصدت معنى الله أكبر.

قال الحجاج: لا، لابد أنك قصدت شيئاً آخر.

قال الرجل: لا، لم يكن لي أي قصد آخر.

قال الحجاج: إنك قصدت الإثارة ضدنا، أليس كذلك؟

قال الرجل: لا والله.

فقال الحجاج: لا ينفعك الحلف الكاذب، إن إصرارك دليل على قصدك الفاسد!

ثم أمر جلاديه أن يسجنوه تلك الليلة، وينكلوا به الى الصباح.

وفي الصباح رأى الناس على باب المسجد جلادين يجردون الرجل من ثيابه، ويطوفون به راكباً على حمار بشكل معكوس وعند الظهر أوقفوه على باب المسجد وأمام مرأى الناس تقدم إليه الجلادون وشدوا جبهته بالجدار ثم أخرجوا فكه الأسفل الذي تحرك بكلمة الله أكبر، ثم كسروا عظام وجهه وجمجمته بالفؤوس، ثم قطعوا رأسه، وعلقوا المتبقي منه على باب المسجد مصلوباً.!

ص: 167

صور من دموية الحجاج

وينقل التاريخ أن الحجاج وضع جماعة من الشباب الأبرياء في السجن، وأمر أن تسد في وجوههم منافذ النور والهواء حتى لا يميزوا الليل من النهار، كما أمر أن لا يطعموهم الطعام إلا بعد مزجه بالرمال، وأن لا يسقوهم الماء إلا بعد خلطه بالملح، فمات أحدهم، فرفض الحجاج أن يواروا جثته حتى تفسخت ومات الثاني والثالث والرابع والخامس إلى الرجل السادس عشر وأخبروا الحجاج بذلك فلم يأذن بإخراج الجثث، وإنما أمر أن يهدموا السقف عليهم ليتحول السجن إلى مقبرة لهم وليموت الباقون مع رفاقهم. وهكذا كان..

وكان سجن الحجاج يحتوي على مائة وعشرين ألفاً بين رجل وامرأة، عارين من اللباس، يعيشون تحت الشمس اللافحة نهاراً والبرد القارص ليلاً.

وكان قد أمر السجانين أن يكونوا على سور السجن فإذا أراد أحد أن يتكئ على الحائط في وقت الظل رموه بالنشاب من على السور حتى يتحول إلى الشمس.

وكان أحدهم إذا تكلم وتضرع يتلو عليه السجان قوله تعالى: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون: 108)

كما أن الحجاج زار ذات مرة السجن فلما ضج السجناء قرأ نفس الآية الكريمة.

وكان يأمر أن يعطي السجناء الخبز الممزوج بالرماد والماء الممزوج بالملح.

وكان سجنه يسبب تغيير لون الإنسان الذي يعيش فيه لمدة، حتى أن الأمهات لم يكن يعرفن أولادهن إذا زرنهم بعد إصرار كثير لتغير وجوههم وعدم حلق رؤوسهم وقص أظفارهم، إذ كان كل ذلك ممنوعاً في داخل سجون الحجاج.

وكانت المرافق في السجن عارية مكشوفة، فكل سجين يجب عليه أن يتخلّى حيث يراه الناس.

ص: 168

إلى غير ذلك من موبقات سجن الحجاج.

وينقل لنا التاريخ أن موظف ضرائب (جابي ضرائب) من قبل الحجاج دخل على إنسان وطالبه بزكاة أغنامه فقال له الرجل: ليس عندي زكاة لأن ماشيتي ماتت بسبب البرد.

فرجع الموظف إلى الحجاج، وبدل أن يخبره بالحقيقة ذكر أن الرجل يرفض الإيمان بالزكاة.

واستغل الحجاج الموقف وأمر بإحضار الرجل وقال له: كيف لا تؤمن بالزكاة؟

قال الرجل: والله إنني مسلم، ولا يسع المسلم إلا أن يؤمن بالزكاة.

فقال له الحجاج: إذاً كيف قلت إنك لا تؤمن بالزكاة؟

قال الرجل: لم أقل ذلك إنما قلت ليس عندي ما يتعلق به الزكاة.

ولم يقتنع الحجاج فقال للرجل: لابد أن يكون لك قلب أكبر من قلوب الآخرين ولهذا تجرأت على رد كلامي!

ثم صاح: أيها الجلاد اخرج لي قلبه!

وبعد لحظات كان النطع ينتظر الرجل حيث شدوا يديه، وربطوا رجليه، ثم مدوه وشقوا صدره وأخرجوا قلبه وقدموه إلى الحجاج وكان القلب لا يزال يضطرب.

ولما أخذه الحجاج ضحك ضحكة صفراء ثم قال: لا، لم يكن قلبه أكبر ردّوا إليه قلبه وادفنوه.

وهكذا ذهب الرجل ضحية طيش هذا الجبار.

وذات مرة غرق الحجاج في الفرات فنجاه رجل من الغرق، ولما خرج قال الحجاج: لماذا نجيتني؟

ص: 169

فأجابه الرجل: بأنه رأى إنساناً يغرق فأراد نجاته.

قال الحجاج: لا، إنك لم تنجّني لأنني الحجاج، وإذا كنت تعلم أني الحجاج لم تكن تنجيني فأنت تستحق القتل ثم أمر بقتله.

وفي التاريخ: أنه نبش اثنين وعشرين ألفاً من القبور الموجودة في ضواحي الكوفة، وأحرق بعض الجثث.

وكان يتفنن في ممارسة التعذيب ضد معارضيه، منها استخدام القصب، فكان يأمر بأن يقطع القصب نصفين، ثم يأمر أن تلف تلك القصبات من جهة القطع على جسم الرجل المغضوب عليه، شداً محكماً ثم يأمر الجلادين أن يجروها الواحدة تلو الأخرى، حتى يتناثر لحم الرجل ويصيبه ألم كبير ويموت في مكانه.

إلى غيرها من الأعمال الدموية المهولة التي يندى لها جبين الإنسانية في كل زمان ومكان.

زياد وابنه يواصلان المسيرة

وقبل الحجاج، مارس كلٌ من زياد بن أبيه وابن زياد، أعمال أجرامية ودموية مريعة، حيث سالت أودية من الدماء في عهدهم، في قتل وتعذيب، كما أكثرا من شرب الخمر وانتهاك الأعراض.

ومن أبرز الجرائم وأعظمها، ما ارتكبه ابن زياد عندما ولاه يزيد الكوفة، هي واقعة قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بأمر منه ، في صحراء كربلاء.

ولابن زياد اجراءات دموية في البصرة التي احتفظ بالولاية عليها الى جانب الكوفة، فقد منع الناس من التجول، وأمر بقتل الذين خالفوا أمره حتى بلغ عدد المقتولين في يوم واحد، ستمائة قتيل، جمعت رؤوسهم على باب داره على شكل كتلة كبيرة.

ولما أعلن النفير العام لأهل الكوفة لتشكيل جيش لقتال الإمام

ص: 170

الحسين (عليه السلام)، رأى بعض جلاوزته في أزقة الكوفة رجلاً فأخذوه وجاؤوا به إلى ابن زياد، فقال له ابن زياد: لماذا لم تذهب إلى قتال الحسين؟

قال: والله إني لست من أهل الكوفة، بل إني من أهل الشام، ولا أعلم شيئاً، وإنما دخلت الكوفة صباح اليوم ولي مأرب في هذا البلد، ولو كنت أعلم الأمر لهرعت إلى قتاله.

قال ابن زياد: أظنك صادقاً.. ثم توجه الى جلاوزته بالقول: خذوه واقتلوه، واصلبوا جثته وعلقوا رأسه على باب القصر، حتى لا يجرأ إنسان على مخالفة الأمير.

وبعد لحظة كان الرأس معلقاً على باب القصر والجثة معلقة بجنبه.

وحصلت هذه الجريمة المنكرة، مع مسلم بن عقيل (عليه السلام) وهاني بن عروة (رضوان الله تعالى عليه)، بعد قتلهما وتعليق رأسيهما على باب القصر، فقد أمر جلاوزته بسحب جثمانهما في الأسواق والأزقة من أرجلهما.

الوليد وممارساته القبيحة

ومن الحكام الأمويين الذين أوغلوا في المفاسد والمنكرات والجرائم، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، ومما ينقله لنا التاريخ أنه كان يأمر بملء حوض كبير بالخمر، وينزل فيه هو مع عدد من جواريه، فيسبحون ويشربون منه حتى يظهر النقص على حافته..!

وحادثة تمزيق القرآن الكريم، تعد من النقاط السوداء في التاريخ، حيث نُقل أنه تفأل بالقرآن الحكيم ذات مرة، فخرج في رأس الصفحة قوله تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) (إبراهيم: 15 - 17).

فتملكه الغضب، إذ شعر إن الخطاب موجه اليه مباشرة، فعلّق كتاب الله في الجدار، وأخذ يرميه بالسهام، حتى مزقه أجزاء صغيرة، وهو ينشد أبياته:

ص: 171

تهددني بجبار عنيد؟ *** فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر *** فقل يا رب مزقني الوليد

إلى جانب التحدي الصارخ للدين وكلام الله المجيد، فقد نقل التاريخ عنه مفاسده الاخلاقية، منها ممارسته للزنا بمحارمه، كما أنه كان يمارس الشذوذ الجنسي حتى مع أخيه في قصص مشهورة..! وذات مرة أراد أن يزني ببنته فنهته مربيتها فأنشد:

من راقب الناس مات همّا *** وفاز باللذة الجسور

وكان أحد أولئك الحكام الذي يرفع إسم (الإسلام)، يقارب جواريه ولا يغتسلون، وإذا حان وقت الصلاة عمم الجارية المجنبة وأرسلها إلى المسجد لتؤم الناس صلاة الجماعة في المسجد!

وحاكم أموي آخر، ممن يحمل عنوان (الخليفة)، ويقوم بإمامة الجماعة، تبعاً للعرف والتقليد السائد، اضطر ذات يوم لإرسال جاريته لأداء صلاة الصبح، بعد أن ألبسها ثيابه وعممها، حتى لا يكشفها المسلمون، لأنه كان ليلتها قد قضى معها ومع عدد آخر من الجواري ليلة حمراء، فلم يشأ ان يفسد الليلة ويصلها بالفجر، وهو على وضعه غير الطاهر، كما كانت عليه الحال الجارية التي ذهبت الى المسجد وأمّت المسلمين في صلاتهم..!

العباسيون.. تطوّر الانحراف والجريمة

لم يكن العباسيون بأقل من الأمويين في سفك الدماء وانتهاك الأعراض والتجاوز على المقدسات. بل زادوا عليهم في الجرائم والموبقات.

وقد زخر العهد العباسي بالقتل الفردي والجماعي، والتمثيل بالجثث، والتعذيب، وقطع الرؤوس، وانتشر في تلك الحقبة الإرهاب، والقتل على الظنّة والتهمة، واستئثار الحكام بالفيء ومصادرة الأموال بالإثم، والاستهانة بكرامات الناس، حتى أصبح السجن والضرب والقتل والتعذيب ومصادرة الأموال لأتفه

ص: 172

الأسباب شيئاً مألوفاً ، وأصبح النظام ملكياً ، وراثياً، دكتاتورياً، بكل معنى الكلمة، يرثه فاسق عن فاسق، وخليع عن خليع ومجرم عن مجرم، كما أصبح الولاة - كأسيادهم العباسيين - يعبثون بمصائر الناس وحقوقهم ، ويتصرفوا بالأموال كيفما شاؤوا، فيبنون القصور الشاهقة الوسيعة بأموال الكادحين، في الوقت الذي لا يجد فيه الناس حتى لقمة من الخبز، فانتشر في قصورهم المجون واللهو والطرب والخمر والميسر، وغصت بأدوات اللهو، وبالمغنيين والمطربين، وبالشعراء المتملقين المتعبدين للدرهم والدينار، واشتغل حكام الولايات باقتناء الجواري - اقتداءً بأسيادهم - كما أنهم اتخذوا عادة إلباس الغلمان ملابس الفتيات، وإلباس الفتيات ملابس الغلمان، وكان يرقص في مجالسهم العشرات، بل المئات من هؤلاء أمام الخاصة والعامة، وكانوا يتشبهون بنساء الناس والفتيات والغلمان.

هذه الجرائم والانحرافات، لم تمر بهدوء في أوساط الأمة الاسلامية، إنما تفجرت الانتفاضات المتتالية بوجد الحكم العباسي، قادها ثلّة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن أبرز الانتفاضات الشيعية، ما عُرف بقصة شهيد (فخ)، وهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أمسك به العباسيون وقطعوا رأسه و رؤوس أصحابه، وسبوا نساءهم إلى الخليفة العباسي، فلما وصلوا إليه والمجلس غاصّ بالناس أخذ الخليفة، وباسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وباسم الإسلام، يقتل النساء بالسيف في مجلسه..!

منهج الرعب

لمّا مات أحد (الخلفاء) العباسيين قام غيره مكانه فسأل (الخليفة) الجديد بعض نساء القصر عن خزائن الخليفة السابق، فدلته على باب سرداب، فلما فتح الخليفة الجديد الباب ودخل في السرداب رآه بهواً كبيراً جداً وهو ممتلئ بالرؤوس المقطوعة، وفي كل رأس ورقة معلقة بالأذن - بواسطة خيط - مكتوب عليها إسم

ص: 173

صاحب الرأس، وقد امتلأ السرداب بالديدان والعفن والدماء والقيح، بشكل يبعث على الاشمئزاز والتقزز، فلم يحتمل (الخليفة الجديد) هذا المنظر البشع، فغُشي عليه، وأخرج من السرداب.

عندها قالت له تلك المرأة: إن الخليفة الذي سبقك كان يقتل الناس ويقطع رؤوسهم، ثم يضع رؤوس الكبار منهم في هذا السرداب، وفي سراديب أخرى، وبهذا الشكل استقام الحكم له، فإذا أردت أن يستقيم الحكم لك فعليك باتباع سيرته.

وهكذا كان.

وإذا علمنا كيف كان العباسيون يتعاملون مع أصدقائهم، نعرف طبيعة تعاملهم مع عامة الناس أو مع أعدائهم؟

فمثلا: يذكر التاريخ أن (الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي) الذي كان من أخلص المقربين من هارون، أمر هذا أن يُجرد من ثيابه ويضرب ويهان ويلعن في مجلس عام ولم يكن ذنبه إلا أنه رفّه بعض الترفيه عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في السجن، و رفع عنه بعض الآلام، فلم يقيده كما شاء هارون، ولم يضيّق عليه كما ضيق عليه من بعد ذلك السندي.

وكذلك ما فعله هارون بالبرامكة الذين لم يقم حكمه إلا على سواعدهم، حيث قتل رجالهم وصادر ممتلكاتهم وترك نساءهم حتى لم يجدوا لقمة العيش، ولا كسوة على أبدانهم، ونكل بهم أشد تنكيل، حتى من نطق باسمهم .

وكان الفضل بن الربيع، من أبرز الساسة المقربين لهارون، ومن أعمدة البلاط، يذكر في قصة عن مدى خوفه من هذا الخليفة مع شدة قربه إليه:

كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواريّ، فلما كان نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعل هذا من الريح، فلم يمض إلا يسيراً حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا بمسرور الكبير،

ص: 174

خادم هارون الخاص، قد دخل عليّ فقال لي: أجب أمير المؤمنين ولم يسلم عليّ فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور ودخل علي بلا إذن، ولم يسلم، فليس في الأمر إلا القتل، وكنت جُنباً ولم أجسر أن أسأله إنظاري حتى أغتسل فقالت لي الجارية: لما رأت تحيّري وتبلدي: اذهب، و لتكن ثقتك بالله عز وجل كبيرة.. فنهضت من مكاني، ولبست ثيابي وأنا أرتجف خوفا، وخرجت معه حتى أتيت الدار فسلمت على هارون، حيث رأيته جالسا في بعض غرف القصر، وهو على فراش نومه فرد عليّ السلام فسقطت، حيث انهارت أعصابي من الخوف، فقال:

هل تداخلك رعب؟ قلت: نعم فتركني ساعة حتى سكنت... إلى آخر القصة.

ويظهر من هذه القصة مدى الخوف والإرهاب والاستهانة بكرامة الإنسان حتى لأقرب المقربين وان كان من أعمدة السلطة، فيدخل رسول من يُسمي نفسه بالخليفة على أقرب المقربين إليه وهو نائم في حجرته مع جاريته دون استئذان ويخرجه من بيته نصف الليل بدون أن يأذن له حتى في الاغتسال.

هذا من حال المقربين، أما سائر الناس فكان الخوف الروع يسكن نفوسهم، فلا يجرؤون على الوقوف بوجه أولئك الطغاة الظلمة.

فقد نقل أن يحيى بن خالد البرمكي لما قدم إلى بغداد لتدبير عملية قتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، و الذي كان في سجنهم منذ مدة طويلة، فوجئ الناس به، فاستبدّ به الذعر والخوف، وانتشرت الإشاعات، وترقب الناس الشر.

ويذكر العلامة المجلسي (رحمه الله) في قصة هذا الرجل ما نصه:

ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء.

فالناس في بغداد الوسيعة، والتي بلغ نفوسها عشرة ملايين – حسب المؤرخين- كانوا يرتجفون خوفاً ويموجون ويرجفون بكل شيء من مجيء أحد جلاوزة الخليفة.

ص: 175

وقصة أخرى يذكرها أحد جلاوزة هارون وهو (حميد بن قحطبة) يقول: إن هارون لما كان بطوس استدعاه وسأله عن طاعته لأمير المؤمنين؟ فأجاب: إنه يفديه بماله.

ثم أجاب ثانيا: إنه يفديه بماله ونفسه.

وأجاب ثالثا: إنه يفديه بماله ونفسه وعرضه.

وأجاب رابعا: إنه يفديه بماله ونفسه وعرضه ودينه، وهنا تهللت أسارير هارون لأنه كان يريد منه ذكر (الدين) وكلما كان يسأل منه ذات مرة، ولم يجب بالدين كان يقطّب وجهه ويرخصه أن يذهب حيث شاء، فلما ذكر اسم الدين تهلل وجهه، فقال له هارون: خذ هذا السيف وأطع هذا الخادم.

فتناول حميد بن قحطبة السيف وذهب إلى بيت مغلق في وسطه بئر وفي البيت ثلاث غرف مغلقة، فقال له الخادم: افتح هذه الغرفة، ولما فتحها رأى فيها عشرين علويا من ذرية علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم مقيدون بالسلاسل والقيود، فطلب الخادم من حميد بن قحطبة قتلهم وإلقائهم في البئر الذي في وسط البيت، وكانت بئرا كبيرة واسعة وعميقة، فجاء بهم وهم مغللون إلى حافة البئر فجعل يضرب أعناقهم واحدا بعد واحد ويلقي جثثهم ورؤوسهم في البئر.

ثم فتح الغرفة الثانية بأمر الخادم ووجد فيها مثل هذا العدد فأمره بقتلهم ففعل بهؤلاء مثل فعلته بأصحاب الغرفة الأولى.

ثم فتح الغرفة الثالثة وفيها مثل ذلك العدد وأمره بقتلهم ففعل.

ولما أراد أن يقتل آخرهم، وكان شيخاً كبير السن، فقال له: يا فلان...! ماذا تجيب جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا قال لك يوم القيامة.. لماذا قتلت ستين من ذريتي من غير ذنب؟!

فارتجف حميد وأراد أن يترك قتله لكن الخادم زجره وقال له: (أطع الخليفة فيه) فقتله أيضا.

ص: 176

ومن ابتكارات هارون في تصفية المعارضين، بناءه الأعمدة المجوفة ووضع المعتقلين فيها، ثم سدّ فوهة العمود فيبقى المعذّب فيه حتى يقضي نحبه خنقاً داخل تلكم الأعمدة المجوفة.

ثم انه لم يخلّى عن اسلوب السمّ في القتل الى جانب السيف.. وكان أكبر جريمة قتل ارتكبها بالسمّ، عندما قرر اغتيال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، بعد مضي حوالي أربع سنوات من الاعتقال في إحدى طامورات السجن المظلمة، وتعريضه عليه السلام للإهانة والتطاول من قبل عبده (السندي بن شاهك) المجوسي، الذي كان من أقسى جلاوزته، بحيث جعل على يديه ورجليه وعنقه عليه السلام، قيوداً ثقيلة، ذكر بعض المؤرخون أنها كانت تزن حوالي أربعمائة كيلو غرام. بل إن السندي هذا، وبأمر من هارون كان يضرب الإمام (عليه السلام) بالسياط، ليس لشيء سوى أنه حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانه الإمام الشرعي، والخليفة من قبل الله سبحانه وتعالى على الخلق أجمعين، فيما كان عليه السلام مشغولا على الدوام بالعبادة والزهد والفضيلة والتقوى، حتى جاء اليوم الذي نفذ فيه الأمر بسقيه السمّ وقتله مظلوماً وهو مقيداً في سجنه.

ولم يكتف هارون بذلك، إنما أمر بوضع جثمان الإمام (عليه السلام) على جسر بغداد ثلاثة أيام، لمزيد من التنكيل والاستخفاف، وكان جلاوزته يصيحون على الجنازة بنداء مُنكر، لكن لما تحرك الموالون للإمام (عليه السلام) في بغداد، وخشي هارون من حدوث الاضطرابات في البلاد، أمر بعض أقربائه وهو (سليمان) بتدارك الموقف، وكان سليمان هذا، من زمرة المجرمين الذين شهدوا (فخاً) وشارك في قتال الحسين (صاحب فخ) وأصحابه وأهل بيته، فجعل ينادي بخلاف النداء الأول، قائلاً: (ألا، من أراد أن ينظر إلى جسد الطيب بن الطيب والطاهر بن الطاهر فلينظر إلى جنازة موسى بن جعفر).

وتم تشييع الإمام (عليه السلام) باحترام ظاهري الى مثواه الأخير في مقابر قريش.

ص: 177

«العهد الذهبي» أم العهد الأسود للعباسيين؟

اخبار وحوادث اللهو و المجون و الممارسات الجنسية الفاحشة وشرب الخمر وقتل الأبرياء ومصادرة أموال المسلمين، سودت صفحات كثيرة من تاريخ الدولة العباسية، لاسيما عهد هارون، الذي وصفه البعض بانه «ذهبي»!

ينقل التاريخ أن هارون قامر مع زوجته ذات مرة على شرط أن أيهما غلب فله ما أراد، فغلب هارون فقال لزوجته إني أريد أن تتعري عن جميع ملابسك، ثم تمري أمام الجند والحرس والخدم عارية! وكلما أصرت الزوجة على ترك هذا الفعل المنكر والطلب الجنوني أصر هارون على ذلك ففعلت ما أراده هارون!

ومن لم تكن له غيرة على زوجته، حتى أنه يطالبها بمثل هذا العمل الشنيع، كيف تكون غيرته بالنسبة إلى سائر أعراض الناس؟!!

وفي بغداد، كانت الممارسات اللااخلاقية تملأ مجالس هؤلاء الحكام الذين لم يكونوا يخافون الله سبحانه وتعالى، ولا يراعون مشاعر المسلمين.

والى جانب انتشار الفساد الاخلاقي في مراكز السلطة، كان الفقر والحرمان ينتشر بين الناس، وهذا ما أجج المشاعر وأشعل فتيل ثورات وانتفاضات عديدة، حتى بات عهد هارون يسمى ب- (بالعهد الأسود)، على خلاف ما يوهمه الغرب بانه (العهد الذهبي)، مغترين بقوله ذات مرة كذباً للسحاب: (اذهبي فامطري حيث ما شئت.. فإن خراجك في يدي).

ولكن ثمة محاججة على أصل هذا الإدعاء:

أولا: هذه الكلمة كذبة افتراها هارون، فلم يكن الأمر كذلك.

ثانيا: هل الملك العريض يدل على شيء من الواقعية والعظمة..؟ نعم؛ الإسلام والإيمان والفضيلة.. وإلا فلو كانت سعة الملك، مدعاة للحق، فإن هولاكو كان له ملك عريض وكذلك ملك جماعة من المجرمين الذين أذاقوا الناس الويلات.

ص: 178

والغريب في الأمر أن بعض الحكام في العصر الحاضر، من أتباع أولئك الحكام الجائرين الظالمين، الذين لم يأت في تاريخ الدنيا أسوأ منهم، وأكثر إجراماً، فيحيون ذكرهم بتسمية الشوارع والمدن باسمائهم، مثل (مدينة المنصور) و (شارع الرشيد)، في بغداد، بينما الواجب أن يُفضح هؤلاء، وان لا يذكروا إلا بكل سوء يليق بهم.

وهذا يشبه ما فعله عبد الناصر في مصر حيث أحيى فرعون والفرعونية، و فرعون، ذلك الذي حارب الله ورسوله وارتكب الجرائم التي سجلها عليه القرآن الحكيم: (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) (القصص: 4).

وفي إيران فعل (الشاه) الأمر نفسه، عندما أحيى المجوسية، وغيرهم كثير من أمثال هؤلاء العملاء، الذين لم يكن لهم همّ إلا إزالة معالم الإسلام، وتغييب قيمه وأحكامه، وإحياء الفرعونية والنمرودية والمزدكية وما أشبه.

وبعد هارون العباسي، جاء دور ابنه المأمون، الذي لم يقصّر هو الآخر في ارتكاب الجرائم والموبقات، فكان يقتل مارضيه بالسمّ والسيف سراً وجهاراً، ومما فعله من النوادر، قتل أخيه «الأمين»، وتعليق رأسه على باب داره، و أمره كل من يدخل داره أن يبصق في وجه أخيه الأمين!

و نُقل أن المأمون، عين لوزارة القضاء رجلا كان معروفاً بالشذوذ الجنسي، وممارسة الجنس مع الغلمان حتى قال أحدهم في ذمه:

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها *** إذا كان قاضي المسلمين يلوط

بيد إن الإنسان المنحرف لا يأتي إلا بالمنحرف.

وبات من المعروف والمشهور اغتيال المأمون للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بالسمّ غدراً، كما قتل الحسن بن فضل بالسيف مكراً.

أما المتوكل العباسي فقد عُرف الى جانب موبقاته وانتهاكاته للحرمات، مثل شرب الخمر وغيرها، هدم مرقد الامام الحسين عليه السلام، وتهديد الزائرين له ببتر الأطراف والقتل.

ص: 179

وجاء في التاريخ، أنه وجّه مخنث لديه يدعى (عبادة)، للاستهزاء بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فكان هذا المخنث يضع الوسادة تحت ثيابه، ويمشي في المجلس ويقول مستهزءاً: (أنا الأنزع البطين، أنا أمير المؤمنين)...! وحصل ذات مرة ، أن نهره ابن المتوكل، فقال له: (لا تفعل هذا) وطرده من المجلس، فاعترض المتوكل مندداً بموقف ابنه:

غار الفتى لابن عمه *** رأس الفتى في حرامه

وهكذا يكون انحطاط الإنسان وتسافله.. فهو ليس فقط يشهّر بالآخرين، بل لا يتورع عن التشهير بعرضه وذكر عورة زوجته أمام الناس، فإن كان حاله مع أقرب المقربين إليه، فكيف يكون حال أعراض المسلمين عنده؟

وجاء في التاريخ إنه أمر بهدم مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، ونفذ الأمر شخص يهودي من خدمه يدعى (ديزج).

ومن اساليب التعذيب التي ابتكرها المتوكل في سجونه، أن صنع تنورا في داخله أسياخ حادة فكان إذا أراد تعذيب إنسان ألقاه في ذلك التنور وأشعل فيه النار حتى يحترق بالكامل.

وكان يُهيئ أكياساً مغلقة يملأها بالأفاعي والعقارب، وعندما كان يجتمع الأشراف والقادة والوزراء والعلماء في المجلس، يفتح تلك الأكياس ويرمي بالأفاعي والعقارب على الحاضرين، مما يسبب ذعرهم الشديد وفرارهم من المجلس، فينطلق المتوكل في ضحكات عالية.

وفي إحدى الليالي طلب المتوكل العباسي إحضار الإمام الهادي (عليه السلام) في مجلس عُرضت فيها الخمرة، ودعا الإمام (عليه السلام) لتناول الخمر، فأبى عليه السلام وامتنع، ثم قال للإمام (عليه السلام)، أنشدني الشعر.. وكان يقصد أن يقرأ الإمام أشعار اللهو، لكن الإمام (عليه السلام) قرأ له أبيات نظمها جدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) تعريضاً به وبمجلسه وجلاوزته:

ص: 180

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا من بعد عز عن معاقلهم *** واسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صائح من بعد ما دفنوا *** أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل

فافصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود ينتقل

يا طالما أكلوا دهرا وقد شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

إلى آخر الأبيات.

وهكذا سوّد هؤلاء المجرمون الذين كانوا يسمون أنفسهم ب(الخلفاء) صفحات التاريخ، من خلال ممارساتهم التي كانوا يغلفونها باسم الإسلام، حتى ظن كثير من الناس أن هذا هو الإسلام، وأن عملهم مما يرضاه الإسلام، بينما كانت الحقيقة واضحة عند أصحاب البصائر، وهي أن هؤلاء منحرفون عن الإسلام، وانهم قفزوا على الحكم ظلماً وعدواناً ، وان الإسلام ليس إلا دين (الشورى) و(العدل) و(العمل) و(النزاهة).

ولذا قال أحد الشعراء مقارنا بين العباسيين والعلويين - أصحاب الحق الشرعي - :

منكم علية أم منهم؟ وصاحبكم *** شيخ المغنيين إبراهيم أم لهم

تبدو التلاوة من أبياتهم سحرا *** ومن بيوتكم الأوتار والنغم

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا *** مأمونكم كالرضا أن أنصف الحكم

وقد اتفق أن مات أحدهم وقام آخر مكانه فلما أخبر أحد الشعراء بذلك أنشد هذين البيتين:

الله أكبر لا صبر ولا جلد *** ولا عزاء إذا أهل البلا فقدوا

خليفة مات لم يحزن له أحد *** وآخر قام لم يفرح به أحد

ص: 181

العثمانيون يواصلون المسيرة..

وعلى سنن أسلافهم سار الحكام (الخلفاء) العثمانيون، فقد أشاعوا القتل، والتنكيل، والتعذيب والاستهانة بحقوق الناس، وسجن الأبرياء، وتعذيبهم ومصادرة الأموال في البلاد الاسلامية، وما قصة (جمال السفاح) في سوريا ولبنان ببعيدة عن الأذهان.

وكانت قصورهم تموج بالقيان والحظايا والنساء ومن أشبه.

وقد قتل خليفة عثماني في واقعة واحدة، أربعين ألف إنسان ظلما وعدواناً ، لمجرد أنهم يخالفونه في العقيدة والمذهب.

وقد قتل العثمانيون الآلاف في كربلاء والنجف والحلة، وسبوا النساء المسلمات وهتكوا أعراضهن وأسروهن، إلى غير ذلك من الموبقات.

و كان العثمانيون يستهدفون في تصفياتهم الجسدية، العلماء في العراق.. وهناك الكثير من القضايا المعروفة في هذا الصدد.

هذه الجرائم والإنحرافات والتجاوزات، كانت العامل الأساس في انهيار الدولة العثمانية، وقبلها العباسية، وقبلها ايضاً، الأموية، وذلك بعمليات عسكرية واحدة، فقد قضى أبو مسلم الخراساني، على العباسيين بحملة واحدة، أما العباسيين فقد كانت نهايتهم على يد المغول، بينما إنهارت الدولة العثمانية بحملة عسكرية واحدة من الغرب.. فالأمة كانت تحمل كمّاً هائلاً من الجراحات والمعاناة من هؤلاء الحكام، لذا كانت تنتهز الفرص للتخلص منهم، فلما سنحت الفرصة، وتعرضوا للهجوم من أعداء لهم، ابتعدت الأمة عنهم، ولم يساعدوهم، ليسقط حكام الظلم والجور، كالورق اليابس بين عواصف الخريف.

نهب منظم لأموال المسلمين

من جملة الإجراءات المجحفة التي اتبعها الحكام الطغاة ضد المسلمين، جبايتهم للضرائب المرهقة.

ص: 182

مثلاً: كانوا الأمويون يأخذون (الجزية) من الذين أسلموا بالإضافة إلى أخذ (الزكاة) منهم. وكان العباسيون ينهبون الناس مهما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

وقد ذكر أبو الفضل البيهقي في تاريخه: أن هارون أرسل علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان، فشدد هذا الوالي على الناس في أخذ الضرائب، حتى هيأ ذات مرة هدية كبيرة لهارون هي عبارة عن ألف غلام تركي، بيد كل واحد جامان ملونان من افضل معادن ذلك اليوم، مع الاستبرق والحرير، وراء الغلمان ألف جارية من أفضل النساء وأجملهن، بيد كل واحدة جام ذهب مملوء من المسك والكافور والعنبر وأصناف العطور، و وراءهن ألف عبد هندي، ومائة وصيفة هندية، و وراءهن مائة عبد هندي، ومائة وصيفة هندية في غاية الجمال، مع هدايا وتحف، ومع هذا الموكب خمسة من الفيلة العظام الذكور، واثنان من الفيلة الإناث، وكلها مرصعة بالجواهر والذهب والأحجار الكريمة ووراءها مائة فرس خراساني ملبسة بالديباج، وعشرون عقابا، وعشرون كركسا، وألف جمل ملبسة بالديباج والإبريسم: ثلاثمائة منها مع المحامل ومع كل ذلك خمسمائة ألف وثلثمائة من أقسام البلور، ومائة بقرة وعشرون عقدا من أثمن الجواهر، وثلاثمائة ألف قطعة من اللؤلؤ ومائة عدد من الأواني البلورية لم تر مثلها عين، وألف قطعة بلورية أخرى من الجنس الرفيع، وخوابي كبيرة وصغيرة من البلور وغيره، وثلاثمائة قسم آخر من البضائع الثمينة، ومائتا معمل لصنع السجاد ومائتا معمل أخر محفورة!

وبهذه الكيفية ورد هذا الموكب بغداد، وكان هارون خارج بغداد لاستقبال الهدية وكان معه وزراءه وجلاوزته وضباطه وقواده والجيش، ولما رأى الناس هذا الموكب الهائل من الهدايا المبعوثة من قبل والي خراسان أخذوا يكبرون، ودقت الطبول وكان يوما مشهودا!!

أما في العهد العثماني: فقد جاء في كتاب (مواطنون لا رعايا)، أن السلطان سليم العثماني، شرّع لأبنائه وحفدته انتهاب الشعوب. جاء فإن (تاريخ مصر

ص: 183

الحديث)، للكاتب جرجي زيدان: أن هذا السلطان بعد فتحه القاهرة والإسكندرية وحين أزمع العودة إلى بلاده نقل معه ألف جمل محملة ذهبا وفضة وأشياء أخرى وتولى الخلافة بعده ابنه السلطان سليمان فأعلن في فرمان رسمي: إنه المالك الحر لجميع أرض مصر، ووزعها إقطاعات على مزارعين دعاهم (الملتزمين) نظير خراج باهض، وكانت الرشوة طريق الوصول إلى قلب السلطان، وكان الباشا الذي يريد خيراً بالشعب ويقنع بالإيراد العام ويجعل الغلبة في مجالسه للعدل، يجذب على نفسه سخط مليكه، كان الباب العالي يطلب الرشوة من ولاته، وولاته يقتسرونها من الجماهير الجائعة وكانت عملة متداولة مشروعة.

وينقل أن علي باشا الصوفي أحد ولاة السلطان سليمان كان يقاسم اللصوص سرقاتهم نظير حمايتهم، مما أغرى الدهماء والخطرين بأمن الناس، وكان الخلفاء يبيعون المناصب جهرة، فيحدثنا عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ الحركة القومية) ناقلا عن فلان..: أن تاريخ مصر من منتصف القرن السابع عشر إلى آخره مليء بتعاقب الباشوات الأتراك على ولايتها، فكان الواحد منهم يشتري منصب الولاية من ديوان الآستانة، ويظل الباشا في منصبه لا عمل له إلا جمع المال واستصفائه من أهله بمختلف وسائل النهب حتى يغادر منصبه، وبهذا نرى أن الحكام الأتراك الذين يقاسمون اللصوص نظير حمايتهم ورعايتهم والذين يرشون ويرتشون في وضح القانون كانوا أساتذة علموا هذا الشعب المطيع السمسرة والرشوة الحرام.

كل البعد عن الإسلام المحمدي

لو نجري مقابلة بين الحالات والنماذج الآنفة الذكر، وبين منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام)، في إدارة الحكم، لوجدنا بعد المسافة الشاسعة.

فقد كانا يجمعان المال من الموارد الأربعة وحسب: (الخمس) و(الزكاة) و(الجزية) و(الخراج) لا أكثر، وكانت الجباية تتم بمنتهى اللطف واللين.

ص: 184

ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبن لنفسه داراً، إلا الغرف التي بناها حول المسجد لنسائه من الطين ونحوه، كما إن الإمام علي (عليه السلام) لم يضع حجرا على حجر - كما ورد في الروايات- وكان يرتجف في الليل الشاتي من البرد، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يشد على بطنه حجر المجاعة من شدة الجوع.

ولما توفي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان مديناً ثمانين ألف درهم، كما أن الإمام علي لما استشهد (عليه السلام)، كان مدينا ثمانمائة ألف درهم، كما ورد في الروايات.

وإليكم ما يرويه محمد بن الحسين الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصية كان (عليه السلام) يوصي بها لمن يستعمله على الصدقات، فكان يكتب إليهم: (انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امضي إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج التحية (أي لا تسلم سلاما ناقصا وسلام كبرياء، وإنما سلام تواضع) ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل في أموالكم من حق تؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وان أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخفيه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما آتاك من ذهب أو فضة، فإن كانت له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تمصّرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوءن صاحبها فيها، ثم اصدع المال صدعين، ثم خيره، فإن اختار فلا تعرضن إلى اختياره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فإن اختار فلا تعرضن لما اختار، ولا تزل كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله فاقبل حق الله منه، فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله ولا تأخذن عورا ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عوار، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها

ص: 185

إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا غير معنف ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب ثم أحدر إلينا ما اجتمع عندك نصّيره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك أوصى إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصّر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنّها ركوبا، وليعدل بين صواحبها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب، وليستان بالنقب والضالع، وليوردها ما تمر به من المياه ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات الحارة وليمهلها عند النطاف وبالأعشاب حتى تأتينا بها بإذن الله بدنا غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله)(1).

فانظروا كيف كان الإمام (عليه السلام) يأخذ الصدقات من الناس؟

وكيف كان يوصي حتى بالحيوان؟

وفي رواية أخرى يرويها رجل من ثقيف استعمله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على بعض البلاد قال (عليه السلام) له في جملة وصيته له: إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو(2).

وقبل ذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يسهل مع الناس في الحقوق، فقد روى الإمام علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يحلف الناس على صدقاتهم وقال: (هم فيها مأمونون)(3).

ونهى أن يثنى عليهم في عام مرتين، وانه لا يؤخذ بها في العام إلا مرة واحدة، ونهى أن يغلب عليهم في أخذها منهم وان يقهروا على ذلك أو يضربوا أو يشدد عليهم أو يكلفوا فوق طاقتهم، وأمران لا يأخذ المصدق منهم إلا ما وجد في أيديهم، وان يعدل فيهم.

ص: 186


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص23.
2- وسائل الشيعة: ج6، ص90.
3- مستدرک الوسائل: ج7، ص42.

وفي رواية أخرى، عن الإمام علي (عليه السلام)، أنه أوصى مخنف بن سليم الأزدي وقد بعثه على الصدقة بوصية طويلة أمره فيها بتقوى الله تعالى ربه في سرائر أموره وخفيات أعماله، وان يلقاهم ببسط الوجه ولين الجانب، وأمره أن يلزم التواضع ويجتنب التكبر فإن الله تعالى يرفع المتواضعين ويضع المتكبرين، وقال له: (يا مخنف بن سليم أن لك في هذه الصدقة حقا ونصيبا مفروضا، ولك فيها شركاء فقراء ومساكين وغارمون ومجاهدون وأبناء سبيل ومملوكون ومتألفون، وأنا موفوك حقك، فوفهم حقوقهم وإلا فإنك من أكثر الناس يوم القيامة خصما وبؤسا لأمرء خصمهم مثل هؤلاء)(1).

وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) أنه كان يقول: (تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم ولا يساقون - يعني من مواضعهم التي هم فيها - إلى غيرها)(2).

وقال (عليه السلام): (وإذا كان الجدب أخروا حتى يخصبوا)(3).

العامل الثاني: مؤامرات تغذيها أحقاد صليبية

بذلت دول الشرق والغرب، خلال القرن الماضي، جهوداً كبيرة لتوجيه أقوى الضربات الى كيان الأمة وزعزعة أركان الإسلام، وتمزيق المسلمين. وهنا ننقل مقتطفات من كتاب «قادة الغرب يقولون»، يؤكد ما نذهب اليه من النوايا الشريرة للغرب مع العالم الاسلامي: «سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب وللحضارة الغربية، بكل فروعها القومية وأنظمتها السياسية، موقفاً واحداً إزاء الإسلام لا يتغير، إنها تحاول تدمير الإسلام وإنهاء وجود المسلمين دون رحمة».

وقد حاول الغرب تدمير الإسلام خلال الحروب الصليبية الرهيبة، فباؤا بالفشل، وتقهقرت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام، فعادوا اليوم يخططون

ص: 187


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص26.
2- مستدرك الوسائل: ج7، ص71.
3- المصدر السابق.

من جديد لينهضوا، ثم ليعودوا إلينا بجيوش حديثة وفكر جديد، وهدفهم تدمير الإسلام من جديد.

كان جنديهم ينادي بأعلى صوته حين كان يلبس بزة الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام:

أماه أتمنى صلاتك، لا تبكي..

بل اضحكي وتأملي..

أنا ذاهب إلى طرابلس..

فرحاً مسروراً..

سأبذل من دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة..

سأحارب الديانة الإسلامية..

سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن..

وفي الأندلس تقول الدكتورة سيجريد هونكة

(في2 يناير 1492): رفع الكاردينال دبيدر الصليب على القلعة الحمراء الملكية للأسرة الناصرية، فكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على إسبانياً، وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال العصور الوسطى.

وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضارتهم وثقافتهم. فأصدرت الأوامر بحظر الدين الإسلامي ، كما فرض على المسلمين هناك التخلّي عنه، ومنع استخدام اللغة العربية، و ارتداء اللباس العربي، ومن يخالف ذلك كان يتعرض للعقاب حرقاً ، بعد أن يعذب أشد العذاب.

(وهكذا انتهى وجود الملايين من المسلمين في الأندلس فلم يبق في إسبانيا مسلم واحد يجرؤ على إظهار دينه).

ص: 188

ضربة في الصميم

قال (لويس التاسع) ملك فرنسا، الذي أسر في دار ابن لقمان، بالمنصورة في وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس:

(لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال الحرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة باتباع ما يلي:

1- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.

2- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية من نشوء حاكم صالح فيها.

3- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والجنس ، حتى تنفصل القاعدة عن القمة.

4- الحؤول دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه، ويضحي في سبيل مبادئه.

5- العمل على الحؤول دون قيام وحدة في المنطقة.

6- العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية، تمتد ما بين غزة جنوباً وأنطاكية شمالاً، ثم تتجه شرقاً وتمتد حتى تصل إلى الغرب).

(ولما وقف (كرزون) وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، بعد انهيار الدولة العثمانية، احتج عليه بعض النواب الإنكليز بعنف، واستغربوا كيف اعترفت إنكلترا باستقلال تركيا التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهاجم الغرب؟ فأجاب كرزون: (لقد قضينا على تركيا التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم، لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة)!

فصفق النواب الإنكليز كلهم وسكتت المعارضة.

ص: 189

ويقول المبشّر وليم جيفورد بالكراف:

(متى توارى القرآن، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه).

ويقول المبشّر تاكلي: (يجب أن نستخدم القرآن - وهو أمضى سلاح في الإسلام - ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تماماً.. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً وأن الجديد فيه ليس صحيحاً).

أما صموئيل زويمر، رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935 فيقول: (إن مهمة التبشير التي ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً.. إنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.

لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم له ألا وهو إخراج المسلم من الإسلام، إنكم أعددتم نشأ لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشئ الإسلامي مطابقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم للحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات، أيها المبشرون إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه).

ويقول صموئيل زويمر نفسه في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: (إن للتبشير بالنسبة للحضارة الغربية مزيتين: الاولى: هدم، والثانية: بناء، أما الهدم

ص: 190

فنعني به انتزاع المسلم من دينه ولو بدفعه إلى الإلحاد. وأما البناء فنعني به تنصير المسلم إن أمكن ليقف مع الحضارة الغربية ضد قومه).

المدارس العلمانية وتمييع الشباب

ومن الخطوات التي قام بها الغرب لمحاربة الإسلام، العمل على حرف مسار التربية والتعليم، حيث بداية نشوء الانسان، فكرياً وأخلاقياً وعقائدياً.

يقول المبشر تكلي: (يجب أن نشجع على إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع إعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية).

ويقول زويمر: (ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية، فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية ونسهل التحاقهم بهذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب).

أما عن التحلل الاخلاقي فيقول جب: (لقد فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محددة، وقد تم معظم هذا التطور تدريجياً من غير وعي وانتباه، وقد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه، لكن نجاح هذا التطور يتوقف إلى حد بعيد على القادة والزعماء في العالم الإسلامي وعلى الشباب منهم خاصة كل ذلك كان نتيجة النشاط التعليمي والثقافي العلماني).

وقد حكى قادم من الضفة الغربية المحتلة: إن السلطات الصهيونية تدعو الشباب العربي بحملات منظمة وهادئة إلى الاختلاط باليهوديات وخصوصاً على شاطئ البحر، وتتعمد اليهوديات دعوة هؤلاء الشباب إلى الزنا بهن، وإن السلطات اليهودية تلاحق جميع الشباب الذين يرفضون هذه العروض بحجة أنهم من المنتمين للتنظيمات الفلسطينية، كما أنها تقتصر في الموافقة على إدخال

ص: 191

الأفلام السينمائية الإباحية إلى مناطق الضفة الغربية، كما تقيم دوراً للدعارة وبأسعار رمزية، على مقربة من المعامل الكبيرة التي يعمل فيها العمال الفلسطينيون.

تمزيق وحدة المسلمين

يقول القس سيمون: (إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية وتساعد على التملّص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوَّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية).

ويقول ارنولد توينبي في كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل): (إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ).

ومما يذكر هنا أنه في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربي كبير ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح: (إن الحضارة الأوربية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يحتّم علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا).

واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.

واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضي على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربا.

فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربا، وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس ليبقى العرب متفرقين، وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين.

ص: 192

مخططات تدميرية على لسان رموز الغرب

يقول (ابوجين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس الامريكي الأسبق «جونسون» لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي).

(إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي بفلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام والى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها).

إن (روستو) يحدد: إن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط، وهو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط، و ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية.

يقول لورنس براون: (إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي).

ويقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقاً: (ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق).

ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار

ص: 193

الجزائر: (إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من أفواههم ).

وفي افتتاحية العدد 22 أيار عام 1952 من صحيفة (كبزيل اوزبكستان) اليومية الناطفة بلسان الحزب الشيوعي الأوزبكستاني)، ذكر الكاتب ما يلي: (من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام).

ويقول ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل: (إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي، محمد..).

ويقول الكاتب الصهيوني إيرل بوغر في كتابه (العهد والسيف) الذي صدر عام 1965 ما نصه بالحرف: (إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً، يجب القضاء على جميع العناصر التي تغذّي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي، وهي عناصر رجعية تتمثل في رجال الدين والمشايخ).

ويقول لورانس براون: (كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف، كانوا يخوفوننا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلشفي. ولكن تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيين حلفاؤنا، وأما اليابانيون فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتهم، لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي أمامنا يتمثل بالإسلام وفي قدرته على التوسع والهيمنة ، وفي حيويته المدهشة).

ويقول المستشرق غاردنر: (إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربا).

ويقول البرمشادور: (من يدري؟ ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب).

ص: 194

ويتابع: (لست متنبئاً.. لكن الإمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها.. إن المسلم قد استيقظ وأخذ يصرخ: ها أنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيرها العواصم الكبرى ومخابراتها).

ويقول أشعيا بومان في مقال نشره في مجلة العالم الغربي من الإسلامي التبشيرية: (إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، لهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار).

ويقول أنطوني ناتنج في كتابه (العرب): (منذ أن جمع محمد (صلّى الله عليه وآله) أنصاره في مطلع القرن السابع الميلادي وبدأ أول خطوات الانتشار الإسلامي، كان على العالم الغربي أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة وصلبة تواجهنا عبر المتوسط).

وصرح سالازار في مؤتمر صحفي قائلاً: (إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يخلقه المسلمون حين يغيرون نظام العالم)..

ولما سأله أحد الصحفيين: لكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم ونزاعاتهم؟

أجابه: أخشى أن يخرج منهم من يوجه خلافاتهم إلينا!

ويقول مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952:

(ليست الشيوعية خطراً على أوربا، فيما يبدو لي، أن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع، انطلقوا في العالم يحملون

ص: 195

تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ، وقد حاولنا نحن الفرنسيون خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعب المسلم، فكان الإخفاق الكامل ثمرة جهودنا الكبيرة والضخمة. إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.

فلنعطي هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقوّي في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة، خطراً داهماً ينهار من خلاله الغرب، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم).

ويقول مورو بيرجر في كتابه (العالم العربي المعاصر): (إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عندهم ، بل بسبب الإسلام يجب محاربة الإسلام، للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره، إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الإفريقية).

ويقول هانوتو وزير خارجية فرنسا:

(رغم انتصارنا على أمة الإسلام وقهرها، فإن الخطر لا يزال قائماً من انتفاض المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم لأن همتهم لم تخمد بعد).

ويقول غاردنر: (إن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنها كانت لتدمير الإسلام).

ص: 196

ويقول فيليب فونداس: إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم، وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام، وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره).

ويقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام):

(إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكاً واسعاً، بل هو مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه من الخمول والكسل إلا ليدفعه إلى سفك الدماء والإدمان على معاقرة الخمور وارتكاب جميع القبائح، وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، فيأتون بمظاهر الصرع والذهول العقلي إلى ما لا نهاية، ويعتادون على عادات تنقلب إلى طباع ككراهة لحم الخنزير والخمر والموسيقى..

إن الإسلام كله قائم على القسوة والفجور في اللذات، أعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين، والحكم على الباقي بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر)..!

حتى الأموات لم يسلموا.. فقد هدم قائد الجيوش البريطانية في حملة على السودان، قبر الشخص الذي سبق أن حرر السودان، وبعدها أقدم على نبش قبره واستخراج جثته، ثم فصل جمجمته و أرسلها إلى بعض رفاقه وطلب أن يتخذها مطفأة لسجائره!.

الصهيونية جسراً للصليبية

يقول (باترسون سميث) في كتابه (حياة المسيح الشعبية): باءت الحروب الصليبية بالفشل، لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك حينما بعثت انكلترا بحملتها الصليبية الثامنة ففازت هذه المرة. إن حملة (اللنبي) على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى، هي الحملة الصليبية الثامنة والأخيرة.

ص: 197

وقد نشرت الصحف البريطانية صور (اللنبي) وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس: (اليوم انتهت الحروب الصليبية).

ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف (اللنبي) وحده، بل موقف السياسة البريطانية كلها، فقد قالت الصحف:

وجه (لويد جورج) وزير الخارجية البريطاني، أمام مجلس العموم الريطاني (البرلمان) ، تهنئة للجنرال (اللنبي) لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية التي سماها جورج (الحرب الصليبية الثامنة).

وقال راند ولف تشرشل: لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء. إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود، فقد خرجت القدس من سيطرة المسلمين، وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى «القدس اليهودية»، ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود.

وعندما دخلت القوات الصهيونية القدس الشريف في حزيران عام 1967م تجمهر الجنود حول حائط المبكى، وأخذوا يهتفون مع موشي دايان: (هذا يوم بيوم خيبر).. و (يا لثارات خيبر) وتابعوا هتافهم:

حطّوا المشمش عالتفاح *** دين محمد ولّى و راح

وهتفوا أيضاً: (محمد مات)، (خلف بنات).

وخرج أعوان الكيان الصهيوني في باريس بمظاهرات قبل الحرب وهم يحملون لافتات كتبوا عليها وعلى جميع صناديق التبرعات لإسرائيل جملة واحدة من كلمتين: (قاتلوا المسلمين). وممن سار خلف هذه اللافتات المفكر الوجودي المعروف (جان بول سارتر).

فالتهب الحماس الصليبي - الغربي، وتبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام فقط، كما طبعت إسرائيل بطاقات تهنئة كُتب عليها (هزيمة

ص: 198

الهلال)، بيعت بالملايين، دعماً ومساندة للكيان الصهيوني الحديث النشوء، الذي يقوم بمهمة حمل رسالة الصليبية الأوربية في المنطقة وهي محاربة الإسلام وتدمير المسلمين.

وصرح (الكاردينال بور) كاردينال برلين لمجلة تابلت البريطانية الكاثوليكية يوم سقوط القدس عام 1967م وبعد أن رعى صلاة المسيحيين مع اليهود في كنيس يهودي لأول مرة في تاريخ المسيحية قائلاً: (إن المسيحيين لابد لهم من التعاون مع اليهود للقضاء على الإسلام وتخليص الأرض المقدسة).

جرائم الغرب في ارتيريا

استولت الحبشة على أرتيريا المسلمة بدعم تأييد من فرنسا، وصادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، كان الإقطاعي والكاهن مخولين بقتل أي مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعي أو الكاهن يشنق فلاحيه أو يعذبهم في الوقت الذي يريد.

وفتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة يجلد فيها الفلاحون بسياط تزن أكثر من عشرة كيلو غرامات، وبعد إنزال أفضع أنواع العذاب بهم كانوا يلقون في زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر عندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس.

كل ذلك قبل استلام (هيلا سيلاسي) السلطة في الحبشة، فلما أصبح إمبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاماً، وتباهى بخطته هذه أمام الكونغرس الأمريكي، فسن تشريعات لإذلال المسلمين، منها: أن عليهم أن يركعوا لموظفي الدولة وإلاّ يقتلوا.

وأمر أن تستباح دماءهم لأقلّ سبب، فقد وجد شرطي قتيلاً قرب قرية مسلمة فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم

ص: 199

تبين أن القاتل هو صديق المقتول الذي اعتدى على زوجته، وحاول أحد العلماء واسمه (الشيخ عبد القادر) أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال واختفى في الغابات، فجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم في أكواخ من الحشيش والقصب وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً، ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك إطفاء السجائر في عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق، وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاءه جريحاً قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم.

وقد أصدر هيلاسيلاسي أمراً بإغلاق مدارس المسلمين، وأمر بفتح مدارس مسيحية، وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين، وعين حكاماً على مقاطعات أرتيريا، منهم شخص عيّنه على مقاطعة (جمة)، فابتدأ عمله بأن أصدر أمراً أن لا يقطف الفلاحون ثمار أراضيهم إلا بعد موافقته.. وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيراً صادر 90% من الأراضي فأخذ هو نصفها، وأعطى الإمبراطور نصفها الآخر، ونهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين، وأمرهم أن يبنوا كنيسة كبرى في الإقليم فبنوها، ثم أمرهم أن يعمروا كنيسة عند مدخل كل قرية أو بلدة، ولم يكتف بذلك بل بنى دوراً للعاهرات حول المساجد ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود ثم يدخلون إلى المساجد ليبولوا فيها ويتغوطوا وليراقصوا العاهرات فيها وهم سكارى، كما فرض على الفلاحين أن يبيعوا أبقارهم لشركة (انكودا اليهودية).

وقد كافأ الإمبراطور هذا الحاكم على أعماله هذه بأن عينه وزيراً.

وكانت حكومة الإمبراطور تلاحق كل مثقف مسلم لتزجه في السجن حتى الموت أو تجبره على مغادرة البلاد حتى يبقى شعب أرتيريا المسلم مستعبداً جاهلاً.

وفي بنغلادش، أسهم اليهود في قتل آلاف المسلمين، من خلال ضابط

ص: 200

يهودي كان أحد قادة الجيش الهندي في الحرب مع باكستان(1)، وبعد الانتصار على الجيش الباكستاني، قتل الجيش الهندي عشرة آلاف عالم مسلم في باكستان، كما قتل مائة ألف من طلبة المعاهد الإسلامية وموظفي الدولة، وسجن خمسين ألفاً من العلماء وأساتذة الجامعات، وقتل ربع مليون مسلم هندي هاجروا من الهند إلى «باكستان الشرقية»، قبل الحرب، وسلب الجيش الهندي ما قيمته (30) مليار روبية من أموال الناس والدولة في هذه المنطقة.

ومن ثمار المؤامرات الغربية على شبه القارة الهندية، إلقاء باكستان، بين براثن الديكتاتورية العسكرية، و السماح للهند، بان تمتلك نوعاً من «الديمقراطية» والحريات والاكتفاء الذاتي، علماً إن البلدين حصلا على الاستقلال في عام واحد. لذا وجدنا باكستان، ذات الأكثرية المسلمة، تقبع لسنوات في براثن الدكتاتورية العسكرية الملطقة، سوى بعض الفترات القصيرة من حياتها.

ديكتاتوريات عسكرية .. السلاح الجديد

ويقول المستشرق وك سميث الأمريكي والخبير بشؤون الباكستان: (إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها).

وينصح رئيس تحرير مجلة (تايم)، في كتابه (سفر آسيا)، الحكومة الأمريكية أن تنشيء في البلاد الإسلامية ديكتاتوريات عسكرية للحيلولة دون دعوة الإسلام السيطرة على الأمة الإسلامية، وبالتالي الانتصار على الغرب وحضارته واستعماره.

ص: 201


1- - اندلعت الحرب الثانية بين باكستان والهند عام 1971 بسبب النزاع على منطقة باكستان الشرقية، وانتهت الحرب بهزيمة باكستان وانفصال باكستان الشرقية، وتشكيل دولة جديدة تحت اسم «بنغلادش».

وفي معرض إعرابه عن الهاجس الكبير من الإسلام، يقول مرماديوك باكتول: (إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً، بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم).

لذا شهدت البلاد الاسلامية ظهور أنظمة ديكتاتورية مارست أبشع أنواع القمع والتنكيل بحق شعوبها، لا لذنب ارتكبته سوى التزامها بهويتها الدينية، واتباعها الاحكام الاسلامية.

وهناك الكثير الكثير من الأمثلة والشواهد على الجرائم المريعة والانتهاكات الصارخة التي ارتكبها الحكام في البلاد الاسلامية، نذكر بعضها:

حرق الأجساد وإطعامها للكلاب!

ذكر لي شاهد عيان بعض أنواع التعذيب التي كانت تنفذ في أحد البلدان الإسلامية ضد مجموعة من العلماء المجاهدين فقال:

بعد يوم من التعذيب الشديد ساقنا الزبانية بالسياط إلى زنزاناتنا، وأمرنا الجلادون أن نستعد ليوم آخر أكثر شدة وقسوة.

وفي صباح اليوم التالي أمرنا الجلادون أن نخرج فوراً، وكنا نستجمع كل قوتنا في أقدامنا الواهنة هرباً من السياط التي كانت تنزل علينا من حرس كان عددهم أكبر منا، وأخيراً أوقفونا في سهل صحراوي تحت أشعة الشمس اللاهبة حول كومة من الفحم الحجري كان يعمل الحرس جاهدين لإشعالها، وقرب النار مصلبة خشبية تستند إلى ثلاثة أرجل.

اشتعلت كومة الفحم الحجري حتى احمرت، فجأة سمعنا سيلاً من الشتائم تصدر من قادم من بعيد، التفتنا فوجدنا خمسة من الحرس يقودون شاباً - عرفه بعضنا كان اسمه (جاويد خان) - وهو أحد علماء ذلك البلد.

ص: 202

امتلأت الأجواء بنباح كلاب مجنونة. فرأينا عشرة من الحرس يقودون كلبين يبلغ ارتفاع كل واحد منهما متراً، وعلمنا بعد ذلك أنهما قد حُرما من الطعام منذ يومين.

قرَّب الحرس ذلك الشاب (جاويد) من كومة النور الحمراء، وعيناه مغمضتان بحزام سميك، كنا أكثر من مائة سجين ومعنا أكثر من مائة وخمسين من الحرس معهم البنادق والرشاشات، واقفين نتفرج على المنظر المهول. فجأة اقترب من الشاب (جاويد) عشرة من الحرس أجلسوه على الأرض ووضعوا في حضنه مثلثاً خشبياً ربطوه إليه ربطاً بقوة، بحيث يبقى جالساً لا يستطيع الاضطجاع، ثم حملوه جميعاً وأجلسوه على الجمر الأحمر، فصرخ صرخة هائلة ثم أغمي عليه، و سقط أكثر من نصفنا مغمى عليهم، كانوا يصرخون متألمين، وعمّت رائحة شواء لحم (جاويد) المنطقة كلها. ومن حسن حظي أنني بكيت بكاءً مراً لكنني لم أصب بالإغماء لأرى بقية القصة التي هي أفضع من أولها.

حمل الشاب، وفكت قيوده وهو غائب عن وعيه، وصلب على المصلبة الخشبية وربط بها بإحكام، واقترب الجلادون بالكلبين الجائعين، وفكوا القيود عن أفواههما، وتركوهما يأكلان لحم ظهر (جاويد) المشوي بدأت أشعر بالانهيار، إنه لا زال حياً والكلاب تأكل لحمه، فقدت وعيي بعدها.

لم أفق إلا وأنا أصرخ في زنزانتي كالمجنون دون أن أشعر: (جاويد جاويد أكلتك الكلاب يا جاويد جاويد)....!

كان إخواني في الزنزانة قد ربطوني وأحاطوا رأسي وفمي بالأربطة حتى لا يسمع الجلادون صوتي فيكون مصيري كمصير جاويد أو كمصير (شاهان خاني)، الذي أصيب بالهستيريا مثلي فاصبح يصرخ (جاويد جاويد)...! فأخذه الجلادون و وضعوا فوقه نصف برميل مملوء بالرمل ثم سحبوه على الأسلاك الشائكة التي ربطوها صفاً أفقياً، فمات بعد أن تقطع لحمه، إرباً إربا.. وهو يصرخ (الله أكبر.. الله أكبر.. لابد أن ندوسكم أيها الظالمون) وأخيراً أغمي عليّ.

ص: 203

فتحت عيني، فوجدت أنني في أحد المشافي، وفوجئت أكثر من ذلك بسفير بلدي يقف فوق رأسي وهو يقول لي: كيف حالك..؟! يبدو أنك ستشفى إن شاء الله. إن لم تكن غريباً عن هذه البلاد لما استطعت إخراجك، ثم فاجأني سائلاً: لكن بالله عليك قل لي من هو هذا جاويد الذي كنت تصرخ باسمه؟ أخبرته بكل شيء فامتقع لونه حتى خشيت أن يغمى عليه.

لم نكمل حديثنا إلا والشرطة تسأل عني، اقترب من سريري ضابط شرطة، وسلمني أمراً بمغادرة البلاد فوراً ولم تنجح تدخلات السفير في ضرورة إبقائي حتى أشفى، حملوني ووضعوني في باخرة أوصلتني إلى ميناء بلدي، كنت بثياب المستشفى ليس معي أي وثيقة تثبت شخصيتي، اتصلت بأهلي تليفونياً، فلما حضروا لم يعرفوني لأول وهلة، حملوني إلى أول مستشفى، بقيت فيه ثلاثة أشهر في بكاء مستمر ثم شفاني الله تعالى.

وأنهى المسكين حديثه قائلاً: بقي أن نعرف أن مدير السجون في ذلك البلد المسلم كان يهودياً، والمسؤول عن التعذيب خبير ألماني نازي، وقد أطلقت تلك الحكومة في ذلك البلد الإسلامي يده يفعل ما يشاء في علماء المسلمين.

صور من التعذيب في سجون بغداد

نقل لي أحد العلماء الذين أدخلهم حزب البعث العراقي سجن (قصر النهاية)، وكان بالأصل قصراً ل(عبد الإله) وكان يسمى في أيام الملكين ب(قصر الرحاب)، وعندما أطاح البريطانيون - كما هو المعروف – بالتعاون مع الإسرائليين، بالحكم الملكي، عندما مال شيئاً ما إلى الأمريكيين، عبر الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم سنة 1958، سُمي هذا القصر ب(قصر النهاية)، أي نهاية الحكم السابق، أو نهاية الإنسان، لإلقاء الرعب والخوف في النفوس، ثم اتخذ هذا القصر معتقلاً بعدما أضيفت إليه أقسام عديدة، والقصر مكان واسع جداً تحيط به أرض واسعة وأسوار عالية وحدائق تجعله صالحاً لأن يكون معتقلاً لأنه بعيد عن أنظار الناس ولا يسمع أصوات المعذبين فيه أحد من الخارج.

ص: 204

قال هذا العالم: كان جلاوزة البعث يمارسون أنواع عديدة من التعذيب النفسي والجسدي مع المعتقلين لديهم من العلماء والشباب المؤمن، من أجل انتزاع الإسلام من قلوبهم، وقد بلغت أنواع التعذيب رقم (100)، وقد تعرّض هذا العالم بنفسه لعشرات من هذه الأنواع، ليعترف كذباً و زوراً ، أنه هو وجماعة من علماء النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، من عملاء أمريكا، لكن هذا العالم صبر وصمد أمام كل أنواع التعذيب الوحشي والقاسي، حتى حكم عليه بالسجن عشر سنوات، ثم أخرج من قصر النهاية إلى معتقل آخر، وبعد فترة أطلق سراحه بفضل الله سبحانه وتعالى.

خمسون نوعاً من التعذيب !

وقد نقل لنا هذا العالم طائفتين من أهوال السجون البعثية: الطائفة الاولى: تتناول كيفيات التعذيب، وطائفة تتناول طبيعة أعمال الجلاوزة في (قصر النهاية)، نتقلها بإيجاز حتى نتعرف على مدى تحكّم الغربيين - وبالأخص البريطانيين والإٍسرائيليين - بالمسلمين، وإنهم أخذوا يطبقون في البلاد الإسلامية حلمهم القديم في إبادة المسلمين وإلحاق الأذى والذل بهم بأي شكل كان، ومحاولة سلخهم عن دينهم.

الطائفة الأولى: أساليب التعذيب البشعة

1 - إهانة المقدسات :

إجبار المعتقل على سب الله تعالى والرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) والقرآن، والاستهزاء بالمقدسات، وقد ذكر أحدهم الزهراء (عليها السلام) بسبّ مقذع لا يمكن التفوّه به.

كما أنهم كانوا يجبرون المعتقلين على الترحم على (يزيد) لأنهم يعرفون أن المسلمين يكنّون ليزيد بصورة خاصة العداء والبغضاء، وكذلك الترحّم على (ابن زياد) و(ابن سعد) و(شمر) و(هارون) ومن إليهم من العباسيين، خصوصاً الذين كانوا أكثر عداءً لأهل البيت (عليهم السلام) كالمتوكل.

ص: 205

2 - اغتصاب أقرباء السجين :

يأتون بأقرباء المسجون من بنين وبنات لإجبار السجين على الاعتراف بما يشاؤون، فإذا رفض، هددوه باغتصاب ذويه، وأحياناً يكون القريب صغيراً، كبنت لها ست أو سبع سنوات، أو ولد كذلك، وأحياناً ينتهي الأمر إلى الموت. وكان هذا العالم قد رأى مثل هذا الشيء بأم عينيه مرتين. وأضاف إنهم يرتكبون ذلك أمام السجناء الآخرين بُغية تخويفهم بأنهم إذا لم يعترفوا يتعرضوا لما تعرّض اليه الآخرون.

3 - تسليط الكلاب الجائعة :

يربطون المعتقل بشكل محكم، ثم يسلطون عليه كلاب جائعة، قطعوا عنها الأكل لأيام عديدة، ثم يطلقونها على هذا الإنسان لتنهش لحمه وهو حيّ.

4 - تعرية المرأة واغتصابها:

يأمرون المرأة بالقفز أمام الجلاوزة، بعد تجريدها من ملابسها، وإذا رفضت يضربوها بالسياط الشائكة وأحياناً بالسياط الكهربائية، ثم يربطونها، ويعتدون عليها، كذلك يفعلون أحياناً مع الشاب فيعرونه من ملابسه ويأمرونه بالقفز ثم يعتدون عليه.

5 - الاختلاط العاري بين الجنسين :

يعرون جماعة من النساء والرجال، ويحبسونهم في غرفة واحدة.

6 - بتر الأعضاء :

بتر أعضاء البدن، كاليد والرجل والأنف والأذن، وحتى الأعضاء التناسلية، وفقأ العين.

7 - الغطس في حوض القذارات :

تغطيس الرأس في حوض من النجاسة، فإذا أحسوا أن المعتقل على وشك الموت رفعوا رأسه، وهكذا يكررون العملية مرات مما سبب ذات مرة موت المعتقل.

ص: 206

8 - الموقد الكهربائي :

إجلاسه على الموقد الكهربائي، وأحياناً يمددونه على السرير الحديدي المكهرب حتى يشتم المعتقلون من هذا المعذب رائحة اللحم المشوي، ويغمى عليه، وأحياناً ينتهي الأمر إلى موته.

9 - شيّ الجسد :

تقطيع اللحم من جسد المعتقل المعذب، وجعل بعض أجزاء جسده على النار، ويسمونه (الكَص)، مما ينتهي في أكثر الأحيان إلى إغماء المعذب.

10 - السرداب الرهيب :

إنزال المعتقل إلى سرداب رهيب فيه جثث الأموات، وشعور النساء، والأظفار المقلوعة، والعظام وما أشبه.. يروي هذا العالم:

أنزلوني ذات مرة في مثل هذا السرداب، وكان مظلماً، وفي آخر السرداب شمعة صغيرة، ولما دخلت السرداب رأيت فيه أناساً جالسين، فظننت أنهم مثلي، عذبوهم ثم جاؤوا بهم إلى هنا لانتهاء تعذيبهم، فسلمت عليهم ولكنهم لم يردوا السلام، فتعجبت وظننت أنهم من الأمن يريدون تعذيبي أو تخويفي، فسلمت مرة ثانية فلم يجيبوا، وسلمت مرة ثالثة وسألت: من أنتم؟ هل أنتم من الأمن أو من السجناء؟ ولما لم يجيبوا لمست بعضهم وإذا به ميت جاؤوا به هنا لإرعاب السجناء، فخفت كثيراً، لكنني توكلت على الله تعالى، وذكرت اسم الله عز وجل، وأخذت أتصفح أولئك الجالسين، فرأيت بعضهم أمواتاً وقد أسندوا إلى الجدار لئلا يسقطوا، كما رأيت بعض الرؤوس المقطوعة المنفصلة عن أجسادها، ورأيت الأيادي والأرجل المكسورة، وكنت أشم الرائحة الكريهة جداً، فأصبت من جراء ذلك بالغثيان والدوران في رأسي وظننت إني سوف أقضي نحبي من كثرة ما أصابني من التقيؤ والاستفراغ، وبقيت هناك ساعات، ثم أخرجوني وأنا شبه مغمى عليّ وعالجوني بالمعقمات والأدوية المضادة للتسمم حتى رجعت إلى ما كنت عليه من الحالة الطبيعية.

ص: 207

11 - كهربة الأعضاء الحساسة :

إيصال الكهرباء إلى المناطق الحساسة من الجسم كأجفان العين، وتحت الأذرع ، والأعضاء التناسلية، والأذن، وما أشبه، مما يحدث في المعذب ارتجاجاً شديداً، وأحياناً يصاب بمس من الجنون.

12 - ضرب الأرجل :

شد الأرجل بحبل والضرب بالعصى الغليظة عليها عنيفاً وأحياناً يستعملون ذلك مع المعذب حتى تدمى رجليه وتتورم ولا يتمكن من الجلوس والمشي.

13 - القنينة الزجاجية :

إجلاس المعتقل بعنف على قنينة زجاجية، لمزيد من إلحاق الإهانة والتنكيل بالسجين. وهو ما يسبب له الإغماء غالباً.

14 - ثقب الأعضاء :

ثقب القدمين أو اليدين بآلة كهربائية، وايضاً ثقب الأذن والأنف.

15 - التعليق بالمراوح السقفية :

تعليق المعتقل بالمروحة السقفية من رجليه، ثم تشتغل المروحة بشدة، والجلاوزة يلتفون حول المعذب يضربونه بالسياط.

16 - إحراق الشعر واللحية :

حرق شعور النساء ولحى الرجال، وإطفاء السجاير على مختلف مواضع الجسم، وأحياناً في داخل العين.

17 - قلع الأظافر :

قلع الأظافر، وإدخال الأبر في الأنامل.

18 - شق طرفي الفم :

شق الفم من الطرفين، يعملون هذا مع من يقولون أنه سبهم، أو صعد المنبر، وبلّغ للدين الإسلامي.

ص: 208

19 - النفخ في البطن :

نفخ بطن المعذب بالمنفاخ حيث يدخلون المنفاخ الكهربائي في أسفله ثم ينفخون فيه فتتمزق أحشاؤه وأحياناً يموت من اثر ذلك بعد أيام قلائل.

20 - الكيّ بالنار :

وذلك بان يدخلوا السلك الحديدي في النار ثم يضعونه على يد السجين أو رجله أو بطنه أو صدره، وأحياناً يدخلون هذا السلك من طرف من أطرافه ويخرجونه من الطرف الآخر، وبعد ذلك يتقيح الموضع مما يسبب الآلام الكثيرة للسجين.

21 - أرض الأوساخ :

إلقاء من يريدون تعذيبه على ارضية تصليح السيارات المملوءة بالزيت والأوساخ والتعفن.

22 - تعليق المرأة من شعرها :

تعليق المرأة من شعرها بعد ربط الأيدي والأرجل، وأحياناً يعرونها تعرية تامة، ثم يعلقونها من شعرها أو من ثديها.

23 - لسعات النحل :

يعرّون المعتقل ويضعونه في مكان ممتلئ بالنحل، فتنقض عليه وتلسع مواضع من جسمه، وكثيراً ما يغمى على هذا المعتقل، وإذا لم يريدوا موته حقنوه بعد ذلك بالحقن المضادة.

24 - الزنزانات الانفرادية :

حبس المعتقل في الزنزانات الانفرادية الضيقة، بحيث لا يتمكن الوقوف ولا النوم، وأحياناً يملؤون المكان بالماء الحار أو البارد حتى يكون المعتقل الجالس مغموراً بالماء إلى نصف جسمه، وأحياناً يضعون المعتقل في أسطوانات خاصة عملت لهذا الغرض فيبقى المعتقل فيها واقفاً لا يستطيع الجلوس ولا التحرك، وأحياناً، يفتحون الباب ليجدوا المعتقل ميتاً.

ص: 209

25 - نتف الشعر :

نتف شعر الرأس واللحية والحاجب والأهداب، بجهاز خاص، وكثيراً ما تنقلع بعض أجزاء اللحم مع الشعر مما يوجب ألماً مراً للمعتقل.

26 - إزعاج النائمين :

إزعاج المعتقل في أوقات منامه بمكبرات صوت قوية، وبمصابيح كهربائية قوية، مما يسبب له إزعاجاً شديداً، ويخلق فيه الارتجاف الشديد وأحياناً يصبون على النائم ماءً حاراً جداً أو بارداً جداً مما يسبب له توتر الأعصاب.

27 - كبس الأذن بالجدار :

كبس الأذن بالجدار بمسمار في حالة جلوس المعذب أو نومه أو وقوفه، وأحياناً يصاب المعذب بالانهيار فيسقط فتنخرق أذنه ويسيل الدم منها.

28 - الرمي إلى الأسفل :

يربطون الرجل بحبل قوي أو سلك أو ما أشبه ثم يلقون المعتقل من طابق عال أو يرمونه في بئر مما يسبب له الصدمة الشديدة عند السقوط، وأحياناً يسبب ذلك قطع عصب الرجل أو انخلاع المفصل أو نحو ذلك.

29 - قلع الأسنان :

قلع الأسنان أو كسرها بآلات حديدية وأحياناً يسبب ذلك كسر الفك أو اقتطاع اللحم مع السن.

30 - قطع المعتقل عن العالم الخارجي :

حبس المعتقل في زنزانات مظلمة وأحياناً مرطوبة وأحياناً مليئة بالماء، بحيث لا يرى السجين النور ولا يميز الليل من النهار، وأحياناً يسلطون أنبوباً من فوق رأسه يقطّر بالماء الحار أو البارد، قطرة بعد قطرة على الرأس مما يسبب للمعتقل أذى كبيراً.

ص: 210

31 - التهديدات السافلة :

إطلاق تهديدات دنيئة تمسّ شخصيته وكرامته، او حياته مما يسبب له ألماً نفسياً كبيراً.

32 - وضع اليد في شق الباب :

وضع اليد في الباب وغلقه عليها، وأحياناً وضع الرجل.

33 - عدم السماح بالنوم :

تعذيب المعتقل بعدم السماح له بأن ينام، وذلك بان يضربونه كلما أراد النوم أو يوخزونه بإبرة أو ما أشبه، وأحياناً يصاب بالانهيار فيسقط على الأرض من شدة النعاس، وأحياناً ترتجّ أعصابه ارتجاجاً شديداً.

34 - القير المذاب :

وضع رجلي المعتقل أو يديه أو مؤخر رأسه في القير المذاب وأحياناً يصبونه على جسده.

35 - ربط اليدين عند الأكل :

ربط يد المعتقل عند الأكل أو الشرب ليجبر على الانحناء ويأكل ويشرب كالدواب، وأحياناً يربطون يده عند إرادته قضاء الحاجة مما يسبب أن لا يتمكن من تطهير نفسه بالماء.

36 - غرس الأبر في اللسان :

سلّ لسان المعتقل، ثم غرس أبرة كبيرة فيه من خارج الفم، مع ربط يديه ورجليه لكي لا يتمكن من إخراج الابرة فيبقى لسانه مدلعاً خارج فمه مما يسبب له تعذيباً جسدياً ونفسياً في وقت واحد، وأحياناً يرشون على ذلك اللسان المجروح الفلفل أو الملح أو سائر المواد الحارقة الحادة، كما أنهم يجرحون بعض مناطق الجسم الآخر ويرشون عليه الخل أو الملح أو الفلفل أو ما شابه ذلك.

ص: 211

37 - دحرجة السجين :

يعصّبون عين المعتقل ويربطون يديه ورجليه حتى لا يتمكن من التحرك ثم يدحرجونه من درج أو نحوه حتى يسقط إلى أسفل، فتصيبه الرضوض والكسور والجراح.

38 - المواد الحارقة :

صب الأسيد أو المواد الحارقة الأخرى على بعض أنحاء الجسم للتشويه والإيلام، وأحياناً يصبون الأسيد في عينه أو في فمه أو في بعض أعضائه التناسلية مما يسبب له إيلاماً شديداً.

39 - الحقن بالماء الحار :

حقن المعتقل بالماء الساخن المغلي، مما يسبب له أوراماً في داخل البطن، وحروقاً شديدة، وآلاماً كثيرة.

40 - الكلب يعبث بالمعتقل :

شد المعتقل بكرسي، وإخراج (...) من ثقب في أسفل الكرسي ثم تسليط كلب معلم ليعبث به، فيوجب ذلك للمعتقل أشد الألم ويغمى عليه في كثير من الأحيان.

41 - كماشة على الأنف :

وضع كماشة على أنف المعتقل مما يسبب له ألماً شديداً، ولا يتمكن من التنفس إلا من فمه، وتتغير بذلك نبرة صوته، فإذا أراد أن يتكلم ضحك عليه الجلاوزة، وذلك مع شد يديه حتى لا يتمكن من إزاحة الكماشة.

42 - صبغ نصف الوجه :

صبغ نصف الوجه مورباً أو عمودياً أو أفقياً بصبغ ثابت لا يزول مما يسبب للمعتقل آلاماً نفسية بسبب ضحك الجلاوزة عليه.

ص: 212

43 - تعذيب السجين بزملائه :

ضرب معتقل بمعتقل آخر ضرباً عنيفاً، أو ضرب راس أحدهما براس الآخر، أو بالحائط، أو شد اليدين والرجلين وربط المعتقل بالأرض وإلقاء معتقل آخر بعد شد يديه ورجليه على ذلك المعتقل، وأحياناً يلقون خمسة معتقلين بعضهم فوق بعض، ويشدونهم بحبل حتى يسبب لهم ثقلاً وإزعاجاً وتعذيباً نفسياً وجسدياً.

44 - مسحوق (دي. دي. تي) :

ملء عيون المعتقل بمسحوق (دي. دي. تي) الذي يستعمل لإبادة الحشرات، أو صب النفط في عين المعتقل، وأحياناً يمددون المعتقل ويفتحون فمه ليتبول الجلاوزة أو يتغوطون في فمه، مما يسبب له أذى كبيراً.

45 - البول بدل الماء :

عدم إعطاء الماء للمعتقل، ثم تقديم بول أو ماء وسخ إليه حتى يجبر على شربه من شدة العطش، وأحياناً يمنعون الماء عن معتقل حتى يموت عطشاً خصوصاً في شدة القيظ في تموز.

46 - تنظيف الأوساخ بالملابس:

أمر المعتقل بكنس المراحيض، وجمع القمامة بملابسه، وأحياناً يصبون فوق رأس المعتقل المربوط إناءً من القذارة والنجاسة، وأحياناً لا يتركون المعتقل يخرج من غرفته للتخلي فيجبر على أن يبول ويتغوط في نفس غرفته مما يسبب له تلوثاً وأذيةً وتعفناً، وأحياناً يفعلون ذلك بعدة معتقلين في غرفة واحدة.

47 - جرّ آلة المعتقل:

ربط آلة المعتقل بحلبل مع ربط نفس المعتقل بالحائط ونحوه، ثم جر الحبل، ونتره مما يسبب له أذى، وأحياناً يوجب له إغماءً.

48 - الأموات في الزنزانة:

يأتون بالميت في قصر النهاية إلى بعض غرف المعتقلين ويتركونه في غرفة المعتقلين مما يسبب إرهابهم وإيذائهم بعفونته بعد يومين أو ثلاثة أيام.

ص: 213

49 - حديدة في الفم:

وضع حديدة في فم المعتقل وربطه من وراء رأسه مما يترك المعتقل فاغر الفم ويسبب له آلاماً جسدية ونفسية.

50 - تقليد البهائم:

ربط رقبة المعتقل بحبل غليظ يسبب له إيلاماً في رقبته، ثم يمسك أحد الجلاوزة طرف الحبل ويؤمر المعتقل بأن ينحني ويمشي على يديه ورجليه، ويصيح فإذا لم يفعل ذلك ضربوه بالسياط.

إلى غير ذلك من الأقسام التي رآها هذا العالم رؤية العين.

أما الطائفة الثانية من التعذيب، فقد نقلها العالم نفسه، مما رآه في قصر النهاية.

قال: ذات مرة جاؤوا بأربعة من الضباط الشباب، وربطوهم بالحائط ثم قال أحد المجرمين في قصر النهاية لعدد من حملة البنادق - وكان رئيساً لهم -: جربوا بنادقكم على هؤلاء، وإذا بهم يمطرون أولئك الضباط بوابل من الرصاص، فجرت منهم الدماء الغزيرة وسلموا أرواحهم الى الله سبحانه في اللحظة.

وذات مرة حكم على إنسان بالإعدام، لكن بعد يوم رأيناهم وقد أتوا بأحد المجانين - وكانت آثار الجنون ظاهرة عليه - وأعدموه بالكرسي الكهربائي، وأطلق سراح المحكوم عليه بالإعدام، فتعجبنا من الحادث، وبعد أن خرجنا من قصر النهاية علمنا أن ذوي المحكوم عليه لما سمعوا بحكم الإعدام هرعوا إلى خير الله طلفاح (وهو خال صدام وأبو زوجته) وأرشوه بمائة ألف دينار، فاحتال الطلفاح للجمع بين أمر محكمة الثورة بالإعدام وبين نجاة السجين بهذا الأسلوب مما ذهب ضحيته مجنون بريء.

وفي ذات مرة اعتقل شاب وعذب ولما سألناه عن سبب اعتقاله؟ قال: إنه تزوج من فتاة وأراد رئيس الحزب في منطقته في بلد (كذا) أن يشترك معه في

ص: 214

زوجته مما أدى الأمر إلى النزاع بينهما، فإتهمه البعثي بأنه قد حاز على أسلحة ضد الحكومة ودس في داره سلاحاً، فقادوه إلى الإعتقال، قال العالم: وكان ذلك الشاب يبكي ويقول إنه لا يعلم ماذا تلاقي زوجته من ذلك الرئيس، بعد أن صفا له الجو.

إلى غير ذلك من القصص التي كان يرويها ذلك العالم، مما لو أردنا سردها لأصبح كتاباً ضخماً، وإنما أردنا الإلماع فقط، ليعرف: كيف أن الغربيين يحقدون على الإسلام والمسلمين حقداً لا يشابهه حقد مما سبب تدمير البلاد الإسلامية ومنها العراق - الذي ابتلي بحزب البعث عميل بريطانيا وإسرائيل -.

1 - وهي مصر وكان ذلك في زمان عبد الناصر.

ص: 215

ص: 216

الفصل الخامس : الأحزاب

اشارة

ارتكبت الأحزاب الاسلامية في بلادنا الاسلامية أخطاء كبيرة خلال القرن الماضي، كانت أحد اسباب الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة الاسلامية في مختلف الأصعدة. هذه الأخطاء يمكن الإشارة اليها كما يلي:

أولاً: العنف

من أسباب التخلّف والهزيمة لدى المسلمين، شيوع ثقافة العنف والقسوة، واتخاذها لغة في الحديث والتعامل فيما بين الناس، مع الآخرين، وقد اتخذت بعض الحركات الإسلامية، العنف منهجاً في عملها، ويحدثنا التاريخ عن جملة منها، وكانوا قبل نصف قرن من الزمن، وهو ما حال دون تحقيق التقدم والانتشار(1).

في مقابل هذا النهج الحزبي العنيف، نقرأ نصوصاً دينية حول الرفق واللين والحلم.

فقد وردت أحاديث وروايات عديدة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، في ما يناقض العنف والقسوة..

روى معاذ بن مسلم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الرفق يمن والخرق شؤم)(2).

ص: 217


1- - يتحدث الإمام الراحل عن عقد الاربعينات والخمسينات.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص213.

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(1).

وعن موسى بن بكر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (الرفق نصف العيش)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله رفيق يحب الرفق)(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)(4).

وعن أبي المقدام رفعه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن في الرفق الزيادة والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير)(5).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما زوي الرفق عن أهل البيت إلا زوي عنهم الخير)(6).

وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: وقد جرى بيني وبين رجل من القوم كلام - فقال لي: (أرفق بهم، فإن كفر أحدهم في غضبه، ولا خير فيمن كان كفره في غضبه)(7).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام): (من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس)(8).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمور كلها)(9).

وعن هشام بن الحكم، عن الكاظم (عليه السلام) أنه قال: (يا هشام عليك بالرفق،

ص: 218


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق:ص214.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق: ص215.
9- مستدرک الوسائل: ج11، 294.

فإن الرفق خير والخرق شؤم، إن الرفق والبر وحسن الخلق يعمر الديار ويزيد في الرزق)(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسين (عليه السلام): (يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق)(2).

وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما ارتج امرؤ وأحجم عليه الرأي وأعيت به الحيل إلا كان الرفق مفتاحه)(3).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (الرفق رأس الحكمة، اللهم من ولي شيئاً من أمور أمتي فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الرفق ييسر الصعاب ويسهل الأسباب)(5).

وقال (عليه السلام): (الرفق بالاتباع من كرم الطباع)(6).

وقال (عليه السلام): (رأس الجهل الخرق)(7).

وقال (عليه السلام): (ليكن شيمتك الوقار فمن كثر خرقه استرذل)(8).

وقال (عليه السلام): (لسان الجهل الخرق)(9).

وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن لكل شيء قفلاً، وقفل الإيمان الرفق)(10).

ص: 219


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق:ص295.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ج12، ص73.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.
10- الحلم خاص في قبال الجاهل، والصبر أعم، ولذا يقال حلم فلان عن الجاهل، ولا يقال حلم عند المصيبة، وهکذا.

وعن أحمد بن زياد بن أرقم، عن رجل، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع الله عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا يبقى معه شيء إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق)(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لو كان الرفق خلقاً يرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه)(2).

وعن موسى بن بكر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (الرفق نصف العيش)(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه)(4).

وعن عمر بن أبي المقدام رفعه عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن في الرفق الزيادة، والبركة، ومن يحرم الرفق يحرم الخير)(5).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه)(6).

وعن محمد بن عبد الله قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً)(7).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: (إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه)(8).

ص: 220


1- وسائل الشيعة: ج11، ص210.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص211.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص212.
6- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص47.
7- المصدر السابق.
8- وسائل الشيعة: ج11، ص213.

وعن حفص بن أبي عايشة، قال: بعث أبو عبدالله (عليه السلام) غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره لما أبطأه فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): (يا فلان والله ما بالك تنام الليل والنهار، لك الليل، ولنا منك النهار)(1).

وعن انس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) (في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقاً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقاً، وأعظمكم حلماً، وأبرّكم بقرابته، وأشدّكم من نفسه إنصافاً)(2).

وعن الحسين بن يزيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم)(3).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أوّل عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل)(4).

وقال (عليه السلام): (إن لم تكن حليماً فتحلّم فإنه قلّ من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم)(5).

ثانياً: الاستبداد الحزبي

هنالك بعض التنظيمات تعاني من الاستبداد، فالقمة أو القيادة، تتخذ القرارات دون استشارة القاعدة، أو المرتبة الوسطى في الهرم التنظيمي، وهذا مما يوجب مساوئ عديدة منها:

ص: 221


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص214.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

أولاً: اختلال العلاقة بين المرتبة الوسطى والقاعدة بالقمة، وايضاً، عدم توثيق العلاقة بين قاعدة التنظيم وبين المرتبة الوسطى، وهذا يسبب تباعد نفسي بين الافراد، ثم يتبعه تباعد في الواقع الخارجي، حيث يحصل التشرذم والتمزق، كما رأينا ذلك في بعض الأحزاب الإسلامية حيث أصابها التمزّق وتحولت الى تكتلات صغيرة متناحرة ومتصارعة فيما بينها.

ثانياً: ابتعاد الناس وعدم تفاعلهم مع التنظيمات بالأساس، لأن الناس لا يتفاعلون إلا مع من يتفاعل معهم، وذلك ليس فقط في تلبية بعض الحاجات وحسب، بل في مشاركتهم الآراء والأعمال أيضاً، فإن الناس يريدون من هو منهم وإليهم، وهم منه وإليه، ولا يريدون جماعة يعملون خارج نطاقهم، ويتكبرون عليهم، ويستبدون بالآراء دونهم، ولذا لا تتمكن أمثال هذه التنظيمات من توجيه الناس والتأثير عليهم.

إذن؛ الواجب على التنظيمات الإسلامية، ممن يريد إنقاذ المسلمين، أمران: الاستشارة والتواضع.

الاستشارة في حياة أهل البيت عليهم السلام

وردت في الاستشارة آيات وروايات، وقد ذكرنا بعض الآيات في السابق، أما الروايات فهي كثيرة جداً.

منها: ما رواه ابن القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام) قال: (قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما الحزم؟

قال: (مشاورة ذوي الرأي واتباعهم)(1).

وعن السري خالد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (فيما أوصى به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: (لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير)(2).

ص: 222


1- وسائل الشيعة: ج8، ص424.
2- المصدر السابق.

وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشير يندم، والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر)(1).

وعن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لن يهلك أمرء عن مشورة)(2).

وروى السيد الرضي في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة)(3).

وقال (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)(4).

وقال (عليه السلام): (خاطر بنفسه من استغنى برأيه)(5).

وعن المفضل بن عمر قال: قال الصادق (عليه السلام): (من لم يكن له واعظ من قلبه، وزاجر من نفسه، ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه)(6).

وعن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع)، ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): (أما أنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله)(7).

وعن معمر بن خلاد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد وقال: (أشر عليّ برجل له فضل أمانة).

فقلت: أنا أشير عليك؟

ص: 223


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص425.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص426.

فقال (عليه السلام): شبه المغضب : (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد)(1).

وعن الفضيل بن يسار قال: استشارني أبو عبدالله (عليه السلام) مرة في أمر فقلت: أصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال: (نعم إذا استشرتك)(2).

وعن الحسن بن الجهم قال: كنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر أباه فقال: (كان عقله لا توازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه). قال: (فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان)(3).

وعن عمر بن جميل، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من لم يستشر يندم)(4).

وقال: (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(5).

وعنه (عليه السلام) قال: (لا رأي لمن انفرد برأيه)(6).

وقال (عليه السلام): (ما عطب من استشار)(7).

وقال (عليه السلام): (من شاور ذوي الأسباب دل على الرشاد)(8).

وقال (عليه السلام): (لا تشر على المستبد برأيه)(9).

وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً)(10).

ص: 224


1- المصدر السابق: ص428.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- مستدرک الوسائل: ج8، ص341.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص342.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.
10- المصدر السابق.

واضافة الى الاشادة بالمشورة، فان أهل البيت، ورسول الله صلى الله عليه وآله، كان في يحثّ اصحابه على مشاورته: وكان يقول لهم: (أشيروا عليّ)(1).

وأيضاً جعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من حق الأمة عليه أن يستشيرهم.

وقد وردت روايات في استشارة سائر الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم.

وفي حديث يرويه مهج الدعوات: إن موسى بن المهدي العباسي هدد موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: قتلني الله إن أبقيت عليه.

قال: وكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بصورة الأمر، فورد الكتاب، فلما أصبح أحضر الإمام (عليه السلام) أهل بيته وشيعته فأطلعهم (عليه السلام) على ما ورد عليه من الخبر وقال لهم: (ما تشيرون في هذا؟).

فقالوا: نشير عليك - أصلحك الله - أن تباعد شخصك من هذا الجبار(2).

ثالثاً: ترف القادة

بعض قادة الأحزاب والمنظمات الإسلامية يسلكون سبيل البذخ والترف في حياتهم، بالسكن في القصور، وشراء السيارات الفارهة، والتزوج بالفتيات الجميلات ذوات المكانة المرموقة، والحرص على اقتناء الأثاث الباهض الثمن، وبذلك يوجدون مسافة بعيدة تفصلهم عن عامة الشعب، حيث إن من طبيعة الناس عدم الاعتراف بقادة يسكنون الأبراج العاجية، ويرفلون في النعيم ثم يتكلمون باسم الفقراء والمساكين، وباسم الإسلام والمسلمين، بالإضافة إلى أن من يتكلم باسم الدين لا بد وأن يكون مثل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وخلفائه الطاهرين (عليهم السلام) في السلوك والعمل، فإذا رأى الناس قادة المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية يسلكون خلاف سلوكهم، عرفوا أنهم ليسوا من الإسلام في شيء، فينفضّوا من حولهم، ويسبب ذلك فشلهم.

ص: 225


1- بحار الأنوار: ج19، ص218.
2- مستدرک الوسائل: ج8، ص347.

القيادة النموذجية

ومادام الحديث عن الحركات والتجمعات الاسلامية، حريٌ بنا العودة الى السيرة المطهرة للمعصومين صلوات الله عليهم، وقد كانوا قادة المجتمع، ومنهم من حاكماً وأميناً على بيت مال المسلمين.. لنرى القائدَين العظيمَين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وسائر الأئمة (عليهم السلام)، كانوا يعيشون عيشة متواضعة زاهدة قانعة لما في هذه الكلمات من معنى.

فقد روى قرب الإسناد، عن أبي عبد الله عن أبيه الباقر (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يورث ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا وليدة ولا شاة ولا بعيراً، ولقد قبض (صلّى الله عليه وآله) وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لأهله)(1).

وإذا عرفنا: إن كل صاع ثلاثة كيلوات تقريباً كان معنى ذلك أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان محتاجاً - لغذاء أهله - إلى ستين كيلو من الشعير، مع العلم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان له عند وفاته تسع زوجات وكان حاكماً على سبع دول أو أكثر - في خريطة عالم اليوم -.

وفي حديث: (قد مات رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وعليه دين)(2).

وقال قتادة: بلغنا أن علياً (عليه السلام) نادى ثلاثة أعوام بالموسم: (من كان له على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيء فليأتنا نقضي عنه)(3).

وفي رواية: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لما توفي كان عليه من الدين ثمانون ألف درهم فأداها علي (عليه السلام).

وقد ذكرنا جملة من زهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بعض فصول هذا الكتاب.

ص: 226


1- بحار الأنوار: ج16، ص219.
2- علل الشرايع: ج2، ص528، المکتبة الحيدرية - النجف الأشرف.
3- بحار الأنوار: ج34، ص74.

وسار علي (عليه السلام) على سنن الرسول فقد حفظ التاريخ أنه (عليه السلام) لما استشهد كانت ممتلكاته النقدية سبعمائة درهم فقط حصّلها من عطائه من بيت المال وقد جعلها ليشتري بها خادماً لابنته أم كلثوم، أما ديونه فقد كانت ثمانمائة ألف درهم.

فقد روى (كشف المحجة) عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قبض علي (عليه السلام) وعليه دين ثمانمائة ألف درهم فباع الحسن (عليه السلام) ضيعة له بخمسمائة ألف درهم فقضاها عنه، وباع له ضيعة أخرى بثلاثمائة ألف درهم فقضاها عنه، وذلك أنه لم يكن يذر من الخمس شيئاً وكانت تنوبه نوائب)(1).

أقول: أما الضيعتان فقد كانتا من غرس الإمام (عليه السلام) في مدة إقصائه عن الحكم، وقد وقّف علي (عليه السلام) أغلب الضياع كما يحدثنا بذلك التاريخ.

وعن الصادق (عليه السلام): أن الحسن (عليه السلام) لمّا استشهد ، كان عليه دين، وقتل الحسين (عليه السلام) وعليه دين(2).

وفي رواية السيد، عن الامام الباقر (عليه السلام) أن علي بن الحسين (عليه السلام) باع ضيعة له بثلاث مائة ألف ليقضي دين الحسين (عليه السلام) وعدات كانت عليه(3).

وفي رواية أخرى (فاهتمّ علي بن الحسين بدين أبيه حتى امتنع من الطعام والشراب والنوم في أكثر أيامه ولياليه)(4).

وفي رواية عن الامام الصادق (عليه السلام): قد مات رسول الله وعليه دين، ومات الحسن (عليه السلام) وعليه دين، وقتل الحسين وعليه دين(5).

ص: 227


1- المصدر السابق: ج36، ص338.
2- المصدر السابق: ج103، ص75.
3- المصدر السابق: ج96، ص145.
4- مستدرک الوسائل: ج13، ص392.
5- وسائل الشيعة: ج13، ص78.

صور من زهد أمير المؤمنين (عليه السلام)

وقد اتبع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسول في زهده وقال هو (عليه السلام) في كلمة له: (والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم)(1).

وفي حديث آخر: (من عفطة عنز)(2).

وقد روى (المناقب) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (ولقد ولى خمس سنين وما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء)(3).

ومعنى هذا الحديث أنه لم يصنع الإمام لنفسه داراً، ولا أنه جمع مالاً، ولا إنه خص لنفسه أرضاً يقطعها باسم نفسه.

وروى المناقب أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يقول: (ما كان لنا إلا أهاب كبش أبيت مع فاطمة (عليها السلام) بالليل عليها ونعلف عليها الناضح بالنهار)(4).

وفي رواية أنه رؤي (عليه السلام) وعليه إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم و رؤي (عليه السلام) وعليه إزار مرقوع فقيل له في ذلك؟

فقال (عليه السلام): (يقتدي به المؤمنون، ويخشع له القلب، وتذل به النفس ويقصد به المبالغ، أشبه بشعار الصالحين، وأجدر أن يقتدي به المسلم)(5).

وفي رواية: (أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نظر إلى فقير خرق كمّ ثوبه فخرق كم قميصه وألقاه إليه).

وفي البحار عن الأصبغ قال توجه علي (عليه السلام) إلى أهل البصرة وقال: (يا أهل

ص: 228


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص53.
2- المصدر السابق: ج1، ص37.
3- مستدرک الوسائل: ج3 ، ص467.
4- بحار الأنوار: ج36، ص323.
5- المصدر السابق.

البصرة ما تنقمون مني؟ إن هذا لمن غزل أهلي (وأشار إلى قميصه) ثم قال: دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلي وراحلتي، ها هي فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين)(1).

وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخورنق - وهو موضع بالكوفة آنذاك، والآن بظاهر الحيرة- وهو يرعد تحت سمل قطيفة - الثوب الخلق البالي- فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعم وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟.

فقال (عليه السلام): (والله ما أرزئكم من أموالكم شيئاً وإن هذا لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها)(2).

يحلّ أزمة السكن ويطعم الناس خبز البر

وفي المناقب نقلاً عن فضائل أحمد قال علي (عليه السلام): (ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعماً إن أدناهم منزلة ليأكل البر، ويجلس في الظل، ويشرب من ماء الفرات)(3).

يعني أن عنده الدار والمأكل والمشرب.

وفي رواية أخرى وجدتها في بعض المصادر، إن كل أهل بلاد الإمام (عليه السلام) أصبحوا هكذا في عهد الإمام (عليه السلام) مع أن بلاده (عليه السلام) كانت واسعةً جداً، تمتد نحو الغرب الى ليبيا، ونحو الشمال الشرقي إلى داغستان في الاتحاد السوفيتي.

وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): (كان (عليه السلام) ليطعم الناس خبز البر واللحم وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل)(4).

ص: 229


1- المصدر السابق: ص325.
2- المصدر السابق: ص334.
3- المصدر السابق: ص327.
4- مستدرک الوسائل: ج16، ص299.

ليس هذا وحسب، بل كان يأكل اللبن الحامض والرغيف الصلب تأسّياً برسول الله صلى الله عليه وآله..

عن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) العصر فوجدته جالساً وبين يديه صحيفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسر بيده أحياناً، فإذا غلبه، كسره بركبته وطرحه فيه فقال (عليه السلام) لي: (أدن فأصب من طعامنا هذا)... إلى أن قال: فقلت لجاريته وهي قائمة قريباً منه: ويحك يا فضة...! ألا تتقين الله في هذا الشيخ، ألا تنخلين له طعاماً؟

فقال علي (عليه السلام) لي: (ما قلت لها؟).

قال: فأخبرته.

فقال (عليه السلام): (بأبي وأمي من لم ينخل له طعام، ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله).

يعني بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يحتطب ويستقي ويكنس)(1).

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً: (كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) أشبه الناس طعمة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يأكل الخبز والخل والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم)(2).

في رواية نقلها العلامة المجلسي عن القطب الراوندي: أن علياً (عليه السلام) قال: (واعلموا أن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، يسد فورة جوعه بقرصيه، لا يطعم الفلذة - الكسرة من اللحم- في حوله إلا في سنة أضحيته)(3).

ص: 230


1- المصدر السابق.
2- بحار الأنوار: ج36، ص108.
3- المصدر السابق: ص321.

المراد بالطمر: الثوب البالي الخلق، لأن الإمام (عليه السلام) - في كثير من الأحيان - كان يلبس قطعتين: مئزراً ورداءً، وكان يلبس في بعض الأحيان ثوباً طويلاً، والمراد بالفلذة القطعة من اللحم، والمراد بالقرصين القرصان من خبز الشعير يتغذى بأحدهما ويتعشى بالآخر، فكان (عليه السلام) يأكل في كل يوم قرصين.

و روى الشيخ المفيد إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سمع مقلياً في بيته فنهض وهو يقول: (في ذمة علي بن أبي طالب مقلى الكراكر).

قال: ففزع عياله وقالوا: يا أمير المؤمنين إنها امرأتك فلانة نُحرت جزوراً في حيّها، فأخذ لها نصيب منها فأهدى أهلها إليها.

قال (عليه السلام): (فكلوا هنيئاً مريئاً)(1).

وإنما خاف (عليه السلام) أن يكون هدية من بعض الرعية، وقبول الهدية لوالي المسلمين خيانة (والكراكر) إحدى ثفنات البعير أو الصدر خاصة.

وفي المناقب أنه (عليه السلام) كان يأتي عليه وقت لا يكون عنده قيمة ثلاثة دراهم يشتري بها إزاراً وما يحتاج إليه، ثم يقسّم كل ما في بيت المال على الناس ثم يصلي فيه فيقول: (الحمد لله الذي أخرجني منه كما دخلته)(2).

وقد ذكر هو (عليه السلام) في كلام له فلسفة هذا الزهد (كما في الكافي) قال: (إن الله جعلني إماماً لخلقه ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه)(3).

تواضع أمير المؤمنين عليه السلام

روى البلخي قال: أنه - يعني الامام علي (عليه السلام) - اجتاز بسوق الكوفة فتعلق

ص: 231


1- مستدرک الوسائل: ج13، ص226.
2- بحار الأنوار: ج36، ص322.
3- المصدر السابق: ج37، ص136.

به كرسي فتخرق قميصه فأخذه بيده ثم جاء به إلى الخياطين فقال: (خيطوا لي ذا بارك الله فيكم)(1).

وعن العبدي قال: رأيت علياً (عليه السلام) اغتسل في الفرات يوم الجمعة ثم ابتاع قميص كرابيس بثلاثة دراهم فصلى بالناس الجمعة، وما خيط جربانه بعد.

وفي رواية الزمخشري: أنه (عليه السلام) اشترى قميصاً فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال لرجل: (حصه أي خط كفافه)(2).

وجاء (عليه السلام) ذات مرة إلى حلاق ليصلح لحيته وشاربه، فأراد الحلاق أن يأخذ من شاربه، وكان (عليه السلام) مشتغلاً بذكر الله تعالى تتحرك شفتاه، فقال له الحلاق: يا أمير المؤمنين كف عن الذكر لحظة حتى يعتدل الشارب، فقال (عليه السلام): (الأمر أسهل من ذلك) ولم يترك الذكر حتى لحظة.

لا أموال في جيبه!

وفي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن أبي رجاء قال: أخرج علي (عليه السلام) سيفاً إلى السوق فقال: (من يشتري مني هذا؟ فوالذي نفس علي بيده لو كان عند علي ثمن إزار ما بعته)(3).

فقلت له: أنا أبيعك إزاراً وأنسئك ثمنه إلى عطائك.

فدفعت إليه إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطاؤه دفع إليّ ثمن الإزار.

وقال حكيم بن أوس: أتي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بأحمال فاكهة، فأمر ببيعها، وأن يطرح ثمنها في بيت المال.

ص: 232


1- الکافي: ج5، ص86، دار الکتب الإسلامية - طهران.
2- الکافي: ج6، ص328.
3- الکافي: ج6، ص328.

وقال حكيم أيضاً: كان علي (عليه السلام) يبعث إلينا بزقاق العسل فيقسم فينا ثم يأمر أن يلعقوه.

وعن عاصم أنه أهدي إلى علي (عليه السلام) سلال خبيص له خاصة، فدعا بسفرة فنثره عليها، ثم أجلس الناس حلقتين يأكلون.

وعن أبي حريز قال: إن المجوس أهدوا إلى علي (عليه السلام) يوم النيروز جامات من فضة فيها سكر فقسم السكر بين أصحابه وحسبها من جزيتهم.

قال: وبعث دهقان إلى علي (عليه السلام) بثوب منسوج من ذهب فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم إلى العطاء يعني أنه إذا خرج عطاء عمرو أعطى الثمن للإمام (عليه السلام) حتى يقسمه على المسلمين.

وفي كلام له (عليه السلام) بعد ما ذكر قصة عقيل وردّه (عليه السلام) له بدون أن يعطيه شيئاً من بيت المال، قال: (وأعجب من ذلك - أي من رجاء عقيل - أن أعطيه أكثر من سائر المسلمين) طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنآتها، كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: (أصلة؟ أم زكاة؟ أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت؟).

فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية.

فقلت: (هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها)(1).

رابعاً: العزلة عن الجماهير (النخبوية)

تعتقد بعض المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية، أن السبيل لنشر

ص: 233


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص217.

الإسلام، في تربية مجاميع من الشباب وتوعيتهم وإيصالهم إلى مراتب عالية، سواء في المجتمع أو في الدولة، كأن تعمل على توظيفهم في المناصب الحكومية، أو مساعدتهم على أن يكونوا خطباء أو كتاب أو غير ذلك، ثم يتركون الجماهير وشأنها.

وبما أن النخبة أو الطليعة التي تقودها الأحزاب والمنظمات والجمعيات الإسلامية، قليلة العدد، حتى وإن بلغوا مئات الآلاف، فالجماهير هي كل شيء في الساحة، وهي تلتف حول من وفّر لهم احتياجاتهم، وشاركهم في أحزانهم وأفراحهم وحل مشكلاتهم، أما من اهتم بافراده وجماعته المعدودين، فانهم سيتركونه وشأنه، وإذا تركوه وشأنه، حصل (التحجيم) لذلك التنظيم، فلا يتمكن بعدها، من التأثير و التغيير في الساحة السياسية او الاجتماعية.

وحاجات الجماهير كثيرة منها: حل مشكلة السكن، و توفير فرص العمل، ومكافحة البطالة، وتسهيل الاجواء لزواج العزاب، والمشاركة في عيادة المرضى، و في تشييع الجنائز، و زيارة المسافرين، والحضور في المراسيم الاجتماعية والدينية، كمجالس الوعظ والإرشاد، والأعراس ومجالس الفاتحة، وصلوات الجماعة وغيرها كثير، وايضاً؛ المشاركة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس والحسينيات وغيرها، وإسعاف المحتاجين، والقيام بالخدمات الاجتماعية وإصلاح ذات البين، إلى غيرها من الأمور التي تعطي للإنسان - الفرد أو المنظمة والهيئة والحزب - الطابع الجماهيري، وحينذاك يكسب تعاطف الجماهير وتضامنهم فكرياً ونفسياً وعاطفياً، وهذا من شأنه ان يكون عامل نجاح في تحريك الساحة وصنع الحدث السياسي والاجتماعي.

القرآن والنبي الأكرم يؤكدان على الجماهيرية

وقد ألمع إلى هذا القرآن الحكيم حيث يقول تعالى: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم يعلِّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (آل عمران: 164).

ص: 234

وقال عز من قائل نقلاً عن إبراهيم الخليل (عليه السلام) - في دعائه وتضرعه إلى الله تعالى أن يبعث في ذريته الرسول: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129).

وقال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151).

أما عن السيرة المطهرة للرسول الأكرم، فقد روى زيد بن ثابت: إنا كنا إذا جلسنا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) إن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، وكل هذا أحدثكم عن رسول الله.

وروى سلمان الفارسي (رحمه الله) أنه قال: دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو متكأ على وسادة فألقاها إلي، ثم قال (صلّى الله عليه وآله): (يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم يلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له)(1).

وفي رواية جرير بن عبد الله قال: إن النبي (صلّى الله عليه وآله) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت (يعني بالمسلمين) ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأخذ ثوبه فلفه فرمى به إليه وقال: (إجلس على هذا) فأخذه جرير فوضعه على وجهه فقبله(2).

ويروي ابن عباس يقول: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويحتلب الشاة، ويجيب دعوة المملوك)(3).

وفي حديث عنه (صلّى الله عليه وآله): (لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع لأجبت)(4).

ص: 235


1- مستدرک الوسائل: ج13، ص122.
2- بحار الأنوار: ج68، ص380.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وعن أبي ذر (رحمه الله) أنه قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو؟ حتى يسأل.

وعن ابن مسعود أنه قال: أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) رجل يكلمه فأرعد فقال (صلّى الله عليه وآله): (هون عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد)(1). (والقد هو اللحم المجفف بالشمس، ومراده (صلّى الله عليه وآله) أنه واحد من سائر الناس، فاللازم أن لا يعاشره معاشرة الملوك، وإنما معاشرة الأشخاص العاديين فلماذا الارتعاد عند التكلم معه؟ وقد قال سبحانه: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) (الكهف: 110).

وروى أنس قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار العاري، وكان يوم خيبر ويوم قريظة والنظير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته أكاف من ليف)(2).

وكان (صلّى الله عليه وآله) - كما في جملة من الأحاديث - إذا مر على إنسان بدأه بالسلام، وكان (صلّى الله عليه وآله) يسلم على الرجل وعلى المرأة وعلى الطفل حتى قال بعض أصحابه: أنه كلما أراد أن يُبدِئ النبي (صلّى الله عليه وآله) بالسلام إذا التقى به، فإذا بالنبي يسبقه ويسلم عليه.

ومن كثرة تبسّمه (صلّى الله عليه وآله) مع الناس لقب (صلّى الله عليه وآله) (بالضحوك) كما في بحار الأنوار.

وعن بن أنس: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال مر لي من مال الله الذي عندك.

فالتفت إليه فضحك ثم امر له بعطاء(3).

ص: 236


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- مستدر الوسائل: ج13، ص124.

قال الأعرابي: لا.

قال النبي: ولم؟

قال: لأنك كريم لا تقابل السيئة بالسيئة.

ثم أمر له النبي باعطائه حمل بعيرين: حملاً تمراً، وحملاً شعيراً.

ويروي أنس بن مالك قال: كنا إذا أتينا النبي (صلّى الله عليه وآله) جلسنا حلقة(1).

أقول: حتى لا يكون للمجلس صدر وذيل ويتصور بعضهم أنه في صدر المجلس وبعضهم أنه في ذيله.

وقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه ما صافح أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده.

وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف.

وما نازعه الحديث حتى يكون هو الذي يسكت.

وما رؤي مقدماً رجليه بين يدي جليس له قط.

ولا عرض له قط أمران إلا أخذ بأشدهما.

وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى.

وما سئل شيئاً قط فقال: لا.

وما رد سائلاً حاجة إلا بها، أو بميسور من القول.

وكان يعد الناس إذا لم يتمكن من قضاء حاجاتهم فوراً أنه (صلّى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام) في وصيته: (تقضي ديني وتنجز عداتي)(2).

وكان أخف الناس صلاة في تمام إذا صلى جماعة (ملاحظة للمأمومين).

وكان أقصر الناس خطبة إذا خطب (حتى لا ينزعج السامعون).

وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل حتى يستبشر الناس بقدومه إليهم.

وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده لئلا يستحي من يريد الاستمرار في الأكل آخراً أو يريد الإسراع في الأكل أولاً.

ص: 237


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص125.

وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا تكلم تكلم وتراً وإذا استأذن استأذن ثلاثة.

وكان لا يكلم أحداً بشيء يكرهه قط.

وكان المحدث عنه يقول: لم أر بعيني مثله قبله ولا بعده.

وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقاً.

إلى غير ذلك من الصفات والتي ذكرنا بعضها أيضاً في موضع آخر من هذا الكتاب.

الإمام علي (عليه السلام) .. دروس في الجماهيرية

ووفق سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) سار علي (عليه السلام) في كونه جماهيرياً، وفي قضاء حوائج الناس والمشاركة معهم في أمورهم وكونه كأحدهم، كما قال ضرار بن ضمرة عنه (عليه السلام): (كان فينا كأحدنا).

وفي رواية يرويها الكليني (رحمه الله) في الكافي، بسنده عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أتت الموالي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: نشكوا إليك هؤلاء العرب، إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يعطينا معهم العطاء بالسوية، و زوج سلمان وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا: لا نفعل.

فذهب إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فكلمهم فيهم فصاحت الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن (عليه السلام) أبينا ذلك.

فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد

ص: 238

صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فأبحروا بارك الله لكم، فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها)(10).

فإن هذا الحديث يدل على أن الإمام (عليه السلام) كان يتوسط بين الناس في الأمور، وكان يأمر الموالي بالتجارة ليحصلوا على الكرامة الاجتماعية فمن المعروف (إن الكرامة الاقتصادية توجب الكرامة الاجتماعية) وبالفعل ذكر المؤرخون أنهم سلكوا سبيل الكرامة الاقتصادية فحصلوا على الكرامة الاجتماعية وصاروا تجاراً فأخذ العرب ينظرون إليهم نظر عطف ولطف ومساواة، يتزوجون منهم ويزوجونهم.

و روى صاحب البحار: أن قصاباً باع اللحم لجارية فجار عليها، فبكت المرأة وخرجت، فرأت الامام علي (عليه السلام) فشكت إليه، فمشى (عليه السلام) معها نحو القصاب ودعاه إلى الإنصاف في حقها وكان يعظه ويقول له: ينبغي أن يكون الضعيف عندك بمنزلة القوي فلا تظلم الناس.

وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يتوسط في حوائج الناس، ويحل مشاكلهم، ويقضي لهم ما يطلبون.

ونقل (المناقب) عن أبي مطر البصري قال: إن أميرالمؤمنين (عليه السلام) مرّ بأصحاب التمر، فإذا هو بجارية تبكي، قال: (يا جارية ما يبكيك؟).

قالت: بعثني مولاي بدراهم فابتعت من هذا درهماً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله.

فقال (عليه السلام) للتمار : (يا عبد الله إنها خادمة، وليس لها أمر فاردد درهمها، وخذ التمر).

فقام الرجل ولكز الإمام (عليه السلام) في صدره.

ص: 239

فقال الناس: هذا أمير المؤمنين!

فربى الرجل - والمراد بربى أخذه الربو وهي علة تحدث في الرئة من شدة الخوف فيخرج التنفس بصعوبة- واصفرّ لونه، وأخذ التمر، ورد إليها درهماً ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني.

فقال (عليه السلام): (ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك) أو قال: ما أرضاني عنك إن وفيت الناس حقوقهم(1).

وفي (المناقب) عن الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر (أنه رجع الإمام أمير المؤمنين إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدّى علي وحلف ليضربني.

فقال: (يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء الله).

فقالت: يشتد غضبه عليّ.

فطأطأ أمير المؤمنين رأسه ثم رفعه وهو يقول: (لا والله، أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟).

فمضى (عليه السلام) إلى بابه فوقف فقال: (السلام عليكم).

فخرج شاب وهو لا يعرف الإمام علي (عليه السلام) فقال الإمام: (يا عبد الله اتق الله، فإنك قد أخفتها وأخرجتها).

فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ والله لأحرقنها لكلامك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟).

فأقبل الناس من الطرق يقولون: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فسقط

الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني في عثرتي، فوالله لأكونّن لها أرضاً تطأني.

فأغمد علي (عليه السلام) سيفه الذي كان قد أخرجه من الغمد تخويفاً له وقال (عليه السلام): (يا أمة الله ادخلي، ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه)(2).

وهكذا يسير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع إمرأة - وهو رئيس أكبر دولة في العالم ذلك اليوم تمتدّ من ليبيا إلى داغتسان في الاتحاد السوفيتي - للإصلاح بينها وبين زوجها، علماً أن الشاب تعدى على الإمام (عليه السلام) لكنه (عليه السلام) تركه وشأنه ولم يعاقبه.

وفي حديث آخر ذكره الشيخ المفيد (رحمه الله) قال: ذكر الكوفيون أن سعيد بن قيس الهمداني رأى الامام علي (عليه السلام) في شدة الحر في فناء حائط فقال له: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة؟

قال (عليه السلام): (ما خرجت إلا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً)(3).

وفي رواية أخرى رواها المفيد أيضاً، أنه (عليه السلام) توضأ مع الناس في ميضاة المسجد فزحمه رجل فرمى به، فأخذ الدرة فضربه ثم قال له: (ليس هذا لما صنعت بي، ولكن يجيء من هو أضعف مني فتفعل به مثل هذا فتضمن)(4).

وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يعيش كالآخرين، ويتوضأ مع الناس في ميضاة المسجد حتى يزاحمه الرجل ويلقيه إلى الأرض.

و روى المجلسي عن الكافي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) على أصحابه وهو راكب فمشوا خلفه فالتفت إليهم فقال: (لكم حاجة؟).

ص: 240


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك.

فقال لهم: (انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي).

وفي رواية أخرى: أنه ركب مرة فمشوا خلفه فقال (عليه السلام) لهم: (انصرفوا فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة لقلوب النوكى) - نوكا جمع أنوك بمعنى أحمق- (15).

وفي (المناقب) عن زادان: أنه (عليه السلام) كان يمشي في الأسواق وحده وهو يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن فيقرأ هذه الآية لهم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الارض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (القصص: 83).

وقصة جلوس الإمام (عليه السلام) في دكان ميثم التمار مشهورة، حيث كان يبيع التمر أحياناً فيما إذا كان ميثم غائباً.

إلى غير ذلك من قصص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وسائر خلفائه الراشدين الذين كانوا يسعون في حوائج الناس ليل نهار، وكانوا شعبيين إلى أبعد حد، ولذا قال الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث يرويه الوسائل: (ولان أعول أهل البيت من المسلمين أشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكف وجوههم عن الناس أحبّ إلي من أن أحج حجة، وحجة، وحجة، حتى أنتهي إلى عشر، وعشر، وعشر، ومثلها (ومثلها) حتى أنتهي إلى سبعين). وفي هذا الباب روايات كثيرة جداً معروفة في كتب الأحاديث وفي كتب الفقه.

اذاً.. فلكي تكون المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية جماهيرية، عليها أن تكون مع الناس ومنهم وإليهم، تقضي حوائجهم، وتكون في أوساطهم، لا أن تترفع أو تحبس نفسها في أطر خاصة، فإن ذلك يوجب انفضاض الناس من حولها فلا تصل تلك الأحزاب إلى الهدف وإن دام أمرها ستين سنة.

ص: 241

خامساً: التعاون مع السلطات الفاسدة

معظم الشعوب الاسلامية تحمل مشاعر الكراهية إزاء حكوماتها، لاسيما في هذا القرن الأخير(1)

لاسباب:

1- الاستبداد الذي اتصفت به هذه الحكومات والأنظمة.

2- العمالة للغرب والشرق على الأغلب.

3- اتصافها ب- (السبعية) في تعاملها مع الأمة، حسب تعبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

4- عدم التزامها بقوانين الإسلام، وهو دين الشعوب .

لذا، كل من يقترب من الحكومة يتسبب في إنفضاض الناس من حوله، فرداً كان أو هيئة أو جماعة أو جمعية أو منظمة أو حزباً.

ونلاحظ هنالك بعض الأحزاب والتنظيمات الإسلامية، تقترب من الحكومات، سواء حكومات بلادهم أو الحكومات المعادية لحكومة بلدهم، ويتمثل هذا الاقتراب في استلام المساعدات المالية، وبالمقابل مدحها ومسايرتها، لذا نجد الأمة تنفصل عن هكذا تنظيمات، مما يسبب فشلها وإخفاقها في توجيه الأمة الى اهدافها، وبعد ذلك لا ينفع صراخ الأحزاب، وشكواها بأن الأمة جاهلة أو متوانية أو غافلة، أو تسير مسيراً غير صحيح، فالأمة تعرف إلى من تقترب وعمن تبتعد.

الإسلام يحذر من عواقب الركون الى الظالمين

ولذا نرى التحذير الشديد من قبل النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، عن العمل مع السلطان الجائر والاقتراب منه.

ص: 242


1- - القرن العشرين

ففي الصحيح، عن الامام موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ما قرب عبد من سلطان إلا تباعد من الله)(1).

وفي حديث آخر، قال (صلّى الله عليه وآله): (من نكث بيعة، أو رفع لواء الضلالة، أو كتم علماً، أو اعتقل مالاً ظلماً، أو أعان ظالماً على ظلمه وهو يعلم إنه ظالم فقد برء من الإسلام)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (إياكم وأبواب السلطان وحواشيها، وأبعدكم من الله من آثر سلطاناً على الله فجعل الميتة في قلبه ظاهرة وباطنة وأذهب عنه الورع وجعله حيران)(3).

ص: 243


1- القرن العشرين.
2- المصدر السابق: ص128.
3- المصدر السابق: ج12، ص128.

وقال (صلّى الله عليه وآله): (من أرضى سلطاناً بما أسخط الله خرج من دين الإسلام)(1).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (إذا كان يوم القيامة ناد منادٍ: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ من لاق لهم دواة، أو ربط لهم كيساً أو مدّ لهم مدة احشروه معهم)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا).

قيل: يا رسول الله فما دخولهم في الدنيا؟

قال (صلّى الله عليه وآله): (اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم)(3).

وفي حديث أنه دخل على الامام الصادق (عليه السلام) رجل فمتّ له (أي حلف له) بالإيمان إنه من أوليائه، فولّى عنه وجهه، فدار الرجل إليه وعاود اليمين فولى عنه، فأعاد اليمين ثالثة فقال (عليه السلام) له: (يا هذا من أين معاشك؟).

فقال: إني أخدم السلطان وإني والله لك محب.

ص: 244


1- المصدر السابق: ج12، ص129.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ج12، ص128.

فقال (عليه السلام): (روى أبي عن أبيه عن جده (عليه السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: إذا كان يوم القيامة ناد منادٍ من السماء من قبل الله عز وجل أين الظلمة؟ أين أعوان الظلمة؟ أين من برى لهم قلماً؟ أين من لاق لهم دواة؟ أين من جلس معهم ساعة؟ فيؤتى بهم جميعاً فيؤمر بهم أن يضرب عليهم بسور من نار، فهم فيه حتى يفرغ الناس من الحساب، ثم يؤمر بهم الى النار)(1).

وروى الحسن بن علي بن شعبة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لكميل: (يا كميل لا تطرق أبواب الظالمين للاختلاط بهم والاكتساب معهم، وإياك أن تعظمهم وتشهد في مجالسهم بما يسخط الله عليك)(2).

وعن يونس بن يعقوب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ملعون ملعون عالم يؤم سلطاناً جائراً معيناً له على جوره)(3).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من ترك معصية الله مخافة من الله أرضاه الله يوم القيامة، ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإيمان)(4).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (شر الناس المثلث).

قيل: يا رسول الله ما المثلث؟ قال: (الذي يسعى بأخيه إلى السلطان فيهلك نفسه ويهلك أخاه ويهلك السلطان)(5).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (من مشى مع ظالم فقد أجرم)(6).

ص: 245


1- وسائل الشيعة: ج12، ص129.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص131.
6- المصدر السابق.

وعن الباقر (عليه السلام) أنه قال: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثة)(1).

وعن صبيح الكابلي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من سود إسمه في ديوان بني شيصبان - أي بني العباس - حشره الله يوم القيامة مسوداً وجهه)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (ما من عالم أتى باب سلطان طوعاً إلا كان شريكه في كل لون يعذب في نار جهنم)(3).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (من تعلم القرآن ثم تفقه في الدين ثم أتى صاحب سلطان تملقاً إليه وطمعاً لما في يديه خاض بقدر خطاه في نار جهنم)(4).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصي الله، إن الله تبارك وتعالى حمد نفسه على هلاك الظالمين فقال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (الأنعام: 45)(5).

وروي في كشف الغمة، عن ابن حمدون قال: كتب المنصور إلى جعفر بن محمد (عليه السلام): لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجاب (عليه السلام): (ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عنك؟).

فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا.

فأجابه (عليه السلام): (من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك).

فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة، وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا(6).

ص: 246


1- المصدر السابق: ص133.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص135.
4- المصدر السابق: ص136.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن صفوان قال: دخل على مولاي رجل فقال (عليه السلام) له: (أتتقلد لهم عملهم؟).

فقال: بلى يا مولاي.

قال: ولم ذلك؟.

قال: إني رجل عليّ عيلة وليس لي مال.

فالتفت إلى أصحابه ثم قال: (من أحب أن ينظر إلى رجل يقدّر أنه عصى الله رزقه، وإذا أطاعه حرمه فلينظر إلى هذا)(1).

وعن صفوان عن الكاظم (عليه السلام) أنه قال في حديث: (إن الله وعد من تقلد لهم عملاً أن يضرب عليهم سرادقاً من نار حتى يفرغ الله من حساب الخلائق)(2).

وعن محمد بن عذافر، عن أبيه قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (يا عذافر نبئت إنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟

قال: فوجم أبي.

فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) لما رأى ما أصابه: (أي عذافر إنما خوفتك بما خوفني الله عز وجل به).

قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتى مات(3).

وعن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم؟ فقال لي: (يا أبا محمد لا، ولا مرة قلم، إن أحداً لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا منه دينه مثله)(4).

ص: 247


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص138.
3- المصدر السابق: ص140.
4- الکافي: ج5، ص110.

وعن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكر به أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): (ما احب إني عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاءً وإن لي ما بين لابيتها، لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد)(1).

وعن جهم بن حميد قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (أما تغشى سلطان هؤلاء؟).

قلت: لا.

قال: (ولم؟).

قلت: فراراً بديني.

قال: (وعزمت على ذلك؟).

قلت: نعم.

قال لي: (الآن سلم لك دينك)(2).

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي قال: (ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير)(3).

قال: وقال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة واعوان الظلمة

ص: 248


1- المصدر السابق: ص106.
2- المصدر السابق: ص111.
3- مستدرک الوسائل: ج13، ص137.

وأشباه الظلمة؟ حتى من برى لهم قلماً ولاق لهم دواة؟ فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم)(1).

وعن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فقال لي: (يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً).

قلت: جعلت فداك أي شيء؟

قال: (إكراؤك جمالك من هذا الرجل) يعني هارون.

قلت: والله ما أكريته إلا لهذا الطريق (يعني طريق مكة) ولا أتولاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني.

فقال لي: يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم جعلت فداك.

فقال لي: (أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟).

قلت: نعم.

قال: (من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار).

قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك؟

قلت: نعم.

قال: ولم؟

قلت: أنا شيخ كبير، وإن الغلمان لا يفون بالأعمال!

فقال: هيهات هيهات! إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر.

ص: 249


1- وسائل الشيعة: ج12 ، ص148.

قلت: مالي ولموسى بن جعفر؟

فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1).

وقال (عليه السلام): (من ولى جائراً على جور كان قرين هامان في جهنم)(2).

وعن سهل بن زياد رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار) (هود: 113).

قال: (هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده إلى كيسه فيعطيه).

وعن محمد بن هشام، عمن أخبره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن قوماً ممن آمن بموسى (عليه السلام) قالوا: لو أتانا عسكر فرعون فكنا فيه ونلنا من دنياه حتى إذا كان الذي نرجوه من ظهور موسى (عليه السلام) صرنا إليه). ففعلوا فلما توجه موسى (عليه السلام) ومن معه هاربين من فرعون ركبوا دوابهم وأسرعوا في السير ليلحقوا موسى (عليه السلام) وعسكره فيكونوا معهم فبعث الله ملكاً فضرب وجوه دوابهم فردهم إلى عسكر فرعون فكانوا فيمن غرق مع فرعون)(3).

وعن محمد بن سالم قال: كنا عند أبي جعفر (عليه السلام) على باب داره بالمدينة فنظر إلى الناس يرمون أفواجاً فقال لبعض من عنده: (حدث بالمدينة أمر؟).

فقال: أصلحك الله ولي المدينة وال فغدا الناس إليه يهنونه فقال: (إن الرجل ليغدى عليه بالأمر يهنى به وإنه لباب من أبواب النار)(4).

وعن يحيى بن إبراهيم بن مهاجر قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) فلان يقرؤك السلام وفلان وفلان.

ص: 250


1- مستدرک الوسائل: ج13، ص141.
2- وسائل الشيعة: ج8، ص423.
3- المصدر السابق: ص422.
4- المصدر السابق.

فقال: (وعليهم السلام).

قلت: يسألونك الدعاء.

قال: (وما لهم؟).

قلت: حبسهم أبو جعفر.

فقال: (وما لهم وماله؟).

فقلت: (وما لهم وماله؟) ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ هم النار هم النار هم النار).

ثم قال: (اللهم اجدع عنهم سلطانهم).

قال: وفانصرفنا من مكة فسألنا عنهم فإذا هم قد أخرجوا بعد الكلام بثلاثة أيام(1).

وعن داود بن زربى قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين (عليه السلام) قال: كنت بالكوفة فقدم أبو عبدالله (عليه السلام) الحيرة فأتيته فقلت: جعلت فداك لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الويلات؟

فقال: (ما كنت لأفعل).

- إلى أن قال -: جعلت فداك ظننت إنك إنما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، وإن كل امرأة لي طالق وكل مملوك لي حر وعليّ أن أظلم أحداً أو جرت عليه وإن لم أعدل.

قال: (كيف قلت؟).

فأعدت عليه الإيمان، فرفع رأسه إلى السماء فقال: (تناول السماء أيسر عليك من ذلك)(2).

ص: 251


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

وعن حميد قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني وليت عملاً فهل لي من ذلك مخرج؟

فقال: (ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه).

قلت فما ترى؟

قال: (أرى أن تتقي الله عز وجل ولا تعد)(1).

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من تولى عرافة قوم أتى به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله عز وجل أطلقه الله، وإن كان ظالماً هوى به في نار جهنم وبئس المصير)(2).

وعن مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم ويجبون لهم ويوالونهم؟ قال: (ليس هم من الشيعة ولكنهم من أولئك)(3).

الاضطرار وحكم التقية

لكن يجب التنبيه على أنه إذا كان هنالك اضطراراً، لم يكن بالدخول بأس، سواء كان الاضطرار من جهة تقية كما قال سبحانه: (إلاّ أن تتقوا منهم تقاة) (آل عمران: 28).

أو كان الاضطرار من جهة رفع مظلمة عن الناس على شرط أن يعمل العامل معهم بكتاب الله وسنة رسوله وذلك من باب قاعدة الأهم والمهم.

وهناك روايات تدل على ما ذكرناه:

مثل ما رواه زيد الشحام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول:

ص: 252


1- المصدر السابق: ص423.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

(من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمّن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)(1).

وهذا الحديث يدل على المنع عن اتخاذ الحاجب كما هو معروف في سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وهناك روايات أيضاً تدل على ذلك .

وعن زياد بن أبي سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي: (يا زياد إنك لتعمل عمل سلطان؟).

قلت: أجل.

قال لي: (ولم؟).

قلت: أنا رجل لي مروة، وعليّ عيال، وليس وراء ظهري شيء.

فقال لي: (يا زياد لئن أسقط من حالق - والحالق الارتفاع - فاتقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا؟).

قلت: لا أدري جعلت فداك.

قال: (إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه، يا زياد إن أهون ما يصنع الله عز وجل بمن تولى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادقاً من نار إلى أن يفرغ الله عز وجل من حساب الخلائق، يا زياد فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك، يا زياد أيما رجل منكم تولى لأحد منهم عملاً ثم ساوى بينكم وبينه فقولوا له: أنت منتحل كذاب، يا زياد إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً) (الحديث)(2).

وعن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي استأذن لي على أبي عبدالله (عليه السلام)، فاستأذنت له عليه فأذن له، فلما أن دخل سلم

ص: 253


1- مستدرک الوسائل: ج8، ص339.
2- مستدرک الوسائل: ج13، ص122.

وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه؟.

فقال أبو عبدالله (عليه السلام): (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم).

قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟

قال: (إن قلت لك تفعل؟).

فقال: أفعل.

قال (عليه السلام) له: فاخرج من جميع ما كسبت من ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنة).

فأطرق الفتى طويلاً ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة، فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.

قال: فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض فكنا نعوده، فدخلت يوماً وهو في السوق - أي الاحتضار - ففتح عينيه ثم قال لي: (يا علي وفى لي والله صاحبك) ثم مات، فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فلما نظر إليّ قال لي: (يا علي وفينا والله لصاحبك) فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا قال لي عند موته(1).

وفي رواية الكليني، عن الحسن بن الحسن الأنباري، عن أبي الحسن الرضا

ص: 254


1- بحار الأنوار: ج68، ص380.

(عليه السلام) قال: كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه ذكرت إني أخاف على خيط عنقي، وإن السلطان يقول لي: إنك رافضي ولسنا نشك في إنك تركت العمل للسلطان للرفض، فكتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام): (فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم إنك إذا دخلت عملت في عملك بما أمر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم تصير أعيانك وكتابك أهل ملتك وإذا صار إليك شيء وافيت به فقراء المؤمنين حتى تكون واحداً منهم كان ذا بذا وإلا فلا)(1).

وعن علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): (إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثة، أضمن لي أنه لا يأتي أحد من موالينا في دار الخلافة إلا قمت له بقضاء حاجته، أضمن لك أن لا يصيبك حر السيف أبداً، ولا يظلك سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً).

وقال الحسن: ذكرت لمولاي (عليه السلام) تولّي أصحابنا أعمال السلطان واختلاطهم بهم؟

قال: (ما يكن أحوال إخوانهم معهم؟).

قلت: مجتهد ومقصر.

قال: (من أعز أخاه في الله وأهان أعداءه في الله وتولي ما استطاع نصيحته أولئك يتقلبون في رحمة الله) (الحديث)(2).

وفي رواية نصب المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) ولي عهد له أنه (عليه السلام) لم يقبل منه إلا اضطراراً حيث قال المأمون له: أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (عليه السلام): (قد نهاني الله أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك،

ص: 255


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

وإنما أقبل ذلك على أن لا أولي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً) فرضى بذلك منه فجعله ولي عهده على كراهية منه (عليه السلام) لذلك(1).

وفي رواية أخرى قال الإمام الرضا (عليه السلام): (فإني مجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على إنني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا أقضي ولا أولي ولا أعزل ولا أغير شيئاً مما هو قائم) فأجابه المأمون إلى ذلك كله(2).

الاقتراب إلى الحاكم يوجب تلويث السمعة

كما أسلفنا؛ فإن الشعوب الإسلامية تُكن كراهية شديدة لحكوماتها، لأنهم يرونها عميلة للأجنبي، ولا تعمل بالإسلام، و تهدر الحقوق والكرامات، وتنتهك القيم والموازين، ولهذا يتجنبون من يقترب الى الحكومة، سواءً كان شخصاً أو منظمة أو جماعة أو هيئة أو جمعية أو حزباً، ومن يكون قريباً من الحكومة، لن يتمكن من التأثير على الساحة الجماهيرية لإقامة حكم الإسلام، وإن كان مخلصاً حقاً لأهدافه.

وجاء في الحذر من مغبة الدخول في مداخل السوء، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ومن دخل مداخل السوء اُتهم)(3).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن)(4).

وعن الحسين بن يزيد، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (من دخل موضعاً من مواضع التهمة فاتهم فلا يلومن إلا نفسه)(5).

ص: 256


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص124.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص125.

وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جده (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من وقف بنفسه موقف التهمة فلا يلومن من أساء به الظن)(1).

وعن العقيلي في وصية أمير المؤمنين لولده الحسن (عليهما السلام) أنه قال فيها: (وإياك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يغير جليسه)(2).

وعن جامع البزنطي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (اتقوا مواقف الريب، ولا يقض أحدكم مع أمه في الطريق فإنه ليس كل أحد يعرفها)(3).

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن)(4).

وقال (عليه السلام): (من سلّ سيف البغي قتل به، ومن كايد الأمور عطب، ومن اقتحم اللجج غرق، ومن دخل مداخل السوء اتهم)(5).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة)(6).

سادساً: تجاهل مطاليب الشعب

إن كثيراً من المنظمات والأحزاب والجمعيات وما إليها، تتكلم وتعمل باسم الشعب، إلا إن هذا الجهد لا يلقى رضى من الناس. وذلك لأسباب منها:

أولاً: لأنها لا تأخذ بآراء الناس، بل تتبع آراء الحزب والجماعة في أفضل

ص: 257


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص126.
6- المصدر السابق: ص127.

الاحتمالات، والناس ليسوا بحاجة إلى أسياد، بل بحاجة إلى من يستشيرهم، فإذا لم تأخذ الأحزاب بآراء الناس، لن يقبلوا بأن تتكلم وتعمل باسمهم ، ولذا يحدث الانفصال بينها وبين الناس.

ثانياً: الاستئثار بالمكاسب والأرباح، وعدم تقاسمها مع الناس، سواء كانت الأرباح مادية أو معنوية، فالناس يريدون المتكلم باسمهم، ممن يشركهم في المكاسب أيضاً.

ثالثاً: انفصالها عن الشعب، فحتى إذا قُسمت الأرباح واتّبعت آراء الناس، فالناس بحاجة إلى من هو منهم ،لا من هو غريب عليهم.

دروس نبوية

هذه النقطة الهامة كان يحرص عليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في تعامله مع الناس في أوائل تأسيس الدولة الاسلامية.. فقد كان يستشير الناس، وليس فقط طليعة القوم، بل وكافة الذين كانوا يتبعونه ويدخلون في الإسلام، سواء كانوا من قدماء المسلمين، أو الحديثي العهد بالاسلام، من المهاجرين أو الأنصار، أو غيرهم، ثم إذا حصل على مكاسب مادية قسمها (صلّى الله عليه وآله) بين الجميع، ولم يكن يستأثر بالمكاسب والأموال، أو يجعلها لجماعة دون آخرين، أو لطليعة القوم فقط، بالإضافة إلى أنه (صلّى الله عليه وآله) كان من الناس وإلى الناس، ولذا كان الناس ينضوون تحت لوائه وكانوا يتبعونه، وبذلك استطاع أن يحقق التقدم والازدهار للمسلمين.

وقد ضرب النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) رقماً قياسياً في إرضاء جميع الناس وتقسيم الغنائم بين الجميع والاستشارة من الجميع ولنقرأ هاتين القصتين:

جاء إعرابي إلى رسول الله، يستعينه في شيء، فأعطاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيئاً ثم قال أأحسنت إليك؟ قال الاعرابي: لا ولا أجملت..! فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه، فأشار النبي (صلّى الله عليه وآله) إليهم أن كفّوا، فلما قام النبي (صلّى الله عليه وآله) وبلغ

ص: 258

إلى منزله دعا الاعرابي إلى البيت، فقال له: إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، فزاده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيئاً فقال: أأحسنت إليك؟ فقال الاعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): إنك كنت جئتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فاذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بي يدي حتى يذهب عن صدورهم، قال: فلما جاء الاعرابي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال: ما قال..؟ وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، أكذاك.؟ قال الاعرابي.. نعم؛ فجزاك الله..؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (ان مثلي ومثل هذا الاعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قُمام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها، ولو أني أطعتكم حيث قال دخل النار)(1).

ففي هذه القصة نرى أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يترك حتى أعرابياً يسخط عليه، وإنه لما رضى الأعرابي عنه، قال له (صلّى الله عليه وآله): إذهب إلى أصحابي وقل لهم: إني رضيت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يعرف الأصحاب إنه ليس هناك من ساخط، ولو واحد، على رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وفي قصة ثانية رواها الشيخ الصدوق، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رأى في بعض طريقه، جارية جالسة تبكي، فقال لها النبي (صلّى الله عليه وآله): ما شأنك؟

فقالت: يا رسول الله إن أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم.

ص: 259


1- مستدرک الوسائل: ج8، ص339.

فأعطاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أربعة دراهم وقال: ارجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثم رجع وإذا بالجارية قاعدة على الطريق تبكي فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مالك لا تأتين أهلك؟

قالت: يا رسول الله إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مرّي بين يدي ودليني على أهلك.

فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى وقف على باب دارهم ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه.. فأعاد السلام فقالوا: عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟

قالوا: يا رسول الله سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله هي حرة لممشاك يا رسول الله(1).

وهكذا نرى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع تمكنه من أن يرسل بعض أصحابه لأجل حل هذه القضية البسيطة، فانه يذهب بنفسه لأجل ذلك.. فهو القائد الجماهيري إلى أبعد الحدود.

إذاً؛ فمن الواجب على الذين يريدون الوصول إلى الهدف النهائي، وهي حكومة ألف مليون مسلم ومن ورائها إنقاذ العالم من براثن المشكلات، أن يسلكوا الطريق الذي سلكه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسلكه علي (عليه السلام).

سابعاً: الاستعلاء على الآخرين

يلزم على سادة القوم والقادة، أن يكونوا متواضعين دائماً يرون صغار الناس كباراً، وكبار أنفسهم صغاراً، وبذلك يلتف الناس حولهم.

ص: 260


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج9، ص16.

وفي كثير من الأحزاب والمنظمات والتجمعات، نرى العكس، فهم يرون صغارهم كباراً وكبار الناس صغاراً، وذلك يوجب تنفير الناس عنهم.

التواضع في النصوص الدينية

ورد في أحاديث كثيرة تبعاً للآيات المباركات مدح التواضع، خصوصاً، ما يصدر عن الكبار، لإن تواضع الصغير أمر طبيعي، أما إذا كان الإنسان كبيراً، فان قيمة تواضعه تكون أعلى وأرفع.

ففي الآية الكريمة: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) (لقمان: 18).

وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه)(1).

وعن أبي المقدام، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (فيما أوحى الله عز وجل إلى داود: يا داود كما إن أقرب الناس من الله المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون)(2).

وعن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه)(3).

وفي وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) قال: (يا علي والله لو أن الوضيع في قعر البئر لبعث الله عز وجل إليه ريحاً ترفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار)(4).

وفي رواية الحسن بن الجهم قال: سألت الرضا (عليه السلام) قلت له: جعلت فداك ما حد التوكل؟ فقال لي: (أن لا تخاف مع الله أحداً).

ص: 261


1- بحار الأنوار: ج16، ص215.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص215.
3- المصدر السابق: ص216.
4- المصدر السابق.

قال: قلت: جعلت فداك فما حد التواضع؟

فقال: (أن تعطي الناس من نفسك ما تحب أن يعطوك مثله).

قلت: جعلت فداك أشتهي أن أعلم كيف أنا عندك؟

فقال: (انظر كيف أنا عندك)(1).

وعن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (إن من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلم على من تلقى، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً، ولا تحب أن تحمد على التقوى)(2).

وعن العسكري (عليه السلام) قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاءً لها أعظمهم عند الله شأناً ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين)(3).

وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتواضع من غير منقصة، وجالس أهل الفقر والرحمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية)(4).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (كمال العقل في ثلاث: التواضع لله، وحسن اليقين، والصمت إلا من خير)(5).

وفي وصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) (كما في نهج البلاغة) عند موته قال: (عليك بالتواضع فإنه من أعظم العبادة)(6).

وقال (عليه السلام): (بالتواضع تتم النعمة)(7).

ص: 262


1- المصدر السابق: ص217.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص295.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص296.
7- المصدر السابق.

وقال (عليه السلام): (ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء إتكالاً على الله)(1).

وروي: أن محمد بن مسلم كان رجلاً شريفاً مؤسراً، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): (تواضع يا محمد) فلما انصرف إلى الكوفة أخذ قوصرة من تمر مع الميزان وجلس على باب المسجد الجامع وصار ينادي عليه، فأتاه قومه فقالوا له: فضحتنا، فقال: إن مولاي أمرني بأمر فلن أخالفه ولن أبرح حتى أفرغ من بيع ما في هذه القوصرة فقال له قومه: (إذا أبيت إلا أن تشتغل ببيع وشراء فاقعد في الطحانين) فهيأ رحى وجملاً وجعل يطحن(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (التواضع يكسبك السلامة)(3).

وقال (عليه السلام): (زينة الشريف التواضع)(4).

وعن هشام، عن الكاظم (عليه السلام) أنه قال: (طوبى للمتراحمين أولئك هم المرحومون يوم القيامة - إلى أن قال -: طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة).

وقال (عليه السلام): (يا هشام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، وكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار، لأن الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجّه ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنه؟ فكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه الله - إلى أن قال (عليه السلام) -: واعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده)(5).

ص: 263


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- بحار الأنوار: ج68، ص122.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص298.
5- المصدر السابق.

وعن عبد الله بن جندب، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال في حديث: (فإن أفضل العمل العبادة والتواضع)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأشعار المنسوبة إليه:

واجعل فؤادك للتواضع منزلاً***إن التواضع بالشريف جميل

وفي رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن من التواضع أن يرضى الرجل بالمجلس دون شرف المجلس، وأن يسلم على من لقي، وأن يترك المراء وإن كان محقاً، وأن لا يحب أن يحمد على البر والتقوى)(2).

وعن الجعفري، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال في حديث: (ورأس الحزم التواضع)(3).

وروى لب الألباب، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وأذل نفسه في غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه من غير معصية)(4).

وعن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (اطلبوا العلم، وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم)(5).

وفي رواية قال: (قال عيسى بن مريم (عليها السلام) للحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي).

فقالوا: (قضيت حاجتك يا روح الله).

فقام فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا أحق بهذا منك.

فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هذا لكي تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم.

ص: 264


1- المصدر السابق: ص299.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

ثم قال عيسى (عليه السلام): (بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل)(1).

وفي رواية: أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ورد عليه أب وابن، فلما أكلا قام الإمام (عليه السلام) وأخذ الطشت والإبريق وأراد أن يغسل يد الأب فامتنع الرجل، فقال الإمام (عليه السلام): (بحقي عليك إلا ما تركتني حتى أغسل يدك) فغسل يده ثم أعطى الإبريق لمحمد بن الحنفية وقال له: (اغسل يد الابن فإن الله أبى أن يسوّى بين الأب والإبن، ولو جاء الإبن وحده لغسلت يده، ولكن الأب يغسل يد الأب والإبن يغسل يد الإبن)(2).

وفي رواية المعراج، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: قال الله تبارك وتعالى: (يا أحمد إن عيب أهل الدنيا كثير: فيهم الجهل والحمق، لا يتواضعون لمن يتعلمون منه) (إلى آخر الحديث)(3).

ولذا فاللازم على المنظمات الإسلامية التي تريد الوصول إلى الهدف وهو سيادة حكم الله في الأرض وإقامة حكم ألف مليون مسلم وإنقاذ العالم من براثن المشكلات أن يتحلى أفرادها بأكبر قدر من التواضع في مأكلهم وملبسهم ودارهم وأثاثهم ومركبهم وسائر شؤونهم وأن يقدروا الناس حق قدرهم فإن الناس إذا رأوا هذه الحالة المتواضعة و رأوا إعطاء كل ذي حق حقه التفوا حولهم وساهموا معهم في عملية الإنقاذ.

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر إنه أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ملك فقال: إن الله تعالى يخيرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً، أو ملكاً رسولاً، قال: فنظر إلى جبرئيل وأوصى بيده أن تواضع، فقال: عبداً متواضعاً رسولاً(4).

ص: 265


1- وسائل الشيعة: ج11، ص219.
2- المصدر السابق.
3- بحار الأنوار: ج68، ص118.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص303.

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أفطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عشية خميس في مسجد قبا، فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعسل، فلما وضعه على فيه نحاه ثم قال: (شرابان يكتفى أحدهما من صاحبه لا أشربه ولا أحرّمه، ولكن أتواضع لله فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر خفضه الله، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله، ومن بذر حرمه الله، ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله)(1).

وعن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (مرّ علي بن الحسين (عليه السلام) على المجذومين وهو راكب حماره وهم يتغذون فدعوه إلى الغداء فقال: أما لولا إني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه، ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغدى معهم)(2).

ذم التكبر

عن حكيم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أدنى الإلحاد قال: (إن الكبر أدناه)(3).

وعن العلاء بن الفضيل، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (العز رداء الله، والكبر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم)(4).

أقول: هذا من باب التشبيه.

وعن زرارة، عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (عليه السلام) قالا: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)(5).

ص: 266


1- وسائل الشيعة: ج11، ص216.
2- المصدر السابق: ص220.
3- بحار الأنوار: ج42، ص55.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص298.
5- المصدر السابق.

وعن ابن بكير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له: سقر فشكى إلى الله عزّ وجلّ شدة حره وسأله عز وجل أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم)(1).

وعند داود بن فرقد، عن أخيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن المتكبرين يجعلون في صور الذر تطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب)(2).

وعن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة وملك يمسكها فإذا تكبر قال له: إتضع وضعك الله فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس وإذا تواضع رفعه الله عز وجل ثم قال له انتعش نعشك الله فلا يزال أصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس)(3).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) في وصيته قال: (وإياكم والعظمة والكبر فإن الكبر رداء الله عز وجل فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذله يوم القيامة)(4).

وعن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام) إن علياً (عليه السلام) قال: (ما أحد من ولد آدم إلا وناصيته بيد مالك، فإن تكبر جذبه بناصيته إلى الأرض، ثم قال له: تواضع وضعك الله، وإن تواضع جذبه بناصيته، ثم قال له: إرفع رأسك رفعك الله، ولا وضعك بتواضعك لله)(5).

وعن حسين بن مختار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم: ثاني عطفه، ومسبل إزاره خيلاء، والمنفق سلعته بالأيمان والكبر إن الكبرياء لله رب العالمين)(6).

ص: 267


1- المصدر السابق: ص299.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص300.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الكبر مطايا النار)(1).

وعن عبد الله بن القاسم، رفعه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يحشر المتكبرون يوم القيامة في خلق الذر في صور الناس يوطئون حتى يفرغ الله من حساب خلقه، ثم يسلك بهم إلى النار يسقون من طينة خبال من عصارة أهل النار)(2).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أكثر أهل جهنم المتكبرون)(3).

وعن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً وإن أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، وهم المستكبرون)(4).

وعن ابن بكير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كانت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ناقة لا تسبق، فسابق أعرابياً بناقته فسبقها فاكتأب لذلك المسلمون، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنها ترفّعت، وحق على الله أن لا يرتفع شيء إلا وضعه الله)(5).

قال: (وفي حديث آخر) عن أبي عبدالله (عليه السلام): (ما من رجل تكبّر أو تجبر إلا لذلة يجدها في نفسه)(6).

(وورد أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مر في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين، فقيل لها: تنحي عن طريق رسول الله، فقالت: إن الطريق لمعرض، فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): دعوها فإنها جبارة)(7).

ص: 268


1- المصدر السابق: ص301.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص302.
7- المصدر السابق: ص303.

وعن الحسين بن خالد، عن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن أبيه، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى ليبغض البيت اللحم، واللحم السمين، فقال له أصحابنا: يا ابن رسول الله إنا لنحب اللحم وما تخلو بيوتنا عنه فكيف ذلك؟ فقال: ليس حيث تذهب إنما البيت اللحم الذي تؤكل لحوم الناس فيه بالغيبة، وأما اللحم السمين فهو المتجبّر المتكبر المختال في مشيته)(1).

وعن عمرو عن جميع، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (الجبارون أبعد الناس من الله عز وجل يوم القيامة)(2).

وعن ميسر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن في جهنم لجبلاً يقال له: الصعدا وإن في الصعدا لوادياً يقال له: سقر وإن في سقر لجباً يقال له: هبهب كلما كشف غطاء ذلك الجب ضج أهل النار من حرّه ذلك منازل الجبارين)(3).

وعن ابن فضال عمن حدثه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من مشى في الأرض اختيالاً لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها)(4).

وعن أحمد بن محمد، عن أبيه رفعه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ويل لمن يختال في الأرض يعاند جبار السماوات والأرض)(5).

وعن محمد بن سالم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر).

قال: فاسترجعت، فقال: (مالك تسترجع؟) فقلت: لما سمعت منك، فقال: (ليس حيث تذهب إنما أعني الجحود إنما هو الجحود)(6).

ص: 269


1- المصدر السابق.
2- بحار الأنوار: ج59، ص57.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص304.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن عبد الأعلى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (الكبر أن تغمص الناس وتسفه الحق)(1).

وعن عبد الأعلى بن أعين قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق).

قلت: وما غمص الخلق وسفه الحق؟

قال: (يجهل الحق ويطعن على أهله، فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه)(2).

وعن محمد بن عمر عن يزيد، عن أبيه قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنني آكل الطعام الطيب وأشم الرائحة الطيبة، وأركب الدابة الفارهة ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئاً من التجبر فلا أفعله؟

فأطرق أبو عبدالله (عليه السلام) ثم قال: (إنما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق).

قال عمر: فقلت: أما الحق فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو، قال: (من حقّر الناس وتجبر عليهم فذلك الجبار)(3).

وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (يعني أبا جعفر وأبا عبد الله (عليه السلام) ) قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر).

قال: قلت: إنا نلبس الثوب الحسن فيدخلنا العجب، فقال: (إنما ذلك فيما بينه وبين الله عز وجل)(4).

ص: 270


1- المصدر السابق: ص306.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص307.

ثامناً: عرض الإسلام بصورة خاطئة

إن كثيراً من الأحزاب الإسلامية والتنظيمات ، يعرضون الإسلام بصورة خاطئة تسبب نفرة الناس عنه، مثل قولهم: إنهم يريدون (إحياء الخلافة) بينما (الخلافة) ممقوتة في أذهان الناس - المسلمين منهم وغير المسلمين - لما فعله الأمويون والعباسيون والعثمانيون، وغيرهم من الجرائم والموبقات - كما ذكرنا جملة منها في فصل سابق -.

إضافة إلى ذلك، فانهم يلوحون بالعصا الغليظة، بحجة «أننا نريد تطبيق الحدود الشرعية من جلد الزاني وقطع يد السارق..»، كل ذلك بصورة مقززة أيضاً، وحيث يتذكر الناس ما قرؤوه في التواريخ، وما رأوه في بعض الحكومات التي تسمى بالإسلامية من الإعدامات وأحكام الجلد وقطع اليد أو الرجل،

وغيرها من العقوبات القاسية والاعتباطية في آن واحد، مما يثير في النفوس الاشئمزاز والكراهية من حكم الإسلام، وهو الإسلام الذين يقترن في أذهانهم بهذه الأمور.

ثم إن كثيراً من المنظمات والجماعات ، يأتون بالاستدلالات العقلية على الأصول الدينية. هذه الاستدلالات وإن كانت صحيحة إلا أنها مفيدة للفلاسفة، أما الاستدلالات التي تنفع عامة الناس فهي تلك الواردة في القرآن والسنة.

كما يأتون على ذكر المحرمات، مثل الخمر والزنا والربا وغيرها، من دون ذكر ما يقابل هذه المحرمات من آلاف الموارد المحللة في الإسلام، بل المحرمات في الإسلام أقل من واحد في الألف، بينما المحرمات الموجودة في القوانين الوضعية في العالم، و الذي يسمى بالحر، أكثر من مائة في الألف.

ويذكرون الفروق بين الرجال والنساء، وبين المؤمن والكافر بصورة مزرية جداً، بينما نرى أن الإسلام، في بدايات تطبيقه، كان العكس تماماً، وتحديداً في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام). صحيح هناك فروقاً بين الرجال والنساء، لكنها طبيعية وقليلة، كما أنه من الصحيح وجود فروق بين المؤمن

ص: 271

والكافر، لأن الإسلام دين عقائدي، لكن الإسلام يعطي للكافر من الحرية والرفاه، ما لا يعطيه العالم المسمى ب( الحر).

والمحصلة؛ إنهم يعرضون القوانين الموجودة في الإسلام بصورة تثير الكراهية والاشمئزاز في مؤلفاتهم وخطاباتهم، ويقولون مثلاً؛ إن وصلنا إلى الحكم، سنفعل (....) بالمجرمين والأثرياء والحكام ، مع العلم أن كل ذلك هو عكس يدعو اليه الإسلام. أنظروا إلى (سورة الإيلاف): (بسم الله الرحمن الرحيم لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: 1 - 4).

فالله سبحانه وتعالى يطلب من عباده الإيمان به في قبال أنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

وكذلك في الآية الكريمة: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).

كما إنا نرى احتراماً غريباً للمرأة في القوانين الإسلامية، وكذا احتراماً للكافر، فلم تجد المرأة ولا الكافر في الأنظمة الغربية مثل هذا الاحترام، بل إن الإسلام - كما في قصة خيبر وفي قصة علي (عليه السلام) - لم يأخذ من الكفار الذين أصبحوا تحت ظل الدولة الإسلامية إلا أقل مما كانت تأخذ منهم الدول الكافرة سابقاً، وإنما الإسلام يقول: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6).

إلى غير ذلك مما تقدم شطر منه. وهذا ما لا تعرفه الأحزاب والمنظمات الإسلامية، لذا نجد إلحاق الضرر والسوء بسمعة الإسلام في العالم.

من هنا؛ على المنظمات الإسلامية، أن تقدم للناس برنامجاً سلوكياً أفضل في الحياة، فالناس كما ينتخبون الفاكهة الأفضل والقماش الأفضل إذا دخلوا السوق، فهم أيضاً يختارون الأفضل بين البرامج والأفكار ، فيتخذونه مبدءاً ومنهجاً لحياتهم.

ص: 272

مضافاً إلى أن الناس يجب أن يعرفوا إن الفكر والبرناج الجديد، يمتاز بأفضلية على غيره، حتى يستبدلوا مبدأهم الحالي، بالمبدأ الجديد، لأنهم يرون في مبدأهم الذي يتبنونه ما يوفر الاطمئنان النفسي، أما تغيير هذا المبدأ إلى مبدأ آخر - وإن كان أفضل في الجملة - فإنهم غير مستعدين له لما يعرفون من إن في تغيير المبادئ أخطار كثيرة.

وعليه فاللازم على المنظمات الإسلامية، تقديم المبدأ الإسلامي بشكل متكامل، وبجميع جوانبه، وإنه أفضل من المبادئ الغربية والشرقية التي تسود بلادهم حالياً، لكن لأسف، لا يوجد هكذا توجه غالباً، في الوقت الحاضر، فغالباً لا يعرف الناس أن الاقتصاد الإسلامي هو الأفضل، أو أن السياسة الإسلامية هي الأفضل، أو أن الاجتماع الإسلامي هو الأفضل، أو أن التربية الإسلامية هي الأفضل وهكذا.. بل يرون العكس، وإذا دخلوا بعض البلاد التي تسمى بالحرة يرون فيها الهدوء والاستقرار والسكينة والنظام والنظافة وعدم سفك الدماء وعدم مصادرة الأموال، وليس هنالك السجون و التعذيب والدكتاتورية والاستبداد، بينما إذا دخلوا البلاد التي تدّعي الإسلام يرون كل تلك الأمور وأكثر، ويظنون أن الإسلام ليس سوى، صوم وصلاة وحج ومسجد وقراءة القرآن والدعاء، أما مناهج الحياة فإنها ستكون أفضل على الأسلوب الغربي، ولذا لا يتركون المضي في السير على المناهج الغربية، لصالح منهج إسلامي محتمل، وقد رأوا أن تطبيق ما سمي بالمنهج الإسلامي في البلاد الإسلامية أسوأ من تطبيق المناهج الرأسمالية والديمقراطية ونحوها في البلاد الغربية وما إليها.

والإسلام إنما تمكن من التقدم في ابتداء ظهوره بسرعة فائقة، لأن الناس رأوا منهجه خيراً من المناهج السابقة التي كانت تسودهم.

مثلاً: أباح الإسلام التعليم للجميع، حيث كان التعليم محرّماً على العامة، ومقتصراً على طبقة معينة كما كان هذا سائداً عند الفرس والروم.

ص: 273

و وفر الاسلام الحريات حيث كانت الديكتاتوريات والكبت والعبودية هي السائدة.

وأخرج الاسلام الناس من ضيق الأرض إلى سعتها حيث كانت الأرض ضيقة على الناس، وأعطى للمرأة كرامتها، بعد أن كانت المرأة مهانة وذليلة، و تعد كبضائع الدار، وقد نقل أنه كانت في قصور كسرى اثنتا عشرة ألف جارية خاصة به، فأي مهانة وذلة هذه التي تجعل من المرأة سلعة رخيصة؟ وفي الجزيرة العربية كانوا يئدون البنات ويقتلونهن ويحرمونهن من الإرث إلى غير ذلك، ويشبه ذلك ما كان سائداً عند الروم من الازدراء بكرامة النساء.

كما أن الإسلام جمع كلمة الناس، حيث كان التناحر والتفرقة، وكانت الحروب سائدة بينهم سواء في الجزيرة العربية أو بين الفرس والروم أو غيرهم.

كما حظر الإسلام القتل، حيث كانت العادة عند البشر، سفك الدماء. وأمر بصلة الأرحام حيث كانت مقطوعة.

وأسقط الحدود بين دولة ودولة، وبين بلد وبلد وبين عشيرة وعشيرة، حيث كانت ترفع الحدود في وجوه الناس.

وأباح للناس خيرات الأرض حيث كانت غير مباحة.

وجعل الحكم بسيطاً حيث كان معقداً إلى أبعد حد.

وجعل النظام في كل شيء حيث كانت الفوضى تسود.

وأمر بالنظافة حيث كانت القذارة ضاربة بأجزائها في حياة الانسان، إلى غير ذلك مما سبب أن يرى الناس في النظام الجديد خيراً من النظام القديم، لا مرة واحدة، وإنما لمرات ومرات، ولذلك التفوا حول هذا النظام الجديد.

وعليه فاللازم على المنظمات الإسلامية التي تريد الوصول إلى الهدف المنشود، أن يقدموا للناس برامجاً أفضل مما موجود حالياً عند (العالم الحر)،

ص: 274

حتى يسبب ذلك التفاف الناس حول الإسلام، أما الاقتصار فقط على التبليغ والحديث عن أن الأدلة الأصولية التي تدل على صحة الإسلام دون غيره، أو على أنه توجد للمسلمين في الآخرة جنات دون غير المسلمين، فإن ذلك لا يسبب تفاعل الناس وتحركهم نحو الثورة والتغيير من مناهجهم السائدة، إلى مناهج لا يعلمون عنها هل هي أفضل أم لا؟ بل وكثيراً ما يظنون إنها ليست بأفضل، لما رأوا من التطبيقات الخاطئة من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم، ولما يرون من التطبيقات الخاطئة في بعض البلاد التي تدعي أن حكامها يعملون بالإسلام .

تاسعاً: الايدلوجية الحزبية أولاً

إن المبادئ والنظريات والرصيد التاريخي ، ليس ذو أهمية، بقدر التطبيق العملي الذي يؤكد الإيمان بالرسالة وقيمها السماوية.

فقد رأى المسلمون والعالم أجمع، المجتمع الإسلامي الأول، الذي بناه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله، وهو المجتمع القائم على الألفة والثقة والتعاون والمحبة ووحدة الكلمة والاستشارة، وغيرها من القيم الاخلاقية والفضائل والمكارم، وثبت لهم حقانية النهج الاسلامي وسلامته، من خلال التطبيق العملي آنذاك.

أما اليوم، فان الناس لا يجدون في كثير من المنظمات والأحزاب، ذلك النموذج الذي تدعو اليه المنظمة أو الحزب أو الجماعة، بل يرون النموذج المعاكس والمغاير..

مثالٌ على ذلك؛ المنظمة أو الحزب أو الجماعة تدعو إلى الشورى في الحكم، بينما الناس يرون الاستبداد والدكتاتورية يسودان التنظيم، فيكون لسان حالهم: إذا كان سلوك هؤلاء بهذا الشكل، وهم يمارسون نشاطهم السياسي والاجتماعي، فكيف بهم إذا انتقلوا بنشاطهم الى أروقة الحكم والمناصب القيادية؟

ص: 275

وفي صورة أخرى للتناقض، يلاحظ الناس تمتع الشريحة الاجتماعية المنتمية الى الرموز القيادية في الحزب او التنظيم، بأحسن ظروف العيش الرغيد، حيث القصور والسيارات الحديثة والمخصصات المالية العالية، فيما تكون القاعدة الجماهيرية في ضنك العيش والحرمان من كل هذه الامتيازات.

فاذا جلست قيادات المنظمة والحزب، في الأبراج العاجية، ثم تأمر الأفراد بالأعمال الشاقة، والتضحية بسلامتهم وراحتهم، فان ذلك يؤدي أولاً؛ الى أن يزهد الأفراد بالانتماء الى هكذا تنظيمات، وثانياً: عدم اطمئنان الناس بهم، والتخلّي عن مساعدتهم في الوصول إلى الحكم.

النبي الأكرم .. يجسّد المنهج السليم

كانت القيادة وطليعة القوم في المجتمع الاسلامي الأول، يعيشون عيشة هي أدنى مستوى من عيشة سائر الناس، ومن هنا كان الناس يحسّون أنهم إذا انضموا إلى هذه الجهة وجدوا الاحترام الكافي والعيش المتساوي.

فقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يساعد الشباب على التزويج بنين وبنات.

كما أنه (صلّى الله عليه وآله) زوج ابنته فاطمة (عليها السلام) تزويجاً أقلّ مستوى من تزويج كثير من المسلمين لبناتهم، فقد ورد في بعض الروايات: إن مهر فاطمة (عليها السلام) كان ستة وثلاثين درهماً فقط.

والرسول (صلّى الله عليه وآله) كان في طعامه ولبسه وركوبه وداره وسائر شؤونه، كفرد عادي من المسلمين أو أقل حتى ورد: إنه (صلّى الله عليه وآله) كان يقسم الأموال على المسلمين، ويحرم نفسه وعائلته، حتى غضبن وأردن منه الطلاق وفي هذه القضية نزل قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أُمتِّعكُنَّ وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجراً عظيماً) (الأحزاب: 28 - 29).

وقد ورد في تفسير القمي (رحمه الله) أنه لما رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزوة

ص: 276

خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق قالت أزواجه: أعطنا ما أصبت.. قال لهن (صلّى الله عليه وآله): (قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز وجل)، فغضبن من ذلك فقلن: لعلك ترى انك إن طلقتنا لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا! فاعتزلهن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مشربة (أم إبراهيم) تسعة وعشرين يوماً ثم نزلت آية التخيير (المتقدمة) فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله ورسوله، فقمن كلهن وقلن مثل ذلك، ورجعن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وينقل الراوي أنه دخل على النبي (صلّى الله عليه وآله) في اعتزاله لهن في مشربة أم إبراهيم فرأى النبي (صلّى الله عليه وآله) متكئاً على حصير قد أثر في جنبه فبكى الراوي وقال: يا رسول الله أنت هكذا؟

فأجابه الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأن الآخرة خير من الأولى - في قصة مفصلة مذكورة في التواريخ -.

وفي قصة أخرى: أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) رأى على باب بيت فاطمة (عليها السلام) ستراً وفي يدي الحسن والحسين (عليه السلام) سوارين فلم يدخل البيت، كما كانت عادته، حيث كان يدخل بيت فاطمة (عليها السلام) لدى عودته إلى المدينة، ثم ذهب إلى المسجد.

وتفطنت الزهراء (عليها السلام) إلى السبب فقلعت الستر ونزعت السوارين من يدي الحسن والحسين (عليه السلام) وأرسلتهما إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ففرح النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال: (فعلت فداها أبوها)(1) ثم قسم السوارين والستر على فقراء المسلمين.

النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ورعاية الأعداء

حفظ التاريخ للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، إكرامه لأعدائه، فقد جاء في (أعلام الورى) وفي (السيرة النبوية) أنه لما رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى (الجعرانة)

ص: 277


1- المصدر السابق.

ومن معه من الناس قسّم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين وفيهم المؤلفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب ومن المنافقين.

قال محمد بن إسحاق: أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلاً من أبي سفيان، ومعاوية ابنه، ويزيد بن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، ونصير بن حارث بن كلدة، والعلاء بن حارثة، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف، وعلقمة بن علاءه، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وسهيل بن عمرو، وحويطب، وصفوان بن أمية، كل واحد مائة من الأبعرة.

ومن الواضح أن البعير في ذلك اليوم كان مثله مثل السيارة في هذا اليوم، فقد أعطى النبي (صلّى الله عليه وآله) كل واحد من رؤساء القبائل والشخصيات البارزة - وأكثرهم إما كفاراً أو منافقون - مائة مائة من الآبال، كما أنه (صلّى الله عليه وآله) أعطى إبلاً كثيراً لجملة آخرين أمثال: طليق بن سفيان، وخالد بن أسيد، وشيبة بن عثمان، وأبي السنابل، وعكرمة، وزهير، والحارث، وخالد بن هشام، وهشام بن الوليد، وسفيان بن عبد الأسد، والسائب، ومطيع، وأبي جهم، وأحيحة بن أمية، وعمير، وعدي، وهشام، ونوفل، وعلقمة، ولبيد، وخالد بن هوذة، والعباس وغيرهم.

وهكذا نجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعيش كأحد الأفراد العاديين أو أقل حظاً منهم، كما نجده يهتم بأعدائه كما يهتم بأصدقاءه، بل وأكثر من ذلك.

استئصال العداء والكراهية لليهود

وهذه قصة أخرى ذكرها بعض الكتاب الإسلاميين، في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فبعد غزوة الخندق، اتجه النبي (صلّى الله عليه وآله) لاستئصال اليهود من المدينة بعدما تبين أنهم يتحينون الفرص للإنقضاض عليها، وبعدما نقضوا هم عهد الأمان وأعلنوا الحرب، كالتي قادها حي بن أخطب زعيم اليهود وقائدهم وصاحب الجهد الأكبر في تشكيل الحزب بين كل أعداء الدين الجديد ومحاصرة المدينة.

ص: 278

وفي تلك المرة هزم المسلمون اليهود، وكانت هزيمة اليهود ساحقة وعقوبتهم صارمة، وإذا كان قدر الإنسان هو الحرب، فإن خير الحضارات هي التي لا تجعل الحرب نتيجة أحقاد موروثة، ولا ترتب على الحرب توارث الأحقاد والتفرقة، واليهود الذين رفضوا العالم ورفضهم العالم كان يمكن أن تسبب خيانتهم للمسلمين في محنتهم أثناء الحصار عداوة تاريخية تضاف إلى الشحنة الدائمة الموجودة ضد اليهود، بفعل انعزالهم واحتقارهم للجنس البشري، فتخلق عداوة أبدية بين الحضارة الجديدة البازغة وبين اليهود، ولكأن العالم قد أطبق عليهم فعلاً، فهم مرفوضون في العالم المسيحي وقتها، بحكم خيانتهم للمسيح، ثم يكونوا منبوذين في العالم الإسلامي بحكم خيانتهم للنبي (صلّى الله عليه وآله).

وهناك تألقت واحدة من إشراقات حضارة الإسلام، لفتة نبوية تستأصل كل إمكانية ظهور تيار معاد لليهود كونهم يهوداً، أو نموّ حالة احتقار لجنس اليهود.

المشكلة ليست في أن نحارب اليهود، ولا أن نبغض بعضهم، بل الخطأ هو أن تقوم حضارة تبغض اليهود بأجمعهم، وعلى طول الزمن، لمجرد أنهم يهود، ولو بقيت معركة النبي (صلّى الله عليه وآله) مع يهود بني قريظة في التاريخ، مجرد ذكريات معركة، وما أعقبها من قصاص صارم، لولّدت عداءً، ربما تحول مع تدهور الحضارة، إلى عنصرية متعصبة ضد اليهود، ولكن كيف تمتع اليهود بالمكانة السامية التي احتلوها في ظل الحضارة الإسلامية؟

بالطبع: للموقف الإسلامي أبعاده في صميم العقيدة التي تحترم وتؤمّن بكل الأديان السماوية التي سبقتها، ولكن الحضارات، إنما هي ممارسة، كما هي قيم وتعاليم. وفي تلك الغزوة اتخذ النبي قراراً استأصل من خلاله كل إمكانيات نمو الاحقاد والضغائن، بإعلانه الزواج من (صفية) ابنة قائد اليهود الذي قُتل في تلك الحرب، وكان ألدّ أعداء المسلمين، و الذي سعى جهده في تكوين الحلف المعادي لغزو المدينة وإبادة المسلمين.

وهكذا تزوج رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو قائد الجيش المنتصر، يهودية أسيرة تبيح

ص: 279

له القوانين وأعراف ذلك العصر، بأن تكون جاريته يستنفع بها كيف شاء، لكن نرى أنه ينقلها من عبودية الأسر، إلى مرتبة الزوجة الحرة، وفي نفس ليلة المعركة، حتى لا يبيت الجيش المنتصر إلا وهو يسلّم على ابنة اليهودي (السلام عليكِ يا أم المؤمنين).

وبذلك؛ انتهت العداوة بانتهاء القتال، فلا تمييز ظالم، ولا جنس سيد، أو جنس مقهور، ولا شعب مختار، أو شعب ملعون... ابنة القائد اليهودي أصبحت أماً لكل المؤمنين، وفي معسكر المسلمين وفي بيت النبي (صلّى الله عليه وآله).

وكانت هناك أسيرة يهودية أخرى هي (ريحانة)، رفضت الإسلام وأصرت على يهوديتها، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يحب أن تُسلم حتى أنه كان إذا سمع صوت أقدام تسير نحوه قال:

لعل أحدهم جاء يبشرني بإسلام ريحانة.. إنها أسيرة في بيت قائد الجيش المنتصر، ثم تُصر على تحدي دعوته وتُصر على التمسك بيهوديتها، ولا يفكر النبي (صلّى الله عليه وآله) في إجبارها على التخلّي عن عقيدتها.

بل نجد أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لما رأى أسيرات اليهود وهن متغيرات، توجه إليهن وقال لهن: ما لكن هكذا؟

قلن: يا محمد (صلّى الله عليه وآله) إن هذا العبد - أي بلالاً - مرّ بنا على قتلانا.

فغضب النبي (صلّى الله عليه وآله) وتوجه إلى بلال قائلاً: (كأن الله نزع الرحمة من قلبك، أتمر بالنسوة على قتلاهن؟).

ونلاحظ في هذه القضية أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بنفسه يباشر تسلم الأسرى، بينما كان من الممكن أن يأمر غيره بتسلّمهم، كما هي العادة في كل حروب العالم قديماً وحديثاً - لأن الملوك والرؤساء ومن إليهم لا ينزلون إلى الميدان إلا نادراً - ثم إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يسأل عن سبب تغير حالتهن وعندما أجبن غضب النبي (صلّى الله عليه وآله) (رغم أنه من الطبيعي أن تمر الأسيرات على المعركة وعلى جثث قتلاهن).

ص: 280

وبهذا، أراد رسول الله صلى الله عليه وآله، الإشارة الى أنه لا يحق ذلك، فقال لبلال الكلمة الآنفة التي تقطر رقة وعطفاً وحناناً.

وينقل التاريخ: أن إحدى زوجات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرادت إهانة صفية، بعدما دخلت بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخذت تسأل عن كل واحدة من الزوجات: أنت بنت من..؟ وكان قصدها إيذاء صفية، عندما تجيب: أنا بنت حي بن أخطب، فتتذكر النسوة عداوة أبيها لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومحاربته للمسلمين، فاشتكت صفية إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تلك الزوجة فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إذا سألتك فقولي لها:

أبي موسى كليم الله، وعمي هارون نبي الله، و زوجي محمد رسول الله.

إذاً؛ من الضروري على التنظيمات الإسلامية الطامحة لتحقيق اهدافها، أن تكون مطبقة للمناهج الإسلامية على نفسها، لتثبت مصداقيتها أمام الناس، لا أن تقدم الصورة المعاكسة والمغايرة لما تتحدث عنه.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2 - 3).

وفي كلام للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له الناهين عن المنكر العاملين به)(1).

درس من أمير المؤمنين في تطبيق الإسلام

وفي آخر هذا الفصل ننقل كلاماً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلح أن يكون درساً لكل من يريد تطبيق الإسلام.

قال (عليه السلام): (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم

ص: 281


1- بحار الأنوار: ج66، ص87.

تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منها إلا كقوت أتان دبره، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة - أي مرة -.

بل كانت في أيدينا فدك، من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله.

وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعتها يد حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسد فرجها التراب المتراكم.

وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المنزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفىّ هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى (أي جائعة) وأكباد حرى (أي عطشانة) أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد

ءأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟

فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.

وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقرآن ومنازلة الشجعان! ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً، والنابتات العزية (الزرع الذي لا يسقيه ماء المطر) أقوى

ص: 282

وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها.

إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنبت الذهاب عن مداحضك، أين القرون الذين غررتهم بمداعبتك؟

أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ ها هم رهائن القبور، ومضامين اللحود، والله لو كنتِ شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليكِ حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفق، والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه، اغربي عني فوالله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني.

وأيم الله، يميناً استثني فيها بمشيئة الله، لأروضنّ نفسي رياضة تهش معه إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية! طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم جنوبهم، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)(1).

ولما كان هذا الكتاب موجهاً إلى عثمان بن حنيف واليه على البصرة حيث

ص: 283


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص12.

حضر مأدبة قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، ختم الإمام (عليه السلام) الكتاب بقوله: (فاتق الله يا بن حنيف، ولتكفك أقراصك، ليكن من النار خلاصك)(1).

وفي كلمة أخرى للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مذكورة في نهج البلاغة أنه (عليه السلام) قال: (إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره)(2) والتبيغ هو التهيج، أي لا يهيج به الألم.

عاشراً: التنافس السلبي

لابد أن يسود بين الأحزاب والمنظمات والجمعيات والقوى الإسلامية، تنافس إيجابي في العلم والعمل وبناء الحياة وجمع الكلمة ونحوها، لا أن يسود بينهم التنافس السلبي، وتتبع عثرات الآخرين، وإحصاء سلبياتهم وثغراتهم، لأن في هذا، انفضاض الناس من أطرافهم، كما أنهم لن يحققوا أهدافهم في التحرير والتقدم إلى الأمام.

وقد ورد في أحاديث كثيرة الترغيب إلى ذم النفس وانتقادها، وعدم ذكر عيوب الآخرين، بل ذكر مدائحهم ومحامدهم.

ولنذكر بعض الروايات الواردة بصدد لزوم الإنسان أن يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وإن الإنسان يلزم عليه الاشتغال بعيب نفسه عن عيوب الناس، وانه يلزم عليه أن يذم نفسه بدلاً عن ذم الآخرين.

وفي الحديث: جاء أعرابي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله علمني عملاً أدخل به الجنة فقال: (ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فإتهُ إليهم، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم)(3).

وفي حديث آخر، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أوحى الله إلى آدم إني سأجمع

ص: 284


1- المصدر السابق: ج3، ص75.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ج2، ص188.

لك الكلام في أربع كلمات - إلى أن قال -: وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك)(1).

وفي حديث، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم، ورجل لم يقدم رجلاً ولم يؤخر رجلاً حتى يعلم أن ذلك لله رضا، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب من نفسه، فإنه لا ينفي منه عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس)(2).

وفي رواية عن جابر الأنصاري قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مرّ بنا فوقف وسلم ثم قال: (مالي أرى حب الدنيا قد غلب على كثير من الناس؟ - إلى أن قال -: طوبى لمن شغله خوف الله عز وجل عن خوف الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه)(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كفى بالمرء عيباً أن يتعرف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه، أو يعيب على الناس أمراً هو فيه لا يستطيع التحول عنه إلى غيره، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه)(4).

وعن أبي ذر، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديث قال: قلت يا رسول الله أوصني؟

قال: (أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله).

قلت: زدني.

قال: (عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً).

ص: 285


1- الکافي: ج2، ص146.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص147.
4- المصدر السابق: ج8، ص169.

قلت: زدني.

قال: (عليك بطول الصمت).

قلت: زدني.

قال: (إياك وكثرة الضحك).

قلت: زدني.

قال: (عليك بحب المساكين ومجالستهم).

قلت: زدني.

قال: (قل الحق وإن كان مرّاً).

قلت: زدني.

قال: (لا تخف في الله لومة لائم).

قلت: زدني.

قال: (ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تأتي مثله).

ثم قال: (كفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال: يعرف من الناس ما يجهل من نفسه، ويستحي لهم مما هو فيه، ويؤذي جليسه بما لا يعنيه).

ثم قال: (يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)(1).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (إن موسى (عليه السلام) لما أراد أن يفارق الخضر (عليه السلام) قال: أوصني، فكان فيما أوصاه قال له: إياك واللجاجة، وأن تمشي في غير حاجة، وأن تضحك من غير عجب، واذكر خطيئتك، وإياك وخطايا الناس)(2).

وقال (عليه السلام): (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)(3).

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج68، ص150.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص230.
3- المصدر السابق.

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كان بالمدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت الله عن عيوبهم الناس فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم فتكلموا في عيوب الناس فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يعرفون بها إلى أن ماتوا)(1).

وعن الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أسرع الخير ثواباً البر، وإن أسرع الشر عقاباً البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه، وأن يعير الناس بما لا يستطيع تركه وأن يؤذي بما لا يعنيه)(2).

وقد قال الشاعر:

لسانك لا تبدي به سوأة أمرء *** فكلك سوآت وللناس ألسن

وعينك إن أهدت إليك معايب-اً *** من الناس قل: يا عين للناس أعين

ويقول شاعر آخر:

ومن هاب الرجال تهيب-وه *** ومن وهن الرجال فلن يهابا

وفي رواية الآمدي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الكيس من كان غافلاً عن غيره، ولنفسه كثير التقاضي)(3).

وقال (عليه السلام): (أفضل الناس من شغلته معايبه عن عيوب الناس)(4).

وقال (عليه السلام): (أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك)(5).

وقال (عليه السلام): (شر الناس من كان متتبعاً لعيوب الناس عمياً عن معايبه)(6).

ص: 287


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص82.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص232.
3- المصدر السابق.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص315.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وقال (عليه السلام): (عجبت لمن ينكر عيوب الناس، ونفسه أكثر شيء معاباً ولا يبصرها، عجبت لمن يتصدى لصلاح الناس ونفسه أشد شيء فساد أفلا يصلحها ويتعاطى إصلاح غيره)(1).

وقال (عليه السلام): (كفى بالمرء شغلاً بمعايبه عن معايب الناس)(2).

وقال (عليه السلام): (لا تتبعن عيوب الناس فإن لك من عيوبك - إن عقلت - ما يشغلك أن تعيب أحداً)(3).

ومر عيسى (عليه السلام) ذات مرة بكلب ميت قد تعفن جسمه فقال كل واحد من التلاميذ فيه كلاماً سيئاً، لكن عيسى (عليه السلام) قال: (أما أنا فأرى أسنانه البيضاء).

الاهتمام بانجازاتهم فقط من الواجب على التنظيمات الإسلامية، إنصاف الناس، فلا يجوز أن يضخّموا حسنات أنفسهم وانجازاتهم ويصغروا حسنات الناس، لا أن يشتغلوا بعيوب الناس وينسوا عيوب أنفسهم.

وفي روايات أن من أصعب الأشياء إنصاف الناس.

فعن الامام علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكر الله تعالى في كل حال)(4).

وفي حديث آخر، عن الصادق (عليه السلام) قال: (ثلاثة من حقائق الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسك، وبذل السلام لجميع العالم)(5).

ص: 288


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص316.
5- المصدر السابق: ص308.

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم).

قلنا: يا رسول الله ومن هم؟

قال: (الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم هم السابقون إلى ظل العرش)(1).

وفي رواية عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أنصف الناس من نفسك، وأنصح الأمة وارحمهم، فإذا كنت كذلك وغضب الله على أهل بلدة وأنت فيها وأراد أن يترك عليهم العذاب نظر إليك فرحمهم بك)(2).

وفي حديث: إن أحد الأئمة (عليهم السلام) ورد على أحد الحكام فقال له الحاكم: عظني، فقال له الإمام (عليه السلام): (الناس ثلاثة أصناف: فمنهم من هو أكبر منك سناً، ومنهم من هو في سنك، ومنهم من هو أصغر منك سناً، فاجعل الأكبر كأبيك، والأوسط كأخيك، والأصغر كابنك، فبرّ أباك، وارحم أخاك، وأحسن إلى ابنك).

وفي جملة من الأحاديث، هنالك تحريم إحصاء عثرات المؤمنين وعوراتهم لأجل تعييرهم بها.

فقد روي زرارة قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: (أقرب ما يكون العبد إلى الكفر: أن يكون الرجل مؤاخياً للرجل على الدين ثم يحفظ زلاته وعثراته ليعنفه بها يوماً)(3).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (من ستر عورة مؤمن ستر الله عز وجل عورته يوم القيامة، ومن هتك ستر مؤمن هتك الله ستره يوم القيامة)(4).

ص: 289


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص310.
4- المصدر السابق: ج1، ص379.

وعن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه: لا تطلبوا عورات المؤمنين، ولا تتبعوا عثراتهم، فإن من اتبع عثرة أخيه اتبع الله عثرته ومن اتبع الله عثرته فضحه ولو في جوف بيته)(1).

وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من يتبع عثرات أحد من المؤمنين ليفضحه بذلك فضحه الله ولو في بيته)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أحصى على أخيه المؤمن عيباً ليعيبه به يوماً كان من أهل هذه الآية، قال الله عز وجل: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) (النور: 19) )(3).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: (من أحصى على أخيه المؤمن عيباً ليشينه به ويهدم مروته فقد تبوء مقعده من النار)(4).

وفي رواية أخرى، عنه (عليه السلام) قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عير مؤمناً بشيء لم يمت حتى يرتكبه)(5).

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليه السلام) قالا: (إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) بأمه فقال: يا بن السوداء - وكانت أمه سوداء - فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (تعيره بأمه يا أبا ذر؟) قال: فلم يزل أبو ذر يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنه)(6).

ص: 290


1- المصدر السابق: ج9، ص109.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص110.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص111.بحار الأنوار: ج22، ص411.

من أخلاق الأنبياء

ورد عن عيسى (عليه السلام) أن جماعة من اليهود سبوه، فقال فيهم خيراً فقال تلاميذه: يا روح الله إنهم يسبّوك فتقول فيهم خيراً؟

قال: (نعم كل ينفق مما عنده).

وفي حديث أن رجلاً سأل النبي يعقوب (عليه السلام) لماذا تفضل ولدك يوسف على غيره من الأولاد مع أنهم أكبر منه سناً وأكثر قدرة؟

فقال يعقوب (عليه السلام): اصبر حتى يظهر ذلك لك، ثم دعا أحد الأخوة وقال له: إذا أساء إليك إنسان فماذا تفعل؟

قال: أقابله بالمثل، ثم دعا آخر وقال له مثل مقالته فأجاب كالأول، ثم دعا يوسف (عليه السلام) وقال له: إذا أساء إليك إنسان فماذا تفعل به؟

قال: أعفو عنه، قال: إذا أساء إليك مرة ثانية فماذا تعمل؟

قال: أعفو عنه.

قال: وإذا أساء إليك مرة ثالثة ماذا تعمل؟

قال: أعفو عنه.

فلما ذهب يوسف (عليه السلام) قال يعقوب (عليه السلام) لذلك الرجل:

لهذا السبب أفضله على غيره.

بل نجد في القرآن الحكيم أن الله سبحانه وتعالى يجعل القاتل أخاً لولي المقتول ويطلب منه العفو عنه فيقول سبحانه: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178).

وفي النصوص تحريض على العفو، قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13).

وفي آية أخرى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (البقرة: 109).

ص: 291

وقال علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: (ولا تندمنَّ على عفو، ولا تبجحن بعقوبة)(1).

وقال (عليه السلام): (أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة)(2).

بل ونجد في نهج البلاغة أن الإمام (عليه السلام) لما ضربه ابن ملجم أوصى به خيراً.

اضافة الى هذا؛ على الجماعات الاسلامية أن تتعلم من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، كيف تكون مثالاً للتلاحم والتواصل، لا التقاطع والتدابر..

ففي قصة، أن مسيحياً مرّ على المدينة المنورة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لغرض له، ثم ذهب إلى الروم، وكان ملك الروم يتفحص عن الذين يأتون من المدينة حتى يسأل عن أحوال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلما سمع بقدوم هذا الرجل طلبه وقال له:

هل رأيت محمداً (صلّى الله عليه وآله) ؟

قال: لا.

قال: هل سمعت من أخباره شيئاً؟

قال: لا، إلا خبراً واحداً وهو: إنه كان بين الأوس والخزرج - وهما قبيلتان عربيتان كبيرتان أسلمتا لرسول الله - حرباً دامت مائة سنة، ولما جاء محمد (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة جمع كلمتهما وآخى بينهما.

فلما سمع ملك الروم ذلك قال: إنه نبي، فإنه من أخلاق الأنبياء جمع الكلمة وإن من أخلاق الملوك تفريقها.

الرذائل تغذي التنافس المحموم

هنالك جملة من الرذائل والصفات المذمومة على لسان المعصومين عليهم

ص: 292


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص84.
2- بحار الأنوار: ج64، ص427.

السلام، من شأنها تغذية التنافس المحموم بين الاحزاب والجماعات السياسية، ومنها السفه الفحش في القول..

عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابّان، فقال: (البادئ منهما أظلم و وزره ووزر صاحبه عليه ما لم يتعدّ المظلوم)(1).

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا تسفهوا فإن أئمتكم ليسوا بسفهاء)(2).

وقال أبو عبدالله (عليه السلام): (من كافأ السفيه بالسفه فقد رضى بمثل ما أتى إليه حيث احتذى مثاله)(3).

وعن أحمد بن محمد البرقي، عن بعض أصحابه رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يكون السفه والغرة في قلب العالم)(4).

وعن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إن السفه خلق لئيم يستطيل على من دونه ويخضع من فوقه)(5).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه)(6).

وعن عيص بن القاسم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن أبغض خلق الله عبد اتقى الناس لسانه)(7).

ص: 293


1- وسائل الشيعة: ج11، ص325.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص326.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (شر الناس يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم)(1).

وعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (من خاف الناس لسانه فهو في النار)(2).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من علامات شرك الشيطان الذي لا يشك فيه أن يكون فحاشاً لا يبالي قال ولا ما قيل فيه)(3).

وعن أبي جميلة يرفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش)(4).

وعن الحسن الصيقل قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إن الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق)(5).

وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعائشة: (يا عائشة إن الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سوء)(6).

وعن سماعة قال: دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال لي مبتدئاً: (يا سماعة ما هذا الذي كان بينك وبين جمالك إياك أن تكون فحاشاً أو سخاباً أو لعاناً).

فقلت: والله لقد كان ذلك أنه ظلمني.

فقال: (إن كان ظلمك لقد أوتيت عليه، إن هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي، استغفر ربك ولا تعد).

قلت: استغفر الله ولا أعود(7).

ص: 294


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص327.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.

وعن جابر، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله يحب الحيي الحليم الغني المتعفف، ألا وإن الله يبغض الفاحش البذيء السائل الملحف)(1).

وعن الحسن الصيقل، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الحياء والعفاف والعي - أعني عي اللسان لا عي القلب - من الإيمان، والفحش والبذا والسلاطة من النفاق)(2).

وعن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال لا ما قيل له فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغيه أو شرك شيطان).

قيل: يا رسول الله وفي الناس شرك الشيطان؟

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أما تقرأ قول الله عز وجل: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)(3).

وعن أبي عبيدة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (البذاء من الجفا، والجفا في النار)(4).

وعن عمرو بن نعمان الجعفي قال: كان لأبي عبدالله (عليه السلام) صديق يكاد لا يفارقه... - إلى أن قال - فقال يوماً لغلامه: يا بن الفاعلة أين كنت؟

قال: فرفع أبو عبدالله (عليه السلام) يده الى وجهه وصك بها جبهته، ثم قال: (سبحان الله تقذف أمه، قد كنت أرى أن لك ورعاً، فإذا ليس لك ورع).

فقال: جعلت فداك إن أمه سندية مشركة.

فقال: (أما علمت أن لكل أمة نكاحاً تنحّ عني).

ص: 295


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص329.
4- بحار الأنوار: ج72، ص112.

فما رأيته يمشي معه حتى فرّق بينهما الموت(1).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم، فقال: الكف عنهم أجمل)(2).

وعن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يفتري على الرجل من جاهلية العرب، فقال: (يضرب حدّا)، قلت: يضرب حدّا؟ قال: (نعم إن ذلك يدخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )(3).

وعن أبي يعقوب السراج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها الناس إن البغي يقود أصحابه إلى النار)(4).

وعن مسمع أبي سيّار أن أبا عبد الله (عليه السلام) كتب إليه في كتاب: (انظر أن لا تكلّمن بكلمة بغي أبداً وإن أعجبتك نفسك وعشيرتك)(5).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: يقول إبليس لجنوده: (ألقوا بينهم الحسد والبغي فإنهما يعدلان عند الله الشرك)(6).

وعن ابن القداح، عن أبي عبدالله (عليه السلام): (إن أعجب الشر عقوبة البغي)(7).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن أسرع الخير ثواباً البر)(8).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) في وصيته لأصحابه قال: (وإياكم أن يبغي بعضكم

ص: 296


1- وسائل الشيعة: ج11، ص331.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص332.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق: ص333.

على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين فإنه من بغي صيَّر الله عليه بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بغي عليه، ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله)(1).

وعن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك، ورجل وصل قرابته فقطعوه)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لو بغى جبل على جبل لجعله الله دكاً، أعجل الشر عقوبة البغي، وأسرع الخير ثواباً البر)(3).

وفي رواية: دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز فأبى أن يبارزه، فقال له علي (عليه السلام): ما منعك أن تبارزه؟

فقال: كان فارس العرب وخشيت أن يغ-لبني، فقال: (إنه بغى عليك ولو بارزته لقتلته، ولو بغى جبل على جبل لهلك الباغي)(4).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): (عجباً للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة، ثم هو غداً جيفة)(5).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (آفة الحسب الافتخار والعجب)(6).

ص: 297


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص334.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وبهذا السند قال: أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجل فقال: يا رسول الله أنا فلان ابن فلان حتى عدّ تسعة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أما أنك عاشرهم في النار)(1).

وعن محمد بن حمران، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: (ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالأنساب، والطعن بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء)(2).

وعن إسماعيل بن ذبيان يرفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال: افتخر رجلان عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: (أتفتخران بأجساد بالية، وأرواح في النار، إن يكن لك عقل فإن لك خلقاً، وإن يكن لك تقوى فإن لك كرماً، وإلا فالحمار خير منك، ولست بخير من أحد)(3). وعن الحسين بن مختار رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من وضع شيئاً للمفاخرة حشره الله يوم القيامة أسود)(4).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (ما لابن آدم والفخر، أوله نطفة، وآخره جيفة، ولا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه)(5).

وعن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن الرجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر، وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب)(6).

وعن جراح المدايني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب)(7).

ص: 298


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص335.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص336.
6- المصدر السابق: ص292.
7- المصدر السابق.

وعن داود الرقي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً) (الحديث)(1).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر)(2).

وعن معاوية بن وهب قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (آفة الدين الحسد والعجب والفخر)(3).

وعن الفضيل بن عياض، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط)(4).

وعن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (يا علي أنهاك عن ثلاث خصال: الحسد والحرص والكبر)(5).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد) (الحديث)(6).

وعن الحسن بن علي بن فضال، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد)(7).

ص: 299


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص293.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص294.

قال: وقال (عليه السلام): (صحة الجسد من قلة الحسد)(1).

إلى غير ذلك مما يعطي درساً بليغاً لكل فرد فكيف بالمنظمة والتجمع والحزب ممن يريد أن يتقدّم الإسلام إلى الأمام؟

حادي عشر: محاربة العلماء

لعلماء الدين مكانة خاصة في القلوب واحترام كبير من قبل الناس، فاللازم على المنظمات والأحزاب والهيئات الإسلامية الطامحة إلى تحقيق الأهداف البعيدة المدى، مثل تطبيق حكم الله، وإنقاذ البشرية من ظلمات الجهل والمشاكل، أن لا يتقاطعوا مع علماء الدين، لأن معارضتهم تعني سقوطهم، لذا نرى في جملة من الأحزاب الإسلامية، أنها بعد أن تكبر ويقوى عودها، تتصور أنها قادرة على صنع كل شيء، وأنها وصلت إلى ما تريد، فتأخذ في ذم العلماء وإلصاق التهم الباطلة بهم، ومحاولة إبعاد الناس منهم.

نموذج حي

حزبٌ إسلامي في إحدى البلاد الإسلامية، تجاوز أعضاؤه الآلاف، فأخذ يهاجم العلماء في أدبياته، واجتماعاته، ويصفهم بأنهم (جامدون)، و(متخلفون)، و (لا يعملون للإسلام).. بينما يوجد في ذلك البلد أكثر من مائة ألف عالم في مساجده ومدارسه وسائر مرافقه الدينية، ومن الواضح إن هذا العمل يعود على نفس ذلك الحزب بالسوء، حيث إن أولئك العلماء لا يسكتون إزاء الاتهام والتهجم، ولنفرض أن كل واحد منم يصلي في ثلاثين نفر فقط، ويقوم هؤلاء الثلاثين برد التهجم على ذلك الحزب، فمعنى ذلك: أن ثلاثة ملايين في ذلك البلد يكونون أعداء لهذا الحزب، فهل يتمكن حزب يحتوي على مليون إنسان أن يقابل ثلاثة ملايين؟

ص: 300


1- المصدر السابق.

هذا فضلاً عن أن هذا النهج يسبب التمزق والتفرق في المجتمع والأمة، مما يوجب عدم تحقيق الاهداف المرجوة، كما حصل ذلك بالفعل، ولذا نرى أنه مضى على عمر ذلك الحزب مدة مديدة ولم يصل إلى شيء يذكر.

إن التهجم على العلماء عمل مخالف للإسلام أولاً؛ وعمل ينم عن الغرور ثانياً؛ ويسبب عدم النجاح والوصول إلى الهدف ثالثاً؛ ولذا فمن الضروري على الأحزاب والمنظمات والهيئات والجمعيات الإسلامية أن يتجنبوا هذا النهج، وبكل صرامة، مهما رأوا من التخلف والجمود في الجانب الآخر، فعلى فرض وجوده، فإن التخلف لا يرتفع بالسب والتهجم والاتهام والاستهزاء وما أشبه، وإن افترضنا وجود التخلف في جماعة، فاللازم الإرشاد إلى الطريق وبالتي هي أحسن.

قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).

خصائص العلماء

وتفرض هذه المسألة نفسها بإلحاح أكثر عندما نرى علماء الدين يتحصنون بثلاثة أمور:

أولاً:- الجماهيرية

فهم يتحركون بين الناس ، و يقدمون لهم الخدمات، وبحكم عمله ودوره، فان عالم الدين بين الناس باستمرار ، فهو يعقد لهم صيغة النكاح، ويصلي بهم، ويحضر مراسيم دفنهم، ومناسباتهم في الأفراح والأتراح، ولذا لا تجد عالماً غير جماهيري في بلد، إلا الشاذ والنادر، والشاذ النادر كالمعدوم - كما يقول العلماء -.

وقد رأينا كيف فشلت جميع المحاولات التي قام بها (شاه إيران الأول) ، حيث حارب العلماء وأبعدهم وسجنهم وقتلهم، ولكن لم يمض زمان إلا واسترجع العلماء دورهم، لما لهم من القاعدة الجماهيرية والمحبوبية بين الناس، بينما تم طرد (البهلوي) وحلّت عليه اللعنة إلى هذا اليوم.

ص: 301

وفي تركيا، نلاحظ أن (أتاتورك) حارب أيضاً العلماء، محاربة لا هوادة فيها، لكنه ذهب، فيما عاد علماء الدين إلى مواقعهم في الساحة.

إذاً: فمحاربة العلماء من بعض الشباب الإسلاميين الذين يحبون خدمة الإسلام، يُعد خطأ محضاً وعدم معرفة بالتاريخ.

ثانياً - النصوص الدينية بحقهم

وردت روايات عديدة بشأن احترام العلماء، وهي مذكورة في الكتب، وتذكر على المنابر، ومغروسة في أذهان المسلمين جميعاً، ولذا فكل جماعة أو فئة أو منظمة أو فرد يقوم بمهاجمة العلماء، سيتعرض للخسارة في الساحة الجماهيرية، حيث يرى المسلمون فيه الانحراف ومسايرة القوى الاستكبارية العالمية، لأن إبعاد الناس عن العلماء، من اهداف المستعمرين، وقد صرحوا بذلك مراراً، (بأنه ما دام العلماء موجودين بين المسلمين لن نتمكن من استعمارهم، فالواجب اتهامهم وأخذ زمام الأمور من أيديهم حتى نتمكن من تسيير المسلمين إلى حيث ما نريد) -.

وقد ارتكز في أذهان المسلمين ذلك، ولذا يرون: أن كل من يهاجم العلماء، بالضرورة في خط الاستعمار مهما برر تهجمه.

أما الروايات فهي كثيرة جداً ونذكر هنا بعضها على سبيل المثال:

فقد روى عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاء أيحل ذلك؟ قال (عليه السلام): (من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) (النساء: 60).

قلت: فكيف يصنعان؟

ص: 302

قال: (ينظر إن من كان منكم ممن قد روي حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله)(1).

وفي رواية أبي خديجة قال: بعثني أبو عبدالله (عليه السلام) إلى أصحابنا وقال: (قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدار في شيء من الأخذ والعطاء: أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)(2).

وروى الصدوق قال: قال علي (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (اللهم ارحم خلفائي - ثلاثاً - قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي)(3).

وعن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك - إلى أن قال -: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله)(4).

وفي رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل)(5).

ص: 303


1- وسائل الشيعة: ج18، ص99.
2- المصدر السابق: ص100.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص101.
5- بلغة الفقيه: ج3 ، ص229.

وفي رواية ثانية: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)(1).

وفي رواية عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من حكم بين اثنين فأخطأ في درهمين كفر، قال الله عز وجل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).

فقال رجل من أصحابنا: يا ابن رسول الله إنه ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في شيء فيتراضيان برجل منا؟

قال: هذا ليس من ذاك، إنما ذلك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)(2).

وعنه (عليه السلام) أنه قال يوماً لأصحابه: (إياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا عليه)(3).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: (ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله، وطاعتهم واجبة، ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم)(4).

وعن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في حديث: (والفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فع-لوا ذلك فاحذروهم على أديانكم)(5).

ص: 304


1- مستدرک الوسائل: ج17، ص320.
2- المصدر السابق: ص251.
3- المصدر السابق: ص312.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)(2).

وروى الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (العلماء حكام على الناس)(3).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة الواردة في مدح العلماء، مما يعمّق ويكرس احترام علماء الدين في نفوس المسلمين، باستثناء من عرفوا منه الانحراف، ومثل هذا ينفض عنه المسلمون بأنفسهم، ولا يعدونه عالماً حقيقةً.

ثالثاً - التاريخ النضالي

إن التاريخ حفظ، منذ عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والى اليوم، إن أكثر العلماء كانوا يجاهدون في سبيل الله، ويحاربون الضلال والجهل والكفر والفسق، وينشرون الدين في مشارق الأرض ومغاربها بألسنتهم وأقلامهم وسلوكهم، وإنهم ضحوا لأجل الإسلام.. فكم من عالم تعرّض للترحيل عن وطنه؟ وكم من عالم تعرّض للسجن والتعذيب؟ وكم من عالم أحرق وقتل وصُلب ؟ كل هذا يوجد المكانة الرفيعة والكبيرة لعلماء الدين، لما يقدمونه من تضحيات جسام في سبيل الإسلام.

شهداء الفضيلة

اشارة

ذكر العلامة الأميني (رحمه الله) في كتاب (شهداء الفضيلة)، عشرات من العلماء الذين وقفوا أمام الظلم والطغيان حتى قتلوا وشردوا وأحرقوا وسجنوا

ص: 305


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص316.
3- المصدر السابق: 321.

وعذبوا. وللإلماع إلى ذلك نذكر جماعة من العلماء الذين استشهدوا في هذا الطريق ، ممن ذكرهم في كتابه، أو في (طبقات أعلام الشيعة)، للشيخ آقا بزرك الطهراني (رحمه الله)، أو في (أعيان الشيعة) للسيد الأمين (رحمه الله) أو (روضات الجنات)، للسيد محمد باقر (رحمه الله)، أو غيرهم، وهم كما يلي:

1 - الناصر الكبير

الحسن بن علي الملقب ب(الأطروش) و(الناصر الكبير) الجد الأمي للشريف الرضي، خرج على الظلم والظالمين في بلاد الديلم أيام المقتدر العباسي، وحكم مدة ثلاث عشرة سنة، واستشهد.

2 - علي بن محمد بن إبراهيم

علي بن محمد بن إبراهيم المعروف بعلان أستاذ الكليني (رحمه الله) - صاحب الكافي ومن شيوخه الذين أكثر الرواية عنهم - كانت له صلة بصاحب الزمان (عج)، قتل في أيام الغيبة الصغرى.

3 - الحسن الأنطاكي

الحسن بن سليمان الأنطاكي من علماء مصر في القرن الرابع الهجري قتله حاكم مصر.

4 - بديع الزمان الهمداني

بديع الزمان الهمداني أحمد بن الحسين بن يحيى الكاتب المشهور والخطيب الذائع الصيت. كان من أصدقاء (الصاحب بن عباد) وكان صريحاً في الحق متكلماً منطقاً استشهد بالسم.

5 - علي بن عبد الله الحلاء

الحلاء علي بن عبد الله المعروف ب(الناشئ الصغير)، ولقب ب(الحلاء) لأن أباه كان يعمل حلية السيف، وعرف ب(الناشئ) لأنه ممن نشأ في فن الشعر

ص: 306

واشتهر به. كان يقطن مصر، وكان ينظم الشعر، ومن أشعاره قصيدته المعروفة المفتتحة بالبيت التالي:

بآل محمد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب

قتل حرقاً بالنار من قبل أعدائه.

6 - محمد بن هاني الأزدي

محمد بن هاني الأزدي المعروف ب(متنبئ الغرب) باعتباره من الأندلس الواقعة في غرب البلاد الإسلامية آنذاك، استشهد قتلاً أو خنقاً على خلاف بين المؤرخين في كيفية شهادته.

7 - أبو فراس الحمداني:

أبو فراس الحمداني العالم والشاعر المعروف الذي نقل عن الصاحب بن عباد أنه قال في حقه: (بدء الشعر بملك وختم بملك) - وقصد بهما امرؤ القيس وأبا فراس - ، وقد حارب الروم عدة مرات وأسروه مرتين وقتل شهيداً في سبيل الله سبحانه وتعالى.

8 - سعيد بن حمدان

سعيد بن حمدان الحمداني والد أبي فراس فقد قتل هذا أيضاً.

9 - علي بن الفرات

أبو الحسن علي بن الفرات قبض عليه وقتل في أيام الغيبة الصغرى.

10 - أبو الحسن التهامي:

أبو الحسن التهامي علي بن محمد العاملي الشامي، كان من العلماء والشعراء والأدباء في مفتتح القرن الخامس الهجري، ومن قصائده المعروفة:

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرار

ص: 307

أراد بنو العباس قتله فاختفى وجعل يجوب القرى والبلاد متنكراً فراراً من ظلمهم حتى دخل مصر فظفروا به وعرفوه واعتقلوه وأودعوه السجن وعذبوه عذاباً شديداً، ثم قتل في السجن سراً، وقد احتمل إنه قضى نحبه تحت التعذيب.

ومن جميل ما ينقل عنه: أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي.

فقيل له: بأي الأعمال.

فقال: بجملة أعمال منها قولي في الشعر

جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري

حيث كنت أرثي ولدي الذي مات وتألمت لموته كثيراً.

11 - ابن السكيت

ابن السكيت الذي قتله الخليفة العباسي بشق قفاه وإخراج لسانه من خلفه، مما سبب موته.

12 - ثابت بن أسلم

ثابت بن أسلم النحوي، من نوابغ الأدب وعلماء حلب، كان جريئاً في الصدع بالحق، تولى خزانة الكتب بحلب، حمل إلى مصر وقتل صلباً.

13 - أبو القاسم القزويني

أبو القاسم الشيخ عبد الكريم القزويني كان من العلماء البارزين وكان صادعاً بالحق، قتله الملاحدة في القرن الخامس الهجري.

14 - أبو الحسين الكاتب

أبو الحسين بن طرخان أحمد بن محمد الكندي المعروف ب(الكاتب) كان صادعاً بالحق ومناهضاً للباطل يقول الحق ويستقيم عليه، قتلوه.

ص: 308

15 - الحسن بن المفضل

الحسن بن مفضل بن سهلان، تولى الوزارة لسلطان الدولة الديلمي، وقتل في سبيل الله، وهو الذي بنى سور الحائر الحسيني في كربلاء.

16 - عبد الواحد الطبري

أبو المحاسن عبد الواحد بن اسماعيل، كان من كبار العلماء في أواخر القرن الرابع الهجري، وتتلمذ عليه القطب الراوندي وكثيرون، عمد إلى ثورة فكرية تصحيحية في الإسلام، قتل غيلة وله من العمر فوق الثمانون.

17 - الفتال النيسابوري:

الفتال الشيخ محمد بن الحسن الواعظ النيسابوري صاحب كتاب (روضة الواعظين) وغيره، استشهد في سبيل الله على أثر جرأته في الصراحة بالحق.

18 - ابن القطب الراوندي

الحسين بن قطب الراوندي قتل في سبيل الله من أجل مناهضته للضلال وصموده للحق.

19 - الحسين بن علي الطغرائي

الطغرائي الحسين بن علي، من أحفاد أبي الأسود الدؤلي، كان عالماً فاضلاً شاعراً مجيداً، تولى الوزارة مدة، ثم لصموده بالحق ومواقفه قتل ظلماً عام خمسمائة وسبعة عشر وقد بلغ الخامسة والسبعين من عمره.

20 - أمين الإسلام الطبرسي

أمين الإسلام الطبرسي الفضل بن الحسن بن الفضل، صاحب تفسير (مجمع البيان) وغيره من الكتب المفيدة، كان يعيش في جو مختلف من الأديان والمذاهب، وكان طوداً في العلم، بطلاً في الإيمان صامداً في ذات الله. استشهد ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وحمل نعشه إلى مشهد الرضا (عليه السلام) ودفن هناك.

ص: 309

21 - يحيى بن أبي الفضل

السيد أبو القاسم يحيى بن أبي الفضل شرف الدين الذي ينتهي نسبه إلى الامام زين العابدين (عليه السلام)، كان من أفاضل العلماء، عارضه الملك خوارزم شاه وقتله بالسيف.

22 - الشهيد الأول

الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الذي لا تزال كتبه وفتاواه وآراءه تدار في الحوزات العلمية في الفقه والأصولين، والحديث وغيرها. جاهد في الله حق جهاده حتى استبيح دمه فقتل وصلب وأحرق بالنار في قلعة دمشق عام سبعمائة وست وثمانين وله من العمر اثنان وخمسون سنة.

23 - الشهيد الثاني

زين الدين العاملي، تالي الشهيد الأول في المكرمات والفضيلة والكتب والفتاوى و(شرح اللمعة) و(اللمعة) لهذين الشهيدين مدار البحث من زمانهم إلى هذا اليوم، وكان مجاهداً في سبيل الله حتى ضاق به حكام لبنان وحكام الروم، وبحثوا عنه تحت كل حجر ومدر، وأخذوه في أيام الحج فقتل على ساحل البحر، وأهدي رأسه إلى ملك الروم، وترك جسده الشريف على الأرض.

24 - الشهيد الثالث

الشهيد الثالث الذي هو لقب جماعة من العلماء الأبرار الذين استشهدوا في سبيل الله ومن اجل الصمود للحق، ومن جملتهم: شهاب الدين التستري الخراساني، كان من أجلة العلماء أيام دولة السلطان طهماسب، هجم الأزبكية على خراسان واستأسروا شهاب الدين وأخذوه إلى ما وراء النهر وعذبوه وآذوه وسجنوه ثم قتلوه بالخناجر والمدى وأحرقوا جسده الشريف في ميدان بخارى.

25 - المحقق الكركي

المحقق الكركي نور الدين علي بن عبد العال العاملي المعروف بالمحقق

ص: 310

الثاني الغزير العلم صاحب الفضل الكبير، وكان في عهد الملك الصفوي وتولى شؤون السياسة للبلاد وإدارة العباد، وكان أمر المحقق الكركي نافذاً على الناس فوق أمر الملك، وكان الملك يعد ه من عماله وولاته، دس الأعداء إليه السم غيلة فمات على أثر ذلك مسموماً.

26 - القاضي نور الله التستري

السيد القاضي نور الله التستري المعروف، تولى القضاء في الهند، وكان مجاهداً صامداً حتى قتل في سبيل الله شهيداً، وكيفية قتله كما ذكرها المؤرخون: أنهم جردوه من ثيابه وضربوه بالسياط الحديدية الشائكة حتى تقطعت أعضاؤه واختلط لحمه بدمه.

27 - الشيخ علي العاملي

الشيخ علي الحر العاملي جد صاحب الوسائل وصهر الشيخ حسن صاحب المعالم، ومن أحفاد الحر بن يزيد الرياحي المقتول مع الحسين (عليه السلام) يوم كربلاء. كان عالماً زاهداً بطلاً صامداً في دين الله مجاهداً، دسوا إليه السم فمات على أثره.

28 - السيد نصر الله الحائري

السيد نصر الله الحائري العالم المدرس الشاعر المعروف في الروضة الحسينية بكربلاء المقدسة، كان مجاهداً في سبيل الله حتى قتل عام ألف ومائة وأربع وخمسين.

29 - الشيخ صالح الحسيني

الشيخ صالح الحسيني، من علماء لبنان وتلامذة آية الله السيد مهدي بحر العلوم. كان مجاهداً في سبيل الله صامداً صادعاً بالحق مزاولاً للأمور العامة حتى قتل صابراً محتسباً، قتله أحمد باشا المعروف ب(الجزار).

30 - عبد الصمد الهمداني

المولى عبد الصمد الهمداني الحائري، كان من تلامذة الوحيد البهبهاني

ص: 311

وصاحب الرياض، وكان مجاهداً في سبيل الله عاملاً لرفع راية الإسلام حتى قتل عند باب داره في فتنة الوهابية واستباحتهم لمدينة كربلاء المقدسة، التي قتل فيها الألوف من المؤمنين والأخيار وفيهم العشرات من العلماء الفضلاء أمثال الشيخ محمد، والشيخ عين علي، والسيد صادق وغيرهم .

وقد ذكر جملة من المؤرخين أن الوهابيين قتلوا في هذه الفتنة ثمانية عشر ألف إنسان.

31 - الميرزا محمد باقر الشيرازي

الميرزا محمد باقر الشيرازي تلميذ الإمام المجدد الشيرازي، ومن شهداء نهضة (المشروطة) في إيران، كان يزاول الأمور العامة، يأمر وينهى ويكافح أعداء الإسلام حتى قتل في شيراز.

32 - الشيخ فضل الله النوري:

الشيخ فضل الله النوري تلميذ الإمام المجدد الشيرازي وابن أخت العلامة المحقق الميرزا حسين النوري صاحب (مستدرك الوسائل) وصهره، قام بثورة تصحيحية للمشروطة البريطانية حيث قال: (إنا نريد مشروطة مشروعة، لا مشروطة تخرج من قدر بريطانيا)، لذا قتلوه شر قتلة صلباً وبعد ذلك أخذوا يدوسون على جسمه حتى تلطخ جسمه الشريف بالدماء الغزيرة، ونقل إلى قم حيث دفن فيها.

33 - المجدد الكبير

السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي الذي حارب الانكليز حينما أرادوا الدخول في إيران باسم (تجارة التبغ)، حرم استعمال التبغ وسبب ذلك إخراجهم من إيران في قصة مشهورة، فدس البريطانيون إليه السم فمات من أثر ذلك.

34 - الآخوند الخراساني

الشيخ محمد كاظم الخراساني الآخوند، صاحب الكفاية والكتب الاخرى

ص: 312

التي هي مدار البحث والدرس في الحوزات العلمية من زمانه إلى هذا اليوم. حارب الاستبداد في إيران وأراد إرساء حكم (المشروطة المشروعة) حتى تمكن من طرد الملوكية الجائرة، دس إليه أحد أعوانهم السم على يد أحد خدمه وقتل مسموماً.

35 - الشيخ محمد تقي الشيرازي

الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي أعلن وجوب مطاردة الاستعمار في العراق، وشكل أول حكومة إسلامية فيها، حارب الإنكليز على قوتهم العظيمة حتى تمكن من طردهم من العراق، وانتزع استقلال العراق منهم بالقسر.

.. إلى غيرهم من العلماء الكثيرين الذين دونت أسماؤهم في التاريخ.

علماء مجاهدون

أما العلماء الذين لم يقتلوا ممن حاربوا الكفر والطغيان سواء في أيام الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين أو في أيامنا فهم كثيرون جداً، ونذكر منهم بالنسبة إلى هذه الفترة الأخيرة:

السيد محمد المجاهد الذي تحرك في العراق إلى إيران لمحاربة روسيا الطاغية التي أرادت غزو إيران، وهدم الإسلام واستعمار ديار المسلمين، ولذا لقب ب(المجاهد).

وكذا، الشيخ النراقي، والسيد نور الله صاحب كتاب (العقل والقرآن)، والسيد أبو الحسن الأصفهاني - المرجع الديني المعروف -، والشيخ ميرزا حسين النائيني، والسيد ميرزا علي الشهرستاني، والسيد محمد علي الطباطبائي، والمرجع الديني السيد حسين القمي، الذي حارب (البهلوي الأول) وأخرج من إيران الى العراق .

والمرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي حارب الاستعمار الفرنسي وأفتى ضدها حتى أُخرج من لبنان إلى مصر وكاد أن يقتل، وأحرقت

ص: 313

مكتبته التي كانت تضم نفائس الكتب. وأيضاً المرجع الديني السيد حسين البرجرودي، الذي قاوم الظلم والطغيان في إيران مرتين: مرة أيام (البهلوي الأول)، حتى حُكم عليه بالإعدام، ونجا بفضل الله سبحانه وتعالى ومرة في أيام المد الشيوعي -.

إلى غيرهم من العلماء الكثيرين سابقاً ولاحقاً.

ولهذا السبب نرى شدة تعلق المسلمين بعلمائهم في كل الأقطار الإسلامية حيث رأوا منهم على امتداد الخط، نشر الإسلام والفضيلة والتقوى، ومحاربة الانحراف والفسق والعصيان والكفر والاستعمار. من هنا؛ فان محاربة علماء الدين والتهجم عليهم، لا يولد ضرراً وخسارةً، إلا على المتهجم نفسه، حيث ينفض الناس من حوله.

نسأل الله أن يوفقنا لجمع الكلمة وما ذلك على الله بعزيز.

ثاني عشر: التجارب الفاشلة

وردت كلمة (الحزب) في القرآن الحكيم تارة بعنوان (حزب الله) وتارة بعنوان (حزب الشيطان)، فقد قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة: 54 - 56).

وقال سبحانه: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: 53).

كما قال سبحانه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة: 19).

ص: 314

وقال سبحانه: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب: 20)، إلى غيرها من الآيات:

ولكن:

1 - كون غالب الأحزاب التي ظهرت في البلاد الإسلامية كانت مرتبطة بالاستعمار وكانت خلاف الإسلام كالحزب الشيوعي، والحزب القومي، والحزب البعثي، والحزب الديمقراطي، والحزب الوجودي وغيرها من الاسماء.

2 - وكون غالب الأحزاب الإسلامية أساءت التصرف في كثير من الأحيان..

لذلك كله، اختلطت (الحزبية) في نظر كثير من المسلمين بالصورة التي شاهدوها، وصار ذلك سبباً في كراهية كثير من المسلمين للأحزاب والممارسات الحزبية، وتطلعهم إلى نظام يخلو من الأحزاب، يسود فيه الوفاق والوئام.

الأحزاب بين السلب والإيجاب

لكن؛ يجب أن نعلم أن الحزب له جانبان: إيجابي، يتمثل في كونه مدرسة سياسية لتربية الأمة، وحقل عملي لتطبيق مبادئ الشورى ، إذا ما تحرك في الإطار الإسلامي، وسار على الطريق المؤدي الى إلى المرجعية الدينية.

أما الجانب السلبي فهو: إنها ارتبطت في أذهان المسلمين بالتفرقة والتناحر وشق الصفوف وما أشبه.

ورغم وجود هذه المساوئ، لا يمكننا عضّ غضّ النظر عن المحاسن والإيجابيات، بل يجب إفراغ الأحزاب من المساوئ، بربطها بالمرجعية الدينية التي هي الإطار الشرعي الصحيح والموصى به من قبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام). ولذا ذكرنا في موضع آخر: إن الصيغة الصحيحة للحكومة الإسلامية هي حكومة المراجع الفقهاء والتي ترتبط بها الأحزاب الإسلامية.

ص: 315

وحيث إن هذه النظرة السلبية علقت بأذهان الكثير من المسلمين، فمن الضروري على القائمين على الأحزاب الإسلامية، أن يهتموا غاية الاهتمام لمحو هذه الصورة، وإرجاع الحزب إلى الخط المستقيم، فالحزبية مثلها مثل إنسان ساءت سمعته بتصرفات سيئة، فإذا أراد تحسين سمعته، عليه أن يبذل جهوداً مضاعفة.

وعليه فمن الضروري على الأحزاب الإسلامية الاهتمام لإستفادة الأخوان والأصدقاء، وقبول العتاب، والاستشارة الدائمة، وذكر محاسن الناس، وإشراك الناس في الرأي، وعدم تتبع عثرات الآخرين، إلى غير ذلك.

ص: 316

الباب الثاني: البديل الحضاري

اشارة

ص: 317

ص: 318

الفصل الأول: الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) .. النموذج الأمثل

اشارة

من الضروري على القيادة - الجماعية طبعاً- التي تريد إنقاذ العالم في العصر الحاضر، أن تتصف بالصفات التي نجدها عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهي قبسٌ من الفضائل والمحاسن والخصال الحميدة، فإنه (صلّى الله عليه وآله) بمثل هذه الصفات تمكن من إنقاذ البشرية من الجاهلية الأولى، التي كانت سائدة في كل مكان بالعالم، سواءً في الجزيرة العربية، أو في دولتي الفرس والروم .

وسنذكر هنا بعض صفاته (صلّى الله عليه وآله):

أولاً: دماثة الخُلق

كان النبي (صلّى الله عليه وآله) أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم.

وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا خطب حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: (يا معشر المسلمين، ان أفضل الهدى هدى محمد (صلّى الله عليه وآله) وخير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)(1).

وكان يرفع صوته، فتحمّر وجنتاه، ويذكر الساعة وقيامها، حتى كأنه منذر جيش.

وعن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): (إن المساكين كانوا يبيتون

ص: 319


1- بحار الأنوار: ج16، ص224.

في المسجد على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأفطر النبي (صلّى الله عليه وآله) مع المساكين الذين في المسجد ذات ليلة عند المنبر في برمة (7) فأكل منها ثلاثون رجلاً، ثم ردت إلى أزواجه شبعهن)(1).

وعن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن رجلاً من الأنصار أهدى إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صاعاً من رطب، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للخادمة التي جاءت به: أدخلي فانظري هل تجدين في البيت قصعة أو طبقاً فتأتيني به؟ فدخلت ثم خرجت إليه فقالت: ما أصبت قصعة ولا طبقاً، فكنس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بثوبه مكاناً من الأرض، ثم قال لها: ضعيه ها هنا على الحضيض)(2).

وعن هشام وغيره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما كان شيء احب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أن يظل خائفاً جائعاً في الله عز وجل)(3).

وعن أنس بن مالك قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مر على صبيان فسلم عليهم وهو مغذ(4).

وعن أبي ذر قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكاناً من طين، وكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه(5).

وسئلت عائشة ما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يصنع إذا خلا؟ قالت: يخيط ثوبه ويخصف نعله ويصنع ما يصنع الرجل في أهله.

وعنها أنها قالت: أحب العمل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الخياطة(6).

ص: 320


1- المصدر السابق.
2- کنز العمال: ج13، ص691.
3- مستدرک الوسائل: ج8، ص460.
4- وسائل الشيعة: ج8، ص516.
5- مستدرک الوسائل: ج12، ص324.
6- البرمة: القدر من الحجر.

وعن ابن مسعود قال: أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) رجل يكلمه فأرعد فقال: هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد(1).

وعن أنس بن مالك قال: خدمت النبي (صلّى الله عليه وآله) تسع سنين فما أعلمه قال لي قط هلا فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئاً قط(2).

وعن أبي سعيد الخدري يقول: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّياً لا يُسأل شيئاً الا أعطاه(3).

وعن جابر بن عبد الله قال: غزا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شاهدت منها تسعة عشر وغبت عن اثنتين فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحتي بالليل فبرك، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في آخرنا في آخريات الناس فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم، فانتهى إليّ وأنا أقول يا لهف أمياه وما زال لنا ناضح سوء.

فقال: من هذا؟

فقلت: أنا جابر بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

قال: ما شأنك؟.

قلت: أعيا ناضحي.

فقال: أمعك عصا؟

فقلت: نعم.

فضربه ثم بعثه، ثم أناخه ووطئ على ذراعه وقال: اركب فركبت فسايرته فجعل جملي يسبقه فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة فقال لي: ما ترك عبد الله من الولد يعني أباه.

ص: 321


1- بحار الأنوار: ج16، ص219.
2- مستدرک الوسائل: ج16، ص226.
3- الکافي: ج8، ص163.

قلت: سبع نسوة.

قال: أبوك عليه دين؟

قلت: نعم.

قال: فإذا قدمت المدينة فقاطعهم فإن أبوا فإذا حضر جذاذ نخلكم فأذني.

وقال: هل تزوجت؟

قلت: نعم.

قال: بمن؟

قلت: بفلانة بنت فلان بأيم كانت بالمدينة.

قال: فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟

قلت: يا رسول الله كنّ عندي نسوة خرق يعني أخواته، فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء، فقلت: هذه أجمع لأمري.

قال: أصبت ورشدت.

ثم قال: بكم اشتريت جملك؟

فقلت: بخمس أواق من ذهب.

قال: قد أخذناه.

فلما قدم المدينة أتيته بالجمل، فقال: يا بلال أعطه خمس أواق من ذهب يستعين به في دين عبد الله وزده ثلاثاً واردد عليه جمله.

قال: هل قاطعت غرماء عبد الله؟

قلت: لا يا رسول الله.

قال: أترك وفاءً.

قلت: لا.

ص: 322

قال: لا عليك إذا حضر جذاذ نخلكم فأذني فأذنته فجاء فدعا لنا فجذذنا واستوفى كل غريم كان يطلب تمراً وفاءً وبقي لنا ما كنا نجذ وأكثر، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ارفعوا ولا تكيلوا، فرفعناه وأكلنا منه زماناً(1).

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا حدث الحديث أو سأل عن الأمر كرره ثلاثاً ليفهم ويفهم عنه(2).

وروي عن زيد بن ثابت قال: إن النبي (صلّى الله عليه وآله) كنا إذا جلسنا إليه أن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(3).

البشاشة واللطافة

كان (صلّى الله عليه وآله) كثير التبسّم، مع كثرة مهامه ومشكلاته، حتى عدّوا من أسمائه (صلّى الله عليه وآله): (الضحوك).

كما كان (صلّى الله عليه وآله) حسن الخلق، مع كثرة همومه.

وروي أن رجلاً اعترض النبي (صلّى الله عليه وآله) يسأله فصاح به الناس، فقال: دعوا الرجل أرب ماله(4).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخل يهودي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): عليك.

ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فردّ عليه كما ردّ على صاحبه.

ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فرد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما رد على صاحبه.

ص: 323


1- مستدرک الوسائل: ج8، ص364.
2- بحار الأنوار: ج16، ص229.
3- المصدر السابق: ص230.
4- المصدر السابق: ص229.

فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا أخوة القرود والخنازير.

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شانه(1).

وفي حديث أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يأتيه الأعرابي فيأتي إليه له بالهدية، ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا اغتم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية.

قال: ولم يبسط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده(3).

قال أنس: مات نغير لأبي عمير وهو ابن لام سليم،- النغير طائر يشبه العصفور- فجعل النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: يا أبا عمير ما فعل النغير؟

وكان حادي بعض نسوته خادمه (أنجشة) فقال (صلّى الله عليه وآله) له: يا أنجشة أرفق بالقوارير. وفي رواية: لا تكسر القوارير (تشبهاً للنساء بالزجاج)(4).

وكان له (صلّى الله عليه وآله) عبداً أسوداً في سفر، فكان كل من أعيا ألقى عليه بعض متاعه حتى حمل شيئاً كثيراً، فمر به النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: أنت سفينة، فأعتقه.

وقال رجل: احملني يا رسول الله فقال: إنا حاملوك على ولد ناقة فقال: ما أصنع بولد ناقة؟ قال (صلّى الله عليه وآله): وهل يلد الإبل إلا النواق؟

ص: 324


1- المصدر السابق: ص230.
2- المصدر السابق.
3- بحار الأنوار: ج16، ص 233.
4- المصدر السابق: ص234.

واستدبر (صلّى الله عليه وآله) رجلاً من ورائه وأخذ بعضده وقال: من يشتري هذا العبد؟ يعني أنه عبد الله.

وقال (صلّى الله عليه وآله) لاحد: لا تنس يا ذا الأذنين(1)!

وعن زيد بن اسلم، أنه (صلّى الله عليه وآله) قال لامرأة – وقد ذكرت زوجها: أهذا الذي في عينيه بياض؟ فقالت: لا ما بعينيه بياض، وحكت لزوجها فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادهما؟

ورأى (صلّى الله عليه وآله) جملاً عليه حنطة فقال: تمشي الهريسة(2).

عن ابن عباس: أنه (صلّى الله عليه وآله) كسى بعض نسائه ثوباً واسعاً فقال لها: إلبسيه واحمدي الله وجرّي منه ذيلاً كذيل العروس(3).

وقالت عجوز من الأنصار للنبي (صلّى الله عليه وآله): ادع لي بالجنة، فقال (صلّى الله عليه وآله): إن الجنة لا يدخلها العجز، فبكت المرأة فضحك النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم قال: أما سمعت قول الله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً) (الواقعة: 35 - 36).

وقال (صلّى الله عليه وآله) للعجوز الأشجعية: يا أشجعية لا تدخل العجوز الجنة، فرآها بلال باكية، فوصفها للنبي (صلّى الله عليه وآله) فقال والأسود كذلك، فجلسا يبكيان، فرآها العباس فذكرهما له، فقال: والشيخ كذلك، ثم دعاهم وطيب قلوبهم، وقال: يُنشئهم الله كأحسن ما كانوا وذكر أنهم يدخلون الجنة شباناً منورين وقال: إن أهل الجنة جُرد، مُرد، مكحلون.

وقال (صلّى الله عليه وآله) حين قال رجل شعراً:

أنت نبي الله حقاً نعلمه *** ودينك الإسلام ديناً نعظمه

نبغي مع الإسلام شيئاً نقضمه *** ونحن حول ديننا ندندن

ص: 325


1- المصدر السابق: ص234.
2- المصدر السابق: ص187.
3- الحدائق الناظرة: ج9، ص71.

قال: يا علي أقض حاجته فأشبعه علي (عليه السلام) وأعطاه ناقة وجلة، وتمر(1).

و (ندندن)، من (الدندنة)، وهي كلام تسمع نغمته ولا يفهم.

وجاء أعرابي فقال: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بلغنا أن المسيح - يعني الدجال- يأتي الناس بالثريد، وقد هلكوا جميعاً جوعاً، أفترى بابي أنت وأمي أن أكف من ثريده تعففاً وتزهداً، فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثم قال: بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين(2).

ورأى صهيباً يأكل تمراً، فقال (صلّى الله عليه وآله): أتأكل التمر وعينك رمدة، فقال يا رسول الله إني أمضغه من هذا الجانب وعيني تشتكي من هذا الجانب(3).

ونهى (صلّى الله عليه وآله) أبا هريرة عن المزاح فسرق نعل النبي (صلّى الله عليه وآله) ورهنه بالتمر وجلس بحذائه (صلّى الله عليه وآله) يأكل، فقال (صلّى الله عليه وآله): يا أبا هريرة ما تأكل، فقال: نعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقال: سويبط المهاجري لنعيمان البدري: أطعمني، وكان على الزاد في سفر، فقال: حتى نجيء الأصحاب، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر، فإن سمعتم مقاله تفسدوا عليّ عبدي فاشتروه بعشرة قلائص ثم جاؤوا فوضعوا في عنقه حبلاً، فقال نعيمان: هذا يستهزئ بكم وإني حر، فقالوا: قد عرفنا خبرك وانطلقوا حتى أدركهم القوم وخلصوه فضحك النبي (صلّى الله عليه وآله) من ذلك حيناً (لما سمع الخبر)(4).

ورأى نعيمان مع أعرابي عكة عسل فاشتراها منه، وجاء بها إلى بيت عائشة في يومها وقال: خذوها يظهر للنبي (صلّى الله عليه وآله) أنه أهداها له، ومرّ نعيمان والأعرابي على الباب، فلما طال قعوده قال: يا هؤلاء ردوها إن لم تحضر قيمتها، فظهرت

ص: 326


1- وسائل الشيعة: ج8، ص477.
2- المصدر السابق: ص499.
3- بحارالأنوار: ج16، ص294.
4- المصدر السابق.

لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) القصة فوزن له الثمن، وقال لنعيمان: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحب العسل، ورأيت الأعرابي معه العكة، فضحك النبي (صلّى الله عليه وآله) ولم يظهر له نكراً(1).

وروي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يقول (إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً)(2).

وعن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: سألت خالي هنداً عن صفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ فقال: إذا كان غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه وكان جل ضحكه التبسّم(3).

يعمل أجيراً وزارعاً وراعياً

استأجرت خديجة النبي (صلّى الله عليه وآله) على أن تعطيه بكرين ويسير مع غلامها «ميسرة» إلى الشام.

وعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ب- «مر الظهران» يرعى الغنم، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه.

قالوا: ترعى الغنم..؟!

قال (صلّى الله عليه وآله): نعم، وهل نبي إلا رعاها(4).

وقال عمار ابن ياسر (رضي الله عنه) كنت: أرعى غنيمة أهلي، وكان محمد (صلّى الله عليه وآله) يرعى أيضاً، فقلت: يا محمد هل لك في (فخ) فإني تركتها روضة برق؟ قال: نعم فجئتها من الغد وقد سبقني محمد (صلّى الله عليه وآله) وهو قائم يذود غنمه عن الروضة. قال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك(5).

ص: 327


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص295.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص296.

حسن العهد

روي: أن عجوزاً دخلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) فألطفها، فلما خرجت سألته عائشة عنها فقال: (إنها كانت تأتينا في زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان)(1).

وعن أبي الحميساء قال: (بايعت النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يُبعث فواعدنيه مكاناً فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث، فقال (صلّى الله عليه وآله): يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام!)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعد رجلاً إلى الصخرة فقال: أنا لك ها هنا حتى تأتي، قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله لو إنك تحولت إلى الظل، قال: وعدته إلى ها هنا وإن لم يجيء كان منه المحشر...)(3).

كرمه وتيسيره الأمور للناس

وكان (صلّى الله عليه وآله) أكرم الناس كفاً وكان يؤثر غيره على نفسه فيبيت جائعاً ليطعم غيره وقد قالت عائشة: كنا نأكل الأسودين (أي الماء والتمر) ونطعم الناس الأحمرين (أي الخبز واللحم).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أقبل إلى (الجعرانه) فقسم فيها الأموال وجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجؤوه إلى الشجرة فأخذوا برده وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها وهم يسألونه فقال: أيها الناس والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً(4).

ص: 328


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص298.
4- المصدر السابق.

ولقد كان (صلّى الله عليه وآله) يجيز الرجل الواحد بالمائة من الإبل(1).

وقال أعرابي: إن محمداً (صلّى الله عليه وآله) يعطي عطاء من لا يخاف الفقر(2).

وفي رواية حول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه كان قد اقتدى بالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فكان يجلس جلسة العبد، ويأكل أكلة العبد، ويطعم الناس خبز البر واللحم، ويرجع إلى أهله فيأكل الخبز والزيت، وإن كان ليشتري القميص السنبلاني ثم يخير غلامه خيرهما ثم يلبس الباقي، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا جاز كعبه حذفه، وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضاً إلا أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد ولي (صلّى الله عليه وآله) الناس خمس سنين فما وضع أجرة على أجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعة، ولا أورث بيضاء ولا حمراء إلا سبع مائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع لأهله بها خادماً(3).

وقد كان (عليه السلام) مديوناً لما استشهد بثمانمائة ألف درهم.

وفي حديث أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يحمّل الناس من خلفه ما يطيقون(4).

وقد ورد في الحديث أنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفته)(5).

وروي: أن رجلاً أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه.

قال الراوي: فقلت: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه.

قال: فكره النبي (صلّى الله عليه وآله).

ص: 329


1- المصدر السابق: ص226.
2- المصدر السابق: ص277.
3- المصدر السابق: ص118.
4- المصدر السابق: ص278.
5- بحار الأنوار: ج16، ص188.

فقال الرجل: أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً.

قال: فتبسم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعرف السرور في وجهه(1).

وعن أنس قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أشجع الناس وأحسن الناس وأجودهم.

وقال: فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت قال: فتلقاهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد سبقهم وهو يقول: (لن تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف(2).

وعن جرير بن عبد الله قال: لما بعث النبي (صلّى الله عليه وآله) أتيته لأبايعه، فقال لي: يا جرير لأي شيء جئت؟

قال: قلت: جئت لأسلم على يديك يا رسول الله.

فألقى لي كساءه، ثم اقبل على أصحابه فقال: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)(3).

وعن عمار بن حيان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سرّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثم اقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت، ثم جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟ فقال: لأنها كانت أبرّ بوالديها منه(4).

عبادته وتعاهده لعبادة أصحابه

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله و أبي جعفر (عليهما السلام) قالا: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورمت، فأنزل الله تعالى: (طه) (طه: 1)،

ص: 330


1- مستدرک الوسائل: ج6، ص423.
2- المصدر السابق: ج7، ص235.
3- بحار الأنوار: ج16، ص232.
4- المصدر السابق: ص85.

وهي بلغة طي (يا محمد..)، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 2). ؟

وروي: أنه (صلّى الله عليه وآله) لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة(1). ؟

ثانياً : القيادة الرشيدة المتواضعة

عن أبان الأحمر، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد بلى ثوبه، وحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال: يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه، قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً وجئت به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فنظر إليه فقال: يا علي غير هذا أحب إلي، أترى صاحبه يعيلنا؟

فقلت: لا أدري.

فقال: أنظر فجئت إلى صاحبه، فقلت: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد كره هذا يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه، فردّ عليّ الدراهم وجئت به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فمشى معي إلى السوق يبتاع قميصاً فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما شأنك؟.

قالت: يا رسول الله إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم.

فأعطاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أربعة وقال: ارجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله وخرج، فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنة، فخلع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل.

ص: 331


1- المصدر السابق: ص204.

ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله ورجع إلى منزله، وإذا بالجارية قاعدة على الطريق، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما لك لا تأتين أهلك؟.

قالت: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مرّي بين يدي ودليني على أهلك.

فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال لهم: مالكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟!

قالوا: يا رسول الله سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله هي حرة لممشاك.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الحمد لله ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسى الله بها عريانين، واعتق بها نسمة).

وعن ابن طريف، عن ابن علوان، عن الإمام جعفر الصادق ، عن أبيه (عليهما السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يورث ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا وليدة ولا شاة ولا بعيراً، ولقد قبض (صلّى الله عليه وآله)، وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها نفقة لأهله)(1).

وعن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (خمس لا ادعهن حتى الممات:

الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان، لتكون سنة من بعدي)(2).

ص: 332


1- بحار الأنوار: ج16، ص214.
2- المصدر السابق: ص99.

وعن جرير بن عبد الله: (إن النبي (صلّى الله عليه وآله) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت ودخل جرير فقعد خارج البيت فأبصره النبي (صلّى الله عليه وآله) فأخذ ثوبه فلفّه فرمى به إليه وقال: اجلس على هذا، فأخذ جرير فوضعه على وجهه فقبله)(1).

وعن جابر قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا خرج مشى أصحابه أمامه وتركوا ظهره للملائكة)(2).

وعن أنس بن مالك قال: (كنا إذا أتينا النبي (صلّى الله عليه وآله) جلسنا حلقة)(3).

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: ما صافح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف، حتى يكون الرجل ينصرف.

وما نازعه الحديث حتى يكون هو الذي يسكت.

وما رأى مقدماً رجله بين يدي جليس له قط.

ولا عرض له قط أمران إلا أخذ بأشدهما.

وما انتصر نفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله فيكون حينئذٍ غضبه لله تبارك وتعالى.

وما أكل متكئاً قط حتى فارق الدنيا.

وما سأل شيئاً قط فقال: لا.

وما رد سائلاً حاجة إلا بها أو بميسور من القول.

وكان أخف الناس صلاة في تمام.

وكان أقصر الناس خطبة واقله هذراً.

ص: 333


1- المصدر السابق: ص235.
2- المصدر السابق: ص236.
3- المصدر السابق.

وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل.

وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده.

وكان إذا أكل، أكل مما يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده.

وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس، وكان يمص الماء مصاً ولا يعبه عباً.

وكان يمينه لطعامه وشرابه، وأخذه وإعطائه كان لا يأخذه إلا بيمينه ولا يعطي إلا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه.

وكان يحب التيمن في كل أموره في لبسه وتنعله وترجله.

وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا تكلم تكلم وتراً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً.

وكان كلامه فصلاً يتبينه كل من سمعه، وإذا تكلم رأى كالنور يخرج من بين ثناياه، وإذا رأيته قلت أفلج الثنيتن وليس بأفلج.

وكان نظره اللحظ بعينه.

وكان لا يكلم أحداً بشيء يكرهه.

وكان إذا مشى كأنه ينحط من صبب.

وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقاً.

وكان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه ولا يتنازع أصحابه الحديث عنده.

وكان المحدث عنه يقول: لم أر بعيني مثله قبله ولا بعده (صلّى الله عليه وآله)(1).

وكان (صلّى الله عليه وآله) يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو يسميه فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين بال فيقول (صلّى الله عليه وآله): لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته ويبلغ سرور أهله فيه ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعد.

ودخل رجل المسجد وهو جالس وحده فتزحزح له، فقال الرجل: في

ص: 334


1- المصدر السابق.

المكان سعة يا رسول الله، فقال (صلّى الله عليه وآله): (إن حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له)(1).

وروي: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض)(2).

(وكان الأعاجم يتواضع بعضهم لبعض إلى حد الركوع).

وروي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل)(3).

و روي عنه (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيث ما انتهى مجلسه)(4).

وكان صلى الله عليه وآله يأكل كل الأصناف من الطعام وكان يأكل ما أحلّ الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ومع من يدعوه من المسلمين على الأرض وعلى ما أكلوا عليه، ومما أكلوا إلا أن ينزل به ضيف فيأكل مع ضيفه(5).

وكان يقول (صلّى الله عليه وآله): (أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)(6).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما أكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متكئاً منذ بعثه الله عز وجل نبياً حتى قبضه الله إليه تواضعاً لله عز وجل، وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا وضع يده في الطعام قال: بسم الله بارك لنا فيما رزقتنا وعليك خلفه(7).

ص: 335


1- المصدر السابق: ص240.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص241.
6- المصدر السابق: ص242.
7- المصدر السابق.

وما ذم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طعاماً قط كان إذا أعجبه أكله، وإذا كرهه تركه، وكان (صلّى الله عليه وآله) ما عاف من شيء فإنه لا يحرمه على غيره)(1).

وعن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): ما أكل نبي الله وهو متكئ منذ بعثه الله جل وعز، وكان يكره أن يتشبه بالملوك(2).

عدالته الاجتماعية

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن يهودياً كان له على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاه فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.. فقال: إذا أجلس معك فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي حبسك.. فقال (صلّى الله عليه وآله): لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله(3).

وعن عنبسه بن مصعب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) بشيء فقسمه فلم يسع أهل الصفة جميعاً فخصّ به أناساً منهم، فخاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء فخرج إليهم فقال: معذرة إلى الله عز وجل وإليكم يا أهل الصفة إنا أوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فخصصت به أناساً منكم خشينا جزعهم وهلعهم(4).

جوانب من حياته (صلّى الله عليه وآله)

عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مرت امرأة بدوية

ص: 336


1- المصدر السابق: ص245.
2- المصدر السابق: ص262.
3- المصدر السابق: ص216.
4- المصدر السابق: ص269.

(بذيه) برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يأكل وهو جالس على الحضيض فقالت: يا محمد والله إنك لتأكل أكل العبيد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ويحك أي عبد أعبد مني.

قالت: فناولني لقمة من طعامك فناولها، فقالت: لا والله إلا التي في فمك، فأخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اللقمة من فمه فناولها فأكلتها، قال أبو عبدالله (عليه السلام): فما أصابها داء حتى فارقت الدنيا روحها(1).

وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا أكل الخبز واللحم خاصة، غسل يديه غسلاً جيداً ثم مسح بفضل الماء الذي في يده وجهه.

وكان (صلّى الله عليه وآله) لا يأكل وحده ما يمكنه وقال: (ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال: من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده).

وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا شرب، بدأ فسمى وحسا حسوة وحسوتين، ثم يقطع فيحمد الله ثم يعود، فيسمي ثم يزيد في الثالثة ثم يقطع فيحمد الله وكان له في شربه ثلاث تسميات وثلاث تحميدات، ويمص الماء مصاً ولا يعبه عباً، ويقول: إن الكباد من العب، وكان (صلّى الله عليه وآله) لا يتنفس في الإناء إذا شرب، فإن أراد أن يتنفس أبعد الإناء عن فيه حتى يتنفس... وكان يشرب في الأقداح التي تتخذ من الخشب وفي الجلود، ويشرب في الخزف ويشرب بكفيه يصب الماء فيهما ويشرب ويقول: ليس إناء أطيب من اليد(2).

وقال أنس بن مالك: كانت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) شربة يفطر عليها وشربة للسحر، وربما كانت واحدة، وربما كانت لبناً، وربما كانت الشربة خبزاً يماث فهيأتها له (صلّى الله عليه وآله) ذات ليلة فاحتبس النبي (صلّى الله عليه وآله) فظننت أن بعض أصحابه دعاه فشربتها حين احتبس، فجاء (صلّى الله عليه وآله) بعد العشاء بساعة فسألت بعض من كان معه هل كان النبي

ص: 337


1- بحار الأنوار: ج59، ص420.
2- المصدر السابق: ج16 ، ص246.

(صلّى الله عليه وآله) أفطر في مكان أو دعاه أحد، فقال: لا، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله من غم أن يطلبها مني النبي (صلّى الله عليه وآله) ولا يجدها فيبيت جائعاً فاصبح صائماً، وما سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة(1).

ولقد جاءه (صلّى الله عليه وآله) ابن خولى بأناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه، فقال: شربتان في شربة وإناءان في إناء واحد، ثم قال: ما أحرمه ولكني أكره الفخر والحساب بفضول الدنيا غداً وأحب التواضع، فإن من تواضع لله رفعه الله(2).

وكان يحب الدهن ويكره الشعث ويقول: إن الدهن يذهب البؤس(3).

وكان (صلّى الله عليه وآله) يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفرقه.

وكان يستجمر بالعود القماري، وكان يعرف في الليلة المظلمة قبل أن يرى بالطيب، فيقال: هذا النبي (صلّى الله عليه وآله)(4).

وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب به ويقول: هو طيب ريحه خفيف محمله، وإن لم يتطيب وضع إصبعه في ذلك الطيب(5).

وكان (صلّى الله عليه وآله) ينظر في المرآة ويرجل جمته ويمتشط، وربما نظر في الماء وسوى جمته فيه، ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلاً على تجمله لأهله، وقال ذلك لعائشة حين رأته ينظر في ركوة فيها ماء في حجرتها ويسوي فيها جمته وهو يخرج إلى أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي تتمرء في الركوة وتسوى جمتك وأنت النبي وخير خلقه فقال: (إن الله تعالى يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم وتجمل)(6).

وكان لا يفارقه في أسفاره قارورة الدهن والمكحلة والمقراض والمرآة والمسواك والمشط.

ص: 338


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص247.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص248.
5- مستدرک الوسائل: ج1 ، ص423.
6- بحار الأنوار: ج16، ص249.

وفي رواية: تكون معه الخيوط والإبرة والمخصف والسيور(1).

وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا لبس ثوباً جديداً قال: (الحمد لله الذي كساني ما يواري عورتي، وأتجمل به في الناس).

وكان إذا نزعه نزع من مياسره أولاً(2).

وكان (صلّى الله عليه وآله) إذا لبس ثيابه واستوى قائماً قبل أن يخرج قال: (اللهم بك استترت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت وعليك توكلت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما لا أهتم به، وما أنت أعلم به مني، عز جارك، وجل ثنائك، ولا إله غيرك، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت) ثم يندفع لحاجته(3).

وعن الإمام علي (عليه السلام) كان فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عباءة، وكانت مرفقته أدم حشوها ليف، فثنيت ذات ليلة، فلما أصبح قال: لقد منعني الليلة الفراش الصلاة (أي النافلة) فأمر (عليه السلام) أن يجعل بطاق واحد.

وكان له فراش من أدم حشوه ليف، وكانت له (صلّى الله عليه وآله) عباءة تفرش له حيثما انتقل وتثنى ثنيتين، وكان (صلّى الله عليه وآله) كثيراً ما يتوسد وسادة له من أدم حشوها ليف ويجلس عليها، وكانت له قطيفة فدكية يلبسها يتخشع بها، وكانت له قطيفة مصرية قصيرة الخمل، وكان له بساط من شعر يجلس عليه، وربما صلى عليه(4).

وكان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره، وكان يستاك إذا أراد أن ينام ويأخذ مضجعه(5).

ص: 339


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص247.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص253.
5- المصدر السابق.

وفي حديث: أنه أعتزل (صلّى الله عليه وآله) نساءه في مشربة (والمشربة العلبة)(1) فدخل عليه رجل وفي البيت أهب(2) عطنة(3) قرظ(4) والنبي (صلّى الله عليه وآله) نائم على حصير قد اثر في جنبه فوجد الرجل ريح الأهب، فقال: يا رسول الله ما هذه الريح؟.

قال: هذا متاع الحي(5) فلما جلس النبي (صلّى الله عليه وآله) قد أثر الحصير في جنبه فقال الرجل: أما أنا فأشهد انك رسول الله ولأنت أكرم على الله من قيصر وكسرى وهما فيما هما فيه من الدنيا وأنت على الحصير قد أثر في جنبك.

فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أما ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة(6).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: أفطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عشية خميس في مسجد قبا فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعسل، فلما وضعه على فيه نحاه، ثم قال: (شرابان يكتفي بأحدهما من صاحبه لا أشربه ولا أحرمه، ولكن أتواضع لله، فإن من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر خفضه الله، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله، ومن بذّر حرمه الله، ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله)(7).

وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ما أعجب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها جائعاً خائفاً(8).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أم سلمة (رض) فقربت إليه كسرة، فقال: هل عندك أدام؟

ص: 340


1- العلبة: الغرفة.
2- اهب: الجلد.
3- عطنة: المتننة.
4- قرظ: ورق يدبغ به.
5- أي متاع الإنسان الحي.
6- بحار الأنوار: ج 16، ص257.
7- وسائل الشيعة: ج11، ص220.
8- الکافي: ج2 ، ص129.

فقالت: لا يا رسول الله ما عندي إلا خل(1).

فقال (صلّى الله عليه وآله): نعم الأدام الخل ما افتقر بيت فيه خل.

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا مشى مشى مشياً يعرف أنه ليس بمشي عاجز ولا بكسلان(2).

حقوق الحيوان

روي: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) جلس يوماً يأكل رطباً، فكان يأكل بيمينه ويمسك النوى بيساره ولم يلقه في الأرض فمرت به شاة قريبة منه فأشار إليها بالنوى الذي في كفه، فدنت إليه وجعلت تأكل من كفه اليسرى، ويأكل هو بيمينه، ويلقي إليه النوى حتى فرغ وانصرفت الشاة حينئذٍ(3).

وعن الإمام موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال الإمام علي (عليه السلام): (بينما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتوضأ إذا لاذ به هر البيت، فعرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنه عطشان فأصفى إليه الإناء حتى شرب منه الهر وتوضأ بفضله)(4).

ورأى (صلّى الله عليه وآله) ديكاً بدون دجاجة فقال (صلّى الله عليه وآله) لصاحبه هلا اتخذت له أهلاً.

وذات مرة، نامت هرة على كمه (صلّى الله عليه وآله) فلما أراد القيام قطع كمه لئلا تنزعج الهرة.

قضايا اجتماعية

عن سفيان بن عتيبة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث:

إن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (من ترك ديناً أو ضياعاً فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته).

ص: 341


1- المصدر السابق: ج6، ص329.
2- مستدرک الوسائل: ج8، ص239.
3- المصدر السابق: ص396.
4- بحار الاأنوار: ج22، ص267.

فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة والنبي (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعدهما الزمهم هذا فمن، هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم(1).

وعن داود بن عبد الله بن محمد الجعفري، عن أبيه: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان في بعض مغازيه فمر به ركب وهو يصلي فوقفوا على أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسائلوهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودعوا وأثنوا، وقالوا: لولا أنا عجال لانتظرنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاقرؤه منا السلام ومضوا فانفتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مغضباً، ثم قال لهم: يقف عليكم الركب ويسألونكم عني ويبلغوني السلام، ولا تعرضون عليهم الغداء، ليعز على قوم فيهم خليلي جعفر أن يجوزوه حتى يتغدوا عنده(2).

وعن بحر السقا قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): يا بحر حسن الخلق يسر.

ثم قال: ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة.

قلت: بلى، قال: بينما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي (صلّى الله عليه وآله) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي (صلّى الله عليه وآله) شيئاً حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي (صلّى الله عليه وآله) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هدبة من ثوبه ثم رجعت، فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل.. حبست رسول الله ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه يستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني، فقام فاستحييت أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها(3).

ص: 342


1- المصدر السابق: ج16، ص542.
2- مستدرک الوسائل: ج1، ص220.
3- الکافي: ج1 ، ص406.

وعن عجلان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة إبناً لها، فقالت: انطلق إليه فاسأله فإن قال لك: ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك، قال: فأخذ قميصه فرمى به إليه(1).

وعن عبد الله بن طلحة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: أن رجلاً من بني فهد كان يضرب عبداً له والعبد يقول: أعوذ بالله فلم يقلع عنه، فقال: أعوذ بمحمد فأقلع عنه الضرب، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يتعوذ بالله فلا تعيذه ويتعوذ بمحمد فتعيذه، والله أحق أن يجار عائذه من محمد.

فقال الرجل: هو حر لوجه الله.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبياً لو لم تفعل لواقع وجهك حر النار(2).

وعن الفضل قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يريد حاجة، فإذا بالفضل بن العباس قال: فقال احملوا هذا الغلام خلفي قال: فاعتنق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بيده من خلفه على الغلام، ثم قال: يا غلام خف الله تجده أمامك يا غلام خف الله يكفك ما سواه(3).

العفو العام

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتى باليهودية التي سمّت الشاة للنبي (صلّى الله عليه وآله) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه.

قال: فعفا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنها(4).

ص: 343


1- المصدر السابق: ج6، ص275.
2- المصدر السابق: ج2، ص102.
3- المصدر السابق: ج4، ص56.
4- وسائل الشيعة: ج15 ، ص582.

وعن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مرّ في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين، فقيل لها: تنحي عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت: إن الطريق لمعرض، فهمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): دعوها فإنها جبارة(52).

كما أنه (صلّى الله عليه وآله) عفا عن قاتل عمه حمزة (وحشي)، وعن قاتل ابنته زينب (عليها السلام) (هبّار)، إلى غير ذلك من أخبار عفوه (صلّى الله عليه وآله).

ص: 344

الفصل الثاني: الإيمان

أولاً: تشييد الحضارة وتكريس الأخلاق

1: القرآن الكريم؛ أساس الحضارة الإسلامية
اشارة

لاشك أن أول أساس بنيت عليه الحضارة الإسلامية، التي أنقذت العالم من الجهل والتخلف، ودفعته إلى التقدم الهائل في أبعاد الحياة، هو القرآن الكريم، ولذا من الضروري - إذا أردنا إعادة الحضارة الإسلامية - أن نبنيها على أساس القرآن الكريم مرة ثانية.

وهنا نستعرض جملة من الروايات والأحاديث الواردة حول القرآن الحكيم:

القرآن الكريم في الأحاديث النبوية

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له: أرق واقرأ، لكل آية درجة، فلا يكون فوق حافظ القرآن درجة)(1).

وعن علي عليه الصلاة والسلام، أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (القلوب أربعة: فقلب فيه إيمان وليس فيه قرآن، وقلب فيه قرآن وإيمان، وقلب فيه قرآن وليس فيه إيمان، وقلب لا قرآن فيه ولا إيمان).

ص: 345


1- مستدرک الوسائل : ج4، ص231.

فأما القلب الذي فيه إيمان وليس فيه قرآن كالثمرة، طيب طعمها ليس لها ريح.

وأما القلب الذي فيه قرآن وليس فيه إيمان كالأشنة طيب ريحها خبيث طعمها.

وأما القلب الذي فيه إيمان وقرآن كجراب المسك إن فتح فتح طيباً، وإن وعى وعى طيباً.

وأما القلب الذي لا قرآن فيه ولا إيمان كالحنظلة خبيث ريحها خبيث طعمها)(1).

وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم)(2).

وفي رواية معاذ قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فقلت: يا رسول الله حدثنا بما لنا فيه نفع؟

فقال: (إن أردتم عيش السعداء، وموت الشهداء، والنجاة يوم الحشر، والظل يوم الحرور، والهدي يوم الضلالة فادرسوا القرآن، فإنه كلام الرحمن، وحرز من الشيطان، ورجحان في الميزان)(3).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: (ما من مؤمن ذكر أو أنثى حرّ أو مملوك إلا ولله عليه حق واجب أن يتعلم من القرآن ويتفقه فيه، ثم قرأ هذه الآية: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) (آل عمران: 79) إلى آخر الآية)(4).

وجاء أبو ذر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إني أخاف أن أتعلم القرآن ولا أعمل به؟!

ص: 346


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص232.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص233.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يعذب الله قلباً أسكنه القرآن)(1).

وعن الجهني: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لو كان القرآن في أهاب ما مسه النار)(2).

وعن سعد، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)(3).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (تعلموا القرآن وتعلموا غرائبه: وغرائبه فرائضه وحدوده، فإن القرآن نزل على خمسة وجوه: حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، ودعوا الحرام، واعملوا بالمحكم، ودعوا المتشابه، واعتبروا بالأمثال)(4).

وفي رواية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أيكم يحب أن يغدوا إلى العقيق أو إلى بطحاء مكة فيؤتى بناقتين كوماوين حسنتين فيدعو بهما إلى أهله من غير مأثم ولا قطيعة رحم؟).

قالوا: كلنا نحب ذلك يا رسول الله.

قال: (لأن يأتي أحدكم المسجد فيتعلم آية خير له من ناقة، أو اثنتين، خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث)(5).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل)(6).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: (ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة، رجل قرأ كتاب الله، وأم لله قوماً وهم به راضون)(7).

ص: 347


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص234.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص235.

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (معلم القرآن ومتعلمه يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: (ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفتنة يوماً، فقلنا: يا رسول الله كيف الخلاص منها؟

فقال: بكتاب الله، فيه نبأ من كان قبلكم، ونبأ من كان بعدكم، وحكم ما كان بينكم، وهو الفصل وليس بالهزل، ما تركه جبار إلا قصم الله ظهره، ومن طلب الهداية بغير القرآن ضل، وهو الحبل المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تلبس على الألسن، ولا يخلق من كثرة القراءة، ولا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لما سمعه الجن قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجبا)، وهو الذي إن قال صدق، وإن حكم عدل، ومن تمسك به هداه إلى الصراط المستقيم)(2).

وفي (نهج البلاغة) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، ونقصان في عمى.

واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا أحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاءً من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والعمى والضلال، فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله.

واعلموا أنه شافع مشفع وقائل مصدق وإنه من شفع القرآن له يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته

ص: 348


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص239.

وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آرائكم واستخشوا فيه أهوائكم)(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن أكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء، ثم حملة القرآن، يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء، ويحشرون من قبورهم مع الأنبياء، ويمرون على الصراط مع الأنبياء، ويأخذون ثواب الأنبياء، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة والشرف)(2).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبسون نور الله، المعلمون كلام الله، من عاداهم فقد عادى الله، ومن والاهم فقد والى الله).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يوضع يوم القيامة منابر من نور وعند كل منبر نجيب من نجب الجنة، ثم ينادي مناد من قبل رب العزة: أين حملة كتاب الله؟ اجلسوا على هذه المنابر فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، حتى يفرغ الله تعالى من حساب الخلائق، ثم يقال لهم: (اركبوا على هذه النجب واذهبوا إلى الجنة)(3).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من استظهر القرآن وحفظه، وأحل حلاله وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته)(4).

وعن علي (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه.

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم مكر الله، ومن لم يرخص لهم في معاصي الله، ومن لم يدع القرآن رغبة إلى غيره لأنه لا خير في علم لا تفهم فيه ولا عبادة لا تفقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها)(5).

ص: 349


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2 ، ص92.
2- مستدرک الوسائل: ج4، ص244.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص245.
5- المصدر السابق: ص242.

وقد كان القرآن الكريم، بما أوجد في المسلمين من الروح المعنوية العالية، والإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من الجنة والنار، والتحلي بالأخلاق الحميدة، أول مبعث لانطلاقة المسلمين، تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف الغرب بأنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب، وبأن المسلمين هم آباء العلم الحديث.

علماء الغرب.. يعترفون

يقول (غوستاف لوبون): إن المكتبات والمحابر والأدواتب، إنما هي مواد لا بد منها في التعليم وفي البحوث، ولكن هذه الأشياء ليست في النهاية إلا مواد وعناصر، وإن قيمتها تتوقف فقط على الطريقة التي تستخدم فيها، وإن الإنسان قد يستطيع أن يمتلئ من علوم الآخرين ويبقى مع ذلك غير آهل لأن يفكر بواسطة شخصه أو أن يوجد شيئا ما، وقد يستطيع أن يكو تلميذاً من غير أن يقدر على أن يكون أستاذاً.

ويقول: وإن الاكتشافات المشروحة في الفصول الآتية سوف ترينا الفائدة التي عرف العرب أن يستخلصوها من مواد الدراسة وعناصرها المجموعة بواسطتهم، وسوف نقتصر الآن على المبادئ العامة التي وجهت بحوثهم، فبعد أن جعلوا من أنفسهم تلامذة فقط متخذين من مؤلفات اليونان أساتذة لهم، عرفوا بعد قليل أن الاختبار والملاحظة هما أثمن من خيار الكتب، وإن هذه الحقيقة التي أصبحت اليوم من البديهيات لم تكن دائماً كذلك، فإن علماء القرون الوسطى قد عملوا مدة ألف عام قبل أن يفهموها).

ثم يقول: (إن الاختبار والملاحظة هما أسس الطرق العلمية الحديثة، ولقد أسند إلى (باكون) بصورة عامة فكرة وضع (الاختبار) مكان سلطة (الأستاذ) غير أنه يجب اليوم أن نعترف بأن هاتين القاعدتين إنما تعودان بصورة كاملة إلى العرب، وإن هذا الرأي قد صارح به مع ذلك جميع العلماء الذين درسوا مخلفات العرب وبصورة خاصة (هامبولد) فبعد أن برهن هذا الرجل الفذّ أن أعلى درجة في

ص: 350

العلم إنما تكون عندما تولد بنفسها وحسب إرادتها حقائق علمية وذلك بواسطة الاختبار أن العرب قد رسموا إلى هذه الدرجة غير المعروفة تقريباً عند القدامى).

ثم يقول: (وقال (سيدييو): إن الذي أوجد صورة خاصة لمدرسة بغداد في أول نشأتها إنما هي الفكرة العلمية الحقيقية التي تتحكم في دراستها، وأن القواعد التي كانت تدرس سابقاً من قبل الأساتذة هي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والفهم الدقيق للحقائق كي ينتقل بعد ذلك من المسببات إلى الأسباب، وأن لا يقبل إلا ما برهن عليه الاختبار، وأن العرب في القرن التاسع من الميلاد كانت لديهم هذه الطريقة الخصبة، وهي التي انتقلت بعد زمن طويل جداً إلى أيدي المحدثين وكانت الواسطة لأجمل ما كان منهم في الاكتشافات).

المسلمون، آباء العلم الحديث

ولقد كتب (ديلامبر) في كتابه (تاريخ الفلك) فقال: إذا عددنا بجهد اثنين أو ثلاثة من الملاحظين فيما بين اليونان، فإنه يرى على العكس من ذلك عدد كبير منهم عند العرب، أما في الكيمياء فإنه لا يستطيع ذكر أحد ما من الملاحظين عند اليونان بينما هم عند العرب يعدون بالمئات، وإن اعتياد العرب على الاختبار قد أسبغ على دراساتهم هذه الدقة وهذا الإبداع اللذين لا يمكن أبداً أن تتوقع وجودهما عند الرجل الذي ما درس الحقائق إلا في كتب. إن دور العرب لم يقتصر فقط على تلقيط العلوم باكتشافاتهم بل عملوا على نشرها بواسطة جامعاتهم وبواسطة مؤلفاتهم وأن التأثير الذي أحدثوه في أوربا من هذه الناحية الأخيرة قد كان عظيماً جداً، لأن العرب قد كانوا في مدة عصور عديدة هم وحدهم الأساتذة الذين عرفتهم الأمم النصرانية، وإننا إليهم وحدهم مدينون في معرفة العلم القديم اليوناني اللاتيني، وإن التعليم في جامعاتنا لم يتوقف عن الاعتماد على ترجمة الكتب العربية إلا في الأيام الأخيرة.

ويقول (ليبرى) في صدد تأثير الحضارة الإسلامية على الحضارة العالمية في هذا اليوم: (ارفعوا العرب من التاريخ تتأخر النهضة في أوربا قروناً عدة).

ص: 351

ويقول (سلوريان): (كان للعرب عصر مجيد عرفوا فيه بانكبابهم على الدرس وسعيهم في ترقية العلم والفن ولا نبالغ إذا قلنا إن أوربا مدينة لهم بخدمتهم العلمية، تلك الخدمة التي كانت العامل الأول والأكبر في نهضة القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد).

ويقول (ويلز): (كانت طريقة العربي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبساطة وأن يجلوها بكل وضوح وتدقيق، غير تارك منها شيئاً في ظل الإبهام، وإن هذه الخاصة التي جاءتنا نحن الأوربيين من اليونان، وهي النور إنما جاءتنا عن طريق العرب ولم تهبط على أهل العصر الحاضر عن طريق اللاتين).

ويقول (البارون): إن الرومان لم يحسنوا القيام بالميراث الذي تركه اليونان، وإن العرب كانوا على خلاف ذلك فقد حفظوه وأتقنوه ولم يقفوا فيه عند هذا الحد، بل تعدوه إلى ترقيته وطبقوه باذلين الجهد في تحسينه وإنمائه حتى سلموه للعصور الحديثة).

ويقول (سيديوان): إنتاج أفكار العرب الغزيرة ومخترعاتهم النفيسة تشهد بأنهم أساتذة أهل أوربا في جميع الأشياء).

ويقول (الدكتور سارطون): إن بعض الغربيين الذين يريدون أن يستخفّوا بما أسداه الشرق إلى الحضارة يصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئاً ما، هذا خطأ، بل إن العرب والمسلمين كانوا أعظم معلمين في العالم في القرون الثلاثة: الثامن والحادي، والثاني عشر للميلاد.

إلى غيرها من تصريحاتهم، فإنهم وإن نسبوا ذلك إلى (العرب) لكنه كان في الواقع من مفاخر الإسلام والمسلمين، فالمسلمون تمكنوا من أن يكونوا أساتذة العالم، لا هذا فحسب، بل تمكنوا أن يبنوا حضارة فتية تنقذ العالم من ويلاته وحروبه ومشاكله، وكان ذلك في ظل القرآن وما فيه من المبادئ الرفيعة والأخلاق السامية والترغيب إلى الجنة والتخويف من النار، والإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما جاء به من عند ربه.

فإذا أردنا صياغة الحضارة الجديدة في العالم الحاضر لتخليصه من الشرور

ص: 352

والمشاكل، فاللازم علينا إحياء القرآن والإيمان بالله وبالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر الجنة والنار، فإن ذكر الجنة والنار من المحفزات الكبيرة لانطلاق الإنسان واستقامته وخدمته للإنسان.

نموذجان للتأثير القرآني
اشارة

وهنا نستعرض آيات من سورتين مباركتين: إحداهما بالنسبة إلى ذكر الجنة، والأخرى بالنسبة إلى ذكر النار، حتى نرى كيف أنها تحفز الإنسان على الإستقامة وصحة العمل والتقدم إلى الأمام، فالخوف والرغبة في الإنسان يدفعان الإنسان إلى العمل والى الوقوف في مواضع الوقوف، والى الانطلاق في مواضع الانطلاق كما هو واضح:

النموذج الأول:

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بالنسبة إلى الجنة: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)) (الواقعة: 7 - 40).

النموذج الثاني:

يقول سبحانه بالنسبة إلى النار في سورة الفرقان: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) (الفرقان: 11 - 14).

ص: 353

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)) (الفرقان: 17 - 19).

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان: 22 - 23).

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (الفرقان: 25 - 29).

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان: 34).

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)) (الفرقان: 65 - 66).

(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 69).

وقس على ذلك سائر الآيات القرآنية المتعرضة لذكر الجنة والنار والترغيب والترهيب.

2: السيرة المطهرة تدعونا الى الإيمان
اشارة

ومن هنا نرى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما يكثران من ذكر الجنة والنار ويخوفان منهما تخويفاً كبيراً!

ومن هنا - أيضاً - نرى في الأحاديث الكثيرة: وجوب الاعتصام بالله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، وعدم جواز تعلق الرجاء والأمل بغير الله، ووجوب الخوف منه، والجمع بين خوفه ورجائه، وهذه جملة من تلك الروايات:

ص: 354

فعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله عز وجل أقبل الله ما يحب، ومن اعتصم بالله عصمه الله، ومن أقبل الله قلبه وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بلية كان في حزب الله تقوى من كل بلية، أليس الله يقول: (إن المتقين في مقام أمين))(1).

وعن مفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أوحى الله عز وجل إلى داود ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم يكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب المساوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد يهلك)(2).

وعن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحداً دعا الله فلم يجبه) ؟

قلت: لا.

قال: فهل رأيت أحداً توكل إلى الله فلم يكفه؟

قلت: لا.

قال: فهل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟

قلت: لا، ثم غاب عني)(3).

أقول؛ لعله كان الخضر (عليه السلام) أو من ملائكة الله المقربين.

وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا)(4).

ص: 355


1- وسائل الشيعة: ج11، 165.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص166.
4- المصدر السابق.

وعن علي بن سويد، عن أبي الحسن الأول موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 2 - 3).

فقال: (التوكل على الله درجات، منها: أن تتوكل في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أن الحكم في ذلك له فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه وثق به فيها وفي غيرها)(1).

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أعطى ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أعطى الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطى الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطى التوكل أعطي الكفاية، ثم قال: أتلوت كتاب الله عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).

و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7).

وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)(2).

وعن الحسين بن علوان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قرأ في بعض الكتب: (إن الله تبارك وتعالى يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولأنحينّه من قربي، ولأبعدنه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني.

فمن ذا الذي أملني بنائبة فقطعته دونها؟ ومن الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟

جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم

ص: 356


1- المصدر السابق: ص167.
2- المصدر السابق.

يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أفتراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي، أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟

أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العطف والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلم يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل السماوات وأهل الأرض أملوا جميعاً ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيّمه، فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لم عصاني ولم يراقبني)(1).

وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106).

قال: (هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان ما أصبحت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، الا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه).

قلت: فيقول ماذا؟

قال: (يقول: لولا أن منّ الله علي بفلان لهلكت)(2).

أقول: والمراد أنه لا يرى أن الشخص هو السبب، وإنما السبب ما جعله الله سبحانه وتعالى سبباً.

وعن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما حفظ من خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (يا أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين:

ص: 357


1- المصدر السابق: ص168.
2- المصدر السابق: ص169.

بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فيأخذ العبد المؤمن من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار).

وعن الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فلا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف)(1).

وعن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46).

قال: (من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن قبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)(2).

وعن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك)(3).

وعن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا)(4).

وقال الصدوق من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رأس الحكمة مخافة الله عز وجل)(5).

ص: 358


1- المصدر السابق: ص172.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص173.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

وقال الصادق (عليه السلام): (من خلا بذنب فراقب الله تعالى فيه واستحى من الحفظة غفر الله له جميع ذنوبه وإن كانت مثل ذنوب الثقلين)(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن قوماً أصابوا ذنوباً فخافوا منها وأشفقوا فجاءهم قوم آخرون فقالوا: مالكم؟

فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً فخفنا منها وأشفقنا.

فقالوا لهم: نحن نحملها عنكم.

فقال الله تعالى: يخافون ويجترئون عليّ! وفأنزل الله عليهم العذاب)(2).

وعن الصادق، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: (إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً وإن كان محسناً، ولا يمسي إلا خائفاً وإن كان محسناً، لأنه بين أمرين: وقت قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين اجل قد اقترب لا يدري ما يصيبه من الهلكات، ألا وقولوا خيراً تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، صلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم وأوفوا بعهد من عاهدتم، وإذا حكمتم فاعدلوا)(3).

وعن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان؟

قال: كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لإبنه: (خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك).

ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي يقول: (ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا)(4).

ص: 359


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص174.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وعن أحمد بن أبي عبد الله، بسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجو فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت؟

فقال: (هؤلاء قوم يترجحون في الأماني، كذبوا ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه)(1).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ارج الله رجاءً لا يجرئك على معصية، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته)(2).

وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أبا ذر إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإن سرك أن تكون أكرم الناس فاتق الله عز وجل، وإن سرك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله عز وجل أوثق منك بما في يديك).

يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 2 - 3)(3).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو أن رجلاً توكل على الله بصدق النية لاحتاجت إليه الأمور ممن دونه فكيف يحتاج هو ومولاه الغني الحميد)(4).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (من توكل وقنع ورضى كفى المطلب)(5).

وقال الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن جندب: (يا جندب يهلك المتوكل على عمله ولا ينجو الجريء على الذنوب الواثق برحمة الله).

قلت: فمن ينجو؟

ص: 360


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص170.
3- مستدرک الوسائل: ج11، ص216.
4- المصدر السابق: ص217.
5- المصدر السابق.

قال: (الذين هم بين الخوف والرجاء، كأن قلوبهم في مخلب طائر شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب)(1).

وقال الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: (يا هشام لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عالماً لما يخاف ويرجو)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من عرف الله خاف، ومن خاف الله حثه الخوف من الله على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فبشر المطيعين المتأدبين بأدب الله والآخذين عن الله، إنه حق على الله أن ينجيهم من مضلات الفتن)(3).

وفي رواية عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا أبا ذر يقول الله تعالى: لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني أخفته يوم القيامة، وإذا خافني أمنته يوم القيامة.

يا أبا ذر لو أن رجلاً كان له مثل عمل سبعين نبياً لاحتقره وخشى أن لا ينجو من شر يوم القيامة.

يا أبا ذر إن لله ملائكة قياماً من خيفته ما يرفعون رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الأخيرة فيقولون جميعاً: سبحانك وبحمدك ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد، فلو كان لرجل عمل سبعين صديقاً لاستقل عمله من شدة ما يرى يومئذٍ)(4).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لرجل يسمى بأبي كاهل: (يا أبا كاهل لن يغضب رب العزة على من كان في قلبه مخافة، ولا تأكل النار منه هدبة)(5).

ص: 361


1- المصدر السابق: ص226.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص228.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص229.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (إن الله إذا جمع الناس يوم القيامة نادى فيهم مناد، أيها الناس إن أقربكم اليوم من الله أشدكم منه خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أفضلكم عند الله منصباً أعملكم فيما عنده رغبة، وإن أكرمكم عليه أتقاكم)(1).

وعن السجاد (عليه السلام) أنه قال: (واعلموا عباد الله أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد، وامتنع عن الرقاد، وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا، فكيف يابن آدم من خوف بيات سلطان رب العزة وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا بالليل والنهار، فذلك البيات الذي ليس منه منجى، ولا دونه ملجأ، ولا منه مهرب، فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل اليقين وأهل التقوى، فإن الله يقول: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم: 14)(2).

الإيمان: صمّام أمان

وعلى هذا، فلو أردنا الحياة السعيدة في الدنيا قبل الآخرة، احتجنا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، إذ بدون الإيمان بالله واليوم الآخر وبدون التقوى وبدون الخوف من الجنة والنار، لا يمكن صياغة المجتمع صياغة آمنة عن الأخطار والمشاكل.

يقول صاحب كتاب الإسلام يتحدى: (إن خوف الشرطة والمحكمة لا يكفي لدرء الجرائم، وإنما لا بد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم، إن الرشاوي والمحسوبيات وخدمات المحامين البارعين وشهود الزور كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أية شرطة أو محكمة إنسانية، والمجرم لا يرهب أي عقاب لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون، إن

ص: 362


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص230.

الشرع الإلهي يستوفي كل هذه الأمور، فعقيدة الآخرة التي يحملها الشرع الإلهي هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم وهي تكفي لتبقي إحساساً للجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الإنسان لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي).

ثم يقول: (إن واقعة رواها العالم الهندي الدكتور عناية الله المشرقي وهو يقول: كان ذلك يوم أحد من أيام سنة ألف وتسعمائة وتسعة (1909) وكانت السماء تمطر بغزارة، وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أرى الفلكي المشهور (السير جيمس) الأستاذ بجامعة كمبوردج ذاهباً إلى الكنيسة والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدنوت منه فسلمت عليه، فلم يرد عليّ، فسلمت عليه مرة أخرى فسألني ماذا تريد مني؟.

فقلت له: أمرين يا سيدي.

الأول: هو إن شمسيتك تحت إبطك رغم شدة المطر!

فابتسم السير جيمس وفتح شمسيته على الفور.

فقلت له: وأما الأمر الآخر فهو ما الذي يدفع رجلاً ذائع الصيت في العالم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة؟

وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظة، ثم قال: عليك أن تأخذ شاي عندي مساء اليوم.

وعندما وصلت إلى داره في المساء خرجت زوجته في تمام الساعة الرابعة بالضبط وأخبرتني أن السير جيمس ينتظرني، وعندما دخلت عليه في غرفته وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعة عليها أدوات الشاي، وكان البروفيسور منهمكاً في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني ماذا كان سؤالك؟ ودون أن ينتظر ردي بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية ونظامها المدهش وأبعادها وفواصلها اللامتناهية وطرقها وجاذبيتها وطوفان أنوارها المذهلة، حتى أنني شعرت بقلبي يهتز لهيبة الله وجلاله، وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائماً والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة ثم بدأ يقول: (يا عناية الله)

ص: 363

عندما ألقى نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله وأقول له: إنك لعظيم! أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء وأشعر بسكون وسعادة عظيمين أحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة. أفهمت يا عناية الله خان، لماذا أذهب إلى الكنيسة؟.

ويضيف عناية الله خان قائلاً: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفاناً في عقلي وقلت له: يا سيدي لقد تأثرت جداً بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آيات كتابي المقدس (يقصد: القرآن) فلو سمحتم لي بقراءتها عليكم.

فهز رأسه قائلاً بكل سرور.

فقرأت عليه الآية التالية: -

(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر: 27 - 28).

فصرخ السير جيمس قائلاً: ماذا قلت إنما يخشى الله من عباده العلماء؟ مدهش وغريب وعجيب جداً، إن الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله.

ويستطرد السير جيمس قائلاً: لقد كان محمد أمياً ولا يمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه ولكن الله هو الذي أخبره بهذا السر، مدهش وغريب وعجيب جداً.

تحقق السعادة في ظل الإيمان

نعم بدون الإيمان الحقيقي لا يمكن أن تستقيم الحياة الدنيا، فكيف بالآخرة؟ ولذا نشاهد الحياة الحاضرة، حيث تخلت عن الإيمان بالله إيماناً

ص: 364

حقيقياً، وقد صارت بؤرة للمشاكل والحروب ونهب الأموال، والجرائم مما تزخر بها الكتب والمجلات والصحف والإذاعات والتلفزيونات والمحاكم وغيرها.

أما المجتمع المؤمن فهو بالعكس من ذلك، ولذا نشاهد أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) رغم حكومته الواسعة، والتي تعادل سبع حكومات في خريطة عالمنا الحاضر، لم يبن حتى سجناً واحداً في تلك الحكومة الشاسعة، والسبب في ذلك: إن الرسول (صلّى الله عليه وآله) غرس الإيمان الصادق في النفوس فكان المؤمن يرعوي بنفسه عن ارتكاب الجرائم والموبقات، وكان المجتمع الإسلامي في زمانه (صلّى الله عليه وآله) مجتمع تعاون وتحابب وخير ورفاه، وقد قال الله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).

وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).

3: بين حكم علي (عليه السلام) وحكم الحجاج
اشارة

وعلى خطى الرسول (صلّى الله عليه وآله) سار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إبان خلافته الظاهرية حيث غرس في المجتمع الإيمان والفضيلة والتقوى بحيث إن الكوفة، بعدد نفوسها آنذاك الذي كان ما يقارب أربعة ملايين، ومساحتها تقارب عشرة فراسخ أو أكثر - لم يكن فيها إلا سجن من الأعواد، فكان المسجونون يقلعون بعض الأعواد ويهربون من السجن.

ولما ملك الحجاج بن يوسف الثقفي الكوفة، وحيث كان حكمه مبنياً على أسس مادية بحتة غير مشبعة بروح الإيمان والفضيلة والتقوى، بنى في الكوفة سجناً يحتوي على مائة وعشرين ألف إنسان، هذا سوى الضحايا الذين كان يقتلهم ليل نهار، بينما أحصى بعض المؤرخين قتلى الحجاج في مدة حكمه بأكثر من مائة وعشرين ألف انسان، بينما قتلى علي (عليه السلام)، الذين قتلهم بسبب الجرائم كالزنا والارتداد، لا يعدون حتى مائة شخص.

ص: 365

يعترفون على أنفسهم!

وقد كان المجتمع في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) وفي زمان الإمام علي (عليه السلام) من الحصانة الإيمانية بحيث إنه إذا ارتكب أحد منهم جرماً أتى هو وأخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الوصي (عليه السلام) بأنه ارتكب الجرم، وطلب منهما إجراء حدود الله عليه، ومع العلم إن بعض الحدود مؤلمة جداً.

وإليكم بعض النماذج في هذا الصدد:

فقد روى أبو العباس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) رجل فقال: إني زنيت..! فصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهه عنه.

فأتاه من جانبه الآخر ثم قال مثل ما قال، فصرف وجهه عنه.

ثم جاء الثالثة فقال: يا رسول الله إني زنيت، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أبصاحبكم بأس - يعني جنّة - ؟

فقالوا: لا.

فأقر على نفسه الرابعة فأمر به رسول الله أن يرجم(1).

و روى ميثم قال: أتت امرأة مجح (أي قريبة الوضع) أمير المؤمنين (عليه السلام). فقالت: يا أمير المؤمنين إني زنيت، فطهرني طهرك الله، فإن عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع.

فقال لها: مما أطهرك؟

فقالت: إني زنيت.

فقال لها: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت، أم غير ذلك؟

قالت: بل ذات بعل.

قال لها: أفحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أو غائباً كان عنك؟

ص: 366


1- وسائل الشيعة: ج18، ص376.

قالت: بل حاضراً.

فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك ثم أتيني أطهرك.

فلما ولت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللهم إنها شهادة.

فلم تلبث أن أتته فقالت: قد وضعت فطهرني.

فتجاهل عليها فقال: أطهرك يا أمة الله مماذا؟

قالت: إني زنيت فطهرني.

قال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟

قالت: نعم.

قال: فكان زوجك حاضراً أم غائباً؟

قالت: بل حاضراً.

قال: فانطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله.

فانصرفت المرأة فلما صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: اللهم إنهما شهادتان.

فلما مضى الحولان أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين فطهرني يا أمير المؤمنين.

فتجاهل عليها وقال: أطهرك مماذا؟

قالت: إني زنيت فطهرني.

فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟

فقالت: نعم.

قال: فبعلك غائباً كان عنك إذ فعلت؟

فقالت: بل حاضراً.

قال: فانطلقي فاكفليه حتى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردى من سطح ولا يتهور في بئر.

ص: 367

فانصرفت وهي تبكي، فلما ولّت وصارت حيث لا تسمع كلامه. قال: اللهم هذه ثلاث شهادات.

فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي فقال لها: ما يبكيك يا أمة الله وقد رأيتك تختلفين إلى علي (عليه السلام) تسألينه أن يطهرك؟

فقالت: إني أتيت أمير المؤمنين فسألته أن يطهرني فقال: أكفلي ولدك حتى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردى من سطح ولا يتهور في بئر وقد خفت أن يأتي عليّ الموت ولم يطهرني.

فقال لها عمرو بن حريث: إرجعي إليه فأنا أكفله.

فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين بقول عمرو بن حريث، فقال لها أمير المؤمنين وهو متجاهل عليها: ولم يكفل عمرو ولدك؟

فقالت: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟

قالت: نعم.

قال: أفغائباً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت؟

قالت: بل حاضراً.

فرفع أمير المؤمنين رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنه قد ثبت عليها أربع شهادات (إلى أن قال): فنظر إليه عمرو بن حريث وكأنما الرمان يفقأ في وجهه، فلما رأى ذلك عمرو قال: يا أمير المؤمنين إني إنما أردت أن أكفله إذ ظننت إنك تحب ذلك، فأما إذا كرهته فإني لست أفعل.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أبعد أربع شهادات بالله؟ لتكفلنه وأنت صاغر (1) (إلى آخر الحديث).

ص: 368


1- المصدر السابق: ص379.
أتت برجليها إلى المحكمة!

وفي رواية أخرى عن محمد بن سعيد، عن بعض أصحابنا قال: أتت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إني فجرت فأقم فيّ حد الله فأمر برجمها وكان علي (عليه السلام) حاضراً، فقال له: سلها كيف فجرت؟

فقالت كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها، فأصبت فيها رجلاً أعرابياً، فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي، فوليت منه هاربة، فاشتد بي العطش حتى غارت عيناي وذهب لساني، فلما بلغ مني أتيته فسقاني ووقع عليّ.

فقال له علي (عليه السلام): هذه التي قال الله عز وجل: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 173).

هذه غير باغية ولا عادية إليه). فخلى عمر سبيلها.

إلى غيرها من الأحاديث الواردة في مختلف الحدود والجنايات.

فأيّ عامل - غير الإيمان - يرفع الإنسان إلى هذا الحد من النزاهة، ويدفعه إلى المثول أمام النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الوصي (عليه السلام) ليعترف عنده بخطأه.. مع أنه يعلم أن الاعتراف يسبب له خزياً عند الناس، وعذاباً من قبل المحكمة...

إنه هو الإيمان الذي لا يدخل قلباً إلا ويجعل صاحبه مستقيماً في عمله وسلوكه.

نماذج أُخر

وليس الأمر خاصاً بالزنا بل نرى أشباه هذه القضايا في باب جنايات أخر، مثلاً ورد أن رجلاً أتى علياً (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت، فانتهره فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت فقال: أتشهد على نفسك مرتين؟ ثم قطعه.

وأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطخ بالدم وإذا

ص: 369

رجل مذبوح متشحط في دمه فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ما تقول يا ذا الرجل؟

فقال: يا أمير المؤمنين أنا قتلته.

قال (عليه السلام): اذهبوا إلى المقتول فادفنوه.

فلما أرادوا قتل الرجل جاء رجل مسرع فقال: يا أمير المؤمنين والله وحق عيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنا قتلته وما هذا بصاحبه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اذهبوا بهما اثنينهما إلى الحسن ابني فأخبروه بقصتهما ليحكم بينهما.

فذهبوا بهما إلى الحسن (عليه السلام) فأخبروه بمقالة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال الحسن (عليه السلام): ردوهما إلى أمير المؤمنين وقولوا: إن هذا قتل ونجى بإقراره عن قتل ذاك، يطلق عنهما جميعاً وتخرج دية المقتول من بيت مال المسلمين فقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) له: فما حملك على إقرارك على نفسك بقتله؟

فقال يا أمير المؤمنين: وما كنت أصنع وهل ينفعني الإنكار وقد أخذت وبيدي سكين متلطخ بالدم وأنا على رجل متشحط في دمه وقد شهد على مثل ذلك، وأنا رجل كنت ذبحت شاة بجنب الخربة فأخذني البول فدخلت الخربة والرجل متشحط في دمه وأنا على الحال.

ومن هنا قال الشيخ الطوسي في النهاية: (ومتى اتهم الرجل بأنه قتل نفساً فأقرّ بأنه قتل، وجاء آخر وأقرّ بأن الذي قتل هو دون صاحبه ورجع الأول عن إقراره درء عنهما القود والدية، ودفع إلى أولياء المقتول الدية من بيت المال).

ثم قال: (وهذه قضية الحسن (عليه السلام) في حياة أبيه (عليه السلام) ).

ترى: إنه لولا الإيمان بالله واليوم الآخر هل كان الرجل الثاني يأتي ويعترف على نفسه بالقتل، وهو يتصور أنه يقتل بسبب إقراره لينجي الذي اتهم بدون مبرر؟

ص: 370

أبو ذر وسلمان على النهج

وهنالك قضايا أخر كثيرة من هذا القبيل في مختلف الأبعاد منذ بدء الشريعة الإسلامية والى زماننا هذا مما يكشف عن أن للإيمان الأثر الغريب في حياة الإنسان.

فمثلاً: ما هو العامل الذي دفع أبا ذر إلى مقاومة السلطة القائمة، حتى نُفي إلى الربذة ومات هنالك جوعاً، بينما كان بإمكانه أن يداهن السلطة ويصبح كزيد بن ثابت الذي خلّف عند موته أكواماً من الذهب قسمت بين ورثته بالفؤوس.

إنه الإيمان!

وسلمان الفارسي لم يكن يتصرف - إبان حكمه في المدائن - في بيت المال قدر درهم، وإنما كان يعمل الخوص ويأكل من ثمنه، كما أنه لم يكن يجلس في دار الحكومة، وإنما كان قد هيأ لنفسه دكة يجلس عليها ويحكم بين الناس. و(مدائن) سلمان هي (المدائن) التي كان كسرى يحكم فيها بتلك الأبهة العظيمة والفخفخة العجيبة.

(المثالية) عند الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)

عندما توفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو رئيس حكومة كبيرة تنصبُّ عليها الأموال من كل جانب، كان درعه مرهون عند يهودي بخمسين صاعاً من الشعير لقوته وقوت أهله.

وعلي (عليه السلام) يرتجف من البرد لأنه لا يريد التصرف في بيت مال المسلمين ويمنع أخاه من إعطائه قدراً إضافياً من المال فوق ما أعطى سائر المسلمين، وكما قال (عليه السلام): (حتى استماحني من بركم صاعاً)(1).

وقد روى الصدوق، عن ابن عباس في وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه (صلّى الله عليه وآله) أتى إلى المسجد في شدة مرضه وقال: (إن ربي عز وجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم فنشدتكم بالله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلا قام فليقتص

ص: 371


1- نهج البلاغة ، شرح محمد عبدة: ج2، ص217.

منه، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء).

فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له (سوادة بن قيس) فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني فلا أدري عمداً أو خطأ.

فقال (صلّى الله عليه وآله): (معاذ الله أن أكون تعمدت).

ثم قال: (يا بلال أخرج إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق).

فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة، فهذا محمد (صلّى الله عليه وآله) يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة.

ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - لما أتاه بلال بالقضيب الممشوق -: (أين الشيخ؟).

فقام وقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله بأبي أنت وأمي.

فقال: (تعال فاقتص مني حتى ترضى).

فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله.

فكشف (صلّى الله عليه وآله) عن بطنه.

فقال الشيخ بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟

فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من النار يوم القيامة.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا سوادة أتعفو أم تقتص؟

فقال: بل أعفو يا رسول الله.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (صلّى الله عليه وآله)(1).

ص: 372


1- مستدرک الوسائل: ج18، ص287.

ومن الواضح، إن القضيب لو كان أصاب بطن سوادة لم يكن ذلك عن عمد، ومن المعلوم أن الخطأ ليس فيه القصاص وإنما فيه الدية ومع ذلك أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يعلم الحكام لزوم ملاحظة أمثال هذه الأمور، فإن الله سبحانه لا ينظر إلى الرئيس والحاكم من خلال منصبه ومقامه، وإنما ينظر إليه كفرد من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم.

ولولا مراقبة الله وخوف الآخرة هل كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يقوم بمثل هذا العمل؟ وهل يوجد مثل هذا العمل إلا في من يخاف الله ويراقبه؟

ولذا قال (صلّى الله عليه وآله): (القصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء).

دونك السوط!

وقد روى ابن شهر آشوب في المناقب أن مولى لعلي بن الحسين (عليه السلام) كان يتولى عمارة ضيعة له فجاء ليطلعها، فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً، فغاضه (عليه السلام) ما رآه وغمّه، فقرع المولى بسوط كان في يده، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجد الإمام (عليه السلام) والسوط بين يديه فظن أنه يريد عقوبته، فاشتد خوفه، وأخذ علي بن الحسين (عليه السلام) السوط ومده إليه وقال: (يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، فدونك السوط، واقتص مني).

فقال المولى: يا مولاي والله إني ظننت إنك تريد عقوبتي وأنا مستحق للعقوبة فكيف اقتص منك؟

قال (عليه السلام): ويحك اقتص.

قال: معاذ الله أنت في حلّ وسعة.

فكرر ذلك عليه مراراً، والمولى في كل ذلك يتعاظم قوله ويحلله.

فلما لم يره يقتص قال (عليه السلام): (أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك)(5) وأعطاه إياها.

ص: 373

إن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) رغم كون عمله وقرعه للعبد بالسوط في موضعه لأنه أفسد وضيع - كما في نفس الحديث - أراد أن يعلم الناس أنه ليس من حق الإنسان أن يضرب الآخرين ولولا إرادة الإمام (عليه السلام) أن يبين للناس الخوف من الآخرة هل كان يقوم بهذا العمل؟

آه! لولا القصاص

وفي رواية أخرى يرويها الشيخ المفيد، عن إبراهيم بن علي، عن أبيه قال: حججت مع علي بن الحسين (عليه السلام) فالتاثت الناقة عليه في مسيرها (أي أبطأت) فأشار إليها بالقضيب، ثم قال: (آه لولا القصاص) وردّ يده عنها.

وقد أراد الإمام (عليه السلام) بذلك أن يعلم المسلمين احترام حق الحيوان فلا يضرب اعتباطاً مع العلم إن الإمام (عليه السلام) لم يرد أن يضربها اعتباطاً، وإنما أراد التعليم.

وهكذا فإن الإنسان يحاسب حتى على ما يأتيه بالنسبة إلى الحيوان.

وقد روي في الجعفريات عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (رأيت في النار صاحب العباءة الذي غلّها، ورأيت في النار صاحب المحجم الذي كان يسرق الحاج بمحجمه، ورأيت في النار صاحبة الهرة تنهشها مقبلة ومدبرة كانت أوثقتها فلم تكن تطعمها ولم ترسلها تأكل من خشاش الأرض، ودخلت الجنة فرأيت فيها صاحب الكلب الذي أرواه من الماء)(1).

إلى هذا الحد الدقيق يوجب الإيمان بالله واليوم الآخر احترام الحيوان! حتى أن إهانة الحيوان توجب العقاب - ولو كان الحيوان هرة - وإكرام الحيوان يوجب الثواب - ولو كان كلباً - !

الإيمان بالله عند الأنبياء

يمكن أن نلاحظ أثر الإيمان والخوف من الله في مواقف كثيرة للأنبياء

ص: 374


1- المصدر السابق: ص288.

عليهم، كما نشاهده في موقف هابيل مع أخيه، وكان يخاف الله واليوم الآخر، مما جعله يقول لأخيه إنه لا يريد قتله وإن أراد أخوه قابيل قتله.

يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)) (المائدة: 27 - 30).

ونلاحظ أيضاً في موقف إبراهيم (عليه السلام) حيث رأى في المنام أنه يذبح ولده وان ذلك يوجب تقربه إلى الله، فأقدم على ذبح ولده.

كما نرى إسماعيل (عليه السلام) وقد استعد لأن يقتل بسكين أبيه حيث علم إن ذلك إرادة الله سبحانه.

فلولا خوف الله سبحانه وتعالى هل كان الأب يقدم على هذه التضحية الرهيبة؟ وهل كان الولد يتقدم نحو الموت بخطى ثابتة وهو في ريعان الشباب؟

يقول الله تعالى بهذا الصدد: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)) (الصافات: 102 - 106).

و يوسف (عليه السلام)، حيث كان هو الآخر يخاف الله تعالى لم يستجب لنداء «زليخا» بعمل السوء معها، بل لم يستعد للإستجابة للنسوة حتى ابتلي بالسجن سبع سنوات كما في التفاسير.

يقول الله سبحانه وتعالى بهذا الصدد: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى

ص: 375

بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)) (يوسف: 22 - 25).

(* وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)) (يوسف: 30 - 34).

لاحظوا هذه القطعة: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (يوسف: 24).

إنها تصرح بأن الإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي عصم يوسف عن زليخا وعن النسوة أيضاً.

إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك!

والقرآن الكريم يشير في آياته إلى الفرق بين من يؤمن، ومن لا يؤمن، فالمؤمن - مثلاً - يؤدي الأمانة ولو كانت كبيرة، أما غير المؤمن فلا يؤديها ولو كانت صغيرة.

يقول الله سبحانه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)) (آل عمران: 75 - 77).

ص: 376

بين يوسف (عليه السلام) وفرعون

ومن المنطلق ذاته - الإيمان بالله أو عدم الإيمان - نلاحظ الفرق الشاسع بين ملكين، حكم كلاهما في (مصر) لكن أحدهما كان يؤمن بالله واليوم الآخر وهو (يوسف) والآخر لم يكن يؤمن بالله واليوم الآخر وهو (فرعون) فكان يوسف مصلحاً عظيماً وكان فرعون مفسداً كبيراً.

يقول الله سبحانه وتعالى عن فرعون: (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) (القصص: 4).

فكان يقتل الأولاد ويبقي النساء ويأسرهن لجيشه ولذويه.

ويقول الله سبحانه عنه أيضاً: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)) (الزخرف: 51 - 56).

وأما الحاكم المؤمن - يوسف (عليه السلام) - فلم تبطره السلطة، ولم يصبه الغرور.. بل إنه يتجه - وهو في قمة عظمته ومجده - إلى الله سبحانه: يشكره، ويستمده ويستهديه..

وينقل القرآن الكريم عنه (عليه السلام) قوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101).

فيوسف (عليه السلام) - باعتباره مؤمناً - لم يكن يفسد أو يقتل - أو يتعدى وإنما هو يرى إن الملك لله سبحانه وتعالى، وإن مصر بعض ملك الله.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي) (من) (الْمُلْكِ) (يوسف: 101).

وإن الله هو الذي آتاه الملك، وإن الله هو الذي علّمه من تأويل الرؤيا الذي

ص: 377

سبّب أن يصل إلى الملك، حيث فسر رؤيا الملك، فلما رآه الملك وكلمه جعله وزيراً للتموين ثم أصبح بعد موت الملك ملكاً في مصر ثم إنه (عليه السلام) يطلب من الله سبحانه أن يبقى على إيمانه وعمله الصالح حتى يستحق أن يدخل في الصالحين في الآخرة.

لا يسترد أمواله وهو في أمسّ الحاجة!

وكذا نشاهد أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يتعدى عن أحكام الله سبحانه وتعالى حتى إذا كان بعنوان المستحب أو المكروه، لأنه يخاف ويرجو ثوابه.

وقد روى الصدوق، عن إبراهيم بن هاشم: أن محمد بن عمير كان رجلاً بزازاً فذهب ماله وافتقر وكان له على رجل عشرة آلاف درهم فباع الرجل داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم وحمل المال إلى بابه فخرج إليه بن أبي عمير.

فقال: ما هذا؟

فقال: هذا مالك الذي لك عليّ.

قال: ورثته؟

قال: لا.

قال: وُهب لك؟

قال: لا.

فقال: هو من ثمن ضيعة بعتها؟

فقال: لا.

فقال: ما هو؟

فقال: بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني.

فقال محمد بن أبي عمير: حدثني ذريع المحاربي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين) ابتعها فلا حاجة لي فيها، وإني لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم وما يدخل ملكي من هذا درهم؟

ص: 378

من الولاية.. إلى العري!

وقد جاء أحد ولاة بني أمية إلى الإمام الصادق (عليه السلام) يسأله طريق التوبة، فقال له الإمام (عليه السلام): إذا أردت التوبة فعليك أن تخرج من جميع أموالك.

فخرج الرجل من جميع أمواله حتى احتاج إلى ملابس يلبسها فأعطاه أصدقاؤه ملابساً لبدنه.

يتخلى عن17 ألف دينار لأجل شبهة شرعية

ومن قصص العلماء أنه جاء إلى والدي - رحمه الله - رجل وأراد أن يسلمه مبلغاً من الحقوق - وأظن المبلغ (سبعة عشر ألف دينار) - وكان هذا المبلغ يعادل ما يقارب من أربعين شهراً من الرواتب التي كان يدفعها للطلبة والفقراء آنذاك، - قبل أربعين سنة تقريباً.. فلم يقبل الوالد ذلك لإشكال رآه في أخذ المبلغ وكلما أصرَّ صاحب المال على أن يقبله الوالد (رحمه الله)، أبى وامتنع.

ولما ذهب الرجل قلت للوالد: إن هذه حقوق شرعية وإنك إذا تسلّمتها تعطيها للطلاب والفقراء والمؤسسات والمشاريع الخيرية، فما هو المانع من أخذها؟

فنظر (رحمه الله) إلي وقال: يجب علينا أن نفكر نحن في آخرتنا، لا أن يغرّنا المال الذي نراه كثيراً.

وهكذا ترك الوالد (رحمه الله) ذلك المبلغ الضخم، لأجل أنه كان يخاف الله واليوم الآخر، وكان يخاف من أن يغتر بالدنيا حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان: 33).

وقال عز وجل: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (الحديد: 14).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحة جسدك، لعلك تبقى، ولعلك اغتررت بطول عمرك

ص: 379

وأولادك وأصحابك لعلك تنجو بهم، وربما اغتررت بجمالك ومنيتك وأصابتك وأموالك وهواك فظننت أنك صادق ومصيب، وربما اغتررت بما ترى على الندم على تقصيرك في العبادة، ولعل الله يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربما أقمت نفسك على العبادة متكلفاً والله يريد الإخلاص، وربما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب الله تعالى، وربما توهمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك، وربما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة)(1).

إلى غير ذلك مما ورد في الغرور وفي طوائف المغرورين.

فالوالد (رحمه الله) كان يخاف الله واليوم الآخر لأن له موقفاً في الآخرة يحاسب فيه على كل شيء، وكان (رحمه الله) يقول لي مرات ومرات: إن الإنسان يجب أن يعمل في الدنيا عملاً لا يخجله إذا فتح حسابه يوم القيامة أمام الناس.

كأن زفير النار في آذانهم

وقد روي في مشكاة الأنوار، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (صلّى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح واقبل الناس بوجهه قال: والله لقد أدركنا أقواماً كانوا يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وركبهم كأن زفير النار في آذانهم، إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر، كأن القوم باتوا غافلين، ثم قال، ثم قام فما رؤي ضاحكاً حتى قبض صلوات الله عليه)(2).

من سير التابعين

تورّع السيد البروجردي (رحمه الله)

نقل أحد المرافقين للسيد البروجردي (رحمه الله) أنه كان يحتاط في مأكله وملبسه ومشربه ومسكنه احتياطاً كبيراً رغم الحقوق الشرعية الكثيرة التي كانت

ص: 380


1- المصدر السابق: ص119.
2- بحار الأنوار: ج65، ص319.

تنهال عليه، وكان له مورداً مالياً يصله من بعض أملاكه، يصرفه على شؤونه المنزلية، وذات مرة مرض السيد فقال الأطباء بأن سببه الضعف، وإن اللازم أن يأكل اللحم فصنع له خادمه لحماً مقلياً، ولما أن قدم له الطعام ورأى السيد اللحم المقلي على المائدة توجه إلى خادمه وقال له: من أين هذا؟ إن واردنا لا يكفي لإضافة اللحم المقلي في الغداء.

قال الخادم هكذا وصف الأطباء لأجل ضعفكم.

قال السيد (رحمه الله): كلا، إحمل اللحم المقلي إلى الفقراء وإذا لم تحمل اللحم المقلي فإني لا آكل الطعام!

وهكذا اقتنع السيد بطعامه العادي حيث رأى أن وارده من ملكه - الذي خصصه لنفسه والذي ورثه من آبائه - لا يفي بالمزيد.

لاحظوا: كيف أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يمنع الإنسان عن التصرف، لا التصرف السيئ فقط، بل حتى عن التصرف المتعارف.

قائد الثورة يرتدي الملابس المرقّعة!

وينقل أيضاً بعض العلماء أن الميرزا محمد تقي الشيرازي (رحمه الله)، وهو المرجع الأعلى في زمانه وقائد ثورة الاستقلال ضد بريطانيا في العراق، كان زاهداً في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وإن داره كانت بالإيجار، رغم وصول أموال كثيرة جداً إليه كان يدير بسببها الثورة والحوزات العلمية وغير ذلك، إذ كانت الأموال تجبى إليه من إفريقيا ومن بلاد ما كان يسمى ب- (الاتحاد السوفيتي)، وهي بلاد إسلامية رزحت لعقود تحت سيطرة الشيوعيين، مثل آذربيجان و قازقستان وغيرهما، ومن إيران والعراق والخليج وسائر البلاد الإسلامية.

قال أحدهم: رأيت ثوب الشيخ مرقّعاً فقلت لولده الميرزا عبد الحسين (رحمه الله) لماذا ثوب الشيخ هكذا مع أن رؤساء العشائر والضباط وكبار العلماء والشخصيات يزورونه فيرون أن ثوبه مرقع وهذا غير مناسب؟

ص: 381

فأجاب الميرزا عبد الحسين: إن لوالدي مزرعة في شيراز متوارثة من آبائه تدر عليه كل سنة مائة تومان والشيخ يرى لزوم تأمين مصارف العائلة من هذه المائة تومان طوال السنة، لتوفير الطعام والشراب والملبس وتسديد إيجار الدار وغير ذلك، وحيث رأينا أن هذا المبلغ لا يكفي لكل الشؤون اقتصر الشيخ على الملابس المتواضعة المرقعة لأجل أن يكفي المبلغ سائر الشؤون التي تصطبغ بلون المتواضعة أيضا.

الشيخ الأنصاري (رحمه الله) والوديعة

وينقل في أحوال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أنه سأل عن أمرٍ فقال في الجواب: كانت لدي أموال وديعة، وصادف أن كانت زوجتي في حالة الولادة، وهي بأمس الحاجة إلى بعض المستلزمات الطبية أو الغذائية لتسهيل أمر الولادة، فذهبت إلى الوديعة لأستقرض منها شيئاً حتى أصرفه في شؤونها، لكني فكرت: لعل صاحب الوديعة لا يرضى فرجعت، وذهبت مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وأخيراً: توكلت على الله واكتفينا ببعض ما في الدار وسهّل الله أمر الولادة، فوضعت الزوجة بدون الحاجة إلى غذاء أو دواء أضافي.

يحرق رؤوس أصابعه كي لا يقترب من المعصية!

ويذكر في أحوال السيد محمد باقر (المير الداماد): إن فتاة دخلت غرفته ذات ليلة - ضيفة - ولما وسوس إليه الشيطان، أحرق رؤوس أصابعه على المصباح حتى يذوق الألم ويفكر في نار جهنم، فلا يقترب من العصيان، وعندما عرف الملك الصفوي بالقصة زوجه بنته - نفس تلك الفتاة - بعد ذلك، وعلت رتبته عند الناس.

وهكذا تكون العاقبة المحمودة لمن خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، ترى أي حاجز غير الخوف من الله سبحانه وتعالى عصمه عن اقتراف المعصية وهو في ريعان شبابه، والفتاة وحدها في الغرفة، ولا يعلم بهما إلا الله سبحانه وتعالى؟

ص: 382

4: دور الإيمان في العصر الراهن
اشارة

وفي الزمن الحاضر نرى أن جمهرة كبيرة من المسلمين، ربما يعدّون بمئات الملايين، ينطلقون من الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاء ثوابه وخشية عقابه، ولولا ذلك لتمكنوا أن يرتكبوا الأعمال اللامشروعة في الأموال والأعراض والدماء وما أشبه.

وقد ترى إنساناً يتنازع مع آخر حول دينار ويرجعان إلى المحكمة لأجل إحقاق الحق، بينما نفس هذا الإنسان الذي ينازع غيره حول الدينار يأتي إلى المرجع الديني فيعطي ألف دينار وأكثر وأكثر حقوقاً شرعية بدون أي قسرٍ أو جبر.

وهكذا نرى في كثير ممن يعملون الخير سواء بإعطاء الحقوق كالزكاة والمظالم وما أشبه أو مساعدة الفقراء أو بناء المساجد والمكتبات والمدارس ودور العجزة والمستشفيات والمستوصفات أو غيرها ولا يحبون أن يذكر لهم اسم بل يخفون ذلك اتباعاً لما ورد في أحاديث كثيرة من استحباب إخفاء الصدقة:

ففي الجعفريات، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (صنيع المعروف يدفع ميتة السوء، والصدقة في السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، فإذا تصدق أحدكم بيمينه فليخفها عن شماله)(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: (لما أخذت في غسل أبي علي بن الحسين (عليه السلام) أحضرت معي من رآه من أهل بيته فنظروا إلى مواضع السجود منه في ركبتيه وظاهر قدميه وبطن كفيه وجبهته قد غلظت من أثر السجود حتى صارت كمبارك

ص: 383


1- مستدرک الوسائل: ج15، ص 234.
2- بحار الأنوار: ج89، ص24.

البعير وكان صلوات الله عليه يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، ثم نظروا إلى حبل عاتقه وعليه أثر قد اخشوشن فقالوا لأبي جعفر (عليه السلام): أما هذه فقد علمنا أنها من أثر السجود، فما هذا الذي على عاتقه؟

قال (عليه السلام): والله ما علم به أحد غيري وما علمته من حيث علم إني علمته، ولو أنه قد مات ما ذكرته، كان إذا مضى من الليل صدره قام وقد هدأ كل من في منزله فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين خفيفتين ثم نظر إلى كل ما فضل في البيت عن قوت أهله فجعله في جراب ثم رمى به إلى عاتقه وخرج محتسباً يتسلل لا يعلم به أحد، فيأتي دوراً فيها أهل مسكنة وفقر فيفرّق ذلك عليهم وهم لا يعرفونه إلا أنهم قد عرفوا ذلك عنه فكانوا ينتظرونه، فإذا أقبل قالوا: هذا صاحب الجراب وفتحوا أبوابهم له ففرق عليهم ما في الجراب وانصرف فارغاً، يبتغي بذلك فضل صدقة السر وفضل صدقة الليل وفضل إعطاء الصدقة بيده، ثم يرجع فيقوم في محرابه فيصلي باقي ليله فهذا الذي ترون على عاتقه أثر ذلك الجراب)(1).

أقول: ورد مثل ذلك عن الحسن (عليه السلام) لما غسَّل أباه علياً (عليه السلام) كما ورد مثل ذلك عن الحسين (عليه السلام) بعد أن استشهد.

وفي رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (صدقة السر تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار وتدفع سبعين باباً من البلاء)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (في القيامة سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله - وعد منهم - من يتصدق بيمينه ويخفيها عن شماله)(3).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً)(4).

ص: 384


1- مستدرک الوسائل: ج7، ص182.
2- المصدر السابق: ص184.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص185.

وفي رواية عنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال لرجل تمنى الموت: (الموت شيء لا بد منه، وسفر طويل ينبغي لمن أراده أن يرفع عشر هدايا (إلى أن قال (صلّى الله عليه وآله) في جملة تلك الأمور): البكاء من خشية الله، وصدقة السر، وترك المعاصي، وبر الوالدين)(1).

الدعاء والبكاء ، قوة للإيمان

يزداد الإيمان رسوخاً وقوة بأمرين: وهما الدعاء والبكاء من خشية الله سبحانه وتعالى ومن هنا ورد التأكيد الشديد في النصوص الدينية عليهما.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أفضل عبادة أمتي بعد قراءة القرآن الدعاء، ثم قرأ (صلّى الله عليه وآله): (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60).

ألا ترى أن الدعاء هو العبادة)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لم يهلك مع الدعاء، وليسأل أحدكم ربه حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، واسألوا الله من فضله فإنه يحب أن يسئل)المصدر السابق..

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد كل قطر إلى نفس لما قدر لها ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله)

وقال (صلّى الله عليه وآله): (الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين وزين ما بين السماء والأرض)(3).

وفي حديث عن الصادق (عليه السلام): (إن الدعاء أنفذ من سلاح الحديد)(4).

ص: 385


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ج5، ص160.
3- المصدر السابق: ص160.
4- المصدر السابق: ص165.

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (إن الدعاء.. يرد القضاء المبرم بعدما أبرم إبراماً فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة، ونجاح كل حاجة، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه)(1).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (إلا أدلكم على سلاح ينجيكم من عدوكم ويدرّ أرزاقكم؟

قالوا: بلى.

قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن الدعاء سلاح المؤمنين).

وفي نهج البلاغة، عن علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، فتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن سألت من التوبة ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك حيث الفضيحة، ولم يشدد إليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك بالرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب فإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم نجواك، فافضيت إليه بحاجتك، وأثبته ذات نفسك وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك من مساءلته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته… إلى أن قال (عليه السلام): فليكن مسائلتك فيما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، والمال لا يبقى لك، ولا تبقى له)(2).

وفي رواية عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، عن جبرئيل، عن الله عز وجل: (يا عبادي كلكم

ص: 386


1- المصدر السابق: ص166.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص48.

ضال إلا من هديته، فاسألوني الهداية أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني الغنى أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيته فاسألوني المغفرة أغفر لكم، ومن علم إني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني بقدرتي غفرت له ولا أبالي.

(إلى أن قال سبحانه): ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فيتمنى كل واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته لم يتبين ذلك في ملكي، كما لو أن أحدكم مر على شفير البحر فغمس فيها إبرة ثم انتزعها فإني جواد ماجد وأجد عطائي فإذا أردت شيئاً فإنما أقول: كن فيكون)(1).

وأما البكاء فقد ورد في القرآن الكريم آيات حوله:

قال سبحانه: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) (الإسراء: 107 - 109).

وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: 58).

وقال سبحانه: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) (النجم: 59 - 61).

وهنالك أحاديث كثيرة وردت بهذا الشأن:

فعن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عن الحسين بن علي، عن علي (عليه السلام) في خبر في حالات النبي (صلّى الله عليه وآله): (كان يبكي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يبتل مصلاه، خشية من الله عز وجل)(2).

وروى السيد ابن طاووس في (فلاح السائل) عن (حبة العرني) قال: بينما أنا ونوف نائمان في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين (عليه السلام) في بقية من الليل واضعاً يده على الحائط شبه الواله وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: 164) .

ص: 387


1- مستدرک الوسائل: ج5، ص164.
2- بحار الأنوار: ج17، ص293.

(إلى آخر الآية)، ثم جعل يقرأ هذه الآيات ويمر شبه الطائر فقال: أراقد يا حبة أم رامق؟

قلت: رامق.

ثم قلت: هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟

فأرخى عينيه فبكى ثم قال لي: يا حبة إن لله موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبة إن الله أقرب إليك وإليّ من حبل الوريد، يا حبة، إنه لن يحجبني ولا إياك عن الله شيء.

ثم قال: أراقد يا نوف؟

قلت: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة.

فقال: يا نوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله عز وجل قرّت غداً عيناك بين يدي الله عز وجل.

يا نوف، إنه ليس من قطرة من عين رجل من خشية الله إلا أطفأت بحاراً من النيران، يا نوف أنه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله وأحب في الله وأبغض في الله، يا نوف من أحب في الله لم يستأثر على محبته ومن أبغض لم ينل مبغضيه خيراً عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان ثم وعظهما وذكرهما (وقال في آخر الحديث)، فكونوا من الله على حذر فقد أنذرتكما، ثم جعل يمر وهو يقول: ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عني أم ناظر إلي وليت شعري في طول منامي وقلة شكري في نعمك على ما حالي؟(1)

قال: فوالله ما زال في هذا الحال حتى طلع الفجر.

وفي رواية عن نوف قال: (لقد رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض بيده على لحيته يتململ كتململ السليم ويبكي بكاء الحزين).

ص: 388


1- فلاح السائل، للشيخ البهائي: ص267.

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (ما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ غضب الرب، ولو أن عبداً بكى من خشية الله في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه)(1).

الإيمان في النصوص الدينية
ملامح الإيمان

عن عمرو بن ثابت، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال: اللهم أعنه.

أما الأولى فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً.

والثانية الورع لا تجترين على خيانة أبداً.

والثالثة الخوف من الله كأنك تراه.

والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبني لك بكل دمعة بيت في الجنة.

والخامسة بذل دمك ومالك دون دينك.

والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف.

وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها)(2).

ص: 389


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص240.
2- المصدر السابق: ص140.

وعن الحسن بن عطية، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (المكارم عشر فان استطعت أن تكون فيك فلتكن فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحرّ: صدق الناس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، وإطعام السائل، والمكافاة على الصنايع، وصدق اللسان، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، ورأسهن الحياء)(1).

وعن عبد الملك بن غالب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، أن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه، والبر والده)(2).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: (إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع شعب، الشوق والإشفاق، والزهد، والترقب (إلى أن قال) واليقين على أربع شعب، تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، ومعبرة العبرة، وسنة الأولين، والعدل على أربع شعب، على غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم (إلى أن قال) والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين)(3).

وعن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (المؤمن ينصت ليسلم، وينطق ليغنم، ولا يحدث أمانته الأصدقاء، ولا يكتم شهادته من البعداء، ولا

ص: 390


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص143.
3- المصدر السابق: ص144.

يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً، إن زكى خاف ما يقولون، ويستغفر الله لما لا يعلمون، ولا يغرّه قول من جهله، ويخاف إحصاء ما عمله)(1).

وعن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (ما عُبد الله بشيء افضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى تكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والخير والحسن منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه من الله مع العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه، وإنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر)(2).

وعن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض ما رواه، رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة، وعفو في قدرة، وطاعة لله في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، ولا يغتاب ولا يتكبر، ولا يقطع الرحم، وليس بواهن ولا فظ ولا غليظ ولا يسبقه بصره، ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه، ولا يحسد الناس، يعيّر ولا يعيّر، ولا يسرف، ينصر المظلوم، ويرحم المسكين، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، لا يرغب في عز الدنيا، ولا يجزع من ذلها، للناس هم قد أقبلوا عليه، وله همّ قد شغله، لا يرى في حلمه نقص، ولا في رأيه وهن، ولا في دينه ضياع، يرشد من استشاره، ويساعد من ساعده، ويكيع عن الخنا والجهل)(3).

عن أحدهما، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن صفة

ص: 391


1- المصدر السابق: ص145.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

المؤمن فقال: (عشرون خصلة في المؤمن، فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، إن من أخلاق المؤمنين - يا علي - الحاضرون الصلاة، والمسارعون إلى الزكاة، والمطعمون للمسكين، الماسحون لرأس اليتيم، المطهرون أطمارهم، المتزرون على أوساطهم، الذين إن حدثوا لم يكذبوا، وإن وعدوا لم يخلفوا، وإن ائتمنوا لم يخونوا، وإن تكلموا صدقوا، رهبان الليل، أسد بالنهار، صائمون النهار، قائمون الليل، لا يؤذون جاراً، ولا يتأذى بهم جار، الذين مشيهم على الأرض هون، وخطاهم على بيوت الأرامل وعلى أثر الجنائز جعلنا الله وإياكم من المتقين)(1).

عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن شيعة علي (عليه السلام) كانوا خمص البطون، ذبل الشفاه، أهل رأفة وعلم وحلم يعرفون بالرهبانية، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد)(2).

وعن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا)(3).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين بن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ثلاث خصال من كن فيه استكمل خصال الإيمان: إذا رضي لم يدخل رضاه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق وإذا قرر لم يتعاط ما ليس له)(4).

وعن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن

ص: 392


1- المصدر السابق: ص146.
2- المصدر السابق: ص147.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص148.

لأهل الدين علامات يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء العهد، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المراقبة للنساء - أو قال وقلة المواتاة للنساء -، وبذل المعروف وحسن الجوار، وسعة الخلق، واتباع العلم، وما يقرب إلى الله (إلى أن قال) إن المؤمن نفسه منه في شغل، والناس منه في راحة، إذا جن عليه الليل افترش وجهه، وسجد لله بمكارم بدنه، يناجي الذي خلقه في فكاك رقبته ألا فهكذا كونوا).

وعن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الاقتار، والتوسع على قدر التوسع، وإنصاف الناس، وابتداؤه إياهم بالسلام عليهم)(1).

وعن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما المؤمن الذي إذا رضى لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإن سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق)(2).

وعن مهزم الأسدي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (يا مهزم شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناه يديه، ولا يمتدح بنا معلنا(3)، ولا يجالس لنا عائباً، ولا يخاصم لنا قالياً، وإن لقي مؤمناً أكرمه، وإن لقي جاهلاً هجره إلى أن قال) شيعتنا من لا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، لا يسأل عدونا وإن مات جوعاً)(4).

وعن محمد بن عرفة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (ألا أخبركم بأشبهكم بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقاً، وألينكم كنفاً، وأبرّكم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم إنصافاً في الرضى والغضب)(5).

ص: 393


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص149.
3- يعني: حين يضر المدح.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص150.
5- المصدر السابق.

وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤنة، جيد التدبير لمعيشته، ولا يلسع من جحر مرتين)(1).

وعن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، في حديث مرفوع إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (جاء جبرئيل فقال: يا رسول الله إن الله أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما هي؟ قال: الصبر وأحسن منه.

قال: وما هو؟ قال: الزهد وأحسن منه.

قال: وما هو؟ قال: اليقين وأحسن منه.

قال: قلت: وما هو يا جبرائيل؟ قال: إن مدرجة ذلك التوكل على الله عز وجل.

فقلت: وما التوكل على الله؟ قال: العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا ينفع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لا يعمل لأحد سوى الله ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم يطمع في أحد سوى الله، فهذا هو التوكل.

قلت: يا جبرائيل فما تفسير الصبر؟ قال: تصبر في الضراء كما تصبر في السراء، وفي الفاقة كما تصبر في الغنى، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حاله عند المخلوق بما يصيبه من البلاء.

قلت: فما تفسير القناعة؟ قال: يقنع بما يصيب من الدنيا يقنع بالقليل، ويشكر اليسير.

قلت: فما تفسير الرضا؟ قال: الراضي لا يسخط على سيده أصاب من الدنيا أو لا يصيب منها، ولا يرضى لنفسه باليسير من العمل.

قلت: يا جبرائيل فما تفسير الزهد؟ قال: يحبّ من يحب خالقه، ويبغض من

ص: 394


1- المصدر السابق

يبغض خالقه، ويتحرج من حلال الدنيا، ولا يلتفت إلى حرامها، فإن حلالها حساب، وحرامها عقاب، ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه، ويتحرج من الكلام كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها، ويتحرج عن حطام الدنيا وزينتها كما يتجنب النار أن يغشاها، وأن يقصّر أمله، وكأن بين عينيه أجله.

قلت: يا جبرائيل فما تفسير الإخلاص؟ قال: المخلص الذي لا يسأل المخلوق فقد أقر لله بالعبودية، وإذا وجد فرضاً فهو عن الله راضٍ، والله تبارك وتعالى عنه راضٍ، وإذا أعطى الله عز وجل فهو على حد الثقة بربه.

قلت: فما تفسير اليقين؟ قال: المؤمن يعمل لله كأنه يراه، فإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه، وأن يعلم يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كله أغصان التوكل ومدرجة الزهد)(1).

النجاة في طاعة الله

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا تذهب بكم المذاهب فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل)(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام): (أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته)(3).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: (يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاود للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء، (إلى أن قال): أحب العباد إلى الله عز وجل

ص: 395


1- المصدر السابق: ص151.
2- المصدر السابق: ص184.
3- المصدر السابق.

أتقاهم وأعملهم بطاعته يا جابر والله ما تتقرب إلى الله عز وجل: إلا بطاعته، وما معنا براءة من النار، ولا على الله من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع)(1).

وعن عمرو بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا نتقرب إلى الله إلا بطاعة فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا ويحكم لا تغتروا ويحكم لا تغتروا)(2).

وعن مروان بن مسلم، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: قال الله عز وجل: (أيما عبد أطاعني لم أكله إلى غيري وأيما عبد عصاني وكلته إلى نفسه، ثم لم أبال في أي وادٍ هلك)(3).

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (اتقوا الله حق تقاته) (آل عمران: 102).

قال: (يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر)(4).

أداء الفرائض

عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): (من عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس)(5).

وعن محمد الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى (ما تحبب إلي عبدي بأحب مما افترضت عليه)(6).

ص: 396


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص185.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص186.
5- المصدر السابق: ص205.
6- المصدر السابق: ص206.

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس)(1).

وعن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (من عمل بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس)(2).

وعن السكوني، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (اعمل بفرائض الله تكن من أتقى الناس، وارض بقسم الله تكن من أغنى الناس، وكف عن محارم الله تكن من أورع الناس، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلماً)(3).

اجتناب المحارم

عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كل عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: عين سهرت في سبيل الله، وعين فاضت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله)(4).

وعن أبي عبيدة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً ثم قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم قال: لا أعني ذكر الله عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها)(5).

وعن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).

ص: 397


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص207.
4- المصدر السابق: ص200.
5- المصدر السابق.

قال: (أما والله إن كانت أعمالهم أشد بياضاً من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه)(1).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من ترك معصية الله مخافة الله تبارك وتعالى أرضاه يوم القيامة).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال: (وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء حرّم الله عليكم فإن من انتهك ما حرّم الله عليه في الدنيا حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأجل الجنة أبد الآبدين (إلى أن قال) وإياكم والإصرار على شيء مما حرم الله في القرآن ظاهره وباطنه وقد قال: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)(2).

وعن أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يقول الله تبارك وتعالى لابن آدم إن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين ولا تنظر، وإن نازعك لسانك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق فلا تتكلم، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ولا تأت حراماً)(3).

وعن زيد الشحام قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (ما ابتلى المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاث قيل: وما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، والإنصاف من نفسه، وذكر الله كثيراً، أما إني لا أقول لكم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن ذكر الله عندما أحل له وعندما حرم عليه)(4).

ص: 398


1- المصدر السابق: ص201.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص202.

وعن محمد بن حمران، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من قال: لا اله إلا الله مخلصاً دخل الجنة، وإخلاصه أن يحجزه لا إله إلا الله عما حرّم الله)(1).

وعن مسعدة بن زياد، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه تلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)(2).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أشد ما عمل العباد إنصاف المرء من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كل حال، قال: قلت: أصلحك الله وما وجه ذكر الله على كل حال؟ قال: يذكر الله عند المعصية يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله: (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) (الأعراف: 201)(3).

وعن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): (من أقام فرائض الله واجتنب محارم الله وأحسن الولاية لأهل بيتي وتبرأ من أعداء الله فليدخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)(4).

وعن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: (احذروا سطوات الله بالليل والنهار، فقلت وما سطوات الله؟ قال: أخذه على المعاصي)(5).

إيثار رضى الله على هوى النفس

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: (وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء

ص: 399


1- المصدر السابق: ص203.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص204.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص205.

من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه، وهمته في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر)(1).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره، ولبست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم آته إلا ما قدرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)(2).

وعن اسماعيل بن محمد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: (إني لست كل كلام الحكمة أتقبل، إنما أتقبل هواه وهمّه، فأن كان هواه وهمه في رضاي جعلت همه تقديساً وتسبيحاً)(3).

مسؤولية الجوارح

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الايمان بغير ما به أختها (إلى أن قال) فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وإن محمداً عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله) والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب، فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة وهو علمه، وهو قول الله عز وجل: (إلا من أكره وقلبه مطمئنُّ بالإيمان) (النحل: 106).

ص: 400


1- المصدر السابق: ص221.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص222.

وقال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)

وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به قال تبارك وتعالى اسمه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83) .

فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة فهو عمله، وهو رأس الإيمان.

وقال: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنبكوت: 46)

فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله، وفرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يعرض عمّا لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه، والإصغاء إلى ما اسخط الله عز وجل فقال: عز وجل في ذلك: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (النساء: 140).

ثم استثنى موضع النسيان فقال سبحانه: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 68)

وقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 17 - 18).

وقال تعالى: (* قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون: 1 - 4).

وقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (القصص: 55).

وقال: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: 72)

فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان.

ص: 401

وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عليه، وأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحلّ له وهو عمله وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور: 30).

من أن ينظروا إلى عوراتهم، وأن من ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه وقال: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور: 31).

من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليه.

ثم نظم ما فرض على القلب والبصر واللسان في آية أخرى فقال: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ) (فصلت: 22).

يعني بالجلود الفروج والأفخاذ وقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36).

وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرّم الله، وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلوات، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: 6).

وقال: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4).

فهذا ما فرض الله على اليدين لأن الضرب من علاجهما.

وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) (الإسراء: 37).

وقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 19).

ص: 402

وقال: فيما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله به وفرضه عليها -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: 65).

فهذا أيضاً مما فرض الله على اليدين، وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الإيمان.

وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77).

فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين، وقال في موضع آخر: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن: 18).

(إلى أن قال): فمن لقي الله حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليها لقي الله عز وجل مستكملاً لإيمانه وهو من أهل الجنة، ومن خان في شيء منها أو تعدى مما أمر الله عز وجل فيها لقي الله ناقص الإيمان (إلى أن قال): وبتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالنقصان دخل المفرطون النار)(1).

وعن الحسن بن هارون قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36).

قال: (يسأل السمع عما سمع، والبصر عما نظر إليه والفؤاد عما عقد إليه)(2).

وعن محمد بن مسلم، عن بعض الأصحاب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (الإيمان لا يكون إلا بعمل، والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلا بعمل)(3).

ص: 403


1- المصدر السابق: ص124.
2- المصدر السابق: ص127.
3- المصدر السابق.

عن عبد الله بن مسكان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أقر بدين الله فهو مسلم ومن عمل بما أمر الله فهو مؤمن)(1).

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً (صلّى الله عليه وآله) رسول الله قال: قلت: أليس هذا عمل؟ قال: بلى، قلت: فالعمل من الإيمان؟ قال: لا يثبت الإيمان بالعمل والعمل منه)(2).

التقوى

عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل)(3).

وعن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي، فقال: مه، استغفر الله، ثم قال لي: (إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى)، قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال (عليه السلام): (نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطي رحله فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده فإذا إرتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه)(4).

وعن الهيثم بن واقد قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: (من أخرجه الله عز وجل من ذل المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بلا مال، وأعزّه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس، ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء، ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضا منه باليسير من العمل، ومن لم يستح من طلب المعاش خفت مؤونته ونعم أهله، ومن زهد

ص: 404


1- المصدر السابق: ص127.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص190.
4- المصدر السابق.

في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وانطق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام)(1).

وقال علي (عليه السلام): (اتق الله بعض التقى وإن قل، واجعل بينك وبين الله ستراً وإن رق).

الورع

عن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)(2).

وعن يزيد بن خليفة قال: وعظنا أبو عبدالله (عليه السلام) فأمر وزهدّ ثم قال: (عليكم بالورع فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع)(3).

وعن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)(4).

وعن فضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن أشد العبادة الورع).

وعن حديد بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إتقوا الله وصونوا دينكم بالورع)(5).

وعن حنان بن سدير قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) في حديث: (إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي)(6).

وعن علي بن أبي زيد، عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه عيسى بن عبد الله القمي فرحب به وقرّب مجلسه ثم قال: (يا عيسى بن عبد

ص: 405


1- المصدر السابق: ص191.
2- المصدر السابق: ص192.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص193.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص193.

الله ليس منا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)(1).

وعن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية).

وعن عبيد الله بن علي، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: (ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق الله أورع منه)(2).

وعن إبراهيم الكرخي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (لا يجمع الله لمؤمن الورع والزهد في الدنيا إلا رجوت له الجنة)(3).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع)(4).

وعن أحمد بن محمد المنصوري، عن عم أبيه، عن علي بن محمد، عن آبائه عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (عليكم بالورع فإنه الدين الذي نلازمه وندين الله تعالى به ونريده ممن يوالينا لا تتعبونا بالشفاعة)(5).

العفة

عن منصور بن حازم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما عبادة أفضل عند الله من عفة بطن وفرج)(6).

ص: 406


1- المصدر السابق: ص194.
2- المصدر السابق: ص195.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص196.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص197.

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج)(1).

وعن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (عليه السلام) إني ضعيف العمل قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالاً، قال: فقال له (أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج)(2).

وعن عبد الله بن ميمون القدّاح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أفضل العبادة العفاف)(3).

وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال: (ومن لم يعط نفسه شهوتها اصاب رشده)(4).

وعن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من ضمن لي إثنين ضمنت له على الله الجنة، من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة يعني ضمن لي لسانه وفرجه)(5).

وفي عقاب الأعمال عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خطبة له: (ومن قدر على امرأة أو جارية حراماً فتركها مخافة الله حرم الله عليه النار وآمنه من الفزع الأكبر وأدخله الجنة، فان أصابها حراماً حرّم الله عليه الجنة وأدخله النار)(6).

وعن المفضل قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)(7).

ص: 407


1- المصدر السابق: ص198.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص199.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
وجوب الاجتناب عن الكبائر

عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من عبد إلا وعليه أربعون جنة حتى يعمل أربعين كبيرة، فإذا عمل أربعين كبيرة انكشفت عنه الجنن)(1).

وعن محمد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق (عليه السلام): (من اجتنب الكبائر يغفر الله جميع ذنوبه، وذلك قول الله عز وجل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31)(2).

وعن عباد بن كثير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: (كل ما أوعد الله عليه النار)(3).

وعن الحسن بن زياد العطار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: (قد سمى الله المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، ولم يسم من ركب الكبائر وما وعد الله عز وجل عليه النار مؤمنين في قرآن ولا أثر ولا سماهم بالإيمان بعد ذلك الفعل)(4).

وروي أنه سُئِل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) (النساء: 116).

دخلت الكبائر في مشية الله؟ قال: (نعم إن شاء عذب عليها وإن شاء عفا)(5).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث الإسلام والإيمان قال: (الإيمان من شهد أن لا إله إلا الله (إلى أن قال) ولم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار، قال أبو بصير: جعلت فداك وأينا لم يلق الله بذنب أوعد الله عليه النار؟

ص: 408


1- المصدر السابق: ص250.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص251.
5- المصدر السابق: ص265.

فقال: (ليس هو حيث تذهب إنما هو من لم يلق الله بذنب أوعد الله عليه بالنار ولم يتب منه)(1).

وعن سهل بن اليسع قال: سمع الرضا (عليه السلام) بعض أصحابه يقول: (لعن الله من حارب علياً (عليه السلام)، فقال له: (قل إلا من تاب وأصلح) ثم قال: (ذنب من تخلف عنه ولم يتب أعظم من ذنب من قاتله ثم تاب)(2).

وعن إبراهيم بن العباس قال: كنت في مجلس الرضا (عليه السلام) فتذاكرنا الكبائر وقول المعتزلة فيها: أنها لا تغفر، فقال الرضا (عليه السلام): قال أبو عبدالله (عليه السلام) قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة، قال الله عز وجل: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) (الرعد: 6)، (الحديث)(3).

وعن جندب الغفاري أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إن رجلاً قال يوماً والله لا يغفر لفلان، فقال الله عز وجل: (من ذا الذي تألّى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عمل الثاني بقوله: لا يغفر الله لفلان)(4).

طريق الإنابة الى الله
تحريم الإصرار على الذنب و وجوب التوبة

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه)(5).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من علامات الشقاء جمود العين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا والإصرار على الذنب)(6).

ص: 409


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص266.
3- المصدر السابق: ص267.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص268.
6- المصدر السابق.

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار)(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135).

قال الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار(2).

إياكم.. ومحقرات الذنوب

عن أبي أسامة زيد الشحام قال أبو عبدالله (عليه السلام): (اتقوا المحقّرات من الذنوب فإنها لا تغفر: قلت وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك)(3).

وعن سماعة قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب تجتمع حتى تكون كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف)(4).

وعن زياد: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: أيتوا بالحطب.

فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب.

فقال (صلّى الله عليه وآله): فليأت كل إنسان بما قدر عليه.

فجاؤوا به حتى رموا به بين يديه بعضه على بعض.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب.

ص: 410


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص245.
4- المصدر السابق.

ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)(1).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أشد الذنوب ما استهان به صاحبه)(2).

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (لا تحقروا شيئاً من الشر وإن صغر في أعينكم ولا تستكثروا شيئاً من الخير وإن كثر في أعينكم، فإنه لا كبير مع الاستغفار ولا صغير مع الإصرار)(3).

وعن محمد بن سليمان، عن رجل، عن محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال لمحمد بن مسلم في حديث: (لا تستصغرن حسنة أن تعملها، فإنك تراها حيث يسرّك، ولا تسصغرن سيئة تعملها فإنك تراها حيث تسوءك)(4).

وعن ابن أخي الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا)(5).

وعن محمد بن علي الكراجكي قال: روى أحد الأئمة (عليهم السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله كتم ثلاثة في ثلاثة: كتم رضاه في طاعته، وكتم سخطه في معصيته، وكتم وليه في خلقه، فلا يستخفن أحدكم شيئاً من الطاعات، فإنه لا يدري في أيها رضا الله ولا يستقلن أحدكم شيئاً من المعاصي فإنه لا يدري في أيّها سخط الله ولا يزرين أحدكم بأحد من خلق الله فإنه لا يدري أيهم وليّ الله)(6).

ص: 411


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص246.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص247.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

قال: ومن كلامه (عليه السلام): (لا تنظروا إلى صغير الذنب ولكن انظروا إلى ما اجترأتم)(1).

جملة من الأمور المنهي عنها

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أول ما عصي الله به ستة: حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة، وحب النساء)(2).

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ألا أخبركم بشرار رجالكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: شرار رجالكم البهات الجري الفحاش الآكل وحده، والمانع رفده والضارب عبده، والملجي عياله)(3).

وعن يزيد الصائغ، قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل على هذا الأمر إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن ائتمن خان، ما منزلته؟ قال: (هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر)(4).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الناس فقال: ألا أخبركم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله، فقال الذي يمنع رفده ويضرب عبده ويتزود وحده، فظنوا أن الله لم يخلق خلقاً هو شر من هذا)(5).

وعن يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ألا أخبركم بأبعدكم مني شبهاً؟) قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: الفاحش المتفحش البذيء البخيل المختال الحقود الحسود القاسي القلب والبعيد من كل خير يرجى، غير المأمون من كل شر يبقى)(6).

ص: 412


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص269.
3- المصدر السابق: ص270.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن ميسر، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله والتارك لسنتي، والمكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمستأثر بالفيء المستحل له)(1).

وعن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إن المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، إذا قام إلى الصلاة اعترض، قلت: يا بن رسول الله وما الاعتراض؟ قال: الالتفات، وإذا ركع ربض، يمسي وهمّه العشاء وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، إن حدثك كذبك، وإن ائتمنته خانك، وإن غبت اغتابك، وإن وعدك أخلفك)(2).

وعن ابن مسعود، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في وصية طويلة قال: سيأتي أقوام يأكلون طيب الطعام وألوانها ويركبون الدواب، ويتزينون بزينة المرأة لزوجها، ويتبرجون تبرج النساء وزينتهن مثل الملوك الجبابرة، هم منافقو هذه الأمة في آخر الزمان، شاربون بالقهوات، لاعبون بالكعاب، راكبون الشهوات، تاركون الجماعات، راقدون عن العتمات، مفرطون في الغدوات، يقول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59)(3).

وعن الصادق جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله تبارك وتعالى كره لكم أيتها الأمة أربعاً وعشرين خصلة، ونهاكم عنها، كره لكم العبث في الصلاة، وكره المنّ في الصدقة، وكره الضحك بين القبور، وكره التطلع في الدور، وكره النظر إلى فروج النساء، وقال: يورث العمى، وكره الكلام عند الجماع وقال يورث الخرس، وكره النوم قبل العشاء الآخرة، وكره الحديث بعد العشاء الآخرة، وكره الغسل تحت السماء بغير ميزر، وكره المجامعة تحت السماء، وكره دخول الأنهار إلا بميزر، وقال: في الأنهار عمّار وسكان من الملائكة وكره دخول الحمام إلا بميزر، وكره الكلام بين الآذان والإقامة في

ص: 413


1- المصدر السابق: ص271.
2- المصدر السابق: ص272.
3- المصدر السابق.

صلاة الغداة حتى تنقضي الصلاة، وكره ركوب البحر في هيجانه، وكره النوم فوق سطح ليس بمحجر وقال: من نام على سطح ليس بمحجر فقد برئت منه الذمة وكره أن ينام الرجل في بيت وحده، وكره للرجل أن يغشى امرأته وهي حائض، فإن غشيها وخرج الولد مجذوماً أو أبرص فلا يلومنّ إلا نفسه، فإن فعل وخرج الولد مجنوناً فلا يلومن إلا نفسه، وكره أن يكلّم الرجل مجذوماً إلا أن يكون بينه وبينه قدر ذراع، وقال: فرّ من المجذوم فرارك من الأسد، وكره البول على شط نهر جار، وكره أن يحدث الرجل تحت شجرة مثمرة قد أينعت، أو نخلة قد أينعت يعني أثمرت وكره الرجل أن ينتعل وهو قائم، وكره أن يدخل الرجل البيت المظلم إلا أن يكون بين يديه سراج أو نار، وكره النفخ في الصلاة)(1).

وعن سعيد بن علاقة، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (ترك نسج العنكبوت في البيت يورث الفقر، والبول في الحمام يورث الفقر، والأكل على الجنابة يورث الفقر، والتخلل بالطرفاء يورث الفقر، والتمشط من قيام يورث الفقر، وترك القمامة يورث الفقر، واليمين الفاجرة تورث الفقر، والزنا يورث الفقر، وإظهار الحرص يورث الفقر، والنوم بين العشائين يورث الفقر، والنوم قبل طلوع الشمس يورث الفقر، واعتياد الكذب يورث الفقر، وكثرة الاستماع إلى الغناء يورث الفقر، ورد السائل الذكر بالليل يورث الفقر، وترك التقدير في المعيشة يورث الفقر، وقطيعة الرحم تورث الفقر)(2).

ثم قال (عليه السلام): (ألا أنبئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق، وكسح الغناء يزيد في الرزق، ومواساة الأخ في الله عز وجل يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، واستعمال الأمانة يزيد في الرزق، وقول الحق يزيد في الرزق، وإجابة المؤذن تزيد في الرزق، وترك الكلام على

ص: 414


1- المصدر السابق: ص274.
2- المصدر السابق: ص276.

الخلاء يزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق وشكر النعم تزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء قبل الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق، ومن سبّح الله كل يوم ثلاثين مرة دفع الله عنه سبعين نوعاً من البلاء أيسرها الفقر)(1).

وعن ابن عباس، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في حجة الوداع: (إن من أشراط القيامة إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدنيا بالدين، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره).

ثم قال: (إن عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، ويصدّق الكاذب، ويكذّب الصادق).

ثم قال: (فعندها أمارة النساء ومشاورة الإماء، وقعود الصبيان على المنابر، ويكون الكذب ظرفاً، والزكاة مغرماً والفيء مغنماً، ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه).

ثم قال: (فعندها يكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها، ويشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويركبن ذوات الفروج السروج فعليهم من أمتي لعنة الله).

ثم قال: (إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس، وتخلى المصاحف، وتطول المنارات، وتكثر الصفوف والقلوب قباضة، والألسن مختلفة).

ثم قال: (فعند ذلك تحلّى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون الحرير والديباج، ويتخذون جلود النمر صفاقاً).

ثم قال: (فعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالغيبة والرشا، ويوضع الدين، وترفع الدنيا).

ص: 415


1- المصدر السابق.

ثم قال: (وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد ولن يضر الله شيئاً).

ثم قال: (وعندها تظهر القينات والمعازف، وتليهم شرار أمتي).

ثم قال: (وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة، ويحج أوساطها للتجارة ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله فيتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا).

ثم قال: (وذلك إذا انتهكت المحارم، واكتسب المآثم، وتسلّط الأشرار على الأخيار، ويفشو الكذب، وتظهر الحاجة، وتفشى الفاقة، ويتباهون في الناس ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إلى أن قال:) فأولئك يدعون في ملكوت السماء الأرجاس الأنجاس) (الحديث)(1).

احذروا أهواءكم.. كما تحذرون أعداءكم

عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس بشيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم)(2).

وعن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنما أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)(3).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): (اتق المرتقى السهل إذا كان منحدره وعراً)(4).

ص: 416


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص346.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

قال: وكان (عليه السلام) يقول: (لا تدع النفس وهواها، فإن هواها في ردائها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكف النفس عما تهوى دواؤها)(1).

ثانياً: مضاعفات الذنوب

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).

قال: ثم قال وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(2).

وعن مسمع، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعّمن)(3).

وعن الفضيل بين يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب وما يعفو الله أكثر)(4).

وعن طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: (ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)(5).

وعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن العبد ليذنب فيزوى عن الرزق)(6).

وعن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الرجل ليذنب الذنب فيدرء عنه

ص: 417


1- المصدر السابق.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص237.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص238.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

الرزق وتلا هذه الآية: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) (القلم: 17 - 19)(1).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إذا أذنب الرجل خرج من قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً)(2).

وعن بن فضال، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج من النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبداً، وهو قول الله عز وجل: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14).

وعن أبي عمرو المدايني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان أبي يقول: (إن الله قضى قضاءً حتماً لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة)(4).

وعن يونس بن يعقوب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (إن أحدكم ليكثر الخوف من السلطان، وما ذلك إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها)(5).

وعن العباس بن هلال الشامي قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (كلما

ص: 418


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص239.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص240.
5- المصدر السابق.

أحدث العبد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(1).

وعن جعفر الجعفري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باكي)(2).

وعن مفضل بن عمر، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (يا مفضل إياك والذنوب وحذّرها شيعتنا، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرة من السلطان وما ذلك إلا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما ذاك إلا بذنوبه)(3).

وعن عمرو بن عثمان، عن رجل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (حق على الله أن لا يعصى في دار أضحاها للشمس حتى تطهرها)(4).

وعن الهيثم بن واقد الجزري قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الله عز وجل بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحبّ إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون، وقل لهم: إن رحمتي سبقت غضبي، فلا تقنطوا من رحمتي فإنه لا يتعاظم عندي ذنب أغفره، وقل لهم: لا يتعرضوا معاندين لسخطي، ولا يستخفوا بأوليائي فإن لي سطوات عند غضبي لا يقوم لها شيء من خلقي)(5).

ص: 419


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص241.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص242.

وعن عباد بن صهيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: يقول الله عز وجل: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)(1).

كفى بالندم توبة

عن أبي العباس، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)(2).

وعن عمرو بن عثمان عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: نعم إنه يذنب فلا يزال خائفاً ماقتاً لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة)(3).

وعن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (ما من عبد أذنب ذنباً فندم عليه، إلا غفر الله له قبل أن يستغفر، وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنها من عند الله إلا غفر الله له قبل أن يحمده)(4).

وعن علي الجهضمي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كفى بالندم توبة)(5).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): (أربع من كن فيه كمل إيمانه، ومحصت عنه ذنوبه: من وفى لله بما جعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيى من كل قبيح عند الله وعند الناس، ويحسن خلقه مع أهله)(6).

ص: 420


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص349.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص350.
لا تذع سيئاتك

عن العباس مولى الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيئة مغفور له)(1).

التوبة التي لا رجعة فيها

عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إذا تاب العبد توبة نصوحاً أجلّه الله بستر عليه من الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب)(2).

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم: 8).

قال: (هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا).

قلت: وأيّنا لم يعد؟ فقال: (يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب)(3).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ)(4).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (أوحى الله إلى داود النبي (عليه السلام) يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنباً ثم رجع وتاب من ذلك الذنب واستحيى مني عند ذكره غفرت له وأنسيته الحفظة وأبدلته الحسنة ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين)(5).

ص: 421


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص357.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص359.
5- المصدر السابق.

وعن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن لله فضولاً من رزقه ينحله من شاء من خلقه والله باسط يده عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له ويبسط يده عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له)(1).

وعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مثل المؤمن عند الله تعالى كمثل ملك مقرب وإن المؤمن عند الله لأعظم من ذلك وليس شيء أحب إلى الله تعالى من مؤمن تائب ومؤمنة تائبة)(2).

وعن حفص بن غياث قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (لا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل يزداد في كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك ذنبه بالتوبة) الحديث(3).

وعن ابن طاووس عن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): اعترفوا بنعم الله ربكم وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم فإن الله يحب الشاكرين من عباده)(4).

شروط التوبة

عن محمد بن أحمد بن هلال قال: سألت أبا الحسن الأخير (عليه السلام) عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب (عليه السلام): (أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك)(5).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إن قائلاً قال بحضرته: استغفر الله.

فقال: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين وهو إسم واقع على ستة معانٍ:

ص: 422


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص360.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص361.

أولها الندم على ما مضى.

والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً.

والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة.

والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلتصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: استغفر الله(1).

وعن كميل بن زياد، أنه قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): العبد يصيب الذنب فيستغفر الله، فقال: يابن زياد... أن العبد إذا أصاب ذنباً قال أستغفر الله بالتحريك، قلت وما التحريك؟ قال الشفتان واللسان يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت وما الحقيقة؟ قال تصديق القلب وإضمار أن لا تعود إلى الذنب(2).

تجديد التوبة وإن تكرر نقضها

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان).

قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة.

قال: (يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته) ؟

قلت: فإنه فعل ذلك مراراً يذنب ثم يتوب ويستغفر.

ص: 423


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص362.

فقال: (كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله)(1).

وعن أبي جميلة قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إن الله يحب العبد المفتن التواب ومن لا يكون ذلك منه كان أفضل)(2).

وعن الديلمي قال: قال رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال: استغفر الله.

فقال: إني أتوب ثم أعود.

فقال: كلما أذنبت استغفر الله.

فقال: إذن تكثر ذنوبي.

فقال: (عفو الله أكثر فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور)(3).

التعويض عن الماضي قبل فوات الآوان

عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (إنما الدهر ثلاثة أيام أنت فيما بينهن، مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبداً، فإن كنت عملت فيه خيراً لم تحزن لذهابه، وفرحت بما استقبلته منه، وإن كنت فرطت فيه فحسرتك شديدة لذهابه وتفريطك فيه وأنت من غد في غرة، لا تدري لعلك لا تبلغه وإن بلغته لعل حظك فيه التفريط مثل حظك في الأمس (إلى أن قال): وإنما هو يومك الذي أصبحت فيه، وقد ينبغي لك أن عقلت وفكرت فيما فرطت في الأمس الماضي مما فاتك فيه من حسنات أن لا تكون اكتسبتها ومن سيئات أن لا تكون أقصرت عنها، (إلى أن قال): فاعمل عمل رجل ليس

ص: 424


1- المصدر السابق: ص363.
2- المصدر السابق: ص364.
3- المصدر السابق.

يأمل من الأيام إلا يومه الذي أصبح فيه وليلته، فاعمل أو دع والله المعين على ذلك)(1).

وعن هشام بن سالم، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن النهار إذا جاء قال: يا ابن آدم اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربك يوم القيامة، فإني لم تك فيما مضى، ولا آتيك فيما بقى، فإذا جاء الليل قال مثل ذلك)(2).

وعن أحمد بن محمد بن يحيى، بإسناده عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (المغبون من غبن عمر ساعة بعد ساعة)(3).

تشديد التحفظ عند ازدياد العمر

عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عز وجل إلى ملكيه قد عمرت عبدي هذا عمراً فغلظا وشددا وتحفظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره)(4).

وعن أحمد بن محمد بن خالد رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذ أتت على الرجل أربعون سنة قيل له: خذ حذرك فإنك غير معذور، وليس ابن الأربعين أحق بالحذر من ابن العشرين، فإن الذي يطلبها واحد وليس براقد، فاعمل لما أمامك من الهول، ودع عنك فضول القول)(5).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة)(6).

ص: 425


1- المصدر السابق: ص375.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص376.
4- المصدر السابق: ص381.
5- المصدر السابق: ص382.
6- المصدر السابق.

وعن محمد بن علي بن الحسين قال: سُئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (فاطر: 37).

فقال: (توبيخ لابن ثمانية عشر سنة)(1).

وعن يعقوب بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (ثلاث من لم تكن فيه فلا يرجى خيره أبداً: من لم يخش الله في الغيب، ولم يرع في الشيب، ولم يستح من العيب)(2).

وعن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين سنة فقد بلغ أشده، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في واحد وأربعين فهو في النقصان، وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع)(3).

المبادرة إلى الحسنة بعد السيئة

عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) في حديث: (من أحب أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده، ومن خلا بعمل فلينظر فيه، فإن كان حسناً جميلاً فليمض عليه، وإن كان سيئاً قبيحاً فليجتنبه فإن الله أولى بالوفا والزيادة ومن عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية)(4).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: (ويل لمن غلبت آحاده أعشاره).

فقلت له: وكيف هذا، قال: (أما سمعت الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) (الأنعام: 160).

ص: 426


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص383.

فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشراً، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يوم واحد عشر سيئات، ولا يكون له حسنة واحدة فتغلب حسناته سيئاته)(1).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل أوحى إلى عيسى (عليه السلام): ما أكرمت خليفة بمثل ديني، ولا أنعمت عليها بمثل رحمتي أغسل بالماء ما ظهر، وداو بالحسنات ما بطن، فإنك إلي راجع شمر، فكلما هو آت قريب، واسمعني منك صوتاً حزيناً)(2).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (ما أحسن الحسنات بعد السيئات، وما أقبح السيئات بعد الحسنات)(3).

وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها)(4).

حكم التوبة في اللحظات الأخيرة

عن بكير، عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: (إن الله عز وجل قال لآدم (عليه السلام): جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له.

قال: يا رب زدني.

قال: بسطت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه.

قال: يا رب حسبي)(5).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم التوبة، وكانت للجاهل توبة)(6).

ص: 427


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص384.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص369.
6- المصدر السابق.

وعن أبي فضلا، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته).

ثم قال: (إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته).

ثم قال: (إن الشهر لكثير، ثم قال (من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته)، ثم قال: (وإن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته).

ثم قال: (إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته)(1).

عن معاوية بن وهب (في حديث) أن رجلاً شيخاً كان من المخالفين عرض عليه ابن أخيه الولاية عند موته فأقر بها وشهق ومات، قال فدخلنا على أبي عبدالله (عليه السلام)، فقال (هو رجل من أهل الجنة) قال له علي بن السري: إنه لم يعرف شيئاً من هذا غير ساعته تلك. قال: (أفتريدون منه ماذا؟ قد والله دخل الجنة)(2).

وعن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لما أعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة، قال آدم: يا رب سلطت إبليس على ولدي، وأجريته منهم مجرى الدم من العروق وأعطيته ما أعطيته. فمالي وولدي؟).

قال: (لك ولولدك السيئة بواحدة، والحسنة بعشر أمثالها).

قال: يا رب زدني.

قال: (التوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النفس الحلقوم).

قال: يا رب زدني.

قال: (أغفر ولا أبالي).

قال: حسبي (الحديث)(3).

ص: 428


1- المصدر السابق: ص370.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص371.

قال الصدوق: وسئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء: 18).

قال (عليه السلام): (ذاك إذا عاين أمر الآخرة)(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعا رجلاً من اليهود وهو في السياق إلى الإقرار بالشهادتين فأقرّ بهما ومات، فأمر الصحابة أن يغسلوه ويكفنوه ثم صلى عليه، وقال: الحمد لله الذي نجى بي اليوم نسمة من النار)(2).

وعن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لأي علة أغرق الله عز وجل فرعون وقد آمن به وأقرّ بتوحيده؟ قال: (لأنه آمن عند رؤية البأس والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، وذلك حكم الله تعالى ذكره في السلف والخلف قال الله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) (غافر: 84: 85)(3).

الاشتغال بصالح الأعمال عن الأهل والمال

عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مثل له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً، فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.

قال فيلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم محباً وإني كنت عليكم محامياً فماذا عندكم؟

فيقولون: نوديك إلى حفرتك نواريك فيها.

ص: 429


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص372.
3- المصدر السابق.

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهداً وإن كنت لثقيلاً.

فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك) (الحديث)(1).

وعن مسعدة بن زياد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال علي (عليه السلام): (إن للمرء المسلم ثلاثة أخلاّء: فخليل يقول له: أنا معك حياً وميتاً وهو عمله وخليل يقول له: أنا معك حتى تموت وهو ماله فإذا مات صار للوارث، وخليل يقول له: أنا معك إلى باب قبرك ثم أخليك وهو ولده)(2).

عرض العمل على الله ورسوله (ص) والأئمة (عليهم السلام)

عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (تعرض الأعمال على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها فاحذروها وهو قول الله عز وجل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) (التوبة: 105)، وسكت (عليه السلام)(3).

وعن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (ما لكم تسوؤن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(4).

وفي عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إن أعمال هذه الأمة ما من صباح إلا وتعرض على الله تعالى)(5).

وعن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو في نفر من أصحابه: (إن مقامي بين أظهركم خير لكم، وإن مفارقتي إياكم خير لكم فإن الله يقول: (موا كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (الأنفال: 33).

ص: 430


1- المصدر السابق: ص385.
2- المصدر السابق: ص386.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص387.
5- المصدر السابق: ص389.

(إلى أن قال): وأما مفارقتي إياكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل اثنين وخميس، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت لكم)(1).

وأقول لعل هناك عرضاً إجمالياً كل يوم، وعرضاً تفصيلياً كل اثنين وخميس).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن أعمال العباد تعرض على نبيكم كل عشية خميس فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح)(2).

وعن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

فقال: (ما من مؤمن يموت ولا كافر فيوضع في قبره حتى يعرض عمله على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى علي وهلم جراً إلى آخر من فرض الله طاعته على العباد)(3).

وعن عبد الله بن أبان الزيات قال: قلت للرضا (عليه السلام): ادع الله لي ولأهل بيتي.

فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك فلا تسوؤا.

فقال: (أولست أفعل إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة).

قال فاستعظمت ذلك.

فقال لي: (أما تقرأ كتاب الله عز وجل: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105).

ص: 431


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص391.
3- المصدر السابق.

قال: هو والله علي بن أبي طالب (عليه السلام) )(1).

ضرورة جهاد النفس

عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (إن النبي (صلّى الله عليه وآله) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس)(2).

وعنه (عليه السلام) أنه قال لرجل: (اجعل قلبك قريناً براً، وولدا واصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدواً تجاهده، واجعل مالك عارية تردها)(3).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (الشديد من غلب نفسه)(4).

وعن المفضل بن عمر قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): (من لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه)(5).

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي قال: (يا علي أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد)(6).

وعن شعيب العقرقوفي، عن الصادق (عليه السلام) قال: من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضى حرّم الله جسده على النار)(7).

وقال (عليه السلام): (إن أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)(8).

ص: 432


1- المصدر السابق: ص387.
2- المصدر السابق: ص122.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص123.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق: ص124.
ذم النفس وتأديبها ومقتها

عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن يقول: (إن رجلاً في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، ثم قرب قرباناً فلم يقبل منه فقال لنفسه: ما أتيت إلا منك، وما الذنب إلا لك، قال: فأوحى الله عز وجل إليه: ذمك لنفسك افضل من عبادتك أربعين سنة)(1).

وعن عبد الله بن الحسن بإسناده قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من مقت نفسه دون مقت الناس آمنه الله من فزع يوم القيامة)(2).

حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا

عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(3).

وعن أبي حمزة الثمالي: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: (ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعد جواباً)(4).

وعن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لذكر الله بالغدو والآصال خير من حطم السيوف في سبيل الله عز وجل يعني من ذكر الله بالغدو وتذكر ما كان منه عن ليله من سوء عمله واستغفر الله وتاب عليه انتشر وقد حطت سيئاته، وغفرت ذنوبه، ومن ذكر الله بالآصال وهي العشيات وراجع نفسه فيما كان منه يومه ذلك

ص: 433


1- المصدر السابق: ص183.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص377.
4- المصدر السابق: ص378.

من سرفه على نفسه وإضاعته لأمر ربه فذكر الله واستغفر الله تعالى وأناب راح ليله وقد غفرت له ذنوبه)(1).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم)(2).

وعن أبي ذر، في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله)، إنه قال: يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية (إلى أن قال): يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلال أو من حرام يا أبا ذر من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار)(3).

وعن الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) في تفسيره، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (أكيس الكيسين من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت).

فقال رجل: (يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه؟).

قال: (إذا أصبح ثم أمسى، رجع إلى نفسه، وقال: يا نفسي إن هذا يوم مضى عليك لا يعود أبداً، والله يسألك عنه بما أفنيته، فما الذي عملت فيه أذكرت الله أم حمدته، أقضيت حوائج مؤمن فيه أنفّست عنه كربة أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده أحفظته بعد الموت في مخلفيه أكففت عن غيبة أخ مؤمن أأعنت مسلماً، ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خيراً حمد الله وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته)(4).

ص: 434


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص379.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وروى يحيى بن الحسن بن هارون الحسيني عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده) الحديث(1).

إصلاح النفس

عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: (إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح منه يحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي، ويغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتز سروراً عند إحسانه، وتسبح في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً، وترجوا نفيساً ثميناً، رحم الله إمرءاً هم بخير فعمله، أو همّ بشر فارتدع منه، ثم قال: نحن نريد الروح بالطاعة لله والعمل له)(2).

وعن أحمد بن محمد بن خالد رفعه قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك، و اسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك)(3).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن اصلح أمر آخرته اصلح الله له دنياه)(4).

وقال (عليه السلام): (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لدينه كفاه الله دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس)(5).

بين الخوف والرجاء

عن الحرث بن المغيرة أو أبيه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له ما كان في وصية لقمان؟

ص: 435


1- المصدر السابق: ص380.
2- المصدر السابق: ص235.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص236.
5- المصدر السابق.

قال: (كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لإبنه: خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك)(1).

ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): كان أبي يقول: (ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا)(2).

وعن ابن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجحون في الأماني كذبوا، ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه)(3).

وعن الحسين بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو)(4).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): (أرج الله رجاء لا يجرئك على معصيته وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمة الله)(5).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في خطبة له: (يدعي بزعمه أنه يرجو الله كذب والعظيم ما له لا يتبين رجاءه في عمله، وكل راج عرف رجاءه في عمله إلا رجاء الله فإنه مدخول وكل محقق إلا خوف الله فإنه معلول، يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما

ص: 436


1- المصدر السابق: ص169.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص170.
5- المصدر السابق.

بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً، أو يكون لا يراه للرجاء موضعاً، وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه مالا يعطي ربه فجعل خوفه من العباد نقداً وخوفه من خالقه ضماراً ووعداً).

وعن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما حفظ من خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال (أيها الناس إن لكم معالم فانتبهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار)(1).

وعن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقى لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك فلا يصبح إلا خائفاً، ولا يصلحه إلا الخوف)(2).

وعن داود الرقي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (الرحمن: 46).

قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى(3).

وعن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (يا إسحاق خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت،

ص: 437


1- المصدر السابق: ص171.
2- المصدر السابق: ص172.
3- المصدر السابق.

وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك)(1).

وعن أبي حمزة قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (رأس الحكمة مخافة الله عز وجل)(3).

وعن علي بن غراب قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): (من خلا بذنب فراقب الله تعالى فيه واستحيى من الحفظة غفر الله عز وجل له جميع ذنوبه وإن كانت مثل ذنوب الثقلين)(4).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن قوماً أصابوا ذنوباً فخافوا منها وأشفقوا فجاءهم قوم آخرون فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً فخفنا منها وأشفقنا، فقالوا لهم: نحن نحملها عنكم. فقال الله تعالى يخافون ويجترئون علي فأنزل الله عليهم العذاب)(5).

البكاء من خشية الله تعالى

عن الحسين بن زيد، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي فقال: (ومن ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكل قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنة مكلل بالدر والجواهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)(6).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): (كان فيما

ص: 438


1- المصدر السابق: ص173.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص174.
6- المصدر السابق: ص175.

وعظ الله به عيسى بن مريم (عليها السلام) أن قال: يا عيسى أنا ربك ورب آبائك الأولين - إلى أن قال - يا عيسى ابن البكر البتول إبك على نفسك بكاء من قد ودع الأهل، وقلا الدنيا، وتركها لأهلها، وصارت رغبته فيما عند الله)(1).

وعن أبي أيوب، عن الرضا (عليه السلام) قال: (كان فيما ناجى الله به موسى (عليه السلام) أنه ما تقرب إلي المتقربون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبد لي المتعبدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزين في المتزينون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهم الغنى عنه).

فقال موسى: يا اكرم الأكرمين فما أثبتهم على ذلك؟ فقال: يا موسى أما المتقربون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد، وأما المتعبدون لي بالورع عن محارمي فإني أفتش الناس عن أعمالهم ولا أفتشهم حياءً منهم وأما المتزينون لي بالزهد في الدنيا فإني أبيحهم الجنة بحذافيرها يتبوؤن منها حيث يشاؤون)(2).

وعن محمد بن مروان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما من شيء إلا وله كيل ووزن إلا الدموع، فإن القطرة تطفي بحاراً من نار فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، فإذا فاضت حرمها الله على النار ولو أن باكياً بكى في أمة لرحموا)(3).

وعن محمد بن مروان، عن أبي عبدالله (عليه السلام): (ما من عين إلا وهي باكية يوم القيامة إلا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عز وجل إلا حرم الله سائر جسده على النار)(4).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من نظرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دموع في سواد الليل مخافة الله لا يراد بها غيره)(5).

ص: 439


1- المصدر السابق: ص176.
2- المصدر السابق: ص177.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص179.
5- المصدر السابق.

وعن محمد بن مروان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في طاعة الله، وعين بكت في جوف الليل من خشية الله)(1).

(قسوة القلب) دليل على الشقاء

عن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لمّتان: لمّة من الشيطان ولمّة من الملك، فلمة الملك الرقة والفهم، ولمّة الشيطان السهو والقسوة)(2).

وعن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (يا علي أربع خصال من الشقاء: جمود العين وقساوة القلب، وبعد الأمل، وحب البقاء)(3).

وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما جفت الدموع إلا لقسوة القلب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب)(4).

وعن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (من الشقاء جمود العين وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب)(5).

الإيمان بالقدر الإلهي

عن صفوان الجمال، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطيه، وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الضار النافع هو الله عز وجل)(6).

ص: 440


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص336.
3- المصدر السابق: ص336.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص157.

وعن صفوان الحجال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) (الكهف: 83).

فقال: (أما أنه ما كان ذهباً ولا فضة، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنّهُ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله)(1).

وعن زيد الشحام، عن أبي عبدالله (عليه السلام): (إن أمير المؤمنين (عليه السلام) جلس إلى حائط مائل يقضي بين الناس فقال بعضهم: لا تقعد تحت هذا الحائط فإنه معور، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) حرس امرء أجله) فلما قام سقط الجدار(2).

وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضى الناس بسخط الله، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فرّ من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت، ثم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن بالشك والسخط)(3).

وعن سعيد بن قيس الهمداني قال: نظرت يوماً من الحرب إلى رجل عليه ثوبان فحركت قوسي فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال: (نعم يا سعيد بن قيس إنه ليس من عبد إلا وله من الله عز وجل حافظ وواقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل، أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خلّيا بينه وبين كل شيء)(4).

وعن محمد بن الحسين الرضي في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (كفى بالموت حارساً)(5).

ص: 441


1- المصدر السابق: ص158.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص159.
5- المصدر السابق.
وجوب الاعتصام بالله

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أيما عبد أقبل قبل ما يحبّ الله عز وجل اقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله، ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بلية كان في حزب الله بالتقوى من كل بليّة، أليس الله يقول: (إن المتقين في مقامٍ أمينٍ) (الدخان: 51)(1).

وعن مفضل، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أوحى الله عز وجل إلى داود، ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثم يكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ إلا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي وادٍ يهلك)(2).

التوكل على الله والتفويض

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين مالي أراك كئيباً حزيناً (إلى أن قال) ثم قال: يا علي بن الحسين (عليه السلام) هل رأيت أحداً دعا الله فلم يجبه؟ قلت: لا قال: فهل رأيت أحداً توكل على الله فلم يكفه؟ قلت: لا قال: فهل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، ثم غاب عني)(3).

وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطناه)(4).

ص: 442


1- المصدر السابق: ص165.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص166.
4- المصدر السابق: ص167.

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أعطى ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أعطى الدعاء أعطى الإجابة، ومن أعطى الشكر أعطى الزيادة، ومن أعطى التوكل أعطي الكفاية، ثم قال: أتلوت كتاب الله عز وجل: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (الطلاق: 3).

وقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)(1).

قطع الأمل من غير الله

عن الحسين بن علوان عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قرأ في بعض الكتب إن الله تبارك وتعالى يقول: (وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعنّ أمل كل مؤمّل من الناس غيري باليأس ولألبسنّه ثوب المذلّة عند الناس، ولأنحينّه من قربي ولأبعدنه من فضلي أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي؟ ويرجو غيري، ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ فمن ذا الذي أمّلني لنائبة فقطعته دونها، ومن الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يملّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده، وسأل غيري، أفتراني أبدء بالعطاء قبل المسألة، ثم اسأل فلا أجيب سائلي أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل السماوات وأهل أرضي أملوا جميعاً ثم أعطيت كل واحد مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي عضد ذرة،

ص: 443


1- المصدر السابق.

وكيف ينقص ملك أنا قيّمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني)(1).

وعن أحمد بن فهد قال: روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106).

قال: هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت ولولا فلان ما أصبت كذا أو كذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه.

قلت فيقول: ماذا؟ يقول لولا أن منَّ الله عليّ بفلان لهلكت.

قال: نعم لا بأس بهذا أو نحوه)(2).

وجوب حسن الظن بالله تعالى

عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (أحسن الظن بالله، فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيراً فخير وإن شراً فشراً)(3).

وعن أحمد بن عمر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (فأحسن الظن بالله، فإن أبا عبد الله (عليه السلام) كان يقول: من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه به، ومن رضى بالقليل من الرزق قبل منه باليسير من العمل)(4).

وعن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال على منبره: (والذي لا إله إلا هو ما أعطى مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله، ورجاءه له، وحسن خلقه، والكف عن

ص: 444


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص169.
3- المصدر السابق: ص180.
4- المصدر السابق.

اغتياب المؤمنين، والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصير من رجائه له، وسوء خلقه، واغتياب المؤمنين، والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخير يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه)(1).

وعن سفيان بن عيينه قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: (حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا ذنبك)(2).

وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده إلى وصية علي (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية قال: (ولا يغلبن عليك سوء الظن بالله عز وجل فإنه لن يدع بينك وبين خليلك صلحاً)(3).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فيلتفت فيقول الله جل جلاله أعجلوه، فإذا أتى به قال له: عبدي لم التفت فيقول: يا رب ما كان ظني بك هذا فيقول الله جل جلاله عبدي ما كان ظنك بي؟ فيقول: يا رب كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتدخلني جنتك قال: فيقول الله جل جلاله: ملائكتي وعزتي وجلالي وآلائي وارتفاع مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيراً قط ولو ظن بي ساعة من حياته خيراً ما روعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة، ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): ما ظن عبد بالله خيراً إلا كان له عند ظنه، وما ظن به سوءً إلا كان الله عند ظنه به، وذلك قول الله عز وجل: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4).

وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال

ص: 445


1- المصدر السابق: ص181.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص182.

لي: (أحسن الظن بالله فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلا خيراً)(1).

وعن ابن رئاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (يؤتى بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه فيقول الله ألم آمرك بطاعتي؟ ألم أنهك عن معصيتي؟

فيقول: بلى يا رب، ولكن غلبت علي شهوتي فإن تعذبني فبذنبي لم تظلمني فيأمر الله به إلى النار فيقول: ما كان ظني بك، فيقول: ما كان ظنك بي؟ قال: كان ظني بك أحسن الظن، فيأمر الله به إلى الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى: لقد نفعك حسن ظنك بي الساعة)(2).

خيار العقل

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر وإياك أنهي وإياك أعاقب وإياك أثيب)(3).

وعن الأصبغ بن نباتة، عن علي (عليه السلام) قال: (هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما) وعرّج(4).

وعن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام)

ص: 446


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص160.
4- المصدر السابق.

قال: قلت له: ما العقل؟ قال: (ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ قال: تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل)(1).

وعن الحسن بن الجهم قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (صديق كل امرء عقله وعدوه جهله)(2).

وعن إسحاق بن عمار، قال أبو عبدالله (عليه السلام): (من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة)(3).

وعن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): (يا هشام إن الله بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 17 - 18).

(إلى أن قال): يا هشام إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس، وإن الكيس لدى الحق يسير، يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر، يا هشام إن لكل شيء دليلاً، ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه (إلى أن قال) يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأما الباطنة فالعقول (إلى أن قال) يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك؟ يا هشام إن العاقل رضى بالدون من الدنيا مع الحكمة ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك

ص: 447


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص161.
3- المصدر السابق.

ربحت تجارتهم، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض، يا هشام إن العاقل نظر إلى الدنيا والى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة)(1).

ترجيح العقل على الشهوة

عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (في حديث) قال: (من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها مخافة الله عز وجل حرم الله عليه النار وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46).

ألا ومن عرضت له دنيا وآخرة فاختار الدنيا على الآخرة لقي الله عز وجل يوم القيامة وليست له حسنة يتقي بها النار، ومن اختار الآخرة وترك الدنيا رضى الله عنه وغفر له مساوي عمله)(2).

وعن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طاب (عليه السلام): (إن الله ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم)(3).

وعن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره)(4).

ص: 448


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص164.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وعن محمد بن الحسين الرضي رحمه الله في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (كم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً)(1).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله): (كم أكلة منعت أكلات)(2).

وعن إسماعيل بن مهران، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (العقل دليل المؤمن)(3).

وعن السري بن خالد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا علي لا فقر اشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل)(4).

وعن أبي عمر العجمي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (خمس من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع، قلت: وما هي؟ قال: العقل والأدب والدين والجود وحسن الخلق)(5).

وعن سهل بن زياد رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (العقل غطاء ستير والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة، وتظهر لك المحبة)(6).

التفكر في ما يوجب الاعتبار والعمل

عن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (نبه بالفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك)(7).

ص: 449


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص162.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص163.
6- المصدر السابق: ص162.
7- المصدر السابق: ص153.

وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته)(1).

وعن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: (ليس العبادة كثيرة الصلاة والصوم إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل)(2).

وعن إسماعيل بن بشير قال: كتب هارون الرشيد إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عظني وأوجز، قال: فكتب إليه: (ما من شيء تراه عينك إلا وفيه موعظة)(3).

وعن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كان أكثر عبادة أبي ذر رحمه الله التفكر والاعتبار).

وعن الحسين الصيقل قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟ فقال نعم، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يفكر؟ قال: يمر بالدار والخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ مالك لا تتكلمين؟

فكّر في العاقبة

وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن رجلاً أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله أوصني، فقال له: فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول الرجل نعم يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فإني أوصيتك إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن يك رشداً فامضه وإن يك غياً فانته منه)(4).

وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته

ص: 450


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص154.
4- المصدر السابق: ص223.

لمحمد بن الحنفية قال: (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، والعاقل من وعظ بالتجارب، وفي التجارب علم مستأنف، ومن تقلب الأحوال علم جواهر الرجال)(1).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)(2).

وعن أبي قتادة القمي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (ليس بحازم من لا ينظر في العواقب، والنظر في العواقب تلقيح للقلوب)(3).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أتى رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: علمني يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر.

قال: زدني يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر.

قال: زدني يا رسول الله.

قال: إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك خيراً ورشداً فاتبعه، وإن يك غيّاً فاجتنبه)(4).

لا.. لكفران النعمة

عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (سبأ: 19).

فقال: (هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضها إلى بعض، وأنهار

ص: 451


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص224.
4- المصدر السابق.

جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا بنعم الله وغيروا ما بأنفسهم عن عافية فغير الله ما بهم من نعمة الله، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فأرسل الله عليهم سيل العرم فغرق قراهم وخرب ديارهم،وأذهب بأموالهم، وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ثم قال: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سبأ: 17).

وعن عبد الله بن إسحاق الجعفري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (مكتوب على التوراة: إشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعماء إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت)(1).

ص: 452


1- المصدر السابق.

الفصل الثالث: الحرية .. المفهوم المقدس

أولاً: الحرية من أجل الإنسان

الحرية في الإسلام حق قبل كل شيء

الحديث عن الحرية في الإسلام، طويل يحتاج إلى مجلدات، لبحث أنواع الحريات الممنوحة من قبل الإسلام للإنسان.

والذي يظهر للمتابع، أن الحريات الممنوحة في الإسلام ، مائة في المائة، بينما الحريات الممنوحة في العالم المُسمّى ب(العالم الحر) عشرة في المائة أو أقل منه.

الحدود في إطار العقل

أعطى الإسلام للإنسان حرية الفكر، وحرية الحديث ، وحرية العمل، لكن في الإطار المعقول الصحيح ، بحيث لا يؤدي الى الإضرار البالغ بالنفس وبالآخرين، حتى أن الإسلام يحرم تناول الطعام والشراب المضر بشكل بالغ بالنفس، كذلك تبادل كلمات السباب بالقول، والضرب ونحوهما، لأنها إضرار بالآخرين، كما لا يجوز الاستفادة من مواهب الحياة أكثر من القدر الصحيح ، لأنه إضرار بالأجيال القادمة.

ص: 453

وقد حدد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كل فكر وقول وعمل بقاعدة عدم الضرر، وقال (صلّى الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(1).

ففي حديث زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن سمرة بن جندب كان له عذقا في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري في وسط البستان، فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما أبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فشكاه إليه وأخبره بالخبر، فأشار إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأخبره بقول الأنصاري وشكايته، وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فساومه الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع). فقال (صلّى الله عليه وآله): (لك بها عذق نمد لك في الجنة) فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للأنصاري: (اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)(2).

وفي رواية أخرى، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه، إلا أنه قال: فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنك رجل مُضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن) قال: ثم أمر بها فقلعت ورمى بها إليه، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (انطلق فاغرسها حيث شئت)(3).

نصوص حول الحرية

وكيف كان، فحديث الحرية في القرآن الكريم، وفي الأحاديث، وفي الفقه الإسلامي متواتر بل و فوق التواتر.

قال سبحانه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21 - 22).

ص: 454


1- وسائل الشيعة: ج17، ص376.
2- المصدر السابق: ص341.
3- المصدر السابق.

وقال تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق: 45).

وقال عزّ من قائل: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).

وفي آية أخرى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).

وفي آية خامسة، قال سبحانه: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6).

وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(1).

وفي الشعر المعروف لسيد الشهداء عليه السلام في كربلاء:

آليت لا أقتل إلا حراً***وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) للحر بن يزيد الرياحي: (أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا في الآخرة)(2).

بل إن الإسلام إذا رأى الإنسان لا يقبل الحرية المطلقة في الآخرة، يطلب منه أن يكون حراً في الدنيا، فقال قال الإمام الحسين (عليه السلام) لمن جاء لمحاربته: (إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم)(3).

وقال عبد الله بن سنان، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: (الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالعبودية، وهو مدرك من عبد أو أمة، ومن شهد عليه بالرق صغيراً كان أو كبيراً)(4).

وفي حديث عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى علي (عليه السلام): (الناس كلهم أحرار

ص: 455


1- نهج البلاغة، محمد عبدة: ج3، ص51.
2- بحار الأنوار: ج41، ص14.
3- المصدر السابق: ص51.
4- وسائل الشيعة: ج16، ص33.

إلا من أقر على نفسه بالملك وهو بالغ، أو من قامت عليه البينة) إلى آخر الحديث(1).

الحرية للأديان الأخرى

وفي روايات متواترة نرى إلزام الإسلام كل أهل ذي دين بما يلتزمون به، حيث يقرّ لهم بالحرية في دينهم، مثلما ورد عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الأحكام؟ قال: (تجوز على أهل كل ذي دين بما يستحلون)(2).

وفي رواية أخرى، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: (ألزموهم بما التزموا به)(3).

وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كل قوم دانوا بشيء يلزمهم حكمهم)(4).

ولذا نرى أن الإسلام لا يتعرض للمجوسي ونحوه إن نكح أمه وأخته حيث إن ذلك جائز في دينه - وإن كان دينه في الواقع مزيفاً - لأن الإسلام لا يريد الإكراه، للقاعدة المعروفة: «القسر لا يدوم»، إنما يريد إعطاء الحرية لكل إنسان فيما يعمل حسب معتقده، وإنما يناقشه بالمنطق، ولذا قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).

وفي روايات متعددة، (لا تسبوا أهل الشرك فإن لكل قوم نكاحاً).

فقد روى الكليني (رحمه الله)، عن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، قال: (قذف رجل مجوسياً عند أبي عبد الله) فقال له الصادق (عليه السلام): (مه) فقال الرجل: (إنه ينكح أمه وأخته)، فقال: (ذاك عندهم نكاح في دينهم)(5).

ص: 456


1- مستدرک الوسائل: ج17، ص372.
2- وسائل الشيعة: ج17، ص598.
3- المصدر السابق: ص485.
4- المصدر السابق: ص597.
5- الکافي: ج5، ص574.

وفي رواية الغوالي: (أن رجلاً سب مجوسياً بحضرة الصادق (عليه السلام)، فزجره ونهاه) فقال له: (إنه تزوج بأمه) فقال (عليه السلام): (أما علمت أن ذلك عندهم النكاح؟)(1).

وفي رواية أخرى، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (لا ينبغي ولا يصلح للمسلم أن يقذف يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً بما لم يطلع عليه منه) وقال: (أيسر ما في هذا أن يكون كاذباً)(2).

وفي رواية أخرى، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال لبعض أصحابه: (ما فعل غريمك!) قال: (ذاك ابن الفاعلة، فنظر إليه أبو عبدالله (عليه السلام) نظراً شديداً، قال: فقلت: (جعلت فداك إنه مجوسي نكح أخته) ، قال: (أوليس ذلك من دينهم نكاحاً)(3).

لا إكراه على الإعتراف

و في القانون الإسلامي، لا يحق للحاكم، إكراه أحد على الاعتراف، بل حتى على التكلّم.

فقد روى ابن شهر اشوب في المناقب: (إن عمير بن وائل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدّعي على علي (عليه السلام) ثمانين مثقالاً من الذهب وديعة عند محمد (صلّى الله عليه وآله)، وأنه (صلّى الله عليه وآله) هاجر من مكة، وإنك وكيله، فإن طلب بينة الشهود، فنحن معشر قريش نشهد إليه، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب، منها قلادة عشرة مثاقيل لهند، فجاء وادعى على علي (عليه السلام) فاعتبر (عليه السلام) الودائع كلها ورأى عليها أسامي أصحابها، ولم يكن لما ذكره عمير خبر فنصح له نصحاً كثيراً)، فقال: (إن لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل وعكرمة وعقبة بن أبي معيط وأبو سفيان وحنظلة)، فقال (عليه السلام): (مكيدة تعود على من دبرها، ثم أمر الشهود أن يقعدوا في

ص: 457


1- وسائل الشيعة: ج17، ص596.
2- مستدرک الوسائل: ج12، ص84.
3- الکافي ج7، ص240.

الكعبة، ثم قال لعمير: يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أي الأوقات كان؟)(1).

قال: ضحوة نهار فأخذها بيده ودفعها إلى عبده.

ثم استدعى علي (عليه السلام) أبا جهل فسأله عن ذلك؟ قال: ما يلزمني ذلك!

ثم استدعى أبا سفيان وسأله فقال: دفعها عند غروب الشمس وأخذها من يده وتركها في كمه.

ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك؟ فقال: كانت وقت وقوف الشمس في كبد السماء وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه.

ثم استدعى عقبة، فسأله عن ذلك؟ فقال: تسلمها بيده، وأنفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر.

ثم استدعى عكرمة وسأله عن ذلك؟ فقال: كان عند بزوغ الشمس أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة (عليها السلام).

ثم أقبل (عليه السلام) على عمير، وقال له: أراك قد أصفرّ لونك وتغيرت أحوالك(2)!

قال عمير: أقول الحق ولا يفلح غادر، وبيت الله ما كان لي عند محمد (صلّى الله عليه وآله) وديعة، وانهما حملاني على ذلك، وهذه دنانير وعقد هند عليها اسمها مكتوب) إلى آخر الخبر.

فإنا نرى في هذا الخبر أن الإمام (عليه السلام) لما سأل أبا جهل عن الخصوصيات، وقال أبو جهل: (ما يلزمني ذلك) لم يجبره الإمام (عليه السلام) على شيء.

شمولية الحرية

الحرية في الإسلام، شمولية وعامة لجميع الناس حتى الكفار، في مختلف

ص: 458


1- مستدرک الوسائل: ج17، ص348.
2- المصدر السابق: ص385.

أنواع الحقول، منها: حرية الفكر، أي حرية البحث والمناقشة في البحوث العلمية والبحوث الدينية. وحرية التجارة والاكتساب بجميع أنحائها. وحرية المعتقد ، أي التسامح نحو الأديان الأخرى.

كما تندرج الحرية السياسية، ضمن الحريات التي يمنحها الاسلام، وهي تشمل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن تكون الأمة حرة في اختيار حاكمها، ممن يتوفر فيه رضى الله سبحانه وتعالى، وسائر الشروط الإسلامية، وهي كلها شروط يؤكد عليها العقل، كأن يكون عالماً بالغاً عادلاً.. إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء في أول مباحث التقليد.

وقد ذكرنا جملة من الروايات المرتبطة باختيار الحاكم في كتاب: (الحكم في الإسلام) وفي بعض مؤلفاتنا.

ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة رواها سليم بن قيس الهلالي في كتابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد أن يموت إمامهم أو يُقتل، ضالاً كان أو مهدياً، أن لا يعملوا عملاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجبي فيئهم، ويقيم حجهم وجمعهم، ويجبي صدقاتهم..) إلى آخر الخبر(1).

كلمة التوحيد رمز الحرية

ومن تأمل في كلمة (لا إله إلا الله) التي ذكرت في القرآن والسنة آلاف المرات، والتي يرددها المسلمون في شعائرهم، في وقت الصلاة وغيرها، يجد فيها رمزاً للحرية وجوهرها، فقد كان (كسرى) يعتبر إلهاً من سلالة الآلهة، فكان يقضي بالموت أو يهب الحياة، كذلك كان (قيصر الرومان) ، وكانت مخالفته، تمثل مخالفة لأوامر الله، لذا ذكر المسيحيون في كتبهم المقدسة: (دع ما لقيصر

ص: 459


1- المصدر السابق: ج6، 14.

لقيصر وما لله لله)، فالدين لله، والحياة لقيصر، كذلك القساوسة في أوربا وغيرها، كانوا يعتبرون أنفسهم الواسطة بين الله وبين الناس، ويدّعون أن بيدهم صكوك الجنة، من شاؤوا أدخلوه فيها، ومن شاؤوا أخرجوه منها وأدخلوه النار.

وكذلك كان الحال عند البوذيين في الهند، وفي الصين وعند غيرهم، وقد قال بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام): (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: 138).

وحتى الحجارة كانت إلهاً عند كثير من العرب وغير العرب، ولها خدامها، وكذلك كان للتقاليد الباطلة والخرافات سلطة ونفوذ على الإنسان، بل نجد في هذا اليوم ملايين الأصنام في الهند والصين واليابان ونجد في بلاد الشيوعيين أصناماً بشرية كثيرة أمثال (لينين) و (ماركس) واشباههم(1).

وقد كانت الإنسانية قبل بزوغ الإسلام - كما هو الإنسان المعاصر - ترزح في كثير من البلاد تحت قيود متراكمة ومعقدة، وعبودية ، لكن عندما أعلن الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) شعاره: (لا إله إلا الله)، فجّر الثورة على كل هذه القيود، وأعلن أن لا سيد إلا سيد واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، ويجب أن لا يُطاع إلا هو وحده، وعلى المرء أن يقيم صلة مباشرة بينه وبين الله. أما الأنبياء والأئمة عليهم السلام فهم سفراء الوحي الذين ينقلون أوامر الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان.

وفي كتاب لمؤلف غربي ومترجم إلى العربية بإسم (تراث فارس)(2)، جاء أن الإيرانيين القدماء، كانوا يرون الملك أقرب في اعتقادهم للإله، وعندما كانوا يتحدثون، إليه لا يذكرون اسمه بل يقولون (أنتم الآلهة).

وقد كانت ديانة المجوسية تضفي على الملك تلك القدسية، فأوامره مقدسة وسلالته فوق البشر وحكمه هو حكم الله.

وكذلك نجد هذه الظاهرة عند سائر الحكام قبل الإسلام، بل كانوا يعبرون

ص: 460


1- المصدر السابق: ج1 ، ص407.
2- وسائل الشيعة: ج3، ص593.

عن الملك ب- (الرب)، وحين أرسل كسرى شخصين إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليقتلاه ويذهبا برأسه المبارك إلى كسرى وجدهما الرسول قد حلقا لحيتيهما وفتلا شاربيهما فقال (صلّى الله عليه وآله) لهما: من أمركما بهذا؟ قالا: (ربنا) - يعنيان كسرى - فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله) لهما: (لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي)(1).

فنجد في هذا الحديث وفي غيره التعبير عن الملك ب(الرب) مجاراة لهما.

ويشير القرآن الحكيم الى هذه الحقيقة، فاليهود والنصارى كانوا يتخذون أنبياءَهم أبناءً لله، وأحياناً شركاء له، كذلك كانوا يطلقون نفس الصفة على الأحبار والرهبان.

قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30 - 33).

وكذلك في آيات أخر.

مئة نموذج للحريات الإسلامية

أما في الإسلام فالإله واحد، مع عدم وجود كبت ولا قيود، فالحريات متوفرة وللإلماع نذكر جملة من الحريات في الإسلام :

1 - حرية العبادة في أي مكان، صلاةً وصوماً وطهارة وذكراً لله، وقراءة القرآن، ودعاءً لله. أما الصلاة ففيها الحرية المطلقة، وقد قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)(2).

ص: 461


1- الکافي: ج1، ص406.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص492.

2 - الحرية في البيع.

3 - الحرية في الشراء.

4 - الحرية في الرهن.

5 - الحرية في الضمان.

6 - الحرية في اختراع أي عقد ومعاملة جديدة لم يمنع عنه الشارع.

7 - الحرية في الكفالة.

8 - الحرية في الصلح.

9 - الحرية في التأمين.

10 - الحرية في الشركة.

11 - الحرية في المضاربة.

12 - الحرية في المزارعة.

13 - الحرية في المساقاة.

14 - الحرية في حيازة الأرض.

15 - الحرية في حيازة المباحاة.

16 - الحرية في الوديعة.

17 - الحرية في العارية.

18 - الحرية في الإجارة.

19 - الحرية في الوكالة.

20 - الحرية في الوقف.

21 - الحرية في الصدقة.

22 - والحرية في العطية.

ص: 462

23 - والحرية في الهبة.

24 - والحرية في السكنى.

25 - والحرية في العمران.

26 - والحرية في السبق.

27 - والحرية في الرماية.

28 - والحرية في الوصية.

29 - والحرية في النكاح للرجل وللمرأة دواماً وانقطاعاً.

30 - والحرية في الطلاق.

31 - والحرية في الخلع.

32 - والحرية في الرضاع.

33 - والحرية في السفر.

34 - والحرية في الإقامة.

35 - والحرية في فتح المحل التجاري.

36 - والحرية في الإقرار.

37 - والحرية في الجعالة.

38 - والحرية في الطباعة.

39 - والحرية في قدر المهر وسائر الخصوصيات المرتبطة بالنكاح.

40 - والحرية في امتهان أية مهنة شاءها الإنسان.

41 - الحرية في الثقافة، بأن يطلب العلم النافع له، وللبشر وللحيوان والنبات وغير ذلك، فينتهي إلى يصبح طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو خبيراً في السياسة أو الاقتصاد، أوغير ذلك، أو أن يكون فقيهاً أو خطيباً أو مؤلفاً أو نحو ذلك.

42 - الحرية في العهد.

ص: 463

43 - الحرية في اليمين.

44 - الحرية في النذر.

45 - الحرية في تناول الأطعمة المحللة بأي كيفية شاء.

46 - الحرية في إحياء الأموات.

47 - الحرية في الأخذ بالشفعة.

48 - الحرية في الإرث، بأن يكون الإرث للورثة على ما بيّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) (حسب الموازين الإسلامية) فقد قال: (من ترك دينا أو ضياعاً فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته)(1).

والمراد بالضياع، العائلة التي لا كفيل لها، بينما القوانين الوضعية تجعل جملة من الإرث، قد تصل أحياناً إلى تسعين في المائة، من نصيب الحكومة - كما هو معروف.

49 - الحرية في المراجعة إلى أي قاض شرعي.

50 - الحرية في الشهادة والاستشهاد.

51 - الحرية في اختيار الدية، أو القصاص، أو العفو في الموارد الخاصة.

52 - الحرية في الزراعة.

53 - الحرية في الصناعة.

54 - الحرية في العمارة.

55 - الحرية في عدم حيازة الإنسان الجنسية أو الهوية أو غيرها من الرسوم المتعارفة الآن.

56 - الحرية في إصدار الجريدة.

ص: 464


1- بحار الأنوار: ج28، ص256.

57 - الحرية في إصدار المجلة.

58 - الحرية في امتلاك محطة الإذاعة.

59 - الحرية في امتلاك محطة التلفزيون.

60 - الحرية في العمل.

61 - الحرية في إبداء الرأي.

62 - الحرية في التجمع.

63 - الحرية في تكوين النقابة.

64 - الحرية في إنشاء الجمعيات.

65 - الحرية في إنشاء المنظمة.

66 - الحرية في إنشاء الحزب.

67 - الحرية في الانتخاب.

68 - الحرية في الإمارة.

69 - الحرية في الولاية.

70 - الحرية في السفارة.

71 - الحرية في انتخاب أية وظيفة من وظائف الدولة.

72 - الحرية من جهة عدم جواز مراقبة الحكومة للناس، من خلال أجهزة التنصّت، واستخدام أساليب التحرّي السري.

73 - الحرية في إنجاب أي عدد من الأولاد.

74 - والحرية في عدد الزوجات إلى أربع على نحو الدوام، أو أكثر على نحو الانقطاع.

75 - والحرية في العقيدة: قال سبحانه: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256).

ص: 465

76 - والحرية في كيفية الأكل والشرب واللباس وما أشبه.

77 - والحرية في الذهاب والرجوع من والى البيت، ليلاً أو نهاراً، في مقابل بعض البلاد التي تحظر حركة التنقّل والسفر إلا بإذن خاص، كما كان الحال في العاصمة موسكو، وسائر البلاد الشيوعية(1)، كما ان الحرية تنعدم في حالات فرض حظر التجوال في كثير من الدول(2).

78 - والحرية في بناء المساجد.

79 - والحرية في بناء المدارس.

80 - والحرية في بناء الحسينيات.

81 - والحرية في بناء المستشفيات.

82 - والحرية في بناء المستوصفات.

83 - والحرية في بناء دور النشر.

84 - والحرية في بناء دور الثقافة.

85 - والحرية في بناء الخانات والفنادق.

86 - والحرية في بناء دور الولادة.

87 - والحرية في بناء دور العجزة.

88 - والحرية في فتح البنوك.

89 - والحرية في الدخول في اتحاد الطلبة.

90 - كما أن للإنسان الحرية في الخروج من أية مؤسسة أو وظيفة أو ما أشبه إلا إذا ربط نفسه بشرط ونحوه.

ص: 466


1- - كانت موسكو عاصمة لما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، وبعد تفكك هذا «الاتحاد الماركسي» عام 1991، اصبحت موسكو عاصمة لجمهورية روسيا الاتحادية. وفي نفس السنة وبعدها بدأت الماركسية تتهاوى في سائر بلدان اوربا الشرقية.
2- - لم يعد هذا القيد موجوداً حتى في الدول التي ما تزال تتمسك بالنظام الماركسي والشيوعي، بينما نجده موجوداً في بعض بلادنا الاسلامية.

91 - الحرية في اختيار نوع أثاث الدكان والمنزل وما أشبه.

92 - الحرية في انتقاء أي نوع من أنواع السيارات ونحوها.

93 - والحرية في كيفية المعاملة.

94 - والحرية في الاقراض والاقتراض.

95 - والحرية في إعطاء التولية في الوقف ونحوه لأي أحد.

96 - والحرية في جعل الإسم لأي شخص، أو لأي محل مرتبط به، فلا يرتبط جعل الإسم بإجازة الدولة كما هو المتعارف في كثير من البلاد الآن.

97 - الحرية في فتح حقول الدواجن.

98 - والحرية في تقليد أي مرجع شاء جامع للشرائط.

99 - والحرية في انتخاب أي خطيب أراد.

100 - والحرية في تسجيل العقد ونحوه عند أي عالم، بينما نجد تقييد الحرية في معظم الدول، حيث يقيدون الإنسان بتسجيل عقده ونحوه عند دائرة خاصة.

إلى غيرها من الحريات الكثيرة الموجودة في الإسلام.

ثانياً: الحرية.. بين الإسلام والقوانين الوضعية

اشارة

في مقابل هذه الحريات، نرى الكبت في القوانين الوضعية في بلاد العالم التي تسمّى ب«بلاد العالم الحر»، وفي بلاد الإسلام وبقية العالم الثالث.

أما في «بلاد الشيوعية»(1) فليس للحرية عين ولا أثر، وقد ذكرنا: إن الحريات الموجودة فيما يسمى بالعالم الحر لا تكون إلا بقدر العشر أو أقل من العشر من الحريات الممنوحة في الإسلام، فلا حرية عندهم في الإجارة والعمارة

ص: 467


1- - المقصود؛ المنظومة الماركسية العالمية التي كانت تقودها «الاتحاد السوفيتي».

والصناعة والزراعة والتجارة وحيازة المباحات، ولا حرية لحركة الإنسان، حيث يقيّد بجواز السفر، والهوية والجنسية ونحوها، كما يقيد بتأشيرة الدخول والخروج، وكذلك الجمارك والضرائب، وهنالك قيود دفن الميت، وقيود تسجيل الأملاك والزواج، وأيضا تقيّد الحريات وتُحصى الأنفاس بوجود أجهزة التجسس، كما لا حرية في فتح المحلات التجارية، إلا بإجازات خاصة مسموح بها في ما يسمى ب(القانون)، وكذلك؛ لا حرية بالنسبة إلى إنشاء المعامل إلا بقيود خاصة، إلى غير ذلك من آلاف القوانين المقيّدة لمعاملات الناس من رهن ومضاربة و زراعة وغيرها.

سبق الإسلام وامتيازه
اشارة

الحريات والحقوق الإنسانية الموجودة حالياً في القوانين الوضعية، فضلاً عن أنها مقتبسة من الإسلام، حيث لم يكن لها أثر في العالم الغربي قبل الإسلام، كما هو معروف تاريخياً، فهي اقل بكثير من الحريات الموجودة في الإسلام.

ويمكن المقارنة بين الإسلام والقوانين الوضعية ليظهر سبق الإسلام وامتيازه على سائر الانظمة.

1 - لا جنسية خاصة للحاكم

تنصّ القوانين - على الأغلب - على تجنس رئيس الدولة وأبويه بجنسية تلك الدولة، بينما هذا شرط فاسد في نفسه ولم يذكره الإسلام في قانونه.

وينبع فساده، من كون الأهمية للكفاءة، لا للّغة واللون والجنسية وغير ذلك، - فضلاً عن ملاحظة جنسية الأبوين - فإن الإسلام جعل الميزان هو التقوى، بالإضافة إلى الشروط المقررة في الشريعة الإسلامية من العلم ونحوه.. فقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

ص: 468

ومن الواضح إن هذا هو الميزان الصحيح والعقلي، ولذا نجد في زعماء الإسلام، سواء المدراء والرؤساء والعلماء وغيرهم، من مختلف الجنسيات واللغات، فربما يكون المرجع عراقياً أو إيرانياً، أو من جنسية أخرى. كما أن حكام الدولة الإسلامية كانوا من مختلف الجنسيات، فكان منهم العربي والفارسي والكردي وغيرهم. وهذا لا يعني القول: إن الملوك والرؤساء الذين حكموا البلاد الإسلامية كانوا جميعاً على حق، وإنما نقول: إن الإسلام لم يشترط ان يكون الحاكم ذا جنسية خاصة، ولذا لم يكن المسلمون يريدون من حكامهم سوى أن يكونوا عدولاً، ويعملون طبق أوامر الله سبحانه وتعالى، فإن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية المصطنعة، والحواجز النفسية والفوارق العنصرية، وإنما المسلمون أمة واحدة، وافرادها أخوة على دين واحد.

قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)

وقال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)

ومن هنا قال الشاعر:

وكل أرض بها الإسلام لي وطن *** وحيث يذكر اسم الله تلقاني

2 - للشعب حق انتخاب الحاكم

نجد في القوانين الوضعية نصاً على حق الشعب في انتخاب الحاكم أو رئيس الدولة، وهذا ما قرره الإسلام من قبل، حيث قرر انتخاب الحاكم كما ذكرنا تفصيله في بعض مؤلفاتنا.. ولكن هذا «الانتخاب» في القوانين الوضعية يقابله «البيعة» في الدساتير الإسلامية.

ومن الواضح الفرق بين الكلمتين ف«الانتخاب» بمعنى الموافقة على رئاسة الحاكم، أما «البيعة» فتعني أن يبيع الإنسان نفسه لله سبحانه وتعالى، ويوافق على

ص: 469

رئاسة الرئيس مع التعهد له بمعاونته على الحق، وبردعه عن الباطل وبالجهاد في سبيل الله.

يقول القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 10)

ويقول سبحانه: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ) (الممتحنة: 12)

3 - ضرورة الاشتراك في الانتخابات

نجد في القوانين الحديثة نصاً بضرورة اشتراك المواطن في الانتخابات الرئاسية ونحوها. وقد سبق الإسلام إلى ذلك حيث ورد في الحديث الشريف: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1).

بل قد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(2).

ومن الواضح إن القوانين الحديثة لم تشترط في انتخابات الرئاسة شروطاً وهي في غاية الأهمية بالنسبة إلى الرئيس، كالعدالة ونحوها، بينما نجد هذا الشرط الهام والمصيري موجوداً في القوانين الإسلامية، فقد قال (عليه السلام): (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).

وربما يكون وجه ذكر هذه الشروط في هذا الحديث، أن عمل كل من الجوانح والجوارح إما سلبي أو إيجابي فالأقسام أربعة: فإن (صائناً لنفسه) سلب عملي، و(حافظاً لدينه) إيجاب قلبي، و(مخالفاً لهواه) سلب قلبي، و(مطيعاً لأمر مولاه) إيجاب عملي، وإن كان يمكن أن يقال في هذه الأمور الأربعة غير ذلك أيضاً.

ص: 470


1- بحار الأنوار: ج60، ص274.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص12.
4 - حق التصويت للمرأة والطفل

في كثير من بلدان العالم، والى اليوم، هنالك نصّ يحرّم على المرأة المشاركة في الانتخابات العامة، بينما قد تقدم أن الإسلام جعل الحق لهن في البيعة في الآية المتقدمة.

بل نجد أنه يحق لأولياء الأطفال المشاركة في البيعة نيابة عن أولادهم، لأن الحاكم يتصرف في شؤونهم أيضاً.

فمثلاً: الأب الذي له أولاد أربعة له خمسة أصوات: صوت لنفسه وأربعة أصوات للمولّى عليهم، فإذا شاء الأولياء كان لهم الحق في ذلك، بينما لا يوجد حق كهذا للآباء في القوانين الحاضرة، وكذلك قرر الإسلام عدم جواز الاقتراب من أموال الأطفال إلا بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الإسراء: 34). إلى غيره من نصوص متعددة.

فبشكل أولى، لا يصح انتخاب حاكم الدولة (الذي يتصرف في شؤون الأطفال أيضاً، وفي كل المجالات المتعلقة بالطفل)، إلا مع مراعاة مصلحة الطفل بالنحو الأحسن، وذلك لا يتم إلا بأن يكون للأطفال أيضاً حق التصويت، ويعطى هذا الحق للأب باعتباره ولياً عليهم.

5 - الرقابة على الحكام

نجد في القوانين الوضعية (حق محاسبة الحكام والمسؤولين عن تصرفاتهم)، فللناس الحق في إعلان الرأي المعارض بالكلام أو الكتابة أو ما أشبه.

وفي الإسلام نجد أفضل من هذا، فللشعب حق محاسبة الحاكم، وهي تمثل ممارسة عبادية تقربهم الى الله تعالى، تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).

ص: 471

وقال تعالى: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6).

وفي الحديث: (إن الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين)(1).

والنصيحة معناها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعطاء المشورة والتقويم وغير ذلك.

ومن الواضح، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة، أوسع وأكثر عمقاً، فليس الأمر مجرد محاسبة عابرة، بل محاسبة يُسأل عنها الإنسان أمام الله وأمام الشعب وأمام الأجيال.

قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 164).

وقال في آية أخرى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

بل فوق ذلك نجد أن الإسلام يرى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، يلزم أن يكون هو عاملاً بالمعروف وتاركاً للمنكر، وإلا كان مستحقاً للوم والعقاب، ففي الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2 - 3).

وقال علي (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، الناهين عن المنكر العاملين به)(2).

إذن؛ بات من الواضح، فإن الآمر إذا لم يأتمر، والناهي إذا لم ينزجر سبّب ذلك السخرية بالدين، بالإضافة إلى عدم الائتمار والانتهاء.

ص: 472


1- وسائل الشيعة: ج8، ص111.
2- وسائل الشيعة: ج18، ص101.
6 - حق عزل الحاكم

في جملة من القوانين العالمية نجد حق الشعب في إسقاط الحاكم أو الحكومة، وقد سبق الإسلام القوانين في ذلك بل جعله واجباً شرعياً، فإذا لم يعمل الحاكم بالقوانين الإسلامية، أو فقد صلاحيته، وجب إسقاطه وعزله.

وقد ورد الحديث الشهير الذي ذكره المحقق الحلي - قدس سره - في المعتبر: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(1).

ومن كتاب رسول الله إلى أهل البحرين عندما ولى عليهم (العلاء بن الحضرمي) - على ما ذكر في بعض التواريخ - أنه (صلّى الله عليه وآله) كتب: (وأنا أشهد الله تعالى على من وليته شيئاً قليلاً أو كثيراً من أمور المسلمين فلم يعدل فيهم، أنه لا طاعة له، وهو خليع مما وليته، وقد برئت ذمم المسلمين معه من المسلمين).

إلى غير ذلك من الأحاديث العامة والخاصة بهذا الصدد.

7 - وأمرهم شورى بينهم

جعل الإسلام (الشورى) في موازينه السياسية، حين كان العالم غريباً عن الديمقراطية، ولم يسمع بها من قبل، حيث قال سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)

فما دام النبي (صلّى الله عليه وآله) أو الإمام المعصوم (عليه السلام) موجوداً فلا حق لأحد في ردّه - لأنهُ منصوب من قبل الله سبحانه - كما لا حق لأحد في رد الأحكام الإسلامية كالصلاة والصيام وغير ذلك.

وأما في عصر الغيبة - كعصرنا هذا - فإن الحكم يكون بالقيادة المرجعية الجماعية المنتخبة من قبل المسلمين، وقد ذكرنا في جملة من مؤلفاتنا: أن (الفقهاء المراجع العدول) هم أعلى قيادة في البلاد الإسلامية، حيث ينتخبهم

ص: 473


1- المصدر السابق: ص65.

الناس، فإذا كان في البلاد الإسلامية – مثلاً- عشرة مراجع للتقليد، بأن انتخبهم الناس مراجعاً لهم، حسب قول الإمام (عليه السلام): (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(1)، وقول الرسول (صلّى الله عليه وآله) - قبل ذلك -: (اللهم ارحم خلفائي)(2)، فهؤلاء جميعاً، هم قادة للأمة في أمور التقليد، فكل مقلّد يرجع إلى مرجعه في الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك، أما في مصالح المسلمين العامة، مثل الصلح والسلم وسائر شؤون الدولة، فعلى السلطة العليا في الدولة المكونة من المراجع أن يستشير بعضهم بعضاً كما يستشيرون الأمة (على حسب تفصيل معروف).

وقد جعل علي (عليه السلام) للمسلمين حق المشورة عليه بأن يعطوه الرأي كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: 159).

فإن كانت الآراء مختلفة بين أقلية وأكثرية، فالأكثرية هي المتبعة وذلك حاكم على دليل (التقليد) حسب موازين الحكومة المذكورة في أصول الفقه.

وإذا لم تكن هناك أقلية وأكثرية بأن تساوى العددان - مثلاً - كانوا عشرة قد استقر رأي خمسة منهم على الحرب واستقر رأي خمسة منهم على السلم، فمقتضى القاعدة (القرعة) لأنها لكل أمر مشكل، حسب ما ورد في روايات عديدة.

ثم اللازم اتباع الأكثرية - فيما لو حدثت هناك أقلية وأكثرية - فليس لأحد من السلطة العليا أو الأمة مجانبة هذا الأمر، فالاستشارة ليست لأجل تطييب الخاطر وحسب، ثم يمضي كلٌ في طريقه، وإلا كانت الدكتاتورية بعينها.

ولا يخفى أن من أهم أسباب هزيمة المسلمين في هذا القرن: استبداد الحكام، فأنهم يأتون إلى الحكم إما بالوراثة، أو بالإنقلاب العسكري، أو يأتون بالثورات الشعبية، لكنهم يستبدون بالأمر بعد ذلك، ويحكّمون الدكتاتورية،

ص: 474


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص77.
2- فإن غير المسلم لا يعمل بهذه الشرائع الواردة في الإسلام.

ويقتلون المعارضين ويسجنونهم في السجون ويعذبونهم ويصادرون أموالهم، إلى غير ذلك مما هو مشاهد في بلاد الإسلام.(1)

بينما نرى نجاح الإسلام في العهود الماضية بالاعتماد على الاستشارية، حتى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) - على عظمته - كان يستشير ويأخذ برأي أصحابه في قصص معروفة.

والاستشارة هي إحدى موازين الحاكم الصالح، بأن يستشير في كل شيء، وفي التاريخ أنه نادى أحد الحكام المسلمين فقهاء عصره، وطلب منهم الدعاء إلى الله لينصر جيشه على الأعداء، فلما هُزم الجيش اخذ يعاتبهم قائلا: إنكم غير صالحين وإلا لما رد الله دعاءكم خائباً!!

فقال له أحدهم: ليس العيب فينا نحن وحدنا ولكنه فيك أنت أيضاً!!

فدهش الحاكم وقال له: لم؟

قال العالم: لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشك أن يسلط الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم).

فأنت نشرت الفساد والظلم ونحن قصرنا في إعطاء الرأي، وهذه الهزيمة هي غضب الله علينا أجمعين.

وفي أثناء الفتح الإسلامي لأرض فارس، طلب قائد جيش الفرس أن يلتقي بالقائد المسلم قبل المعركة ليتفاوض معه في حقن الدماء، وبعد أن عرض القائد الفارسي مقالته قال المسلم: أمهلني حتى استشير القوم، فدهش القائد الفارسي وقال: ألست أمير الجند؟

قال: نعم.

ص: 475


1- - حصل هذا خلال القرن الماضي، حيث عاش سماحة الامام الراحل عقوداً من الزمن يتابع ويشهد قيام أنظمة ديكتاتورية وسقوط أخرى، حتى انقشعت غيوم الديكتاتورية السوداء – ولو بشكل ظاهري- من عدد من البلاد الاسلامية، وذلك بعد انفجار الغضب الجماهيري فيما يسمى ب- (الربيع العربي).

فقال الفارسي: لكنّا لا نؤمر علينا من يشاور.

فقال له المسلم: لهذا نحن نهزمكم دائماً، أما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.

وقضايا استشارات المسلمين موجودة في التاريخ بكثرة، ولو جمعت لكانت كتاباً ضخماً، ولنقس هذه القصة بقصة الصهيونية العالمية، فقد قال (موشى دايان) في مذكراته عن حرب حزيران عام 1967،(1) أنه كان يتعجب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة و رجولة حتى الرمق الأخير، والرصاصة الأخيرة، بينما وحدات أخرى في نفس الجيش، كانت تستسلم دون إطلاق رصاصة واحدة، ولم يعرف السر في ذلك، حتى استسلم أحد القادة العرب ومعه جنوده وجميع أسلحتهم، فأخذ يسأله هل أخذت رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام لنا؟

فقال العربي في كبرياء: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة؟

فقال له: ولهذا السبب نحن نهزمكم دائماً.

ثم يستطرد موشي دايان قائلاً: «إن الضابط اليهودي مهما علت رتبته يأكل مع جنوده، ويعيش بينهم كأحدهم، ويحضر معهم دروس الدين، ثم هو بعد ذلك دائم الاستشارة لهم، والتفاهم معهم..» ولا يخفى عدم وجود هذه الحالة بهذه الصورة التي يصورها دايان في إسرائيل. نعم؛ ذلك موجود في الجملة وهو من أسرار تقدمهم.

ولذا قال الامام علي (عليه السلام): (الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم)(2).

ص: 476


1- - هي ثالث الحروب التي خاضتها دول عربية مع الكيان الصهيوني بعد حربي عام 1948، وعام 1956، وبدأت هذه الحرب بشكل مباغت بغارات جوية مفاجأة على المطارات المصرية، أدت الى شلّ سلاح الجو المصري، ثم البدء بتحرك القوات الاسرائيلية الى عمق الاراضي الفلسطينية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الاحتلال القائم حتى اليوم.
2- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج5، ص228.

فإن المراد ليس الصلاة والصيام والحج(1) وإنما أنظمة الإسلام وقوانينه الموجبة لتقدم المسلمين في ميادين الحياة، كالنظام والنظافة والاستشارة والانتخابات الحرة والحرية وغيرها، وقد تخلّى المسلمون عنها جملةً وتفصيلاً، إلا بعض النقاط البيضاء يجدها الإنسان في حياة المسلمين، بينما غير المسلمين أخذوا بهذه الأمور فتقدموا على المسلمين.

ثم إنه إذا فرض حدوث اختلاف بين السلطة العليا والأمة في أمرٍ كان، على الأمة أن يتخذوا منهج الله سبحانه وتعالى في اتباع السلطة العليا العادلة، حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59)

ومن حسن الحظ أن الأحكام الشرعية واضحة للجميع، وهي إن لم تكن واضحة في بعض خصوصياتها إلا أنها واضحة في أصولها العامة وإذا انحرفت السلطة العليا عن موازين الإسلام - فرضاً - فاللازم على الأمة إصلاحها أو إسقاطها والوقوف بوجهها.

ففي حديث مروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا لكم فاذا عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله)(2).

وفي أحاديث متعددة: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد)(3)، (وافضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر)(4).

ص: 477


1- الکافي: ج5، ص52.
2- وسائل الشيعة : ج11، ص400.
3- کنزالعمال: ج6، ص38.
4- المصدر السابق: ص65.

وقد رأينا أن أبا ذر الغفاري وحجر بن عدي وغيرهما من أكابر أصحاب رسول الله وأصحاب علي وأصحاب الحسن والحسين وغيرهم من الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين قتلوا دون قول الحق، ومن وقوفهم الصامد تمكنوا من تغيير السلطة إلى الأقرب فالأقرب إلى الإسلام.

8 - المقياس: الإيمان والكفاءة

سبق الإسلام كل الأنظمة في عدم التفرقة والتمييز بين الناس، فالصلاحية لإدارة الحكم والوصول إلى أعلى مراتب الدولة لكل من له الكفاءة والمؤهلات الشرعية مع اختيار أكثرية الأمة له، فلا تمييز بين الناس إلا بقدر الكفاءة، والحاكم الذي ينتخب لا يهم أن يكون من أي لون من الألوان، وأية خصوصية من الخصوصيات.

فالإسلام ينفي تمايز الناس بالفقر والغنى، كما نلاحظ ذلك في المجتمع الرأسمالي أو الإقطاعي، فلا يكون للأغنياء في الإسلام نفوذ خاص أو فرص أكثر بسبب غناهم وثروتهم، إنما التفضيل للكفاءة، قال الله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر: 7).

فالرأسمالية بالمعنى الإسلامي المذكور في القرآن الحكيم: (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279)، تكون صحيحة، أما الرأسمالية بالمعنى الغربي فهي غير صحيحة في الإسلام.

كما أن الإسلام ينفي التمايز الوراثي، فكون هذا ابناً للحاكم لا يصحح كونه حاكماً، وكونه من أقرباء الحاكم لا يصحح كونه حاكماً، بل اللازم الانتخاب الحر كما ورد في الأخبار التي ذكرنا جملة منها في كتاب (الحكم في الإسلام).

وقد جاء القرآن الحكيم بهذا المبدأ صراحة في قصة إبراهيم (عليه السلام)، حيث قال: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).

ص: 478

فإن إبراهيم (عليه السلام) طلب لذريته الإمامة، وأجابه الله على ذلك بالتنبيه على أن الإمامة لا تكون إلا بالكفاءة، فمن كان كان ظالماً لن يصلح للإمامة، سواء الإمامة من قبل الله تعالى بالنبوة والوصاية أو بالنيابة عنهما عليهما السلام.

وقد ذكر العلماء في الكتب الأصولية بكلا شقيها: (أصول العقائد وأصول الفقه) تفصيلاً في هذه الآية المباركة، كما ذكرنا ذلك أيضاً في (كتاب الأصول).

وكذلك يرفض الإسلام التمايز الطبقي، كالنبلاء وأصحاب الدم الأزرق - كما يعبّرون عن ذلك- ، يقول القرآن الكريم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

بل كل هذه الأمور تعتبر من بديهيات الإسلام، فاللغة والجنس واللون والعشيرة والإقليم، وغيرها، لا تسبب تمايز إنسان على إنسان آخر في إدارة الحكم، كما لا تسبب هذه الأمور تمايز إنسان على إنسان في مرجعية التقليد أو القضاء أو الإمارة أو الشهادة أو إمامة الجماعة أو غير ذلك.

9 - تكافؤ الفرص

تنص القوانين العالمية على مبدأ (تكافؤ الفرص بين الناس) كبند من بنود الحرية العامة، ومؤدى هذا البند أن كل إنسان يمتلك القابلية الذاتية فله الحق في الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بدون تدخل المحسوبية والمنسوبية والقرابة وغيرها.

وقد سبق الإسلام إلى ذلك، وطبّقهُ المسلمون عملياً فنجد في المسلمين، الذين وصلوا إلى الحكم أو إلى مراتب العلم أو الثروة أو القوة، كانوا من مختلف الجنسيات والقوميات والألوان واللغات.

وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (من ولّى من أمور الناس شيئاً ووّلّى عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله)(1).

ص: 479


1- مستدرک الوسائل: ج18، ص211.
10 - سيادة القانون

إن مما يكفل الحرية في دساتير عالم اليوم هو (سيادة القانون) في علاقة السلطة بالشعب، وعلاقة الشعب بالسلطة، فالقانون هو السيّد، لا القدرة والمال والعشيرة وغيرها.

ومن الواضح أن منبع الدساتير الإسلامية، هو القرآن الحكيم، وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والروايات الواردة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وفي كل ذلك نجد لزوم سيادة القانون: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).

وفي آية أخرى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47).

وفي آية ثالثة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45).

وفي روايات متواترة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقان حتى يردا على الحوض انظر كيف تخلفوني فيهما)، مما يدل على أن العترة عدل للكتاب، فقولهم: يجب أن يكون كالكتاب قانوناً عند المسلمين لا يتعدون عنهما.

وأما السنة الطاهرة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهناك روايات متواترة حول وجوب الأخذ بها.

وفي الروايات أنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (اللهم ارحم خلفائي قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي)(14).

فاللازم سيادة القانون على كافة الأمة حتى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) على عظمته محكوم بالقانون، قال سبحانه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) (الإسراء: 74 - 75).

11 - المحافظة على (حقوق الإنسان)

إن الإسلام سبق القوانين الوضعية في إلزام الدولة بصيانة الحقوق الحيوية

ص: 480

لكل إنسان، وهي (حق الحياة) (حق الحرية الشخصية) و(حق الملكية الخاصة) وغيرها.

فقد قال سبحانه بالنسبة إلى الحق الأول: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

وفي رواية: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة وهو آيس من رحمة الله)(1)، وقد قرر في الإسلام القصاص والدية حتى في الغمز بالكف ونحوها.

وأما حق الحرية الشخصية، أي أن يكون الإنسان آمناً على حريته، فلا يحبس أو يعتقل أو تحدد إقامته أو ما أشبه ذلك من حقه في كل حرياته إلا في الموارد المنصوصة عليها في القرآن والسنة المطهرة. فذلك واضح لكل أحد، وقد ورد في ذلك متواتر الروايات، وقد اشتهرت قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم). بل قامت الأدلة الأربعة في الشريعة الإسلامية على ذلك.

وأما حق الملكية الخاصة، بأن يكون الإنسان آمناً على ماله فلا يصادر، وعلى رزقه فلا يضار فيه، وعلى عمله فلا ينقل منه أو يعزل عنه بسبب معارضته للدولة أو غير ذلك، فالدليل عليه قوله سبحانه: (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 279).

وقد قرر الإسلام في المال أربعة حقوق واجبة: وهي (الخمس) و(الزكاة) و(الجزية) و(الخراج).

وأما سائر أموال الناس فهي لهم، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض كتبنا الاقتصادية.

ولذا نجد (السجن) نادراً في الإسلام، ندرة قليلة جداً، وإذا أخذ الإسلام بالزمام، فإن شخصاً واحداً يسجن، مقابل مائة يسجنون في ظل القوانين الدنيوية.

ص: 481


1- ثم يمکن أن يشمل هؤلاء عفو الإمام - کما ذکرناه في کتبنا السياسية.

أما التخليد في السجن فليس إلا ثلاثة: فقد روي عن الامام علي (عليه السلام) أنه قال: (لا يخلد في السجن إلا لثلاثة: الذي يمسك على الموت، والمرأة ترتد حتى تتوب، والسارق بعد قطع اليد والرجل)(1).

وفي متواتر الروايات ما جمعه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في جملة هي قوله المروي عنه: (كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)(2).

ولا يخفى أن تخصيص المسلم في هذه الرواية، من باب أن الكلام مع المسلمين، وانه العنصر الذي يهتم به الإسلام أولاً، وبالذات لأنه المتبع للحق، وإلا فمن الواضح أن الحديث يشمل الذمي ايضاً، فدمه وماله وعرضه حرام، حتى ورد في حديث عنه (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من آذى ذمتي فكأنما آذاني)(3).

12 - حرية العقيدة والشعائر الدينية

قوانين الدولة الديمقراطية في الوقت الحاضر تنصّ على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية.

وقد سبق الإسلام إلى ذلك في القرآن وسيرة النبي والأئمة (عليهم السلام) فقد قال سبحانه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (البقرة: 256).

وقال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6).

وقال جل اسمه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21 - 22).

وقال جل اسمه: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق: 45).

وقال تبارك ذكره: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى: 15).

ص: 482


1- الحدائق الناظرة: ج18، ص147.
2- بحار الأنوار: ج30 ، ص486.
3- وسائل الشيعة: ج19، ص43.

والنبي (صلّى الله عليه وآله) لم يجبر أحداً على تغيير عقيدته، كما أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يجبر أحداً على ذلك، والكل يعلم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) استولى على عدة دول كانت مشركة أو يهودية أو مجوسية أو مسيحية فلم يجبرهم على تغيير دينهم كما ذكرنا تفصيل ذلك في بعض الكتب الإسلامية، والبلاد إنما دخلت في الإسلام لما رأوا من صحة عقيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحسن قوانينه.

13 - عدم جواز تفتيش البيوت

في قوانين عالم اليوم تجد النص على حرمة المساكن، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها بدون إذن أهلها إلا بأمر اضطراري ثانوي، (والضرورات تقدر بقدرها).

وقد سبق الإسلام هذه القوانين في جعل ذلك، ففي القرآن الحكيم: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تسأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم) (النور: 27 - 28).

وقصة عمر وتجسسه في الليل ودخوله في دار إنسان من الحائط مشهورة، حيث إنه وجد في دار جماعة يشربون الخمر فتسوّر الحائط ودخل الدار ونهرهم عن عملهم، فقالوا: إنا أخطأنا خطأ واحداً أما أنت فقد أخطأت ثلاثة أخطاء: أخطأت حين تجسست والله يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12).

وأخطأت حين تسلقت الدار والله يقول: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (البقرة: 189).

وأخطأت حين لم تسلم والله يقول: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (النور: 27).

14 - لا تجسس على الأفراد

وقد نصّت القوانين في العالم الديمقراطي على حرمة أسرار الإنسان التي يريد إخفاءها، كالمراسلات والمحادثات الهاتفية، وحرمة المنازل والمحلات التي يجتمع فيها الإنسان مع أصدقائه وأعوانه وغيرهم.

ص: 483

وقد سبق الإسلام إلى ذلك، فقد روى الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: (أيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقؤوا عينه أو جرحوه فلا دية عليهم)(1).

وعن عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (اطلع رجل على النبي (صلّى الله عليه وآله) من الجريد، فقال له النبي: لو أعلم انك تثبت لي لقمت إليك بالمشقص حتى أفقأ به عينيك، قال: فقلت له: وذاك لنا؟ فقال: ويحك - أو ويلك - أقول لك: إن رسول الله فعل، وتقول ذلك لنا!)(2).

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي: (أنه نهى أن يطّلّع الرجل في بيت جاره، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم، أو عورة غير أهله متعمداً أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله إلا أن يتوب)(3).

15 - حق اللجوء السياسي

وكذلك نجد في القوانين الوضعية حق اللجوء السياسي وقد سبق الإسلام في ذلك.

فقد قال سبحانه: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (التوبة: 6).

بل فوق ذلك فقد ورد في بعض الروايات منع قتل بعض الحيوانات، حيث قال (عليه السلام): (لانه استجار بك و آوى في منزلك، وكل طير استجار ببيتك فأجره)(4).

ص: 484


1- المصدر السابق: ص49.
2- المصدر السابق: ص48.
3- المصدر السابق: ج16، ص248.
4- الکافي: ج2، ص164.

وفي الإسلام يجب الدفاع عن المستجير ضد أي نوع من أنواع الظلم والاضطهاد يوجهان إليه، حتى إذا كان كافراً محترماً، فإن دفع الظلم ورفع الظلم واجبان على المسلم، بل في الحديث: (من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(1).

وفي حديث عن عيسى (عليه السلام): (التارك مداواة الجريح والجارح له سواء).

16 - الحرية السياسية

وفي أجزاء من عالم اليوم، نرى الحرية السياسية، وذلك عن طريق إبداء الرأي في وسائل الإعلام وإصدار الصحف والكتب، وتأسيس المحطات التلفزيونية والإذاعية وغيرها.

وقد سبق الإسلام، القوانين الوضعية في هذه الحرية ، فقد قرر: (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) و(إرشاد الجاهل) و(تنبيه الغافل) و(النصيحة لأئمة المسلمين) و(كون الإنسان حراً إلا في الحرام) و(إن الإنسان مسلط على ماله ونفسه). والحريات السياسية المتقدمة كلها داخلة في هذه الأمور كما هو واضح.

ومنه يعلم، حق الإنسان في المعارضة الصحيحة، فإن للإنسان حق معارضة الدولة بالمظاهرة والإضراب، وغير ذلك إذا رأى ذلك حقاً، لا أن يعارض الدولة الشرعية لطلب منصب أو جاه أو غيرهما من الأغراض غير الشرعية، وعلى الدولة أن تقابل المعارضين بكل لين ولطف.

وفي الحديث: أنه حصل في الكوفة في زمان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إضراب مضادّ مرة، ومظاهرة معارضة مرة أخرى فلم يزد الإمام (عليه السلام) إلا أنه أرسل اليهم الإمام الحسن (عليه السلام) لينصحهم حيث (كانوا على باطل)، فلما أبوا من القبول قرأ الإمام (عليه السلام) هذه الآية: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى

ص: 485


1- بحار الأنوار: ج30 ، ص332.

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 115).

واكتفى بذلك!

ومن الواضح، أن المضربين والمتظاهرين ضد الإمام (عليه السلام) كانوا على باطل، وإن الإمام (عليه السلام) كان على حق، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (علي مع الحق والحق مع علي عليه السلام)(1)، و(علي مع القرآن والقرآن مع علي)(2).

إلا أن الإمام (عليه السلام) لم يزد على تذكيرهم بحكم الله سبحانه وتعالى، فلما رآهم يتركون الحكم عامدين لم يمسهم بسوء، وإنما بيّن مصيرهم السيئ في الآخرة.

17 - حق التجمع والتنظيم

حق التجمع والاجتماع ونحوهما، وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات والأحزاب.. كل ذلك مكفول في الإسلام، وقد سبق الإسلام القوانين الوضعية في ذلك، فقد جعل الرسول (صلّى الله عليه وآله) المهاجرين والأنصار جماعتين، ويستفاد من أحاديث متعددة أنه كلما ضغطت عليه جماعة منهما كان يلتجئ إلى الجماعة الأخرى.

ففي حديث: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في قصة مشهورة: (لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)(3).

وفي حديث آخر أنه عند وفاته (صلّى الله عليه وآله) حينما لغط القوم عنده وكانوا من المهاجرين، وقال بعضهم (إن الرجل ليهجر)! واختلفوا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (قوموا عني)(4).

ص: 486


1- المصدر السابق: ج104، ص256.
2- مجمع الروائد ومنبع الفوائد: ج10 ، ص32، دارالکتب العلمية - بيروت.
3- بحار الأنوار: ج22، ص474.
4- مستدرک الوسائل: ج14، ص79.

فلما خرجوا، أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) بدعوة الأنصار للعودة، فجاؤوا وتكلم معهم بما أحب أن يوصي.

وفي رواية أن حزبين من الأنصار كانا يتراميان فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع(1).

بل يظهر من الروايات وجود المهاجرين والأنصار كحزبين حتى زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث أعطى (قرظة) وهو من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) راية الأنصار يوم صفين.

إلى غير ذلك من الموارد المتوفرة في السيرة الطاهرة.

بل إن ذلك هو مقتضى القاعدة المشهورة عند الفقهاء المستنبطة من الآيات والروايات (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) يشمله قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)

وتشمله أيضاً بدلالة الاقتضاء الآية المباركة التي تقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).

18 - حرية المرأة

أما حرية المرأة في الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها فهي واضحة.

فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228).

وفي آية أخرى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (آل عمران: 195).

ص: 487


1- المصدر السابق: ج3، ص445.

وقال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 35 - 36).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تدل على المساواة بين الرجل والمرأة في كل الشؤون - إلا ما خرج بالدليل - كما قال سبحانه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34).

إلى غير ذلك من الأحكام الخاصة للمرأة، فإنه في غير تلك الأحكام الخاصة يتساوى الرجل والمرأة في كل الشؤون.

وقد كانت النساء يحضرن مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في صلوات الجماعات، كما كن يحضرن خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويظهر من بعض الروايات أن النبي (صلّى الله عليه وآله) أمر بعض النساء بأن تؤم النسوة في الصلاة كما ورد في حديث أنه (صلّى الله عليه وآله) أمر (أم ورقة) أن تؤمهن.

بل يظهر من كتاب (كامل الزيارة) أن بعض المساجد كانت ترتادها النساء فقط غالباً في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام).

فعن مالك بن ضمرة العنبري قال: قال لي أمير المؤمنين (عليه السلام): (تخرج إلى المسجد الذي في جنب دارك تصلي فيه)؟

فقلت له: يا أمير المؤمنين ذاك المسجد تصلي فيه النساء.. إلى آخر الرواية(1).

وفي رواية الغوالي عن النبي، أنه قال (صلّى الله عليه وآله): (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)(2).

ص: 488


1- المصدر السابق: ص446.
2- المصدر السابق: ج11، ص126.

والمشهور بين الفقهاء أن للزوج حقّين على الزوجة: حق الخروج عن الدار - فلا يجوز لها الخروج بدون إذنه - وحق الاستفراش فإذا أراد ذلك يجب عليها بذل نفسها، أما الطبخ والكنس والرضاع وما أشبه فليس للرجل حق عليها.

وقد مارست المرأة في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنواعاً من العمل السياسي والتثقيفي وغيرها، وقد تقدم أخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) البيعة من النساء.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة: 12).

ولذا بايع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النساء، فجعل في إناء ماءً ووضع يده المباركة في الإناء ثم أخرجها منه، وأمر النساء أن يضعن أيديهن في ذلك الإناء دليلاً على البيعة.

وروى في الجعفريات بسند الأئمة إلى علي (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يصافح النساء، فكان إذا أراد أن يبايع النساء أتى بإناء فيه ماء فيغمس يده ثم يخرجها ثم يقول: اغمسن أيديكن فيه فقد بايعتكن)(1)، فالنبي (صلّى الله عليه وآله) لم يصرف النظر حتى عن مثل هذا الأمر.

وبهذه الصورة بايعت المرأة أيضاً في (غدير خم) الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وكما آخى الرسول (صلّى الله عليه وآله) بين الرجل والرجل من أصحابه، كذلك آخى بين المرأة والمرأة كما هو مذكور في التواريخ.

وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستصحب النساء حتى في الحروب، وكنّ يقمن بدور المداوي والمسعف والطبيب وكذلك استصحبهن في سفره إلى الحج.

بل يظهر في جملة من الروايات أن الرجال والنساء كانوا يشتركون في

ص: 489


1- الکافي: ج5، ص380.

اجتماعاته (صلّى الله عليه وآله)، وكانت النساء تسأل منه المسائل، بل وقد يطلبن منه في نفس الاجتماع الزواج.

فقد روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاءت امرأة إلى النبي فقالت: زوجني.. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، زوجنيها فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شيء..! فقال: كلا.

فأعادت، فأعاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الكلام، فلم يقم أحد غير هذا الرجل، فأعادت، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المرة الثالثة، قال: أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقال: قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلّمها إياه)(1).

وفي رواية سهل الساعدي: أن إمرأة جاءت الى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقالت: يا رسول الله.. إني وهبت نفسي لك، فقال (صلّى الله عليه وآله): لا أربة لي في النساء.

فقالت: زوّجني بمن شئت من أصحابك؛ فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها؟ فقال: هل معك شيء تصدقها؟ فقال: والله ما معي إلا ردائي هذا؛ فقال: إن أعطيتها إياه تبقى ولا رداء لك، هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم سورة كذا.. وكذا.. فقال (صلّى الله عليه وآله): زوجتكها على ما معك من القرآن)(2).

وفي رواية ثالثة: (ولعلها قصة ثالثة أيضاً) قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أتحسن من القرآن؟ قال: نعم سورة؛ قال: علّمها عشرين آية(3).

ويظهر من جملة من الروايات أن الزواج في الإسلام كان سهلاً، لأن الأمر ليس أكثر من أن يكون هبة الرجل نفسه للمرأة، وهبة المرأة نفسها للرجل، (لا هبة اصطلاحية، وإنما الركنان هما الزوجان حسب الواقع)، ولذا كان المهر أمراً ثانوياً.

ص: 490


1- مستدرک الوسائل: ج14، ص313.
2- المصدر السابق: ج15، ص61.
3- المصدر السابق: ص60.

فعن علي (عليه السلام) أنه أتى رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أردت أن أتزوج هذه المرأة؟

قال: وكم تصدقها؟ قال: ما عندي شيء؛ فنظر إلى خاتم في يده فقال: هذا الخاتم لك؟ قال: نعم؛ قال: فزوجها عليه(1).

وفي رواية صفوان، عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث أنه قال: (وقد كان الرجل عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتزوج المرأة على السورة من القرآن، والدرهم، وعلى القبضة من الحنطة)(2). إلى غيره من الروايات مما يجب أن يرجع المسلمون إليها إذا أرادوا الخير والسعادة.

ويظهر من الروايات أن النساء، كُن يسألْن عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وعن الخلفاء من بعده في مجمع الرجال، وكن يتكلّمن ويعلقن على كلام الرسول (صلّى الله عليه وآله) والخلفاء.

فقد روى الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) بايعهن وكان على الصفا، وكان رجل من الصحابة أسفل، وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال (صلّى الله عليه وآله): (أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً).

فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال. وذلك أنه (صلّى الله عليه وآله) بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط.

فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (ولا تسرقن).

فقالت هند: إن أبا سفيان رجل ممسك وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحل أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعرفها، ثم قال لها: وإنك لهند بنت عتبة.

ص: 491


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ج6، ص14.

فقالت: نعم.. فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك.

فقال: (ولا تزنين).

فقالت هند: أوتزني الحرة؟

فتبسم أحد الصحابة لما جرى بينه وبينها في الجاهلية.

فقال (صلّى الله عليه وآله): (ولا تقتلن أولادكن).

فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم - وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم بدر - فضحك عمر وتبسم النبي (صلّى الله عليه وآله).

ولما قال (صلّى الله عليه وآله): (ولاتأتينّ ببهتان) قالت هند: والله إن البهتان قبيح، وما تأمرنا إلا الرشد ومكارم الأخلاق.

ولما قال (صلّى الله عليه وآله): (ولا يعصينك في معروف) قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك!!

19 - حرية انتخاب الرئيس الأعلى للدولة

هنالك روايات عديدة تبين سبق الإسلام في إعطاء الحرية لانتخاب الرئيس الأعلى للدولة، بينما تتبجح اليوم الانظمة السياسية الوضعية في العالم بأنها تعطي الانسان هذه الحرية(1).

ص: 492


1- - أول عملية انتخاب للرئيس الأعلى للدولة حصلت في القرن السابع عشر، وفق الأدبيات الغربية، حيث جرى تشكيل أول البرلمانات المنتخبة، أما النظام الأول الذي اعتمد الاقتراع العام، فكان النظام الفرنسي الذي اعترف به، بصفته النظام الوطني الأول، الذي لا يقوم حق التصويت فيه على أساس الملكية، وقد شهدت بريطانيا في العام 1215، تشكيل أول برلمان منتخب، لكنه لم يوفق في حينها، وفي الولايات المتحدة، كان إنتخاب أول رئيس في العام 1732، وهو جورج واشنطن، ويعد المؤرخون، نظام الحكم في روما وقبلها في أثينا، أول محاولات ديمقراطية في التأريخ. بينما حصل ذلك في صدر الاسلام وفي القرن السابع الميلادي، عندما انتخبت الأمة أمير المؤمنين عليه السلام، خليفة بعد مقتل عثمان.

روى سليم بن قيس الهلالي في (كتابه) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهدياً أن لا يعملوا عملاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً، عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، ويجبي فيئهم ويقيم حجهم ويجبي صدقاتهم)(1).

وقد ذكرنا جملة من الروايات بهذا الشأن في كتاب (الحكم في الإسلام) وغيره.

20 - انتخاب مرجع التقليد والقاضي

اختيار القاضي ومرجع التقليد وإمام الجماعة، ومن أشبه، إنما هو بيد الأمة وبملء حريتهم.

فقد روى أحمد بن الفضل الكناسي قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): أي شيء بلغني عنكم؟

قلت: ما هو؟

قال: بلغني أنكم أقعدتم قاضياً بالكناسة.

قلت: نعم جعلت فداك، رجل يقال له عروة القتات، وهو رجل له حظ من عقل نجتمع عنده ونتكلم ونتساءل ثم يرد ذلك إليكم.

قال: لا بأس.

وفي رواية التقليد: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)(2).

وفي رواية أخرى: (ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فليرضوا به حاكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(3).

ص: 493


1- وسائل الشيعة: ج18، ص95.
2- المصدر السابق: ص220.
3- المصدر السابق: ص220.

بل وجعل الإسلام للمفتي والقاضي ومن أشبه، الحرية في أن يجيب السائل على حسب علمه.

فعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال (عليه السلام): بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس.

قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا اعرفه ولا أدري من هو، فأقول جاء عن فلان كذا.. وجاء عن فلان كذا.. فأدخل قولكم فيما بين ذلك.

فقال لي: إصنع كذا.. فإني كذا أصنع..

وقد ذكرنا في بعض كتبنا مسألة الحرية في استئناف القضاء، وتميزه لما دل على ذلك من فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حيث اشترى ناقة من الأعرابي فأنكر الأعرابي إعطاء رسول الله الثمن له، فتقاضيا إلى أحد الصحابة، ثم تقاضيا إلى صحابي ثان، ثم تقاضيا إلى علي (عليه السلام) ثالثاً، مما يدل على صحة الاستئناف والتمييز المتعارفين في هذا الزمان.

النتيجة

وهكذا سبق الإسلام القوانين الوضعية في ما ذكرناه وفي غير ذلك من الأمور، فإن الإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة من تعاليم الحرية ومصطلحاتها لفظاً ومعنىً وتطبيقاً إلا بيَّنها، سواء ما ورد منها في دراسات علم السياسة أو الدساتير والقوانين الوضعية، أو إعلان حقوق الإنسان مع ثلاثة فروق:

الأول: أسبقية الإسلام على القوانين الوضعية كلها في إعطاء وتبيين هذه الحريات، وتقرير العقاب على من خالفها.

الثاني: إن الإسلام أكثر حرية وأوسع، مما هو سائد في العالم، حتى أن

ص: 494

الحريات الموجودة فيما يسمى ب- (العالم الحر) لعلها لا تصل إلى عُشر الحريات الإسلامية - كما ألمعنا إلى ذلك.

الثالث: إن الإسلام يلتقي مع الدساتير الوضعية في كثير من الأمور ويختلف عنها في أمور أخرى.

فما يتفق معها، أن الملاحظ دائماً، أن التعبير الإسلامي، سواء في القرآن أو في السنة، أكثر دقة وأبعد عمقاً وغوراً، وأفضل أداءً للمعنى المقصود، من التعبيرات الدارجة والمستعملة في عصرنا هذا، والتي وضعها جملة من العلماء المفتين والمشرعين بعد جهد وتنقيب واقتباس من الإسلام أيضاً، إذ لا يخفى أن القوانين الإسلامية انتقلت بسبب علماء الأندلس إلى البلاد الغربية، بالإضافة إلى ما تُرجم لهم من الكتب الإسلامية، والتي منها شرائع الإسلام للمحقق الحلي وغيره.

أما الأمور التي يختلف الإسلام فيها مع القوانين الوضعية، فدائماً نجد أن رأي الإسلام هو الأسلم والأصلح للفرد والمجتمع، فمثلاً: جملة من القوانين الوضعية تبيح الزنا واللواط والخمر والقمار وتعاطي المخدرات كالهيروئين، وغيرها، مع الوضوح الشديد للأضرار البالغة لكل هذه الإباحية، حتى أن عقلاء الغرب، باتوا اليوم يرفعون أصواتهم بوجوب الكف عن هذه الأمور، ومن هنا نرى أن بعض البلاد الغربية، باتت تتأرجح بين الإباحة وبين التحريم لهذه الأمور، بل أن البلد الواحد أحياناً يحرم وأحياناً يحلل، كما في أمريكا، حيث حرمت الخمر مدة مديدة، ثم عادت وحللتها تحت ضغوط كبيرة من الرأسمالية المنحرفة، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

ولا علاج للعالم إن أراد أن يسترد كرامته وحريته وسيادته وعزته وإنسانيته إلا بالرجوع إلى الحريات المقررة في الإسلام حسب الموازين المذكورة في الكتاب والسنة الشريفة.

ص: 495

ص: 496

الفصل الرابع: السلم .. أساس البناء الحضاري

أولاً: الإسلام يقيّد الحرب

اشارة

الحرب أسوأ شيء عرفه الإنسان في تاريخه الطويل، لأنها توجب قتل الإنسان ونقص أعضائه، وفقد قواه وتشويهه، كما توجب هدم العمران، وإثارة البغضاء والشحناء بين البشر، و تورث الأجيال العقد النفسية، وأيضاً تسبب إلقاء المقاتلين في شراك الأسر.. ولذا يكون من اللازم تجنب الحرب بأية قيمة، وإذا اضطر الإنسان إلى الحرب - بأن يفرضها عدوه عليه- كان الواجب أن يقتصر فيها على أقصى درجات الضرورة.

وكذلك اللازم على البشر عامة أن يضعوا حداً للحروب نهائياً، حتى لا تقع في المستقبل.

الحرب ظاهرة مرضية

والحرب، وإن كانت ظاهرة منذ القدم، بل قيل أنها مؤيدة من قبل القرآن الحكيم في الجملة، حيث قال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251).

بل قال البعض بأنها مظهر من مظاهر (تنازع البقاء)، الذي هو وصف طبيعي ملازم لجميع الكائنات الحية لا ينفك عنها، وإنه سُنّة من سنن المجتمع البشري، إلا أن اللازم الحيلولة دون وقوعها، فإن المرض أيضاً ظاهرة بشرية منذ القدم،

ص: 497

وكذلك احتراق المنزل أو المحل التجاري، وكذلك وقوع الكوارث الطبيعية، مثل السيول والزلازل، لكن كل ذلك، لا يجعل من الحرب أمراً لا بد منه، إذ ليست هي حقيقة أولية، وإنما هي ظاهرة ثانوية تقع بسبب شراسة بعض الأفراد.

ولذا قال جماعة من العلماء: إن الحرب في ذاتها قبيحة لما فيها من قتل النفوس والتخريب والتدمير، وقد قال سبحانه مؤيداً لذلك: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).

فإن الظاهر من هذه الآية أن القتال، لو كان أمراً طبيعياً لما قال سبحانه: (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ).

إذن؛ فالحرب ظاهرة اجتماعية تمليها الغرائز الفاسدة وليست أمراً طبيعياً في البشر.

الحرب.. آخر خيارات النبي الأكرم (ص)

لم يقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على حرب واحدة، وإنما كان (صلّى الله عليه وآله) يحارب دفاعاً عن النفس، وكان (صلّى الله عليه وآله) لا يلتجأ إلى الحرب الدفاعية أيضاً إلا بعد فقدان الخيارات التي كانت عبارة عن عدة أمور:

أولاً: الحياد.. كما حصل بين الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبين الحبشة ف(الحياد)، وكان أول شروط عدم اعتداء البعض على البعض الآخر.

ثانياً: العهد.. أو (معاهدة سلام) حسب المصطلح الحديث، فقد عاهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، اليهود المشركين، وكما عاهد (صلّى الله عليه وآله)، كفار مكة في صلح الحديبية.

ثالثاً: الإسلام عن قناعة.. وبعد هذين الأمرين يأتي دور (الإسلام) فإذا أسلم الطرف الآخر، فقد حقن ماله ودمه ولا عدوان إلا على الظالمين.

ص: 498

والإسلام ليس أمراً قسرياً كما هو واضح، إنما هو عبارة عن الأدلة القاطعة التي توجب اقتناع العقل بصحة المبدأ والمعاد والرسول والشريعة وغيرها.

رابعاً: الجزية.. الحل الأخير، وهو ما طبقه الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع نصارى نجران، والجزية نوعان:

النوع الأول: جزية أهل الذمة الذين يعيشون تحت لواء الإسلام. فهي تؤخذ من الكفار كما يؤخذ الخمس والزكاة من المسلمين، وقد ذكرنا في كتبنا الفقهية: إن (الجزية) تؤخذ من مطلق الكافر، خلافاً للمشهور، فإن الكفار الذين يعيشون تحت لواء الإسلام يؤخذ منهم مال لا بعنوان الخمس والزكاة وإنما بعنوان الجزية، سواء كانوا أهل كتاب كاليهود والنصارى والمجوس أو كانوا غير أهل كتاب كالوثنيين والمشركين.

النوع الثاني: ما يؤخذ من الكفار الذين ليسوا تحت لواء الإسلام، وإنما يؤخذ ذلك لأجل عناد أولئك بعد ظهور الحق لهم كما فعل (صلّى الله عليه وآله) بنصارى نجران حيث بحث مع علمائهم حول أحقية الإسلام لكنهم أُفحموا، ثم باهل معهم، لكنهم أحجموا، فأي شيء بعد هذين إلا العناد؟ والمعاند يلزم أن يخفف من غلواء عناده بما يرجعه إلى الحق تدريجياً.

يقول الله سبحانه، في قضية نصارى نجران: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 59 - 64).

ص: 499

حروب الرسول (صلّى الله عليه وآله) دفاعية

وإذا انقطعت كل هذه الوسائل والسبل يأتي دور (الحروب الدفاعية) ولذا اتصفت كل حروب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصبغة (الدفاع).

فمثلاً: كان أول اصطدام للمسلمين بقريش حيث تعرضت (سرية) عبد الله بن جحش لقوافل قريش القادمة من الشام بقيادة أبي سفيان رداً على اعتداء المشركين حيث إنهم اعتدوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه طيلة عشر سنوات، فقتلوا بعضاً منهم، وشردوا بعضاً إلى الحبشة، وبعضاً إلى المدينة، وعُذبوا جملة منهم، وهتكوا أعراضهم كما في قصة سمية أم عمار، وصادروا دورهم وأموالهم في مكة المكرمة، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أتوا إلى القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورة، وأرشوهم ليمنعوا قوافل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من المرور في أراضيهم، أي أنهم ضربوا حصاراً اقتصادياً حول المدينة المنورة مما هدد المسلمين بالموت جوعاً، ومن الواضح أن الحصار الاقتصادي الدفاعي من الوسائل المشروعة المستخدمة في الحروب، فالمسلمون أرادوا بهذه السرية وبما تلاها (كغزوة بدر وما أشبه)، ضرب الحصار الاقتصادي حول أهل مكة المحاربين للرسول (صلّى الله عليه وآله) من باب المعاملة بالمثل.

أما بقية غزوات الرسول وحروبه وسراياه فكانت إما لنقض العهد من قبل الطرف الآخر، كما فعله يهود بني قينقاع في المدينة ومشركوا قريش في نقض صلح الحديبية.

وإما لرد العدوان كما في غزوة أحد والخندق.

أو لشن حرب وقائية كما في قصة مؤتة، حيث إن الفرس والروم أخذا في الاعتداء على الدولة الإسلامية، فقد أحيط الإسلام بأعداء من الفرس والروم، يريدون بالإسلام كل سوء وأخذ هؤلاء ينتهزون الفرص المواتية للانقضاض عليه واجتثاث جذوره، وقتل الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عقر داره وإبادة المسلمين، وقد شرعوا في ذلك بالفعل، فقد أقدم (هرقل) عظيم الروم على قتل جماعة من ولاته أسلموا

ص: 500

في بلاد الشام. وكل ذلك أعطى للرسول (صلّى الله عليه وآله) الحق الشرعي والعرفي والقانوني في الدفاع.

وكذلك الفرس، فإن (كسرى) عظيم الفرس، أمر واليه على اليمن بأن يرسل بعض جلاوزته إلى المدينة المنورة ليأتوا برأس الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) إلى كسرى، لكن الرسل الذين أتوا إلى المدينة المنورة آبوا ب- (خُفيّ حُنين)، حيث رأوا التفاف المسلمين العظيم حول الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحاجّهم الرسول في قصة مذكورة في التواريخ.

أقل قدر من الضحايا

ثم إن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يتحرى أقل قدر من القتل والأسر في حروبه، بما لا يذكر العالم مثله لا قبل الإسلام ولا بعده.

فمثلاً: يذكر أحد الكتّاب إن جميع القتلى من الطرفين (المسلمين والمشركين) لم يتجاوز ألفاً وبضعة أشخاص في كل الحروب التي خاضها الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتي كانت أكثر من ثمانين حرباً.

لاويذكر كاتب آخر إن عدد الذين قتلوا في جميع الحروب هم ألف وثمانية عشر شخصاً.

ويذكر مؤلف ثالث: (إن عدد الكفار والمسلمين الذين قتلوا في جميع الحروب لم يتجاوز ألف وأربعمائة).

وهذا أكثر عدد ذكر في هذا الموضوع، بينما الدكتور محمد حميد الله في كتاب (محمد (صلّى الله عليه وآله) يذكر: «إن محمداً (صلّى الله عليه وآله)، مع أنه استولى على أكثر من مليون ميل مربع مما يعادل كل أوربا باستثناء روسيا، ومع أنه كان يسكن هذه المنطقة ملايين من البشر، لم يقتل في كل حروبه - من طرف المسلمين - إلا مائة وخمسون مسلماً». ويضيف: «أن هذا العدد، بمعنى أن معدل القتلى ، سقوط قتيلاً واحداً في كل شهر - تقريباً -».

وليس هذا إلا لأجل احترام الإسلام للدماء وتجنبه القتل ما أمكن.

ص: 501

ثانياً: الحرب عند غير المسلمين

الإسراف في القتل والتعذيب

وعلى عكس حكومة الرسول (صلّى الله عليه وآله) نجد سائر أنظمة الحكم في العالم، عبر التاريخ، أ كانت تسرف في إراقة الدماء، ما تجد إلى ذلك سبيلاً.

وقد ذكر المؤرخون: إن الآشوريين كانوا قُساة، غلاظ الأكباد، وكانوا يدمرون المدن التي يفتحونها بعد حصارها ويتفننون في القتل والتعذيب والتمثيل، وكانوا يكافئون الجنود عن كل رأس مقطوع يحمل من ميدان المعركة بجائزة، وقد يعمدون إلى قتل جميع الأسرى في ساحة المعركة عند كثرتهم، لكي لا يستهلكوا الطعام والشراب، أو لئلا يشكلوا خطراً على الخطوط الخلفية للجيش ، وكان الملوك والرؤساء يقودون هذه المجازر بأنفسهم، فيبدأون عمليات القتل، بفقأ عيون الأسرى أولاً، ثم قطع رقابهم، أما الأمراء والأشراف من الأسرى فكانوا يتعرضون لتعذيب أشد قساوة ودموية قبل قتلهم، كأن تُصلم آذانهم، و تُجدع أنوفهم، وتقطع ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، أو تسلخ جلودهم وهم أحياء، أو تشوى أجسامهم فوق النار، أو يلقى بهم من أبراج عالية.

وكان الملك الذي ارتقى عرش آشور عام سبعمائة وخمس وأربعين قبل الميلاد، يصلب الأسرى على الخوازيق، بينما يقوم الرماة بقتلهم بالسهام والمدقات.

وفي بعض الحروب استخدم الأسرى لجر العربات المحملة بالخشب بدلاً من الدواب!

صور رهيبة من وحشية المغول

يقول صاحب كتاب (أسرى الحرب) في قصة المغول: (عُرف المغول بالقسوة والوحشية وسفك الدماء، كما اشتهر «جنكيز خان» مؤسس إمبراطوريتهم، بالبطش والقتل وحب التدمير. والإبادة.

ص: 502

وفي إحدى حروبهم، اشتبكوا مع «شاه خوارزم» علاء الدين، فأحرق المغول، (بخارى) ونهبوا ثرواتها واغتصبوا النساء وسيق الأسرى إلى (سمرقند)، ولما صعب عليهم اللحاق بالفرسان أمر جنكيز خان بقتل كل من يتخلف عن السير واستحالت (بخارى) إلى أنقاض وخرائب.

ولاقت (سمرقند) المصير نفسه، حيث تعرضت للنهب والسلب، كما قتل الكثير من السكان، وأسر المغول ثلاثين ألفاً من أمهر الصناعيين، وأرسلهم جنكيز خان إلى أبنائه في الشمال، كما جندوا عدداً كبيراً لاستخدامهم في الأشغال العسكرية والنقل.

وفي (خراسان) جمعوا الأهالي في ساحة واسعة وأمروهم أن يكتف بعضهم بعضاً ثم شرعوا بذبحهم فقتلوا سبعين ألف انسان.

ولما احتلوا (مرو) وزعوا سكانها على المحاربين المغول، ولم يبقوا إلا على أربعمائة شخص من اصحاب الصناعات لحاجة الجيش إليهم، وعلى بعض الأفراد لاتخاذهم عبيداً، ولاقت بقية المدن نفس هذا المصير.

ولما سمع المغول أن بعض الأهليين رقدوا بين جثث القتلى أصدر الأوامر بفصل الرؤوس عن أجسادها واتبعوا ذلك في جميع معاركهم اللاحقة.

وكانوا يطاردون الفارين، كما يطارد الصياد فريسته.

واستخدموا شتى أنواع الحيل لإخراج المختبئين من مخابئهم، مثلاً: أرغموا مؤذناً من أسراهم على الآذان للصلاة وخرج المسلمون من مكامنهم معتقدين بذلك ذهاب الغزاة الذين كانوا لهم بالمرصاد فأبادوهم.

وكانوا يحرقون الغلات والمحاصيل قبل مغادرتهم المدن ليموت من اختبأ أو فرّ من السكان جوعاً.

وكانت سياسة جنكيزخان في حروبه، ذبح جميع جنود الحاميات وسكان المدن والسلب والنهب وقتل الأسرى.

ص: 503

وإذا قاومت مدينة ما (المغول) صنعوا بها الأفضع، فقد قاومت (نيسابور) بضعة أيام فكان جزاؤها ذبح الرجال والنساء والأطفال.

وصنع المغول في (روسيا) ما صنعوا في دولة خوارزم، فأبادوا ودمروا وأحرقوا وأسروا عدداً من قواد الروس عن طريق الغدر والخيانة فكبلوهم بالأغلال وأقاموا فوقهم البسط وجلس عليها كبار قادة المغول ليطعموا وليمة النصر بينما كان القادة الروس يموتون اختناقاً.

ثم عاد المغول إلى (منغوليا) فخربوا مدينة (بلغار) ونهبوا جميع مدن (البازان) ودكوا أبنيتها وأحرقوا (موسكو) وحاصروا (تلوتير).

ولما قصّ النبلاء شعورهم، واختبؤوا في الكنائس ولبسوا مسوح الرهبان، أمر القائد المغولي بإحراق الكنيسة والمدينة فهلك الجميع ودمرت النيران مدناً أخرى.

وتابع «هولاكو» الزحف في غرب آسيا حتى وصلوا إلى (تبريز) واتجهوا إلى (بغداد) قاعدة الدولة العباسية فحاصروا بغداد أربعين يوماً ونصبوا المنجنيقات على جميع القلاع والحصون، وأمطروها بالحجارة والنار المشتعلة وأحدثوا ثغرة كبيرة في أسوارها وأحرقوا المنازل، ولما رأى الخليفة أنه لا علاج إلا بالصلح طلب الصلح وأبدى استعداده للتسليم شريطة الإبقاء على حياته وحياة السكان، وخرج مع ثلاثة آلاف من القضاة والأعيان والأشراف لملاقاة هولاكو، لكن الأخير نكث بالاتفاق وغدر بهم كما فتك بسكان المدينة، فأمر هولاكو بنهب المدينة وذبح سكانها، ووطئت أجساد المستغيثين بحوافر الخيل واغتصبت النساء وسالت الدماء في الشوارع مدة ثلاثة أيام حتى اصبح ماء دجلة لعدة أميال أحمراً قانياً، واستبيحت المدينة ستة أسابيع، فذبحوا السكان، وانتهكوا الحرمات، وأحرقوا الدور، وتهاوت القصور، وتقوضت الجوامع والأضراحة بسبب النار أو بسبب المعاول، وذبحوا المرضى في المستشفيات، وقتلوا طلاب العلم والأساتذة في المدارس، ونبشوا قبور الأولياء وأضرحة الأئمة الصالحين،

ص: 504

وأحرقوا جثث الأموات، واستمرت المذابح عدة أيام وأمست (بغداد) خراباً بلقعاً، وهلك من سكانها أكثر من مليون ونصف.

وعبر المغول الفرات متجهين صوب الجزيرة يطاردون الأهلين فيقتلون ويسلبون فأبادوا جميع سكان (الرها) و(جران) و(نصيبين) وذبحوا في (حلب) خمسين ألفاً وسبوا عشرة آلاف من نسائها وأطفالها.

وفعلوا أيضاً في غالب بلاد الإسلام هذا الفعل، مثلاً: لما علم تيمورلنك بمقتل جماعة من رجاله وجنوده الذين دخلوا مدينة (أصفهان) غضب وأصدر أمره إلى الجيش باقتحام المدينة، وأن يعود كل جندي مع راس قتيل من أهلها، ونفذ الجيش الأمر، وتحولت المدينة إلى مجزرة بشرية مروعة، وتكدست عند المساء سبعون ألف جمجمة من الضحايا، فأمر تيمور أن تقام منها أبراج في شوارع المدينة.

وكذلك لما وصلوا إلى بعض المدن، فذبحوا السكان وأشعلوا النار في المدينة.

الحروب الحديثة لا تقل سوءاً

أما في الحروب الحديثة، فإن منهج الفتك والدموية نفسها، بل وأسوأ من ذلك.

فأمريكا قتلت بالقنبلة الذرية ربع مليون إنسان في اليابان وأحرقت كل شيء خلال ساعات.

ولما جاء البريطانيون إلى العراق، عاملوا الناس أسوأ معاملة، فكانوا يقتلون الجرحى، ولا يرحمون الأسير، ويخرجون الجثث من القبور طمعاً في الثياب والملابس.

وفي السودان كانت الجيوش البريطانية تقطع رؤوس المقتولين وترسلها إلى لندن ليجعلوا الجماجم مطفئة سكائر حقداً على المسلمين.

ص: 505

وفي ليبيا قتل الإيطاليون نصف الشعب الليبي الذي كان يبلغ المليون في ذلك اليوم، فقتلوا منهم نصف مليون بأبشع صورة، وكانوا يمثلون بالجثث ويعذبون الأحياء تعذيباً بشعاً.

وكذلك صنع الفرنسيون بالجزائر فقتلوا من تسعة ملايين نسمة، مليوناً ونصف المليون، وتقول بعض الإحصائيات إنهم قتلوا من الشعب الجزائري مليوني إنسان، وكانوا يمثلون بالجثث، ويعذبون الأحياء تعذيباً قاسياً قل نظيره.

وفي الحرب بين الهند والباكستان الشرقية (بنغلاديش) قتل من الناس أكثر من ثلاثة ملايين جوعاً وتعذيباً وقتلاً كما مات بعضهم بسبب انتشار الأوبئة.

والروس قتلوا من المسلمين في طاجكستان وتركمنستان وغيرهما من البلاد الإسلامية التي استولوا عليها، خمسة ملايين من المسلمين بمختلف أنواع القتل من الإحراق والغرق والتعذيب إلى حد الموت والرمي بالرصاص وغير ذلك.

وعندما احتلوا افغانستان عام 1979، قتلوا أكثر من مليون إنسان في هذا البلد، وقد امتلأت سجونهم بالأبرياء فعذبوا الناس بأبشع أنواع التعذيب.

كما قتل الأمريكيون في فيتنام وفي غير فيتنام عدداً هائلاً يُعدَّ بالملايين وكانوا يعذبون الأحياء ويحرقون المحاصيل.

وهكذا يرى العالم في العصر الحديث أبشع أنواع القتل والتعذيب والحرق والإهانة لكرامة الإنسان، وتفاصيل قصة الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ترويها الكتب.

ازدياد مخاطر الحرب في العصر الراهن

ذكرنا في كتاب (فقه الاجتماع)، في مبحث مخاطر الحرب: إن اللازم على الأمم أن تسعى بكل جهدها لتعميم السلام في الزمن الحاضر، حيث ازدادت أخطار الحرب زيادة كبيرة غير متصورة، وسبب هذه الزيادة أمور، منها: الأسلحة الفتاكة التي اكتشفها العلم..

ص: 506

إن استخدام هذه الأسلحة في الحروب، يوجب نسف مقومات الحضارة، سواءً كانت الحروب المحدودة، أو الحروب العالمية، فالحروب المحدودة، تؤدي الى الهدم - أيضاً - بقدرها، مثلاً: في حرب لبنان، قتل وجرح من البشر زهاء مائة وخمسين ألف انسان، وفي الحرب العراقية –الإيرانية، قُدر مجموع القتلى والجرحى بأكثر من مليون ونصف كما قدرت خسائر الحرب بأكثر من خمسمائة مليار دولار.

أما إذا حصل أن وقعت حرب عالمية - لا سمح الله - فإن الحضارة ربما تنتهي، وجاء في تقرير، أن أمريكا كانت تخطط لتوجيه ضربة نووية خاطفة لروسيا، تدمر خلالها خمس وثمانين في المائة من منشآتها الصناعية.

وقد كدست كل من روسيا وأمريكا في مخازنها الأسلحة الفتاكة ما يكفي لإبادة البشر سبع مرات.

وفي تقرير أن لدى الاتحاد السوفيتي قنابل إذا ألقيت واحدة منها، من العيار المتوسط على مدينة مثل نيويورك، أبادت في لحظة واحدة، كل ما موجود في شعاع مائتين وخمسين ميلاً مربعاً.

إلى غير ذلك من الأسلحة الفتاكة الرهيبة والتي لا تشكل أسلحة الحرب العالمية الثانية في قبالها إلا مثل الأسلحة القديمة اليدوية - كالسيف والرمح - بالنسبة إلى المدفع والدبابة.

ثالثاً: مضاعفات الحرب

اشارة

إضافة الى الهلاك والدمار التي تلحقه الحروب، هنالك مضاعفات للحرب منها:

أولاً: سقوط معوقين ومشوهين، يعانون من إصاباتهم طوال حياتهم. من ويلات الأسلحة الفتاكة، أنها تسبب الأمراض والتشويهات في الإنسان والحيوان والأرض وغيرها.

ص: 507

وقد جاء في تقرير: إن روسيا اشترت خمسة وعشرين مليون عضواً صناعياً للإنسان - كاليد والرجل والعين - لسد حاجة المعوقين من الحرب العالمية الثانية. هذا بالإضافة إلى أن الحرب الذرية «تذر الديار بلاقع» ، وتسبب بعقم الأرض عن إنبات النبات إلى أمدٍ بعيد.

ثانياً: تلتهم الحرب الاقتصاد التهاماً رهيباً، لذا نجد أن الدول تحول دوائرها ومؤسساتها أبان الحرب إلى دوائر ومؤسسات حربية، مما يستنفذ المال، ويوجب الفقر سنوات عديدة بالنسبة إلى الدول المتحاربة.

وقد ذكر (غوستاف لوبون) إن (إسبانيا) لم تستعد نشاطها منذ حارب الصليبيون المسلمين، وقد مرت على الحرب زهاء عشرة قرون.

كما ذكر مؤرخ آخر: إن العراق لم يستعد نشاطه منذ تخريب المغول له زهاء سبعة قرون.

وقد أنفقت أمريكا في الحرب الباردة عام 1953، أربعاً وسبعين في الألف من إنتاجها. فإذا ترتبت هذه النتائج التدميرية في الاقتصاد على الحرب الباردة، فماذا يكون الحال في الحرب الساخنة؟!

وبالإضافة إلى الدول المتحاربة، فان الحرب تلتهم اقتصاد سائر الدول المرتبطة بها، حيث إن الاقتصاد في العصر الراهن لا يختص برقعة محددة من الأرض، إذ تترابط المصالح الاقتصادية للدول بشكل وثيق، فالبضائع التجارية بمختلف أقسامها، تستورد من دول عديدة، إلى دول أخرى.

وإذا علمنا أن الدول المحايدة اسماً لن تكون محايدة حقاً.. نعرف كيف تلتهم الحرب اقتصاديات كل الدول.

والكل يذكر كيف وقع العالم في ضيق شديد إبان الحرب العالمية الثانية سواء في الدول المحاربة أو غير المتحاربة.

ثالثاً: توجب الحرب، التخلف الحضاري للبلاد المتحاربة وللبلاد التي

ص: 508

ترتبط بها بل ولسائر بلاد العالم، إذ تتحول كل الدول إلى (دولة حرب)، وتجميد الخدمات الثقافية والصناعية والزراعية والتربوية وغيرها، مما يوجب توقف عجلة الحضارة، بل تراجعها وتقهقرها، حيث إن الحرب تستقطب جمهرة كبيرة من مختلف العلماء الذين هم محور تقدم الحضارة، وقد ذكرت بعض الصحف أن مصر وحدها خسرت عند تحطيم خط (بارليف) الإسرائيلي زهاء عشرين ألف من المهندسين والخبراء والأطباء ومن إليهم.

نحو تعميم السلام

من أجل إنهاء الحروب في العالم، ينبغي تعميم السلام، وأن تُبدل معامل الأسلحة إلى معامل الأغراض السلمية، ولا يقال: إن منشآت التصنيع العسكري، إنما توفر فرص عمل لملايين العمال.. فإن العديد من المصانع والمنشآت المدنية، بامكانها استيعاب هؤلاء العمال لإنتاج السلع التي يحتاجها الانسان في حياته. كما يمكن وضع مناهج للإسكان والصحة، وما يحتاجه أهل العالم كلهم، وكذلك مناهج لغزو الفضاء، وإذا فرض أنه بقي فائض من العمال من دون فرصة عمل، فلا يستلزم ذلك بطالتهم، لأنهم يشتغلون بالعلم وبالعبادة وبالتنزه بعد توزيع العمل عليهم وعلى غيرهم.

مثلاً: لنفرض هنالك عشرة ملايين عامل، كل واحد منهم يعمل ثمان ساعات في مختلف الشؤون الصناعية والزراعية، خمسة ملايين منهم يعملون في انتاج السلاح، فإذا عمل هؤلاء في الأغراض السلمية، يبقى مليونان بلا عمل، لأن ثلاثة ملايين من الخمسة تتمكن الأغراض السلمية من استيعابهم، وفي هذه الحالة يوزع العمل على مجموع العشرة، وتخفف من ساعات العمل، ففي المثال: بدل أن يعمل كل عامل ثمان ساعات، بالامكان تقليل المدة، الى ست ساعات وخمسي ساعة، لتوفير فرصة العمل للآخرين، وفي الباقي أي الساعة وثلاثة أخماس الساعة يشتغلون في العلم تعليماً وتعلماً وتجربة، وفي العبادة الموجبة لخير الدنيا والآخرة، وفي التنزه بالأسفار وغيرها.

ص: 509

وليس من الصحيح أن نقول: إننا ننتج السلاح ونقتل الناس حتى لا تكون لدينا بطالة! فهو مثل أن تكون هنالك عائلة، نصفهم له عمل ونصفهم لا عمل له فنقول: إن النصف الذي لا عمل له، بامكانه أن يقتل النصف العامل، حتى لا يبقى النصف العاطل دون عمل..!

إن هذا منطق لا يقبله عقل أو شرع، بل هو منطق الانحراف وحسب.

فاللازم - إذاً - أن نوجد العمل السلمي للعاملين في مصانع الأسلحة، كما يلزم أن نوجد العمل للذين يشتغلون في الأمور العسكرية من الضباط والقواد، والمراتب والجنود وغيرهم.

نعم يبقى قلة منهم لاحتمال الطوارئ، والآخرون إذا تدربوا فإنما يتدربون بقدر، ويكونون كجيش احتياط لا كجيش متفرغ، وقد ذكرنا في بعض الكتب أن إيران في أيام المجدد الشيرازي وقصة «تحريم التتن»، كان لها زهاء عشرة ملايين جندي في جيش احتياطي - هم كل الناس - وعشرة آلاف مسلح لأوقات السلم.

هذا من ناحية السلاح كمّاً. وأما من ناحية السلاح كيفاً، فاللازم أن تخفف الأسلحة، بمعنى أن تكون هناك لجان لتبديل الأسلحة المتطورة والثقيلة، إلى الأسلحة الخفيفة كالبندقية وما أشبه، ثم تبديل الأسلحة الخفيفة إلى الأسلحة البدائية، كالسيف والرمح، فإنه من الغلط أن يهيئ الإنسان سلاحاً يبيد نفس المسلح وعدوه.

وهذا شيء ممكن إذا تمكنا من التعبئة العامة، لأجل السلام، فتتعطل بذلك معامل الأسلحة، ويستخدم العمال في سائر الشؤون، وتُحل الجيوش الكبيرة وتدمر الأسلحة المعقدة، لترجع إلى أسلحة خفيفة، وربما يعود العالم إلى سلاح السيف، وقد ورد في بعض الأحاديث المعنية بشأن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، أنه يحمل السيف، وفي بعض الروايات أنه سيف (ذو الفقار) وهو السيف الذي استخدمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في معارك الإسلام الأولى، وفي بعض الأحاديث أن هذا السيف نزل من السماء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأعطاه

ص: 510

علياً (عليه السلام) وأصبح فيما بعد من جملة المواريث المقدسة التي توارثها الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) حتى انتهى إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) -.

ولذا ورد في الأحاديث: إن محور الحرب للإمام (عليه السلام) وأصحابه، يقع ما بين مكة والكوفة، وهذه مسافة قصيرة جداً، أما بقية البلاد فانها ستنضم تحت لوائه (عليه السلام) بدون حرب.

اقتلاع جذور الحرب

ذكرنا في كتاب (فقه الاجتماع): إن السلام، والحفاظ عليه، لا يتحقق بمجرد الحديث الإعلامي أو من خلال منظمات السلام، لأن السلام ليس أمراً سطحياً، كما أن الحرب ليست كذلك، بل اللازم اقتلاع جذور الحرب حتى يسود السلام، وجذور الحرب هي (حرمان الإنسان) مما توجب له الثورة ضد الطبقة التي حرمته، وأسباب الحرمان هي (الاستعمار) و(الاستغلال) و(الاستبداد في الحكم، أو في المال، أو في العلم). فاللازم لمن يريد قطع جذور الحرب أن يحول بين مثيري الحرب وبين مآربهم، وذلك بإشاعة الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإن الوعي السياسي يوجب عدم استسلام الشعب للديكتاتوريين، سواء كانت ديكتاتوريتهم صريحة، كالحكومات الوراثية والإنقلابية، أو مقنعة كالحكومات التي تنادي بالديمقراطية، لكنها في مخالب رأس المال أو مخالب الحزب الواحد، كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين ونحوهم.

والوعي الاقتصادي يمنع كون المال بيد جماعة معينة، سواء تسلمت تلك الجماعة بيدها مقاليد الحكم أيضاً، مثل روسيا، أو لم تتسلّم ، مثل أمريكا.

والوعي الاجتماعي يوجب أن يعرف الإنسان تساوي المجتمع في العلم والحكم والمال وإنما: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39).

ولا طبقة مختارة، فإذا رأى أن العلم - مثلاً - خاص بجماعة، لأن لهم المال

ص: 511

أو الحكم أو الحزب، علم بانحراف المجتمع ولزوم تقويمه حتى يعم العلم الجميع، وهكذا بالنسبة إلى الحكم والمال.

والعالم أخذ يتوجه تدريجياً إلى مثل هذا الوعي، فقد كان الحكم العالمي لفترة طويلة بيد بريطانيا، ثم بيد أمريكا ثم بين قوتين: أمريكا وروسيا، لكن الحكم توزع في الوقت الحاضر بيد أكبر قدر من الدول.. فقد توزع بين أمريكا وروسيا وأوربا والصين، صحيح أنه لا توجد في المجال العسكري إلا الدولتان، إلا أنه توجد مراكز قوى متعددة في المجال السياسي، ولكل مركز حلف جماعي، وفي المجال الاقتصادي توجد الدولتان بالإضافة إلى أوربا الغربية والصين واليابان، وفي المجال الذري توجد الهند وغيرها أيضاً، مما سبب خروج العالم من آحادية القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وفي هذا السياق، نجد أن الشيوعية أخذت بدأت تتحطم بسبب انفصال الصين ومحاولة انفصال بولونيا، وتململ بعض البلاد الأخرى الدائرة في فلك المنظومة الشيوعية، بالإضافة إلى أنها افتضحت أيما افتضاح، وخصوصاً عند غزوها - سابقاً - للمجر وتشيكوسلوفاكيا وحالياً: أفغانستان. فيما الرأسمالية أخذت تتحطم ايضاً، وبالتدريج ، فخرجت اليابان وفرنسا عن (إمبراطوريتهما)، وأخذ الاستعمار البريطاني والأمريكي، يترنحان للسقوط هنا وهناك وبالأخص في الشرق الأوسط حيث ظهرت مفاسد الكيان الصهيوني في الاراضي الفلسطينية المحتلة.

وعليه؛ فإن إعطاء الوعي للبشرية صار أسهل. صحيح أن الحياد الآن ليس ممكناً، وغير صحيح، حيث لا يصحّ للإنسان أن يسكت أمام الظالم، إلا أن الوعي المتململ أخذ يعمل لإيجاد الحياد السليم، أما الحياد الذي كان قبل عشرين سنة فقد كان - في الواقع - غطاء للعملاء لضمان بقائهم في كرسي الحكم(1)، فهل «كاسترو» عميل الشرق كان محايداً؟! أم أن «ناصر» عميل أمريكا كان محايداً؟!

ص: 512


1- - يشير سماحة الإمام الراحل الى حركة عدم الانحياز التي تأسست بجهود ثلاثة رؤساء، وهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس الاندونيسي احمد سوكارنو، والرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو، ثم انضمت الى الحركة دول عديدة في العالم، منها كوبا بزعامة فيدل كاسترو، إذ كان مؤتمر «باندونك»، قد عقد في أندنوسيا باسم مؤتمر الدول الأفروأسيوية في العام 1955، وفيه تقرر العمل على تأسيس حركة عدم الإنحياز، أما المؤتمر التأسيسي الأول للحركة، فهو مؤتمر «بيلغراد» في العام 1961، وآخرها المؤتمر السادس عشر للحركة، الذي عقد في طهران العام 2012، وكان العراق من المؤسسين للحركة، وقد حضر ممثلوه بمستوى رفيع، في مؤتمر باندونك، وفي المؤتمر التأسيسي في بيلغراد، وقد تقرر عقد مؤتمره السابق في بغداد، لكنه لم يعقد لأسباب سياسية وأمنية.

وعلى أي حال، يلزم زيادة الوعي لاقتلاع جذور الحرب، والتي هي عبارة عن انحصار العلم والحكم والمال بيد أقلية البشر في قبال حرمان الأكثرية.

والوعي كما يعطي الثلاثة بيد الكل، كذلك يقرب الناس بعضهم إلى بعض، ويكوّن بينهم علاقات أكثر فلا يتمكن المتعصبون المنحرفون من استغلال البشر في مآربهم الشخصية، ولذا نرى أنه كلما زاد الوعي انكمشت القوميات، واندثرت الطائفيات المنحرفة، وقُبرت العرقيات واللونيات والجغرافيات وما أشبه.

فضح (الحرب بالوكالة)

كما أن اللازم قبل الوصول إلى النتيجة النهائية وهي السلام الشامل، فضح (الحروب بالوكالة) والحيلولة دون وقوعها وذلك بعدة وسائل هي:

أولاً: تحجيم العلاقات بين الدول الصغيرة والدول الكبيرة، حتى لا يتمكن الكبار من إيكال الصغار في الحروب كما هي العادة الآن.

ثانياً: فضح القواعد العسكرية للدول الكبيرة في أراضي الدول الصغيرة.

ثالثاً: فضح التحالفات العسكرية بين الدول الصغيرة التي تدور في فلك الكبار، وبيان أن هذه الدول الصغار المتحالفة لا تريد بالأحلاف إلا خدمة تلك الدول الكبيرة.

رابعاً: تقوية العلاقات بين الدول المتجاورة حتى لا تتمكن الدول الكبار من إيقاع الحرب بينها.

ص: 513

خامساً: وهو الأهم من كل ذلك: إيجاد الوعي عند الشعوب الصغيرة حتى لا تكون ألعوبة بيد حكوماتها التي تنفذ أوامر الأسياد.

كما أن اللازم إيجاد الوعي للشعوب مطلقاً حتى لا يقعوا فريسة جشع الرأسماليين والحكام الدكتاتوريين، سواء كانوا دكتاتوريين صريحين - كروسيا - أو دكتاتوريين مغلفين بثوب مهلهل من الديمقراطية، مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا، فإن هاتين الطبقتين من الحكام الرأسماليين هم الذين يشعلون الحروب دائماً، ويواكبونهم في مسيرتهم العلماء المنحرفون، سواءً الدينيون منهم مثل رجال الكنيسة، أو المدنيون مثل أصحاب الخبرات والشهادات.

وصدق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث روي عنه أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء)(1).

والظاهر أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يذكر (المال) في هذا الحديث لأن كان له دور بسيط في الزمن السابق فلم تكن قد ظهرت هذه الرأسماليات المنحرفة جداً والتي ليست من الإسلام وليس الإسلام منها في شيء، فقد كان مشعلوا الحروب سابقاً هم : الأمراء المنحرفون، والعلماء المزيفون، فكانوا يتعاونون على ظلم الشعوب، ولهذا نبّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى خطرهما مع وضوح أنه نُبُّه في الإسلام إلى خطر كون المال (دولة بين الأغنياء) كما ذكرنا بعضٌ من هذا البحث في موضوع المال.

الإسلام يعد الحرب حالة استثنائية

يدعو الإسلام إلى السلام، ويعد السلم هو الأصل والحرب هي الاضطرار.

قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: 208).

ص: 514


1- بحار الأنوار: ج68، ص336.

وقال الله سبحانه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: 61).

وقال سبحانه: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: 217).

وقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 6 - 9).

فنرى أن الإسلام يأمر بمحاربة من لا يزال يقاتل المسلمين ويريد الاعتداء، وينهى عن موادة أمثال هؤلاء، أما الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم، فالله سبحانه يلمّح إلى برّهم والإقساط إليهم وإن كانوا كفاراً.

هذه الآيات القرآنية وغيرها كثير، إذا جُمعت مع آيات الجهاد تكون النتيجة: إن الجهاد والحرب حكم ثانوي اضطراري، وإن السلم هو الحكم الأوّلي، كما ألمعنا إليه فيما سبق.

وفي حديث قال علي (عليه السلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: (لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم)(1).

وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين، قال (عليه السلام): (وكان بدء أمرنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر

ص: 515


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص14.

أن ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء، فقلنا تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء الثائرة وتسكين العامة حتى يشتد الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة، فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت ووقدت نيرانها وحمست، فلما ضرستنا وإياهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم أجابوا عند ذلك إلى التي دعوناهم إليه فأجبناهم إلى ما دعوا وسارعناهم إلى ما طلبوا حتى استبانت عليهم الحجة وانقطعت منهم المعذرة)(1).

وقال (عليه السلام) لولده الحسن: (لا تدعونّ إلى مبارزة)(2).

ولنا أن نلاحظ الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سرية(3) دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا إمرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها، و أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى احد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله عليه)(4).

وفي رواية: إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا حضرت الحرب يوصي المسلمين بكلمات فيقول: (تعاهدوا الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقربوا بها فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)(5).

ص: 516


1- المصدر السابق: ص115.
2- المصدر السابق: ج4، ص52.
3- (السرية) فرقة عسکرية تتکون من حوالي اثني عشر مقاتلاً - غالباً -.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص43.
5- الکافي: ج5، ص36.

وكان يقول: (لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم)(1).

رابعاً: أحكام إسلامية لزمن الحرب

اشارة

الحرب ضرورة قصوى، والضرورات تقدر بقدرها، خصوصاً في مثل الحرب التي هي الدمار والفناء وإبادة الحياة، ولذا نرى الإسلام يجعل للحرب قيوداً وشروطاً، مع أنه أوجب الجهاد الابتدائي والدفاعي كما هو معروف في كتب الفقه، وإنما جعل هذه الشروط والقيود الكثيرة حتى لا تكون الحرب إلا بقدر الضرورة الشديدة، ثم إذا انتهت الحرب يعفو الإسلام، ويغفر، ويطلق سراح المجرمين مهما وجد إلى ذلك سبيلاً كما سنشاهد ذلك في الفصول التالية من هذا الكتاب. ومن شروط الجهاد:

1 - إذن الوالدين:

عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط.

قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حياً عند الله ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب كما ولدت.

فقال: يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي.

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أقم مع والديك، فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سنة)(2).

وعن جابر قال: أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجل فقال: إني رجل نشيط وأحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك.

ص: 517


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص14.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص22.

فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): إرجع فكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة(1).

وروى ابن عباس أن النبي (صلّى الله عليه وآله) جاءه رجل فقال: يا رسول الله أجاهد؟

فقال: (ألك أبوان؟)

فقال: نعم.

فقال: ففيهما فجاهد(2).

وروي عن أبي سعيد الخدري: إن رجلاً هاجر من اليمن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هل لك أحد باليمن؟

فقال: أبوان.

قال (صلّى الله عليه وآله) أذنا لك؟

قال: لا.

فقال: إرجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرّهما(3).

2 - سقوط الجهاد عن طوائف:

ففي حديث عن الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابه قال: كتب أبو جعفر (عليه السلام) في رسالته إلى بعض خلفاء بني أمية.. إلى أن قال: في ذم الخلفاء الذين يكلفون ما لم يأمر به الله عز وجل، قال (عليه السلام): ثم كلف الأعمى والأعرج والذين لا يجدون ما ينفقون على الجهاد بعد عذر الله عز وجل إياهم، ويكلف الذين يطيقون ما لا يطيقون(4).

أقول: وذلك حسب ما جاء في القرآن الحكيم بهذا الصدد، قال سبحانه:

ص: 518


1- وسائل الشيعة: ج11، ص13.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص22.
3- المصدر السابق: ص23.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص7.

(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95 - 96).

وقال سبحانه: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح: 16).

وقد روي عن زيد بن ثابت: (إنه لم يكن في آية نفي المساواة بين المجاهدين والقاعدين استثناء غير أولي الضرر، فجاء ابن أم مكتوم وكان أعمى وهو يبكي، فقال: يا رسول الله كيف لمن لا يستطيع الجهاد؟ فغشيه الوحي ثانيةً ثم أسرى عنه، فقال (صلّى الله عليه وآله): اقرأ غير أولى الضرر فألحقناه، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف)(1).

وقد ذكرنا في كتاب (الفقه: الجهاد) إنه يسقط الجهاد عن طوائف ست: الأعمى، والأعرج، والمريض، والذي لا يجد النفقة، والذي يكون الجهاد عليه ضرراً، والذي يكون عليه حرجاً في الجملة. كما أن الجهاد يسقط عن المجنون والعبد والهرم.

وقال الإمام علي (عليه السلام) أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ؟(2).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: (ليس على العبيد جهاد)(3).

وهنالك روايات أخر في هذا الصدد:

3 - لا جهاد على المرأة:

وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كتب الله الجهاد على

ص: 519


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص22.
2- وسائل الشيعة: ج1 ، ص32.
3- مستدرک الوسائل: ج11، ص24.

الرجال والنساء، فجهاد الرجل بذل ماله ونفسه حتى يقتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته (عشرته) )(1).

وفي حديث آخر: (وجهاد المرأة حسن التبعل)(2).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: (ليس على العبيد جهاد ما استغنوا عنهم، ولا على النساء جهاد، ولا على من لم يبلغ الحلم)(3).

وعن علي (عليه السلام) أيضاً قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كتب الله الجهاد على رجال أمتي، والغيرة على نساء أمتي، فمن صبر منهن واحتسب أعطاها الله أجر شهيد)(4).

وعن السيد علي بن طاووس في اللهوف قال رأيت حديثاً: إن (وهب) كان نصرانياً - إلى أن ذكر مقتله وخروج أمه في المعركة - قال: فقال لهما الحسين (عليه السلام): (ارجعي يا أم وهب، أنت وابنك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإن الجهاد مرفوع عن النساء)(5).

وعن حفص بن غياث (في حديث): إنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ فقال: لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللاً. فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان (ذلك) في دار الإسلام أولى، ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها ولو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك، وكذلك لا يقتل المقعد من أهل

ص: 520


1- وسائل الشيعة: ج11 ، ص15.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص34.
3- مستدرک الوسائل: ج11، ص24.
4- المصدر السابق: ص25.
5- المصدر السابق.

الذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية.

4 - لا تجوز الحرب مع غير الإمام العادل أو نائبه:

عن يونس قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر فقال له: جعلت فداك إن رجلاً من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي سيفاً وقوساً في سبيل الله فأتاه فأخذهما منه (وهو جاهل بوجه السبيل) ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردهما.

قال (عليه السلام): فليفعل.

قال: قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له: قد قضى الرجل.

قال (عليه السلام): فليرابط ولا يقاتل.

قال: في مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور؟

فقال: نعم.

قال: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟

قال (عليه السلام): يقاتل عن بيضة الإسلام.

قال: يجاهد؟

قال (عليه السلام): لا، إلا أن يخاف على دار المسلمين.

أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم.

قال (عليه السلام): يرابط ولا يقاتل وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه وليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلّى الله عليه وآله)(1).

ص: 521


1- وسائل الشيعة: ج11، ص20.

وعن بعضهم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الذين عليهم قوم آخرون.

قال (عليه السلام): (على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل عن حكم الله وحكم رسوله، وأما أن يقاتل الكفار على حكم الجور وسنتهم فلا يحل له ذلك)(1).

وعن أبي عروة السلمي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (سأل رجل فقال: إني كنت أكثر الغزو وأبعد في طلب الأجر وأطيل في الغيبة فحجر ذلك عليّ فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل فما ترى أصلحك الله؟

فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن شئت أن أجمل لك أجملت، وإن شئت أن ألخص لك لخصت.

فقال: بل أجمل.

فقال (عليه السلام): إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة..)

قال فكأنه اشتهى أن يلخص له قال: فلخلص لي أصلحك الله.

فقال (عليه السلام): هات.

فقال الرجل: غزوت فواقعت المشركين فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم.

فقال (عليه السلام): إن كانوا غزوا وقوتلوا وقاتلوا فإنك تجتري بذلك، وإن كانوا قوماً لم يغزوا ولم يقاتلوا فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم.

فقال الرجل: فدعوتهم فأجابني مجيب وأقرّ بالإسلام في قلبه وكان في الإسلام فجير عليه في الحكم وانتهكت حرمته وأخذ ماله واعتدي عليه فكيف بالمخرج وأنا دعوته؟

فقال (عليه السلام): إنكما مأجوران على ما كان من ذلك وهو معك يحوطك من

ص: 522


1- المصدر السابق: ص21.

وراء حرمتك ويمنع قبلتك ويدفع عن كتابك ويحقن دمك خير من أن يكون عليك يهدم قبلتك وينتهك حرمتك ويسفك دمك ويحرق كتابك(1).

5 - الدعوة إلى الإسلام.. أولاً:

عن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فقال: (يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)(2).

وعن دعائم الإسلام، عن علي (عليه السلام) أنه قال: (لا يغز قوم حتى يدعوا)(3).

يعني إذا لم يكن بلغتهم الدعوة، وإن أكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن.

وعن الغوالي، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (لا تقاتل الكفار إلا بعد الدعاء)(4).

وعن دعائم الإسلام قال: روينا عن أبي عبد الله عن أبيه، عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان إذا بعث جيشاً أو سرية أوصى صاحبها بتقوى الله في خاصة نفسه، ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: أغزوا بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا تقاتلوا القوم حتى تحتجوا عليهم بأن تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، فإن أجابوكم فإخوانكم في الدين ادعوهم حينئذ إلى النقلة من ديارهم إلى دار المهاجرين (إلى آخر الحديث..)(5).

6 - الاقتصار على القدر الضروري:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سرية

ص: 523


1- الکافي: ج5، ص21.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص30.
3- مستدرک الوسائل: ج11، ص30.
4- المصدر السابق: ص31.
5- المصدر السابق.

دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانيا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فان تبعكم فأخوكم في الدين وإن أبى فابلغوه مأمنه واستعينوا بالله)(1).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن النبي (صلّى الله عليه وآله) كان إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: إغزِ بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لبد لكم من أكله، وإذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فأقبلوا منهم وكفوا عنهم: ادعوهم إلى الإسلام فإن دخلوا فيه فأقبلوا منهم وكفروا عنهم، وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام، فإن فعلوا فأقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيئاً إلا أن يهاجروا في سبيل الله، فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عز وجل عليهم وجاهدهم في الله حق جهاده واذا حاصرت اهل حصن فأرادوك على ان ينزلوا على حكم الله عز وجل فلا تنزل بهم ولكن أنزلهم على حكمكم، ثم اقض فيهم بعد ما شئتم فإنكم إن أنزلتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله فيهم أم لا، وإذا حاصرتم أهل حصن فإن أذنوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على ذممكم

ص: 524


1- وسائل الشيعة: ج11، ص43.

وذمم آبائكم وإخوانكم فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله (صلّى الله عليه وآله) )(1).

وعن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان إذا بعث جيشاً أو سرية أوصى صاحبها بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله (إلى أن قال): ولا تقتلوا وليداً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة - يعني إن لم يقاتلوكم - ولا تمثلوا ولا تغلوا ولا تغدروا)(2).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يلقى السم في بلاد المشركين)(3).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه عن علي (عليه السلام): (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين)(4).

عن علي (عليه السلام) في حديث أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصب المنجنيق على أهل الطائف وقال (صلّى الله عليه وآله): (إن كان معهم في الحصن قوم من المسلمين فأوقفوهم معهم ولا يتعمدهم بالرمي وارموا المشركين وانذروا المسلمين إن كانوا أقيموا مكرهين ونكبوا عنهم ما قدرتم وإلا فإن أصبتم منهم أحداً ففيه الدية)(5).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا تقتلوا في الحرب إلا من جرت عليه المواسي)(6).

ص: 525


1- المصدر السابق: ص44.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص39.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص46.
4- الکافي ج5، ص28.
5- مستدرک الوسائل: ج11، ص42.
6- المصدر السابق.

وعن الدعائم، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصيته: (لا تقتلوا وليداً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة)(1).

وفي الحديث: إن سعد بن معاذ حكم في بني قريضة بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وأمر بكشف مؤتزهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري، وصوبه النبي (صلّى الله عليه وآله).

7 - لا حرب مع إعطاء الأمان أو الصلح:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما معنى قول النبي (صلّى الله عليه وآله): (يسعى بذمتهم أدناهم).

قال (عليه السلام): (لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره فأعطاهم أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لو أن قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا، فظنوا أنهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين)(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من ائتمن رجلاً على دمه ثم خاس به فأنا من القاتل برئ، وإن كان المقتول في النار)(4).

وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر رحمه الله تعالى: (لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدو لله فيه رضى، فإن الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدوك

ص: 526


1- المصدر السابق: ص43.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص49.
3- المصدر السابق: ص50.
4- المصدر السابق: ص51.

عقدة وألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وادع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله سبحانه شيء للناس عليه أشد اجتماعاً مع تفريق أهوائهم وتشتيت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما أسبلوا عن عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك فإنه لا يجتري على الله إلا جاهل شقيّ وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون منعته ويستعيضون إلى جواره فلا إدخال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً يجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكد والتوثقة، ولا يدعوك ضيق أمر لزمه فيه عهد الله إلى انفساخه بغير الحق فإن صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وإن تحيط بك فيه من الله طلبته لا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك)(1).

وعن علي (عليه السلام)، أنه قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مسجد الخيف فقال: (رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وبلغها إلى مَن ليسمعها، فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، والمسلمون أخوة تكافاً دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، فإذا أمن من أحد من المسلمين أحداً من المشركين لم يجب أن يخفر ذمته)(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إذا أومأ أحد من المسلمين أو أشار بالأمان إلى أحد من المشركين فنزل على ذلك فهو في أمان)(3).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام)، أنه قال: (الأمان جائز بأي لسان كان)(4).

ص: 527


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص43.
2- المصدر السابق: ص45.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص46.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أوفوا بعهد من عاهدتم)(1).

وعن علي (عليه السلام) قال: (إذا أومأ أحد من المسلمين إلى أحد من أهل الحرب فهو أمان)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قريتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة إقتتلوا ثم اصطلحوا، ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): (لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم لا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار)(3).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار)(4).

وعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر في الكوفة: (أيها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، إلا أن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار)(5).

وعن علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال فيما عهد إليه: (وإياك والغدر بعهد الله والإخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته أماناً أمضاه بين العباد برحمته، والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته)(6).

ص: 528


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص51.
4- المصدر السابق: ص52.
5- المصدر السابق.
6- مستدرک الوسائل: ج11، ص47.

وفي حديث قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوفى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم؟ قاتلهم الله، قد يرى الحوّل القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(1).

وقال (عليه السلام): (الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر لأهل الغدر وفاء عند الله)(2).

أقول أشار (عليه السلام) إلى قاعدة الأهم والمهم وليس معناه الغدر، بل معناه أن أمر الله أهم من الوفاء للغادر بأن يعتذر عن البقاء مع الغادر لأنه يريد الوقاية.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (أربع من كن فيه فهو منافق إلى أن قال: وإذا عاهد غدر)(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أسرع الأشياء عقوبة رجل عاهدته على أمر وكان من نيتك الوفاء به ومن نيته الغدر بك)(4).

8 - وقف إطلاق النار في الأشهر الحرم:

عن العلاء بن الفضيل قال: سألته عن المشركين أيبتديهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ فقال (عليه السلام): إذا كان المشركون يبتدؤونهم باستحلاله، ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه وذلك قول الله عز وجل: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) (البقرة: 194).

والروم في هذا بمنزلة المشركين لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة، ولا

ص: 529


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص48.
4- المصدر السابق.

حقاً فهم يبدؤن بالقتال فيه وكان المشركون يرون له حقاً وحرمة فاستحلوه فاستحل منهم أهل البغي يبتدؤن بالقتال)(1).

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره: (الأشهر الحرم رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة ومحرم متصلة، حرم الله فيها القتال ويضاعف فيها الذنوب وكذلك الحسنات)(2).

9 - الأسير لا يُقتَل:

عن الزهري، عن علي بن الحسين (عليه السلام) (في حديث) قال: (إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه)، وقال: (الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئاً)(3).

وعن عبد الله بن ميمون قال: أتى علي (عليه السلام) بأسير يوم صفين فبايعه فقال علي (عليه السلام): (لا أقتلك إني أخاف الله رب العالمين) فخلى سبيله وأعطاه سلبه الذي جاء به(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أسَّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر أسارى وأخذ الفداء منهم، فالإمام مخير إذا أظفره الله بالمشركين بين أن يقتل المقاتلة أويأسرهم ويجعلهم في الغنائم ويضرب عليهم السهام، ومن رأى المنّ عليه منهم منّ عليه)(5).

وعن بشير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: إني رأيت في المنام أني قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير فقلت لي: نعم هو كذلك.

ص: 530


1- وسائل الشيعة: ج11، ص52.
2- مستدرک الوسائل: ج11، 48.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص54.
4- المصدر السابق.
5- مستدرک الوسائل: ج11، 49.

فقال أبو عبدالله (عليه السلام): (هو كذلك هو كذلك)(1).

وعن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليه السلام) في طريق مكة، فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه، إن الله عز وجل يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) (التوبة: 111).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): (أتمّ الآية).

فقال: (التائبون العابدون) (التوبة: 112).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج(2).

وعن محمد بن عبد الله السمندري قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): (إني أكون بالباب، يعني باب الأبواب، فينادون السلاح فأخرج معهم؟

فقال لي: أرأيتك إن خرجت فأسرت رجلاً فأعطيته الأمان وجعلت له من العقد ما جعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للمشركين أكان يفون لك به؟ قال:

قلت: لا والله جعلت فداك ما كانوا يفون لي به.

قال (عليه السلام): فلا تخرج(3).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليهم السلام) قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): (لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عز وجل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدونا في حبس حقنا، والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة جاهلية)(4).

ص: 531


1- وسائل الشيعة: ج11، ص32.
2- المصدر السابق: ص33.
3- المصدر السابق: ص34.
4- المصدر السابق.

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث شرائع الدين قال: (والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)(1).

وعن بشارة المصطفى، عن كميل، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (يا كميل لا غزو إلا مع إمام عادل)(2).

وعن السيد علي بن طاووس في كتاب كشف اليقين، بسنده إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خبر المعراج: إن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه (صلّى الله عليه وآله): (... والمشي على الأقدام إلى الجهاد معك ومع الأئمة من ولدك...)(3).

وعن الشعبي قال: (لما أسر علي (عليه السلام) الأسرى يوم صفين فخلى سبيلهم أتوا معاوية وقد كان عمرو بن العاص يقول - لأسرى أسرهم معاوية -: اقتلهم، فما شعروا إلا بأسراهم قد خلى سبيلهم علي (عليه السلام)، فقال معاوية: يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر ألا ترى قد خلى سبيل أسرانا، فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي (عليه السلام)، وقد كان علي (عليه السلام) إذا أخذ أسيراً من أهل الشام خلى سبيله إلا أن يكون قد قتل من أصحابه أحداً فيقتله به، فإذا خلى سبيله فإن عاد الثانية قتله ولم يخل سبيله - الخبر(4).

أقول: (قتله) في حالات الضرورة لأن الإمام كان يخلي سبيل الأسرى أيضاً كما في التواريخ ويأتي في قصة أصبغ بن ضرار ذلك.

10 - لا يقتل من أخرج كرهاً:

عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر: (من استطعتم أن تأسروا من بني عبد المطلب فلا تقتلوهم فإنهم إنما أخرجوا كرهاً)(5).

ص: 532


1- المصدر السابق: ص35.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص33.
3- المصدر السابق: ص34.
4- المصدر السابق: ص50.
5- المصدر السابق.
11 - مزيد من السماح مع غير ذي الفئة:

عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والأخرى عادلة فهزمت الباغية العادلة؟ قال: (ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبراً ولا يقتلوا أسيراً ولا يجهزوا على جريح..)(1).

وفي حديث أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إن علياً (عليه السلام) كتب إلى مالك وهو على مقدمته في يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل، ولا يقتل مدبراً، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن..)(2).

وعن عبد الله بن شريك، عن أبيه قال: لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تتبعوا مولياً ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن)(3).

وعن حسن بن علي بن شعبة، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام): (... وانه يوم الجمل لم يتبع مولياً ولم يجهز على جريح، ومن ألقى سلاحه أمنه، ومن دخل داره أمنه)(4).

وفي رواية: (إذا انهزم أهل البغي وكانت له فئة يلجؤون إليها طلبوا وأجهز على جرحاهم واتبعوا وقتل ما أمكن اتباعهم وقتلهم، وكذلك سار أمير المؤمنين (عليه السلام) في أصحاب صفين، لأن معاوية كان وراءهم، وإذا لم يكن له فئة لم يطلبوا ولم يجهز على جرحاهم لأنهم إذا ولّوا تفرقوا، وكذلك روينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه سار في أهل الجمل لما قتل طلحة والزبير وقبض على عائشة وانهزم أصحاب الجمل نادى مناديه: (لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبراً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن)، ثم دعا ببغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشهباء فركبها، ثم قال: تعالى يا فلان وتعال يا فلان حتى جمع إليه زهاء ستين شيخاً كلهم من همدان قد شكوا

ص: 533


1- وسائل الشيعة: ج11، ص54.
2- المصدر السابق: ص55.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص56.

الأترسة وتقلدوا السيوف ولبسوا المغافر فسار وهم حوله حتى انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن: (هذا قاتل الأحبة) فلم يقل لهن شيئاً، وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها ودخل وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير (لا والله) و(بلى والله) ثم إنه (عليه السلام) خرج فنظر إلى امرأة فقال لها: (إليّ يا صفية) فأتته مسرعة فقال: ألا تبعدين هؤلاء يزعمن إني قاتل الأحبة لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه، ومن في هذه) وأومأ (عليه السلام) إلى ثلاث حجر فذهبت إليهن فما بقيت في الدار صائحة إلا سكنت ولا قائمة إلا قعدت. قال الأصبغ - وهو صاحب الحديث - (وكان في إحدى الحجرات عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله)، فقيل للأصبغ: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلم استبقيتموهم؟ قال: ضربنا بأيدينا إلى قوائم سيوفنا وحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفواً)(1).

وقال الشيخ المفيد في كتاب الكافئة في إبطال توبة الخاطئة عن أبي مخنف لوط بن يحيى، عن عبد الله بن عاصم، عن محمد بن بشير الهمداني قال: (ورد كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) مع عمر بن سلمة الأوحى إلى أهل الكوفة فكبر الناس تكبيرة سمعها عامة الناس، واجتمعوا لها في المسجد ونودي الصلاة جامعة فلم يتخلف أحد وقرأ الكتاب، فكان فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين إلى قرظة بن كعب ومن قبله من المسلمين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا لقينا القوم الناكثين - إلى أن قال (عليه السلام) - فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح ولا يكشف عورة، ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا بإذن وآمنت الناس)(2).

ص: 534


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص52.
2- المصدر السابق: ص53.

وعن حبة العرني قال في حديث: فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض (إلى أن قال): فولى الناس منهزمين فنادى منادي أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبراً ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن)(1).

وعن محمد بن الفضيل بن عطا مولى مزينة قال: حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)، عن محمد بن علي (عليه السلام) ابن الحنفية قال: كان اللواء معي يوم الجمل (إلى أن قال) ثم أمر مناديه فنادى: (لا يدفعن على جريح ولا يتبع مدبر، ومن أغلق بابه فهو آمن)(2).

وروي أنه كان من أهل الشام بصفين رجل يقال له: الأصبغ بن ضرار وكان يكوّن طليعة مسلحة فندب له علي (عليه السلام) الأشتر فأخذه أسيراً، من غير أن يقاتل، وكان علي (عليه السلام) ينهى عن قتل الأسير الكاف فجاء به ليلاً وشد وثاقه وألقاه مع أضيافه ينتظر به الصباح، وكان الأصبغ شاعراً مفوهاً فأيقن بالقتل ونام أصحابه فرفع صوته وأسمع الأشتر أبياتاً يذكر فيها حاله ويستعطفه فغدا به الأشتر على علي (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس، والله لو علمت أن قتله الحق، قتلته، وقد بات عندنا الليلة وحركنا، فإن كان فيه القتل فأقتله، وإن غضبنا فيه وإن كنت فيه بالخيار فهبه لنا، قال: (هو لك يا مالك، فإذا أصبت أسير أهل القبلة فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يفادى ولا يقتل). فرجع به الأشتر إلى منزله وقال: لك ما أخذنا معك، وليس لك عندنا غيره(3).

وعن سلام قال: شهدت يوم الجمل (إلى أن قال): ولما انهزم أهل البصرة نادى منادي علي (عليه السلام): (لا تتبعوا مدبراً، ولا من ألقى سلاحه، ولا تجهزوا على جريح، فإن القوم قد ولوا وليس لهم فئة يلجؤون إليها جرت السنة بذلك في قتال أهل البغي)(4).

ص: 535


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص55.
4- المصدر السابق: ص56.

وعن دعائم الاسلام، عن علي (عليه السلام)، أنه سأله عمار حين دخل البصرة، فقال: يا أمير المؤمنين بأي شيء تسير في هؤلاء؟ قال (عليه السلام): (بالمنّ والعفو كما سار النبي (صلّى الله عليه وآله) في أهل مكة)(1).

وعن موسى بن طلحة بن عبيد الله - وكان فيمن أسر يوم الجمل وحبس مع من حبس من الأسارى بالبصرة - فقال كنت في سجن علي (عليه السلام) بالبصرة حتى سمعت المنادي ينادي أين موسى بن طلحة بن عبيد الله؟

قال: فاسترجعت واسترجع أهل السجن وقالوا يقتلك.

فأخرجني إليه فلما وقفت بين يديه قال لي: يا موسى.

قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.

قال: قل استغفر الله.

قلت: استغفر الله وأتوب إليه ثلاث مرات.

فقال لمن كان معي من رسله: خلّوا عنه وقال لي: اذهب حيث شئت وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه واتق الله فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك.

فشكرت وانصرفت وكان علي (عليه السلام) قد أغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله (أجلبوا به، يعني أتوا به في عسكرهم) ولم يعرض لشيء غير ذلك - الحديث - (2).

وعن عبد الله بن جعفر الحميري، بسنده عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): (إن علياً (عليه السلام) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك، ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا)(3).

ص: 536


1- المصدر السابق: ص57.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص62.
12 - إتمام الحجة على العدو، وعدم البدء بالهجوم:

روى العياشي بسنده إلى أبي عبدالله (عليه السلام): إن علياً (عليه السلام) قال لأصحابه يوم البصرة: (لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله تعالى وبينهم) فقام إليهم فقال لأهل البصرة: هل تجدون عليّ جوراً في الحكم؟ قالوا: لا(1).

وعن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا قال: (كلمة حق يراد بها باطل لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا)(2).

وعن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: (لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل)(3).

قال الكليني: وفي كلام آخر له (عليه السلام): (وإذا لقيتم هؤلاء القوم غداً فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فإن بدؤوكم فانهدوا إليهم)(4).

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد في سياق مقتل أبي عبدالله (عليه السلام) ووصوله إلى نينوى وممانعة الحر قال: فقال له زهير بن القين: إني والله لا أرى أن يكون بعد الذين ترون إلا أشد مما ترون يا بن رسول الله إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، ولعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به.

فقال الحسين (عليه السلام): (ما كنت لأبدأهم بالقتال) ثم نزل (وساق الحديث إلى

ص: 537


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص63.
2- المصدر السابق: ص65.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص69.
4- المصدر السابق: ص65.

أن ذكر قصة يوم عاشوراء) قال: فنادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة؟

فقال الحسين (عليه السلام): (من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن).

فقالوا: نعم.

فقال: يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صلياً.

ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه، فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه.

فقال له الحسين (عليه السلام): (لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم بالقتال)(1).

13 - عدم التعرض للنساء:

روى الكافي في حديث مالك بن أعين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال في جملة ما قال: (ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ناقصات القوى والأنفس والعقول، وقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة فيعيّر بها وعقبه من بعده)(2).

أقول: قد ذكرنا في أول كتاب النكاح من شرح العروة معنى قوله (عليه السلام) بأنهن ناقصات العقول والحظوظ والإيمان.

14 - عدم قتل الرسل:

روى عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد، عن جعفر بن محمد

ص: 538


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص80.
2- المصدر السابق: ص86.

(عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام) ،عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا يقتل الرسل)(1).

وعن دعائم الاسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (إذا ظفرتم برجل من أهل الحرب فزعم أنه رسول إليكم، فإن عرف ذلك وجاء بما يدل عليه فلا سبيل لكم عليه حتى يبلغ رسالته ويرجع إلى أصحابه، وإن لم تجدوا على قوله دليلاً فلا تقبلوا منه)(2).

15 - تحريم القتال على غير سنّة:

عن زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة فالقاتل والمقتول في النار.

قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟

قال: لأنه أراد قتالاً)(3).

وعن دعائم الإسلام، عن علي (عليه السلام) إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال فيما عهد إليه: (وإياك والتسرع إلى سفك الدماء لغير حلها، فإنه ليس شيء أعظم من ذلك تباعة)(4).

16 - لا حرب للجبناء:

روي الجعفريان، بسنده إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من أحس من نفسه جبناً فلا يغز)(5).

17 - عدم قتل الذميّ:

روى جعفر بن أحمد القمي عن المطلب أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (من قتل

ص: 539


1- وسائل الشيعة: ج11، ص90.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص98.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص113.
4- مستدرک الوسائل: ج13، ص159.
5- المصدر السابق: ج13 ، ص125.

رجلاً من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة التي توجد ريحها مسيرة اثني عشر عاماً)(1).

18 - احترام كرماء الكفار:

عن محمد بن جرير الطبري قال: لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء، وأن يجعل الرجال عبيداً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إكرموا كريم كل قوم.

فقال عمر: قد سمعته يقول: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام، ولابد من أن يكون فيهم ذرية، وأنا أشهد الله وأشهدكم إني قد أعتقت نصيبي منهم لوجه الله.

فقال المهاجرون والأنصار: وقد هبنا حقنا لك يا أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فقال: اللهم إني أشهد أنهم قد وهبوا إلي حقهم وقبلته وأشهدك إني أعتقتهم لوجهك.

فقال عمر: لِمَ نقضت عليّ عزمي في الأعاجم، وما الذي رغبك عن رأيي فيهم؟

فأعاد عليه ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في إكرام الكرماء.

فقال عمر: قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصني وساير ما لم يوهب لك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللهم إني أشهد ما قاله وعلى عنقي إياهم.

فرغب جماعة من قريش أن يستنكحوا النساء، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هؤلاء لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن ما اخترنه عمل به.. الخبر(2).

ص: 540


1- المصدر السابق:131.
2- المصدر السابق:131.
19 - استحباب عدم أخذ السلب:

روى علي بن أسباط، عن ابن فضال، عن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام): (إن علياً (عليه السلام) كان يباشر القتال بنفسه وكان لا يأخذ السلب)(1).

20 - عدم قتل الأطفال:

كما يدل على ذلك الأخبار المتقدمة ومنها الواردة في تصديق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكم سعد، حيث أمر أن لا يقتل من لم يبلغ الحلم من رجال اليهود.

21 - عدم قطع الأشجار، وعدم قطع الماء:

روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه نهى عن قطع الشجر المثمر أو إحراقه - يعني في دار الحرب وغيرها - إلا أن يكون ذلك من صلاح المسلمين، فقد قال الله عز وجل: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) (الحشر: 5)(2).

كما أنه ورد: إن رسول الله لما أراد غزو خيبر دلّه بعض اليهود على ماء كان يجري لهم، وقال له: إن قطعت الماء عنهم استسلموا، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا أفعل ذلك فلم يقطع الماء عنهم.

كما أن علياً (عليه السلام) لم يقطع الماء عن أصحاب معاوية.

خامساً: القتل في منظار الإسلام

الإسلام جعل القتل والقتال في أقصى درجات الضرورة، ولذا شدد في قتل الناس - ظلماً - تشديداً كبيراً.

وفيما يلي عرض لبعض النصوص الواردة في هذا الحقل:

ص: 541


1- المصدر السابق:127.
2- المصدر السابق.

1 - تشدد الإسلام في قتل الناس ظلماً:

عن بعضهم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام)، عن قول الله عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

قال: (له في النار مقعد إن قتل الناس جميعاً لم يرد إلا ذلك المقعد).

أقول: مع وضوح أن عذابه أشد كما يأتي وهذا لإفادة أن قتل إنسان واحد ليس أمراً هيّناً.

عن بعضهم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

قال: قلت: كيف كأنما قتل الناس جميعاً، فربما قتل واحداً؟ فقال (عليه السلام): (يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعاً لكان إنما يدخل ذلك المكان)، قلت: قتل آخر؟ قال (عليه السلام): (يضاعف عليه)(1).

وعن أبي أسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجة الوداع (إلى أن قال) :

فقال: أي يوم أعظم حرمة؟

فقالوا: هذا اليوم.

فقال: أي شهر أعظم حرمة؟

فقالوا: هذا الشهر.

قال: فأي بلد أعظم حرمة؟

فقالوا: هذا البلد.

قال: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟).

ص: 542


1- أي من ذلک الأجل، فإن الأجل بمعنی الوقت.

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد. ألا من عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفاراً)(1).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم، فإنه له عند الله قاتلاً لا يموت).

قالوا: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما قاتل لا يموت؟

فقال: النار)(2).

وعن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف القاتل والمقتول بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيتشخب في دمه وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً)(3).

وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من نفس تقتل نفساً إلا وهي تحشر يوم القيامة متعلقة بقاتله بيده اليمنى ورأسه بيده اليسرى وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، فإن كان قتله في طاعة الله أثيب القاتل الجنة وأهذ بالمقتول إلى النار، وإن كان في طاعة فلان، قيل له: أقتله كما قتلك ثم يفعل الله فيهما بعد مشيئته).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) قال: (ولا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة)(4).

ص: 543


1- وسائل الشيعة: ج19، ص3.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص4.
4- المصدر السابق.

أقول: أي أنه مقتض لذلك.

وعن عبد الله بن سنان، عن رجل، عن أبي عبد الله قال: (لا يدخل الجنة سافك للدم، ولا شارب الخمر، ولا مشاء بنميم)(1).

وعن حنان بن سدير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة: 32).

قال: (هو واد في جهنم لو قتل الناس جميعاً كان فيه ولو قتل نفساً واحدة كان فيه)(2).

وعن محمد بن سنان، فيما كتب إليه الرضا (عليه السلام) في جواب مسائله: (حرم الله النفس لعلة فساد الخلق في تحليله لو أحل وفنائهم وفساد التدبير).

وعن أبان، عمن أخبره، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، سأل عمن قتل نفساً متعمداً؟ قال: (جزاؤه جهنم).

وعن حفص بن البختري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن امرأة عذبت في هرة ربطتها حتى ماتت عطشاً)(3).

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه)(4).

وعن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (أوحى الله إلى موسى بن عمران (عليه السلام)، أن يا موسى قل للملأ من بني إسرائيل؛ إياكم وقتل النفس الحرام بغير حق، فإن من قتل منكم نفساً في الدنيا قتلته مائة ألف قتلة مثل ما قتل صاحبه)(5).

ص: 544


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص6.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

أقول: ذلك كما ينتج الحب ألوف الحبّات، فإن الآخرة نتيجة الدنيا.

وعن عبد الرحمن بن مسلم، عن أبيه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب، وبرئ المقتول منها، وذلك قول الله عز وجل: (إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار) (المائدة: 29)(1).

وعن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن علياً (عليه السلام) وجد كتاباً في قراب سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مثل الأصبع فيه: (إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن والى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد (صلّى الله عليه وآله)، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فلا يقبل منه صرفاً، ولا عدلاً، ولا يحل لمسلم أن يشفع في حد)(2).

أقول: المراد الكفر العملي.

وروى السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً من تفسير النعماني، بإسناده عن علي (عليه السلام)، في حديث قال: (وأما ما لفظه خصوص ومعناه عموم، فقوله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).

فنزل لفظ الآية في بني إسرائيل، خصوصاً وهو جار على جميع الخلق عاماً لكل العباد من بني إسرائيل وغيرهم من الأمم ومثل هذا كثير).

وعن جعفر بن محمد، عن زيد بن أسلم: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سأل عمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً ما هو؟ فقال: (من ابتدع بدعة في الإسلام، أو قتل

ص: 545


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق:ص7.

بغير حد، أو من انتهب نهبة يرقع إليها المسلمون أبصارهم، أو يدفع عن صاحب الحدث، أو يعينه)(1).

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، في وصية النبي لعلي (عليه السلام): (يا علي من انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله، ومن منع أجيراً أجره فعليه لعنة الله، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله.

قيل: يا رسول الله وما ذلك الحدث؟ قال: القتل - إلى أن قال - يا علي (عليه السلام) إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله عز وجل)(2).

وعن أمية بن يزيد قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)، قيل: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما الحدث؟

قال: (من قتل نفساً بغير نفس، أو مثل مثله بغير قود، أو ابتدع بدعة بغير سنة، أو انتهب نهبة ذات شرف). فقيل: ما العدل؟ قال: (الفدية) قيل: ما الصرف؟ قال: (التوبة)(3).

2 - تحريم الاشتراك في القتل، والسعي فيه والرضا به:

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال بلى ذكرت عبدي فلاناً)(4). (أي عند من قتله).

وعن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (أتى رسول الله فقيل له: يا رسول

ص: 546


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص17.
3- المصدر السابق: ص18.
4- المصدر السابق.

الله قتيل في (جهينه)، فقام رسول الله يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، وتسامع الناس فأتوه فقال: من قتل ذا؟

قالوا: يا رسول الله ما ندري.

فقال: قتيل بين المسلمين لا يدري من قتله!

والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا بذلك لأكبهم الله على مناخرهم في النار، أو قال: (على وجوههم)(1).

وعن حماد بن عثمان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (يجيء يوم القيامة رجل إلى رجل حتى يلطخه بالدم والناس في الحساب فيقول: يا عبد الله ما لي ولك؟

فيقول: أعنت علي يوم كذا وكذا بكلمة فقتلت)(2).

وعن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)(3).

وعن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن أشر الناس يوم القيامة المثلث، قيل: يا رسول الله وما المثلث؟ قال: الرجل يسعى بأخيه فيقتله فيهلك نفسه وأخاه وإمامه)(4).

3 - ثبوت الارتداد باستحلال قتل المؤمن:

عن سعيد الأزرق: عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل قتل رجلاً مؤمناً؟ قال: (يقال له: مت أي ميتة شئت، إن شئت يهودياً، وإن شئت نصرانيا)(5).

وعن محمد بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (لما أذن الله لنبيه

ص: 547


1- المصدر السابق: ص8.
2- المصدر السابق: ص9.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

في الخروج من مكة إلى المدينة أنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها، وأنزل في بيان القاتل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93).

ولا يلعن الله مؤمناً، قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (الأحزاب: 64 - 65)(1).

وعن علي بن الحسين قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه)(2).

4 - تحريم الضرب بغير حق:

عن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أعتى الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله، ومن ضرب من لم يضربه)(3).

وعن مثنى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: وجد في قائم سيف رسول الله صحيفة: (إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن ادعى لغير أبيه فهو كافر بما أنزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) الحديث)(4).

وعن الوشا قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لعن الله من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه)(5).

وعن الثمالي قال: قال (عليه السلام): (لو أن رجلاً ضرب رجلاً سوطاً لضربه الله سوطاً من نار)(6).

ص: 548


1- المصدر السابق: ص10.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص11.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن الفضيل بن سعدان،عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كانت فلي ذوابة سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صحيفة مكتوب فيها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه، أو أحدث حدثاً، أو آوى محدثا)(1).

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي قال: (ومن لطم خد امرئ مسلم أو وجهه بدد الله عظامه يوم القيامة وحشر مغلولاً حتى يدخل جهنم إلا أن يتوب)(2).

وعن الرضا، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: (ورثت من رسول الله كتابين: كتاب الله، وكتاباً في قراب سيفي، قيل: يا أمير المؤمنين وما الكتاب الذي قراب سيفك؟! قال: من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه فعليه لعنة الله)(3).

وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ابتدر الناس إلى قراب سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد موته، فإذا صحيفة صغيرة وجدوا فيها: (من آوى محدثاً فهو كافر، ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله، وأعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه)(4).

5 - لا.. للانتحار:

عن أبي ولاد الحناط قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها)(5).

قال الصادق (عليه السلام): (من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها، قال الله عز وجل: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29 - 30)(6).

ص: 549


1- المصدر السابق: ص12.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص13.
6- المصدر السابق.

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ذكر عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجل من أصحابه يقال له قزمان بحسن معونته لإخوانه، وذكره فقال: إنه من أهل النار فأتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقيل: إن قزمان استشهد، فقال: يفعل الله ما يشاء ثم أتي فقيل: إنه قتل نفسه، فقال: أشهد إني رسول الله)(1).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج في الغزوات مرافقين تسعة وعشرة، فنقسم العمل بعضنا في الرحال وبعضنا يعمل لأصحابه ويسقي ركابهم ويصنع طعامهم، وطائفة تذهب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، فاتفق في رحلتنا رجل يعمل عمل ثلاثة نفر يخيط ويسقي ويصنع طعاماً، فذكر ذلك للنبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: ذلك رجل من أهل النار، فلقينا العدو وقاتلناهم فخرج وأخذ الرجل سهماً فقتل به نفسه، فقال أشهد إني رسول الله وعبده(2).

وعن ناجية عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: (إن المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه)(3).

6 - تحريم قتل الإنسان ولده وإن كان من الزنا:

عن إبراهيم بن أبي البلاد، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كانت في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) امرأة صدق يقال لها: (أم قنان) فأتاها رجل من أصحاب علي (عليه السلام) فوافقها مهتمة، فقال لها مالي أراك مهتمة؟

قالت: مولاة لي دفنتها فنبذتها الأرض مرتين.

قال: فدخلت على أمير المؤمنين فأخبرته فقال: إن الأرض لتقبل اليهودي والنصراني فما لها؟ إلا أن تكون تعذب بعذاب الله، ثم قال: أما أنه لو أخذت تربة من قبر رجل مسلم فألقى على قبرها لقرّت.

ص: 550


1- المصدر السابق.
2- مستدرک الوسائل: ج18، ص216.
3- المصدر السابق: ص217.

قال: فأتيت أم قنان فأخبرتها فأخذوا تربة من قبر رجل مسلم فألقى على قبرها فقرّت فسأل عنها ما كانت؟ فقالوا: كانت شديدة الحب للرجال، لا تزال قد ولدت وألقت ولدها في التنور(1).

7 - حرمة الإجهاض:

عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما بطنها؟ قال: لا، فقلت: إنما هو نطفة، فقال: إن أول ما يخلق نطفة(2).

8 - عظم جريمة من قتل مؤمناً لأجل إيمانه:

عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (سئل عن المؤمن يقتل مؤمناً متعمداً أهل له توبة؟ فقال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، وإن كان قتله لغضب أو لسبب من أمر الدنيا فإن توبته أن يقاد، وإن لم يكن علم به إنطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية وأعتق نسمة، وصام شهرين متتابعين، وأطعم ستين مسكيناً، توبة إلى الله عز وجل)(3).

أقول: المراد ب(لا توبة له) شدة الذنب حتى كأنه لا توبة له، والا فكل الذنوب لها توبة كما دلت عليه الادلة.

وعن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) (النساء: 93).

قال: ومن قتل مؤمناً على دينه فذاك المتعمد الذي قال الله عز وجل: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93).

ص: 551


1- المصدر السابق: ج2، ص144.
2- وسائل الشيعة، ج19، ص14.
3- المصدر السابق: ص15.

قلت: فالرجل يقع بينه وبين الرجل شيء فيضربه بسيفه فيقتله؟ فقال: ليس ذاك المتعمد الذي قال الله عز وجل(1).

9 - كفارة قتل المؤمن:

عن عيسى الضرير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل قتل رجلاً متعمداً ما توبته؟

قال: يمكّن من نفسه.

قلت: يخاف أن يقتلوه؟ قال: فليعطهم الدية.

قلت: يخاف أن يعلموا ذلك؟ قال: فلينظر إلى الدية فليجعلها صرراً ثم لينظر مواقيت الصلاة فيلقيها في دارهم)(2).

وعن إسماعيل الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يقتل الرجل متعمداً؟ قال: (عليه ثلاث كفارات يعتق رقبة، ويصوم شهرين متتابعين، ويطعم ستين مسكينا)، وقال: (أفتى علي بن الحسين (عليه السلام) بمثل ذلك).

وعن أبي المعزا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يقتل العبد خطأ؟ قال: (عليه عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وصدقة على ستين مسكيناً). قال: (فإن لم يقدر على الرقبة كان عليه الصيام، فإن لم يستطع الصيام فعليه الصدقة)(3).

وعن سماعة قال: سألته (عليه السلام) عمن قتل مؤمناً متعمداً هل له من توبة؟ قال: (لا حتى يؤدي ديتهُ إلى أهله ويعتق رقبة، ويصوم شهرين متتابعين، ويستغفر الله ويتوب إليه فيتطوع، فإني أرجو أن يتاب عليه إذا فعل ذلك).

قلت: فإن لم يكن له مال؟ قال: (يسأل المسلمين حتى يؤدي ديته إلى أهله)(4).

ص: 552


1- المصدر السابق: ص19.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص21.
4- المصدر السابق.

وعن الحلبي، عن أبي عبد الله في حديث أنه قال في عن رجل قتل مملوكه؟ قال: (يعتق رقبة، ويصوم شهرين متتابعين، ثم التوبة بعد ذلك)(1).

10 - عقوبة قتل المؤمن:

عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن في جهنم وادياً يقال: سعيراً إذا فتح ذلك الوادي ضجت النيران منه، أعده الله تعالى للقتالين)(2).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (أوحى الله إلى موسى بن عمران قل للملأ من بني إسرائيل: إياكم وقتل النفس الحرام بغير حق، من قتل منكم نفساً في الدنيا قتلته في النار مائة ألف قتلة مثل قتلة صاحبه)(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في قول الله حكاية عن أهل النار: (ربنا أرنا اللذين أضلاّنا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين).

قال: (إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه، لأن هذا أول من عصى من الجن، وهذا أول من عصى من الإنس)(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (سفك الدماء بغير حقها يدعو إلى حلول النقمة وزوال النعمة)(5).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (ما عجت الأرض إلى ربها كعجتها من دم حرام يسفك عليها)(6).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)(7).

ص: 553


1- المصدر السابق: ص23.
2- المصدر السابق.
3- مستدرک الوسائل: ج18، ص205.
4- المصدر السابق: ص206.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص207.
7- المصدر السابق.

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (يأتي المقتول بقاتله يشخب دمه في وجهه، فيقول الله: أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً فيأمر به إلى النار)(1).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (أول ما ينظر الله بين الناس يوم القيامة الدماء)(2).

وعن ابن عباس قال: سمعت (صلّى الله عليه وآله) النبي يقول: (يأتي المقتول يوم القيامة معلقاً رأسه بإحدى يديه، ملبتباً قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دماً حتى يرفعا إلى العرش، فيقول المقتول لله تبارك وتعالى: ربّ هذا قتلني فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست، فيذهب به إلى النار)(3).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال في حديث: (ولا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن)(4).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (أبغض الناس إلى الله: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم إمرئ بغير حق ليهريق دمه)(5).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (لزوال الدنيا أيسر على الله من قتل المؤمن)(6).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (أول ما يقضي يوم القيامة الدماء)(7).

وعن أيوب بن نوح، عن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك، ورجل عق والديه، ورجل سعى بأخيه إلى السلطان فقتله، ورجل قتل نفساً بغير نفس، ورجل أذنب ذنباً وحمل ذنبه على الله عز وجل)(8).

ص: 554


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص208.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص209.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق.

وعن أبي إسحاق السبيعي قال: سمعت البراء بن عازب وزيد بن أرقم قالا: كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم غدير خم ونحن نرفع أغصان الشجر عن رأسه (صلّى الله عليه وآله) فقال: (لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، ولعن الله من تولى الى غير مواليه، والولد للفراش، وليس للوارث وصية، وقد سمعتم مني ورأيتموني، إلا من كذب عليَّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار، ألا إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)(1).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه خطب لما أراد الخروج إلى تبوك بثنية الوداع، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله - إلى أن قال - سباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه أتي بقتيل وجد في دور الأنصار فقال: هل يعرف؟ قالوا نعم يا رسول الله، قال: (لو أن الأمة اجتمعت على قتل مؤمن لأكبها الله في نار جهنم)(3).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة وهو آيس من رحمة الله)(4).

وعن أبي سعيد الخدري قال: وجد قتيل على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فخرج مغضباً حتى رقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يقتل رجل من المسلمين لا يدري من قتله؟ والذي نفسي بيده لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مؤمن أو رضوا به لأدخلهم الله في النار، والذي نفسي بيده لا يجلد أحد أحداً إلا جلد غداً في نار جهنم مثله) الحديث(5).

ص: 555


1- المصدر السابق: ص210.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص211.
5- المصدر السابق.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (لو أن أهل السماوات السبع وأهل الأرضين السبع اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله جميعاً في النار)(1).

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (إن العبد يحشر يوم القيامة وما يدمى دماً فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقول له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربَّ إنك قبضتني وما سفكت دماً، قال: بلى سمعت من فلان كذا وكذا فرويتها عنه فنقلت حتى صار إلى فلان الجبار فقتله عليها فهذا سهمك من دمه)(2).

وفي رواية: إن الخوارج لما خرجوا من (الحرور) استعرضوا الناس فقتلوا العبد الصالح عبد الله بن خباب بن الأرت عامل علي (عليه السلام) على النهروان على شط النهر فوق خنزير وذبحوه وقالوا: ما ذبحنا لك ولهذا الخنزير إلا واحداً، وبقروا بطن زوجته وهي حامل، وذبحوها، وذبحوا طفله الرضيع فوقه فأخبروه (عليه السلام) بذلك، إلى أن قال: فرجع (عليه السلام) إلى النهروان واستعطفهم فأبوا إلا قتاله واستنطقهم بقتل ابن خناب فأقروا كلهم كتيبة بعد كتيبة، وقالوا لنقتلنك كما قتلناه، فقال (عليه السلام): والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا اقدر على قتلهم به لقتلتهم - الخبر(3).

أقول: الظاهر أن المراد اشتراكهم في ذنب القتل.

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام)، إنه تلا هذه الآية: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (البقرة: 61).

فقال: (والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلاً واعتداءً ومعصية)(4).

ص: 556


1- المصدر السابق: ص212.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص213.

وعن رفاعة النحاس قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): (يا رفاعة ألا أحدثك بأشد أهل النار عذاباً؟) قلت: بلى، قال: (من أعان على مؤمن بشطر كلمة)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، ولكل داخل في باطل إثمان: إثم الرضا به، وإثم العمل به)(2).

وقال (عليه السلام): (من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام)(3).

وعن علي (عليه السلام) قال: (أبغض الخلق إلى الله عز وجل من جرد ظهر مسلم بغير حق)(4).

وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول، وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أميون عن الكتاب، ومن أنزله وعن الرسول، ومن أرسله على حين فترة من الرسل وطول محنة من الأمم وانبساط من الجهل - إلى أن قال -: والدنيا متهجمة في وجوه أهلها مكفهرة مدبرة غير مقبلة ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، مزقتهم كل ممزقه وقد أعمت عيون أهلها، وأظلت عليها أيامها قد قطعوا أرحامهم، وسفكوا دمائهم، ودفنوا في التراب المؤوذة بينهم من أولادهم، يختارون دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض الدنيا، لا يرجون من الله ثواباً ولا يخافون والله منه عقاباً حيهم أعمى يحس وميتهم في النار مبلس) (الخطبة)(5).

وعن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير: 8 - 9).

ص: 557


1- المصدر السابق: ص214.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص216.

قال: (كانت العرب يقتلون البنات للغيرة، فإذا كان يوم القيامة سئلت الموؤدة بأي ذنب قتلت؟)(1).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (أكبر الكبائر أن تجعل لله أنداداً وهو خلقكم، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك - الخبر)(2).

وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): أي ذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله شريكاً)(3).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله، والقاتل في الحرم، والقاتل بذحل الجاهلية)(4).

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93).

قال (عليه السلام): (من قتل مؤمناً على دينه لم تقبل توبته، ومن يقتل نبياً أو وصي نبي فلا توبة له لأنه لا يكون مثله فيقاد به، وقد يكون الرجل بين المشركين واليهود والنصارى يقتل رجلاً من المسلمين على أنه مسلم، فإذا دخل في الإسلام محاه الله عنه لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الإسلام يجبّ ما كان قبله)).

أي يمحو، لأن أعظم الذنوب عند الله هو الشرك بالله، فإذا قبلت توبته في الشرك قبلت فيما سواه فأما قول الصادق (عليه السلام): (فليست له توبة).

فإنه عنى من قتل نبياً أو وصياً فليست له توبة لأنه لا يقاد أحد بالأنبياء إلا الأنبياء، وبالأوصياء إلا الأوصياء، والأنبياء والأوصياء لا يقتل بعضهم بعضاً،

ص: 558


1- المصدر السابق: ص217.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص220.

وغير النبي والوصي لا يكون مثل النبي والوصي فيقاد به وقاتلهما لا يوفق للتوبة)(1).

وروى محمد بن علي بن شهر آشوب في المناقب قال: كان الزهري عاملاً لبني أمية فعاقب رجلاً فمات الرجل من العقوبة، فخرج هائماً وتوحش ودخل إلى غار فطال مقامه تسع سنين، وحج علي بن الحسين (عليه السلام) فأتاه الزهري، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك فابعث بدية مسلّمة إلى أهله وأخرج إلى أهلك ومعالم دينك، فقال له: فرّجت عني يا سيدي، الله أعلم حيث يجعل رسالته ورجع إلى بيته فلزم علي بن الحسين (عليه السلام) وكان يُعد من أصحابه(2).

ص: 559


1- المصدر السابق: ص221.
2- المصدر السابق: ص222.

ص: 560

الفصل الخامس: فرص التقدم

أولاً: عشر خطوات عملية

اشارة

هنالك عدة عوامل كانت وراء تقدم المسلمين، ذاك التقدم الهائل، والذي أنقذ العالم من براثن الكفر والجهل والتخلف والفوضى والحروب، وغيرها، التي كانت تعمّ العالم قبل بزوغ الإسلام.

ومن أجل إعادة العالم إلى استقراره ورفاهه وحريته وسلامته من جديد، لابد من تحلّي المسلمين بهذه الصفات والتي ذكرت في القرآن الحكيم في مئات الآيات، وفي السيرة الطاهرة في آلاف الروايات، كما طبقها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وبعض خلفائه على المسلمين إبان حكمهم.

و العوامل في هذا الفصل، عشرة:

أولاً: تجنب الملذّات المعوقة للانطلاق:

كان المسلم في سالف الزمان، يتجنب الملاذ، فلا يهتم بشؤون الحياة بقدر اهتمامه بإنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

ونذكر هنا جملة من الآيات المذكورة في القرآن الحكيم في هذا الصدد.

قال سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 20).

ص: 561

وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).

فنرى في هذه الآية المباركة أن الواجب على الإنسان المسلم أن يتجنب كل المشتهيات من آباء وأبناء وأخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ومساكن، ويستعيض عن كل ذلك بالحب لله ولرسوله والجهاد في سبيله، وإلا فإنه ليس من الإسلام في شيء، ويسميه الله سبحانه وتعالى «فاسقاً» فيقول: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة: 24).

حيث إن الله يأتي بأمره بسبب مؤمنين من هذا الطراز.

(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).

بمعنى أن المسلم الذي لا يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من هذه الأمور، فهو فاسق في منطق القرآن الكريم، و خارج عن أوامر الله تعالى.

وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) (النساء: 75).

فالقتال إما لأجل تطهير الأفكار عن الخرافة وتطبيق شريعة الله، وإما لأجل إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين.

وقال سبحانه ليذكر المسلمين بما يجب عليهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34 - 35).

وهذه الآية الكريمة تعريض بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فاللازم على المسلم أن لا يكنز الذهب والفضة، بل ينفق الذهب

ص: 562

والفضة في سبيل الله، حسب الموازين المقررة في الشريعة الإسلامية وجوباً واستحباباً.

ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة: 38 - 39).

فاللازم على المسلم أن ينفر في سبيل الله، سواء كان سبيل الجهاد، أو سبيل التبليغ، أو سبيل الإصلاح والهداية أو سائر السبل، ولا يجوز أن يثّاقل إلى الأرض من جهة مال أو زوجة أو تجارة أو مسكن أو ما أشبه، وإلا كان راضياً بالحياة الدنيا بدلاً من الآخرة، واللازم على المسلم أن يعلم أن الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة متاع قليل، وانه إذا لم ينفر في سبيل الله فإن الله سيعذبه عذاباً أليماً، وأنه يذهب ويأتي بعده غيره ممن لا يكون مثله.

ويقول الله سبحانه: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 41 - 42).

وفي هذه الآية يأمر الله سبحانه وتعالى بالنفر، سواء كان الإنسان خفيفاً أو ثقيلاً، خفيفاً من جهة الجسد أو ثقيلاً، شاباً أو شيخاً، مديناً أو غير مدين، بديناً أو غير بدين، واللازم عليه أن يجاهد بماله وبنفسه في سبيل الله، وأن لا يفرق بين السفر القريب والسفر البعيد والهدف البعيد والهدف القريب، وإن هؤلاء الذين يفرقون بين السفرين ويفرقون بين الخفيف والثقيل إنما يهلكون أنفسهم وعند الله هم الكاذبون.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

ص: 563

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة: 44 - 45).

فاللازم أن لا يستأذن المؤمن بالنسبة إلى الجهاد بماله وبنفسه سفراً وحضراً، والذي يستأذن فهو عند الله غير مؤمن وهو عند الله مرتاب القلب وإن كان يصلي ويصوم ويحج ويلتزم بكثير من لوازم الإيمان.

ويقول سبحانه وتعالى: (* وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46).

فالمسلم إذا أراد الخروج أعدّ العدة وذلك دليل إرادته الحركة، ومن لا يعد العدة فهو مبغوض عند الله سبحانه وتعالى ويكره الله انبعاثه فيثبطه ويجعله قاعداً مع القاعدين.

ويقول سبحانه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (التوبة: 52 - 57).

ففي هذه الآيات يذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين - الذين يستعدون للحركة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حسب أوامره - إن لهم إحدى الحسنيين، إما حياة سعيدة، وإما جنة عرضها السماوات والأرض، وأما غير هؤلاء من الذين لا يتحركون، و يلازمون ملاذهم، فالله سبحانه وتعالى، إما يعذبهم بأيدي المؤمنين أو يعذبهم بعذاب من عنده، ثم إن هؤلاء لا تقبل نفقاتهم سواء أنفقوا طوعاً أو كرهاً لأنهم كانوا قوماً فاسقين، والله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من المتقين، ثم إن الله سبحانه وتعالى لا يتركهم وشأنهم ولا يقبل إيمانهم، وإنما يقول إن الله لا يقبل نفقاتهم

ص: 564

لأنهم كفروا بالله وبرسوله، حتى أن صلاتهم ليست صلاة مقبولة عند الله، لأن إتيانهم بالصلاة في حالة الكسل، وإنفاقهم في حالة الكره منهم، فهؤلاء حتى إذا كانت أجسامهم جميلة وأولادهم كثيرين فإن ذلك من أسباب عذابهم.

(لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55).

ثم يقول الله سبحانه: (إنهم يحلفون بأنهم منكم، لكنهم ليسوا منكم، بل إنهم قوم جبناء، ولو أنهم وجدوا ملجأ يلجئون إليه أو مغارات في الكهوف أو مدخلاً أي أماكن يتمكنون من الدخول فيها لولوا إليه وهم يجمحون بصورة مسرعة حتى يتجنبوا الأخطار.

فانظروا إلى هذه الآيات الكريمات أي عمل تعمل بقلوب المسلمين؟ وكيف تجنبهم الملذات المانعة من تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى ومن إنقاذ المستضعفين من أيدي المستكبرين.

ثم يصف الله الذين لا يتصفون بهذه الصفات الموجبة للإنطلاق والحركة حتى يتجنب المؤمنون أن يكونوا مثلهم بقوله: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التوبة: 87 - 88).

نعم لا بأس على الذين لا يتمكنون، ولذا قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 91).

من هنا؛ كان شأن المسلمين السابقين تجنب الملاذ، لأجل الله، ولأجل رسوله.

ثانياً: التحدّي

قال سبحانه: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة: 13).

ص: 565

حيث نفى سبحانه وتعالى في هذه الآية خشية المؤمن من شيء غير الله سبحانه وتعالى فالله أحق أن يخشوه إذا كانوا مؤمنين.

وقال سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة: 16).

فاللازم على الإنسان المسلم أن يجاهد في سبيل الله، ولا يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة يلج إليها ويخرج منها، بل يلزم أن يكون دخوله وخروجه إلى حكم الله ومن حكم الله سبحانه وتعالى، فصدوره ووروده يكون حسب القوانين الإسلامية فقط.

والأعمال الصالحة ليست بمنزلة الاستهانة بالأخطار والجهاد في سبيل الله، قال سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 19 - 20).

فالمسلم هو الذي يستهين بالأخطار، ويجاهد في سبيل الله، ويترك ماله وأهله ويهاجر، وليس من يعطي الحاج الماء ويعمر المسجد الحرام (على ثوابهما) كمثل هذا الإنسان.

وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).

وهذه الآية تدعو الإنسان إلى أن يقايض الله تعالى بنفسه وماله، مقابل الجنة، ولم يخصص تعالى، النفس بشيء ولا المال بقدر، وإنما اللازم أن يبيع

ص: 566

الكل فيقُتل ويُقتل، ومن الواضح صعوبة أن يبيع الإنسان نفسه وماله، كما أن من الصعوبة أن يُقاتل فيقُتل ويُقتل.

وفي آية أخرى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 117).

(إلى أن قال سبحانه): (و مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة: 120 - 121).

فالمسلم يجب أن يتبع الرسول في ساعة العسرة، ومن المعلوم أن ما يسميه الإسلام والقرآن (عسرة) هو أشد العسرات - كما ورد في التواريخ - كما أن الخوف أحياناً يصل بالإنسان إلى أن كاد يزيغ قلبه، وهذا أيضاً شيء يصعب تحمله على الإنسان، فاللازم أن يوقع الإنسان نفسه في مثل هذه المشاكل والمهالك إذا اقتضت طبيعة العمل ذلك.

والحرب والسفر وقطع الفيافي توجب أن يصيب الإنسان الظمأ والنصب والمخمصة، وكل هذه الأمور صعبة وشاقة، وتكون مخاطرها كبيرة أحياناً.

ثالثاً: الطاعة المطلقة للقيادة

قال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء: 61).

فوصف المنافقين بأنهم الذين لا يطيعون الرسول، أما المؤمنون فانهم يطيعون الرسول في كل صغيرة وكبيرة.

ص: 567

ثم قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء: 64 - 65).

(إلى أن قال): (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69).

هكذا يجب أن يكون المسلم، بحيث أنه لا يجد في نفسه حرجاً مما قضى الرسول في كل كبيرة أو صغيرة، وإلا لم يكن مؤمناً.

وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56).

فالمؤمن مأمور بالتسليم للنبي (صلّى الله عليه وآله) في كل أموره.

وحيث كان المسلمون يسلمون لرسول الله في كل كبيرة وصغيرة، وكانت قيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله) قيادة شعبية إلى أبعد الحدود، مما يوجب التفاف المسلمين حوله، فسبّب ذلك تقدمهم. ولذا خاض المسلمون تحت لواء رسول الله، أكثر من ثمانين حرباً في مدة عشر سنوات، أي بمعدل ثمانية حروب في كل سنة، وحرب وفي كل شهر ونصف. وإذا لاحظنا أن الحروب والأسفار السابقة كانت تستغرق وقتاً كبيراً في الذهاب والإياب وقطع الفيافي، كما كانت تستلزم في كثير من الأوقات الجوع والعطش وما أشبه لعلمنا مدى حدود طاعة الجماهير لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

رابعاً: الرغبة الصادقة في العمل

كان المسلمون يتحرقون شوقاً لإنقاذ المستضعفين ونشر كلمة الله في الأرض.

ص: 568

قال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 83 - 85).

فأي شوق في النفس يوجب أن تفيض العين بالدمع بسبب معرفتها الحق؟ وطبيعي جداً بعد ذلك أن يندفع مثل هذا الإنسان إلى الأمام دون أن يلوي على شيء حتى يصل إلى الهدف، كما كان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كذلك.

وفي آية أخرى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92).

فإن هؤلاء كانوا يريدون الجهاد، ولكن بعد الطرق وعدم التمكن من المشي وعدم توفر الراحلة لهم كانت تسبب أن تفيض أعينهم من الدموع حزناً وأسفاً على عدم تمكنهم من الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.

خامساً: الأخلاق المثالية للقاعدة

كانت القاعدة، تسودها الأخلاق النموذجية، سواء فيما بينهم، أو مع العدو أيضاً، أو في أنفسهم، وكان ذلك مما أوجب دخول الناس في دين الله أفواجاً، فإن الإنسان بطبيعته يلتف حول ذوي الأخلاق الرفيعة، بينما ينفر الناس من الذين لا أخلاق لهم. بل أن الإنسان ييشمئز من نفسه إذا رأى في ذاته مواصفات سيئة.

وفي هذه الآيات المباركات تتجلى الأخلاقيات الرفيعة التي أمر الله بها، فوفرها المسلمون في أنفسهم.

قال الله سبحانه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة: 25).

ص: 569

فإن المحارب إذا رأى كثرة عدده تملكه الغرور والكبر، لكن حتى هذا الإحساس الباطني ممنوع في الإسلام، كما يظهر من ذم الآية للمسلمين في يوم حنين لعجبهم بكثرتهم، فاللازم أن تكون نفوس المسلمين مطمئنة بنصر الله سبحانه وتعالى لا غروراً وكبرياء، ولذا قال بعد ذلك: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 26 - 27).

وفي آية أخرى يقول سبحانه: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 61).

فالله سبحانه وتعالى يصف النبي بأنه (اذن) وبأنه (رحمة)، وقد تحلى المسلمون بهذه الصفات الرفيعة اقتداءً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن المعلوم مدى التأثير الذي يخلقه (أذن) أو (رحمة) في المجتمع.

وقال سبحانه: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 99).

(ثُمَّ قَالَ): (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103).

فقد كان المسلمون يبذلون الأموال في سبيل تقدم الإسلام، حتى أن بعضهم كان يعطي نصف ماله أو أكثر في سبيل تقدم الإسلام والمسلمين، ومن المعلوم أن صفة الكرم والبذل من الصفات التي توجب تقدم الأمة إلى الأمام، وفي قبالهم البخلاء الذين كانوا مذمومين ولم يكن المسلمون الأوائل بخلاء إلا نادراً.

قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ

ص: 570

يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) (النساء: 36 - 37).

فالمختال الفخور والذي يبخل ويأمر الناس بالبخل ويكتم ما أتاه الله من فضله والذي ينفق أمواله رئاء الناس، كل هؤلاء يعتبرون كافرين عند الله سبحانه وتعالى حيث قال سبحانه: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 37).

وهؤلاء الذين ينفقون رئاء الناس قرناء الشيطان حيث قال: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) (النساء: 38).

وكذلك قال سبحانه: (ألم تر إلى الذين يزكّون أنفسهم بل الله يزكّي مَن يشاء ولا يظلمون فتيلاً) (النساء: 49).

فمن أخلاق المسلم أن لا يزكي نفسه، بل أن يرى نفسه دائماً دون المستوى المطلوب منه.

وقال سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة: 128 - 129).

فاللازم في الأخلاقيات الإسلامية أن يكون المسلم كالرسول عزيز عليه عنت المسلمين، حريص عليهم رؤوف رحيم بهم.

وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل: 90 - 92).

(إلى أن قال): (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (النحل: 95).

ص: 571

فالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتجنب الفحشاء والمنكر والبغي، والوفاء بعهد الله سبحانه وتعالى، وعدم نقض اليمين، وعدم كون المجتمع متفرقاً كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً، وعدم اتخاذ الأيمان دخلاً موجبة للمفسدة بأن يكون الإيمان منطلقاً لأمر نفسي سيئ - هو أن تكون أمة هي أربى من أمة - وعدم الاشتراء بعهد الله ثمناً قليلاً هذه أخلاقيات رفيعة إيجابية تارة وسلبية أخرى، وقد كان المسلمون يتصفون بها وهي التي سببت تقدمهم، ذلك التقدم السريع المتجذر الهائل.

وقال سبحانه: (* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).

(إلى أن قال): (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء: 60).

فالله سبحانه وتعالى يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، سواء كانت أمانات مالية أو أمانات أرضية أو أمانات علمية أو غيرها، وأن على الإنسان إذا حكم بين الناس أن يحكم بالعدل سواء الصديق أو العدو أو القريب أو الغريب أو الرحم أو غير الرحم أو الجار أو غير الجار وهكذا.

كما أن اللازم على الإنسان فيما لو وقعت له مشكلة أن لا يتحاكم إلى الطاغوت بل عليه أن يتحاكم إلى الله والى الرسول (صلّى الله عليه وآله) والى المنصوبين من قبله.

وقال سبحانه: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).

ص: 572

فاللازم على المسلم أن لا توجب عداوته لقوم أن لا يحكم بالحق وأن يعتدي، كما أن إخراجه من دياره وصده عن المسجد الحرام، حيثما يريد زيارته لا يوجب أن يعتدي أو لا يعدل، بل اللازم عليه العدل والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والتقوى من الله سبحانه وتعالى في كل ذلك، فإنه إن لم يفعل ذلك كما أمر، فإن الله شديد العقاب.

وعلى الإنسان أن يكون قواماً لله (والقوام كما هو معروف صيغة مبالغة، يعني دائم القيمومة لأجل الله سبحانه وتعالى، لا لأجل المال ولا لأجل الرئاسة، ولا لأجل الأهل، ولا لأجل الشهوة، ولا لأجل المنصب أو ما أشبه) (شهداء بالقسط)، أي يشهد بالقسط ولا يسبب له شنآن قوم على أن لا يعدل، فإن العدل هو أقرب للتقوى. واللازم على الإنسان أن يتقي الله في كل هذه الأمور، فإن الله خبير بما يعمله الإنسان، وإذا عمل بهذه الأمور وكان مؤمناً فقد وعده الله سبحانه وتعالى مغفرة وأجراً عظيماً.

أما من كفر وكذب فأولئك أصحاب الجحيم كما قال سبحانه في ذيل الآية الثانية: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29).

وقال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحديد: 22 - 24).

فاللازم على الإنسان أن لا يهتم بالمصائب، ولا يفرح بما يأتيه، وأن لا يكون مختالاً فخوراً، ولا يكون بخيلاً، ولا يأمر الناس بالبخل.

ثم قال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).

ص: 573

فمن الاهداف المهمة، لإرسال الرسل، أن يقوم الناس بالقسط، وأن يدفعوا المعتدي بسبب الحديد الذي فيه بأس شديد.

وهذه كانت صفة رسول الله وصفة أصحابه - إلا من خرج منهم - فقد كانوا متصفين بهذه الصفات الرفيعة التي أوجبت تقدمهم إلى الأمام.

سادساً: عدم التمييز في الحقوق

بمعنى عدم ترفع البعضهم على البعض الآخر، فالشخص بمجرد إسلامه يكون كسائر المسلمين في كل الشؤون، من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والإرث والجهاد والاشتراك في بيت المال وكونه طرف المشورة، فيكون متساوياً في كل الجهات مع سائر المسلمين، بل إن الرسول (صلّى الله عليه وآله) على عظمته كان يستشيرهم كما تقدم في قوله سبحانه: (شَاوِرْهُمْ) (آل عمران: 159).

وفي قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).

وتلمح طرفاً من هذا التساوي في قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).

(إلى أن قال): (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74).

فكان المسلم يأوي المسلم في داره وينصره، ويواليه، وكلهم وحدة واحدة في كل الشؤون، والجميع سواسية أمام القانون الإسلامي.

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مثل المؤمنين في توادهم ووتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعي سائره بالسهر والحمى)(1).

ص: 574


1- البحار الأنوار: ج103، ص173.

وفي رواية أخرى: (من سمع منادياً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(1).

إلى غير ذلك من مظاهر عدم ترفع بعضهم على بعض فكان الشريف يزوج الوضيع والغني يعاشر الفقير، والقوي يساوي الضعيف، وكانوا يتساوون في كل الشؤون، وبهذا الخلق الرفيع صار المسلمون وحدة واحدة، يواجهون العالم كله، وبذلك وغيره من الدساتير السماوية تمكنوا من ذلك التقدم السريع.

سابعاً: العدل والإحسان

قال سبحانه: (* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90).

وفي هذه الآية دليل على وجوب الإحسان الى جانب العدل، وذلك للدلائل التالية:

أولاً: أردف الإحسان بالعدل، والعدل واجب.

ثانياً: وقع مأموراً به، ومادة (الأمر) تدل على الوجوب كما قرره الأصوليون.

ثالثاً: قورن بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والثلاثة محرمات فما في مقابلها واجب.

بالإضافة إلى قوله تعالى: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90). حيث يكون الظاهر منه الوجوب.

وقورن أيضاً بالآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ (91)»

ص: 575


1- مستند الشيعة، للمحقق النراقي: ج2 ، ص397.

مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) (النحل: 91 - 92).

ومن الواضح أن الوفاء بالعهد واجب ونقض الإيمان والتفرق محرَّمان.

وفي آية أخرى: (* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135).

فالعدل واجب ولو على النفس والوالدين والأقربين، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإن الله أولى بهما، وفي قبال ذلك اتباع الهوى، ومن تجاوز عن العدل أو أعرض عنه، فإن الله خبير بما يعمل، وسوف يحاسبه في الدنيا وفي الآخرة.

وفي آية أخرى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) (النساء: 3).

وقال سبحانه: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى: 15).

فالله سبحانه وتعالى أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) بالعدل بين الجميع بالإضافة إلى الاستقامة وعدم اتباع الأهواء، كان ذلك خلق المسلمين لأنهم اتبعوا الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عدالته.

إلى غيرها من الآيات الواردة في العدل بمختلف الألفاظ. وكذلك بالنسبة إلى آيات الإحسان.

قال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83).

ص: 576

فالإحسان بالنسبة إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين والقول للناس جميعاً بالحسن هو الأمر الواجب الذي أخذ الله عليه ميثاق الأمم قبل المسلمين، وفي ذلك تعريض بأنه يجب على المسلمين أن يتبعوا ذلك كله، كما يدل عليه (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).

وفي آية أخرى: (* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36).

فالإنسان الذي لا يحسن، يحسب في عداد المختال المتكبر الذي يفتخر بما عنده ويترفع على الناس، ومن الواضح حرمة عمل المختال الفخور.

وفي آية أخرى: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) (النساء: 62).

وقال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (التوبة: 91).

وفي آية أخرى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).

إلى غيرها من الآيات الواردة في العدل والإحسان.

ثامناً: الوحدة والوفاق

قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103).

(إلى أن قال): (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159).

ص: 577

وقال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30 - 32).

فالمفرق بين الناس، يعتبر من المشركين، وهو خارج عن زمرة المسلمين الذين لهم الصفات السابقة، من إقامة الوجه للدين، لا لغيره، والإنابة إلى الله والتقوى وإقامة الصلاة.

تاسعاً: التعبئة العامة

قال سبحانه: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة: 41).

ليست الأمة الإسلامية وحدات وأجزاء، يعمل البعض ويجلس البعض الآخر.. إنما هم وحدة واحدة، سواء في إقدامهم، أو في إحجامهم وفي كل شؤون حياتهم.

وفي آية أخرى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29).

وفي جملة من المصادر التاريخية، أنهم كانوا (رهبان الليل أسود النهار). وقيام المسلمين بالليل كان يمثل تعبئة روحية تدفعهم إلى المضي قدماً الى تحقيق المزيد من الانتصارات والمكاسب، قال سبحانه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (المزمل: 1 - 8).

ص: 578

(إلى أن قال): (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل: 20).

ففي هذه الآيات المباركات، هنالك تعبئة نفسية كبيرة إلى جانب العمل، باستثناء الذين هم مرضى، والذين يضربون في الأرض لابتغاء فضل الله، والذين يقاتلون في سبيل الله، فإن هؤلاء لا يتمكنون من قراءة القرآن والقيام بالليل كاملاً كما يتمكن الآخرون، أما المرضى فهم غير قادرين، وأما الضاربون في الأرض والمقاتلون فهم يعملون بما عبأوا به أنفسهم من ابتغاء فضل الله والمقاتلة في سبيل الله.

عاشراً: التقليل من شأن الطغاة

التقليل من شأن الحكومات القائمة على الفساد والانحراف، وأيضاً الكفار، وعدم تعظيم شأنهم، فقد كانوا ينظرون إليهم نظرة ازدراء، و يرون أن الواجب عليهم تقويمهم عن الانحراف في العقيدة وفي السلوك وغير ذلك.

قال سبحانه: (* بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (التوبة: 1 - 3).

فالله سبحانه يتبرأ من المشركين ويؤكد أنهم غير قادرين على تعجيز الله سبحانه وتعالى، والانفلات من يد المسلمين المطيعين لأوامر الله سبحانه، وإذا تابوا كان خيراً لهم، أما إذا تولوا فإن الله سبحانه وتعالى يبشرهم بعذاب أليم، وذلك في الدنيا وفي الآخرة.

ص: 579

ثم قال سبحانه: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 5).

(إلى أن قال): (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 12 - 15).

وقال سبحانه: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 32 - 33).

وقال سبحانه: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 36).

وقد ذكر الله سبحانه في القرآن، كيف أنه أباد الأمم السابقة، الذين لم يطيعوا أوامر الأنبياء (عليه السلام) وانه سبحانه وتعالى يبيد الذين لا يطيعون أوامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة: 70).

وقال سبحانه: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (التوبة: 69).

فهذه الآيات المباركات تعطي للمسلم روحاً قوية، وتذَكِّرهُ بأنه يتمكن من التغلب على الكافرين مهما كان لهم من الأموال والقوة والعدّة والعدد.

ص: 580

وقال سبحانه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (التوبة: 74).

فالذين لا يطيعون الرسول ولا يأتمرون بأوامره يعذبهم إلله عذاباً أليماً في الدنيا وفي الآخرة، ولا يتصوروا أن لهم في الدنيا ولياً أو نصيراً، وإنما الله سبحانه وتعالى ينصر أولياءه على أعدائه مهما كان الأعداء من القوة والمنعة.

وقال سبحانه: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:: 58 - 59).

فالمسلمون كانوا يعلمون انهم إذا ركزوا لواء العدل ونشروا الحق ولم يقبل الناس منهم، فإن الله من ورائهم يهلك أولئك الظالمين الذين يرفضون الحق.

وقال سبحانه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 4 - 6).

(إلى أن قال سبحانه): (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 39 - 42).

فالمستكبرون والحكام الظالمون وجنودهم ووزراؤهم، يأخذهم الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر ويجعلهم في الدنيا والآخرة لعناء ومقبوحين.

ص: 581

وقال سبحانه: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40).

فقسم من الكفار أهلكهم الله سبحانه وتعالى بسبب الحاصب الذي كان يحصبهم بالحجارة، ومنهم من أخذته الصيحة إذ صاح عليهم الملك صيحة كبيرة فأهلكهم، ومنهم من خسف الله به الأرض، ومنهم من أغرقه الله.

ثم قال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 41).

فبيوت غير أولياء الله سبحانه وتعالى من العتاة والجبابرة والظلمة والكفرة مثلها كبيت العنكبوت، وبيت العنكبوت من أوهن البيوت.

ثم قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: 42 - 43).

فالله بعزته يأخذ، وبحكمته يترك، وهذه أمثلة يضربها الله للناس حتى يعلموا أن الله قادر على كل شيء ومنتقم من الظالمين.

(إلى أن قال سبحانه): (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (العنكبوت: 53 - 54).

هذه أمور عشرة، كانت السبب في تقدم المسلمين، وهنالك عوامل أخرى تحلّى بها المسلمون فمنحت حركتهم تلك السرعة الفائقة التي أدهشت العالم.

ثانياً: الإيمان والأخلاق

اشارة

كان المسلم في صدر الإسلام يطبق القرآن الكريم في حياته، لا كبعض الأزمنة المتأخرة حيث يشتغل المسلم بعلمه وتفسيره وقراءته وتجويده، فإذا كان المسلم يسمع آيات القرآن مضى الى تطبيقها في حياته، ولذلك نماذج كثيرة.

ص: 582

فقد ورد أن أعرابياً جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وشهد الشهادتين وأسلم، ثم قال: يا رسول الله ما هو تكليفي الآن؟

فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) في جملة ما قال له: (تعلم القرآن): فأخذ أحد المسلمين يعلمه «سورة الزلزلة» وقرأ عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم: إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذٍ تحدِّث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (الزلزلة: 1 - 8).

فقام الأعرابي يريد الانصراف، فقال له المعلم المسلم: اصبر حتى أعلمك بعض السور الأخرى.

فقال الأعرابي: كفاني ذلك.

فقال: كيف؟

قال: إني لم أكن أحتاج إلى كل هذه السورة أيضاً حتى استقيم في طريق الإسلام، بل تكفيني آيتان فقط هما قوله سبحانه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7 - 8).

فإني علمت أن الإسلام في هاتين الكلمتين المباركتين.

هكذا كان للمسلمين المنطلق القرآني لهدم الفساد، والإصلاح والبناء.

المسلمون قبل الإسلام وبعده

لقد كان المسلم يعلم أنه المنصور من قبل الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 171 - 173).

فالمسلم يعرف أنه من جند الله ومن أتباع المرسلين، إذاً؛ فهو منصور وغالب، لذا لم يكن يهن ولا يحزن، وإنما كان يقدم ويتقدم، يهدم ويبني على أساس صحيح، وكان في ذهنه دائماً قوله سبحانه: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).

ص: 583

كما كان في ذهنه دائماً قول النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(1).

بينما كان المسلمون قبل تشرفهم بالإسلام يخافون من كل شيء، وأذلاء خانعين كما وصفهم القرآن الحكيم بقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26).

إذا بهم يصبحون أعزة وسادة على من سادهم في الأمس من الفرس والروم.

وقد ذكر المؤرخون أن رسل المسلمين لما وردوا مجلس (يزد جرد) الملك الفارسي المعروف، قال لهم يزد جرد: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً، ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنّا نوكّل بكم قُرى الضواحي حتى لا تغزوكم الناس، فإن كثر عددكم، فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.

فقال له أحد الرسل: (أيها الملك إنك قد وصفتنا بصفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية، أن تأكل من طعامه وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً...) إلى آخر ما ذكره ابن كثير الدمشقي في كتاب البداية والنهاية.

وقد جاء في هذا الكتاب أيضاً: أنه بعث أمير الفرس يطلب رجلاً من

ص: 584


1- الخلاف، للشيخ الطوسي: ج2، ص259.

المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم وإنهم كانوا أطول الناس جوعاً وأبعد الناس داراً، وأقذر الناس قدراً، وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي إن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجساً من جيفكم، فإن تذهبوا نخلي عنكم، وإن تأبوا نزركم مصارعكم.

قال: فتشهدت وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالاً مما ذكرت حتى بعث الله رسوله (إلى آخر كلامه).

وفي هذا الكتاب أيضاً أنه ذكر الوليد بن مسلم أن (ماهان) طلب خالداً ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم فقال ماهان: إنا قد علمنا إن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع فهلمّوا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً ما فترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها (الحديث).

وقد كان المسلمون يخافون الفرس والروم مخافة كبيرة لما جبلوا عليه من الخوف قبل الإسلام حتى أن الطبري ذكر: إنه عندما أراد المسلمون فتح فارس تخوفوا من الفرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم، وكان وجه فارس من أكرم الوجوه إليهم وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم (إلى آخر ما ذكره).

لكنهم بالإسلام تمكنوا من التقدم ومن جعل الفرس مسلمين وفتح بلادهم فأصبحت الشوكة الفارسية - الزردشتية - خبراً بعد عين، وصدق فيهم قول الله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (سبأ: 19).

كما صدق قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف: 137).

ومن الواضح، لم يكن أولئك المسلمين يحملون - على الأغلب- العلم ولا التجربة، وإنما الإيمان والقيم الأخلاقية الرفيعة التي مُلئوا بها من مشاش رأسهم

ص: 585

إلى أخمص قدمهم، هو الذي يحركهم الى الامام، حتى قال ابن كثير: كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور في بلاد فارس فيجدون البيت ملآناً إلى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئاً كثيراً فيحسبونه ملحاً، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مراً حتى تبينوا أمره.

شهادات غربية

وحيث إن الغربيين والشرقيين عجزوا عن إدراك عمق أسباب تقدم المسلمين - والتي ذكرنا جملة منها - أعربوا عن استغرابهم من هذا التقدم الهائل. يقول أحد مؤرخيهم وهو (جبون):

(بقوة واحدة ونجاح واحد زحف العرب على خلفاء أغسطس في الروم، واصطخر في فارس، وأصبحت الدولتان المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما، في عشر سنوات من أيام حكم الخليفة الثاني الذي أخضع العرب لسلطانه ستة وثلاثين ألفاً من المدن والقلاع وأنشأوا أربعة عشر ألفاً من المساجد لعبادة المسلمين، وعلى رأس قرن من هجرة محمد (صلّى الله عليه وآله) من مكة، إمتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلنطيكي ورفرف علم الإسلام على أقطار مختلفة نائية كفارس وسورية ومصر وإفريقيا وإسبانيا).

ويقول المؤرخ الأمريكي (ستودارد): (كاد يكون نبأ نشوء الإسلام، النبأ الأعجب الذي دوِّن في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان والبلاد منحطة الشأن، ولم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض، ممزقاً ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيّراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراص الأركان هو عالم الإسلام، و كلما زدنا استقصاءً في سر تقدم الإسلام وتعاليه زادنا ذلك العجب العجاب انبهاراً فارتددنا عنه بأطراف خاسرة وقد عرفنا إن سائر الأديان العظمى إنما نشأت، تسير في سبيلها سيراً بطيئاً ملاقية كل صعب حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده

ص: 586

له من ملك ناصر وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذبّ عنه حتى رسخت أركانه ومنعت جوانبه في بطل النصرانية (قسطنطين)، والبوذية (اسوكا)، والمزدكية (قباء كسرى)، وكل منهم ملك جبار أيد دينه الذي انتحله بما استطاع من القوة والأيد، وليس الأمر كذلك في الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكان والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما بدأ يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في الأرض مجتازاً أفضع الخطوب وأصعب العقبات دون أن يكون من الأمم الأخرى عون يذكر ولا أزر مشدود، وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصراً مبيناً عجيباً، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين حتى باتت راية الإسلام خفاقة من (البرانس) حتى (هملايا) ومن صحاري أواسط آسيا حتى صحاري أواسط افريقية).

ويقول مؤرخ آخر هو (بيشر) في كتابه (تاريخ أوربا): (لم يكن هنالك في جزيرة العرب قبل الإسلام أثر لحكومة عربية أو جيش منتظم أو طموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين محاربين وتجاراً، و لم يكونوا سياسيين إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم، إنهم كانوا على نظام منحط من الشرك. وبعد مائة سنة حمل هؤلاء المتوحشون والخاملون، لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، ففتحوا سورية ومصر وبلاد فارس، وملكوا باكستان الغربية وجزءً من سنجاب، إنهم انتزعوا إفريقيا من البيزنطيين والبربر وإسبانيا إلى حدود فرنسا في الغرب والقسطنطينية في الشرق، ومخرت أساطيلهم المصنوعة في الإسكندرية وموانئ سورية، مياه البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية، وتحدت القوة البحرية للإمبراطورية البيزنطينية. لم يقاومهم الفرس وبربر جبال الأطلس إنهم شقوا طريقهم بسهولة حتى صعب أن يقف في وجههم واقف ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء أحد، لم يعد البحر المتوسط بحر الروم، بل اصبح حوضاً عثمانياً لا سيطرة فيه لغير الترك، و وجدت الدول النصرانية من أقصى أوربا إلى أقصاها، أنها منذرة ومهددة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي).

ص: 587

ويقول أحد المؤلفين الشيوعيين: (إن الإنسان ليدهش إذا تأمل السرعة الغريبة التي تغلبت بها طوائف صغيرة من الرحالين الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى غرز اتباعه علم الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل بحر الأطلنطيكي في جانب آخر. إن خلفاء دمشق الأولين حكموا على إمبراطورية لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم، وكل نبي جاء بمعجزات آيةً لما يقول وبرهاناً على صدقه، ولكن محمداً (صلّى الله عليه وآله) هو أعظم الأنبياء وأجلّهم إذ كان انتشار الإسلام أكثر آيات الأنبياء و أروعها إعجاباً وخرقاً للعادة. إن إمبراطورية «أغسطس» الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون لم تساو المملكة العربية التي أسست في أقل من قرن. والإمبراطورية الإسكندرية لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، كما إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة، ولكنها غُلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات).

ويقول (بورفري) و(بلانونوف): (إن العرب الذين أفاضوا من الجزيرة لفتح الأمصار لم يكونوا عصائب لا تحصى ولا تعد تدفقت على الشرق المتمدن، فقد أحصى مؤرخ العرب الجيش الأول للمسلمين في «اليرموك» بثلاثة آلاف ثم أرسل إليهم الخليفة بنجدة، ليبلغ عددهم سبعة آلاف وخمسمائة مقاتل، وأخيراً تنامى عددهم الى أربعة وثلاثين ألفاً، وأما عدد الروم فقال العرب: إنه كان مائة ألف وقيل ثلاثين ألفاً وقيل ثلاثمائة ألف مقاتل، ولم يزده مؤرخ بيزنطية على أربعين ألفاً، وعلى كل حال كان العدد الأكبر لأعداء العرب وهكذا في حروب فارس).

ص: 588

المخبر لا المظهر هو سرّ الانتصار

ومن الواضح، أن المسلمين لم يكونوا يحاربون بالعدد والعدة، وإنما كانوا يحاربون بالإيمان وبدافع الفضيلة والتقوى، فكانوا يتحلّون بالمخبر دون المظهر، ولذا قال في كتاب (البداية والنهاية): كان المسلمون تزدريهم أعين الروم والفرس لما خرجوا لقتالهم، وكانوا يسخرون من سلاحهم ونبالهم وثيابهم ويضحكون. قال أبو وائل أحد الذين شهدوا القادسية: (كان الفرس يقولون للمسلمين: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟، ارجعوا، قال: قلنا: ما نحن براجعين! فكانوا يضحكون من نبلنا).

وكان سعد بن أبي وقاص – قائد الجيش- قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم وخيولهم الضعيفة، وخطها الأرض بأرجلها وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب ويقولون: كيف يحارب مثل هؤلاء جيوشاً كثيرة العدد والعُدة؟

ويقول (ماكس): (يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منتمين إلى عشائر ليست عندهم العدد والاعتدة اللازمة يهزمون في مثل هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوقونهم مراراً في الأعداد والعتاد وكانوا يقابلونهم وهم كتائب منظمة).

الفرق بين الجيش الإسلامي وجيش الأعداء

نعم كم كان الفرق بين جيوش الإسلام الذين كانوا يريدون أحد الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة، وبين جيوش الروم والفرس الذين كانوا يقيدون أنفسهم بالسلاسل - أحياناً - لئلا ينهزموا، ويحفرون لهم الأرض لئلا يندحروا أو ينسحبوا من ميدان القتال، ثم لا يغني عنهم هذا شيئاً فكانوا ينهزمون انهزاماً عظيماً.

وقد نقل أحد مراجع التقليد أنه كان في ثورة (العشرين) في جملة من

ص: 589

يحاربون البريطانيين في العراق، فرأى هذا العالم في فرقته جندياً من الجنود المسلمين يقول العالم: فقلت له: إن هناك ملكين يتحاربان: الملك الإسلام ي العراقي الشيخ محمد تقي الشيرازي والملك البريطاني وهو جورج فما شأنك أنت في المعركة؟ (قلت ذلك حتى أختبر نفسيته، ولم يكن الجندي يعلم إني من رجال الدين لأني كنت في لباس الجنود لا في لباس العلماء).

فلما قلت له هذا الكلام اغرورقت عيناه بالدموع وقال لي: يا هذا ما تقول؟ إنها ليست حرب ملكين ملك عراقي وملك بريطاني، وإنما هي حرب بين الإسلام والكفر، ووالله لو هزمنا في هذه الحرب لم تقم للمسلمين قائمة).

هكذا يحارب الإنسان المسلم ، بينما كان الكفار يقيدون أنفسهم بالسلاسل، ويحفرون لهم الأرض، لأنهم يفتقدون عوامل ومبررات الاستقامة والتحدي والتضحية.

نعم.. كان المسلمون الأوائل مندفعين أشد الاندفاع للتقدم، وقد لبسوا القلوب على الدروع، ومضحين ب«زهرة الحياة الدنيا» التي يصفها القرآن الكريم بالفتنة، حيث يقول سبحانه وتعالى: (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: 131).

وكانوا يسمعون قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ) (آل عمران: 196 - 197).

وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).

وقوله سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).

وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للمسلمين - على ما في بعض التواريخ -: (إن الله زوى

ص: 590

لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض)(1).

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)(2).

ويذكرون قول الله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160).

وقوله سبحانه: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249).

الأعداء يصطدمون بالحقيقة الموجعة!

لقد شعر الأعداء بهذه الحقيقة لما رأوا من صدق المسلمين في قولهم وفي عملهم.

فقد روى (ابن كثير): إن هرقل لما انتهى به خبر زحف المسلمين قال لأهل الشام: (ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد وإنهم لا لأحد بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام، وتبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام وضيقوا عليكم جبال الروم ثم كان الأمر كما قال.

كما أنه قبل ذلك في غزوة حنين قال بعض كبار العشائر لقومه الذين أرادوا محاربة رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أطيعوني هذه المرة وخالفوني كل مرة، أطيعوني ولا تحاربوا محمداً (صلّى الله عليه وآله) فإنه لا يقف شيء أمامه، لكنهم خالفوه وحاربوا الرسول (صلّى الله عليه وآله) في حنين وكان مصيرهم الفشل على كثرة عددهم وعُددهم حتى أن جملة من التواريخ ذكروا أن عددهم كان فوق الثلاثين ألفاً، بينما جيش النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكن

ص: 591


1- مسند أحمد: ج5، ص278.
2- بحار الأنوار: ج18، ص141.

أكثر من اثني عشر ألفاً، ولذا كتب أمراء المسلمين في اليرموك إلى الحاكم يعلمونه بما وقع من الأمر العظيم وما يقابلونه من خطر داهم وأن هناك احتمال فشل المسلمين لكثرة الأعداء وعددهم الذي لا قبل لهم به فكتب إليهم الحاكم: (أن اجتمعوا وكونوا جنداً واحداً، وألقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفر به، ولم يؤت مثلكم عن قلة ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها).

ولما استشار عمر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الحروب التي وقعت بين المسلمين وبين الكفار في العراق في وقعة نهاوند قال له علي (عليه السلام): (إن هذا الأمر لم يكن نصره وخذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعده وأمدّه حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع فنحن على موعد من الله، والله منجز وعده وناصر جنده)(1).

نعم: لم يكن يهمّ المسلمين - الذين اتصفوا بتلك الصفات الرفيعة - القلة والكثرة، وتفوق العدو عدداً وعُدداً، بل كان الإيمان والفضيلة والتقوى وما سبق من الصفات النبيلة التي كانوا يتحلون بها هي التي تدفعهم إلى الأمام.

وقد قال علي (عليه السلام) - كما في نهج البلاغة - وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه: (وقد وكّل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة وستر العورة والذين نصرهم وهم أقلاء لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حيّ لا يموت).

هذه كانت مواصفات المسلمين

ويظهر من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - في وصف القوم الذين كانوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - يظهر منه وجه انتصارهم على الأعداء حيث يقول: (أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيّجوا إلى القتال

ص: 592


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص29.

فولّهوا وَلَه اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون عن الموتى، مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك أخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم)(1).

إلى آخر كلامه (عليه السلام).

الجرأة والإقدام

وقد كان المسلمون يخاطرون بأعمارهم، ويأتون بأعمال خارقة للعادة، وذلك ثقة منهم بنصر الله واعتماداً على وعده، حتى أنهم لما أرادوا محاربة كسرى في المدائن، كان الفاصل بينهم دجلة، فتحيروا فيما يعملون، لكنهم أخيراً خاضوا بخيولهم في هذا النهر الواسع العميق وكان بعضهم يتحدث مع بعض وكأنهم سائرون على البر ولما رآهم الفرس من الجانب الثاني من النهر، قال بعضهم لبعض: (ديوان آمده اند). ويعني جاء الجن والعفاريت والغيلان، ثم كانوا يقولون عن المسلمين بلغتهم الفارسية: (ديوانه كان)، و يعني المجانين.. وكان سلمان الفارسي يساير سعداً في الماء فجعل سعد يقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه إن لم يكن في الجيش بغيّ أو ذنوب تغلب الحسنات) فقال له سلمان: (إن الإسلام جديد.. ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا أفواجاً). ثم خرج جميعهم من الماء لم يغرق منهم أحد، وكان بعضهم يركبون خيولهم وبعضهم يسبحون في الماء بدون خيول، ومراد سلمان بقوله (إن الإسلام جديد) أنه فتى وله قوة وجدة وليس هرماً وشيخاً لا يتمكن من التغلب على الصعاب، وكان الأمر كما قال سلمان رضوان الله عليه.

ص: 593


1- المصدر السابق: ج1، ص234.

وقد روى المؤرخون أن المسلمين بلغهم أن (هرقل) نزل ب(مآب) في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة - وهم العرب الذين اعتنقوا النصرانية - وكان المسلمون لا يزيدون على ثلاثة آلاف، ولما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على (معان) - وهي قرية في الطريق - ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له.

قالوا: فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: (يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعد ولا قوة ولا كثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهوراً وإما شهادة).

فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة ومضوا.

التطور الكبير كما تصفه الزهراء (عليها السلام)

وقد وصفت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في خطبتها المشهورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما كانت عليه أعراب الجاهلية قبل ظهور الإسلام وما صاروا عليه بعد الإسلام بقولها: (فقد جاءكم رسولُ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبيّ دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه (صلّى الله عليه وآله)، فبلَّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة يكسر الأصنام وينكث الهام حتى انهزم الجمع، وولوا الدبر، وتغرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم

ص: 594

الله تبارك وتعالى بمحمد (صلّى الله عليه وآله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ - جناحها بأخمصه، لهبها ويخمد بسيفه، مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً)(1).

نعم هكذا كانوا قبل الإسلام، وهكذا صاروا بعد الإسلام.

وفي التواريخ: أنه جاء رجل إلى القائد الإسلامي يوم اليرموك فقال: إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ قال: نعم تقرأهُ عني السلام وتقول: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.

وقد قال أحد النصارى العرب للقائد الإسلام المحارب للروم: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال القائد: ويلكم أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان، لا بعدد الرجال.

الإعراض عن زخارف الدنيا

وكان من عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا، واستصغارهم للكفار، واعتمادهم على وعد الله سبحانه وتعالى أن (ربعي بن عامر) أرسل إلى (رستم) قائد الجيوش الفارسية فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق (الوسادات) المزركشة المذهبة، والزرابي (الطنافس) الرفيعة، وأظهروا اليواقيت، واللأليء الثمينة والزينة العظيمة، وعلى (رستم) تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وجلس على سرير من ذهب، فدخل (ربعي) بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقال رستم له: ضع سلاحك.

ص: 595


1- الاحتجاج : ج1، ص136.

فقال: اني لم آتكم بنفسي وإنما جئتكم حين دعوتموني، فان تركتموني هكذا وإلا رجعت.

فقال رستم: إئذنوا له.

فاقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق بدون اعتناء بما يصيب تلك النمارق من الرمح.

فقال له رستم: ما جاء بكم؟

فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفنى إلى موعود الله.

قال رستم: وما موعود الله؟

قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى.

فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟

فقال: نعم كم أحب إليكم: يوم أو يومين؟

قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.

فقال: ما سن لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.

فقال رستم: سيدهم أنت؟

قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد.. يجير أدناهم على أعلاهم.

فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟

ص: 596

فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتبيع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟

فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب).

وقد دخل بعض قادة الجيش الإسلامي أيضا على (رستم) وقعد معه على السرير فصاحوا عليه فقال: (إن هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم) فقال رستم: (صدق).

وهكذا لم يكن المسلمون يأبهون بزخارف الدنيا والمظاهر الجذابة للقوة والفخامة الوهمية.

وفي نهج البلاغة: إنه لقي الإمام (عليه السلام) عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار فترجلوا له واشتدوا بين يديه فقال لهم الإمام (عليه السلام): ما هذا الذي صنعتموه؟

فقالوا: خلُق منا نعظم به أمراءنا.

فقال (عليه السلام): والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون به على أنفسكم في دنياكم، وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب وأربح الدعة معها الأمان من النار)(1).

فالإمام (عليه السلام) لم يرض حتى بعرض جماهيري مؤيد و بهيج أمامه من مجموعة دهاقين. وهو صورة أخرى ناصعة من استخفاف الإمام عليه السلام، والمسلون الأوائل بالدنيا وبزخارفها وبالأعداء وبجحافلهم الجرارة؟

وفي التاريخ أن عبد الله بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟

فقلت: لا قيمة لها.

ص: 597


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص10.

قال (عليه السلام): والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.

ثم خرج (عليه السلام) فخطب الناس فقال: (إن الله بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوّأهم محلتهم وبلّغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم، أما والله إن كنت لفي ساقتها حتى تولت بحذافيرها ما ضعفت ولا جبنت).

وفي كلام آخر له (عليه السلام): (فطرت بانامها، واستبددت برهانها، كالجبل لا تحركه القواصف، ولا تزيله العواصف، لم يكن لأحد في مهمز ولا لقائل في مغمز، الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، رضينا عن الله قضاءه وسلّمنا لله أمره)(1).

يقتلون آباءهم وأبناءهم!

وفي كلام آخر له (عليه السلام) قال: (ولقد كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم وجداً في رد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون؟ فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه)(2).

ومراده (عليه السلام) بقتل الآباء والأبناء والأخوان والأعمام، أن المسلمين لم يكونوا يبالون بأرحامهم إذا كانوا في جيش الكفار فإن الإسلام قد قطع الرحم بين المؤمن والكافر، وإنما كانوا يحاربونهم حتى يستقيم الإسلام ويتقدم إلى الأمام.

الأعداء يعترفون!

نعم تلك الأخلاق الرفيعة التي غرسها القرآن الحكيم في نفوسهم، ومعها

ص: 598


1- المصدر السابق: ج1 ، ص88.
2- المصدر السابق: ص104.

الدروس التي تلقوها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي سبّب تقدمهم أمام العالم وكأنهم يد من حديد، وكأن العالم من خزف، وقد روى أبو إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يثبت لهم العدو فواق ناقة - أي مدة حلبها- عند اللقاء.. فقال هرقل - وهو على أنطاكية لما قدمت الروم منهزمة - ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟

قالوا: بلى.

قال: فأنتم أكثر أم هم؟

قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل مواطن.

قال: فما بالكم تنهزمون؟

فقال شيخ من عظمائهم: من أجل انهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنّا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط وننهي عما يرضي الله ونفسد في الأرض.

فقال الملك: أنت صدقتني.

أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف طلائع المسلمين

وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، أمثال هؤلاء فقال: (كان لي فيما مضى أخ في الله، كان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإن قال قدّ القائلين (أي كفهم عن القول) ونفعهم ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجد فهو ليث غاب وصلّ واد، لا يدلي بحجة حتى يأتي قاضياً، وكان لا يلوم أحداً على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعاً إلا عند برئه، وكان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على

ص: 599

ما يسمع أحرص منه على ما يتكلم، وكان إذا يدهمه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه. فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها فإن لم تستطيعوها فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير)(1).

العدو يستطلع أحوال المسلمين

وقد سأل هرقل رجلاً كان قد أسر مع المسلمين فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم؟

فقال أخبرك كأنك تنظر إليهم: هم فرسان بالنهار رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوا حتى يأتوا عليه.

فقال هرقل: لئن كنت صدقتني ليملكنّ موضع قدمي هاتين.

وقد وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم فقال: (جئتك من عند رجال دقاق، يركبون خيلاً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك، لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر).

قال: فالتفت ذلك الأمير إلى أصحابه وقال لهم: أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به.

الكفار يفضلون ولاية المسلمين!

كان المسلمون يتورعون عن أذى الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين وإلى ابعد حد، ومن هنا أحبهم الآخرون وإن كانوا غير مسلمين.

فقد روى البلاذري في «فتوح البلاد» قال: حدثني أبو حفص الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: (بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع،

ص: 600


1- المصدر السابق: ج4، ص69.

وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم.

فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جنود هرقل عن المدينة مع عاملكم.

ونهض اليهود فقالوا: والتوراة.. لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب فنجهد.

فأغلقوا الأبواب وحرسوها).

وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم للمسلمين وأدوا الخراج.

نعم.. لقد كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، يحلّون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، ولهذا نصرهم الله سبحانه وتعالى على أعدائهم.

أما من يسأل عن وجود المنافقين في الجيش الاسلامي، فانهم فكانوا قليلين، بحيث أنهم لم يكونوا السبب والعامل المؤثر في تحقيق كل ذلك التقدم الهائل الذي حققه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون، وإن كان للمنافقين دور، لزادوا الجيش الاسلامي خبالاً وخيبة، وهذا ما لم يكن بالمرّة. بينما الله تعالى اعتمد الكثرة المؤمنة في هذا الجيش، وبهم فتح المدن وأقام العدل ونشر الإسلام في العالم.

الإمام علي (عليه السلام) يصف المتقين

وجاء وصف المتقين الذين كانوا كثيرين في أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله)، على لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لصاحبه همّام، كما جاء في «نهج البلاغة»، فقال في

ص: 601

جملة كلامه: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها وهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.

أما الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويسثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم.

وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ويقولون قد خولطوا وقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم بالقليل، ولا يستكبرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكى أحدهم خاف مما يقال له فيقول: (أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون).

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم، وزهداً في غنى، وخشوعاً في عبادة،

ص: 602

وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى، وتحرجاً عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذراً، ويصبح فرحاً، حذراً لما حذر من الغفلة وفرحاً لما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيمالا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً زلله، خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منجوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميتة شهوته، مكظوماً غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليناً قوله، غائباً منكره، حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يضمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغى عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنى منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوّه بمكر وخديعة)(1).

ولذا نرى أن (فتوح البلدان) يروى أن (رتبيل) ملك رخج سجستان لما جاءته رسل يزيد بن عبد المك يطالبونه بالخراج قال: ما فعل قوم كانوا يأتوننا خماص البطون سود الوجوه من الصلاة، نعالهم خوص؟

قالوا: انقرضوا.

قال: أولئك أوفى منكم عهداً وأشد بأساً، وإن كنتم أحسن منهم وجوهاً.

ص: 603


1- المصدر السابق: ج2، ص160.

ثم لم يعط أحداً من عمال بني أمية ولا عمال أبي مسلم على سجستان من تلك الأتاوات شيئاً.

أجل لقد أثر القرآن وأخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيهم فصاروا أولئك الأبطال زهاد بالليل، شجعان بالنهار، وتمكنوا من إيجاد موج في العالم غيّره من يومهم إلى هذا اليوم.

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) (الرعد: 11).

ومن الواضح أن الإنسان إن أراد الخير والرشد والصلاح والتقدم والخدمة وفقه الله، وإن أراد الإنسان غير ذلك تركه الله وشأنه وخذله ولم يكن له ناصر في الأرض ولا في السماء.

وقد حصل المسلمون على تلك الصفات الرفيعة من جراء عملهم بالقرآن الحكيم وإتباعهم لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

الاطمئنان بنصر الله

وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يثير في المسلمين الروح العالية الوثابة في كل مناسبة ويعدهم أنهم هم الذين يملكون زمام الأرض فيقول لهم: ( اتبعوني تكونوا ملوكاً في دنياكم وتحظوا بجنات عرضها السماوات والأرض في آخرتكم ).

مثلاً في حرب الخندق لما استعصت صخرة على المسلمين وكان المسلمون محاصرين من قبل الكفار يخافون أن يتخطفهم الناس في هذا الظرف العصيب جاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمر بأن يرش الماء على تلك الصخرة العاتية وبعد قليل من الزمن جاء بمعول وضرب على الصخرة ضربة شديدة فانقدح منها النار، وقال (صلّى الله عليه وآله): (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام) (ومعنى ذلك أنه سيفتح المسلمون الشام) ثم ضربها (صلّى الله عليه وآله) ضربة ثانية وقال: (الله أكبر وقصور المدائن) (أي أعطيت الإمبراطورية الفارسية).

ص: 604

ثم ضربها (صلّى الله عليه وآله) ضربة ثالثة وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن)(1).

بيد أن بعض المنافقين الذين كانت قلوبهم خواء سخروا من كلام الرسول (صلّى الله عليه وآله) قائلين أن محمداً يبشرنا بفتح الشام وفارس واليمن. ونحن لا نأمن على أنفسنا.

لكن الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يعلم ما يقول: وكان ذلك بتسديد من الوحي وبواقعية هذا الدين الذي فيه من الوثوق بالنفس الشيء الكبير.

فكما يحق لصانع السيارة والطائرة والقطار والباخرة أن يقول: (إني سأغزو بصناعتي هذه كل العالم وإن الدواب والبغال والحمير والسفن الشراعية ستخلى مكانها لما صنعنا).

وكما يحق لمكتشف الكهرباء أن يقول: (إن الكهرباء هي التي ستغزو العالم وتدخل البيوت والمصانع في شرق الأرض وغربها وإن المصابيح النفطية والشموع ستخلى مكانها للكهرباء).

كذلك كان يحق للرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يقول بلسان القرآن الحكيم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (الفتح: 28).

ويقول في آية أخرى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف: 9).

والعالم اليوم بحاجة إلى تلك الروحية النقية الوثابة المقدامة حتى تتمكن البشرية من بناء عالم جديد ملؤه الحرية والسلام والإيمان والرفاه.

الحلم وسعة الصدر

وإنا نجد في التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة من تلك الروح العالية والصفات الرفيعة ولنذكر مثلاً بهذا الصدد، في قصة أحد القادة الإسلاميين وهو مالك الأشتر

ص: 605


1- الکافي: ج8، ص217.

(رحمه الله)، فقد كان قائداً كبيراً للجيش الإسلامي، في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، ولكنه بالرغم من ذلك كان يختار لنفسه الملابس المتواضعة، فعلى رأسه عمة من صوف، وعلى جسده قباء متواضع بحيث لا يتميز عمن عداه.

وبينما هو في بعض الأيام يخترق سوق الكوفة، إذ استهزأ به رجل عادي جهلاً بمكانته، لكن مالك الأشتر لم يلتفت إليه ومضى في طريقه وبعد شيء من الزمن علم الرجل أنه هو مالك الأشتر فخاف وانخطف لونه وذعر لما كان يعرف من شدة بأسه وسطوته وجرأته وشجاعته وكثرة القادة المحيطين به، فانطلق الرجل يبحث عن مالك فلم يجده إلا في المسجد فجثا بين يديه يعتذر إليه فقال له مالك: هل تدري ما جاء بي إلى المسجد؟

قال الرجل: لا.

قال: إنما جئت لأستغفر لك ذنبك!!

إن هذا القائد والعشرات من أمثاله في التاريخ الإسلامي لدليل على سعة آفاق نفسيتهم، وكما قال علي (عليه السلام): (آلة الرئاسة سعة الصدر)(1).

فهم بينما كانوا شجعاناً في ساحات القتال، كانوا أبطالاً في ساحة النفس، والعفو شيمة لهم، ولذا كانوا محوراً لاستقطاب العالم، بشكل منقطع النظير، والعالم اليوم بحاجة إلى مثل هذه القيادة الرشيدة، وهذه الأخلاقيات الرفيعة، وهذه القوانين الوضاءة حتى يتمكن الناس من استرجاع ما فقدوه بسبب الحضارات الغربية والشرقية.

ثالثاً: القرآن الكريم يصف المؤمن والكافر

اشارة

ولنختم هذا الفصل بذكر الآيات التي تذكر ملامح المؤمنين والتي بسببها تقدموا على العالم كما سنذكر بعدئذ الآيات التي تتناول الرذائل التي اتصف بها الكفار وبسببها تأخروا.

ص: 606


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص42.

1 - قال سبحانه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 2 - 5).

2 - قال سبحانه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (البقرة: 25).

3 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) (البقرة: 218).

4- قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (البقرة: 274).

5- قال تعالى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران: 15 - 17).

6 - وقال سبحانه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169 - 170).

7 - قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 191).

8 - قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 2 - 4).

9 - قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74).

10 - قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18).

ص: 607

11 - قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 20).

12 - قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) (التوبة: 71).

13 - قال تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112).

14 - قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26).

15 - قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) (الرعد: 19 - 23).

16 - قال عز من قائل: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) (طه: 75).

17 - قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون: 1 - 11).

19 - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 57 - 61).

20 - قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان: 63 - 75).

21 - قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) (لقمان: 22).

22 - قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ

ص: 608

وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).

23 - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (فاطر: 29).

24 - قال سبحانه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (الزمر: 33 - 34).

25 - قال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى: 36 - 39)

26 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف: 13).

27 - قال تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد: 18 - 19).

28 - قال سبحانه: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 8 - 10).

ص: 609

29 - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 43).

30 - قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).

31 - قال تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور: 26).

32 - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (النور: 27 - 28).

33 - قال سبحانه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 30 - 31).

34 - قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور: 32 - 33).

ص: 610

35 - قال سبحانه: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة: 82).

36 - وقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 9 - 10).

37 - قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف: 29).

38 - قال سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 31 - 32).

39 - قال سبحانه: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).

40 - قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).

41 - قال سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).

42 - قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصِرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران: 132 - 136).

43 - قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215).

44 - قال سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 220).

ص: 611

45 - قال سبحانه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (الطلاق: 2).

46 - قال سبحانه: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 280).

ومن الواضح، إن الآيات المباركات التي وردت في الأخلاق الرفيعة والسلوك الإنساني الجميل كثيرة جداً وإنما ذكرنا هذه الآيات كنموذج فقط.

علامات الكافر في القرآن الحكيم

بالمقابل هنالك الكثير من الملكات والصفات السيئة التي توجب تأخر الإنسان، جاءت في آيات كريمة، وكان في تجنبها تقدم المسلمين في العصور الأولى ، وفي تعلّق الكافرين واتصافهم بها، انهيارهم وهزيمهتم أمام المسلمين، بينما نجد اتصاف كثير من المسلمين بهذه الملكات والأعمال السيئة في هذا القرن، العامل والسبب في انهيارهم وهزيمتهم أمام الكفار. من هذه الصفات:

1 - قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) (الحشر: 11 - 12).

2 - قال تعالى: (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (سبأ: 19).

3 - قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: 28).

4 - الكذب على الله و تكذيب الحق

قال سبحانه: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) (الزمر: 32).

5 - قال سبحانه: (* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (المجادلة: 14).

ص: 612

6 - قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) (المجادلة: 8).

7 - الإجرام

قال سبحانه: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (القمر: 47 - 48).

8 - قال سبحانه: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) (الذاريات: 10 - 11).

9 - قال سبحانه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22 - 23).

10 - قال سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (القلم: 8 - 10 - 13).

11 - قال سبحانه: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (فصلت: 6 - 7).

12 - قال سبحانه: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) (الفتح: 6).

13 - قال سبحانه: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) (الشعراء: 61).

14 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23).

15 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 19).

16 - قال سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) (النور: 2).

ص: 613

17 - قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (النور: 4).

18 - قال سبحانه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).

19 - قال سبحانه: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء: 27).

20 - قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد: 25).

21 - قال سبحانه: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (هود: 18 - 19).

22 - قال سبحانه: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) (التوبة: 67).

23 - قال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنفال: 55).

24 - قال سبحانه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 13).

25 - قال سبحانه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)

26 - قال سبحانه: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) (الأعراف: 51).

27 - قال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف: 36).

28 - قال سبحانه: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) (المائدة: 38).

ص: 614

29 - قال سبحانه: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).

30 - قال سبحانه: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (النساء: 148).

31 - قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (النساء: 119).

32 - قال سبحانه: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء: 112).

33 - قال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: 76).

34 - قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36).

35 - قال سبحانه: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 37).

36 - قال سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء: 14).

37 - قال سبحانه: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 180).

38 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران: 21).

39 - قال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: 275).

40 - قال سبحانه: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).

ص: 615

41 - قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة: 159).

42 - قال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة: 175).

43 - قال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: 79).

44 - قال سبحانه: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27).

45 - قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة: 16).

46 - قال تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا) (الفجر: 19).

47 - قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16).

48 - قال تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (الأحزاب: 48).

49 - قال تعالى: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الزمر: 49 - 52).

50 - قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج: 19 - 23).

ص: 616

رابعاً: أفضل الطرق للتجارة

الإسلام يدعو إلى التجارة والكسب

وعن علي (عليه السلام) - في حديث الأربعمائة - قال: (تعرضوا للتجارات فإن لكم فيها غنى عما في أيدي الناس، وإن الله عز وجل يحب المحترف الأمين، المغبون غير محمود ولا مأجور)(1). أي لا يحمده الناس ولا يعطيه الله الأجر.

عن المعلى بن خنيس قال: رآني أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تأخرت عن السوق فقال: (اغد إلى عزك)(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تسعة أعشار الرزق في التجارة)(3).

وعن عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة والعشر الباقي في الجلود)(4).

قال الصدوق يعني بالجلود الغنم، واستدل بما عن الحسين بن زيد، عن أبيه زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (تسعة أعشار الرزق في التجارة، والجزء الباقي في السابيا)(5) يعني الغنم.

(أقول: ذلك محمول على زمان ورود الرواية).

وعن علي (عليه السلام) في بيان معايش الخلق (إلى أن قال) (وأما وجه التجارة فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) ) البقرة: 282).

ص: 617


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة : ج 1، ص 23 ، دار المعرفة - بيروت .
2- الكافي : ج 2، ص ٣٠٧ ، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الرابعة .
3- بحار الأنوار: ج ٦٥ ، ص ٣٠، دار المعارف _ بيروت.
4- وسائل الشيعة : ج ه ، ص ٣٩٤ ، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
5- الكافي : ج 1، ص 30 ، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة .

فعرّفهم سبحانه كيف يشترون المتاع في السفر والحضر وكيف يتجرون إذ كان ذلك من أسباب المعايش)(1).

عن محمد الزعفراني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من طلب التجارة استغنى عن الناس، قلت: وإن كان معيلاً؟ قال: وإن كان معيلاً إن تسعة أعشار الرزق في التجارة)(2).

وعن أبي بكير عمن حدثه،عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التجارة تزيد في العقل)(3). (لوضوح أن العقل العملي في العمل).

وعن هشام بن أحمر قال: كان أبو الحسن (عليه السلام) يقول لمصادف: (أغد إلى عزك)(4) يعني السوق.

وعن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للموالي: (اتجروا بارك الله لكم، فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها)(5).

وعن علي بن عقبة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لمولى له: (يا عبد الله احفظ عزك) قال: وما عزي جعلت فداك؟ قال: (غدوك إلى سوقك، وإكرامك نفسك)(6).

وقال لآخر مولى له: (ما لي أراك تركت غدوك إلى عزك؟) قال: جنازة أردت أن أحضرها، قال: (فلا تدع الرواح إلى عزك)(7).

ص: 618


1- المصدر السابق.
2- بحار الأنوار: ج1، ص177، دارالمعارف - بيروت.
3- وسائل الشيعة: ج18، ص14، دار إحياء التراث العربي.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- بحار الأنوار: ج1، ص172، دارالمعارف - بيروت.

وعن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن قول الله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201).

قال: (رضوان الله والجنة والسعة في المعيشة وحسن الخلق في الدنيا)(1).

وعنه (عليه السلام) أيضاً قال: (رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة وفي الآخرة الجنة)(2).

(وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه مرّ في غزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سماناً، فقال أصحابه: يا رسول الله لو كانت قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل الله لكان أحسن، فدعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: أرأيت أبعرتك هذه، أي شيء تعالج عليها؟ فقال: يا رسول الله لي زوجة وعيال فأنا أكسب بها ما أنفقه على عيالي وأكفهم عن الناس، وأقضي ديناً عليّ، قال: لعل غير ذلك؟ قال: لا، فلما انصرف قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر)(3).

وفي المقنع، قال الصادق (عليه السلام): (من لزم التجارة استغنى عن الناس)(4).

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره، مرسلاً في سياق قصة مريم وولادة عيسى (عليه السلام) (إلى أن قال): ثم استقبلها قوم من التجار فدلوها على النخلة اليابسة فقالت لهم: (جعل الله البركة في كسبكم وأحوج الناس إليكم)(5).

وعن أبي إمامة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الخير عشرة أجزاء أفضلها التجارة، إذا أخذ الحق وأعطى الحق)(6).

ص: 619


1- المصدر السابق: ص171.
2- المصدر السابق : ج 2، ص110.
3- المصدر السابق : ج 1، ص ١٦٨ .
4- الكافي : ج ١ ، ص ٣٦ ، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة .
5- وسائل الشيعة : ج 12، ص 3 ، دار إحياء التراث العربي - بيروت .
6- الكافي : ج ٥ ، ص ١٤٨ ، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة .

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (تسعة أعشار الرزق في التجارة)(1).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه)(2).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث أنه قيل له: وبم الافتخار؟ قال: (بإحدى ثلاث، مال ظاهر وأدب بارع، وصناعة لا يستحي المرء منها)(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه سأل بعض أصحابه عما يتصرف فيه؟ فقال: جعلت فداك إني كففت يدي عن التجارة؟ قال: ولم ذلك؟ قال: انتظاري هذا الأمر، قال: (ذلك واعجب لكم يذهب أموالكم لا تكفف عن التجارة والتمس من فضل الله، افتح بابك، وابسط بساطك، واسترزق ربك، وإذا كنت في تجارتك وحضرت الصلاة فلا يشغلك عنها متجرك، فإن الله وصف قوماً ومدحهم فقال: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) (النور: 37).

وكان هؤلاء القوم يتجرون، فإذا حضرت الصلاة تركوا تجارتهم وقاموا إلى صلاتهم وكانوا أعظم أجراً ممن لا يتحرّف ويصلي)(4).

وفي المقنع عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (لا تترك التجارة، فإن تركها مذهبة العقل)(5).

وعن ابن عباس، أنه قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه)(6).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين (عليه السلام) يدع خلفاً لفضل

ص: 620


1- وسائل الشيعة : ج 12، ص 3 ، دار إحياء التراث العربي - بيروت .
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص4.
4- بحار الأنوار: ج86، ص48، دارالمعارف - بيروت.
5- الكافي : ج ٥ ، ص ١٤٨ ، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة .
6- المصدر السابق.

علي بن الحسين (عليه السلام) حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليه السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي (عليه السلام)، وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له أسودين، أو موليين له، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا والله لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فسلم علي بنهر وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله.. شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت في هذه الحال؟ قال: فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: (لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله) فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني(1).

وعن ابن فضال عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، قال: (الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله)(2).

وعن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (العبادة سبعون جزءً أفضلها جزءً طلب الحلال)(3).

وفي رواية أخرى قال (صلّى الله عليه وآله): (العبادة عشرة أجزاء تسعة أجزاء في طلب الحلال)(4).

أقول: الجمع بينهما بمراتب الفضل.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (ما عدوة أحدكم في سبيل الله بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم)(5).

ص: 621


1- المصدر السابق: ص149.
2- المصدر السابق: ص319.
3- وسائل الشيعة : ج 12، ص 5 ، دار إحياء التراث العربي - بيروت .
4- المصدر السابق.
5- مستدرک الوسائل: ج13، ص7، مؤسسة أهل البيت عليهم السلام - لاحياء التراث، بيروت.

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (إنه ليأتي الرجل منكم لا يكتب عليه سيئة وذلك أنه مبتلى بالمعاش)(1).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها صلاة ولا صدقة، قيل: يا رسول الله فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة)(2).

وفي لب اللباب، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله، ما أركب فيها إلا لالتماس أن يراني أضحى في طلب الحال، أما تسمع قول الله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10)(3).

وفي الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الرحال تفيد المال)(4).

وعن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجل جلس عن طلب الرزق ثم يقول: اللهم ارزقني، يقول الله تبارك وتعالى: ألم أجعل لك طريقاً في الطلب؟) (الخبر)(5).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: (أربعة لا يستجاب لهم دعاء: رجل جالس في بيته يقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالطلب) (الخبر)(6).

(ذكر الثلاثة مرة وأربعة مرة) باعتبار اختلاف محل الحاجة بالنسبة إلى السائل.

وفي الحديث أنه لما نزل قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: 2 - 3).

ص: 622


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص8.
3- المصدر السابق: ص9.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

إنقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلو بالعبادة وثوقاً بما ضمن لهم، فعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، فعاب ما فعلوه، وقال: إني لأبغضه الرجل فاغراً إلى ربه يقول: اللهم ارزقني ويترك الطلب.

وعن عبد الله عن محمد، عن موسى قال: حدثنا أبي عن أبيه عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (نعم العون على تقوى الله الغنى)(1).

وعن ذريح قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (نعم العون الدنيا على الآخرة)(2).

وعن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا لنحب الدنيا! فقال لي: تصنع بها ماذا؟ قال: أتزوج منها، وأنفق على عيالي، وأنيل أخواني، وأتصدق، قال لي: (ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة)(3).

وعن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كان لقمان يقول لابنه: (يا بني إن الدنيا بحر، وقد غرق فيها جيل كثير (إلى أن قال): يا بني خذ من الدنيا بلغة، ولا تدخل فيها دخولاً تضر فيها بآخرتك، ولا ترفضها فتكون عيالاً على الناس) (الخبر)(4).

ومن كلام لعلي (عليه السلام) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده، فلما رأى سعة داره قال: (ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا،أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة. تقرى فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة)(5).

ص: 623


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ج12، ص92.
3- المصدر السابق: ج13، ص10. حرف واحترف الرجل: کدّ علی عياله.
4- المصدر السابق: ص11.
5- المصدر السابق.

وروى الراوندي في لب الألباب، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر)(1).

وفي الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب)(2).

وعن زياد القندي قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا رأى إسحاق بن عمار واسماعيل بن عمار قال: (وقد يجمعهما لأقوام)(3) يعني الدنيا والآخرة.

وروى علي بن إبراهيم (في تفسيره) قال: وذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء ووقع فيهم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (اسكت، فإن الغني إذا كان وصولاً لرحمه، وباراً بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين، لأن الله يقول: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) ) (سبأ: 37)(4).

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (هلك المثرون، قلنا: يا رسول الله إلا من فأعادها ثلاثاً، ثم قال: إلا من فرّقه في حياته في أعمال الخير، قال: هكذا هكذا وقليل ما هم)(5).

و روى الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (القبر خير من الفقر) وقال (عليه السلام): (إن إعطاء هذا المال في طاعة الله أعظم نعمة، وإن إنفاقه في معاصيه أعظم محنة)(6).

ص: 624


1- المصدر السابق: ص12.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص13.
6- المصدر السابق.

وفي (نهج البلاغة) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: (وكذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين، أما داعي الله فما عند الله خير له، وأما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه إن المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام)(1).

فضل الكسب بعرق الجبين

عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في قول الله تبارك وتعالى: (وأنه هو أغنى وأقنى) (النجم: 48).

قال: (أغنى كل إنسان بمعيشته وأرضاه بكسب يده)(2).

وفي مجمع البيان، روي أنهم (يعني الحواريين) اتبعوا عيسى (عليه السلام)، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده على الأرض، سهلاً كان أو جبلاً فيخرج لكل إنسان منهم رغيفان يأكلانه، فإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده على الأرض، سهلاً كان أو جبلاً فيخرج ماء فيشربون، قالوا: يا روح الله من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا، وإذا شئنا سقينا، وقد آمنا بك واتبعناك، قال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء)(3).

وفي نهج البلاغة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد كان في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كاف لك في الأسوة (إلى أن قال): وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفاسيف الخوص بيده، ويقول لجلسائه (أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها))(4).

ص: 625


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص14.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

وفي جامع الأخبار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من أكل من كد يده مر على الصراط كالبرق الخاطف)(1).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (من أكل من كد يده حلالاً فتح له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)(2).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (من أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبداً)(3).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (من أكل من كد يده يكون يوم القيامة في عداد الأنبياء ويأخذ ثواب الأنبياء)(4).

وعن عامر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله عز وجل حين أهبط آدم (عليه السلام) من الجنة أمره أن يحرث بيده فيأكل من كدها بعد نعيم الجنة) (الخبر)(5).

وعن نجم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن فاطمة (عليها السلام) ضمنت لعلي (عليه السلام) عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها علي (عليه السلام) ما كان خلف الباب نقل الحطب وأن يجيء بالطعام)(6).

وروى الحسن بن أبي الحسن الديلمي في إرشاد القلوب قال: (روي أنه - يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) - لما كان يفرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا فرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكر لله تعالى(7).

ص: 626


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص15.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص16.
5- المصدر السابق.
6- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص187، دارالمعرفة - بيروت.
7- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص17، مؤسسة أهل البيت لاحياء التراث - بيروت.

وفي دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنه كان يعمل بيده ويجاهد في سبيل الله، إلى أن قال: وأقام على الجهاد أيام حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومنذ قام بأمر الناس إلى أن قبضه إليه، وكان يعمل في ضياعه ما بين ذلك فأعتق ألف مملوك كل من كسب يده)(1).

وعن أبي عمر قال: كان سلمان يسفّ الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه ويقول: لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي، وقد كان تعلّم سفّ الخوص من المدينة.

وفي كتاب سلمان (إلى أن قال): وأما ما ذكرت إني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير فما هما مما يعيّر به مؤمن ويؤنب عليه، وأيم الله يا عمر لأكل الشعير وسفّ الخوص والاستغناء به عن رفيع المطعم والمشرب وعن غصب مؤمن وادعاء ما ليس له بحق أفضل وأحب إلى الله عز وجل وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أصاب الشعير أكله وفرح به ولم يسخط) (الخبر).

وروى أبو عمرو الكشي في رجاله قال: كان محمد بن مسلم، رجلاً موسراً جليلاً، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): (تواضع) فأخذ قوصرة فوضعها على باب المسجد وجعل يبيع التمر فجاء قومه، فقالوا: أفضحتنا، فقال: أمرني مولاي بشيء فلا أبرح حتى أبيع، فقالوا: أما إذا أبيت إلا هذا فاقعد في الطحانين، ثم سلموا إليه رحى فقعد على بابه وجعل يطحن.

وروى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكسية أن جدّته لقيت علياً (عليه السلام) بالكوفة ومعه تمر يحمله، فسلمت عليه وقالت له: أعطني يا أمير المؤمنين أحمل عنك إلى بيتك، فقال: أبو العيال أحق بحمله(2).

ص: 627


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص18.
الزراعة في الإسلام

جعفر بن أحمد القمي في كتاب الغايات، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل عنده فقال: جعلت فداك اسمع قوماً يقولون إن الزراعة مكروهة فقال: (ازرعوا واغرسوا والله ما عمل الناس عملاً أجلّ ولا أطيب منه)(1).

وعنه (عليه السلام) أيضاً قال: (ما في أعمال شيء أحب إلى الله تعالى من الزراعة، وما بعث الله نبياً إلا زارعاً إلا إدريس، فإنه كان خياطاً)(2).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً في بستان أم سعيد فقال: هذه الغروس غرسها كافر أم مسلم؟ فقالت: يا رسول الله غرسها مسلم، فقال: (ما من مسلم يغرس غرساً يأكل منه إنسان أو دابة أو طير إلا أن يكتب له صدقة إلى يوم القيامة)(3).

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجة الوداع فقال: (أيها الناس أنه والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، واجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حق، فإنه لا يدرك شيء مما عند الله إلا بطاعته)(4).

وعن محمد،عن موسى قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن

ص: 628


1- المصدر السابق: ص19.
2- المصدر السابق: ص20.
3- المصدر السابق.
4- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2، ص58، دار المعرفة - بيروت.

محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من سره أن يستجاب دعوته فليطيب كسبه)(1).

وعن فقه الرضا (عليه السلام): (اتق في طلب الرزق واجمل في الطلب واخفض في الكسب واعلم أن الرزق رزقان: فرزق تطلبه ورزق يطلبك، فأما الذي تطلبه فاطلبه من حلال، فإن أكله حلال إن طلبته في وجهه وإلا أكلته حراماً وهو رزقك لابد لك من أكله)(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو كان العبد في حجر لأتاه رزقه فاجملوا في الطلب)(3).

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، قال: (خذ من الدنيا ما أتاك، وتولى عما وتولّ عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب)(4).

وعن رسائل الكليني: أن علياً (عليه السلام) قال في وصيته لولده الحسن (عليه السلام): (فاعلم يقيناً انك لم تبلغ أملك، ولا تعدوا أجلك، فإنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب وأجمل في المكسب، فانه رب طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب بناج، ولا كل مجمل بمحتاج، وأكرم نفسك عن دنية، وإن ساقتك إلى الرغب فإنك لن تعتاض بما تبذل شيئاً من دينك وعرضك بثمن وإن جل (إلى أن قال): ما خير بخير لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر)(5).

وعن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام)، أنه قال: (ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك، فإن لكل يوم رزقاً جديداً، واعلم أن الإلحاح في المطالب يسلب البهاء، ويورث التعب والعناء، فاصبر حتى يفتح الله لك باباً يسهل الدخول فيه فما أقرب الصنع إلى الملهوف، والأمن الهارب المخوف، فربما كانت الغير

ص: 629


1- مستدرك الوسائل: ج 13، ص 23 ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث _ بيروت .
2- المصدر السابق : ص 23.
3- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة : ج 2، ص ٥٨ ، دار المعرفة - بيروت .
4- مستدرك الوسائل : ج 13، ص 23 مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - بيروت.
5- المصدر السابق : ص ٢٤ .

نوع أدب من الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، وإنما تنالها في أوانها، واعلم أن المدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك، ولا تعجل بحوائجك قبل وقتها فيضيق قلبك وصدرك ويغشا القنوط)(1).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أيها الناس إن الرزق مقسوم لن يعدو امرؤ ما قسم له فاجملوا في الطلب، وإن العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (... وإن لكل امرئ رزقاً هو يأتيه لا محالة، فمن رضي به بورك له فيه ووسعه، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه، إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله)(3).

وعن إسماعيل بن كثير، رفع الحديث إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، قال مما نزلت هذه الآية: (واسألوا الله من فضله) (النساء: 32).

قال: فقال أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله): ما هذا الفضل؟ أيكم يسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ذلك؟ قال: فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): أنا أسأله، فسأله عن ذلك الفضل ما هو؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله تعالى خلق خلقه وقسم لهم أرزاقهم من حلها، وعرض لهم بالحرام، فمن انتهك حراماً نقص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام وحوسب به)(4).

وعن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: (ليس من نفس، إلا وقد فرض الله لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية، وعرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت من الحرام شيئاً قاصها به من الحلال الذي فرض الله لها وعند الله سواهما فضل كثير)(5).

ص: 630


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص25.
5- المصدر السابق.

وعن القطب الراوندي في لب الألباب، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لو أن عبداً هرب من رزقه لاتبعه رزقه حتى يدركه كما أن الموت يدركه)(1).

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً مرائياً لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان).

وعن الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (الرزق يسعى إلى من لا يطلبه)(2).

وقال (عليه السلام): (الأرزاق لا تنال بالحرص والمغالبة)(3).

وقال (عليه السلام): (ذلل نفسك بالطاعة، وحلها بالقناعة، وخفض في الطلب، واجمل في المكتسب)(4).

وقال (عليه السلام): (رزقك يطلبك فأرح نفسك من طلبه)(5).

وقال (عليه السلام): (سوف يأتيك أجلك فأجمل في الطلب سوف يأتيك ما قدر لك فخفض في المكتسب)(6).

وقال (عليه السلام): (ستة يختبر بها دين الرجل (إلى أن قال): والإجمال في الطلب)(7).

وقال (عليه السلام): (عجبت لمن علم أن الله قد ضمن الأرزاق وقدرها، وإن سعيه لا يزيده فيما قدر له منها وهو حريص دائب في طلب الزرق)(8).

ص: 631


1- المصدر السابق.
2- مستدرک الوسائل: ج13، ص26، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - بيروت.
3- وسائل الشيعة: ج12، ص25، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
4- مستدرک الوسائل: ج13، ص26، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - بيروت.
5- مستدرک الوسائل: ج13، ص27.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق: ص28.

وقال (عليه السلام): (لكل رزق سعي فاجملوا في الطلب)(1).

وقال (عليه السلام): (لن يفوتك ما قسم لك فأجمل في الطلب لن تدرك ما زوي عنك فأجمل في المكتسب)(2).

وقال (عليه السلام): (ليس كل مجمل بمحروم)(3).

وعن عبد الله بن سليمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الله عز وجل أوسع في أرزاق الحمقى لتعتبر العقلاء، ويعلموا أن الدنيا لا تنال بالعقل ولا بالحيلة)(4).

وعن هشام بن الحكم، عن الكاظم (عليه السلام) قال: (يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته يا هشام من أراد الدنيا بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بان يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً)(5).

وعن الكراجكي في كنز الفوائد، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (من رضي باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل)(6).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك).

ص: 632


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص29.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص30.
6- المصدر السابق.

وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2 - 3).

قال: (في دنياه)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: فيما وعظ به لقمان ابنه أنه قال: (يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعف تعبه في طلب الرزق: إن الله تعالى خلقه في ثلاثة أحوال من رزقه، وآتاه رزقه ولم يكن في واحدة منها كسب، ولا حيلة إن الله سيرزقه في الحالة الرابعة.

أما أول ذلك، فإنه كان في رحم أمه يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا برد يؤذيه ولا حر، ثم أخرجه من ذلك وأجرى له من لبن أمه يربيه من غير حول به ولا قوة، ثم فطم من ذلك فأجرى له من كسب أبويه برأفةٍ ورحمة من قلوبهما، حتى إذا كبر وعقل واكتسب ضاق به أمره، فظن الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله وقتر على نفسه وعياله مخافة الفقر)(2).

وعن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا بن آدم لا يكن اكبر همك يومك الذي إن فاتك لم يكن من أجلك فإن همّك يوم، فإن كل يوم تحضره يأتي الله فيه برزقك.

واعلم أنك لن تكتسب شيئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك تكثر في الدنيا به نصبك وتحظي به وارثك ويطول معه يوم القيامة حسابك، فاسعد بمالك في حياتك وقدم ليوم معادك زاداً يكون أمامك، فإن السفر بعيد والموعد القيامة والمورد الجنة أو النار)(3).

وعن الديلمي في أعلام الدين، عن الحسين (عليه السلام)، إنه قال لرجل: (يا هذا

ص: 633


1- المصدر السابق: ص31.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص32.

لا تجاهد في الرزق جهاد الغالب، ولا تتكل على القدر إتكال مستسلم، فإن ابتغاء الرزق من السنة، والإجمال في الطلب من العفة، وليس العفة بمانعة رزقاً ولا الحرص بجالب فضلاً، وإن الرزق مقسوم والأجل محتوم، واستعمال الحرص جالب المآثم)(1).

وعن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (إذا أحب الله عبداً ألهمه الطاعة وألزمه القناعة، وفقهه في الدين، وقواه باليقين واكتفى بالكفاف، وأكتنى بالعفاف، وإذا أبغض الله عبداً حبب إليه المال وبسط له وألهمه دنياه ووكله إلى هواه فركب العناد وبسط الفساد وظلم العباد)(2).

وعن علي بن مهزيار رفعه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (قربوا على أنفسكم البعيد وهونوا عليها الشديد، واعلموا إن عبداً وإن ضعفت حيلته ووهنت مكيدته أنه لن ينقص مما قدر الله له، وإن قوي عبد في شدة الحيلة وقوة المكيدة أنه لن يزاد على ما قدر الله له)(3).

وعن جامع الأخبار، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (ما نظمه الشاعر) :

دع الحرص على الدنيا *** وفي العيش فلا تطمع

ولا تجمع من المالا *** فلا تدري لمن تجمع

ولا تدري أفي أرضكا *** أم في غيرها تصرع

فإن الرزق مقسوما *** وكد المرء لا ينفع

غني كل من يقنعا *** فقير كل من يطمع(4)

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الدنيا دول، فما كان لك

ص: 634


1- المصدر السابق.
2- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص32، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

منها أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك، ومن انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه، ومن رضي بما رزقه الله قرت عينه)(1).

وعن فقه الرضا (عليه السلام) أنه قال: (وليكن نفقتك على نفسك وعيالك قصداً، فإن الله تعالى يقول: (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (البقرة: 219).

والعفو الوسط، قال الله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (إلى آخره) (الفرقان: 67).

وقال العالم (عليه السلام): (ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر)(2).

وعن ابن الهذيل، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله قسم الأرزاق بين عباده وفضل فضلاً كثيراً لم يقسمه بين أحد، قال الله: (واسألوا الله من فضله) (النساء: 32)(3).

أقول: الرزق الحلال هو بقدر سعي الإنسان وكفايته، فعدم السعي مذموم، وعدم تهيؤ الأسباب لتحصيل مستوى كفاية الإنسان دليل على فساد الاجتماع والسعي أكثر من الطاقة غير صحيح، والسلوك في مسالك الحرام موجب لحرمان الإنسان خير الدنيا والآخرة. والروايات المختلفة تشير إلى هذه الجوانب، والله العالم.

الدعاء لطلب الرزق

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجل من أصحاب البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين وبنات وأخوة وأخوات وبني بنين وبني بنات وبني أخوة وبني أخوات والمعيشة علينا خفيفة، فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا، وبكى، فرقّ له المسلمون، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما من

ص: 635


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، من كفل بهذه الأقوات المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صباً كالماء المنهمر إن قليل فقليل، وإن كثيراً فكثير.

قال: ثم دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمّن له المسلمون.

ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن حاله؟ فقال: من أحسن من حوله حالاً وأكثرهم مالاً)(1).

وعن مسعدة بن صدقة، عن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام) قال: إذا غدوت في حاجتك بعد أن تصلي الغداة بعد التشهد فقل: اللهم إني غدوت التمس من فضلك كما أمرتني فارزقني من فضلك رزقاً حلالاً طيباً، وأعطني فيما ترزقني العافية (تقول ذلك ثلاث مرات).

قال وسمعت جعفراً (عليه السلام) يملي على بعض التجار من أهل الكوفة في طلب الرزق، فقال له: صل ركعتين متى شئت، فإذا فرغت من التشهد، قلت: توجهت بحول الله وقوته بلا حول مني ولا قوة، ولكن بحولك يا رب وقوتك ابرأ إليك من الحول والقوة إلا ما قويتني اللهم إني أسألك بركة هذا اليوم وأسألك بركة أهله وأسألك أن ترزقني من فضلك رزقاً واسعاً حلالاً طيباً مباركاً تسوقه إلي في عافية بحولك وقوتك وأنا خافض في عافية (تقول ذلك ثلاث مرات)(2).

وعن الصادق (عليه السلام) (قال، تقول): (اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأظهره وإن كان بعيداً فقربه، وإن كان قريباً فاعطنيه، وإن كان قد أعطيتنيه فبارك لي فيه، وجنبني عليه المعاصي والردى)(3).

عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (من لم يسأل الله من فضله افتقر)(4).

ص: 636


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ومن دعائهم (عليهم السلام): (اللهم إني أسالك من فضلك الواسع الفاضل المفضل: رزقاً واسعاً حلالاً طيباً بلاغاً للآخرة والدنيا هنيئاً مريئاً صباً صباً من غير منّ من أحد إلا سعة من فظلك، وطيباً من رزقك، وحلالاً من وسعك تغنيني به، من فضلك أسأل، ومن يدك الملأى أسأل، ومن خيرك أسأل، يا من بيده الخير وهو على كل شيء قدير)(1).

وعن الصادق (عليه السلام) إطلب الرزق (بهذا الدعاء): (يا الله يا الله يا الله أسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك، وأن تبسط علي ما خطرت من رزقك)(2).

وفي حديث: أن رجلاً جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال: يا رسول الله إني كنت غنياً فافتقرت، وصحيحاً، وكنت مقبولاً عند الناس فصرت مبغوضاً، وخفيفاً على قلوبهم فصرت ثقيلاً، وكنت فرحاناً فاجتمعت عليّ الهموم، وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت، وأجول طول نهاري في طلب الرزق، فلا أجد ما أتقوت به، كأن اسمي قد محي من ديوان الأرزاق (إلى أن قال): فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): إتق الله واخلص ضميرك، وادع بهذا الدعاء وهو دعاء الفرج: (بسم الله الرحمن الرحيم: إلهي طموح الآمال قد خابت إلا لديك، ومعاكف الهمم قد تقطعت إلا عليك، ومذاهب العقول قد سمت إلا إليك، فإليك الرجاء وإليك الملتجأ، يا أكرم مقصود ويا أجود مسؤول، هربت إليك بنفسي يا ملجأ الهاربين بأثقال الذنوب أحملها على ظهري، وما أجد لي إليك شافعاً سوى معرفتي بأنك أقرب من رجاه الطالبون، ولجأ إليه المضطرون، وأمّل ما لديه الراغبون، يا من فتق العقول بمعرفته، وأطلق الألسن بحمده، وجعل ما امتن به على عباده كفاية لتأدية حقه صل على محمد وآله، ولا تجعل للهموم على عقلي سبيلاً، ولا للباطل على عملي دليلاً، وافتح لي بخير الدنيا يا ولي الخير)(3).

ص: 637


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص34.
3- المصدر السابق.

فلما دعا به الرجل وأخلص النية عاد إلى حسن الإجابة.

أثر الطهارة في سعة الرزق

عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه شكا إليه رجل قلة الرزق، فقال (صلّى الله عليه وآله): (أدم الطهارة يدم عليك الرزق)(1) ففعل الرجل ذلك فوسع عليه الرزق.

وعن عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من توضأ لكل حدث، ولم يكن دخالاً على النساء في البيوتات، ولم يكن يكتسب مالاً بغير حق، رزق من الدنيا بغير حساب)(2).

النهي عن الاهتمام للرزق

عن حفص بن غياث النخعي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من اهتم لرزقه كتب عليه خطيئة. إن دانيال (عليه السلام) كان في زمن ملك جبار فأخذه وطرحه في الجب وطرح معه السباع لتأكله... فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من دعاءه والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً وبالصبر نجاة)(3).

ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): (أبى الله أن يجعل أرزاق المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون، وأبى الله أن يقبل شهادة لأوليائه في دولة الظالمين)(4).

أقول: حرية العمل توجب عدم معرفة الإنسان مكان رزقه، وقبول الظالم شهادة المؤمن دليل على الاقتراب بينهما فليس هناك كمال الإيمان.

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا بن مسعود لا تهتمن للرزق فإن الله تعالى يقول: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود: 6).

ص: 638


1- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص34، مؤسسة آۀ البيت عليهم السلام لإحياء التراث العربي - بيروت.
2- المصدر السابق: ص35.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص36.

وقال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنعام: 17)(1).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب: رجل يغسل قميصه وليس له بدل، ورجل لم يطبخ على مطبخ قدرين ورجل كان عنده قوت يوم ولم يهتم لغد).

لا للنوم والكسل

عن نهج البلاغة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما أنقض النوم لعزائم الأمور)(2).

وعن الآمدي في الغرر، عنه (عليه السلام): (ويح النائم ما أخسره أقصر عمله وقل أجره)(3).

وقال (عليه السلام): (بئس الغريم النوم يفني قصير العمر ويفوت كثير الأجر)(4).

وعن ابن أبي حمزة قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن أباك أخبرنا بالخلف من بعده، فلو أخبرتنا به، فأخذ بيدي فهزها، ثم قال: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) (التوبة: 115).

قال: فخفقت فقال: (مه لا تعود عينيك كثرة النوم فإنها أقل شيء في الجسد شكراً)(5).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إني لأبغض الرجل يكون كسلان عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل)(6).

ص: 639


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص37.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص38.
6- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص39، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث العربي - بيروت.

عن أبي جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): (للكسلان ثلاث علامات يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم)(1).

وعن الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (الكسل يفسد الآخرة)(2).

وقال (عليه السلام): (آفة النجاح الكسل)(3).

وقال (عليه السلام): (من دام كسله خاب أمله)(4).

وقال (عليه السلام): (من التواني يتولد الكسل)(5).

وعن عجلان بن أبي صالح قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث: (وإياك والكسل والضجر، فإن أبي بذلك كان يوصيني، وبذلك كان يوصية أبوه وكذلك في صلاة الليل، إنك إذا كسلت لم تؤد إلى أحد حقاً وعليك بالصدق والورع وأداء الأمانة، وإذا وعدت فلا تخلف)(6).

كراهة الاعتماد على الأماني

عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن (عليه السلام): (إياك والإتكال على المنى فإنها بضائع النوكى وتثبط عن الآخرة والدنيا)(7).

وقال (عليه السلام): (أشرف الغنى ترك المنى)(8).

ص: 640


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص40.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق:ص42.
7- المصدر السابق: ص41.
8- المصدر السابق.

وعن محمد، عن موسى قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا تمني إلا في خير كثير)(1).

أقول: أي كن عالي الهمة.

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من تمنى شيئاً هو لله تعالى رضى لم يمت من الدنيا حتى يعطاه)(2).

وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (إذا تمنى أحدكم فليكن مناه في الخير وليكثر، فإن الله واسع كريم)(3).

وعن علي (عليه السلام) قال: (من تمنى شيئاً من فضول الدنيا من مراكبها وقصورها أو رياشها عني نفسه ولم يشف غيظه ومات بحسرته)(4).

وعن الصادق (عليه السلام)، أنه قال لعبد الله بن جندب في وصيته له: (ولا تنظر إلى ما عندك، ولا تتمن ما لست تناله، فإن من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع)(5).

وعن الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (الأماني شيمة - أو قال (عليه السلام): (الأماني بضائع النوكى، والآمال غرر الحمقى)(6).

وقال (عليه السلام): (الأماني همة الجهال)(7).

وقال (عليه السلام): (الأماني تخدعك، وعند الحقائق تخذلك)(8).

ص: 641


1- المصدر السابق: ص42.
2- المصدر السابق: ص43.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص44.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق.

وقال (عليه السلام): (إياك والمنى فإنها بضائع النوكى)(1).

وقال (عليه السلام): (أقبح العي الضجر)(2).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنه قال لرجل من بني تميم: (ولا تضجر، فإن الضجر يمنعك من الآخرة والدنيا)(3).

انتهزوا الفرص

عن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)(4).

وعن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن آبائه عن علي (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولا تنسَ نصيبك من الدنيا) (القصص: 77).

قال: (لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة)(5).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير)(6).

وقال (عليه السلام): (إضاعة الفرصة غصة)(7).

وقال (عليه السلام): (من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة)(8).

ص: 642


1- المصدر السابق: ص45.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص46.
8- المصدر السابق.
العمل في البيت للرجل والمرأة

عن أبي البختري، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليه السلام) قال: تقاضى علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي (عليه السلام) بما خلفه قال: فقالت فاطمة (عليها السلام): فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحمل رقاب الرجال(1).

وعن جامع الأخبار، عن علي (عليه السلام) قال: (دخل علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) جالسة عند القدر وأنا أنقي العدس، قال: يا أبا الحسن؟ قلت: لبيك يا رسول الله، قال: اسمع وما أقول إلا ما أمر ربي ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها (إلى أن قال): يا علي من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب، يا علي خدمة العيال كفارة للكبائر ويطفي غضب الرب، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات، يا علي لا يخدم العيال إلا صديق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة)(2).

إصلاح المال وترميم المعاش

عن هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر، أنه قال، قال الحسن بن علي (عليه السلام) في حديث: (واستثمار المال تمام المروءة)(3).

وعن أبي حمزة السعدي، عن أبيه قال: أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الحسن بن علي (عليه السلام)، فقال فيما أوصى به إليه: (يا بني لا فقر أشد من الجهل (إلى أن قال): وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصاً في ثلاث: مرمة لمعاش، وخطوة لمعاد، ولذة في غير محرم)(4).

ص: 643


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص47.

وعن الحارث الأعور قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسن ابنه (عليه السلام): يا بني ما المروءة؟ فقال: (العفاف واستصلاح المال)(1).

وفي نهج البلاغة في وصيته للحسن (عليه السلام): (وحفظ ما في يدك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك)(2).

وعن فقه الرضا (عليه السلام): (واجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات، ساعة لله لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقاة...) الخ(3).

الإسلام يدعو إلى التوفير

عن موسى قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديث: (وما عال امرئ في اقتصاد)(4).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً فقههم في الدين ورزقهم الرفق في معايشهم والقصد في شأنهم)(5) الخبر.

وعن ابن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، في قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) (الإسراء: 29).

قال فضم يده وقال: هكذا فقال: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: 29).

وبسط راحته، وقال هكذا(6).

وعن عامر بن جذاعة قال: دخل على أبي عبدالله (عليه السلام) رجل فقال: يا أبا عبد الله قرضاً إلى ميسرة، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إلى غلة تدرك؟ فقال: لا والله،

ص: 644


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

فقال: إلى تجارة تؤدى؟ فقال: لا والله، فقال: فإلى عقدة تباع؟ فقال: لا والله فقال: (فأنت إذاً ممن جعل الله له موالنا حقاً) فدعا أبو عبدالله (عليه السلام) بكيس فيه دراهم فأدخل يده فناوله قبضة، ثم قال: (اتق الله ولا تسرف ولا تقصر وكن بين ذلك قواماً إن التبذير من الإسراف، قال الله تعالى: (ولا تبذر تبذيراً) (الإسراء: 26).

إن الله تعالى لا يعذب على القصد(1).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (إن المؤمن أخذ من الله أدباً إذا وسع عليه اقتصد، وإذا اقتر عليه اقتصر)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (لا يصلح المرء إلا على ثلاث: التفقه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على النائبة)(3).

وعن عيسى بن موسى: قال الصادق (عليه السلام): (يا عيسى المال مال الله جعله ودائع عند خلقه وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدى ذلك كان أكله حراماً وما شرب منه حراماً وما لبسه حراماً وما نكحه منه حراماً، وما ركبوا منه حراماً)(4).

وعن حماد بن عيسى، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال لقمان لابنه في حديث: (وكن مقتصداً، ولا تمسكه تقتيراً، ولا تعطه تبذيراً)(5).

وعن فقه الرضا (عليه السلام): وليكن نفقتك على نفسك وعيالك قصداً، فإن الله يقول: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219).

ص: 645


1- المصدر السابق: ص48.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص366، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

والعفو الوسط، وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: 67)(1).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (الكمال كل الكمال: الفقه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة)(2).

وعن الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الاقتصاد ينمي القليل)(3).

وقال (عليه السلام): (الاقتصاد ينمي اليسير)(4).

وقال: (الاقتصاد نصف المؤونة)(5).

وقال (عليه السلام): (لن يهلك من اقتصد)(6).

وقال (عليه السلام): (ليس في الاقتصاد تلف)(7).

وقال (عليه السلام): (من لم يحسن الاقتصاد أهلكه الإسراف)(8).

وقال (عليه السلام): (من اقتصد خفت عليه المؤن)(9).

وقال (عليه السلام): (من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدهر)(10).

وقال (عليه السلام): (من صحب الاقتصاد دامت صحبة الغنى له، وجبر الاقتصاد فقره وخلله)(11).

ص: 646


1- المصدر السابق: ص367.
2- مستدرک الوسائل: ج13 ، ص48، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص49.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص50.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.
10- المصدر السابق.
11- المصدر السابق: ص51.

وقال (عليه السلام): (من المروءة أن تقتصد فلا تسرف، وتعد فلا تخلف)(1).

الكدّ لأجل المعيشة

عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (ما غدوة أحدكم في سبي-ل الله بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم)(2).

وعن الصدوق في الهداية قال روي: (إن الكاد على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله)(3).

وعن فقه الرضا (عليه السلام): (واعلم أن نفقتك على نفسك وعيالك صدقة، والكاد على عياله من حل كالمجاهد في سبيل الله)(4).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر)(5).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله)(6).

وعن ثوبان قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أفضل دينار دينار أنفقه الرجل على عياله، ودينار أنفقه على دابته في سبيل الله، ودينار أنفقه على أصحابه في سبيل الله)(7).

ثم قال: (وأي رجل أعظم أجراً من رجل سعى على عياله صغاراً يعفهم ويغنيهم الله به)(8).

ص: 647


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص52.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص53.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (ومن سعى في نفقة عياله ووالديه فهو كالمجاهد في سبيل الله)(1).

استحباب شراء العقار، وكراهية بيعه

وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: حدثني أبي عن جده (عليه السلام): (إن بائع الضيعة ممحوق، ومشتريها مرزوق)(2).

وعن حذيفة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من باع داراً فلم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له في ثمنها، أو قال لم يبارك له فيها)(3).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قيل: يا رسول الله أي المال خير (إلى أن قال) قيل (فأي المال بعد البقر أفضل؟ قال: الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، نعم المال النخل، من باعها فلم يخلف مكانها، فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف)(4).

كراهية شراء الأشياء الصغيرة للإنسان الرفيع الشأن

عن أبي عبدالله (عليه السلام)، أنه أوصى بعض أصحابه فقال: (لا تكن دواراً في الأسواق، ولا تل شراء دقائق الأشياء بنفسك، فإنه لا ينبغي للمرء المسلم ذي الدين والحسب أن يشتري دقائق الاشياء بنفسه خلا ثلاثة أشياء الغنم والإبل والرقيق)(5).

ونظر علي (عليه السلام) إلى رجل من أصحابه يحمل بقلاً على يده، فقال: (إنه يكره للرجل السري أن يحمل الشيء الدني لئلا يتجرى عليه)(6).

ص: 648


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص54.
6- المصدر السابق.

وعن موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبي عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله عز وجل جواد يحب الجود ومعالي الأمور ويكره سفسافها)(1).

الدنيا والآخرة معاً

عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كان لقمان يقول لابنه: (يا بني إن الدنيا بحر وقد غرق فيها جيل كثير (إلى أن قال): يا بني خذ من الدنيا بلغة ولا تدخل فيها دخولاً تضر فيها بآخرتك ولا ترفضها فتكون عيالاً على الناس)(2) (الخبر).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)(3).

وعن جنادة بن أبي أمية، عن الحسن بن علي (عليه السلام)، أنه قال: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(4) (الخبر).

وعن علي الأحمصي، عمن أخبره، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه كان يقول: (نعم العون الدنيا على الآخرة)(5).

التبكير في طلب الرزق

عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله

ص: 649


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

(صلّى الله عليه وآله) قال: (إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض يبتغي من فضل الله ولا يغم نفسه)(1).

وعن محمد بن هلال قال: قال لي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (إذا كانت لك حاجة فاغد فيها، فإن الأرزاق تقسم قبل طلوع الشمس، وإن الله تبارك وتعالى بارك لهذه الأمة في بكورها، وتصدق بشيء عند البكور، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة)(2).

قال وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها وسبتها وخميسها)(3).

وعن (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى بارك لأمتي في خميسها وسبتها لأجل الجمعة)(4).

حرمة اكتساب المال من غير حلّه

في الخبر: (الحلال لا يأتي إلا قوتاً، والحرام يأتي جرفاً جرفاً).

أقول: (فإن الرأسمالية المحرمة تجمع أموال الناس بالطرق الملتوية).

وعن أبي قلابة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، في حديث: (من كسب مالاً من غير حله أفقره الله تعالى)(5).

وعن الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديث طويل: (طوبى لمن اكتسب من المؤمنين مالاً من غير معصية)(6).

وعن حذيفة بن اليمان رفعه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن قوماً يجيئون يوم

ص: 650


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص55.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

القيامة ولهم من الحسنات أمثال الجبال، فيجعلها الله هباءً منثوراً، ثم يؤمر بهم إلى النار فقال سلمان: صفهم لنا يا رسول الله، فقال: أما أنهم قد كانوا يصومون ويصلون ويأخذون أهبة من الليل، ولكنهم إذا أعرض لهم بشيء من الحرام وثبوا عليه)(1).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (بائع الخبيثات ومشتريها في الإثم سواء)(2).

وعن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أخوف ما أخاف على أمتي هذه المكاسب الحرام والشهوة الخفية والربا)(3).

وعن سماعة قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (ليس بوليّ لي من أكل مال مؤمن حراماً)(4).

وعن عبد الله بن القاسم الجعفري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (تشوفت الدنيا لقوم حلالاً محضاً فلا يريدوها فدرجوا ثم تشوفت لقوم حلالاً وشبهة، فقالوا: لا حاجة لنا في الشبهة وتوسعوا في الحلال، ثم تشوفت لقوم حراماً وشبهة، فقالوا: لا حاجة لنا في الحرام وتوسعوا في الشبهة، ثم تشوفت لقوم حراماً محضاً فيطلبونها فلا يجدونها والمؤمن يأكل الدنيا بمنزلة المضطر)(5).

وعن داود الصرمي قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): (يا داود إن الحرام لا ينمى، وإن نمى لم يبارك له فيه، وما أنفقه لم يؤجر عليه، وما خلفه كان زاده إلى النار)(6).

ص: 651


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص295.
3- المصدر السابق: ص56.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص57.

وعن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان: 23).

قال: (إن كانت أعمالهم لأشد بياضاً من القباطي فيقول الله عز وجل لها: كوني هباءً وذلك أنهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه)(1).

الاحتكار

عن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (الحكرة في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، وما زاد على الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون)(2).

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام ويتربص به هل يصلح ذلك؟ قال: (إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا باس به، وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام)(3).

وعن ابن القداح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)(4).

وعن غياث، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن)(5).

أقول: إذا أضر الناس عدم البيع: حق للحاكم الشرعي الجبر على البيع بدون إجحاف من البائع في السعر، من غير فرق بين الأمور المذكورة في هذه الرواية، وغيرها).

ص: 652


1- المصدر السابق: ص16.
2- المصدر السابق: ص58.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص59.

وعن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أيما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً يريد به غلاء المسلمين ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع)(1).

وعن محمد بن علي بن الحسين قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا يحتكر الطعام، إلا خاطئ)(2).

قال: (ونهى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الحكرة في الأمصار).

وعن ورام بن أبي فراس في كتابه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام) قال: (اطلعت في النار فرأيت وادياً في جهنم يغلي، فقلت: يا مالك لمن هذا؟ فقال: لثلاثة: المحتكرين، والمدمنين الخمر، والقوادين)(3).

وفي نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر قال: (فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل وعاقب في غير إسراف)(4).

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سأل عن الحكرة؟ فقال: (إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فيحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع (يباع) غيره فلا بأس أن تلتمس بساحتك الفضل)(5).

وعن أبي الفضال سالم الحناط قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): ما عملك؟ قلت خياط وربما قدمت على نفاق، وربما قدمت على كساد فحبست، قال: فما يقول من قبلك فيه؟ قلت: يقولون محتكر، فقال: يبيعه أحد غيرك؟ قلت: ما أبيع

ص: 653


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص63.
5- المصدر السابق.

أنا من ألف جزء جزءً، قال: (لا بأس إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر)(1).

وعن حذيفة بن منصور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: نفذ الطعام على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأتاه المسلمون، فقالوا: يا رسول الله قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره ببيعه، قال، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا فلان إن المسلمين ذكروا ان الطعام قد نفد إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه)(2).

وعن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: (مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): لو قومت عليهم، فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى عرف الغضب في وجهه فقال: أنا أقوم عليهم، إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)(3).

وعن محمد بن علي بن الحسين قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو سعرت لنا سعراً فان الاسعار تزيد وتنقص؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما كنت لا لقى الله ببدعة لم يحدث الي فيها شيئاً، فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض، واذا استنصحتم فانصحوا(4).

أقول: الرفع والخفض بسبب العرض والطلب، والظاهر إنه لم يكن هناك ترفيع من صاحب الطعام ولذا لم يسعّره (صلّى الله عليه وآله).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إن الله عز وجل وكل بالسعر ملكاً يدبره بأمره)(5).

ص: 654


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص64.
3- المصدر السابق: ص67.
4- وسائل الشيعة: ج12، ص53، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
5- المصدر السابق.

وعن أبي حمزة الثمالي قال: ذكر عند علي بن الحسين (عليه السلام) غلاء السعر فقال: (وما علي من غلائه؟ إن غلا فهو عليه - أي الله - وإن رخص فهو عليه)(1).

وعن يعقوب بن يزيد، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله وكل بالأسعار ملكاً يدبرها)(2).

وعن حفص بن غياث، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (كان سنين يوسف الغلا الذي أصاب الناس ولم يتمن الغلا لأحد قط قال: فأتاه التجار فقالوا: بعنا، فقال: اشتروا، فقالوا: نأخذ كذا بكذا، فقال: خذوا وأمر فكالوهم فحملوا ومضوا حتى دخلوا المدينة فلقيهم قوم تجار، فقالوا: كيف أخذتم؟ قالوا: كذا بكذا وأضعفوا الثمن، قال: فقدم أولئك على يوسف فقالوا: بعنا؟ قال: اشتروا، قالوا: بعنا كما بعت كذا بكذا، فقال: ما هو كما يقولون، ولكن خذوا فأخذوا ثم مضوا حتى دخلوا المدينة فلقيهم آخرون فقالوا: كيف أخذتم؟ فقالوا: كذا بكذا وأضعفوا الثمن، قال: فعظم الناس ذلك الغلاء وقالوا اذهبوا بنا حتى نشتري، قال: فذهبوا إلى يوسف، فقالوا: بعنا؟ فقال: اشتروا، فقالوا بعنا كما بعت؟ فقال: وكيف بعت؟ فقالوا: كذا بكذا فقال: ما هو كذلك ولكن خذوا، قال: فأخذوا ورجعوا إلى المدينة فأخبروا الناس، فقالوا: تعالوا فيما بينهم حتى نكذب في الرخص كما كذبنا في الغلاء) الحديث. وفيه: انهم فعلوا عكس ما مر.

وعن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (طرق طائفة من بني إسرائيل ليلاً عذاب وأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف: الطبالين، والمغنيين، والمحتكرين للطعام، والصيارفة أكلة الربا منهم)(3).

ص: 655


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص312.

وعن الحسن بن أبي الحسن البصري (إلى أن قال): ثم مشى حتى دخل سوق البصرة فنظر إلى الناس يبيعون ويشترون فبكى (عليه السلام) بكاءاً شديداً، ثم قال: (يا عبيد الدنيا وعمال أهلها إذا كنتم بالنهار تحلفون وبالليل في فرشكم تنامون، وفي خلاف ذلك عن الآخرة تفعلون، فمتى تحرزون الزاد وتفكرون في المعاد؟) فقال له رجل: أنه لا بد لنا من المعاش، فكيف نصنع؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن طلب المعاش لا يشغل عن عمل الآخرة، فإن قلت لابد لنا من الاحتكار لم تكن معذوراً)(1).

فولى الرجل باكياً (الخبر).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (المحتكر آثم وعاص)(2).

وعنه (عليه السلام) قال: (وكل حكرة تضر بالناس وتغلي السعر عليهم فلا خير فيها)(3).

وفي نهج البلاغة في عهده (عليه السلام) للأشتر حين ولاّه مصر: (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات - إلى أن قال - واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منع منه - إلى أن قال -: فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب من غير إسراف)(4).

وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (من حبس طعاماً يتربص به الغلاء أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ منه)(5).

ص: 656


1- المصدر السابق: ص313.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص314.
5- المصدر السابق.

وقال: (من احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله بالجذام والإفلاس)(1).

وعن الآمدي في الغرر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: (المحتكر محروم نعمة)(2).

وقال (عليه السلام): (الاحتكار شيمة الفجار)(3).

وقال: (المحتكر البخيل جامع لمن لا يشكره، وقادم على من لا يعذره)(4).

وعن سلم أبي الفضيل قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني أجلب الطعام إلى الكوفة فأحبسه رجاء أن يرجع إلى ثمنه أو أربح فيه فيقال: أنت محتكر وان الحكرة لا تصلح. قال: فسألني هل في بلادك غير هذا الطعام؟ فقلت: نعم كثير فقال: (لست بمحتكر إن المحتكر أن يشتري طعاماً ليس في المصر غيره)(5).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام)، أنه قال: (إنما الحكرة أن يشتري طعاماً ليس في المصر غيره فيحتكر، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره أو كان كثيراً يجد الناس ما يشترون فلا باس به، وإن لم يوجد فإنه يكره أن يحتكر)(6).

وعن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه كتب إلى رفاعة (إنه عن الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتكر)(7).

ص: 657


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص315.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: 316.
5- المصدر السابق: ص317.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص318.
الربا

عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (درهم ربا عند الله أشد من سبعين زنية كلها بذات محرم)(1).

وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أخبث المكاسب كسب الربا)(2).

وعن سماعة قال: (قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني قد رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره؟ قال: أتدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: (لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف)(3).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (درهم ربا اشد عن-د الله من ثلاثين زنية بذات محرم مثل عمة وخالة)(4).

وعن سعيد بن يسار قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (درهم واحد ربا أعظم من عشرين زنية كلها بذات محرم)(5).

وأقول: الاختلاف باعتبار المرابين واختلاف من يعطي الربا وسبب هذه الشدة فإن الربا يوجب اختلاف الطبقات المنتهي إلى ذهاب الدين والدين كما ذكرناه في (الفقه - الاقتصاد).

وعن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: إني سمعت الله يقول: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276).

ص: 658


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- مستدرک الوسائل: ج13، ص273، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت.
5- المصدر السابق: ص274.

وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟ فقال: (أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر)(1).

وعن هشام بن الحكم، أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)، عن علة تحريم الربا؟ فقال: (إنه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، فحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال والى التجارات من البيع والشراء فيبقى ذلك بينهم في الفرض)(2).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إنما حرم الله الربا كيلا يمتنعوا من صنائع المعروف)(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنما حرم الله عز وجل الربا لئلا يذهب المعروف)(4).

وعن محمد بن سنان: أن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: (وعلة تحريم الربا لما نهى الله عز وجل عنه، ولما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً فبيع الربا وشراؤه وَكس على كل حال على المشتري وعلى البائع، فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتى يؤنس منه رشد فلهذه العلة حرم الله عز وجل الربا وبيع الدرهم بالدرهمين، وعلة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم، وهي كبيرة بعد البيان، وتحريم الله عز وجل لها لم يكن إلا استخفافاً منه بالمحرم الحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر، وعلة تحريم الربا بالنسبة لعلة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس

ص: 659


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص275.
4- المصدر السابق.

في الربح وتركهم القرض والقرض صنائع المعروف، ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال)(1).

وعن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في وصيته لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام، يا علي درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام)(2).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (شر المكاسب كسب الربا)(3).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله)، في حديث قال: (ومن أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل وإن اكتسب منه مالاً لم يقبل الله منه شيئاً من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما كان عنده (منه) قيراط (واحدة) )(4).

وعنه (عليه السلام): (إذا أراد الله بقوم هلاكاً ظهر فيهم الربا)(5).

وعن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (الربا رباءان: ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل وهو قول الله عز وجل: (وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عز وجل عنه وأوعد عليه النار)(6).

أقول: الإمام (عليه السلام) أشار إلى آخر الآية.

وعن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، في قوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) (الروم: 39).

ص: 660


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص276.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

قال: (هو هديتك إلى الرجل تريد منه الثواب أفضل منها فذلك ربا يؤكل)(1).

وعن علي (عليه السلام) قال: (لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الربا خمسة: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه).

وعن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) (النبأ: 18).

فقال: يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه ثم قال: (تحشر عشر أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميزهم الله تعالى من المسلمين، وبدل صورهم فبعضهم على صورة القرد (إلى أن قال): وبعضهم منكسون أرجلهم من فوق ووجوههم من تحت، ثم يسحبون عليها (إلى أن قال (صلّى الله عليه وآله) ): (وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواماً يريد أحدهم أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً يقولون: ربنا متى تقوم الساعة)(3).

أقول: كأنه لأن آكل الربا كلما أراد أن يتخلص من شره سقط فيه، لما جُبل عليه من حب المال.

وعن علي (عليه السلام)، أنه قال: (إن خمسة أشياء تقع بخمسة أشياء ولابد لتلك

ص: 661


1- المصدر السابق: ص277.
2- وسائل الشيعة: ج12، ص423.
3- المصدر السابق.

الخمسة من النار: من أتجر بغير علم فلا بد له من أكل الربا ولا بد لأكل الربا من النار)(1) (الحديث).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن في هلاكها)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (من أكل الربا ملأ الله بطنه ناراً بقدر ما أكل منه، فإن كسب منه مالاً لم يقبل الله شيئاً من عمله ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما دام عنده منه قيراط)(3).

وعنه (صلّى الله عليه وآله)، (أنه رأى ليلة أسري به رجالاً بطونهم كالبيت الضخم وهم على سابلة آل فرعون، فإذا أحسوا بهم قاموا ليعتزلوا عن طريقتهم فمال كل واحد منهم بطنه فيسقط حتى يطأهم آل فرعون مقبلين ومدبرين، فقلت لجبرئيل: من هؤلاء؟ قال: أكلة الربا)(4).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (لا يقبل الله صلاة خمسة نفر: الآبق من سيده، وامرأة لا يرضى عنها زوجها، ومدمن الخمر، والعاق، وآكل الربا)(5).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره)(6).

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276).

قال: قيل للصادق (عليه السلام): قد نرى الرجل يربى وماله يكثر؟ فقال: (يمحق الله دينه وإن كان ماله يكثر)(7).

ص: 662


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص424.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص425.

أقول: (الربا يمحق أخيراً، كما ذكر في علم الاقتصاد ولعله (عليه السلام) أراد ضرره القريب، أو أن السائل ما كان يدرك نتيجة أكل الربا، ولذا ذكر الإمام (عليه السلام) ما يفهم).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه لما قبل الجزية من أهل الذمة لم يقبلها إلا على شروط افترضها عليهم، منها: أن لا يأكلوا الربا، فمن فعل ذلك برئت منه ذمة الله وذمة رسوله(1).

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة: 278).

فإنه كان سبب نزولها أنه لما أنزل الله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) (البقرة: 275).

قام خالد بن الوليد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة: 278 - 279). قال: من أخذ الربا وجب عليه القتل)(2).

أقول: أي مستحلاً.

وعن جامع الأخبار، عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (لعن الله عشراً: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده والمحلل والمحلل له) (الحديث)(3).

نصوص في بيت المال الإسلامي
التسوية في العطاء

الإسلام يساوي بين الناس في قسمة العطاء فإن أموال الدولة (التي هي

ص: 663


1- المصدر السابق: ص426.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

الخمس والزكاة والخراج والجزية) إذا زادت عن الموظفين ومن إليهم، قسمها الوالي بين الناس بالسوية واليك جملة من الروايات في ذلك:

فعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لما ولي علي (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أما أني والله ما أرزئكم من فيئكم هذا درهماً ما قام لي عذق بيثرب، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟

قال: فقام إليه عقيل (كرم الله وجهه) فقال: فتجعلني وأسود في المدينة سواء؟

فقال (عليه السلام): (اجلس ما كان ههنا أحد يتكلم غيرك؟ وما فضلك عليه إلا بسابقة أو تقوى)(1).

وعن أبي مخنف الازدي قال: أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) رهط من الشيعة فقالوا: يا أمير المؤمنين لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف وفضلتهم علينا حتى إذا استوثقت الأمور عدت إلى أفضل ما عودل الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتأمروني - ويحكم - أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام؟ لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجماً، والله لو كانت أموالهم ملكي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟)(2).

أقول: الانحراف يجب أن يقوّم وإن كره أقوام، كما قوم الرسول (صلّى الله عليه وآله) الانحراف إلى الكفر وإن حاربه أقوام، والتقويم هو الذي سبب بقاء الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وتحطّم أبي جهل ومعاوية وأضرابهما.

ص: 664


1- المصدر السابق: ص427.
2- المصدر السابق.

وعن عاصم، عن أبيه قال: أتى علياً (عليه السلام) مال من أصفهان، فقسمه فوجد فيه رغيفاً فكسره سبع كسر ثم جعل كل جزء منه كسرة ثم دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيهم يعطيه أولاً وكانت الكوفة يومئذٍ أسباعاً(1) (أي سبع محلات، أو سبع قبائل).

وعن عاصم، عن أبيه، أنه قال: كنت عند علي فجاءه مال من الجبل فقام وقمنا معه واجتمع الناس إليه فأخذ حبالاً وصلها بيده وعقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المتاع، ثم قال: لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل قال: فقعدنا من وراء الحبل ودخل علي (عليه السلام) فقال: أين رؤوس الأسباع؟ فدخلوا عليه فجعلوا يحملون هذا الجوالق إلى هذا الجوالق وهذا إلى هذا حتى قسموه سبعة أجزاء، قال: فوجد مع المتاع رغيفاً فكسره سبع كسر ثم وضع على كل جزء كسرة، ثم قال:

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه

قال: ثم أقرع عليها فجعل كل رجل يدعو قومه فيحملون الجوالق(2).

وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أنه أمر عمار بن ياسر وعبيد الله بن أبي رافع وأبا الهيثم بن التيهان أن يقسموا مالاً من الفيء بين المسلمين وقال: (اعدلوا بينهم ولا تفضلوا أحداً على أحد) فحسبوا فوجدوا الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير فأتوا الناس، فأقبل عليهم طلحة والزبير ومع كل واحد ابنه، فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير، فقال طلحة والزبير: ليس هكذا كان يعطينا عمر فهذا منكم، أو عن أمر صاحبكم؟ قالوا: هكذا أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام). فمضيا إليه (عليه السلام) فوجداه في بعض أحواله قائماً في الشمس على أجير له يعمل بين يديه، فقالا له: ترى أن ترتفع معنا إلى الظل؟ قال: نعم.

فقالا له: إنا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفيء فأعطونا كما أعطى سائر الناس.

ص: 665


1- المصدر السابق: ص429.
2- المصدر السابق.

قال: فما تريدان؟

قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.

قال (عليه السلام): فما كان يعطيكما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ فسكتا.

فقال (عليه السلام): أليس كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يقسم بين المسلمين بالسوية؟

قالا: نعم.

قال: فسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أولى بالاتباع عندكما أم سنة عمر؟

قالا: سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكن لنا يا أمير المؤمنين سابقة وعناء وقرابة، فإن رأيت أن لا تسوينا بالناس فافعل.

قال: سابقتكما أسبق أم سابقتي؟

قالا: سابقتك.

قال: فقرابتكما أقرب أم قرابتي؟

قالا: قرابتك.

قال: فعناؤكما أعظم أم عنائي؟

قالا: بل أنت يا أمير المؤمنين اعظم عناءً.

قال: فوالله ما أنا وأجيري هذا في المال إلا بمنزلة واحدة، وأومأ بيده إلى الأجير الذي بين يديه..(1).

أقول: إن ذلك الانحراف في العطاء أوجب تفرقة المسلمين، وإلا فلو عمل كما كان يفعل الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكان الإسلام اليوم يسود العالم ولم يكن في العالم - اليوم - ألف مليون جائع.

وفي خبر آخر أنه قام سهل بن حنيف فأخذ بيد عبده فقال: يا أمير المؤمنين قد أعتقت هذا الغلام فأعطاه ثلاثة دنانير مثل ما أعطى سهل بن حنيف.

ص: 666


1- مستدرک الوسائل: ج13، ص330.

وفي خبر: أنه كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) في أول خلافته إلى حذيفة بن اليمان بالمدائن، وفيه: (وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة، ولا تتجاوز ما تقدمت به إليك، ولا تدع منه شيئاً، ولا تبتدع فيه أمراً ثم اقسمه بين أهله بالسوية والعدل)(1).

أقول إن كل ولاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) كانوا يقسمون المال في بلادهم فإذا زاد عن احتياج البلد أرسلوه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام).

وعن ذازان قال: انطلقت مع قنبر إلى علي (عليه السلام) فقال: قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئة.

قال: مما هو؟

قال: قم معي.

فقام؛ فانطلق إلى بيته، فإذا بأسنة مملوءة جامات من ذهب وفضة فقال: أمير المؤمنين إنك لا تترك شيئاً إلا قسمته فادخرت هذا لك.

قال علي (عليه السلام): (لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً) فسل سيفه فضربه فانتشرت من بين إناء مقطوع نصفه أو ثلثه، ثم قال: قسموه بالحصص، ففعلوا فجعل يقول:

هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه(2)

وفي رواية في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه لما ترك التفضيل لنفسه وولده على أحد من الإسلام دخلت عليه أم هاني بنت أبي طالب، فدفع إليها عشرين درهماً، فسألت أم هاني مولاتها العجمية، فقالت: كم دفع إليك أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت: عشرين درهماً، فانصرفت مسخطة، فقال لها: (انصرفي رحمك الله ما وجدنا في كتاب الله فضلاً لإسماعيل على إسحاق)(3).

ص: 667


1- المصدر السابق: ص331.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص332.

وبعث إليه (عليه السلام) من غوص البحرين، عقد من غوص من لا ندري ما قيمته، فقالت له ابنته أم كلثوم: أتجمّل به ويكون في عنقي فقال: (يا أبا رافع أدخله في بيت المال، ليس إلى ذلك سبيل حتى لا تبقى امرأة من المسلمين إلا ولها مثل مالك)(1).

وأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) سهل بن حنيف بمولى له اسود فقال: كم يؤتى هذا؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): كم أخذت فقال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس، فقال: فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير(2).

وعن حفص بن غياث قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وقد سألت عن (قسم) من بيت المال - فقال: (أهل الإسلام هم أبناء الإسلام، أسوّي بينهم في العطاء، وفضائلهم بينهم وبين الله أجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص).

قال: وهذا فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(3).

وعن أبي إسحاق الهمداني: إن امرأتين أتتا علياً (عليه السلام) عند القسمة، إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال (عليه السلام): (والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً عن بني إسحاق)(4).

وعن ربيعة وعمارة إن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية.

ص: 668


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص333.

فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان ما لهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هو أموالهم؟..)(1).

تعجيل القسمة

عن هلال بن مسلم، عن جده قال: شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) أتى بمال عند المساء، فقال: (اقسموا هذا المال).

فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخره إلى غد.

فقال لهم: (تتقبلون أني أعيش إلى غد)؟

قالوا: وماذا بأيدينا!

قال: (فلا تؤخروه حتى تقسموه).

قال: فأتى بشمع فقسموا ذلك المال من غنائمهم(2).

وعن مجمع: أن علياً (عليه السلام) كان يكنس بيت المال كل يوم جمعة، ثم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه ركعتين ثم يقول: (تشهدان لي يوم القيامة)(3).

وعن علي (عليه السلام) قال: (كان خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يحبس شيئاً لغد، وكان أبو بكر يفعل، وقد رأى عمر في ذلك أن دوّن الدواوين وأخر المال من سنة إلى سنة، وأما أنا فأصنع كما صنع خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: وكان علي يعطيهم من الجمعة إلى الجمعة وكان يقول:

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه(4)

أقول: الظاهر أن هذا التأخير كان عند قلة المال، أما إذا كان يمكن تقسيمه في نفس الوقت فكان (عليه السلام) يقسمه.

ص: 669


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص334.
4- المصدر السابق: 336.

وعن مجمع التيمي: أن علي (عليه السلام) كان ينضح بيت المال ثم يتنقل فيه ويقول: (اشهد لي يوم القيامة إني لم أحبس فيك المال على المسلمين)(1).

وعن بكر بن عيسى قال: كان علي (عليه السلام) يقول: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن).

وكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة من ينبع، وكان يطعم الناس الخل واللحم ويأكل من الثريد بالزيت ويجللها بالتمر من العجوة وكان ذلك طعامه وزعموا أنه كان يقسم ما في بيت المال فلا يأتي الجمعة، وفي بيت المال شيء، ويأمر ببيت المال في كل عشية خميس فينضح بالماء ثم يصلي فيه ركعتين)(2).

وروى القمي في تفسيره في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة: 84).

أنه لما أمر عثمان بنفي أبي ذر (رحمه الله) إلى الربذة دخل عليه أبو ذر وكان عليلاً متوكأ على عصاه وبين يدي عثمان مئة ألف درهم قد حملت إليه من بعض النواحي وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال؟

فقال عثمان: مائة ألف درهم حملت إليّ من بعض النواحي أريد أن أضم إليها مثلها، ثم أرى فيها رأيي.

فقال أبو ذر: يا عثمان أيهما أكثر مائة ألف درهم أو أربعة دنانير؟

فقال عثمان: بل مائة ألف درهم.

فقال أبو ذر: أما تذكر أنا وأنت دخلنا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عشاءً فرأيناه كئيباً حزيناً فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام (أي رداً ببشر)، فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشراً فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا، دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيباً

ص: 670


1- وسائل الشيعة: ج11، ص80.
2- المصدر السابق.

حزيناً وعدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكاً مستبشراً؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): نعم كان عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتها وخفت أن يدركني الموت وهي عندي وقد قسمتها اليوم فاسترحت..)(1) الخبر.

وعن هارون بن مسلم البجلي، عن أبيه قال: أعطى علي (عليه السلام) الناس في عام واحد ثلاثة أعطية، ثم قدم عليه خراج أصفهان فقال: (أيها الناس اغدوا فخذوا، فوالله ما أنا لكم بخازن) ثم أمر ببيت المال فكنس ونضح وصلى فيه ركعتين، ثم قال: (يا دنيا غري غيري) ثم خرج فإذا هو بحبال على باب المسجد، فقال: ما هذه الحبال؟ فقيل جيء بها من أرض كسرى فقال: (اقسموها بين المسلمين)(2).

أقول: (ثلاثة أعطية) أي عامة للكل أما العطايا الأخر فكانت لأجل الجهاد ونحوه.

كيفية تقسيم الغنائم

عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) السرية يبعثها الإمام فيصيبون بها غنائم كيف تقسم؟ قال: (إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين، كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب(3).

أقول: وذلك لأن الحرب يلزم أن تكون بأمر الإمام - كما قرر في الفقه -.

وعن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: (يؤخذ الخمس من الغنائم فيجعل لمن جعله الله له ويقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه وولى ذلك) قال: (وللإمام صفو المال أن يأخذ الجارية الفارهة والدابة الفارهة والثوب والمتاع مما

ص: 671


1- المصدر السابق: ص88.
2- المصدر السابق.
3- مستدرک الوسائل: ج11، ص90.

يحب أو يشتهي فذلك له قبل قسمة المال وقبل إخراج الخمس) قال: (وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر، وليس للأعراب من الغنيمة شيء، وإن قاتلوا مع الإمام،لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صالح الأعراب أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على أنه إن دهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من عدوه دهم أن يستفزهم فيقاتل بهم وليس لهم في الغنيمة نصيب، وسنته جارية فيهم وفي غيرهم، والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقاتهم من الحق الخراج النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحاً ولا يضرهم (إلى أن قال): ويؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض واكرتها فيدفع إليهم أنصبائهم على ما صالحهم عليه ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما يبنونه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد، وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير)(1).

أقول: (الصفايا) للإمام حيث إنه يهدي الناس إلى ما فيه تقوية الإسلام وصلاح حال المسلمين، ولذا لا تقسم الصفايا بين المقاتلين.

وعن عبد الكريم بن عتبة، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، في حديث طويل أنه (عليه السلام) قال لعمرو بن عبيد: أرأيت إن هم أبو الجزية فقاتلهم فظهرت عليهم وكيف تصنع بالغنيمة؟

قال: أخرج الخمس وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه (إلى أن قال (عليه السلام) ): أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟

قال: نعم.

قال (عليه السلام): (فقد خالفت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة

ص: 672


1- المصدر السابق: ص92.

ومشيختهم وأسألهم فإنهم لا يختلفون أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على أنه إن دهمهم من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم، وليس لهم في القسمة نصيب، وأنت تقول بين جميعهم فقد خالفت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كل ما قلت في سيرته في المشركين)(1).

أقول: إنما لزمت الهجرة لتقوية الدين بكثرة الجماعة ولتعلمهم معالم الإسلام، فإذا لم يهاجروا حرموا من الغنيمة مع وجوب الجهاد عليهم.

وعن ابن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (من الغنيمة يخرج منها الخمس ويقسم ما بقي بين من قاتل عليه وولى ذلك، وأما الفيء والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)(2).

أقول: الفيء ما انجلى عنها أهلها بغير حرب، والأنفال رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام ونحوها.

وعن أبي عبدالله (عليه السلام)، أنه قال: (الغنيمة تقسّم على خمسة أخماس فتقسم إلى أربعة أخماس على من قاتل عليها، والخمس لنا أهل البيت في اليتيم منا والمسكين وابن السبيل وليس فينا مسكين ولا ابن السبيل اليوم بنعمة الله فالخمس لنا موفراً ونحن شركاء الناس فيما حضرناه في الأربعة أخماس)(3).

أقول: ذلك لمكان القيادة المحتاجة إلى أموال كثيرة لإدارة الشؤون.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (ليس للعبيد من الغنيمة شيء، وإن حضر وقاتل عليها فرأى الإمام أو من أقامه الإمام أن يعطيه على بلائه إن كان منه أعطاه من المتاع ما يراه)(4).

أقول: وذلك لأن مصارف العبيد على مواليهم.

ص: 673


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص93.
3- المصدر السابق: ص94.
4- المصدر السابق.

وعنه (عليه السلام)، أنه قال: (من مات في دار الحرب من المسلمين قبل أن يحرز الغنيمة فلا سهم له فيها، ومن مات بعد أن أحرزت فسهمه ميراث لورثته)(1).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قسم في النفل للفارس سهمين وللراجل سهماً.

وبعث أسامة بن زيد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن إبعث إلي بعطائي، فوالله لتعلم أنك إن كنت في فم الأسد لدخلت معك، فكتب إليه: (إن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن هذا مالي بالمدينة فأصب منه ما شئت)(2).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الأعراب عليهم جهاد؟ قال: (لا.. إلا أن يخاف على الإسلام فيستعان بهم)(3).

قلت: فلهم من الجزية شيء؟

قال: لا).

عن سماعة، عن أحدهما (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج بالنساء في الحرب يداوين الجرحى ولم يقسم لهن من الفيء شيئاً ولكنه نفلهن)(4).

أقول: أي أعطاهن نافلة من الغنيمة.

وعن جميل بن دراج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إنما تضرب السهام على ما حوى العسكر)(5).

وعن مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه: أن علياً (عليه السلام) قال: (إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء الله عليهم)(6).

ص: 674


1- وسائل الشيعة: ج11، ص81.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص82.
4- المصدر السابق: ص83.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

وعن أبي البختري، عن جعفر عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: (إذا ولد المولود في أرض الحرب أسهم له)(1).

وعن المنهال بن عمرو، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قلت له: قوله تعالى: (ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الحشر: 7).

قال: (هم أقرباؤنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا)(2).

أقول: إن الله سبحانه جعل الخمس للسادة والزكاة لمن عداهم، لأجل أن تكون للرسول (صلّى الله عليه وآله) شؤون خاصة، في أقربائه، كما له شؤون خاصة أخر، لأجل تذكير المسلمين دائماً به (صلّى الله عليه وآله).

خامساً: العلاقات الأخوية

نحو كسب الأصدقاء

هناك روايات كثيرة من شأنها أن تعزز العلاقات بين الإخوان والأصدقاء نذكر جملة منها:

عن محمد بن يزيد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (من استفاد أخاً في الله استفاد بيتاً في الجنة)(3).

وروى الصدوق - قدس سره - عن أبيه قال: قال لقمان لابنه: (يا بني اتخذ ألف صديق، وألف قليل، ولا تتخذ عدواً واحداً، والواحد كثير)(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (عليك بإخوان الصفا، فهم عماد إذا استنجدتم وظهور، وليس كثيراً ألف خليل وصاحب، وإن عدواً واحداً لكثير)(5).

ص: 675


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- تفسير القمي: ج1، ص52.
4- وسائل الظيعة: ج11، ص84.
5- المصدر السابق.

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لا يدخل الجنة رجل ليس له فرط، قيل: يا رسول الله ولكل فرط؟ قال: نعم إن من فرط الرجل أخاه في الله)(1).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فحوائج يقومون بها، وأما الآخرة فإن أهل جهنم قالوا: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) (الشعراء: 100 - 101)(2).

وفي رواية أخرى عن الصادق (عليه السلام) قال: (استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن دعوة مستجابة).

وقال: (استكثروا من الاخوان فإن لكل مؤمن شفاعة).

وقال: (أكثروا من مؤاخاة المؤمنين فإن لهم عند الله يداً يكافئهم بها يوم القيامة)(3).

وعن علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم)(4).

وعن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (المؤمن عز كريم والمنافق خب لئيم، وخير المؤمنين من كان مألفه للمؤمنين، ولا خير فيمن كان لا يألف ولا يؤلف).

قال: وسمعت رسول الله يقول: (شر الناس من يبغض المؤمنين، وتبغضه قلوبهم، المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة البادون للناس العيب، أولئك لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة - ثم تلا هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال: 62 - 63)(5).

ص: 676


1- المصدر السابق: ص85.
2- المصدر السابق: ص86.
3- المصدر السابق: ج6، ص316.
4- مستدرک الوسائل: ج11، ص96.
5- المصدر السابق: ص97.

وفي رواية عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من استفاد أخاً لله تعالى زوجه الله حوراء، فقالوا: يا رسول الله وإن آخى أحدنا في اليوم سبعين أخاً؟

قال: أي والذي نفسي بيده، لو آخى ألفاً لزوجه الله تعالى ألفاً)(1).

وعن داود بن سليمان، عن الرضا (عليه السلام) قال: (من استفاد أخاً فقد استفاد بيتاً في الجنة).

وفي الاختصاص عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (ومن جدد أخاً في الإسلام بنى الله له برجاً في الجنة من جوهرة)(2).

وروى العلامة الكراجكي في كنزه أنه نشد لأمير المؤمنين (عليه السلام) :

وليس كثيراً ألف خل وصاحب وإن عدواً واحداً لكثير

وفي لب اللباب، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (ما أحدث عبد أخاً في الله إلا أحدث الله له درجة في الجنة).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة بهذا الصدد.

وعليه من الضروري على الأحزاب الإسلامية - المرجعية التي هي بصدد إقامة حكم الله سبحانه وتعالى، أن تفيد الأخوان في الله سبحانه وتعالى، وأن تتجنب المشاكسات والمهاترات وما أشبه مما يسبب تفرق الناس عنهم وينتهي أخيراً إلى أن يبقوا بلا أصدقاء أو مع قليل الأصدقاء أو مع كثرة الأعداء ولا يصلوا إلى الهدف، فإن الهدف فوق كل شيء وكل شيء في طريق الهدف فهو طريقي.

وننهي هذا الفصل بذكر كلام لعلي (عليه السلام) مما يجب أن تتخذه الأحزاب والتجمعات الإسلامية التي تريد الوصول إلى الهدف درساً وعبرة وأسوة.

ص: 677


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

قال (عليه السلام): (فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين؟ وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدّم والسلام).

ص: 678

الفصل السادس: الصياغة الجديدة في مسارات وآفاق المستقبل

اشارة

حقق الإسلام تقدماً حضارياً بخطوات بعيدة في باكورة ظهوره، فأخذه بزمام العالم، وهذا لم يتم في فراغ، إنما كانت هنالك دعائم يستند اليها، أقام على أساسها بناءه الحضاري، منها خمسة أسس، لها أسلوب خاص في الدستور والنظام الإسلامي وهي:

الأول: الدولة.

الثاني: الأمة.

الثالث: الأخوة.

الرابع: الشريعة.

الخامس: الحرية.

هنا نسلط الضوء على كيفية تحقيق هذه الأسس في الإسلام، لنرى أنها إذا أُحييت كما قرره الإسلام، فانه يستعيد زمام المبادرة في العالم، ومن ثم يستأنف مسيرة التقدم السريع، ويحقق الصياغة الجديدة لعالم مليء بالمشاكل والأزمات.

ص: 679

البناء النموذجي الحضاري وأسسه

أولاً. الأساس الأول: الدولة الإسلامية
اشارة

والدولة في الإسلام مبنية على أمور:

1 - العدل والإحسان
اشارة

تجري قيمة القيمة، ليس فقط لأبناء الأمة، أو من هم غير مسلمين، بل حتى مع الأعداء، وحتى في الأمور الطفيفة.

قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) (البقرة: 282).

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (المائدة: 8 - 10).

هذه الآيات المباركة تأمر بالعدل حتى مع الأعداء، وتبين أن الذي يعدل في كل حال هو الذي يعمل الصالحات، أما إذا لم يعدل فهو في عداد الذين كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى.

وفي آية ثالثة: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى: 14 - 15).

إلى غيرها من الآيات المباركة.

ص: 680

نصوص كريمة:

كما أنه ورد في الروايات طائفة كبيرة تدل على وجوب العدل:

فعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون)(1).

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل)(2).

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وأطيب ريحاً من المسك)(3).

أقول: لأن العدل يصيب الروح، وهذه الأمور ماديات ومن الواضح أن ما يصيب الروح من الراحة مما يناله الجسد من الشهوات.

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ثلاث هم أقرب إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يديه، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر شعيرة، ورجل قال الحق فيما له وعليه)(4).

وعن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) قال: (استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة)(5).

وعن الصادق (عليه السلام)، أنه سأل عن صفة العدل من الرجل؟ فقال: (إذا غض طرفه من المحارم، ولسانه عن المآثم، وكفه عن المظالم)(6).

ص: 681


1- وسائل الشيعة: ج11، ص233.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص234.
5- مستدرک الوسائل: ج11، ص317.
6- المصدر السابق.

وروي أبو البركات، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها)(1).

(العدل ميزان الله في الأرض، فمن أخذه قاده إلى الجنة، ومن تركه ساقه إلى النار)(2).

وروى سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن أشد الناس ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له فأطاع الله فدخل الجنة، وأدخل الداعي النار بترك عمله واتباع هواه بعصيانه لله)(3).

إرشادات إسلامية حول العدل والظلم
العدل ومعطياته:

عن أبي إسحاق الجرجاني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن الله جعل لمن جعل له سلطاناً أجلاً ومدة من ليال وأيام وسنين وشهور، فإن عدلوا في الناس أمر الله صاحب الفلك أن يبطئ بإدارته فطالت أيامهم ولياليهم وسنينهم وشهورهم، وإن جاروا في الناس فلم يعدلوا أمر الله صاحب الفلك فأسرع بإدارته فقصر لياليهم وأيامهم وسنينهم وشهورهم، وقد وفى الله عز وجل بعدد الليالي والشهور)(4).

لا يجوز لمن وصف عدلاً أن يخالفه إلى غيره:

عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره)(5).

ص: 682


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص318.
3- المصدر السابق: ص322.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص233.
5- المصدر السابق: ص234.

وعن قتيبة الأعشى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً وعمل بغيره)(1).

وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: في قول الله عز وجل: (فكبكبوا فيها هم والغاوون) فقال (يا أبا بصير قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره)(2).

الظلم في الدنيا ظلمات في يوم القيامة:

عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله)(3).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة)(4).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما من أحد يظلم مظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه وماله، فأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر له)(5).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة - ومما ذكر أن أباه أوصاه به قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله)(6).

وعن حفص بن عمّار، قال: قال أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من خاف القصاص كفّ عن ظلم الناس)(7).

ص: 683


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص235.
3- المصدر السابق: ص338.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق: ص339.
7- المصدر السابق.

وعن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظلماً ولأحد عنده مثل تلك المظلمة)(1).

وعن زيد بن علي بن الحسين، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم)(2).

وعن محمد بن عبد الله الأرقط، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: (من ارتكب أحداً بظلم بعث الله من ظلمه مثله أو على ولده أو على عقبه من بعده)(3).

أقول: الظلمة نواة تعطي الظلم فيقتطف الثمر إما نفس الشخص أو عقبه.

وعن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أعظم الخطايا اقتطاع مال امرئ مسلم بغير حق)(4).

وجوب رد المظالم إلى أهلها:

عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد)(5).

وعن شيخ من النخع قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني لم أزل والياً من الحجاج إلى يومي هذا، فهل لي من توبة؟ قال فسكت، ثم أعدت عليه، فقال: (لا، حتى تؤدي إلى كل ذي حقٍ حقه)(6).

ص: 684


1- المصدر السابق: ص340.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق: ص341.
5- المصدر السابق: ص342.
6- المصدر السابق.

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من أكل من مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة)(1).

وعن أبي عبيدة الحذّا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقّه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتى يرد المال الذي أخذه إلى صاحبه)(2).

الظالم والمعين له والراضي بالظلم: شركاء!

عن طلحة بن زيد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم)(3).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته)(4).

وعن أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: (يا عليّ شر الناس من باع آخرته بدنياه، وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره)(5).

وعن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً من معونته)(6).

وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (للظالم من الرجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية ومن دونه بالغلبة، ويظاهر للقوم الظلمة)(7).

ص: 685


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: ص343.
3- المصدر السابق: ص344.
4- المصدر السابق: ص345.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص346.

تحريم طلب الرئاسة مع عدم الوثوق بالعدل:

عن معمر ابن خلاّده عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه ذكر رجلاً فقال: إنه يحب الرياسة، فقال: (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأرض من دين المسلم من الرياسة)(1).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من طلب الرياسة هلك)(2).

وعن عبد الله بن مسكان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف الرجل إلا هلك وأهلك)(3).

وعن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: (يا جويرية إنه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم)(4).

وعن أبي الربيع الشامي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لي: (يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة ولا تكن ذنباً، ولا تأكل الناس بنا فيفقرك الله)(5).

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (أترى لا أعرف خياركم من شراركم؟ بلى والله إن أشراركم من أحب أن يوطأ عقبه أنه لا بد من كذّاب أو عاجز الرأي)(6).

وعن قاسم بن عون، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث انه قال له: (إياك أن تترأس فيضعك الله وإياك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقرا واعلم إنك ان تكن ذنباً في الخير خير لك من أن تكون رأسا في الشر)(7).

ص: 686


1- المصدر السابق: 279.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص280.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص218.

وعن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث المناهي قال: (ألا ومن تولى عرافة قوم أتى يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله وإن كان ظالماً هوى به في نار جهنم وبئس المصير)(1).

2 - قلة الضرائب

إن الضرائب في الإسلام عبارة عن: (الخمس) و(الزكاة) و(الجزية) و(الخراج)، كما ذكرنا تفصيله في فصل سابق، وذكرنا أنه بسبب قلة الضرائب كان حكم المسلمين أحب إلى أهل البلاد وإن كانوا كفاراً من حكم بني دينهم عليهم، لإن الجزية التي تؤخذ من الكفار، شيء قليل جداً.

ففي رواية زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، وفهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجاوز إلى غيره؟ قال فقال: (لا، ذاك إلى أن يجوز إلى غيره؟ فقال (عليه السلام): (الإمام، يأخذ منهم من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق، إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم بها، حتى إذا يسلموا) الحديث(2).

وقال ابن مسلم، قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أرأيت ما يأخذ هؤلاء من هذا الخمس من أرض الجزية ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شيء موظف؟ فقال: (كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء).

فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: (إنما هذا شيء كان صالحهم عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله))(3).

ص: 687


1- المصدر السابق: ص282.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص122.
3- وسائل الشيعة: ج11، ص114.

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية؟ قال: (لا)(1).

وعن مصعب بن يزيد الأنصاري قال: استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أربعة رساتيق: المدائن البهقياذات، ونهر سير، ونهر جوير، ونهر الملك، وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهماً ونصفاً، وعلى كل جريب وسط درهماً، وعلى كل جريب زرع رقيق ثلثي درهم، وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم، وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم، وعلى كل جريب البساتين التي تجمع النخل والشجر عشرة دراهم، وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق وابناء السبيل، ولا آخذ منه شيئاً، وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم التجار منهم على كل رجل منهم أربع وعشرين درهماً، وعلى سفلتهم وفقرائهم اثني عشر درهماً على كل إنسان منهم، قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة(2).

فانظروا إلى هذه الجزية القليلة جداً والتي لا تتعدى ثمانية وأربعين درهماً كل عام على كبار التجار والأشراف وأصحاب الأرياف، وثمانية وأربعين درهم تقارب أربعة وعشرين مثقالاً من الفضة، ومثقال الفضة كان رخيصاً جداً، فقبل أربعين سنة كان مثقال الفضة يعادل أربعة فلوس(3)، فتكون الضريبة أقل من مائة فلس على كل إنسان ثري في كل سنة، وإذا علمنا أن كل فلس آنذاك كان ثمن ربع كيلو خبزاً، تتضح قلة الجزية أكثر.

وفي رواية المفيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه جعل على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، وجعل على

ص: 688


1- المصدر السابق: ص115.
2- المصدر السابق.
3- - يشير سماحة الإمام الراحل الى فترة الخمسينات من القرن الماضي.

فقرائهم اثني عشر درهماً، وكذلك صنع عمر بن الخطاب قبله وإنما صنعه بمشورته (صلّى الله عليه وآله)(1).

وعن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقة لأهلها الذي سمى الله في كتابه فليس لهم من الجزية شيء).

ثم قال: (ما أوسع العدل).

ثم قال: (إن الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله)(2).

أقول: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما وضع الجزية على الرأس وعلى الأرض، لأن الأرض كانت مفتوحة عنوة، وأيضاً الأرض، فيؤخذ منها الخراج سواء من المسلم أو من الكافر لأنها أراضي المسلمين كما ذكر في الروايات وذكرها الفقهاء في كتب مفصلة.

تسهيلات:

ثم إن الجزية لا تؤخذ من جماعة منهم، كما أنه يسمح لهم بإعطاء الجزية حتى من ثمن الخمر والخنزير - وإن كانا محرمين في الشريعة الإسلامية ويحرم التعامل بهما - وذلك للتوسعة عليهم وإلزامهم بما التزموا به.

وقد روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (الجزية على أحرار أهل الذمة الرجال البالغين، وليس على العبيد ولا على النساء ولا على الأطفال جزية، يؤخذ من الدهاقين وأمثالهم من أهل السعة والمال على كل رجل منهم ثماني وأربعون درهماً كل عام، ومن أهل الطبقة الوسطى أربع وعشرون درهماً، ومن أهل الطبقة السفلى اثني عشر درهماً وعليهم مع ذلك الخراج لمن كانت له الأرض منهم من

ص: 689


1- المصدر السابق: ص116.
2- المصدر السابق.

كبير أو صغير أو رجل أو امرأة فالخراج على الأرض، ومن أسلم منهم وضعت عنه الجزية ولم يوضع عنه الخراج لأن الخراج من الأرض)(1).

وقال (عليه السلام): (إنه رخص في أخذ العروض مكان الجزية بقيمة ذلك)(2).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (ومن استعين به من أهل الذمة على حرب المشركين طرحت عنه الجزية)(3).

وعن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (من وضع عن ذمي جزية أوجبها الله عليه أو يشفع له في وضعها عنه فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين)(4).

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يؤكل المعاهد كما يؤكل الخضر)(5).

أقول: في هاتين الروايتين منع عن الإفراط والتفريط، بوضع الجزية أو أخذ الجزية زائداً وقد سمى النبي (صلّى الله عليه وآله) ذلك أكلاً للمعاهد.

وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنه نهى عن التعدي على المعاهدين.

وعن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في حديث: (لا جزية على النساء)(6).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الجزية عطاء المجاهدين والصدقة لأهلها الذين سماهم الله في كتابه ليس من الجزية)(7).

ص: 690


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص121.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص122.
6- المصدر السابق: ص123.
7- المصدر السابق.

وعن أبي عبدالله (عليه السلام): (أنه رخص في أخذ الجزية من ثمن الخمر والخنازير لأن أموالهم أكثرها من الحرام والربا)(1).

وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صدقات أهل الذمة وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم؟ قال: (عليهم الجزية في أموالهم تؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو الخمر فكلما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم وثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم)(2).

إلى غيرها من الروايات.

الرفق في الجباية:

ثم إن أخذ الجزية منهم ليس بالعنف، فقد قال رجل من ثقيف - وكان من عمال أمير المؤمنين (عليه السلام) -: إستعملني علي بن أبي طالب (عليه السلام) على بانقياً وسواد من سواد الكوفة، ثم فقال لي والناس حضور: انظر خراجك فجد (وجد) فيه، ولا تترك منه درهما، فاذا (أردت أن تتوجه إلى عملك فمرّ بي)، قال: فأتيته فقال لي: (إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو)(3).

وفي ختام هذا الفصل نذكر هذه الرواية حول الضرائب والمكوس: (قال نوف: بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلي الليل كله ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن قال: فمر بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟! قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم (عليهما السلام)، إن الله عز وجل

ص: 691


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة: ج11، ص118.
3- المصدر السابق: ج6، ص90.

أوحى إلى عيسى بن مريم قل للملأ من بني إسرائيل لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة وأكف نقية، وقل لهم: اعلموا إني غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قبله مظلمة ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج السيد المسيح يا نوف إن داود (عليه السلام) قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد ربه إلا استجيب له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً أو شرطياً أو صاحب عرطبة - وهي الطنبور - أو صاحب كوبة - وهي الطبل - )(1).

3 - تسهيل الأعمال

ويكون ذلك بتقليل عدد الموظفين الحكوميين، وبإلغاء الحاجب.

أما قلة الموظفين فقد ذكرنا في بعض كتبنا السياسية، إن الموظفين في الدولة الإسلامية قليلون جداً، لأنهم مشرفون فقط، وإنما الأعمال بيد الناس، ويعني ذلك أنه إذا قامت الدولة الإسلامية في الزمن الحاضر، كانت القطارات والمطارات والمعامل والمستشفيات والمدارس والشوارع وغيرها كلها بأيدي الناس، والدولة تقوم بدور الإشراف والمراقبة على أن لا يجحف بعضهم بعضاً، وبذلك تبعد الدولة عن نفسها مشاكل كثيرة وتتمكن من القيام بما ألقي عليها من الواجبات خير قيام.

وأما أنه لا حاجب فكلنا نعلم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد استولى على سبع دول في خريطة عالم اليوم، ولم يكن له حاجب، وكان كل المسلمين يتمكنون من اللقاء به في أي وقت، بل كان بعضهم يُسيء الأدب ويتكلم معه من وراء الحجرات، ويصيح: (يا محمد اخرج إلينا...)! حتى نزلت الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 4 - 5).

ص: 692


1- المصدر السابق: ج12، ص235.

كذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، لم يتخذ حاجباً، وكان رئيس أكبر دولة في زمانه.

وقد ورد في جملة من الروايات النهي عن اتخاذ الحاكم حاجباً.

مثل ما كتبه أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى عامله على مكة قثم بن العباس قال: (ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها)(1).

وفي رواية عن زيد الشحام قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: (من تولى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)(2).

ومفهوم هذه الرواية أنه إن لم يفعل ذلك، شمله الفزع والرعب الإلهي ، ولا يدخله الله الجنة، ومن الواضح أن التهديد بمثل ذلك، معناه الحرمة.

البساطة الشاملة:

هذا بالإضافة إلى بساطة الخليفة والوالي والقاضي وسائر موظفي الدولة في كل شؤونهم من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، كما ذكرنا جملة من الأدلة على ذلك في بعض كتبنا السياسية، وألمعنا إليها هنا، في أحوال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحوال علي (عليه السلام).

4 - الشورى

تقوم الدولة في الإسلام على مبدأ الشورى في كل شؤونها، لذا من الضروري تحكيم الشورى في الدولة الإسلامية وفي العالم أجمع، فيجب أن تكون كل الأمور، من القرية إلى العاصمة ومروراً بالمعمل والمصنع والمطار واتحاد الطلبة والمدارس والجامعات وغيرها، مبنية على الشورى، فإنها تظهر

ص: 693


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص235.
2- وسائل الشيعة: ج12، ص140.

الكفاءات، وتقدم الضوابط وتزيل الروابط، وتكافح الرشاوي والمحسوبية والمنسوبية، وما أشبه، بينما الدكتاتورية تنتج العكس ، فالشورى تنتهي بالمجتمع إلى القمة، والدكتاتورية تنزل به إلى الحضيض.

وفي الحديث: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان أكثر الناس استشارة.

وكما تقدم أن الإمام علي (عليه السلام)، جعل من حق الأمة عليه أن يستشيرهم.

وفي أحاديث كثيرة إن من وظيفة المسلم (النصيحة)، ويراد بها إعطاء المشورة والنصح لإمام المسلمين، كما أن من وظيفته النصح لغيره أيضاً. ففي رواية عن الإمام علي (عليه السلام)، أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إن أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجماعة المسلمين)(1).

وفي حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: النصيحة لله عز وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين)(2).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أعظم الناس منزلة يوم القيامة أفشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه)(3).

5 - توزيع الأموال بالسوية على المسلمين

المال يكون لجميع الناس حسب الكفاءات والأعمال، ثم إذا زاد على ذلك في بيت المال، قُسّم بين المسلمين على السوية.

قال سبحانه: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7).

ص: 694


1- مستدرک الوسائل: ج12، ص386.
2- المصدر السابق: ص387.
3- المصدر السابق.

فقد حظر الله سبحانه وتعالى أن يكون المال دولة بين الأغنياء كما نجده الآن في الدول الرأسمالية والدول الشيوعية على حد سواء، ففي الدول الرأسمالية يكون المال دولة بين الرأسماليين، وفي الدول الشيوعية يكون المال بيد الحكام فقط، بينما الإسلام يرى توزيع المال حسب الكفاءة والعمل، وإذا زاد شيء فإنه يكون لجميع المسلمين بل ولغير المسلمين من العجزة ونحوهم.

ففي رواية أن بعض القوم أشاروا على علي (عليه السلام) بعدم العدالة وعدم التقسيم بالسوية، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتأمروني ويحكم أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام..؟ لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير وما رأيت في السماء نجماً، والله لو كانت أموالهم ملكي لساويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم؟)(1).

وفي رواية أخرى، عن حفص قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وسأل عن قسم بيت المال؟ فقال: (أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوّي بينهم في العطاء، وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص).

قال: (وهذا هو فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) الحديث(2).

وفي حديث آخر، عن أبي إسحاق الهمداني: إن امرأتين أتتا علياً (عليه السلام) عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم! فقال الإمام علي (عليه السلام): (والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق)(3).

وبُعث إليه (عليه السلام) من البصرة من غوص البحر «مخنقة»، لا تُعرف قيمته،

ص: 695


1- وسائل الشيعة: ج11، ص80.
2- المصدر السابق: ص81.
3- المصدر السابق.

فقالت له ابنته أم كلثوم، أتجمل به، ويكون في عنقي، فقال (عليه السلام): (يا أبا رافع أدخله في بيت المال، ليس إلى ذلك سبيل حتى لا تبقى امرأة من المسلمين إلا ولها مثل ما لك).

وقام (عليه السلام) خطيباً بالمدينة فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار يا معشر قريش اعلموا والله إني لا أرزئكم(1) من فيئكم شيئاً ما قام لي عذق بيثرب، أفتروني مانعاً نفسي ومطيعكم؟ ولأسوّين بين الأسود والأحمر).

فقام إليه عقيل بن أبي طالب فقال: تجعلني وأسود من سودان المدينة واحداً؟

فقال له: (إجلس رحمك الله.. أما كان ههنا من يتكلم غيرك؟ وما فضلك عليه إلا بسابقة أو تقوى)(2).

إلى غيرها من الروايات التي تدل على استواء المسلمين في ظل بيت المال الإسلامي، لا كما سائد الآن في كثير من البلاد، بل في أكثرها من استئثار فئة معينة بالمال، متمثلة بالمسؤولين الكبار في الدولة، واصحاب الرساميل ورجال المال والأعمال، في حين يعاني الكثير من الناس من فقدان سقف يأويه، أو لقمة من طعام يسد بها جوع عائلته، أو كسوة مناسبة لهم، كما يعاني الكثير من الشباب الضائقة المالية، فيعزفون عن الزواج، وغيرها من مظاهر الطبقية التي نهى عنها الإسلام، فهو الدين الذي يعتمد معيار الكفاءة في العطاء، لا الطبقية أو القومية أو العنصرية وغيرها.

6 - العفو

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتبعه علي (عليه السلام)، يعفوان عن المجرمين ما وجدا إلى

ص: 696


1- أي لا أنقصکم.
2- مستدرک الوسائل: ج18، ص142.

ذلك سبيلاً، وكان الأعداء يقابلون الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالحقد والأذى فلا يدعو عليهم، وإنما كان يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)(1).

فلم يكن أمره (صلّى الله عليه وآله) العفو عنهم فحسب، وإنما طلب الهداية والخير.

النبي (صلّى الله عليه وآله) يعفو عمن حاول قتله:

وفي التاريخ: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وخلال غزوة «ذات الرقاع»، نزل تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، والمسلمون قيامٌ على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال الرجل المشرك لقومه: سأقتل محمداً، فجاء وشدّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالسيف.

ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي و ربك، فنسفه جبرئيل (عليه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد، فتركه وقام)(2).

اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون!

وفي رواية: اشتد أذى المشركين للرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم أحد، إذ قُتل عمه حمزة، ومُثِّل بجسده الشريف، وتم استخراج كبده من بدنه، وقطعت أصابع يديه ورجليه، وجُدع أنفه، وصُلمت أذناه، وفعل به ما فُعل، وقتل العشرات من المسلمين فتقدم بعض الصحابة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) واقترحوا عليه أن يدعو عليهم ليعذبهم الله بعذاب من عنده كما كان يعذب الكفار الأولين، لكن النبي قال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بُعثت رحمة)(3).

اذهبوا فأنتم الطلقاء:

وفي مكّة عاصمة الشرك والكفر في الجزيرة العربية، والتي طالما حاربت

ص: 697


1- بحار الأنوار: ج11، ص298.
2- بحار الأنوار: ج20، ص175.
3- کنز العمال: ج3، ص615.

الرسول (صلّى الله عليه وآله) أكثر من عشرين سنة، وعندما انتصر على المشركين في فتح مكة، عفا عنهم، وقال كلمته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1).

ليس هذا فحسب، بل إنه جعل راية لأبي سفيان وأرسله مع كتيبة إلى غزوة حُنين وأعطى له تلك العطية الجزيلة التي تقدم ذكرها.

وهكذا كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) يعفوان عن المجرمين.

فالدولة الإسلامية - إذاً - مبنية على العفو وقد ذكرنا بعض النماذج الأخرى بهذا الصدد في هذا الكتاب.

7 - الأولوية للكفاءات

بمعنى اعتماد الكفاءات في تولية الأمور، لا المحسوبيات والمنسوبيات.

فقد روي في كتاب: (الحرية السياسية في الإسلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من ولي من أمور المسلمين شيئاً فأمّر عليهم أحداً محاباة له بغير حق، عليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم)(2).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(3).

وقال (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: (من ولّى والياً من المسلمين شيئاً من أمور المسلمين وهو يعلم أن في المسلمين من هو خير للمسلمين منه وأعلم بكتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله) فقد خان الله ورسوله)(4).

ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك: (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن

ص: 698


1- وسائل الشيعة: ج11، ص120.
2- کنز العمال: ج5، ص665.
3- کنز العمال: ج6، ص25.
4- کنز العمال: ج16، ص88.

يبطأ عند الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف).

ويقول (عليه السلام): (ثم ألصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف)(1).

ويقول (عليه السلام): (ثم اعرف لكل امرء منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء أمره إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة أمرء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً).

ويقول (عليه السلام): (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، لا يشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وأخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء).

ويقول (عليه السلام): (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة (المحاباة: الإعطاء مجاناً والأثرة: الاستبداد) فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة (أي يجمعان فروع الجور والخيانة) وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً).

ويقول (عليه السلام): (ثم انظر في حال كتابك فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك أسرارك بأجمعهم بوجوه صلاح الأخلاق ممن

ص: 699


1- مستدرک الوسائل: ج13، ص164.

لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف نصب حضره ملاء، ولا تقصر به العقلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك (والاستنامة السكون والثقة) وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة وتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره)(1).

إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا الباب والتي تدل على لزوم العمل في الدولة حسب الكفاءات لا حسب المحسوبيات والمنسوبيات، وقد قال الله سبحانه: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (الأعراف: 85). بمعنى إذا أخّر الإنسان ذا الكفاءة وقدم غيره عليه، فقد بخس الناس حقهم كما هو واضح.

ثانياً. الأساس الثاني: الأمة الإسلامية
اشارة

الأمة الإسلامية هي أمة واحدة في جميع الشؤون، فلا حدود جغرافية أو لونية أو لغوية أو غيرها، تفرّق هذا الشمل، إنماهي أمة واحدة، وكل فرد فيها متساوٍ كسائر الأفراد الآخرين.

قال سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).

وقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105).

ص: 700


1- المصدر السابق: ص165.

وقال سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون: 52 - 56).

فكل من فرق الأمة هو في غمرة حتى حين، ويكون مصيره ما ذكره الله سبحانه وتعالى في عاقبة من خالف حكمه.

وقال سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) (الأنبياء: 92 - 93).

إلى غيرها من الآيات والروايات التي تؤكد على وحدة الأمة.

ثمار وحدة الأمة

إذا كانت الأمة واحدة، زالت عنها الحدود الجغرافية، وتكون كما كان المسلمون في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي زمن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسقطت الجمارك.. فلا جمارك بين بلد وآخر، لأنها تصبح بلداً واحداً، بالإضافة إلى أن المكوس حرام في الشريعة الإسلامية كما بيناه مكرراً، وحين ذاك يحصل الاكتفاء الذاتي في كل شيء مثلاً: أراضي السودان زراعية، بينما أراضي الكويت نفطية، وهناك بلاد تزخر بالأيدي العاملة، فتتعاون العناصر الثلاثة: (الأرض - المال - اليد العاملة)، لتأمين قسم من الاكتفاء الذاتي في الميدان الزراعي للأمة الإسلامية، كما بامكانها توفير القوة العسكرية الضاربة، حيث يكون المسلمون جميعاً يداً واحدة على من سواهم.

تكافؤ المسلمين في منظار الإسلام

ورد في روايات كثيرة تكافؤ دماء المسلمين من غير فرق بين جميع أصنافهم، وإنهم يد واحدة على من سواهم، وإن أدناهم إذا أعطى الأمان أو الذمة للكفار قبل منه ذلك.

فعن ابن أبي يعفور، عن الصادق (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بمنى

ص: 701

(إلى أن قال): (المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم فهذا يوجب القصاص في النفس، وفيما دون النفس بين القوي والضعيف والمشروف والمشرف والناقص والسوي والجميل والذميم والمشوه والوسيم لا فرق في ذلك بين المسلمين)(2).

وعن «غوالي اللئالي»، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (المسلمون بعضهم أكفاء بعض)(3).

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: ما معنى قول النبي (صلّى الله عليه وآله) يسعى بذمتهم أدناهم؟ قال: (لو أن جيشاً من المسلمين حاصرواً قوماً من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره فأعطاهم أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به)(4).

وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام): (إن علياً (عليه السلام) أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال: هو من المؤمنين)(5).

وعنه أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مسجد الخيف فقال: (رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وبلغها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرء مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم

ص: 702


1- وسائل الشيعة: ج19، ص55.
2- مستدرک الوسائل: ج18، ص237.
3- المصدر السابق: ص238.
4- وسائل الشيعة: ج11، ص49.
5- المصدر السابق.

فإن دعوتهم محيطة من ورائهم والمسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم فإذا أمن أحد من المسلمين أحداً من المشركين لم يخفر ذمته)(1).

وعن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ليس للعبد من الغنيمة شيء إلا من خرثي المتاع، وأمانه جائز، وأمان المرأة إذا هي أعطت القوم الأمان)(2).

مضاعفات التمزّق والتفرّق

والحقيقة إن التمزّق، هو السبب وراء المعاناة التي تجرعها المسلمون، من القتل على يد الشرقيين والغربيين، سواء كان خلال حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا أو البريطاني في السودان وفلسطين والعراق أو ما يعانيه المسلمون في لبنان أو في سوريا أو في مصر أو في الأردن أو في إيران أو في باكستان أو في بنغلادش أو في أفغانستان أو في أرتيريا أو في الفليبين أو في بُرما أو في الهند أو في الجمهوريات الست الروسية أو في غيرها(3)، وإذا عادت الأمة الإسلامية إلى وحدتها المقررة في الكتاب والسنة، لم يقع أي شيء من ذلك، واصبح المسلمون يتمكنون من السير في بلاد الله العريضة دون أن تغلق الحدود الزائفة في وجوههم، ولن يكن المسلم بحاجة إلى ما يسمى ب(بطاقة الزيارة)، مما ابتدعه الاستعمار البريطاني في بلاد المسلمين، حتى يخيّل الى المسلم أنه غريب اذا لا يحمل هذه البطاقة، و لأنه ليس من أهل البلد، وكأن البلد ليس جزءاً من البلاد الاسلامية.

فمن الضروري إسقاط الحدود الجغرافية ونحوها حتى تعود الأمة إلى وحدتها السابقة وتحل بذلك كثير من مشاكلها الراهنة.

ص: 703


1- مستدرک الوسائل: ج11، ص45.
2- المصدر السابق: ص46.
3- يشير سماحة الامام الراحل الى الفترة التي شهدت فيها البلاد الاسلامية أعمال القتل والإبادة، في حروب طاحنة، أو خلال المصادمات مع الأنظمة الحاكمة.
ثالثاً. الأساس الثالث: الأخوة الإسلامية
اشارة

الأخوة الإسلامية مؤكدة في القرآن الكريم، بنصّ قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).

فالعربي والفارسي والهندي والأندونيسي والتركي وغيرهم كلهم أخوة، لا تمايز بين أحدهم في أي شيء، وهم متساوون أمام القانون الإسلامي، فلا قوميات ولا إقليميات ولا لغات ولا ألوان تفصل بعض المسلمين عن بعض.

وقد آخى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين الرجال بعضهم مع بعض، كما آخى بين النساء بعضهن مع بعض عندما ورد المدينة المنورة.

الإسلام يلغي العصبيات الجاهلية

لا تعصب في الإسلام إطلاقاً، فعن منصور بن حازم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من تعصّب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)(1).

وقد نقل ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أيضاً، والمراد بمن تعصب له يعني أنه يرضى بذلك أو يأمر بذلك.

وعن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)(1).

وفي رواية أخرى عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول إلله (صلّى الله عليه وآله): (من كان في قلبه مثقال خردل من عصبية جعله الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)(2).

نموذج عملي

ولا بأس أن نذكر هنا قصة أسامة فقد كان أبوه (زيد بن حارثة) عبداً تجري

ص: 704


1- وسائل الشيعة: ج11، ص296.
2- المصدر السابق.

في عروقه دماء إفريقية، وكانت أمه (أم أيمن) جارية حبشية سوداء، ويقال لها حاضنة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن بين هذين ولد (أسامة)، وقد وصف التاريخ زيدا، بأنه كان (قصيراً، شديد السمرة، في أنفه نفطس، فخطفته قبيلة عربية في غارة من غارات الجاهلية.

وباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه (حكيم بن خزام) وأهداه لعمته (خديحة) زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فوهبت خديجة عبدها زيداً للرسول (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يبعث، فأعتق النبي (صلّى الله عليه وآله) زيداً، وعندما تعرّف والد زيد على مكان ابنه جاء يطلب استرجاعه، لكن زيداً اختار صحبة النبي (صلّى الله عليه وآله) على الرجوع إلى أبيه، فاتخذه النبي (صلّى الله عليه وآله) بمثابة الولد.

فالنبي (صلّى الله عليه وآله) لا يرى اللون ولا يرى القومية ولا يرى الخصوصيات التي هي من هذا القبيل، وإنما المسلمون أخوة، بل إن المسلم إذا سبق أن عمل سوءاً ثم أسلم فإن الإسلام يجبّ عما قبله، كما ورد ذلك في أحاديث متواترة.

النبي (صلّى الله عليه وآله) يتوقف لأسود

وفي التاريخ أن ناقة النبي (صلّى الله عليه وآله) توقفت، وكانت على رأس موكب الحجاج فتعطل الموكب كله - وفي بعض التواريخ أن الموكب كان يشتمل على مائة وثمانين ألف إنسان- وتطلع الناس ليروا من هو ذلك الذي ينتظره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويعطّل سير الحجاج من أجله؟ فإذا بهم يرون أن غلاماً أسوداً أفطساً، قد أقبل، وقد ترك الجدري آثاره في وجهه..! فتحركت النزعة العنصرية والطبقية في نفوس جماعة من حديثي العهد بالإسلام فقالوا: أمن أجل هذا الغلام الأسود الأفطس يوقف النبي (صلّى الله عليه وآله) السير؟!

إن أمثال هذا العبد الأسود في الجزيرة العربية (بَلهَ بل) في إمبراطورية الروم والفرس، كان يحظر عليهم حتى لمس شراب أو طعام السادة، بل كان يُحظر

ص: 705

عليهم دخول بيوت السادة، ومكانهم إنما هي في الاصطبلات والمراعي، ولم تكن توكل إليهم إلا الأعمال الدنسة، وحتى كانوا يصارعون الأسود لتسلية السادة! وحتى مطلع عصر ما يسمى بالتحرر في أوربا كانت هناك أسلحة خاصة لا يحق لغير النبلاء استخدامها، أما الدخول في المحلات العامة المخصصة للسادة، والصعود على متن المراكب الفارهة، والتعلم للقراءة والكتابة، فكانت محرمة حتى على الطبقات المتدنية من الأحرار فكيف بالعبيد؟ فما قيمة عبد أسود فتك الجدري بوجهه في عالم ينقسم إلى سادة وعبيد، وإلى أبيض وملونين، وإلى روم وفرس، وجزيرة عرب، والى قبائل وعشائر، والى أصحاب هذا الصنم. وينقسم السادة فيه أيضاً إلى طبقات ومراتب، وينقسم العبيد فيه إلى درجات وخصوصيات أيضاً، أدناها وأوضعها مرتبة العبد الأسود! فأي مستقبل ينتظر هذا العبد الأفطس الأسود؟ إنه المستقبل المشرق، لأنه جاء في زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي يقول: (لا فضل لعربي على عجمي، إلا بالتقوى)(1).

نعم؛ كان ذلك الإنسان، أسوداً سعيد الحظ.. جاء في لحظة نادرة من عمر الدنيا، لحظة ظهور الإسلام، ولحظة انبثاق حضارة جديدة لا تقسم الناس إلى ألوان ولا إلى أصول ولا إلى أعراق، ولا تقسم الناس حسب التقسيمات الجغرافية والقومية والقبلية وما أشبه. إن ثورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ليست لأجل تحرير المستذلين والمستعبدين والمستضعفين فحسب، بل إنها تضعهم في الصف الأول، بل في صف كل المسلمين، من غير فرق بين عربهم وعجمهم، وشرقيهم وغربيهم وأسودهم وأبيضهم.

أسامة قائداً للجيش

ولذا نرى أن النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما جهز جيشاً لمقاتلة الروم - إحدى القوتين العظيمتين في ذلك اليوم - أعطى قيادة هذا الجيش لأسامة، مع وجود كبار

ص: 706


1- المصدر السابق.

الصحابة والمهاجرين والأنصار، وقال (صلّى الله عليه وآله) مكرراً: (نفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنها)(1).

وقد ذكر المؤرخون أن أسامة كان ذكياً منذ صغره ومندفعاً نحو الأمام، وكان عمره اثني عشر عاماً عندما تقدم للتطوع في غزوة أحد.. وفي تلك الفترة كان الصبية يتزاحمون على التطوع في الجيش لما يعلمون من قيادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الصحيحة والصالحة والمؤمنة والمستشيرة المتصلة بالسماء، حتى أن بعضهم كان يحتال بأن يلبس حذاء عالي الكعب لكي يطيل قامته ويخدع المسؤول عن الفحص، وعندما نجحت حيلة أحدهم جاء أهل صبي آخر يحتجون عند النبي (صلّى الله عليه وآله) على رفض ابنهم المتطوع، بينما قُبل تطوع من هو في سنّهِ!، وقد رُفض تطوع أسامة في غزوة أحد، ولكنه عاد في العام التالي وقبل طلبه في غزوة الخندق.

وفي موقعة حنين انهزم جيش المسلمين ولم يثبت إلا النبي (صلّى الله عليه وآله) وعشرة من المسلمين كما ذكر التاريخ، وكان أحد أولئك الثابتين: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبعض أولاد العباس، وكان منهم أسامة بن زيد وكان عمره إذ ذاك بين خمس عشرة سنة وسبع عشرة سنة، لهذا وغيره كرّس النبي (صلّى الله عليه وآله) قاعدة الأولوية للكفاءات، لا سائر الموازين الجاهلية.

وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) على حبه لأسامة لا يعطيه أكثر من حقه، بينما اشتبه أسامة مرتين في تاريخ النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما يذكر المؤرخون، فقد أغرت المكانة التي يتمتع بها أسامة عند النبي (صلّى الله عليه وآله) - حتى كان يلقب بالحبيب ابن الحبيب - كما أغرت بعض المنحرفين باستغلالها لتعطيل سيادة القانون، فطلبوا من أسامة أن يشفع لوقف تنفيذ القانون في امرأة سرقت ولكن النبي نهاه في حزم وقال له: (لا تشفع في حدٍ)(2).

ص: 707


1- کنز العمال: ج3، ص699.
2- بحار الأنوار: ج28، ص288.

وهكذا لقّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) إن القانون الإسلامي غير قابل للخرق، فمهما كانت محبته له فليس معنى ذلك تعطيل شريعة الله سبحانه وتعالى لأجله، فإن الإسلام لا يقبل الوساطات والشفاعات والرشوات في تغيير قوانين الله سبحانه وتعالى.

وفي مرة أخرى يتلقى (الحبيب بن الحبيب) أسامة درساً من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، حيث أرسله الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى بعض الغزوات، فجرد أسامة سيفاً على رأس رجل، فهتف الرجل قائلاً (لا إله إلا الله) ولكن أسامة لم يعتن بذلك لظنه أنه إنما يقول: (لا إله إلا الله) حقناً لدمه ونفاقاً فقتل الرجل، وعاد وأخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالقضية، فغضب الرسول وقال: ماذا تفعل ب(لا إله إلا الله)؟ بمعنى: لماذا قتلته بعد أن شهد الشهادة، والشهادة تحمي دم الإنسان وعرضه وماله.

واعتذر أسامة بأن الرجل إنما قالها ليهرب من الموت، فقد ظل على رفضه وعداوته حتى أدركه السيف فرد الرسول (صلّى الله عليه وآله) عليه قائلاً: (هلا شققت قلبه)؟(1). فإنه ليس في الإسلام إلا الظواهر، ولا حكم على القلوب وقد قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (النساء: 94).

إن القلوب بيد الله تعالى، حتى إذا كان الإسلام عن نفاق، فإن كلمة الشهادة بحد ذاتها، تحقن دم الإنسان وماله وعرضه، ولهذا لم يتعرض الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأشد المنافقين نفاقاً أمثال عبد الله بن أبّي، وأبي عامر الراهب ونحوهما، كما لم يتعرض علي (عليه السلام) لأشد المنافقين أمثال ابن الكوّا والأشعث بن قيس ومن أشبه، فهذا هو الإسلام الذي يقرب البعيد حتى إذا كان كافراً مسالماً أو منافقاً.

أمة متآخية، وقيادة رشيدة

نعم؛ هكذا كانت الأخوة الإسلامية تحت قيادة ذلك القائد العظيم وبمثل تلك القيادة الرشيدة وأولئك المسلمين المضحين المتفانين - الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه - تقدم الإسلام ذلك التقدم الهائل وتمكن من إنقاذ البشرية من مظالم

ص: 708


1- وسائل الشيعة، ج18، ص333.

الحكام وقساوة القوانين، إنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد والجارية فيقضي حوائجهم، وكان يخصف حذاء الرجل المسكين، ويخيط ثوب الأرملة، ويعود المريض، حتى اليهودي الذي كان يؤذيه ويصب على رأسه في كل يوم طبقاً من الرماد، ولم يكن (صلّى الله عليه وآله) يغلق دونه الأبواب، ولا يحول دون مقابلته حجاب، ولا يغدى عليه بالجفان والألوان، ولا يراح عليه بالأطعمة والأشربة اللذيذة. وكان من أراد مقابلته (صلّى الله عليه وآله) يقابله إما في داره المتواضعة أو في المسجد أو في الشارع أو في أي مكان آخر، لم يمتلك (صلّى الله عليه وآله) قميصين قط، ولا رداءين ولا إزارين ولا نعلين، وكانت له مخدة من جلد حشوها ليف، وكان ينام أحياناً على حصير يؤثر في جنبه وأحياناً على عباءة تثنى طيتين، وذات مرة طوتها زوجته أربع طيات فلما نام عليها بلغ من لينها ورفاهيتها أن استغرق في النوم فلما أفاق نهى زوجته عن ذلك وأمرها أن تعيد العباءة إلى وضعها الأول طيتين.

وكانت ثروة الجزيرة العربية وغيرها من البلاد التي خضعت له تأتيه كالسيل، ولكن ما دامت البشرية قد كتب عليها أن تعيش قروناً عديدة وفيها الفقير والغني والجائع والشبعان، فخير نظام تصل إليه هو النظام الذي يجعله في جانب الفقراء، فما كان (صلّى الله عليه وآله) يشبع، وقد تقدمت جملة من الروايات في سيرته وأخلاقه (صلّى الله عليه وآله).

ولو تكونت الأمة الإسلامية من جديد وعادت الأخوة الإسلامية على ما كانت عليه، وغدت الأمة تحت قيادة رشيدة متبعة لقيادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأمكن تخليص العالم من ويلاته وصياغة العالم صياغة جديدة يسود فيها كل خير ورفاه.

التفرقة الفظيعة في العصر الراهن

لكننا - مع الأسف - نرى تبدل الأخوة الإسلامية إلى الامتيازات والطبقات والعنصريات، فمثلاً: في العراق نرى الجنسية (ألف) والجنسية (باء) والجنسية (جيم) الخاصة بالعرب العراقيين، وجنسية (ألف) وجنسية (باء) وجنسية (جيم)

ص: 709

الخاصة بالمواطنين الأكراد، وجنسية (عربي غير عراقي وغير مصري) وجنسية (عربي غير عراقي مصري)، وذلك في عهد عبد السلام عارف حيث تمت الوحدة بين العراق وبين مصر كما هناك جنسية (غير عربي) و(من لا جنسية له) اطلاقاً. فهذه عشرة أقسام من الأفراد في بلد واحد وكلهم مسلمون وكلهم أخوة، والأغرب من ذلك أن اذاعات هذه البلاد تتلو ليل نهار الآية الكريمة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10). و(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (الأنبياء: 92).

لكنها مجرد شعارات لا تطبيق لها، فكل بلدة من البلاد الإسلامية لها أحكامها وخصوصياتها وقياداتها ومميزاتها ، فقد عدنا إلى ما كانت البشرية عليه قبل ظهور الإسلام، بل صرنا أسوأ وأسوأ وأسوأ.. وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه: 124).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين لإعادة حكم الإسلام دولة وأمة وأخوة وقانوناً، حتى ينهضوا بأنفسهم وبالعالم أجمع إلى حيث الخير والرفاه، وما ذلك على الله بعزيز.

رابعاً. الأساس الرابع: الشريعة الإسلامية
اشارة

يجب أن تكون الشريعة الإسلامية هي السائدة في البلاد بدلاً عن القوانين الوضعية. وفي القوانين الإسلامية، هنالك العديد من الحقوق، نلمّح إلى بعضها هنا.

الحقوق الجنائية

مثل: حكم الحقوق فقد ورد في الحديث: (ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم)(1).

ص: 710


1- بحار الأنوار: ج62، ص139.

وفي حديث آخر: (لئلا يتوى حق امرء مسلم)(1).

فإن الإسلام جعل للحق حرمة مهما كان صغيراً حتى (أرش الخدش) و(أرش الغمز) كما في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) مذكورة في الوسائل، بل وفوق ذلك، فقد بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، (خالد بن الوليد) مع جماعة في مهمة الدعوة إلى الإسلام إلى (بني جذيمة) - وهم بنو المصطلق وكان قد سبق أن أسلموا - ولم يأمرهم بقتال، فأوقع بهم خالد وقتل منهم جماعة لترةٍ كانت بينه وبينهم، فبلغ الخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فبكى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقام وصعد المنبر و رفع يديه إلى السماء وقال ثلاثاً: (اللهم إني أبرء إليك مما صنع خالد بن الوليد)(2).

ثم دعا النبي (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدفع إليه سفطاً - أي صندوقاً من الذهب - وأمره أن يذهب إلى (بني جذيمة) ويدفع إليهم ديات الرقاب، وما ذهب من أموالهم، فجاء علي (عليه السلام) وقسم المال كما يلي:

أولاً: ديات المقتولين ظلماً إلى ورثتهم، عن كل واحد منهم ألف دينار ذهب.

ثانياً: ديّة كل جنين غرة أي أعطى عوض الجنين، إما عبداً وإما أمة.

ثالثاً: ثمن ما فقدوه من المبالغ والعقل.

رابعاً: ثمن ما ربما فقدوه مما لا يعلم بفقده، مما احتمل أن أخذه خالد أو من كان معه أو مما تلف أثناء القتال.

خامساً: ثمن روعة نسائهم وفزع صبيانهم.

سادساً: مقابل كل مال فقدوه مثله من المال.

سابعاً: بقية المال ليرضوا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ص: 711


1- وسائل الشيعة: ج14، ص210.
2- مستدرک الوسائل: ج17، ص447.

ثامناً: ما يفرح به عيالهم وخدمهم بقدر ما حزنوا.

ثم رجع علي (عليه السلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وأخبره بما فعل من توزيع الذهب بثمانية أقسام قائلاً: (يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون وما لا يعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله.

فتهلل وجه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وضحك حتى بدت نواجده، وقال: يا علي (أعطيتهم ليرضوا عني، رضى الله عنك) ثم قال (صلّى الله عليه وآله): (يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(1).

الحقوق السياسية

قال الإمام علي (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر: (... ثم الله الله في الطبقة السفلى، من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، فاحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلدة، فإن للأقصى منهم منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم.

ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل

ص: 712


1- المصدر السابق: ج18، ص366.

اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسالة نفسه وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل وقد يخفقه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم، واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول في غير موطن (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي، ثم احتمل الخرق منهم والعيّ ونح عنهم الضيق الأنف يبسط الله عليك بذلك اكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنح في إجمال واعذار)(1).

الأحوال الشخصية

هنالك العديد من القوانين الإسلامية في هذا المجال، مثل: مسائل الزواج والتعدد، والمهر، وحرمة اتخاذ الأخلاء والخليلات وما أشبه.

وايضاً مسائل الطلاق، و الطلاق الرجعي والطلاق الخُلعي، وطلاق المبارات وغيرها، وحاجة الطلاق إلى الشهود.

وهنالك مسائل الإرث: مثل «للذكر مثل حظ الأنثيين»، وطبقات الإرث: الطبقة الأولى والطبقة الثانية والطبقة الثالثة، ومسائل الحبوة، وإرث الزوجة وغيرها.

قضايا المرأة

مثل مسائل اشتراك المرأة في كل الشؤون مع الرجل بلا إفراط ولا تفريط، وهي كثيرة وقد ألمعنا إليها في بعض كتبنا.

حق العامل والفلاح

مثل مسائل حق العامل والفلاح من دون الاعتماد على الرأسمالية أو

ص: 713


1- المصدر السابق: ص367.

الماركسية – الاشتراكية، التي تضغط على العامل والفلاح أو رب العمل أو رب الأرض، حسب الموازين المقررة في الشريعة الإسلامية.

إحياء الأراضي الموات

أعطى الإسلام الحق للإنسان المسلم بأن يتملك أرضاً مواتاً بعد إحيائها، استناداً الى الحديث الشريف: (من أحيى أرضاً مواتاً فهي له)(1) و (من سبق إلى مالم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به)(2)، وذلك في إطار عدم إجحافه بحق الآخرين، على تفصيل ذكره الفقهاء في كتاب «إحياء الموات».

كما في الإسلام قوانين واضحة في مسائل الحدود والديّات، والقصاص، على التفصيل المذكور في كتب الفقه.

القضاء الإسلامي

ويتضمن مسائل في حل المنازعات بالأسلوب الإسلامي من جهة القاضي والشهود حيث تعتبر فيهم العدالة، كما ينصّ القضاء في الإسلام، عدم وجود السجن والاعتقال، والغرامة والنفي، إلا في موارد نادرة.

قانون الأصالة

من القوانين الإسلامية، الأصالة في عدد من الأمور:

1- (أصالة الحِل) في عمل الإنسان لقوله (عليه السلام): (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك)(3).

و (أصالة الطهارة)، في كل شيء إلا ما علم الإنسان بنجاسته لقوله (عليه السلام): (كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر)(4).

ص: 714


1- المصدر السابق: ج13، ص168.
2- بلغة الفقيه: ج1، ص272.
3- المبسوط: ج3، ص268.
4- وسائل الشيعة: ج12، ص60.

2- (أصالة الصحّة) في عمل الإنسان، لقوله (عليه السلام): (ضع أمر أخيك على أحسنه)(1).

بل ورد في الأحاديث أن المرأة إذا قالت إنها ليست بذات زوج، لا يلزم التحقيق في أمرها مثل خبر يونس قال سألته (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان فسألها: لك زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها، ثم إن رجلاً أتاه فقال هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال (عليه السلام): (هي امرأته، إلا أن يقيم البينة)(2) وخبر عبد العزيز قال سألت الرضا (عليه السلام) قلت: جعلت فداك إن أخي مات، وتزوجت امرأته، فجاء عمي فادعى أنه كان تزوجها سراً، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشد الإنكار وقالت: ما بيني وبينه شيء قط فقال (عليه السلام): (يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها)(3) وخبر ميسر قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ألقى المرأة في الفلاة الذي ليس فيه أحد فأقول لها: ألك زوج؟ فتقول: لا، فأتزوجها؟ قال (عليه السلام): (نعم هي المصدقة على نفسها)(4).

وخبر أبان بن تغلب، قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني أكون في بعض الطرقات فأرى المرأة الحسناء ولا آمن أن تكون ذات بعل، أو من العواهر؟ قال (عليه السلام): (ليس هذا عليك وإنما عليك أن تصدقها في نفسها)(5).

وخبر محمد بن عبد الله الأشعري قال: قلت للرضا (عليه السلام): الرجل تزوج بالمرأة فيقع في قلبه أن لها زوجاً؟ فقال (عليه السلام): (وما عليه؟ أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد ليس لها زوج)(6).

ص: 715


1- مستدرک الوسائل: ج2، ص583.
2- المصدر السابق: ج9، ص144.
3- وسائل الشيعة: ج14، ص226.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق: ص228.
6- المصدر السابق: ص456.

إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي جعلها الشارع وقررها لاحترام الإنسان وعرضه وماله ودمه.

3- أصل اليسر وتوابعه في الأحكام الإسلامية، يقول سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185).

وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).

وتبعاً لذلك اليسر فقد رفعت عدة أمور عن الإنسان، فعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفته)(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (رفع الله عن هذه الأمة ما لا يستطيعون وما استكرهوا عليه وما نسوا وما جهلوا حتى يعلموا)(2).

ومن الأحكام التي يشملها اليُسر؛ سقوط الحد مع الاشتباه، فقد ورد (إن الحدود تُدرأ بالشبهات)، سواء شبهة الحاكم أو شبهات الحكم، أو شبهة من فاعل المنكر، كما أن الحد يرفع عن المستكره والمستكرهة والمضطر والمضطرة وما أشبه.

فعن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (ليس على المستكره حدّ ولا على مستكرهة)(3).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (رفع عن أمتي أربع خصال: ما خطأوا وما نسوا وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله تبارك

ص: 716


1- المصدر السابق: ص457.
2- المصدر السابق: ج11، ص295.
3- مستدرک الوسائل: ج16، ص51.

وتعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (سورة البقرة: 286)(1).

وعن الإمام علي (عليه السلام): (ليس على المستكرهة حدّ إذا قالت إني استُكرهت)(2).

وعن أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين في امرأة اعترفت على نفسها أن رجلاً استكرهها، قال: هي مثل السبية لا تملك نفسها، لو شاء لقتلها، ليس عليها حدّ ولا نفي)(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث: (ولا شيء على المرأة إذا كان أكرهها ولها مهر مثلها في ماله)(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أتي بامرأة أخذت مع رجل يفجر بها فقالت: يا أمير المؤمنين والله ما طاوعته لكن استكرهني، فدرء عنها الحد(5).

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)(6).

كما أنه: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(7)، وهو بحث طويل يذكره الفقهاء..

والواقع: لا توجد أمثال هذه الأحكام في أي قانون أو شريعة حسب تتبعنا لهما.

ص: 717


1- المصدر السابق: ج18، ص56.
2- المصدر السابق: ج12، ص24.
3- المصدر السابق: ج18، ص57.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق: ص58.

وهناك الكثير من الأحكام الشرعية التي تسبب سهولة الدين، ويُسر الحكم، ما أوجب التفاف الناس حول الإسلام.

القيمة الحقوقية للفقه الإسلامي

وأخيراً.. ننقل مقتطفاً من مقدمة كتاب: (المدخل الفقهي العام إلى الحقوق المدنية في البلاد السورية) يشير إلى أهمية الفقه الإسلامي لدى علماء الغرب فيقول: (عقدت شعبة الحقوق الشرعية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً للبحث في الفقه الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس تحت اسم (أسبوع الفقه الإسلامي) برئاسة أحد العلماء الغربيين وهو أستاذ في التشريع الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس، ودعت إليه عدداً كبيراً من أساتذة كليات الحقوق العربية وغير العربية وكليات الأزهر ومن المحامين الفرنسيين والعرب وغيرهم من المستشرقين.. وفي ختام المؤتمر وضع المؤتمرون بالإجماع هذا التقرير الذي نترجمه فيما يلي:

\بناءً على الفائدة المتحققة من المباحث التي عُرضت أثناء أسبوع الفقه الإسلامي وما جرى حولها من المناقشات التي تلخص منها بوضوح:

أولاً: إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يُمارى فيها.

ثانياً: إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الفقهية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية التي هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها\.

ولا يخفى إنا نعتقد أن الفقه الإسلامي مقدم على الفقه الروماني والفقه الغربي والفقه الشرقي في القوانين، وإن المقارنة تظهر هذا التقدم بكل وضوح وجلاء كما ذكرنا بعض البنود في هذا الصدد، وللتفصيل يراجع كتب معنية بهذا الشأن.

ص: 718

خامساً. الأساس الخامس: الحرية الإسلامية
اشارة

إن الإسلام، دين الحرية بجميع معنى الكلمة كما تقدم بعض الكلام حول ذلك، والحرية الإسلامية أكثر من الحرية الغربية عشر مرات أو أكثر، وقد استنبط الفقهاء من الآيات والروايات، القاعدة الفقهية المشهورة (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، وهذه القاعدة تمنح الإنسان آلاف الانواع من الحريات ، فهو حر في أن ينتخب مرجع تقليده، وهو حر في أن ينتخب رئيس دولته، وهو حر في أن ينتخب نواب مجلسه، وهو حر في أن ينتخب إمام جماعته وهو حر في أن ينتخب قاضيه، وهو حر في أن يسافر، ويبني، ويزرع، ويتاجر، ويكتسب، ويسبق إلى المباحات، ويستملك الأراضي.. خلافاً للغرب حيث إن معظم الحرية للرأسمالية، وخلافاً للشرق حيث إن الحرية للدولة فقط.

حرية الأديان الأخرى

بل إن للكفار في ظل الإسلام حريات لايجدونها في أديانهم، ولا في قوانين بلدانهم(1).

وقد روى ابن شهر آشوب في «المناقب» أنه كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عهداً لحي سلمان بكازرون جاء فيه:

هذا كتاب من محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سأله الفارسي سلمان وصيته لأخيه مهاد بن فروخ بن مهيار وأقاربه وأهل بيته وعقبه (إلى أن قال): (وقد رفعت عنهم جز الناصية والجزية والخمس والعشر وسائر المؤن والكلف)(2). (إلى آخر الكتاب). قال: والكتاب إلى اليوم في أيديهم.

وفي رواية أخرى: (وقد رفعت عنهم جز الناصية والزنارة والجزية إلى الخمس والعشر وسائر المؤن والكلف بأيديهم على بيوت النيران وضياعها

ص: 719


1- وسائل الشيعة: ج17، ص376.
2- مستدرک الوسائل: ج11، ص100.

وأموالها ولا يمنعون من اللباس الفاخرة والركوب وبناء الدور والإصطبل وحمل الجنائز واتخاذ ما يجدون في دينهم ومذاهبهم)(1).

(إلى آخر الكتاب) وفي آخره (كتب علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بحضوره).

وقد ذكرنا فيما سبق أن الكفار الذين يعيشون في ذمة الإسلام، يباح لهم أن يعملوا بدينهم وفي رواية: (ألزموهم بما التزموا أنفسهم)(2).

تساؤلات تلامس مباحث البديل الحضاري المستقبلي

ولنختم هذا الفصل بأجوبة لأسئلة، حول تطبيق الإسلام يكثُر الاستفسار عنها:

فلسفة تقاسم السلطة

السؤال الأول: لماذا الاهتمام بتقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية؟

الجواب: لأن في هذا ضمانة لاستمرار نظام الحكم، ولذا نرى أن الأنظمة الدكتاتورية في بعض البلاد، تسقط الواحدة تلو الأخرى، لأن السلطة والامكانات محصورة في فئة أو شخص معين، فلا ينفع بعدئذ أن يكون في البلاد مجلس استشاري أو مجلس يُسمى (مجلس الشورى) أو حتى مجلس النواب (البرلمان)، إذا لم يكن وراء المجلس الأحزاب الحرة.

فاللازم في البلاد الإسلامية، أن يتم تقاسم السلطة بين الأحزاب الحرة الإسلامية المنتهية إلى المرجعية، لما ذكرناه، ولئلا يتمكن طرف من التعدي على الناس كما هو الشأن في الحكومات الدكتاتورية الاستبدادية.

هذا بالإضافة إلى أن الأحزاب الحرة هو مقتضى ما طبقه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من

ص: 720


1- المصدر السابق.
2- بحار الأنوار: ج28، ص349.

حزبي المهاجرين والأنصار، والى أنه مقتضى منح الإسلام الحرية للناس، فلماذا لا تتمكن جماعة من تكوين الحزب بينما يكون للحكومة حزب؟

الرسول (صلّى الله عليه وآله) يوزع القدرة

السؤال الثاني: إذا كان الأمر هكذا، فلماذا لم يوزع الرسول (صلّى الله عليه وآله) القدرة؟

الجواب: الرسول (صلّى الله عليه وآله) وزع القدر ة بين المهاجرين والأنصار، ولذا نشاهد أنه كلما ضغط عليه المهاجرون التجأ إلى الأنصار، وكلما ضغط عليه الأنصار التجأ إلى المهاجرين، والتاريخ يذكر لنا وقائع عديدة ، وقد ألمعنا إلى بعضها في هذا الكتاب وفي غيره.

ويأتي هنا سؤال آخر؛ إذا كان النبي (صلّى الله عليه وآله) وزع القدرة بين الأحزاب فلماذا نرى أن إحدى القدرتين انسحبت من الميدان بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ؟

الجواب: إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما انسحب من الميدان لأنه رأى أن الأعداء محيطون بالمدينة المنورة وغيرها من البلاد الإسلامية وإن اصل الإسلام في خطر، فتجاوز عن حقه، ولذا قال (عليه السلام) للصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام): (إذا وضعت السيف فيهم لم تسمعي بعد ذلك هذا الاسم..)، وكان يشير الى اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي ذكره المؤذن في مسجد النبي، وقد قال (عليه السلام) لما خاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعا له بالخلافة: (أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح، هذا ماء آجن ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا: حرص على الملك وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة)(1).

ص: 721


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج1، ص40.
لماذا شورى المراجع؟

السؤال الثالث: لماذا شورى المراجع؟

الجواب: لأنه بدون شورى المراجع يكون هنالك محذوران:

الأول: المحذور الشرعي.. وهو أنه لا يحق لبعض المراجع الذين هم خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووكلاء الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، أن يستبدوا بالأمر. لنفرض أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرسل أربعة وكلاء إلى بلد ليكونوا حكاماً، فهل يحق لأحدهم أو لاثنين منهم أو حتى لثلاثة منهم أن يدفعوا الآخرين أو الآخر عن حقه ويستبدوا بالأمر؟ وهكذا في زمان غيبة الإمام عجل الله فرجه، حيث يقول: (جعلته عليكم حاكماً)(1).

فالفقيه حاكم من قبل الإمام (عليه السلام)، فإذا اختارهم الناس كان الواجب أن تكون بينهم شورى لإدارة الحكومة.

المحذور الثاني: معارضة الدولة من قبل الفقهاء البعيدين عن الشورى، وأيضاً مقلديهم، وهو أمر طبيعي، لأنهم يرون عدم شرعية بعض قوانينها، ومن الواضح أن الدولة التي يبنيها جماعة ويعارضها جماعة، يكون مصيرها الفشل.

بين التقليد وشورى المراجع

السؤال الرابع: إذا كان شورى المراجع هو الذي يدير الحكم بأكثرية الآراء فماذا يكون حال التقليد؟

الجواب: يكون التقليد في الأمور الشخصية حسب رأي مرجعه، مثل الصلاة والصوم والحج والنكاح والطلاق وما أشبه، أما الأمور العامة للبلاد، مثل الحرب والسلم وترجيح الاقتصاد الصناعي على الاقتصاد الزراعي أو بالعكس إلى غير ذلك من المسائل العامة، فإنها تكون حسب أكثرية المراجع، فإن قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى) (الشورى: 38)، حاكم على أدلة التقليد على الاصطلاح

ص: 722


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص76.

الأصولي، لأنه إذا حُكّمت الشورى حتى في المسائل التقليدية، لا يبقى للتقليد مجال، أما إذا حُكم التقليد، بقي للشورى مجال، فبين الدليلين (حكومة). وعلى افتراض أن المراجع أربعة، واختلف الطرفان فلم تكن (أكثرية)، أو كانوا خمسة فاختلفا وبقي أحدهم محايداً فهنا يكون دور القرعة. (والقرعة لكل أمر مشكل)، كما في الأحاديث الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

لا ضرائب في الإسلام

السؤال الخامس: هل تأخذ الدولة الضرائب؟

الجواب: كلا، وإنما تكتفي بالضرائب الأربع المقررة في الإسلام: وهي (الخمس) و(الزكاة) و(الجزية) و(الخراج)، وذلك لقلة الموظفين في الدولة الإسلامية، ولأن الدولة الإسلامية إنما تكون مشرفة فقط ولا تتدخل في الشؤون كلها، فلا تحتاج الدولة إلى مال كثير، فكل الأمور بيد الناس كالمطارات والقطارات والمستشفيات والمعامل والمصانع وغيرها، وعلى هذا سترتفع الموارد المالية للدولة، من الأمور الأربعة، ولن تكون بحاجة إلى أكثر من ذلك، ولذا كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحلفاؤه يقسمون الأموال الزائدة على الناس، مع أنهم لم يكونوا يأخذون غير هذه الضرائب الأربع.

جيش الدولة الإسلامية

السؤال السادس: وماذا تفعل الدولة الإسلامية بالجيش؟

الجواب: الجيش في الإسلام، إنما هو (جيش شعبي)، على ما ذكرناه في بعض الكتب الإسلامية، وليس كالجيش في الزمن الحاضر، مما يكلف الدولة ويكلف الأمة جهوداً مضنية وامكانات هائلة.

الحدود الجغرافية

السؤال السابع: هل للدولة الإسلامية حدود؟

الجواب: أما الحدود بالنسبة إلى البلاد الإسلامية فلا وجود لها، لأن لا

ص: 723

حدود بين البلاد الإسلامية، لما ذكرناه سابقاً، وإنما كل بلاد الإسلام وطن واحد. وهذا ما يُراد بالحديث القائل: (حب الوطن من الإيمان).

فالمراد، الوطن الإسلامي، لا الوطن حسب التقسيمات الجغرافية الحالية التي تميّز العراق و مصر و إيران وسائر المناطق، عن غيرها، وأما بالنسبة إلى خارج الدولة الإسلامية، فحيث إن الأعداء يجعلون لبلدهم الحدود فالدولة الإسلامية مضطرة لجعل الحدود على بلدها، وإلا فالأرض، أرض الله تعالى، والمسلمون هم عباد الله لهم الحق في أن يسيروا في أرض الله كما يريدون، فالحدود في الدولة الإسلامية الكبيرة إنما هي من باب الاضطراب حتى لا تحدث الفوضى، ومن الواضح أن الضرورات تقدر بقدرها.

الإسلام يلغي المكوس

السؤال الثامن: هل في الإسلام مكوس؟

الجواب: لقد جعلت الدولة الفارسية والدولة الرومية وغيرهما قبل الإسلام (العشّارين) الذين كانوا يأخذون العشر من البضائع، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك، و ورد في الحديث أن الدواب تلعن العشّارين، وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (يقول الحمار في نهيقه: اللهم العن العشارين)(1).

كما تقدم في بحث (الإيمان) إلى غيرهما من الأحاديث.

نعم هناك استثناءات فيما يلي:

1- فروق التجارة.

2- فروق التضخم.

3- خوف الضرر على البلاد الإسلامية إذا هاجمتها البضائع، أو هربت منها البضائع.

ص: 724


1- کنز العمال: ج7، ص558.

وهذه الأمور جائزة شرعاً كما ذكرنا تفصيله في بعض كتبنا الاقتصادية، وأما (المكوس) فهي غير هذه الأمور الثلاثة وهي محرمة في الإسلام.

الجنسية والهوية في الإسلام

السؤال التاسع: هل توجد الجنسية والبطاقة الشخصية وغيرها، في الدولة الإسلامية؟

الجواب: كل هذه الأمور مما ابتدعها الغرب، و أوجدها لتقييد الإنسان، سواء في البلاد الغربية، أو في بلادنا أو سائر البلدان. ولم يكن من هذه الأمور أثر عند المسلمين، من أول الإسلام إلى قبل مائة سنة(1)، فإن الإسلام يعطي لكل إنسان الحرية في كل شؤونه باستثناء الشؤون المحرمة، كالمعاملة بالربا والاحتكار والزنا والقمار وما أشبه، وإلا فالزراعة والتجارة والصناعة والثقافة والسفر والإقامة والعمران وغيرها كلها محللة في الشريعة الإسلامية، فلا حاجة للجنسية وبطاقة الاحوال المدنية وغيرها..

شروط تحقق (العنوان الثانوي)

السؤال العاشر: ما هي موازين (العنوان الثانوي) الذي قد يتفوه به العلماء في بعض الأمور؟

الجواب: يشترط في تطبيق (العنوان الثانوي) بالنسبة إلى الفرد، أن يرى الفرد أنه دخل - حقاً - في العنوان الثانوي حتى يطبق عليه حكمه، مثلاً: الصحيح الصلاة بالوضوء، بينما المريض يصلي بالتيمم، والصحيح يصوم والمريض يفطر، فإذا أحسّ الفرد بأنه مريض صح له أن يتيمم كما صح له أن يفطر، وقد قال رجل للإمام الصادق (عليه السلام) بأنه مريض فهل يفطر أم لا؟ فكتب إليه الإمام (عليه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ) (القيامة: 14).

ص: 725


1- يشير سماحة الامام الراحل الى فترة القرن التاسع عشر الميلادي.

أما العناوين الثانوية العامة لكل بلاد الإسلام فاللازم:

أولاً: أن يميزها شورى المراجع، فلا حق لبعض المراجع أن يميز ذلك، كما لا حق لمجلس الأمة أو مجلس الوزراء أو من أشبه، أن يميزوا ذلك لأن العنوان الثانوي لا ينطبق على جميع الأمة بواسطة مجلس الأمة أو مجلس الوزراء أو مجلس الأعيان أو ما أشبه، بل اللازم أن يعينه شورى المراجع الذين هم وكلاء الأئمة والأمة مأمورة بالأخذ منهم لا الأخذ من سواهم.

ثانياً: أن لا يصبح ذلك قانوناً، بل يكون خلاف القانون من باب الاضطرار، والضرورات تقدر بقدرها.

فكلما كان هنالك عنوان ثانوي ينطبق عليه هذان الشرطان فهو عنوان ثانوي حقيقي يجب على المسلمين إتباعه، أما إذا فقد أحد الشرطين فليس عنواناً ثانوياً، ولا يجوز تطبيقه على البلاد الإسلامية.

كيف تحلّ مشكلة الطوائف؟

السؤال الحادي عشر: كيف يكون الحكم بين الشيعي والسني؟

الجواب: في المجلس الأعلى للمسلمين في الدولة الإسلامية ذات الألف مليون مسلم، فيحكم أكثرية السنة على السنة، ويحكم أكثرية الشيعة على الشيعة، بوجود من الفقهاء والعلماء الذين اجتمعوا في مجلس الشورى الأعلى.

وأما بالنسبة إلى أمور المسلمين كافة، فاللازم تحقق أكثرية المجلسين، فإنهم هم الذين يحكمون، فإذا فرضنا أن في المجلس الأعلى عشرة أعضاء من السنّة، وعشرة أعضاء من الشيعة، فإذا أرادوا الحكم على كافة المسلمين فاللازم وجود ستة أعضاء أو أكثر من السنّة، وستة أعضاء أو أكثر من الشيعة، لا أن يكون المعيار الأكثرية المطلقة، مثلاً: كان هناك أحد عشر عضواً، عشرة من الشيعة وواحد من السنة، فإن هذا غير منطبق على الموازين، بل المنطبق على موازين، هي الشورى، على ما ذكرناه وقد فصلنا هذا الأمر في كتاب مستقل،

ص: 726

والأقلية من الشيعة أو من السنة في أي بلد من البلدان، لا يضيق عليهم إطلاقاً وإنما كل طائفة من هاتين الطائفتين لهم قضاؤهم المستقل وصلوات جماعتهم وسائر شؤونهم، و كان هذا سائداً في العصور الإسلامية، كما شاهدنا بعض ذلك في لبنان وفي العراق وفي الكويت، وفي غيرها حيث كان هنالك القضاء الشيعي والقضاء السنّي، والأوقاف الشيعية والأوقاف السنية، والإعلام السني والإعلام الشيعي، وهكذا.. أما البحث الحر وحرية العقيدة وحرية الرأي وحرية التأليف فلكل شأنه في الإطار الإسلامي، كما هو القانون العام لبلاد الإسلام على أن لا يتجاوز أحد على الموازين الإسلامية، وهذا أمر مستساغ لا تعقيد فيه.

وفي العالم المعاصر، ثمة نموذج لهذا الأمر:

«حزب المؤتمر» في الهند الذي أسهم في تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني، مارس عمله السياسي ، رغم وجود مائة وخمسون مذهباً، وسبعمائة لغة، وثلاثة آلاف قومية، وستمائة حكومة، مع ذلك تمكن الجميع أن يتحركوا معاً ويحرروا بلادهم من الهيمنة البريطانية، وإن خرجت الهند من أيدي المسلمين التي حكموها أكثر من ألف سنة، وقد كان ذلك خسارة كبيرة إلا أن الكلام في أن الطوائف بامكانها أن تصافق بعضها البعض ، ويحرروا البلاد من سلطة الأجنبي المستعمر. وإذن؛ فليتصافق في البلاد الإسلامية السنة والشيعة لإنقاذ بلادهم من سلطة المستعمرين الغربيين والشرقيين، ومن التمزّق والتشتت، وسيادة القوانين الوضعية، بدلاً عن القوانين السماوية.

وقد رأينا نحن المسلمون كيف أن الغربيين، بعد أن كانت تسودهم الحروب الطاحنة والدموية بدوافع دينية أو سياسية، أو مصالح على المياة والأرض، توجهوا الى العقلانية في التفكير، فجمعوا شتاتهم حول موازين ثابتة، وقوانين محددة ، وتعاونوا فيما بينهم، ثم استبدلوا السيف والعنف بالشورى. نفس التجربة يجب على المسلمين خوضها، بأن نجمع أنفسنا بكل قومياتنا ولغاتنا وحدودنا واقليمياتنا ومذاهبنا المختلفة، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).

ص: 727

وقال سبحانه: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103).

وقال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).

إلى غيرها من الآيات والروايات الآمرة بالتعاون والتجمّع وتحكيم الشورى بأكثرية الآراء في الإطار الإسلامي، المتمثل بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.

والله الموفق المستعان.

ضرورة الإعداد

يقول القرآن الحكيم: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 46 - 47).

إن انتصار أية ثورة في التاريخ، وانتصار أي مبدأ في الحياة لا يمكن أن يأتي لشعب على طبقٍ من ذهب.

إن في الثورة تضحيات، وقبل التضحيات هناك العمل الطويل الشاق. فالثورة من بدايتها إلى نهايتها عمل متواصل من أجل بلوغ الهدف.

والحياة صراع بين قوى الخير، التي يمثلها المؤمنون الصادقون، من جهة، وبين قوى الشر والضلال، التي يمثلها الكفار والمنافقون، من جهة أخرى.

هذه هي سُنة الحياة وهي تتطلب من الإنسان أن يكون واقعياً مع نفسه ومع الواقع الخارجي، فلا يتمنى ويضمر في قلبه شيئاً يريد تحقيقه دون عمل حثيث من أجله.

وقد دلت التجارب الحيوية، إن أي شعب يريد الانتصار، عليه الإعداد والاستعداد لتقديم الثمن لانتصاره، والثمن هو الوقت والراحة وكل شيء يملكه،

ص: 728

وإن سُنة الله في الأرض تقول: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).

فالحياة السعيدة للذين يجاهدون ويعملون، وإن نصيب القاعدين والمتخاذلين هو الذل والمهانة في الدنيا والآخرة، ثم يرث هذه الدنيا، عباد الله الصالحون الذين يعدون العدة.

لذا فإن على الأمة الإسلامية التي تجاهد من أجل الحق ضد الباطل، المتمثل في الأنظمة التي سادت عالم اليوم، أن تعد العدة وتبدأ المسيرة لكي تصل إلى أهدافها السامية.

الصراع بين جبهة الحق وجبهة الباطل

إن النضال الذي تخوضه الأمة يشكل جبهتين: جبهة تمثل الحق، وهي الشعوب وقياداتها الصالحة، وجبهة تمثل الباطل وهي الأنظمة، والصراع بين الشعب والأنظمة الفاسدة، هو بالحقيقة صراع وجود، فالشعب المناضل، إنما يرمي لإسقاط النظام الفاسد، وإقامة حكم الله في الأرض، بينما تصدّي السلطة لمطاليب الشعب ، إنما هو لإخماد حركته وإسكات صوته، ثم التحكم به بقوة الحديد والنار، من خلال فتح المعتقلات على مصراعيها لخنق الأصوات الإيمانية الثائرة من أبناء الشعب، ونستطيع أن نقول إن الصراع بين الأمة والأنظمة إنما هو صراع بين رسالتين متضادتين: رسالة السماء ورسالة الأرض، التي وضعها الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، والمواجهة بين أية سلطة وأي شعب في العالم، هي قمة الصراع بين تلك الرسالتين ذات المصلحتين المتناقضتين.

و الصراع في هذه الحياة ضرورة تقتضيها طبيعة الإنسان وطبيعة الشعب المضطهد الذي يريد الخلاص من الأغلال المفروضة عليه، والتناقض بين الإنسان وأخيه الإنسان قائم في اقتسام المغانم والمصالح، فقد خلق الناس وهم على هذه الشاكلة: تناقض بين الشعب الذي يمثل جبهة الحق، وبين الشعب

ص: 729

الآخر المضلل الذي يمثل جبهة الباطل، عداوة بين حزب الله وحزب الشيطان. يقول الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة: 36).

والعداوة بين الجبهتين ليست عداوة عنصرية أو طائفية، إنما هي عداوة بين نظام يمثل القيم والمفاهيم المنحرفة، وبين شعب يؤمن بقيم معاكسة لتلك القيم، وهي القيم السماوية السامية وهذا التناقض نابع من طبيعة الأنظمة وتركيبتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وطريقة تفكيرها، وسينشأ من التباعد بين الأمة والأنظمة، مواجهة حقيقية في يوم من الأيام، وهذه المواجهة سوف تحدد مستقبل الدولة الإسلامية وجغرافيتها السياسية بالنسبة إلى إنقاذ العالم، ومن الطبيعي أن نرى المواجهة أو ننتظرها، فالشعب الذي يعيش أبناؤه في أقبية السجون وتحت التعذيب ويلفهم الحرمان لابد وأن ينتفض ويتخلّص من الرق والعبودية في يوم ما ويخلص العالم معه.

وهنا تأتي مرحلة الإعداد وهي المرحلة الصعبة الشاقة في حياة أي شعب يطالب بالتحرر والاستقلال.

لنأخذ بزمام المبادرة

إن الشعب الذي يهيئ نفسه للانتصار وإقامة الحكومة القائمة على مبادئ التوحيد يجب أن يثبت جدراته في ساحة المواجهة مع الأنظمة، أما إذا رفض المواجهة ولم يعد العدة لها ولم يخض الصراع مع النظام في سبيل تحقيق أهدافه، فإن أحداث الصراع ستشمله وتطويه شاء أم أبى.

إن الشعب الواعي والذكي، والذي وصل إلى درجة من الوعي السياسي، هو الذي يفهم ويقرّ بهذه الحقيقة في الحياة، ويجند طاقاته وإمكانياته لخوض المواجهة المصيرية مع الأنظمة.

وكذلك فإن أي شعب في دولة يحكمها الانحراف مهدد بالدخول معها في صراع من أجل إزالتها.

ص: 730

ونحن المسلمين، يجب أن نكون على أتم الاستعداد، ومهيئين نفسياً لدخول الصراع مع الأنظمة القائمة، لكن لا بالحرب بل بالسلم، وإلا صار الصراع مفروضاً من قبل الأنظمة.

إن الكثير من الصراعات التي وقعت في العالم كانت حسب تخطيط وإرادة الآخرين من الحكام أو القوى العظمى فإذا لم نعدّ نحن أنفسنا تفلت المبادرة من أيدينا.

ومن الواجب أن تتخذ الأمة الإسلامية المبادرة في إدارة الصراع والمواجهة مع الأنظمة لتكسب المعركة وتنتصر بإرادة الله تعالى.

لا.. للانتظار البارد

إن إنتظار خوض الصراع بين الشعب وجماهيره، وبين الأنظمة لا يجب أن يفهم أنه انتظاراً بارداً، صامتاً، ساكناً، إنما انتظار الصراع بمعنى الإعداداً الدائم والمستمر لساعة المواجهة.

إن الكثير من جماهير الأمة تمني نفسها بالانتصار على الأنظمة، وأن تتحرر من الأغلال والاستبداد والدكتاتورية.

وشريحة أخرى من الجماهير المؤمنة يُمنيّ نفسه هو الآخر بخوض الصراع مع الأنظمة من أجل مصلحة رسالته وقيمه ومبادئه. وشريحة أخرى يزعم أنه في يوم الصراع يستطيع أن ينتصر على العدو.

ولكن القليل منا يعرف أن هذا الانتصار وهذا الانتظار ليسا بالتمني وإنما بالعمل الجاد والإعداد الدائم والمستمر للنهضة.

كيف ننتصر في المعركة

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: بماذا ننتصر على الأنظمة؟

إن انتصار الإسلام في العالم لأجل صياغة جديدة للعالم وإقامة الحكومة الإسلامية، يتطلب أموراً ثلاثة لابد منها وهي:

ص: 731

أولاً: الإعداد النفسي للصراع.

ثانياً: الإعداد البدني.

ثالثاً: الإعداد التنظيمي.

أولاً: الإعداد النفسي

فالإعداد النفسي للصراع عبارة عن صراع إرادة الأمة مع إرادة الأنظمة، بمعنى أن الشعب يملك الإرادة والعزيمة، وخصمه المتمثل في النظام الفاسد، يمتلك أيضاً تلك الخصائص.

وإرادة الشعب تتحدى إرادة النظام وعزيمته التي هي عزيمة البقاء، وهذا هو صراع الإرادة.

وعندما نقول ب- (صراع الإرادة)، فإنما نقصد أن المسلم يجب عليه القيام بإعداد نفسه وشحذ عزيمته، فإن قسماً كبيراً من عملية خوض الصراع مع النظام والانتصار عليه وبلوغ الهدف، مرتبطة بالتهيئة النفسية وشحذ الإرادة.

وعندما يتصف المسلم بالشجاعة والإرادة والإصرار على المواجهة رغم الظروف، فإنه سينتصر حتماً بإذن الله .

وكمثال على ذلك: المواجهة الأولى مع أعوان النظام في الشارع أو في الأزقة أو عن طريق الإضرابات العمالية والامتناع عن الذهاب إلى مؤسساته، كل ذلك بحركة سلمية، وهذه المواجهة تحتاج إلى شحذ الإرادة والإعداد النفسي للإنسان لكي يستطيع المقاومة في هذه المرحلة ويكون مستعداً لتقبل ردود الفعل التي سيقوم بها النظام وأجهزته.

يجب على المسلم أن يتحلى بمثل هذه النفسية وأن يتمرن عليها، لأنه عندما تكون نفسيته معدة وإرادته حديدية فإن باستطاعته المقاومة حتى النفس الأخير.

وكذلك فإن انتظار المواجهة مع أعوان النظام في الشارع أو في المصنع أو المدرسة أو الجامعة أو الحوزة أو أي مكان آخر تعطي الإنسان دفعة وإرادة قوية

ص: 732

بالإضافة إلى النفسية المهيأة لخوض المعركة والاستمرار فيها، وقد تكون مواجهة مع أعوان النظام في أحد الشوارع كافية لأن تدفع الآخرين للوقوف بوجهه وخوض الصراع في قرية من القرى أو مدينة من المدن، إذ أن المواجهة الأولى قد أعطتهم درساً في الإرادة والعزيمة والمقاومة.

كما أن التدريب على المناورات، وكيفية خوض الصراع مع النظام الفاسد، تعطي شحنة من الخبرة والإرادة النفسية المعدة للمواجهة.

إن الظلم والإرهاب الذي يشيعه النظام الفاسد، يجب أن يجعلنا مؤمنين بضرورة مواجهة مثل هذه الإجراءات، وإعداد أنفسنا الإعداد الذي نستطيع من خلاله الصمود وأن نقاوم ونحطم هذه القيود.

قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 45).

والصبر في مرحلة المواجهة ينمي إرادة الإنسان، وكذلك الصلاة، هي الأخرى تنمي الإرادة لدى المؤمن وتدفعه نحو الانطلاق دون خوف وجزع، إذ أن الخوف لا ينبغي أن يكون إلا من الله (عز وجل).

قال تعالى: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (المائدة: 54).

وعلينا نحن أبناء الأمة، أن نتحدى الصعاب والعقبات في طريق الانتصار، فعملية الانتصار ليست سهلة كما يتصورها بعض الناس، بل إن من واجبنا خوض الأعمال الصعبة وتحدي ظروف السجن والاعتقال والتصفية والهجرة والنفي.

إزالة العقبات النفسية

ثم إن هناك عقبات نفسية أمام الانسان، مثل الجُبن والخضوع للأقوى، تمنع الإنسان من العمل، فإذا خاف الإنسان من هذه العقبات لن يكون باستطاعته التخلص من ربقة القيود والأغلال المفروضة عليه، فعلى الإنسان أن يزيل هذه العقبات ويربي نفسه على الشجاعة والإقدام حتى يكون بمستوى خوض الصراع لأجل الإنقاذ.

ص: 733

إن تنمية المواهب والتربية الذاتية، وصقل الشخصية وشحذ النفس، تمثل ضرورات لابدّ منها لتحقيق الانتصار.

إن النظام السائد في عالم اليوم، يمتلك الوسائل الفتاكة لقمع المظاهرات وسجن المصلحين وتعذيبهم وأحياناً قتلهم ومصادرة أموالهم، كما فعل المشركون بالرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه في صدر الإسلام، فعلى الإنسان أن يصمم على مواجهة كل تلك الأساليب.

وهناك حقيقة لابد من معرفتها، وهي أن المصلح يجب أن ينتظر من النظام المواجهة العنيفة، لذا فإن عليه أن يكون مستعداً في هذه المرحلة لتفويت الفرصة على النظام.

إن النظام الفاسد، كما علمتنا الثورة الإسلامية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لا يتساهل مع الجماهير فإنه سيضع كل إمكانياته وقدراته في سبيل القضاء على المقاومة الشعبية لحكمه.

ثانياً: الإعداد البدني

دروساً نستفيد منها في تنمية إرادتنا، بالقيام بالأعمال التربوية، فالصوم وذكر الله تعالى والصلاة في جوف الليل، وغيرها، تُعد من العوامل التي تجعلنا نمتلك الإرادة الحديدية التي لا تقهر.

أما الإعداد البدني للصراع فهو ضرورة من الضرورات التي يستطيع بها المسلم الانتصار ، فاللازم أن تكون الأبدان صلبة وقوية تتحمل المجابهة وتقوى على ما يقوم به النظام من أعمال الفتك والإبادة.

إن كلمة (نعم) في سؤال المسلم هل أنه يريد الإصلاح؟ ليست كافية لأن تغير تاريخاً ونظاماً وتبني حضارة، إنما الإعداد النفسي والبدني هو الكفيل بأن يسقط النظام ويقيم على أنقاضه النظام الإسلامي المنقذ للعالم، وإن الوسائل والإعداد الذي نتخذه يجب أن لا يكون قشرياً واهياً ينكسر ويتلاشى مع أول مواجهة.

ص: 734

إنما يجب الإعداد إعداداً إيمانياً راسخاً في النفس، وأن تكون النفس مطمئنة ومسلّمة بضرورة الإعداد للمواجهة، ومستعدة لخوض الصراع حتى النصر أو الشهادة.

ومن جانب آخر يجب أن ندرب أنفسنا على الوسائل التي تعطينا (النفس الطويل) في الصبر عند المواجهة، فلا نتنازل للأنظمة الفاسدة، خلال ساعات أو أشهر، بل يجب خوض المعركة ولو كانت طويلة، فطول المعركة يجب أن يلازمه الصبر وارتفاع درجة الإرادة في النفس وصلابة الأبدان لتحمل المشاق والمصاعب ، فإن هذه الأمور أساسية يجب أن يتدرب عليها المسلمون في كل مكان.

فاللازم إذن أن نتسلح بالروحيات العالية، والأبدان القوية لخوض المعركة والتسلح بالإيمان يجب أن يكون متقدماً، فإنه هو الذي يضمن صعود الإنسان واستقامته في المعركة نظراً لإيمانه بعدالة قضيته.

ثالثاً: الإعداد التنظيمي

فاللازم أن نعرف أن الحياة اليوم تعتمد اعتماداً أساسياً على التقنية في جميع المجالات، وهذه التقنية ليست فقط في الأدوات التي يقدمها الإنسان في حياته، بل في التعاون والتنسيق بين طاقات الإنسان نفسه أيضاً.

وحضارة اليوم مبتنية على التعاون في كافة الحقول والمجالات.

ونحن المسلمين الذين نتطلع إلى إقامة صرح الأمة الإسلامية وإنقاذ العالم، يجب علينا أن نعد أنفسنا تنظيمياً في التنسيق بين خبراتنا، وطاقاتنا وتوجيهها التوجيه السليم في التخلص من الحكام الذين يقفون أمام تقدم الأمة، فالحكام الديكتاتوريون هم عقبات الأمم في طريقها نحو التقدم والتحرر والاستقلال .

إن بناء الحضارة في الوقت الحاضر يعتمد اعتماداً كلياً على التقنية، وعليه

ص: 735

فنحن كأمة تطمح إلى بلوغ أهدافها وإقامة حكومتها التي ستكون القاعدة لتغيير العالم حضارياً، يجب أن تتبع الأسلوب العلمي والتقني، حتى نحسن تفجير مواهبنا وطاقاتنا بشكل جيد خلال عملية الصراع، وضروري أن يكون هذا التعاون قبل مرحلة المواجهة وعندها، فقد يقوم شعب من الشعوب بالمواجهة مع نظامه ويقدم التضحيات الجسام ولكنه بفقدانه التعاون والتنسيق بين طاقاته تذهب تضحياته هباءً دون أن يستطيع الانتصار، لذلك قال الله سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).

فيجب أن نعبئ طاقاتنا الفكرية وقدراتنا المادية وأن ننخرط في التنظيمات الإسلامية التي تبلور عملنا وجهودنا وتصبها في مجاريها السليمة تحت قيادة مراجع الأمة.

التنظيم الثوري

إن معرفة التنظيم الثوري والانخراط فيه، ضرورة لابد منها. وقد قال علي (عليه السلام): (ونظم أمركم)(1).

وكذلك معرفة التنظيم الاجتماعي وغيره من التنظيمات التي تصب طاقات الإنسان وقدراته في قنواتها المناسبة، وتستغلها في الواجبات التي يجب على الناس معرفتها والعمل بها، فاللازم الانخراط فيها وممارسة الأعمال والخدمات داخلها فإن: (يد الله مع الجماعة)(2).

وهكذا فإن تنظيم عملنا وتنظيم أنفسنا والتنسيق فيما بيننا في مرحلة الإعداد، شيء نحتاج إليه كما نحتاج إليه بعد الوصول إلى الهدف، ففي هذه المرحلة إذا لم نعمل بإتقان وتنظيم فسوف تتأخر مرحلة الانتصار لربما إلى سنين طويلة، فعلى

ص: 736


1- بحار الأنوار: ج11، ص60.
2- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص18.

المسلم أن يتدرب على جميع الوسائل والأساليب في مقاومة الأنظمة حتى إذا جاءت ساعة المواجهة لا يكون كالنعامة التي تدس رأسها في التراب، وذيلها لمهب الريح حتى يأخذها الصياد.

فعلينا أن نوجد هذا التعاون وتلك القدرة التنظيمية الواسعة بيننا ونعبئ طاقاتنا على هذا الأساس لكي تتوفر بعد ذلك عوامل وشروط الانتصار، وتصبح المواجهة حينها أمراً سهلاً ومرحلة نعبرها بسلام.

فمن الممكن أن تكون مرحلة الصراع وإدارته مع النظام الفاسد أصعب من مرحلة ما بعد الصراع، فيما إذا كسبنا المعركة، فمرحلة ما بعد الانتصار، وما فيها من مصاعب ومؤامرات ضد الحركة الإسلامية سواء المؤامرات الداخلية أو الخارجية، وكذلك بناء مؤسسات جديدة أسهل من مرحلة المواجهة، إذ سوف تكون كل القدرات حينها بأيدي الأمة فنستطيع أن نواجه بها الخصم، ناهيك عن اكتشاف الشعب لنفسه من جديد وفدائه اللامتناهي لمكتسبات ثورته.

والواجب على المسلم أن يلقن الحكام ما لقنه المسلم الأعزل - إلا من سلاح الإيمان - في أول الإسلام فصاروا عبرة للشعوب في نضالها ضد قوى الظلم والضلال، أما أن لا نحرك ساكناً ولا نبذل جهداً فمعنى ذلك إنا لا نعترف بمواهبنا وقدراتنا وطاقاتنا، ومن ثم لا نستطيع أن نعرف نواقصنا ونكملها، وقد قال علي (عليه السلام) في حكمة بعثة الأنبياء: (ويثيروا لهم دفائن العقول)(1).

التعاون بين القطاعات

إن التعاون بين قطاعات الأمة بمستوى علماء الدين والخطباء والتجار والعمال والمهندسين والأطباء والطلبة الجامعيين والحوزويين والفلاحين والعمال وغيرهم، واجب ضروري يجب أن نزرعه في أنفسنا، فإن التعاون بين هذه القطاعات سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى نتائج مثمرة بعد مدة من الزمن.

ص: 737


1- سورة الحجرات: آية، 13.

وهذا التعاون الذي نريد أن نوجده بين أفراد الأمة بعضهم مع بعض وبين المنظمات والمؤسسات الإسلامية وبين الشعب وقيادته المرجعية وكذلك القدرة التنظيمية داخل الأمة ليس شيئاً يمكن أن يوجد بين عشية وضحاها، إن القضية تحتاج إلى عمل جاد ومستمر بيننا جميعاً وخاصة بين الشعب والقيادة المرجعية التي ستقود الصراع.

إزالة الحواجز النفسية

هناك حواجز كثيرة تفصلنا عن بعضنا البعض، وهذه الحواجز لا تظهر في فترة العلاقات المتبادلة والرحلات السياحية، إنما تظهر عندما نبدأ بالعمل الجدّي.

هذه الحواجز التي تقف جداراً سميكاً، يجب أن ننسفها، حاجزاً بعد آخر، حتى تتحد وتتلاحم الأمة ونستطيع بالتالي العمل والتنسيق جميعاً.

ويجب أن نشعر أنفسنا في هذه المرحلة بضرورة تحطيم الحواجز وذلك بمعرفة بعضنا للبعض الآخر، وتقييم كل منا للآخرين كي نكتشف طاقاتنا كشعب ونعترف بهذه الطاقات وتكون لدينا قناعة تامة بطاقاتنا وقدراتنا وإن باستطاعتنا بلوغ الهدف وهذا هو أهم شيء نحتاجه.

دور الأخلاق في عملية التغيير

ويجب أن لا يخفى علينا شيء مهم وهو السلوك الأخلاقي السيئ وجوانب النفاق والحسد والكسل التي تقف عقبات كأداء أمام عملية البناء والإعداد الذاتي للفرد والأمة.

هذه الأنماط الأخلاقية الفاسدة، يلزم أن نقلع جذورها من الأساس بيننا كأفراد وكأمة،حتى تكون قلوبنا نظيفة ونفوسنا خالية من الشوائب، كي ننطلق للبناء الذاتي ونخدم الآخرين ونقيّمهم التقييم السليم، فلا نقيم الإنسان بسنه

ص: 738

وبماله وجاهه ونسبه، بل هناك مقاييس إسلامية يقيم بها الفرد والتي تتمثل في تقواه وقدرته على القيادة والأخلاق التي يتحلى بها.

هذه المقاييس يجب أن لا نغفل عنها ونحن في مرحلة البناء.

الاعتراف بقيمة الآخرين

ومن الأمور الأساسية التي استطاع الإسلام أن يتقدم بها في هذا المجال هو اعتراف الإنسان بقيمة الآخرين.

يقول الإمام علي عليه السلام: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(1). كما قال (عليه السلام)، وقبله قال الله في كتابه الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(2).

إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعث بجيش قوامه أربعة آلاف جندي وكان فيه كبار الصحابة وجعل عليهم (أسامة بن زيد) أميراً وقائداً وهو ابن السابعة عشر، فلم يتفوه أحد منهم بكلمة بأن يقول: إنه صغير السن ولا يمتلك الخبرة في أمور الحرب ولا يمتلك القدرة على القيادة وعلمه قليل بالنسبة لعلم الآخرين فشاب عمره سبعة عشر سنة، يقود جيش عظيم، ويخضع له كل الجنود والضباط والمراتب بما فيهم كبار الصحابة.

وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على المقاييس الصحيحة التي يضعها الإسلام في تقييم المسلمين لأنفسهم التقييم السليم وتسليمهم للقيادة المتمثلة في الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وطاعتهم لممثله أسامة بن زيد.

وهذه الأمور والمتطلبات لا نستطيع أن نوجدها فجأةً في مجتمعنا، وإنما يتربى المجتمع على هذه القيم والأخلاقيات السامية بصورة تدريجية.

وبهذا نستطيع أن نوجد التنظيم الحقيقي الذي فتته الاستعمار داخل

ص: 739


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص42.
2- بحار الأنوار: ج9، ص194.

مجتمعاتنا. إن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كان أمة في عصره، لذا استطاع أن يبني أمة قوامها الآن مليار إنسان بالإضافة إلى أنه (صلّى الله عليه وآله) أصلح قسماً كبيراً من العالم غير الإسلامي فالديمقراطية والانضباط والنظافة والعلم واحترام الإنسان، الموجود في العالم، كلها من آثار وجود نبي الإسلام.

فعندما تتوفر عوامل الإعداد في الأمة ويكون هناك ارتباط وثيق بينها وبين القيادة الإسلامية، التي تتوفر فيها الشروط والمؤهلات القيادية ، ستكون قادرة على التخلص من الاستبداد والتبعية ولنا في القيادة الإسلامية خير مثال.

لا.. للتفكير السلبي

ونحن المسلمين يجب أن لا نفكر بأننا غير مؤهلين للقيادة وأخذ زمام الأمور في العالم وبناء حضارة الأمة الإسلامية، بل علينا أن نطرد كلمة (مستحيل) من قاموس حياتنا وعندها سنستطيع إذا ما أخذنا المبادرة وتفهمنا الرؤية والبصيرة الصائبة أن نرجع إلى السيادة.

ضرورة التنظيم الأسري

وعلى أبناء الأمة أن يقوموا ببناء الخلايا التنظيمية في المجتمع والأسرة أيضاً.

إننا بحاجة إلى تنظيم أسري وأن يكون بين الأسرة من ينظم شؤونها ويعمل على تربيتها وتفجير طاقاتها وإعدادها لخوض الصراع والمواجهة القادمة.

فالأسرة في الإسلام تعتبر خلية إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية، ولكن الاستعمار بعد أن غزا مجتمعاتنا الإسلامية دمر هذه الخلية لأنه يعرف أن هذه الأسرة إن ظلت على طبيعتها وقدرتها وتركيبتها فإنها سوف تكون قادرة على مقاومة التيارات الخارجية.

والحقيقة أن النظم الاقتصادية المنحرفة في العالم تدمر الأسرة، لذا رأينا المصانع في العالم الغربي والشرقي كيف حاولت وبالدرجة الأولى إفساد وتمييع

ص: 740

الأسرة، ذلك لأنها ليست فقط خلية اجتماعية تشترك في الأكل والنوم والمسكن وإنما هي خلية إيمانية واقتصادية واجتماعية وسياسية يتنامى فيها الأخذ والعطاء، فالأب حينما يكون سياسيا وذا رسالة فإنه يحمل هذه الرسالة إلى أبنائه الذين هم بدورهم يحملونها للآخرين في داخل الأسرة والمجتمع وهكذا بالنسبة إلى سائر الفضائل.

لذا فإن الأسرة في المجتمع الإسلامي تتحول إلى أسرة إيمانية سياسية تحمل القيم والمفاهيم الإسلامية بجميع أبعادها حتى تستطيع أن تكون اللبنة الأولى للتنظيم ولإقامة المجتمع الإسلامي مجتمع التوحيد والخير والصلاح.

الاهتمام بالعشائر

وهناك لبنة ثانية يجب أن نعمل على إيجادها، وهي التنظيم الإيجابي للعشائر. فقد حاولت ثقافة الاستعمار أن تسلب خير ما عندنا وتعطينا شر ما عندها.

فقد تم سلب الثقافة الإسلامية من التجمعات العشائرية والقبلية التي يجب أن تكون مجتمعة.

والسؤال كيف يكون التنظيم العشائري إسلامياً؟

الجواب:

على هذه القبيلة أو تلك العشيرة، أن تجعل لها رئيساً بالمفهوم الإسلامي (لا بالمفهوم الجاهلي).

وليس الواجب أن يكون رئيس القبيلة أو العشيرة ذلك الإنسان الكبير السن والأفضل في النسب، وإنما يكون الأفهم والأعدل والأعلم والأقدر على القيادة، وحتى إذا كانت هناك انتخابات يجب أن ينتخب واحد من خيرة أبناء العشيرة أو القبيلة، وهؤلاء جميعاً يكونون قوة اجتماعية وسياسية واقتصادية فلو استطعنا أن نخلقها في مجتمعاتنا ونبنيها على الأسس الإسلامية، فإننا سنستطيع أيضاً بناء

ص: 741

التنظيم في المحيط الاجتماعي للشارع وفي الحي والقرية في لجان بعيدة عن أعين الأنظمة تمارس نشاطاتها في تنظيم الجماهير وتوجيهها.

المجالس الحسينية

هناك تجمع وتنظيم أساسي لا يمكن التغافل عنه وعلينا أن نعيره أكبر اهتمامنا ألا وهو (التنظيم الحسيني) فمجالسنا الحسينية التي يقيمها أبناء الشعب في أيام عاشوراء وأربعين الإمام الحسين (عليه السلام) ووفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) والصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) ومجالس الوفيات للأئمة عليهم السلام والمجالس الأسبوعية والشهرية التي تقام في المساجد والمدارس والبيوت، كل هذه المجالس يجب أن تكون ضمن تنظيم حسيني في كل مدينة وفي كل قرية، وتكون هناك قيادات منتخبة وتنسيق بين المجالس في اختيار الخطباء، وتنظيم المواكب العزائية، واختيار الشعارات الإسلامية التي تنمي في نفسية الشعب روح الحركة والاندفاع نحو مقاومة الأنظمة.

الرؤية الواقعية

ثم إنه يجب أن تكون جماهير الأمة المؤمنة واقعية مع نفسها وفي رؤيتها ومنظارها إلى الأحداث، وهذه الواقعية تكمن في أننا اليوم نخوض صراعاً مريراً لمواجهة أعدائنا في العالم وعلينا أن نحسم المعركة لصالحنا بإعدادنا الجيد لأنفسنا.

إن بيننا وبين الإعداد حاجزاً سميكاً وهذا الحاجز يكمن في سعة الصدر وضيقه، فعلينا أن نربي أنفسنا على شرح الصدر: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طه: 25)، وأن تكون قلوبنا منشرحة مع الأمة في العمل.

وهذا في الوقت الذي يجب أن يتحول ضيق صدرنا إلى عداوة مشحونة ضد الأنظمة: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29).

إن للإنسان أعداءً في المجتمع ولكن عليه أن يعرف عدوه الحقيقي هي الأنظمة الحاكمة التي كانت السبب في تكوين مثل هذه العناصر المنحرفة.

ص: 742

إن الأنظمة تريد أن تحطم قوة الأمة وهؤلاء الذين يحكمون المسلمين المعادون للأمة، يعرفون بأن حزب الله هم الغالبون، وإن هذا الحزب الإسلامي العالمي يهدد مصالحهم، لذا فإنهم يسعون إلى تحطيمنا بشتى الأساليب، بالسجون والمعتقلات، والتعذيب الجسدي القاسي حتى الموت، وبالتهجير عن الوطن، ومصادرة الأموال، وغير ذلك من الممارسات اللاإنسانية.

إن الأنظمة الفاسدة تخشى المجاهدين العاملين، ومن الطلائع المؤمنة التي هي طلائع الجيش الإسلامي المشيد لحكومة القرآن في العالم، فالأنظمة، تعد الأمة عدوها الأول والرئيسي فتحاول في كل يوم أن تفتت هذه الأمة، فعلينا أن نستغل كل ساعة من ساعات حياتنا في مقاومة الباطل.

عمل الأنظمة الفاسدة وعملنا

تعمل الأنظمة الفاسدة الكثير في سبيل الحفاظ على عرشها، فهي تستورد الخبراء العسكريين، وخبراء (الأمن) وخبراء التمييع والإفساد، وخبراء التعذيب لمجتمعنا، وتبني السجون والمعتقلات لحبس الثوار المؤمنين.

وأعمال الأنظمة هذه لا يمكن التخلص منها إلا بالعمل الجاد والإعداد المستمر من قبل أبناء الأمة حتى نكون في مرحلة نستطيع أن نقول للأنظمة (لا) وللإسلام وللحكومة الإسلامية (نعم).

وفي ذلك يجب أن يسبق بعضنا بعضاً.

(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).

وعلى الفرد منا أن يقوم بجهود جبارة وأعمال بطولية تساوي أعمال وبطولات العشرات من أبناء الشعب الآخر حتى يكون هذا العمل الخالص لله ثمرة نجنيها بعد حين بإذن الله تعالى، قال تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا) (الأنفال: 65).

ص: 743

ص: 744

الخاتمة

يجب أن تكون قناعاتنا كاملة وراسخة، بأن الإعداد للمعركة المصيرية ضرورة تقتضيها الحالة المأساوية التي نعيشها، فإن انتظار الفرج بدون العمل لا يغني الإنسان شيئاً.

قال سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا).

وقال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39).

وفي هذه المرحلة يجب أن نترك ونتجنب النظرات الحزبية الضيقة، ونترفّع عن الخلافات، وإن كانت هناك خلافات بيننا فيجب أن تتحول إلى سلاح لأجل التغيير في مواجهة الأنظمة، وأن تكون قلوبنا مفتوحة للآخرين، وأن لا نفرق بين هذا وذاك وأن يكون المقياس هو (التقوى) و(حسن الإدارة)، فإن اتصفنا بأخلاقيات وسلوكيات فاسدة كالحسد والنفاق والنظرات الضيقة، لن نستطيع أن نؤسس حكومة عالمية ونظاماً أقوى من الأنظمة القائمة.

والله سبحانه وتعالى، إنما يرفع العمل الصالح، أما العمل الذي يشوبه النفاق والرياء فيمكث في الأرض بل يتحول إلى (سجّين).

لذا على الأمة أن تقوّي نفوس جماهيرها، وتتحمل المشاكل وتجتاز العقبات، وأن تفكر في مصلحة الإسلام والأمة والعالم أجمع فإن: (آلة الرئاسة سعة الصدر)(1)، كما قال علي (عليه السلام)، فعلينا بتربية أنفسنا وإعدادها وفق هذا المقياس.

ص: 745


1- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4، ص42.

إن المجتمع الذي يمتلك سعة الصدر ويبحث عن الكفاءات والمقاييس الصحيحة ولا يبحث عن العلاقات والارتباطات الحزبية الضيقة، هذا المجتمع يتقدم على المجتمع الذي يفكر فقط وفقط في مصالحه الشخصية الضيقة.

وتربية الإنسان لنفسه على سعة الصدر، والتفكير الجدي وفي مصلحة الآخرين في مصلحة أمته والعالم وقبل كل شيء في إسلامه وقيمه من الأمور التي يجب أن يتحلى بها أبناء شعبنا بجميع فئاته وفصائله ففي ذلك خسران العدو واقتراب نهايته بإذن الله تعالى.

إننا نتطلع إلى مستقبل مشرق، وهذا المستقبل يتطلب منا الوحدة والتعاون والتنسيق بين طاقاتنا الفكرية وقدراتنا المادية، وتسخيرها في خدمة القضية الأساسية، وأن يكون ولاؤنا للقيادة الإسلامية المرجعية التي تتصدى لقيادة الحركة ضد الأنظمة الفاسدة، ولاءً إيمانياً تابعاً من الشعور بالمسؤولية الإلهية.

فلتكن نفوسنا صبورة ورؤانا بعيدة، ولتكن أهدافنا وتطلعاتنا سامية، حتى تكون شخصيتنا قادرة على استيعاب المجموع وتجميع طاقاته وقدراته.

وليعلم المسلمون أن خوض ساحات العمل والإعداد للمواجهة من الأمور التي يتوقف عليها انتصارهم وعزتهم، وإن الإعداد لخوض الصراع مع الأنظمة أمر لا بد منه، وإلا فإن الأنظمة ستدوم سنوات أطول، و تتمكن من تبديد قدرات المسلمين وتكسر شوكتهم.

أما الخيال والأحلام والتمنيات ، فانها لا تصنع شيئاً، ومن الوهم الكبير التصور إن بناء الحضارة يتم بالتمنيات، فالإنسان لا يستطيع أن يصنع بالتمنيات والحلم حضارة أو دولة قوية ومهيبة، إنما يكون ذلك بالمساعي والجهود المضاعفة والعمل الجاد من أجل بلوغ الأهداف.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم: 39 - 40).

ص: 746

(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)(2).

أما أن نجلس في بيوتنا ونقول: أننا نستطيع تحقيق أهدافنا.. فإن ذلك ما لا يقبله العقل ولا ينتهي إلى نتيجة. فعلينا أن نسعى من أجل المقاومة وبقوة، ونقف أمام العدو ونصرخ في وجهه دون خوف أو تردد، وأن نقاطع دوائر الأنظمة الفاسدة وشركاتها وكل ما يرتبط بها وأن نترك الخدمة فيها.

فاللازم على الأمة أن تبذل جهودها في سبيل انتصار ثورتها وقيمها ومبادئها وتكوين حضارتها من أجل الله والله فقط، قال تعالى: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (الأنعام: 91). لا أن يكون تفكيرها مادياً يبحث عن المغانم.

والشعب الذي يعد نفسه لانتصاره من الآن، أفضل من الإعداد بعد عشر سنوات، لأن الإعداد اليوم سوف يعطي النتائج بعد فترة زمنية، لا تتعدى فترة الإعداد بعد عشر سنوات بإذن الله تعالى.

ثم إن الأناشيد والشعارات والعواطف لا تكفي، فمرحلة الشعارات والأناشيد يجب أن ترافق مرحلة الإعداد النفسي والجسدي والتنظيمي لشخصية الفرد والأمة.

ولو أننا ربينا أنفسنا ومجتمعنا الإسلامي على هذه المفاهيم والقيم فإننا سوف نجني ثمرة هذه التربية في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.

وإننا بعملنا الجاد وإعدادنا المستمر لمرحلة المواجهة سوف لن تخيب آمالنا وطموحاتنا، والله عز وجل مع الذين يعملون الصالحات لوجهه ومع الذين يكدحون في هذه الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم وتحكيم مبادئهم الخيرة.

(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (السجدة: 28 - 29).

ص: 747

(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة: 21).

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران: 160).

(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).

والحمد لله أولاً وآخر

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

ص: 748

الفهرس

الصورة

ص: 749

الصورة

ص: 750

الصورة

ص: 751

الصورة

ص: 752

الصورة

ص: 753

الصورة

ص: 754

الصورة

ص: 755

الصورة

ص: 756

الصورة

ص: 757

الصورة

ص: 758

الصورة

ص: 759

عالم الغد

قراءة متجددة لكتاب

(الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام)

ص: 760

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.