الإمام الحسين عليه السلام عظمة إلهية وعطاء بلا حدود

هوية الکتاب

الإمام الحسين عليه السلام

عظمة إلهية وعطاء بلا حدود

آية الله السيد محمدرضا الحسيني الشيرازي رحمه الله

يهدي ثواب طباعة هذا الکتاب إلی سيدنا الإمام الحسين عليه السلام

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الخامسة

1442ه. 2020م

الشجرة الطيبة

النجف الأشرف: مکتبة الإمام الحسن المجتبی عليه السلام

ص: 1

اشارة

يهدي ثواب طباعة هذا الکتاب إلی سيدنا الإمام الحسين عليه السلام

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الخامسة

1442ه. 2020م

الشجرة الطيبة

النجف الأشرف: مکتبة الإمام الحسن المجتبی عليه السلام

ص: 2

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تتمحور المحاضرات التي يحتوي عليها هذا الكتاب حول عدة نقاط مهمة، تتعلق بأهمية النهضة الحسينية ودورها الفاعل والمتواصل في تطوير الوعي الإنساني كي يستقيم في حياته ويقدّم لآخرته، كما أنها تقدم نماذج رائعة لأولئك المؤمنين الأتقياء من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وما قدموه من تضحيات هائلة تتجاوز بذل الأموال أو الأعمال لتصل إلى حد الجود بالنفس.

كما أن إحياء الشعائر الحسينية وتقوية المجالس الحسينية تمثل الطريق الناجع لبناء الاستقرار الأخلاقي والنفسي للشخصية الإنسانية، كما أنها تشكل حصناً منيعاً للحفاظ على الهوية الإسلامية أمام عواصف العولمة ورياحها العاتية.

وقد قدّم الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه الله) عصارة أفكاره وآرائه في هذه المحاضرات، وضمَّنها كل ما من شأنه تثبيت ودعم وتطوير الشعائر الحسينية وأهمية القيام بها إحياءً لملحمة الإمام الحسين (عليه السلام) وتدعيماً ونصرة لفكره ومبادئه (عليه السلام) التي تُعدّ أهم وأقوى الأفكار والمبادئ الإنسانية الخالدة.

وسوف يطلع القارئ في هذا الكتاب القيم على النماذج الإيمانية الراسخة والخالدة، وهي ترسم النماذج الرائعة لأولئك المؤمنين الرائعين الذين بذلوا الغالي والنفيس في طريق نشر وتعميق مبادئ أهل البيت (عليهم السلام) وفكرهم النيّر على مدى الأزمان، حيث تحثّ هذه المحاضرات القيمة على أهمية بناء الحسينيات والمساجد ودور العبادة من لدن القادرين والمتمكنين على ذلك من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، ولا ينحصر هذا بمن يتمتع بقدرة مالية وثراء كبير كالتجار وأصحاب الشركات والمعمل أو غيرهم، بل هنالك نماذج من المؤمنين الفقراء الذين استطاعوا أن

ص: 3

يشيدوا (ليس حسينية واحدة بل حسينيات عديدة) كما فعل ذلك (بائع السماور) هذا الرجل الفقير الذي تمكن من بناء أربعة عشر حسينية وهو ليس تاجراً ولا ثرياً، بل كاسباً بسيطاً يتخذ من عمله اليومي مصدر رزق له ولعائلته، ولكنه كان يمتلك الهمة العالية والإيمان الراسخ بأهل البيت (عليهم السلام).

ولذلك فإن هذه المحاضرات القيّمة الواردة بين دفتيّ هذا الكتاب ستكون طريق هداية وتنوير للمؤمنين كي يقوموا بدورهم في مجال نصرة أهل البيت (عليهم السلام) ونصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ونشر أفكارهم ومبادئهم إلى أقصى المديات وأبعدها، كما حدث ذلك عندما رأى أحدهم من بعيد رايات سود ترفرف فوق جبال الهمالايا وحين استغرب هذا المنظر حاول أن يستفهم عنه فاقترب من مكان الرايات وسأل عنها فتبيّن له بأنها حسينية بناها المؤمنون في ذلك المكان الذي يقع في أقصى الأرض.

ولعلنا سنجد في فحوى هذا الكتاب النفيس الكثير من هذه النماذج التي تصلح أن تكون منارات هدى لنا وللجميع كي نقوم بدورنا في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) على أفضل وجه.

ولا تتوقف معاني هذا الكتاب الغنية والعميقة عند هذا الحد، بل هنالك جوانب كثيرة مهمة جداً تخوض فيها وتوضحها للمؤمنين، ومنها الجانب التربوي حيث تعرض كثير من المحاضرات قصصاً وحكايات واقعية، ولكن لا يكتفي الفقيه المقدس الشيرازي (رحمه الله) بتقديم الحكايات والقصص التربوية بل ويقدم الحلول والنصح بما ينبغي القيام به من لدن الآباء والأمهات والمربين عموماً إزاء ذريتهم من الأبناء والبنات على حد سواء، فتُدعم النصيحة أو القول بالدليل الواقعي المرشد لكي يسهل التعامل معها.

ومن المعاني المهمة التي يقدمها هذا الكتاب هو الجانب الأخلاقي وكيفية تعميقه في النفس، والسمو بها إلى مصاف النفوس (الواسعة) القوية التي تترفع عن صغائر الأمور، وتقدم ذاتها قرباناً للحرية، كما فعل سيدنا وإمامنا الخالد الحسين بن علي (عليهما السلام) حين وقف ضد الظلم الأموي وقدم روحه وأرواح ذويه وصحبه الأكرمين قرباناً على مذبح الحرية في سبيل الله تعالى.

ولعلنا سنجد في هذا الكتاب تلك الطاقة اللامحدودة للإنسان عندما يقرر ذلك بنفسه

ص: 4

وفقا للنماذج التي وردت في المحاضرات القيمة للفقيه المقدس الشيرازي (رحمه الله) ، حيث لا قنوط ولا يأس ولا تردد قط، بمعنى أن المتلقي سيجد تلك الشحنات الإيمانية الكبيرة في معاني هذا الكتاب لكي يتقدم بها باتجاه تفعيل مكامن القوة لديه، وكل ذلك سيُستمَد مما يرد في هذه المحاضرات من دروس وعبر ومواقف وأفكار نيّرة للإمام الحسين وأهل البيت (عليهم السلام).

ولذلك سنلمس تركيزاً قوياً على أهمية إحياء الشعائر الحسينية بكل السبل والوسائل المتاحة، سواء من خلال إقامة المجالس، أو العزاء في البيوت والحسينيات وغيرها، أو من خلال الإحياء الدوري المتواصل لأيام عاشوراء وأحداثها الجسام ودروسها التي يمكن أن نستنبط منها سبل النجاة والرفعة في الدنيا والآخرة، وكذلك الاستغلال الأمثل لجميع المناسبات التي تتعلق بمواقف الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عبر حياتهم المليئة بالصراع ضد الظلم والطاغوت، وتثقيف وتوعية المجتمع.

فقد أعطى الإمام الحسين (عليه السلام) لله تعالى كل شيء وبلا حدود وقدم التضحيات التي لم يشهد التاريخ ولن يشهد مثيلا لها، فكان عطاؤه بلا حدود وبلا نهاية، فكان علينا أن يكون عطاءنا للإمام الحسين (عليه السلام) ومشاركاتنا ومواساتنا بلا حدود، حتى نكون بمستوى الحب والولاء للعظمة الحسينية.

وهكذا ستكون لنا رحلة واسعة متعددة الجوانب مع فحوى هذا الكتاب، غايتها أن يهتدي الإنسان ويعرف جادة الصواب من غيرها ليحث الخطى فيها قُدُما إلى ربه تعالى، وذلك من خلال مؤازرة الإمام الحسين (عليه السلام) فكراً وموقفاً ومبادئ جميعها تصب في صالح المسلمين والإنسانية جمعاء.

مؤسسة الشجرة الطيبة

17 / ربيع الأول / 1442 ه ق

يوم ميلاد النبي الأعظم صلی الله عليه وآله وسلم والإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

ص: 5

الفصل الأول : عظمة الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

· الإمام الحسين (عليه السلام) والعظمة المرتبطة بعظمة الله تعالى

· عوامل تميّز شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) وتضحياته

· خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) الاستثنائية

ص: 6

1

الإمام الحسين (عليه السلام) : والعظمة المرتبطة بعظمة الله تعالى

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ)(1).

صدق الله العلي العظيم

إن العظماء الذين جاؤوا إلى هذه الحياة على نوعين:

النوع الأول: محدودو العظمة

هذا النوع يشكله الغالبية من العظماء الذين جاؤوا إلى هذه الحياة، فملؤوا وأثّروا، ولكن عظمتهم كانت محدودة بفترة زمنية، فقد كانت في عشر سنوات أو أربعين أو ثمانين عاماً، أو ربما تكون ليوم واحد فقط! وهو ما نلاحظه من مطالعة سيرة بعض العظماء الذي كان عظيماً ليوم واحد فقط.

إن عدد الذين حكموا على الكرة الأرضية خلال فترات التاريخ الماضية، ربما يفوق عشرات الألوف، لكن عظمتهم كانت مؤقتة وآنية، أي إنها لسنوات ثم ينتهي كل شيء، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أولئك بالقول: «أين العمالقة وأبناء العمالقة...»(2)؟ لا نجد لهم اليوم أي أثر، ولا يسمع بهم أحد، ذهبوا في طيات التاريخ، رغم أن منهم السياسيين وقادة الجيوش العظيمة الذين فتحوا البلاد وحكموا الملايين.

ص: 7


1- سورة النحل: 96.
2- نهج البلاغة: من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الخطبة 182.

من هذا النوع من العظماء كان الاسكندر المقدوني(1) الذي يقال إنه حكم الكرة الأرضية بأسرها، وهو من القلة الذين حكموا العالم كله، وهو طُموح طالما راود الحكام واعتلج في صدورهم، ويقال: إن أربعةً من الحكام حكموا الأرض بأسرها أحدهم كان الاسكندر المقدوني، والآخر هو الاسكندر ذو القرنين(2)، وعندما توفي الاسكندر المقدوني الذي ملك الدنيا كلها، جاؤوا بالكفن وألقَوه عليه فغطى كل بدنه، ولكن بقيت يده خارج الكفن مفتوحة، فجاء أحد الحكماء العالمين وقال: إن هذه اليد المفتوحة خارج الكفن رسالة من صاحبها: أن أيها الناس اعتبروا بحالي، فأنا الذي ملكت الدنيا كلها، وملكت الأموال والأقاليم والبلاد والعباد، أخرج اليوم من الدنيا دون أن آخذ شيئاً بيدي.

قل للذي ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القطن والكفن(3)

النوع الثاني: العظماء طول الزمن

هذا النوع من العظماء ممن لا يحدد الزمان عظمتهم، وإنما هم باقون عبر القرون، وليس خلال ثمانين أو مائة عام، وهذا النوع هم الأقلية من العظماء.

لكن ما السبب في وجود عظماء محدودي العظمة؟ في المقابل هناك عظماء غير محدودي العظمة؟ وهل هناك من صدفة في المسألة؟ أم هنالك علل في هذا الكون؟! وهل أن الصدفة وراء حوادث الكون الصغيرة منها والكبيرة؟ الإجابة هي النفي قطعاً.

هو ليس في الوجود الاتفاقي *** إذ كل ما يحدث فهو راقي

لعلل بها وجوده وجب *** يقول الاتفاق جاهل السبب(4)

ص: 8


1- هو الاسكندر المقدوني اليوناني، وكان وزيره الفيلسوف المعروف أرسطو طاليس، وسبق السيد المسيح (عليه السلام) بنحو ثلاثمائة سنة.
2- يرى البعض أن (ذا القرنين) هو نفسه الاسكندر المقدوني، فيما يرى بعض المؤرخين أنه أحد ملوك اليمن، وقيل إنه سُمّي (ذا القرنين) لأنه طاف قرني الدنيا.
3- ورد هذا البيت من الشعر بلفظ آخر: (انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن).
4- كشف المراد في تجريد الاعتقاد: هامش ص 202، وهذا ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته.

فالجاهل هو الذي يقول بوجود الصدفة والمفاجأة، والذي لا ينظر إلى الأمور إلا من بُعدٍ واحد، بينما الملمّ بجميع الأبعاد و المعادلات، لا يمكن أن يقول بهذا القول، فالقضايا العادية إذا لاحظنا دوافعها نجدها حتمية وليست مصادفة، فكيف بالقضايا الكبرى، لذا فإن العظمة المحدودة والعظمة غير المحدودة تقف وراءها جملة عوامل منها وفي مقدمتها: عامل المادة، فالذين ارتبطت عظمتهم بعظمة المادة ينتهون بانتهاء المادة، كما أن التاجر الذي بنى عظمته وكيانه وشخصيته على المال، سينتهي بانتهاء ذلك المال، و قارون الذي كان يملك من الأموال (مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ)(1)، فقد بنى عظمته على المال وعلى تلك الخزائن، لكن عندما انتهى وبات في طيات التاريخ، يُذكر اليوم ليُعتبر به ليس إلاّ، وهكذا كثير من الحكام انتهوا، لأنهم بنوا حكمهم وكيانهم وبيدهم السيف والسوط، وهما أيضاً لم يدوما لهم، فانتهيا وانتهوا هم أيضاً معهما، (لو دامت لغيرك ما وصلت لك).

من هنا فان كل عظمة تُبنى على قاعدة مادية تكون إلى زوال، لذا يقول الله تعالى في الآية الكريمة: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ)(2)، أي إن الذي عند البشر من ثروة وعلاقات اجتماعية وكل شيء ينفد، ولكن ما عند الله باق.

ومن الأعاجيب في التاريخ أن يكون هناك شابّ عمره أربعٌ وثلاثون سنة، ولايملك شيئاً في الحياة، لا بيتاً ولا زوجة، ولا ذرية يحملون اسمه ولقبه، ولا حتى وطن! فهو يسير من أرضٍ إلى أخرى، ويلبس الثياب المرقعة، وعندما يجنّ عليه الليل يأوي إلى برية أو إلى إحدى الكهوف لينام في داخلها، وكان يقول: «فراشي التراب ووسادتي المَدر - وهي الأحجار الصغيرة - وسقفي السماء وشرابي الماء وطعامي ما أكلت الوحوش...)(3)، فهو لا يجد حتى طعاماً ليأكله، فيأكل من نباتات الأرض والأعشاب، أما الذين آمنوا به فكانوا أثني عشر شخصاً - كما يقال - وينقل أن أحدهم قد خانه فبقي أحد عشر فقط، وذلك الشابُّ هو النبي عيسى بن مريم (على نبيِّنا

ص: 9


1- سورة القصص: 76.
2- سورة النحل: 96.
3- راجع بحار الأنوار: ج14 ص321.

وآله وعليه وعلى أُمِّه صلوات الله وسلامه) الذي يزعمون أنهم صلبوه، ونعتقد أن الله تعالى رفعه إليه؛ هذا الرجل يحرّك التاريخ منذ أكثر من ألفي عام، فأية عظمة تجعل إنساناً يحرك التاريخ على مدى ألفي عام؟ واليوم تستمعون في كل مكان في العالم، من خلال وسائل الإعلام من إذاعات عائدة لمسلمين ومسيحيين، وأيضاً صحف وكتب كلها تذكر اسم عيسى المسيح (عليه السلام) ؛ فما السبب وراء ذلك؟

إنه عدم الارتباط بالعظمة المادية، بل الارتباط بالعظمة الربانية.

عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأديان الأخرى

إن العظمة التي نجدها في الإمام الحسين (صلوات الله عليه) لا نجدها في أي شخصٍ آخر على مر التاريخ - علماً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي وفاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم) أعظم من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - وهذا التعظيم ليس خاصاً بنا نحن الشيعة، بل إن كافة المسلمين ومن غير المؤمنين يعظمون الإمام الحسين (عليه السلام) أيضاً.

ينقل أحد الخطباء أنه في إحدى البلاد البعيدة هنالك قرية هندوسية، وفي كل شهر محرم الحرام يقيم أهلها الهندوسيون مجلس العزاء على الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ويدعون الخطيب ليرتقي المنبر ويقرأ لهم المصيبة ويبكون كما نبكي نحن، بل إنهم يطبخون الطعام للمعزين كما نفعل في بلادنا، لكن لا يقدمون طعامهم لهذا الخطيب تفادياً للإحراج، ويقولون: (إنكم لا تأكلون من طعامنا)!

هذه العظمة إنما جاءت لأن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) تفانى في الله وربط نفسه بالله، ومما كان يقوله أو هو عن لسان حاله:

تركتُ الخلق طراً في هواكا *** وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إرباً *** لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

ونقرأ في زيارة الأربعين: «فبذل مهجته فيك...»، أي إن هذه العظمة هي عظمة إلهية، لذا تكون باقية.

من هنا علينا السعي ما أمكننا للارتباط بالله سبحانه وتعالى حتى نضمن البقاء،

ص: 10

فبالقدر الذي نربط أموالنا بالله نكون باقين، كما أنَّ الذين ربطوا أنفسهم بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) من خلال بناء الحسينيات فإن ذكراهم تبقى بعد موتهم، فالإنسان يموت وتذهب أمواله، لكن المسجد والحسينية تبقى له في هذه الدنيا، وتبقى أيضاً عند الله سبحانه وتعالى وهو الأهم.

سرٌّ إلهي

ذهب المستنصر بالله وهو أحد الحكام العباسيين إلى سامراء لزيارة مرقد الإمامين الهادي والعسكري (صلوات الله عليهما)، فرأى المرقد بذاك الجلال والبهاء - طبعاً لم يكن بالشكل الموجود اليوم - فيما الناس يأتون إليه بالنذور ويهدون إليه الستائر والقناديل والشموع ويتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى بمقام هذين الإمامين 3، ثم بعدها انتقل إلى مقابر العباسيين التي تضم مقابر الخلفاء والحكام، وإذا به مكان مقرف وخربة وأبنية مهدّمة لا سقف لها، وتشرق عليها الشمس فتصهرها صيفاً، وفي الشتاء ينزل عليها المطر، كما تسرح فيها الحيوانات السائبة وتفعل ما تفعل! فقال أحد المرافقين للحاكم العباسي: أيها الخليفة؛ مع وجود القوة والسلطة بأيديكم، ليس من المناسب أن تبقى قبور آبائك وأجدادك وكبار بني العباس على هذه الشاكلة، فيما ترى قبر الهادي والعسكري - 3 - بهذه الدرجة الرفيعة، فأجابه المستنصر بهذه الكلمة: (إنَّ هذا سرٌّ إلهي...)(1).

نعم إنها قضية غيبية وليست قضية بشرية، فهي ليست بأيدينا، ومهما شجعنا الناس ورغبناهم لزيارة قبر المتوكل - مثلاً - فإنهم لا يجدون المبرر الكافي لهذه الزيارة، فكونه كان حاكماً أو ثرياً، فإنه تحت التراب لا قيمة له عند الناس ولا عند الله، لأن المال والثراء والسلطة لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، لذا لا يوجد أحد يرغب بزيارة قبر المتوكل العباسي أو قبر أبي العباس السفاح أو أمثالهم، والحاكم العباسي يقرّ بعجزه عن حمل الناس على زيارة قبور العباسيين وإعمارها والاهتمام بها، لأنها قضية دين وعقيدة.

ص: 11


1- راجع الأنوار البهية: ص331.

بالمقابل نلاحظ قبر سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فبالرغم من أنه كان في ظل عدو التشيّع وعدو سيد الشهداء (عليه السلام) وعدو الدين وعدو الله سبحانه وتعالى وحتى عدو الإنسانية، من دون أن يتمكن من فعل شيء، فإنَّه بقي مكاناً يؤمُّهُ الزائرون من مُختَلف البلاد، والسبب هو أن المسألة خارجة من يد العدوِّ، فإرادة الله أقوى من أيّة إرادة اُخرى.

إذن عظمة سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) هي من عظمة الله سبحانه وتعالى، لذا علينا أن نربط أنفسنا بالله وبهؤلاء الأطهار الذين ارتبطوا بالله سبحانه وتعالى، وبمقدار ما نتمكن أن نخصص من أموالنا عشرة بالمائة - مثلاً- لله سبحانه وتعالى، وكان متعارفاً عند الأخيار قديماً أنهم كانوا يخصصون ثلث أرباحهم لسيد الشهداء (عليه السلام) ، ينفقونها للحسينيات ولنشر الكتب التي تؤلف عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأيضاً للاحتفالات البهيجة التي تقام باسم الإمام الحسين (عليه السلام) ، وربما لا يتمكن البعض من ذلك، فبإمكانه التشجيع على ذلك أو المساهمة فيه، بل يتمكن من توزيع الشاي في مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) وهذا يُعد فخراً للإنسان أن يكون موزعاً للشاي في مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) ، بل فخراً لمن ينظم أحذية القادمين إلى مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) ، وإلا فسيقول الإنسان بعدئذ: (يقول يا ليتني قدمت لحياتي)(1)، كما جاء في القرآن الكريم.

(مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوَاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(2).

وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.

ص: 12


1- سورة الفجر: 24.
2- سورة النحل: 96.

2

عوامل تميّز شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) وتضحياته

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

هنالك سؤال يُراود الأذهان ويطرحه الكثيرون، وهو يتناول الموقع المتميّز الذي تختص به قضية الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)؛ فقد شهد التاريخ تضحيات كثيرة، كما شهد العهد الراهن تضحيات كثيرة أيضاً، لكن لماذا هذا التميّز الذي تختص به هذه القضية؟

من جانب آخر نجد تناقضاً بين الحديث المذكور في (أمالي الصدوق) عن الإمام المجتبى (صلوات الله عليه) مخاطباً سيد الشهداء (عليه السلام) بالقول: «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله» (1)، وبين المقولة المشهورة والمعروفة (كل أرضٍ كربلاء وكل يوم عاشوراء)، ولم أجد لهذه الكلمة أي مصدر في المؤلفات الحديثة المعروفة، كما أن بعض المحققين أكدوا عدم وجود أي مصدرٍ معتبر لهذه المقولة المشهورة، طبعاً ربما قصد المقولة: أن الصراع بين الحق والباطل ممتد على مدى الأزمان وهو موجود في كل مكان.

للإجابة على السؤال الآنف الذكر وحلّ هذا التناقض، لابد من القول: إن النظر إلى التضحية تارةً يكون نظراً تجزيئياً، يقيّم التضحية من خلال ذاتها، وهو تقييم ناقص وربما يكون تقييماً خاطئاً، أما التقييم الصحيح فهو التقييم الشمولي الذي ينظر إلى التضحية من خلال جميع أبعادها، فثمة عوامل متعددة ومؤثرة في تقييم التضحية بشكل صحيح، نذكر منها خمسة عوامل:

1. شخصية المضحي.

2. هدف التضحية.

3. طبيعة التضحية.

4. حجم التضحية.

5. نتائج التضحية.

وعندما نريد أن نقيّم تضحيةً مّا يجب أن نقيّمها من خلال هذه العوامل الخمس.

ص: 13


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص 178.

العامل الأول: شخصية المضحي

إن شخص المضحي، يُعدّ عاملاً مهماً، بل إن العامل الإنساني مهم في كل عمل يقوم به عامل، فمن يكون العامل؟ هنالك حديث شريف مذكور في كتب الفقه، له مقطعان: المقطع الثاني أعجب من الأول، وهو منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث يقول في وصيته للإمام علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه): «يا علي ركعتان يصلّيهما العالم أفضل من ألف ركعة يصلّيها العابد»(1)، فالعالم يصلّي كما العابد يصلّي أيضاً، وربما تكون الصلاتان بدرجةٍ واحدة من ناحية الخشوع والخضوع والشروط والمقوّمات، ولكن شخصية العامل تؤثر في قيمة العمل عند الله سبحانه وتعالى، إذن فشخصية العامل مؤثرةٌ في قيمة العمل.

أما المقطع الثاني من الحديث النبوي الشريف، ولعله الأعجب من المقطع الأول: «يا علي نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل»(2)، وفي نسخةٍ أخرى «من عبادة العابد»، وهذا الحديث تأكيد على أن لا نعتمد النظرة التجزيئية، فعالم ينام في مقابل جاهل يتعبد الله سبحانه وتعالى من أول الليل إلى طلوع الفجر، فيكون نوم العالم أفضل من عبادة العابد أو الجاهل، إذن لابد من النظر إلى هوية وشخصية العامل.

فإذا كانت التضحيات في التاريخ كثيرة، لكن من الذي قام بتلك التضحية الكبرى؟ إنه سيد الشهداء (عليه السلام) .. ومن هو سيد الشهداء؟ هل عرفنا سيد الشهداء (عليه السلام) وهل عرفنا الإمام الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليه)؟ هنا تأتي مشكلة المعرفة؛ فمن هو الإمام الحسين (عليه السلام) ؟

معرفة الإمام الحسين (عليه السلام)

عند هذه النقطة تتفاوت درجات المؤمنين؛ فالمعرفة لها قيمةٌ كبرى عند الله سبحانه وتعالى، والحديث الشريف يقول: «... وأفضلكم، أفضلكم معرفةً»(3) ؛ فمن هو

ص: 14


1- مكارم الأخلاق: ص441.
2- المصدر نفسه.
3- بحار الأنوار: ج3 ص14.

الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ هل هو وليٌ من أولياء الله سبحانه وتعالى؟ وهذه درجة من درجات المعرفة؟ وهل هو إمامٌ مفترض الطاعة على جميع الخلق؟ وهذه أيضاً درجة أخرى من درجات المعرفة؟

وهل هو مصلحٌ من المصلحين العظام؟ وهذه درجةٌ أخرى من درجات المعرفة.

ولكن سيد الشهداء (عليه السلام) فوق ذلك وأعظم من ذلك.

أذكر ثلاث كلمات يمكنها تعريف جوانب من شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) :

الكلمة الأولى:

نجدها في حديث اللوح، وهو كنزٌ من كنوز آل محمد، وقد رواه الكليني (رحمه الله) في (الكافي) ورواه الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدين وتمام النعمة) ورواه النعماني (رحمه الله) في (الغيبة) ورواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة) ورواه ابن شهر آشوب (رحمه الله) في (المناقب)، والحديث طويل ويشكّل حقاً كنزاً من كنوز المعرفة، وهو الذي جاء به جبرائيل (عليه السلام) إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثم أهداه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ابنته الصديقة الكبرى فاطمة (صلوات الله عليها) ليّبشرها بذلك، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث: «... وجَعلتُ حسيناً خازن وحيي»(1) ؛ فهل ندرك أبعاد هذه الكلمة؟ وما هو مبدأ الوحي؟ ثم ما هو منتهى الوحي؟

إن مبدأ الوحي هو: (وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا)(2)، أما منتهى الوحي فكان معراج النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث (فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ)(3)، والإمام الحسين (صلوات الله عليه) خازن وحي الله، وهذا جانب من عظمة سيد الشهداء (عليه السلام) ، طبعاً هذا بحاجة إلى تحليل وتفصيل نتركه لمجال آخر.

الكلمة الثانية:

هي التي نقرأها في زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وقد جاءت في الزيارة

ص: 15


1- راجع: الكافي: ج1 ص528، كمال الدين وتمام النعمة: ص310، مناقب آل أبي طالب: ج1 ص255.
2- سورة البقرة: 31.
3- سورة النجم: 10.

الأولى من الزيارات المطلقة للإمام الحسين (عليه السلام) ، و رواها الشيخ الكليني (رحمه الله) في (الكافي)، كما رواها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في (الفقيه) ورواها الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (التهذيب)، فيما يقول الشيخ الصدوق بأنها أصّح الروايات سنداً؛ نقرأ في هذه الزيارة «... إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم، والصادر عما فَصَلَ من أحكام العباد»(1)، إنها الولاية التكوينية المطلقة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لسيد الشهداء (عليه السلام) وللنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم).

الكلمة الثالثة:

وهي المعروفة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث قال: «حسينٌ مني وأنا من حسين»(2)، وهذه الكلمات الثلاث تُعَرِّفُ لنا جانباً من شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) .

العامل الثاني: هدف التضحية

ما هو الهدف؟

إن عبد الله بن الزبير ثار ضد الدولة الأموية، وحرّر - حسب تصوره - مكة المكرمة وقُتل في سبيل ذلك، ولكن ما كان هدفه من وراء ذلك؟ في اللحظات الأخيرة حينما حوصر عبد الله بن الزبير، وأحاط به الجيش الأموي وأخذ يرمي الكعبة بالمنجنيق، فقد عبد الله الأمل بالنجاة، بعد أن ضاقت عليه الحلقة، يذكر المؤرخون أنه جاء إلى أمه: يا أماه ماذا أفعل؟! فقالت له: إن كنت عملت لله فلا تخف، حتى وإن ظفروا بك وقتلوك وذبحوك، وإن كنت عملت للدنيا فبئس ما عملت(3)!

لذا فمن العجيب حقاً أن لا نجد أثراً في التاريخ لعبد الله بن الزبير، وأن لا يتبنى أحد ثورته ولا يُحتفى به ولا تُرفع له راية في أية بقعة من بقاع الأرض فيما نعلم؛ لأن العمل الذي لا يرتبط بالله سبحانه وتعالى، يكون محكوماً بالفناء، فالهدف كان الدنيا

ص: 16


1- الكافي: ج4 ص577.
2- بحار الأنوار: ج43 ص263.
3- راجع: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج20 ص 118.

وليس شيئاً آخر. وقد يكون الهدف هو الآخرة (وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً) (1).

إن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكن هدفه الدنيا، وكان هدفه فوق الآخرة، فالآخرة مهمة وكان يريدها سيد الشهداء (عليه السلام) ويحبها، ولكن هدفه كان أعلى من الآخرة، فما هو هذا الهدف الذي هو أعلى من الآخرة وجنانها وقصورها؟

إن الهدف الأعلى هو الله سبحانه وتعالى، لذا نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) مرتبطةٌ بالله سبحانه وتعالى، ونحن نقرأ في زيارة الأربعين: «...وبذل مهجته فيك» أي في الله سبحانه وتعالى، و(في) تأتي بمعنى (اللام)، أي لأجل الله سبحانه وتعالى، وهذا مقام الأولياء والأصفياء، من هنا جاءت هذه الأبيات على لسان الإمام الحسين (صلوات الله عليه):

تركتُ الخلق طرّاً في هواك *** وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحب إرباً *** لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

العامل الثالث: طبيعة التضحية

قد يكون الهدف هو الآخرة والله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لا يكفي، إذ ربما تكون التضحية لله، ولكنها لا تكون في خط الله، فلا تخدعنّكم الشعارات، ولا يخدعنّكم البريق، إذ ربما يكون القائم بالتضحية والعمل يعيش حالة جهل مركب، أي إنه يظن أنه يعمل لله.

هنالك حديث جميل ينقله الشيخ الحر العاملي (رحمه الله) في (وسائل الشيعة) عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: «لا قول إلاّ بعمل»، وفي المقطع الثاني من الحديث: «ولا قول ولا عمل إلاّ بنية»، لكن القضية لا تنتهي عند هذا الحد، كلا؛ حيث يضيف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة»(2)، أي أن يكون العمل في خط الله، وليس فقط لله سبحانه وتعالى، وذلك

ص: 17


1- سورة الإسراء: 19.
2- فقه الرضا (عليه السلام) : ص 379.

«بإصابة السُّنة. وتُعد حركة الخوارج في التاريخ، أبرز نموذج في هذا المجال، ينقل المحدّث القمي(1)(رحمة الله عليه) في (سفينة البحار) أن بعض الخوارج كانوا مُضلَّلين، فالبعض كان يظن حقاً أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كافر! والعياذ بالله، وهذا مصداق لغسيل الدماغ، فيما كان البعض معاندين متجاهلين، وينقل المحدّث القمّي (رحمه الله) أنه طُعن خارجيّ في بطنه بسيف، فمشى إلى قاتله وهو يقرأ الآية القرآنية: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ) (2) وقتل قاتله، ولعله بعد ذلك سقط ميتاً، لكن هذا العمل لا قيمة له عند الله بمقدار شعرة، ويؤكد القرآن الكريم ذلك في الآية الكريمة: (قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا)(3).

ويأتي الرجل الآخر وفي جبهته آثار السجود إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ويقول له: إعدل ما أراك عدلت! فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن لم أعدل فمن يعدل »؟(4).

وحصل أن رأى الخوارج عبد الله بن خباب وفي عنقه المصحف الشريف، فقالوا له: إن هذا المصحف يأمرنا أن نقتلك! ثم أضجعوه على شاطئ النهر وذبحوه (5)، كما نشاهد اليوم أعمال الذبح في العراق.

إن الخوارج ليسوا قضية تاريخية، وإنما هم قضية حاضرة ومعاصرة، فالذين نشاهدهم في العراق يحملون هذا النمط من الفكر، حيث يأخذون الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ويطلبون منهم شتم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على حدّ السيف، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو نفس رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وفق آية المباهلة(6)، والذي

ص: 18


1- خاتمة المحدثين الشيخ عباس القمي (1294 – 1359 ه) صاحب مفاتيح الجنان.
2- سورة طه: 84.
3- سورة الكهف: 103 - 104.
4- الكافي: ج6 ص139.
5- مستدرك الوسائل: ج18 ص213 ح22534.
6- سورة آل عمران: 61. (فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

قال فيه النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (... حربك حربي وسلمك سلمي) (1).

وربما بعض الأفراد قد شملهم بالفعل عملية غسيل دماغ، فيظن أنه إذا قام بعملية انتحارية سوف يدخل الجنة! ولكن هيهات، فهذه الجماعات الإرهابية التي شوّهت صورة الدين في العالم كلّه، جعلت العالم ينظر إلى كثير من المسلمين على أنهم مجموعة من الإرهابيين المتوحشين الجُناة.

في حين بعث الله تعالى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ليُّتم الحجة، لكن كيف تتم الحجة على كثيرين مع هذه الأعمال؟ إذن علينا أن نلاحظ أننا في أي طريق نسير؟ وعلينا أيضاً أن نفكر في كل جزئيات حياتنا، لنعرف هل أننا نمشي في خط الله أم خط الشيطان؟

العامل الرابع: حجم التضحية

جاء في الحديث الشريف: «أفضل الأعمال أحمزها» (2)، فهل تجدون كتضحية سيد الشهداء (عليه السلام) في العالم كلّه؟

إبراهيم الخليل (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام) نموذج واضحٌ للتضحية في سبيل الله، ولكن الله جعل لتضحيته حداً، فقد أمره الله أن يذبح ولده، فجاء فأضجع ولده وأخذ يمر بالسكين على رقبته ( فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (3)، هذا هو الحدّ، ولكن سيد الشهداء (عليه السلام) ضحّى بلا حد، ولم تكن لتضحيته حدود، فقد اختار التضحية التي لا مثيل لها في التاريخ.

أعطى الذي مَلَكَت يداه إلهَهُ *** حتى الجنينَ، فِداه كلُّ جنينِ

إن سبي النساء ليست قضية عادية، ففي عهد المجدد الكبير الميرزا حسن الشيرازي (رحمه الله) كان الخطيب يقرأ المصيبة وقال: وأُدخلت زينب بنت علي (عليها السلام) على ابن

ص: 19


1- فضائل الشيعة: ص15.
2- جواهر الكلام: ج4 ص265.
3- سورة الصافت: 103 - 105.

زياد... عندها قال المُجدد الكبير (رحمة الله عليه): قف عندك أيها الخطيب حتى نؤدي هذه المصيبة حقّها من البكاء، لنتصور حجم الفاجعة، و من هي زينب بنت علي؟ ومن هو ابن زياد؟

العامل الخامس: نتائج التضحية

إن كُلَّ صلاة يصليها كُلُّ مسلم فوق الكرة الأرضية فهو مدين فيها لتضحيات الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فبعد أن وجد بنو أمية أنهم غير قادرين على الانتصار في الحرب ضد بني هاشم، دخلوا إلى الدين الإسلامي ليحطّموه من داخله، وعندما سمع معاوية المؤذن يقول: «أشهد أن محمداً رسول الله» قال: (لا والله إلاّ دفناً دفناً...) (1)! أما يزيد فقد قال:

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

فحسب قوله: كل شيء كان لعباً وكذباً

لذا فان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنقذ الإسلام بدمائه من براثن بني أمية.

المرجع المعروف السيد عبد الهادي الشيرازي (2) (رحمة الله عليه)، عندما كان يريد الشروع في الصلاة وقبل أن يكبر تكبيرة الإحرام يقول: (السلام عليك يا أبا عبد الله)، وكان يجيب على من يسأل السبب وراء ذلك: بأنه إذا لم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن هذه الصلاة! و لكان بنو أمية قد قضوا على الدين الإسلامي كله، بل على النبوّات كلها.

من هنا كانت الكلمة المعروفة: (الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء)، فالعلة المُحْدِثة هي شخص خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ولكن دماء سيد الشهداء (عليه السلام) هي العلة المُبقية، ولعل هذا يفسر الحديث الشريف للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «حسينٌ مني وأنا من حسين»(3)، بل حتى امتداد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)

ص: 20


1- بحار الأنوار: ج33 ص170.
2- آية الله العظمى الميرزا السيد عبد الهادي الشيرازي المتوفى سنة 1382ه. كان (رحمه الله) شاعراً وأديباً، مضافا إلى تبحره في الأصول والفقه.
3- سنن الترمذي: ج 5 ص324 الحديث 3864.

نفسه، مدين لدماء سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، الأمر الذي يفرض علينا ملاحظة العوامل الخمسة مجتمعةً.

نعود إلى حديث الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله عليه) حين قال: «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله»، فلا يمكن أن تُقاس أية تضحية بتضحية سيد الشهداء (عليه السلام) ولا يمكن أن تُقاس أية ثورة بثورة سيد الشهداء (عليه السلام) ولا يمكن أن يُقاس أي ثائر بشخصية سيد الشهداء (عليه السلام) ولذلك تجدون في الزيارات: «السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله»(1)، وهذا اللقب (قتيل الله وابن قتيله) خاصٌ بسيد الشهداء (عليه السلام) وحسب.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العارفين بقدره، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 21


1- كامل الزيارات: ص 364.

3

خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) الاستثنائية

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يدور حديثنا حول بعض الاستثناءات التي حباها الله تعالى لسيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).. وقبل أن نبدأ في هذا الحديث نقدم هذه المقدمة:

إنَّ هنالك سمةً ملحوظةً في جميع السنن الإلهية، سواء كانت هذه السنن تتعلق بالتاريخ أو بالمجتمع أو بالطبيعة، وهذه السمة هي سمة الإطِّراد، وبعبارة أخرى سمة (الثبات).

إن القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة ويقول: ( فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً) (1)، فالشيء الذي يبدو لنا في بادئ النظر، أن مفهوم التبديل يختلف عن مفهوم التحويل، فالتحويل: تبدلٌ في الموقع مع ثباتٍ في الصفة، بمعنى أن الصفة ثابتةٌ ولكن الموقع يتغير ويتحول، بينما التبديل: ثباتٌ في الموقع وتبدل في الصفة.

إن سنن الله سبحانه وتعالى لا تقبل التبديل ولا تقبل التحويل، وكلمة (لن) في هذه الآية تفيد تأبيد النفي، الله لا يقول (لا تجد) وإنما يقول (لن تجد)، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، فهذه طبيعة السنن الإلهية، سواء كانت متعلقةً بالطبيعة، أو كانت متعلقةً بالمجتمع، أو كانت متعلقةً بالتاريخ.

إن إحدى الاستثناءات الكبرى من السنن الإلهية الثابتة هي قضية سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، ولعل هذا الاستثناء الإلهي نابعٌ من أن العمل الذي قام به سيد الشهداء (عليه السلام) كان عملاً استثنائياً، فنحن لا نجد في التاريخ مثيلاً لهذا العمل ولن نجد في التاريخ مثيلاً لهذا العمل.

إن النبي إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام) يمثل قمةً في التضحية، وأن الله تعالى

ص: 22


1- سورة فاطر: 43.

أعطاه مقام الإمامة على أثر ابتلائه بتلك الكلمات، أي امتَحَنه في نفسه وامتَحَنه في ولده وامتحنه في أهله (فأتمّهن).. (وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً) (1)، ولكن أين الامتحان الذي قدمّه نبي الله إبراهيم (عليه السلام) من الامتحان الذي قدمه سيد الشهداء (عليه السلام) ؟، هل يمكن أن نقارن الامتحان الذي ابتلى الله به نبيّه إبراهيم (عليه السلام) في أهله مع الامتحان الذي ابتلى الله به الحسين (عليه السلام) في أهله؟

إن نبي الله إبراهيم (عليه السلام) قام بتضحية كبرى (رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ)(2) ترك الأهل في ذلك البر الأقفر، وهذه تضحيةٌ كبرى، وقالت له زوجته هاجر: إلى من تكلنا في هذا البر الأقفر؟ فقال (عليه السلام) : أكِلُكم إلى الله، هي عملية نسمعها ولكنها شاقّة..

ولكن أين هذا الامتحان من الامتحان الذي ابتلى الله به سيد الشهداء (عليه السلام) في أهله؟، الامتحان الذي لا نظير له في التاريخ، فالإمام السجاد (صلوات الله عليه) يقول: «كلما نظرت إلى عماتي وأخواتي خنقتني العبرة وتذكرتُ فرارهنّ من خيمة إلى خيمة»(3) فأين ذلك الامتحان وهذا الامتحان؟، أين ذلك الامتحان على عظمته مع هذا، إن امتحان نبي الله إبراهيم (عليه السلام) في ولده كان عظيماً جداً، فأن يأتي أب في كهولته ويذبح ولده، هذا امتحان شاقٌ جداً.

نقرأ في دعاء بمفاتيح الجنان: «يا ممسك يد إبراهيم عن ذبح ابنه بعد كبر سنّه وفناء عمره»(4) أين هذا الامتحان الكبير الذي ابتلى الله به إبراهيم (عليه السلام) من الامتحان الأكبر الذي أمتحن به سيد الشهداء (عليه السلام) في أولاده، في أخوته، في أهل بيته، في أصحابه، في طفله الرضيع؟ وأين الامتحان الذي ابتلى الله به نبي الله إبراهيم (عليه السلام) في نفسه، والامتحان الذي ابتلى الله به الحسين (عليه السلام) في نفسه؟.

إن عمل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) كان عملاً استثنائياً في جميع أبعاده، فقد

ص: 23


1- سورة البقرة: 124.
2- سورة إبراهيم: 37.
3- العقيلة والفواطم: ص182.
4- بحار الأنوار: ج95 ص220.

ذهب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) إلى النهاية في هذا الامتحان، أما نبي الله إبراهيم (عليه السلام) فقد كان لامتحانه حد، إلى اللحظة التي يأخذ فيها السكين ويحاول أن يذبح ولده، لماذا لم يأمره الله سبحانه بأكثر ؟ لماذا يقف هذا الامتحان إلى هذا الحد؟

لبعض العلماء تفسيرات في ذلك ليس الآن مجال بيانها، ولكن سيد الشهداء (عليه السلام) ذهب إلى النهاية بأمر الله تعالى، بمعنى أنه لا أظن أن هناك شيئاً يُتصور ولم يُبتل أو يُمتحن به سيد الشهداء (عليه السلام) فالعمل الذي قام به سيد الشهداء (عليه السلام) كان عملاً استثنائياً في جميع أبعاده.

لله سبحانَه وتعالى قانون في هذا الكون، وهو قانون التعويض، حتى الكافر إذا قدّم أقل عمل، فإن الله يعوّضه عن ذلك في هذه الدنيا، حاتم الطائي كان كافراً ولكنه كان جواداً فعوضه الله تعالى، وفي الآية الكريمة وهي في المؤمنين (أني لا أُضيع عمل عامل منكم)(1)، لاحظوا الآية، مفردة العمل نكرة والعامل نكرة أيضاً، (عمل عامل) بمعنى أي عمل مهما كان، ومن أي عاملٍ كان، فإن الله لا يضيّعه، فكيف بهذه التضحية الكبيرة للإمام الحسين (عليه السلام) بل هذه التضحيات الكبرى وهذا العمل الاستثنائي، فإن الله سبحانه وتعالى عوّضه بتعويضٍ استثنائي، وهذه الاستثنائات تأتي على نحوين:

النحو الأول: الاستثنائات التشريعية

إن الله تعالى جعل لسيد الشهداء (عليه السلام) استثناءات تشريعية في ميدان التشريع، لا توجد لدى أي شخص، حتى لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، إن خاتم الأنبياء (صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل من الإمام الحسين (عليه السلام) بلا إشكال، وأمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل من الإمام الحسين (عليه السلام) ، والصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) أفضل من الإمام الحسين (عليه السلام) بلا إشكال، ولكن هذا العمل الاستثنائي عوضّه الله بجزاءٍ استثنائي في ميدان التشريع.

سأضرب مثالاً واحداً حتى ننتقل إلى النحو الثاني:

إن الجزع مكروه على أيٍ كان كما يبدو من بعض الروايات، وهذه الروايات

ص: 24


1- سورة آل عمران: 195.

مذكورة في كامل الزيارات(1) وهو من الكتب المعتمدة، وفي غيره أيضاً، ولكن هنالك استثناء واحد في ما نعلم وهو الجزع على سيد الشهداء (عليه السلام) ، ليس الجزع فقط وإنما الهلع أيضاً، فما هو الفرق بين الجزع والهلع؟

الهَلَع: كما يقول اللغويون، إن أكبر أنواع الجزع يُقال له هلع، فالإمام السجاد (صلوات الله عليه) يقول: «حتى كادت نفسي تخرج فتبيّنت ذلك مني عمتي زينب فقالت لي: ما لي أراك تجود بنفسك» - لاحظوا العبارات - «فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع»(2)، هلعٌ وليس جزعاً فقط.

راجعوا روايات (كامل الزيارات) إن الجزع كله مكروه ما خلا الجزع على الحسين (عليه السلام) وعلى فرض أنه إذا كان قتل النفس جائزاً فكثير من المؤمنين كانوا يقتلون أنفسهم في يوم عاشوراء من عظم المصيبة، فهذا الذي يأخذ السيف ويضرب به على رأسه، محدد بالحكم الشرعي الذي لا يسمح له بأن يقتل نفسه، وإلاّ لكان كثير من هؤلاء يقتل نفسه جزعاً على سيد الشهداء (عليه السلام) من شدة تفاعلهم إذا كان قتل النفس جائزاً، ولكنه محرّم..

مع ذلك لدينا أحد العلماء وهو الشيخ خضر بن شلال(3) له رأي في هذا الموضوع مذكور في كتابه (أبواب الجنان)، راجعوا رأيه، ولكن المشهور أن هذا حدٌ شرعيٌ، فالتطبير ليس فيه إشكال وهو مظهر من مظاهر الجزع على سيد الشهداء (عليه السلام) .. البعض يظهر هذا الجزع والهلع على الإمام الحسين (عليه السلام) بالضرب على رأسه بالسيف.

راجعوا الروايات، إن الجزع كله مكروه ما خلا الجزع على الحسين (صلوات الله عليه)، وفي رواية أخرى مذكورة أيضا في (كامل الزيارات) في العبارة إظهار الجزع، وهذا استثناءٌ تشريعي في ما أعلم، وإن هذا الاستثناء خاصّ بسيد الشهداء (عليه السلام) .

ص: 25


1- من تأليف المحدث أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي المتوفى سنة 369 ه.
2- بحار الأنوار: ج 28 ص57.
3- الفقيه الشيخ خضر بن شلال العفكاوي النجفي، من تلاميذ الشيخ الأكبر كاشف الغطاء، له كتاب أبواب الجنان وبشائر الرضوان، وكذلك التحفة الغروية في ميراث اللمعة الدمشقية توفي عام 1255ه.

النحو الثاني: الإستثناءات التكوينية من السنن الإلهية

اشارة

وهنا نشير إلى موردين: المورد الأول: استثناءٌ يتعلق بعالم الطبيعة.

المورد الثاني: استثناءٌ يتعلق بالمجتمع.

المورد الأول: استثناءٌ يتعلق بالسنن الطبيعية

إن من المستثنيات على السنن الطبيعية في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قانوناً تكوينياً وتشريعياً أيضاً، بمعنى أن هذا الاستثناء يشكل استثناء مزدوجاً، فهذا التراب الذي تأكلونه محرّم من الناحية التشريعية، ومن الناحية التكوينية ضار، فالتراب مضر، ولكن تراب قبر سيد الشهداء (عليه السلام) يمثل استثناءاً تكوينياً وتشريعياً معاً، فهو شفاء وأمان.

إن قضية السيد البروجردي(1) (رحمة الله عليه) معروفة، إجمالها أن عينه ضعفت وكانت تؤلمه بشدة وقد راجع الأطباء حتى يأس من العلاج، ودخل المعزّون لسيد الشهداء (عليه السلام) يوماً إلى بيته وعلى جباههم طين سيد الشهداء (عليه السلام) ، إنه طين العزاء، وكان على أبدانهم أيضاً، يقول فكّرت مرة واحدة أن آخذ شيئاً من هذه التربة وأضعها على عيني، (فأخذتُ) - ربما أخذ الطين من جبهتهم أو من ثيابهم أو حتى من أقدامهم - يقول: (فوضعتها على عيني) وإذا بالشيء الذي كان ميؤوساً منه، عاد إليه بصره ونظره وعافيته، حدث هذا عندما كان عمره 89 عاماً، وقد فحصه الأطباء ورأوا أنه شفي تماماً، فكانَ الطبيب متعجباً؛ فالإنسان عندما يشيب تشيب كل قواه، بالذات إذا كانت المطالعة والقراءة هي شغل الإنسان، فلم يكن السيد البروجردي (رحمه الله) بحاجة إلى نظارة وعمره 89 عاماً، بل كان نظره أفضل من الآخرين.

السيد الجد (رحمه الله) (2) أيضاً له قضية أخرى، إجمالها أن عينه آلمته فتوسّل بأبي

ص: 26


1- آية الله العظمى السيد حسين بن السيد علي الطباطبائي البروجردي، وُلد في بروجرد بايران أواخر صفر عام 1292 ه- وتوفي بقم صباح الخميس 13 شوال سنة 1380 ه- ودفن في المسجد الأعظم الذي بناه بجوار الروضة المعصومية المطهرة.
2- هو آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه الله) توفي عام 1380 ه.

الفضل العباس (صلوات الله عليه)، يقول العم (حفظه الله) (1) أنه كان في أيام شيخوخته يرى ساعة الصحن الشريف من فوق سطح الدار ونحن في مرحلة الشباب ولم نكن نتمكن من رؤيتها، إن هذا يُعَدُّ استثناءً تكوينيّاً.

في بحر الكويت عندما هاجت الأمواج، كان الوالد(2) (رحمه الله) في المركب وأنا كنت معه لكن لا أتذكر هذا المقطع لأن البحر هاج واضطرب والسفينة هُددت بالغرق والأمواج أخذت تصب المياه إلى داخل السفينة، كان معنا رجل كفيف وكان الموج يتدفق عليه بشدة، ثم نزلنا أنا ومجموعة في الطابق التحتي من السفينة فلا أتذكر هذا المقطع ولكن الأخوة الذين كانوا موجودين نقلوا لنا فيما بعد، أن الوالد (رحمه الله) أخذ شيئاً من تربة سيد الشهداء (صلوات الله عليه) وألقاه في البحر فهدأ، إنه أمان وشفاء، وهذا خرق تكويني للقوانين التكوينية.

وتوجد قضية مطوّلة أيضاً منقولة عن أحد تجار مدينة مشهد حين كان مُشرِفاً على الموت - والقضايا في هذا الباب كثيرة لكن لا يوجد مجال لنقلها - فجاءه الشيخ حسن علي الطهراني(3) وأعطاه شيئاً من تربة سيد الشهداء (عليه السلام) ، وكان التاجر يوصي الشيخ حسن علي الطهراني، أي كان في حالة وصية (هكذا إفعل بأموالي)، يقول الشيخ الطهراني، أخذ شيئاً من تربة سيد الشهداء (عليه السلام) وتناولها، وبمجرد ما وضعها في فمه وإذا به يشعر بأنه عاد كما كان من قبل في تمام العافية والصحة.

وجاء في بحار الأنوار أنه بعد قتل سيد الشهداء ودفنه (صلوات الله عليه)، جاءت مائة ألف امرأة عاقر إلى قبر سيد الشهداء، مائة ألف وليس واحدة أو اثنتين، عاقر وعقيم وكلّهن أنجبن فيما بعد مائة ألف مولودٍ(4).

ص: 27


1- آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) .
2- المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد بن مهدي بن حبيب الله الحسيني الشيرازي، ولد في النجف الأشرف سنة 1347ه- ونشأ وترعرع في كربلاء المقدسة ثم هاجر إلى الكويت ومنها إلى قم المقدسة، توفي بقم في 2 شوال سنة 1422 ه- ودفن في الروضة المعصومية المباركة.
3- الشيخ حسن علي الطهراني المتوفى بمشهد الامام الرضا (عليه السلام) وكان من علمائها المشهورين.
4- بحار الأنوار: ج 45 ص201.
المورد الثاني: إستثناء في مجال المجتمع

هذا الحب والإنشداد الذي تجدونه في القلوب نحو سيد الشهداء (عليه السلام) ليس قضية طبيعية، فهو موجود حتى قبل مقتل سيد الشهداء (عليه السلام).. فالشيء الذي يظهر من بعض الروايات أنه يعود ذلك حتى قبل وقوع القضية ربما بآلاف الأعوام، فقد ذُكِرَ في الروايات أن أحد الأنبياء (عليهم السلام) (1) عندما سمع اسم الحسين (صلوات الله عليه) حزن وبكى، في حين أن قضية الإمام (عليه السلام) لم تكن قد وقعت بعدُ.

نقل عالم كان يعيش في بلاد الغرب أنَّ هنالك فلماً أنتجه المسيحيون في بلاد الغرب حول السيد المسيح (عليه السلام) حتى اليوم شاهد هذا الفلم في العالم حوالي 250 مليون إنسان، مع أن اليهودية العالمية تحركت بشدة ضد هذا الفلم، لأنه ضد اليهود، فهم (اليهود) كانوا ضد المسيح (عليه السلام) وضد حركته وهم الذين أرادوا صلبه - كما يروي الفيلم أنهم صلبوه على حد زعمهم - ومع ذلك شاهد هذا الفلم 250 مليون فردٍ في العالم تقريباً، مع أن قضية السيد المسيح (عليه السلام) لا تصل إلى قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قطعاً.. فإنهم في مقطع من الفلم يصورن أن اليهود صلبوا عيسى (عليه السلام) ، - والذين صُلبوا كثيرون، فأخذوه ووضعوه على الصليب وصلبوه لا أكثر - مع العلم بأن قضية الصلب كاذبة، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلََكِن شُبّهَ لَهُمْ)(2). لكن انظروا ماذا يفعلون بالعالم اليوم؟ كيف يجذبون الناس بذلك؟ في الحقيقة إذا كنا نحن ننتج هكذا أفلاماً حول سيد الشهداء (عليه السلام) فماذا كانت ستفعل بالعالم؟!

نقل لي أحد الأخوة الذي عاد من بلاد الغرب قبل مدة، أن أخاه في بلاد الغرب ذهب إلى الدار التي تعرض هذا الفيلم حتى يراه، فقال: كان يوجد شخص مسيحي يرتبط بكنيسة مسيحية فقال لي: هذه البطاقة لك مجاناً، فقلت له لماذا ؟ قال: إن كنيستنا رأت أن هذا الفيلم أفضل دعاية للمسيحية في العالم فتقدم بطاقاته مجاناً، إن

ص: 28


1- ورد ذلك بالنسبة إلى النبي آدم (عليه السلام) والنبي نوح (عليه السلام) والنبي إبراهيم (عليه السلام) والنبي موسى (عليه السلام) والنبي عيسى (عليه السلام) وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) في قضايا عديدة.
2- سورة النساء: 157.

الكنيسة تشتري البطاقات وتوزّعها مجاناً، وتقول اذهبوا وشاهدوا الفلم.

ونحن - تجار الشيعة وشبابها - لابد أن نتحرك في هذا الاتجاه، فقد اتصل بيّ بعض الشباب الذين أعرفهم، وقال إن أحدهم أقام تمثيلية حول سيد الشهداء (عليه السلام) في يوم عاشوراء في إحدى البلاد العربية، وقد حضر أكثر من أربعين ألف شخص لمشاهدة التمثيلية، كما كتبت صحف ذلك البلد، ونُقل أن المشاهدين كانوا على سطوح المنازل والعمارات واقفين لمشاهدة التمثيلية، إن هذا الانشداد وهذا الحب ليس شيئاً طبيعيّاً.

وقد ذكر العالم الذي كان يعيش في بلاد الغرب، أن شاباً بوذياً جاءني فعرضتُ عليه الإسلام وكلما تحدثتُ معه لم يقتنع ولم يؤثر كلامي فيه حتى انتهى الحوار، وفي نهاية المطاف، قال الشاب البوذي: سمعت أن عندكم شخص يُقال له (الحسين)، فما هي قضية هذا الرجل ؟ فقال العالم: بدأت أشرح له بعض الجوانب من قضايا كربلاء وعاشوراء وإذا بملامح الكآبة والحزن أخذت تبدو على وجهه شيئا فشيئا، ثم شرحتُ له بعض الجوانب الأخرى وإذا به انفجر بالبكاء، وكلما مضيت في الحديث ازداد بكاؤه، يقول العالم، لقد خنقتني العبرة من بكائه فلم أتمكن أن أتكلّم فألَحَّ عليّ وتوسل أن أستمر في حديثي، لكني لم أقدر، فأكملت الحديث بصعوبة بالغة، وبعد أن أكملت حديثي، أخذ يكفكف دموعه، ثم قال ما هي شرائط الدخول في الإسلام وفي مذهبكم، فقلتُ له: الشهادتان والشهادة بإمامة الأئمة الإثني عشر (صلوات الله عليهم) فأعلن إسلامه وتشيّعه، قال العالم: إن هذا الشاب البوذيَّ تحول اليوم إلى مؤمن جيد وهو أكثر التزاماً من كثير من المؤمنين.

يذكر أحد أقطاب العامة المهمّين بالنسبة لهم: اذهبوا إلى القاهرة وشاهدوا الناس ماذا يفعلون في مشهد الحسين (عليه السلام) ، يقول: الذين ذهبوا إلى هناك يقولون كأنه مثل الحج، في يوم متعلق بالإمام الحسين (عليه السلام) ربما هو يوم ميلاده (عليه السلام).. يقول في تفسير هذه الآية: (إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ)(1):

(والحسين (رضوان الله عليه) - هذه عبارته طبعاً - وهو يُستشهد في تلك الثورة العظيمة

ص: 29


1- سورة غافر: 51.

من جانب والمُفجعة من جانب، أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة بالمقياس الصغير كانت هزيمة، أما في الحقيقة الخالصة والمقياس الكبير فقد كانت نصراً، فما من شهيد في الأرض تهتّز له الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين (رضوان الله عليه) يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين)(1). هذا ما ذكره واحد من كبار أقطابهم عن الإمام الحسين (عليه السلام) في كتابه.

استثناءٌ تكويني في عالم الطبيعة

إن الله تعالى جعل النار محرقة ولكن هنالك استثناءين في ما نعلم:

الاستثناء الأول: نبي الله إبراهيم (عليه السلام) الذي أُلقي في النار فكانت برداً وسلاما عليه. (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ)(2).

الاستثناء الثاني: سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، انظروا الآن في نقاط مختلفة من العالم، في إيران وفي بعض النقاط في العراق، وفي تايلاند، وفي الكويت، وفي الهند، يدخلون النار التي تلفح من بعيد، ولا يصيبهم مكروه.. إلاّ إذا كان في نيّة الإنسان إشكال.

نقل لي أحد مراجع التقليد هذه القضية وقال: قبل أربعين عاماً تقريباً دخل كثيرون في العراق هذه النار(3)، وربما يكون بعض الأخوة اليوم ممن جرب هذا العمل، وقال: إن النار كانت تلفحُ الوجوه من بعيد، فالإنسان لا يتمكن من التقرّب إليها، لكن أحدهم دخل النار وهو ينادي يا حسين، ثم دخل الآخر وهكذا كثير منهم دخلوا، وكان من بينهم العلامة الخطيب الشيخ عبد الزهراء الكعبي (رحمة الله عليه)

ص: 30


1- انظر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج15 ص286. وصاحب هذه المقولة هو سيد قطب الداعية المصري المعروف.
2- سورة الأنبياء: 69.
3- عزاء النار، عزاء تاريخي يعد عصر يوم عاشوراء - عادةً وربما ليلة عاشوراء أو صبيحته - ويمشي عليها المؤمنون مواساةً مع أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حيث اُحرقت خيامهم، وهم ينادون (يا حسين يا حسين)، فلم تؤثر النار فيهم ولا تحرقهم ببركة الامام الحسين (عليه السلام) وبقدرة الله تعالى.

حيث دخل النار بجوربه المصنوع من النايلون لكن حتى جوربه لم يحترق..

وكان هناك شخص ينظر وبمجرد أن دخل النار احترقت رجله وصاح متألما، فجاؤوا إليه وأخذوه أو خرج هو وذهب إلى المستشفى وبقي في العلاج مدة.

نقل لي هذا المرجع وقال: أنا ذهبت إلى عيادته وسألته، إن كل هذه الجموع دخلت النار ولم تصب بشيء، فلماذا احترقت رجلك أنت؟!

أجاب: في الواقع عندما رأيت هذا المنظر قلت في نفسي: إن هذا الأمر غير معقول! وكان هذا الرجل طبيباً، ولابد من وجود سر في القضية، فالنار مُحرقة بحسب قوانين الطبيعية، - كأنّ الله تعالى مقيّد بإطار قوانين الطبيعة!، لكن الله تعالى هو خالق هذه القوانين ونحن مقيّدون بها، أما الله سبحانه فغير مقيّد بهذه القوانين -.

ويستمر الرجل الطبيب قائلا: يجب أن أكتشف هذا السر، وقبل أن يدخلوا النار، جاء أحد العلماء وأخرج شيئا مّا من جيبه وقذفه في النار، فقلت لنفسي: لقد انكشف السر! إن هذه مادة ما تبطل مفعول النار، قلت إذن هذا هو السر. وأضاف الرجل: إن الناس دخلوا في النار وقلت سأدخل، لكن بمجرد ما دخلتها وإذا بي أحترق، واستمر في العلاج أشهراً؟

قال المرجع فقلت للرجل: واضح إن ما ألقاه العالم في النار كان شيئاً من تربة سيد الشهداء (عليه السلام) ، ولذلك في بعض البلاد، في الكويت مثلاً، توجد هنالك جالية في إحدى الحسينيات يدخلون في عزاء النار، ويقرؤون: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ)(1).

هذا العطاء هو استثناء، وهو التعويض الإستثنائي في مجال التكوين وفي مجال التشريع، وفي مجال الطبيعة وفي مجال المجتمع.

إذن ينبغي أن نحاول، نحن أيضاً أن يكون عطاؤنا للإمام الحسين (عليه السلام) استثنائياً، وأن لا نفكر في الحدود، أي نحاول أن نقوم بعطاء استثنائي، هكذا يلزم أن نفكر، لكن ما هو هذا العطاء الاستثنائي الذي يجب أن نفكر فيه؟

ص: 31


1- سورة الأنبياء: 69.

فالإنسان ينبغي أن يرى ما الذي يتمكن عليه، هل في حقل التأليف، أو في حقل المنبر، أو في حقل المجتمع، أو في الحقل المالي؟ لا أن يفكّر أحدنا في المحدود فقط.

تجارة مع الإمام الحسين (عليه السلام)

هذه قضية نقلها ابن العم عن العم(1)، قال قبل أكثر من خمسين عاماً، فكر مجموعة من أعيان كربلاء المقدسة أن يشتروا البيوت المحيطة بالصحن، لأن الصحن كان صغيراً، وفكروا في توسيعه، فاشتروا البيت الأول ثم البيت الثاني فالثالث، وأحد الأشخاص بمجرد ما علم بذلك أخذ يجدد بيته، يصبغه ويرممه، وعادة الشخص عندما يصبغ بيته يعني انه يريد قيمة أعلى، فذهب هؤلاء الأعيان واشتروا البيوت إلى أن وصلوا إلى بيت الرجل من أجل أن يجعلوا هذه البيوت في الصحن الشريف.

جاء هؤلاء الأعيان إلى بيت الرجل مع مقيِّم، فقالوا له، نحن نريد أن نشتري منك هذا البيت حتى ندخله في الصحن، قال: نعم أنا حاضر، قالوا: هل ترغب في بيعه؟ قال: نعم أريد أن أبيعه، فقالوا لهذا المقيِّم: قيِّم هذا البيت وحدد قيمة مناسبة له.

ثم قالوا للرجل: نحن نشتري منك البيت بهذه القيمة.

فقال: هذا قليل، فزادوا له القيمة، وقال: هذا قليل، وكلما زادوا القيمة كان يقول: هذا قليل، إلى أن يأسوا منه وسكتوا.

لكن ذلك الرجل أطرق برأسه قليلاً ثم قال لهم: بعتُ البيت، فقالوا له: بكم، قال: أنا لم أبعهُ لكم حتى تسألونني عن ثمنه، قالوا: فلمن بعتَ بيتك ؟ قال: بعته لسيدي ومولاي سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) إنه يعطيني ثمناً أغلى مما ذكرتم وأغلى وأعلى، إن الثمن الذي يعطيه سيد الشهداء (عليه السلام) لا يُقارن بهذه القيمة، ثم قال لهم الرجل خذوا هذا المفتاح وافعلوا بالبيت ما شئتم.

فقالوا له: إذا كنت تريد أن تعطي البيت مجاناً فلماذا صبغته؟ فقال: أنا فكرّت أن لا أقدم لسيد الشهداء (عليه السلام) شيئاً معيباً، بل أقدم له شيئاً جميلاً لا نقص فيه، هذا المفتاح خذوه وافعلوا به ما شئتم.

ص: 32


1- عن آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) .

إن العم (حفظه الله) نقل لنا أن الجد(1) (رحمة الله عليه) أوصى أن يُدفن في هذه البقعة، والآن الجد مدفون في بيت ذلك التاجر، فعندما تدخلون من باب القبلة سيكون بيت ذلك التاجر على يمينكم. فينبغي علينا سواء كنا مؤلفين أو علماء أو خطباء أو تجاراً، أن نفكر ماذا نقدم للإمام الحسين (عليه السلام) ، لأننا قد نندم فيما بعد.

كان هنالك مجموعة من الشباب يجتمعون كل ليلة في بيت واحد منهم، أحد هؤلاء الشباب كان أبوه متديّناً جداً وكان حسينياً بمعنى الكلمة، فقال أنا لا أرضى أن تأتوا وتقعدوا في بيتي إلاّ إذا جئتم بخطيب ليقرأ لكم، وإلاّ فأنا لا أرضى، وفي كل ليلة تكون فيها النوبة على هذا الشاب كانوا يأتون بخطيب وكان المجلس يتحول إلى مجلس تعزية، وحين مات الرجل، والد الشاب، رآه أحد هؤلاء الشباب في عالم الرؤيا وقال له: حدّثني ماذا جرى في موتك إلى اليوم؟ قال له: لا أتمكن أن أشرح، - لأننا بالأساس لا نفهم معادلات العالم الآخر تماما، وذلك كما إذا أردتم أن تشرحوا لجنين في بطن أمه هذه الدنيا فلا يفهم شيئا.. اشرحوا لأعمى الألوان، وُلد أعمى، قولوا له عن اللون الأبيض والأحمر فلا يفهم، فقال الرجل للشاب: أنا لا أتمكن أن أشرح لك ماذا جرى لي في هذا العالم منذ موتي حتى الآن. فقال الشاب لذلك الرجل: إذن قل لي شيئاً عن ذلك العالم، فقال الرجل، أنا سأقول لك شيئاً واحداً، نحن كنا في الدنيا لا نعرف مقام سيد الشهداء (عليه السلام) وأنتم الآن لا تعرفون مقام سيد الشهداء (عليه السلام) إلا حين تجيئون إلى هذا العالم وترون مقامه وعظمته.

إذن ينبغي علينا أن نفكر وأن نعمل، كلٌ في مجاله، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة والنفع الشخصي والضرر الشخصي، أن نفكر ماذا نصنع لسيد الشهداء (عليه السلام).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 33


1- آية الله العظمى السيد مهدي بن السيد حبيب الله الحسيني الشيرازي، ولد في 15 شعبان سنة 1304ه- في كربلاء المقدسة، وبدأ دراسته الدينية فيها ثم سافر الى سامراء المقدسة وحضر على علمائها ثم سافر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته العليا ثم عاد الى كربلاء المقدسة واستقر فيها حتى وفاته في 22 من شعبان سنة 1380 ودفن في الصحن الحسيني الشريف.

الفصل الثاني : قيم عاشوراء

اشارة

· القيم العظيمة لملحمة عاشوراء

· عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) وهداية الإنسان

· تجسيد النماذج العملية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 34

1

القيم العظيمة لملحمة عاشوراء

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَة)(1).

من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)

طبقاً لاستقرائنا الناقص، هنالك ثلاثة عناصر تؤثر في النفس البشرية تأثيراً عميقاً، بغضّ النظر عن أن تكون هذه النفس مؤمنة أو كافرة، أو أن تكون هذه النفس واجدةً لهذه العناصر أو فاقدةً لها، فالإنسان بما هو إنسان وبعيداً عن انتمائه الديني أو العرقي أو الطائفي يتفاعل تفاعلاً شديداً مع هذه العناصر الثلاثة وهي كالتالي:

الأول: عنصر البطولات.

الثاني: عنصر المُثل.

الثالث: عنصر المظلومية.

عنصر البطولات..

في الحديث عن العنصر الأول نقول: إذا كانت هنالك بطولة فهي تعني التضحية والفداء، وتعني نكران الذات أيضاً، وإذا كانت هنالك مُثل فهي عبارة عن مجموعة قيم كقيمة العبادة وقيمة العلم وقيمة الرحمة وقيمة الإحسان، وأين ما يجد الإنسان هذه القيم وهذه البطولات سيتفاعل معها، وستؤثر في أعماقه تأثيراً كبيراً.

وجاء في الأحاديث الشريفة أن هذه القيم لها قيمتها عند الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث الشريف المذكور في بحار الأنوار، يقول الإمام أبو جعفر (صلوات الله عليه): «إن الله يُبغض العبد ويحبّ عمله»(2) بمعنى أنه ربما يكون هنالك رجل كافر وبعيد عن الله سبحانه وتعالى ولا يؤمن به ولكن قد يقوم بعمل يمثّل قيمة من القيم الإنسانية،

ص: 35


1- كامل الزيارت، لجعفر بن محمد بن قولويه: ص 401.
2- بحار الأنوار: ج 46 ص234.

فيحب الله سبحانه وتعالى هذا العمل.

فهل كان حاتم الطائي مؤمناً؟ كلا، فلم يحالفه التوفيق والسعادة، ولم يؤمن بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر فيه قيمة الكرم، فقد كان رجلاً كريماً، ولذلك نُقل أن حاتم الطائي مصيره النار ولكن تكريماً لهذه القيمة النبيلة التي كان يتحلّى بها لا يحترق بنار جهنم، بمعنى أنه في النار ولكنه لا يحترق بها.

وهنالك رواية تخص أنوشيروان، أحد حكام إيران، ويمكن مراجعة (بحار الأنوار) في أحوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وهي رواية مطوّلة، ولكن يوجد في هذه الرواية: أنه حاكم كافر تجلّت في حياته قيمة نبيلة وهي قيمة العدل، وقلّ أن يكون هنالك حاكم عادل، فإذا بحثتم في التاريخ كله لا تجدون الحكام العدول إلا قلّة نادرة، لأن الإنسان عندما يحكم يطغى ويظلم، ( إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ)(1) ولكن قيمة العدل النبيلة تجلّت في هذا الحاكم، فقيَّم اللهُ سبحانه وتعالى هذه الصفة وثمَّنها، ولذلك لايحترق أنوشيروان - على ما في هذا الحديث - بنار جهنم.

إذن؛ لهذه القيم والمُثل قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس أجمعين، وبعد هذه المقدمة القصيرة نقول: إذا راجعتم التاريخ البشري كله منذ أن دُوّن التاريخ - ربما قبل عشرة آلاف عام أو أكثر - لا تجدون على مرّ التاريخ ملحمة تجلّت فيها هذه العناصر الثلاثة بأجلى مظاهرها كملحمة كربلاء في يوم عاشوراء.

إن البطولات الكبرى التي تجدونها في ملحمة عاشوراء، بهذا الحجم وبهذا المقدار وبهذه الكثافة لا تجدونها في أية ملحمة تاريخية، والقيم التي تمثّلت في عاشوراء لا تجدونها في التاريخ بهذا الحجم وبهذه الكثافة، والمظلومية التي تجسدت في واقعة كربلاء لا تجدونها في أيّة واقعة أخرى بهذا الحجم.

كتب أحد المؤرّخين الغربيين حول قضية عاشوراء وقال: هنالك موقف في عاشوراء لم أجد له مثيلاً في التاريخ، إنه موقف بطولة وهو موقف الحر الرياحي، ربما تجدون في تاريخ الحروب فرداً ينتقل من جبهة إلى جبهة، إن هذا موجود في التاريخ،

ص: 36


1- سورة العلق: 6 - 7.

ولكن كموقف الحر، قائد في جيش منتصر وإذا به في لحظة يقظة ضمير، يتخلّى عن كل شيء، عن منصبه ومكانته، وينتقل إلى الجيش الآخر الذي يعلم أنه سوف ينتهي بعد قليل من الناحية الظاهرية، وسوف يُقتل، هل رأيتم مثل هذا الموقف في التاريخ؟

قيم الإمام الحسين (عليه السلام) طريق للتغيير

اشارة

إنَّ مثل هذا النوع من التضحية الفريدة في التاريخ نجدها في عاشوراء، كذلك قيمة الرحمة حيث العالم كله يرفع شعار الرحمة الآن، هل تعلمون على أيِّ شيءٍ يعتمد المسيحيون الآن في العالم ؟ إن المسيحية العالمية والدين المسيحي كله يعتمد على قضية واحدة، وهي مكذَّبة من الناحية التاريخية، كذَّبها القرآن الكريم(1) وهي قضية صلب المسيح (عليه السلام) ، فالكيان المسيحي في العالم اليوم يُبنى على قضية صلب المسيح، وإذا شطبتم الصلب تنتهي المسيحية، تقول المسيحية العالمية إن المسيح (صلوات الله عليه) فدى نفسه لإنقاذ العالَم رحمةً للعباد وشفقةً بهم، وهذا يدلل أنَّ قيمة الرحمة مهمة في عالم اليوم.

ونجد قيمة الرحمة في كربلاء وقضية عاشوراء والإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) واضحة جلية وفي أعلا مراتبها، فعندما يأتي الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ويرى جيش العدو الذي يريد أن يقاتله في حالة عطش، يأمر بسقي ذلك الجيش وأن يُرشّفوا الخيل ترشيفاً، وهو (عليه السلام) بنفسه الشريفة باشر عملية السقي لهم أيضاً (2)، فقيم التوبة والرحمة والعبادة والتضحية والفداء كلها تجلّت في قضية عاشوراء، ولذلك نحن نعتقد أننا يمكن أن ننطلق في عملية التغيير من قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ، وإن في قضيته (صلوات الله عليه) قوة هائلة للتغيير، فهنالك رجل أموي عاش في ظل الأمويين وهو ركن من أركان الحكومة الأموية، عندما احتك بقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وإذا به

ص: 37


1- قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) سورة النساء: 157.
2- الارشاد، للشيخ المفيد: ج2 ص78.

يتحول، ألم يكن الحر أموياً - من جيش بني أمية - فغيّرته هذه القضية؟

إذا كان يوجد أمويون في العراق أو في أي بلد من بلدان العالم (استثنوا مجموعة منهم من المعاندين) ولكن بإمكان قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أن تحوِّل حتى الأمويين إلى علويين، وعندنا الحر الرياحي مثالاً..

هؤلاء الأفراد الذين يقومون ضد أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، هنالك مجموعة أو مجموعات منهم معاندون بلا إشكال، عندهم شذوذ فكري ونفسي، ولكن أنا أتصور أن أغلب هؤلاء الأفراد لم تبلغهم قضية الإمام الحسين (عليه السلام) لأنهم في العراق أو في بلد آخر في العالم يوضَعون في إطار معيّن ويُعزلونهم عن العالم.

فإذا اُخذ الفرد وعُزِلَ في غرفة مغلقة ومُنع عنه كل شيء، لا يتصل بالحقيقة أو بالواقع، ثم يقومون بعملية غسيل دماغ له، فإنه يقع في الخطأ، فإذا تمكّنا أن نوصل قضية الإمام الحسين (عليه السلام) بوضوح، بإمكاننا أن نحول حتى الأمويين إلى علويين، لأن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قوية وهائلة وعجيبة في التأثير...

ألم يكن زهيرُ عثمانياً ؟ نعم زهير كان عثمانيّاً وكان ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولكنَّ لقاءاً له مع الإمام الحسين (عليه السلام) غيّره ليكون من أولياء الله وأنصار الإمام الحسين (عليه السلام) والمستشهدين بين يديه، وأنا وأنتم عندما نذهب لزيارة مرقد هذا الرجل الذي كان عثمانياً نقف ونقول له: بأبي أنت وأمي.

كذلك وهب ألم يكن مسيحياً ؟ ولكنه التقى بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) وتأثر به، وإذا به يتحوّل إلى ضمن من قال في حقهم الإمام الحسين (عليه السلام) : «إني لا أجد أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي»(1).

هذه هي قدرة قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، إن المسيحيين قريبون جداً إلى الإسلام، ليس أنا من يقول هذا بل هذا ما يقوله القرآن الكريم، فكم مليون مسيحي يوجد في العالم اليوم؟

يقول القرآن الكريم:

ص: 38


1- العوالم، الامام الحسين (عليه السلام) ،للشيخ عبد الله البحراني: ص243.

(وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُمْ مّوَدّةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَىَ ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)(1).

إذ ليس لدى كلهم استكبار ولاعناد مع الحق، نعم يوجد هنالك مجموعة معاندة، ولكن الخط العام - وكما يقول القرآن الكريم - ليس كذلك وإنما خط التقبّل. ­(وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ)(2)

لكن لماذا لم يتحول هؤلاء المسيحيون إلى مؤمنين ولم يتحولوا إلى مسلمين؟

الجواب: إننا لم نعرض عليهم الإسلام والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام الحسين (صلوات الله عليه)، نحن بإمكاننا أن ننطلق من قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) لتغيير العالم كله بإذن الله سبحانه وتعالى.

يقول أحد العلماء: كان في منطقتنا رجل مجوسي، علماً أن المجوس يعتقدون بوجود إلهين، وفي أحد الأيام قلت لهذا الرجل لماذا لا تُسلِم ؟ فقال لي: أنا لم أجد في ديني شيئاً غير جيد حتى أتركه، فديني جيد ولماذا أرفضه؟ إنَّني أفضِّل أن أظل مجوسياً، ولكن إعلمْ إني أحبُّ إمامكم الحسين (عليه السلام) كثيرا - هكذا يجذب الإمام الحسين (عليه السلام) حتى الرجل المجوسي - ويواصل الرجل المجوسي قوله: أنا أحضر في مجالس الإمام الحسين (عليه السلام) وأبكي عليه وعلى مظلوميته، ويقول الرجل المجوسي أيضاً: أنا أحب إمامكم الرضا (عليه السلام) كثيراً، وقد فكرت أن أذهب في أحد الأيام لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) - إذن فالإمام الرضا (عليه السلام) يجذب حتى الرجل المجوسي -، ويواصل قائلا: رأيت يوماً قافلة تتجه إلى مشهد ولا يعرفني أحد من هذه القافلة، فذهبت معها ودخلت حرم الإمام الرضا (عليه السلام) وقلت لنفسي: كلا... لا أدخل - احتراماً ورعاية لطهارة المكان -، ووقفت في وسط الحرم وأخذت أطالع القبة والمنائر ورأيت الأفواج البشرية تدخل إلى داخل الحرم وتخرج، لم أتمكن من أن أطيق ذلك، فقلت لنفسي:

ص: 39


1- سورة المائدة: 82.
2- سورة المائدة: 83.

أنا قادم من بلدي إلى مشهد ولا أدخل حرم الإمام الرضا (عليه السلام) لا يمكن هذا، وأقنعت نفسي بأن لا إشكال في دخولي إلى الحرم لأنني ألبس جورباً في قدميّ ولا تنتقل الرطوبة من بدني إلى أرض الحرم. ويواصل الرجل المجوسي ويقول: دخلت إلى داخل الحرم، وأخذت أنظر إلى الضريح المبارك ورأيت الناس يدخلون ويتبّركون به ويقبّلون الضريح ويمسحون أيديهم به، - نقل لي أحد الاخوة المطّلعين أنه في كل عام يأتي إلى مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) حوالي ثلاثين مليون إنسان - فلم أستطع التحمل فخرجت إلى الخارج واشتريت قفازاً ولبستها في كفَيَّ وجئت ومسحت يديّ بالضريح من فوق القفاز حتى لاتنتقل رطوبة يدي إلى الضريح، فأنا أحب الإمام الرضا (عليه السلام) كثيراً، كما أحبُّ الإمام الحسين (عليه السلام) كثيراً، وذهب الرجل إلى بلده بعد أداء الزيارة.

يقول هذا العالم: بعد فترة جاءني أولاد الرجل المجوسي وقالوا لي: البارحة مات والدنا ولكنه أوصى بأن لا يلمس جنازتي أي واحد منكم وليتوّلى أموري كلها هذا العالِم.

ويواصل العالم: ففهمت من هذا الكلام أنه بالنتيجة أسلم الرجل، وأن الإمام الحسين والإمام الرضا (صلوات الله عليهما) قد سحبا هذا الرجل إلى الإيمان، فمات مؤمناً، ويضيف: أنا أيضا أعلنت للمؤمنين، أيها المؤمنون تعالوا إلى تشييع فلان، وتولّينا تغسيله وتكفينه وتحنيطه ودفناه في مقابر المسلمين، إذن للإمام الحسين (صلوات الله عليه) هكذا قدرة.

توصيات

في الختام أقترح ثلاثة اقتراحات سهلة على الأخوة الكرام:

* الأول: ليحاول كُلُّ واحدٍ منا بقدر الإمكان أن يقيمَ في كل بيتٍ مجلساً للإمام الحسين (عليه السلام) فيكون عَلَم الإمام الحسين (عليه السلام) في بيت كل واحد منا بقدر الإمكان، إن في هذا العمل آثاراً وبركاتٍ كثيرة، وإذا بدأتم بذلك ستجدون بركات هذا العمل في حياتكم وذريّتكم وأولادكم وأموركم الدنيوية والأخروية، فيحاول الإنسان أن

ص: 40

ينصب في بيته عَلَماً للإمام الحسين (عليه السلام) ويقيم مجلساً ببيته ليلة واحدة في كل أسبوع، أو في كل شهر.

* الثاني: نحاول أن نَنذر أحد أولادنا للإمام الحسين (عليه السلام) أحدهم طبيب أو مهندس أو كذا، فليكن أحدهم رافعاً لراية سيد الشهداء (عليه السلام) هذا فخر لكم ولجميع العالم.

* الثالث: لنحاول أن نشارك الإمام الحسين (عليه السلام) بأموالنا ولو بنسبة مئوية متواضعة، ولو واحد أو اثنان بالمائة، نقل لي أحد المؤمنين المطلعين في هذا المجال هذه القضية قبل فترة قصيرة وقال:

كان هنالك في كربلاء المقدسة شاب يشتغل عند أحد التجار وكان ذلك التاجر يعطي الشاب أجرة ثلاثة دنانير في كل شهر، وقديماً كان هذا المبلغ جيداً، في أحد الأيام جاء هذا الشاب إلى ذلك التاجر وقال له: أقرضني مائة دينار. فسأله التاجر: وماذا تصنع بهذا المبلغ؟. أجابه الشاب: أريد أن أتزوّج. فقال له التاجر: لا أعطيك. فقال له الشاب: إن أداء هذا القرض مضمون ولايوجد خوف في ذلك، فأنت تعطيني كل شهر ثلاثة دنانير، استقطع القرض من أجرتي إلى أن ينتهي. فرد عليه التاجر: لا أعطيك! فقال له الشاب: حقاً لا تعطيني المبلغ ؟ فكرر عليه التاجر بالنفي، فقال له الشاب: إن لم تعطني القرض لن أعمل معك بعد اليوم، ثم خرج من الدكان متأثراً، لكن إلى أين يلجأ ؟ فلجأ إلى الملجأ الأخير، بل الملجأ الأول وهو حرم الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وهو في حالة تأثر شديد، وقال للإمام الحسين (صلوات الله عليه) : أيها الإمام! أنا حتى الآن كنت أعمل عند هذا التاجر، لكنني من هذا اليوم أريد أن أعمل عندك، وكل ما أحصل عليه نصفه لك ونصفه لي. قال الشاب هذا الكلام بتأثر وخرج من الحرم.

وعند خروجه رآه رجل وقال له: يوجد هنالك دكان معروض للإيجار، هل تستأجر هذا المكان؟ فقال له الشاب: ولكن أنا لا أملك شيئاً، ليس لدي مبلغ، فقال له الرجل: ادفع الإيجار فيما بعد ومتى ما تمكنت على ذلك.

ص: 41

جاء الشاب إلى الدكان ورأى أنه جيد، فاستأجره، وبدأ يشتغل وتحول إلى تاجر من التجار، ووفى بعهده مع الإمام الحسين (عليه السلام) إلى آخر حياته، والآن يوجد العشرات من الفقهاء والخطباء والمجتهدين والعلماء العاملين من أحفاد ذلك الرجل، إذن ينبغي علينا أن نشارك الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في حياتنا، فهذه الخدمات وهذه الأعمال كلها تكون ذخيرةً لآخرتكم إن شاء الله.

وستأخذون إن شاء الله من كريمة أهل البيت (عليهم السلام) في قم، ومن الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد (صلوات الله عليهما) جميع الحاجات الدنيوية والأخروية وتعودون إلى بلادكم سالمين غانمين موفورين، إن شاء الله.

ونسأله سبحانه وتعالى ببركة الإمام الحسين (عليه السلام) وكريمة أهل البيت (عليها السلام) والإمام الرضا (عليه السلام) أن يكشف المحنة عن المؤمنين في العراق، وقد انتهت المحنة العظمى ونعني بها وجود النظام البعثي وهذه أكبر محنة تعرض لها المؤمنون في العراق، فكان بإمكان البعثيين أن يعدموا مليون واحد بدون أي مانع، فقد منَّ الله تعالى وانتهت هذه المحنة الكبرى، ويجب علينا جميعاً أن نشكر الله تعالى على هذه النعمة، إن شاء الله تنتهي المحنة الثانية أيضاً ويعود الأمن والسلام والاستقرار إلى العراق كله.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 42

2

عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) وهداية الإنسان

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (1) صدق الله العلي العظيم.

إن الموقف العظيم الذي وقفه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابه البررة يوم عاشوراء كان منوطاً بمجموعة من العوامل :

العامل الأول: منطلق العطاء

ويعني الدافع والمحرك وأيضاً العلة الغائية من هذا العمل، إذ ربما يكون لِرَجُلَينِ شكلٌ ومظهرٌ واحد و يعملان عملاً مشابهاً من الناحية الظاهرية، ولا يوجد أي مائزٍ بينهما، لكن هذا لا يكفي في الحكم على هذا العمل وتقييمه، إذ ربما يخدعنا الظاهر، لاسيما نحن البشر ليس لدينا سوى إطلاع محدود ولا نعرف الماورائيات، ولكن عند الله سبحانه وتعالى الإحاطة بكل شيء.

فإن المنطلق والباعث نحو عمل ما، يُعَدُّ ذا أهمية كبيرة جداً، ويجب أن يكون كذلك بالنسبة إلينا، فقد نلاحظ رَجلَين يبنيان مسجدين من مساجد الله، فالمسجدان متشابهان من الناحية الظاهرية، كما أن العملين متشابهان، ولكن ليس الأمر كذلك عند الله سبحانه وتعالى، لوجود البواعث والدوافع المختلفة.

وفي حديث قدسي قال الله سبحانه وتعالى لموسى (صلوات الله عليه): «... أخلص العمل فإن الناقد بصير بصير»(2)، لذا يأتي بعض الأفراد يوم القيامة - والعياذ بالله - وإن كان لهم أعمال كجبال تهامة؛ وهي أعمال عظيمة وضخمة بحسب الظاهر، فهي

ص: 43


1- سورة التوبة: 111.
2- بحار الأنوار: ج13 ص432.

ربما تكون عندنا أو عند الناس أعمالاً عظيمة، ولكن عند الله لا تساوي بمقدار جناح بعوضة، لأن المنطلق لم يكن إلهياً.

كان مع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلان قاتلا بين يديه، وهذا بحدّ ذاته عمل عظيم في أن يقاتل الإنسان بين يدي النبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ويضحّي، ثم يُقتل في سبيل الله، وهو البرّ الذي ليس فوقه برّ، فهو منتهى التضحية والعطاء، حيث جاء في الحديث الشريف: «فوق كل ذي بِرٍّ بِرٌّ، حتى يُقتَل الرجلُ في سبيلِ اللهِ فليسَ فوقَهُ بِرٌّ»(1)، وجاء في الآية الكريمة الآنفة الذكر: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)، فالمنطلق مهم عند الله سبحانه وتعالى، أحد الرجلين ويُدعى (قزمان) قاتل بين يدي النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وليس بين يدي رجل عادي، ولكن عندما قُتل، قال عنه النبي (صلى الله عليه وآله): إنه بطل، ولكن بطل إلى النار(2)! ولم يكن ذا قيمة عند الله سبحانه وتعالى، أما الرجل الآخر فهو حمزة (عليه السلام) ، وقد قاتل أيضاً بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله)، لكن كان منطلق حمزة (عليه السلام) إلهياً، كما كان الباعث الذي يحركه إلهياً، فهو بطل وإلى الجنة، لذلك لم يسمع أحد من المؤمنين - عادة - باسم (قزمان)، فلم يخلده الله تعالى في الدنيا، وفي الآخرة إلى نار جهنم.

وحصل نفس الموقف في عهد الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، حيث إنه قاتل مع الثلّة المؤمنة التي كانت معه، في مقابل ذلك كان هناك رجلٌ آخر قام بعمل يشبه ما قام به الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نهضته، ثم إن الإمام الحسين (عليه السلام) قُتل، كما أن ذلك الرجل قُتل أيضاً، وكما استشهد أصحاب الإمام (صلوات الله عليه) فإن أصحاب ذلك الرجل أيضا قُتلوا؛ وكان الرجل هو عبد الله بن الزبير، وفي تلك الساعات الأخيرة من حياته، وبعد أن رأى الموت محدقاً به، جاء عبد الله بن الزبير إلى أمه وقال:

يا أمّاه! ماذا أصنع، وبماذا تشيرين عليّ؟!

ص: 44


1- كشف الغطاء: ج2 ص384.
2- الفصول المختارة: ص145.

فقالت: إذا كانت هذه الثورة التي قمت بها والتضحيات التي قدمتها لله، فاصمد حتى تموت، وإن لم تكن لله فبئس ما فعلت، خسرت دنياك وآخرتك(1)، وحقاً إنه لأمر مؤلم أن يخسر الإنسان الدنيا والآخرة مرة واحدة، وقد قال عنه الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): إنه ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا (2)، هذه الرواية ذكرها المحدث القمي (رحمة الله عليه) في (سفينة البحار)، فهذا الرجل الحاقد على أهل البيت (عليهم السلام) المبغض لهم، والذي كان يلعن عليّاً (صلوات الله عليه) ويشتمه فوق المنابر، كان ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، فثار ضد الحاكم وقاتل وقُتل وقُتل معه جميع أصحابه، لكن لم يكن الباعث إلهياً، لذا لا يساوي عمله عند الله جناح بعوضة، كما أنه ليس ذا قيمة عند جميع الطوائف.

إن الثورة ليست مهمة عند الله سبحانه وتعالى، فأن يثور الإنسان أو لا يثور، ليس ذا قيمة عند الله، إنما الباعث المحرّك وراء عمله وثورته هو المهم؛ هنالك في التاريخ الكثير من الحكام، والكثير من الثائرين والكثير من الأفراد الذين قاموا بأعمال خيرة، فالعمل الخير بذاته ليست له قيمة عند الله سبحانه وتعالى، لذا يجب أن لاننخدع بأعمالنا الطيبة، وما نقوم به من أعمال، فالمهم هو ما يخبئه القلب، وهو المهم أيضاً عند الله سبحانه وتعالى، جاء في الآية الكريمة: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، ويمكن ملاحظة فتوحات الثاني، فتلك الفتوحات ليست ملاكاً وذات قيمة عند الله سبحانه وتعالى، إنما المهم هو الباعث والمحرك لتلك الفتوحات للبلاد المختلفة، وفي رواية كشف الإمام الصادق (صلوات الله عليه) عن هذا المحرك بقوله: «... كان يريد الدنيا».

العامل الثاني: حجم العطاء

هل يعني حجم العطاء، أن يكون هناك من يعطي مائة دينار وآخر يعطي ألف دينار؟ وهل يكون صاحب العطاء الأكثر مفضلاً عند الله؟

ص: 45


1- راجع: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج 20 ص118.
2- شرح نهج البلاغة: ج 7 ص 48.

إن المقصود بالحجم، ليس الحجم المطلق، أو وفق النسبة الرياضية، وإنما وفق الحجم النسبي للعطاء، أي أن يملك رجلٌ ألف دينار فيعطى مائة دينار منها، فإنه بذلك أعطى عشرة بالمائة من أمواله، وآخر يمتلك مائة دينار فيعطي عشرة دنانير، فيكون قد أعطى عشرة بالمائة أيضاً، لذا فإن الذي أعطى عشرة دنانير والذي أعطى مائة دينار متكافئان عند الله سبحانه وتعالى - من هذا الحيث - وفي درجة واحدة، فالحجم من القدرة التي يمتلكها الإنسان، وهي لاتقتصر على القدرة المالية، إذ قد تكون القدرة بدنية أو فكرية، وحتى قدرة الجاه والموقع الاجتماعي، إذن المقياس هو حجم العطاء وقدرة الإنسان على العطاء.

الآية الكريمة الآنفة الذكر تحدد حجم للعطاء، كما حددت منطلق العطاء في العامل الأول، وهو: ( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)، لكن حجم العطاء غير معلوم، لأن العمل في سبيل الله لا تحده حدود، تقول الآية الكريمة: (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...)، وفي عقد البيع هنالك أربعة أركان: البائع والمشتري والثمن والمثمن، فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، والبائع هو كل واحد منّا نحن المؤمنون، (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، أما الثمن فانه لا يُحد بحدود، وليس له مقياس معين، فهو يمضي مهما اقتضت الوظيفة، (اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)، فالنفس ليست ملك الإنسان وكذلك المال، إنما هي ملك لله تعالى، ولا حدّ للمثمن - أي بالحد المادي -، بل هو حيث تكون الوظيفة وبمقدار الوظيفة الشرعية وربما تقتضي الوظيفة تقديم عشرين بالمائة من المال، وربما تقتضي تقديم أربعين بالمائة من المال، وربما تكون بإنفاق المال كله في سبيل الله، بل ربما تقتضي الوظيفة تقديم النفس في سبيل الله في بعض المواقف.

من هنا نجد أصحاب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مصداق حدّ الوظيفة الذي ذكرته الآية الكريمة، فعندما يسقط مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، يأتي إليه سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ومعه حبيب بن مظاهر، ويحضران معاً عند مسلم بن عوسجة وهو في حالة الاحتضار، وفي هذه اللحظات يتوجه إليه حبيب بالقول: (لولا أني في أثرك لأحببتُ أن توصي إليّ بما أهمك)، فهو

ص: 46

يعلم أنه بعد دقائق أو ساعات مقتول أيضاً، ولا يتمكن من تنفيذ وصية مسلم بن عوسجة، فقال مسلم وهو يشير إلى سيد الشهداء (صلوات الله عليه) بصوت خافت: (أوصيك بهذا أن تموت دونه)(1)، وهذه هي أقصى أنواع التضحية، ثم فاضت روحه الزكية إلى بارئها.

وفي ليلة العاشر من محرم وقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وخطب في أصحابه تلك الخطبة المعروفة التي قال فيها: «أما إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أوصل وأبرّ من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً ولقد بررتم وعاونتم... وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، اتركوني وحدي، فالجماعة يريدونني ولا يريدونكم، ولو ظفروا بي لذهلوا عن غيري، وأنتم في حلّ من بيعتي...»(2)، ثم قال الإمام (صلوات الله عليه): «ألا ومن كانت في رحله امرأة - كأن تكون زوجته أو أمه - فلينطلق بها إلى بني أسد»، فقام رجل اسمه علي بن مظاهر وقال للإمام (صلوات الله عليه): لماذا يا بن رسول الله ؟ فأجاب الإمام (عليه السلام) بما هو مصداق الآية الكريمة: ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ) (3)، حيث الشفقة والعطف على الآخرين، فقال (صلوات الله عليه): إن نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم السبي، فالإمام (عليه السلام) يخشى على نساء أصحابه من السبي وأن يُنقَلنَ من بلد إلى بلد، وأي إنسان ربما يكون مستعداً للتضحية بنفسه، لكنه غير مستعد بأن تسبى عائلته وتُهان من بعده، لذا تقدم علي بن مظاهر وجاء إلى الخيمة، فقامت زوجته إجلالاً له واحتراماً لمقدمه وتبسمت في وجهه، قال: دعيني والتبسم، فقالت له: إني سمعت الإمام الحسين (صلوات الله عليه) خطب خطبة ثم سمعت في آخرها همهمة فما عرفت ما قاله، فقال: إن الإمام (عليه السلام) قال: إن نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم السبي، فالذي عنده امرأة في رحله فليأخذها وينصرف إلى بني أسد حتى تكون في أمان من السبي، فقالت له زوجته: وما أنت فاعل يا ابن مظاهر؟ قال: قومي حتى اُلحقك ببني عمك، فقامت

ص: 47


1- تاريخ الطبري: ج4 ص330.
2- راجع: بحار الأنوار: ج44 ص316.
3- سورة التوبة: 128.

هذه المرأة البطلة ونطحت رأسها بعمود الخيمة وقالت: (ما أنصفتني يا ابن مظاهر! أيسرّك أن تُسبى بنات رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنا آمنة من السبي؟ وهل يسرّك أن يبيض وجهك عند رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء (عليها السلام) ؟! لا والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء)، فهذه المرأة لا تكتفي بتقديم زوجها في سبيل الله، وإنما تبدي استعدادها لأن تواسي زينب (عليها السلام) وبنات رسول الله (صلوات الله عليه وآله) حتى بالسبي، فعاد علي بن مظاهر إلى سيد الشهداء (صلوات الله عليه) باكياً، فسأله الإمام عن سبب بكائه قال: أبت الأسدية إلاّ مواساتكم، فبكى سيد الشهداء (صلوات الله عليه) وقال: (جزيتم عني خيراً) (1)، وهذا مصداق للتضحية بلا حدود.

العامل الثالث: الآثار الوجودية

إن الآثار الوجودية للعطاء مهمة عند الله، وهي هداية الملايين من البشر ببركة سيد الشهداء (عليه السلام) والتضحيات التي قدّمها، حتى هدايتنا نحن والمقدار الذي نحمله من الإيمان والأخلاق، فإنها لم تأت من آبائنا وأمهاتنا فحسب، وإن كان لهم التأثير، ولكن الآثار الوجودية هي للمنابر ولهذه التضحيات، حيث يدخل الجنة مئات الملايين بل مئات المليارات من البشر، ببركة هذه التضحيات.

وفي هذه الأيام ليس المطلوب من الغالبية منّا أن نُقتل وأن نجاهد في سبيل الله، بقدر ما تكون وظيفتنا وواجبنا هو أن نصنع ما نقدر عليه، وأن نقدم ما نستطيع من العطاء لسيد الشهداء (عليه السلام) ، وأقل ذلك لبس السواد الذي يُعدّ نوعاً من الحداد على سيد الشهداء (عليه السلام) ونوعاً من المشاركة مع شهداء عاشوراء، وكذلك نُلبِس الأولاد والأطفال السواد، وفي كل الأحوال يسعى الإنسان للمشاركة بكل ما يتمكن في هذه القضية - قضية الإمام الحسين (عليه السلام) -، من المشاركة بالمال وبالنفس وبلبس السواد وغير ذلك، بينه وبين الله، لتكون من أفضل الذخائر لنا يوم القيامة إن شاء الله.

ينقل أحد الأخوة قضية وقعت في فترة ليست بالبعيدة - حيث كان أحد علماء الدين راقداً في إحدى مستشفيات مدينة مشهد المقدسة ويعاني من المرض - يقول هذا

ص: 48


1- موسوعة كلمات الامام الحسين (عليه السلام) : ص 498.

الأخ: ذهبت لعيادته وهو في ساعاته الأخيرة وفي لحظات الاحتضار، فجلست عنده وسألته عن أحواله، وعندما أردت الانصراف من غرفته، قال لي: ابق معي لأقرأ لك مجلس تعزية، علماً أنه كان عالم دين ولم يكن خطيباً، يقول: فتعجبت، وسألته: لماذا تقرأ مصيبة؟

- نعم، كان الكثير من العلماء والفقهاء المراجع وكذلك بعض المؤمنين، يقرؤون بأنفسهم مجالس التعزية من باب المشاركة، وكان المرجع الراحل السيد الكلبايكاني(1) (رحمة الله عليه) يقرأ مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) لعائلته في يوم عاشوراء، ونفس العمل كان يقوم به الجدّ (رحمة الله عليه)(2)، حيث كان يقرأ المصيبة في البيت لعائلته وأطفاله، وهكذا الكثير من المؤمنين حيث يقرؤون المصيبة ويبكون ويُبكون، مثل الرواديد (كثّرهم الله)، وإذا لم يكن بمقدور الإنسان المشاركة في ميدان الخطابة الحسينية، فإن بإمكانه تشجيع الأولاد على أن يكونوا خطباء أو رواديد -.

يقول ذلك العالم: رأيت البارحة رؤيا في المنام أنه صار يوم القيامة، ذلك اليوم المهول الذي (تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلََكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ) (3)، وفي ذلك اليوم الذي يحتاج فيه الإنسان إلى وثيقة أو دليل، يقول ذلك العالم: رأيت الصفوف والحر الشديد اللاهب، وقد وقفت في إحدى الطوابير الطويلة التي لاتتحرك، وقال عنها الله سبحانه وتعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (4)، في هذه الأثناء التفتُّ وإذا بصفٍ يتحرك سريعاً باتجاه الجنة، بينما بقية الصفوف كلها ثابتة في مكانها، يقول: وجدت أن أحداً لم يراقبني، فتسللت واقتربت من ذلك الطابور لألحق به إلى الجنة فوراً، وإذا برجل راكب على جواد فأخذني وقال: ارجع إلى الصف الأول، يقول: مرتين أو ثلاث مرات كررت هذا العمل، فجاء ذلك الرجل - ولعلّه كان مَلَكاً -

ص: 49


1- آية الله العظمى السيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني (رحمه الله) المتوفى سنة 1414 ه.
2- آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه الله) .
3- سورة الحج: 2.
4- سورة المعارج: 4.

وأرجعني إلى صفي يقول: قلت له: لمن هذا الطابور؟ قال لي الملك: الطابور هو للخطباء الذين خدموا سيد الشهداء (صلوات الله عليهم) بمنابرهم، وأنت لست منهم، يقول: قلت له: هل لي من وسيلة أو مخرج من ذلك؟ قال: نعم، وهي أن أنزل من جوادي وأجلس، وأنت في هذا المكان تقرأ لي مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) ، فإذا قرأت المصيبة ستدخل في صف الخطباء وتذهب إلى الجنة سريعاً عاجلاً؛ يقول: استجمعت ما في ذهني ومحفوظاتي هنالك، ثم قرأت له المصيبة في ساحة المحشر واستيقظت من المنام، وأنا الآن أريد أن أقرأ لك المصيبة في عالم الدنيا حتى أكتب من خطباء سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

لابد لكل واحد منا في هذه الأيام أن يحاول ويشارك بقدر ما يتمكن في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وتعظيم شعائره، لتكون لنا إن شاء الله ذخيرة في قبرنا وآخرتنا ومعادنا.

نسأل الله تعالى أن يتقبل منكم ومن جميع المؤمنين هذه الطاعات والعبادات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك أكثر وأكثر، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 50

3

تجسيد النماذج العملية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن القيم الإنسانية النبيلة يمكن أن تُطرح في المجتمع على أحد نحوين:

النحو الأول: أن تُطرح في صورة أفكار مجردة.

النحو الثاني: أن تُطرح في صورة واقعيات متجسدة.

وإذا أردنا لهذه القيم النبيلة أن تكون فاعلةً ومؤثرةً في واقع الحياة، لابدّ أن ننقلها من مرحلة التجريد إلى مرحلة التجسيد، لأن الأفكار المجرّدة قليلة الفاعلية والتأثير، بينما النماذج المجسدّة ذات فاعلية وتأثير كبيرين، فالفارق كبير في التأثير بين من يقرأ في كتاب حول نافلة الليل وفوائدها - مثلاً -، وبين من يعيش مع مجموعة من أولياء الله أو في بيت يضم مجموعة من أولياء الله يسمع منهم صوت التلاوة سحراً، ويقومون في السحر يناجون الله سبحانه وتعالى، وهو يسمع منهم نداء (العفو.. العفو).

ينقل أحد الأشخاص أن أحد الأولياء جاءهم ضيفاً في بيتهم، يقول: وفي منتصف الليل استيقظت من النوم على صوت بكائه في نافلة الليل، ورغم مضي حوالي ثلاثة وعشرين عاماً مازال صوت بكاء ذلك الرجل يدوّي في أذني.

وكان من البركات المترتبة على عبادة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) هو التجسيد الواقعي حتى يكونوا قدوة عملية ويتأسى بهم الناس، علماً أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كانوا بشراً مثلنا، وهو ما صرحت به الآية الكريمة: ( قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ)(1)، بينما الملائكة الذين نقرأ بأن منهم قيامٌ لا يركعون - مثلاً- أو رُكَّع لا ينتصبون، فهذا لن يشكل قدوة لنا بذاك المقدار الذي يحفزنا التجسيد الواقعي، لأن الملائكة هم من نوع وصنف آخر، ثم إنهم لا يتعبون، وطعامهم التسبيح، كذلك الحال إذا قيل لنا أن الجبال تسبّح الله سبحانه وتعالى، أو أن الكائنات الأخرى في حالة تسبيح دائم لله

ص: 51


1- سورة الكهف: 110.

سبحانه وتعالى، فإن كل هذا لن يؤثر فينا كثيراً كتأثير الأسوة الحسنة في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين كانوا من جنس البشر، لأن طبيعة الجبل تختلف عن طبيعتنا، ولكن عندما يُقال لكم إن رجلاً كالعلامة الأميني (رحمة الله عليه) الذي هو بشر مثلنا ومن طبيعته أن يتألّم ويتعب ويمّل؛ هذا الرجل صلّى في شهر رمضان المبارك في كل ليلة ألف ركعة، وبانتهاء الشهر يكون قد صلّى ثلاثين ألف ركعة؛ هذا النموذج يمكن أن يكون قدوةً، لأنه مؤثرٌ ومحفزٌ لنا.

أفراد يجسدون القيم الإنسانية

اشارة

لقد جسّد أفرادٌ القيمَ الإنسانيةَ الساميةَ في قضيةِ كربلاء، وفي هذا التجسيد نذكر ثلاثَ ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

إنَّ هذا التجسيد لم يقتصر على فئة معينة، ولا على صنفٍ معين، إنما تمثّلت القيم في جميع الفئات والأصناف والطبقات؛ ففي كربلاء كان هنالك الطفل الرضيع، الذي ربما كان عمره بضعة أشهر، وكانت هنالك الطفلة الصغيرة، التي ربما كان عمرها ثلاثة أعوام، وهي رقية (صلوات الله عليها)، وكان هنالك الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحُلُم، وهو القاسم بن الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله عليهم)، وكان هنالك الشباب، ونموذجهم هو علي الأكبر (عليه السلام) ، وأيضاً كان الكهول، ونموذجهم هو أبو الفضل العباس (صلوات الله عليه)، بناءً على التفسير اللغوي للكهل، حيث جاء في قوله تعالى: (وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (1)، وكان أيضاً الشيخ الكبير مثل حبيب بن مظاهر. وإلى جانب الرجل، كانت المرأة أيضاً في كربلاء مثل أم وهب، وكان أيضاً الأبيض والأسود مثل جَون مولى أبي ذر، وكان في كربلاء من جميع الطبقات، فكان العربي وغير العربي مثل الغلام التركي، ومن مختلف المذاهب، حيث كان الشيعي والسني والمسيحي، فقد كان زهير بن القين عثمانياً فاستبصر، وكان هنالك المسيحي وهب الذي أسلم، وبالمحصلة كانت في أرض الواقعة تشكيلة متنوعة وعجيبة من

ص: 52


1- سورة آل عمران: 46.

الأبرار، لعل التاريخ لن يشهد لهذا التنوع مثيلاً.

لأحد العلماء حديث ظريف في هذا المجال يقول فيه: لو لم تكن عندنا هذه النماذج، كان علينا أن نبحث عن مثل هذه النماذج ونربي من يكون كذلك؛ فإذا لم يكن عندنا حبيب بن مظاهر، كان يلزم أن نربي شخصية مثل حبيب بن مظاهر، لأن كل أمة بحاجة إلى نماذج مُلهمة. لذا عمد ذلك الروائي العالمي المعروف اختراع نموذج وهمي في كتابه، لأن الأمة بحاجة إلى نموذج؛ إما أن يكون حقيقياً وإما وهمياً لذلك الرجل الذي ينكر ذاته ويتجاوزها، ولعله طُبع من كتابه الملايين في العالم وبلغات مختلفة، ونحن والحمد لله لدينا تاريخ غني بالنماذج الحيّة الطيبة، ولن نكون بحاجة إلى اختراع النماذج فهي موجودة، مثل الطفل الرضيع (عليه السلام) وإن لم يكن في سن التكليف، وهناك موكب عزاء للأطفال الرُضَّع، حيث يأتي كل شخص عنده طفل رضيع أو شبه رضيع في أيام عاشوراء على هيئة العزاء، فليكن لنا موكبٌ خاص بالطفل الرضيع، حيث أمامنا نموذج من واقعة الطف.. كما إن الشاب أمامه نموذج أيضاً، وكذلك الحال في الأم والأخت والبنت؛ هذه التشكيلة المتنوعة من النماذج الصالحة لن تتكرر في التاريخ.

الملاحظة الثانية:

لم تكن قضية كربلاء تجلّياً لقيمة واحدة، وإنما لمختلف أنواع القيم التي نحتاجها ويحتاج إليها المجتمع ويحتاج إليها العالم أيضاً، فالمجتمع لا يمكنه العيش من دون قيم، كما أن الفرد أيضاً لا يمكنه العيش من دون قيم، ومن هذه القيم نذكر:

1. قيمة الوفاء؛ متمثلةً في موقف أبي الفضل العباس (صلوات الله عليه) حين رمى الماء على الماء عند ما تذكر عطش الإمام الحسين (عليه السلام) .

2. قيمة التوبة؛ التي نحتاجها جميعاً في كل الأحوال، متمثلةً في موقف الحرّ، حيث قال: (إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً) (1).

3. قيمة العبادة؛ وهي قيمة مهمة يحتاجها الفرد ويحتاج إليها المجتمع، فقد بات

ص: 53


1- الإرشاد: ج2 ص100.

أصحاب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويِّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

4. قيمة الدعاء؛ وهي إحدى القيم الإنسانية السامية، فدعاء عرفات لم يكن الدعاء الوحيد الذي قرأه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في يوم عرفة، وهو الدعاء المليء بالمضامين الشامخة، ويقول عنه بعض العلماء إنه إذا قُرأت كلماته بتأمّل وإمعان يجد فيه القارئ إشارة إلى مصرعه (صلوات الله عليه)، حيث يشير الإمام (عليه السلام) في دعائه إلى واقعة كربلاء؛ وإنما دعا أيضاً وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، فكان (صلوات الله عليه) يقرأ: «اللهم متعالي المكان...» (1) إلى آخر الكلمات من الأدعية المؤثرة، ويمكن مراجعة هذا الدعاء في كتب المقاتل والأدعية.

5. قيمة الرضا؛ قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه): «إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى».

6. قيمة الحرية، وهي من القيم الحضارية المهمة في العالم، حيث تدور حولها الحضارات، وقالها مسلم بن عقيل وهو يواجه عناصر عبيد الله بن زياد في الكوفة:

(آليت ألا أقتل إلا حرّاً *** وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا)(2).

وقال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في حق الحر بن يزيد الرياحي لدى انضمامه إليه: (أنت حرٌّ كما سمّتك أمك)(3).

ص: 54


1- مصباح المتهجد: ص827 - 828، وفيه: ثم تدعو بعد ذلك بدعاء الحسين (عليه السلام) وهو آخر دعاء دعا به (عليه السلام) يوم كوثر: «اللهم متعالي المكان عظيم الجبروت شديد المحال غني عن الخلائق عريض الكبرياء قادر على ما تشاء قريب الرحمة صادق الوعد سابغ النعمة حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجا وأرغب إليك فقيرا وأفزع إليك خائفا وأبكي إليك مكروبا وأستعين بك ضعيفا وأتوكل عليك كافيا، احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك فاجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا برحمتك يا أرحم الراحمين».
2- بحار الأنوار: ج44 ص352. وفيه: (أقسمت لا أ قتل...).
3- بحار الأنوار: ج45 ص14.

7. قيمة المساواة؛ فقد وضع الإمام الحسين (عليه السلام) خدّه على خد ولده علي الأكبر (عليه السلام) ، كما وضع خدّه على خدّ ذلك الغلام الأسود أو التركي، ولم يفرق بين ولده وبين غلامه.

8. قيمة الأخلاق؛ وهو ما تحاول المسيحية اليوم أن تلتهم العالم من خلاله، ويمكن ملاحظة موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع عدوه وهو الحر وجيشه قبل الواقعة، حيث سقاهم الماء(1).

إذن فقد تمثلت كل هذه القيم المتنوعة وغيرها في قضية كربلاء.

الملاحظة الثالثة

إن التجلّي الحاصل للقيم في قضية كربلاء اختلط بالعَبرة، فكانت عِبرةً وعَبرة، كما يقول السيد العم(2): (عبرة وعبرَة)، لأن العاطفة تترك أثراً كبيراً في نفس الإنسان، فقضية الحر (رحمه الله) ليست قضية توبة وحسب، وإنما تحمل قيمة التوبة، وهي في نفس الوقت ليست فقط قيمة، وإنما عِبرة وعَبرة، وهو ما يفتقده الآخرون، لربما يُقال لشخص بأنَّ هناك يتيماً وفقيراً، وهذا قد يترك تأثيراً بمقدار معين، لكن إذا رأى أيتاماً في مدينة منكوبة بالزلزال، فإن التأثير سيكون أكثر وأكبر؛ فقد تجلت هذه القيم في كربلاء ممتزجة بالعاطفة وممتزجة بالعبرة، وهذا يُضيف إلى أهميتها بعداً جديداً، فإذن يمكننا القول أننا بحاجة إلى هذه القيم لشبابنا، إذ يجب علينا أن نربط شبابنا وأبناءنا بهذه القيم متمثلّة في هذه النماذج، فالشاب الذي يرتبط بعلي الأكبر (عليه السلام) لن ينحرف، لأن طبيعته ستكون مختلفة؛ كما يجب أن نُدخِل الحُبّ العميق في قلوب شبابنا، اقتداءً بأحد أصحاب الإمام (صلوات الله عليه) وهو عابس بن شبيب الشاكري الذي قال: (حب الحسين أجنّني).

وظيفتنا تجاه الإمام الحسين (عليه السلام)

بعد كل ذلك، نسأل: ما هي وظيفتنا تجاه الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ فنحن كلَّ ما عملناه قليل في حقه، لأن له حق الحياة الأبدية علينا.

ص: 55


1- بحار الأنوار: ج44 ص376.
2- المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).

حصل في البحرين أن أحد المؤمنين رأى رجلاً يتجه هو وعائلته إلى كربلاء، فقال له: أنت تذهب إلى كربلاء وموسم الشتاء على الأبواب، وبيتك متصدّع وربما ينهار بفعل الأمطار؛ الأولى لك أن تصرف أموالك لترميم بيتك، فقال له ذلك المؤمن: لقد بذل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) دمه لأجلنا، ونحن لا نبذل مالنا لأجله، إنه ظل مطروحاً في العراء ثلاثة أيام لأجلنا، فهل أفكر بسقف بيتي ولا أذهب لزيارته؟، فقال ذلك المعترض: بأمثال هذا ثبتت شعائر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .

إذن يتحمل المؤمنون المخاطر لزيارة أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) فبعضهم قُتلوا في هذا الطريق، والبعض الآخر أوشكوا على الموت عطشاً، ومع أنَّ كل ما نفعله يُعد قليلاً بحق الإمام (صلوات الله عليه) لكن هنالك أمرَينِ ضمن بقية أمور علينا القيام بهما:

الأمر الأول: المشاركة مهما كانت صغيرة، وبأي نوع من أنواع المشاركة، ويمكن ذلك بإقامة مأتم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في البيوت، وكان الوالد (قدس سره) يقول: حتى وإن لم يحضر أحدٌ في بيتكم، فيكفي أن تحضروا أنتم، والعائلة تسمع من وراء الجدار، فالطفل الذي يشارك في المجلس الحسيني ويخدم أو يسمع المصيبة ويرى بكاء الكبير، سيثور في باطنه وقلبه طوفان عظيم، ويحصل عنده الشيء نفسه إذا رأى الكبير في البيت وهو يقرأ دعاء كميل ويبكي، ربما يبقى منظر بكاء الكبير في البيت مدة أربعين عاماً في ذهن الطفل، كما أن المشاركة تكون بالزيارة أيضاً؛ فهذه القطرات تجتمع وتكوّن البحار، ولا يقولنّ أحدٌ ما قيمة هذه المشاركة؟!.

إن كتاباً يؤلفه أحد المؤمنين قربة إلى الله تعالى، حول الإمام الحسين (عليه السلام) أو حول السيدة رقية (عليها السلام) أو حول السيدة زينب (صلوات الله عليهم)، أو حول شهداء كربلاء، فرداًَ فرداً، لكلٍ كتاب، مثلاً كتاب عن حبيب ابن مظاهر وهكذا، يمكن أن يجعل الله تعالى فيه التأثير الكبير.

فتح خطوط فكرية وعملية جديدة

الأمر الثاني: ولعله أهم من الأول في بعض النواحي، هو فتح الخطوط، وهو موضوع بحاجة إلى حديث مستقل، فهنالك بعض الأفراد عاملون، سواءً في حضور

ص: 56

المآتم أو تأليف الكتب، وهذا أمر مهم، ولكن هنالك أفراد لهم قيمة استثنائية في التاريخ، وهؤلاء هم الذين يفتحون الخطوط الفكرية والعملية، وقد كان الوالد (قدس سره) يقول: إن للشيخ الطوسي (رحمه الله) قيمة كبيرة، لأنه فتح خطاً، فما عندنا من فقه يعود بالفضل إلى الشيخ الطوسي، ولعله قبل الشيخ الطوسي لا نجد فقهاً بهذا الأسلوب مثل كتابه (النهاية)، فهذا يُعد فاتحاً للخط، والشيخ الطوسي (رحمه الله) يُعد حقاً شخصية عجيبة، فقد فتح خطاً في الفقه وفي التاريخ والرجال والتفسير والأصول. وللمؤسسين دائماً قيمة كبرى في كل أمة، فثمة من يجد الطريق مفتوحاً أمامه فيسير فيه، وهو عمل جيد ومهم، ولكن هنالك أفراداً هم الذين يشقون الطرق ويفتحون الخطوط أمام الآخرين.

إذن علينا أن نحاول فتح الخطوط على اختلاف أنواعها، إذ هنالك أنواع للخطوط - مثلاً - فكرة موكب الأطفال الرضع الذي أشرنا إليه آنفاً، هذا يُعد فتحاً لخط، فالذي يفكّر بهذه الطريقة ويسنّ هذه السُنة، يكون قد فتح خطاً جديداً، وفي الرواية الشريفة يقول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»(1).

فبالإضافة إلى المشاركة في المجالس الحسينية، يمكن توجيه الشباب إلى مجاميع عمل ومجموعة خطوط، فالبعض يتكفل بأمر طباعة الكتب الدينية والحسينية، والبعض الآخر يتكفل بهداية الشباب، وآخرون يتم تشجيعهم على إقامة المجالس الحسينية في البيوت، فإذا كانت في مدينة ما مائة ألف دار ليكن الهدف في أن يكون في كل بيت مأتمٌ للحسين (عليه السلام) ، ثم تمتد وتستمر المجالس لتصل في استمراريتها إلى مائة عام وأكثر؛ فهؤلاء هم شباب ناشئون ولكن هؤلاء هم شباب المستقبل سيرفعون هذه الراية، حيث يمكن على أثر تشجيعكم أن يشكلوا عشرة آلاف مجلس، ولعل هذه المجالس ستمتد إلى مائة عام، يقال: إن هناك مجالس حسينية في طهران عمرها الآن أكثر من مائة عام.

هذه الأعمال بمختلف أنواعها من قضية المشاركة أولاً، وقضية فتح الخطوط ثانياً، لها قيمةٌ كبيرةٌ عند الله.

ص: 57


1- الانتصار: ج5 ص86.

مع المحقق الأردبيلي (رحمه الله)

ينقل المحقق الأردبيلي (رحمه الله) - ذلك العالم الكبير - في كتابه، بأنه كان هنالك قائدٌ أراد أن يستعرض جيشَه في أحد الأيام، فسلّم راية لكل قائد مجموعة من الجيش، وقال: على كل قائد أن يأتي ويمر أمامي مع ألف رجل، وفي اليوم المعين جاءت الأفواج ومعها القادة، فمر الفوج الأول ومعهم القائد والراية، ثم مرّت الراية الثانية وخلفها ألف جندي، وهكذا حتى مرت الرايات الواحدة بعد الأخرى فبلغت مائة وعشرين راية، ويكون العدد الإجمالي لمن مروا أمامه مائة وعشرين ألف جندي، وفي ذلك الزمان كان عدد كهذا ضخماً ويُعتد به، لكن ما أن مرت آخر راية من أمام هذا القائد، وإذا به ألقى بنفسه على الأرض وسجد، ولعل هذا السجود كان شكراً لله سبحانه وتعالى، ولكن رأوا أنه أخذ يبكي في سجوده وبصوت عالٍ ولفترة طويلة، ثم بعد ذلك قام من سجوده، من دون أن يكون عمله مفهوماً عند أحد، فسأله أحد المقربين من أصدقائه القدامى وقال له: يا فلان - ويذكر المقدس الأردبيلي(1) في كتابه اسم ذلك القائد - إن المقام ليس محلاً للحزن والبكاء وإنما للفرح والشكر، فقال له: في الحقيقة، عندما مرّت الراية الأخيرة، خطر إلى ذهني فجأة ولاحت في خاطري قضية كربلاء وتألّمت جداً وتمنّيت أني كنت - وبجيوشي - في كربلاء حتى أقاتل بين يدي أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، فإما أن أنتصر أو أستشهد، وعندما مرّ هذا الخاطر وتذكرت غربة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أخذتني العبرة وبكيت.

وبعد فترة لما توفي هذا الرجل القائد - هكذا ينقل المحقق الأردبيلي (رحمه الله) - رآه عدة أشخاص في عالم الرؤيا، فقالوا له: ماذا فعل الله تعالى بك؟ قال: عندما وضعوني في قبري جاءني الملكان أو الملائكة، (هو ذاكر الملائكة) وسألوني...، فتحيّرت لا أعلم بماذا أجيب، وإذا بالجانب الأيمن من القبر ينفتح، ويدخل سيدٌ نوراني، وقال للملائكة أو للملكين: أتركوه فإن الله تعالى وهبه لي!، فتركوني، فألتفتُ إلى ذلك

ص: 58


1- الشيخ أحمد بن محمّد، المشهور ب- «المحقّق والمقدّس الأردبيليّ»، من أشهر فقهاء الشيعة الإماميّة في القرن العاشر الهجريّ تُوفّي في المشهد الغرويّ المقدّس بالنجف الأشرف في شهر صفر سنة 993ه.

الرجل وقلت له: من أنت، يا من جئت لنجدتي في هذا الموقف الحساس؟ فقال: أنا الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) جئت لنجدتك في قبال تلك القطرات التي ذرفتها لي، عند ما تذكرت مصيبتي في حالة السجود في ذاك الموقع.

نحن أيضاً علينا أن نفكر بأمرنا، ربما لن يكون لنا عمل واحد نضع أيدينا عليه ونقول: فعلنا هذا العمل مائة بالمائة لله تعالى، وإنه يخلو من الشرك بالله ولا واحد بالمليون، يقول الله تعالى في حديث قدسيٍّ: «أنا خير شريك من عمل لي ولغيري وكلته لغيري»(1)، وظاهر إطلاق هذا الحديث، أنه إذا كان ثمة نسبة واحد بالمليون جزء الداعي أي كان جزء المحرك لغير الله ما كان الله ليقبله، ثم إن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إلى أعمالنا، فهل عندنا عمل نتمكن أن نقول: بأننا قمنا به مطمئنين؟

وهنالك قضية أخرى ننقلها بين قوسين؛ ذاك الرجل قال لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في عالم الرؤيا: فعلت الكثير من الأعمال الصالحة، لكن الإمام (عليه السلام) ردّ كل أعماله وقال كلّها مردودة! فقال للإمام (عليه السلام) : لا بأس بذلك، ولكني كنت أفرح من كل أعماق قلبي، عندما يرتفع شأنكم في المجتمع، عندها قال الإمام (عليه السلام) لملائكة العذاب: صدق الرجل أتركوه، لأن هذا الحب ليس فيه شائبة، حتى بنسبة الواحد بالمليون.

مع دعبل الخزاعي

وهنا قضية أخرى معروفة ينقلها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في (عيون أخبار الرضا) (صلوات الله عليه) حول دعبل، أنه كان في لحظات الاحتضار، وقد ساء وضعه بسبب مشكلةٍ كانت في حياته، فرأى ابنه في عالم الرؤيا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يأتي ومعه ملائكةٌ كثيرون، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لدعبل: أأنت دعبل؟ قال: نعم، قال: أنت الراثي أهل بيتي؟ قال: نعم، قال: إقرأ شيئاً من رثائك، يقول دعبل: بدأت بقراءة بعض الأبيات، منها هذين البيتين :

ص: 59


1- الكافي: ج2 ص295، وسائل الشيعة: ج1 ص57.

لاأضحك الله سنّ الدهر إن ضحكت *** وآل أحمد مظلومون قد قهروا

مشرَّدون نُفوا عن عقرِ دارِهِمُ *** كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفرُ

فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وشفع لدعبل وخلع عليه ثياباً بيضاء(1).

مع حبيب بن مظاهر

ويُنقل أن أحد العلماء رأى حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) في عالم الرؤيا، فقال له: هنيئاً لك أنت في أيام شبابك كنت في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي شيخوختك خضبت شيبتك بيد يدي أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) فهنيئاً لك، وهل عندك أمنية بعد ذلك ؟ قال نعم! عندي أمنيةٌ واحدة أن أعود إلى الحياة وأشترك في مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .

إن شخصية حبيب كانت عجيبة حقاً، ولعل من العظمة التي أعطاها الله تعالى لحبيب أن يُزار مرتين: في المرة الأولى عندما يدخل الزائر من خلال مقامه، والمرة الثانية عندما يخرج سيكون طريقه من عند مرقده الشريف، ونفس العظمة أعطاها الله تعالى للحر (رضوان الله عليه) مقابل لحظات من حياته، ولكن ذلك الموقف كان صعباً جداً، وهو التخيير بين الجنة والنار، واليوم يتوجه الملايين لزيارة الحر، في المنطقة التي تسمى بإسم (الحر) بقرب كربلاء المقدسة، ويُذكر بكل احترام في المجالس منذ ألف وأربعمائة عام إلى هذا اليوم، والعطاءُ الإلهي مستمر لهؤلاء في الدنيا، لكن يلزم الرواح إلى الآخرة لنرى هناك عظيم عطاء ربنا لهؤلاء الأبرار.

من هنا علينا المشاركة في الشعائر الحسينية بمختلف أنواعها وبالمقدار الذي يتمكن الإنسان عليه، فإن لها قيمةً كبيرةً عند الله سبحانه وتعالى، ويجب علينا أن نحاول في شهر محرم الحرام أن يُكتب اسمُنا في ديوان سيد الشهداء (عليه السلام) و نحاول أن نكون ضمن أفضل من يُكتب فيه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.

ص: 60


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص297.

الفصل الثالث : عاشوراء عطاء وشفاعة

اشارة

· التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وسُبُل الشفاعة

· التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وعطاءات المحبين

· الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة

· نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) .. الطريق إلى الاستنقاذ

· عطاء عاشوراء والحفاظ على الهوية الإسلامية

· الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلتنا إلى الله

ص: 61

1

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وسبل الشفاعة

اشارة

هنالك رواية يرويها الشيخ الحر العاملي(1) (رحمة الله عليه) في كتابه (وسائل الشيعة) ويرويها أيضاً الشيخ الطوسيّ(2) (رضوان الله عليه) في أماليه، وهي مرويةٌ عن الإمام الباقر والإمام الصادق (صلوات الله عليهما)، الإمامان يقولان: «إن الله عوّض الحسين (عليه السلام) عن قتله: أن الإمامة في ذريّته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولاتُعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره»(3). وفي بعض الروايات: «أيام زائره...».

والظاهر من الناحية النحوية - طبق بعض النظريات - لا إشكال في أن يُؤتى بالحال المفردة من الجمع، فإذا قرأنا الرواية: (ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً) فهي(4) حال مفردة من الجمع(5)، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ) (6)، و(قائما) حالٌ من الله تعالى أي أنه لا إله إلاّ هو قائماً بالقسط. وهناك نظرية ثانية في (قائما) أنه حال من أولو العلم، وقبل أيام رأيت في القرآن الكريم آية تؤيّد هذا المبنى.

توضيح الرواية

يمكن توضيح هذه الرواية من خلال مبحثين:

المبحث الأول : فكرة التعويض الإلهي في إطارها الكلي.

والمبحث الثاني: التعويض الإلهي لسيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).

ص: 62


1- الشيخ المحدّث محمد بن الحسن الحر العاملي (رحمه الله) صاحب كتاب (وسائل الشيعة)، المتوفى بمشهد الإمام الرضا (عليه السلام) سنة 1104ه- والمدفون في الصحن الرضوي الشريف، مزاره معروف.
2- شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي. وُلد في طوس (خراسان) في شهر رمضان سنة 385ه، وانتقل إلى النجف الأشرف سنة 448ه- وتوفي فيها في محرم سنة 460 ه- ودفن بقرب الروضة الحيدرة في الجامع المعروف اليوم بجامع الطوسي.
3- وسائل الشيعة: ج14 ص423.
4- أي كلمة (جائياً وراجعاً).
5- أي من (زائريه).
6- سورة آل عمران: 18.

المبحث الأول: التعويض في الإطار الكلّي

اشارة

تُعدّ فكرة التعويض الإلهي إحدى الأفكار المهمة والمحورية في الحياة البشرية، فهي من جانب لها علاقة بالبعد العقائدي للدين، ومن جانب آخر لها علاقة بالحياة العملية، فمن الجانب الأول، ربما يمكن أن نعدّ فكرة التعويض الإلهي شعبةً من شعب العدل، فالله سبحانه وتعالى عادل، وإحدى شعب عدله التعويض، ويشير القرآن الكريم في موضعين لهذه الفكرة؛ الأول في إطارٍ خاصّ، والثاني في إطار عامّ.

أولاً: الإطار الخاص

حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ) (1)، من الملاحظ أن سياق الآيات المباركات حول المؤمنين (فاستجاب لهم ربهم) في أواخر سورة آل عمران، أن العمل مُنكَّرٌ (بصيغة النكرة)، والعامل مُنكَّرٌ أيضاً، أي أن مختلف أعمال المؤمنين، بغضّ النظر عن حجمها، لن تضيع عند الله سبحانه وتعالى، حتى نفخ الهواء بواسطة الفم، كما جاء في بعض الأحاديث، فإذا نفختم - مثلاً - في نار عليها طبخ سيد الشهداء (عليه السلام) ، فإنه عمل لايضيع عند الله تعالى، حيث كانوا قديماً ينفخون في النار بهدف زيادة اشتعالها، أو تسيرون في الشارع ومرّت أمامكم امرأة، فإذا غضضتم بنظركم، - والغضّ غير الغمض - أي أن يلقي الإنسان بنظره إلى الأرض، ليتحاشى النظر إلى تلك المرأة، وهي حركة رموش العين، فهذه أيضاً لا تضيع عند الله تعالى.

إذن فأي عمل يصدر من أي شخص من المؤمنين، بأي حجم كان العمل، ومن أيٍ كان؛ رجلاً أو امرأة، فإن الله لا يضيعه، (أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ) جاهلاً كان أم عالماً.. من هنا إذا ترون هناك فقيهاً قديراً، فيلزم أن تعلموا أنه بلغ هذه الدرجة من خلال سهر الليالي بالمطالعة، وتلك الليالي لا يضيعها الله تعالى، وهكذا الحال إذا وجدتم أصولياً قهّاراً، أو محدثاً متبحِّراً في الأحاديث مثل (صاحب البحار) وأنا أوصي نفسي وأخواني أن يطالعوا كتاب (مرآة العقول) للعلامة

ص: 63


1- سورة آل عمران: 195.

المجلسي (رحمه الله) (1)، فهو من الكتب اللطيفة إلى أبعد الحدود، وحقاً يُعد كنزاً من المعارف، وقد صرف العلامة المجلسي (رحمة الله عليه) عمره في الأخبار والأحاديث، ويمكن ملاحظة أسلوب التحليل والبيان الذي اتبعه في كتابه، ولمن سنحت له الفرصة فعليه أن يقرأ هذا الكتاب أو يتباحث فيه، ولو في كل يوم حديثاً واحداً، أو في كل جمعة حديثاً واحداً، فهو نافع للعالم والخطيب والمؤلف والمجتهد، وكل الطوائف، وبالجملة هو كتاب مهم جداً؛ وهذا الجهد لا يضيعه الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: الإطار العام

حيث يقول الله سبحانه و تعالى في سورة النجم: (وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ)(2)، وعن هذه الآية كان الوالد (قدس سره) يقول في بعض بحوثه: إنَّ في هذه الآية عَقدين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، وهذان العقدان يُستفادان من النفي والإثبات، أي إن الآية الكريمة على وجازتها تنحلّ إلى جملتين: الأولى: لك سعيك وعملك، أيها الإنسان في الإطار الكلي، والثانية: ما لم تسعَ ولم تعمل فليس لك.

كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يخرج في تلك الليالي المُظلمة، ويعبد الله سبحانه وتعالى ويقرأ في ليالي الجمعة دعاء (كميل)، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم وعلى امتداد العالم يقرأ المؤمنون دعاء (كميل)، وربما قرأه حتى اليوم المليارات من البشر على امتداد التاريخ وحتى يوم القيامة، وكل ذلك هو شعبة من تلك القراءة لدعاء (كميل) التي قرأها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وقد أظهر الله تعالى هذا العمل، فيما كان معاوية في غوطة الشام يحتسي الخمر سراً، وهو ما يُشهر به على المنابر منذ ألف وأربعمائة عام.

وكذلك بالنسبة إلى علمائنا، فالشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه) والذي يسمى اليوم ب(الشيخ الأعظم)، كان رجلاً بربع رؤية، أي كانت إحدى عينيه كريمة، جاء من إحدى قرى إيران يُقال لها (شُوشتر) أو (دزفول)، ولا يعرفه أحد، وكان متحيّراً في

ص: 64


1- الشيخ العلامة محمد باقر بن المولى محمد تقي المجلسي صاحب كتاب (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار) في ( 110 ) مجلدات، المتوفى سنة 1110 ه
2- سورة النجم: 39.

توفير أكله وشربه، وقد سمعت - ولم أرَ - من أحد العلماء ينقل أن الشيخ الأنصاري (رحمه الله) كان في بدايات تحصيله للعلم، يعمل نصف اليوم ليأكل والنصف الآخر يطلب فيه العلم، وكان يسكن بيتاً مُحقّراً متواضعاً، لكن لاحظوا التركة التي خلّفها، حيث لم يضيِّعْها الله تعالى، فأين ما تذهبون في الحوزات العلمية تسمعون: (قال الشيخ الأعظم)، ولا يكون لتقييم الناس أثر في هذا المجال، أو أنهم فهموا وأدركوا ذلك العالم أم لم يدركوه، مثالاً على ذلك؛ إذا قالوا لكم: خرجت في أفريقيا مائة ألف نملة تظاهرات تأييداً لكم! فهل يؤثر ذلك فيكم ؟ أو يقال: يحيا (فلان) حتى وإن كان الهتاف من مئات الآلاف من البشر، فإنه لن يكون ذا قيمة أمام الله تعالى، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (رحمه الله) : «لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس كلهم في جنب الله أمثال الأباعر»(1)، وهذا ليس بمعنى احتقار الناس، وإنما لانتفاء قيمتهم أمام الله تعالى، لذا لا ينبغي أن نفكر دائماً عن كيفية تقييم الناس لنا.

قيمة العمل

إن قيمة العمل التي جاءت في الآية الكريمة: (وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ)، ليست في تقييم الناس، وإنما القيمة في: (ثُمّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأوْفَىَ)(2)، وهنا يرد إشكال، ففي الآية الكريمة عقد سلبٍ وعقد إيجاب: (وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ)، فكيف أنّ مؤمناً يدعو لآخر فتكون في حسابه من دون أن يسعى بشيء، كذلك الحال في شفاعة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) فالإنسان هنا لم يسعَ بشيء، إذن كيف تقول الآية: (وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ)؟

الجواب على ذلك؛ إنه من سعي الإنسان أيضاً، لأن السعي نوعان: مباشريٌ وتسبيبيٌ، فعندما تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتريد أن ترضيهم عنك تقول قبل النوم: (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات)، ويوجد في (مفاتيح الجنان) تفصيل الدعاء، وهي كلمات مهمة جداً من الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، فالدعاء

ص: 65


1- راجع: الأمالي للطوسي: ص533 المجلس19.
2- سورة النجم: 40 - 41.

للمؤمنين والمؤمنات هو نتيجة سعي المؤمنين والمؤمنات، بدخولهم في حظيرة الإيمان، فهذه الدعوة إنما تشمل ذلك الإنسان نتيجة سعيه وعمله، كما إذا بنى شخصٌ مسجداً ثم يأتي آخر ويصلي فيه، فيكتب لباني المسجد ثواب هذه الصلاة أيضاً، لأن السعي أحياناً يكون مُباشرياً وأحياناً يكون تسبيبياً.

المبحث الثاني: التعويض الإلهي لسيد الشهداء (عليه السلام)

اشارة

إذا كان الله سبحانه وتعالى قد عوّض عملاً متواضعاً، أو تضحية متواضعة، فما هو تعويضه سبحانه وتعالى لتلك التضحيات الكبرى التي قدّمها سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، والتي لا نعهد في التاريخ مثيلاً لها، فقد وردت رواية عن الإمامين الباقر والصادق (صلوات الله عليهما) وكلاهما 3 في هذه الرواية يقولان: «إن الله عوّض الحسين عن قتله...»، ويقول العلماء: إن اللقب لا مفهوم له، فالتعويض لا ينحصر بما ذكر في هذه الرواية، حيث إن الله عوّض الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بأشياء أخرى أيضاً غير الأشياء الأربعة المذكورة في هذا الحديث، ويقولون:

(إثبات الشيء لا ينفي ما عداه)، أي إن هذه بعض تعويضات الله تعالى لسيد الشهداء (صلوات الله عليه).

ومن هذه التعويضات الإلهية:

أولاً: «أن الإمامة في ذريّته»

كم زائر يزور الإمام الرضا (صلوات الله عليه)؟ هناك إحصائيات عديدة، ينقل بعض المُطّلعين أن حوالي 16 مليون زائر يزورون الإمام الرضا (صلوات الله عليه) كل عام، وقيل أكثر من ذلك، ولا نعلم العدد الذي سيبلغه إذا احتسبنا الزائرين من يوم استشهاده (عليه السلام) وإلى يوم القيامة، ثم كم مرة سيقرأ القرآن الكريم في حرم الإمام الرضا (عليه السلام) ؟ وكم ركعة تُصلى، هذا ما تعدّه الملائكة، وكم قطرة دمع تُذرف هنالك؟ حيث لها تلك القيمة العظيمة عند الله تعالى، وكم إنسان يتوب ببركة الإمام الرضا (عليه السلام) ؟

وكذلك الحال بالنسبة للسيدة المعصومة (صلوات الله عليها) في مدينة قم المقدسة، فكم مليار يزورونها على مر التاريخ؟ وكم إنسان يهتدي بواسطتها؟ كما أن للامتدادات التاريخية حساباً في هذه القضية، أي أن الإنسان الذي يتوب سيكون له امتداد تأريخي،

ص: 66

فهو لن ينتهي بعد التوبة ويؤثر في ذريته، فكم امتدادٍ تأريخي سيكون على أثر هذه الزيارات. ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة لتعمير مراقد الحواريين الصحابة والتشجيع على ذلك، ففي الأردن هناك مرقد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) أخو الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وفي آذربيجان مرقد (بي بي هيبت) (عليها السلام) كما يسمونها هناك، وإلاّ فإن اسمها - كما أظن - هو فاطمة، وهي أخت السيدة المعصومة (عليها السلام) ، وفي منطقة الربذة قرب المدينة المنورة هناك مرقد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رحمه الله) ، وفي القاهرة هناك مرقد مالك الأشتر (رحمه الله) ، فكل هؤلاء يُعَدُّون منابعَ للهداية، ينقل أحد العلماء - وأظن أنه كان ينقل عن رواية - بأن كل ما يعمله الابن يُكتب في صحيفة الأب أيضاً، طبعاً من دون أن ينقص من أجور الابن شيء، لذا فان كل الامتداد التاريخي لذرية الإمام الحسين (عليه السلام) وما يتسببون في تقرّب الناس إلى الله سبحانه وتعالى كل ذلك يكون مكتوباً في ديوان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أيضاً - كما يقول ذلك العالم - وسواء أن كان الحديث منقولاً من رواية أو بمقتضى معادلات عقلية، فإن هذا يعد تعويضاً مهماً.

ثانياً: «والشفاء في ترتبه»

إن التربة محرّمة، يقول الإمام (عليه السلام) في مضمون الحديث: (إذا شخص يأكل التراب ويموت على أثر ذلك لا أُصَلّي عليه)، وهذا دلالة على التشديد في قضية التربة والطين، ولكن الله تعالى استثنى تربة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ، لأن فيها الشفاء، وهذا الحكم المطابق للرأي المشهور بين الفقهاء لا يشمل بقية المعصومين (عليهم السلام) ، أي لا يحق لإنسان أن يأكل من تراب قبر الإمام الرضا (صلوات الله عليه) بهدف الشفاء، وإنما الحكم خاص بالإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فقد جعل الله تأثيراً غيبياً في هذه التربة.

وهنالك بحث أيضاً من الناحية الفقهية في أن هذا الشفاء يشمل الأمراض البدنية والروحية معاً، وهذا ما يستظهره الوالد (قدس سره) في الفقه بأن الشفاء في تربة الإمام الحسين (عليه السلام) يشمل الأمراض الروحية أيضاً، كما لو أن شخصاً يعاني من البخل، وهو مرض روحي، فيأكل قليلاً من تربة الإمام الحسين (عليه السلام) للشفاء فيزيل عنه هذا

ص: 67

الداء، وكذلك الحال في داء الكآبة المنتشر في الوقت الحاضر وهو داء العصر، في حين كان الناس في سابق الأيام منشرحين مرتاحين، ولم تكن قلوبهم كما يعاني الكثيرون اليوم من الانقباض والتوتر، مع وجود النعم العظيمة، وكان يرى الوالد (قدس سره) أثراً في التربة الحسينية على من لا يجد في نفسه الرغبة والميل للعبادة، وجاء في الحديث: (إن أهون ما أنا صانعٌ بعالمٍ غير مستعملٍ علمه أن أسلب حلاوة مناجاتي منه)(1)، لذا نجد العزوف عن قراءة القرآن الكريم وعدم الميل نحوه عند الكثيرين، أو إذا قرأ ينظر إلى ما تبقى من الصفحات! أو يدخل إحدى المراقد المقدسة ثم يُسرع بالخروج..، يروى أن الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) (2) كان مع جماعة في سفر، فرأى شخصاً يأكل القليل من الطعام، فسأله عن السبب؟، قال له: لا أشتهي الطعام، ويبدو أنه كان يشكو من معدته، ثم ناموا، فقام الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) لنافلة الليل، فوجد ذلك الشخص نائماً واستمر كذلك حتى الصباح! فبعد أن أفاق قال له: يبدو أنه ليس لديك شيء من اللذات المادية ولا من اللذات الروحية، فلماذا تعيش إذن؟!

نقل لي المرجع المعروف سماحة السيد صادق الروحاني(3) (حفظه الله) بالقول: كتبت كتاباً فقهياً - ربما يكون كتابه الفقهي المعروف(4) - فأهديتُ نسخة منه إلى المرحوم الجد - أي إلى جدنا (5) - فيضيف قائلاً: أهديت له نسخة من كتابي، فكتب لي رسالة شكر قال فيها: فكرّت في الهدية التي أقدمها لك بالمقابل، فما جاء في ذهني أفضل من تربة سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، فأهداني جدكم (رحمه الله) مقداراً من التربة المأخوذة من قرب الجسد الطاهر لأبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه). ومعروف أن الجد (رحمه الله) كان قد دخل

ص: 68


1- راجع بحار الأنوار: ج2 ص32 وفيه: (إن أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشد من سبعين عقوبة أن أخرج من قلبه حلاوة ذكري).
2- الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء النجفي (1294ه- - 1373ه).
3- آية الله العظمى السيد محمد صادق بن الميرزا محمود بن صادق الروحاني القمي، فقيه إمامي معاصر من مراجع الدين في مدينة قم المقدسة.
4- موسوعة (فقه الصادق (عليه السلام) ).
5- آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي بن حبيب الله الحسيني الشيرازي (رحمه الله) توفي عام 1380 ه- ودفن في الصحن الحسيني الشريف في مقبرة آل الشيرازي.

ذات مرة في السرداب الشريف بقرب جسد الإمام الحسين (صلوات الله عليه) عندما كان هنالك حفر وتعمير، وأخذ مقداراً من التربة من قرب بدن الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وكانت تنقل عنها أشياء عجيبة، وقد أوصى أن تُدفَن معه، فدُفنت معه حتى تكون أماناً من كل خوف.

نعم إن التربة الشريفة أمان من كل خوف، كنا مع الوالد (قدس سره) في رحلة من مدينة الكويت إلى جزيرة فيلكة، حيث كان يريد الوالد (رحمه الله) افتتاح حسينية هناك، وفي طريق العودة تلاطم البحر بشكل شديد، وإنني لم أتذكر التفاصيل، لكن نُقل لي أن العديد غاصوا في الماء بسبب ذلك التلاطم، فأخذ الوالد (قدس سره) قليلاً من تلك التربة وألقاها في البحر، فهدأ البحر! وهذا مصداق الحديث الشريف (أمان من كل خوف)(1) حتى للميت ومخاوف الآخرة. وقد ورد أن نضمن إعمالنا بهذه التربة، وإلاّ فإن معظم أعمالنا ربما تكون محل إشكال إلاّ بهذه الأشياء المباركة إذ نحاول أن ننجو بها، وعليه؛ ذكر السيد الروحاني (دام ظله) أنه رأى العجائب من هذه التربة الحسينية ونقل قضيتين:

القضية الأولى: قال: مرض حفيدي محمود حتى شارف على الموت، وننقل عبارته بأنه مات تقريباً أو تحقيقاً، قال: وإن أباه خرج من البيت حتى لا يرى منظر موت ابنه بعينيه، يقول السيد الروحاني: جاء في ذهني أن استعين بهذه التربة الشريفة فأخذت قليلاً منها و وضعتها في فم ذلك المريض بصعوبة، قال ببركة هذه التربة ألبس الله سبحانه وتعالى ذلك المريض الشفاء الكامل، والى الآن هو موجود حيّ يرزق.

القضية الثانية: يقول السيد الروحاني أن شاباً جاءني في أحد الأيام وقال لي: ائذن لي يا سيدنا بالانتحار! فقلت له: بأيّة مناسبة ؟ فذكر لي مشكلة عنده، وهي مشكلة تتعلق ببدنه، قال: قد ضاقت عليّ الحياة وأعاني من هذه المشكلة طوال ثلاثة أشهر، فقلت له: لا تنتحر! خذ من هذه التربة وإن شاء الله يكون فيها الشفاء، يقول السيد الروحاني: ذهب ذلك الشاب ثم عاد بعد ثلاثة أيام تقريباً وهو مستبشر ومنشرح وقال: مولانا! لقد حُلّت المشكلة تماماً.

ص: 69


1- الدروس: ج2 ص12.
ثالثاً: «وإجابة الدعاء عند قبره»

رزقنا الله وإياكم - إن شاء الله - التوفيق للتشرف إلى تلك البقاع المُشرفة، يروى أن الإمام الهادي (صلوات الله عليه) أصيب بداء، فبعث شخصاً إلى كربلاء ليدعو له عند قبر سيد الشهداء (عليه السلام) ، وينقل الراوي أن شخصاً يدعى (علي بن بلال) سأل الإمام الهادي (عليه السلام) بأنه هو إمام فكيف يبعث شخصاً حتى يدعو له عند قبر الإمام الحسين عند الحائر؟ إذ إنه (عليه السلام) هو الحائر! وجاء في الرواية أنه لما عاد المبعوث نقل للإمام الهادي (عليه السلام) الكلام، فقال الإمام (صلوات الله عليه) : ألا قلت له - أي لعلي بن بلال - إن الله تعالى أمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يطوف حول الكعبة ويستلم الحَجَر، في حين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) هو أشرف من الكعبة وأعظم من الحَجَر، والله أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالوقوف في عرفات، وهو أعظم من عرفات، بل أعظم من كل الدنيا وما فيها، ولأجله (صلی الله عليه وآله وسلم) خُلقت الدنيا، لكن لله بقاعاً يحب أن يُدعى فيها (1).

رابعاً: «ولا تُعد أيام زائره جائياً وراجعاً من عمره»

أي إذا قدّر الله تعالى لإنسان العيش ثمانين عاماً - مثلاً - فكان منها عشرة أعوام في طريق زيارة سيد الشهداء (عليها السلام) ذهاباً وإياباً، فهذه العشرة أعوام يضيفها الله على عمره فتكون تسعين عاماً، أي إن سنوات السفر لن تحسب من سنوات عمر ذلك الإنسان، كما عندنا روايات بهذا الخصوص بالنسبة للمائدة، بأن الجلوس على المائدة

ص: 70


1- قال الإمام (عليه السلام) : «إن لله بقاعاً يحب أن يدعى فيها ويستجيب لمن دعاه والحير منها». تحف العقول: ص482. / وفي كامل الزيارات: ص273 ب90: عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إلي أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة، فأخبرني أنه ما زال يقول: ابعثوا إلى الحائر، فقلت لمحمد: ألا قلت أنا أذهب إلى الحائر، ثم دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك أنا أذهب إلى الحائر، فقال انظروا في ذلك، ثم قال: إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي وأنا أكره أن يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع بالحائر وهو الحائر؟ فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: اجلس، حين أردت القيام فلما رأيته أنس بي ذكرت قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلت له: إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، إنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى لي حيث يحب الله أن يدعى فيها و الحائر (الحير) من تلك المواضع».

لا تُعد من عمر الإنسان. كان ذلك بعض التعويض الإلهي لسيد الشهداء (صلوات الله عليه) ومن التعويض الإلهي له أيضاً: أن جعله مصباح هدىً وسفينة نجاة (1)..

وكان هنالك جانبٌ آخر من الحديث حول وظيفتنا تجاه سيد الشهداء (صلوات الله عليه) لكن لا يسعه المقام. وهنالك تعويضات أخروية كثيرة، إن شاء الله نشاهدها في عالم الآخرة، لذا علينا قدر الإمكان اغتنام الفرص وأن لا نحرم أنفسنا من هذا الفيض والبركة العظيمة.

تقوية المجالس العائلية

كان عندي اقتراح مختصر في مجال الوظيفة إزاء سيد الشهداء (عليه السلام) ، وقد طبقه بعض الأخوة المؤمنين، ورأيت فيه نجاحاً كبيراً، وهو أمر بسيط ولا يحتاج إلى أية مؤونة كما أن فيه البركة، وهو أن تشكل العوائل المتقاربة مجلساً حسينياً لهم وبشكل دوري، فيجتمعون ويقرؤون مصيبة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فثمة عائلة في قم المقدسة تقيم مجلساً حسينياً في أيام محرم الحرام، يتنقل بين بيت الأخ ثلاثة أيام وفي بيت الأخت ثلاثة أيام أخرى، وهكذا؛ ويحضر جميع أفراد العائلة من أبناء العم وأبناء الخال والأعمام والأخوال، ثم يبادر أحدهم لقراءة المصيبة، صغيراً كان أم كبيراً أو طفلاً في سن العاشرة من العمر، وهذا أمرٌ مهم جداً، فاطلبوا من الأطفال أن يأخذوا الكتاب ويقرؤوا مصيبة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، لأن لذلك تأثيراً كبيراً على نفوس الأطفال.

وبغضّ النظر عن البركات الأخروية والدنيوية الكثيرة جداً، فإن البيت الذي يُذكر فيه سيد الشهداء (عليه السلام) يكون بيتاً مباركاً، إضافة إلى ذلك فإنه وسيلة لتحصين أولادنا وبناتنا. وما يقوم به الغرب حالياً ويهتم به بقوة وذلك ضمن خطّة قديمة هي محاولة عزل أجيالنا عن تاريخهم، فإذا سُلب من الإنسان تاريخه فإنه ينتهي، ولعل هذا ما دعا (البهلوي الأول)(2) في إيران لمقاومة الشعائر الحسينية وبشدة، وله كلمات عنيفة حول

ص: 71


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2 ص62.
2- رضا بهلوي (المعروف بالبهلوي الأول) والد شاه إيران محمد رضا، كان قد أمر بخلع الحجاب عن النسوة في إيران أيام حكمه، وكذلك منع من إقامة الشعائر الحسينية بمختلف أنواعها، ومنع العمامة.

سيد الشهداء (عليه السلام) ، وقد نقل لي أحد الأشخاص بأننا كنّا نقيم سراً المجلس الحسيني، وفي أحد الأيام وبينما كنا جالسين في غرفة مع مجموعة ونقرأ المجلس سرّاً وإذا بالجنود يهجمون علينا، فيقول: تحيّرنا ولم ندر ما نصنع، إذ ليس لنا تفسير وتبرير لذلك، لكن فوراً ألهمنا الله تعالى هذه الفكرة، بأن يضطجع أحدنا وسط الغرفة، ويوهم بأنَّهُ ميّت! ثم أخذنا بالبكاء عليه، فلما دخل (الشرطي) قال: لماذا أنتم مجتمعون؟ قلنا: لأجل هذا الميت المسجى أمامنا، فانصرف بعد أن شاهد الشخص المسجّى وعيوننا المحمرة من البكاء!

كذلك فعل صدام ومارس مختلف أنواع التعذيب بحق القائمين بالشعائر الحسينية، وقبله فعل الهاشمي(1) في العراق، وفعلت كل الحكومات المتعاقبة على العراق، وكذلك فعل أتاتورك (2) في تركيا، وكل هؤلاء حاربوا الشعائر الحسينية، لأن إحدى نقاط قوة الأمم ارتباطها بتاريخها وقادتها، ومن أجل ذلك يفكر الغرب بتغيير مناهج التعليم، لربط أطفالنا بتاريخهم الغربي، مثلاً يذكّرون ب- (لنكولن) لأنه حرر العبيد في أمريكا، في نفس الوقت يريدون أن يسلبوا أولادنا ويجردونهم من تاريخهم، لاحظوا وسائل الإعلام العربية هل فيها ذكر للإمام الحسين (عليه السلام) وللأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بالمستوى اللائق؟! من هنا يجب أن نهتم بذكر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأن لا يكون ذلك عندنا بشكل باهت وضعيف. إذن المجالس الحسينية في البيوت هي إحدى الأشياء خفيفة المؤونة وكثيرة المعونة، وكثيرة البركة أيضاً، وقد كان السيد الجد (قدس سره) - وإن لم يكن خطيباً - يقرأ مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) كلّ يوم يقر يرحمة على الكتاب لمدة خمس دقائق، تبرّكاً بالإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وإن شاء الله يكون لذلك خيرٌ دنيويٌ كثير، وإن شاء الله تكون من وسائل الشفاعة في يوم القيامة.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 72


1- طه بن سليمان الهاشمي (1305 – 1380 ه) رئيس وزراء العراق سنة 1941م.
2- مصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس جمهورية في تركيا بعد سقوط الدولة العثمانة وهو الذي أسس العلمانية في هذا البلد ومنع الأحرف العربية وجميع المظاهر الدينية.

2

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وعطاءات المحبين

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في كتاب (بحار الأنوار) نقلاً عن محمد بن مسلم عن الإمامين الباقر والصادق (صلوات الله عليهما) أنهما قالا: (إن الله سبحانه وتعالى عوّض الحسين (عليه السلام) من قتله بأن جعل الإمامة في ذريته والشفاء في تربته واستجابة الدعاء عند قبره ولا تعد أيام زائره ذاهباً وراجعاً من عمره)(1).

معنى التعويض

تكررت كلمة التعويض في الروايات المأثورة عن المعصومين (صلوات الله عليهم)؛ لكن ما معنى التعويض؟ لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في هذا الكون على أن لا يضيع عمل عامل، وهذه الشعبة تُعدّ فضلاً من الله تعالى وَجُوداً منه للإنسان، لكن هل هنالك فرق في أن يكون هذا العامل عادلاً أو فاسقاً، مؤمناً أو كافراً؟

الإجابة هي النفي؛ فإن الله تعالى لا يضيّع - في هذه الحياة - عمل العادل والمؤمن، كما لا يضيع عمل الفاسق والكافر أيضاً، كما لا فرق في العامل أن يكون ذكراً أو أنثى، بل حتى وإن كان العمل لغير سبيل الله تعالى(2).

يروي المحدث البحراني(3) (رحمة الله عليه) في بعض كتبه قضية وقعت في عهد الإمام الكاظم (صلوات الله عليه)، يقول: جاء رجل نصراني - مسيحي - إلى أحد أسواق بغداد، وأخذ يخبر الناس بما موجود في بيوتهم، كما أخبرهم بنواياهم وما يرومون القيام به من أعمال مختلفة في المستقبل، وبما أنه لم يكن مسلماً وكان كافراً، فقد أثار استغراب

ص: 73


1- بحار الأنوار: ج44 ص221.
2- الفقيه المحدّث الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني، صاحب كتاب (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) ولد عام 1107ه- بقرية ماحوز، وهاجر الى كربلاء المقدسة فحط رحاله فيها الى أن توفي بها عام 1186ه.
3- هذا كله بالنسبة إلى الدنيا، حيث قال عزوجل: (كُلاّ نّمِدّ هََؤُلآءِ وَهََؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً) أما في الآخرة فالثواب يكون للمؤمن فقط، ولا يقبل من الكافر شيئاً.

بعض الناس فافتتنوا به، فبلغ ذلك الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) فجاءه الإمام - حسب الرواية - وأخذ بيده بيضة من طائر معين، وسأله عما في يده، فنظر الرجل إلى الآفاق وقال: رأيت الآفاق كلها، فوجدت كل شي في مكانه، إلاّ عش طائر من الطيور، كانت فيه بيضتان، إحدى البيضتين غير موجودة في العش إذاً هي في يدك! فقال له الإمام: بم وصلت إلى هذه المرتبة؟ قال: بمخالفة النفس؛ فقال له الإمام (صلوات الله عليه): أعرِض على نفسك الإسلام، لترى هل تميل إليه أو لا، ففكّر قليلاً وقال: لا؛ نفسي لا تميل للإسلام، فقال له الإمام (عليه السلام) : أنت قررت مخالفة نفسك، فخالف نفسك، ففكر ثانيةً وقال: حسناً؛ وتشهّد الشهادتين وأصبح مسلماً وحسن إسلامه، بعدئذ قال الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) هذه الكلمة: (إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل...). ولذا فإن الإنسان الذي يكون عبداً للقوة الشهوية وللقوة الغضبية، لن يكون بإمكانه صناعة شيء، أما إذا خالف تلك القوى في نفسه فإن الله سيعطيه ويعوّضه، حتى وإن كان كافراً، ويسمى هذا بالرياضة النفسانية، فكما أن الذي يمارس الرياضة الجسمانية يعطيه الله، كذلك بالنسبة للذي يمارس الرياضة النفسانية.

وأي شي يفعله الإنسان في الحياة يجد تعويضه من قبل الله سبحانه وتعالى وهو القائل: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(1).

ويعدّ علماء اللغة كلمة (مَن) بأنها من أدوات العموم، كما هي كلمة (كُل)؛ أما (مثقال ذرة) فإنها ذرات ضوء الشمس المتسللة من كُوة جدار، يقول لقمان لابنه:(يَا بُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(2).

ثم إن التعويض الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى للإنسان المؤمن ليس فقط في الآخرة، وإنما في الدنيا أيضاً، فإذا دخلت بيتك يوماً مّا واستفزتك زوجتك ثم كظمتَ غيظَك، أو حصل العكس، فإن الله يجازي كظم الغيظ ويعوّض صاحبه، بحيث يرى هو التعويض وليس غيره (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ)، فالذي يبني مسجداً يراه

ص: 74


1- سورة الزلزلة: 7 - 8.
2- سورة لقمان: 16.

بعينه أمامه، كما يراه من بعده أولاد صاحب المسجد، بل حتى إذا قام الإنسان بعمل في الليل المظلم وفي السرّ، فإنه سيرى نتيجة ذلك العمل.

أبعاد العطاء

اشارة

إذا كان الله سبحانه وتعالى يعوّض العامل الكافر بهذه الدقّة، فما بالنا إذا كان هذا العامل مؤمناً بل كان ولياً من أولياء الله؟ وما بالنا إذا كان هذا العامل أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وهم صفوة هذا الكون، وهم خيرة الله سبحانه وتعالى: (وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ)(1). إن لعطاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) عدة أبعاد:

الأول: المعطي

فقد كان الإمام (عليه السلام) واحداً من أربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) وهم صفوة هذا الكون، ولأجلهم خلق الله الكون.

الثاني: العطاء

فقد يكون عطاءُ الإنسانِ واحداً في الألف، فيعوّضه الله تعالى، وقد يكون العطاء واحداً في المائة فيعوّضه الله تعالى، وقد يُقدّم الإنسان شيئاً ثميناً وعظيماً فيعوّضه الله تعالى، وقد يُقدّم الإنسان كل ما يملك في سبيل الله، وهذا كان عطاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) إذ كان عطاءً بلا حدود.

الثالث: كيفية العطاء
اشارة

قد يحصل أن يموت لإنسانٍ مّا - لا سمح الله - جميعُ أولاده في حادث غرق في البحر أو زلزال أو ما أشبه، وربما يأتي لإنسان مّا خبر أن ابنه قُتل بسبب حادث وقع.

وقد يقوم الإنسان بالعطاء الخالص لله تعالى في نفسه وفي أهل بيته وولده، فيقدّم نفسه وأهله وأولاده قرباناً في سبيل الله تعالى، فيُقتلون بأجمعهم واحداً تلو الآخر وبتلك الطريقة البشعة، وهو ما حصل لعلي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليه) حيث قطّعه الأعداء بسيوفهم إرباً إربا، ثم قتل شخص آخر وهو ابن أخيه، وهكذا.. وهذه الكيفية من الموت تفتّ في عضد الإنسان، لذا فإن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) من أعظم الأشخاص في الكون عطاءً، لأن عطاءَهُ كان من أعجب كيفيات العطاء، لذا

ص: 75


1- سورة ص: 47.

نقرأ في الزيارة: (بأبي المهموم حتى قضى...)(1). وفي المقابل عوّضه الله تعالى.. بهذا التعويض الكبير، والذي نقله محمد بن مسلم في روايته، وهو لم يكن راوياً عادياً، وإنما كان أحد أبرز أصحاب الإمامين الباقر والصادق (صلوات الله عليهما) ومن العلماء الكبار لكن المذكور في الرواية ليس كل التعويض، وإنما بعضٌ من التعويض، حيث هناك روايات اُُخَر تذكر جوانب أخرى من التعويض الإلهي للإمام الحسين (صلوات الله عليه).

أولاً: الإمامة في ذريته

وهذه عطية وخصوصية لا يشارك الإمام الحسين (عليه السلام) فيها أحد؛ فالإمامان الحسن والحسين (صلوات الله و سلامه عليهما)، لهما ميزة لا توجد عند أي نبي أو ولي، ولا حتى لأي إمام من الأئمة المعصومين 3 وهي أنهما يشتركان في مجدٍ لا يملكه أحد غيرهما، وهذا المجد والشرف المكتسب هو أن جدّهما خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) إذ لا يوجد في الكون جدّ كالذي لدى الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهما)، و أبٌ كأمير المؤمنين (عليه السلام)، أو أم كالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه عليها)، فهذا الشرف لا يشارك الإمامين فيه أحد في هذا الكون كله، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) يمتاز عن أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) بمجدٍ آخر - طبعاً هذا ليس بمعنى أن الإمام الحسين (عليه السلام) أفضل من أخيه (عليه السلام) .. فالإمام الحسن (عليه السلام) أفضل من الإمام الحسين (عليه السلام) - ولكن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الخصوصية للإمام الحسين (صلوات الله و سلامه عليه) أعطاه مجداً مكتسباً من طرف الأبناء، إذ جعل الله تعالى الأئمة التسعة المعصومين (عليهم السلام) من ذرية الحسين (عليه السلام) ، وهذا الشرف لا يشاركه فيه أحد غيره حتى أخوه الإمام الحسن (صلوات الله عليه).

له تربة فيها الشفاء وقُبّة *** يجُاب بها الداعي إذا مسّه الضُرّ

وذرّية دُرّية منه تسعةٌ *** أئمةُ حقٍّ لا ثمان ولا عشر (2)

ص: 76


1- بحار الأنوار: ج45 ص59.
2- من قصيدة لابن العرندس الحلي (رحمه الله) في مدح الإمام الحسين (عليه السلام) رواها العلامة الأميني في الغدير: ج7 ص14- 19، يقول العلامة الأميني (رحمه الله) : اشتهر بين الأصحاب أنها لم تقرأ في مجلس إلا وحضره الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

إنه لَتعويض عظيم أن يكون التسعة من أربعة عشر معصوم (عليهم السلام) من ذرية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذين خلق الله الكون لأجلهم بمن فيهم الإمام الحجة المنتظر صاحب الزمان (عجل الله فرجه) الذي تثبت الأرض بوجوده والسماءُ، ويرزق الورى بيُمنه، لذا من المهم جداً أن يكون للإنسان ذرية بهذا الشكل، وللإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) دعاء ظريف في الأولاد، حيث يقول في أولاده: «... وزيّن بهم مجالسي»(1)، أي إنَّ الذي عنده أولادٌ مؤمنون وطيبون، هم بمثابة الزينة في المجلس، فيشعر بالفخر عندما ينظر إليهم، وهذا شعور يدركه الآباء الذين عندهم هكذا أبناء، فيما يشعر الآباء الذين ليس لديهم أولاد، بالحرمان من هذا التوفيق والنعمة، هذا إذا كان الأولاد أشخاصاً عاديين، فكيف إذا كان هؤلاء هم الصفوة التسعة المعصومون من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) .

ثانياً: الشفاء في تربته

يعتقد بعض الفقهاء أن الاستشفاء بتربة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، لايقتصر فقط على الأمراض الجسدية، وإنما يشمل حتى الأمراض الروحية، كما لو أن شخصاً يعاني مرضاً روحياً مثل مرض القلق الدائم، أو الخوف أو الوسوسة، فله أن يأخذ مقداراً قليلاً من تربة الحسين (عليه السلام) ليشفى من تلك الأمراض، وهذه الميزة لا يشترك فيها بقية الأئمة المعصومين مع الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، فليس من حق أحد - مثلاً - الأكل من تربة الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه عليه) بنية الشفاء، وهذا هو المشهور بين العلماء.

ومن الناحية العلمية إذا نأخذ تربة الإمام الحسين (صلوات الله و سلامه عليه) ونحللها في المختبر، ربما لا نجد اختلافاً عن بقية أنواع الترب الموجودة في بقية الأراضي، هذا من الناحية الظاهرية، ولكن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء.

إن جبرائيل الذي يفتخر بأن يكون خادماً للحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، كان راكباً على فرس - في قصة بني إسرائيل والبحر - وهذا الفرس كان واقفاً على أرض،

ص: 77


1- ورد في الدعاء: «وزيّن بهم محضري». راجع الصحيفة السجادية: الدعاء 64.

فجاء السامري وقبض قبضة من أثر حافر الفرس، وألقاه في العجل المصنوع من الذهب فجعله يصدر صوت (الخوار) وهو ما جاء في القرآن الكريم وفي سورة طه: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ)(1). أي إن التراب الذي أخذه السامري لم يكن من جبرائيل، وإنما من أثر حافر الفرس الذي كان يركبه جبرائيل، وفي مكان آخر يسأل موسى (عليه السلام) السامري عمّا فعله؟ (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَامِرِيّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي) (2)، لذا لا يجب أن نستكثر على الله سبحانه و تعالى أن يجعل الشفاء في تربة سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات و سلامه عليه).

آثار مجربة لتربة الإمام الحسين (عليه السلام)

إن الكثيرين قديماً وحديثاً جربوا آثار تربة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أحدهم المرجع الديني الراحل السيد حسين البروجردي (3) (رحمة الله تعالى عليه)، في قضيته المعروفة بخصوص ضعف نظره، والقضية منقولة في كتاب (بندهاي جاويدان) أو (العِبر الخالدة)، وهي بالشكل التالي:

أن السيد البروجردي (رحمه الله) وقبل أن يأتي إلى مدينة قم المقدسة كان في مدينة بروجرد - إحدى مدن إيران - وكان يعاني ألماً شديداً في عينيه، فراجع أطباء كثيرين خلال فترة طويلة لكن دون جدوى، وجاء في هذا الكتاب: أن الأطباء يئسوا من علاجه، و قالوا: ليس هناك من علاج لك، يقول السيد المرجع الراحل: في إحدى أيام عشرة محرم، كنت جالساً في بيتي فيما المواكب الحسينية تدخل وتخرج من بيتي - كونه عالم دين - و بينا أنا جالس وأعاني الألم من عيني، خطر في بالي مرة واحدة أن آخذ قليلاً من التراب الذي يضعه المعزون على جباههم أو على ثيابهم دلالة على الحزن والعزاء، وبالفعل أخذت مقداراً قليلاً ووضعته على عيني، وإذا بالألم في نفس اللحظة تنخفض حدّته ثم بعد فترة بسيطة يزول نهائياً، علماً أن السيد البروجردي كان

ص: 78


1- سورة طه: 88.
2- سورة طه: 95- 96.
3- آية الله العظمى السيد حسين الطباطبائي البروجردي (رحمه الله) ، مرّت ترجمته.

يُعد من المعمرين إذ بلغ عمره تسعة وثمانين عاماً، فجاء إلى الطبيب ليفحص عينيه، فأبدى الطبيب استغرابه وقال: حسب المقاييس والحالات الطبيعية فإن من يبلغ التسعين سنة من العمر فإن عينيه تبدأ بالضعف، فكيف إذا كان الشخص هو عالمٌ قضى عمره في المطالعة والتأليف مثل السيد البروجردي (رحمه الله) الذي كان شغله مع العلم والكتاب وتكون عيناه سليمتين؟ وكان السيد البروجردي (رحمه الله) يطالع الخطوط من بعيد دون الحاجة إلى نظارة طبية، وهذا من بركة تربة المعزين لسيد الشهداء (صلوات الله عليه).

ثالثاً: استجابة الدعاء عند قبره

وهذه الاستجابة ليست فقط تحت قبته، وإنما عند قبره، ويبدو أن (العندية) لها عرض عريض، أي حتى إذا كان - مثلاً- الآلاف موجودين حول قبر سيد الشهداء (عليه السلام) ، وكان شخصاً على بعد مسافة ضمن هذه الجموع، فيسألونه: أين كنت؟ يقول: عند قبر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وهذه المسألة ذكرها الفقهاء في قوله تعالى: (وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى) (1)، فحتى إذا كان شخصٌ بعيداً في حالة زحام الزائرين، فإنه يصدق عليه أنه اتخذ من مقام إبراهيم (عليه السلام) مصلّى.

رابعاً: ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره

فالفترة التي تستغرق زيارة الإمام سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ذهاباً وإياباً، لا تعد من عمر الزائر الذي يوفقه الله تعالى لهذه الزيارة.

لقد جاءت في روايات أخرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الكثير من المزايا غير ما ذكر، منها: أن الله تعالى ألحقه (عليه السلام) بالنبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) فكان معه في درجته ومنزلته في الجنة (2).

تجسيد الحب والولاء بالعمل

على الإنسان أن يقدم كل ما يستطيع لإحياء ذكر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بمقدار ما عنده من الحب والولاء، لكن يجب أن يكون لهذا الحب والولاء مظهراً

ص: 79


1- سورة البقرة: 125.
2- بحار الأنوار: ج 98 ص69.

وتجسيداً، وإلاّ فإن الحب المجرد لا يكون حباً كاملاً، فأحياناً قد يُقدّم الإنسان نفسه قرباناً في سبيل الإمام الحسين (عليه السلام) كما فعل أصحابه، مثل حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه)، فهذا درجة ومظهر من مظاهر الحب، أو أن يحضر المجالس الحسينية، أو يلبس السواد على مصاب الإمام سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، أو أن يساهم بأمواله لإقامة العزاء في أي مكان، وفي ذلك ثوابٌ عظيم.

ومن مظاهر الحبّ ما كان عند المرجع الديني الراحل السيد السبزواري(1) (رحمة الله تعالى عليه) عندما كان في العشرين من عمره، فقد دفعه حبه لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولسيد الشهداء (عليه السلام) ، أن ينطلق من أطراف مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) سيراً على الأقدام نحو النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، لأنه لم يكن يمتلك المال لسيارة الأجرة، ولذا أعطاه الله سبحانه وتعالى تلك الدرجة والمنزلة العظيمة في الدنيا.

وهناك قضية حصلت للسيد محمد صادق الصدر(2) (رحمه الله تعالى) الذي ألّف كتاباً إبان الحرب العالمية الثانية، حول حياة الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، جزاه الله خيراً، فهو كتاب جيد ونافع، يقول في قضيته مع هذا الكتاب: كتبت سبعين بالمائة من الكتاب، ثم فكّرت في كيفية طباعته، إذ لم أكن أملك المال اللازم لذلك، وبسبب الحرب العالمية الثانية فإن الأسعار كانت خيالية، فيقول: جمعت كل الكتب والمصادر الموجودة لديّ ووضعتها في المكتبة وقررت اعتزال الكتابة، يقول: جاءت زوجتي، وهي بنت السيد محمد الصدر (رحمه الله) الذي كان يومها رئيساً للوزراء في أربعينات القرن الماضي، ورأت أني جمعت الكتب، فسألت عن السبب؟ فقلت: أنا تخليت عن الكتابة! قالت: لماذا؟ قلت: ربما كتبتُ الكتاب، فمن الذي يدفع تكاليف طباعته؟ وأنا لا أمتلك المال، والأسعار مرتفعة بشكل خيالي في ظروف الحرب العالمية الثانية.

يقول: ذهبَت لفترة ثم عادت وهي تحمل معها ما تملك من الذهب الذي جمعته

ص: 80


1- آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) ، أحد كبار مراجع الدين في النجف الأشرف، توفي سنة 1414ه، له كتاب (مواهب الرحمن في تفسير القرآن).
2- محمد صادق بن محمد حسين بن محمد هادي بن محمد علي، وكان رئيس التمييز الشرعي في بغداد. ولد سنة 1320ه، والكتاب هو (حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) ).

وقالت: خذ هذا الذهب و بعه واطبع بثمنه الكتاب! قلت: لا... لن أفعل ذلك، فإن من الطبيعي أن يكون للذهب منزلة عند المرأة، يقول: ذهبت، وبعد مضي يومين جاءت وهي تحمل كمية كبيرة من الأموال وقالت: لقد بعت الذهب وهذا المال لك اطبع به الكتاب، يقول: بذلك وضعتني زوجتي أمام الأمر الواقع، فأخذت المال، وأكملت كتابة الكتاب ثم قدمته للطباعة ونزل إلى الأسواق وتكرر طبعه، وهو من الكتب النافعة.

جاء في مقدمة الطبعة الثانية: (...ولأمور اعتبارية كتمت يومئذ من أسدى لي يد العون في إخراج الكتاب، وحيث قد غيب الثرى تلك اليد الكريمة وأصبحت وا أسفاه تلك النفس الرفيعة في ذمة التاريخ، فأرى من واجب الوفاء أن أذكر هذه اليد وأن أشكر هذه العارفة، إنها يد كريمة سيدنا المرحوم السيد الصدر، لقد رأت حيرتي بأمر طبع الكتاب في ذلك الظرف العصيب، فوضعت تحت تصرفي كل ما تملك من مصاغ ذهبي - وما أنقله هو من واسطة - لصرفه في شؤون الطبع وامتنعت هي أن تعيده إلى ملكها بعد أن بذلته في هذا السبيل، وقالت: إنك بذلت عصارة فكرك في خدمة جدّك - يعني أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) - بنفع يبقى، فهل أبخل على جدّي - لأنها كانت علوية أيضاً - بمالٍ يفنى؟

لنفترض أن تلك المرأة لم تكن لتعطي زوجها ذلك المال، فهل كان يبقى لها؟! إنها توفيت ورحلت عن هذه الحياة، لكنها ترى جزاء ذلك العمل (رحمها الله وعرّف بينها وبين أجدادها)، عندما تسأل عن النعيم، حيث تقول الآية الكريمة: (ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ) (1).

إذن يجب أن تكون لنا يدٌ وموقف يكون لنا ذخراً (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 81


1- سورة التكاثر: 8.
2- سورة الشعراء: 88 - 89.

3

الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

هنالك حديث شريف مرويٌ عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) جاء فيه: «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، ورد هذا الحديث الشريف في كتاب (مدينة المعاجز) في المجلد الرابع ص 51، ونقلت هذه الرواية عن مجموعة من المصادر بألفاظ تقارب هذا اللفظ كما في كتاب (العوالم) للمحدث البحراني (رحمة الله عليه) في أحوال الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد لفظ: (يا مصباح الهدى وسفينة النجاة).

وورد في كتاب (عيون الأخبار) للشيخ الصدوق (رحمة الله تعالى عليه) في المجلد الثاني ص62: «إن الحسين بن علي (عليه السلام) في السماء أكبر منه في الأرض، وإنه لمكتوبٌ على يمين عرش الله عزوجل: مصباح هدىً وسفينة نجاة...»، وكذلك في بحار الأنوار (ج36 ص205 وج91 ص184). نتوقف قليلاً عند كلمتين من هذا الحديث الكلمة الأولى: (مصباح هدىً) والكلمة الثانية: (سفينة نجاة).

أمهد أولاً لجملة (مصباح الهدى) بمقدمة:

إن الأفعال الإرادية التي تصدر منا نحن البشر لا يمكن أن نعتبرها فلتة أو مصادفة ولا شهاباً ظهر فجأةً من المجهول، ولا يمكن أن نعتبرها كشجرةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فهذا المعنى قد يُفرض في الأفعال غير الإرادية، فحين يمشي أحدهم في الطريق وتزل قدمه فجأة ويسقط في هاوية، هذا العمل ربما يعتبر عملاً فجائياً أو مباغتاً، فيُقال إنه سقط فجأة من دون أية مقدمات، ولكن هذا المعنى لايمكن أن نفترضه في فعلٍ إرادي لأن الأخير يصدر من طبيعة الفاعل ويكشف عن هوية هذه الطبيعة.

لنضرب مثالاً لتقريب هذه الفكرة إلى الأذهان، في أحد الأيام استيقظ شاب على صوت أذان الفجر، فقد توجّه الخطاب الإلهي له: قم وأطع ربك واعبد ربك، ولكنه كان متثاقلاً، إذ لا يتمكن أن ينتزع نفسه من الفراش، فيقول لنفسه: سأنهض بعد عشر دقائق، ثم بعد عشرين دقيقة وهكذا يظل يصارع نفسه حتى يغلبه النوم وتفوته صلاة الصبح، هل يمكن لنا أن نعتبر عمل الشاب فجائيا؟ بطبيعة الحال كلا، فهذا

ص: 82

العمل إنتاج يكشف عن طبيعة الفاعل.

إذا أردتم أن تحكموا على إنتاج معمل ما، كيف سيتم ذلك؟ قد لا يكون - في بدو الأمر - إنتاج المعمل معلوماً من حيث الجودة أو الرداءة، لكن النتاج الأول سيكشف لكم عادةً عن طبيعة هذا المعمل، فهنالك علاقةٌ وثيقة بين النتاج وبين طبيعة المنتج، حيث سيكشف السقوط العملي عن سقوط في نفسية المنتج، إذن ذلك الضعف العملي لدى الشاب المتثاقل يكشف عن خور وضعف في نفسيته، ولعل الله سبحانه وتعالى يشير إلى هذه الحقيقة بقوله: (قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ)(1).

ولذلك إذا صدرت من الرجل العادل الذي يتحلى بملكة العدالة، في يوم أو لحظة ما معصيةٌ كبيرة، فهو من الناحية الفقهية مسقط للعدالة كما يقول الفقهاء، فإذا ارتكب غيبة - مثلاً - حتى لو كان عادلا لمدة عشرين عاماً، لكنه بمجرد ارتكابه لهذه الغيبة تسقط عدالته، لأن هذا الفعل يكشف عن حصول انقلاب في طبيعته وفي ماهية ملكة العدالة لديه، فعادة لا يمكن أن تصدر من العادل معصية من دون حدوث الانقلاب في طبيعته، وسيكشف لنا هذا الفعل عن وهمنا بأنه كان رجلاً عادلاً، ويمكن أن تُرمّم هذه الحالة ويُعالج الانقلاب الذي يحدث في طبيعة الإنسان وفق الضوابط التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية.

إدانة العمل إدانة للنظام

بعد هذه المقدمة، نقول: إن قضية قتل سيد الشهداء الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) والصفوة المنتجبة (عليهم السلام) الذين كانوا معه، لم تكن خطأً ارتكبه نظام فقط، حيث يقول بعض الأفراد: نحن ندين هذا العمل ولا ندين النظام الذي وقف وراءه، وبعضهم يقول: أولئك قومٌ عصمنا الله من الإشتراك في دمائهم، فالعنوا العمل ولا تلعنوا العامل، أي لا تلعنوا ذلك النظام الذي أنتج مثل هذه الفاجعة.

لا يمكن لنا أن نقتصر في القضية على إدانة العمل فقط، بل هي في واقعها إدانة للنظام الذي قام بالعمل، إن هذا الأمر يشبه من يقول أننا ندين العمل الفلاني الذي

ص: 83


1- سورة الإسراء: 84.

قام به النظام الفلاني البائد دون النظام، لكن العمل هو إنتاج طبيعي لطبيعة ولواقع ذلك النظام، إذن يجب أن تنصبّ المسؤولية أولاً على ذلك النظام الذي أنتج هذه الجريمة وهذه الفاجعة. فالنظام الفاسد المستبد والغارق في شهواته، لا تهمّه إلا مصالحه وأهواؤه، ولايبالي بتهديم الكعبة المشرّفة (1) وهي بيت الله تعالى كما فعل ذلك نظام يزيد، ولكن إذا كان هناك تعارض بين الحكم وبين هدم الكعبة فلا مانع ليزيد من هدمها للحفاظ على نظامه، ثم ألم يستبح هذا النظام مدينة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أيام(2) حتى جرى الدم في مسجد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ناهيك عن الفجائع الأخرى التي ذكرها المؤرخون ممّا قام به الجيش الأموي في تلك الأيام الثلاثة بالمدينة المنورة، إن الإدانة يجب أن لا تقتصر على هذه الأعمال فقط وإنما تمتد لتشمل النظام أيضاً، لأن هذه الأعمال من نتاجه ولذلك فهي تكشف عن طبيعة النظام.

هنا نشير بصورة عابرة لنظام يزيد ونسأل كيف وُجد هذا النظام؟

إنه بطبيعة الحال وليدٌ طبيعيٌ لمن تقدّمه، فيزيد لم يقم بانقلاب أو بثورة، بل هو نتاج طبيعي لمن تقدمّه من الأنظمة وكان وليداً طبيعيّاً لها، إذن في واقع الحال إن قتل سيد الشهداء (صلوات الله عليه) لا يمثل إدانة لفرد هو (يزيد) فحسب، أو لنظامه فقط، إنما يمثل إدانة لتلك الحلقات المتتابعة التي أنجبت نظام يزيد الذي انتهى إلى قتل سيد الشهداء (عليه السلام) ، فبقتل سيد الشهداء (عليه السلام) انكشفت تلك الحقيقة التي أرادوا إخفائها.

فإذا أراد المسلمون أن يعرفوا من هي الفرقة الناجية منهم، وهي قضية مهمة جداً، قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حديث شريف رواه الفريقان: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقي في النار»(3).

ص: 84


1- هدم يزيد الكعبة بالمنجنيق في السنة الثالثة من حكمه. قال ابن أثير: رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون: خطارة مثل الفنيق المزيد *** نرمي بها أعواد هذا المسجد انظر الكامل في التاريخ: ج4 ص124./ وقال بعض أهل الشام: (الحرمة والطاعة اجتمعتا فغلبت الحرمة الطاعة) يعني حرمة هدم الكعبة وطاعة امتثال أمير يزيد! انظر تاريخ اليعقوبي: ج2 ص252.
2- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3 ص259
3- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، للشيخ الطوسي: ص213. كفاية الأثر: ص155. التفسير الكبير للفخر الرازي: ج1 ص4. عمدة القاري، للعيني: ج18 ص224.

إن هذه القضية مهمة جداً، لأنها تتعلق بالمصير الأبدي للمؤمن؟ وقد كشفت قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) هذه الحقيقة، ولذلك كثير من المتحوّلين الذين عرفوا الحقيقة وأبصروا الهدى، انطلقوا من قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) حيث استوقفتهم وانطلقوا منها وتابعوا الحلقات المتتالية حتى توصلوا إلى الحقيقة.

نحن نقرأ في زيارة عاشوراء: «لعن الله أمةً قتلتكم» ولمعرفة تلك الأمة ينبغي أن لانقصر النظر على خصوص المباشرين فحسب، لأنها نتيجة لما سبقها، فعلينا أن نلاحظ المقدمات وكيف انتهت إلى تلك النتيجة.

منشأ الانحراف

يُقال إن الخط عندما ينحرف في بدايته تكون قيمة انحرافه قليلة (سنتيمتر واحد) مثلاً، ولكن كلما طال هذا الخط يكبر انحرافه، وقد تصل قيمة الانحراف في نهاية المطاف إلى آلاف الكيلومترات، إذن عليكم أن لا تنظروا إلى النتيجة فحسب، بل انظروا إلى النقطة التي بدأ منها الانحراف، (لعن الله أمةً قتلتكم) هذه هي نهاية المطاف ولكن ماذا كانت بدايته، ولعن الله (الممّهدين لهم بالتمكين من قتالكم)، فمن الذي أعطى السيف ليزيد؟ هذا ما يجب أن نفكر به أولاً، فلو رأيتم حائطاً مائلاً يجب أن لاتقصروا النظر على انحرافه، بل ابحثوا عن منشأ هذا الانحراف ومن أين بدأ؟ ستبحثون وتبحثون حتى تصلوا إلى اللبنة الأولى التي وضعها البنّاء بشكل منحرف، فحين وُضعت اللبنة الأولى منحرفة سيبقى الجدار الذي بُني عليها منحرفاً حتى لو وصل ارتفاعه إلى الثُريا. إذن، هذا هو الانحراف الكبير الذي انتهى إلى قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يكن للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فوق هذه الكرة سبطٌ وابن بنت غير الحسين بن علي (صلوات الله عليه).

فكيف حدث هذا الإنحراف؟ هل هو انحراف فجائي؟ كلا، ولم يكن مباغتاً، فتابعوا الحلقات حتى تصلوا إلى نقطة البداية، وعند ذلك تنكشف للمسلمين جميعاً معالم الحقيقة ومعالم الخط الذي دعا إليه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) من غيره.

إذن كلمة (إن الحسين مصباح الهدى) هي البداية لمئات الملايين من المسلمين إذا أرادوا أن يتلّمسوها، فالبداية هي الحسين بن علي (صلوات الله عليه).

ص: 85

طريق النجاة

أما الكلمة الثانية في حديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (وسفينة النجاة) أو (وسفينة نجاة)، فهي تمثل مرحلة ثانية، كما يبدو أن (مصباح الهدى) يتعلق بالرؤية، فكيف نرى الأمور؟ إن ذلك يتعلق بالعقيدة، ولكن الرؤية لا تمثّل كل شيء، وإنما هنالك مرحلةٌ تالية، وهي كيف ينجو المهتدي بعد أن عرف الحق؟ يقول لقمان لابنه: (يا بني إن الدنيا بحرٌ عميق قد غرق فيه أُناس كثيرون) (1).

ولكن كيف للعالِم أن يعرف الطريق وينجو أمام مضلات الفتن؟، هل يُؤمن أن لا يتحوّل هذا العالِم إلى الشلمغاني الذي عرف طريق الهدى ولكن لم يستطع النجاة حيث وقع في منعطف ولم يتمكن أن ينجو منه؟.

لماذا يدعو المؤمنون ربهم ويخافون دائماً: (اللهم اجعل عواقب أمورنا خيرا)؟ لأن هذه الدنيا خطيرة جداً، فالإنسان ليس لديه أمان أو ضمان في المنعطف.. وإذا بهذا العالِم قد تحوّل إلى الشلمغاني(2)، أو تحوّل إلى شُريح القاضي (3) أو إلى بلعم بن باعورا (4)مع أن بداية هؤلاء لم تكن منحرفة، وإذا بهم يتجهون إلى طريق آخر.

إن هذه القضية تتعلق بجميع فئات المجتمع، فالطريق معروف للإنسان ولكن كيف ينجو؟ ومن الذي يضمن أن هذا التاجر لا يتحول إلى قارون؟ فقارون لا يمثل فرداً في التاريخ فقط وإنما هو خط كل من مشى عليه صار قاروناً أيضا.

كيف يعيش الشباب؟

وفي ظل أجواء هذه التحديّات الكبرى كيف يعيش الشباب؟

ص: 86


1- الكافي: ج 1 ص16.
2- أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني مدعي النيابة الخاصة عن الامام المهدي (عج) وكذلك الالوهية والحلول، ولما أعلن الشيخ الحسين بن روح وكيل الناحية المقدسة فساد عقيدته أخذه الخليفة وأجرى عليه حكم الإعدام بفتوى من القضاة في شهر ذي القعدة عام 322 ه.
3- شريح بن الحارث بن المنتجع الكندي ويكنى أبا أمية. استعمله عمر على القضاء في الكوفة، واستمر قاضيا ستين عاماً واستعفى في زمن الحجاج. توفي سنة 87 ه. قيل ليس صحابيا بل هو تابعي.
4- أي يزيد قاتل الإمام الحسين (عليه السلام) ..

كان أحد إخواننا يدرس في إحدى البلاد الإسلامية فانسحب من الجامعة، وحين سألته لماذا انسحبت؟ قال: في الواقع خشيت على ديني، فلم أكن قادراً على أن أحفظ ديني في أجواء تلك الجامعة، ثم نقل بعض القضايا والحوادث، وقال كان أمامي خيار واحد، أما أن أفقد ديني أو أترك الجامعة، فتركها وتحوّل إلى خطٍ آخر، وفقه الله سبحانه وتعالى في خياره الجديد.

إذن كيف ينجو الشاب الذي يعيش ضمن هذه التحديّات الكبرى؟ ولا يتحوّل إلى ما يشبه ذلك الرجل الذي يخدعه الشيطان (كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيَءٌ مّنكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ)(1).

إنكم تعرفون ما هي بداية هذا الرجل، لقد كانت بدايته الشهوة، فربما يسقط الإنسان في لحظة واحدة ويتحوّل إلى جانٍ أو مجرم، وإن ما يفصله عن هذا السقوط هي لحظة واحدة، فهو يحتاج إلى طاقة معنوية هائلة تحفظه من الضغوط والمغريات.

إننا نجد في قضية سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مصدراً عظيماً من مصادر الطاقة، كما أن الشمس تعطي طاقة لهذا الكون، بلا تشبيه، فلا يمكن لنا أن نمثّل الشمس المادية المحدودة بتلك الطاقة الكبرى التي تعطيها قضية عاشوراء وسيد الشهداء (عليه السلام). كتب أحد المفكرّين في بلاد الغرب: لقد تتبعنا وضع الجاليات التي جاءت إلى بلاد الغرب - طبعاً الآن الأمة تعيش أجواء الغرب والحضارة الغربية - فوجدنا أن معظم الجاليات ذابت تحت وطأة الحضارة الغربية وأجوائها الحاكمة - إنها حضارة مقتدرة عملاقة من الناحية المادية وفيها جميع المغريات - ويقول المفكر: لكن هنالك طائفة واحدة لم تذب في خضم الحضارة الغربية، ربما ذاب أفراد منها ولكن كخط عام وكأمة، قاوموا الذوبان في أجواء الغرب، وهم شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ثم تساءل هذا المفكر: ما هي العوامل التي تقف وراء ذلك؟ يجيب نفسه أن هنالك عاملين:

العامل الأول: الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فهو قوة هائلة لا تُقهر.

ص: 87


1- سورة الحشر: 16.

نحن نعرف كثيراً من الشباب الذين كانوا يحملون الروح الحسينية عاشوا في محيطات الغرب لكنهم لم يذوبوا فيها، بل تحوّلوا إلى حَمَلَةٍ للواء أهل البيت (عليهم السلام) في تلك البلاد البعيدة، فربما لأول مرة في تاريخ الكون في بعض المناطق يُرفع علم الدين وعلم " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" (صلى الله عليه وآله) ببركة هؤلاء الذين يحملون هذه الروح الحسينية.

العامل الثاني: المرجعية الدينية، وهذا العامل يحتاج إلى تفصيل لا مجال له.

طاقة تحمل الامتحان

أحد الأفراد الذين انكشف لهم الطريق وقد كان في خط آخر، فبعد بحوث وجهود انكشفت له معالم طريق أهل البيت (صلوات الله عليهم) واهتدى، كان قد خاض في بحوث ودراسات علماء الشيعة ومفكريهم فتبيّنت له معالم الحقيقة، ولكن نحن نعرف أن عملية التحول من خط إلى آخر تكون شاقة جداً، إن هذه الحالة تشبه كلمة الحرّ (رضوان الله عليه) التي قالها يوم عاشوراء: (إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار) نعم نحن أيضاً نجد أنفسنا في كثير من المواقف على مفترق طريقين، فنخيّر أنفسنا بين الجنة والنار، وهو خيار صعب جداً، أحياناً على الإنسان أن يفقد جميع مصالحه، فمن تتوفر له القدرة على اتخاذ قرار يضحي بجميع مصالحه؟ إن هذا يمكن أن يحدث بسهولة باللفظ لكنه في الواقع من أصعب المشكلات.

قد يعرف أحد التجار بعد فترة أن جميع أمواله محرّمة، فيجب عليه أن يتخلى عنها، فأي طاقة يحتاج الفرد لكي يقرر التخلي عن جميع أمواله؟ إذن مثل هذا القرار يحتاج إلى طاقة، فمن الذي يعطيه تلك الطاقة المطلوبة؟

إن الامتحان لم يكن للحرّ فقط بل هو لكل واحد منا، ( وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ)(1).

إنها كلمة واحدة (فتنّا) ولكن ابحثوا في أعماق هذه الكلمة ستجدونها بحراً من المعاني، (فتنّا) تعني على سبيل المثال ثلاثين عاماً من السجن في ظل البعث، وفي

ص: 88


1- سورة العنكبوت: 3.

المقابل كلمة واحدة (إعترفْ) مع إمضاء وينتهي كل شيء، فقد جاء شخص إلى أحد العلماء وقال له: إمضِ، إمضاءً صغيراً، هذا ما نريده منك لا أكثر.

لكن عدم القبول بهذا الإمضاء الصغير أدى إلى ثلاثين عاماً من السجون والمعتقلات والتعذيب الذي لا يمكن أن يتصوّره الإنسان، هذا هو معنى (فتنّا)، وتعني كذلك زوجة فرعون حيث تُسمّر بمسامير في الأرض وتنزف دماً حتى تموت، إذن كلمة (فتنّا) هي في الحقيقة بحر، وهي تعني المرض الشاق الذي يقعد الإنسان عشرة أعوام على فراش المرض، إذن فهي كلمة ليست هينة (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ)(1).

إذن قرار ذلك الرجل الذي تحوَّل عن خطه إلى خط أهل البيت (عليهم السلام) كان شاقاً، فكيف يتخلّى عن كل تاريخه وينفصل عن كل ماضيه، يقول الرجل: جئت وأنا في غاية التردد وأسأل نفسي ماذا أعمل؟ ثم دخلت حرم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجلستُ في إحدى الزاويا، فجأةً التفتُ إلى ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بي أشعر بطاقة هائلة تدبُّ في أوصالي وقررت في تلك اللحظة أن اُعلن انتمائي لأهل البيت (عليهم السلام) وأعلن انتماءه فعلاً.

كربلاء وصناعة روح التضحية

إن الإنسان عندما يعيش أجواء تلك التضحيات، قد لا يتأثر في اليوم الأول، لكن التأثير يزداد شيئاً فشيئاً حتى يتحول الإنسان نفسه إلى مشروع تضحية، ولا تعني التضحية أن الإنسان يذهب ويُقتل في ميدان المعركة، إن هذا شكل من أشكال التضحية، وربما لا تتطلب كل الظروف مثل هذا الشكل، فالعلامة الأميني (رحمه الله) - مثلا- في (غديره) هو مشروع تضحية، ومؤلّف العبقات (رحمه الله) في (عبقاته) مشروع تضحية أيضاً، كذلك الشيخ محمد جواد البلاغي (رحمه الله) الذي باع بيته وسكن في بيت إيجار ليطبع كتابه المعروف، هذا أيضا مشروع تضحية، وتلك المرأة التي باعت ذهبها -

ص: 89


1- سورة العنكبوت: 2 -3.

ومعروف للجميع كم تعتز المرأة بذهبها؟- لكنها باعته لطبع كتاب حول أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فكل ذلك مشاريع تضحية، فمن يعيش في أجواء هذه التضحيات سيتحول نفسه إلى مشروع تضحية ويرتفع وتسمو روحه.

هناك كلمة يعبر عنها بعض العلماء، وهي كلمة جميلة يقولون فيها: إن بعثة الأنبياء (عليهم السلام) كانت لهدفين: الهدف الأول: إيصال جوهر العقل إلى مرحلة الكمال النظري. والهدف الثاني: إيصال جوهر الإرادة إلى مرحلة الكمال العملي.

يقول الله تعالى: (وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ)(1)، إن قضايا كربلاء وقضايا عاشوراء تخلق روحية التضحية والإيمان. وإن من حفظ إيمان المؤمنين في العراق خلال أكثر من ثلاثين عاماً من البطش والإرهاب والقتل والتعتيم هي روح عاشوراء وروح سيد الشهداء (عليه السلام) ، فلا أظن أن الحكم البعثي ترك شيئاً يمكنه القيام به ولم يعمله في سبيل القضاء على الدين والإيمان وخط أهل البيت (عليهم السلام) ، ولكن الروح الحسينية وروح سيد الشهداء (عليه السلام) هي التي حفظت المؤمنين.

نقل لنا الوالد (رحمه الله) في قضية مطوّلة سأختصرها في كلمات، قال: كان هناك شاب مُغَنٍّ عاش عمره في الغناء واللهو والطرب وكان يقول المغني بأنه لم يدع أمراً محرّماً إلاّ ارتكبته، وفي إحدى ليالي محرم الحرام، مرّ على مجلس لسيد الشهداء (صلوات الله عليه) وكان الخطيب يتكلّم حول العباس بن علي (صلوات الله عليه) وتضحياته الكبرى في سبيل الدين، يقول: فأخذني كلام الخطيب ومواعظه بقوة، - كم من الشباب تحوّلوا في هذه المجالس إلى الإيمان، وكم هم الذين تابوا، أولئك الشباب الذين كانوا موغلين في المنكرات والموبقات ثم تحوّلوا إلى التوبة - يقول الشاب: حتى وصل الخطيب إلى المقطع الذي يشير إلى قطع الكف اليمنى للعباس بن علي (عليه السلام) وهو يقول:

والله إن قطعتُمُ يميني *** إني أحامي أبداً عن ديني

فبكيت بكاءً مرّاً في ذلك المجلس وصمّمت على أن أقلع عن ماضيّ كله، وعدتُ إلى البيت، وأخذت آلات اللهو والغناء والطرب وتخلصت منها جميعاً وتركتُ عملي

ص: 90


1- سورة البقرة: 129.

السابق وتحوّلت إلى سائق تكسي أنقل الركاب من مكان إلى مكان، والحمد لله الذي فتح لي أبواب الرزق لأعيش حياة هانئة بكرامةٍ ونعيم.

ولعلّ الروح التي تبعثها النهضة الحسينية في النفوس وفي الأرواح تمثل بعداً من أبعاد الكلمة العظيمة: «إن الحسين مصباح هدىً» فهو مصباح للرؤية «وسفينة نجاة».

فينبغي في شهر محرم الحرام بالإضافة إلى أننا نستلهم منه الإيمان، علينا أن نقوي الإرادة فينا، لأن كل واحد منا يعاني من نواقص إلاّ من عصمه الله تعالى، فقد تكون هنالك عُقد في روحياتنا، وهذه العقد تظهر في المنعطفات، لأن الإرادة لم تصل إلى مرحلة الكمال العملي، فنحاول أن نستلهم الإرادة من الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأوفياء (عليهم السلام) الذين بذلوا جميع ما يملكون من أجل الدين.

النهضة الحسينية مشروع للتحول

لأحد المفكرين الغربيين كلمة لا بأس أن أذكرها، يقول فيها: إن ذكرى كربلاء التي اُستشهد فيها سبط محمد (صلى الله عليه وآله) كافيةٌ لكي تُحدث في قلب أكثر الناس تهاوناً في الأمور، حماسةً وحزناً وهيجاناً شديداً، وأن تتعالى بالروح إلى مدارج الكمال، بحيث تستهين بالألم والموت.

إلى هذا المستوى يصل الذين يعيشون في ظل تربية سيد الشهداء (عليه السلام) ويكونون في تماس مع هذه القضية، إنهم يتعالون فوق الألم، ويصلون إلى مستوى التضحيات الكبرى، وحتى إذا تطلّب الظرف أن يتحول الإنسان إلى مشروع تضحية فلا مانع عنده. فيجب علينا أولاً أن نصوغ أنفسنا من هذه الذكرى العظيمة، فالتحوّل، أو القدرة على التحويل لم تكن خاصة بزهير ابن القين العثماني الذي تحوّل علوياً وحسينياً، ولا تقتصر على وهب الذي كان مسيحياً وإذا به يتحوّل إلى من يشمله قوله (عليه السلام) : (لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي) (1)، ولا تقتصر على الحرّ الذي كان من قادة الجيش الأموي وإذا به يتحول إلى تائب تذهبون إلى قبره وتقولون له:

ص: 91


1- مقاتل الطالبيين: ص 74 قال الامام الحسين (عليه السلام) : اللهم انك تعلم أني لا اعلم أصحابا خيراً من أصحابي).

(بأبي أنت وأمي)، فهذه القدرة موجودة في نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) وفي عاشوراء، حيث يمكن أن تحوّل كل واحد منا، هذا ما يجب علينا استلهامه أوّلاً.

راية الحسين (عليه السلام)

أما الشيء الثاني: فيجب أن نحاول رفع عَلَم سيد الشهداء (عليه السلام) في كل مكان.

نقل لي أحد العلماء قائلاً: ذهبت إلى مكتبة الفاتيكان في الأعوام الأخيرة وكنت ألاحظ كتبها ففوجئت بوجود كتب كثيرة فيها حول الإمام الحسين صلوات الله عليه، أكثر من ألف كتاب، فاندهشت وسألت مدير المكتبة لماذا وجود هذه الكتب في مكتبتكم؟ قال في الواقع أن علماء المسيحية فكروا في سرعة انتشار خط أهل البيت (عليهم السلام) في العالم، والذي يعدّ معجزة من معجزات الله تعالى في هذا الوجود مع كل ما تعرّض له شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من بطش عبر التاريخ، وصدّام أحدهم وشاهد عليهم؟ فتوصل علماء المسيحية إلى أن من يقف وراء ذلك الانتشار هو الإمام الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، فطلبوا من وكلائهم في البلاد أن يأتوا لهم بكل الكتب التي تدور حول الحسين بن علي (عليه السلام) لكي يستفيدوا من قضية عاشوراء في نشر ظلامة السيد المسيح (عليه السلام) كما يقولون في العالم.

ولذلك يجب علينا أن نرفع علم سيد الشهداء (عليه السلام) في كل مكان بكل ما لنا من قدرة.

كان السيد الرجائي (حفظه الله) يذكر لنا: أن هناك رجلا ذا دخل بسيط كان يقيم مأتماً ضخماً لسيد الشهداء (عليه السلام) ويطعم الناس في ذلك المأتم، فتبيّن فيما بعد أنه كان يقوم ببعض العبادات الاستئجارية، وهي عملية شاقة جداً حيث يأخذ لقاءها مالاً، ثم يصرفه في قضية سيد الشهداء (عليه السلام) ، وأنا أعرف مجموعة من المؤمنين يقترضون مالاً للمساهمة في هذه القضية، لذلك على كل واحد منا أن يحاول المساهمة في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ، فإن (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من هذا الفيض العظيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 92

4

نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الطريق إلى الاستنقاذ

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في مقطع من زيارة الأربعين المروية عن مولانا الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه): «...وَبَذَلَ مُهَجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَلالَةِ»، هذا المقطع يحتوي على مضامين شامخة ولكننا سنكتفي بمبحثين منها.

المبحث الأول: كلمة «فيك»

اشارة

وردت هذه الكلمة في الزيارة: «وَبَذَلَ مُهَجَتَهُ فِيكَ» وترتبط هذه الكلمة ببحثٍ تناوله علماء الحكمة الإلهية وعلماء علم الأخلاق وفقهاء علم الفقه، وكذلك تناوله العلماء الجدد في علم النفس، ويرتبط هذا البحث بالبواعث والدوافع التي تحرّك كل واحد منا في أفعالنا الإرادية، حيث يتوقف الفعل الإرادي على دافع، أي يحتاج إلى محرّك وإلى منطلق ينطلق منه هذا الفعل، فما هو المنطلق؟

إن المنطلق والدافع المطلوب يمكن أن يكون أحد أمورٍ ثلاثة:

الدافع الأول: أن يكون العمل للدنيا.

الدافع الثاني: أن يكون العمل للآخرة.

الدافع الثالث: أن يكون العمل لله.

فأحياناً يكون الهدف دنيوياً، و أغلب أعمالنا للأسف حتى نحن المتدينون تكون للدنيا، فعندما يذهب التاجر إلى محل عمله إنما يتاجر للدنيا وللمال، ومثل هذا التاجر الذي يعمل من أجل كسب المال فقط، هل له استحقاق على الله تعالى؟

إن الله تعالى سيقول له: إنك عملت من أجل كسب المال وقد نلته، فماذا تطلب مني؟ لذلك هذا التاجر وأمثاله لا يستحقون من الله شيئاً.

لماذا يدرس الطالب في الثانوية أو الجامعة؟ إنه يقوم بذلك لينال الشهادة الجامعية، فإذا كان هذا هو الهدف والباعث، فهل سيأتي هذا الفرد يوم القيامة، ويطلب من الله

ص: 93

شيئاً ؟ كلا، إن الله تعالى سيقول له: إنك طلبت العلم من أجل الشهادة الجامعية، وربما نلتها أو لم تنلها، لذلك فهو لا يستحق من الله شيئاً.

كان حاتم الطائي مشهوراً بكرمه وقضاياه معروفة لدى الجميع، فقد كان يضحي حتى بلقمته للآخرين، وهنالك أبيات شعرية تُنقل عنه، بأن عائلته كانت غير موافقة على ما يقوم به، فكانوا يقولون له: إننا أولى بهذه اللقمة التي تعطيها للآخرين، فيقول في أبيات شعرية له وهو يخاطب زوجته أماوية:

إن المال غادٍ ورائح *** ويبقى من المال الأحاديثُ والذكر

كأنه يقصد بذلك بأن المال ينتهي ولكن الذكر الذي يناله من البذل والكرم باق، والدليل هذه الشهرة والسمعة الطيبة والباقية له حتى اليوم، فإذا كان منطلق وهدف حاتم في أعماله من إطعام الفقراء وإكرام الضيف السمعة والذكر، فسيأتي يوم القيامة إلى الله تعالى ويقول: يا الهي! إنني بذلت وأعطيت وأطعمت الفقراء، هنا سيسأله الله تعالى، لماذا بذلت؟

إن التفكير بهذا الجانب مهم، لأن كل فرد منا يجب أن يفكر بالهدف قبل أن يقوم بأي عمل، ويسأل نفسه لماذا أعمل هذا العمل؟ حتى وإن كان عملنا هو الذهاب إلى المتجر، لماذا أذهب؟ فربما تكون الدنيا هي الهدف، أي جمع المال لأجل المال، ومرة أخرى ربما من أجل الإنفاق على العائلة من المال الحلال، فقد أمرني الله تعالى أن أنفق على عائلتي من الحلال، وامتثالاً لأمره سبحانه أقوم بهذا العمل، فإذا كان الباعث أو الدافع هو الإنفاق على عائلتي فعلاً، فهو باعث ودافع إلهي.

وحين يتزوج الشاب ربما تكون الشهوة هي الهدف، وربما ليمنع نفسه عن الحرام، وقد يفكّر بهذا الجانب ويقول لنفسه: أتزوج حتى لا أقع في الحرام أو في ما يسخط الله، مثل هذا الباعث يكون باعثاً إلهيّاً، ويكون في هذا العمل أجر وثواب عند الله.

إن الله سبحانه يقول: إذا أنت بذلت المال وأطعمت الفقراء، من أجل الذكر والسمعة، (ويبقى من المال الأحاديثُ والذكر) إذن بقي لك الذكر لأنك أكرمت وعملت من أجل بقاء الذكر وقد نلته، فأنت لا تطلبني شيئاً.

الدافع الثاني: وهو أن يعمل الإنسان للآخرة، وللجنة، ولتحاشي النار والفرار

ص: 94

منها، فنحن عندما نستيقظ لأداء صلاة الصبح ربما نفكر لحظة ثم ننام ولا نستيقظ، إن في هذا السلوك عقوبة، يقول أحد العلماء كلاماً جميلاً: إن أغلب الأعمال التي نعملها هي أعمال عبادية، إما طلباً للجنة أو فراراً من النار، ويقول هذا العالم: إن الدليل على ذلك هو قيامنا لصلاة الصبح لأن في تركها النار، أما تركنا لصلاة الليل فلا يقودنا إلى النار ولذلك غالباً لا نصليها، إذن في الواقع، إن الباعث والمحرّك هو الخوف من النار والطمع في الجنة.

فما هو رأيكم في هذا الباعث؟ وهو أن يعمل الإنسان طمعاً بالجنة كما نعمل غالباً، أو يعمل خوفاً من النار كأن لا ينظر إلى الأجنبية لأن هذه النظرة تتسبب عقوبة، وقبل أن تبيّنوا رأيكم يجب أن نستمع إلى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) حيث يقول: «إن هذه العبادة هي عبادة التجار وتلك عبادة العبيد»(1).

بطبيعة الحال يجب أن نعمل خوفاً من النار وطمعاً في الجنة، ولكن هذه عبادة التجار والعبيد، فالعبد يخيفه مولاه بالعصا فيعمل، فهذه عبادة العبيد، ويطمعه بالراتب فيعمل، وهذه عبادة التجار، يروي أحد الأخوة حالة مجرّبة، ويقول: إذا كان هناك ألم ما في بدن الإنسان يسجد سجدتين بعد انتهاء صلاة المغرب أو العشاء ويقول: شكراً لله، في السجدة أولى والثانية، ثم يضع يده على موضع سجوده ويمسح على مكان الألم، فسوف يبرأ الألم كما في الرواية بإذن الله، أحد الأخوة أدلى بملاحظة ظريفة حين قال: أنا عندما أسجد سجدتين أخجل من الله تعالى، لأن هذا يشبه معاملة أو نوع من التجارة معه سبحانه، لذلك فأنا أسجد سجدتين وأمسح موضع الألم فيخف، ثم أسجد سجدة ثالثة لله تعالى إضافة لسجدتَي الشفاء من المرض.

أحياناً نذهب إلى الحرم بسبب ابتلائنا بمشكلة ما، فالإنسان يذهب إلى إحدى المراقد المقدسة يتضرّع ويبكي لاستجابة دعائه، وهذا العمل جيد لكن يجب على

ص: 95


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الرقم 237. قال الإمام علي (عليه السلام) : «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأحْرَارِ».

الإنسان أن يكون دائماً في حالة ارتفاع وتصاعد في إيمانه، (وإن قوماً عبدوا الله تعالى لأنه أهلٌ للعبادة) أي عبدوا الله لذاته وليس لشيء آخر.

ربما يذهب الشخص لمرقد طاهر ليس لقضاء الحوائج، وإنما لأن صاحب المرقد جدير بالاحترام والإعظام، نعم إذا كان الإنسان يعاني من مشكلة فيتضرّع إلى الله ويدعوه سبحانه لحلها فهذا جيد، إن الله تعالى يقول: (فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ) (1) ولكن هنالك مرتبة أعلى وهي أن يدعو الإنسان ويتضرّع ويقرأ دعاء كميل ويبكي ليس بسبب ضغط الحاجة بل يدفعه إيمانه لأن الله تعالى أهلٌ لذلك.

تضحية الإمام الحسين (عليه السلام)

لماذا ضحى الإمام الحسين (عليه السلام) هذه التضحية العظيمة؟ هل طمعاً بالجنة ؟ كلا، نعم إن الإمام (عليه السلام) كان يحب الجنة، وكلنا نحبها، إنما (بَذَلَ مُهَجَتَهُ فِيكَ) بمعنى لأجلك يا إلهي تعاليت، فالحسين ابن أمير المؤمنين 3 يقول: (ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)(2).

في إحدى المرات أوردت مثالاً عن هذا الأمر، فربما يذهب أحدهم إلى أبيه يزوره يقبّل يده، لماذا؟ من أجل أن يحصل على نقود، فهذا باعث زيارة الابن لأبيه، وآخر يذهب لأبيه لأن له حقٌ في ذمته، ويقبل يده لأنه أهلٌ لتقبيل اليد، أو يقبّل جبهته لأنه أهلٌ لذلك، فشتان ما بين الباعث الأول والباعث الثاني، مثال قريب أيضا عندما نزور شخصاً مّا هل نفعل ذلك احتراماً له أم طمعاً بأمواله؟ النبي شُعيب (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) بكى، ونحن نبكي أيضا لكن متى؟ عندما تكون لدينا مشكلة، الله تعالى قال لشعيب (عليه السلام) : لماذا تبكي؟ فبكى واستمر في البكاء حتى ابيضّت عيناه، وقال: يا الهي لا حاجة لي عندك بل حُباً بك(3)، يقرأ الخطباء هذا الشعر في مخاطبة سيد الشهداء (عليه السلام) :

ص: 96


1- سورة الأنعام: 43.
2- روض الجنان: ص27.
3- راجع: علل الشرائع: ج1 ص57.

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** لكنما عيني لأجلك باكية (1)

إنني لا أبكي من أجل حل مشكلتي، بل لله تعالى، ولسيد الشهداء (عليه السلام) (وبذل مهجته فيك)، و(في) تأتي باللغة العربية بمعنى التعليل وبمعنى اللام كما يقوله ابن مالك في الألفية. فقبل النوم يمكنكم أن تصلّوا ركعتين لا لحاجةٍ ما؟ بل لله عزوجل لأنه أهلٌ للعبادة، فحين يدعو الإنسان ربّه ويصلي إعظاماً لمقام الله تعالى من دون حاجة أو مشكلة مّا، فإن لهذا العمل قيمة كبيرة عنده سبحانه.

المبحث الثاني: (ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)

اشارة

إن هذا الاستنقاذ له مجالان:

المجال الأول: الاستنقاذ في الإطار الخاص

إن نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) من أفضل وسائل استنقاذ العباد، ونعني بالاستنقاذ في الإطار الخاص، هو إنقاذ أولادنا وبناتنا، فكيف يتم ذلك؟

إنَّ نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) هي أفضل وسيلة لإنقاذ أولادنا وبناتنا من أخطار العصر الراهن، وكذلك المجالس والشعائر التي ترتبط بسيد الشهداء (عليه السلام) .. إن السجون والمعتقلات كثيرة وفيها كثير من الشباب بسبب الانحرافات وتأثير أجواء العصر، ولكن إذا وضعنا أولادنا وبناتنا، عوائلنا وأنفسنا في أجواء سيد الشهداء (عليه السلام) فهذا يشكل ضمانة لنجاتنا وضمانة لإنقاذ أولادنا، لكن إذا لم نهتم بهذا الأمر، فإن الابن ربما سينحرف ويشكل خطراً على أبيه وعلى العائلة.

حدثت هذه القضية في أحد البلدان العربية، رجل ما كان لديه مالٌ في البنك - والحقيقة أن هذه القضية، لا تخص الرجل وحده بل هي قضيتنا - ذهب إلى البنك وسحب ذلك المال، وفي الليل وهو نائم في الغرفة وإذا برجلين ملثمين يدخلان عليه ومعهما بندقية رشاشة، قالوا له: سلّم المال أو نقتلك الآن، وكان مبلغاً ضخماً، فاحتار الرجل ماذا يفعل، فكّر لحظة وقال لهما: حسناً المال موجود في هذه الغرفة،

ص: 97


1- البيت من قصيدة للشيخ عبد الحسين الأعسم، المتوفى سنة 1247ه، وكان عالماً فقيهاً ومحققاً واديباً وشاعراً.

وسأجلبه لكما الآن.

ذهب إلى الغرفة الثانية وكان فيها بندقية رشاشة أو شيء من هذا القبيل، حمله وجاء إلى الغرفة من الباب الثاني، وقتل هذين الرجلين المهاجمين، ثم أماط اللثام عن وجهيهما، أتعلمون من كان هذان الرجلان ؟ لقد كان أحدهما ابنه والثاني ابن أخيه أو أحد أقربائه! فالابن قد ينهب أباه وقد يقتل أباه، فإذا لم يهتم الآباء والأمهات بهذا الجانب سيشكل هذا الجيل الجديد خطراً عليهم.

إن الأفراد الذين عاشوا مع سيد الشهداء (عليه السلام) ونموا في مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) والذين يلطمون صدورهم على سيد الشهداء (عليه السلام) ويشتركون في المواكب، كل هذه الأعمال هي ضمانة لنجاتهم وإنقاذهم حتى لو كان عندهم بعض (اللّمَم)(1) كما جاء في القرآن الكريم، لكن بالنتيجة سيسحبهم سيد الشهداء (عليه السلام) إلى الله تعالى، وهنالك ملايين الأفراد اهتدوا ببركة سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

المجال الثاني: الاستنقاذ في الإطار العام

في الحقيقة إذا كنا نعرف قيمة سيد الشهداء (عليه السلام) لأنقذنا العالم، فالعبارة تقول (بَذَلَ مُهَجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ) يستنقذ من؟ (عِبَادَكَ) بمعنى جميع العباد، إن القوة الموجودة في نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) بإمكانها أن تُنقذ جميع العباد وجميع البلاد.

كان أحد العلماء في العراق يعيش في كربلاء المقدسة، وقد فكّر كيف يُنقذ الأفراد المبتعدين عن أهل البيت (عليهم السلام) - وما ترونه الآن من تشيع في العراق هو نتيجة جهود هذا العالم وأمثاله - وكيف يجذبهم إلى خط أهل البيت (عليهم السلام) ؟ وما هي الطريقة الناجحة؟ ورأى أن أفضل طريقة ووسيلة هو سيد الشهداء (عليه السلام) ونهضته، وأن البطولات الموجودة في قضايا سيد الشهداء (عليهم السلام) فيها جاذبية عجيبة.

يقول أحد الغربيين، وقد لاحظ موقف الحر الرياحي: (لقد قرأت تاريخ الحروب المدوّنة كلها، من بدايتها إلى نهايتها، ولم أجد في تاريخ الحروب موقفاً لواحد من القادة على طول التاريخ يشبه موقف الحر الرياحي)، فهنا لدينا قائد في موقع قوة من

ص: 98


1- سورة النجم: 32 (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش الا اللمم)الآية.

الناحية الظاهرية وآخر في موقف ضعف من الناحية الظاهرية أيضاً، يأتي القائد صاحب الموقع القوي ويضحي بمكانته ومنصبه علماً أنه يعرف بأن مصيره القتل، إن تاريخ الحروب البشرية كلها ليس فيه موقفٌ كموقف الحر قطعاً؛ ذلك ما قاله الرجل الغربي عن أحد المواقف العظيمة في قضية كربلاء المشحونة بالبطولات العظيمة، فالرجال والنساء والأطفال والعبيد والشيوخ والشباب هم تشكيلة عجيبة تضمها هذه القضية، وذلك العالِم كان يذكر بطولات عاشوراء ومفاخرها ومآثرها الخالدة فاستطاع في حياته أن يُوفّق بإدخال مائة ألف إنسان في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في العراق. وفي بلد آخر، كان الموالون لأهل البيت (عليهم السلام) في السابق حوالي عشرة ملايين، وببركة المجالس والشعائر - كما نقل بعض العلماء الذين يعيشون في ذلك البلد - اهتدى إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عشرون مليون إنسان منذ حوالي خمسين عاماً، والآن أصبح الذين اهتدوا لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) هناك حوالي ثلاثين مليون إنسان.

ولذلك فقد اجتمع الآخرون وفكّر علماؤهم، ماذا نفعل أمام هذه الظاهرة؟ وخططوا للوقوف بوجه هذا المدّ، لأنهم أدركوا أنه إذا استمر هذا التيار على وتيرته المتصاعدة فإن كل ذلك البلد سيتحول إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) نعم هذه هي القوة والجاذبية الموجودة في نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) .

رصيد في بنك الإمام الحسين (عليه السلام)

إذن ينبغي علينا أن نساهم في قضية أهل البيت (عليهم السلام) بقدر إمكاننا قبل أن نندم؛ وهذه حادثة منقولة في التاريخ عن رجل يقال له (فرهاد) وهو من أعيان إيران في ذلك الحين، فقد اجتمع الأعيان والأشراف في إحدى المرات ليتحدث كل منهم عما يملكه، قال أحدهم، أنا أدَّخر في البنك كذا من المال، وقال الثاني أنا املك كذا من الأراضي، لكن هذا الرجل (فرهاد) كان ساكتاً، فقالوا له: لماذا لا تتكلم؟ قل ما عندك! وألحّوا عليه، فقال لهم: إنكم ذكرتم ما عندكم في البنوك الأجنبية، أما أنا فأملك شيئين، الأول كتاب (القمقام)(1) احتفظ به في (بنك سيد الشهداء (عليه السلام) )، والشيء الثاني: هو

ص: 99


1- كتاب في المقتل الحسيني، من تاليف العلامة الفاضل الأديب فرهاد ميرزا.

بنائي الصحن الشريف للإمام الكاظم (عليه السلام) واحتفظ به في بنكه!

هذان الشيئان هما ما يملك ذلك الرجل، أما أولئك الأعيان فقد ذهبت أموالهم وأرصدتهم، وحين ما مات فرهاد، ذهبت أمواله معه أيضا، لكن بقي له رصيدان هما: كتاب (القمقام) في بنك سيد الشهداء (عليه السلام) وصحن الإمام الكاظم (عليه السلام) في بنك الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وهكذا نحن فبعد أيام نموت جميعاً، وكل هذه الأشياء تذهب أيضاً ولا تبقى لنا إلاّ أعمالنا الطيبة.

نقل لي أحد الأخوة قبل أيام: أن مؤمناً رأى والدي (رحمه الله) في عالم الرؤيا، فقال له الوالد (رحمه الله) هذه الكلمة: (قل لأولادي وأحبائي لاينفعهم في عالم القبر إلاّ الحسين صلوات الله عليه) وقد كرّر هذه الكلمة مرة ثانية.

وهناك منام نظير لهذا المنام للعلامة الحلي (رحمة الله عليه) فقد رآه أحدهم في عالم الرؤيا وقال له: شيئان، أحدهما كتاب (الألفين) وهو كتاب في الدفاع عن إمامة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والشيء الثاني زيارة الحسين (عليه السلام) ، هذان الشيئان نفعاني أكبر النفع في الآخرة.

إن هذه الأشياء المادية تنتهي كلها، وبعد أيام سنتحول إلى اسم على شاهدة قبر، وهذا الوجود الحي المتحرك النابض بالحيوية يتحول إلى اسم (فلان...) وانتهى الأمر، (اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل)(1) فهذه الأعمال والدموع والمجالس والشعائر هي الشفيع في القبر، وإذا تمكن الإنسان أن يبني حسينية ستكون من الباقيات الصالحات له، فهذه الحسينية باقية وإذا توفي الإنسان المؤمن فستبقى ذخراً له، ومن الأفضل أن يحاول الإنسان إبقاء شيء وراءه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من هذا الفيض العظيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 100


1- نهج البلاغة: ج1 ص93 من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) .

5

عطاء عاشوراء والحفاظ على الهوية الإسلامية

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

حين نكون على أعتاب شهر محرم الحرام، حيث يوشك عام من عمرنا على الانقضاء ويبدأ عام جديد مقروناً بذكر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وأصحابه الأوفياء (عليهم السلام) ، ينبغي على كل واحد منّا أن يبذل جهده في الاهتمام بهذا الشهر، وبشعائر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، فهذا الاهتمام مُضافاً إلى ما يضمنه لنا من جهات موضوعية مطلوبة في حد ذاتها، فإنه يضمن لنا تحقيق ثلاثة أهداف طريقية، وكلما كان الاهتمام بهذا الشهر وشعائره أكثر، كانت نسبة تحقيق هذه الأهداف الثلاثة أكثر:

الهدف الأول: حفظ الهوية الدينية

اشارة

نقدم له بمقدمة و نقول:

إن إحدى الأشياء التي كانت مهمة وخطيرة دائماً، ولكنها أضحت في هذا العهد أكثر أهميةً وخطورة، هي قضية الحفاظ على الهوية.

فيما مضى كانت هنالك حالة انغلاق بين الأديان والمبادئ والحضارات، أو كانت هنالك شبه حالة انغلاق تسود مجتمعات العالم، حيث كانت كل مجموعة تعيش في فلكها، ولكن هذه الحالة تغيّرت في العهود الأخيرة على أثر عوامل متعددة.

فعامل الهجرة إلى بلاد الغرب وإلى بلاد الشرق، وعامل الانفتاح الذي حدث فيما بين المبادئ والحضارات، وعامل العولمة الثقافية، الذي تُعد من أخطر العوامل، ولعل بعض المتديّنين منّا لا يفهم خطورة العولمة الثقافية، كما أن بعضنا ربما لا يفهم تمام الفهم خطورة العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. كل ذلك جعل من الحفاظ على الهوية مهمةً خطيرة.

زوروا الأفراد القادمين من بلاد الغرب، ولاحظوا ماذا ينقلون لكم عن تلك البلدان، فقد ضاعت هوية الكثير من الأفراد وفقدوا أصالتهم، فقد كان الكثير منهم

ص: 101

يحملون أسماء إسلامية مثل (محمد) و(أحمد) وكثيراً من أمثال هذه الأسماء المطهّرة، لكنهم غيروا حتى أسماءهم في تلك الأجواء، فالرجل الذي كان يقال له محمد وإذا به يغير اسمه في تلك البلاد ويحمل اسماً من أسماء الكفر المعروفة! كذلك المرأة التي كانت تحمل الاسم المقدس لفاطمة (صلوات الله عليها) وإذا بها تغيّر هذا الاسم وتحمل اسماً من الأسماء الكافرة! إلى هذا الحد وصل الحال بكثير من الأفراد، فهم ليس لديهم مفهوم عن الصلاة ولا عن الصيام أيضاً.

وقد يعيش رجل مؤمن مسلم مع امرأة ثلاثين أو أربعين عاماً، وكلاهما مسلمان طبقا لبطاقة التعريف، ولهما أولاد وأحفاد لكنهما لا يرتبطان بعقد شرعي! لأنهم ذابوا في تلك المجتمعات، وهذا ما نعني به خطر فقدان الهوية، ولكن هل يُهدد هذا الخطر أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب فقط؟ كلا، لأن الغرب جاء إلى بلادنا وهو موجود الآن في كل غرفة من غرف بيوتنا، إلاّ ما شذّ وندر.

إن الفكر والحضارة الغربية والمنحى الغربي في النظر إلى الكون والحياة خطر لايهدد الذين ذهبوا إلى بلدان الغرب فقط، وإنما يهدد حتى الأولاد في بيوتكم، فكيف يمكن أن نواجه هذا الخطر ؟ وكيف يمكن أن نحافظ على هويتنا؟

إن القضايا في هذا المجال كثيرة ومفجعة ولا مجال لذكرها الآن.

محاولات سحق الهوية

إننا نعتقد بأن من أولى الخطوات التي يقوم بها الأجانب الكفار لسحق هويتنا، هي محاولة إبعادنا عن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وعن شعائره... هنالك تجربتان جديدتان، ولا تعنينا التجارب التاريخية حالياً.. فإذا نجح الكفار في أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) منا، وهي خطوتهم الأولى، فسينجحون في الخطوة الثانية وهي القضاء على هويتنا، وإذا فشلوا في الخطوة الأولى فشلوا في الخطوة الثانية.

التجربة الأولى: التي ربما لم يعايشها أغلبكم هي تجربة البهلوي في إيران(1) الذي

ص: 102


1- رضا خان بهلوي (1878-1944م) شاه إيران (1925م)، حكم بالظلم والجور والاستبداد، ونشر الفساد ومنع الحجاب والشعائر الحسينية، تنازل لابنه محمد (1941م).

حارب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في كل الأبعاد، لكي تكون إيران مثل تركيا، حيث كانت تركيا قبل هذا العهد تمنع حتى إقامة المجالس الحسينية، فلا أحد كان يمكنه أن يقيم مجلساً حسينياً، والناس هناك كانوا يذهبون في يوم عاشوراء إلى المقابر ويبكون فيها حتى لا يسألهم الشرطي عما يفعلون؟! إنهم مقبلون على القبور في ظاهر الحال ولو تعرَّضوا للمساءلة، فلديهم أموات يبكون عليهم، هكذا كانت الحالة.. ولكن فشل البهلوي في القضاء على الهوية الدينية في إيران.

التجربة الثانية: وكثير منكم عايش هذه التجربة، وهي تجربة البعث في العراق، إذ كيف حاربوا الإمام الحسين (عليه السلام) والشعائر الحسينية بكل أنواعها ابتداءً من المجالس البيتية وانتهاءً إلى التطبير والمواكب المختلفة، وكأن منهجية الطغاة واحدة، يقول الله تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِه) بمعنى هل أوصى بعضهم البعض الآخر(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (1) حيث طبيعة الطغيان واحدة، ولكن البعثيين فشلوا في ذلك أيضاً.

إنكم تلاحظون الآن هذه الروح الدينية الموجودة في العراق عند الشعب العراقي، ويعود ذلك إلى فشل السلطات البعثية في القضاء على الإمام الحسين (عليه السلام) إذ لم يتمكنوا من أن ينتزعوا هذا الحب وهذه المحبة من القلوب، وعندما جاءت القوات الغربية إلى العراق كانوا مذهولين من هذا الحب وهذا العشق للإمام الحسين (صلوات الله عليه). شاهدوا رجلاً عجوزاً كان مشرفاً على الهلاك، وكان يعاني من الجفاف في بدنه، فأسعفوه بالإسعافات الضرورية، ثم تبين لهم أن هذا الرجل الهرم الطاعن في العمر، كان يمشي لمدة ست وثلاثين ساعة في البراري والقفار بلا ماء حتى أشرف على الهلاك، وقد ذُهلوا لمشهد كبار السن والشباب والأطفال والعجائز وهم في طريقهم لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وبعد أن سألوا وتحققوا - جنود القوات الغربية- إلى أين يذهب هؤلاء مشياً على الأقدام؟ فتبين لهم كما قالوا: أن هنالك قديساً يقدسه هؤلاء وقد قُتل قبل ألف وثلاثمائة عام، وهو مدفون في كربلاء، والحب يدفع هؤلاء إلى هذه الأعمال الخارقة للعادة.

ص: 103


1- سورة الذاريات: 53.

إن الفرد الذي يملك مثل هذا الحب لسيد الشهداء (عليه السلام) ويعيش في هذه الأجواء، هل يمكن أن يفقد دينه وهويته؟ لقد رأينا كثيراً من الذين نموا في مثل هذه الأجواء ثم ذهبوا في ذلك الخضم المتلاطم، في الغرب، بقوا محافظين على هويتهم، وأنا رأيت كثيراً من هؤلاء عندما كنا في كربلاء، لقد كانوا أطفالاً لكنهم نشؤوا في أجواء الإمام الحسين (عليه السلام) وأجواء الهيئات والمواكب.

الوالد (1) (رحمه الله) كان يقول: كان الشباب يأتون إليّ ويسألونني عن اسم اقترحه للهيئة التي يقيمونها، فما هو الاسم المناسب؟ وقد سمّينا الهيئات باسم المعصومين (عليهم السلام) وأمهات المعصومين وما أشبه، ولكن في آخر المطاف كنّا نتحيّر في اسم جديد لكثرة تلك الهيئات، فأي اسم نضع لهذه الهيئات بسبب كثرتها؟ إن هؤلاء الشباب عاشوا في هذه الأجواء ثم أخذوهم وألقوا بهم في ذلك الخضم المتلاطم في البلاد التي لا يوجد فيها أي حد، لكن معظمهم حفظوا إيمانهم.

إن الإنسان الذي يجري حب الإمام الحسين (عليه السلام) في قلبه وعروقه لا يمكن أن يفقد دينه وإيمانه، والآن كثير من هؤلاء الشباب الذين عاشوا في تلك الأجواء هم حملة لواء الإمام الحسين (عليه السلام) في بلاد الغرب، وفي بلاد الكفار.

فإذن أول ما تحقّقه لنا هذه المجالس والمنابر والمواكب والمجالس البيتية وهذه الكتب، هو الحفاظ على الهوية الدينية التي أضحت في معرض الخطر ليس في بلاد الغرب فقط، بل حتى في عواصمنا الإسلامية، فكلما نهتم أكثر بهذه الأمور - الشعائر الحسينية - سنحفظ أنفسنا ونحفظ أجيالنا أيضا.

الهدف الثاني: الدعوة إلى الله تعالى

اشارة

إن الهدف الثاني الذي تحققه لنا هذه الشعائر هو الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، إذن هذه هي مهمتنا وهذه وظيفتنا. كان السيد العم (2) (حفظه الله) ينقل عن أحد العلماء يُقال له (الشيخ محمود أو

ص: 104


1- المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ( 1347 – 1422 ه- ).
2- المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).

محمد شريعت) حيث كان هذا العالم على معرفة بأحد العلماء المسيحيين، وقد كان العالم المسيحي يقول لهذا العالم الشيعي: أنتم الشيعة عندكم الحسين (صلوات الله عليه) ولكنكم لا تعرفون قدره، فإذا كان عندنا نحن المسيحيين مثل الحسين - هذه عبارته - لنصبنا له في كل شبر من العالم منبراً، ولدعونا العالم إلى المسيحية باسم الحسين.

أنني لا أريد أن أدخل في هذا المجال، ولكن لاحظوا ماذا أحدث الفلم الذي أنتجوه وهو بعنوان (آلام المسيح)(1) من تموجات في العالم، مع إنها قضية عادية جداً في ظاهرها، فقد أخذوا المسيح (صلوات الله عليه) - حسب ادعائهم - وصلبوه، وهذا كل ما حدث، لكن أيّ تأثير تركه هذا الفلم في العالم، لقد كتبوا في التقارير أن بعض الأفراد أصيبوا بنوبة قلبية عند مشاهدتهم لهذا الفلم تأثراً وتفاعلاً، ثم ماتوا على أثر ذلك.

ولكن أين آلام المسيح (عليه السلام) من آلام الحسين (صلوات الله عليه)، لا يوجد قياس بينهما قطعاً، لذلك لو تمكنا أن نوّسع دائرة التأثير بمقدار آلام الحسين (صلوات الله عليه) سنتمكن من أن نهدي الآخرين إلى الله سبحانه وتعالى. نقرأ في الرواية المعروفة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: وجدت على يمين العرش مكتوباً (إن الحسين مصباح هدىً وسفينة نجاة) (2) ونقرأ في الزيارة: (ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)، إذن قضية الإمام الحسين لها القدرة على إنقاذ كل العباد.

طريق التوبة

أختصر هذه القضية التي كان ينقلها الوالد (رحمه الله) قائلاً: كان هنالك رجل يعمل سائقاً وكان ينقل قضيته هذه لأحد العلماء، يقول الرجل السائق: لقد كنت في بداية الأمر مُغنيّاً ومطرباً ولم يبق منكر من المنكرات إلاّ وعملته، ولم تكن لديّ علاقة بالدين في أي فرع من فروعه، حتى الصلاة كنت لا أؤديها، وفي إحدى الأيام، خرجت عائلتي كلها ليلة التاسع من شهر محرم وبقيت وحدي في البيت، شعرت بالضجر وقلت لنفسي، سأخرج خارج البيت دفعاً للملل، فخرجت ومررت بمكان

ص: 105


1- فيلم آلام المسيح للمخرج ميل جبسون وهو يصور حياة السيد المسيح (عليه السلام) حسب تصورهم.
2- مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني: ج 4 ص52.

كان يقرأ فيه أحد الخطباء، فجلست في المجلس كي اسمع ماذا يقول هذا الخطيب؟ فأخذ يتكلم وعرّج على قضية أبي الفضل العباس (صلوات الله عليه) فأثّرَ بي جداً، وأخذ الخطيب يتكلم حول أبي الفضل العباس (عليه السلام) عندما قطعوا يمينه وقال: «والله إن قطعتموا يميني إني أحامي أبداً عن ديني»(1) يقول السائق: هذه الكلمات أثّرت فيّ بشدة، ففكرت أن هؤلاء الصفوة ضّحوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الدين، وأنا أسحق الدين بقدمي!. ويواصل السائق: لقد قررت أن أتوب في المكان نفسه، وفعلاً تبتُ إلى الله سبحانه وتعالى توبةً نصوحاً، وعدت إلى البيت وحطمت كل الآلات المحرمة التي كانت في البيت، وتركت عملي القديم لأنه كان في مجال الغناء وعملت كسائق تكسي، وقد أنعم الله تعالى عليَّ، وأحمده سبحانه على هدايتي، أما من الناحية المادية فوضعي جيد..

ويوجد مثل هؤلاء الأفراد في داخل المنظومة وفي خارجها بالمئات بل بالآلاف.

الهدف الثالث: الآخرة

اشارة

إن أمام كل واحد منّا سفر طويل، فما هي الذخيرة التي أعددناها لهذا السفر؟ فلا أمل في أعمالنا التي نقوم بها، فهي وظيفة يجب أن نؤديها، وربما تكون كثير من أعمالنا مشوبة بالنقص، فالصلاة التي نصليها كثيراً ما يرمى بها رأس صاحبها كما في الروايات (2)، وكثيراً ما لا يُقبل منها ولا ركوع واحد، أو ولا سجود واحد، ولا كلمة واحدة، لكن الأعمال التي تسجّل خدمة لسيد الشهداء (عليه السلام) وخدمة لأهل البيت (عليهم السلام) هي التي تمثل الأمل، حيث ينبغي أن يكون عندنا أمل، مضافاً إلى الأمل برحمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأمل بهذه الأعمال في خدمة سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

إن هذا يحتاج إلى أن يفتح الإنسان حساباً مع أهل البيت (عليهم السلام) ليخدمهم، لأن هذه الأعمال تمثل الأمل في لحظات الاحتضار والأمل في القبر والأمل في القيامة.

ص: 106


1- مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب: ج3 ص256.
2- الكافي: ج 3 ص363 (فضرب بها وجه صاحبها...).

أنقل لكم هذه الرواية مختصرةً، وهي مذكورة في كتاب (وسائل الشيعة) في كتاب الحج منه، ينقل الراوي عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يقول له : «رحم الله دمعتك» إن هذه الدمعة لها قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، «أما إنك سترى عند موتك حضور آبائي لك»، فهذه أثر دمعته على سيد الشهداء (عليه السلام) «ووصيّتهم ملك الموت بك، ولملك الموت أرّق عليك من الأم الشفيقة على ولدها)(1) فهذا هو أثر الدمعة على سيد الشهداء (عليه السلام) ألا يحتاج هذا الإنسان أن يفتح حساباً مع أهل البيت (عليهم السلام) ومع الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

كان الحاج آغا حسين القمي (2) (رحمة الله عليه) معروفاً بولائه وذوبانه في أهل البيت (عليهم السلام) ذكرت فيما مضى بعض القضايا عنه، فقد كان يذهب إلى حرم سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ويشعر باللذة من ذلك، ليس كبعضنا حيث نذهب إلى الحرم مرة في الشهر ثم نحاول الخروج بسرعة! بينما كان السيد القمّي (رحمه الله) يشعر باللذة، فكان يطيل في زيارته مع كثر مسؤولياته وأعماله، وأحياناً كان يخرج من الحضرة ثم يقول لم أرتوِ بعدُ، فيعود مرة ثانية إلى الحضرة، لكن بعض الذين كانوا معه كانوا يقولون: نحن ليس لدينا القدرة على العودة فكانوا يغادرون، أما هو فكان يقول لمن معه: هذه هي الجنة، هكذا كان شعوره، فقد كان يشعر أنه عندما يذهب إلى هذه الأعتاب المقدسة فإنه في الجنة، وهذه هي نتائج الحساب المفتوح مع أهل البيت (عليهم السلام) .

يُنقل أنه في اليوم الأخير من حياته كان مُغمى عليه في أحد مستشفيات بغداد، فجأة فتح عينيه، وأخذ يخاطب الحاضرين الذين كانوا معه ويقول لهم: السيد قادم..! السيد قادم..! فظنّ بعض الذين كانوا معه بأنه كان يتكلم عن لا وعي، إذ ما معنى جملة (السيد قادم)؟! وأصرّ عليهم أن يجلسوه، فأجلسوه استجابة لأصراره، فالتفت إلى الباب وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين، وفاضت روحه إلى بارئها.

ص: 107


1- كامل الزيارات، لجعفر بن محمد بن قولويه: ص204.
2- آية الله العظمى الحاج آغا حسين القمي الطباطبائي (ت 1366 ه).

إن هذا الشيء هو نتيجة ذاك العمل، وهنا يظهر أثر هذا الحبّ وهذه العلاقة.

وفي حديث مروي أقرأ لكم نصّه، عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يقول: إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة هو الحسين بن علي (صلوات الله عليه) (1) ولا عجب في ذلك، فمن الذي يتولّى قبض الأرواح بإذن الله تعالى؟ إنه ملك الموت، ومن الذي يتولى حساب الناس قبل يوم القيامة ؟ إنه سيد الشهداء (عليه السلام) .

كان الوالد (رحمه الله) ينقل أن جدته وكانت شديدة العلاقة بسيد الشهداء (عليه السلام) ، كان مغمىً عليها في لحظات الاحتضار، وقد فتحت عينيها قبل موتها بلحظات والتفتت إلى باب الغرفة وقالت: السلام عليك يا أبا عبد الله، وقُبضت روحها.

إن هذا ينفع عند الاحتضار، وفي القبر، وفي يوم القيامة، وينفع عند الصراط، يقول الإمام الرضا (صلوات الله عليه) - كما في الوسائل، كتاب الحج - يقول لابن شبيب: «يا ابن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العليا من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعليك بولايتنا» (2)، وهنالك روايات كثيرة يمكن مراجعتها في كتابي (وسائل الشيعة) و(بحار الأنوار).

من هنا ينبغي علينا أن نهتم بهذه القضية بالمقدار الذي نتمكن عليه، فنحن لنا قدرة هائلة، وحقاً نحن مفرّطون في هذا الجانب، فالحضور ضروري، والمشاركة الشخصية ضرورية، ولبس السواد ضروري أيضاً، كذلك وضع المصابيح الحمراء على البيوت إظهاراً للتفجع ضروري، ولكن ليس هذا كل شيء، فنحن قادرون على أن نقوم بأكثر من هذا.

يجب أن لا نظن بأن الذين خلّفوا هذه الآثار كانوا أفرادا مقتدرين، وهذه هي الفكرة والتصور الموجود عندنا، وهو تصور خاطئ، إذ لم يكن أولئك الذين قاموا بتلك الأعمال أناساً مقتدرين غالباً، بل كانوا أفراداً عاديين مثلنا غالباً، ولكن كانت هذه الأعمال محط عنايتهم، فيبارك الله تعالى فيها، فلو قررتم الآن أن تبنوا ألف

ص: 108


1- بحار الأنوار: ج53 ص43.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص193.

حسينية، فإن عنايتهم ستكون معكم، وتوّفقون بإذن الله، فمن هم الذين وُفقوا في ذلك؟ وكذلك إذا قررتم أن تطبعوا ألف كتاب حول سيد الشهداء (عليه السلام) - مثلا- فمن هم الذين طبعوا الكتب؟ إن الأمر يحتاج إلى همّة وحسب.

عناية الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشريف)

أنقل لكم هذه القضية وأختم، لكي تعرفوا أن الذين عملوا في خدمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) كيف كانوا ومن كانوا وكيف أصبحت العناية بهم؟

السيد العم (حفظه الله) ينقل هذه القضية فيقول: كان هنالك مجموعة من الأفراد في كربلاء المقدسة قرروا أن يبنوا حسينية باسم سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهم من بلد معين وليس من أهالي كربلاء، أو بعضهم كانوا من بلد آخر، في كل الأحوال.. ذهبوا وتحركوا وتكلموا مع الأفراد، لكن لم يتمكنوا أن يصنعوا شيئاً، سوى شيء محدود لم يكن كافياً، ففكروا أن يبعثوا وفداً منهم إلى بلدهم، في إحدى مدن إيران، ليذهبوا ويكلموا أهالي بلدهم، ويقولوا لهم: هذه حسينيتكم وبُنيت باسمكم، تعالوا وساهموا في بنائها.

فخرج ثلاثة منهم من كربلاء المقدسة ووصلوا إلى ذلك البلد في إيران وطافوا على التجار والأفراد هناك، من دون نتيجة مطلوبة، فرضاً كان مقدار المبلغ الذي يحتاجونه مائة مليون، فلم ينتج عن عملهم وتحركهم سوى عشرة ملايين مثلاً، - الأرقام في هذه القضية غير مذكورة - فعاد هؤلاء مُحبطين لأنهم لم يتمكنوا أن يجمعوا شيئاً، فعادوا وكانت طهران في طريقهم فقالوا: نذهب ونتحرك على تجار طهران، لكن لم يكن عندهم أمل فانصرفوا عن هذه الفكرة، ثم قالوا: نعود إلى كربلاء ونترك الموضوع.

في إحدى الليالي، كان بين هؤلاء الثلاثة رجلٌ يقال له السيد غلام رضا الكسائي هذا الرجل كان ذاهباً إلى مسجد من مساجد طهران، وكان يسمى آنذاك ( مسجد شاه) لأداء صلاة المغرب أو العشاء أو النوافل، يقول: لم يكن أحد في المسجد، كنت وحدي، فبدأت بالصلاة وأكملت، في هذه الأثناء سمعت حركة من خلفي، وإذا

ص: 109

بشخص جاء و جلس خلفي وقال لي: يا فلان.. لا تنظر خلفك! - و في ذلك الوقت لم تكُن السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية موجودة حتى يتخوفّ الإنسان -! يقول: وأنا أيضاً لم أنظر إليه، - إما امتثالاً لأمره وإما أن هذه كانت ولاية تكوينية، فلم يكن يتمكن من أن ينظر إليه - بعد ذلك قال: أنتم المهتمّون ببناء هذه الحسينية في كربلاء؟ قلت: نعم، قال هذا شيءٌ لهذه الحسينية، وقدمّ (شيكاً) إليّ وخرج، يقول: كان يُعجبني كثيراً أن أرى مَن هو ذلك الرجل! لكنه قال لي لا تنظر خلفك، يقول: خرج ذلك الرجل وذهب، أما أنا فرجعت إلى البيت، وشرحت القضية للاثنين اللذَين كانا معي، فقالا: غير معقول! وبعد أن شاهدوا (الشيك) رأوا أنه يحمل كل المبلغ المتبقي والمطلوب، فمن هو صاحب هذا (الشيك)، لا نعلم، يقول: ذهبنا إلى بعض تجار طهران نسألهم: من هو صاحب هذا الشيك، فقالوا: لا ندري، توقيع مَن؟ لا يعلم أحد، حسناً قلنا: نذهب إلى البنك لأخذ المبلغ، فقلنا لموظف البنك: هل يوجد هكذا مبلغ، قال: نعم، المبلغ موجود، وقبل أيام وُضع في الحساب، لكن من هو صاحب هذا المبلغ؟ قالوا: لا ندري! فتحرينا الأمر حتى وصلنا إلى المدير والمطلع، قلنا له: هذا الشيك لمَن؟ قال: لا أدري! وإنما عندنا تاجر متعامل مع البنك.. جاء قبل أيام ووضع هذا المبلغ في البنك وقال: هذا المبلغ يعود لشخص مّا، فأي شخص أحضر لكم هذا الشيك أعطوه المبلغ، فقلنا: وأين هذا التاجر الواسطة، قالوا: مات قبل أيام!

يقول السيد غلام رضا وهو صهر العلامة الأميني (رحمه الله) : كنت متأثراً كثيراً، إذ كان قاطعاً بحسب بعض القرائن والشواهد أن هذا الرجل كان الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)، يقول: يا ليت كان بإمكاني على الأقل أن أراه وأنكب على يديه ورجليه أقبّلهما، ثم جاؤوا بالمبلغ وبُنيت الحسينية و شيّدت...

ذات مرة نقلت لكم قضية ذلك الحمّال الذي بنى حسينية، ومرةً نقلت لكم ذلك الرجل الذي كان يصنع (السماور) في مدينة مشهد وقد بنى أربعة عشر حسينية، ومرة نقلت لكم قصة ذلك الحارس الليلي الذي بنى في الكويت حسينية، ومرة نقلت لكم

ص: 110

قضية تلك البنت التي ورثت من أمها مالاً وبنت في الكويت حسينية، وهكذا...

كل واحد من هؤلاء يمكن أن يكون حجةً علينا يوم القيامة، فلماذا لم نتحرك نحن؟ إن الأعمال التي نقوم بها لسيد الشهداء (عليه السلام) أقل بكثير من قدرتنا، فقدرتنا أكثر بكثير من ذلك، إن الآخرين ضحّوا و قُتلوا و شُرّدوا وعُذّبوا بتلك الأساليب الوحشية في سبيل حبهم وولائهم للإمام الحسين (عليه السلام) ، إنكم الآن تسمعون ماذا كان يجري في سجون العراق، من بعض الأفراد الذين أخرجوا وهم أحياء... أنا أعرف بعضهم.

إن كثيراً من المؤمنين شُرّدوا وقتلوا، وتيتمت أولادهم وترمّلت نساؤهم لأجل سيد الشهداء (عليه السلام) ، فما قدر ما نعمله نحن في قبال أولئك، نحن ينبغي علينا أن نحاول الاستفادة مما تبقى من عمرنا، الذي لا يُعلم كم مقداره، وأن نحاول أن نتخذ مع سيد الشهداء (عليه السلام) عهداً (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)(1)، فهذه الأعمال إن شاء الله كلها تكون وثائق الشفاعة لنا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ)(2) وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 111


1- سورة مريم: 87.
2- سورة الشعراء: 88

6

الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلتنا إلى الله

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة)

هذه فقرة من زيارة عاشوراء، وهي إحدى الزيارات المهمة التي ينبغي على المؤمنين جميعاً المواظبة عليها في كل يوم، أو على الأقل في كل أسبوع، فهذه الزيارة فيها آثار أخروية عجيبة، وإذا أردتم أن تطلّعوا على هذه الآثار اقرؤوا كتاب (مفاتيح الجنان) للمحدث القمي (رحمة الله تعالى عليه).

الآثار الأخروية والدنيوية لزيارة عاشوراء

هنالك آثار اُخرويّة عجيبة لهذه الزيارة، وفيها بركات دنيوية، فهذه الزيارة تدفع الآفات وتجلب البركات، حيث كان لأحد المؤمنين في الكويت طفل مشلول عمره في حدود السنة، راجع الأطباء لعلاجه حتى وصل إلى مرحلة اليأس والقنوط، وتحيّر ماذا يفعل مع هذا الطفل المشلول، وفي أحد الأيام جاءني هذا الرجل وقال لي: إنني اُعاني من هذه المشكلة (ابني مشلول) فماذا أفعل ؟ قلت له: اقرأ زيارة عاشوراء أربعين يوماً مع مائة لعن ومائة سلام.

إن السلام يمثل التولي، واللعن يمثل التبري، والتولي والتبري واردان في القرآن الكريم، لقد ذهب هذا الرجل إلى أحد العلماء أيضاً وطرح عليه مشكلته المذكورة أعلاه، فنصحه هذا العالم بالشيء نفسه، يحدثنا هذا الرجل ويقول: لقد بدأت بزيارة عاشوراء بعد فقدان الأمل بالوسائل الطبيعية ولم تمض إلاّ عشرون يوماً وإذا بهذا الطفل يقف سليماً معافى على قدميه، وكأنه لم يكن يعاني من أيِّ شيء. وأنا شخصياً رأيت هذا الطفل فيما بعد سليماً معافى.

على كل حال، إنَّ هذه الزيارة فيها بركات كثيرة، وهي مشحونة بالمعارف المتنوعة، ومن جملة فقرات هذه الزيارة العظيمة، هذه الفقرة: (اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة).

ص: 112

أنواع الوجاهة

إنّ الوجاهة نوعان: النوع الأول: الوجاهة التي ترتبط بالمعادلات المادية، فالثري له وجاهةٌ اجتماعية، والرئيس له وجاهة اجتماعية...

النوع الثاني: الوجاهة التي ترتبط بالمعادلات الإلهية، إننا في هذه الفقرة لا نطلب النوع الأول من الوجاهة، ولذلك نقول (اللهم اجعلني عندك وجيهاً...) بمعنى أن هذه الوجاهة وجاهة إلهية، والسبب في ذلك واضح لثلاث نقاط:

محدودية الوجاهة الاجتماعية

النقطة الأولى: إنَّ الوجاهة الاجتماعية محدودة، فهي وجاهة ترتبط بالفاني، وهي المادة، فكل الماديات فانية؛ يقول الله تعالى: (كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)(1) فإذا أخذتم وجاهتكم من فردٍ فانٍ، هذا يعني أن هذه الوجاهة مرتبطة بالفاني فهي فانية، إن الله تعالى يقول: (كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)(2) فإذا كانت وجاهة الإنسان بالمادة أي بالمال أو الذهب أو بالموقع الاجتماعي، فكل هذه الوجاهات فانية، ولذلك دائماً يجب أن يبحث الإنسان عن الوجاهة عند الله سبحانه وتعالى، ولا يبحث عن الوجاهة الاجتماعية المادية. إن إحدى الحكومات التي حكمت في التاريخ وكانت من أقوى الحكومات هي حكومة بني أمية، وفي ذلك الوقت كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض، لكن هل تجدون اليوم لأحدٍ من بني أمية قبراً أو ذِكراً؟

انتهت كل تلك القصور وتلك الوجاهة وذلك المقام، ولا يُعهَدُ لأحدهم قبر، إلاّ واحداً منهم وهو معاويةُ بن يزيد بن معاوية، لأنه ارتبط بالله سبحانه وتعالى... يوجد اليوم أولاد لبني أمية ولديهم أحفاد موجودون في العالم، لكنهم غيّروا ألقابهم، بمعني أن من ينتمي إلى بني أمية يرى أن هذا عار في المجتمع.

ولكن إذا ذهبتم إلى حلب إنشاء الله، اذهبوا إلى مشهد (السقط)(3)، و(السقط)

ص: 113


1- سورة الرحمن: 26.
2- سورة القصص: 88.
3- مكان يقع قرب مدينة حلب، ولما مر جيش يزيد بسبايا الحسين (عليه السلام) ونسائه بهذا المكان كانت زوجة من زوجات الإمام الحسين (عليه السلام) حاملا بولد اسمه محسن فأسقطت ودفن السقط هناك فسمي مشهد السقط انظر (معالي السبطين، للحائري: ج2 ص134).

أحد أولاد الإمام الحسين (عليه السلام) الذي كان حملاً فسقط في الطريق من كربلاء إلى الشام، من قافلة السبايا لسيد الشهداء (عليه السلام) هذا السِقط له مشهد، والمؤمنون يقصدونه للزيارة ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بوسيلة ذلك السقط، وأيضاً مشهد النقطة، حيث يوجد في حلب مشهد آخر يقال له مشهد النقطة، وفيه روحانية عجيبة، وقد ذهبنا إليه وبتنا فيه ليلة؛ حيث سقط في ذلك المكان وعلى تلك الصخرة نقطة من دم سيد الشهداء (صلوات الله عليه) من رأسه الشريف، وإذا بذلك المكان يتحوّل إلى مشهد ومقصد. إذن الوجاهة المادية تنتهي، والثروات تنتهي، والكرامة الاجتماعية تنتهي، ونحن كلنا ننتهي، لكن الشيء الذي يبقى هو ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى، (اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام) لا عند الناس لأن هذا غير مهم.

الحاجة إلى الوساطة

النقطة الثانية: إن الوجاهة عند الله بحاجة إلى أسباب، يعني أننا إذا أردنا أن نكون وجهاء عنده سبحانه (اللهم اجعلني عندك وجيهاً...) فهل نذهب إلى الله مباشرةً أم نحتاج إلى وسيط، إنَّ الوهابيين يقولون: كلا اذهبوا إلى الله مباشرةً، لكن القرآن الكريم يقول: إنكم تحتاجون إلى وسيط فلا تذهبوا إلى الله مباشرةً ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ)(1). ليس هنالك مانع إذا أراد الإنسان أن يدعو الله مباشرةً، لكن لكي يكون دعاؤك مقبولاً ابحث عن وسيط، أذكر لكم ثلاث آيات من القرآن الكريم وهي تقف مقابل منطق الوهابية، فنحن دائماً نبحث عن وسائط مادية حتى في عالم التكوين، طبعاً بعنوان وسائط وليس بعنوان استقلال، فإذا أنتم أردتم الدفء في الشتاء هل تذهبون إلى الله سبحانه وتعالى وتقولون يا الله أعطِنا الدفء، إنَّ الله سيقول: لا أعطيكم، فأنا جعلتُ الشمس مصدراً للدفء وإذا تريدونه فاذهبوا إلى الشمس، بمعنى إنَّ الله تعالى جعل لنا وسائط حتى في عالم التكوين.

ففي الآية الأولى: وهي في سورة يوسف، إنَّ إخوة يوسف (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ) إنَّ يعقوب (عليه السلام) لم يقل اذهبوا

ص: 114


1- سورة المائدة: 35.

إلى الله مباشرةً بل (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ)(1) بمعنى إنهم ذهبوا إلى الله عن طريق وسيط.

إما الآية الثانية: فإن الله تعالى يقول في سورة (المنافقون): (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ)(2).

إن الآية لا تقول: وإذا قيل لهم تعالوا استغفروا الله، بل تعالوا إلى الوسيط.

والآية الثالثة: والتي تنطوي على مفارقة حسبما يذكره بعض العلماء، فيها نقطة دقيقة، حيث تقول هذه الآية: (وَإِذَا جَآءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ) (3)

ربما قرأتم في الأدب العربي (إذا) جملة شرطية، أداة شرط وتفيد الانتفاء عند الانتفاء، (وإذا جاءك) هذا الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) (وَإِذَا جَآءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ) فالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يطلب لمن جاءه السلامة من الآفات، ومن المكاره الدنيوية والأُخروية؛ فكما يرى بعض العلماء: إن هذه جملة شرطية، وتعني أن الإنسان إذا ذهب إلى الله سبحانه وتعالى عن طريق غير النبي (صلى الله عليه وآله) فإن النتيجة غير مضمونة، أو هذا الدعاء غير مضمون. إذن نحن نحتاج إلى الوسيط، وهل هنالك وسيط أقرب إلى الله سبحانه وتعالى من محمدٍ وآل محمد (عليهم السلام) ، ومن أهل البيت (صلوات الله عليهم) فإن الإمام الحسين (عليه السلام) له موقع خاص «كلنا سفن النجاة وسفينة الحسين أسرع»(4).. ولذلك في هذه الفقرة من زيارة عاشوراء نقول: (اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين عليه السلام) أي الوجاهة في الدنيا والوجاهة في الأخرى.

عوامل وجاهة الإنسان عند الله تعالى

أما النقطة الثالثة والأخيرة التي سنختم بها هي: كيف يكون الإمام الحسين

ص: 115


1- سورة يوسف: 97 - 98.
2- سورة (المنافقون): 5.
3- سورة الأنعام: 54.
4- من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام) : ص 38.

(صلوات الله وسلامه عليه) وسيلةً لنا إلى الله؟ إن هذا مرتبط بثلاثة عوامل، فكلما زادت نسبة هذه العوامل، تزيد وجاهتنا أكثر عند الله في الدنيا والآخرة.

العامل الأول: يرتبط بالقلب وهو المودة والمحبة.

العامل الثاني: يرتبط بالعقل وهو الاعتقاد والمعرفة.

العامل الثالث: يرتبط بالعمل، وهذا العامل يتعلق بالتفاني والتضحية.

إن حجم الرابطة مع الإمام الحسين (عليه السلام) ومع أهل البيت (عليهم السلام) مهمة جداً، فكلما تكون الرابطة مع الإمام وأهل البيت (عليهم السلام) أكثر، يكون القرب إلى الله والمقام عند الله أكثر.

إن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) له كثير من الأولاد بنين وبنات، ولكن تجدون بين هؤلاء الأولاد من البنين والبنات - والكلام هنا في البنات - أن هنالك طفلةٌ صغيرة لها مقامٌ متميّز، إنها رقية (عليها السلام) ، فمن ألف وأربعمائة عام وحتى هذا اليوم، كم زاروا قبر السيدة رقية (عليها السلام) في الشام، وإلى يوم القيامة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ إنها طفلة يتراوح عمرها بين الثلاثة أو الأربع أعوام، ويعتقد بعض العلماء إن الله تعالى أعطاها هذا المقام الشامخ لمحبتها وعلاقتها الشديدة بالإمام الحسين (عليه السلام) ، فهل يوجد في التاريخ، وهل رأيتم أن طفلة تموت عند والدها وعلى رأسه وفي محبته، فعندما جاؤوا لها برأس والدها في خربة الشام، بكت وبقيت تبكي حتى ماتت، هذا هو حجم العلاقة وقوتها.

ينقل أن السيد الشريف الرضي(1) (رحمه الله) لم يكن يأتي ليزور كربلاء المقدسة، إنه كان يقول: لا أقدر، بمعنى أن العلاقة والحب إذا صار قوياً جداً، فإن الإنسان بعد ذلك لن يتحمل، ففي كل بقعة من أرض كربلاء ذكرى، فالتل الزينبي فيه ذكريات، وغيره كذلك، لكن الشريف الرضي (رحمه الله) كان يقول: لا أستطيع، وبالنتيجة ألحّوا عليه بالمجيء، حيث كان الشريف الرضي (رحمه الله) في بغداد، فجاء إلى كربلاء وعندما لاحت له تلك القبّة المنورة أخذ يتلو هذه الأبيات التي يقرؤها الخطباء الكرام:

ص: 116


1- هو السيد الشريف الرضي محمد بن حسين الموسوي المتوفى سنة 406 ه، وهو الذي جمع نهج البلاغة، وله كذلك ( حقائق التنزيل ودقائق التاويل ) وهو من الشخصيات الشهيرة في العلم والأدب.

كربلا ما زلت كرباً وبلا *** ما لقي عندك آل المصطفى

وذهب إلى القبر الشريف واحتضنه ولم يرفع رأسه، حتى مات هناك، هذا ما يحدث من شدة الحب وشدة العلاقة، فالسيدة رقية (صلوات الله عليها) كانت تحمل لأبيها هذا الحب وهذه العلاقة الشديدة، إن الله تعالى أعطاها في هذه الدنيا هذه الوجاهة المعنوية ومقامها مزار الملايين، ولابد أن نذهب في الآخرة ونرى مقام السيدة رقية (عليها السلام) هناك. أما السيدة زينب (صلوات الله عليها) صاحبة كل هذا الشموخ وهذه العظمة في الدنيا ناهيك عن الآخرة، فإن علاقتها بسيد الشهداء (عليه السلام) لا توصف، حيث يُقال بأنها اشترطت على عبد الله بن جعفر (رحمه الله) في زواجها أن لا تنفصل عن سيد الشهداء (عليه السلام) وتكون بقربه دائماً، وأن لا يمنعها من ذلك. كذلك أبو الفضل العباس (عليه السلام) وإخوته وكلهم لهم مقام عظيم، ولكن مقام العباس (عليه السلام) أعظم وحتى قبره الشريف، حيث تشاهدون له قبراً مستقلاً، إن الشهداء (عليهم السلام) كلهم في مكان تقريباً، ولكن العباس (عليه السلام) له مشهدٌ مستقل، لعقيدته ولعلاقته الشديدة بالإمام الحسين (عليه السلام) ، نعم... كلهم كانت عندهم علاقة وكلهم لديهم حب ولكن حب العباس (عليه السلام) كان في القمة بل في قمة القمم، إنها العقيدة والمعرفة، حيث كلما نزيد من معرفتنا بالحسين (عليه السلام) وبالمعصومين (صلوات الله عليهم) ستكون مؤثرة بالمودة والمحبة والتفاني والتضحية.

رأى أحدهم في المنام قصراً عظيماً للشيخ الأنصاري (رحمه الله) وقصراً أعظم للدربندي (رحمه الله) (1)، فتعجب وتساءل لماذا قصر الدربندي أعظم من قصر الشيخ الانصاري مع أن له كل هذا المقام وهذه العظمة؟ فقالوا له، بما هو مضمون القضية: إن قصر الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أعطي له بكدّ اليمين وعرق الجبين، أما قصر الدربندي (رحمه الله) فهو عطاء الحسين (صلوات الله عليه).

مظاهر العلاقة مع الإمام الحسين (عليه السلام)

يجب علينا أن نقوّي علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وبالإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 117


1- هو آقا بن عابد بن رمضان بن زاهد الشيرواني الحائري الدربندي، فقيه إمامي ولد في دربند بايران، وأقام في كربلاء المقدسة ثم استقر في طهران وتوفي فيها سنة 1258 ه- وحمل إلى كربلاء ودفن فيها.

خصوصاً، فما هو مظهر هذه العلاقة؟

إن أحد مظاهرها هو أن نقرأ (زيارة عاشوراء) كل يوم، قال لي أحد الأخوة في الكويت: إن أمي لم تترك زيارة عاشوراء ثلاثين عاماً.

وتوجد هنالك إحدى المؤمنات في قم تقرأ زيارة عاشوراء مرتين كل يوم، فقيل لها لماذا ؟ قالت: أنا بدأت بزيارة عاشوراء منذ أن أصبح عمري عشرين عاماً ولذلك أقرأ زيارتين في كل يوم حتى يعادل عدد الزيارات أيام عمري، فالمرأة التي تصنع هكذا والمرأة التي لا تقرأ زيارة عاشوراء، هل هما سيّان عند الله؟ قطعاً كلا، فإذا تمكنتم من قراءة زيارة عاشوراء كل يوم، اقرؤوها ولاحظوا بركاتها، وإذا لا نتمكن من ذلك، فعلى الأقل في ليالي الجمعة، نقرأها مرة واحدة في كل أسبوع.

ربما يحاول بعض الشباب أن يصبح يوماً مّا خطيباً في خدمة سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهذا جيد وإن لم يتمكن الإنسان بنفسه أن يكون خطيباً لأهل البيت (صلوات الله عليهم) فبإمكانه أن يربي أحد أولاده لذلك، بإمكان الآباء والأمهات تشجيع الشباب والأولاد لكي يكونوا خطباء في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ففي هذا الفعل بركة، وسيكون هؤلاء الأفراد مفخرة لعوائلهم.

وهناك نوعٌ ثانٍ من الخدمة، فشخصٌ يتمكن أن يكتب كتاباً، وآخر يتمكن أن يطبع كتاباً حول أهل البيت (عليهم السلام) وحول سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، وثالث يتمكن أن يقيم مجلساً في بيته لسيد الشهداء (عليه السلام) ، لقد نَقَلتُ لبعض الأخوة، عندنا عائلة نعرفها، هؤلاء عندهم كل يوم في بيتهم مجلس حسيني دورة العام، كل يوم في بيت واحد منهم، لقد رأيت شباب هذه العائلة، فالذين عرفتهم كلهم متديّنون، إن الطفل الذي ينشأ في أجواء سيد الشهداء (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) طبعاً سيكون متديّنا، فشبابهم الذين رأيتهم متدينون كلهم.

إن الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام) والتقرب إليهم وخدمتهم والتضحية والتفاني في سبيلهم، هذه كلها فيها بركات دنيوية وبركات أخروية.

قال لي أحد علماء الدين قبل فترة كلمة جميلة - لعل عمره سبعون عاماً أو أكثر - قال لي: لقد قررت أن أُوقِفَ ما تبقى من حياتي وقفاً لأهل البيت (عليهم السلام) ، كم بقي من

ص: 118

عمري عشرة أعوام.. أقل أو أكثر، فقد قررت أن أجعلها وقفاً على أهل البيت (عليهم السلام) ونحن أيضا علينا أن نقف حياتنا بقدر الإمكان على أهل البيت (عليهم السلام) وفي خدمتهم، إن في هذه وجاهة عند الله سبحانه وتعالى في الدنيا، والأهم من ذلك أن فيها وجاهة عند الله تعالى في الآخرة.

هنالك رجل بعيد خارج على إمام زمانه، كان ينبغي حسب الظواهر أن يكون مخلّداً في نار جهنم، ولكن هذا الرجل ارتبط بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في لحظات، وإذا به يتحوّل إلى رجل نحن جميعاً نذهب إلى قبره ونقول له: بأبي أنت وأمي، إنه الحر(1)، إن على الشباب أن يتأمّلوا قليلاً هذا الرجل الذي ربما كان مكتوباً عليه أن يكون مخلّداً في نار جهنم، لكن علاقة - خلال لحظات أو دقائق - بسيد الشهداء (عليه السلام) رفعته من ذلك الحضيض إلى مقام (بأبي أنت وأمي...).

هناك رجل في الكويت كان حارساً ليليّاً، وهي مهنة عادية متواضعة، في أحد الأيام حصل على قطعة أرض، فماذا صنع؟ نحن إذا نحصل على قطعة أرض نفكر في الدنيا الفانية، ولكن هذا الحارس الليلي فكّر في الآخرة الباقية، فأخذ هذه القطعة من الأرض وأوقفها حسينية، وإذا ذهبتم الآن إلى الكويت ستجدون هذه الحسينية وهي حسينية (جومدار)، إن الكل ذهبوا وانتهوا.. ولكن هذه الحسينية باقية.

وكانت هنالك فتاة ورثت من أمها أرضاً، وهنالك الكثيرات فكّرن في الدنيا ولكن هذه الفتاة فكرت في الآخرة، فوقفت تلك الأرض حسينيةً، اعتقد حدثت هذا القضية قبل ثمانين عاماً أو أكثر، وإذا ذهبتم الآن إلى الكويت ستجدون أن هذه الحسينية باقية وإن تلك الفتاة خُلدت في هذه الدنيا وليس في الآخرة فقط، فينبغي علينا أن نحاول الحصول على هذه التوفيقات.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لذلك، وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.

ص: 119


1- هو الحر بن يزيد الرباحي اليربوعي التميمي، كان أحد قادة الجيش الأموي ويقود ربع تميم وهمدان فيه، لكنه التحق بركب الحسين (عليه السلام) وقاتل وقُتل معه.

الفصل الرابع : إحياء الشعائر الحسينية

اشارة

· لماذا إحياء الشعائر الحسينية في عاشوراء؟

· معنى ومفهوم شعائر الله تعالى

· تعظيم الشعائر الحسينية من تقوى القلوب

· تعظيم الشعائر الحسينية انتصار للإمام الحسين (عليه السلام)

· أبعاد إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)

ص: 120

1

لماذا إحياء الشعائر الحسينية في عاشوراء؟

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما يكون شهر محرم على الأبواب، يبدأ المؤمنون في كل مكان بالإعداد لهذا الشهر الكريم، وينبغي علينا في كل عام جديد أن نهتم أكثر فأكثر بهذا الشهر وبعزاء سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).

لهذا الاهتمام درجات ومراتب، وإحدى هذه المراتب أن يُشارك الشخص في عزاء سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، ومرتبة أخرى أن يقيم الشخص بنفسه في بيته أو في حسينيته، عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهنالك مرتبة رفيعة من هذه المراتب تتمثل بما وجدتموه لدى كثير من المؤمنين الذين بذلوا ويبذلون أرواحهم وهي أغلى ما يملكون في سبيل سيد الشهداء (عليه السلام) ، كما حصل جراء التفجيرات المؤلمة التي حدثت في العراق وقُتل فيها كثير من المؤمنين.

كان هنالك أحد المؤمنين قد ذهب إلى كربلاء المقدسة ثم عاد منها إلى قم، فأخذ يتحدث ويقول: إنني مُتألّمٌ جداً لأنني لم أنل توفيق الشهادة في هذه التفجيرات(1). وكان يبكي عندما ينقل هذه القضية للآخرين، إذن هذه التضحية تمثل مرتبة عليا، فهنالك أفراد يُضَحُّون بأرواحهم وبكل ما يملكون في سبيل الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

هذه المراتب الحاصلة في الدنيا تترتب عليها درجات في الآخرة، لذلك ينبغي علينا أن نهتم بإحياء هذه القضية - قضية الإمام الحسين (عليه السلام) - في كل عام جديد أكثر فأكثر، وهنالك عوامل تدعونا لهذا الاهتمام نذكر منها ثلاثةً على نحو الاختصار:

1. التحدي الحضاري

العامل الأول: نحن المؤمنين بلا استثناء دخلنا اليوم في معركة تَحَدٍّ حضاريٍّ كبيرٍ،

ص: 121


1- إشارة إلى موجة الأعمال الارهابية الطائفية التي اجتاحت العراق بعد سقوط نظام البعث واستهدفت اتباع أهل البيت (عليهم السلام) في العراق، وفي كربلاء بصورة خاصة يوم عاشوراء.

وجوهر هذا التَّحدّي الحضاريّ بأن نحفظ هويتنا أو نفقدها، فهنالك الآن جهات كثيرة في العالم تحاول أن تجرّدنا من هويتنا، والتجريد من الهوية يعني أن الشاب أو الفتاة تنفصل نفسياً وفكرياً وروحياً عن تاريخها وعن قادتها وعن مُثلها وعن رموزها، فالأمة التي لا تملك تاريخاً كالفرد الذي لا يملك ذاكرة، لا أدري إذا كنتم قد لاحظتم أفراداً فقدوا ذاكرتهم أم لا؟

واليوم عندما نتحرك في الحياة ونقوم ببعض الأعمال، إنما نعتمد في ذلك على مخزون كبير من تاريخنا وهو الذي يوّجه حركتنا في الحياة، فإذا فقد الفرد ذاكرته - وهو مرض موجود ومعروف يقال له الزهايمر - سيبدأ بنسيان معلوماته شيئاً فشيئاً، ويعيش حالة الغربة عن الأفراد الذين يحيطون به، ولن يعرفهم حتى لو كانوا أصدقاءه، ثم يشتد هذا المرض تدريجيّاً، فلا يعرف أقرباءه أيضاً، فحين يدخل عليه ابنه ويُحيّيه ينظر إليه كأنه رجل غريب، ويشتد المرض أكثر فأكثر فلا يستطيع أن يقوم حتى بأوليات حياته، بمعنى إذا كان يريد أن يلبس ملابسه لا يقدر على ذلك، وإذا أراد أن يأكل يتحيّر كيف يأكل؟! لأن مرضه هذا آخذ بالتطور انتشاراً.

كذلك الأمة التي لا تاريخ لها تكون مثل فرد من دون ذاكرة، وتوجد هنالك جهات تحاول اليوم أن تفصلنا عن تاريخنا، فالشاب الذي انفصل عن التأريخ، والفتاة التي انفصلت عن التأريخ، يعني أنهما لن يعرفا كيف يسيران في الحياة، ربما تجدون أحياناً أفراداً في الشوارع أو على الأرصفة قد فقدوا تأريخهم!

إن هذا الخطر لازال قائماً وماثلاً، فقد كان الذين يذهبون قديماً إلى بلاد الغرب يواجهون هذا الخطر هناك، أما أولادنا وبناتنا الآن فيواجهون هذا الخطر في بيوتنا كأنهم مثل شجرة تُجتثّ من فوق الأرض وما لها من قرار (1).

كيف نحفظ هويتنا؟

يجب علينا أن نربط أجيالنا بتأريخنا، لأنَّ التأريخ مهمٌ جدّاً، وأحد أهم الأشياء هو أن نربط أجيالنا - الأولاد والبنات وحتى الصغار منهم - بالنبي الأعظم (صلى الله عليه

ص: 122


1- اقتباس من سورة إبراهيم: 26.

وآله) وبأهل البيت (عليهم السلام) وبالإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فكثير من الأفراد سافروا إلى بلاد الغرب وعاشوا في ذلك الخضمّ الذي تعرفونه، لكن الذين عاشوا عاشوراء في قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم، تمكنوا من أن يحفظوا هويتهم.

نقل لي أحدُ الأخوة المُطّلعين حول هذا الموضوع: بأنَّ علماءَ الغرب يقومون حاليّاً بدراسات كبيرة ودقيقة جدّاً حول التشيُّع، لكي يعرفوه جيّداً ويعرفوا من هم الشيعة؟ وقال: إنه نُشرت مقالة لأحد المفكرين الغربيين يتحدث فيها حول الجاليات التي جاءت إلى بلدان الغرب حيث ذاب وانتهى كثير منها في ذلك المحيط، ويضيف هذا المفكر الغربي: ولكن وجدنا هنالك أمة واحدة تستعصي عليها عمليات التذويب وتقاوم بقوة وهم شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) - ربما فقد بعض الأفراد هويتهم، ولكن كأمة عموماً حفظوا هذه الهوية - ثم يسأل هذا المفكر الغربي: كيف حافظ هؤلاء الشيعة على هويتهم وكيانهم وأصالتهم؟ فيجيب: يقف وراء ذلك عاملان:

العامل الأول: هو الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وهو عامل مهم جداً، فقد عمل البعثيون في العراق خمسة وثلاثين عاماً(1) ودمروا وفعلوا الكثير بما يحتاج تدوينه إلى آلاف المجلدات لكي يعرف الإنسان ماذا فعلوا، ولكن على الرغم من ذلك حافظ المؤمنون في العراق على دينهم وإيمانهم، لذلك فإن قضيةَ عاشوراء والارتباط بها تعد من العوامل المهمة في هذا المجال.

العامل الثاني: المرجعية الدينية عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث إن هذا الانشداد والارتباط والاعتقاد والإيمان الروحي بهذه المرجعية هو الذي حفظ هذه الأمة، لذلك في الواقع يجب أن نبقي هذا الارتباط بالتاريخ وبالإمام الحسين (صلوات الله عليه) على أقوى ما يكون، حتى عند أطفالنا الصغار.

يوجد في مدينة قم المقدسة موكب مبتكر، وهنالك مواكب كثيرة في هذه المدينة، لكن هذا الموكب الخاص بالأطفال الرُضّع، لعله يكون مُبتكراً، فالكبار يحملون أطفالاً

ص: 123


1- ابتدأ حكم البعثيين من 17 تموز عام 1968 م وانتهى في 9 نيسان 2003 م، وخلال هذه المدة اعتدوا على العباد والبلاد لاسيما كل ما يتصل بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) من علوم وثقافة ومراسيم ومساجد وحسينيات ومدارس وحوزات علمية ومؤسسات ثقافية، وعلماء وفقهاء ومراجع ومفكرين وتجار و...

رُضعاً في مسيرة تحمل اسم (موكب علي الأصغر) (صلوات الله عليه) ويسيرون في الشوارع فحتى الطفل الذي عمره عشرة أيام سيرتبط روحياً بعلي الأصغر (عليه السلام) وبسيد الشهداء (عليه السلام) .

أحد الأخوة عنده طفل صغير عمره عام أو أقل، وكان كلما يُسقيه الماء يقول له: قُل: يا حسين، ويسقيه، حتى يرتبط هذا الطفل الصغير شيئاً فشيئاً بعلي الأكبر (عليه السلام) ، وإذا أصبح شابّاً وهو مرتبط بعلي الأكبر (عليه السلام) فبعد ذلك لا يخون هذا الشاب ولا ينحرف، كذلك الشيخ الذي ارتبط بحبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه)، إننا والحمد لله نملك نماذج مشرقة عظيمة في قضية كربلاء، فعندنا نموذج الشباب وهو علي الأكبر (عليه السلام) ، وعندنا نموذج الشيوخ وهو حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه)، وعندنا نموذج الأخت المُجاهدة وهي زينب الكبرى (صلوات الله عليها)، وعندنا نموذج الأخ الوفيِّ وهو أبو الفضل العباس (صلوات الله عليه) و... غيرهم. فإذا اضطر الآخرون أن يخترعوا نماذج، فنحن لا نحتاج لذلك، لأن تأريخنا والحمد لله مليء بهذه النماذج المشرقة.

2. عاشوراء طريق النجاة

العامل الثاني: إنَّ الاهتمام بقضية عاشوراء وسيد الشهداء (صلوات الله عليه) سببٌ لنجاتنا بإذن الله في الدنيا والآخرة، حيث كان المرجع الشيخ عبد الكريم الحائري(1) (رحمة الله عليه) الذي أسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، في كل يوم وقبل أن يبدأ بإلقاء البحث العلمي على طلابه، يدعو الخطيب لقراءة المصيبة على الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) . وبعد الانتهاء من المصيبة يبدأ ببحثه العلمي. وكان (رحمه الله) يخرج في يوم عاشوراء أو في ليلة عاشوراء مع المواكب، مع أنهُ كان المرجع الأعلى في حياته، وكان يخرج في المواكب مع الأطفال العاديين ويلطم على صدره وعلى رأسه، قال له البعض: شيخنا هذا وضع لا يناسبك كمرجع. فقال: إن كل ما عندي إنما هو ببركة الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

ص: 124


1- آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ( 1276 – 1355 ه- ) مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة.

وهنالك قضيتان للشيخ عبد الكريم (رحمه الله) إحداهما:

إنه أوشك على الموت في قضية مطوّلة، حيث جاءه ملك الموت وقد رأى الشيخ ملك الموت وأعوانه جاؤوا لقبض روحه، وقد كان في حينها في مدينة كربلاء، فتوجه إلى سيد الشهداء (صلوات الله عليه) وقال: يجب أن نموت جميعاً في أحد الأيام، ولكني اليوم ليس عندي شيء من الأعمال، فكيف أفِدُ إلى ربي بيد خالية. ثم توسّل الشيخ بسيد الشهداء (عليه السلام) وإذا بالملائكة يرجعون من حيث أتوا، وكان الشيخ الحائري (رحمه الله) يقول لابنه: إن كل ما عندي من البركات والتوفيقات في حياتي إنما هي من عطاء سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

أما العلامة الأميني(1) (رحمة الله عليه) فينقل في مؤلَّفه (الغدير)، ويقول: رأيت والدي بعد وفاته في هيئة جيدة ومقام جيد فقلت له: يا أبتاه ؛ كيف وصلت إلى هذا المقام؟. فقال: وصلت إلى هذا المقام ببركة زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه). قلت له: إن العلاقات متوترة حالياً بين إيران والعراق - والقضية حدثت قبل حوالي ثلاثين عاماً - فإنا لا نتمكن من أن نزور سيد الشهداء (عليه السلام) فماذا نفعل؟ قال: عليكم بإقامة مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) .

نعم قال الشيخ لابنه: إذا لم تتمكنوا من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) أقيموا مجالس العزاء واشتركوا فيها، وعندما تذهبون إلى هذه المجالس خذوا أطفالكم معكم.

وبعد تنفيذه وصية والده، أوصى العلامة الأمينيّ ولدَه : كنت في أيام حياتي أوصيك بقراءة زيارة عاشوراء كثيراً، والآن أؤكد عليك بعد رحيلي أن تداوم على زيارة عاشوراء، فإنَّ فيها النجاة في الدنيا والآخرة، ويقول ابنه: بأنه اليوم متواصل في قراءة زيارة عاشوراء منذ ثلاثين عاماً.

كان هنالك لأحد المؤمنين الشباب في الكويت وهو معروف بالتديّن طفلاً مشلولاً عمرُه عام، وقد ذكر لأحد العلماء بأنه يعاني من هذه القضية، فقال له العالم: اقرأ زيارة عاشوراء أربعين يوماً - مع السلام مائة مرة واللعن مائة مرة كما ورد في الزيارة -

ص: 125


1- العلامة الشيخ عبد الحسين التبريزي الاميني (رحمه الله) صاحب موسوعة (الغدير) ( 1320 – 1390 ه).

يقول هذا الشاب المؤمن: بدأتُ بقراءة هذه الزيارة في وقت واحد ومكان واحد، وإذا بطفلي في اليوم العشرين يقوم سليماً معافىً وكأنه لم يكن يعاني من شيء.

صناعة العقلية

إن الإنسان إذا أقام مجلساً في بيته سيجد فيه بركات كثيرة، أتدرون أن أطفالنا يعيشون اليوم عقلية الأفلام، فهي التي توجّه وتصنع عقليتهم، لكن إذا اُقيم مجلس حسينيّ في بيتكم هذا المجلس سيصنع عقلية الطفل.

وقد نُشر تقرير علمي جديد حول هذا الموضوع، وهو خطر يجب أن يتنبّه له الآباء والأمهات، فهنالك الكثير من الألعاب الموجودة والمتداولة بين الأطفال تحتوي على مشاهد عنف، وجاء في التقرير العلمي المذكور، إنه توجد هنالك في المخ منطقة حساسة تجاه العنف، بمعنى أنَّ الطفل عندما يرى منظراً عنيفاً في الخارج، كأن يضرب شخص شخصاً آخر، فيبدي المخ حساسية تجاه هذا المنظر بالفطرة، ويكره ذلك ويتأثر وينفعل وينزعج، يذكر هذا التقرير بأن الأطفال الذين اُجريت عليهم التجارب ممن يشاهدون الأفلام والبرامج التي تحتوي على العنف ستقلّ حساسيتهم تجاهه، لأن الطفل الذي يرى المظاهر العنيفة في هذه الأفلام مئات المرات، سوف لا يبدي حساسية تجاه العنف، فإذا مر على منظر ما ورأى شخصاً يُقتل يصبح عنده منظراً عاديّاً، ولا يُبدي ردَّ فعلٍ نفسيّ تجاه ذلك، بعكس ذلك إذا كان الطفل رضيعاً، أي عمره عامان أو ثلاثة وينشأ في بيت يسمع فيه الخطيب الحسيني والمواعظ الدينية ويشترك في تقديم الطعام للحاضرين، فسوف تُنظَّم عقليته على هذا النحو.

إن الاهتمام بقضايا سيد الشهداء (عليه السلام) يحفظ لنا هويتنا أولاً؛ لأن هذه المعركة الكبيرة يعيشها المؤمنون اليوم في كل مكان، وثانياً إن شاء الله تكون هذه الأعمال سبباً لنجاتنا في الدنيا والآخرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 126

2

معنى ومفهوم شعائر الله تعالى

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(1) . صدق الله العلي العظيم.

يدور حديثنا حول الشعائر الإلهية ويشتمل البحث على محورين:

المحور الأول: معنى ومفهوم كلمة الشعائر

إن ما يظهر من كتابات وكلمات بعض العلماء، هو أن (الشعائر) تمثّل العلامات التي تقودنا إلى الله تعالى، ولذلك يُطلق عليها: شعائر الله.

لكن هذا التعريف الذي ذكره بعض العلماء يحتاج إلى وقفة، مفادها أن جميع الأشياء الموجودة في هذا الكون من نبات وحيوان وشجر وحجر وإنسان، تقودنا إلى الله تعالى، حيث يقول الشاعر:

وفي كل شيء له آيةٌ *** تدلُّ على أنَّه واحدُ(2)

بمعنى أن كل شيء يعتبر آية من آيات الله تعالى وعلامةً من علائمه سبحانه، ودليلاً من الأدلة الدالة على الله عزوجل، ونقرأ في دعاء عرفة للإمام الحسين (صلوات الله عليه) حين يخاطب ربّه فيقول: (عميت عين لا تراك…) (3).

إن كل شيء آية تدل على وجود الله سبحانه وتعالى، حتى ورقة الشجر هي آية من آياته تعالى، لكنها لا تدل على وجوده سبحانه فقط - لندقق في هذه الجملة - وإنما تدل على وجوده وعلى علمه وقدرته وحكمته وإحاطته ووحدانيته تعالى، لذلك جاء في القرآن الكريم (إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (4)، فالعالِم هو الذي ينتقل

ص: 127


1- سورة الحج: 32.
2- من الأشعار المنسوبة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
3- مقطع من دعاء عرفة، للإمام الحسين (عليه السلام).
4- سورة فاطر: 28.

من هذه الكائنات إلى الله تعالى وإلى حكمته وعلمه وقدرته وإحاطته وقيوميته سبحانه.

إن دعاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في يوم عرفة مليء بالمعارف وكله معرفة: (عميت عين لا تراك)، لذلك فالعين التي لا ترى الله تعالى مع كل هذه الآيات الموجودة تُعدُّ عيناً عمياء، ولكي يدّعي شخص ويقول بأن الله غير موجود (والعياذ بالله) فهذا يحتاج إلى عمى العين والبصيرة معاً. إذن جميع الأشياء والكائنات والموجودات تقودنا إلى الله تعالى، ولكنَّ هنالك فرقاً، فهنالك أشياء تدلنا على الله تعالى، وهنالك أشياء أخر متمحضة في الدلالة على الله.

فالنوع الأول: هو ما يدلنا على الله، أما النوع الثاني: - وكلامنا يخص هذا النوع - فهو ما يكون متمحضاً في الدلالة على الله، بمعنى أن ورقة الشجر فيها أبعاد أحدها هو بُعد الدلالة على الله تعالى، ولكن هنالك أشياء متمحضة في الدلالة على الله، بمعنى أنها بكاملها تدل على الله تعالى، فظاهرها دلالة عليه سبحانه، وكذلك باطنها وجوهرها وشكلها دلالة عليه تعالى، أي أن كيانها كله هو كيان دلالي يدلّك على الله سبحانه.

إن النوع الثاني هو من الأنواع التي تتعلق بالأشياء المتمحضة في الدلالة على الله تعالى، وهي التي يقال لها: (شعائر الله) تعالى، فليس كل علامة فيها تقودك بمفردها إلى الله سبحانه بل كيانها وواقعها وحقيقتها مجتمعة تمثل الدلالة المذكورة.

مثال على ذلك المسجد، فإنه من شعائر الله: (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) فما هو المسجد؟ إن واقعه وهيئته وشكله يدلّك ويقودك إلى الله تعالى، فحين تذهب إلى أحد البلدان سترى أشياء كثيرة، حيث توجد بنايات وعمارات ومصانع وإذا بك تشاهد مسجداً، فعلى ماذا يدلك هذا المسجد؟ إنه يدلك على الله تعالى، إذن هو شعيرة من شعائر الله، فالمآذن والأذان شعيرة من شعائر الله تعالى، ولكن ما هو الأذان؟ إنه وسيلة من الوسائل التي تدلنا على الله تعالى.

إننا نعيش هذه الشعائر مثل السمكة التي تعيش في الماء، فهي لا تشعر بقيمته حتى يخرجونها منه، لذلك فإن هذه المساجد والحسينيات والمآذن والأذان والمجالس الحسينية نعمة لا نشعر بقيمتها، إلا حين نفقدها.

كان أحد الغربيين يعيش في بعض البلاد الإسلامية، وقد كتب هذا الرجل الغربي

ص: 128

مذكراته في كتاب له ذكر فيه : حين عشت في ذلك البلد الإسلامي كنت أوقت الساعة قبل أذان الفجر وأستيقظ من نومي ثم أفتح النوافذ منتظراً أذان الفجر، ولكن لماذا كان يفعل ذلك؟ يقول: إن هذا يشرح لي روحي فأشعر أنني انتقلت إلى عالم آخر.

لا أدري إذا كان الشباب يسمعون أذان الفجر أو لا؟ فعندما يسمع الإنسان الأذان في ظلام الليل وفي ذلك الهدوء سيتحرك نشاطه الباطني، حيث تؤثر كلمات الأذان في روحه وتقوده إلى عالم آخر. إن النظر إلى الكعبة عبادة، لأن الكعبة شعيرة من شعائر الله تعالى، فتقودنا إليه سبحانه، كذلك أرض عرفات شعيرة من شعائر الله تعالى، وكذلك أرض المشعر، إن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الأشياء: (إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ) (1) فهي علامات تقودنا إلى الله تعالى.

إذن (الشعائر) هي جميع العلامات التي تقودنا إلى الله تعالى، وهي العلامات المتحمضة أو شبه المتمحضة في الدلالة على وجود الله.

شعائر الله تقودك إلى الله

المحور الثاني: وهو محور مهم يتعلق بالاشكالات التي تُثار حول بعض الشعائر الإلهية من قبل الذين ربما لا يعرفونها، فهل يشترط في كون شيء مّا شعيرة من شعائر الله أن يكون هذا في عهد المشرّع؟ بمعنى لو افترضنا أن الشيء الذي يقودنا إلى الله تعالى لم يكن موجوداً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا في عهد الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، بل وُجد قبل مائتَي أو ثلاثمائة عام، فهل يمكن أن يقول أحدهم بأنّ هذا الشيء لم يكن موجوداً في عهد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ إذن نرفضه ولا نقبله؟!

نختصر الجواب عن ذلك، لأن هذا يحتاج إلى بحث مطول، حيث بحث علماء الأصول في هذا المبحث، ومنهم المحقق النائيني (2) (رحمة الله عليه) وهو أستاذ الفقهاء المعاصرين أو كثير منهم أو شيخ مشايخهم، فالقضايا الشرعية عادةً ما تساق على نحو القضية الحقيقية وليس على نحو القضية الخارجية.

ص: 129


1- سورة البقرة: 158.
2- آية الله العظمى الشيخ محمد حسين بن الشيخ عبد الرحيم النائيني النجفي (1273 - 1355ه).

ولكن ماذا تعني القضية الحقيقة؟ إنها تعني المفهوم، فهل لهذا المفهوم أفراد محددون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بمعنى هل يختص هذا المفهوم بأولئك الأفراد الذين كانوا موجودين في عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقط؟

كلا؛ لأن طبيعة القضية الحقيقية تستوعب جميع الأزمنة والأمكنة، وجميع الأفراد لهم الحق في التعبير عنها، لأنها محققة الوجود ومقدرة الوجود أيضاً.

بمعنى: حتى إذا كان إنسانٌ ما ليس موجوداً في زمن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ووُجد بعد ألف أو ألفي عام أو أكثر، فذلك المفهوم الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) أو الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم سينطبق على ذلك الفرد(1)، فلا يشترط لشيء أن يكون موجوداً في عهد النبي (صلوات الله عليه) أو في عهد الأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم) لكي ينطبق عليه مفهوم الشعائر.

سأقدّم مثالاً - كما جاء في الحديث الشريف - ثم أنتقل إلى شعائر الله تعالى: (من أحبّ أن لا يُظلَم لَحْدُه فلينور المساجد) (2) بمعنى أن قبره أو لحده يكون مضيئاً ولا يكون مظلماً، إذن في إنارة المساجد ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، لكن كيف كانت الإنارة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ هل كانت بالمصابيح الزيتية مثلاً أو النفطية أو ما أشبه؟ وهل يشمل هذا الحديث فقط ذلك الفرد الذي أنار المسجد بالمصابيح الزيتية؟ بمعنى إذا أضاء المؤمن في الوقت الحالي المساجد بالمصابيح الكهربائية غير مشمول بهذا الحديث؟ وهل يُقال له يجب أن تأتي بمصباح زيتي أو نفطي حتى يشملك هذا الحديث؟ وإذا جلبت مصباحاً كهربائياً لإنارة المسجد فالحديث النبوي الشريف لا يشملك، هل هذا منطق؟! وهل يقبله عالم أو فقيه؟

إن القضية الحقيقية لا تقبل مثل هذا المنطق، فقد تُلغى كل هذه المصابيح الموجودة الآن بعد ألف عام ولم يعد لها أي وجود، وتكون الإنارة بشكل آخر أو وسائل

ص: 130


1- فمثلا: إذا أوصى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالجار على نحو القضية الحقيقية، فهذا لا يختص بالجار الذي كان موجوداً في عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بل يشمل حتى الجار في زماننا هذا، فإنه جار ينطبق عليه الكلي وتشمله القضية الحقيقية.
2- مستدرك الوسائل: ج3 ص385.

أخرى، فهل الحديث الشريف لايشمل وسائل الانارة المستجدة؟ إن هذا ليس منطقاً مقبولاً، وهكذا (شعائر الله) تعالى لا يمكن أن يُقال إنها بدعة لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)...

إن أي شعيرة من شعائر الله تعالى تقودك إلى الله سبحانه وتعالى، وأي شيء ما عدا المحرمات - اتركوا المحرمات - أقصد أي شي خارج نطاق المحرمات يقودنا إلى الله تعالى، هو مشمول بهذه الآية: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).

هل كانت المدارس الدينية موجودة في عهد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهؤلاء الذين يفتحونها هل كانوا موجودين في عهد النبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟ كلا، وهل كان الدارسون يجلسون بحلقات في المساجد؟ وهل كان يوجد أستاذ أو معلم وكتّاب يُدرسّون أطفالاً ؟ كلا لم تكن هذه الأمور موجودة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)؛ إذن هل يمكن أن نقول بأن المدارس الدينية غير مشمولة بهذه الآية الكريمة؟ فهل هذا منطق مقبول؟

ولكن لماذا لا يقبلون بتطبيق هذا المنطق على المدارس الدينية؟ ولا يحكمون هذا المنطق في هذه المواقع، ويحكمونه في مواقع ثانية؟ إن هذا ليس منطقاً. فشعائر الله تعالى: هي كل شيء يقودنا ويذكرنا ويدلنا عليه سبحانه؛ وتعظيمها دليل على تقوى القلوب، فالإنسان المتقي يعظم الله ويعظم كل شيء يرتبط بالله سبحانه وتعالى.

وعندما نكون على أعتاب شهر محرم الحرام، أو على أعتاب عام جديد حيث يمضي عام ثان وثالث ورابع وإذا بنا ننتهي، فالذين كانوا أطفالاً أصبحوا الآن شباباً، والذين كانوا شباباً أصبحوا شيوخاً طاعنين في السن، ولكن ماذا بعد الشيخوخة؟ كنا نقرأ في الكتب الأدبية: (يا قوم قد حَوقَلتُ أو دنوتُ وبعد حيقال الرجال موت)(1) .

الشعائر الحسينية شعائر الله

إن الشعائر الحسينية هي جزء من شعائر الله تعالى، أو يمكن أن نعبر عنها ونقول: بأنها من أهم شعائر الله تعالى، فليس للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجود غير ما يدل على وجود الله تعالى، ولا هو بمعزل عن دينه سبحانه، لقد فدى الإمام (صلوات الله

ص: 131


1- من شعر للأصمعي.

وسلامه عليه) نفسه وكيانه وكل ما يملك لله سبحانه وتعالى، وقال بلسان حاله:

(إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي فيا سيوف خذيني) (1).

ويقول الشاعر: (هذي رجالي في رضاك ذبائح ما بين منحور وبين طعينِ)(2).

وفي موقع آخر: (أعطى الذي ملكت يداه إلهه حتّى الجنين فداه كُلُّ جنينِ)(3).

بمعنى أن الإمام (عليه السلام) أعطى كل ما كان في يده أو عنده حتى الجنين، أعطاه لله سبحانه وتعالى (حتى الجنين فداه كلُّ جنين)، لذلك ليس للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجود منفصل عن دين الله تعالى، وإن تعظيم شعائره ومجالسه (عليه السلام) هو في الواقع تعظيم لشعائر الله سبحانه وتعالى، لذلك ينبغي على الإنسان أن يحاول بالمقدار الذي يتمكن منه أن لا يحرم نفسه من هذا الفيض العظيم في الأيام المباركة لشهر محرم الحرام.

الشعائر الحسينية سبب لغفران الله

نختم موضوعنا بالحديث عن بعض الأفراد الذين وفّقوا لخدمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ونالتهم عناية أهل البيت (عليهم السلام) ، وأحد هؤلاء الأفراد، الرجل المعروف ولعلّكم جميعاً سمعتم به وهو الفرزدق، صاحب القصيدة التي اختلف عليها المؤرخون:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ (4)

فقد اختلف المؤرخون في من قيلت هذه القصيدة، بعضهم يعتقد أنها قيلت في الإمام السجاد (صلوات الله عليه)، وبعضهم يعتقد أنها قيلت في سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، على كل حال، كلهم نور واحد.

ص: 132


1- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، للعلامة عبد الحسين شرف الدين: ص95.
2- راجع: أدب الطف: ج 7 ص175 من قصيدة للشيخ إبراهيم صادق العاملي المتوفى سنة 1284ه، والبيت هو: فلذاك قد سقطوا على وجه الثرى ما بين مذبوح وبين طعين
3- من قصيد عنوانها (إن كنت مشفقة عليّ دعيني) للأديب محسن أبو الحب المولود في كربلاء سنة 1305ه- والمتوفى سنة 1369ه.
4- من قصيدة للفرزدق في مدح الإمام زين العابدين (عليه السلام) .

إن هذا الموقف الذي اتخذه الفرزدق هو موقف عجيب حقيقة، فالإنسان يُعرَف من مواقفه، فقد تذهبون مع أحد أصدقائكم العاديين إلى الحج، وقد يتخذ موقفاً ما في خلال دقائق يغير نظرتكم إليه، إن هذا الموقف عجيب حيث سيكشف في دقائق عن عمق عجيب - كما لو أنكم تذهبون إلى الصحراء وترون منبع ماء صغير، بسعة شبر أو شبرين، ولكن ستكتشفون أن هذا المنبع الصغير يكشف عن منبع عظيم - حيث عرَّض الفرزدق نفسه للقتل أمام هشام، وهذا هو موقفه العظيم جداً.

ينقل الجامي وهو أحد كبار علماء السنة هذه القضية فيقول: رؤي الفرزدق عندما بعث له الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) مالاً فقال للإمام (عليه السلام) : أنا لا أقبل هذا المال لأني ما قلت الذي قلته إلاّ غضباً لله ولرسوله. لكن الإمام (عليه السلام) أصرّ عليه فقبل المال بعد أن قال له الإمام (عليه السلام) : إن الله رأى موقفك وعلم نيتك ولكن اقبل هذا المال. فقبله. وينقل الجامي في كتابه أن شخصاً رأى الفرزدق في عالم الرؤيا بهيئة حسنة وجيدة، فقال له: كيف أُعطِيَتْ لك هذه المنزلة وهذا المقام؟ فقال: إن الله تعالى غفر لي بسبب تلك القصيدة. فيعلق الجامي على هذه الكلمة ويقول: لو أن الله تعالى غفر للعالمين جميعاً بهذه القصيدة ما كان هذا الأمر عجيباً(1)، بمعنى أنَّ هذه القصيدة فيها من قوة الموقف ما يمكن أن يغفر بها الله سبحانه وتعالى للعالمين، لذلك يمكن أن يكون المجلس الذي نقيمه سبباً لغفران الله تعالى ورحمته، كذلك يمكن أنْ تكون المقالة التي نكتبها والكتب التي نطبعها أو الماء الذي نعطيه للقلوب العطشى سبباً للمغفرة، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من هذا الفيض؟.

دعبل الخزاعي (رحمه الله)

كذلك من الأفراد الذين وفّقوا ونالتهم العناية: هو دعبل الخزاعي (2) (رحمة الله تعالى عليه) فقد كان موقف هذا الرجل عظيماً، فعلى مدى خمسين عاماً كان دعبل مشرداً من أجل أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان يقول: إنني أحمل خشبتي هذه طيلة

ص: 133


1- عبد الرحمن بن أحمد الجامي النقشبندي . راجع الأنوار البهية: الشيخ عباس القمي: ص125.
2- أبو جعفر دعبل الخزاعي ( 148 – 246 ه- )

خمسين عاماً وانتظر من يصلبني عليها (1)، وقد عرَّض هذا الرجل نفسه للقتل لحبه لأهل البيت (عليهم السلام) ودفاعه عنهم، وقد قال للإمام الرضا (صلوات الله عليه):

(لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها)، فأنا عشت في هذه الدنيا خائفاً، (وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي) أو (يوم وفاتي)(2).

لا أدري، إن كنتم ذقتم معنى الخوف في أيام الاحتلال، وهنالك بعض الشعوب المشرّدة الآن تذوق معنى الخوف أيضاً، فالخوف شيء قاتل، ودعبل الخزاعي عاش خمسين عاماً خائفاً مشرداً مطارداً من أجل أهل البيت (عليهم السلام) ..

فإذا قلنا على الإنسان أن يقيم مجلساً أو يحضر مجلساً، هل نستكثر ذلك على أهل البيت (عليهم السلام) ؟ أو أن يتبرع الشخص بطبع كتاب للإمام الحسين (عليه السلام) أو لإقامة المجالس الحسينية في داخل الكويت أو خارجها، فينبغي أن لا يستكثر الإنسان ذلك؛ لأنه أمر طبيعي بل قليل جداً في حق الإمام الحسين (عليه السلام) ..

وحينما قال دعبل:

لقد خفتُ في الدُّنيا وأيّام سعيها *** وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

قال له الإمام الرضا (صلوات الله عليه): آمنك الله يوم الفزع الأكبر.

وقد أوصى دعبل أن تدفن هذه القصيدة التائية التي يقرأها الخطباء، معه في كفنه حتى تكون مُنجية له في الليلة الأولى من القبر، ومن القصيدة قوله:

أفاطم لو خلت الحسين مجدَّلاً *** وقد مات عطشاناً بشطِّ فراتِ

وقد رؤي الخزاعي (رحمه الله) في عالم الرؤيا وعليه ثوب أو ثياب بيضاء وقلنسوة بيضاء أيضاً وهو في هيئة حسنة، فسأله الرائي: كيف أصبحت هكذا وما هذه الهيئة الحسنة؟.

فقال: بعد أن توفيتُ، جاءني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال لي: أنشدني أبياتك: (لا أضحك الله سن الدهر...) فقال دعبل: أنشدته الأبيات:

لا أضحك الله سن الدهر إن ضحكت *** وآل أحمد مظلومون قد ظلموا

ص: 134


1- راجع: بحار الأنوار: ج49 ص260.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، للشيخ الصدوق: ج1 ص294.

مشردون قد نفوا عن عقر دارهم *** كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفرُ

ويقول دعبل: أنشدته هذه الأبيات، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم خلع عليّ هذه الثياب البيضاء والقلنسوة البيضاء وتشفع لي عند الله تعالى، وأصبح النبي (صلى الله عليه وآله) شفيعاً لي عند الله تعالى وأنا الآن في هيئة حسنة وأنتظر يوم القيامة (1).

السيد حيدر الحلي (رحمه الله)

ومن الأفراد الذين وفّقوا في هذا المضمار أيضاً: السيد حيدر الحلي (رحمة الله عليه) (2) وهو شاعر جديد وليس قديماً، شاعر عجيب وأشعاره في أهل البيت (صلوات الله عليهم) قوية جداً، ويُنقل في أحواله أن المجدد الكبير الميرزا محمد حسن (3) (رحمة الله عليه) قد زاره أحد الأيام في بيته - إن هؤلاء الذين يخدمون أهل البيت (عليهم السلام) يجب أن يعظّموا حقيقة، وأن لا يُنظر إليه بشخصه بل بكونه خادما لأهل البيت (عليهم السلام) - فالمجدد الكبير (رحمه الله) صاحب قضية التنباك كان المرجع الأعلى في حياته ومع مكانته ومرجعيته زار السيد حيدر شاعر أهل البيت (عليهم السلام) ، فانحنى هذا المرجع الكبير - لاحظوا التعظيم - وقبّل يد السيد حيدر الحلي (رحمه الله) ليس لأنَّه السيِّد حيدر الحلي بل ينظر إليه بأنه شاعرُ أهل البيت (عليهم السلام) ولأنه خادمهم (صلوات الله عليهم).

في عالم الرؤيا رأى السيد حيدر (رحمه الله) السيدة الصديقة الزهراء فاطمة (صلوات الله عليها) فدعت له بدعاء مهم جداً - يوجد هناك بعض الأفراد يسعون ويخدمون مدة ثم على أثر بعض المشاكل التافهة وغير التافهة يتركون الله تعالى فيُسلَب منهم التَّوفيق، حقاً ينبغي على الإنسان أن يخاف من أن يُسلب منه التوفيق يوماً مّا على أثر أشياء تافهة وغير تافهة نسأل الله تعالى أن يديم هذا التوفيق، ويوجد أفراد سُلب منهم التوفيق فانحرفوا ومنهم حسان الذي دافع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم صار يحرض الناس

ص: 135


1- راجع: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : الشيخ الصدوق: ج 1 ص294.
2- السيد حيدر بن سليمان بن داوود بن سليمان (1246- 1304 ه).
3- المجدد الكبير آية الله العظمى السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي (رحمه الله) المتوفى في سامراء سنة 1321ه.

ضده (عليه السلام) - .

يواصل السيد حيدر (رحمه الله) قوله: رأيت الزهراء (صلوات الله عليها) في عالم الرؤيا

- وهي جدته لأنه (رحمه الله) من ذرية الحسين (عليه السلام) - وذهبت إليها وسلمت عليها وقبلت يدها فقرأت لي هذا البيت:

أناعيَ قتلى الطفِّ لا زلتَ ناعيا *** تهيج على مر الليالي البواكيا

ويواصل السيد الحليِّ (رحمه الله) : فنهضت من النوم باكياً ثم نظمتُ قصيدة على غرار هذا البيت الذي ذكرته الزهراء (صلوات الله عليها).

حيث يقرأ الخطباء أبيات هذه القصيدة العظيمة (راجع أعيان الشيعة) (1)، وقد أوصى السيد حيدر (رحمه الله) أن تدفن معه في قبره حتى تكون ذخيرة له هناك.

السيد كاظم القزويني (رحمه الله)

كذلك كتب سماحة السيد محمد كاظم القزويني(2) (رحمة الله عليه) خادم أهل البيت (عليهم السلام) مجموعة من الكتب التي ألفها وهي (علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد) و (الإمام المهدي (عليه السلام) من المهد إلى الظهور) وأوصى أن تدفن معه في لحده.

إن هذه الأشياء حقيقة ذخيرة لنا عند الممات، وفي القبر، وفي القيامة، وعند العبور على الصراط، فينبغي أن يستفيد الإنسان من هذه الفرصة لتعظيم هذه الشعائر وخدمتها بقدر الإمكان (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(3).

نسأل الله سبحانه أن لا يحرمنا من هذا الفيض العظيم.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 136


1- أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين: ج6 ص266.
2- الخطيب الحسيني الشهير آية الله السيد محمد كاظم القزويني ( 1348 - 1415 ه- ) صاحب موسوعة (من المهد إلى اللحد) من كتبه (فاطمة من المهد الى اللحد).
3- سورة الحج: 32.

3

تعظيم الشعائر الحسينية من تقوى القلوب

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(1). صدق الله العليُّ العظيم.

قبل أن نتحدث في موضوع (الشعائر) لابدّ لنا من مدخل، لعله يعالج مجموعة من الإشكالات القائمة وهذا المدخل يتعلق بموضوعات الأحكام وهي على نوعين:

النوع الأول : الموضوعات المجعولة

هنالك موضوعات للأحكام لم تكن موجودة من قبل، وقد جعلها المشرّع وهو الله سبحانه وتعالى على لسان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه الموضوعات اخترعها الشارع مع أنها لم تكن موجودة من قبل، وربما كانت موجودة ولكن لم تكن بهذا الشكل أو بهذه الهيئة المجعولة من قبل الشارع.

فالحجُّ مثلاً: هل كان موجوداً من قبل أم لا؟ إنَّ الحجَّ كان موجوداً في زمن الجاهلية، فهو موجود من زمن آدم (عليه السلام) واستمر إلى زمن الجاهلية، وكان الجاهليون يحجون حول الكعبة رجالاً ونساءً (2)، ولكن هيئة الحج الحالية وهذا النوع من الطّواف والسّعي والرّمي لم يكُن موجوداً من قَبْلُ، فالشارِع اخترع هذه الهيئة وجعلها؛ إذاً فالحج يعدّ من الموضوعات المجعولة، بمعنى المخترعة بالاختراع الشرعي.

الصلاة أيضاً كانت موجودة من قبل، ولكن هل كانت بهذه الهيئة التي نصلي بها الآن؟، كلا، في كتاب (الألفية) يوجد ألف واجب من واجبات الصلاة، كما يوجد في كتاب المثلية(3) ألفا مستحب (2000) من مستحبات الصلاة، إذن هذا الشكل من الصلاة لم يكن موجوداً من قبل، لذا تُعد الصلاة هيئة مجعولة، أي إنها موضوعاً

ص: 137


1- سورة الحج: 32.
2- (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) سورة الأنفال: 35.
3- (الألفية) و(المثلية) كتابان للشهيد الأول الشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي (رحمه الله) .

مخترَعاً بالاختراع الشرعي. فإلى من نرجع عندما نريد أن نحدد هذه الموضوعات؟ هل نرجع إلى العقل؟ أم نرجع إلى الناس؟

كلا، إنما نرجع في هذه الموضوعات المخترعة إلى الشارع ونطرق باب الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) ونقول له: سيدي ومولاي كيف نصلي؟ فيعيّن لنا كيف نصلي، أو نطرق باب الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه): سيدي ومولاي كيف نزكي؟ فيبيّن لنا الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) كيف نزكي؟

إذن، فالمرجع في هذه الموضوعات المجعولة هو المشرع.

النوع الثاني: الموضوعات الممضاة

إن حديثنا ليس في النوع الأول، وإنما الحديث كل الحديث في النوع الثاني، وهي الموضوعات الممضاة، وبعبارة أدق وأشمل، الموضوعات غير المخترعة وغير المجعولة، فالشارع ليس لديه جعل في هذا الموضوع، فقد يطرح الشارع موضوعاً ويطرح حكماً، ولكنه لا يمس هذا الموضوع، لا توسعةً ولا تضييقاً.

مثال ذلك، الوضوء.. بماذا يكون؟ إنه يكون بالماء، والماء مطهر، فهل نبحث عن حكم شرعي حول ماهية الماء؟ فالماء ليس موضوعاً مخترعاً شرعيّاً حتى نسأل الإمام الصادق (صلوات الله عليه) عن الماء، بل هو مفهوم عرفيّ، إذن، نسأل العرف والعرف موجود ببابك، بمعنى اسأل الناس وقل لهم ما هو الماء؟ سيجيبك الناس عن ذلك، فماء البحر هذا هل هو ماء أم لا؟ إذا قال لك العرف إنه ماء، إذن يمكنك الوضوء به.

المياه الكبريتية والمياه الزاجية هي أنواع من الماء، وتوجد في بعض المناطق، فهل هذه مياه أم لا؟ نسأل العرف والناس فإذا قالوا: هذه مياه، إذن يمكن لنا الوضوء بها، أما إذا قالوا: إنها ليست مياهاً، فلا يمكن لنا الوضوء بها.

وهنالك نقطة محورية حول هذا النوع، نحصرها بالسؤال التالي:

هل يجب أن يكون موضوع الماهيات غير المخترعة، والحقائق غير المجعولة موجوداً في عهد الشارع؟ الجواب: كلا، لا يلزم ذلك.

حين يطرح الشارع حسب الاصطلاح العلمي - ويجب أن ندقق في هذه النقطة

ص: 138

لأنها محورية وتخص موضوع الشعائر - قضية ما على النحو الحقيقي (القضية الحقيقية) وليس على النحو الخارجي (القضية الخارجية)، لنوضح ذلك بهذا المثال: يقول المولى: (من أنار مسجدا فله كذا.. وكذا... من الثواب العظيم عند الله)، ولكن بماذا كانت تتم الإنارة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ كانت تتم بالشموع، ولكن اليوم تتم الإنارة بالمصابيح الكهربائية.

فهل إذا أنار أحدهم المسجد بهذه المصابيح الكهربائية ليس له ثواب عند الله؟ قد تقول إن المسجد في زمن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يُضاء بالشموع، فأنا الآن أجلب شموعاً إلى المسجد وأنيره بها، هذا منطق غير مقبول، لأن كلمة (من أنار) ليست قضية خارجية بل هي قضية حقيقية، بمعنى كلما تحقق مصداق ل(أنار)، فالحكم يترتب على هذا المصداق.

نأتي بمثال آخر: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (1) وهنا نسأل: هل كان عقد التأمين موجوداً في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)؟ وهل يوجد عقد تأمين على الحياة في ذلك الوقت؟ الجواب كلا، إذن ألا يشمل (أوفوا بالعقود) عقد التأمين؟ راجعوا كلمات الفقهاء (رحم الله الماضين وحفظ الباقين منهم) حيث يقول الفقهاء: إن العقود قضية حقيقية، فأي عقد من العقود وفي أي زمن من الأزمان تشمله هذه الآية الكريمة: (أوفوا بالعقود) لذلك تشمل هذه الآية الكريمة عقد التأمين وتشمل العقود الجديدة التي تتجدد يوماً بعد يوم.

ما هي الشعائر؟

نأتي إلى (الشعائر) يقول الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) فما هي الشعائر؟

إنها تعني معالم الدين والعلامات التي تسوقك إلى الله سبحانه وتعالى وتأخذ بيدك إليه، ولكن هل حدّد الشارع ما هي هذه الشعائر؟ إن الشارع لم يحدد تصرُّفاً معيّناً - دون غيره - في هذا الموضوع؟ وهل توجد لدينا رواية تحدد ما هي الشعائر؟ كلا.

ص: 139


1- سورة المائدة: 1.

إذن هذا الموضوع يُعدّ من النوع الثاني، وإذا كان كذلك، فإنّ كل الشعائر التي تدل على الله تعدّ من شعائر الله تعالى، سواءً كانت موجودة في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) أو لم تكن، فإذا انطبقت الآية الكريمة، فإن تعظيم هذه الشعائر هو تعظيم لله تعالى وتعظيم للدين ودليل على تقوى القلوب.

اللطم

هل كان اللطم موجوداً في زمان الأئمة (صلوات الله عليهم) أم لا؟

الجواب: نعم كان موجوداً، ولنفترض أنه لم يكن موجوداً، ولا يضرنا ذلك، لأن كلمة (مَن) في قوله تعالى (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)

لم تحدد شكلا معيناً لهذه الشعائر، فكل شكل منها يؤدي إلى هذه النتيجة فهو مرضي عند لله تعالى ومقبول عنده سبحانه وتعالى.

تعالوا إلى هذا البلد وإلى كل البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، فلو جُرِّدت الكويت - مثلاً - من مجالسها، بحيث لا توجد في الكويت حسينيات ولا مجالس ولا مآتم، فهل يبقى هنالك شيء من الشعائر؟ ولو جردنا بلداً من البلدان من كل هذه الأشياء ماذا سيحصل؟ نحن كيف تربينا؟ ومن الذي ربانا؟ هل الإذاعات هي التي ربتنا وساقتنا إلى الله سبحانه وتعالى؟ أم القنوات التلفزيونية هي التي فعلت ذلك؟!

ومن الذي ساقنا إلى الله تعالى سوى مجموعة من الأشياء ومن جملتها هذه الشعائر بمختلف أنواعها، إن هذه الشعائر هي التي أبقت الدين حيّاً في النفوس، وإذا كان لدينا قليل من المعرفة بالدين، إنما هو ببركة هذه الشعائر (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).

على أعتاب محرم

نحن الآن على أعتاب محرم الحرام وينقضي عام كامل من عمرنا وتبدأ سنة جديدة بهذا الشهر الذي هو شهر الحزن والعزاء والشعائر الحسينية، وفي هذا الشهر المبارك ينبغي على كل واحد منّا أن يهتم بتعظيم هذه الشعائر، أي أن نوفيها حقها، فالمجالس الحسينية يجب أن تؤدّى على أفضل وجه، ويجب أن تقام المنابر في كل صقع وناحية، ويجب أن تبقى هذه الشعائر قوية، لأن بقاء الدين منوط بهذه الشعائر، فكل خطوة

ص: 140

وكل حركة وكل قطرة دمع وكل مشاركة ولو كانت صغيرة، كلها مكتوبة ومسجلة عند الله تعالى، (كل عين تأتي باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وعين بكت من خشية الله وعين غضت عن محارم الله)، هذه العيون الثلاث تأتي قريرة يوم القيامة.

فالمشاركة ولو بهذا المقدار القليل، ولو بالحضور إلى هذه المجالس، كل ذلك مكتوب عند الله تعالى، بعضهم قد يقول، ما قيمة هذه الدمعة؟! وما قيمة هذا الحضور؟! وما قيمة الكتاب الذي أطبعه حول شعائر الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ؟! بل كل هذه المشاركات لها أعظم الأجر عند الله (سبحانه وتعالى) ولكن بشرط الإخلاص، وبشرط أن يقومَ الإنسان بهذه الأعمال دون أن يكون مدلاّ بعمله، إنه لا يصعد من عمل المدلّ شيء...

هنالك رجل كان يخدم في حرم سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وكان هذا الرجل يقوم بشؤون الزوار الذين يأتون لزيارة الحرم المبارك، وبعد مضي مدة تقلبت به الأيام والليالي وأصبح محتاجاً ففكر، ما الذي يعمل ؟ وكلما طرق باباً من الأبواب لم يفتح له، فكر في ذلك اليوم أن يذهب إلى الهند، وكانت الهند في ذلك الوقت مركزاً مهما من مراكز التجارة العالمية.

إننا يجب أن لا ننخدع بالثروة، فهؤلاء الذين تجدونهم الآن يعيشون في أشد الفقر كانت الثروات بأيديهم يوماً ما، بحيث يأتي آخرون من بقية البلدان ويخدمونهم، لكن (وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ) (1) وهذا ليس كلامي بل هو كلام الله تعالى؛ فلا ننخدع ببضعة دنانير في أيدينا، لأن الثروة لا تبقى، لذلك يجب على الإنسان أن يعمر آخرته قبل أن يفقد القدرة على ذلك، ولكي لا يذهب إلى هناك ويقول : (يَا حَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ) (2).

فقال ذلك الرجل: أذهب للهند، وذهب إلى هناك فعلا، ودخل على شخص وكان راجا من الراجوات المهمين (3) من الذين كانوا يأتون إلى العتبات سابقاً، وكان

ص: 141


1- سورة آل عمران: 140.
2- سورة الزمر: 56.
3- ال- (راجا) لقب يطلق على بعض الوجهاء في الهند.

هذا الرجل يقوم بخدمته، وحين دخل عليه قال له: لماذا أتيت للهند؟ أجابه الرجل: في الواقع اُصبت بالفقر، وأحتاج إلى مال. فقال له: أنا مستعد أن أعطيك كل ما تريد من ثروة مقابل أنْ تهديني سلاماً واحداً من سلامك على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، وذلك فيما كنت تمرّ من هناك وتشاهد تلك القبة المباركة وتقول: (السلام عليك يا أبا عبد الله). فقال الرجل: أنا موافق، ثم فكّر وفكّر أن يعطيه سلاماً متواضعاً جدّاً...

نحن أحياناً نقوم بأعمالنا بتوجه وبإخلاص، وأحياناً لا يكون كذلك، إنّ صلواتنا تحتاج بالحقيقة إلى استغفار، أي بعد أن ننهي الصلاة يجب أن نستغفر الله تعالى من هذه الصلوات التي أديناها، فإذا كنا نكلِّم أحد الملوك، لم نكن نتكلم معه بهذه الطريقة، لكننا نتكلم مع الله تعالى وفكرنا شارد هنا وهناك.

فهذا الرجل فكّر بسلام متواضع جداً أدّاه في أحد الأيام على سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، وقال للراجا: أعطيك سلام ذلك اليوم. فقال له: كم تريد مقابل هذا السلام؟. قال الرجل: مائة دينار أو مائة روبية - مثلاً. فأخذ المال، وفي المساء رأى هذا الرجل الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في المنام، فقال له الإمام (عليه السلام) : كل سلامك لم يُقبل إلاّ هذا السلام الذي أعطيته للراجا. فقال الرجل: لماذا يا أبا عبد الله؟ فقال له الإمام (عليه السلام) : لأنك كنت تقوم ببقية السلامات وأنت مدلّ بعملك..

كأن يقول البعض: أنا الذي قمت بهذا العمل...! كأن الله بحاجة إلى هذا العمل، بينما الله تعالى ليس بحاجة إلى هذه الأعمال، ولا سيد الشهداء (صلوات الله عليه) يحتاج إلى ما نقدمه، إنما نحن الذين نحتاج.. (يَا أيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) (1)، إن سيد الشهداء (عليه السلام) ليس بحاجة إلى بكائي، بل أنا الذي أحتاج إلى هذا البكاء، حتى آتي يوم القيامة وعيني قريرة يوم تكون كل العيون باكية.

وأنا الذي أحتاج للحضور في مجالس سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، حتى آتي يوم القيامة وقلبي حيّ يوم تموت فيه القلوب، لأن القلب الذي يحضر مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) يكون حيّاً في الحياة الدنيا، ويكون حيّاً أيضاً يوم القيامة، إذن، لنؤدي أعمالنا

ص: 142


1- سورة فاطر: 15.

بتواضع لا بإدلال..

ولكن ذلك اليوم - يقول سيد الشهداء (عليه السلام) - مررتَ على الصحن المبارك وأنت في حالة لم تكن فيها متطهراً، فرأيت ذلك الضريح وتلك القبة وأنت خجِل لأنك لم تكن متطهراً، فخفضت رأسك وغضضت من طرفك وقلت بكل خجل: (السلام عليك يا أبا عبد الله) فهذا السلام هو الذي قُبل منك.

استيقظ الرجل من المنام وذهب إلى ذلك الرجل الهندي وقال له: أريد أن أفسخ المعاملة التي تمت بيننا، خذ روبياتك وأرجع لي سلامي. فقال له: أبداً! لقد تمت المعاملة (أوفوا بالعقود) فلن أرجع عن الاتفاق الذي تم بيننا.

ونحن أيضاً عندما نذهب إلى تلك النشأة، إنشاء الله، وزالت عنّا غواشي هذه النشأة، نفهم حينئذ ما هي قيمة كل قطرة دمعٍ وكل خطوة وكل مشاركة صادقة عند الله سبحانه وتعالى؟ فإذا كان السلام بإخلاص له هذه القيمة عند الله تعالى، فما بالك بمن يقيم مآتم الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)؟ وما بالك بمن يطبع الكتب التي تعظم الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)؟

إن كل هذه الأشياء في الحقيقة منظورة لهم، يقول الإمام (صلوات الله عليه): (إني والله لأحب تلك المجالس) (1)، إن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يحبون هذه المجالس، وجاء في حديث آخر: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) (2).

كان هنالك رجل خطيب يأتي فوق المنبر ولا يقول سوى ست كلمات فقط، وإذا بالمجلس كله يضجّ بالبكاء، إنه أمر عجيب! فماذا كان يقول؟ إنه كان يجلس فوق المنبر ويقول: (السلام عليك يا أبا عبد الله)، إنها ست كلمات فقط، فسألوه: ما هو السر في ذلك؟. فقال: كنت في أيام شبابي في مدينة كاشان، فذهبت في ليلة العاشر من محرم وقرأت وعدت إلى بيتي حوالي منتصف الليل منهكاً ومتعباً..

يقول ذلك الخطيب: وأنا في حالة التعب، جاءني شخص وقال لي: شيخنا أو سيدنا، عندنا مجلس في بيتنا، تفضّل لقراءة المجلس عندنا.. قلت له: أنا متعب

ص: 143


1- ثواب الأعمال، للشيخ الصدوق: ص187.
2- راجع بحار الأنوار: ج71 ص351.

ولاأستطيع ذلك. فألحّ عليّ فاستجبت له وذهبت إلى بيته، وعندما دخلت لم أجد أي شخص سوى صاحب البيت، وقد نصب كرسياً وقال لي: تفضّل اقرأ. قلت له: لمن أقرأ؟! قال: اقرأ لفاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها).

فصعدت فوق المنبر وبدأت كلامي بقولي: (السلام عليك يا أبا عبد الله)، وإذا بي أسمع صوت بكاء نساء، قال: لم تكن هنالك نساء في المجلس، لكن مع ذلك سمعت صوت البكاء، فقرأت المصيبة وقد تغيرت حالتي ثم نزلت من المنبر وذهبت إلى البيت، في تلك الليلة رأيت في المنام قائلاً يقول لي: إن السيدة فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) كانت حاضرة في ذلك المجلس. ومنذ ذلك اليوم بمجرد أن أقول: (السلام عليك يا أبا عبد الله)، أجد هذا التأثير في النفوس المؤمنة.

هنيئاً لكل أولئك المتعبين في حبّ الحسين (صلوات الله عليه)، جاء عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (رحم الله تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس في حبّ الحسين صلوات الله عليه) (1). إذن ستنقضي هذه الأيام وتنقضي أعمارنا ولا يبقى لنا عند الله تعالى إلاّ هذه الأعمال (إعمل ما شئت فإنك ميت)، وبعد أيام سوف نغادر هذه النشأة، لذلك يجب أن نتزود حيث هنالك (لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في هذه الأيام المباركة للمشاركة في عزائهم، (... يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا) (3)، وأن يجعلنا معهم في الدنيا والآخرة.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 144


1- قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) في سجوده وهو يدعو لزوار الإمام الحسين (عليه السلام) : «فارحم تلك الوجوه التي قد غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى نوافيهم على الحوض يوم العطش» انظر الكافي: ج4 ص582 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .
2- سورة الشعراء: 89.
3- كامل الزيارات: ص 204.

4

تعظيم الشعائر الحسينية انتصار للإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (1) صدق الله العلي العظيم. في هذه الآية موضوعان جديران بالتأمل والتفكير:

الموضوع الأول: أين موقع التقوى في الإنسان؟

هل العين محل التقوى، بأن يتجنب المؤمن النظر إلى ما حرّم الله؟ الجواب: كلا.

هل التقوى محلها الأذُن، بأن لا يستمع المؤمن إلى ما حرّمه الله، ويتجنب سماع الغناء والأصوات التي لا يحبّها الله والتي تُنزل البلاء وتُنزل النقمة في ذلك البيت؟

الجواب: كلا.

هل محل التقوى اليد والرجل وبقية الأعضاء والجوارح؟ الجواب: كلا.

إن للتقوى محلاً آخر وموضعاً آخر في الإنسان.

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (التقوى ها هنا) (2)، وأشار إلى صدره، يعني محل التقوى هو القلب، وفي الآية الكريمة: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، التقوى وزانها وزان بقية الملكات الطيبة، مثل الشجاعة أين محلها؟ الرجل الشجاع كعلي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أين محل هذه الشجاعة؟ إنها القلب. وأين محل الجود؟ - كجود أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، ولا نحتاج أن نضرب الأمثلة بحاتم وأمثاله - إن محله القلب، فعندما يقال: إنسان شجاع، فهل الشجاعة هي الموقف؟ كلا، إنها ليست الشجاعة، إن حقيقة الشجاعة وواقعها كيفية وملكة باطنية، وما هي حقيقة الجود؟ هل هو موقف؟ كلا، وإنما تلك الملكة الباطنية وتلك الصفة الباطنية التي تسمى بالجود. والمواقف تكون نابعة من تلك الملكة.

إذن، فالتقوى كبقية الملكات وكبقية الصفات الطيبة يكون محلها القلب، كما أن

ص: 145


1- سورة الحج: 32.
2- بحار الأنوار: ج70 ص199.

الصفات الخبيثة - أعاذنا الله منها - أيضاً يكون محلها القلب، لذلك تقول الآية الكريمة (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ)(1).

الموضوع الثاني: الملكة الباطنية والملكة النفسانية

إنَّ التقوى إذا كانت ملكةً حقّاً، فهي مرّة تكون حالة، وعندنا حالات كما عندنا ملكات، الحالة عَرَض مؤقت لا يُقدّم ولا يُؤخّر، بينما الملكة الحقيقة لابد أن تتجسد في مظهر عملي، وحقيقة الملكة اللون الباطني والصفة الباطنية، ولكن في الموقع وفي المحل لابدّ أن تتجسد هذه الملكة فتكون في مظهر، وإذا لم تتجسد هذه الملكة في مظهر، فهذا يكشف عن أن هذه الملكة غير موجودة، فإذا كانت في الفرد ملكة الشجاعة يجب عليه أن يظهرها في الوقت الذي تكون الحاجة إليها، لكن إذا هرب في موقع عمله أو هرب من ميدان المعركة فهذا الفرار يدل على أنه لا شجاعة له - فرجع وهو يجبّن أصحابه ويجبّنونه وهو ذلك الرجل المعروف(2) - فهذا الموقف دليل على أنه لا توجد عنده تلك الصفة الباطنية.

كما أن الكريم إذا حقاً كانت ملكة الكرم في داخله، عندما يأتيه فقير، أو يجد هنالك شخصاً يستحق العطاء، وهو قادر فإنه يعطيه، لكن إذا لم يعطه فهذا دليل على أن هذه الصفة غير موجودة في داخله، وعليه فإن التقوى صفة باطنية وهذه الصفة تحتاج إلى مظهر، وإذا لم يوجد هذا المظهر لا يمكن أن نقول أن هذا الشخص مُتَّقٍ.

ومن جملة مظاهر التقوى، هذا المظهر الذي تناولته هذه الآية (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فالشخص الذي لا يعظّم شعائر الله، والشعيرة كل علامة تقودك إلى الله، وكل ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى علامة التقوى، فالمسجد

ص: 146


1- سورة الهمزة: 6- 7.
2- انظر قصة خيبر، حيث رجع الأول والثاني منهزمين. راجع بحار الأنوار: ج21 ص28 ب22 ح30 وفيه: (لما سار (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر أخذ أبو بكر الراية إلى باب الحصن فحاربهم فحملت اليهود فرجع منهزما يجبن أصحابه ويجبنونه، ولما كان من الغد أخذ عمر الراية فخرج بهم ثم رجع يجبن الناس، فغضب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: ما بال أقوام يرجعون منهزمين يجبنون أصحابهم، أما لأعطين الراية غداً رجلا يحب اللهَ ورسولَه و يحبه اللهُ و رسولُه كراراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده).

شعيرة من شعائر الله،فإذا لم يعظم الإنسان المسجد فهذا دليل على عدم وجود التقوى لديه، أو دليل على ضعف التقوى في قلبه، (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاّ خَائِفِينَ)(1)، فالمسجد له عظمته عند الله.

إذا أردت دخول دار ملكٍ من الملوك، وما قيمة الملك؟! فهو بشر مثلي ومثلك لايختلف عنا إلاّ بصفة اعتبارية، تدخل وأنت مستجمع لأفكارك وتلبس أنظف ملابسك ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا تتكلم بصوت مرتفع لأن هذا بيت الملك! ولكن بيت الله، وهو البيت الذي نسبه الله إلى نفسه، فهو جدير بالتكريم وبالاحترام، وأولئك (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاّ خَائِفِينَ)، فالمسجد شعيرة من شعائر الله، فماذا يعني التعظيم؟ أنه يعني أن تعطيه حقه، وما يستحقه المسجد؟ أن تحافظ على شأنه واحترامه وكرامته، فمن يعظّم هذه الشعيرة فهذا دليل على وجود التقوى في القلب.. (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (2)، وفي آية أخرى (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (3).

خدمة الحسين (عليه السلام) دين علينا

نحن اليوم في نهاية عام آخر من أعوام حياتنا المحدودة، وأثناء هذا المحدود أعطى الله سبحانه وتعالى لكل واحد منّا أمانة، وهذا عام آخر ونحن في نهايته ونستقبل عاماً جديداً يحتوي في مطلعه على مناسبة عظيمة وهي من أعظم شعائر الله سبحانه وتعالى، وهي مناسبة كربلاء ومناسبة عاشوراء ومناسبة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، وروي أنَّ النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) قال: «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»(4) ونحن نعيش في هذه الحياة المظلمة... إذ يقول لقمان لابنه: «يا بني إن الدنيا بحر عميق غرق فيه ناس كثيرون...» (5)، فنحن بحاجة إلى شيئين:

ص: 147


1- سورة البقرة: 114.
2- سورة البقرة: 158.
3- سورة الحج: 36.
4- مدينة المعاجز، للسيد هاشم البحراني: ج4 ص52.
5- الكافي: ج1 ص16.

الشيء الأول : الرؤية

إن أول كل شيء هي الرؤية، فإذا لم تكن عند الإنسان رؤية فمن أين يعرف الطريق؟ وكيف له أن يعرف أين يضع أقدامه؟ أنت في صحراء ملغومة فإذا لم تكن عندك رؤية لا تتمكن أن تضع رجلك في أي مكان، لأنك لا تعلم ربما تضع رجلك على لغم فينفجر عليك، إذن، نحن قبل كل شيء بحاجة إلى رؤية وبحاجة إلى مصباح، في هذه الدنيا وفي كل لحظة نحتاج إلى مصباح في كل خطوة نخطوها، لماذا نقول كل يوم: (اهدنا الصراط المستقيم)؟ نحن مهديّون بإذن الله سبحانه، ولكن الهداية ليست فقط التلفظ بالشهادة، إنما في كل لحظة نحتاج إلى نور ونحتاج إلى مصباح، وهذا المصباح هو الإمام الحسين (عليه السلام) : (إن الحسين مصباح الهدى)، فالحسين (صلوات الله وسلامه عليه) يعطيك الرؤية في الحياة. إننا جميعاً مدينون للإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ...) (1)، بل كلنا مدينون لخَدَمَة الحسين (صلوات الله عليه). إذا لم يكن هؤلاء الخطباء الذين أبقوا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته حيّة، بل إن هذه المعلومات التي عندنا إنما اكتسبناها من خدمة الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، وهذه النفسية الإيمانية ونفسية التدين إنما وجدت عندنا من مجالس الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

الشيء الثاني: الوسيلة

ثم نحتاج بعد الرؤية إلى الواقع، فتحولت هذه الرؤية إلى واقع الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) فإنه هو المصباح وإنه (عليه السلام) هو الوسيلة إلى الله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(2).

لاحظوا دقة النبي (صلى الله عليه و آله) في هذه الكلمات: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة». نحن في هذه الأيام يجب أن نهتم بإظهار مظاهر العزاء، ولا تكون هذه الأيام مثل بقية الأيام العادية، فإذا توفي لأحد الناس أب لاسمح الله، كيف يحزن ويلبس السواد، لأنَّ للأب حق الحياة المادية على الإنسان، ولكن للحسين (صلوات الله وسلامه عليه) حق الحياة الأبدية والحياة المعنوية علينا، ألا يكون جديراً بأن يلبس الإنسان

ص: 148


1- سورة الأعراف: 43.
2- سورة المائدة: 35.

السواد في هذه الأيام؟

ربما يقال: إن شخصاً ينظر إليّ، فلينظر وما قيمة الشخص؟ وما قيمة الأشخاص عند الله، حتى يتنازل الإنسان من اجل كلام شخص واحد أو نظرته؟!

إذن، علينا لبس السواد في هذه الأيام والحضور إلى مجالس سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) والمساهمة المادية في إقامة هذه المجالس وتعظيمها، وأن نصطحب أولادنا، حتى ينموا حسينيين، (وكان لي والد يهوى أبا حسن)، فلا تتركوا أولادكم في البيت وحدهم؛ إنها مسؤولية الآباء، إن هذه المجالس محبوبة عند الأطفال، ومنظورة إليهم كل خطوة من هذه الخطوات بأعينهم وبنظرهم.

خدمة الحسين (عليه السلام) طريق لشفاعته

كانت امرأة تقيم مجالس العزاء كل عام في بيتها - وقد ذكرتُ ذات مرة بأن هذا حقاً يُعدّ توفيقاً إلهياً، إلا إذا كان الإنسان غير قادر على ذلك، أما إذا كان قادراً ولا يقيم المجالس الحسينية في بيته، فهو محروم من التوفيق - فكانت تلك المرأة تقيم مجالس العزاء في بيتها، وبجانبها امرأة ثانية بعيدة عن هذا الخط، كانت في كل يوم أو في كل مناسبة تقيم مجالس الغناء ومجالس الموسيقى في بيتها - وقلتُ في بداية الحديث : إن الغناء في البيت يوجب البلاء في البيت، وهذه رواية (1) وليس كلاماً، فالبيت الذي فيه آلات اللهو والغناء والموسيقى، بالإضافة إلى أنه لا ينظر إليه الله سبحانه وتعالى، سينزل عليه البلاء وهو خطر كبير، فإذا غضب الله سبحانه و تعالى على شخص أنزل عليه البلاء - .

وفي إحدى الليالي و كانت ليلة العاشر من محرم وقد انتهى مجلس الغناء، فبدأت هذه المرأة تسمع أصوات المصيبة من هذا البيت، ففكرت أن تذهب إلى هذا البيت لترى ماذا يوجد في بيت العزاء، فتأتي وتدخل في المطبخ وترى أن القدر على الطباخ والنار مطفأة، وكانت صاحبة الدار تريد أن تطعم هؤلاء الذين اشتركوا في العزاء، ولكن

ص: 149


1- قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله» وسائل الشيعة: ج17 ص307 ب99 ح22609. وقال (عليه السلام) : «بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة ولا تُجاب فيه الدعوة ولا يدخله ملك» وسائل الشيعة: ج17 ص303 ب99 ح22594. وقال (عليه السلام) : «الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر» وسائل الشيعة: ج17 ص309 ب99 ح22616.

النار انطفأت وهم مشغولون بالعزاء، فتأتي هذه المرأة و تشعل النار تحت القدر بالوسائل القديمة، فيدخل شيء من الدخان في عينيها وتدمع عينها في تلك الليلة، وبعد أن تنام ترى صحراء المحشر ويأتي أولئك الملائكة الغلاظ الشداد ويأخذونها إلى جهنم، (طبعا في تلك اللحظات ينقطع الأمل، حيث لا يبقى للإنسان أي أمل إلاّ هذه الخدمات التي قدمها (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا) (1)، فكلنا يجب أن ندخل النار ونردها أو نعبر عليها، في تلك اللحظات لا أمل للإنسان إلاّ بشيئين:

الشيء الأول: حقّ الله سبحانه وتعالى ولطفه وغفرانه.

الشيء الثاني: الخدمات للمجالس الحسينية.

جاء في الحديث أذكره بالمناسبة، إن آخر رجل يدخل في جهنم، فتأخذه الملائكة ويسحبونه إلى نار جهنم، في هذه الأثناء يلتفت إلى خلفه، - هذه الرواية عن لطف الله سبحانه وتعالى وغفرانه وكرمه - يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: أوقفوه!

ثم يقول له: عبدي لماذا التفتّ؟ أو ما الذي سبب التفاتك؟

يقول العبد لله سبحانه وتعالى: يا رب، ما كان هذا ظني بك!

فيقول الله سبحانه وتعالى لذلك العبد: وماذا كنت تظن بي؟

يقول: يا رب - وهذا أملنا جميعاً - كنت آمل أن تغفر لي وتدخلني الجنة.

فيقول الله سبحانه وتعالى: - لاحظوا لطف الله سبحانه وتعالى وكرمه - يا عبادي ويا ملائكتي إن هذا العبد ما ظنّ بي في حياته خيراً ولا ساعة قط، ولكن أجيزوا كذبه وأدخلوه الجنة (2). ونحن في ليالي الجمعة نقرأ في دعاء كميل: (ما هكذا الظن بك ولا المعروف من فضلك ولا مشبه لما عاملت به الموحدين من برك وإحسانك...) (3).

تلك المرأة رأت في المنام أن الملائكة أخذوها وسحبوها إلى نار جهنم، وفي هذه الأثناء حيث انقطعت كل الآمال، جاء هنالك صوت يقول: أوقفوها....!

صوت من هذا...؟ إنه ذلك الصوت الذي نأمله جميعاً بإذن الله سبحانه وتعالى،

ص: 150


1- سورة مريم: 71.
2- فقه الرضا (عليه السلام) ، لعلي بن بابويه: ص361.
3- مقطع من دعاء كميل.

ذلك هو صوت سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه):

أوقفوا هذه المرأة... يجب أن لا تذهب إلى النار.

لماذا يا سيد الشهداء؟

لأن لها عليّ حقاً !!...

فما هو هذا الحق يا سيد الشهداء؟

حقان:

الحق الأول: أنها ساهمت في إطعام المعزين لي، فقد أشعلت النار تحت قدر الطعام. الحق الثاني: أن الدخان دخل في عينيها، فسعلت ونزلت دموعها!

تستيقظ المرأة من النوم، ويبدو كان فيها جذور طيبة - وهنالك بعض الأفراد طيبون ولكن الشيطان يغويهم فيذهبون في خط الفساد والانحراف، ولكن تتداركهم رحمة الله سبحانه وتعالى فيعودون، كما هو حال هذه المرأة - فتقوم وتكسر آلات اللهو والغناء وتأتي إلى جارتها وتتوب على يديها.

كيف ننتصر للإمام الحسين (عليه السلام) ؟

اكتفي بقراءة روايتين:

الرواية الأولى: يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (إن الله سبحانه وتبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا - إن الله سبحانه وتعالى اطلع إلى البشر كلهم فاختار هذه الصفوة - واختار لنا شيعة)، وهذه بشارة لنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى في تلك النظرة، ولكن فيها شروط (شيعة ينصروننا) لا أن يخذلون أهل البيت (عليهم السلام) ولا ينصرونهم عندما يهاجَمون.

لقد نادى سيد الشهداء (عليه السلام) في ذلك اليوم - يوم عاشوراء -: (هل من ناصر ينصرني)، ولعله كان يعنينا ويعني أمثالنا بهذه الكلمة،

الشرط الآخر في الشيعة: (ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا). حالياً ليس المطلوب منّا أن نبذل الأنفس وأن نُقتل في سبيل الله سبحانه وتعالى وأن نرمّل أزواجنا ونُيتّم أولادنا، فهذا غير مطلوب منّا حالياً، أو من أكثرنا ولكن أن نبذل أموالنا، إن كانت عندنا أموال، بأن يجعل الإنسان الإمام الحسين

ص: 151

(صلوات الله وسلامه عليه) شريكاً في ماله، فإذا عندك دينار واحد، اجعل ثلثه لسيد الشهداء (عليه السلام) في كل شهر،فما الذي يضرك؟! فقد تذهب إلى الأسواق وتصرف في مرة واحدة ثلاثين (دينارا كويتياً) فما قيمة الثلاثين دينارا في كل شهر تصرفها لمجالس سيد الشهداء (عليه السلام) .

في الحقيقة إن الإنسان يكون محروماً جداً إذا حُرم من مشاركة سيد الشهداء (عليه السلام) في أمواله، فإن سيد الشهداء (عليه السلام) وأبا الفضل العباس (عليه السلام) ينفعانك في دنياك وآخرتك، (ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا) (1) يعني مآلهم إلينا.

كل عين باكية ...

الرواية الثانية: روي أنه لما اُحضر النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر ابنته فاطمة (عليها الصلاة والسلام) بقتل ولدها الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وما يجري عليه من المحن، فبكت فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) بكاءً شديداً، وقالت: يا أبت متى يكون ذلك؟ وفي أي زمان؟ قال (صلى الله عليه و آله): في زمان خال مني ومنك ومن علي.

أي إن رسول الله (صلى الله عليه و آله) يرحل عن هذه الحياة، وكذلك علي (صلوات الله وسلامه عليه) وأيضاً فاطمة (عليها السلام) ويبقى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وحده.

فاشتد بكاؤها وقالت: يا أبت فمن يبكي عليه؟

فمن يلتزم بإقامة العزاء له؟ من الذي يقيم العزاء على ولدي الحسين؟

فقال النبي (صلى الله عليه و آله): يا فاطمة إن نساء أمتي يبكين على نساء أهل بيتي، ورجالها يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة فإذا كانت القيامة تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين (عليه السلام) أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.. يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة (2).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا هذا الفيض العظيم وأن يجعلنا من المشاركين في عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) بكل ما نقدر، وصلى الله سبحانه وتعالى على محمد وآله الطاهرين.

ص: 152


1- الخصال: ص635.
2- بحار الأنوار: ج44 ص293.

5

أبعاد إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ)(1). صدق الله العلي العظيم.

إن أحد الأشياء التي نلاحظها في الأشهر المباركة، هو التأكيد الوارد حول إحياء ذكرى سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، حيث يوجد في الروايات الواردة حقٌ وتأكيدٌ على إحياء ذكرى الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

فهنالك زيارةٌ لسيد الشهداء (عليه السلام) في الأول من شهر رجب، وهنالك زيارة لسيد الشهداء (عليه السلام) في الخامس عشر من شعبان، وهنالك في شهر رمضان المبارك تركيز على إحياء ذكرى سيد الشهداء (عليه السلام) في ليالٍ عِدَّة وليس في ليلة واحدة، حيث وردت زيارة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) في الليلة الأولى من هذا الشهر، وفي ليلة منتصفه، وفي الليلة الأخيرة منه، وفي ليالي القدر الثلاث، فتصبح الليالي التي نحيي فيها ذكرى الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في شهر رمضان المبارك ست ليالٍ.

كذلك هنالك إحياء لهذه الذكرى في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى، وفي يوم عرفة، وفي شهر محرم، وفي العشرين من شهر صفر، وغيرها.

هنالك عِدَّة أبعاد في إحياء ذكرى سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه):

البعد الأول: البعد الحضاري

أحد أكبر الأخطار التي تهدد كل حضارة هو خطر الذوبان الثقافي، ولا يتعلق الذوبان الثقافي بحجم الأمة، فربما تكون هنالك أمة كبيرة من ناحية الحجم، ولا يتعلق هذا الخطر بحجمها وإن تعلق بكيانها، كذلك لايتعلق خطر الذوبان الثقافي بقوة الأمة، فقد تكون هنالك أمة قوية مهيأة ولا تفتقد شيئاً من عناصر القوة، ولكن قد يهدد

ص: 153


1- سورة إبراهيم: 24.

الخطر الذوبان الثقافي حضارتها وكيانها.

وأوضح مثال على قولنا هذا هم المغول الذين جاؤوا إلى بلادنا بذلك الجيش الجرار الذي كان لديهم، فكانوا يملكون كل شيء في ذلك الحين، واحتلوا البلاد الواحدة تلو الأخرى، وحطّموا الخلافة العباسية، فقد كان المغول أقوياء حيث يُنقل أن نهر دجلة كان ملوَّناً باللونين الأحمر والأسود، لعدة أيام من الدماء التي أُريقت في بغداد والكتب الخطية التي أُلقيت في نهر دجلة، ولكن مع ذلك ذاب المغول ثقافياً، لعدم امتلاكهم مناعة وحصانة فكرية، فقد امتصتهم الأمة الإسلامية وهضمت الغزو المغولي في داخلها، وتحول حكام المغول أنفسهم إلى مسلمين، وبعضهم تحوّل إلى موالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) (1).

إذن فالمغول كانت أمة قوية ولكنها ذابت ثقافياً في أمةٍ أخرى، وكانت حضارة قوية ولكن ذابت ضمن حضارة أخرى، فلا يتعلق الذوبان الثقافي إذن بحجم الأمة ولا بقوتها ولا بمواردها الطبيعية، ولكن يتعلق بالمناعة الفكرية لها، وهي إحدى أقوى النقاط التي نمتلكها نحن الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، فلو فتّشت العالم كله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فلن تجد أمةً تملك قوة كقوة سيد الشهداء (عليه السلام) .

الموالون لأهل البيت (صلوات الله عليهم) يملكون أقوى قوة، وهي سفينة النجاة: (كلنا سفن النجاة ولكن سفينة الحسين (عليه السلام) أوسع وفي لجج البحار أسرع)، فهذه الحملات التي تعرّض لها الموالون لأهل البيت (عليهم السلام) يندر أن تعرضت لها أمة أخرى، والأحقاد التي أنصبّت على الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) منذ ذلك اليوم، حيث يندر أن توجد هكذا أمة في التاريخ كله تنصبّ عليها هذه الأحقاد وبهذا الحجم والقدر، فقد شرّدوهم تحت كل حجر ومدر منذ أيام معاوية وقبل ذلك أيضاً.

فإذا كان الشخص يُتّهم بالموالاة دون أن يثبت بأنه موالٍ - مجرد تهمة أو ظن فقط - ينكّلون به ويهدمون داره، لقد مرّت على الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) أياماً كان يقال للرجل فيها بأنه زنديق، بمعنى كافر، ملحد، مشرك، أحب له من أن يُقال له أنه موال

ص: 154


1- انظر (الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي) لحسن الامين: ص47.

لأهل البيت (عليهم السلام) !! (1).

لاحظ الإرهاب والتنكيل وتهديم الدور، ولكن لاحظ اللطف الإلهي أيضاً وهو لطف عظيم، فهذه الأمة التي قُتّلت وشُرّدت وبُنيت في أسطوانات بغداد وسُملت أعين رجالها وقُطعت أعناقهم أو وضعوا في السجون حتى ماتوا، تلك السجون التي ما كان السجين يُميّز فيها الليل عن النهار، كيف قاومت هذه الأمة كل ذلك؟

إنها قاومت بقوة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، بمجالس سيد الشهداء (صلوات الله عليه) التي حفظت - بإذن الله تعالى وبحوله وبقوته - هذا الكيان وهذه الأمة، (فلا يزداد أمره إلا علوّاً) (2) هذا هو البُعد الحضاري لذكرى سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).

لولا المجالس الحسينية ..

ذلك الرجل يأتي إلى بيت الله الحرام ويطوف حول الكعبة ويؤدي الأعمال المطلوبة ثم يخاطب الله سبحانه وتعالى ويقول: يا رب يا الله إنك نعم الرب تفضلت وأنعمت وجدت وكذا وكذا.... ولكن أذكُر فضل محمد (صلى الله عليه وآله) - طبعاً هذا تذكير لنا جميعا - فكان هنالك حول هذا البيت ثلاثمائة وستون صنماً تُعبد من دون الله تعالى، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حطّم هذه الأصنام وأقرّ الوحدانية، فاذكر فضل النبي (صلى الله عليه وآله)، ولو لم يكن هذا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ما كنتَ تُعبد وحدك، ولكانت اللات وهبل..

ثم جاء الرجل إلى المدينة المنورة وسلّم على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: إنك نعم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) جاهدتَ وعملتَ وضحيتَ وفعلتَ وقد ذكرتُك عند ربك، ولكن يا رسول الله لا تنسَ فضل علي (عليه السلام) ، فإذا لم يكن عليٌ (صلوات الله عليه) موجوداً لم يبقَ هنالك ذكرٌ للنبي (صلى الله عليه وآله).

ص: 155


1- الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، لعبد الحليم الجندي: ص 107
2- راجع: بحار الأنوار: ج28 ص57.

لقد كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: يا علي إكشفها عني (1)، فمن الذي كان يكشف الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أحدهم كان يذكر فتوحات (فلان...)، ويقول بأنه فتح (كذا... و...)، فقال له أحد الأشخاص: إنك ذكرت الفرع ونسيت الأصل، فلو لم تكن فتوحات علي (عليه السلام) هل كانت تصل النوبة إلى فتوحات (فلان وفلان)، إذن اذكروا تلك الفتوحات، فلو لم يكن موقف علي (صلوات الله عليه) في بدر، ولو لم يكن موقفه في أحُد، ولا في بقية الغزوات، لما كان بقي من هذا الدين أي أثر، فاذكر فضل علي (صلوات الله عليه).

وجاء هذا الرجل إلى النجف الأشرف وقال لعلي (صلوات الله عليه) ذكرتُك عند رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولكن يا علي أذكر الحسين (عليه السلام) ، فإن لم يكُن الحسين موجوداً، ولم تكُن ثورته، لم يكن يبقى لك أثر، فلولا الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ما كان يبقى أي أثر من عليٍ ومن النبي (صلى الله عليهما وآلهما) ولولا هذه المجالس وهذه الذكرى لم يكن يبقى لسيد الشهداء (عليه السلام) أثر.

البعد الثاني: المجالس والزيارة أمان لأهل الأرض

هنالك أخطار تهدد الأمم وأخطار تهدد الأفراد، ربما يأتي عذاب إلهي (نعوذ بالله) ويهدد أمة مّا من الأمم، فالعذاب الإلهي لا يحتاج إلى مؤونة، فهنالك تلك المدينة التي كانت مضرب أمثال في العالم كله، ولكن في لحظات وليست دقائق، أي في عشرين ثانية فقط، يأتي زلزال يضرب تلك المدينة ويقتل أكثر من أربعة آلاف إنسان، وهذا يسمى خطراً يهدد أمة.

وهناك خطر يهدد الأفراد، فلا نعلم ما الذي قدّر الله سبحانه وتعالى لنا في ليالي القدر، في ليلة الثالث والعشرين، أو في بقية ليالي القدر، لا نعرف ما الذي كُتب لكل واحد منا إلى العام القادم، فهل نحن من الأحياء إلى العام القادم أو من الأموات؟ حقاً إن القدر الإلهي رهيب، ولا يعلم الإنسان لأن تقلب الدهر تقلب فاحش وشديد وكثير.

ص: 156


1- الانتصار، للعاملي: ج 6 ص180 نداء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم اُحُد: (يا علي رد هذه الكتيبة عني).

إن مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) وإحياء ذكراه هي من أفضل الوسائل الغيبية لدرء المخاطر والآفات التي تهددنا كأفراد وتهددنا كأمم، لقد جعل الله سبحانه وتعالى عللاً طبيعية في هذا الكون، ولكن جعل هنالك عللاً غيبية أيضاً، فالذي أعطى التأثير لحبة الدواء هذه، أعطى التأثير الغيبي لتلك الترُبة (تربة الصلاة، تربة قبر الحسين (عليه السلام) ).

من الذي أعطى التأثير لهذه الحبة؟ هل امتلكت التأثير من ذاتها؟ ومن أين لها هذه القوة ؟ هل هنالك شيء في هذا الكون يملك صفةً أو تأثيراً من ذاته؟ وهل هنالك ما هو ذاتي في هذا الباب؟ ليس لدينا ذاتي في هذا الباب، حتى لا يختلف ولا يتخلّف.

إنَّ الله تعالى الذي أعطى العلل الطبيعية آثارها، وأعطى للأشياء الغيبية آثارها أيضاً.

ينقل ذات مرة أن الوباء عمّ العراق، وفي ما مضى كانت الأوبئة تأتي وعندما تنتشر لا يمكن القضاء عليها بسهولة فكانت تبقى مدة طويلة وتحصد الملايين أو عشرات الآلاف، لعله لا يبقى بيت في مدينة إلاّ ويدخله الوباء، فيأتي الوباء للعراق ويدخل مُدُنه ومن ضمنها يدخل مدينة النجف الأشرف، - طبعاً عندما يجيء وباء ما، يكون واضحا ما هي الحالة التي يكون عليها الناس، فالإنسان لا يعلم إلى لحظات، أيبقى حياً أو ميتاً، لأنه يُقال بأن هذا الوباء (نعوذ بالله) إذا استحكم ونفذ ولا نقصد أعراضه السطحية، بل إذا نفذ إلى الإنسان خلال لحظات يقتل ولا يمهل - فجاء الوباء إلى مدينة النجف الأشرف، وكان فيها رجل متديّن مؤمن يقول هذا الرجل: نحن توسلنا إلى الله سبحانه وتعالى بسيد الشهداء (عليه السلام) فأقمنا مجلس توسل بسيد الشهداء (صلوات الله عليه) في إحدى الساحات العامة، وليس في أحد البيوت، ثم انتهى المجلس وذهب الناس إلى أعمالهم. وكان هذا الرجل مُتعباً ومرهقاً بعد عمل طويل، وقال: نمت هناك في الساحة نفسها التي أقمنا بها المجلس ولم أذهب إلى البيت، وفي المنام رأيت ثلاثة مسلحين أحدهم أخذ يهاجمني وأراد أن يقضي عليّ وفي هذه الأثناء نَهَرَهُ صاحِباهُ المسلحان اللَّذان كانا معه وقالا له: أترك هذا الرجل، أما ترى هذه الآثار، وهذه المفروشات لاتزال مفروشة في عزاء سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ولا تزال هذه

ص: 157

المنقلة موجودة هنا،وهذه أباريق القهوة لا تزال موجودةً هنا أيضاً، فأترك هذا الرجل.

يضيف الرجل قائلا: لقد تركني فعلاً، وسمعت الرجلين يقولان له: أترك هذا الرجل ولنذهب إلى القرية (الفلانية...)، وسمّاها ضيعةً (الضيعة الفلانية)، ثم استيقظتُ من المنام مرعوباً، في صباح اليوم التالي كنت أترّصد الأخبار التي ذكرتْ بأن هنالك ثلاثة أشخاص من الضيعة الفلانية ماتوا في تلك الليلة، لقد توجه الأجل لهذا الرجل في تلك الليلة ولكن دفع الله البلاء ببركة عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)

وقد جاء في الأحاديث، أنه في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك تقدّر الآجال، وفي ليلة الواحد والعشرين تقضى الآجال، أو قريب من هذه المضامين، وفي الليلة الثالثة والعشرين تُبرم الآجال إبراماً (1).

يبدو أن التقدير الإلهي له مراحل، مرحلة بعد مرحلة، فقد جاء الأجل لهذا الرَّجُل ولكن الأعمال والمجالس ترّد القضاء، (وقد أُبرم إبراماً) بمعنى أصبح القضاء حتميّاً، وكل العلل تؤدي إلى ذلك، ولكن ببركة هذه المجالس يُدفع هذا الأمر.

البعد الثالث: شفاعة المجالس الحسينية

لعل البعد الثالث أكثر أهمية من البعد الثاني، إنَّ هذه المجالس والذكرى شفيعةٌ لنا في ذلك اليوم وهو الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، في ذلك اليوم الذي يكون فيه الإنسان بأشد الحاجة، لأن يده انقطعت من كل شيء ولا يوجد عنده أي شيء ينفعه.، وحينما يتقطّع كل شيء عن الإنسان، تكون هذه المجالس وهذه الذكرى والزيارة والعبرة شفيعةً له في ذلك اليوم.

وفي الحقيقة أن من الضروري على المؤمنين - أيّدهم الله تعالى - أن يعمّموا هذه المجالس، فكم هو جيد حين تجدون هذه العادة الجيدة في بعض العوائل؟ في إحدى العوائل تجد (المجلس الحسيني) في بيوتهم عند دورة السنة، حيث في الليلة الأولى تكون في بيت هذا، وفي الليلة الثانية في بيت ذاك، على مدى أسبوع، ثم الأسبوع الثاني وإلى نهاية السنة، ففي هذه العائلة يستمر (المجلس) من أول السنة إلى آخرها، فكم هي عادة

ص: 158


1- راجع: تذكرة الفقهاء ( ط.ق ) للعلامة الحلي: ج1 ص283.

جيدة حقاً، وكم هو جيد أن تنحى بقية العوائل هذا المنحى؟

وكم هو جيد أن يعمل الشباب المؤمنون وفق هذا المنهج، سواء في إطار عائلي أو غير عائلي، فالحقيقة إنَّ الإنسان عندما يذهب إلى جوار ربه سيتأسف على كل ما فاته من هذه الأشياء، و(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَيَاتِي)(1)، فإذا تمكن الإنسان وليس بينه وبين الله تعالى محذور، فمن أفضل القربات إليه سبحانه هو إحياء ذكرى سيد الشهداء (عليه السلام) ، ومن أفضل الوسائل للخلاص من عذاب الآخرة هو إقامة تلك المجالس المباركة في البيوت.

لقد بذل أصحاب الحسين (صلوات الله عليه) أرواحهم، والروح تعني أثمن شيء لدى الإنسان، فيتَّمُوا أولادَهُم، وينبغي أن يتصور الإنسان ماذا يعني الأولاد الأيتام، فالإنسان بشر، وهؤلاء كانوا بشراً، وعندهم عاطفة كالعواطف التي عندنا، ورمّلوا زوجاتهم، لكن لماذا ؟ لنصرة سيد الشهداء (عليه السلام) ، أما الآن فأقول ليس المطلوب من الشخص أن يبذل روحه ولا مطلوب أن يرمّل زوجته ولا يُيَتِّم أولاده، بل يقيم مجلساً في بيته. فهل يبخل الإنسان على سيد الشهداء (عليه السلام) بهذه التضحية البسيطة؟! نصف ساعة أو ساعة واحدة في الأسبوع...

يُنقل أن هنالك زقاقاً في النجف الأشرف يسمى بزقاق (السيد علي الدرويش)، ربما كان سوقاً أو أشبه بذلك، وكان هنالك رجلٌ في هذا الزقاق أو السوق المُسقّف، له بعض الأشياء أو الذنوب، والشاعر يقول:

إن تغفر اللهم تغفر جمّاً *** وأي عبد لك ما ألمّا (2)

يُنقل عن أحد الخطباء المشهورين في النجف إنه قال ذات مرة: في ليلة من ليالي عاشوراء كنت أتنقّل من مجلس إلى آخر، فمررت بزقاق (السيد علي الدرويش) وإذا بذلك الرجل المعروف ببعض القضايا يأخذني نحو بيته ويقول: إلى أين أنت ذاهب ؟ فقلت له: عندي مجلس يجب أن أذهب، فقال: ألا تقرأ لي مجلساً، فهذه الليلة ليلة

ص: 159


1- سورة الفجر: 24.
2- قول الشاعر أبي خراش الهذلي.

عاشوراء سيد الشهداء (صلوات الله عليه)؟ قلت له: في الواقع عندي مجلس آخر، وأنا مستعجل. فقال الرجل متوسلاً: لحظات فقط، تقرأ لي (قراية) ثم تذهب إلى المجلس الآخر. فقلت له: أين الجمهور وأين المستمعون؟ لمن أقرأ المجلس؟ فقال: لي! ألستُ أنا إنساناً؟ ألستُ بمسلم؟ ألستُ بموالي؟، فقلت له: ولكن أين المنبر ؟ فنحن الخطباء لابد أن نجلس على منبر ونقرأ، ثم فجأةً رأيته وقد انحنى واتخذ وضع السجود واعتمد على يديه ورجليه وقال: أنا المنبر اصعد على ظهري واقرأ. وقد قال ذلك بصفاء وإخلاص حقيقي.

فرأيت لابد أن أقرأ له حيث لم يترك لي عذراً، وجلستُ على ظهره وهو في حالة السجود وقرأت بعض الكلمات وقلت: (السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا مظلوم...)، وقرأت عدة كلمات مختصرة. وإذا بالرجل يجهش بالبكاء في ليلة عاشوراء، وأكملت القراءة بسرعة وواصلت طريقي.

وبعد ثلاثة أيام فقط رآني أحد فضلاء النجف وقال لي: هل علمت بالخبر؟! قلت له: وأي خبر تعني؟ فقال: إن فلاناً مات (ويقصد الرجل الساكن في زقاق السيد علي الدرويش) وقد رأيت حوله البارحة رؤيا لا أعلم ماذا تعني؟ فقلت له: ماذا تعني بالرؤيا؟ فقال لي: رأيت البارحة في المنام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) واقفاً في أيوان الحرم وإذا بجنازة تأتي إلى الداخل، يطوّفونها حول قبر الإمام المبارك، ثم يدفنونها في صحن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) فتوّجه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أولئك الذين يحملون الجنازة وقال لهم: أخرِجوا هذا الرجل الذي تحملونه خارج الحرم لأنه ليس له قابلية أن يُدفن هنا، فهو ملوّث ببعض الذنوب والآثام أخرِجوه من هذا المكان.

ويواصل رؤياه قائلا: وحين أرادوا أن يخرجوه وإذا بي أرى سيد الشهداء (صلوات الله عليه) يدخل مسرعاً ويأتي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ويسلّم عليه ويقول له: يا أبتاه ائذن بدفن هذا الرجل إلى جوارك. فتوجّه أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلى سيد الشهداء (عليه السلام) وقال له: أنت تعلم بأن هذا الرجل كان له في حياته بعض الذنوب والآثام ولايليق به أن يُدفن في هذا المكان. فتقدم سيد الشهداء (عليه السلام) خطوة إلى أمير المؤمنين

ص: 160

(صلوات الله وسلامه عليه) وقال له: هل يمكن يا أبتاه أن يُحرق منبرك بالنار، لأن هؤلاء الملائكة النقالة إذا أخذوه من هنا ولم يسمحوا بأن يدفن بجوارك، فهذا يعني أنه سينقل إلى مكان آخر بعيد عنهم، فهل يليق أن يُحرق منبرك بالنار؟ فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): كلا، فوافق أن يدفنوه هنا. فدفنوه في ذلك المكان المطَّهر. ولا أعلم ماذا تعني قوله (هل يليق أن يُحرق منبرك بالنار).

فبكى هذا الخطيب بكاءً مرّاً وقال: إن هذه الرؤيا رؤيا صادقة، لقد كان هذا الرجل منبراً لسيد الشهداء (عليه السلام) في لحظات وقد نَجَّتْهُ تلك اللحظاتُ بشفاعة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) من عذاب النار وعذاب الآخرة.

إذن فهذه المجالس تحفظ لكم دين أبنائكم، حيث يعيش هؤلاء الأبناء في أجواء ملوّثة، فالمدارس ملوّثة، والصحف ملوّثة، والمجتمع ملوّث، بل كل شيء ملوّث حتى الهواء الذي يستنشقه الابن ملوّث، إنه تلوّثٌ كامل يشمل كل شيء، فكيف نحفظ هؤلاء الأبناء؟

إذا أردنا أن نحفظ أبناءنا فالطريق هو إقامة مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) في كل بيت وفي كل مكان، ولكن بقدر الإمكان، حيث (لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا)(1).

وإذا أردنا أن نحفظ إيماننا فالطريق هو سيد الشهداء (عليه السلام) ، وإذا أردنا الأمان في الدنيا والآخرة فالطريق هو سيد الشهداء (عليه السلام) أيضاً، نسأل الله حقاً التوفيق لهؤلاء الأفراد الَّذين يقيمون المجالس في كل ليلة، أو في كل أسبوع، وهم أفراد موفَّقون، وكل فرد يحتاج إلى التوفيق، وهؤلاء الذين يقيمون المجالس الحسينية في بيوتهم موفَّقون ومنظورٌ إليهم من قِبَل سيد الشهداء (عليه السلام) .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوّفقنا لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام) في الدنيا وأن يرزقنا شفاعته في الآخرة، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 161


1- سورة البقرة: 286.

الفصل الخامس : مظاهر الحب والمشاركة والولاء

اشارة

· واجباتنا إزاء القضية الحسينية

· شروط الانتصار للإمام الحسين (عليه السلام)

· شهر محرم ودلائل الحبّ والولاء

· لنقوي ارتباطنا بالإمام الحسين (صلوات الله عليه)

· الآثار الغيبية لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام)

· المشاركة بلا حدود في قضية الإمام الحسين (عليه السلام)

· الأبعاد الفقهية والاجتماعية للمجالس الحسينية

· المجالس البيتية.. مؤسسة اجتماعية فاعلة

ص: 162

1

واجباتنا إزاء القضية الحسينية في البيت والمجتمع والعالم

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يعاني الإنسان بشكل عام من مشكلتين: الأولى: هي المشكلة النظرية، والثانية: هي المشكلة العملية.

المشكلة النظرية

وهي عبارة عن مشكلة الرؤية، حيث هنالك أسئلة تُلّح على ذهن البشر، بعضها ثانوية، والبعض الآخر رئيسية تتعلق بهوية الإنسان ومسيرته وهدفه، والإنسان بطبيعته يبحث عن الحقيقة ويحاول الوصول إلى جواب كل سؤال وإن كان من صنف الأسئلة الثانوية، وهو ما نلاحظه من سمات الأطفال الذين يبحثون عن إجابات لأسئلة مختلفة حولهم، لكن إذا لم يجد الإنسان جواباً لهذه الأسئلة سيعيش حالةً من الحيرة والتمزّق الداخلي.

نقرأ في كتاب مفاتيح الجنان «...وحيرة الضلالة»(1)، هذه العبارة دقيقة جداً، ففي الضلالة حيرة، أي الإنسان يكون حائراً لا يعلم ماذا يفعل، لا يعلم إلى أين يتجه، وما هو الهدف؟، فنحن مرتاحون لأننا نعلم من أين أتينا وإلى أين نذهب وما هو المسير والمصير، بينما الشاب الذي فقد هويته فإنه يعيش في حيرة لا يعلم من أين أتى وإلى أين يذهب وما هو الشيء المجهول الذي ينتظره؟، ومثله كمن يضل الطريق وسط الصحراء، لا يعلم أين يذهب وماذا يفعل وما هو المصير الذي ينتظره، ربما يباغته ثعبان من تحت الأرض ويلسعه فيموت، أو أن ينضب عنده الماء فيموت عطشاً، أو ينفد الطعام عنده ويموت جوعاً؛ في ظل هكذا حالة يعيش الإنسان حالة من القلق والاضطراب، لذا جاء في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) : «...ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة».

ص: 163


1- انظر أيضا: مصباح المتهجد: ص 789. مقطع من زيارة الاربعين للامام الحسين (عليه السلام) .

علائم الضياع

الضلالة المعنوية هي كالضلالة المادية، بيد أنَّ الضلالة المعنوية أكثر خطورة، لأن أقصى ما تنتهي إليه الضلالة المادية هي الموت من العطش بسبب التيه في الطريق - مثلاً-

أما الضلالة المعنوية، فليست لها أبعاد معلومة أو مآل واضح، وهي الحالة التي ابتُلِي بها شبابنا اليوم ممن فقدوا هويتهم، فالذين يتسكعون في بعض مدننا، ربما يكون ظاهرهم حسَن، ولكنهم يعيشون في داخلهم أبشع حالات الضياع، وهو أيضا موجود في الغرب، حيث تخفي المظاهر المادية علائم الضياع الداخلي.

وأعتقد أن إحدى العوامل وراء موجة منع الحجاب في الغرب، هو الخوف من الإسلام، لكنه ليس الخوف منه كإرهاب، وإنما الخوف من الإسلام كدين، ولأن الغربيين يعانون حالة ضياع داخلي كبير، فإنهم يبحثون عن وسيلة لتذويب الإسلام في الغرب، بكل ما أوتوا من قوة.

أحد الأخوة الذي كان مقيماً في الغرب قال: بأن إحدى العوامل المهمة في قضية إقبال الغربيين على الإسلام هي قضية الموت؛ التي تُعد من القضايا الخطيرة جداً، إذ يتساءل البعض عما موجود بعد هذه الحياة، فليس للغرب جواب على هذا السؤال بما يرضي الضمير ويروي الوجدان، بينما الإسلام يمتلك الإجابة الشافية والكافية؛ ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة كتاب (منازل الآخرة)(1).

كما إن القرآن الكريم واضح في هذا المسألة، ونحن نعتقد أن قضية عاشوراء وقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) تُعد أفضل رافد لإعادة هذه الهوية وحل المشكلة النظرية للشباب، فإذا تمكنا من التعامل مع قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بشكلٍ أفضل، سنتمكن من أن نخرج شبابنا من حالة الضياع التي يعيشونها، ونعيد لهم هويّتهم، بل نتمكن من إنقاذ الغربيين أيضاً من هذا الضياع والحيرة التي يعيشونها، وكم من الملايين بل عشرات الملايين ومئات الملايين من البشر على مر التاريخ تمكنوا من استعادة هويتهم بفضل قضية عاشوراء وقضية كربلاء.

ص: 164


1- منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، للمحدث الثقة الحاج الشيخ عباس القمي.

يذكر العلامة (الفاضل الدربندي)(1) في بعض كتبه نموذجاً واحداً من ملايين النماذج لتأثير قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) على النفوس، فيقول: إن أحد كبار الطائفة الهندوسية في الهند، أعلن تحوله إلى مذهب التشيّع على أثر قضية لسنا بصددها، ثم ترك الهند وجاء إلى كربلاء، ويقول الدربندي: إن هذا الرجل أصبح اليوم من أعبد وأزهد أهالي كربلاء!

وفي نفس السياق ينقل أحد الأخوة القادمين من الهند، بأن ثمة أرضية جيدة لتقبل الإسلام في طبقة المنبوذين الموجودين في الهند وهم يعدّون بالملايين، ولنتصور ما يحدث إذا طُرحت قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) على أولئك المنبوذين؟ ويضيف هذا الأخ نفسه قائلاً: بأن الهدف من كل الذي يُثار بين المسلمين والهندوس بين فترة وأخرى، مثل افتعال الحرائق وغيرها من الأزمات، هو لخلق حاجز نفسي بين الهندوس والمسلمين، حتى لا يفكر الهندوسي في يوم من الأيام باعتناق الإسلام، وعلى صعيد الغرب أيضاً، فإن إثارة قضية الإرهاب في كل مكان، هو بهدف خلق الحاجز النفسي حتى لا يفكر الغربيون يوماً ما باعتناق الإسلام.

إذن لقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قدرة هائلة على إحداث التحول في النفوس، ولها القدرة على إنقاذ كل العباد من الجهالة وحيرة الضلالة، كما جاء في الدعاء وفي هذا المقطع: (ليستنقذ عبادك)، وينقل الخطباء (حفظهم الله) أن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) يخاطب أهل العالم عندما يظهر، بقضية الإمام الحسين (عليه السلام) ويقول: (ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين قتلوه عطشاناً)(2).

المشكلة العملية

تُعد المشكلة العملية إحدى أهم المشكلات أمام الإنسان، وفي المجال بحثٌ طويل لايسعنا المقام الخوض فيه، لكن ثمة كلمة يقولها بعض العلماء وهي: إن مهمة الأنبياء (عليهم السلام) تتلّخص في كلمتين أو مهمتين:

ص: 165


1- المولى آقا بن عابدين بن رمضان بن زاهد الشيرواني الدربندي الحائري، فقيه اصولي متكلم، توفي بطهران سنة 1285 ه- ونقل الى كربلاء ودفن في الصحن الحسيني الشريف.
2- شجرة طوبى: ج2 ص398.

الأولى: إيصال جوهر العقل إلى مرحلة الكمال النظري.

أما المهمة الثانية وهي مهمة جداً وعظيمة: هي إيصال جوهر الإرادة إلى مرحلة الكمال العملي، لكن ماذا تعني مرحلة الكمال العملي؟

إذا أراد أحدنا النهوض لصلاة الصبح، فإنه سينظم المنبه على وقت الأذان، فيرنّ صوت المنبه ويستيقظ، ثم يضع يده على المنبه ويغلقه وينام مرة ثانية؛ فالمشكلة هنا في الإرادة، إذ أن إرادة هذا الرجل ضعيفة، ولا يتمكن من النهوض من مكانه؛ طبعاً هذا في إطار الواجب، وقد يصممّ للنهوض لأداء صلاة الليل، فينظم المنبه في الساعة المعينة، أو يقرأ الدعاء المجرب للاستيقاظ في أي وقت يريد: (اللهم لا تُنسني ذكرك ولا تؤمنّي مكرك ولا تجعلني من الغافلين)(1)، فيستيقظ من النوم ويفتح عينيه، لكن المخدع الوفير لا يسمح له بتركه، يقول القرآن الكريم: (اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ)(2)، وهذا (إثّاقلتم) يعني عدم وجود الإرادة، وعدم بلوغها مرحلة ترك الفراش، وهو إيصال جوهر الإرادة إلى مرحلة الكمال العملي.

ومثال آخر، اكثر أشكالاً من المثالين المذكورين، فإذا كان الأول مشكلاً والثاني أشكل، فإن هذا المثال الثالث أشكل من الأشكل! فالذي يبدأ بالصلاة يقول: (الله أكبر) ويصمّم من البداية أن يكون ذهنه عند الله سبحانه وتعالى، لكن كم ثانية يمكنه الاحتفاظ بهذا التوجه؟ ربما نتمكن من تركيز ذهننا مع الله تعالى لمدة أربع ثوانٍ فقط، وبعدها يكون الذهن مشتتاً هنا وهناك، فعدم القدرة على التحكم على الباطن، يعني أن جوهر الإرادة لم يصل إلى مرحلة الكمال العملي.

نحن نعتقد أن نظام العبادات يحتاج إلى طاقة، وإلى قوّة باطنية، فمن الذي يوفر الطاقة لهذه القوة الباطنية ليتمكن الإنسان من ترك مخدعه وفراشه؟

عاشوراء انبعاث التحدي والصمود

نعتقد أن قضية كربلاء تُعدّ إحدى القضايا المهمة والعظيمة، إلى جانب القرآن الكريم والصلوات اليومية والأدعية و الذهاب إلى مكة والعمرة، وغيرها، كلها مؤثرة

ص: 166


1- بحار الأنوار: ج73 ص216 (دعاء لمن أحب أن ينتبه بالليل من النوم).
2- سورة التوبة: 38.

وتعطي الطاقة الكبيرة للإنسان، وقضية كربلاء هي إحدى القضايا المهمة التي تعطي للمؤمنين على مرّ التأريخ هذه الطاقة القوية الهائلة، فقد كانت وراء واقعة الطف طاقات هائلة، فالذي جعل الحرّ (رضوان الله عليه) في اللحظات الأخيرة يختار هذا الاختيار هو الطاقة والقدرة العظيمة، وهو الذي كان موجوداً أيضاً عند شهداء كربلاء، وهذه المعنويات الهائلة تبقى ترفد المؤمنين على مر التاريخ، لذا فإن كل يوم من الحضور تحت المنبر أو قراءة كتاب حسيني أو التفكير في قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) تعطينا طاقة باطنية هائلة. إن قضية عاشوراء هي التي ضخت الطاقة في التحدّي والصمود في نفوس المؤمنين الذين كانوا يرزحون في سجون الحكومة الظالمة والبائدة في العراق، وكلمة (السجن) في العراق تنطوي على ألف معنى، منها التعذيب المهول والقاسي، حيث كانوا يعلقون الرجل من رجليه بالمروحة ثلاثة أيام ومع ذلك لا يعترف لهم بشيء، وهذا يعد أحد مظاهر القدرة الباطنية، وهذه القدرة قد تظهر في السجن بهذا المظهر، أو قد تظهر في جبهات القتال بمظهر آخر، وقد تظهر في (صاحب الجواهر) عندما يجلس حوالي خمسة وعشرين عاماً ليؤلف كتاب (جواهر الكلام)، وهذا هو جوهر الإرادة مع اختلاف مظاهرها.

واجباتنا إزاء القضية الحسينية

بعد ذلك علينا أن نتحرك ضمن دوائر ثلاث لأداء واجباتنا إزاء

قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه):

الدائرة الأولى: البيت ومسؤولية الوالدين

إن من المهم جداً أن نصنع من أولادنا وعوائلنا جيلاً حسينياً، وأن نشدهم بالإمام (عليه السلام) ، وأن نجعلهم مُحبّين والهين مشدودين إليه، وهذه المهمة تقع على عاتق الأبوين، فالمناهج العلمية الموجودة في المدارس لا تخلق هذا الانشداد والتعلّق، إلاّ بشكل باهت، ومع ذلك فإن الغرب غير راضٍ عنها، بل ويريد تضعيفها أكثر! في حين إذا قارنّا بين المناهج الموجودة عندنا ونظيرها الموجود في الغرب، نجد أن تلك المناهج الموجودة تعمل على شدّ الغربيين بتاريخهم، ومن المهم جداً في كل أمة أن ينشد الفرد إلى تاريخه، لكن المشكلة أن مناهجنا في هذا البعد ضعيفة جداً.

ص: 167

وكان متداولاً فيما مضى من الزمن، أن الأم قبل أن ينام أولادها كانت تتحدث معهم عن التاريخ، لتجعلهم يعيشون أجواء خيبر - مثلاً - أو يعيشون قضية أبي ذر (رحمه الله) ، ليفهم الطفلُ أبا ذر بمقدار إدراكه، ويعيش قضايا عاشوراء مثل قضية أبي الفضل العباس (عليه السلام) وقضية علي الأكبر (عليه السلام) وقضية الطفل الرضيع (عليه السلام) ، فالطفل يفهم هذا الأشياء، ممن ينقل له هذا الانطباع، فيكوّن فيه هذا الانشداد، والدعوة للآباء والأمهات، بأن يجربوا لمدة شهرين أو ثلاثة ويتحدثوا كل ليلة وقبل أن ينام الأطفال عن قضايا كربلاء وقضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) وقضايا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وقصصهم، ولاحظوا النتيجة بعد مدة حيث لن يتركوكم، فكل ليلة سيطلبون منكم سرد قضية معينة، لذا فإن الآباء والأمهات هم من عوامل تراجع الانشداد والتعلق اليوم بين الناس وبين قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

ويروى عن الشريف الرضي(1) (رحمة الله عليه) أنه كان يعيش في بغداد، والمسافة ليست بعيدة بين العاصمة ومدينة كربلاء المقدسة، لكنه كان يرفض الذهاب إلى هذه المدينة، وذلك في وقت كان الزائرون يتقاطرون من داخل العراق وخارجه على المدينة، لزيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، إذن فالجميع كانوا يأتون إلى كربلاء المقدسة، ما عدا الشريف الرضي (رحمه الله) ، وهو الذي جمع كتاب (نهج البلاغة)، وكان جوابه على إلحاحهم: أنا أعرف بنفسي، فأنا ليس بوسعي الذهاب إلى كربلاء، لكن بعد أن بلغ الخمسين من العمر قرّر أن يأتي إلى كربلاء المقدسة، وبدأ سيره على الأقدام من العاصمة بغداد ماشياً، وعندما لاحت له قباب الإمام (صلوات الله عليه) من بعيد خلع حذاءه وأخذ يهرول ويقرأ هذا البيت من قصيدته المعروفة:

كربلاء لا زلت كرباً وبلا *** ما لقي عندك آل المصطفى

وأخذ يهرول ويلطم ويبكي، إلى أن وصل إلى قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فانكب على القبر صارخاً باكياً.. وبعد فترة أنقطع أنينه وانقطع صوته، حرّكوه وإذا بالرجل قد فارق الحياة.

ص: 168


1- أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي المعروف بالشريف الرضي، المتوفى سنة 406 ه، وهو الذي جمع نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وأذكر قضية أخرى مشابهة، وقد حصلت لأحد الأخوة في كربلاء الذين تشرفوا بزيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بعد قضايا الانتفاضة الشعبانية، وقد كانت كربلاء آنذاك مهدّمة واليوم هي مهدمّة أيضاً، وقال الذين يرافقونه طوال زيارته لكربلاء: بأنه كان يمشي حافياً، وكان دائم البكاء، فكانوا يسألونه عن سبب بكائه؟ كان يقول: إن الذي رأيتُه لم ترَوهُ. وبعد ما رجع إلى قم المقدسة، سألوه عن حال وظروف كربلاء المقدسة، فقال: من أول نظرة على الحرم طلبت موتي من الإمام الحسين (عليه السلام) ، وفعلاً ركب السيارة وتوجه إلى مشهد، وفي الطريق (الذهاب أو الإياب) حدث اصطدام بين سيارته وسيارة أخرى، وكان في عداد الموتى!. وعليه فإن الأبوين يتحملان مسؤولية خلق نموذج الانشداد والذوبان في حب الإمام الحسين (عليه السلام) .

كان لأحد الخطباء المطلّعين كلام لطيف، بأن أحد الأشياء التي جُرّبت في مدارس الأطفال، هو محاولة شدّ الأطفال بالإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فتتكون لدى أطفالنا رؤية عن الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ، فقد كان عندهم انشداد، ويقول هذا الخطيب: بأن في المدارس التي وُجد فيها أساتذة يذكرون الإمام المهدي (عليه السلام) ، ويزرعون في قلوب الأطفال حب الإمام المهدي (عليه السلام) ، أصبح هؤلاء الأطفال من الناحية الدينية والأخلاقية والاعتقادية، أفضل من غيرهم، وبالنتيجة فإنه عندما ينشدّ الطفل بإمام زمانه (عليه السلام) سيتغير قطعاً، حتى في البيت، حيث يتغير سلوكه، إذن هي مسؤوليتنا نحن الآباء وواجب الأمهات، كما هو واجب الأخوان لإخوانهم الصغار، بأن يحاولوا أن يوجدوا هذا الانشداد والذوبان في قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

الدائرة الثانية: المجتمع

من مسؤوليتنا حول قضية الإمام الحسين (عليه السلام) طرحها في المجتمع، بحيث يتصدى المجتمع بكل طبقاته وأصنافه لذلك ويهتم بإقامة الشعائر الحسينية ..

كان من اقتراحات الوالد (1) (قدس سره): إضاءة الأسواق والطرقات بالمصابيح الحمراء أيام عاشوراء، أو أن يضع كل فرد في بيته مصباحاً أحمراً، وذلك لإحياء هذه

ص: 169


1- المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) .

القضية في المجتمع، يروي السيد الرجائي الكبير (حفظه الله) أنه كان هنالك رجل فقير لايمتلك أموالاً لكنه في أيام عاشوراء كان يقيم مجلساً ضخماً للإمام الحسين (عليه السلام) ، وكان يهيئ التكاليف اللازمة من العبادات الاستئجارية، مثل الصلاة أو الصوم، رغم ما فيها من العناء الشديد، وأظن أنه قال بأنه كان يُطعم في هذا المجلس الضخم المشاركين والمعزين.

الدائرة الثالثة: العالم

فبمقدار الإمكان ومع وجود الوسائل الجديدة المتاحة، علينا العمل على نشر القضية الحسينية في العالم، لأن هذه الأعمال تجلب البركة في حياة الإنسان بالإضافة إلى آثارها الأخروية.

يُنقل أنه كان هنالك رجل من الذين وُفقوا للتشرف برؤية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، ويُنقل أنه قد تشرف أكثر من مرة، فسُئل عن كيفية الوصول إلى هذا المقام، وما هي البداية؟ قال: إنه في ليلة من الليالي رأيت النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا، فطلبتُ من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن أوّفق لرؤية الإمام المهدي (عليه السلام) ، فقد كانت هذه الحاجة مُلّحة على ذهنه، حتى في عالم الرؤيا يطلب هذه الحاجة، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إن أردت ذلك فابك على ولدي الحسين (عليه السلام) كل صباح ومساء، وهذا أمر هيّن، إذ يمكن تشغيل جهاز المسجل في البيت والاستماع لشريط كاسيت لأحد الخطباء والبكاء صباحاً ومساءً، وقد جاء في زيارة الناحية: (فلأندبنّك صباحاً ومساءاً)، قال: ففعلت هذا العمل لمدة.. ثم كان هذا مفتاح التوفيق لرؤية الإمام المهدي (صلوات الله عليه).

لذا يجب علينا أن نحاول أن لا نفرّط في هذا المجال - الاهتمام بالقضية الحسينية - سواءً على صعيد البيت أو المجتمع أو العالم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 170

2

شروط الانتصار للإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

تنقسم علاقة الناس تجاه النهضة الحسينية إلى أربعة أنواع:

الأول: هو موقف المجابهة، وتمثل في موقف الجيش الأموي.

والثاني هو موقف الخذلان، وتمثل في موقف عبد الله بن عمر بن الخطاب، حيث قال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): يا أبا عبد الرحمن إتَّقِ الله ولا تتركنَّ نصرتي... ولكنَّ موقفَه كان الخذلان، كما كان موقف الكثيرين ممن اكتفوا بالتفرج على الأحداث ولم يكن لهم في الأحداث أي دورٍ فاعل.

نسلط الضوء في هذا البحث على الموقفين الآخرين وهما:

الموقف الثالث: وهو المساندة المحدودة.

والموقف الرابع: فهو المساندة غير المحدودة.

موقف المساندة المحدودة

بدايةً نقدم؛ إن الإيمان يحتوي فيما يحتوي على عقدٍ بين العبد وربّه، وله أربعة أركان:

1. المشتري، وهو الله سبحانه وتعالى.

2. البائع، وهو الإنسان المؤمن.

3. المُثمَن، وهو النفس والمال، و كل ما يملك الإنسان، علماً إن عندنا نوعين من الملكية: الأول الملكية الحقيقية، والثاني الملكية الاعتبارية؛ وتتمثل الملكية الحقيقية في ملكنا لأنفسنا، فكل واحد منا مالك لنفسه بالملكية الحقيقية، وهي ليست ملكية استقلالية، فيما تمثل الملكية الاعتبارية ملكيتنا لأموالنا، ولا نملك شيئاً آخرَ وراء هاتين الملكيتين.

4. الثمن، يقول الله سبحانه وتعالى: ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ

ص: 171

وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ)(1)،الثمن الجنَّة وهي السعادة الأبدية، حيث الفوز الأبدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء، وهو يمثل أيضاًً المعاقدة التي تمت بين كل واحد منا وبين ربه، لكن أين تمّت هذه المعاقدة؟ يُحتمل أنها تمت في هذه النشأة، أي بدخول الإنسان في الإسلام واعتناقه هذا الدين، حيث إن الإسلام هو التسليم المطلق، ويُحتمل أن هذه المعاقدة تمت في نشأةٍ أخرى، والذي يظهر من بعض الروايات المذكورة في (تفسير البرهان) أن هذا العهد والعقد تم في نشأةٍ متقدمة على هذه النشأة، وهو عالم الميثاق.

حالة الاستعداد للعطاء

إن النقطة التي تهمنا في هذه المقدمة هو ما يترتب على هذا العقد: الشيء الذي يترتب أن يكون البائع في حالة تهيّؤ وترقب حتى يعمل بمقتضى العقد، ومثالٌ على ذلك: الذي يبيع بيتاً، فبمجرد بيع البيت، على ضوء عقد البيع والإمضاء عليه، أو القول بأني (بعتك هذه الدار)، وعند آخر حرف من كلمة (بعتك)، يترتب على ذلك أنكم يجب أن تعيشوا حالة التهيؤ، وربما لا يطالب المشتري بشيء، ويسمح للبائع بالاستمرار بالسكنى في هذه الدار، لكن إذا حصل أن طالب المشتري في يوم من الأيام بإخلاء الدار، سواءً بشكل جزئي أو كلي، فإن على البائع تسليم الدار، لأن العلاقة مقطوعة بين هذه الدار وبين البائع من الناحية الشرعية والعرفية والقانونية.

وهذه هي حالة المؤمن، وهكذا يجب أن يكون، ولعل بعض المؤمنين ليسوا هكذا، لكن على المؤمن أن يعيش حالة التهيّؤ، ويحصل أن تسود حالة هدنة، ولا يطالب الله الإنسان بشيء أحياناً، أو قد يطالبه بحدود، ولكن في أحيان أخرى يطالبه الله تعالى بكل شيء، ولا يجب الاعتقاد أننا بعيدون عن مثل هذه الامتحانات، تقول الآية المباركة: (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ)(2)، فمن هو المؤمن الكاذب؟ ومن هو المؤمن الصادق؟

ص: 172


1- سورة التوبة: 111.
2- سورة العنكبوت: 2-3.

في يوم الامتحان تظهر حقائقنا كلها، ولذا يجب أن ننمّي حالة التهيؤ والترقب والانتظار في أنفسنا، وهي لا تأتي اعتباطاً، إنما تحتاج إلى تنمية وتثبيت وتركيز، ويُعد التثبيت من المفاهيم القرآنية المهمة، لاحظوا الآية الكريمة: (وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ)(1)، كما تحتاج إلى تربية وتنمية، حتى نكون على استعداد تام لأن نقدم كل شيء يطلبه منّا الله سبحانه وتعالى وهو المشتري، (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

يقول السيد الوالد (قدس سره) في (التقريب) (2): (الاستبشار: الفرح الذي يظهر)، وعندما يكون الفرح محدوداً يبقى في القلب، ولكن إذا كان الفرح كبيراً، فإن الإنسان لن يتمكن من كتمانه، كما إن الحزن الكبير لن يتمكن صاحبه من كتمانه في قلبه، فيظهر على ملامحه.

نقل أحد العلماء قضية ظريفة، يقول: ما كنت أفهم معنى الآية الكريمة: (إِنّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ) (3) فكيف يكون الإنسان في خسر؟ حتى صادف أحد أيام الصيف والطقس الشديد الحرارة، وكنت أسير إلى جانب بائع ثلج وكان يخاطب الناس بنداء لطيف، وهو ما ينطبق علينا؛ كان يقول: (إرحموا من يذوب رأس ماله...)! فهو يدعو الناس لأن يشتروا بضاعته قبل أن تتحول تحت حرارة الشمس إلى ماء سائل وتنتهي، يقول ذلك العالم: آنئذ فهمت معنى (إن الإنسان لفي خُسر)، فان عمرنا هو الذي يذوب ويؤول إلى النَّفاد (نفَس المرء خطاه إلى أجله)(4)، فأمامنا حفرة محفورة لنا - إن كانت لنا حفرة - ونحن نركض باتجاهها، وهي مثوانا الأخير، فهذه المعاملة ألا تحتاج إلى استبشار؟ والذي ينتهي وينفد هو عمرنا

ص: 173


1- سورة البقرة: 265.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان. للإمام الشيرازي.
3- سورة العصر: 2.
4- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وأموالنا التي نبيعها إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الثمن الكبير (فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

في كربلاء.. العطاء بلا حدود

أمامنا سؤالٌ: هل تجدي المساندة المحدودة تجاه نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) إذا كانت الوظيفة هي المُساندة بلا حدود؟

إن الذي يساند في حدود مّا، لن يكون قد أدى وظيفته وواجبه، لأن قضية كربلاء وعاشوراء كانت تتطلب مساندة بلا حدود، ولا يمكن لإنسان في ذلك الموقف أن يضع حدوداً لمساندته، طبعاً هذه القضية لا تقتصر على ذلك اليوم، فالقضية خط مستمر، لأن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يمثل حركة إصلاحية متجددة دائمة عبر العصور والدهور، فإذا حصل في ظرف معين أن تطلبت مساندة بلا حدود، فيجب على المؤمن أن يهيِّأ نفسه لذلك، بل ويطوّع نفسه أيضاً، لأن النفس ترفض أن تُلقَى بين مخالب الموت، كما أن الإنسان غير مستعد أن يرد على بدنه خدش صغير، وهو يهرب من الضرر، لذا تحتاج هذه المساندة إلى توطين وتطويع وترويض.

إن تثبيت وترسيخ هذه المعاني هو من معطيات حضور مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) والمشاركة في المواكب الحسينية والزيارات لسيد الشهداء (عليه السلام) ومنها زيارة الأربعين، فهذه المعاني لن تأتيَ اعتباطاً، إذ على كُلٍّ منّا أن يجلس ويقلّب التاريخ، ويطالع المواقف المختلفة، فيحدد موقفه؛ إمّا في هذا الخط، أو في ذلك الخط، وهذا بحاجة إلى تفكير وتأمّل؛ إنَّ من البركات الكثيرة للمجالس الحسينية تربيةَ النفوس المؤمنة على حالة العطاء المطلق؛ أذكر موقفين تجلّيا في قضية عاشوراء، وهما يتجليان على مر الدهور والعصور:

موقف الجعفي

الموقف الأول: ويمثل موقف المساندة المحدودة، وهو مذكور في كتاب (الفتوح) المجلد الخامس صفحة 129 إلى صفحة 132. ومذكور أيضاً في كتاب (الأخبار الطوال) ص250 وص251، ومذكور أيضاً في كتبٍ أخرى.

ص: 174

الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يأتي بنفسه إلى عبيد الله بن الحر الجعفي ويقول له:

(إعلم أن الله عزوجل مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية) أي أن سجلّك مليء بالذنوب، في إشارة من الإمام (صلوات الله عليه) إلى مواقف هذا الرجل في حرب صفين، ومشاركته في الحرب إلى جانب معاوية ضد الإمام علي (صلوات الله عليه).

لكن الإمام الحسين (عليه السلام) يقول له: (وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من الذنوب؛ أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت)، وربما نكون نحن أيضاً بحاجة إلى هكذا مواقف في حياتنا، طبعاً لم يكن الإمام (صلوات الله عليه) يخصّ ذلك الرجل بالحديث وإنما كان نداءً يتردد على مسامع الأجيال على مرّ القرون والدهور، وهو نداء (هل من ناصرٍ ينصرنا)، وما يزال مدوّياً، فالأعداء تكالبوا اليوم من كل مكان لمحو اسم الحسين (عليه السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وكل ما يتعلق بهم، ولم تتوقف الحرب التي كنّا نظن أنها توقفت عندما نطالع كتب التاريخ والفقه ونقرأ عن الخوارج والنواصب، على أنها قضية تاريخية، وأيضاً عندما كنا نقرأ زيارة عاشوراء وما تضم من ذكرٍ لأشياع بني أمية وأتباعهم، وإذا بالأحداث اليوم تكشف عن استمرارية الخط الأموي والناصبي.

فقال ذلك الرجل: (والله إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن اُغني عنك فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة فإن نفسي لم تسمح بَعدُ بالموت، وهذه فرسي مُلجمة، والله ما طلبتُ عليها شيئاً إلاّ أذقته حياض الموت ولا طُلبتُ عليها فلُحقت وخذ سيفي هذا فو الله ما ضربتُ به إلاّ قطعت).

فقال الإمام الحسين (صلوات الله عليه): يا ابن الحر! ما جئنا لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة فإن كنت بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيءٍ من مالك...). فرفض الإمام (عليه السلام) أن يتقبل منه شيئاً، لأن ذلك اليوم يتطلب العطاء الكلي، ولن تكون المساندة المحدودة ذات قيمة، وجاء في التاريخ أن عبيد الله ندم على هذا الموقف، وكانت نتيجته أن بعض أعدائه طاردوه حتى وصل إلى نهر فرأى أنه إما يصبر حتى يصل أعداؤه فيقتلوه، أو يُلقي بنفسه في النهر، فأخذ بالخيار الثاني وألقى

ص: 175

بنفسه في النهر ومات غرقاً.

بموقفٍ واحد، كان بإمكان عبيد الله بن الحر الجعفي أن يكون كأحد أصحاب الإمام الحسين (عليهم السلام) المستشهدين بين يديه، أن يكون الشخص الذي يقف أمامه الملايين من العلماء والزُهاد والعباد والمؤمنين والصالحين ومراجع التقليد على مر التاريخ ويقولون: (بأبي أنتم وأمي...)، في الزيارة التي علّمها الإمام الصادق (عليه السلام) لصفوان، ومذكورة في كتب الزيارات، لكنه تحول إلى عاقبة أخرى، وكان يقول في حياته كما في كتب التاريخ:

أراها حسرةً ما دمتُ حياً *** تردد بين صدري والتراقي

حسين حين يطلب بذل نصري *** على أهل العداوة والشقاق

فلو واسيتهُ يوماً بنفسي *** لنلتُ كرامةً يوم التلاقي

فلو فلق التلهّب قلب حيٍ *** لهمّ القلب مني بانفلاقٍ

لقد فاز الذي نصروا الحسين *** وخاب الأخسرون ذَوُوالشقاق(1)

ثانياً: موقف وهب

وكان في مقابله، موقف وهب الذي قدّم كل شيء، وجاء تفصيله في (أمالي الصدوق (رحمه الله) ) المجلس ثلاثين، وفي (وسيلة الدارين) ص202، وفي (بحار الأنوار) ج45 ص17، حينما ذهب هذا الرجل المسيحي وأسلم ثم قاتل بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) ولم يكن قد مضى على إسلامه سوى عشرة أيام، وعلى زواجه سوى 17 يوماً، ثم عاد إلى أمه فقال:

يا أماه أرضيتِ؟

قالت: ما رضيت! أو تُقتل بين يدي الحسين (عليه السلام) .

فقالت امرأته: بالله لا تفجعني في نفسك!

فقالت: يا بني لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله.

ص: 176


1- بحار الأنوار: ج45 ص354.

فلم يزل يقاتل حتى قُتل، كما قُتلت بعده امرأته في تفصيل مذكور في كتب المقاتل.

نحن المؤمنين نعيش ظروفاً استثنائية، فقد فتح الآخرون علينا حرباً دون حدود، ومثاله ما يصنعون في العراق، حيث القتل على الهوية لأن الضحية من أتباع أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وكما نقلت وسائل الإعلام، تم العثور على مجموعة من الجثث مثقوبة بآلة ثقب الجدران!، وأعمال قتل على الهوية بأفجع الصور، إلى جانب التهجير على الهوية أيضاً، حيث تم تهجير آلاف العوائل، فتكون العائلة دون بيت وتحت الخيام في الصحراء أو المدن المختلفة، فالحرب دون حدود بحاجة إلى ثبات دون حدود أيضاً، إذن ينبغي علينا أن لا نضع حداً للثبات، ومن الآيات المهمة وكل آيات القرآن الكريم مهمة، يقول الله تعالى: (يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ)(1)، بأن يوطِّنَ الإنسان نفسه على الثبات، لعدة أمور:

أولاً: وفاءً بالعهد مع الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: أملاً بالجزاء الكبير الذي وعده الله سبحانه للمؤمنين.

ثالثاً: اقتداءً بآبائنا وأجدادنا الصالحين.

النصر بشرط الثبات

وهذه القضايا ليست بالجديدة، فقد تعرض المؤمنون على مر التاريخ لهكذا محن، وثبتوا، وقدّموا الكثير؛ اقرؤوا (سورة البروج) تلاحظون ما صنعه الطغاة الظالمون بالمؤمنين في ذلك العهد حيث القتل على الهوية، هي نفس الأعمال التي قام بها الإرهابيون والمستعمرون والبعثيون في العراق، وجاء في تفسير (البرهان) في تفسير قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الاُخْدُودِ)، إن الأخدود هو الشق الواسع في الأرض، (النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(2)، واليوم أيضاً نقموا على المؤمنين لإيمانهم

ص: 177


1- سورة الانفال: 45.
2- سورة البروج: 5 - 8.

بالله تعالى، جاء في الرواية المروية في التفسير، أن ذلك الحاكم الظالم جمع المؤمنين وخدّ لهم أخدوداً وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من اُحرق بالنار بعد إلقائهم فيها، علماً إن أشد أنواع التعذيب هو الإحراق بالنار، ومنهم من قُتل بالسيف ومُثّل به كل مُثلة - أي تقطيع أعضاء بدن الإنسان حتى الموت - فبلغ عدد من قُتل وأُحرق بالنار عشرين ألف إنسان، (وَهُمْ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي جلسوا يتفرجون عليهم، كما يحصل اليوم حيث تُعد السيارات المفخخة نوعاً من أنواع الإحراق وهو من أشد أنواع التعذيب، فيما تجلس الحكومات المتآمرة وتتفرج على هذا المشهد.

وجاء في تفسير (العياشي): أن امرأة جاءت ومعها صبي له من العمر شهرٌ واحد، فلما واجهت النيران هابت ورقَّت على ابنها، ويبدو هي كانت متهيئة للموت، ولكنها رقّت على الطفل ذي الشهر الواحد أن تُحرقه النار، فناداها الصبي بقدرة الله تعالى: أن لا تهابي وارمني ونفسك في النار!

وقضية تكلّم الصبيان متكررة في التاريخ، حيث تكلم المسيح (عليه السلام) في المهد (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام)، كما تكلم ذلك الطفل في المهد في قضية يوسف (عليه السلام) (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَآ)(1)، وعليه فإن كل هذا في الله قليل، وكل ما يفعله المؤمن في سبيل الله فهو قليل.

وذلك من التاريخ القديم، لكن من تاريخنا، وتاريخ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، هناك قضيتان مذكورتان في كتاب (مُسكّن الفؤاد) للشهيد الثاني (رحمة الله عليه)، ضمن مجموعة من القضايا:

يقول الشهيد الثاني (رحمه الله) : لمّا كان يوم اُحُد وقالوا: قُتل النبي (صلى الله عليه وآله)! ثم انتشرت الشائعة حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة لهول الخبر، لأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمثل لهم كل شيء، فخرجت امرأة من الأنصار فمرّت على مجموعة من القتلى، فقالت من هؤلاء؟ فقالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك! قالت: ما فعل النبي؟

ص: 178


1- سورة يوسف: 26.

قالوا: أمامك، فمشت حتى جاءت إليه فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمتَ..

فهي بالرغم من الفاجعة العظيمة عليها كان همّها سلامة النبي (صلى الله عليه وآله)، وتاريخنا يزخر بهكذا نماذج من المعنويات العالية.

ونموذج آخر في تلك الظروف نفسها، حيث نُعيَ لامرأةٍ من بني دينار، أبوها وأخوها وزوجها، ولعل أصعب شيءٍ على المرأة أن يُنعى إليها زوجها، فقالت: ما صنع رسول الله؟ قالوا: خيراً، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه فاُشيرَ لها إليه، قالوا: هذا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبةٍ بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فهي هيّنة.

والقضية الأخرى في كتاب الشهيد الثاني (رحمه الله) أن السمراء بنت قيس خرجت وقد أُصيب ابناها فعزاها النبي (صلى الله عليه وآله)، فقالت: كل مصيبة بعدك جلل، ثم قالت هذه الكلمة أمام النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (والله لهذا النقع - الغبار - الذي أرى على وجهك أشدُّ من مصابهما)(1)، ولولا هذه التضحيات، لما كانت تصل إلينا هذه الأمانة وهي: الإسلام والقرآن وعاشوراء.

العراق والمؤامرات

إن المؤمنين في كل مكان يتعرضون للمؤامرات لاسيما المؤمنين في العراق، لأن رأس الرمح الاستعماري الكافر موّجه إليهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجيّهم جميعاً من هذه المحنة الكبرى، من هنا فإن الثبات يعقبه النصر، ولو من خلال المرارة، لكن إذا حصل التراجع، فإن معناه عودة العراق إلى حكم صدام والبعث مرة أخرى، وحسب بعض التقارير فإن الجهات الاستعمارية تخطط لصدام جديد في العراق، طبعاً بشكل آخر، إذ لديهم أكثر من صدام، وبالمحصلة يعود العراق ليقع تحت ظل حكمٍ مثل الحكم البعثي لعله إلى ثلاثين عاماً أخرى - لا سمح الله - مع ما تخلل فترة الحكم البعثي من تدمير ومعاناة، علماً أن المحنة الراهنة في العراق وإن كانت كبيرة إلاّ أنها

ص: 179


1- مسكّن الفؤاد: ص72.

لاتُقاس بالمحنة التي كانت على عهد البعثيين، فقد أشارت بعض التقارير أن عدد الذين قُتلوا في العراق خلال هذه الفترة بلغ حوالي ثلاثين ألف شخص(1)، لكن رغم عِظم الفاجعة، فإن فواجع الحكم البعثي أعظم، فقد دمّروا المقدسات وقتلوا الملايين، حيث ذكرت بعض التقارير أن عدد الذين قتلوا في ظل حكم البعث بلغ حوالي سبعة ملايين إنسان، لكن مع كل ذلك فإنه في حال عدم الثبات، ربما يُبتلى العراق بصدام آخر، وعلى مدى ثلاثين عاماً أخرى ويقتل سبعة ملايين إنسان آخر - لا سمح الله -.

وقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده بالنصر إذا ثبتوا، تقول الآية الكريمة: (وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ)(2)، ينقل العلامة المجلسي (رحمه الله) في (البحار) عن الإمام الحجة المنتظر (صلوات الله عليه) حول قضية محي الدين الإربلي، حيث قال له الإمام (عليه السلام) : (وأنت نصرتنا فنصرناك)(3).

نسأل الله تعالى أن يكشف هذه المحنة وهذه الغُمّة عن هذه الاُمة، وأن يردّ كيد الأعداء إلى نحورهم، وأن يعجّل لوليه الفرج، ويسهّل له المخرج، ويجعلنا من أتباعه وأنصاره، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصرنا على القوم الظالمين.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 180


1- يشير (رحمه الله) أثناء حديثه عن العراق إلى الاوضاع التي مر بها هذا البلد خلال الفترة التي أعقبت سقوط حكم البعث.
2- سورة الحج: 40.
3- بحار الأنوار: ج52 ص75.

3

شهر محرم ودلائل الحب والولاء

اشارة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (1).

إن كل صفة من الصفات القلبية لابدّ أن يكون لها مظهر ليكشف هذا المظهر أُموراً عدَّةً، منها:

أولاً: وجود تلك الصفة.

ثانياً: حجم تلك الصفة.

1: وجود الصفة

قد يدعي أحدهم الشجاعة فيقول: إنَّني شجاع، وهنالك كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا يدعون الشجاعة ويدعون الإيمان والولاء، ولكن هل الإدعاء يغير الواقع؟ وهل يغني عنه؟

كلا، أحياناً ليس إدعاء فقط، وإنما هنالك تصور أيضاً؛ فقد يظن أحدهم بل يقطع بأنه شجاع ومؤمن وعنده يقين وعلم وليس مجرد ادعاء، ولكن هل يقلب هذا التصور الذهني الواقع عما هو عليه؟ طبعاً كلا.

فعندما تقوم هنالك حرب فإن الحقائق تُظهِرُ الدخائل، (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (2) فقد ميّز الله تعالى في حرب أحُد الخبيث من الطيب، وتبيّن أنَّ المؤمنين هم مجموعة قليلة حقاً وتبين أنَّ الأغلبية كانوا يدعون ذلك مجرد ادِّعاء، ولذلك تبينت في حرب اُحُد الدخائلُ والحقائق الباطنية.

وقد أبتُلي المؤمنون في حرب الخندق وزلزلوا زلزالاً شديداً (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ

ص: 181


1- سورة الحج: 32.
2- سورة الأنفال: 37

وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً) (1) فكان هنالك مرض في هذا القلب ولكنه كان خفيّاً أو مرضاً كامناً، إن هذا المظهر يبين حقيقة الإيمان، حيث هنالك من يدّعي الإيمان ويقول أنا مؤمن، لكنه في حرب الخندق يقول: (مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَ غُرُوراً) فتبين أن كل ذلك الادعاء كان كذباً، وكله كان خلافاً للواقع، فلا يوجد (عند المدعين) الله ولا توجد (عندهم) آخرة ولا يوجد (عندهم) نبي، وهنا تبينت الحقائق، فإذا تجلّت هذه الصفة الباطنية في مظهر سيكشف أولاً: بأن هذه الصفة موجودة أو غير موجودة، وثانياً: الإيمان موجود أو غير موجود.

2: حجم الصفة

لنفترض أن هذه الصفة الباطنية متحققة، فما هو حجمها؟ وما حجم الشجاعة - مثلاً - ؟ أو ما هو مقدارها؟ فقد يكون الفرد شجاعاً لكن في مقابل فرد واحد فقط، وقد يكون شجاعاً في مقابل اثنين، وقد يكون شجاعاً في مقابل عشرة أفراد، هذه المواقف هي التي تكشف حجم الصفة الباطنية، وقد يكون الإنسان شجاعاً بلا حدود، أي لا يوجد حد لشجاعته، فإذا وقف أمامه ألف إنسان لا يخافهم، أو مائة ألف لا يخافهم أيضاً، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (واللهِ لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها) (2) إن هذا الموقف يكشف ليس فقط عن وجود تلك الصفة، وإنما يكشف عن حجمها أيضا.

يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فالتقوى صفة باطنية، ولكن كيف نعرف أن هذه التقوى موجودة أو غير موجودة؟

إنها تكشف من خلال تعظيم شعائر الله تعالى، فإذا عظّم الإنسان شعائر الله تعالى، سيدل هذا على وجود التقوى في قلبه، والإنسان الذي لا يعظم شعائر الله تعالى، فهذا يدل على عدم وجود التقوى في قلبه (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

ص: 182


1- سورة الأحزاب: 12.
2- نهج البلاغة: من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة.

إننا في نهاية عام من أعوام حياتنا، فهذا العام في أخريات أيامه، حيث سيبدأ عام جديد بشهر محرم الذي من خصائصه كشف الحقائق ليس للآخرين فقط، بل كشفها للإنسان ذاته.

يوجد لدينا إيمان سيظهر في شهر محرم، ولكن ما مقداره؟ وما هو حجم ولائنا وحبنا لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)؟ إنه سيظهر في شهر محرم الحرام، فإذا بذل الإنسان في شهر محرم واحداً بالمائة من قدرته في خدمة سيد الشهداء (عليه السلام) ، سيكون ذلك دليلاً على إيمانه وولائه وحبه لأهل البيت (صلوت الله وسلامه عليهم) بما يساوي هذه النسبة، وهذه حقيقة وليست مجاملة، كذلك حين يبذل الإنسان عشرة بالمائة من قدرته وطاقته ووقته في هذه الأيام المباركة، فهذا دليل على أن حبه وإيمانه واعتقاده يساوي عشرة بالمائة فقط. إن شهر محرم يكشف الحقائق، ويكشف الإيمان والحب والاعتقاد، فكلما كان إيمان الإنسان أكثر، يكون عطاؤه وتفانيه أكثر.

محرم شهر كشف الحقائق

قبل أكثر من ألف عام، كشف شهر محرم الحقائق، حيث كان كل الناس - بحسب الظاهر - موالين ومحبين لأهل البيت (عليهم السلام) إلاّ البعيدين، حيث كانوا يظهرون ذلك الحب ويعظمون الأئمة (صلوات الله و سلامه عليهم)، حيث كان للأئمة (عليهم السلام) مقامهم وكانوا معروفين بالعلم والتقوى والأخلاق لأنهم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن جاء شهر محرم فتبينت الحقائق، وتبين ما مدى استعداد كل إنسان على ما يبذله في سبيل إيمانه وولائه لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم).

رأيت أن أنقل للقارئ الكريم هذه القضية: جاء عبد الله بن عمر إلى سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) حباً به - بحسب ظاهر الحال -، ولكن ما مقدار هذا الحب؟ هل هو حب حقيقي أم تظاهر بذلك؟

- إن هذا هو إمام زمانك وهو الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، ولكن هل يكتفي عبد الله بن عمر بهذا المقدار؟ - .

ص: 183


1- بحار الأنوار: ج43 ص291.

قال للإمام (عليه السلام) : يا أبا عبد الله لا تخرج إلى الكوفة فليس لأهل الكوفة وفاء ولايُعتمد على كلامهم، فقال له الإمام (عليه السلام) : إنني مأمور بأمر لا أظن فيه، فهذه وظيفة إلهية، ولابد أن أمضي.

إن هذا إمامك، وهذه هي الوظيفة التي كُلِّف بها، ولكن عندما أصبحت القضية حاسمة قال عبد الله بن عمر: اكشف لي عن الموضع الذي كان يقبّله رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) . فكشف له الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) عن الموضع الذي كان يقبّله رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فيه، فقبَّل ذلك الموضع (1).

إن هذا أحد المواقف فحسب.

وهنالك موقف آخر يتمثَّل بما بذله شهداء كربلاء، فهو موقف لا حدود له، حيث يُنقل أن أحد الذين جاؤوا إلى كربلاء مع الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) سمع وهو في كربلاء بأن ابنه قد أُسر في الرَّي - في حدود طهران حيث كانت هنالك حرب بين المسلمين والكفار - وقد كان معرضاً للموت والتعذيب ولكل شيء، ولكن هذا الأب اكتفى بهذه الكلمة وقال: (أحتسبه عند الله).

سمع الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) بالقضية فجاء إليه وقال له: أنت في حلّ من بيعتي، فانطلق واعمل في فكاك ابنك، اذهب وحاول أن تنجي ابنك من الأسر.

فقال لسيد الشهداء (صلوات الله و سلامه عليه): أكلتني السباع حياً إذا فارقتك! أنا لن أفارقك، ليُقتل ابني فلا يهمني ذلك، إنِّي لن أفارقك حتى اُقتل معك(2).

إذن ذاك موقف من يُقبِّل الموضع الذي كان يقبّله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقط، أما الموقف الآخر فإنه يسير حتى النهاية وإلى الموت والقتل في سبيل الله.

لقد ظهرت الحقائق في عاشوراء، فظهر الإيمان والولاء ودرجاته، لذلك ينبغي علينا في الأشهر المباركة أن نعمق هذا الإيمان ونبذل كل ما نستطيع عليه في سبيل سيد الشهداء (عليه السلام) .

ص: 184


1- الامالي، للشيخ الصدوق: ص217.
2- مثير الأحزان، لابن نما الحلي: ص39.

إقامة الشعائر ذخيرة الآخرة

في قضية ينقلها الحاجي النوري(1) (رحمة الله عليه) في كتابه (دار السلام)؛ وهو كتاب جدير بالمطالعة والقراءة، حيث يقول أحد العلماء الربانيين: كان لرجل في زماننا بعض المنكرات..

وأي رجل منا - إلاّ من عصمه الله - يخلو من المنكرات؟ والحقيقة إذا أحصى الإنسان الجرائم التي ارتكبها في حياته لعله يجد أنه ارتكب آلافاً منها في حياته، حيث كل غيبة تعد جريمة.

مات هذا الرجل الذي كانت له بعض الجرائم والمنكرات، وفي احد الأيام - يقول العالم - وأنا في عالم المنام رأيت أنني أمشي بين بساتين وقصور وحدائق وكأنها الجنة، هكذا تراءى لي في عالم الرؤيا، وكان معي شخص يخبرني بأن هذا بيت (فلان...)، وهذا قصر (فلان...)، وهكذا، حتى وصلت إلى إحدى القصور فقال لي الشخص الذي معي: هذا بيت (فلان...) الذي توفي قريباً، ويقصد به الرجل الذي كانت له بعض المنكرات والذنوب فيما بينه وبين الله، يقول العالِم في عالَم الرؤيا: لقد استغربت كثيراً، إذ كيف يوضع هذا الرجل في هذا القصر وفي هذا المقام، جئت ودخلت فرأيته جالساً على سرير في مكان من القصر، أنا أعرفه فسلّمت عليه، حينها قال لي: تعال. وأجلسَني بجانبه، وكنت أفكر في نفسي أن هذا الرجل لا يستحق هذا المقام ولا يستحق هذا المكان فكيف جلس في هذا القصر وكيف أعطاه الله تعالى هذا المقام؟. فأخذ هو ينظر إليّ وتفرس في وجهي وقال: كأنك تفكر بي وبهذا المقام الذي حصلت عليه؟. فقلت له: نعم. قال: في الواقع أنا مستحق لكل ما تفكر فيه من عذاب وعقاب، ولكن كان لي شيء واحد في حياتي وببركة ذلك الشيء أعطاني الله تعالى هذا المقام. فقلت له: وما هو ذلك الشيء؟ فقال: كان عندي معدن ملح في أرض طالقان - من مدن إيران - فخصصتُ المعدن كله لعزاء سيد الشهداء (عليه السلام) ، فكنت آخذ الوارد الذي كان يأتيني من ذلك المعدن وأبعثه إلى النجف الأشرف

ص: 185


1- الميرزا حسين النوري (رحمه الله) المتوفى سنة 1320 ه- صاحب كتاب مستدرك الوسائل.

وأخصصه لإقامة عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) . هذا هو العمل الذي كان لي في حياتي، وعندما جئت إلى هنا، عوضني الله تعالى بهذا المقام وهذا المكان مقابل هذا العمل.

يواصل العالم قوله: ثم قمت من المنام لا أعرف القضية، وجئت إلى بيتي في الديوانية، فنقلت هذه الرؤيا للأصدقاء الذين كانوا هناك، فقال أحدهم: إن هذه الرؤيا من الرؤى الصادقة، وأبي كان طرفاً في هذه القضية وأضاف قائلاً: إن هذا الشخص الميت الذي رأيته في منامك، كان له معدن ملح في أرض طالقان وكان وارده من هذا المعدن (مائة تومان) في كل موسم وهو مبلغ ضخم جداً في ذلك الوقت، وكان يبعث بكل هذا المال إلى والدي في النجف وكان والدي يصرفه في عزاء سيد الشهداء (صلوات الله و سلامه عليه).

من هنا ينبغي أن يحاول الإنسان في مثل هذه الأيام المباركة بذلَ ما يتمكن عليه من وقته وماله واهتمامه لإقامة هذه الشعائر، إن شاء الله تكون هذه الأعمال ذخيرة لنا في آخرتنا.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا في ذلك وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 186

4

لنقوي ارتباطنا بالإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال النبي الأكرم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة»(1).

للحديث عن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) هناك كلمتان:

ماذا قدم الحسين (عليه السلام) ؟

الكلمة الأولى: ماذا قدّم الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؟

لكي نعرف جانباً من الدور العظيم الذي قام به الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) لابد من معرفة ماذا فعل بنو أمية؛ هذه الشجرة التي عبّر الله تعالى عنها ب- (وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ )(2)، وإلى ماذا كان يهدف الأمويون؟

هنالك كلمة للإمام أبي عبد لله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) كتبها لأشراف البصرة، وقد عبرت عن ذاك الواقع الذي صنعه بنو أمية، والنتائج التي كان يمكن أن تنتهي إليها أعمالهم هذه، ومما جاء في كتابه: «...فإن السُنّة قد أميتت وإنَّ البدعة قد أُحييت)(3)، وهذا كان منهج بني أمية، وما قاموا به من أعمال؛ وهي إماتة سُنة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومنهجه، كما أنهم أظهروا البِدَع، والبدعة هي ما لا يوجد له أصل في كتاب الله المجيد ولا في سنة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ربما هناك حاكم لا يؤمن بالدين، فيتبع أهواءه وشهواته في الأخذ بالأحكام الدينية، كما حصل ذلك في المسيحية، حيث شهدت حكاماً أخذوا من الدين أموراً تنسجم معهم ورفضوا الأمور الأخرى، وهذا من النوع الخطير من الحكام، لأنهم يغيرون الدين ويبدلونه، ولكنَّ هناك نوعاً آخر من الحكام مَن هم أكثر خطورة من

ص: 187


1- راجع: بحار الانوار: ج91 ص184.
2- سورة الاسراء: 60.
3- لواعج الاشجان: ص39.

النوع الأول، فهم ليسوا فقط لا يؤمنون ويتبعون أهواءهم وشهواتهم، وإنما يحملون في جنباتهم الحقد على الدين...

وبنو أمية ليس فقط لم يكونوا مؤمنين بالدين الإسلامي وبالله، كما قالوا: (والذي يحلف به أبو سفيان بأن لا جنة ولا نار)(1)، وإنما كانوا يحقدون على هذا الدين وعلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه).

ينقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وهو عالمٌ متعصب ومن كبار علماء العامة، ولمن يطالع شرح النهج يتضح له هذا التعصب، ويقول: إن المغيرة بن شعبة، وهو أحد أبرز أصحاب معاوية، عاد ذات ليلة إلى بيته وهو مغموم جداً، حتى إنه لم يأكل طعام العشاء، فتعجب ابنه من ذلك لأنه كان يرى أباه يعود من عند معاوية كل ليلة وهو منشرح ومعجب بعقل معاوية وبذكائه، فسأله ابنه عن ذلك:

يا أبتاه... لماذا أنت على هذه الحالة في هذه الليلة؟ وما الذي حصل؟ هل صدر منّا شيء؟

قال: جئت في الليلة من عند أخبث الناس!

قال: ومن هو؟

قال: ذاك معاوية! كنت عنده وتكلمت معه بكلمات، بأن لا تُوغِل في الإرهاب والظلم أكثر، وقد بلغت ما أردت من الحكم، وعليك بالرعية وإنصافها.

فقال: ملك أخو تيم فعدل، فما عدا أن هلك فهلك ذكره، وملك أخو عدي فعدل - والقول لمعاوية -، فما عدا أن هلك فهلك ذكره، وملك الثالث فعدل - والقول لمعاوية -، فما عدا أن هلك فهلك ذكره، وهذا ابن أبي كبشة - يشير إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) - يصاح به كل يوم خمس مرات فوق المآذن بالشهادة وبالنبوة وبالرسالة؛ لا والله إلاّ دفناً دفنا(2)!

إن معاوية بن أبي سفيان كان يريد دفن ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته،

ص: 188


1- تاريخ الطبري: ج8 ص185.
2- كشف اليقين: ص475.

وهذه السنّة لم تكن فقط في السياسة، إذ ربما تكون لبعض الحكام مصالح سياسية؛ إنما حتى في القضايا الدينية البحتة، فقد طاردوا سنّة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ونقضوها عروةً عروة، وهو ما أشار إليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في عبارته «إن السنّة قد أُميتت»، مثلاً: عمدوا إلى تغيير طريقة الوضوء التي كانت منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي قضية لاعلاقة لها بالسياسة، بقدر ما هي قضية عبادية فيما بين الفرد وربه.

أحد كبار علماء السنة ينقل رواية ويقول: إنها صحيحة على شرط (مسلم) وهو مؤلف (صحيح مسلم)، أي إن روايته صحيحة ومعتبرة حسب موازين مسلم؛ جاء فيها: إن معاوية جاء إلى المدينة وصلى بالناس، فكبر وبدأ بالحمد ووصل إلى السورة الثانية فلم يذكر: بسم الله الرحمن الرحيم، خلافاً لسنّة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وتغييراً لمنهجه (صلى الله عليه وآله)، يقول الراوي: عندما انتهى معاوية من صلاته صرخ به المهاجرون والأنصار، أن يا معاوية! أتركت من الصلاة... (1)

يقول (الشافعي) في كتابه: (كان الأمر واضحاً عند صحابة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وهو الجهر ب(بسم الله الرحمن الرحيم) في سورة الحمد والسورة الأُخرى، ولولا أنه كان واضحا -والكلام لإمام المذهب الشافعي - وثابتاً عند الصحابة، لما تجرؤوا على مخالفة معاوية وهو حاكم ذو هيبة وشوكة وسلطان وجبروت)(2).

إذن هذا هو منهج بني أمية ومنهج معاوية، وكان أيضاً منهج يزيد والذين جاؤوا بعده وقبله، ولذا فإن نهضة الإمام أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) هي التي حفظت الدين وتعاليمه، من صلاة و صيام وحجّ وكل شيء، ولولاه لانتهى كل شيء؛ هنا نعرف جانباً من حق الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في أعناقنا وفي أعناق هذه الأمة.

ماذا علينا أن نقدم؟

الكلمة الثانية: ماذا علينا أن نقدم؟

إن علينا واجبين لابد من القيام بهما:

ص: 189


1- سنن الدارقطني: ج1 ص309.
2- كتاب الام، للشافعي: ص130.

الأول: الالتزام بالدين الذي قُتل من أجله الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فقد قُتل الإمام (عليه السلام) لإحياء السنّة ولإماتة البدعة ولإحياء الدين الإسلامي، وأن يكون الالتزام بهذا الدين في حياتنا الخاصة والعائلية والاجتماعية.

جاء في كتاب حياة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) المجلد الثاني: أن الإمام (عليه السلام) خطب في أصحابه أو أمر منادياً أن ينادي في أصحابه الذين كانوا في كربلاء: لايُقْتَلَنَّ أحدٌ معي وعليه دَين...، وفي ذلك الوقت العصيب يأتي إليه أبو ثمامة الصيداوي ويقول له: (نفسي لنفسك الفداء لاوالله لا تقتل حتى اُقتل دونك، ولكن هذا وقت الصلاة قد اقترب وأحبّ أن لا أقتل إلاّ وقد صليتُ هذه الصلاة)، وهذه رسالة إلى الشباب الذين لا يستيقظون لصلاة الصبح، والذين في ذمتهم قضاء الصلوات الماضية أو قضاء الصيام الماضي، عندها رفع الإمام (عليه السلام) رأسه (صلوات الله عليه) وقال له: (ذكرتَ الصلاة؛ نعم هذا أول وقتها جعلك الله من المصلين الذاكرين)(1).

وفي اليوم التاسع من محرم الحرام، وبينما كانت جيوش الأعداء تزحف للقضاء على الإمام أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، كان جالساً بباب الخيمة منحنياً على سيفه، ويبدو أن التعب أثّر فيه، بسبب صعوبة الأوضاع المحيطة به، فخفق برأسه على ركبتيه وأخذته إغفاءة في عصر اليوم التاسع، وإذا به يشاهد أخته زينب (صلوات الله عليهما) أمامه وهي تقول: (أخي يا حسين أما تسمع هذه الخيل قد اقتربت إلينا)؟ وكان عمر بن سعد يقول: (يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري)! فرفع الإمام (عليه السلام) رأسه إلى أخته زينب (صلوات الله عليها) وقال لها: أخية...! رأيت في عالم الرؤيا جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي عليّاً (عليه السلام) وأمي فاطمة (عليها السلام) وأخي الحسن (صلوات الله عليهم) وهم يقولون: (إنك راحل إلينا عن قريب)، بمعنى أن القضية محسومة، عندها صرخت زينب (عليها السلام) ونادت: يا ويلتاه! فهدأها الإمام (عليه السلام) وصبّرها، بعدها طلب أخاه العباس (عليه السلام) وقال له: (اذهب إلى هؤلاء واستمهلهم سواد هذه الليلة، لكي نصلي لربنا ونستغفره وندعوه فإنه يعلم إني أحب الصلاة والاستغفار والدعاء وتلاوة

ص: 190


1- الكامل في التاريخ: ج 4 ص70.

القرآن...)(1).

هذا هو الدين الذي من أجله قُتل الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) ، وقد أحيا جميع أصحاب الإمام الحسين (عليهم السلام) - كما في المقاتل - ليلة العاشر من المحرم، وظلوا حتى الصباح ولهم دويٌ كدويّ النحل، ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد؛ أي إنه حتى الليلة الأخيرة المتبقية من عمره الشريف أراد الإمام (صلوات الله عليه) أن يقضيها في الصلاة والاستغفار والعبادة وتلاوة القرآن، لذا يجب أن لا تكون هنالك - والعياذ بالله - استهانة بالصلاة، ولا أن يكون في بيوتنا أطفال أو بنات لا يصلون.

تعليم الأبناء على الصلاة

إذن لنعلّم الطفل والطفلة على أداء الصلاة، وهناك مسألة في كتاب (العروة الوثقى) تقول: المميز من الأطفال يستحب تمرينه على الصلاة، والتمييز بين الأطفال يحدث بسرعة هذه الأيام، وربما يكون هذا التمييز عند بعض الأطفال وهم في سنّ الرابعة من العمر، وإذا حصل أن لم يَقُم يوماً ما لصلاة الصبح، ينبغي تذكيره بأن اليوم فاتتك صلاة الصبح، قم واقض صلاة الصبح، بل تمرينه على كل القضايا العبادية من الصغر، وهنيئاً لأولئك الآباء الذين علَّمُوا أبناءهم القضايا العبادية من الصغر، إن الصلاة والذكر والاستغفار والعبادة هي منهج آبائنا وأجدادنا، حتى بالنسبة للبنت إذا أكملت تسع سنوات ودخلت في العاشرة، فإنها تكون مكلّفة، وتكون الصلاة والحجاب واجباً عليها، لا أن يُقال : بأنها بنت صغيرة ولاتفهم! بل يجب إقناعها منذ الصغر، وهنالك احتياط حتى قبل البلوغ في هذه القضية.

توثيق العلاقة بالإمام الحسين (عليه السلام)

من الواضح أننا جميعاً لدينا علاقة بسيد الشهداء (عليه السلام) ..

لا عذّب الله أمي إنها شربت *** حب الوصي وغذتنيه باللبن

وكان لي والد يهوى أبا حسن *** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن

فهذا ميراث آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا ولله الحمد، كلنا عندنا ارتباط، ولكن هذه

ص: 191


1- الكامل في التاريخ: ج 4 ص57.

العلاقة قد تختلف من شخص لآخر.

أحد المؤمنين كان يقيم في بيته كل سنة مجلساً لذكرى أبي الفضل العباس (صلوات الله عليه) في ليلة السابع من محرم، فهذا المجلس الواحد يُعدّ علاقة وارتباطاً، وقد حضرتُ في إحدى السنين مجلسه، ولم يكن الحاضرون يتعدون الثمانية أشخاص، لكنه يُعدّ حبلاً من حبال الله، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ)(1)، بل وثيقة من وثائق الشفاعة والنجاة يوم القيامة. أو شخصٌ آخر يقيم المجلس في السنة عشرة أيام، فهذه علاقة وسطى، أو يقيم في السنة عشرين يوماً، وربما آخر يقيم دورة العام كله، وخاصة في شهري محرم وصفر. نعم هنالك جماعة من المؤمنين يقيمون خلال دورة العام في بيوتهم مجالسَ لذكر أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهذه تُعد سعادة حقيقة.

زيارة عاشوراء والارتباط بالإمام الحسين (عليه السلام)

رُئيَ أحد الأخيار في المنام قيل له: هل تتأسف على شيء؟ قال: نعم؛ وكان ملتزماً بقراءة زيارة عاشوراء في أيام عشرة محرم، فقيل له وما ذاك؟ قال: أتأسف على عدم قراءة زيارة عاشوراء في كل يوم من أيام حياتي؛ وإذا نطالع (مفاتيح الجنان) نجد المضامين التي تهز الإنسان في فضيلة هذه الزيارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) بضمان الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام الباقر (عليه السلام) مع ضمان الإمام الباقر (عليه السلام) عن الإمام السجاد (عليه السلام) بضمان الإمام السجاد (عليه السلام) عن الإمام الحسين (عليه السلام) مع ضمان الإمام الحسين (عليه السلام) عن الإمام الحسن (عليه السلام) بضمان الإمام الحسن (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع ضمان أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ضمان رسول الله (صلى الله عليه و آله)، حتى تنتهي القضية إلى الله سبحانه وتعالى...

ربما يقول البعض : عندي أعمال! فهل إن الشيخ الأنصاري (رحمه الله) كان عاطلاً عن العمل؟! فقد كان المرجع الأعلى، ويمكن مراجعة التحقيقات الأصولية التي يعتمد عليها رغم مرور أكثر من مائة وخمسين عاماً على تأليفها، علماً أن هذا الرجل الموفق عاش فترة زمنية قليلة وهي ستين عاماً تقريباً، ولم يكن معمّراً، مع ذلك كان

ص: 192


1- سورة آل عمران: 103.

يتوجه كل يوم إلى حرم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ويقرأ زيارة عاشوراء من أولها إلى آخرها، وقد واظب على هذا البرنامج حتى وفاته؛ هذه الأعمال والارتباطات بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في الدنيا تنفع الإنسان في لحظات الاحتضار، كما تنفعه في الآخرة.

ينقل في هذا المجال أن رجلاً كان في مدينة وابنته كانت في مدينة أخرى، فاتصلت به هاتفياً في أوَّل الصبح وقالت له: رأيت الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في عالم الرؤيا وله نورانية وجلال وهيبة لا توصف وحوله مجموعة وجوههم نيرة وعليهم آثار الجلال والعظمة، فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء محبُّو الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، فتقول: بحثت عنك حتى أراك بينهم - لأنه كان ذا علاقة قوية بالإمام سيد الشهداء (عليه السلام) ، بحيث لم يترك زيارة عاشوراء طوال ثلاثين عاماً - فقلت : إن أبي من المحبين والموالين وكان يقرأ زيارة عاشوراء طوال ثلاثين عاماً في كل يوم، فلماذا لا أراه؟ قالوا: إنه قطع ارتباطه بنا ولكنه سوف يعود، فسألت البنت عن الموضوع؛ فقال: نعم... إن الرؤيا صادقة كنت مداوماً على زيارة عاشوراء لكن حدث لي شيء فتركت زيارة عاشوراء.

من هنا على الإنسان أن يحاول توثيق الارتباط والعلاقة بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) من خلال حضور المجالس أو قراءة زيارة عاشوراء أو بناء المساجد والحسينيّات، وكلها تمثل أنواعاً من توثيق العلاقة والارتباط بالإمام الحسين (صلوات الله عليه).

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة أبي عبد الله (عليه السلام) وأن يرزقنا شفاعته، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 193

5

الآثار الغيبية لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(1) صدق الله العلي العظيم. قبل أن ندخل في صلب الموضوع لا بأس أن نلقي بعض الأضواء على هذه الآية المباركة ..

انتصار الفئة القليلة

هنالك فئة قليلة من ناحية الكمّ، فهي عبارة عن جماعة معدودة الأفراد، وضعيفة من ناحية القدرة متشتتة ومتفرقة وتعيش دائماً حالة الخوف والرعب والقلق، وفي الوقت نفسه تعيش هذه الفئة في خضم فئة قوية قاهرة ومقتدرة، لأنها فئة بيدها السيف والسوط والسجون، كذلك بيدها المال والقوة، فهل يمكن للفئة القليلة أن تحافظ على كيانها في واقع كهذا؟ إن الفئة القليلة هي مجموعة من الشباب كما جاء في القرآن الكريم، حيث يقول المفسرون: إن المعني من مفردة (ذرية) هي مجموعة من الشباب، ليس كباراً ولا وجهاء ولا كهولاً، بل هم مجموعة شباب، فهل يمكن لهذه الفئة الضعيفة أن تحافظ على كيانها وهل هذا معقول؟

وكيف تنتصر هذه الفئة القليلة على تلك الفئة القوية وتتغلب عليها؟، إن هذه الفئة لا تستطيع أن تحافظ على ذاتها وكيانها فكيف يمكن أن تنتصر وتتغلب وتهزم تلك الفئة القوية المقتدرة، هنا يأتي الوحي (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ) ويتضمن هذا الوحي ثلاثة بنود:

البند الأول:

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ) - المقصود به هارون - (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً) بمعنى اتخذوا بيوتاً، لأن الأسباط كانوا يعيشون في بيوت الأقباط، فلم ألحظ في

ص: 194


1- سورة يونس: 87.

التفاسير لماذا كان الأسباط يعيشون في بيوت الأقباط، ربما كانوا خدماً لأنهم فئة مستضعفة أو جماعة ضعيفة، وكانوا لا يملكون شيئاً فيعيشون مستأجَرين مثلاً أو لأي علة من العلل الأخرى، كذلك كانت الأمة الإسرائيلية تعيش في بيوت الفراعنة، يقول الله تعالى لموسى وهارون 3: (أَنْ تَبَوَّآ) بمعنى اتخذا لقومكما بمصر بيوتا.

إذن كيف تحافظ هذه الأمة على ذاتها وكيانها وهي تعيش في الأجواء المنحرفة، وكيف يحافظ الإنسان الذي يعيش في جو منحرف على نفسه، وهنا نتساءل كيف يحافظ الشباب الذين يذهبون إلى البلدان الغربية على أنفسهم وهم يعيشون في بيوت الأجانب ويعيشون في جو ملوث غير إسلامي؟

نعم؛ يمكن أن يتعلم الشاب اللغة ولكنه قد يفقد دينه، إلاّ إذا كان إيمانه قويّاً جدّاً، حيث ينبغي أن يعيش الشاب في أجواء نظيفة، وإلاّ سيفقد دينه وإيمانه وكيانه، فالآية الكريمة تقول: (أَنْ تَبَوَّآ) بمعنى إتخذا لقومكما بمصر بيوتا، أي بيوت مستقلة، وذلك لينفصلوا عن الأقباط وينفصلوا عن الفراعنة.

البند الثاني:

(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)، بمعنى أن لاتكون هذه البيوت متشتتة، بحيث يكون واحد في أقصى الشرق والآخر في أقصى الغرب، إنما أن يقابل بعضها البعض الآخر، أو يكون بعضها في مواجهة البعض الآخر وقريبة من بعضها كي تشكل تجمعاً؛ لأنَّ التَّجمع فيه خير وبركة وفيه فوائد، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً).

البند الثالث:

إقامة الارتباط بالقوة التي هي مصدر كل القوى الأخرى، والتي لا توجد فوقها قوة، وهي قوة الله سبحانه وتعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) صلاة الارتباط بالله سبحانه وتعالى. هذه هي البنود الثلاثة؛ (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) وما هي العاقبة، أو النتيجة؟ تقول الآية الكريمة: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم سوف ينتصرون ويغلبون.

فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل للأسباط هذا النوع من التجمع والاجتماع: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) فقد جعل لنا سبحانه نحن المؤمنين عدة أنواع من التجمع،

ص: 195

ربما نكون غافلين عن بركات هذا التجمع أو هذه الأنواع من التجمعات ولكن يوجد فيها كل الخير والبركة ومنها:

صلاة الجماعة

النوع الأول: صلاة الجماعة، لعله لاتوجد أمة ثانية عندها هذا النوع من أنواع التجمع، يقول صاحب العروة (رحمة الله عليه) في الحديث الذي يرويه: إن جبرئيل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: (إن ربك يقرئك السلام وأهدى إليك هديتين)(1) ربما يكون معنى هذه الكلمة أن ما جاء في هذه الآية الكريمة من مختصات هذه الأمة، وأن صلاة الجماعة هي إحدى هاتين الهديتين من لدن الله تعالى.

الحج

النوع الثاني: الحج .. وأظن أن أية أمة من الأمم ليس لها هذا النوع من التجمع، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (2).

زيارة العتبات المقدسة

النوع الثالث: زيارة العتبات المقدسة.. الموجودة في مشهد وفي كربلاء وفي النجف وفي الكاظمية وفي المدينة، وهذه الأماكن المقدسة من المنح التي أعطاها الله تعالى لهذه الأمة.

المجالس الحسينية

النوع الرابع: المجالس الحسينية، إن مجالس أبي عبد الله (صلوات الله عليه) فيها كل الخير والبركة لهذه الأمة، يمكن ملاحظة الأفراد الذين أقاموا المجالس في بيوتهم أو في حسينياتهم أو في ديوانياتهم، فأنا شخصيّاً لم أرَ فرداً واحداً منهم ندم على ذلك، ربما يبدأ الفرد وهو متردد في ذلك، ويقول: قد أتمكن أو لا، أو لا أتحمل هذا العناء، ولكن بعد ذلك بدأ يلمس بيديه خيرات هذه المجالس وبركاتها.

ولذلك ترى أحدهم مستمرّاً لمدة عشرين عاماً وآخر أربعين عاماً وآخر ستين عاماً في إقامة المجالس الحسينية، ولم أر شخصاً بدأ في ذلك وترك إقامة هذه المجالس لضرر وما أشبه، بل يزداد إيماناً وقناعة بها، لأنه يرى الآثار الدنيوية والآثار الإلهية، ويرى

ص: 196


1- جواهر الكلام، للشيخ الجواهري: ج13 ص153.
2- سورة الحج: 27.

الخير والبركة في حياته وفي عائلته وذريته وأولاده وأمواله. إن هذه نعمة يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها، فقد ذكر بعض الكتّاب والمؤلفين كلاماً جميلاً يقول: إن من آثار نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) - ولها آثار وبركات كثيرة - هو سقوط الدولة الأموية، وسقوط الظالمين على مر التاريخ.. إلى آخر هذه البركات.

إن المجالس الحسينية تُعدّ من جملة آثار نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، فإن لم تكن هذه النهضة المباركة، ما كانت هذه المجالس، فهي من آثار النهضة المقدسة المباركة، وهنا نشير إلى بعض بركات المجالس وهي كثيرة ومتعددة:

الدعوة إلى الإيمان

الأثر الأول: الدعوة إلى الله تعالى وإلى التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.

إننا لا نحتاج إلى كلمة الكاتب - الذي سيرد ذكره - لأننا نرى الأثر بأبصارنا، ولكن لنرَ كيف ينظر من هو خارج هذه المنظومة؟.

نحن الآن وسط هذه المنظومة ونعني بها إقامة المجالس الحسينية وقد لا يلمس بعضنا آثار هذه المجالس، ولكن الإنسان الذي هو خارج المنظومة سيرى الآثار من بعيد. فهنالك كاتب لا يؤمن بالإسلام ولايؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو كاتب غربي لاحظوا ماذا يقول؟ أقتطف هنا كلمات مما قاله هذا الكاتب: (ويقيم الشيعة المآتم ويبكون فيها على الحسين، فأثرت هذه المآتم إلى حد أنه لم يمر عليها زمن طويل حتى بلغت الأوج في الشرق - ويعني هذه الطائفة - ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء، فبعضهم أخفى ذلك تقية، وبعضهم أظهره جهاراً) (1).

ليس الناس العاديون فقط هم الذين دخلوا في هذه الطائفة، إنما الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات أيضاً، لأن هذه المجالس تبين حقانية أهل البيت (عليهم السلام) وحقانية الإسلام وحقانية التشيع، فالناس غالباً ما يكون لديهم تعصب وغالباً ما يبحثون عن الحق، وهذه المجالس تبين الحق وتبين كلمة الله تعالى، ولذلك كلما توسعت هذه المجالس توسعت حركة الدعوة إلى الله تعالى.

ص: 197


1- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، للسيد عبد الحسين شرف الدين: هامش ص87.

ويمكن القول بأن هذا نوعاً من التنبؤ ولكنه تنبؤ تدل عليه الحقائق التاريخية، فيمكن القول إنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يتزايد عدد الشيعة على عدد سائر فرق المسلمين، إنه حق (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(1).

وهذه هي طبيعة الحق، فإذا عُرض الحق على الناس سيأخذون به.

نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت الزيف

ومن بركات نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنها كشفت كل التاريخ الماضي، حتى لو كان فيه غموض أو إبهام، فإن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت كل ذلك الزيغ، لأنه مَن الذي قتل الإمامَ الحسين (عليه السلام) ؟ إنه يزيد، ولكن من أنجب يزيد؟ إنه معاوية، لذلك فيزيد هو سيئة من سيئات معاوية، ولكن من أنجب معاوية؟ ومن الذي جاء به ونصبه؟ ارجع إلى التاريخ، فقضية الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت كل التاريخ، وإذا عُرضت هذه القضية على الناس، بطبيعة الحال سيقبلون الحق ولذلك ترون أن كلمة أهل البيت (عليهم السلام) التي هي كلمة الله تعالى في عُلُوّ كُلّ يوم، فلا يزداد أمره إلاّ علواً، ولا بأس أن نقرأ كلمة أخرى لهذا الكاتب: حيث يقول:

لقد رأيت في ميناء (كذا...) في أحد البلدان الأجنبية شخصاً عربيّاً شيعيّاً في الفندق، وهو من أهل البحرين - ينبغي أن تكون فينا هذه الروحية دائماً وليس فقط في أيام العشرة - رأيته يقيم المأتم منفرداً في ذلك البلد وكان جالساً على الكرسي وبيده كتاب المقتل، يقرأ ويبكي، وكان قد أعد مائدة من الطعام ووزّعها على الفقراء.

إذن حتى لو كان الموالي شخصاً واحداً فهو يُعدّ داعية إلى الله سبحانه وتعالى وإلى التوحيد وداعية إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وإلى أهل البيت (صلوات الله عليهم).

الموعظة

الأثر الثاني: الموعظة،

وكلنا نحتاج إليها، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (أحي قلبك بالموعظة) (2) بمعنى أن هذا القلب يموت من دون الموعظة، وجاء في

ص: 198


1- سورة التوبة: 33.
2- نهج البلاغة: من وصية للحسن بن علي (عليه السلام) .

الآية الكريمة (كَلاَ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (1) والرين هو: طبقة من الصدأ تغلف القلب، فما الذي يزيل هذا الرين؟ إنها المجالس الحسينية التي تعتبر من أهم العوامل في إزالة الرين والصدأ عن القلوب.

إن هذه الكلمات التي يقولها الخطباء الحسينيون فوق المنابر مؤثرة جدّاً، فحين يشعر الإنسان بأن قلبه قد (مات)، ويذهب إلى أحد المجالس، سيحصل على موعظة أو نصيحة فيشعر أن قلبه قد احتيا، وهذا ما تعنيه (أحيي قلبك بالموعظة).

لذا في الحقيقةً، فإن هؤلاء الخطباء لهم حق علينا جميعاً، وهذه المجالس أيضاً لها حق على جميع الشيعة وعلى جميع المؤمنين بل على جميع المسلمين، فالموعظة كلمة مؤثرة، فبأي شيء تغيّر بشر الحافي؟ إنه تغير بكلمة من الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) حين قال لتلك الجارية: مولاك هذا حر أم عبد؟ ثم قال: لو كان عبداً لأطاع مولاه(2)، إنها كلمة غيرّت حياته، فأصبح قبرُه اليوم مزاراً.

ومَن الذي غيَّر إبراهيم بن الأدهم(3) ؟ إنها كلمة لذلك الدرويش حين قال: أليس هذا خاناً؟ فطلبه وأثرت فيه هذه الكلمة بحيث ترك الملك وترك الدنيا، وقال: إني ذاهب إلى ربي(4)، فكم من الناس كانوا لا يُصَلُّونَ وقد صلَّوا ببركة هذه المجالس الحسينية؟ وكم من الناس كانوا ملوثين بالغيبة والتهمة والنميمة، وتغيروا بموعظة من الخطيب؟ وكم من الناس كانوا لا يؤدون حقوق الله ولا يؤدون حقوق الناس ولكنهم تغيروا ببركة هذه المجالس؟ إن ذكر أهل البيت (عليهم السلام) بركة كما أن موعظة الخطيب مؤثرة. يقول أحدهم حول العلامة السيد محمد كاظم القزويني(5) (رحمة الله عليه وأعلى الله في جنان الخلد مقامه): خرج في ليلة من ليالي شهر رمضان من أحد المجالس متجها إلى مجلس آخر ولاحظت أنه مريض، منهك ومتعب، فقلت له: سيدنا لاداعي أن تكلفوا

ص: 199


1- سورة المطففين: 14.
2- الكنى والالقاب، للشيخ عباس القمي: ج2 ص168.
3- أبو اسحاق إبراهيم بن أدهم (ت 162 ه).
4- سورة الصافات: 99.
5- الخطيب الشهير آية الله السيد محمد كاظم القزويني (رحمه الله) (1348 - 1415ه- ) صاحب كتاب (فاطمة (عليها السلام) من المهد الى اللحد).

نفسكم فوق ما تستطيعون، إنك الآن مريض ومنهك وقادم من مجلس، اعتذر من أصحاب المجلس الثاني. فقال لي السيد محمد كاظم (رحمه الله) : أذكر لك قصة حدثت البارحة أو قبل أيام: جاءني رجل وقال لي، عندي جار يملك قوة وقدرة - لعله كان مرتبطاً في الحكومة الظالمة - جاء وغصب مني بيتي، فأصبحت بلا بيت وبلا مأوى، وهذا الجار الغاصب يأتي إلى مجلسكم، فإذا تكلمت أنت حول بيتي فوق المنبر، لعل كلمتك تؤثر فيه. ويواصل السيد محمد كاظم (رحمه الله) : صعدت فوق المنبر وتكلمت حول الاعتداء على حقوق الناس وحقوق الآخرين والعذاب العظيم الذي ينتظر الذين لا يؤدون حقوق الناس. وقد يقول أحدهم: إنني سأستغفر الله تعالى وينتهي الأمر، كلا... إن الله تعالى لايتجاوز عن حق الناس.

ويواصل السيد قائلاً: تكلمت حول هذا المطلب الخاص بحقوق الناس، فجاءني صاحب البيت المغصوب في اليوم التالي وقال لي: جزاك الله خيراً، فقد جاء جاري الذي غصب بيتي في نفس اليوم بمجرد ما خرج من المجلس وردَّ لي بيتي، بمعنى أن التأثير كان فوريّاً لهذه الكلمة والموعظة، وأضاف السيد محمد كاظم القزويني (رحمة الله عليه): فإذا كان للموعظة والكلام هذا التأثير فيجب أن نتحمل العناء من أجل إرشاد الناس وهدايتهم.

البركات الغيبية

الأثر الثالث: البركات الغيبية، إن البركات الغيبية للمقامات العظيمة في الآخرة، متمثلة بشفاعة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (صلوات الله عليهم) وهذه المجالس وسائل للشفاعة، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من هذا الخير؟ فالرجل الذي عنده ديوانية ويقيم مجلساً، هذا فيه خير وبركة، وسيرى بنفسه آثار أعماله هذه وخاصة في الآخرة. أنقل هذه القضية وأختم الموضوع، وإن كانت القضايا كثيرة جدّاً في هذا المجال، يوجد في أحد الكتب - وقد سمعت هذا من بعض العلماء أيضا - عن المرجع العظيم الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه)(1): أن جماعة من طهران جاءوا وطلبوا منه

ص: 200


1- هو الشيخ مرتضى بن محمد آسين الدزفولي الأنصاري (رحمه الله) ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله عليه)، وُلد بدزفول سنة (1214) وتوفي سنة (1281) للهجرة ودفن في المشهد الغروي.

وكيلاً أو ممثلاً له، وكان يوجد رجل متدين وهو عالم من أهالي طهران، فقال له الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه) : اذهب أنت معهم لأنك وصلت إلى مقامات عالية من العلم والتقوى. فقال العالم: حسناً سأفعل.

فذهب مع هؤلاء الجماعة إلى طهران في ذلك الوقت، قبل مائة وخمسين سنة تقريباً، ولكن بعد فترة قصيرة وإذا بهذا العالم يعود إلى النجف، فاستغرب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) حين رآه وسأله: لماذا رجعت، ألم تذهب مع الجماعة؟ فقال: في الواقع ذهبت معهم ولكنني رأيت رؤيا في أثناء الطريق، وسأبقى في النجف إلى يوم الجمعة، فإن كانت الرؤيا صادقة سأبقى وإذا كانت غير صادقة سأرجع إلى طهران، فسأله الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه): ما هي تلك الرؤيا؟ فقال له: رأيت العالم الآخر ورأيت هنالك قصراً عظيماً، فسألت: لمن هذا القصر؟. فقالوا لي: إن هذا القصر لك أنت.

ويواصل السيد الطهراني الذي رأى هذه الرؤيا: أردت أن أدخل إلى القصر، فقالوا: كلا، ليس لك حق بالدخول الآن. فقلت لهم: ومتى إذن؟ قالوا لي: يوم الجمعة لك الحق أن تدخل في هذا القصر. لذلك أنا فسرت هذه الرؤيا بأن وفاتي ستكون يوم الجمعة فرجعت ولم أذهب معهم، وإذا مت يوم الجمعة فأُدفن هنا بجوار أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وإن لم أمت سوف أذهب إلى طهران.

ويواصل السيد الطهراني: ثم مشيت - في عالم الرؤيا - فرأيتُ قصراً أعظم وأكبر، سألت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: هذا القصر للشيخ مرتضى الأنصاري؛ نعم إنه أستاذنا وأعلم وأتقى منا، فأمر طبيعي أن يكون قصره أضخم وأعظم، ويضيف: ثم مشيت في عالم الرؤيا ورأيت قصراً أعظم من القصر الثاني، وسألت: وهذا القصر لمن؟ فقالوا: هذا القصر للشيخ الدربندي (رحمه الله) (1)، فاستغربت من ذلك، لأن الشيخ الأنصاري في عالم الدنيا أعظم من الشيخ الدربندي وأكثر شهرة، وسألت: لماذا قصر الدربندي أعظم من قصر الشيخ الأنصاري؟. فقالوا: إن هذا عطاء الحسين (عليه السلام) .

ص: 201


1- المولى آغا بن عابد بن رمضان بن زاهد الشيرواني الدربندي (رحمه الله) (1208 - 85 12ه).

فانتظر الشيخ الأنصاري (رحمه الله) إلى يوم الجمعة وإذا ببعض الناس يأتون ويقولون: إن هذا السيد مات في نفس يوم الجمعة، فذهب الشيخ وصلى عليه ودفنه، وتبين أن هذه الرؤيا كانت رؤيا صادقة.

وكان كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في هذه الرؤيا، حول الشيء الذي يملكه الشيخ الدربندي وأنا لا املكه؟، فقال الشيخ الأنصاري: أنا فكرت بأن الشيخ الدربندي عالم وأنا عالم، وهو مدرس وأنا مدرس، وهو مؤلف وأنا مؤلف، فما الشيء الذي يملكه الشيخ الدربندي وأنا لا املكه؟ ثم فكرت بأن الشيخ الدربندي كان أحد خطباء الحسين (عليه السلام) وكان يصعد فوق المنبر ويقرأ ويخدم سيد الشهداء (صلوات الله عليه) فوق المنبر، أما أنا فلا أعرف أن أقرأ، ولكن من يوم غد قبل الدرس سنطلب أحدا لكي يقرأ لنا مصيبة سيد الشهداء (عليه السلام) لدقائق، ثم بعد ذلك أبدأ بدرسي.

إذن فالشيء الذي كان عند الشيخ الدربندي هو خدمته لسيد الشهداء (عليه السلام) أكثر، وسنأتي نحن في يوم القيامة فننظر إلى أحدهم كما ننظر إلى النجم، فقد ورد في بعض الروايات أن بعض الناس ينظرون إلى بعضهم كما ينظر أحدنا إلى النجم، لماذا؟ لأنه كان أكثر من غيره خدمة لسيد الشهداء (عليه السلام) ، ولأنه كان يملك ديوانية وأنا كذلك، لكنه كان يقرأ لسيد الشهداء (عليه السلام) وأنا لم أكن أفعل ذلك.

إذن ينبغي على الإنسان أن يحاول الاستفادة من هذه الفرصة، فهذه المجالس لا تخص فقط الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، بل يجب أن تكون موجودة على مدار السنة، لأن فيها دعوة إلى الله تعالى، وفيها موعظة، وفيها آثار غيبية كبيرة وبركات كثيرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبنا من الذين نصروا سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه). وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 202

6

المشاركة بلا حدود في قضية الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما نكون على أبواب شهر محرم الحرام، نطرح على أنفسنا أهم سؤال: ما هو واجبنا تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته النجباء وأصحابه الأوفياء (صلوات الله عليهم أجمعين)؟ بداية نشير إلى أن الأعمال التي نقوم بها للتعاطي مع قضية سيد الشهداء (عليه السلام) ، ليست بالأعمال العسيرة، بل إنها تدور ضمن حدود معينة، بالمقابل نلاحظ أن آباءنا وأجدادنا الأقدمين، قدّموا التضحيات الكبرى دون أن يضعوا حدوداً للتعاطي مع هذه القضية، فقد قُطعت رقابهم وأيديهم وأرجلهم، ومنهم من رُفع على أعواد المشانق.. لكن نجد هنالك بعض الأفراد يكون تعاطيهم محدوداً مع الله ومع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بل مع الدين بشكلٍ عام.

هنالك بعض الأنواع من الأعمال تكون غالباً هيّنة، نذكرها بما يلي:

النوع الأول: المشاركة بالأموال

وهي أن يخصص الإنسان نسبة مئوية من أمواله، سواءً كان غنيّاً أم فقيراً لسيد الشهداء (عليه السلام) ، وهنالك بعض الأفراد - كما نقل لي بعض العلماء - يخمّسون أموالهم مرّتين في السنة، حيث يدفعون عشرين بالمائة لله تعالى بعنوان الفريضة الشرعية، وعشرين بالملئة أخرى يدفعونها لسيد الشهداء (صلوات الله عليه)، وبالنتيجة يدفعون أربعين بالمائة من مجموع أموالهم، وحسب ما يحضرني في الذاكرة، فإن أول من بيّن قضية المشاركة المالية في إطارها العام وعلّمها هو صادق أهل البيت الإمام الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، ويروى أن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) كان في سفرةٍ مع مجموعة من الأفراد وكانوا يحملون معهم بعض الأموال، وبسبب افتقاد الأمن على الطرق آنذاك ووجود قُطّاع الطرق الذين كانوا يكمنون للقوافل ويسلبونهم، بل كانوا يقتلونهم أحياناً، فقد شعر هؤلاء الأفراد بالخوف على أموالهم، فقالوا للإمام الصادق (صلوات الله عليه): إننا نخاف على أموالنا من قُطاع الطرق ونريد أن نودعها عندك،

ص: 203

فرفض الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك وقال: لعلّهم قصدوني وأخذوا الأموال، قالوا: إذن ندفن هذه الأموال في مكان ما، فلم ينصحهم الإمام الصادق (عليه السلام) بذلك قائلاً لهم: لعلّه جاء أحد وأخرج هذه الأموال، أو لعلكم أضعتم ذلك المكان وذهبت أموالكم، فقالوا: إذن ماذا نفعل؟ قال الإمام (صلوات الله عليه): أودعوها عند من لا تضيع عنده الودائع، قالوا من هو؟! قال: إنه الله ربّ العالمين، قالوا: كيف نودعها عنده، قال: بأن تدفعوا ثلثها للفقراء، قالوا: وكيف ندفعها ولا يوجد بيننا فقير؟ قال: ابنوا على ذلك؛ إنكم إذا مررتم من هذا الطريق بسلام وأمن ووصلتم إلى مقصدكم أن تدفعوا ثلث أموالكم للفقراء، فصمّموا على ذلك، وفي أثناء الطريق رأوا أن اللصوص مقبلين عليهم، فاستبدّ بهم الخوف وقالوا للإمام (عليه السلام) : هؤلاء اللصوص مقبلون علينا، قال الإمام (عليه السلام) : وكيف تخافون وأنتم في أمان رب العالمين؟! إذ يجب أن لا يكون ثمة خوف بعد ذلك، فجاء اللصوص وترجّلوا وقبّلوا يد الإمام الصادق (صلوات الله عليه) وقالوا له: إنا رأينا في المنام النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمرنا أن نكون في خدمتك، فنحن في خدمتك وإذا تحب أن نرافقك وندفع شر اللصوص عنك وعن من معك، فقال الإمام الصادق (صلوات الله عليه): لا حاجة في ذلك؛ الذي دفعكم عنا سيدفع الآخرين عنّا، ووصلوا إلى مقصدهم سالمين وهناك دفعوا ثلث أموالهم، وجاء في الحديث أنهم ربحوا في تلك التجارة مُقابل كل درهمٍ عشرة دراهم، بعدها قال لهم الإمام الصادق (صلوات الله عليه): قد رأيتم بركة المعاملة مع الله، فأديموا على ذلك.

وفيما يتعلق بالبركة في المعاملة مع سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، حصل أن وقع جدي لأمي(1) (رحمة الله عليه) في مأزق معقد خلال معاملة تجارية، ولم يكن ثمة مخرج حسب الظاهر من ذلك المأزق، لكنه في حالة انقطاع عاهد سيد الشهداء وأبا الفضل العباس (صلوات الله عليهما) أن في حالة نجاته من مأزقه ومشكلته سيجعل ثلث أمواله لهما، وحصل فعلاً وبطريقة غيبية غير متوّقعة أن نجا الجدّ من ذلك المأزق، وبقي على

ص: 204


1- الوجيه الماجد الحاج محمد صالح معاش (رحمه الله) ، من وجهاء مدينة كربلاء المقدسة، توفي بها عام 1402ه- ودفن في جامع مسمى باسمه، وقد أوقفه بنفسه في محلة باب بغداد بقرب الروضة العباسية المطهرة.

عهده إلى آخر حياته، فأي مقدار من المال كان عنده كان يضع ثلثه لهما (صلوات الله عليهما). والمشاركة بالأموال، ليس بالضرورة أن يكون بمقدار وفير، فحتى وإن كانت المشاركة بنسبة واحد بالمائة فإنه يوجب البركة والخير.

النوع الثاني: المشاركة بالأولاد

وهو أن ينذر الواحد منّا مجموعة من أولاده، أو واحداً من أولاده ليكون خادماً لسيد الشهداء (عليه السلام) ، وربما تحول الطفل الصغير إلى حامل للواء التشيّع في العالم، لذا لاينبغي النظر إلى الطفل باحتقار.

نقل لي أحد الأفراد أنه عندما كنتُ طفلاً صغيراً، - ولعله يكون في سنّ الثامنة أو أقل - رأيت ذات يوم والدك (رحمه الله) (1)، ولما رآني السيد الوالد (قدس سره) في مناسبةٍ معينة، قال لي ما أسمك؟ قلت: فلان... فقال الوالد لي: هل تعلم أن هذا الاسم كان للعالم الفلاني، وكان أحد كبار علمائنا في التاريخ، وقد ألّف هذا العالم الكبير موسوعة ضخمة باقية إلى الآن، وأنت حاول أن تكون مثل ذلك العالم؛ يقول هذا الرجل: تلك الكلمات بقيت محفورة في ذهني منذ أيام الطفولة، ثم تفاعلَت مع كياني ووجداني.. فهذا الذي كان يوماً ما طفلاً يُعد اليوم أحد كبار خطباء الشيعة في العالم كله، لذا فإن الطفل الذي نشجّعه ونحثّه في صغره ربما يكون في المستقبل حاملاً للواء التشيع في العالم.

النوع الثالث: المشاركة الشخصية

ويتمثل هذا بالمشاركة الشخصية في المراسيم الخاصة بقضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، ولهذه المشاركة مظاهر مختلفة يجب أن لا نضع لها حداً معيناً - كما ذكرنا آنفاً - ومن أشكال المشاركة الشخصية قراءة (زيارة عاشوراء) يومياً لمن يتمكن، وهي تمثل نوعاً من المشاركةٌ والتفاعل الشخصي مع قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

هنالك عدة نماذج من المشاركة والتفاعل الشخصي مع قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في مجال قراءة زيارة عاشوراء:

ص: 205


1- آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) .

النموذج الأول: حدثني أحد الأخوة الشباب أن والدته كانت مداومة على زيارة عاشوراء وهي في بلدٍ آخر ولم تقطع زيارة عاشوراء خلال ثلاثين عاماً من حياتها، قال: حصل أن قررت والدته السفر إلى مدينة مشهد المقدسة خلال أيام محرم الحرام، وقضت أياماً في مشهد أيام محرم الحرام، وتوفيّت هناك في اليوم العاشر من محرم! ودُفنت في حرم الإمام الرضا (صلوات الله عليه)؛ إن نموذجاً كهذا قد يؤتى به أمامنا يوم القيامة، وربما يأتي نموذج آخر ولم يقرأ زيارة عاشوراء في حياته ولا مرة واحدة، ولذا علينا أن نغبط هذه المرأة على ما بلغته من مقام.

النموذج الثاني: امرأة تقرأ زيارة عاشوراء من عشرة أو عشرين عاماً وبشكل يومي، وفي كل يوم تقرأ زيارة عاشوراء مرتين، وعن سبب ذلك تقول هذه المرأة: أريد أن يكون مقابل كل يوم من أيام عمري، من يوم ولادتي زيارة عاشوراء، لذا فانا أقرأ الزيارة قضاءً للأيام التي لم أقرأها ابتداءً من ولادتي!

النموذج الثالث: من أحد التجار الذين أعرفهم وهو في إحدى البلاد، وقد نقل لي أحد الذين يعرفونه، بأنه يقوم كل صباح وقبل أن يفتتح محله التجاري، بقراءة زيارة عاشوراء ماشياً في ساحة مفتوحة أمام محله، كما نُقل أيضاً عن أحوال هذا الرجل، أنه يومياً وقبل أذان الفجر بحوالي ساعتين، ينهض لصلاة الليل وللدعاء، وهو تاجر وفيّ جداً؛ فهذا التاجر يؤتى به يوم القيامة، ويؤتى ببعضنا، فيكون محل غبطة الجميع في ذلك اليوم. إذن لا حدود أمام المشاركة والتفاعل بمختلف أنواعه في قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وثمة ملاحظة مشهودة، بأن بعض الأفراد عندما يكبرون في السنّ يضعون هنالك خطاً واحداً لأعمالهم ونشاطاتهم فيما يتعلق بقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

سماحة الشيخ الوحيد الخراساني(1) (حفظه الله) كان يقول: إن كبار العلماء فيما مضى من الزمن كانوا إذا رأوا اتفاق ثلاثة من العلماء على فتوى معينة، فإنهم كانوا يطمئنون بها ويفتون طبق تلك الفتوى، أي إن هذه الفتوى الصادرة من العلماء الثلاثة

ص: 206


1- آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني (دام ظله) من مراجع الدين في مدينة قم المقدسة.

كانت تبعث على الاطمئنان بوجود مَدرك يعتد به للحكم الشرعي، لدقة هؤلاء الثلاثة وورعهم، وهؤلاء الثلاثة هم: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (رحمه الله) والمجدد الكبير السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب قضية التنباك (رحمه الله) والشيخ محمد تقي الشيرازي صاحب قضية ثورة العشرين (رحمة الله عليهم)، وكان الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) وهو المرجع الأعلى للشيعة في يومه وقاد ثورةً من أعظم الثورات في التاريخ، فقد كان له منصب القيادة الدينية والقيادة السياسية، كان يقوم في يوم عاشوراء بعمل ربما أغلبنا غير مستعدين للقيام به، وهو أنه كان يخرج حافياً حاسراً ويمشي لاطماً على صدره في مواكب سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

يقول الشيخ الوحيد الخراساني (حفظه الله) حول هذا الموضوع، بأن عمل الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه الله) هو دليل فقاهته، لأنه يرى أن الإمام الرضا (صلوات الله عليه) يقول: (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا)(1)، والعين من ألطف الأعضاء في بدن الإنسان، وحتى تصاب العين بالتقرّح، على الإنسان أن يبكي بمقدار كبير، وأنا لم أر ولا أتذكر أحداً تقرحت عيناه من شدة البكاء.

وجاء في زيارة الناحية - وهذه منّي وليست من الشيخ الوحيد - يقول الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف): (ولأبكيّن عليك بدل الدموع دماً...)، ولم أر حتى الآن أحداً قد تحولت دموعه إلى دماء من كثر البكاء.

وبالنتيجة فإن ذلك العمل هو من فقاهة الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه الله) ، لذا لا عجب من الشيخ الشيرازي أو غيره أن يخرجوا حفاة الأقدام وحاسري الرأس في مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) .

وتُنقل عن السيد بحر العلوم(2) (رحمه الله) قضية مشابهة وهي معروفة، إذ كان خارجاً مع مجموعة من الطلبة لاستقبال موكب (عزاء طويريج)، وما أن رأى السيد بحر العلوم (رحمه الله) الموكب إذا به تنقلب حالته، فيخلع عمامته وعباءته ويرمي بعصاه

ص: 207


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص128، المجلس27.
2- محمد مهدي بن السيد مرتضى بن السيد محمد الحسني البروجردي المعروف ببحر العلوم الطباطبائي. ولد بكربلاء في شوال سنة 1155ه- وتوفي بالنجف الاشرف سنة 1212ه.

جانباً وأخذ يلطم على صدره ويشترك مع المهرولين في (عزاء طويريج)، فحاول الطلبة الذين كانوا معه منعه، وقالوا له: بان هذا العمل ليس مناسباً لك، لأنك مرجع كبير، لكنه أبى إلاّ أن يشترك في الموكب، وعندما رأى الطلبة إصرار السيد بحر العلوم (رحمه الله) اشتركوا هم أيضاً، وفيما بعد سأله بعض خواص السيد بحر العلوم عن السبب الذي دفعه للقيام بذلك العمل؟ فقال: كيف لا أفعل هذا وقد رأيت الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) حافياً حاسراً في هذا الموكب! فإذا كان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) يشترك في مثل هذا الموكب الحسيني، فما بالنا وأمثالنا، إذن لا ينبغي على الواحد منّا أن يضع حدوداً ومقداراً لمشاركته.. وتنتهي المشاركة عند ذلك الحد، وإنما يجب أن نحاول بأن تكون المشاركة بلا حدود.

يقول السيد العم(1) (حفظه الله): رأيت عدداً من مراجع التقليد الكبار يشاركون في موكب (عزاء طويريج) ولعلّه كان يضيف بأنهم كانوا يهرولون مع الجميع في هذا الموكب، ويذكر السيد الرجائي (حفظه الله) بأنه كان هنالك رجل ضعيف الحال جداً، لكنه ملتزم بإقامة مجلس حسيني في أيام عاشوراء، وكان يُطعم المؤمنين، رغم أن وضعه لم يكن يساعده لذلك، ثم تبيّن فيما بعد أن هذا الرجل كان يأخذ عبادة استيجارية، أي يقوم بأداء الصلاة أو الصيام طوال العام نيابة عن ميت، ليتمكن من توفير المبلغ اللازم لإقامة هذه المجالس. ومثل هذه الأعمال والنشاطات ستكون ذخيرةً لآخرتنا إن شاء الله، وأيُّ تقصير في هذا المجال معناه الندم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

توفيق التشرف

والقضية الأخيرة عن رجل من الذين يتشرّفون بلقاء الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، وتُنقل في أحواله قضيتان:

القضية الأولى: يُنقل أن الإمام الحجة (عليه السلام) سأله ذات مرة، أنه إذا لم تكن ترانا ماذا كان يحدث لك؟، فقال: يا مولاي إذا لم أكن أراكم كنتُ أموت! ويوجد مثلٌ في

ص: 208


1- المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) .

اللغة العربية يقول (الثكلى لا تكون كالمستأجرة)، فالمرأة التي يموت ابنها، فإنها تبكي من أعماق قلبها، وربما تفقد مشاعرها، في حين كان متعارف عند بعض البلاد أنه يؤتى بمجموعة من النساء ويعطى لهن المال ليبكين على الميت، فكانوا يبكون، لكنه ليس مثل بكاء الثكلى، فهو عبارة عن تظاهر وتمثيل لا أكثر، وأفكر أحياناً بأن دعاءنا للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) ربما يكون مثل بكاء المُستأجرة، ففي القنوت ندعو: (اللهم عجّل لوليك الفرج)، لكن ذهننا مشغول في مكان آخر، أما عندما نكون في منى وفي وسط ذلك الحريق الذي نشب فيه قبل سنوات، حيث كانت النيران في الأطراف تلتهم الخيام التهاماً، فإن الدعاء بالنجاة يكون بشكل آخر.

ثم إننا عندنا مفهوم (الحب) نظرياً وليس إدراكاً، أي إنه علم حصولي وليس علماً حضورياً، وثمة فارق كبير، فشخص ما مريض، هذا مفهوم نظري، أما إذا تمرض الشخص نفسه، فان المفهوم سيكون علماً حضورياً، لذا قال ذلك الرجل المؤمن للإمام (عليه السلام) : بأني أموت إن لم أرك، فقال الإمام: لذلك ترانا؟

أما القضية المرتبطة والمتفرعة عن القضية الأولى: فهي أنه سُئل هذا الرجل عن بداية أمره، فقال: في إحدى الليالي رأيت النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا، فقلت له يا نبي الله، أريد أن أرى ولدك المهدي، وأحظى بهذا الشرف، فما هو الطريق إلى ذلك ؟ فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله): إبك على ولدي الحسين (عليه السلام) في كل يوم مرتين، يقول: ففعلتُ هذا العمل، وداومت عليه عاماً كاملاً، وهذا ممكن حيث بوسع أي شخص تشغيل شريط الكاسيت في بيته ويستمع إلى هذا الشريط ويبكي، وبعد ذلك العام وُفّقت للقاء الإمام المهدي (عليه السلام) .

وفي زيارة الناحية نقرأ: (فلأندبنّك صباحاً ومساءً)، وكان قديماً يُطرح هذا السؤال بالاستفادة من هذه الجملة، أنه هل من المستحب ندبة الإمام الحسين (عليه السلام) في كل صباح ومساء اقتداءً بالإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)؟

لعل الجواب على ذلك بالإيجاب، لأن أهل البيت (عليهم السلام) قدوةٌ لنا، ولو بهذا المقدار بأن يقول الواحد منّا في أول الصباح أو في أول المساء: (يا حسيناه) أو (وا حسيناه).

ص: 209

إن كل ما ذكرناه هو من الأعمال الهيّنة جداً، مقابل تلك التضحيات الكبرى التي قدمّها آباؤنا وأجدادنا للمشاركة والتفاعل مع قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه)، وينقل الخطباء القضية المعروفة عن ذلك الزائر الذي كان في طريقه لزيارة سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ولعل ذلك في عهد المتوكل العباسي، فاعترضه الجلاد حيث كان يقطع يد كل زائر، فقال له: قدّم يدك حتى أقطعها، فقدم شماله قال لماذا لم تقدم يمينك؟! قال لأنكم قطعتموها في العام الماضي! وهذا أكبر مصداق للمشاركة دون حدود في قضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

هذه ثلاث وظائف هيّنة:

الوظيفة الأولى: المشاركة في الأموال.

الوظيفة الثانية: المشاركة في الأولاد.

الوظيفة الثالثة: المشاركة الشخصية بمختلف أنواع المشاركة وبلا حدود.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.

ص: 210

7

الأبعاد الفقهية والاجتماعية للمجالس الحسينية

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(1). صدق الله العلي العظيم.

الحديث عن المجالس الحسينية له أبعاد، وأول ما يلفت انتباهنا هو:

أولاً : البعد الفقهي للمجالس الحسينية

ولكي يتبين لنا هذا البُعد، لابد أن نشرح بإيجاز قضية المقدمات الوجودية للواجب، فماذا تعني المقدمات الوجودية؟ إنها تعني بأن الإرادة المولوية عندما تتعلق بشيء معين - على نحو الإلزام -، أو حين يتعلق الحب المولوي بشيء معين كذلك، فإن هذا الشيء سيتصف بصفة الوجوب.

بمعنى أن المولى يريد هذا العمل ويحبه ويأمر به، وهنالك شيء آخر بالإضافة إلى هذه الإرادة وهذا الحب يلاحظه العقل وهو الشيء الذي تعلقت به إرادة المولى، فيجد العقل أن وجود هذا الشيء يتوقف على مقدمات معينة، بمعنى أنك عندما تحاول أن تحقق ما يحبه المولى وتحاول أن تنفذ ما أراده الله سبحانه وتعالى منك، ستجد أن هذا الشيء يتوقف على مقدمات.

هنا توجد مسألة اللاّبدية التكوينية، وهي تعني أن العقل يرى بأنه لكي يصل إلى هذه النتيجة لابد له من تكوين ليحقق هذه المقدمة التي تتصف بالوجوب العقلي، بمعنى أن ذلك الهدف يتصف بالوجوب الشرعي، وهذه المقدمة تتصف بالوجوب العقلي، لأن المحبوب للمولى يتوقف على هذه المقدمة، إذ يقول المولى: (وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ...)(2). فالحج محبوب للمولى وهو واجب بالوجوب الشرعي المولوي، ولكن كيف يمكنك أن تصل إلى مكة؟ وكيف يمكنك أن تؤدي هذه الأعمال

ص: 211


1- سورة فاطر: 10.
2- سورة آل عمران: 97.

وهذه المناسك؟ إن تحقيق هذا الغرض يتوقف على طي المسافة، فلابد أن تذهب وتهيّئ وسيلة السفر لتصل إلى تلك البقاع، ولكن هل قال المولى: اركب السيارة؟ كلا، وهل قال المولى: اركب الطائرة ؟ كلا، ولكن العقل يقول: مادام يتوقف هذا الهدف على هذه المقدمة، إذن فهي واجبة بالوجوب العقلي، بمعنى لابد أن تركب الطائرة أو السيارة أو تستخدم أية وسيلة أخرى للوصول إلى هذا الهدف.

هذه الأمور تسمى بالمقدمات الوجودية للواجب.

والآن نأتي إلى المجالس الحسينية التي كانت والحمد لله عامرة في أيام عاشوراء المباركة وينبغي أن تظل عامرة فيما بعد، فإذا تأمل الإنسان وفكّر في هذه المجالس سيعرف الكثير عنها، ونحن نعيش داخل هذه المنظومة، ومن يعيش داخلها سوف لا يفهم ماذا يجري فيها، ولكنه إذا عاش خارج المنظومة سيفهما بصورة أفضل.

إن السمكة التي تعيش في الماء ربما لا تفهم ما معنى الماء؟ وإذا كان النور سرمداً، بمعنى (دائماً) علينا في الحكمة الإلهية، لمّا كُنّا نفهم ما هو معنى النور؟ وإذا لم يكن الظلام موجوداً، لما كنا نخرج من حيّز النور، ولما فهمنا ما هو معناه؟ وهذا الموضوع يحتاج إلى توضيح سنتركه إلى وقت آخر.

إننا نعيش ضمن هذه المنظومة، والذي يعيش خارجها يفهم دور هذه المجالس، وهم الأعداء الذين يفهمون ما معنى هذه المجالس؟ فمن الذي يخلق الانتماء الديني والولاء الديني وهذه المشاعر التي تربطنا بالله سبحانه وتعالى وبالقيم وبالحسين (صلوات الله وسلامه عليه)؟ ومن الذي أبقاها ألفاً وأربعمائة عام؟

إن إحدى أهم هذه الوسائل هي هذه المجالس التي بقيت عامرة، كما أن الأعداء ليسوا بغافلين، بل يحاربون المجالس الحسينية بوعي وتخطيط، ولكن لماذا يحاربونها؟ ولماذا عندما دخل المستعمرون الكفار بلادنا في القديم، كانوا يمنعون هذه المجالس؟ لأنهم هم الذين كانوا يفهمون ما معنى هذه المجالس وتأثيرها؟

فحتى لو أقمت مجلساً في بيتك وحضره طفل واحد من أطفالك يضعون هذا العمل بين قوسين، أي تحت المراقبة لأن هذه المجالس تخلق الانتماء الديني والولاء المذهبي وتبقي المعاني والقيم الدينية في نفوس الأجيال جيلاً بعد جيل، لذلك إذا

ص: 212

كانت هذه المجالس مقدمة لتحقيق هذا الواجب، فهي تتصف من الناحية الفقهية بالوجوب العقلي، بمعنى أنها واجبة عقلاً، ولها وجوب عقلي.

الوجوب العقلي للمجالس الحسينية

في إحدى البلدان البعيدة التي لا توجد فيها هذه المجالس التي هي نعمة لنا ولأولادنا، كان أحد العلماء يقول فوق المنبر: (من مات ولم يحج يُقال له عند موته: مت إن شئت يهودياً وإن شئت نصرانياً)(1) فكان يلاحظ حدوث همهمة بين الحاضرين وعندما ينزل من المنبر يُسأل عن هذه الهمهمة؟ فيقول: كان الحاضرون يسأل بعضهم بعضاً، ما معنى هذا الحديث؟ أي ما معنى مات يهوديّاً، هل اليهودي غير جيد؟ ومن يُقال له مت إن شئت نصرانياً، هل هو ليس جيداً؟ إنَّه مسلم لكنه لا يعرف الفرق بين الإسلام وبين اليهودية والنصرانية.

إن أبناءنا الذين انفلتوا وذهبوا إلى البلاد الأجنبية، ونحن مسؤولون عنهم، لأن كل ذي استطاعة وكل من هو قادر يكون مسؤولاً، فمن الذي يحفظ أبناءنا هناك؟ كلهم يعيشون في أجواء الكفر وأجواء الفساد، كان أحد الأخوة يعيش هناك فقال: كانت تمر علي الأيام والأسابيع ولا أسمع فيها صوت (الله أكبر) وكنت أتلهف لذلك، وإذا ذهبت أحد الأيام إلى مكان أو محل فيه مجلس للحسين (صلوات الله وسلامه عليه) أو سمعت مؤذناً يؤذن، أشعر بنشوة لا تعادلها نشوة أخرى.

إنها تشبه قضية إبراهيم (صلوات الله عليه) حينما سمع ذلك الرجل أو الملك يقول: (سبّوح قدّوس)، فهذه المجالس هي التي تحفظ الانتماء والولاء ولذلك فهي واجبة شرعاً بالوجوب العقلي.

ثانياً: البعد الاجتماعي

إن الأشياء تُعرف بأضدادها، قارنوا الشخص الذي تربى في مجالس الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع شخص آخر ضعيف، ولاحظوا سلوك هذا وسلوك ذاك، زوروا مستشفيات الأمراض العصبية، ولاحظوا كم فرداً من الذين يحضرون مجالس الحسين

ص: 213


1- الغدير، للشيخ الأميني (رحمه الله) ج3 ص155.

(عليه السلام) يُصاب بالأمراض العصبية؟ وكم يُصاب من الذين لا يحضرونها؟ كذلك الحال مع المجرمين الذين يأتون بهم إلى السجون، فكم تجد منهم في المعتقلات من الذين نشئوا تحت المنابر؟ كم من هؤلاء الذين نموا تحت المنابر يقتلون الأبرياء؟ وهل من ينمو في مجالس الحسين (صلوات الله عليه) يقتل ويفجر الأبرياء؟ إن الشخص البعيد عن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي يقوم بمثل هذا العمل في حرم الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه).

الحقيقة أنا لا أدّعي الإطلاق في حكمي من الناحية الاجتماعية، أي إن حكمي ليس مطلقاً، فالقضايا نسبية، أقصد لاحظوا معدل الذين يحضرون المجالس الحسينية والذين لا يحضرونها؟ لاحظوا حياة هؤلاء وحياة أولئك، إن أعمق القيم النبيلة تولدها هذه المجالس، فإذا اصطحبت ابنك إلى المجالس أو أقمت مجلساً في بيتك، لاحظ كيف سينشأ ابنك، أمّا إذا نشأ الابن بعيداً والبنت بعيدة في تلك الأجواء المعروفة سترون كيف سينشأ الابن؟ وكيف ستنشأ البنت؟

لذلك في الواقع - بالإضافة إلى البُعد الشرعي الأول - يوجد هنالك بُعد اجتماعي لهذه القضايا، وهو أنَّ هذه المجالس والمنابر تخلق نفوساً طيبة، فقد جاء في الأحاديث: زوّج ابنتك ممن ترضون دينه وخُلُقه.. لا تلاحظ الثروة والجمال والمال، بل زوّجها من متدين، لماذا؟ لأنه إما أن يحبها وإما أن لا يحبها، فإذا أحبها أكرمها، وإن أبغضها ولم تتوافق طباعهما وأخلاقهما ولم ينسجما مع بعضهما، لا يظلمها (1) بل سيتعامل معها معاملة عادلة، هذا هو الشيء الذي تحث عليه وتربي به مجالس الإمام الحسين (صلوات الله عليه). فإذا أقيمت هذه المجالس بالشكل المطلوب الذي ينبغي أن تكون عليه، لم تكن هذه المشكلات في بيوتنا، أو لقلّتْ في أضعف الإيمان.

ثالثاً: البعد الغيبي

أحياناً لا تكون هناك مصلحة لتدخل المشيئة الإلهية بشكل مباشر، فالمصالح تمنع ذلك، أما كانوا يقتلون أنبياء الله؟ كانوا يأخذون أحد أنبياء الله تعالى ويدفنونه حياً، ولم يكن الله سبحانه يتدخَّل غيبيّاً لمصالح مثبتة، لأن هذه الدار دار امتحان وابتلاء.

ص: 214


1- انظر مكارم الأخلاق، للشيخ الطبرسي (رحمه الله) : ص204.

ولكن ربما يمكن أن نقول بالقطع واليقين في غالب الحالات تتدخل الإرادة الغيبية في كثير من الأمور، فإذا توسل الإنسان إلى الأولياء ولجأ إليهم يتدخلون غيبيّاً لحل الأمور، وقد جعل الله تعالى الحياة بشكل يُبتلى فيه كل إنسان.

الحاضرون الآن في هذا المجلس فرداً فرداً، كل واحد منّا لديه مشكلة تقض مضجعه ولا تتركه هانئا، إن الدنيا دار امتحان ودار ابتلاء، فالإنسان يجب أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أوليائه، لذلك يجب أن يحضر المجالس ويقيمها في بيته، ويستمد منهم العون في شؤون الدنيا والآخرة.

أنقل هذه القضية بلا واسطة، قبل سنوات لعلها أربع أو خمس، كان هنالك رجلٌ أعرفه ذهب مع عائلته إلى مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) في ظل ظروف معينة، هو وزوجته وطفله، هذا الطفل يُبتلى في مشهد بمرض، فلا يستطيع أن يأكل، إنه طفل رضيع، ولا يستطيع أن يشرب الحليب، وكلما يأكل لا يستقر الطعام في معدته، طبعاً هذه الحالة إذا استمرت تؤدي إلى موت الطفل.

يقول الأب: كان شغلي في مشهد أن أذهب بالطفل صباحاً إلى الطبيب فيعطيني دواءً وأعود به إلى البيت وأعطي الدواء للطفل لكن لاتوجد فائدة من ذلك، ثم نذهب إلى طبيب ثانٍ لعل هنالك علاجاً شافياً، لكن لاتوجد فائدة أيضا.

يواصل الأب كلامه: وأخذ الطفل يضمر ويضمر كونه طفلاً رضيعاً، ليس له لسان ولا يتمكن أن يتكلم، إنه يبكي ولا يتركنا أن ننام في الليل.

ويضيف الأب: في أحد الأيام كنت منزعجاً جداً، من هذه الحالة لأن طفلي سيموت أمام عيني ولا أستطيع أن افعل له أي شيء، والذهاب إلى الأطباء لم يُجْدِ ذلك نفعاً، وفي أحد الأيام دخلتُ البيت ورأيت زوجتي ترتدي عباءتها وبوشيتها وتروم الخروج، فقلت لها: إلى أين؟ قالت: أريد أن اذهب إلى حرم الإمام الرضا (صلوات الله عليه). فقلت لها: لماذا ؟ قالت: لأطلب الشفاء لهذا الطفل من الإمام الرضا (عليه السلام) .. فقلت لها: أين الأدوية؟ قالت له: رميتها كلها في القمامة!

رأيتها في حالة انفعال شديد فلم أقل لها شيئاً، وذهبت فعلاً إلى حرم الإمام الرضا (صلوات الله عليه) دقائق أو مدة معينة ثم رجعت إلى البيت، انشغلنا عن قضية

ص: 215

طفلنا بالمرة، تناولنا غداءنا في الظهر، وجاء الليل مبكراً، وإذا بالطفل يشرب الحليب.

ويواصل الأب قوله: كنا غافلين عنه، وفجأة التفتنا، ما هذا الذي حدث؟ فهذا الطفل الذي لم يكن يستقر اللبن في أمعائه.. وإذا بنا ننتبه إلى أن ذلك التوسل أنقذ طفلنا في لحظات من موت محقق... وهذه القضايا موجودة بالمئات إذا تبحثون عن مصادرها الموثقة، فيجب على الإنسان أن يلجأ إليهم (عليهم السلام) لحل مشكلات الدنيا والآخرة. أنقل لكم بعض الروايات :

الرواية الأولى:

سأل موسى بن عمران (عليه السلام) الله سبحانه وتعالى قال له: إلهي بم فضلت أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) على سائر الأمم؟ فقال تعالى: بعشر خصال تختص بها هذه الأمة المرحومة. فقال موسى (صلوات الله عليه): وما تلك الخصال؟ عدد الله تعالى له الخصال واحدة بعد الأخرى وآخر خصلة منها، (... وعاشوراء) من الخصال التي اختصت بها هذه الأمة. فقال موسى (عليه السلام) : وما عاشوراء؟ قال الله تعالى: البكاء والتباكي على سبط المصطفى والمرثية والعزاء على مصيبة ولده، يا موسى ما من عبد من عبيدي - في ذلك الزمان - بكى أو تباكى أو تعزى على ولد المصطفى إلاّ وكانت له الجنة، وما من رجل أنفق ماله في محبة ابن بنت المصطفى درهماً أو ديناراً إلاّ وباركت له في دار الدنيا وغفرت له ذنوبه (1).

الرواية الثانية:

يقول حماد: دخلت على أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) فقلت له: إني أدخل بلاد الشرك - كانوا يذهبون إلى البلاد الأجنبية في ذلك الوقت للتجارة وما أشبه - وإن من عندنا يقولون: إن مت هنالك حشرت معهم، أي مع الكفار، فهل هذا الكلام صحيح؟

قال الإمام (عليه السلام) : إذا كنت في بلاد الكفر، هل تذكر أمرنا وتدعو إليه، وهل عندك حرية وتتمكن أن تقول ما تحب؟ وتعقد مجالس العزاء على الحسين صلوات الله عليه؟

ص: 216


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص319 ب49 ح12085.

هل تستطيع فعل ذلك أم لا ؟ فقلت: نعم توجد حرية في بلاد الكفر. فقال: يا حماد فإذا كنت في هذه المدن، في بلاد بني أمية وبني العباس الذين كانوا يدعون الإسلام، هل تذكر أمرنا وتدعو إليه وهل تعقد المجالس أم لا تقدر؟ قلت: كلا، لا أقدر على ذلك

- حقاً في بلاد المسلمين لا يستطيع المؤمن في زمان بني أمية وبني العباس أن يعقد مجالس الحسين (عليه السلام) .. وفي بلاد الكفر يستطيع أن يعقد هذه المجالس، فكيف يمكن أن يتخلص الإنسان المؤمن من هذا الألم؟ -

فقال لي: يا حماد إنك إن متّ فمتْ هناك في بلاد الشرك، حُشرتَ أمّةً وحدك وسعى نورك بين يديك (1).

هذا يحشر وحده يوم القيامة ونوره يسعى بين يديه ويساق إلى الجنة.

الرواية الثالثة:

عن الإمام الرضا (صلوات الله عليه): (من تذكر مصابنا وبكى كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) (2).

إن الله سبحانه وتعالى سيجزي الذين سعوا وعملوا في مثل هذه الأيام المباركة، فإذا كانت تلك المجالس عامرة، والله سبحانه وتعالى وفق المؤمنين إلى هذه الخدمات التي هي ذخر ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فالمهم هو أن تبقى هذه المجالس وأن توسّع وأن تقام في كل بيت، فهي واجبة أولاً، وتربي أولادنا وبناتنا ثانياً، وثالثاً يؤمل أن تكون هذه المجالس وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى لحل مشاكل الدنيا والآخرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك.

اللهم أحينا محيا محمد وآل محمد، وأمتنا ممات محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج16 ص188.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص131.

8

المجالس البيتية .. مؤسسة اجتماعية فاعلة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

على أعتاب شهر محرم الحرام نتحدث حول هذا الموضوع في فصلين:

الفصل الأول: نقاط قوة التشيع

إن التشيع له نقاط قوة متعددة، ونذكر من نقاط القوة ثلاثاً :

النقطة الأولى : المبدأ الحق

إن قضية الحق تُعدّ قضيةً مهمةً جداً في حياة البشر، ويمكن أن يعود تفاعل البشر مع الحق ومع الواقعية إلى أحد عاملين :

العامل الأول: إن للحق جذوراً في الفطرة وفي الضمير وفي الوجدان، وعلى قول مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (ليثيروا لهم دفائن العقول) (1)، فهو شيء موجود في عمق الضمير، فقط يحتاج إلى إثارة و إلفات وتنبيه، وهذه كانت من مهام الأنبياء (عليهم السلام) : (وليثيروا لهم دفائن العقول).

الشيء الذي يظهر من بعض الروايات، أن قبل هذه النشأة كانت ثمة نشأة أخرى، ونحن تعلمنا مجموعة من المعارف في تلك النشأة، ولكن غاب عنا الموقف وبقيت المعرفة، وأظن إن هذا نصّ الرواية أو قريب إلى ألفاظ الرواية، (الموقف غاب عنّا ولكن المعرفة بقيت في الوجدان وبقيت في الضمير)، كمن يحفظ شعراً أو يحفظ ألفية ابن مالك، فالشعر يغيب عنه، وإذا يقرأ الشعر يرى أن هذا البيت الذي كان يألفه من قبل، وليس غريباً عليه، فبعض المعارف الحقة لها جذور في داخل الضمير وداخل الوجدان، ولذلك عندما تعرض هذه المعارف على العقل وتعرض على الفطرة فإنها تتقبلها.

ص: 218


1- نهج البلاغة: من كلام له (عليه السلام) في صفة خلق آدم.

العامل الثاني: المُحتمل في تقبل البشر للمعارف الحقة، تطابقها مع الفطرة ومع الضمير، حتى إذا ما كانت لها جذور في داخل الوجدان والضمير، فعندما يُقال لكم: ما هي نتيجة أربعة × أربعة ؟ ربما يكون هنالك مليون جواب على هذا السؤال، ولكن أي جواب يُعرض يجد أن عقله وفطرته لا يرضى به، فيمكن أن يكون هنالك مائة مليار جواب على هذا السؤال، ولكن جواب واحد هو الذي يتطابق مع الفطرة ومع الضمير ومع الوجدان، حتى إذا فرضنا أنه في تلك النشأة لم نتعلم أن 4×4 يساوي كذا... وإن كنا لا ننفي أن جميع المعارف الحقة تعلمناها في تلك النشأة، مثلا من الممكن أنه قد تعلمنا إن اجتماع النقيضين محال في تلك النشأة. وكذلك المعادلات الرياضية والمعادلات العلمية الواضحة، ولكن عندما يتخذ العقل أو الوجدان أو الضمير وضع المواجهة مع هذه المعارف يجد أنها تتطابق مع طبيعته ومع تركيبته، مثل الذائقة، فهنالك أشياء ملائمة لها وأشياء منافرة لها، عندما تأخذون الشيء الحرّيف (يحرق الفم) مثلاً تنفره الذائقة، والشيء المُر تنفره الذائقة، فهنالك أشياء ملائمة لقوة الذائقة، وأشياء ملائمة لقوة الشامة، وأشياء أيضاً ملائمة للقوة العاقلة، وأشياء منافرة للقوة العاقلة، فهنالك الملائم والمنافر، ولذلك فإن بعض هذه المعارف الحقة لها جذور من تلك النشأة، وبعض هذه المعارف الحقة - حتى إذا فرضنا أنه لم تكن لها جذور في تلك النشأة - تلائم القوة العاقلة، بينما الباطل ينافر القوة العاقلة، وهذا هو من الفروق بين الحق وبين الباطل.

قوة التشيّع قوة الواقعية

لذلك فإن القوة الموجودة في التشيّع وهي قوة الواقعية وقوة الحق، تُعدّ من أقوى القوات، ولكن الواقعية كما قلنا آنفاً تحتاج إلى إثارة (وليثيروا لهم دفائن العقول)، لأن أبده البديهيات إذا لم يتخذ العقل معه وضع المواجهة لن يذعن له.

يقول المنطق الجديد - كما يقولون - بأن من أهم القوانين التي يبتني عليها، هو قانون الذاتية، لكن إذا لم يتخذ العقل وضع المواجهة مع هذا القانون فإنه لن يذعن له، يعني الحق إما يحتاج إلى إثارة أو يحتاج إلى مواجهة، كما لو كانت عندكم مرآة،

ص: 219

ولكن لا تتخذون وضع المواجهة مع هذه المرآة، فإنكم لن تروا شيئاً في المرآة، أما إذا اتخذتم وضع المواجهة فترون في المرآة، فالإشكال ليس في المرآة إنما في وضع المواجهة، فهذه القوة في الحقيقة وهي قوة الواقعية وقوة الحق، من أقوى نقاط قوة التشيّع، ولكن الإشكال في العرض، والبشر ليس معانداً، فإذا يُقال لكم إن هذا الطعام مسموم، فهل تعاندون وتأكلونه؟! أبداً، إلاّ إذا كان ذلك الإنسان مريضاً أو يكون حالة شاذة، أما إذا يُقال لكم: إن هذا الطعام نافع ومقوّ وحلال، فماذا تفعلون؟ بالتأكيد ستأكلونه، إلاّ إذا كان الإنسان مريضاً.

النقطة الثانية: التاريخ المشرق

الآخرون لا يملكون تاريخاً مشرقاً ؟ ربما الكثير منهم لديهم تاريخ ولكن بفوارق:

الأول: الفارق الكيفي، النبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) لا يُقارن بهم أحد، وهذا أمر واضح، وللسيد المسيح (عليه السلام) أيضاً تاريخ مشرق ولا إشكال في ذلك، ولكن لا يُقارن هذا التاريخ بذاك التاريخ.

الثاني: الفارق الكمي، فكم عدد الذين تعتزّ بهم المسيحيية من الحواريين؟ لنفترض إثنا عشر أو أربعة عشر شخصاً،، بينما يوجد في تاريخنا المئات والآلاف من النماذج المشرقة، فأئمة أهل البيت (عليهم السلام) والنبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وحواريو كل واحد واحد منهم، وذراري أهل البيت (عليهم السلام) يُعدون تاريخاً مهم جداً.

ينقل الوالد (1) (رحمه الله) هذه القضية، ويقول: إن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عيّن والياً، فجاء الموّلى عليهم، أو أهل تلك المنطقة، فسألهم الإمام (عليه السلام) - مضمون القضية - عن رأيهم في هذا الوالي...؟ قالوا: جيد، ولكن عليه مأخذة واحدة، وهو أنه لا يأتي إلى صلاة الجماعة يوماً في الأسبوع، فقال له الإمام (عليه السلام) : لماذا لا تذهب إلى الصلاة؟ قال: في الحقيقة ليس عندي إلاّ ثوب واحد، فأغسله ولذلك لا أتمكن من الحضور.

والحقيقة إذا كان ثمة والٍ بهذا الشكل في عالم اليوم فإنه يُعد من الخرافات،

ص: 220


1- المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347 – 1422 ه).

والقضايا التي تنقل عن سلمان (رحمه الله) بعد تصديه لحكم المدائن تُعد في عالم اليوم شبه الخرافات.

وهكذا حواريو الأئمة (عليهم السلام) وذراريهم وأتباعهم والعلماء يمثلون تاريخاً مهماً جداً.

الثالث: الفارق في التفاصيل.. إن عدسة التاريخ لم تصوّر أحوال أولئك بشكل كافٍ، حيث إن التاريخ لم ينصف أئمتنا (صلوات الله عليهم) والنبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وحوارييهم كما ينبغي، ولكن مع ذلك سجّل دقائق كثيرة من أحوالهم، يذكر الوالد (رحمه الله): إن التاريخ سجّل حتى كيف نظر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) إلى علي الأكبر (عليه السلام) عندما ذهب إلى ميدان المعركة، يصف الخطباء تلك النظرة بأنه (عليه السلام) نظر إليه نظر آيسٍ منه(1)، فحتى نوعية النظرة مكتوبة، فالكثير من الأمور مغيبة وغير مكتوبة ولكن المكتوب كثير أيضاً.

ومن هذا التاريخ المشرق حقاً ما يذكره الوالد (رحمه الله) أيضاً، بأنه ينقل أن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) صادفه ذات يوم هطول الأمطار فأراد أن يدخل في دكان وقايةً من المطر، فقال صاحب الدكان للإمام (عليه السلام) : لا أرضى بذلك...! فلم يدخل الإمام (عليه السلام) ، وربما لم يكن يعرف الإمام (عليه السلام) أو كان رجلاً جاهلاً أو معانداً.

إلى غير ذلك مما هو كثير.. مما يمثل لنا التاريخ المشرق الذي يَحظى بأهمية كبيرة.

النقطة الثالثة: المظلومية

المظلومية أمر مهم جداً أيضاً، لا أعلم إن كنتم رأيتم في البيت طفلين، يأخذ الأب أحدهما ويضربه فيأتي الطفل الآخر ويضرب أباه! لأنه يرى إن أخاه مظلوم فينهض للدفاع عنه.

حتى الطفل يفهم أنه يجب الدفاع عن المظلوم، أو إذا أنتم في الطريق ورأيتم امرأة واقفة وهي تبكي، فمن الطبيعي أن يعتصر قلبكم، فالمظلومية أمر مؤثر.

هذه النقاط الثلاث: المبدأ الحق، التاريخ المشرق، المظلومية، تجلياتها الأتم

ص: 221


1- أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين: ج1 ص607.

ومظهرها الأكمل هو شهر محرم الحرام وأيام محرم وقضايا عاشوراء وأحداث كربلاء.

ينقل أنه كان في العراق عالم كبير معروف، ذكره صاحب كتاب (دور الشيعة)(1) وهو أحد أكاديمي الكويت، هذا العالم فكّر أنه يذهب إلى العشائر في العراق ليعرفهم على مبدأ أهل البيت (عليهم السلام) ومن الأشياء المؤثرة جداً في العشائر قضايا البطولة والمظلومية، فالبطولة مهمة جداً عندهم، فقضايا مثل قضية أبي الفضل العباس (عليه السلام) مؤثرة جداً عندهم، أو قضايا علي الأكبر (عليه السلام) ، فكان يذهب ويذكر لهم البطولة من جانب، وهي ضمن التاريخ المشرق، كما يذكر المظلومية من جانب آخر، والرجل معروف، وأظن على ما أتذكر أنه تمكن من أن يهدي مائة ألف شخص من أبناء العشائر في العراق إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، والآن كثير من العشائر التي ترونها مهتدية إنما بفضل وجهود ذلك العالم، وكان ذلك قبل حوالي المائة والعشرين أو مائتي عام.

نحن قد ورثنا التشيع غنيمة هينة، لكن لا نعلم أن آباءنا وأجدادنا أي متاعب تحمّلوها في هذا الطريق؟ وكم قُتل منهم، وذلك موجود في التاريخ، وقد ذكر في التاريخ إن أحد العلماء سأل عن أبعد البلاد عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) ؟ فقالوا له بلد (فلان...)، قال : أذهب إلى ذلك البلد وأنشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، نقول مثلاً (نجد) فيترك هذا العالم وطنه ويذهب إلى نجد، وهناك يمارس عمله، وكان في ذلك البلد أفراد بعيدون عن أهل البيت (عليهم السلام) وكانوا خوارج، لكنه شكل جماعة هنالك، وبعد فترة عرفوا بأمر هذا العالم، أنه وراء هذه القضية، فكمنوا له يوماً من الأيام، هو وجماعته عندما كانوا في المسجد فجاؤوا وهدموا عليهم المسجد وقتلوهم جميعاً!

شهر محرم من نقاط قوة التشيع

من هنا فإنَّ شهر محرّم نقطة مهمة جداً لتعريف المبدأ الحق ولتعريف التاريخ المشرق ولبيان المظلومية، فإن من نقاط قوة التشيع مجلاها الأتم ومظهرها الأكمل هو شهر محرم الحرام، وإذا كان الشيعة يعرفون حقاً منزلة هذا الشهر لغيّروا المعادلات

ص: 222


1- دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث: تأليف عبد الله النفيسي.

العالمية بها.

إن المسيحيين ليس عندهم شيء سوى أنهم يقولون: إن الله قتل ولده فداءً لنا نحن البشر، هذا وحسب، الله كان عنده ابن واحد حبيب جداً إلى قلبه وهو عيسى (عليه السلام) ففداه وقتله! فأخذوه وصلبوه وانتهت القضية، ولكم أن تأخذوا إذاعاتهم وكتبهم لتروا حجم الضجة التي يثيرونها في العالم لهذه القضية الكاذبة.

نُقل لي في إحدى البلاد وتسمى (لاهور)، أخذوا في مقابل عشرة محرم ينظمون برنامج عشرة الفاروق!، فيقرؤون مجلساً (وا إماماه) مثلاً، ثم ثبت الفشل عندهم فتركوا الفكرة، لأنهم ليس عندهم ما يقولونه فوق المنبر.

نقل لي أحد الأخوة وكان صحفياً في الكويت، ثم غادرها إلى النرويج، أنه - في قضية مطوّلة - عندما كان في الكويت قال: دُعيت إلى بلد معين، وكان المفترض أن نعبر من سلسلة جبال الهمالايا، يقول: فيما كنا نعبر بالسيارة مع مرافق لنا، رأيت في بعض قمم جبال الهمالايا هنالك سواد، فتعجبت وتساءلت عن معنى هذا السواد، فقلت للمرافق ما هذا؟ قال: لا أدري، قلت له لنذهب ونرى بأنفسنا ؟ يقول: ذهبنا إلى هناك وفتحنا الباب، وإذا بها حسينية! فيقول: أخذتني العبرة، وتوجهت إلى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وقلت له: تُقتل في صحراء كربلاء وينصب لك علم فوق جبال الهمالايا... إنها حقاً القوة العظيمة.

وهنالك أيضاً قضية أخرى عن القطب الشمالي، أحد الأخوة نقل لي تفصيلها، أنه كانت هنالك حسينية في القطب الشمالي، وهذا يعني، إنَّ هذا العَلَم واللواء يمكن أن يرفع في كل مكان من العالم.

الفصل الثاني: ماذا نعمل؟

هنالك أربعة أشياء باختصار:

الشيء الأول: أن ننخرط جميعاً في سلك الخطباء، إما الخطابة بالمعنى التقليدي، أو إن لم تكن الاستطاعة، فالخطابة بالمعنى الأعم، بأن نذكر لمختلف الناس قصة عاشوراء، ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) حقاً إنه توفيق للإنسان أن يكون خادماً بشكل

ص: 223

من الأشكال لسيد الشهداء (صلوات الله عليه).

كان للسيد الجد(1) أخ يقال له السيد جعفر (رحمة الله عليهم جميعاً)، يعني عم الوالد، وهذه القضية فيها تفصيل أكثر مما أنقله، ولكن ليس عندي الكتاب الذي ينقل تفصيل القضية.

في يوم من الأيام ينقل السيد جعفر عن السيد عبد الهادي الشيرازي(2) (رحمة الله عليه)، انه طلب السيد عبد الهادي من السيد جعفر أن يقرأ مجلساً حسينياً، فيقول: أنا لست خطيباً، فيقول السيد عبد الهادي: في الواقع رأيت في المنام سيد الشهداء (صلوات الله عليه) وبجانبه علي الأكبر (عليه السلام) وبيدهم ديوان الخطباء، والإمام (عليه السلام) أمر علي الأكبر (عليه السلام) أن يمحو اسم خطيب من الخطباء فمحاه، - وهذا ما يحصل أحياناً بأن يسلب التوفيق من بعض الأشخاص، مما يجب علينا أن ننتبه أكثر حتى لا يسلب منّا التوفيق - ولم ينقل اسم ذلك الخطيب، وقال إن الإمام ( صلوات الله عليه) ثبّت مكانه اسم السيد جعفر، فأنا عرفت بأنك دخلتَ في ديوان الخطباء، فبكى السيد جعفر وقال: أنا لست بخطيب ولكن البارحة أخذت كتاباً من كتب المقاتل وجمعت أهلي وعائلتي وقرأت لهم من المقتل، فوراً سُجّل في ديوان الخطباء وخدّام أبي عبد الله (عليه السلام) ، وظل السيد جعفر إلى آخر حياته يقرأ ليس مجلساً عاماً بمعنى الخطابة، وإنما في بيته، وتوفي عام 1370ه، وهو الآن مدفون في منطقة الري جنوب طهران، وعليه فإن الإنسان يرحل وينتهي، لكن هذه الأمور تبقى.

السيد علي الشبّر (رحمة الله عليه)، الذي كان في الكويت على ما في بالي، كان في أيام عاشوراء يأخذ كتاب لعله (جلاء العيون) لجدّه السيد عبد الله شبر (3) ويقرأه فوق المنبر مع إنه لم يكن خطيباً، وهنالك قضايا كثيرة في هذا الباب لا مجال لبيانها، إذن، الخطابة بأي نحو كان، وفي أي مجال كان تُعد ذخيرة تبقى لنا ليوم القيامة.

ص: 224


1- آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي بن السيد حبيب الله الحسيني الشيرازي (1304 - 1380 ه).
2- آية الله العظمى الميرزا السيد عبد الهادي الشيرازي (ت 1382 ه).
3- السيد عبد الله شبر بن سيد محمد رضا الحسيني الكاظمي النجفي (1188- 1242 ه).

التأليف لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام)

الشيء الثاني: أن ننخرط جميعاً في سلك المؤلفين، فالتأليف مهم جداً، فقد بقي الأنبياء (عليهم السلام) الذين كان لهم كتب، فالتوراة موجودة وإن كانت محرفة، والإنجيل موجود وإن كان محرّفاً، كما إن النبي (صلى الله عليه وآله) بقي بقرآنه وبعترته الطاهرة أيضاً، لكن الأنبياء الذي لم يكن عندهم كتاب لم يبقوا، وكذلك الحال بالنسبة للفقهاء الذين كان لهم كتاب فقد بقوا، مثل الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) ، فقد كان في عهده الكثير من العلماء، لكن لا أثر لهم اليوم، أما الشيخ فهو موجود في كل يوم، وربما يذكر ملايين المرات: قال الشيخ... وقال الشيخ... فإذا لم يكن للشيخ كتاب لكان قد انتهى ولم يبق منه بصيص من النور.

وهذا ما يؤكد أهمية الكتاب، والله تعالى يقول: (ن وَالْقَلَمِ...)(1)، فالقلم مهم جداً، لأنه يُبقي صاحبه، حتى الأفكار الموجودة عندكم، إذا لم تقيّدوها بالكتابة - كما في الحديث - فإنها تنتهي وتضعف شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى، لذلك يقولون كل شيء يأتي في ذهنكم اكتبوه، سواء قضية كانت أو حكاية أو فكرة أو تحليلاً اكتبوه، لأنه يبقى، أما إذا لم تكتبوه فإنه يتلاشى من الذهن، كما إذا كانت لكم حاشية على موضوع، أو إشكال علمي، اكتبوه فوراً، وإلا يذهب وينتهي، ولذلك فإن من المهم جداً التأليف لخدمة سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

تأسيس المؤسسات

الشيء الثالث: أن ننخرط جميعاً في سلك المؤسسين.. كان الشيخ عباسعلي الإسلامي (رحمه الله) من المؤسسين، مع أنه كان خطيباً ومن مشاهير الخطباء، وكان في بيته غرفة واحدة فقط، وعندما كان يأتي بالطلبة إلى بيته ليعلمّهم القرآن أو الدين، كانت زوجته تذهب إلى المطبخ، لكن كانت عنده همّة كبيرة، فعندما كان يذهب إلى قرية ينظر ما ينقصها وما هو الإشكال فيها؟ أهم يفتقدون للمسجد أم للحسينية أم للحمام - مثلاً -، فكان عشرة أيام متواصلة يتكلم حول بناء المسجد، ولا يخرج إلاّ وقد وضع

ص: 225


1- سورة القلم: 1.

القاعدة لبناء مسجد هناك.

يُنقل أنه في حياته بنى ثلاثمائة مشروع خيري، نعم... بإمكان الإنسان أن يقوم بهكذا عمل، فإذا دخل في خط التأسيس فإن الله يمُدّه، فإذا دخلتم في خط الفقه بالنتيجة تكونوا فقهاء، وإذا دخلتم في خط المنطق بالنتيجة تكونوا منطقيين، وإذا دخلتم في خط التأسيس تكونوا مؤسسين، فالمهم هو التوجه والعزيمة، ولا يقول أحدنا: لا أتمكن أو ليس عندي وقت، فالكلام ليس في الوقت، إنما في التوجه.

منهج التشجيع العام

الشيء الرابع: الذي يحتاج إلى بحث آخر: التشجيع العام، وهي من النقاط المهمة، فأي شخص ترونه شجّعوه في أمر الإمام الحسين (عليه السلام) ، والتشجيع أمر خفيف المؤونة، طفل ترونه شجعوه على أن يكون رادوداً حسينيّاً، فيمكن أن يكون هذا الطفل في يوم من الأيام رادوداً مهماً، أو شجعوا الأفراد على أن يقيم كلٌّ منهم في بيته مجلساً حسينياً، فإذا بدأتم بمنهج التشجيع يمكن في خلال حياتكم تشجعون مئات الآلاف من الأفراد مباشرةً أو بشكل غير مباشر لأعمال الخير، فالتشجيع مقابل التثبيط، لأن هنالك بعض الأفراد عندهم حالة التثبيط... لا، هذا لا ينفع...! من الذي يقرأ...؟! ومن الذي يطالع...؟! لكن هنالك بعض الأفراد بالعكس من هذه الحالة. كان أحد الأشخاص يقول: من صفات العظماء إن من يجلس معهم يخرج عظيماً، وهنالك بعض الأفراد يتحدث بلهجة: (العالَم يتجه نحو الهاوية والنهاية)! أو عندما يجلس مع بعض الأطباء يتصور أنه سيموت بعد يومين! أو عندما يجلس مع بعض السياسيين يتصور أن بعد يومين ستقوم الحرب العالمية الثالثة! وهكذا... فالمكروبات قادمة إلى البلاد، والأنفلونزا تنتشر و... وستدخل الدورة الدموية وتخرب الكبد و... يموت الإنسان! هذه طبيعة بعض الأفراد، إنها التثبيط، (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)(1)، في المقابل هنالك منهج التحريض (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)(2).

ص: 226


1- سورة النساء: 72.
2- سورة الأنفال: 65.

فأي شخص تصادفونه اقترحوا عليه اقتراحاً حسينياً، أو التقيتم بمؤلف، طالبوه بالتأليف، أو وجدتم إنساناً عاديّاً اطلبوا منه بأن يأخذ الكاسيتات ويوزعها على المؤمنين، أو رأيتم طفلاً شجعوه على أن يكون رادوداً، أو رأيتم طلاباً شجعوهم على أن يكونوا مؤلفين، أو رأيتم كاسباً شجعوه على أن يطبع كتاب مثلاً، أو التشجيع على أي شيء آخر، المهم التشجيع العام..

في أيام محرم الحرام، كل من ترونه اطلبوا منه وضع مصباح أحمر على باب بيته دلالة على الحزن والعزاء، فالتشجيع لا حدود له، أو اطلبوا وشجعوا على فتح مواقع في الانترنيت حول الإمام الحسين (عليه السلام) ، فحتى الطفل بإمكانه اليوم أن يفتح صفحة على الانترنيت، أنا رأيت طفلاً ربما يكون عمره يتراوح بين 12 أو 13 سنة وقد فتح صفحة في الانترنيت، ثم ماذا يضع في هذا الموقع ؟ فليس عنده معلومات، لكن يأخذ من هنا وهناك ويطرحها على موقعه، ليكون موقعاً فاعلاً باسمه، وكل ذلك من أثر التشجيع.

نقل لي أحد خطباء طهران قضيتين:

القضية الأولى حصلت في كربلاء المقدسة: حيث قال لي الخطيب أن السيد الوالد (رحمه الله) جاء إلى مسجد والدي، فرأى أن المسجد خرب ومتهدم ومتداعٍ، فيقول: أخرج من جيبه عشر دنانير وقال: هذه عشرة دنانير مني لتعمير هذا المسجد، لماذا يبقى هذا المسجد متهدماً ؟ اجمعوا التبرعات، وأي شيء بقي من ذلك تعالوا عليّ لإكمال البناء، يقول: أخذنا العشرة دنانير في كربلاء وجمعنا التبرعات ولم نحتج أن نراجع السيد مرة أخرى، وبُني المسجد، بكلمة واحدة و بعشر دنانير، أليس لهذا العمل قيمة؟

القضية الثانية: قال هذا الخطيب: ذهبت إلى الكويت عندما كان الوالد (رحمه الله) في الكويت فطرح عليّ مشروعاً في طهران، وقال نفّذ هذا المشروع، ثم قال لي: كم يكلّف هذا المشروع ؟ قلت له: مليوناً ونصف مليون تومان، وكان في ذلك الوقت مبلغاً ضخماً، فقال نصف مليون عليّ، ونصف مليون عليك، ونصف مليون على

ص: 227

هذا الثالث..! وأشار إلى شخص ثالث كان موجوداً، يقول: الثالث تخلّى عن القضية ولم يتحمّل المسؤولية، ولكني أتيت إلى الكويت في المرة الثانية والمشروع قد بُني، فسألني الوالد: كم كلّف المشروع؟ قلت له كلّف المشروع ثمانية عشر مليون تومان! فقال الوالد: وهل دفعتَ نصف مليونك؟ قال: كلا، لم أكن بحاجة إلى ذلك، ثم قال: هل دفعتُ نصف مليوني ؟ قلت له: كلا لم نحتج إلى ذلك، لأن المؤمنين تكفلّوا بكامل المبلغ ونهضوا بالمشروع.

إن لدى المؤمنين طاقة هائلة، لكنه يُحتاج إلى تحريك لهذه الطاقات، مثل أب عنده أولاد يعطيهم دكاناً أو يعطيهم بيتاً، فيزوّجهم ويعطيهم رأس مال، ويقول لهم أنطلقوا، وهكذا المجتمع...

نفس هذا الخطيب قال لي بعد نقل هاتين القضيتين: إن دور القائد مهم جداً، ثم نقل القضية المعروفة عن نادر شاه (1)، ففي إبان حربه - والقضية مذكورة في التاريخ - أنه رأى جنديّاً قويّاً يحارب بقوة في حروب إيران المعهودة فاُعجب جداً به وبقوته وشجاعته ورباطة جأشه، فجاء إليه وقال له: عندما كان الأعداء قديماً يهجمون على إيران أين كانت هذه السواعد القوية؟ وأين كان هذا السيف وهذه الإرادة؟ حيث هاجم الأعداء إيران ودمّروها تدميراً كاملاً قبل عهد نادر شاه، فقال الجندي: أنا كنت موجوداً لكن أنت لم تكن موجوداً! فالجندي موجود ولكن الجندي يعدّ صفراً على الشمال، فيحتاج أن نضع خلفه رقماً فيجد قيمته، وهذا هو التشجيع.

أنتم رجال دين وموجهون، عليكم أن تبنوا على التوجيه وعلى التشجيع والتحريض وعلى عدم الدخول في قضايا التثبيط، بأنه لا يمكن... وغير ذلك، فالطالب في المرحلة الابتدائية يمكن أن يكون في المستقبل مرجعاً من مراجع التقليد، فمراجع التقليد من كانوا؟ كانوا أطفالاً في يوم من الأيام، فلا يقل أحداً: إن هذا طفل ولا يعي شيئاً، أو لا يتمكن من عمل شيء، أو هذا لا طاقة له، وذاك بليد.

أحد العلماء الكبار قبل مائتي عام هو بنفسه كتب عن أحواله وقال: بأنه كان

ص: 228


1- نادر شاه أفشار، ملك إيران (ت 1161 ه).

بليداً، ثم أصبح من أكابر علمائنا ومن المقرّبين إلى الله، وهو مدفون في مدينة قم وتُقضى بقبره الحوائج.

إذن، عند كل إنسان نقص، وفي حياة كل واحد إشكال، يقولون: إذا كان ثمة كأس ماء نصفه مملوء، فيقول المتشائم: إن نصف الكأس فارغ، بينما المتفائل يقول: إن نصف الكأس ملئان، وهذا الفرق بين المتشائم والمتفائل، ولذلك المتشائمون دائماً يتخلّفون ويتسببون في تخلّف الآخرين، فهم يحطّمون أنفسهم ويحطّمون أولادهم ومن يجالسونهم، بينما المتفائلون يتقدمون ويقدّمون كل من يحيط بهم، بإذن الله تعالى.

وفي سياق الحديث عن النقطة الرابعة فيما يتعلق بأيام محرم وهو التشجيع العام، ابتداءً من المصابيح الكهربائية الحمراء، وتشجيع كل من ترونه على تأليف الكتب، وكل من ترونه شجعوه على إقامة مجلس حسيني في بيته، أنتم ترون عشرة آلاف شخص أمامكم، ليقم ألف منهم مجلساً في بيته، فالمجلس في البيت مهم جداً لأنها تتحول إلى مؤسسة اجتماعية، لا تنظرون إلى المجالس الحسينية بشكلها الظاهري، إنها تتحول إلى مؤسسة اجتماعية فاعلة في المجتمع، وتقوم بما لا تقوم به المؤسسات الكبيرة، لأن المؤسسات الكبيرة عندها اشكالات ومعوّقات، بينما المؤسسات الصغيرة ليس عندها هذه الاشكالات، والمؤسسات الكبيرة يمكن الاستيلاء عليها والقبض على أفرادها، بينما المؤسسات الصغيرة لا تكون كذلك، فتقوم المؤسسات الصغيرة بما لاتقوم به المؤسسات الكبيرة.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 229

توصيات مقتبسة من محاضرات الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه الله) حول عاشوراء

* إنّ الذين ربطوا أنفسهم بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) من خلال بناء الحسينيات فإن ذكراهم تبقى بعد موتهم.

* عظمة سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) هي من عظمة الله سبحانه وتعالى، لذا علينا أن نربط أنفسنا بالله وبهؤلاء الذين ارتبطوا بالله سبحانه وتعالى.

* بعد أن وجد بنو أمية أنهم غير قادرين على الانتصار في الحرب ضد بني هاشم، دخلوا إلى الدين الإسلامي ليحطّموه من داخله.

* ينبغي علينا سواء كنا مؤلفين أو علماء أو خطباء أو تجاراً أن نفكر ماذا نقدم في سبيل الإمام الحسين (عليه السلام) ، لأننا قد نندم فيما بعد.

* ينبغي علينا أن نفكر وأن نعمل - كلٌ في مجاله - بعيداً عن حسابات الربح والخسارة والنفع الشخصي والضرر الشخصي، أن نفكر ماذا نصنع لسيد الشهداء (عليه السلام) .

* إذا راجعتم التاريخ البشري كله منذ أن دُوّن التاريخ، لا تجدون على مرّ التاريخ ملحمة تجلّت بأجلى مظاهرها كملحمة كربلاء في يوم عاشوراء.

* إن البطولات والقيم والمظلومية الكبرى التي تجدونها في ملحمة عاشوراء، بهذا الحجم وبهذا المقدار وبهذه الكثافة، لا تجدونها في أية ملحمة تاريخية.

* إذا تمكّنا أن نوصل قضية الإمام الحسين (عليه السلام) بوضوح، بإمكاننا أن نحول حتى الأمويين إلى علويين، لأن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قوية وهائلة وعجيبة في التأثير.

* ليحاول كُلُّ واحدٍ منا بقدر الإمكان أن يقيمَ في كل بيتٍ مجلساً للإمام الحسين (عليه السلام) ، فيكون عَلَم الإمام الحسين (عليه السلام) في بيت كل واحد منا.

* لنحاول أن نَنذر أحد أولادنا للإمام الحسين (عليه السلام) كما أن أحدهم طبيب أو مهندس أو كذا، فليكن أحدهم رافعاً لراية سيد الشهداء (عليه السلام) هذا فخر لكم ولجميع العالم.

* لنحاول أن نشارك الإمام الحسين (عليه السلام) بأموالنا ولو بنسبة مئوية متواضعة، ولو واحد أو اثنان بالمائة.

ص: 230

* إن الثورة والنهضة ليست مهمة عند الله سبحانه وتعالى، فأن يثور الإنسان أو لا يثور، ليس ذا قيمة عند الله، إنما الباعث المحرك وراء عمله وثورته هو المهم.

* إن الآثار الوجودية للعطاء مهمة عند الله، وهي هداية الملايين من البشر ببركة سيد الشهداء (عليه السلام) والتضحيات التي قدمها.

* في هذه الأيام ليس المطلوب منّا أن نُقتَل وأن نجاهد في سبيل الله، بقدر ما تكون وظيفتنا وواجبنا هو أن نصنع ما نقدر عليه، وأن نقدم ما نستطيع من العطاء لسيد الشهداء (عليه السلام) .

* لم تكن قضية كربلاء تجلّياً لقيمة واحدة، وإنما لمختلف أنواع القيم، مثل قيمة الوفاء والتوبة والعبادة والدعاء والرضا والحرية والمساواة والأخلاق.

* إن التجلّي الحاصل للقيم في قضية كربلاء اختلط بالعبرة، فكانت عِبرةً وعَبرة.

* يجب علينا أن نربط شبابنا وأبناءنا بالقيم الحسينية، فالشاب الذي يرتبط بعلي الأكبر (عليه السلام) لا ينحرف.

* ينبغي على العوائل المتقاربة أن تشكل مجلساً حسينياً لهم وبشكل دوري، فيجتمعون ويخطبون ويقرؤون مصيبة الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

* ثمة خطّة قديمة، يسعى الغرب لتطبيقها، وهي محاولة عزل أجيالنا عن تاريخهم، فإذا سُلب من الإنسان تاريخه فإنه ينتهي.

* المجالس الحسينية في البيوت هي إحدى الأشياء خفيفة المؤونة وكثيرة المعونة، وكثيرة البركة.

* الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قوة هائلة لا تُقهر.

* إن الإنسان عندما يعيش أجواء تضحيات يوم عاشوراء، يتأثر شيئاً فشيئاً حتى يتحول الإنسان نفسه إلى مشروع تضحية.

* إن قضايا كربلاء وقضايا عاشوراء تخلق روحية التضحية والإيمان، وإنها من أهم أسباب حفظ إيمان المؤمنين في العراق خلال أكثر من ثلاثين عاماً من البطش والإرهاب والقتل والتعتيم.

* إن نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) من أفضل وسائل استنقاذ العباد.

ص: 231

* إن السجون والمعتقلات كثيرة وفيها كثير من الشباب بسبب الانحرافات وتأثير أجواء العصر، ولكن إذا وضعنا أولادنا وبناتنا، عوائلنا وأنفسنا في أجواء سيد الشهداء (عليه السلام) فهذا يشكل ضمانة لنجاتنا وضمانة لإنقاذ أولادنا.

* إن من أولى الخطوات التي يقوم بها الأجانب الكفار لسحق هويتنا، هي محاولة إبعادنا عن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وعن شعائره.

* إن الإنسان الذي يجري حب الإمام الحسين (عليه السلام) في قلبه وعروقه لا يمكن أن يفقد دينه وإيمانه.

* هنالك آثار أُخرَويَّة عجيبة لزيارة عاشوراء وفيها بركات دنيوية، فهذه الزيارة تدفع الآفات وتجلب البركات.

* الوجاهة المادية تنتهي، والثروات تنتهي، والكرامة الاجتماعية تنتهي، ونحن كلنا ننتهي ونموت، لكن الشيء الذي يبقى هو ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى.

* هناك أنواع من الخدمة الحسينية، فشخص يتمكن أن يكتب كتاباً، وآخر يتمكن أن يطبع كتاباً حول أهل البيت (عليهم السلام) وسيد الشهداء (صلوات الله عليه)، وثالث يتمكن أن يقيم مجلساً في بيته لسيد الشهداء (عليه السلام) وهكذا.

* يجب علينا أن نربط أجيالنا بتأريخنا، بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبأهل البيت (عليهم السلام) والإمام الحسين (صلوات الله عليه).

* إنَّ الاهتمام بقضية عاشوراء وسيد الشهداء (صلوات الله عليه) سبب لنجاتنا بإذن الله في الدنيا والآخرة.

* إن الاهتمام بقضايا سيد الشهداء (عليه السلام) يحفظ لنا هويتنا في هذه المعركة الكبيرة التي يعيشها المؤمنون اليوم في كل مكان، ويكون سبباً لنجاتنا في الدنيا والآخرة.

* إن الشعائر الحسينية هي جزء من شعائر الله تعالى، بل إنها من أهم شعائر الله تعالى، فليس للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجود غير ما يدلّ على وجود الله تعالى، ولا هو بمعزل عن دينه سبحانه.

* ينبغي على كل واحد منّا أن يهتم بتعظيم الشعائر، أي أن نوفيها حقها، فالمجالس الحسينية يجب أن تؤدّى على أفضل وجه. فكل خطوة وكل حركة وكل قطرة دمع على

ص: 232

الإمام الحسين (عليه السلام) وكل مشاركة ولو كانت صغيرة، كلها مكتوبة ومسجلة عند الله تعالى.

* كل عين تأتي باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه.

* إن سيد الشهداء (عليه السلام) ليس بحاجة إلى بكائي، بل أنا الذي أحتاج إلى هذا البكاء، حتى آتي يوم القيامة وعيني قريرة، يوم تكون كل العيون باكية.

* أنا الذي أحتاج للحضور في مجالس سيد الشهداء (صلوات الله عليه) حتى آتي يوم القيامة وقلبي حيّ يوم تموت فيه القلوب.

* ستنقضي هذه الأيام وتنقضي أعمارنا ولا يبقى لنا عند الله تعالى إلاّ هذه الأعمال في خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) .

* إننا جميعاً مدينون للإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) بل كلنا مدينون لخَدَمَته.

* المعلومات التي عندنا حول الإمام الحسين (عليه السلام) إنما اكتسبناها من خَدَمة الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وهذه النفسية الإيمانية ونفسية التدين إنما وُجدت عندنا من مجالس الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

* نحن في أيام محرم الحرام يجب أن نهتم بإظهار مظاهر العزاء، ولا تكون هذه الأيام مثل بقية الأيام العادية.

* الموالون لأهل البيت (صلوات الله عليهم) يملكون أقوى قوة، وهي سفينة النجاة، فالحملات التي تعرّض لها الموالون لأهل البيت يندر أن تعرضت لها أمة أخرى.

* الأمة التي قُتّلت وشُرّدت بسبب الإرهاب والتنكيل وتهديم الدور قاومت بقوة مجالس سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

* إن مجالس سيد الشهداء (عليه السلام) وإحياء ذكراه هي من أفضل الوسائل الغيبية لدرء المخاطر والآفات التي تهددنا كأفراد وكأمم.

* إنَّ المجالس الحسينية شفيعةٌ لنا في يوم القيامة، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.

* إن إحدى العوامل وراء موجة منع الحجاب في الغرب، هو الخوف من الإسلام، لكنه ليس الخوف منه كإرهاب، وإنما الخوف من الإسلام كدين.

* سنتمكن من أن نخرج شبابنا من حالة الضياع التي يعيشونها، ونعيد لهم

ص: 233

هويّتهم، بل نتمكن من إنقاذ الغربيين أيضاً من هذا الضياع والحيرة التي يعيشونها، وذلك ببركة سيد الشهداء (عليه السلام).

* لقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قدرة هائلة على إحداث التحول في النفوس.

* قضية كربلاء هي إحدى القضايا المهمة التي تغذي المؤمنين على مرّ التأريخ بالطاقة القوية الهائلة.

* إن قضية عاشوراء هي التي ضخت الطاقة في التحدّي والصمود في نفوس المؤمنين الذين كانوا يرزحون في سجون الحكومات الظالمة والبائدة.

* إن من المهم جداً أن نصنع من أولادنا وعوائلنا جيلاً حسينياً. وهذه المهمة تقع على عاتق الأبوين.

* بمقدار الإمكان ومع وجود الوسائل الجديدة المتاحة، علينا العمل على نشر القضية الحسينية في العاَلم.

* إن شهر محرم يكشف الحقائق ويكشف الإيمان والحب والاعتقاد، فكلما كان إيمان الإنسان أكثر، يكون عطاؤه وتفانيه في الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر.

* على الإنسان أن يحاول توثيق الارتباط والعلاقة بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) من خلال حضور المجالس وقراءة زيارة عاشوراء وبناء المساجد والحسينيّات.

* من بركات نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنها كشفت الحق والباطل في التاريخ الماضي.

* ينبغي على الإنسان أن يحاول الاستفادة من هذه الفرصة، فهذه المجالس لاتخص فقط بالأيام العشرة الأولى من شهر محرم، بل يجب أن تكون موجودة على مدار السنة.

* إن القوة الموجودة في التشيّع وهي قوة الواقعية وقوة الحق، تُعد من أقوى القوات.

ص: 234

نبذة عن حياة الفقيه المقدس (رحمه الله)

* هو الفقيه المقدس آية الله الشهيد السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته) وُلد في كربلاء المقدسة سنة 1379هجرية، وهو النجل الأكبر للمرجع الديني الراحل المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (أعلى الله درجاته).

* نشأ وترعرع بجوار الإمام الحسين (عليه السلام) فتعلم منه درس الولاء والتضحية والفداء في سبيل الله عزوجل.

* بدأ دراسته الأولية في (مدرسة حفّاظ القرآن الكريم) ثم التحق بالحوزة العلمية في كربلاء المقدسة حيث درس مقدمات العلوم الدينية لدى أساتذتها الكبار. وهاجر بصحبة والده إلى الكويت وذلك بعد الضغوط الكبيرة التي لاقتها أسرة الإمام الشيرازي من قبل طغاة البعثيين في العراق.

* كان من أساطين الأساتذة في حوزة قم المقدسة حيث بدأ بتدريس المقدمات والسطوح العالية، ومن عام 1408 ه- شرع بتدريس بحث خارج الفقه والأصول على فضلاء الحوزة، وكان مستمراً في تدريسه وعطائه العلمي حتى وافته المنية.

* كان قمة في الأخلاق والتواضع، والبسمة على وجهه، وحزنه في قلبه، كما ورد في صفات المؤمنين، تربّى في مدرسته العلمية عدد من التلامذة الفضلاء وهم اليوم من كبار المدرسين والعلماء في الحوزات العلمية في مختلف أرجاء العالم.

* ترك محاضرات علمية وأخلاقية عديدة، تبث عبر عدد من القنوات الفضائية الدينية، كان لها الأثر الكبير في تحقيق الاستقرار والإصلاح والتسامح في كثير من الأسر والمجتمعات الإسلامية.

* ترك كتباً علمية قيمة، نال عنها عدة إجازات في الاجتهاد. من آثاره: (التدبر في القرآن)، (الترتب)، (ومضات)، (خطب الجمعة)، (الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ) و...

* توفي صبيحة يوم الأحد 26 جمادى الأولى من سنة 1429 هجرية الموافق 1/6/2008م في قم المقدسة وفي ظروف غامضة.

ص: 235

مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية

* تهتم المؤسسة بدراسة ونشر الفكر الإسلامي المعاصر من خلال القرآن الكريم وسنة الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وتعاليم أهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، ومن خلال نشر أفكار ورؤى الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته).

* تهدف المؤسسة إلى:

* دراسة العقائد الإسلامية وفق منهج أهل البيت (عليهم السلام) والعمل على تحليل وحل الإشكالات والشبهات وفق منهجية علمية وموضوعية.

* استشراف أفكار ورؤى آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه الله) من خلال ما تركه للبشرية من ثروة معرفية وعلمية كبيرة متمثلة في آرائه ونظرياته وطروحاته الفكرية التي تناولت الكثير من مفاصل الحياة وخصوصاً في الجوانب العقائدية والاجتماعية والأخلاقية.

* تحرير وتحقيق وإعداد المحاضرات التي ألقاها الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته).

* إعداد دراسات وبحوث في مجال الفكر الإسلامي عامة, ضمن أفكار ورؤى الفقيه الشيرازي (رحمه الله) .

* عنوان المؤسسة على الانترنت:

http://mralshirazi.com

ص: 236

مصادر التحقيق

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة

* كشف المراد في تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الأسدي الحلي (648 - 726 ه- )

* بحار الأنوار: الشيخ العلامة محمد باقر بن محمد تقي المجلسي الاصفهاني (ت 1110ه- ).

* الأنوار البهية في تاريخ الحجج الإلهية: الشيخ عباس محمد رضا القمي (1294 - 1359 ه).

* الأمالي: الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه).

* مكارم الأخلاق : الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه- ).

* الكافي : ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 328 ه- ).

* كمال الدين وتمام النعمة : الشيخ الصدوق (ت 381 ه- ).

* مناقب آل أبي طالب: مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن شهرآشوب (ت 588 ه- ).

* فقه الرضا (عليه السلام) : أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 329 ه- ).

* مستدرك الوسائل: الميرزا الحاج حسين النوري الطبرسي (ت 1320 ه- ).

* فضائل الشيعة:

الشيخ الصدوق (ت 381 ه).

* جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمد حسن الجواهري (ت 1266ه).

* سنن الترمذي : الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209 – 279 ه).

* كامل الزيارات : أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي (ت 368 ه- ).

* العقيلة والفواطم : الحاج حسين الشاكري

* إقبال الأعمال : السيد عبد الكريم بن طاووس الحسني (647 - 693 ه- ).

* الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

* الإرشاد: الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي (336 – 413 ه- ).

* العوالم، الامام الحسين (عليه السلام) : الشيخ عبد الله البحراني.

* كشف الغطاء: الشيخ جعفر بن الشيخ خضر الحلي النجفي كاشف الغطاء (1156 -1227ه- ).

* الفصول المختارة: الشيخ المفيد الإمام محمد بن محمد العكبري البغدادي (336 – 413 ه).

* شرح نهج البلاغة : عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي (ت 655 ه- ).

* تاريخ الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه).

* موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) : إعداد لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام) .

* عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق (ت 381 ه- ).

ص: 237

* وسائل الشيعة : الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ه- ).

* الدروس : الشهيد الأول الشيخ شمس الدين محمد بن مكي العاملي (ت 786 ه- ).

* مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الاصفهاني (284 – 356 ه).

* روض الجنان : الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي (911 – 965 ه).

* علل الشرائع : الشيخ الصدوق (ت 381 ه).

* مدينة المعاجز : السيد هاشم البحراني

* المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (ت1377ه)

* أدب الطف : السيد جواد شبر

* أعيان الشيعة : السيد محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه)

* الألفية : الشهيد الأول الشيخ شمس الدين محمد بن مكي العاملي (ت 786 ه- ).

* المثلية : الشهيد الأول الشيخ شمس الدين محمد بن مكي العاملي (ت 786 ه- ).

* ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق (ت 381 ه- ).

* عيون المعجزات : الشيخ حسين بن عبد الوهاب (من علماء القرن الخامس ).

* الخصال : الشيخ الصدوق (ت 381 ه- ).

* الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي: حسن الامين

* الانتصار : العاملي

* تذكرة الفقهاء (ط.ق): العلامة الحلي (648 - 726 ه- )

* مصباح المتهجد : شيخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه- ).

* منازل الآخرة والمطالب الفاخرة : الشيخ عباس محمد رضا القمي (1294 - 1359 ه- ).

* شجرة طوبى : الشيخ محمد مهدي الحائري المازندراني (ت 1384 ه).

* مسكّن الفؤاد : الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي (911 - 965 ه- ).

* مثير الأحزان : نجم الدين محمد بن جعفر بن ابي البقاء هبة الله بن نما الحلي (ت 645 ه).

* لواعج الاشجان : السيد محسن الامين العاملي (ت 1371 ه).

* كشف اليقين: العلامة الحلي الحلي (648 - 726 ه- )

* سنن الدارقطني : علي بن عمر الدارقطني (ت 385 ه).

* كتاب الأم: الامام الشافعي محمد بن ادريس (ت 204 ه).

* الكامل في التاريخ : لابن الاثير (555 - 630 ه).

* الكنى والالقاب : الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1294 - 1359 ه- ).

* الغدير : العلامة الشيخ عبد الحسين الاميني التبريزي (1320 - 1390 ه- ).

ص: 238

الفهرس

المقدمة... 3

الفصل الأول : عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 6

الإمام الحسين (عليه السلام) والعظمة المرتبطة بعظمة الله تعالى... 7

عوامل تميّز شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) وتضحياته... 13

خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) الاستثنائية... 22

الفصل الثاني : قيم عاشوراء... 34

القيم العظيمة لملحمة عاشوراء... 35

عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) وهداية الإنسان... 43

تجسيد النماذج العملية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 51

الفصل الثالث : عاشوراء عطاء وشفاعة... 61

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وسبل الشفاعة... 62

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وعطاءات المحبين... 73

الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة... 82

نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الطريق إلى الاستنقاذ... 93

عطاء عاشوراء والحفاظ على الهوية الإسلامية... 101

الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلتنا إلى الله... 112

الفصل الرابع : إحياء الشعائر الحسينية... 120

لماذا إحياء الشعائر الحسينية في عاشوراء؟... 121

معنى ومفهوم شعائر الله تعالى... 127

تعظيم الشعائر الحسينية من تقوى القلوب... 137

تعظيم الشعائر الحسينية انتصار للإمام الحسين (عليه السلام) ... 145

أبعاد إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ... 153

الفصل الخامس : مظاهر الحب والمشاركة والولاء... 162

واجباتنا إزاء القضية الحسينية في البيت والمجتمع والعالم... 163

شروط الانتصار للإمام الحسين (عليه السلام) ... 171

شهر محرم ودلائل الحب والولاء... 181

لنقوي ارتباطنا بالإمام الحسين (عليه السلام) ... 187

الآثار الغيبية لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام) ... 194

المشاركة بلا حدود في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ... 203

الأبعاد الفقهية والاجتماعية للمجالس الحسينية... 211

المجالس البيتية .. مؤسسة اجتماعية فاعلة... 218

***

توصيات مقتبسة من محاضرات الفقيه المقدس الشيرازي (رحمه الله) ... 230

نبذة عن حياة الفقيه المقدس (رحمه الله) ... 235

مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية... 236

مصادر التحقيق... 237

الفهرس... 239

ص: 239

المقدمة... 3

الفصل الأول : عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 6

الإمام الحسين (عليه السلام) والعظمة المرتبطة بعظمة الله تعالى... 7

عوامل تميّز شخصية سيد الشهداء (عليه السلام) وتضحياته... 13

خصائص الإمام الحسين (عليه السلام) الاستثنائية... 22

الفصل الثاني : قيم عاشوراء... 34

القيم العظيمة لملحمة عاشوراء... 35

عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) وهداية الإنسان... 43

تجسيد النماذج العملية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 51

الفصل الثالث : عاشوراء عطاء وشفاعة... 61

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وسبل الشفاعة... 62

التعويض الإلهي للإمام الحسين (عليه السلام) وعطاءات المحبين... 73

الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة... 82

نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الطريق إلى الاستنقاذ... 93

عطاء عاشوراء والحفاظ على الهوية الإسلامية... 101

الإمام الحسين (عليه السلام) وسيلتنا إلى الله... 112

الفصل الرابع : إحياء الشعائر الحسينية... 120

لماذا إحياء الشعائر الحسينية في عاشوراء؟... 121

معنى ومفهوم شعائر الله تعالى... 127

تعظيم الشعائر الحسينية من تقوى القلوب... 137

تعظيم الشعائر الحسينية انتصار للإمام الحسين (عليه السلام) ... 145

أبعاد إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ... 153

الفصل الخامس : مظاهر الحب والمشاركة والولاء... 162

واجباتنا إزاء القضية الحسينية في البيت والمجتمع والعالم... 163

شروط الانتصار للإمام الحسين (عليه السلام) ... 171

شهر محرم ودلائل الحب والولاء... 181

لنقوي ارتباطنا بالإمام الحسين (عليه السلام) ... 187

الآثار الغيبية لخدمة سيد الشهداء (عليه السلام) ... 194

المشاركة بلا حدود في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) ... 203

الأبعاد الفقهية والاجتماعية للمجالس الحسينية... 211

المجالس البيتية .. مؤسسة اجتماعية فاعلة... 218

***

توصيات مقتبسة من محاضرات الفقيه المقدس الشيرازي (رحمه الله) ... 230

نبذة عن حياة الفقيه المقدس (رحمه الله) ... 235

مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية... 236

مصادر التحقيق... 237

الفهرس... 239

ص: 240

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.