سيرة رسول الأعظم في نهج البلاغة

هوية الکتاب

سيرة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

المؤلف: السيد هاشم الميلاني

إخراج فني: نصير شكر

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة: 1432 ه_ / 2011م

العتبة العلوية المقدسة، العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 10

سيرة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم في نهج البلاغة

السيد هاشم الميلاني

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تمهيد في النبوّة

قال تعالى في محكم كتابه: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (1).

انّ النبوة سلسلةُ هداية ربّانيّةٍ، و شعلة نورانيّة أنارت درب البشرية، منذ أن سكن الإنسان هذه المعمورة، و ستستمر إلى نهاية المطاف على يد أمناء و أوصياء خاتم النبوة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلِ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلِّةُ عَدَدِهِمْ، و لا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ، عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ و مَضَتِ الدُّهُورُ وسَلَفَتِ الآباءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ»(2).

ص: 5


1- النساء: 165
2- نهج البلاغة الخطبة: 1

سبب الحاجة إلى الأنبياء:

لقدياً ما سمعنا شبهة منكري النبوة من انّ النبي إما يأتي بما يوافق العقل فلا فائدة فيه و لا حاجة إليه، و إما يأتي بما يخالف العقل فيجب ردّه، و عليه لا حاجة للأنبياء.

و في الجواب نقول:

1 - انّ العقل لا يتمكن أن يحيط علماً بجميع الأمور، إذ له نطاق عمل محدود، بالإضافة إلى انّ ضوء العقل قد يخبو بسبب اقتراف الذنوب و سيطرة الأهواء، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام: «كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ» (1)

وفي كتابه علیه السلام إلى شريح القاضي لما اشترى داراً بثمانين ديناراً، وعظه الإمام بموعظة بليغة جاء في آخرها: «شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَ سَلِمَ مِنْ عَلائِقِ الدُّنْيَا» (2).

إذاً العقل لوحده - و من دون استعانة بالوحي - لا يتمكن من سلوك طريق الهداية للمخاطر التي تحيط به، حتى لو سلّمنا انّ بعض ما جاء به الوحي وصل إليه العقل و أدركه قبله، فحينئذٍ يكون دليل الوحی مؤكداً لدليل العقل و هذا لا ضير فيه.

ص: 6


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 201
2- نهج البلاغة الكتاب: 3

2 - انّ الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، وهو القائل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (1)، و قال تعالى أيضاً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(2)، و قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَ اعْلَمُوا عِبَادَ الله أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً و لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً» (3).

فعدم العبثية في الخلقة، و لزوم المعرفة و العبادة، تقتضي وصول أوامر الخالق و نواهيه إلى الناس، و هذا لا يتحقق إلّا عبر الأنبياء و الرسل، بعد عجز الإنسان عن الاتصال المباشر بالخالق، و كذلك بالمخلوقات الغيبية كالملائكة.

3 - إتمام الحجة و تعليم العباد، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «واصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَ عَلَى تَبلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، و اتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، و اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، و اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، و يُذَكَّرُوهُمْ مَنْسِيَ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْليغ، ويُثيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ مِنْ

ص: 7


1- ص: 27
2- الذاريات: 56
3- نهج البلاغة، الخطبة: 195

سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعِ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعِ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وَ أَوْصَابٍ تُهرِمُهُمْ، وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ» (1).

وقال علیه السلام أيضاً: «ولِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ [أي آدم علیه السلام ] عَلَى عِبَادِهِ، ول َمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، وي َصِلُ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى ألْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، و مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً» (2).

و قال علیه السلام: «بَعَثَ الله رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، و جَعَلَهُمْ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الاعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ» (3).

صعوبة الامتحان:

إنّ الله سبحانه و تعالى بعث أنبياءه، و طلب من عباده الإيمان بهم و الأخذ بقولهم، مع ما خصّ الأنبياء بصفات روحانية عظيمة.

و قد امتاز الأنبياء أيضاً بالفقر و قلّة ذات اليد عموماً، و فيه حكمة ربانية دقيقة، وهي أن يكون الإيمان بالله خالصاً لوجهه الكريم لا يشوبه طمع أو خوف دنيوي كما هو الحال في الاستسلام للملوك

ص: 8


1- نهج البلاغة الخطبة 1
2- نهج البلاغة، الخطبة 90
3- نهج البلاغة الخطبة: 144

والسلاطين.

و بهذا الصدد يقول أمير المؤمنين علیه السلام بعد ما يذكر استهزاء فرعون بموسى و هارون لما دخلا عليه بمدارع الصوف، فاستحقرهما وقال: هلّا ألقي عليهما اساورة من ذهب، و هنا يقول الإمام علیه السلام:

«وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ، وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا؛ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى. وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ، وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً؛ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ، كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ

ص: 9

أَجْزَلَ.» (1).

و في خطبة أخرى يشير أمير المؤمنين علیه السلام إلى زهد بعض الأنبياء و فقرهم ويقول: «وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»، وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ، تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ. وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا، وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ علیها السلام، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ»(2).

***

ص: 10


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192
2- نهج البلاغة، الخطبة: 160

1 - المولد النبوي

هو أبو القاسم محمد صلی الله علیه و آله و سلم، بن عبدالله، بن عبدالمطلب شيبة الحمد بن هاشم، بن عبدمناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان من نسل إسماعيل النبي علیه السلام.

و قد وُلد صلی الله علیه و آله و سلم في (17) ربيع الأول - على المشهور عند الشيعة - عند طلوع الفجر من يوم الجمعة في العام الذي جاؤوا بالفيل لتخريب الكعبة المعظمة، و كانت ولادته في داره المباركة بمكة، و هذه الدار هي التي و هبها النبي صلی الله علیه و آله و سلم فيما بعد لعقيل بن أبي طالب، فباعها أولاده لمحمد بن يوسف أخ الحجاج فأدخلها في داره، فلما كانت خلافة هارون أخذتها الخيزران أمّه فأخرجتها من بيت محمد بن يوسف و جعلتها مسجداً يصلي فيه الناس، و في سنة (659 ه_) سعی الملك

ص: 11

المظفر - والي اليمن - في عمارته، و بقيت هذه الدار إلى زماننا هذا بجنب بيت الله تعالى، و سلمت من التهديم الوهابي بعد جعلها مكتبة عامة.

و حصلت عند ولادته صلی الله علیه و آله و سلم حوادث مهمّة، من قبيل سقوط جميع الأصنام على وجوهها، ارتعاش إيوان كسرى، و سقوط أربعة عشر شرفة منه، و قد غاضت أيضاً بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ولم يبق سریر لملك من ملوك الدنيا إلّا أصبح منكوساً و الملك محزوناً لا يتكلّم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة(1).

أما بالنسبة إلى آباء النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقد أجمعت الشيعة على إيمانهم جميعاً، قال الشيخ المفيد رحمه الله: «آباء النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى آدم كانوا موحدين على الإيمان بالله و عليه إجماع عصابة الحق، قال الله تعالى: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» (2) يريد به تنقّله في أصلاب الموحدين. و قال نبيه صلی الله علیه و آله و سلم: «ما زلت أتنقّل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا» فدلّ على انّ آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (3) فحكم

ص: 12


1- راجع الأمالي للصدوق: 235، البحار 15: 257
2- الشعراء: 218، 219
3- التوبة: 28

على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بطهارة آبائه كلّهم و وصفهم بذلك، دلّ على أنّهم كانوا مؤمنين»(1).

و بهذا الصدد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ (2) كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ الله خَلَفٌ، حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ الله سُبْحَانَهُ و تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وأَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، و انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ» (3).

وقال علیه السلام: «مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ وَمَمَاهِدِ السَّلامَةِ» (4).

وقال علیه السلام: «كُلَّمَا نَسَخَ الله الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرُ، ولا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ» (5).

ص: 13


1- تصحيح الاعتقاد للمفيد: 138 - 139
2- تناسختهم: تناقلتهم، كنسخت الكتاب و استنسخته: نقلت ما فيه
3- نهج البلاغة، الخطبة: 93
4- نهج البلاغة، الخطبة: 95
5- نهج البلاغة الخطبة: 214

2 - البعثة النبوية

ألف - حال الناس قبل البعثة:

تسمّى الفترة التي مرّت قبل المبعث النبوي صلی الله علیه و آله و سلم بالفترة الجاهلية، و ذلك لانعدام الفضيلة و الجهل المعرفي السائد آنذاك على المجتمع العربي، بل في العالم كله كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأَهْوَاءٌ مُنتَشِرَةٌ، وطَرَائِقُ مُتَشَتَّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه لله بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ» (1).

ولو تتبعنا نهج البلاغة لرأينا انّ أمير المؤمنين علیه السلام يصف حال الناس قبل المبعث النبوي صلی الله علیه و آله و سلم بالصفات و السمات التالية:

1 - الفترة: والمراد منها فترة انقطاع النبوة فيما بين عيسى علیه السلام و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حيث طالت لعدة قرون وفيها يقول أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 14


1- نهج البلاغة الخطبة 1

«أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ» (1) و قال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ» (2) و قال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ».(3)

2- اندراس الدين: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم... و وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرَّ دِينِ»(4) و قال علیه السلام أيضاً: «أَرْسَلَهُ و أَعْلامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ، ومَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ» (5) وقال علیه السلام: «و النَّاسُ فِي فِتَنِ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ،... خُذِلَ الإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتَنكَّرَتْ مَعَالِهُ، ودَرَسَتْ سُبُلُهُ، وعَفَتْ شُركُهُ» (6).

3 - المعصية: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «عُصِيَ الرَّحْمَنُ، ونُصِرَ الشَّيْطَانُ» (7)، وقال علیه السلام: «و الآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ» (8) و هذه المعاصي الكثيرة التي أصبحت معصوبة بهم أدّت إلى عمى قلوبهم لذا

ص: 15


1- نهج البلاغة، الخطبة: 133
2- نهج البلاغة، الخطبة: 158
3- نهج البلاغة الخطبة: 93
4- نهج البلاغة، الخطبة: 26
5- نهج البلاغة الخطبة: 195
6- نهج البلاغة الخطبة: 2
7- نهج البلاغة الخطبة: 2
8- نهج البلاغة الخطبة 26

قال علیه السلام: «و اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ» (1).

4- الفتن و الفوضى: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «والنَّاسُ فِي فِتَنِ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، و تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ، و اخْتَلَفَ النَّجْرُ، و تَشَتَّتَ الأَمْرُ، وضَاقَ الْمَخْرَجُ، وعَمِيَ الْمَصْدَرُ،... فِي فِتَنِ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلافِهَا، وقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ، وشَرِّ جِيرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وکُحْلُهُمْ دُمُوعٌ» (2).

وقال علیه السلام: «بَعَثَهُ النَّاسُ... حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، و اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاءُ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ وب َلاءِ مِنَ الْجَهْلِ» (3).

و قال علیه السلام: «ثُمَّ إِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الانْقِطَاعُ، وأَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الاطِّلاعُ، وأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، و خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ، فِي انْقِطَاعِ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَابِ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَتَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا، وانْفِصَامِ مِنْ حَلْقَتِهَا، وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا، وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وَ قِصَرِ مِنْ طُولِهَا» (4).

ص: 16


1- نهج البلاغة، الخطبة: 191
2- نهج البلاغة الخطبة: 2
3- نهج البلاغة الخطبة: 94
4- نهج البلاغة، الخطبة: 198

5 - عبادة الأوثان قال أمير المؤمنين علیه السلام: «الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ» (1) و قال علیه السلام: «فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم الله بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ» (2).

6 - اتباع الشيطان: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «عُصِيَ الرَّحْمَنُ، ونُصِرَ الشَّيْطَانُ،... أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، ووَرَدُّوا مَنَاهِلَهُ، بهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وقَامَ لِوَاؤُهُ» (3)، وقال علیه السلام: «فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ... مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ» (4).

7 - الضلال وترك الهدى: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فَالْهُدَى خَامِلٌ، والْعَمَى شَامِلٌ» (5) و قال علیه السلام: «بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلالٌ في حَيْرَةِ» (6) و قال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ وأَعْلامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ، وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ» (7) وقال علیه السلام: «بَعَثَهُ حِينَ لا عَلَمٌ قَائِمٌ، ولا مَنَارٌ سَاطِعٌ، ولا مَنْهَجٌ وَاضِح»(8) و قال علیه السلام «ابْتَعَثَهُ و النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ،

ص: 17


1- نهج البلاغة، الخطبة: 26
2- نهج البلاغة، الخطبة: 147
3- نهج البلاغة الخطبة.2
4- نهج البلاغة، الخطبة: 147
5- نهج البلاغة الخطبة: 2
6- نهج البلاغة، الخطبة: 94
7- نهج البلاغة الخطبة: 195
8- نهج البلاغة، الخطبة: 196

ويَمُوجُونَ فِي حَيْرَةِ، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ» (1).

8 - تفشّي الجهل: قال علیه السلام: «بِأَرْضِ عَالِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَم» (2).

و قال علیه السلام: «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتاباً، ولا يَدَّعِي نُبُوَّةً»(3)، و نحوه أيضاً: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم و لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، و لا يَدَّعِي نُبُوَّةً و لا وَحْياً» (4)، و قال علیه السلام: «بَعَثَهُ و النَّاسُ ضُلالٌ فِي حَيْرَةٍ... اسْتَخَفَّتْهُمُ الجاهِلِيَّةُ الجهْلاءُ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاءِ مِنَ الْجَهْلِ» (5).

وقال علیه السلام: «أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ، والْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ، والْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ، والنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ، ويَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ، يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ» (6)، و قال و هو يحثّ على التآلف: «ولا تَكُونُوا كَجْفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ: لا فِي الدِّينِ

ص: 18


1- نهج البلاغة، الخطبة: 191
2- نهج البلاغة، الخطبة: 2
3- نهج البلاغة الخطبة: 33
4- نهج البلاغة الخطبة: 103
5- نهج البلاغة الخطبة: 94
6- نهج البلاغة الخطبة: 151

يَتَفَقَّهُونَ، ولا عَنِ الله يَعْقِلُونَ» (1).

9 - البيئة الخشنة: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم نَذِيراً لِلْعَالَمينَ، و أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وأ َنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينِ، وفِي شَرَّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وحَيَّاتٍ صُمٌ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَت َقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ» (2).

10 - العداء و الحقد: قال أمير المؤمنين علیه السلام: «تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ» (3) و قال علیه السلام: «فَلَمَّ الله بِهِ الصَّدْعَ، ورَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ، وَأَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الأَرْحَامِ، بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ، و الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ» (4) و قال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ عَلَى حينِ فَتْرَةِ مِنَ الرُّسُلِ، وَ تَنَازُعِ مِنَ الأَلْسُنِ» (5).

ب - البعثة:

كانت العناية الربانية محيطة بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم منذ صباه، فقد «قَرَنَ الله به صلی الله علیه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً أَعْظَمَ مَلَكِ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ

ص: 19


1- نهج البلاغة، الخطبة: 166
2- نهج البلاغة الخطبة: 26
3- نهج البلاغة الخطبة: 26
4- نهج البلاغة الخطبة: 230
5- نهج البلاغة الخطبة: 133

الْمَكَارِم، و مَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَم لَيْلَهُ ونَهَارَهُ» (1).

و يشرح لنا أمير المؤمنين علیه السلام مشاهدته لبدء نزول الوحي و ابتداء البعثة و يقول: «ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ ولا يَرَاهُ غَيْرِي ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم و خَدِيجَةَ و أَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْي و الرَّسَالَةِ، وأ شُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. و لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلی الله علیه و آله و سلم، فَقُلْتُ: يَارَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، و تَرَى مَا أَرَى، إِلا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ» (2).

ثم يشرح علیه السلام الأسباب التي دعت إلى البعثة و يقول: «إلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهُ إِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاتُهُ، مَشْهُورَةٌ سِمَاتُهُ، كَرِيماً مِيلادُهُ» (3).

و قال علیه السلام: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ، و الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، و الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، و النُّورِ السَّاطِعِ، و الضَّيَاءِ اللامِعِ، والأمْرِ الصَّادِعِ، إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، واحْتِجَاجاً

ص: 20


1- نهج البلاغة الخطبة: 192
2- نهج البلاغة الخطبة: 192
3- نهج البلاغة الخطبة: 1

بِالْبَيِّنَاتِ، و تَحْذِيراً بِالآيَاتِ، و تَخْوِيفاً بِالْمَثُلاتِ» (1).

وقال علیه السلام: «إِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ» (2)، وقال علیه السلام: «و أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ لإِنْفَاذِ أَمْرِهِ، وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ، وَ تَقْدِيمِ نُذْرِهِ» (3).

و قال علیه السلام: «و عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَانَا، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ و لَكُمْ - فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ - دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ، وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ تَحَابَّهُ مِنَ الأَعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ، ونَوَاهِيَهُ وأَوَامِرَهُ» (4).

و قال علیه السلام: «و نَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ غَيْرُهُ، و أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَبِذِكْرِهِ نَاطِقاً» (5).

و قال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ، وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ» (6). و قال علیه السلام: «فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، و مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ، بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ

ص: 21


1- نهج البلاغة، الخطبة: 2
2- نهج البلاغة، الخطبة: 26
3- نهج البلاغة الخطبة: 82
4- نهج البلاغة الخطبة: 85
5- نهج البلاغة الخطبة: 99
6- نهج البلاعة، الخطبة: 115

و لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ» (1).

و قال علیه السلام: «ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ، وَالْبُرْهَانِ الْجَلِي، و الْمِنْهَاجِ الْبَادِي، و الْكِتَابِ الْهَادِي» (2).

و قال علیه السلام: «وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّفِيُّ، و أَمِينُهُ الرَّضِيَ علیه السلام أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَج، وظُهُورِ الْفَلَج، و إيضاح الْمَنْهَج» (3).

و قال علیه السلام: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً الله نَذِيراً لِلْعَالَمينَ، و مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ» (4).

ج - تبليغ الرسالة:

لقد صدع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بما أرسل إليه و أمر به، و تحمّل الكثير في تبليغ الرسالة السماوية الملقاة على عاتقه، و هذا ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام قائلاً: «فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ تَحَلَّتَهُمْ، وَ بَلَّغَهُمْ مَنْجَاءَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، و اطْمَأَنَتْ صَفَاتُهُمْ» (5).

و قال علیه السلام: «اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ... اجْعَلْ شَرَائِفَ

ص: 22


1- نهج البلاغة الخطبة: 147
2- نهج البلاغة، الخطبة: 161
3- نهج البلاغة، الخطبة: 185
4- نهج البلاغة، الكتاب: 62
5- نهج البلاغة، الخطبة: 33

صَلَوَاتِكَ ونَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ... كَمَا حُمَّلَ فَاضْطَلَعَ، قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِراً فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، و لا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَ اعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى فَبَسَ الْقَابِسِ، وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ، وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأعلام، وَ نَيِّرَاتِ الأحكام» (1)

و قال علیه السلام: «فَبَالَغَ صلی الله علیه و آله و سلم في النَّصِيحَةِ، و مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، و دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ و الْمَوْعِظَةِ» (2).

وقال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً، وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، و مَضَى رَشِيداً» (3).

و قال علیه السلام: «فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ، ويُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، يَحْسِرُ الْحَسِيرُ، وَيَقِفُ الْكَسِيرُ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ، إِلا هَالِكاً لا خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، وَ بَوَّأَهُمْ تَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، وَ اسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ» (4).

و قال علیه السلام: «بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً، ودَعَا إِلَى

ص: 23


1- نهج البلاغة الخطبة: 71
2- نهج البلاغة، الخطبة: 94
3- نهج البلاغة الخطبة: 99
4- نهج البلاغة، الخطبة: 103

الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، و خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً» (1).

وقال علیه السلام: «فَبَلَّغَ رِسالاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ ولا مُقَصِّرِ، وَجَاهَدَ فِي الله أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ ولا مُعَذِّرٍ، إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى» (2).

و قال علیه السلام: «فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ» (3).

و قال علیه السلام: «وقَبَضَ نَبيَّه صلی الله علیه و آله و سلم وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ» (4).

وقال علیه السلام: «فَبَلَّغَ الرَّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا، وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالاً عَلَيْهَا، و أَقَامَ أَعْلامَ الاهْتِدَاءِ، ومَنَارَ الضَّيَاءِ، وَجَعَلَ أَمْرَاسَ الإِسْلامِ مَتِينَةً، وعُرَى الإِيمَانِ وَثِيقَةً» (5).

ص: 24


1- نهج البلاغة الخطبة: 108
2- نهج البلاغة، الخطبة: 115
3- نهج البلاغة الخطبة: 144
4- نهج البلاغة، الخطبة: 183
5- نهج البلاغة، الخطبة: 185

3- الهجرة النبوية

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ، وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ» (1).

يشير أمير المؤمنين علیه السلام في هذا النص الشريف إلى انّ ولادة النبي صلی الله علیه و آله و سلم كانت بمكة - وقد مضى -.

ثم يشير علیه السلام إلى مسألة الهجرة النبوية، حيث هاجر صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة و أسّس الدولة الإسلامية، و منها انتشر الإسلام و امتد إلى جميع أنحاء العالم.

أما الأحداث التي سبقت الهجرة، فكثيرة لم ترد الإشارة إليها في نهج البلاغة إلّا إلى حادثة الحصار في الشعب، حيث قال علیه السلام في كتاب كتبه إلى معاوية: «فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا، وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ، و فَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِيلَ، و مَنَعُونَا الْعَذْبَ، وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ،

ص: 25


1- نهج البلاغة، الخطبة: 161

واضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ، و أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ، فَعَزَمَ اللهِ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، و الرَّمْي مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ، مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرَ، و كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الأَصْلِ، وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ، أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ» (1).

و ذلك بعد ما يأست قريش من إخضاع النبي صلی الله علیه و آله و سلم لهواها، و استمر هو بالدعوة، صمّموا على قتله، فلما بلغ ذلك أبو طالب جمع بني هاشم و بني عبد المطلب و دخلوا الشعب، واجتمع جميع أولاد عبدالمطلب، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً على نصرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم و تخلّف عنهم أبو لهب. و المراد بالمؤمن في كلامه علیه السلام: سيد قريش أبوطالب و حمزة و هو علیه السلام و غيرهم ممن أسلم، و المراد بالكافر عمه العباس، و عقيل و طالب و نوفل بن الحارث و الحارث بن نوفل بن الحارث و غيرهم ممن التحق بالشعب نصرة للقوم و العشيرة ولم يكن آمن بعد.

و يصف أمير المؤمنين علیه السلام مدى الشدّة التي لاقوها خلال فترة البقاء في الشعب، و هي كانت حقاً فترة عصيبة، و كان أهل مكة لا يتمكنون من بيع شيء لهم لأنّ قريشاً حذّرت من ذلك و عاقبت من باع إليهم شيئاً.

و طال حصار الشعب ثلاث سنوات عجاف إلى أن سلّط الله

ص: 26


1- نهج البلاغة، الكتاب: 9

تعالى الأرضة على الصحيفة التي كتبوها للتشديد على بني هاشم و علّقوها في البيت، فأكلتها سوى البسملة، فلما أخبرهم أبو طالب بذلك فكّوا الحصار، و لكن بقوا على إيذاء المسلمين سيما بعد وفاة أبي طالب ناصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أم المؤمنين خديجة سلام الله عليهما، ممّا اضطر النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الذهاب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، و لكن لم يستجب له أحد وطردوه من هناك، وبقي صلی الله علیه و آله و سلم هكذا إلى أن اجتمع أربعون شخصاً من قبائل العرب و صمّموا على قتل النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فأخبر الله تعالى نبيه بذلك، و أمره أن يخرج من مكة ويبيّت علياً مكانه، ففعل ونجا من مكر المشركين، و فداه علي علیه السلام بنفسه و في ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (1) و وصل النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة حيث كان مبتدأ السنة الهجرية و تأسيس الدولة الإسلامية.

ص: 27


1- البقرة: 207

4- السنة النبوية

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1)، و ذلك لأنّ السنة النبوية هي الطريق إلى معرفة الأحكام الشرعية، و قد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْياناً، وعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الأَعْمَالِ ومَكَارِهَهُ، ونَوَاهِيَهُ وأَوَامِرَهُ» (2).

وقد أمرنا الله تعالى أيضاً بالرد إليه و إلى الرسول، و في هذا يقول أمير المؤمنين علیه السلام في محاججته مع الخوارج: «قَالَ الله سُبْحَانَهُ: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ» فَرَدُّهُ إِلَى اللَّه أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ ورَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ» (3).

ص: 28


1- الحشر: 7
2- نهج البلاغة، الخطبة: 85
3- نهج البلاغة الخطبة: 125

و كذلك كتب علیه السلام في عهده لمالك الأشتر: «و ارْدُدْ إِلَى الله و رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ» فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ» (1).

وقال علیه السلام أيضاً: «وأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم ما لا بُدَّ مِنْهُ ولا مَحِيصَ عَنْهُ، وَ خَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، و دَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ» (2).

و أخيراً كرّر علیه السلام ضرورة الأخذ بالسنة في وصيته قبيل استشهاده حيث قال: «أَمَّا وَصِيَّتِي فَالله لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً و مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم فَلا تُضَيَّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ» (3).

وجاء هذا الاهتمام و هذا التأكيد لأجل انحصار الطريق في السنة كما قلنا و قد قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِیءْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ

ص: 29


1- نهج البلاغة، الكتاب 53
2- نهج البلاغة، الكتاب: 153
3- نهج البلاغة الخطبة،149، وكذلك الكتاب: 23

الرَّسُولُ صلی الله علیه و آله و سلم، فَارْضَ بِهِ رَائِداً، و إِلَى النَّجَاةِ قَائِداً»(1) وذلك أيضاً لأنّ «سُنَّتُهُ صلی الله علیه و آله و سلم الرُّشْدُ» (2).

ثم بموازات الحثّ على الاهتمام بالسنة، يحذّر أمير المؤمنين علیه السلام من تعطيل السنة و الاتجاه نحو البدع، فإنّ في ذلك هلاك الأمة، و هذا الأمر يتوجّه إلى الحكام في البداية لأنّ بيدهم زمام الأمور، و منهم يُخاف ويُرهب، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوج و الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ و الأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ... الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأمَّةَ» (3).

و في نص آخر يشير علیه السلام إلى أهمية دور الحكام في الحفاظ على السنة النبوية، و يجعل المقيم للسنة من أفضل عباد الله، و المميت لها من شرّ الناس و يقول: «فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ و هَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، و أَمَاتَ بِدْعَةً تَجْهُولَةً، و إِنَّ السُّنَنَ لَنَيَّرَةٌ لَها أَعْلامٌ، و إِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَها أَعْلامٌ، وإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً و أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةٌ» (4).

و قال علیه السلام: «وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ، فَاتَّقُوا الْبِدَعَ

ص: 30


1- نهج البلاغة، الكتاب: 31
2- نهج البلاغة الخطبة: 93
3- نهج البلاغة الخطبة: 131
4- نهج البلاغة الخطبة: 164

و الْزَمُوا الْمَهْيَعَ» (1)، و عندها تكون الفوضى و ظهور الفتن كما أشار علیه السلام: «و أَخَذُوا بِالْبِدَع دُونَ السُّنَنِ» (2) و يستمرّ الأمر هكذا إلى ظهور صاحب العصر و الزمان علیه السلام حيث «يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ و السُّنَّةِ» (3).

و هناك أمر آخر حذّر منه أمير المؤمنين علیه السلام ألا و هو السنة المكذوبة أو الكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في زمانه و بعد زمانه، أما بالنسبة إلى الأول فقد قال علیه السلام: «و لَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (4).

و أما بالنسبة إلى الثاني قال علیه السلام: «وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، و لا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، و لا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الله و رَسُولِهِ» (5).

و النجاة من هذه الفوضى في الرجوع إلى العترة الطاهرة، إذ أنّهم أمناء الله على وحيه، و هم مستودع السنة النبوية، ففي عهد أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الأشتر يقول: «و اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ

ص: 31


1- نهج البلاغة، الخطبة: 145
2- نهج البلاغة، الخطبة: 154
3- نهج البلاغة الخطبة: 138
4- نهج البلاغة، الخطبة: 210
5- نهج البلاغة الخطبة: 147

لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ، و لا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ الله، ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ و الخَاصَّةِ، ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، و مِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ و الرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاج مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ، ومِنْهَا التَّجَارُ و أَهْلُ الصَّنَاعَاتِ، وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ، وكُلُّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله و سلم عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً» (1).

فهنا أشار علیه السلام إلى جميع أصناف المجتمع و ما عليهم و لهم، و ذكر انّ الله تعالى بيّن أحكام الجميع في الكتاب و السنة و هما محفوظان عنده علیه السلام، و هذا ما أكّده الإمام الصادق علیه السلام بقوله: «انّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخط عليّ علیه السلام بيده، ما من حلال و لا حرام إلّا و هو فيها حتى أرش الخدش»(2). و قال أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً: «فَما دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِيءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، و لا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم و أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى الله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ الله عَلَيْكَ» (3).

و هذا أي الرجوع إلى العترة لمعرفة السنة هو الوجه الصحيح في

ص: 32


1- نهج البلاغة الكتاب: 53
2- البحار 26: 22، ح 10
3- نهج البلاغة، الخطبة: 90

الجمع بين حديث كتاب الله و عترتي المتواتر، و حديث كتاب الله و سنتي - لو سُلّم صحته -.

و هذا ما ذهب إليه ابن حجر في الصواعق المحرقة أيضاً حيث قال: «والحاصل انّ الحثّ وقع على التمسّك بالكتاب و بالسنة و بالعلماء بهما من أهل البيت، و يستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة» (1).

ثم انّ أمير المؤمنين علیه السلام يذكر في حديث جميل حال الناس في تعاملهم مع الحديث النبوي و يقول: «إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ: رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرُ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلامِ، لا يَتَأْثَّمُ و لا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم رَآهُ و سَمِعَ مِنْهُ و لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَ قَدْ أَخْبَرَكَ الله عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلالَةِ و الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الأَعْمَالَ وجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ و الدُّنْيَا إِلا مَنْ عَصَمَ الله فَهَذَا أَحَدُ الأرْبَعَةِ.

وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ

ص: 33


1- الصواعق المحرقة لابن حجر:2 439، الآية الرابعة في فضائل أهل البيت علیهم السلام

ولَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ ويَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ، بِهِ وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و آله و سلم فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، ولَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ.

وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ و هُوَ لا يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ و لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، و لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.

وَ آخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى الله و لا عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ الله وتَعْظِيماً لِرَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم ولَم يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ و لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، و حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، و عَرَفَ الْخَاصَّ و الْعَامَّ و الْمُحْكَمَ و الْمُتَشَابِهَ، فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ.

وقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم الكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلامٌ خَاصٌّ و كَلامٌ عَامٌ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ وَلَا مَا عَنَى رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ ويُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ وَ مَا قُصِدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الأَعْرَابِيُّ و الطَّارِئُ فَيَسْأَلَهُ علیه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا، و كَانَ لا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلا سَأَلْتُهُ عَنْهُ و حَفِظْتُهُ، فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلافِهِمْ و عِلَلِهِمْ

ص: 34

فِي رِوَايَاتِهِمْ» (1).

و ممّا يشير إليه أمير المؤمنين علیه السلام الاهتمام بدراية الحديث و معرفة فقهه، فقد قال علیه السلام: «اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ و رُعَاتَهُ قَلِيلٌ» (2).

و قال علیه السلام أيضاً: «إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لا يَحْمِلُهُ إِلا عَبْدٌ مُؤْمِنُ امْتَحَنَ الله قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ، و لا يَعِي حَدِيثَنَا إِلا صُدُورٌ أَمِينَةٌ و أَحْلامٌ رَزِينَةٌ» (3) ممّا يعطي تصور عن أهمية الدراية و فهم مراد المعصوم.

و قال علیه السلام في وصف العترة الطاهرة: «عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ و رِعَايَةِ، لا عَقْلَ سَمَاعٍ وِ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، و رُعَاتَهُ قَلِيلٌ» (4).

و كشاهد على ذلك فقد سئل علیه السلام عن قول النبي: «غَيَّرُوا الشَّيْبَ و لا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» فقال علیه السلام: «إِنَّمَا قَالَ علیه السلام ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الآنَ وقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ، و ضَرَبَ بِجِرَانِهِ، فَامْرُةٌ ومَا اخْتَارَ»(5)، ممّا يدلّل على لزوم فهم النص مع لحظ ملابساته الزمانية و المكانية.

و الخلاصة انّ سنة النبي صلی الله علیه و آله و سلم المتمثلة في قوله و فعله و تقريره،

ص: 35


1- نهج البلاغة، الخطبة: 210
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 92
3- نهج البلاغة الخطبة.189
4- نهج البلاغة الخطبة: 237
5- نهج البلاغة، قصار الحكم 13

يجب الاهتمام بها و الأخذ بها، و عليه يتم التمسك بالنبي و تصدق الولاية إذ «إِنَّ وَليَّ مُحَمَّدٍ مَنْ أَطَاعَ الله و إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ، و إِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى الله وإ ِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ» (1).

و أخيراً قال علیه السلام: «فَتَأَسَ بِنَبِيِّكَ الأطْيَبِ الأَطْهَرِ صلی الله علیه و آله و سلم، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لَنْ تَعَزَّى، وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهُ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، و الْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ... فَتَأَسَى مُتَأَسِّ بِنَبِيِّهِ، وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَ وَلَجَ مَوْلَجِهُ، و إِلا فَلا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ الله جَعَلَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم عَلَماً لِلسَّاعَةِ، و مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ»(2).

ص: 36


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 90
2- نهج البلاغة، الخطبة: 160

5- الأوصاف النبوية

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ، و الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، و الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، و النُّورِ السَّاطِعِ، و الضِّيَاءِ اللامِعِ، والأمْرِ الصَّادِعِ، إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، واحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ، وتَحْذِيراً بِالآيَاتِ، وتَخْوِيفاً بِالْمَثُلاتِ» (1).

و قال علیه السلام و هو يصلّي على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويشرح صفاته: «اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، و نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ، الْخَاتِمِ لِما سَبَقَ، و الْفَاتِح لِما انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، والدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، و الدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ، قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمِ، و لا وَاهِ فِي عَزْمِ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ

ص: 37


1- نهج البلاغة الخطبة:2

بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ، والآثَامِ وأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ، و نَيِّرَاتِ الأحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونَ، وخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وبَعِيتُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ» (1).

و قال علیه السلام: «قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ، وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ، دَفَنَ الله بِهِ الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَانًا، وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذَّلَّةَ، وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ، كَلامُهُ بَيَانٌ، وصَمْتُهُ لِسَانُ) (2).

و قال علیه السلام: «خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً، وأَنْجَبَهَا كَهْلاً، وأَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً، وأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً» (3).

وقال علیه السلام: «أَمِينُ وَحْيِهِ و خَاتَمُ رُسُلِهِ وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ ونَذِيرُ نِقْمَتِهِ» (4).

وقال علیه السلام: وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، المُجْتَبَيَ مِنْ خَلائِقِه، و الْمُعْتَامُ لِشَرْح حَقَائِقِهِ، وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ، و الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ، وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى، و الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى» (5).

ص: 38


1- نهج البلاغة الخطبة: 71
2- نهج البلاغة، الخطبة: 95
3- نهج البلاغة الخطبة: 104
4- نهج البلاغة، الخطبة: 173
5- نهج البلاغة الخطبة: 178

و قال علیه السلام: «نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ الله كُلَّ غَمْرَةٍ، وتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ، وقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ، وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الأَقْصَوْنَ، وخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا، مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ و أَسْحَقِ الْمَزَارِ» (1)

و قال علیه السلام: «و أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ الله، وَسَفِيرُ وَحْيِهِ وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ» (2).

وقال علیه السلام: «جَعَلَهُ الله بَلاغاً لِرِسَالَتِهِ، و كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ، ورَبيعاً لأَهْل زَمَانِهِ، ورِفْعَةً لأَعْوَانِهِ، وشَرَفاً لأَنصَارِهِ» (3).

وقال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ بِالضَّيَاءِ، وقَدَّمَهُ فِي الاصْطِفَاءِ، فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ، وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ، و ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ، وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ، حَتَّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ يَمِينِ وشِمَالِ» (4).

وقال علیه السلام: «و أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَسَيِّدُ عِبَادِهِ، كُلَّما نَسَخَ الله الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ، ولا ضَرَبَ» (5).

ص: 39


1- نهج البلاغة، الخطبة: 194
2- نهج البلاغة، الخطبة: 198
3- نهج البلاغة، الخطبة: 198
4- نهج البلاغة الخطبة: 213
5- نهج البلاغة الخطبة: 214

ومن أوصافه صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً أنّه كان أماناً من العذاب، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «كَانَ فِي الأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهُ، وقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، أَمَّا الْأَمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأَمَّا الأمَانُ الْبَاقِي فَالاسْتِغْفَارُ، قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(1)

ومنها الشجاعة، قال علیه السلام: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ» (2).

و منها الزهد، قال علیه السلام: «قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وصَغَّرَهَا، وأَهْوَنَ بِهَا هَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ الله زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً و بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، و أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً» (3).

و قال علیه السلام: «فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأطْيَبِ الأَطْهَرِ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لَنْ تَأَسَّى، وعَزَاءً لَنْ تَعَزَّى، و أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، و الْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْنا، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ الله سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ،

ص: 40


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 83
2- غريب الكلام الذي يحتاج إلى التفسير: 9
3- نهج البلاغة، الخطبة: 108

وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ الله وَرَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقَا لِلَّهِ ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّه.

ولَقَدْ كَانَ صلی الله علیه و آله و سلم يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ، ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، و يُرْدِفُ خَلْفَهُ، ويَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ: يَا فُلانَةُ - لإحْدَى أَزْوَاجِهِ - غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا و زَخَارِفَهَا، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، و أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشِاً، و لا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ، و كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبَغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَةً.

و لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِي الدُّنْيَا و عُيُوبِهَا، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ و زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمٍ زُلْفَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ الله مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ، فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ و الله الْعَظِيمِ، بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ، و إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ و زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.

فَتَأَسَى مُتَأَسٌ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ الله جَعَلَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، و وَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ

ص: 41

حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ الله عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ، والله لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلا تَنْبِذُهَا عَنْكَ، فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى» (1).

ومنها أفضليته صلی الله علیه و آله و سلم على الخلق أجمع، قال علیه السلام: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ و سَيَّدُ عِبَادِهِ» (2).

ومنها لزوم تكريم كلّ ما يُنسب إليه، وكشاهد على ذلك تقديم علي علیه السلام أولاد فاطمة الزهراء علیها السلام للقيام بوصاياه إكراماً لمقام النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فقد قال علیه السلام: «وإِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله، وقُرْبَةً إِلَى رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم وَ تَكْرِيماً لحِرْمَتِهِ وتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ» (3).

ومنها استجابة الدعاء ببركة الصلاة و السلام عليه، قال علیه السلام: «إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ، فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلاةِ عَلَى رَسُولِهِ صلی الله علیه و آله و سلم ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ، فَإِنَّ اللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلُ حَاجَتَيْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا و يَمْنَعَ الأخْرَى»(4)

ص: 42


1- نهج البلاغة الخطبة: 160
2- نهج البلاغة، الخطبة: 214
3- نهج البلاغة الكتاب: 24
4- نهج البلاغة، قصار الحكم 351

و منها مظلوميته صلی الله علیه و آله و سلم وشدّة،ابتلائه، قال علیه السلام: «فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيَّنَا، واجْتِيَاحَ أَصْلِنَا، وهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ، و فَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِيلَ، ومَنَعُونَا الْعَذْبَ، وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ(1)، واضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ، وأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ» (2). و قال علیه السلام: «فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً و تَرْ كَاضَهُمْ فِي الضَّلالِ، وَتَجْوَالُهُمْ فِي الشَّقَاقِ وجَمَاحَهُمْ فِي التِّيهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِيِ كَإِجْمَاعِهِمْ َلَى حَرْبِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم» (3)

ص: 43


1- أي جعلوا الخوف ملازماً لنا كحلس البعير يلازم ظهره، و هو كساء يجعل تحت الرحل
2- نهج البلاغة الكتاب 9
3- نهج البلاغة الكتاب: 36

6- المعاجز النبوية

تُعدّ المعجزة الدليل الواضح لقمع شبهات المعاندين، وتثبيت قلوب الموالين لإثبات صدق مدعي النبوة وتمييزه عن غيره، وكل نبي جاء بمعجزة أو معاجز مختلفة بما يناسب ظرف زمانه، وكذلك نبينا صلی الله علیه و آله و سلم، فقد صدرت عنه معاجز كثيرة ربما تفوق معجزات جميع الأنبياء، وقد عدّها ابن شهر آشوب أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين معجزة، ذكرت منها ثلاثة آلاف (1).

ويمكن تقسيم هذه المعاجز في عدة أنواع:

النوع الأول: ما صدر في الأجرام السماوية كشق القمر، وردّ الشمس، وتضليل الغمام، ونزول المطر والأطعمة والفواكه من السماء عليه وغيرها.

النوع الثاني: معجزاته في الجمادات والنباتات كسلام الشجر

ص: 44


1- المناقب لابن شهر آشوب 144:1

والمدر عليه، وتسبيح الحجر بيده، وانقلاب الجذع سيفاً لعكاشة في بدر، ولعبد الله بن جحشي في أحد وغيرها.

النوع الثالث: معجزاته في الحيوانات، كتكلّم عجل آل ذريع وحثّ الناس على نبوته، وتكلّم الذئب والإبل والشاة المسمومة وغيرها.

النوع الرابع: معجزاته في إحياء الموتى وشفاء المرضى، ومعجزات أعضائه الشريفة كذهاب وجع عين علي علیه السلام ببركة بصاقه الشريف، وإحياء الظبي الذي أكل من لحمه، وتكلّم فاطمة بنت أسد سلام الله عليها معه في القبر وغيرها.

النوع الخامس: معجزاته في كفاية شرّ الأعداء، كهلاك المستهزئين، وأكل الأسد عتبة بن أبي لهب، وغيرها.

النوع السادس: معجزاته في استيلائه على الجن والشياطين، وإيمان بعض الجن به.

النوع السابع: معجزاته في إخباره بالمغيّبات، وهي كثيرة (1).

وقد وردت الإشارة إلى معجزة واحدة في نهج البلاغة، وهي مجيء الشجرة إليه.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ولَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلی الله علیه و آله و سلم لَمّا أَتَاهُ الْمَلأ مِنْ

ص: 45


1- راجع منتهى الآمال للشيخ عباس القمي، ج 1، فصل معاجز النبي صلی الله علیه و آله و سلم

قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيا لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيُّ وَرَسُولٌ، وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، فَقَالَ: وَمَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ صلی الله علیه و آله و سلم: إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَتُؤْمِنُونَ وتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ ومَنْ يُحَذِّبُ الأَحْزَابَ.

ثُمَّ قَالَ صلی الله علیه و آله و سلم: يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ الله، فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَجَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم مُرَفْرِفَةً، وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهُ صلی الله علیه و آله و سلم وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ صلی الله علیه و آله و سلم.

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً واسْتِكْبَاراً: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا، وَيَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وأَشَدِّهِ دَوِيّا، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وآله و سلم فَقَالُوا كُفْراً وعُتُواً، فمُرْ هَذَا النَّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه و آله و سلم فَرَجَعَ، فَقُلْتُ أَنَا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ

ص: 46

فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ الله تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَإِجْلالاً لِكَلِمَتِكَ، فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَني) (1).

ص: 47


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192

7 - الغزوات

انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (1)، و انتصاراً للدعوة الفتية التي بشّر الله تعالى بأنّها ستكون ظاهرة على سائر الشرائع في قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (2)، خاض النبي صلی الله علیه و آله و سلم معارك مع المشركين جاوزت الثلاثين غزوة وسرية.

واشترك أكثر المسلمين في هذه الغزوات بكلّ بسالة وشجاعة ذباً عن دين الله ودفاعاً عن رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، يقول أمير المؤمنين علیه السلام في وصف تلك الأيام: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلا إِيمَاناً وتَسْلِيماً ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ (3)، وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الألم، وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ

ص: 48


1- الأنفال: 60
2- التوبة: 33
3- لقم الطريق: الجادة الواضحة منها

أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى الله صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ ومُتَبَوِّئاً أَوْ طَانَهُ»(1).

ولم ترد الإشارة في نهج البلاغة إلّا إلى غزوة بدر وأحد وسرية مؤتة، وذلك فيما كتب علیه السلام إلی معاوية: «فَأَنَا أَبُو حَسَنِ قَاتِلُ جَدِّكَ و أَخِيكَ و خَالِكَ شَدخاً (2) يَوْمَ بَدْرٍ» (3).

أمّا غزوة أحد فيذكرها أمير المؤمنين علیه السلام في محادثة جميلة مع النبى صلی الله علیه و آله و سلم يظهر منها تشوّقه وتلهّفه علیه السلام للشهادة، حيث يقول: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ الله أَولَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لي: أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ، فَقَالَ لِي: إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ» (4). و أما بالنسبة إلى سرية مؤتة فيقول علیه السلام في كتابه إلى معاوية: «فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وقُتِلَ حَمْزَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ، وقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ» (5).

ص: 49


1- نهج البلاغة، الخطبة: 55
2- الشدخ: كسر الشيء الأجوف
3- نهج البلاغة، الكتاب: 10 و 64
4- نهج البلاغة الخطبة 156
5- نهج البلاغة الكتاب 9

8 - السيرة النبوية

لقد كثرت الدراسات و الكتب المؤلّفة عن سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ولم يبق جانب من جوانب حياته الطاهرة إلّا و سُلّط الضوء عليه بكتاب أو مقال أو دراسة، وما زالت حياته الكريمة منبعاً فياضّاً للمزيد من هذه الدراسات.

وقد وردت الإشارة إلى جملة من سيرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم في كتاب نهج البلاغة بصورة مختصرة، إذ انّ هذا الكتاب لم يؤلّف كدراسة تاريخية، بل كان الهدف من تأليفه وجمعه تسليط الضوء على بلاغة أمير المؤمنين علیه السلام، ومع هذا فقد وردت الإشارة إلى فصول من حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم مضى بعضها وسنذكر بعضها الآخر.

ذكر أمير المؤمنين علیه السلام في احتجاجه على الخوارج انّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم أقام الحدود على مستحقيها فقال: «وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وقَتَلَ الْقَاتِلَ ووَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ، وقَطَعَ السَّارِقَ، وجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ ثُمَّ

ص: 50

قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ ونَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ، فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم بِذُنُوبِهِمْ و أَقَامَ حَقَّ الله فِيهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ» (1).

و بيّن علیه السلام انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جاء بالوسطية و قال: «فَصَدَعَ بِالْحَقِّ، وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ، وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ»(2)، حيث بيّن انّ الاعتدال في الأمور كان دأبه و ديدنه.

و قال علیه السلام في بيان مكافحته صلی الله علیه و آله و سلم للظلم و الضلال: «أَرْسَلَهُ بِالضَّيَاءِ، و قَدَّمَهُ فِي الاصْطِفَاءِ، فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ، وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ، وذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ، وسَهَّلَ بِهِ الْحُرُونَةَ، حَتَّى سَرَّحَ الضَّلالَ عَنْ يَمِينِ وشِمَالٍ» (3).

و بيّن علیه السلام أيضاً سيرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم الحربية حيث لم تبتن على التغلّب والتسلّط بل كانت لنجاة الإنسان من الضلال: «فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ، وَيُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، يَحْسِرُ الْحَسِيرُ، ويَقِفُ الْكَسِيرُ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ إِلا هَالِكاً لا خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، وَبَوَّأَهُمْ تَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ» (4).

ص: 51


1- نهج البلاغة الخطبة: 127
2- نهج البلاغة الخطبة: 195
3- نهج البلاغة الخطبة: 213
4- نهج البلاغة الخطبة: 103

ومرّ انّه صلی الله علیه و آله و سلم حين اشتداد الحرب كان أقرب الناس إلى العدوّ، وكذلك كان عل صلی الله علیه و آله و سلم يقدّم أهله وعشيرته حين اشتداد الحرب، قال علیه السلام: «وكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَ أَحْجَمَ النَّاسُ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ والأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، ولَكِنَّ آجَالُهمْ عُجِّلَتْ ومَنيَّتَهُ أُجِّلَتْ» (1).

ولذا شرّفهم الله تعالى وأعلى ذكرهم كما قال علیه السلام في كتابه إلى معاوية: «أَلا تَرَى غَيْرَ مُخْبٍرٍ لَكَ ولَكِنْ بِنِعْمَةِ الله أُحَدِّثُ، أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ ولِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وخَصَّهُ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاتِهِ عَلَيْهِ، أَولا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ الله ولِكُلِّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ الطّبارُ فِي الْجَنَّةِ وذُو الْجَنَاحَيْنِ (2).

ص: 52


1- نهج البلاغة الخطبة 9
2- نهج البلاغة الكتاب: 280

9 - الصحابة

ممّا لا شك فيه انّ الصحابة الكرام تحمّلوا الكثير لأجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، كما كتب أمير المؤمنين لمعاوية: «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ الله مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم لِدِينِهِ، وَتَأْبِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً، إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاءِ الله تَعَالَى عِنْدَنَا، و نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ»(1)، فهو لا يؤيد موقف الصحابة رضوان الله عليهم في نصرة الدين.

وفي كتاب آخر لمعاوية يقول علیه السلام: «وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ، سَاطِعِ قَتَامُهُمْ، مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ، أَحَبُّ اللّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، وَقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ، وسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ

ص: 53


1- نهج البلاغة الكتاب: 28

نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وخَالِكَ وجَدِّكَ وأَهْلِكَ، وما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعيدٍ» (1).

و يعرّض علیه السلام بمعاوية و يمدح المهاجرين الأولين ويقول: «ولَمّا أَدْخَلَ الله الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وأَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الاُمَّةُ طَوْعاً و كَرْهاً، كُنتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وإِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ» (2).

ويشرح علیه السلام موقف الصحابة في التضحية والدفاع عن الإسلام ويقول: «فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ صلی الله علیه و آله و سلم وإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الآباءِ والأبْنَاءِ والإِخْوَانِ والْقَرَابَاتِ، فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وشِدَّةٍ إِلا إِيمَاناً ومُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ، وتَسْلِيماً لِلأمر، وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاح» (3).

و قريب منه قال علیه السلام في خطبة أخرى: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلا إِيمَاناً وتَسْلِيماً ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ، وجِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُما يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى الله صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا

ص: 54


1- نهج البلاغة الكتاب: 28
2- نهج البلاغة، الكتاب: 17
3- نهج البلاغة الخطبة: 121

الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ ومُتَبَوِّعاً أَوْطَانَهُ» (1).

وقال علیه السلام في مدح الأنصار: «هُمْ وَاللَّهَ رَبَّوُا الإِسْلامَ كَمَا يُرَبَّى الْفِلْوُ (2) مَعَ غَنَائِهِمْ، بِأَيْدِيهِمُ السَّبَاطِ (3) وأَلْسِنَتِهِمُ السِّلاطِ (4)» (5).

وقال علیه السلام أيضاً في وصف تعبّد بعض الصحابة رضوان الله عليهم: «لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، وقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وخُدُودِهِمْ ويَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ، كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ، إِذَا ذُكِرَ الله هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبَلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيح الْعَاصِفِ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءَ لِلشَّوَابِ» (6).

وقال علیه السلام: «أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وهِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَدَ اللَّقَاح إِلَى أَوْلادِهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمادَهَا، وأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً

ص: 55


1- نهج البلاغة الخطبة: 55
2- الفلو: ولد الفرس
3- السباط: يقال رجل سبط اليدين أي سخي
4- جمع سليط وهو الشديد وذو اللسان الطويل
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: 453
6- نهج البلاغة، الخطبة: 96

زَحْفاً و صَفَّاً صَفَّاً بَعْضُ هَلَكَ وبَعْضُ نَجَا، لا يُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ، ولا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاءِ مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ سُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ، أُولَئِكَ إِخْوَانِي النَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ، وَنَعَضَّ الأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ»(1).

ويتلهّف علیه السلام إليهم في مكان آخر ويقول: «أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ، أَيْنَ عَمَّارٌ، وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ، وأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ ؟ و أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ» ثم ضرب بيده إلى لحيته فأطال البكاء ثم قال: «أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ» (2).

طبعاً هذا لا يعني انّ جميع الصحابة كانوا على هذه الحالة لأنّهم كانوا يتفاوتون في المراتب المعنوية كتفاوتهم في العلم والمعرفة والنجدة والشجاعة، فالأوصاف التي مرّت على لسان أمير المؤمنين الا لم تكن عامة لجميعهم أوّلاً، ولم تعطهم صفة العصمة من الخطأ و الذنب ثانياً، بل تشملهم ما داموا على الطريق، وهذا كقوله تعالى في وصف

ص: 56


1- نهج البلاغة، الخطبة: 120
2- نهج البلاغة، الخطبة: 182

الصحابة: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(1)

فالمغفرة و الأجر العظيم لا يعمّ جميعهم، بل يشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم فقط، وما داموا على هذه الحالة، إذ انّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم أخبر أمير المؤمنين علیه السلام انّ أمّته سيفتنون بعده، قال الا: «لَمّا أَنْزَلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: «أَلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّه تَعَالَى بِهَا؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي... يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، ويَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالأهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذ، و السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، والرِّبَا بِالْبَيْعِ» (2).

و يقول علیه السلام في مكان آخر: «حَتَّى إِذَا قَبَضَ الله رَسُولَهُ صلی الله علیه و آله و سلم رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ، و غَالَتْهُمُ السُّبُلُ، و اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلائِج،

ص: 57


1- الفتح: 29
2- نهج البلاغة الخطبة: 156

ووَصَلُّوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، ونَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، و أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ، قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ، وذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنِ» (1)

وهؤلاء هم الذين دنّسوا وجه التاريخ أمثال عمرو بن العاص الذي قال فيه أمير المؤمنين علیه السلام: «إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً، ويَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً» (2).

وأمثال معاوية الذي قال فيه علیه السلام: «فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوح والدَّمِ»(3)، و قال علیه السلام أيضاً: «إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ، رَوَّاغٌ (4) عَنِ الْقَصَّدِ» (5) و قال علیه السلام: «فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ، وَمَحَلَّةِ كُفْرٍ، فَإِنَّ الله نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَراً، وأَقْحَمَتْكَ غَيّاً، وأَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ، وأَوْعَرَتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ» (6).

ص: 58


1- نهج البلاغة الخطبة: 150
2- نهج البلاغة الخطبة: 83
3- نهج البلاغة الكتاب: 10
4- الرواغ: الميّال
5- نهج البلاغة، الكتاب: 28
6- نهج البلاغة، الكتاب: 30

و كذلك غيرهما ممّن افتتن بالدنيا وأغترّ بها، فهؤلاء سيحاسبون على أعمالهم ولم يشملهم الوعد الإلهي بالمغفرة والرضوان، وعليه لا يمكن الحكم على جميعهم بالعدالة والصلاح الصالح، فمن غيّر و بدّل وأحدث ولم يتب لا طريق له للنجاة وسيذاد عن الصراط كما في حديث الحوض الوارد في الصحاح الدال على رجوع بعض الصحابة القهقري بحيث لا تشملهم شفاعة النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 59

10-الخاتمية

قال تعالى في محكم كتابه: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (1).

انّ مسألة ختم النبوة بنبينا اله الا الله صلی الله علیه و آله و سلم أمر ثابت بالنص و شهادة الواقع، و هذا مما لا شك فيه.

و قد ذكر العلماء أوجه متعددة لتفسير الخاتمية من قبيل: انّ الأديان السابقة كانت تتطرق للتحريف و التبديل مما كان يستلزم مجيء آخر لتصحيح ما حُرّف، ولكن بالنسبة إلى الإسلام فالله تعالى وعد بحفظه من التغيير والتحريف بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (2) فبقاء الدين من غير تحريف أحد أسباب ختم النبوة.

ومنها انّ النبوات تتكامل، وكان آخر نبي أكملهم، إذ كما قيل:

ص: 60


1- الأحزاب: 40
2- الحجر: 9

«الخاتم من ختم المراتب بأسرها» ولم يبق في عالم الملكوت أمر لم يتم تبليغه، وكان آخر ما أمر به النبي صلی الله علیه و آله و سلم تبليغ ولاية أمير المؤمنين علیه السلام حفاظاً و استمراراً للنبوة الخاتمة، ولما تم التبليغ نزلت آية إكمال الدين: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا) (1).

و منها وصول الإنسان إلى البلوغ المعرفي بعقله واجتهاده، فهنا يأتي دور العلماء بعد الأئمة للقيام بوظائفهم في نشر الدعوة وهداية الأمة.

و منها انّ التقدير الإلهي شاء أن تكون هذه الأمة هي الأمة الوسطى و الشاهدة على سائر الأمم، بمعنى أنّها - مع التمسك بالثقلين: القرآن و العترة - ستكون ميزاناً لتصحيح الأخطاء و السير نحو الكمال من دون حاجة إلى تجديد النبوات.

وعلى كل حال فالأقوال في تفسير مسألة الخاتمية كثيرة، والعمدة هو النص الإلهي على ذلك، والباقي تفسير وتبيين وجه ذلك ربما تخطأ وربما تصيب، وفيما يلي نسرد ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام في مسألة الخاتمية:

قال علیه السلام: «إِلَى أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم لإِنْجَازِ عِدَتِهِ وإِثْمَامِ نُبُوَّتِهِ» (2).

ص: 61


1- المائدة: 3
2- نهج البلاغة، الخطبة: 1

وقال علیه السلام: «اللَّهُمَّ... اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ و نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ، الْخَاتِمِ لَا سَبَقَ» (1).

و قال علیه السلام: «بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَج... حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم حُجَّتُهُ» (2)

وقال علیه السلام: «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ... وخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ» (3).

و قال علیه السلام: «أَمِينُ وَحْيِهِ، وخَاتَمُ رُسُلِهِ» (4).

ثم بيّن علیه السلام انّ الإسلام هو الدين الخاتم و قال: «ثُمَّ إِنَّ هَذَا الإِسْلامَ دِينُ الله الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، واصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ، وأَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ، وأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، أَذَلَّ الأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ، وَوَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ، وخَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ، وَهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلالَةِ بِرُكْنِهِ، وسَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ، وأَتَاقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ لا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، ولا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ، ولا انْهِدَامَ لأَسَاسِهِ، ولا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ، ولا انْقِلاعَ لِشَجَرَتِهِ، وَلَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، ولا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ، ولا جَذَّ لِفُرُوعِهِ، ولا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ، ولا وُعُوثَةَ

ص: 62


1- نهج البلاغة الخطبة: 71
2- نهج البلاغة الخطبة 90
3- نهج البلاغة الخطبة: 133
4- نهج البلاغة الخطبة: 173

لِسُهُولَتِهِ، ولا سَوَادَ لِوَضَحِهِ، ولا عِوَجَ لانْتِصَابِهِ، ولا عَصَلَ فِي عُودِهِ، ولا وَعَثَ لِفَجِّهِ، ولا انْطِفَاءَ مَصَابِيحِهِ، ولا مَرَارَةَ لَحَلاوَتِهِ، فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا، وَثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا، وَيَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا، ومَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا، وَمَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا، وَأَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا، وَمَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا. جَعَلَ اللَّهِ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ، وذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ، وَسَنَامَ طَاعَتِهِ، فَهُوَ عِنْدَ الله وَثِيقُ الْأَرْكَانِ، رَفِيعُ الْبُنْيَانِ، مُنِيرُ الْبُرْهَانِ، مُضِيءُ النِّيرَانِ، عَزِيزُ السُّلْطَانِ، مُشْرِفُ الْمَنَارِ، مُعْوِذُ الْمَثَارِ، فَشَرِّفُوهُ وَاتَّبِعُوهُ وَأَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ».

و قال علیه السلام: «فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ، وتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ، و تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ، ويَكُنْ مَابُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ و الْعَذَابِ الْوَبِيلِ»(1).

ص: 63


1- نهج البلاغة، الخطبة: 161

11- المصيبة العظمى

ذهب أكثر علماء الشيعة إلى انّ وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كانت في يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر، وذهب أكثر أهل السنة إلى أنّها كانت في الثاني والعشرين من ربيع الأول.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم لِقَاءَهُ، ورَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، وأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً» (1).

وممّا لا إشكال فيه عندنا انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم توفي في حجر علي علیه السلام و في ذلك يقول: «ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي، ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُها عَلَى وَجْهِي» (2).

و قال علیه السلام أيضاً: «فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وفَاضَتْ بَيْنَ

ص: 64


1- نهج البلاغة الخطبة: 1
2- نهج البلاغة الخطبة: 197

نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ»(1).

و يؤيد هذا ما ورد عن عائشة انّها قالت لامرأتين سألنها عن علي علیه السلام: «أيّ شيء تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم موضعاً فسالت نفسه في يده، فمسح بها وجهه»(2).

وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة انّها قالت: «والذي أحلف به إن كان علىّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عندنا رسول الله غداة و هو يقول: جاء علي، جاء عليّ؟ مراراً، فقالت فاطمة: كأنّك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد، قالت أم سلمة: فظننت انّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، و كنت أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض رسول الله من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس عهداً»(3).

وقيل لابن عباس: «أرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم توفّي و رأسه في حجر أحد ؟ قال توفي وهو لمستند إلى صدر عليّ، قلت: فانّ عروة حدّثني عن عائشة انّها قالت: توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين سحري و نحري، فقال ابن عباس: أتعقل هذا؟ و الله لتوفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وانّه لمستند إلى صدر علي» (4).

ص: 65


1- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 202
2- اریخ دمشق لابن عساكر 42: 394
3- المستدرك للحاكم 3: 139 وصححه
4- الطبقات لابن سعد 2: 263.

و عن أبي رافع قال: «توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و رأسه في حجر علي ابن أبي طالب...» (1).

و عن علي بن الحسين علیه السلام قال: «قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ورأسه في حجر عليّ» (2)

و عن الشعبي قال: «توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و رأسه في حجر عليّ» (3).

فهذه الروايات وغيرها الواردة عن الصحابة والتابعين تدلّ بصراحة على انّ الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم توفي ورأسه في حجر علي علیه السلام، وعليه فلا قيمة لما رواه القوم عن لسان عائشة من انّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم توفي بين سحرها ونحرها، إذ انّه لا يقاوم سائر الأخبار الصحيحة و الحسنة و الموثقة التي تعارضه.

وأيضاً ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف حوله انّ أمير المؤمنين علیه السلام هو الذي تولّى غسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد قال علیه السلام: «وَلَقَدْ وَليتُ غُسْلَهُ صلی الله علیه و آله و سلم والملائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّت الدَّارُ وَالأَفْنِيةُ، مَلأٌ يَهْبِطُ وَمَلأٌ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُم يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيْحَهُ» (4).

ص: 66


1- مجمع الزوائد للهيثمي 1: 293
2- الطبقات لابن سعد 2: 262
3- لمصدر نفسه 2: 262
4- هج البلاغة، الخطبة رقم: 197

فانظر إلى هذه المنقبة الشريفة، تتلو منقبة بدء الوحي حيث كان علیه السلام يرى نور الوحي و الرسالة، ويشمّ ريح النبوة، وقال له الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «انّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى» و سمع أيضاً رنّة الشيطان، فياله من شرف عظيم.

وقد أثّرت مصيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على قلب أمير المؤمنين علیه السلام أشدّ تأثير حتى انّه ترك الخضاب، فقد قيل له: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين، فقال علیه السلام: «الْخِضَابُ زِيْنَةٌ، وَنَحْنُ قَوْمٌ فِي مُصِيبَةٍ» قال الشريف الرضي موضّحاً: يريد برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (1).

و قال علیه السلام عند تغسيل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، لَقَد انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لم يَنْقَطِعْ بِمَوتِ غَيْركَ مِنَ النِّبُوَّةِ وَالأَنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّماءِ، خَصّصت حَتَّى صُرْتَ مُسَلّياً عَمّنْ سوَاكَ، وَعَمَمتَ حَتَّى صَارَ النَّاس فِيْكَ سِوَاء، وَلَوْلا أَنَّكَ أَمْرتَ بالصَّبرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَع، لأَنْفَذْنَا عَلَيْكَ مَاء الشَّؤونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مماطِلاً، وَالكَمَدُ محَالِفَاً، وَقَلّا لَكَ، وَلَكِنَّهُ مَا لا يُمْكِنْ رَدَّهُ وَلا يُسْتَطَاعُ دَفْعَهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ» (2).

ص: 67


1- هج البلاغة، قصار الحكم: 461
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 234

12- ما حدث بعد رحيله صلی الله علیه و آله و سلم

حدثت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حوادث مؤلمة غيّرت مسير الأمّة عن المخطط الإلهي الذي بلّغه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى بعضها، وهي كما يلي:

1- غصب الإمامة، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فَلَمّا مَضَى علیه السلام تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللَّهُ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، ولا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ولا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ»(1).

وقال علیه السلام في الخطبة الشقشقية: «أَمَا والله لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ و إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، ولا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدِ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ،

ص: 68


1- هج البلاغة الكتاب: 62

يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَانَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذَّى وفي الْحَلْقِ شَجَّا»(1).

و قال علیه السلام أيضاً: «فَوَالله مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ، مُنْذُ قَبَضَ الله نَبِيَّ صلى الله عليه و آله و سلم حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا» (2).

2- بثّ الدعايات ضد أمير المؤمنين علیه السلام لتشويه سمعته، قال علیه السلام لما خاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعاه بالخلافة لما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ وَ ضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ؛ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ. هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ! هَيْهَاتَ، بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي، وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَة.»(3).

فجعلوه علیه السلام في موقف حرج بحيث لا يتمكن من السكوت

ص: 69


1- نهج البلاغة، الخطبة: 3
2- نهج البلاغة الخطبة 6
3- نهج البلاغة الخطبة 5

ولا يتمكن من الكلام

3- افتتان الأمة، قال علیه السلام: «حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلی الله علیه وآله) رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ وَ اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ، قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ، عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِن (1).

وقال علیه السلام: «لَمّا أَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: «أَلم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لا تَنْزِلُ بِنَا و رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللهُ تَعَالَى بِهَا؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي... يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَيَمُتُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، و الأهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذ، و السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، و الرِّبَا بِالْبَيْعِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اصلی الله علیه و آله و سلم فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ ؟ فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ» (2).

ص: 70


1- نهج البلاغة، الخطبة: 150
2- نهج البلاغة، الخطبة: 156

4- غصب فدك بدواعي سياسية لبست ثوب الدين - كما أشرنا إليه في سيرة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة - و في ذلك يقول علیه السلام: «بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمِ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ الله» (1).

5- استشهاد الزهراء علیها السلام انّ الحديث عن الزهراء علیها السلام و مظلوميتها وما جرى عليها بعد أبيها صلی الله علیه و آله و سلم ذو شجون، وحقيق بالإنسان الحرّ الذي أطلق عقله عن أسر التعصبات المذهبية، أن يأسف على امّة سرعان ما نست وصايا رسولها بحق ابنته و أهل بيته، بحيث تموت أم أبيها و حبيبة قلب المصطفى فاطمة الزهراء علیها السلام وهي في مقاطعة سياسية للسلطة الحاكمة آنذاك.

فقد ثبت في الصحيح انّ فاطمة علیها السلام وجدت على أبي بكر فهجرته ولم تكلّمه حتى توفيت (2) كما سنبيّن سببه لاحقاً.

فهل من المعقول انّ أشرف قبيلة في قريش وهم بنو هاشم، و أشرف بيت في بني هاشم وهم عترة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يقاطعون السلطة الفتية آنذاك، والتي يجب دعمها وتشييد مبانيها في تلك الظروف الحرجة، لا لشيء سوى الدنيا والصراع على المناصب، وهم هم في زهدهم وبعدهم عن الدنيا وزخارفها ونبذهم لها – كما هو ثابت عند

ص: 71


1- نهج البلاغة الكتاب: 45
2- صحيح البخاري 5: 82، وصحيح مسلم 5: 154

الفريقين - ففاطمة تغضب على السلطة و تقاطعها، وعليّ يغضب على السلطة ولم يبايع وكذلك باقي البيوت الهاشمية، أليس هذا ينبئ عن شيء أخطر وأعمق ممّا يتصوره السذّج من الناس. فانتظر فسيوافيك بيانه في مسألة الإمامة و النص.

و نحن يكفينا في إدانة القوم، و اثبات مظلومية الزهراء علیه السلام، ما ذكرناه آنفاً من الثابت الصحيح عند أهل السنة من غضب الزهراء علیها السلام على القائمين بالأمر آنذاك، و نضيفك بياناً ما ورد من إقدام عمر بن الخطاب على تهديد بيت الوحي بالإحراق والهجوم عليه، و ذلك ما رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة عن عمر بن الخطاب لما جاء بالحطب إلى دار فاطمة فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص انّ فيها فاطمة، فقال: وإن(1).

و ما رواه المنقري من كلام عمرو بن العاص لمعاوية لما منع الماء عن جيش علي علیه السلام فنهاه عمرو وقال له: «وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول له: «لو استمكنتُ من أربعين رجلاً» فذكر أمراً. يعني لو انّ معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت، يعني بيت فاطمة (2).

و نقل الصفدي عن النظام - شيخ الجاحظ ومن كبار المعتزلة -

ص: 72


1- لإمامة والسياسة 1: 19
2- وقعة صفين: 163

انّه كان يقول: انّ عمر ضرب بطن فاطمة حتى ألقت المحسن من بطنها (1).

وأكّد هذا ندم أبي بكر عند وفاته على بعض ما صنعه، منها قوله: «وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على حرب» (2).

فهذه النصوص وغيرها تدلّ على الإقدام لإحراق البيت بجمع الحطب، وتدلّ على تفتيش البيت و الكشف عنه، و تدلّ على إسقاط المحسن، ظلامة ما فوقها ظلامة.

و إشارة إلى هذه الظلامات قال أمير المؤمنين علیه السلام عند دفن فاطمة الزهراء علیها السلام مخاطباً الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «السلامُ عليكَ يا رسولَ الله عنّي وعن ابنتكَ النَّازِلة في جِواركَ، و السريعة اللحاق بكَ،... إنّا لله و إنّا إليه راجعون، فلقد اسْتُرجعتِ الوديعةُ، وأاُخذتِ الرهينةُ، أمّا حُزني فسرمدٌ، و أمّا ليلي فمُسهّدٌ إلى أن يختارَ اللهُ لي داركَ الَّتي أنتَ بها مُقِيم، وَ سَتُنبئكُ ابنتكُ بتظافرِ أُمتكَ على هَضْمِهَا، فَاحْفِهَا السُّؤال وَاسْتَخْبرها الحال، هذا و لم يطل العهدُ، و لم يخلُ مِنكَ الذَّكرُ» (3).

ص: 73


1- لوافي بالوفيات 6: 15
2- تاريخ الطبري:3: 431، العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 267
3- نهج البلاغة الخطبة رقم: 202

13 - مستقبل الدعوة

قال أمير المؤمنين: «ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم لِقَاءَهُ... فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً صلی الله علیه و آله و سلم، وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِح، ولا عَلَمٍ قَائِمٍ» (1).

يشير علیه السلام في هذا النص إلى سنة الله تعالى في الأنبياء من حيث الاستخلاف حفاظاً على الدعوة الإلهية، سيما بالنسبة إلى خاتم النبيين حيث سيكون دينه آخر الأديان، و ستكون أمته شاهدة على سائر الأمم، ممّا يؤكد ضرورة مسألة الاستخلاف.

نعتقد انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أدّى ذلك تماماً، و عرّف الناس من سيخلفه، سيما بعد نزول قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (2)

ص: 74


1- نهج البلاغة الخطبة 1
2- المائدة: 67

فقام صلی الله علیه و آله و سلم بتبليغ الأمر في غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع، ونزل قوله تعالى بعد هذا التبليغ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا﴾ (1).

انّ الضمان الذي تركه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لمستقبل الدعوة، إنّما هو الثقلان: الكتاب، و العترة الطاهرة، كما هو مفاد حديث الثقلين الثابت و المتواتر.

قال أمير المؤمنين علیه السلام بالنسبة إلى القرآن: «وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا... كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلالَهُ وحَرَامَهُ، وفَرَائِضَهُ و فَضَائِلَهُ، ونَاسِخَهُ ومَنْسُوخَهُ، ورُخَصَهُ وعَزَائِمَهُ، وخَاصَّهُ وعَامَّةُ، وعِبَرَهُ وأَمْثَالَهُ، ومُرْسَلَهُ ومَحْدُودَهُ، ومُحْكَمَهُ ومُتَشَابِهَهُ، مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ، ومُبَيِّناً غَوَامِضَهُ» (2).

و قال علیه السلام بالنسبة إلى العترة: «فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ، وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ، وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وأَعْلامُ الدِّينِ، و أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ، فَأَنزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ، ورِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ العِطَاشِ» (3)

و قال علیه السلام: «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، واتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، ولَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا

ص: 75


1- لمائدة: 3
2- نهج البلاغة، الخطبة، 1
3- نهج البلاغة، الخطبة: 86

فَالْبُدُوا، وإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، ولا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، ولا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا» (1).

و قال علیه السلام: «نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى، بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي» (2).

***

ص: 76


1- نهج البلاغة، الخطبة: 96
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 104

إلى هنا نُنهي الكلام عن سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم طبقاً لما ورد في نهج البلاغة، ونصلّي ونسلّم عليه ونقول كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ وَ اجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ، اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَ آتِهِ الْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ السَّنَاءَ وَ الْفَضِيلَةَ، وَ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا وَ لَا نَادِمِينَ وَ لَا نَاكِبِينَ وَ لَا نَاكِثِينَ وَ لَا ضَالِّينَ وَ لَا مُضِلِّينَ وَ لَا مَفْتُونِينَ .» (1)

وكما قال علیه السلام أيضاً:

«اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ و دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيَّهَا وسَعِيدِهَا. اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ و نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ الْخَاتِمِ لَمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحَ لَا انْغَلَقَ وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ و الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ و الدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَصَالِيلِ كَمَا حُمِّلَ فَاضطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضاتِكَ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمِ ولا وَاءٍ فِي عَزْمٍ وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ و أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ و هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضاتِ الْفِتَنِ و الأَثَامِ و أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلَامِ و نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ و خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ و شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيتُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ».

ص: 77


1- نهج البلاغة، الخطبة: 105

و نقول عقيب كل صلاة ما علّمه الإمام الرضا علیه السلام لأبي بصير البزنطي: «السلام عليك يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و رحمة الله و بركاته، السلام عليك يا محمد بن عبدالله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك أمين الله، أشهد أنّك رسول الله، و اشهد أنّك محمد بن عبدالله، و أشهد أنّك قد نصحت لأمتك، وجاهدك في سبيل ربك، وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزي نبياً عن أمّته، اللهم صل على محمد وآل محمد أفضل ما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» (1).

***

ص: 78


1- قرب الإسناد للحميري: 382، البحار 86: 24

المحتويات

تمهيد: في النبوّة... 5

سبب الحاجة إلى الأنبياء... 6

صعوبة الامتحان... 8

1 - المولد النبوي... 11

2 - البعثة النبوية... 14

3 - الهجرة النبوية... 25

4 - السنة النبوية... 28

5 - الأوصاف النبوية... 37

6 - المعاجز النبوية... 44

7- الغزوات... 48

8 - السيرة النبوية... 50

ص: 79

9 - الصحابة... 53

10 - الخاتمية... 60

11 - المصيبة العظمى... 64

12 - ما حدث بعد رحيلهصلی الله علیه و آله و سلم ... 68

13 - مستقبل الدعوة... 74

المحتويات... 79

ص: 80

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.