حیات القلوب قبسات من نهج البلاغة في سفر الموت

هوية الکتاب

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

بيروت. لبنان. المعمورة. الشارع العام

هاتف: 471070 / 01

ص.ب. 25/327024/53

الإعداد والإخراج الالكتروني

www.almaaref.org

الكتاب: حياة القلوب

تأليف: مركز نون للتأليف و الترجمة

نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

الطبعة الأولى كانون الأول 2009 م - 1431 ه_

ص: 1

اشارة

حياة القلوب

ص: 2

حیات القلوب

(قبسات من نهج البلاغة في سفر الموت)

مركز نون للتأليف والترجمة

الإعداد والإخراج الالكتروني

www.almaaref.org

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

ص: 4

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد وعلى آله الطّيبين و صحبه المنتجبين.

طالما تكدّر الحياةُ علينا صفوً القلوب، وتعتّم على أفئدتنا آثارُ الذنوب، فنبتعد عن الله سبحانه بعد أن تقرّب إلينا، ونبغض لقاءه بعد أن تحبّب إلينا، نخاف الموت وسكرته، وملك الموت وشدّته، ونحيد من القبر ووحشته، فهو المجهول الذي لا ندركه، وهو الوحشة التي لا نطيق، والظلمة التي لا نتحمل، وبرزخٌ إلى يوم يبعثون، وكيف حالة الخروج؟ وهول البعث والنشور؟ وما هو الحساب؟ والصراط، والجنّة والنار؟ والخلد والقرار؟

لعلّها أسئلة لا يجيب عليها العقل، ويعجز عن سبر غورها الفكر، فيقف عاجزاً لا يجد سبيلاً، إلّا سؤال الغيب والشرع، وأخبر الناس بها، من هو أعلم بطرق السماء من طرق الأرض، نعني أمير الكلام علیه السلام، فتكون الإجابات الشافية، والعظات الناجعة، في كلام الأمير، في النهج الشريف، فهو الطبيب الخبير، وهو من يخرج الكلام من قلبه فيُحیي القلوب، ويتكلّم ليعيد الروح للأجسام الخاوية، فينعش ويُحيي، ويجلو بعبق أريج كلماته دَكَنَ الذنوب عن صفحات القلوب.

من النهج الشريف، كانت قبسات علّنا نجد ناراً تكوي الأمراض الدفينة، أو نجد لأنفسنا الهدى، وقد عمل مركز نون للتأليف والترجمة على اقتباس عظات من

ص: 5

كلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام و ترتيبها بشكل موضوعيّ، ثم شرح المفردات الصعبة، ليسهل على الخطيب والقارئ فهم مطالب الإمام علیه السلام ، وبعد ذلك عمل على إدراج موضوع يصبّ بالكامل في شرح الموعظة، ليختم بمسائل عملية ترتبط بواقع الحياة، ويسلّط الضوء عليها لمعالجتها، ثمّ يختم بأهمّ المفاهيم الواردة في الموعظة والدرس. مقدّماً مع ذلك فقرة للمطالعة، تضفي على القارئ لوناً جديداً جميلاً محبّذاً، وتساعد الخطيب على الإلمام أكثر بخطبته.

وفي الختام: نسأل الله عزّ اسمه، أن يتقبّل هذا الجهد اليسير، ويجعله في عين صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه من المقبول الكبير، وأن يؤدّي الدور المطلوب منه، ويحقّق الهدف المنشود له، إنّه نعم المولى ونعم المجيب.

مركز نون للتأليف والترجمة

ص: 6

1 سكرة الموت

اشارة

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (1)

عن أمير المؤمنين علیه السلام

وَهُوَ یَرَى الْمَأْخُوذِینَ عَلَى الْغِرَّةِ (2) حَيْثُ لَا إِقَالَةَ (3) وَلَا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ اللآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ (4) وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ (5)، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ (6) وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً (7)، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ (8) وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ (9)، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ، وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا (10) وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ

ص: 7


1- سورة ق الآية.19
2- الغفلة
3- لا فسخ ولا تراجع
4- شدّته و غشيته
5- الحسرة على ما فات ومضى
6- فسكنت لها أعضاءهم
7- دخولاً
8- كناية عن عجزه عن الكلام
9- كناية عن بقائه عاقلا يدرك ما يحيط به
10- م يفرق بين حلال وحرام

مُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا (1) وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ (2) وَ الْعِبْ ءُ عَلَى ظَهْرِهِ (3) وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا (4)، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ (5) لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَ يَتَمَنَّى أَنَ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ؛ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ (6)، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ؛ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً (7) بِهِ [فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ ] فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ [أُوحِشُوا] أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً؛ ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ(8).(9)

ص: 8


1- ما يطالبه الناس من حقوق
2- ما أتاك من خير بلا مشقّة
3- ) الحمل و الثقل
4- استحقّها و عجز عن أدائها
5- ظهر له
6- في العجز وأداء الوظيفة
7- التصاقاً
8- زيارته
9- نهج البلاغة الخطبة 190

تمهید:

لو كان يخلّد في الدنيا أحدٌ لكان الأنبياء و الأولياء أحقّ بالخلود فيها. و لو كانت الدنيا تدوم لأحد لكان الأقوياء و الملوك و الأغنياء ما زالوا ينعمون بقوّتهم وقصورهم فيها، لكن شاء الله أن يخطّ على جيد ابن آدم قلادة الموت، و ينكت من أعماقه غصّة الفوت، فلا مفرّ منه ولا مهرب، وليس هو إلا قنطرة يعبر منها إلى عالم آخر، و هكذا كانت مشيئة الله أن يدرك الموت كلَّ من عليها، فكيف بحال من أدركه الموت؟ وما في الصورة التي يكون عليها في تلك اللحظات العصيبة؟ هذا ما وصفه لنا الأميره في خطبته المذكورة، ونحن نشير إلى أهمّ المضامين منها:

1 – الموت يأتي فجأة

يحيا الإنسان في هذه الدنيا و هو يرسم خططاً لمستقبله، مؤمّلاً في الحياة كثيراً، و لا يضع في حسبانه أن ساعة الموت قد تحين في أي لحظة وتفاجئه، فتنزل به في غفلة من نفسه، و هو يعيش الأمان من هذا الخطر المحدق به، لم يستأذن ملك الموت من أحد، ولم يرسل الوفود للإخبار بقدومه لأحد، إنّه الملك الذي يدخل البيوت دون استئذان، و القلوب دون رأفة وتحنان، فيصل الإنسان بفعله إلى أصعب لحظات تحلّ به، إنّها سكرة الموت، و قد تطول وقد تقصر. و لكن هذه اللحظات التي لا بدّ أن تُلقي بثقلها على كلّ إنسان، هي في غاية الصعوبة. ولكن من يقدر على وصف هذه السكرة العسيرة غير الخبير، غير المعصومين علیهم السلام.

2 - صعبة سهلة

يصف الإمام الصادق علیه السلام في الرواية صعوبة هذه اللحظات على المذنب العاصي،

ص: 9

و يسرها وسهولتها على المؤمن المطيع فيقول: «للمؤمن كأطيب ريحٍ يشَمُّه؛ فينعس الطيبه، و ينقطع التعب والألم كلّه عنه. و للكافر كلسعِ الأفاعي، ولدغ العقارب وأشد!

قيل: فإنّ قوماً يقولون: إنّه أشدّ من نشرٍ بالمناشير! و قرضٍ بالمقاريض! و رضخٍ بالأحجار! و تدوير قطب الأرحية على الأحداق!

قال علیه السلام : «كذلك هو على بعض الكافرين و الفاجرين ...» (1).

حواس تتعطّل وأخرى تراقب

عندما تحلّ سكرة الموت، تفتر لها الأطرافُ، فلا يقدر على الحراك، لا بيد و لا برجل، وتتغيّرُ لها ألوانُ، و يصبح الجسد بتمامه مسجّى، إلا البصر والسمع و العقل؛ فيبقى يراقب ببصره كلّ ما يجري حوله، و يسمع بأذنيه كلّ كلمة تقال أمامه، فهو مدرك تماماً لم يذهب عقله، و على حدّ تعبير الأمير علیه السلام: «و إنّه لَبينَ أهله ينظر ببصرِه ويسمعُ بأذنِه، على صِحّةٍ من عقلِه، وبقاءٍ من لُبِّه»، فهذه الحواس لم تتعطّل و لم تُصب بأذى.

ولكنّه لا يستطيع حراكاً، فهو لا يتمكّن من النطق و الكلام، ليعترض على أمرٍ، أو يحدّث بما يفكّر به، فهو الآن يؤمن بعجزه عن القيام بأيّ تغيير.

في هذه اللحظات يمرّ أمامه شريط حياته بتمامها، كيف مضى هذا العمر؟ و فيمّ أفناه؟ وما الذي كان يسعى إليه؟ ويتذكّر ما بذله في سبيل جمع المال، من حلال أو حرام، لم يكن يظنّ أن تأتي هذه الساعة التي ينقطع عنه كلّ هذا المال لا يتمكّن من التصرّف به، فقد أصبح ملكاً لآخرين وهم ورثته ينعمون به دون تعب و لا حساب، الذين يتمتّعون بهذا المال، وهو يتحمّل حساب و عذاب ما اقترفت يداه و هو يجمع هذا المال.

ص: 10


1- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 4 ص 2959

3. حسرة الفوت:

وفي هذه الأثناء يشعر المرء بالندم الشديد، والحسرة البالغة، كيف تعب وجهد لغيره، وها هو يحاسب ويعاقب على عمله هذا أشدّ حساب، وكيف غيره حصل على هذا الجنى وكلّ هذا المال دون تعبٍ ومشقّة، ولا يحاسب عليه أبداً، «فيكونُ المهنأُ لغيرِه، والعبءُ على ظهرِهِ»، وعندها يتمنّى. ولا يستطيع أن يحقق أمنية. فيندم. ولات حين مندم. «يتمنّى أنّ الذي كان يغبطُه بها» ويقول في نفسه ليت هذه الأموال التي لي حاز مثلها، وبعض «يحسِدُه عليها» فيتمنّى زوالها منّي وتكون له، «قد حازَها دونَه» يا ليتها كلّها لهم لمن يغبطني أو يحسدني، ولم أصرف عمري في جمعها، حتّى لا أتحمّل عبأها، ولا أشعر بهذه الحسرة والندم.

4. قبض الروح

قد أَوحشوا من جانبِه، وتباعدوا من قربِه. لا يُسعدُ باكياً، ولا يُجيبُ داعياً. ثمّ حملوه إلى مخطّ في الأرضِ، و أسلموه فيه إلى عملِهِ، وانقطعوا عن زورتِه (1).

و شيئاً فشيئاً تصاب هذه الحواس - العين، الأذن والعقل. التي كانت تعمل قبل لحظات بالعطب، فلا يعود يرى ما يحيط به، ولا يسمع ما يقال ممّن اجتمع حوله، «يردّدُ طرفَهُ بالنظرِ في وجوهِهِم»، هل هو يودّعهم في آخر لحظات الفراق! أو يوصيهم بأن لا يندموا كما ندم! لكن أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يرى حركات ألسنتهم، دون أن يسمع شيئاً من كلامهم، ثمّ يزداد الموت التصاقاً به، و تخرج الروح الوديعة في من جسده، فيصبح هذا الجسم جيفة بين أهله، ينفر حتّى الأحبّة منها، و هو بين لا يستطيع أن يجيب من ناداه، بيا أبي أو يا أمّي أو يا أخي أو يا زوجي أو يا ... وكل من يبكي حوله لا يستطيع أن يخفّف عنه أو يسعده.

وفجأة ينقلب المشهد إلى ضدّه، من حزنٍ و وداعٍ وحميمٍ، إلى نفورٍ واشمئزاز، هذا

ص: 11


1- زيارته

الحبيب الذي كان يبعث الحيويّة في البيت، وهذا الجسم الذي كان كلّه نشاطاً و فرحاً و سروراً و حيويّة، هذا الذي كنذا نبكي على فراقه، و نضمّه و نشمّه و نودّعه، أصبح عائقاً في البيت، لو بقي لأفسد علينا الحياة، لا بدّ من التخلّص منه، أصبح رعباً نخاف منه، أصبح جسداً وجيفةً، سرعان ما تفسد و تنتن، فيسرعون لغسلها وتكفينها ثم دفنها قبل أن تنبعث الرائحة الكريهة منها بعد الموت، كما يحصل مع كلّ إنسان.

5 - برّ الوالدين والتخفيف من سكرة الموت

هذه قصّة سكرة الموت، و نزع الروح، و نهاية الجسد، بنهاية العمر، لذلك ألا يجدر بهذا الإنسان الذي يسعى ليبقى في راحة، والذي يخاف من هذه اللحظات التي لا مفرّ منها، أن يعمل لكي يهوّن منها، ولا تمرّ عليه صعبة ثقيلة كما وصفها أمير المؤمنين؟

وكما حذّرت الروايات من شدّة هذه اللحظات على الإنسان، فقد وردت الروايات ببيان سُبُل الخلاص أو التخفيف منها، لكي لا يعيشها الإنسان صعبة و ثقيلة، ومن هذه السبل برّ الوالدين.

فقد ورد عن الإمام علي علیه السلام : «البارّ يطير مع الكرام البررة، وإنّ ملكَ الموت يتبسّم في وجه البارّ، ويكلح في وجه العاقّ» (1)

كما ورد في الرواية الإمام الصادق علیه السلام: «من أحبَّ أن يخفِّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عزّ وجلّ عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقرّ أبداً (2).

قصة وعبرة

عن أبي عبد الله علیه السلام: «أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حضر شابّاً عند وفاته، فقال له صلی الله علیه و آله و سلم: قل: لا إله إلا الله.

ص: 12


1- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 15 ص 176
2- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 4 ص 2972

قال: فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أمّ؟

قالت: نعم أنا أمّه.

قال: أفساخطة أنت عليه؟

قالت: نعم، ما كلّمتُه منذ ستّ حجج.

قال لها: أرضِ عنه.

قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله.

فقال: له رسول الله: قل لا إله إلا الله.

قال: فقالها. فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: ما ترى؟

فقال: أرى رجلاً أسودَ قبيحَ المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة، فأخذ بكظمي.

فقال له النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: قل «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير، إنك أنت الغفور الرحيم» فقالها الشاب.

فقال له النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: انظر ما ترى؟

قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيب الريح حسن الثياب، قد وليني، وأرى الأسودَ قد تولّى عنّي.

قال له: أعد، فأعاد.

قال: ما ترى؟

قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثمّ طفي على تلك الحال» (1).

برّهما بعد الموت

قد يظنّ بعضٌ ممّن مات أحد والديه أو كلاهما، بأنّه لا يستطيع برّهما، ولا الاستفادة من هذا السبيل، وهذا يعني أنّ السبيل لتخفيف سكرة الموت قد انسدّ أمامه، ولا يستطيع

ص: 13


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 71 ص 75

بعد موتهما التخفيف عن نفسه من سكرة الموت، و الحقّ أنّ رحمة الله بعباده أوسع من أن يحيطها إدراك مخلوق، فقد فتح الله عزّ وجلّ بابّ الرحمة لعباده، حتّى بعد موت الوالدين، فبرّ الوالدين لا يختصّ بحياتهما، بل من لم يوفّق لبرّهما في حياتهما، أو كان عاقّاً لهما في حياتهما، فإنّ باب تدارك ذلك مفتوح أمامه، و ذلك بأن يبرّهما بعد وفاتهما.

ففي الرواية عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إنّ العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان، فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجلّ عاقّاً، وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما، غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه عزّ وجلّ باراً». (1)

وعنه علیه السلام : «ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ و الديه حيَّين أو ميّتين؛ يصلّي عنهما، و يتصدّق عنهما، و يحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله عزّ وجلّ ببرّه وصلته خيراً كثيراً» (2).

ختام:

فلنتأمّل كثيراً في سكرات الموت، و الغصّة التي ستنتاب كلّ إنسان، و لنسعى أن لا نعيش الغصّة و الحسرة، و نهتمّ بآخرتنا و العمل لها، فلا نجمع لغيرنا، ولنسعى جاهدين أن تخفّف عنّا سكرة الموت، و تكون أهون علينا من النومة الهادئة بعد عناء طويل، ويكون اسئناسنا بالموت كاستيناس الطائر الشريد للعشّ المهجور، و نعمل على برّ الوالدين حيّين كانا أم ميّتين؛ بالصدقة أو الصلاة أو الصيام أو الحجّ عنهما، و الله يضاعف الأجر للوالدين و للعامل أيضاً، (وَ اللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَ اللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (3).

ص: 14


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3675
2- م. ن. ج 4 ص 3675
3- سورة البقرة: الآية 261

المفاهيم الأساس

الموت امر حتمي مقضي علی هذا الإنسان، و لکن الإنسان یغفل عن ذلک.

2. تظهر ساعة الحسرة عند قبض الروح، و هي من أصعب اللحظات على بني آدم، وفي هذه اللحظات يتذكّر ما جنى في عمره.

3. بر الوالدين سبب من أسباب التخفيف من سكرات الموت.

4. بر الوالدين يكون في حياتهما بحسن عشرتهما، و بعد وفاتهما بالتقرب بالطاعات عنهما.

للمطالعة

العديلة عند الموت

يعني العدول من الحقّ إلى الباطل في وقت الموت، وذلك أن يحضر الشيطان عند المحتضر، ويوسوس له حتّى يوقعه في الشكّ، فيخرجه من الإيمان. و لذا ورد في الأدعية الاستعاذة منها. و قال فخر المحقّقين رحمة الله: فإذا أراد الإنسان أن يسلم من هذه الأشياء فليستحضر أدلّة الإيمان والأصول الخمس بالأدلّة القطعيّة و يصفي خاطره، ويخلّي سرّه، فيحصل له يقين تامّ، فيقول عند ذلك: «اللّهم يا أرحم الراحمين إنّي قد

ص: 15

أودعتك يقيني هذا وثبات ديني وأنت خير مستودع وقد أمرتنا بحفظ الودائع فردّه عليّ وقت حضور موتي» ثمّ يخزي الشيطان ويتعوّذ منه بالرحمن، ويودع ذلك الله ويسأله أن يردّه عليه وقت حضور موته. فعند ذلك يسلم من العديلة عند الموت قطعاً». فعلى طبق رأي هذا الأجل فإنّ قراءة دعاء العديلة المعروف و استحضار معناه في الذهن نافع للحفظ من خطر العديلة عند الموت.

وروى الشيخ الطوسيّ رحمة الله عن محمد بن سليمان الديلميّ قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام فقلت له: جعلت فداك إنّ شيعتك تقول إنّ الإيمان مستقرّ و مستودع فعلّمني شيئاً إذا أنا قلته استكملت الإيمان. قال علیه السلام : قل في دبر كلّ صلاة فريضة: «رضيت بالله ربّاً و بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم نبيّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن كتاباً وبالكعبة قبلة وبعليٍّ ولياً وإماماً و بالحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمد و موسى بن جعفر و علي بن موسى و محمّد بن عليّ وعليّ بن محمّد و الحسن بن عليّ والحجّة بن الحسن صلوات الله عليهم أئمّة، اللّهمّ إنّي رضيت بهم أئمّة فارضني لهم إنّك على كلّ شئ قدير». ومن الأمور النافعة لهذه العقبة: المواظبة على أوقات الصلوات الفريضة. ففي الحديث أنّ ملك الموت قال: « ... إنّه ليس في شرقها ولا في غربها أهل بيت مدر ولا وبر إلّا وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرّات. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّما يتصفّحهم في مواقيت الصلاة، فإنّ كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقّنه شهادة أن لا إله إلّا الله و محمّداً رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ونحّى عنه ملكُ الموت إبليسَ».

كتاب منازل الآخرة، الشيخ عبّاس القميّ، ص 116.

ص: 16

ملك الموت

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

«هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا، أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ أَ يَلِجُ (1) عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا، أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ»(2).

ص: 17


1- يدخل
2- نهج البلاغة، الخطبة 113

ص: 18

تمهيد

من أشدِّ الساعات على الإنسان هي تلك الساعة التي يحين فيها خروج روحه من هذه الدنيا، حيث يتمثَّل أمامه ملك الموت ليقبض هذه الروح، وكلَّما اشتدَّ تعلّق الإنسان بهذه الدنيا كلَّما اشتدَّت عليه ساعة الموت، و ذلك لما يراه من عظيم فراقه لهذه الدنيا؛ فقد ورد في الرواية عن الإمام زين العابدينَ علیه السلام : «أشدّ ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، و الساعة التي يقوم فيها من قبره، و الساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك و تعالى»(1).

إِنّ شدّة تعلّق الإنسان بهذه الدنيا تجعله يرى في فراقها فراقاً للراحة والهدوء إلى العذاب الأليم، وأمّا المؤمن الذي لم يتعلَّق بهذه الدنيا فإنَّه سوف يراها خلاصاً و انتقالاً إلى عالم الراحة و السكينة، ففي الرواية عن الإمام زين العابدينَ علیه السلام - لما سُئِلَ عن الموت -: «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفكّ قيود و أغلال ثقيلة، و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، و النقل عن منازل أنيسة، و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها، و أوحش المنازل، و أعظم العذاب» (2).

1 - موقفان والخيار بيدك!

تتحدَّث الروايات الواردة عن أهل بيت النبوّة علیهم السلام عن أحد موقفين لا بدّ وأن يمرّ بهما الإنسان في لحظات معاينة ملك الموت، صورة حسنة جميلة و صورة قبيحة مؤلِمَة، و اختيار أيّ الصورتين هو بيد هذا الإنسان، فهو الذي يحدِّد الصورة التي يرغب أن يتلقَّاه ملك الموت بها.

ص: 19


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 6 ص 159
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 6 ص 155

أ - الأوّل: موت المؤمن

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1).

تتحدَّث الآية عن صورة الملائكة التي يُوكَل إليها قبض روح الإنسان المؤمن، فتدخل الملائكة الموكَلة بقبض الروح وهي أعوان ملك الموت، فتبدأ على الإنسان بالسلام، و سلام الملائكة طمأنينة لهذا الإنسان، وتبشيراً له بالجنَّة.

فقد ورد في الروايات في وصف صورة ملك الموت، إذا جاء ليقبض روح المؤمن بأنّها صورة جميلة يتمنّاها الإنسان لما فيها من لقاء الله عزّ وجلّ.

فعن النبيّ (2): «إنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقفَ العبد الذليل من المولى، فيقوم وأصحابه لا يدنو (ن) منه حتّى يبدأه بالتسليم و يبشّره بالجنّة» (3).

و عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - و قد نظر إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار -: «يا ملك الموت! ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن، فقال ملك الموت: طب نفساً وقرّ عيناً، و اعلم أنّي بكلّ مؤمن رفيق، و اعلم يا محمد، أنّي لأقبض روح ابن آدم، فإذا صرخ صارخٌ من أهله، قمت في الدار و معي روحه، فقلت: ما هذا الصارخ؟! والله ما ظلمناه، ولا سبقنا أجله، ولا استعجلنا قدره، وما لنا في قبضه من ذنب، وإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا، و إن تحزنوا وتسخطوا تأثموا وتؤزروا» (4).

نعم، من الطبيعيّ أن ينقبض الإنسان عندما يعلم بحلول أجله، و لكن من النعم الإلهيّة ما يسلّيه بل يجعله في غاية الشوق للانتقال إلى ذلك العالم، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام - لمَّا سُئل هل يُكره المؤمن على قبض روحه؟ -: «لا و الله، إنّه إذا أتاه ملك الموت

ص: 20


1-
2- سورة النحل، الآية.32
3- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 136
4- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 1 ص 170

لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع، فوالّذي بعث محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم لأنا أبرّ بك و أشفَق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويمثل له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريّتهم علیهم السلام، فيقال له: هذا رسول الله و ... رفقاؤك ... فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي» (1)

إنَّها لحظة تنقلب إلى تمنٍّ بقبض هذه الروح، فهو ينتقل من الدنيا التي هي سجن لهذا المؤمن، إلى عام أرحب و أوسع، فيه لقاء الله، ومحبّة الله، ورضوان الله.

ب - الثاني: موت الكافر

قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) (2).

إنّها صورة بشعة تتلقَّى فيها الملائكة الكافر و العاصي، عندما تقوم بقبض روحه، إنّها تقوم بضربه من كلِّ جانب، فهي تضربه من وجهه، فإذا أراد الهروب بدأت بضربه على دابره.

وورد عن سول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وصفه لموت الكافر: «وإن كان لأوليائنا معادياً، ولأعدائنا موالياً، ولأضدادنا بألقابنا ملقباً» (3)، فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه، مثل الله عزّ وجلّ لذلك الفاجر سادته الذين اتخذهم أرباباً من دون الله، عليهم من أنواع العذاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، ولا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به. فيقول له ملك الموت: يا أيّها الفاجر الكافر تركت أولياء الله إلى أعدائه، فاليوم لا يغنون عنك شيئاً، ولا تجد إلى مناص سبيلاً، فيرد عليه من العذاب ما لو قسم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم» (4).

2. التولِّي والتبرِّي مفتاح الاختيار

إذا كان اختيار الإنسان هو المعيار في تحديد واحدة من هاتين الصورتين، فما

ص: 21


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 128
2- سورة محمد، الآية 27
3- أي كان يصف أعداءنا - فيواليهم ويقدسهم
4- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 6 ص 175

هو طريق الاختيار؟ تتحدَّث العديد من الروايات أنّ المعيار في ذلك هو من يتولّاه هذا الإنسان، فإن كان موالياً لأولياء الله، استقبله ملك الموت بصورة حسنة، و إن كان موالياً لأعداء الله، استقبله ملك الموت بصورة بشعة قبيحة. لكن، ما هو التولّي و ما هو التبري؟

التولّي يعني الطاعة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (1).

إنّ طاعة أولياء الله عزّ وجلّ فرض فرضه الله سبحانه و تعالى لأنّه مفتاح و باب لطاعته، و لذا ورد عن أبي جعفرَ علیه السلام قال: «بُنيَ الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم و الولاية، قال زرارة: فقلت: و أيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنّها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهنّ» (2)

وعن أبي جعفر علیه السلام قال: «ذروة الأمر و سنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته، ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (3).

و يتحدّث الإمام الصادقَ علیه السلام في رواية أخرى عن حقيقة الشيعة، و عن صفاتهم والتي تتمثل بطاعة الله عزّ وجلّ، فيقول علیه السلام : يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، و ما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، و كثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران، من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، و كانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة،

ص: 22


1- سورة النساء، الآية 59
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 18
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 186

فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً و أتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك ذلك فعّالاً؟ فلوقال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خير من عليّ علیه السلام ثمّ لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ (وأكرمهم عليه) أتقاهم و أعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، و ما معنا براءة من النار، و لا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع» (1)

طاعة الولي الفقيه من طاعة الائمّة

أمَّا في عصر الغيبة، فقد نصَّب الأئمة علیم السلام الفقهاء من بعدهم نوّاباً لهم، فطاعة الفقهاء هي من طاعة الأئمة @ الا فقد ورد في الرواية عن الإمام صاحب العصر عجل الله تعالی فرجه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» (2).

فالإنسان الذي يعيش مسؤوليّة العمل بالتكليف الإلهيّ، ويحمل همّ النجاة في يوم القيامة، عليه أن يُظهر ذلك في سلوكه بالتزامه بطاعة وليّ الأمر، و أن يعلم أنّه بذلك يصل إلى رضا صاحب العصر و الزمان عجل الله تعالی فرجه عنه، و حضوره لحظات احتضاره ليأنس بلقائه، فيخفّف عنه ألم الاحتضار.

ص: 23


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 75
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 ص 140

المفاهیم الأساس

1. الترغيب بلحظات الموت الذي لا مفرّ منة بالنسبة للمؤمنين.

2. الترهيب من لحظات الموت للعصاة و الكافرين.

3. ارتباط كيفيّة نزع الروح بعمل الإنسان في هذه الدنيا.

4. بيان أثر الولاية لأولياء الله و معاداة أعداء الله في الثبات في لحظات الموت.

للمطالعة

ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه منازل الآخرة ما ينفع في تجاوز هذه العقبة من عقبات الآخرة فذكر:

- المواظبة على أوقات الصلوات الفريضة. ففي الحديث أنّ ملك الموت قال: « ... إنّه ليس في شرقها و لا في غربها أهل بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إِلَّا و أنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرات، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّما يتصفّحهم في مواقيت الصلاة، فإن كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقّنه شهادة أن لا إله إلّا الله محمداً رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، ونحّى عنه ملكُ الموت إبليسَ».

- وروي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه كتب إلى بعض الناس:

«إن أردتَ أن يُختَمَ بخير عَمَلُكَ حتّى تُقبَض و أنت في أفضل الأعمال، فعظم لله حقّه؛

ص: 24

أن تبذل نِعَمه في معاصيه، وأن تَغتَرُّ بعلمه عنك، و أكرم كلَّ مَن وجدته يذكرنا أو ينتحل مودّتنا، ثمَّ ليس عليك، صادقاً كان أو كاذباً؛ إنّما لك نيّتك، وعليه كذبه».

يقول الفقير: و من النافع لحصول حسن العاقبة و الوصول من الشقاوة إلى السعادة: قراءة الدعاء الحادي عشر من الصحيفة الكاملة: «يا مَن ذكره شرف للذاكرين ... الخ»

و المداومة على هذا الذكر الشريف: «ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب».

و المواظبة على تسبيح الزهراء علیها سلام. والتختّم بخاتم عقيق، و بالخصوص إذا كتب عليه «محمد نبي الله وعليّ وليّ الله».

منازل الآخرة، الشيخ عباس القمي، ص 119

ص: 25

ص: 26

وحشة القبر

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ (1) مِنْهَا. فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا وَ اتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً (2) وَ أُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ (3) فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ (4) أَجْنَانٌ (5) وَ مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ الرُّفَاتِ (6) جِيرَانٌ فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً وَ لَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً إِنْ جِيدُوا (7) لَمْ يَفْرَحُوا وَ إِنْ قُحِطُوا (8) لَمْ يَقْنَطُوا جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ لَا

ص: 27


1- الخوف
2- أي أنهم محمولون على أكتاف الرجال مع أنهم لا يطلق عليهم أنهم ركبان، لأنّهم أموات ...
3- القبور
4- الحجارة
5- جمع جنين هو هنا القبر
6- العظام البالية لسائر الناس
7- جادت عليهم السماء بالمطر
8- إذا أصابهم الجدب لم ييأسوا

يَتَزَاوَرُونَ وَ قَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ (1) وَ جُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ وَ لَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِين (2).(3)

ص: 28


1- الأحقاد
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 111. في ذمّ الدنيا
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 6 ص 242

لا اختلاف و لا تمييز!

القبر هو أوّل منزل من منازل الآخرة، فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنّ القبر أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده ليس أقلّ منه» (1).

تختلف معيشة الناس في هذه الدنيا، فأصحاب الأموال يعيشون في القصور، والفقراء يعيشون في الأكواخ، وأصحاب الأموال يملكون أفخر الأساس وأفخر الثياب، و الفقراء لا يملكون كلّ ما يحتاجون إليه، بل يعيشون الحرمان، وهكذا تتفاوت أحوال الناس في بيوتهم في هذه الدنيا.

فإذا حلُّ الموت بهذا الإنسان، فإنّ مصيره واحد، ومنزله واحد، سواء أكان يعيش في قصر أم في كوخ، فهو إلى حفرة، متّحدة في الحجم، وفي الشكل وفي الأثاث.

فالكلُّ محمول إلى ذلك المكان على الأكتاف، ولكن دون اختيار منه لذلك، بل أمره لأهله و قرابته والناس من حوله.

و الكلُّ يُوضَع في حفرة واحدة، ذات حجم واحد، حيطانها حجار من نوع واحد، أرضها تراب، ثيابه أكفان، وهذه الأكفان هي التراب، لأنّ القماش سيبلى.

جيران الأجساد الجدد، عظام بالية، لأشخاص دفنوا منذ زمن، قد يكون أخاً أو أباً أو عمّاً أو غيرهم.

كلّ ما يحدث في هذه الدنيا لا يؤثر عليهم، أَنْزَلَ المطر أم أصيب الناس بالقحط.

ورد في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وصف القبر: «لم يأت على القبر يوم إلّا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، و أنا بيت الوحدة، و أنا بيت التراب، و أنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا و أهلا ... و إذا دفن العبد الفاجر أو الكافر فقال له القبر: لا مرحباً و لا أهلاً» (2).

ص: 29


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 6 ص 242
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 242

دار الغربة، دار الوحشة

نطلق على من يعيش بعيداً عن أهل و وطنه، أنّه غريب، و لكن هل تُقاس هذه الغربة بغربة الإنسان في قبره، نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين علیه السلام : «و تحنَّن عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليَّ منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حفرتي، و ارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتّى لا أستأنس بغيرك» (1)

و لمدى صعوبة وحشة القبر هذه وردت الروايات بأن لا ينقل الميت إلى قبره دفعةً واحدة، بل ينقل على دفعات، فإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأنّ للقبر أهوالاً عظيمة. و يتعوّذ حامله بالله من هول المطلع. و يضعه قرب شفير القبر. و يصبر عليه هنيئةً ثمّ يقدّمه قليلاً، و يصبر عليه هنيئة، ليأخذ أهبّته، ثمّ يقدّمه إلى شفير القبر (2)

طريق الخلاص: العمل الصالح

إنَّ كلّ عقبة من عقبات الآخرة، ترتبط بشخصيّة الإنسان وسلوكه في هذه الدنيا، و طريق الخلاص من هذه العقبات مرتبط بما يقوم به الإنسان في هذه الدنيا.

و من الأسباب الموجبة للخلاص من وحشة القبر و من ضغطة القبر العمل الصالح.

فالعمل هو الرفيق الذي يبقى مع الإنسان في قبره إلى يوم القيامة، لا يفارقه و لا يتخلّى عنه، فإن كان صالحاً كان صديقاً يشعر الإنسان بالسعادة لصحبته، و إن كان طالحاً فاسداً، كان صديقاً سيئاً ينغّص على الإنسان سفره.

ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - لقيس بن عاصم وهو يعظه -: «إنّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك و هو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، و إن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، و لا تبعث إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك» (3)

ص: 30


1- مصباح المتهجد - الشيخ الطوسي - ص 593
2- منازل الآخرة والمطالب الفاخرة - الشيخ عبّاس القمي - ص 128
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 7 ص 229

فالإنسان في هذه الدنيا يعمل و يكّد ويشقى ويبذل كلّ طاقته في ثلاث: المال، الأهل والعمل، و لكنّ الذي يرافقه إلى قبره هو الأخير فقط، و أمّا المال والأهل فتتخلّى عنه.

فقد ورد في الرواية عن رسول الله: «إنّما مثل أحدكم ومثل ماله وأهله وولده و عمله؛ كمثل رجل له ثلاثة إخوة، فلمّا حضرته الوفاة دعا إخوته فقال: إنّه قد نزل بي من الأمر ما ترى فما لي عندك وما لي لديك؟ فقال: «لك عندي أن أمرضك ولا أزيلك وأن أقوم بشأنك، فإذا متّ غسّلتك وكفّنتك وحملتك مع الحاملين، أحملك طوراً وأميط عنك طوراً، فإذا رجعت أثنيت عليك بخير عند من يسألني عنك، هذا أخوه الذي هو أهله فما ترونه؟ قالوا: لا نسمع طائلاً يا رسول الله! ثمّ يقول لأخيه الآخر أترى ما قد نزل بي فما لي لديك وما لي عندك؟ فيقول «ليس لك عندي غناء إلّا وأنت في الأحياء، فإذا متّ ذهب بك في مذهب وذهب بي في مذهب، هذا أخوه الذي هو ماله كيف ترونه؟ قالوا: لا نسمع طائلاً يا رسول الله! ثمّ يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي وما ردّ عليّ أهلي ومالي فما لي عندك وما لي لديك؟ فيقول: «أنا صاحبك في لحدك و أنيسك في وحشتك، وأقعد يوم الوزن في ميزانك فأثقل ميزانك» هذا أخوه الذي هو عمله كيف ترونه؟ قالوا: خير أخ وخير صاحب» (1).

سوء الخلق، مفسد للعمل

ورد انّ سعد بن معاذ وهو من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم توفّي، فمشى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في جنازته دون حذاء أو رداء، ونزل في قبره، وسجّاه في لح___ده، واهتم به، فلمّا رأت أمّ سعد ذلك قالت: يا سعد، هنيئاً لك الجنّة. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «يا أمّ سعد مه، لا تجزمي على ربّك، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة. و لمّا سئل رسول الله عن ذلك قال

ص: 31


1- كنز العمال - المتقي الهندي - ج ١٥ ص ٠٧٥

نعم، إنّه كان في خلقه مع أهله سوء» (1)

إنّ هذا الرجل على الرغم من إيمانه وصلاحه، والإكرام الذي ناله من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لكنّ ذلك كلّه لم يخفّف عنه وحشة القبر وضغطته، وذلك لأنّه كان مبتلى بسوء الخلق مع أهله.

و سوء الخلق موجب لفساد العمل، ففي الرواية عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل» (2)

حسن الخلق، كفّارة الذنوب

وفي المقابل، فإنّ ثمرة حسن الخلق تظهر في التكفير عن الذنوب، وبهذا يتخلّص الإنسان من رفيق سيّء كان سيثقل عليه صحبته و رفقته في قبره، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد.» (3).

وحسن الخلق هو الوجه الذي يُقدم الإنسان به على الله عزّ وجلّ و هو في غاية الفرح والسرور، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه» (4)

ص: 32


1- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص ٤٦٨
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 321
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ١٤ ص ٤٦٤
4- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٦٨ ص ٣٧٥

المفاهيم الأساس

الاختلاف بين الناس في نوع العيش قائم في هذه الدنيا، وأمّا في القبر فالمنزل واحد للناس كافّة.

٢. وحشة القبر لا مفرّ منها، وصعوبتها ترتبط بمدى تعلّق الإنسان بهذه الدنيا.

3. أفضل رفيق للإنسان في القبر هو العمل الصالح.

٤. حسن الخلق ضروريّ، فهو باب من أبواب النجاة من أهوال يوم القيامة والفوز بالجنّة.

للمطالعة

روي: أنَّ فاطمة علیها سلام لما احتضرت أوصت عليّاً علیه السلام فقالت: «إذا أنا مت فتولَّ الله أنت غسلي وجهّزني، وصلّ عليَّ وأنزلني قبري وألحدني، وسوِّ التراب عليّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي، فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء فإنّها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء».

ص: 33

صلاة ليلة الدفن

وروى السيّد ابن طاووس رحمه الله عن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: «لا يأتي على الميت ساعة أشدّ من أوّل ليلة فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرّة، وقل هو الله أحد مرّتين، وفي الثانية فاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرّات وسلّم ويقول:

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلى قبر ذلك الميت فلان بن فلان، فيبعث الله مِن ساعته ألف ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب وحلّة، ويوسّع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويعطى المصلّي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات، و يرفع له أربعون درجة.

صلاة أخرى

يصلّى لرفع وحشة الليلة الاولى في القبر ركعتين، يقرأ في الركعة الأولى الحمد وآية الكرسي، ويقرأ في الركعة الثانية الحمد وإنّا أنزلناه عشر مرّات، فإذا سلّم يقول: «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلى قبر فلان»، ويذكر اسم الميت عوضاً عن «فلان».

ص: 34

سؤال القبر

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً (1) وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً (2)، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ (3) وَصَبٍ (4) وَ نِضْوَ (5) سَقَمٍ تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ (6) وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ، حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ (7) السُّؤَالِ وَ عَثْرَةِ (8) الِامْتِحَانِ (9)

ص: 35


1- متحيراً ويائساً
2- طائعا سهلا
3- الكال، المتعب
4- المرض والألم
5- الهزيل والمراد من هذه الجملة أنه يلقى في النعش كليلا متعبا هزيلاً قد أخذ المرض منه حتّى صيّره رمة بالية وهيكلاً خاوياً.
6- حال الميت في قبره حيث لا يزوره أحد
7- الحيرة
8- السقطة
9- نهج البلاغة الخطبة، ٨٣

ص: 36

سؤال ولا مفرّ من الجواب!

بعد أن يوضع الإنسان في القبر، ويُهال عليه التراب وينقطع عنه الناس. تعود إليه الروح من جديد، و يستنطق بالسؤال، ففي الرواية عن الإمام زين العابدين علیه السلام : «كأن قد أوفيت أجلك، و قبض الملك روحك، و صرت إلى منزل وحيداً، فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك منكر و نكير لمساءلتك، وشديد امتحانك» (1)

و أمّا الأسئلة التي يوجّهها له الملكان (منكر ونكير) فهي:

أ. مَن ربِّك؟ ومَن نبيّك؟ وما دينك؟

ب. كيف كان عملك في هذه الدنيا؟

ففي الرواية عن الإمام زين العابدين علیه السلام : «ألا و إنّ أوّل ما يسألانك؛ عن ربّك الذي كنت تعبده، و عن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، و عن إمامك الذي كنت تتولّاه. ثمّ عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته و فيما أتلفته، فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمسائلة والاختبار»(2)

النتيجة طبقاً للجواب

فإذا كان الجواب صحيحاً، ولا طريق للكذب هناك، فنتيجة ذلك نعيم مقيم إلى قيام الساعة، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق: إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا ادخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: ربّي الله، ومحمد نبيّي، والإسلام ديني،

ص: 37


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٣ ص ٢٤٧٩
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج ٨ ص ٧٣

فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويأتيانه بالطعام من الجنّة و يدخلان عليه الروح والريحان» (1).

و أما إذا كان الجواب خاطئاً، فإنّ المصير كما ورد في الرواية عن الإمام الرضا علیه السلام:- بعد موت ابن أبي حمزة البطائني -: «إنّه أقعد في قبره فسئل عن الأئمّة فأخبر بأسمائهم حتّى انتهى إليّ فسئل فوقف، فضُرب على رأسه ضربة امتلأ قبره ناراً» (2).

صورة منكر و نكير

لا شكّ في أنّ لحظات السؤال سوف تكون صعبة للغاية على من لم يتهيّأ للجواب في هذه الدنيا، وسوف تكون سهلة يسيرة لمن كان حاضر الجواب في هذه الدنيا، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علیه السلام : «فإذا أُدخل قبره أتاه ملكان و هما فتّانا القبر، يجران أشعارهما، ويبحثان الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك و من نبيّك و ما دينك؟ فيقول: الله ربّي، ومحمّد نبيّي، و الإسلام ديني، فيقولان: ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى، وهو قول الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويفتحان له باباً إلى الجنّة، ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، وهو قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). و أنتنه ريحاً، فيقول له: أبشر بنزل من حميم، وتصلية جحيم، وإنّه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا دخل قبره أتياه ممتحناً القبر فألقيا عنه أكفانه، ثم قالا له: من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري! فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبة (3) ضربة ما خلق الله دابة إلّا وتذعر لها ما خلا الثقلين (4)، ثمّ

ص: 38


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 6، ص222
2- م. ن، ج 6، ص ٢٤٢
3- مطرقة من حديد
4- الإنس والجن

يفتحان له باباً إلى النار، ثمّ يقولان له: نم بشرّ حال. فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج حتّى أن دماغه يخرج». (1)

الصلاة باب لحضور الجواب

ليس حسن اللسان والتعلّم على أساليب الكلام هو الذي يجعل الجواب حاضراً عند سؤال القبر، فإنّ ذلك العالم عالم الحقائق و الواقع، لا مجال فيه للاحتيال و الفرار، بل الذي ينفع الإنسان في ذلك اليوم هو العمل الذي أدّاه في هذه الدنيا، وأهمّ تلك الأعمال هي الصلاة، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه» (2).

إنّ الصلاة التي هي عمود الدين، وهي معيار قبول سائر الأعمال، لا بدّ وأن تكون أوّل ما يسأل عنه العبد، فقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر علیه السلام: «إنّ أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل ما سواها» (3).

الصلاة المثمرة

لم يشّرع الله عزّ وجلّ الصلاة إلّا لحكمة ومصلحة، والله غنيّ عن العالمين، فالمصلحة ترجع إلى العباد، وثمرة الصلاة ترجع إلى صلاح آخرة عباد الله، وهي إنّما تؤتي ثمارها إذا قام بها العبد على وجهها، بأن حافظ على باطنها كما يحافظ على ظاهرها، فكما يهمّك أن تأتي بالصلاة وأن لا تتخلّف عن أدائها، عليك أن تهتمّ بالإتيان بها على ما أراده الله عزّ وجلّ، بأن تستحضر قلبك في هذه الصلاة، و ذلك بالانصراف عن التفكير في الأمور الدنيويّة أثناء الصلاة، لتفكّر في ما أخبر عنه الإمام

ص: 39


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٦ ص ٢٢٦
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص ٢٤٨٠
3- م.ن، ص ١٦٣٠

الرضا علیه السلام من علّة تشريع الصلاة، حيث يقول علیه السلام : «إنّها إقرار بالربوبيّة لله عزّ و جلّ وخلع الأنداد، وقيام بين يدَيّ الجبار جلّ جلاله بالذلّ والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم خمس مرّات إعظاماً لله عزّ وجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ و لا بطر، ويكون خاشعاً متذلّلاً راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا، مع ما فيه من الإنزجار و المداومة على ذكر الله عزّ وجلّ بالليل والنهار، لئلّا ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه فيبطر و يطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً من أنواع الفساد» (1).

فالصلاة التي لا يُقبل بها الإنسان بقلبه إلى الله عزّ وجلّ قد تسقط الواجب عنه، فلا يحاسب على تركها ولكنّها لن تكون شافعة له عند سؤال منكر ونكير، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام : «يا كميل! ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فُعلت بقلب نقيّ، وعمل عند الله مرضيّ، وخشوع سويّ»(2)

ويذكر الإمام الخميني أهمية حضور القلب في الصلاة فيقول:

«هو أن يعمد الإنسان إلى السعي لمعالجة النفس، وأن يشدَّ أحزمة العزم لاستحصال - في الأقلّ - بعض مراتب حضور القلب، التي تسقط العبادات عن درجة الاعتبار من دونها، ولا تحظى بقبول الحضرة المقدّسة ... و تجدر معرفة أنّ منشأ حضور القلب في عمل من الأعمال، و علّة إقبال النفس عليه وتوجّهها إليه هو أن يتلقّى ذاك العمل بالتعظيم ويراه من المهمّات» (3).

ص: 40


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ص ١٦٣١
2- م.ن، ص ١٦٣٢
3- سرّ الصلاة، الإمام الخميني، ص ٦٣، دار التعارف

المفاهيم الأساس

1. جواب الإنسان في القبر تابع لما كان يعتقده الإنسان في هذه الدنيا، وهذا يبرز لنا أهميّة تعلم أصول الدين.

2. صورة الملكان (منكر ونكير) تابعة لعمل الإنسان في هذه الدنيا، فإن كان عملاً صالحاً كانت صورتهما حسنة، وإلّا كانت صورة منكرة.

٣. الصلاة من الأعمال الموجبة لحضور الجواب عند سؤال الملكان، وقيمة الصلاة بمقدار حضور القلب عند أدائها.

للمطالعة

عن احدهما علیهم السلام - يعني الإمام الصادق أو الإمام الباقر قال:

«إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّة صور، فيهن صورة أحسنهنّ وجهاً، وأبهاهنّ هيئة، وأطيبهنَّ ريحاً، وأنظفهنّ صورة.

قال: فتقف صورة عن يمينه وأخرى عن يساره وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجله.

وتقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه.

فإن أوتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست.

ص: 41

قال: فتقول أحسنهنّ صورة: و من أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟

فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة.

وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة.

وتقول التي بين يديه: أنا الصيام.

وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة.

وتقول التي عند رجليه: أنا برّ مَن وصلت من إخوانك.

ثمّ يقلن: مَن أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً، وأبهاناً هيئة.

فتقول: أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين».

* وروى الصدوق في فضل صيام شعبان:

ومَن صام تسعة أيّام من شعبان عطف عليه منكر و نكير عندما يسألانه».

* وورد عن الإمام الباقر علیه السلام : في إحياء ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان و صلاة مائة ركعة فيها فضل كثير فمن جملته: «و دفع عنه هول منكر ونكير وخرج من قبره و نوره يتلألأ لأهل الجمع».

إنّ من خواص تربة النجف الطاهرة إنّها تسقط حساب منكر ونكير عمّن يدفن فيها.

منازل الآخرة، الشيخ عبّاس القمي، ص ١٥٤.

ص: 42

البرزخ

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ (1) وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ (2). الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ وَ حَلَبَاتُ (3) الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَ سُوَقاً (4) سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ وَ ضِمَاراً (5) لَا يُوجَدُونَ. لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ (6) وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ وَ لَا يَحْفِلُونَ (7) بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ (8) لِلْقَوَاصِفِ (9)، غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا (10) وَ آلَافاً فَافْتَرَقُوا؛ وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ

ص: 43


1- المتقدّمون والسابقون منكم، أي الأجداد والآباء
2- فراط مناهلكم: أي الذين وردوا إلى الموت قبلكم
3- ساحات
4- رعيّة
5- لا يرجى رجوعهم
6- المخاوف
7- لا يهتمون
8- لا يستمعون متعجّبين
9- الشدائد
10- افترقوا

سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ (1) صَرْعَى سُبَاتٍ جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ. بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ (2) وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ (3) لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ (4) ظَعَنُوا (5) فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا. (6)

ص: 44


1- ارتجال الصفة: أفضل وصف لهم دون تفكير وتأمل أنهم وقعوا على الأرض في حالة نوم
2- بليت بينهم عرى التعارف: انقطعت العلاقة بينهم
3- الأخلاء: الأصدقاء
4- الجديدان: الليل والنهار
5- ظعنوا: رحلوا
6- نهج البلاغة، الخطبة، 221

عالم البرزخ

البرزخ لغةً الحاجز، والمراد هنا هو المرحلة الممتدّة من الموت إلى البعث والنشور وقيام القيامة. قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (1).

وعالم البرزخ هذا هو عالم اجتماع الأرواح، فالأرواح المؤمنة تجتمع وتلتقي في نعيم ورحمة من الله، بل إنّها تنتظر ما يقدم عليها من أرواح لتسأله الخبر عمّن هم في هذه الدنيا، وبذلك يعرفون أنّه ما زال حياً أو هوى في الجحيم، فقد ورد في الرواية عن أبي الله علیه السلام أنّه قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنّة، تسائل وتعارف، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنّها قد أقبلت من هول عظيم، ثمّ يسألونها ما فعل فلان وما فعل فلان، فإن قالت لهم: تركته حيّاً، ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى» (2)

وادي السلام

و أمّا مكان اجتماع أرواح المؤمنين فهو، وكما ورد في الروايات وادي السلام في النجف الأشرف، ففي الرواية عن أبي عبد الله علیه السلام - لمّا قيل له إنّ أخي ببغداد و أخاف أن يموت به - افقال: «ما تبالي حيث مات، أما أنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض ولا غربها إلّا حشر الله روحه إلى وادي السلام، فقلت له: وأين وادي السلام؟ قال ظهر الكوفة، أما كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون» (3).

ص: 45


1- سورة المؤمنون: الآية 100
2- الفصول المهمّة في أصول الأئمّة - الحرّ العاملي - ج 1 ص 330
3- م.ن، ص 329

وادي برهوت

وأمّا أرواح الكفار، فإنّها تعيش العذاب الأليم في عالم البرزخ، وهي تجتمع في مكانٍ واحد لتتلقّى العذاب. ففي الرواية عن الإمام الباقر علیه السلام : «إنّ لله ناراً في المشرق، خلقها الله ليسكنها أرواح الكفار، و يأكلون من زقّومها ويشربون من حميمها ليلهم، فإذا طلع الفجر هاجت إلى وادٍ باليمن، يقال له: برهوت، أشدّ حرّاً من نيران بئر الدنيا فكانوا فيه يتلاقون ويتعارفون، فإذا كان المساء عادوا إلى النار إلى يوم القيامة» (1).

و رغم هذا العذاب الذي يلقونه، فإنّهم يدركون أنّ ما سيصيبهم من العذاب في القيامة أشدّ ممّا هم فيه، فلذا يطلبون من الله أن يطيل الله عليهم حياة البرزخ، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام - في أرواح الكفار -: «في حجرات في النار، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويتزاورون فيها، ويقولون: ربّنا لا تقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا» (2).

إيّاك و الغيبة

إنّ لكلّ ذنب من الذنوب صورته التي يكون عليها فاعله في عالم البرزخ والغيبة هي من كبائر الذنوب التي ورد في الروايات التحذير منها، و أمّا الصورة التي يكون عليها مرتكبها كما ورد في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم» (3).

هذه هي صورة مرتكب الغيبة في البرزخ، فليتدبّر الإنسان في هذه العاقبة التي يصل إليها لو أنّه فرّط في مراعاة ذلك في الدنيا، فسرور ساعة في هذه الدنيا باستغابة إنسان يورث ندامة لا تقاس بها كلّ أفراح الدنيا.

ص: 46


1- م، ن، ص 339
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ ص ٢٥٣
3- م. ن. ج 3 ص 2328

علاج الغيبة

كيف يعالج الإنسان حالة الغيبة؟ وهي أمر يُبتلى به الإنسان في مجالس متعدّدة، وفي كل يوم؟

أوّلاً: على الإنسان أن يستحضر الإنسان دائماً خطورة هذا الذنب، وذلك باستحضار ما تقدّم من الصورة البرزخيّة له، مضافاً إلى أن يتصوّر الإنسان نفسه في مكان ذلك الشخص الغائب الذي يتناوله بالحديث وذكر عيوبه، فهل يرضى لنفسه ذلك؟

ألست إنساناً كذلك الذي تستغيبه، وما يمنع من وقوعك فيما وقع فيه، حتّى تقوم بذكر عيوبه، إنّ أفضل رادع لك عن الغيبة أن تتذكّر أنّك قد تقع في نفس ذلك العيب، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام - في النهي عن غيبة الناس -: «و إنّما ينبغي لأهل العصمة و المصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم، والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيّره ببلواه؟! أمّا ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذنب الذي عابه به؟! وكيف يذمّه بذنب قد ركب مثله؟! فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه ممّا هو أعظم منه، وأيم الله! لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير، لجرأته على عيب الناس أكبر!» (1).

ثانياً: الغيبة من حقوق الناس، ولا شكّ في أنّ حقوق الناس ترتبط بهم، فإذا وقّعت في الغيبة فإنّك تجعل في عنقك حقّاً لمن اغتبته، وهذا لا تتخلّص منه بمجرّد الاستغفار والتوبة، بل إنّ خروجك من هذا الذنب يتوقّف على أن يعفو هو عنك و يصفح هو عن حقّه، وإلّا فإنّك مطالب بهذا الحقّ في يوم القيامة، ولذا كانت الغيبة من أشدّ الذنوب، ففي الرواية عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «الغيبة أشدّ من الزنا قيل: وكيف؟ قال: الرجل يزني ثمّ يتوب فيتوب الله عليه، و إنّ صاحب الغيبة لا يُغفر له حتّى يَغفر له صاحبه» (2).

ص: 47


1- م.ن، ص 2329
2- م.ن، ص 2329

تاثير الغيبة على الطاعات

إنّ بعض العبادات اليوميّة التي يقوم بها الإنسان و يلتزم بها كالصلاة، لا يمكن أن تؤثّر أثرها على نفس الإنسان، لتجعله مستحقّاً للثواب الإلهيّ الموعود إذا كان مبتلى بالغيبة، فقد ورد في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلّا أن يغفر له صاحبه» (1).

نعم قد تجهد نفسك في المستحبّات، وفي ظنّك أنّ هذا سينفعك في يوم القيامة، وأنّك تثقل بذلك ميزان أعمالك، وتفتح طريق الجنّة أمامك في يوم القيامة، و لكنّك ستفاجأ في يوم القيامة، بخلو كتابك من الأعمال الصالحة، حيث ينكشف لك أنّ عملك باطل بسبب غيبتك، ففي الرواية عنه صلی الله علیه و آله و سلم: «يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي! فإنّي لا أرى فيها طاعتي؟! فيقال له: إنّ ربّك لا يضلّ ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثمّ يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي! فإنّي ما عملت هذه الطاعات فيقال: لأنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسناته إليك» (2).

ص: 48


1- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 2 ص ١٦٣٦
2- م.ن، ص 2330

المفاهيم الأساس

1. عالم البرزخ هو عالم اجتماع الأرواح قاطبة.

٢. وادي السلام هو مكان اجتماع أرواح المؤمنين، حيث تعيش الفرح والسرور.

٣. وادي برهوت هو مكان اجتماع أرواح الكفار حيث تعيش العذاب الأليم.

٤. الغيبة من كبائر الذنوب وصورتها في البرزخ قوم يخمشون وجوههم بأظافرهم.

5. علاج الغيبة: أن يستحضر الإنسان خطورة الذنب.

أن يستحضر دائماً أن الخلاص منها يتوقف على أن يعفو صاحب الحقّ عن حقّه.

أن الله لا يقبل عبادة مرتكب الغيبة.

للمطالعة

روي عن رسول الله: «اهدوا لموتاكم.

فقلنا: يا رسول! وما هديّة الأموات؟

قال صلی الله علیه و آله و سلم : الصدقة والدعاء.

و عنه صلی الله علیه و آله و سلم: إنّ أرواح المؤمنين تأتي كلّ جمعة إلى السماء الدنيا بحذاء دورهم وبيوتهم، ينادي كلّ واحد منهم بصوت حزين:

ص: 49

يا أهلي ويا ولدي ويا أبي ويا أمي ويا أقربائي! اعطفوا علينا يرحمكم الله، بالذي كان في أيدينا والويل والحساب علينا والمنفعة لغيرنا.

وينادي كلّ واحد منهم إلى أقربائه: اعطفوا علينا بدرهم، أو برغيف، أو بكسوة يكسوكم الله من لباس الجنّة.

ثم بكى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وبكينا معه، فلم يستطع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أن يتكلم من كثرة بكائه. ثمّ قال: أولئك إخوانكم في الدين، فصاروا تراباً رميماً بعد السرور و النعيم فينادون بالويل و الثبور على أنفسهم، يقولون: يا ولينا لو أنفقنا ما كان في أيدينا في طاعة الله و رضائه، ما كنّا نحتاج إليكم.

فيرجعون بحسرة و ندامة، وينادون: أسرعوا صدقة الأموات».

منازل الآخرة، الشيخ عبّاس القميّ، ١٦٢.

ص: 50

6- صيحة النشور

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ (1) الْأُمُورُ وَ تَقَضَّتِ (2) الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ (3) أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ (4) الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ (5) الطُّيُورِ وَ أَوْجِرَةِ (6) السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ (7) سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ (8) رَعِيلًا (9) صُمُوتاً (10) قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ (11) وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ (12) قَدْ ضَلَّتِ

ص: 51


1- انقطعت وذهبت
2- انقضت ومضت
3- حلّ وقت البعث والحياة بعد الموت
4- الضريح هو المكان الذي يوضع فيه الميت
5- أعشاش
6- بيوت السباع
7- الأماكن التي تلقى فيها الأشياء
8- خاضعين
9- جماعات جماعات
10- ملتزمين الصمت والسكوت فلا ينطقون
11- الخضوع
12- وهن وضعف الاستسلام والذلّة والمهانة

الْحِيَلُ (1) وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً (2) وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً (3) وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ (4) وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ (5) الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ (6) وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابِ.(7)

ص: 52


1- بطلت الحيل و تعطّلت
2- مهمومة مكروبة
3- ذات صوت خفيّ
4- كناية عن وصول العرق وهو ما يفرزه الجسم إلى الفم فجعلهم في عجز عن النطق
5- اضطربت أسماع البشر لنهرة الداعي وزجرته لهم وصيحته عليهم
6- المعاوضة وأخذ ما يستحقّ
7- نهج البلاغة الخطبة 83

نفختان موت و حياة

قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (1).

تتحدث الآية بوضوح عن النفخة الأولى، التي تحلّ عندما لا يبقى أحد حيّ في هذه الدنيا، فيميت الله عزّ وجلّ الخلق جميعاً، فكل نفس ذائقة الموت.

وتأتي بعد ذلك النفخة الأخرى، حيث يقوم الناس للحساب، وقد ورد في الروايات أنّ بين النفختين زمن طويل.

موقف عسير

قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (2).

إنّه موقف عظيم، حيث يخرج الإنسان من عالم البرزخ إلى عالم القيامة، و يبدأ الحساب، إنّها لحظات يعجز اللسان عن وصفها، ويعسر على كلّ إنسان تحمّلها، ولذا وردت الروايات بأنّ هذه الساعة هي من أوحش الساعات: فعن الإمام الرضا علیه السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن أمّه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يُبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا» (3).

ص: 53


1- سورة الزمر: الآية ٦٨
2- سورة يس، الآية ٥١-٥٢-٥٣
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٦ ص ١٥٩

الدنيا دار تكليف

إنّ الذي يأمن في هذه الساعة، ويسلم من الأهوال والشدائد، هو من تمكّن من الالتزام بأوامر الله عزّ وجلّ ونواهيه في هذه الدنيا، فهذه الحياة هي دار التكليف، وأمّا الآخرة فهي دار جزاء وليست دار تكليف.

و طاعة التكاليف الإلهيّة هي حقيقة الإيمان من الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يعتبر نفسه مؤمناً، إذا لم يؤثّر اعتقاده هذا بالله عزّ وجلّ على عمله في هذه الحياة، وهذه الطاعة تتقوّم بركنين؛ الابتعاد عن المحرّمات والعمل بالواجبات، وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أصل الدين الورع، ورأسه الطاعة» (1).

الدوافع نحو الطاعة

إنّ على الإنسان إذا أراد أن يربّي نفسه على الطاعة، أن يتذكّر على الدوام الأمور التالية:

أولاً: يكفي للإنسان في التزامه بالتكاليف أن يعلم أنّ هذه التكاليف هي لمصالح ترجع إليه، والله عزّ وجلّ غنيّ عن العالمين، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علیه السلام : «خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه» (2).

ثانياً: يكفي للإنسان أن يتذكّر هول المصير الذي ينتظر العاصي لأوامر الله عزّ وجلّ، ليرتدع عن مخالفة التكليف الإلهيّ، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علیه السلام : «لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم، وسمعتم وأطعتم!» (3).

ثالثاً: إنّ كلّ ما أمر الله به فهو حسن، وكلّ ما نهى عنه فهو قبيح، ولذا عليك التسليم بأيّ تكليف إلهيّ، سواء علمت المصلحة منه أم لم تعلم، بل إنّ على الإنسان أن يعترف بعجزه عن

ص: 54


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٧٤ ص ٨٦
2- نهج البلاغة الخطبة ١٩٣
3- نهج البلاغة، من كلام له، الحكمة ١٩

معرفة المصالح التي أرادها الله عزّ وجلّ لعباده في أوامره و المفاسد التي أراد إبعادهم عنها في نواهيه.

رابعاً: لو أنّ الإنسان تأمّل قليلاً في معصية الله ومخالفة أوامره، لوجد أنّه بذلك يعصي من يحبّه ويريد له الخير، ويطيع عدوّاً لا يريد له إلّا الشرّ، فهل فكّرت يوماً أنّ كلّ معصية تعصي الله عزّ وجلّ بها، فإنّك تطيع الشيطان؟

و قد ورد عن الإمام عليّ علیه السلام - في صفة أهل الضلال -: «دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشيطان فاستجابوا و أقبلوا» (1)

الطاعة لله وللرسول ولاولي الامر

إنّ من له حقّ الطاعة هو الله عزّ وجلّ فقط، فهو خالق هذه الإنسان ومدبّره وبيده أموره كافّة، ثمّ من أمر الله عزّ وجلّ بطاعته وهم الرسول والأئمّة والفقهاء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (2).

وعن صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» (3).

ثمار الطاعة

إنّ لطاعة الله عزّ وجلّ ثمار في هذه الدنيا، تظهر جليّاً في شخصيّة الإنسان، وفي المجتمع الذي يعيش فيه، فضلاً عن الثواب الأخرويّ، والنجاة من العذاب الأبدي:

١- الوفاق وعدم الاختلاف: فإنّ الطاعة الله عزّ وجلّ و لرسوله باب لحلّ كلّ خلاف، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (4)

ص: 55


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص ١٧٥٢
2- سورة النساء، الآية ٥٩
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٢٧ ص ١٤٠
4- سورة النساء، الآية ٥٩

2 باب لمحبّة الله: عن الإمام الصادق علیه السلام: «إذا أحبّ الله تعالى عبداً ألهمه الطاعة» (1).

3. الراحة النفسيّة في العلاقة مع الناس: عن الإمام الهادي علیه السلام : «من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق» (2)

المفاهيم الأساس

1. في القيامة نفختان، نفخة إماتة ونفخة إحياء، و نفخة الإحياء، هي من المواطن المهولة و الموحشة للإنسان في يوم القيامة.

٢. الدنيا دار تكليف، و طاعة الله في هذه الدنيا هي السبب في النجاة من أهوال القيامة.

3. دوافع الطاعة: العلم بأنّ التكاليف الإلهيّة هي لمصلحة العباد، تذكّر أهوال القيامة، التسليم للتكاليف الإلهيّة.

.٤. لا طاعة إلّا لله عزّ و جلّ و لرسوله وللأئمّة وللوليّ الفقيه المنصّب من قبل الحجّة عجل الله تعالی فرجه.

ص: 56


1- بحار الأنوار، ج100، ص ٢٦
2- الكافي، الكليني، ج 1، ص138

للمطالعة

ذكر الشيخ عباس القمّي بعض ما يوجب الأمن من الفزع الأكبر في يوم القيامة فقال:

التاسع: روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق علیه السلام انّه قال:

«مَن أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده، فنفّس كربته و أعانه على نجاح حاجته، كانت له بذلك عند الله اثنتان وسبعون رحمة من الله، يجعل له منها واحدة يصلح بها معيشته، و يدّخر له إحدى وسبعين رحمة لأَفزاعِ يوم القيامة وأهواله».

يقول المؤلّف: قد رويت روايات كثيرة في ثواب قضاء حاجات الأخوة في الدين، ومن جملتها ما روي عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام أنّه قال:

«مَن مشى في حاجة أخيه المسلم أظلَّه الله بخمسة و سبعين ألف ملك، ولم يرفع قدماً إلّا كتب الله له حسنة، وحطَّ عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله عزّ وجلّ له بها أجر حاجّ ومعتمر».

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«لَقضاءُ حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجّة وحجّة وحجّة حتّى عدَّ عشر حجج».

وروي: «أنّ عابِدَ بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية من العبادة صار مشّاءً في حوائج الناس، عانياً بما يصلحهم».

وروى الشيخ الجليل شاذ ان بن جبرئيل القمّي عن الرسول الأعظم أنه رأى على الباب الثاني من الجنّة مكتوباً:

ص: 57

«لا إله إلّا الله محمّد رسول الله عليّ ولي الله، لكلّ شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال: المسح على رؤوس اليتامى، والتعطّف على الأرامل، والسعي في حوائج المسلمين، وتفقّد الفقراء والمساكين».

منازل الآخرة، الشيخ عبّاس القميّ، ص188.

ص: 58

7 حساب الأعمال

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ، وَاعْتَبِرُوا بِالآي السَّوَاطِعِ، وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ، وَانْتَفِعُوا بِالذِّکْرِ وَالْمَوَاعِظِ؛ فَکَأَنْ قَدْ عَلِقَتْکُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْکُمْ عَلاَئِقُ الاُمْنِيَّةِ، وَ دَهِمَتْکُمْ مُفْظِعَاتُ الاُمُورِ، وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ، فَکُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا، وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا. (1)

وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً. (2)

ص: 59


1- الخطبة، ٨٥
2- الخطبة 102

ص: 60

سوء الحساب

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (1)

إنّ من أعظم أهوال يوم القيامة هو سوء الحساب، فما هو المراد من سوء الحساب؟

إنّ الله عزّ وجلّ أعدل العادلين، وفي يوم القيامة لا تظلم نفس شيئاً، ولذا كيف يكون سوء الحساب؟ إنّ سوء الحساب هو دقّة الحساب، و المتابعة التّامة لكلّ تفصيل من التفاصيل، فكلّ فعلٍ قام به الإنسان في هذه الدنيا صغيراً كان أو كبيراً، فإنّه سوف يسأل عنه في يوم القيامة، و هذا ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام - لرجل شكاه بعض إخوانه -: «ما لأخيك فلان يشكوك؟ فقال: أيشكوني أن استقصيت حقّي؟! قال: فجلس مغضباً ثمّ قال علیه السلام : كأنك إذا استقصيت لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) أخافوا الله أن يجور عليهم؟! لا والله! ما خافوا إلّا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساء» (2).

فالعبد المؤمن الذي يذنب الذنب قد يناله العفو يوم القيامة، أو تشمله الرحمة الإلهيّة في ذلك اليوم، فينجو بذلك من جهنّم، ولكن هل ينجو من السؤال الإلهيّ عن تلك الذنوب؟

إنّ هذه الذنوب و إن خفيت على الناس ولكنّها لا تخفى على الله عزّ وجلّ، لأنّه المطّلع على كلّ شيء، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(3).

ص: 61


1- سورة الرعد، الآية 21
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج ٧ ص ٢٦٦
3- سورة الزلزلة: الآية ٧-٨

و قد ورد في الرواية عن محمّد قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)؟ فقال: «يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتّى يقام بموقف الحساب، فيكون الله تعالى هو الذي يتولّى حسابه، لا يُطلع على حسابه أحداً من الناس، فيعرّفه ذنوبه حتّى إذا أقرّ بسيّئاته قال الله عزّ وجلّ للكتبة: بدّلوها حسنات، وأظهروها للناس، فيقول الناس حينئذٍ: ما كان لهذا العبد سيّئة واحدةً، ثمّ يأمر الله به إلى الجنّة، فهذا تأويل الآية، و هي في المذنبين من شيعتنا خاصة» (1).

مَن يدخل الجنّة بغير حساب؟

قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (2).

تتحدّث الآية عن الصابرين الذين تكتب لهم النجاة من الحساب، و للصبر أقسام، فالصبر قد يكون على البلاء الذي يحلّ بهذا الإنسان، فلا يخرج عن طاعة الله إلى معصيته، ولكن من أقسام الصبر، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، فإنّ النفس الأمارة بالسوء تدعو الإنسان إلى المعصية، وترك الواجب، ومن يصبر على مخالفة هوى النفس وأوامرها هو الصابر، الذي ينجو من الحساب؛ ففي الرواية عن الإمام زين العابدين علیه السلام: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ينادي منادٍ: أين الصابرون ليدخلوا الجنّة جميعاً بغير حساب - إلى أن قال - قالت الملائكة لهم: من أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا من معصية الله» (3).

كلّما ازداد العطاء عظم الحساب

إنّ الحساب الإلهيّ في يوم القيامة هو على العمل الذي يقوم به الإنسان في هذه

ص: 62


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 7 ص ٢٦٢
2- سورة الزمر، الآية ١٠
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 79 ص 138

الدنيا، و كلّما ازداد عطاء الله للإنسان في هذه الدنيا؛ من المال والجاه والولد، كلّما ازدادت مسؤوليّته، و كلّما طال موقفه في يوم القيامة، لأنّه سوف يسأل عن كلّ هذا، و ذلك خلافاً لمن لم يكن ذا مالٍ ولا ذا جاهٍ ولا ذا ولد في هذه الدنيا، فإنّ حسابه يكون أخف بكثير؛ ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «إذا كان يوم القيامة قام عنق من الناس حتّى يأتوا باب الجنّة فيضربوا باب الجنّة، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الفقراء، فيقال لهم: َأقَبْلَ الحساب؟! فيقولون: ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا عليه، فيقول الله عزّ وجلّ: صدقوا، ادخلوا الجنّة» (1).

فالإنسان الذي يسعى في الليل والنهار في سبيل جمع المال، أو يدخل في عداوات و صراعات مع رحمه وإخوانه في سبيل الوصول إلى منصبٍ ما، عليه أن يتذكّر أنّه بذلك يسعى ليكون حسابه طويلاً في يوم القيامة.

أسرع بمحاسبة نفسك

ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر» (2).

إنّ أفضل طريق لكي يأمن الإنسان سوء الحساب في يوم القيامة، أن يسبق ذلك بمحاسبة نفسه في هذه الدنيا، فإنّه بذلك يتمكّن من أن يعالج ما قد اقترفه من الذنوب، بالتوبة والاستغفار، أو طلب العفو من الناس في حقوق الناس، كما أنّه يتمكّن من استزادة فعل الطاعات، عندما يجد من نفسه التقصير في ذلك، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كلّ يوم و ليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنةً استزاد منها، وإن رأى سيّئةً استغفر منها، لئلّا يخزى يوم القيامة» (3).

ص: 63


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ ص ٢٦٥
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٦٧ ص ٧٣
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ ص ٦١٩

صلة الرحم، تهوّن الحساب

ورد في العديد من الروايات؛ أنّ صلة الرحم هي من أعظم ما يوجب تخفيف الحساب في يوم القيامة، نذكر منه رواية إسحاق بن عمار حيث قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ صلة الرحم والبرّ ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب فصلوا أرحامكم، و برّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردّ الجواب» (1).

و في رواية أخرى عن أبي عبد الله علیه السلام : «صلة الرحم تهوّن الحساب يوم القيامة، و هي منسأة في العمر، وتقي مصارع السوء، وصدقة الليل تطفئ غضب الربّ» (2).

العفو في الدنيا يلازم العفو في الآخرة

يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الناس في يوم القيامة ينقسمون إلى مجموعتين، فمجموعة يحاسبهم الله بيسر و سهولة وبغير تدقيق؛ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) (3). و على العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدّة، حتّى الذرّة و المثقال من الأعمال يحاسبون عليه، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين، (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) (4). إنّ هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم، من استقصاء الآخرين حتّى الدينار الأخير، و إذا ما حدث خطأ من أحد فإنّهم يعاقبون بأشدّ ما يمكن، ولم يسامحوا أحداً حتّى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم، وبما أنّ الآخرة انعكاس لحياة الدنيا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حساباً شديداً على أيّ عمل عملوه بدون أدنى سماح، و على العكس فهناك أشخاص سهلون و مسامحون ومن أهل العفو، خصوصاً في مقابل أصدقائهم و أقربائهم وذوي الحقوق عليهم أو الضعفاء، ويغضون النظر عنهم وعن

ص: 64


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص ١٥٧
2- م.ن. ج ٢ ص ١٥٧
3- سورة الانشقاق، الآية 8
4- سورة الطلاق، الآية ٨

كثير من زلّاتهم الشخصيّة، وفي مقابل ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه و رحمته الواسعة ويحاسبهم حساباً يسيراً. (1)

المفاهيم الأساس

1. س___وء الحساب هو المداقّة في السؤال عن كلّ عمل في هذه الدنيا، صغيراً كان أم كبيراً، وهو المسمّى بالاستقصاء.

2. الصبر موجب لتهوين الحساب، ومن أقسامه الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية.

3. من الأسباب الموجبة للتخفيف من سوء الحساب: قلة جمع المال، محاسبة النفس في الدنيا، صلة الرحم.

ص: 65


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 7 ص ٣٨٥

للمطالعة

عن الصادق جعفر بن محمد علیه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة: فقيرٌ في الدنيا، وغنيٌّ في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربِّ على ما أوقف؟ فوعزّتك إنّك لتعلم أنّك لم تولني ولايةً فأعدل فيها أو أجور، و لم ترزقني مالاً فأؤدّي منه حقاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلّا كفافاً على ما علمت و قدرت لي، فيقول الله جلّ جلاله: صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة، ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، ثمّ يدخل الجنة، فيقول له الفقير: ما حبسك؟ فيقول: طول الحساب، ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمّ أسأل عن شيء آخر حتّى تغمّدني الله عزّ وجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين، فمن أنت؟ فيقول: أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً، فيقول: لقد غيرّك النعيم بعدي.

بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 7 ص ٢٥٩.

ص: 66

8 الصراط

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ (1) عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ (2) وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِ_هِ (3) وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ (4) فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ (5) شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ (6) وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ (7) وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ (8) وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ (9) وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ (10) وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ (11) وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ (12) عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ (13) وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ (14) وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ (15) وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ (16) ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى (17) وَ رَاحَةِ النُّعْمَى (18) فِي أَنْعَمِ

ص: 67


1- عبوركم
2- مواضع السقوط المباغت فيه
3- المعاصي والانحرافات
4- المرّات والدفعات
5- ذي عقل
6- أتعب الخوف بدنه
7- أن العبادة شغلته حتى عن النوم القليل
8- وقت اشتداد الحر من يومه
9- منع الزهد شهواته
10- أسرع الذكر بلسانه
11- لما خاف ارتكاب المعاصي في الدنيا، نال الأمان في الآخرة
12- ابتعد ومال عن المشاغل
13- جادة السبيل، الطريق الواضح
14- الطريق الواضح
15- لم تصرفه
16- لم تخف عليه الشبهات
17- الخبر المفرح
18- سعة العيش ونعيمه

نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً (1) وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً (2) وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ (3) وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ (4) وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ (5) فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً (6) وَ نَوَالًا وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً.(7)

ص: 68


1- جاز طريق الدنيا
2- زاد الآخرة
3- عمل مع الخوف من عقاب الله وعذابه
4- أسرع إلى العمل الصالح في فسحة العمر التي يعيشها
5- مضى إلى الأمام، فهو في الدنيا وينظر إلى الآخرة
6- عطاء
7- نهج البلاغة الخطية 83

حال الناس على الصراط

من المواقف المهولة في يوم القيامة، الجواز على الصراط، وكما في كلّ موقفٍ من مواقف القيامة، فإنّ الحالة التي يكون عليها الإنسان في هذا الموقف تابعة لما كان عليه في هذه الدنيا. وقد وردت الرواية بوصف تلك الحالات، فعن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «ومنهم من يمضي عليه كمرّ الريح، ومنهم من يعطي نوراً إلى موضع قدميه، و منهم من يحبو حبواً، وتأخذ النار منه بذنوب أصابها» (1).

وعن الإمام الصادق علیه السلام : «الناس يمرّون على الصراط طبقات: فمنهم من يمرّ مثل البرق، و منهم من يمرّ مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ (2)، متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً و تترك شيئاً».

حفظ الأمانة والجواز على الصراط

ورد في الرواية عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال: قال أبو ذرّ (رضي الله عنه): سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: حافّتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فإذا مرَ الوَصول للرحم، المؤدّي للأمانة، نفذ إلى الجنّة و إذا مرّ الخائن للأمانة، القطوع للرحم، لم ينفعه معهما عمل وتكفّأ به الصراط في النار» (3).

انواع الأمانة

إنّ الأمانات التي يحملها الإنسان على عاتقه متعدّدة:

أ.المال: وهي عندما يودع شخص آخر لديك مالاً يخصّه، ويطلب منك الاحتفاظ

ص: 69


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص ١٦١١
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج ٨ - ص ٦٤
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ ص. ١٥٢

به، فإذا فرّطت بذلك المال فقد خنت الأمانة، وقد وردت العديد من الروايات بالنهي عن ذلك وذمّه:

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «اتقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين علیه السلام ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه» (1).

ب. السرّ: إذا ائتمنك شخص ما على سرّ، وطلب منك أن لا تخبر أحداً به، فأفشيت سرّه، فقد خنت الأمانة. فعن أمير الكلام الإمام عليّ علیه السلام: «لا تخن من ائتمنك و إن خانك، و لا تذع سرّه وإن أذاع سرّك» (2)

ج. النصيحة: إذا استنصحك أح_دٌ م_ا، في أمر ما، فلم تخلص ل__ه النصيحة فقد خنت الأمانة، فعن الإمام زين العابدين (3): حقّ المستنصح أن تؤدّي إليه النصيحة» (4).

ومن أهمّ موارد النصيحة، هي النصيحة للمسلمين كافّة، وهذه النصيحة لا تتوقّف على أن يطلب المسلمون ذلك منك، فقد ورد عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: «من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسِ ناصحاً لله و لرسوله ولكتابه ولإمامه و لعامّة المسلمين فليس منهم» (5)

و لا يقتصر أمر النصيحة على حضور الشخص، بل يجب ذلك حتّى في غيبته؛ ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب» (6).

فإذا سمعت شخصاً يناله بسوء فإن النصيحة له هي أن تدفع عنه تلك الإساءة، بأن تبيّن الحقيقة للناس و تدفع الظلم عنه، ولو أنّه فعلاً ارتكب ذنباً، فإنّ النصيحة له بمنع

ص: 70


1- بحار الأنوار -
2- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج ٩ ص ١٣٦
3- العلّامة المجلسي - ج 71 ص ١٩
4- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 71 ص 19
5- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٤ ص 3278
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 208

فضحه بين الناس.

د. التكليف أمانة: إنّ التكاليف الإلهيّة الثابتة على العباد هي أمانة في أعناقهم، فارتكاب المعصية و التخلف عن الطاعة هو من أنواع خيانة الأمانة؛ ففي الحديث أنّ عليّاً علیه السلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلون، فيقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: «جاء وقت الصلاة، وقت أمانة عرضها الله (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) (1).

محبّة اهل البيت علیهم السلام جواز على الصراط

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أثبتكم قدماً على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي» (2). وعن أبي جعفر عن آبائه علیهم السلام قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعليّ علیه السلام : ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمن فزلّت به قدم على الصراط إلّا ثبتت له قدمٌ حتّى أدخله الله بحبّك الجنّة» (3).

و عنه: «يا عليّ! إذا كان يوم القيامة؛ أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط، فلا يجوز على الصراط إلّا من كانت معه براءة بولايتك» (4)

الأمانة في المحبّة

إنّ المحبّة الحقيقية التي تنفع الإنسان في يوم القيامة، والتي تكون جوازاً له على الصراط؛ هي المحبّة التي لا يتجاوزها الإنسان فيقع في خيانتها، و لذا ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام التحذير من التمسّك بالمحبّة كتبرير للمعصية، أو الاكتفاء بمجرّد الانتساب لأهل البيت بالمودّة و المحبّة للفوز بالجنّة، والنجاة من العذاب، ففي الرواية عن الإمام الباقر علیه السلام - لجابر الجعفيّ -: «يا جابر بلّغ شيعتي عنّي السلام، وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجل، ولا يتقرّب إليه إلّا بالطاعة له يا

ص: 71


1- سورة سبأ، الآية ٧٢
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 8، ص ٦٩
3- م. ن. ج ٨ ص ٦٩
4- م. ن. ج 8 ص ٧٠

جابر! من أطاع الله وأحبّنا فهو وليّنا، ومن عصى الله لم ينفعه حبّنا» (1).

إنّ من أخطر ما يصاب به الإنسان هو الغرور، فيبرّر المعصية بمحبّة أهل البيت علیهم السلام، وهل المحبّة مجرّد قول باللسان، هل تحبّ أحداً ثمّ تفعل ما يكرهه أو يؤذيه؟!

ففي الرواية عن الإمام الباقر علیه السلام: «و الله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرّب إلى الله إلّا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه و لايتنا، ويحكم لا تغترّوا! و يحكم لا تغتروا!» (2).

و من أبيات جميلة للشيخ البهائيّ (رضوان الله تعالى عليه) في الحثّ على العمل وعدم الاقتصار على ادعاء القرابة أو التولّي:

قوم فعلُوا خيراً فعلوا *** وعلى الدرج العُليا دَرَجوا

دخلوا فقراء إلى الدنيا *** وكما دخلوا منها خرجوا

یا مدعياً لطريقهم *** قوم فطريقُكَ منعوجُ

تهوى ليلى وتنام الليل *** وحقك ذا أمرٌ سمجُ

ص: 72


1- م.ن. ج ٦٨ ص ١٧٩
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ ص ٧٦

المفاهيم الأساس

1. العبور على الصراط أمرٌ حتميّ، وإن اختلفت كيفيّاته، ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) (1).

٢. ترجع كيفيّة العبور إلى كيفيّة عمل الإنسان في هذه الدنيا.

3. حفظ الأمانة من الأمور التي تجعل الإنسان يعبر على الصراط ليصل إلى الجنّة.

٤. للأمانة أنواع المال السرّ، النصيحة، التكليف من الطاعة و المعصية.

٥. محبّة أهل البيت جاوا انا على الصراط، شرط الأمانة في المحبّة بالعمل بما أمروا به، والترك لما نهوا عنه.

للمطالعة

عن الإمام الباقر علیه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (2)

سئل رسول الله علیه السلام ، فقال بذلك أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره، إذا أبرز الخلائق، وجمع الأوّلين والآخرين، أتي بجهنّم تقاد بألف زمام، مع كلّ زمام مائة ألف

ص: 73


1- سورة مريم، الآية 71
2- سورة الفجر، الآية.22

ملك من الغلاظ الشداد، لها هدّة وغضب وزفير وشهيق، وإنّها لتزفر الزفرة، فلولا أن الله أخّرهم للحساب لأهلكت الجميع. ثمّ يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر، فما خلق الله عبداً من عباد الله ملكاً ولا نبيّاً إلّا ينادي نفسي نفسي، وأنت يا نبيّ الله تنادي أمتي أمتي، ثمّ يوضع عليها الصراط أدقّ من حدّ السيف، عليها ثلاث قناطر:

فأمّا واحدة فعليها الأمانة والرحم.

والثانية فعليها الصلاة.

وأمّا الثالثة فعليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره، فيكلّفون بالممرّ عليها، فيحبسهم الرحم والأمانة، فإن نجوا منهما حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين، وهو قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، و الناس على الصراط فمتعلّق بيد، و تزول قدم، ومستمسّك بقدم، و الملائكة حولها ينادون يا حليم اعفُ و اصفح، وعد بفضلك وسلّم وسلّم، والناس يتهافتون في النار كالفراش فيها، فإذا نجا ناج برحمة الله، مرّ بها فقال الحمد لله، وبنعمته تتمّ الصالحات، وتزكو الحسنات، والحمد لله الذي نجّاني منك بعد اليأس، بمنّه وفضله، إنّ ربّنا لغفور شكور».

تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 2 ص ٤٢١.

ص: 74

9 المغفرة و الشفاعة

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ وَ التَّعْدَادِ (1) الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ (2) مِنْ عَطَاءٍ وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ وَ لَا يَنْعَشُ (3) مِنْ خَلَّتِهَا (4) إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِير.(5)

ص: 75


1- الإحصاء والحساب
2- معروف
3- يرتفع، ومنه سمي النعش بذلك لأنه يرفع على الأكف
4- فقر
5- نهج البلاغة الخطبة 91

ص: 76

انتظار المغفرة

بعد أن يجتاز الإنسان ساعة الحساب، و يتقرّر بحقّه المصير الذي يستحقّه، فإنّ السبل لا تنقطع أمامه، بل يبقى باب الأمل مفتوحاً لديه، من خلال التمسّك بباب الرحمة و المغفرة الإلهيّة، فإذا شملته هذه الرحمة، و نال المغفرة، أمكن أن تكتب له النجاة.

و لكن الرحمة والمغفرة الإلهيّة لها أبوابها الخاصّة، التي ترتبط بالإنسان في هذه الدنيا، ومن هذه الأبواب:

١. التوبة

و هي من أهمّ أبواب الوصول إلى المغفرة الإلهية، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ) (1)

و في الرواية عن الإمام علي علیه السلام : «التوبة تستنزل الرحمة» (2)

و لكن ليس الحصول على التوبة و الوصول إلى درجتها بهذه السهولة، و إنّما على الإنسان أن يستجمع شروطها، لتكون توبته توبة نصوحاً، و من أهمّ هذه الشروط عدم التسويف فيها، بل الإسراع و الإقدام عليها قبل فوات الأوان، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (3).

٢. الاستغفار

قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (4)

ص: 77


1- سورة طه، الآية ٨٢
2- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 12 ص 129
3- سورة النساء، الآية ١٨
4- سورة النساء، الآية 110

والاستغفار كالتوبة لا بدّ من المبادرة إليه فوراً، و عدم تأجيل ذلك، و قد ورد في الرواية عن جعفر محمد علیه السلام أنّه قال: «إذا همّ العبد بحسنة كُتبت له حسنة، فإذا عملها كُتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيّئة لم تكتب عليه، فإذا عملها أجّل تسع ساعات، فإن ندم عليها واستغفر وتاب لم يُكتب عليه، و إن لم يندم و لم يتب منها كتبت عليه سيّئة واحدة» (1).

و لكن الاستغفار الحقيقيّ لا يتحقّق في ظلّ ارتكاب المعاصي، بل لا بدّ للإنسان أوّلاً: من أن يتجنّب ارتكاب المعاصي، ثمّ يلجأ إلى الاستغفار، وإلا فإنّه بذلك سوف يقع في محذور أكبر من ذلك، فقد ورد عن الإمام الرضا علیه السلام : «المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه» (2).

الشفاعة

من الأسباب التي جعلها الله عزّ وجلّ باباً لرحمته و لنيل مغفرته، شفاعة الذين أذن الله لهم بذلك (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (3).

و الناس جميعاً محتاجون إلى الشفاعة، لنالوا بذلك درجة المغفرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام: «ما أحدٌ من الأولين و الآخرين إلا و هو يحتاج إلى شفاعة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يوم القيامة» (4).

نعم نيل الشفاعة من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم و أهل بيته علیه السلام يتوقّف على توافر شروط ذلك، و من تلك الشروط عدم الاستخفاف بالصلاة، بل الاهتمام بها و المحافظة عليها، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام - لمّا أمر باجتماع قرابته حوله و قد حضرته الوفاة -: «إنّ شفاعتنا لن تنال مستخفّاً بالصلاة» (5).

ص: 78


1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص ٤١٨
2- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 7 ص ١٧٦
3- سورة البقرة، الآية ٢٥٥
4- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 2 ص ١٤٧٤
5- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٤٧ ص ٢

حسن الخلق والمودّة

إنّ نيل الشفاعة الإلهيّة، و التي هي بابٌ من أبواب المغفرة والرحمة يتوقّف على التمسّك بأسباب ذلك، و من هذه الأسباب أن يمتلك الإنسان حُسن الخلق، وأن يتعامل بمودّة مع سائر الناس، ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «إنّ أقربكم منّي غداً و أوجبكم عليّ شفاعة: أصدقكم لساناً، وأداكم للأمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس» (1).

إنّ المودّة مع الناس و الاقتراب منهم يجعل منهم جسداً واحداً، وهو بابٌ من أبواب الإيمان، لأنّ الإنسان و من خلال سلوك طريق المودة و الرحمة، يتمكّن من جعل الناس أقرب إلى الإيمان و أبعد عن العصيان، لأنّ الناس من طبعها أن تقتدي بمن تحبه وتودّه، وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ألا و إنّ ودّ المؤمن من أعظم سبب الإيمان» (2)؛ و في المقلب الآخر لو أنّ المؤمن كان عاجزاً عن اكتساب مودّة الإخوان، فإنّه سوف يكون سبباً لابتعادهم عن طاعة الله، و لنفورهم عن الالتزام بالدعوة إلى الله.

مفسدات الأخوة والمودّة

عن الإمام الصادق علیه السلام : «تحتاج الأخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلّا تباينوا و تباغضوا، وهي: التناصف، و التراحم، ونفي الحسد» (3)

نشهد في الكثير من الحالات كيف ينقلب الأخوة أعداء، وكيف تنقلب الأيام بينهم، من حالة المودّة و الرحمة و المحبّة المتبادلة إلى حالة من البغضاء والشحناء والكراهيّة والعداوة، فتذهب السنونُ التي سادها الوئام و المحبّة هدراً، ولا تؤثر في النفوس أثرها، و تبيّن الرواية أسباباً ثلاثة لذلك:

ص: 79


1- م، ن، ج ٦٦ ص ٣٨١
2- م. ن، ج 71 ص 281
3- م. ن. ج ٧٥ ص ٢٣٧

الأوّل: التناصف، أي إعطاء كل ذي حقّ حقّه، فإنّ من أهمّ أسباب العداوة أن يلجأ الإنسان إلى تضييع حقّ أخيه الإنسان، حتّى لو كان ذلك عن غير عمدٍ، بل من باب التساهل والتسامح، ففي الرواية عن الإمام علي علیه السلام: «لا تضيعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه» (1).

الثاني: التراحم، فإذا أخطأ الآخرون معك، واعترفوا لك بخطئهم، فإنّ عليك أن تبادر اعترافهم ذلك بالمودّة والرحمة، فلا تلجأ إلى القسوة عليهم، أو التشدّد في مؤاخذتهم. ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام: «احتمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب؛ فإنّه يورث الضغينة، واستعتب من رجوت عتباه» (2)

إنّ أفضل بابٍ لتدخل الرحمة إلى قلبك أن تتذكّر مدى ما تحتاجه من رحمة الله عزّ وجلّ في يوم القيامة، ففي الرواية عن الإمام عليّ عنه علیه السلام : «إرحم من دونك، يرحمك من فوقك، وقس سهوه بسهوك، و معصيته لك بمعصيتك لربّك، وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك» (3).

الثالث: الحذر من الحسد، فإنّ الحسد بابٌ من أبواب جهنّم، إذا أصاب الإنسان بطلت الأخوّة والمودّة، وانقلبت عداوة و بغضاء، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام : «الحاسد يظهر ودّه في أقواله، ويخفي بغضه في أفعاله، فله اسم الصديق وصفة العدوّ» (4)

ص: 80


1- نهج البلاغة، وصيّة الإمام لولده الحسن علیه السلام
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج ٧٤ ص ٢١٢
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص ١٠٤٤
4- م.ن. ج ١ ص ٦٢٨

المفاهيم الأساس

١. الأمل معقود في الآخرة على المغفرة الإلهية بعد الحساب.

2 أبواب المغفرة هي: التوبة الاستغفار و الشفاعة، و لكلٍّ شروطه الخاصّة.

٣. حسن الخلق هو من أبواب الرحمة والمغفرة الإلهيّة.

٤. حفظ الأخوّة يكون بالتناصف والتراحم.

للمطالعة

من وسائل الغفران في القرآن

ثمّة في كتاب الله أمورٌ كثيرة تكون أسباباً و عناوين للمغفرة و محو الذنوب والسيئات، و فيما يلي نشير إلى بعض هذه العناوين:

1 - التوبة: إذ في الآية الثامنة من سورة التحريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

٢ - الإيمان و العمل الصالح: حيث نقرأ في سورة (1) قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)

ص: 81


1- سورة محمّد: الآية 2

3 - التقوى: ونرى مصداقها في قوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

٤ - الهجرة و الجهاد و الشهادة و مصداقها قوله تعالى (1): ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ).

5 - صدقة السر: وذلك قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).

٦ - الإقراض: كما في قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)

7 - اجتناب كبائر الذنوب حيث يقول تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

و هكذا يتبيّن لنا أنّ أبواب المغفرة الإلهيّة مفتوحةٌ من كلّ مكان، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب، و الولوج فيها. و قد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب، التي تضمّن الخلاص لمن يلج أيّ واحد منها أو كلّها جميعاً.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١٥ ص 183

ص: 82


1- سورة آل عمران الآية 19٥

10 الجنة

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَيَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَ لاَيَظْعَنُ مُقِيمُهَا (1)، وَ لاَيَهْرَمُ خَالِدُهَا (2)، وَ لاَيَبْأَسُ (3) سَاکِنُهَا (4).

فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ (5) عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا (6) وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا (7) وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا (8) تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا (9) وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا

ص: 83


1- لا يرحل المقيم فيها
2- لا يصاب بالهرم من يخلد فيها
3- لا يشقى
4- نهج البلاغة الخطبة ٨٥
5- لزهدت نفسك
6- الصوت الحاصل من ضرب الأشجار بعضها ببعض؛ والكثبان هي التلال
7- فروع الأشجار التامّة بما فيه من ثمر؛ والعساليج هي الغصون، وكذلك الأفنان
8- وعاء ثمرها
9- كناية عن بقائه عاقلا يدرك ما يحيط به

فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ (1) وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ (2)، قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ. فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ (3) لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا. جَعَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ. (4)

ص: 84


1- رغبة قاطفها
2- ما يطالبه الناس من حقوق
3- الجميلة، الخلّابة
4- الخطبة ١٦٥

كلمة التوحيد باب لدخول الجنّة

ورد في العديد من الروايات أنّ كلمة التوحيد بابٌ لدخول الجنّة، و لكن لكلمة التوحيد شروطها، و إلّا فإنّها لن تثمر الدخول إلى الجنّة و الفوز بالرضوان؛ ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنّ الله عهد إليَّ أن لا يأتيني أحدٌ من أمتي بلا إله إلا الله، لا يخلط بها شيئاً إلا وجبت له الجنّة، قالوا: يا رسول الله و ما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: حرصاً على الدنيا، و جمعاً لها ومنعاً لها، يقولون قول الأنبياء و يعملون عمل الجبابرة» (1).

فهي كلمة التوحيد الحقيقيّة و الصادقة، والتي يصدِّقها عمل الإنسان في هذه الدنيا، فالذي يقول لا إله إلّا الله هو الذي يؤمن بالطاعة لله وحده، فلا يطيع الشيطان ولا يحرص على الدنيا.

و لذا فإنّ قوام كلمة لا إله إلّا الله أن يأتي بها الإنسان مخلصاً لله عزّ وجلّ، بأن لا يشرك بها شيئاً، و المعصية تنافي الإخلاص في كلمة التوحيد، ففي الرواية عن رسول الله علیه السلام: «من قال «لا إله إلا الله» مخلصاً دخل الجنّة، و إخلاصه بها أن يحجزه لا إله إلا الله عمّا حرم الله» (2).

الكذب باب للحرمان من الجنّة

لا شكّ في أنّ اجتناب المعاصي كافّة، و المواظبة على الطاعات والواجبات، هي من موجبات دخول الجنّة، و لكن ورد في بعض الروايات التحذير من بعض موجبات الحرمان من الجنّة، و الحثّ على موجبات دخولها، و من هذه الأمور:

الكذب: ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنّة، وبيت

ص: 85


1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ ص ١٩٥
2- ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 5

في وسط الجنّة، و بيتٍ في أعلى الجنّة، لمن ترك المراء و إن كان محقاًّ، ولمن ترك الكذب و إن كان هازلاً، و لمن حسن خلقه» (1).

إنّ تجنّب الكذب هو باب لتجنّب سائر المحرّمات، و ذلك لأنّ سائر المعاصي تجرّ الإنسان إلى الكذب ليتلافى نتائج تلك المعاصي، أو ليستر على نفسه ما اقترفته يداه، ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - لمّا قال له:رجل أستسرُّ بخلال أربع: الزنا، و شرب الخمر، والسرق (ة)، و الكذب، فأيتهنّ شئت تركتها لك - قال صلی الله علیه و آله و سلم: «دع الكذب. فلمّا ولّى همّ بالزنا، فقال: يسألني، فإن جحدت نقضت ما جعلت له، و إن أقررت حُدِدتُ، ثمّ همّ بالسرق (ة)، ثمّ بشرب الخمر، ففكّر في مثل ذلك، فرجع إليه فقال: قد أخذت عليّ السبيل كلّه، فقد تركتهنّ أجمع» (2).

و لعلّ الكثير من الناس يجتنب الكذب في الأمور الكبيرة، ولكنّه يجترئ على الكذب في صغائر الأمور، فيستسهل الكذب في الأمور الصغيرة، و هو لا يعلم بأنّ الكذب من كبائر الذنوب، و أنّ العقاب على الكذب لا فرق فيه بين الصغير و الكبير، وهو ما يحذر الإمام زين العابدين علیه السلام منه فيقول: «اتقوا الكذب الصغير منه و الكبير، في كلّ جدّ و هزل، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير» (3).

دع الكذب جدّاً و هزلاً

ومن الأمراض الاجتماعية المزمنة الكذب مازحاً، أو ما يتداول على الألسن بالكذبة البيضاء، فيسعى بعض الناس لكي يرفّه عن نفسه أو عن الآخرين، للكذب على الآخرين ثمّ يكشف بعد ذلك عن كذبه، و هذا لا يخرجه عن كونه كاذباً، كما لا يمنع من تحقّق التأثير السلبيّ للكذب عليه وعلى الآخرين، ولذا وردت الروايات بالتحذير من هذا النوع

ص: 86


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٦٨ ص ٣٨٨
2- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج ٣ ص ٢٦٧٤
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٧٥ ص ١٣٦

من الكذب، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام : «لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه» (1).

نعم، لا فرق في انعدام الثقة بين الناس بسبب الكذب بين الكذب الجادّ و الهازل، و هو بعيد عن صفات المؤمنين. و لذا كان الكذب باباً من أبواب الشرّ، كما ذكرت الروايات، ففي رواية عن أمير المؤمنين علیه السلام : «الصدق صلاح كلّ شيء، و الكذب فساد كلّ شيء» (2).

خلف الوعد

ومن الأمراض الاجتماعيّة التي تدخل تحت الكذب؛ أن تعد أحداً بأمرٍ ما وأنت لا تريد الوفاء بوعدك، فإنّ هذا من مصاديق الكذب، ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ليس الخلف أن يعد الرجل ومِن نيّته أن يفي، ولكن الخلف أن يعد الرجل ومن نيته أن لا يفي» (3).

و عن الإمام الصادق علیه السلام: «عِدَةُ المؤمن أخاه نذرٌ لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، و لمقته تعرّض، وذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (4).

إنّ الحرج الذي يسبّبه خلف الوعد أهون بكثير من الحرج الذي يقع فيه الإنسان متى أخلف بوعده؛ لأنّ الأوّل قد يعذر فيه الإنسان، لعجزه عن الفعل، و لكن الثاني لا يعذر فيه، ولذا على الإنسان أن يحذر من أن يعد أحداً بأمر و هو لا يثق من قدرته على الوفاء بذلك الوعد، ففي الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام : «لا تعدنّ أخاك وعداً ليس في يدك و فاؤه» (5)

ص: 87


1- الكافي - الشيخ الكلينيّ - ج ٢ ص ٣٤٠
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص ١٥٧٢
3- م.ن. ج ٤ ص ٣٥٧٤
4- الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ ص ٣٦٤
5- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٧٥ ص ٢٥٠

وعلى المؤمن أن يحذر من ذلك، سيّما مع الأطفال، لما في ذلك من تأثير تربويّ سيّء في نفوسهم، لأنّهم يرونك القدوة، فإذا رأوا منك ذلك لم يتحرّجوا من القيام به، ففي الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنّ الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل، ولا أن يعدَ الرجلُ ابنَه ثمّ لا ينجز له، إنّ الصدق يهدي إلى البرّ، و إنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، و إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، و إنّ الفجور يهدي إلى النار» (1).

المفاهيم الأساس

١. كلمة التوحيد بابٌ لدخول الجنّة، إذا صدّقها عمل الإنسان.

٢. الكذب موجبٌ لحرمان دخول الجنّة، صغيراً كان أم كبيراً.

3. خلف الوعد من مصاديق الكذب، و هو أن تعد الآخر و في نيّتك أن لا تفي له.

ص: 88


1- ميزان الحكمة - محمّد الريشهريّ - ج 3 ص ٢٦٧٥

للمطالعة

«الإيمان» و «العمل»

في كثير من الآيات القرآنيّة يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح، حتّى كان الاثنين متلازمان دونما افتراق. و الحق كذلك، لأنّ الإيمان و العمل يكمل بعضه الآخر. فلونفذ الإيمان إلى أعماق النفس، لتجلّت آثاره في الأعمال حتماً، مثله كمثل مصباح لو أضاء في غرفة لشعّ نوره من كلّ نوافذ الغرفة و مصباح الإيمان كذلك؛ لو شعّ في قلب إنسان، لسطع شعاعه من عين ذلك الإنسان و أذنه و لسانه و يده و رجله. يقول تعالى (1): ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا). ويقول (2): (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ).

فالإيمان بمثابة جذر شجرة و العمل الصالح ثمرتها. ووجود الثمر السليم دليلٌ على سلامة الجذر. و وجود الجذر السليم يؤدّي إلى نموّ الثمر الطيّب. فمن الممكن أن يصدر عملٌ صالحٌ أحياناً عن أفراد ليس لهم إيمان، ولكن ذلك لا يحدث باستمرار حتماً. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإيمان المتغلغل في أعماق وجود الإنسان، الإيمان الذي يضع الإنسان دوماً أمام مسؤوليّاته.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ - ج 1 ص 131.

ص: 89


1- سورة الطلاق الآية.11
2- سورة النور: الآية 55

ص: 90

11 النار

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ (1) وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ (2)، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ (3) وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ (4) أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ (5) اَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ (6)، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ (7) وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ (8) حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ. (9)

ص: 91


1- زلة القدم
2- الأرض الشديدة الحرّ
3- الملازم
4- الرفيق والصاحب
5- النهي والنهر
6- الشيخ الكبير، الذي خالطه الشيب
7- جمع طوق وهو ما يحيط بالعنق
8- علقت، والجوامع هي الأغلال، وسميت بذلك لأنّها تجمع اليدين إلى العنق
9- الخطبة، 183

وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ (1) وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ (2) وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ (3) وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ، لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا (4) وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا (5)، لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.(6)

ص: 92


1- مقدّم الرأس
2- قمصان، والقطران مادة كريهة الرائحة تدهن بها الأبل الجرباء
3- الشدة، واللجب: الصوت المرتفع
4- لا يخرج منها
5- لا تكسر أغلالها
6- الخطبة، ١٠٩

صفات جهنّم

إنّ العذاب الإلهيّ المقدّر للعصاة في هذه الدنيا هو نار جهنّم في الآخرة، و قد وردت العديد من الروايات في وصف جهنّم و نارها، ومن هذا الوصف ما ورد في هذه الكلمات عن الأمير علیه السلام .

إِنّ قِمّة الوصف في عذاب جهنّم، هو عندما يصبح الإنسان الوقود الذي يشعل النار، ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (1)

القيود و الأغلال

لقد وصف القرآن الكريم الغلّ الذي يحيط بالكافر يوم القيامة (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) (2)

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لو أنّ حلقةً واحدةً من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً، وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها» (3).

رحلات داخل جهنّم

عن الإمام عليّ علیه السلام وهو يصف أهل جهنّم: «فلو رأيتَهم يا أحنف! ينحدرون في أوديتها و يصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطعات من القطران و أقرنوا مع فجّارها وشياطينها، فإذا استغاثوا بأسوأ أُخذ من حريق شدّت عليهم عقاربها وحياتها؟» (4).

ص: 93


1- سورة البقرة، الآية ٢٤
2- سورة الحاقة، الآية ٣٢
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 8 ص 280
4- م.ن. ج 7 ص ٢٢١

ثياب أهل النار

(سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (1).

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لو أنّ سربالاً من سرابيل أهل النار علّق بين السماء والأرض، لمات أهل الدنيا من ريحه» (2)

طعام اهل النار

(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (3)

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، و أنتن من الجيفة، و أشدّ حرّاً من النار، سمّاه الله الضريع» (4).

شراب أهل النار

عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في قوله تعالى: ﴿وَيُسْقَىٰ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ: «يقرّب إليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه، و وقع فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه، حتّى يخرج من دبره، يقول الله عز وجل: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) و يقول عزّ من قائل: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (5).

ابواب جهنّم

عن الإمام الباقر علیه السلام في قوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ) (6): «أنّ الله جعلها سبع دركات:

أعلاها الجحيم، يقوم أهلها على الصفا منها، تغلي أدمغتهم فيها كغلي القدور بما فيها.

ص: 94


1- سورة ابراهيم، الآية ٥٠
2- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 8 ص 280
3- سورة الغاشية، الآية 6 - 7
4- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 7 ص ١٦٩
5- م.ن. ج ٨ ص ٢٤٤
6- سورة الحجر، الآية ٤٤

والثانية: لظى، نزّاعة للشوى، تدعو من أدبر و تولى، وجمع فأوعى.

و الثالثة: سقر، لا تبقي و لا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر.

و الرابعة: الحطمة، و منها يثور شرر (ترمي بشرر) كالقصر، كأنّها جمالات صفر ...

و الخامسة: الهاوية، فيها ملأ يدعون: يا مالك أغثنا، فإذا أغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيه صديد ماء يسيل من جلودهم كأنه مهل ...

و السادسة: هي السعير، فيها ثلاثمائة سرادق من نار ...

و السابعة: جهنّم، وفيها الفلق، وهو جب في جهنّم إذا فتح أسعر النار سعراً، وهو أشدّ النار عذاباً (1).

التكبّر باب من ابواب جهنم

من أعظم الأمراض الاخلاقية التي تفترس الإنسان فتورده النار، التكبّر، و التكبّر هو المرض الذي أودى بإبليس إلى النار، قال تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (2)

و هذا الكبر إذا أصاب الإنسان أحبط كلّ ما قام به من خير أو يقوم به، فإبليس كان من العابدين ولكنّه بسبب كبره هذا أحبط عمله، ففي الرواية الإمام عليّ علیه السلام : «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل و جهده الجهيد ... عن كبر ساعة واحدة! فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته» (3).

و لذا كان التكبّر صفة أخلاقية ذميمة من صفات أهل النار، فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ثلاثة من خلائق أهل النار: الكبر، والعجب، وسوء الخلق» (4)

أقسام التكبّر

1 - التكبّر على الله عزّ وجلّ: و ذلك بالامتناع عن الإيمان به والاستكبار عن طاعته

ص: 95


1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 8 ص 290
2- سورة ص، الآية 73 - 74
3- نهج البلاغة الخطبة ١٩٢
4- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ ص ٤٧٢

وعبادته. و هو أفحش أنواع الكفر، وأبشع أنواع التكبّر، كما كان عليه فرعون ونمرود وأضرابهما من طغاة الكفر وجبابرة الالحاد.

2 - التكبّر على الأنبياء: وذلك بالترفع عن تصديقهم والاذعان لهم، وهو دون الأوّل وقريب منه.

٣ - التكبّر على الناس: و ذلك بازدرائهم والتعالي عليهم بالأقوال والأفعال، ومن هذا النوع التكبّر على العلماء المخلصين، والترفع عن مسائلتهم و الانتفاع بعلومهم و إرشادهم، مما يفضي بالمستكبرين إلى الخسران و الجهل بحقائق الدين، وأحكام الشريعة الغراء.

درجات التكبّر

وهكذا تتفاوت درجات التكبّر وابعاده بتفاوت أعراضه شدّة وضعفاً.

فالدرجة الأولى: وهي التي كمن التكبّر في صاحبها، فعالجه بالتواضع، ولم تظهر عليه أعراضه و مساوئه.

و الدرجة الثانية: وهي التي نما التكبّر فيها، و تجلت أعراضه بالاستعلاء على الناس، والتقدّم عليهم في المحافل والتبختر في المشي.

والدرجة الثالثة: و هي التي طغى التكبّر فيها، و تفاقمت مضاعفاته، فجن صاحبها بجنون العظمة، و الإفراط في حبّ الجاه و الظهور، فطفق يلهج في محاسنه و فضائله، واستنقاص غيره و استصغاره. وهذه أسوأ درجات التكبّر، وأشدّها صلفاً وعتواً.

علاج الكبر

إنّ علاج حالة الكبر و الخيلاء التي قد يبتلي بها الإنسان هو في تذكّر أمور:

١. تذكّر ما مضى: فإنّ على الإنسان أن يتذكّر نشأته حيث كان عاجزاً لا يملك قوةً و لا حيلة، فكيف يتكبر، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام : «أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشغف الأستار، نطفة دهاقاً ... حتّى إذا قام اعتداله واستوى

ص: 96

مثاله نفر مستكبراً» (1).

2. تذكر ما سيأتي: فإنّ الإنسان إذا ما تدبّر في مستقبله، و أنّه سوف يصاب بالعجز عندما يتقدم به السنّ، فلا يتمكّن من أن يقوم بخدمة نفسه، إلّا أن يعينه الآخرون على ذلك، علم أنّه لا يحقّ له أن يتكبّر على غيره، ففي الرواية عن الإمام عليّ علیه السلام: «عجبت لابن آدم أوّله نطفة، وآخره جيفة، وهو قائم بينهما وعاء للغائط، ثم يتكبر!» (2).

3. التدبّر بواقع أمره: فإنّ الإنسان لا يملك من أمره شيئاً، فهو وفي عزّ قوته وقدرته وشبابه، و وفرة من ماله، لا يملك من أمره شيئاً، فالمرض إذا حلّ به أقعده الفراش فصار عاجزاً عن كلّ شيء، وعجز الأطباء عن شفائه، فلماذا يتكبّر، فعن الإمام الباقر علیه السلام: «عجباً للمختال الفخور! وإنّما خُلق من نطفة، ثمّ يعود جيفة، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به» (3)

٤. أن يتذكّر عظمة الله: فعن الإمام الحسن علیه السلام : «لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإنّ رفعة الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا، و (عزّ) الذين يعرفون ما جلال الله أن يتذلّلوا (له)» (4).

5. المواظبة على العبادات: فإنّ العبادات التي شرّعها الله لهذا الإنسان؛ من صومٍ وصلاةٍ وغيرهما، لم تكن إلّا لحكمةٍ أرادها الله منها، ومن ذلك معالجة حالة الكبر لديه، ففي الرواية عن الإمام عليّ صلی الله علیه و آله و سلم : «وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات و الزكوات، و مجاهدة الصيام في الأيّام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، و تخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً (تخضيعاً) لقلوبهم، و إذهاباً للخيلاء عنهم ... انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، وقدع

ص: 97


1- نهج البلاغة، الخطبة ٨٣
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج ٧٠ ص ٢٣٤
3- م.ن. ج 70 ص 230
4- م.ن.ج ٧٥ ص ١٠٥

(قطع) طوالع الكبر» (1).

٦. التفكر بالوعيد بالعذاب الموعود للمتكبّر: فقد وردت الروايات توعِد بالعذاب في جهنّم للمتكبّر، فعن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ في جهنّم لوادياً للمتكبّرين يقال له سقَر، شكا إلى الله عزّ وجلّ شدّة حرّه، و سأله أن يأذن له أن يتنفّس، فتنفّس فأحرق جهنّم» (2).

المفاهيم الأساس

1. وصف جهنّم الوارد في الروايات هو لتحذير الإنسان من عظم الذنب الذي يرتكبه في هذه الدنيا.

٢. التكبّر باب من أبواب جهنّم.

3. أقسام التكبّر: التكبّر على الله، على الأنبياء، على سائر الناس.

- علاج التكبّر يكون ب_:

١. تذكّر ما مضى.

٢. تذكّر ما سيأتي.

3. التدبّر بواقع أمره و أنّه لا يملك من أمره شيئاً.

٤. أن يتذكّر عظمة الله.

5. أن يواظب على العبادات.

٦- أن يتذكّر العذاب الإلهيّ.

ص: 98


1- نهج البلاغة الخطبة، 192
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 70 ص 189

للمطالعة

إن القرآن يخاطب جميع المسلمين فيقول: (فَلَا تُزَكَّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (1). إنّ مصدر هذا العمل هو الإعجاب بالنفس و الغرور، و العجب الذي يتجلّى شيئاً فشيئاً في صورة امتداح الذات و تزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إلى التكبّر و الاستعلاء على الآخرين. إنّ هذه العادة الفاسدة - مع الأسف - من العادات الشائعة بين كثير من الشعوب و الفئات و الأشخاص، و هي مصدر الكثير من المآسي الاجتماعيّة و الحروب و حالات الاستعلاء و الاستعمار. إنّ التاريخ يرينا كيف أنّ بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوّقها على الشعوب والأمم الأخرى، تحت وطأة هذا الشعور و الإحساس الكاذب، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحقّ في أن تستعبد الآخرين، و تتّخذهم لأنفسها خولاً و عبيداً. لقد كان العرب الجاهليّون مع كلّ التخلّف و الانحطاط و الفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم (العنصر الأعلى)، بل وكانت هذه الحالة سائدة حتّى بين قبائلهم؛ حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل و الأعلى. و لقد تسبّب الإحساس بالتفوّق لدى العنصر الألمانيّ و الإسرائيليّ في وقوع الحروب العالميّة أو الحروب المحليّة. ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإسلام يعانون - أيضاً - من هذا الإحساس والشعور الخاطئ وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإسلام، و لهذا السبب شدّد القرآن الكريم النكير - في الآية اللاحقة الثانية - على هذا التصوّر، و شجب هذا الوهم، و هم التفوق العنصريّ، و يعتبره نوعاً من الكذب على الله و الافتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً؛ إذ يقول سبحانه:

ص: 99


1- سورة النجم الآية.32

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إلى الله من ناحية أخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أيّ ذنبٍ إلّا هذا لكفى في عقوبتهم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ - ج 3 ص 2٦٧.

ص: 100

12 جنة الرضوان

اشارة

عن أمير المؤمنين علیه السلام

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً، قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ، الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً؛ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ. (1)

ص: 101


1- الخطبة، ١٩٠

ص: 102

رضوان الله

إنّ أعظم ما يناله أهل الجنّة من النعم المعنويّة، رضوان الله عزّ وجلّ ولقاء الله الذي هو غاية ما يريدونه من نعيم تلك الجنّة.

﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (1)

و ما يقابل ذلك هو العذاب الذي ينتظر من كان مصيره دخول النار، و هو أنّه لن ينال لقاء الله عزّ وجلّ، و لذا نقرأ في دعاء كميل: «وهبني ... صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك».

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (2)

و يعبّر القرآن الكريم عن هذا الرضا الذي ينالهم بالفوز العظيم، قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(3)

الولاية الله ولرسوله

قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (4)

ص: 103


1- سورة التوبة، الآية.72
2- سورة آل عمران الآية ١٦٢
3- سورة المائدة، الآية.119
4- سورة المجادلة، الآية.22

لا يجتمع حبّان في قلب إنسانٍ واحدٍ، بل إمّا أن يكون محبّاً الله عزّ وجلّ، وموالياً له و لأوليائه، أو أن يكون محبّاً للشيطان مطيعاً له ولأوليائه.

إنّ حبّ الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة شيء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانيّة، إلّا أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله تعالى، فإنّها ستفقد خاصيّتها. ومن الطبيعي جدّاً أنّ من يتعلّق بهم الإنسان ليس مختصّاً بالأقسام الأربعة التي استعرضتها الآية الكريمة، ولكن هؤلاء أقرب عاطفيّاً من غيرهم للإنسان، وبملاحظة الموقف من هؤلاء سيتضح الموقف من الآخرين.

صفات أهل الرضوان

يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة، التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم، والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من الله تعالى:

الأول: يقول تعالى: (أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ). فالإنسان إذا ترك أعداء الله، جاءه الإمداد الإلهيّ بصورة استقرار الإيمان، حيث عبّر عنه ب_ (كتب).

الثاني: يقول تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، هذه الروح الإلهيّة نوع من الحياة المعنويّة الجديدة، التي أفاضها الله تعالى على المؤمنين.

موجبات نيل رضوان الله

١. سخط النفس: و ذلك لأنّ النفس الأمّارة بالسوء تدعو الإنسان إلى المعصية، و إلى الخروج عن طاعة الله، وفي سخطها طاعة الله ونيل رضوانه؛ ففي وصية لقمان علیه السلام لابنه: «يا بنيّ من يرد رضوان الله يسخط نفسه كثيراً، ومن لا يسخط نفسه لا يرضى به» (1).

٢. الطاعة في الصغيرة والكبيرة: فعن الإمام عليّ علیه السلام: «إنّ الله تبارك و تعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته؛ فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته

ص: 104


1- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 2 ص 1098

فربما و افق رضاه وأنت لا تعلم» (1)

3. الإحسان إلى الناس: فعن الإمام علي علیه السلام: «أيسرّك أن تكون من حزب الله الغالبين؟ اتق الله سبحانه، وأحسن في كلّ أمورك، فإنّ الله مع الذين اتقوا

والذين هم محسنون» (2)

٤. التمسّك بولاية أولياء الله: فعن رسول الله: «مَن أحبَّ أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، و يعتصم بحبل الله المتين، فليوالِ عليّاً بعدي، وليعادِ عدوّه، و ليأتمّ بالأئمّة الهداة من ولده، فإنّهم خلفائي وأوصيائي ... حزبهم حزبي، و حزبي حزب الله عزّ وجلّ، و حزب أعدائهم حزب الشيطان» (3)

وعن الإمام الباقر علیه السلام : «بني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم والحجّ، والولاية، و لم يُنادَ بشيء كما نودي بالولاية» (4).

و عن عمرو بن حنظلة، قال: «سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة؛ أيحلّ ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، و إن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، و قد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (5). قلت: فكيف يصنعان؟ قال علیه السلام : «ينظران (إلى) من كان منكم، ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا وحرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله، و علينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله» (6).

ص: 105


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 1 ص 117
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ ص ٦٠٠
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 38 ص 92
4- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 18
5- سورة النساء الآية ٦٠
6- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العامليّ - ج 27 ص 137

المفاهيم الأساس

١. الفوز العظيم لأهل الجنّة هو في نيلهم رضوان الله عزّ وجلّ.

٢. موجبات نيل رضوان الله: سخط النفس، الطاعة في الصغيرة والكبيرة، الإحسان إلى الناس والتمسّك بولاية أولياء الله.

٣. بيعة الوليّ الفقيه في عصر الغيبة امتداد لولاية الأئمّة علیه السلام .

للمطالعة

الجزاء المعنويّ لأهل الجنة

تشير الآية إلى الجزاء المعنويّ المعدّ لهؤلاء ، و هو رضى الله تعالى عنهم، المختصّ بالمؤمنين الحقيقيّين ، و هو أهمّ وأعظم جزاء ، ويفوق كلّ النعم و العطايا الأخرى، و رضوان من الله أكبر. إنّ اللذة المعنويّة و الإحساس الروحيّ، الذي يحسّ ويلتذّ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه و تعالى عنه، لا يمكن أن يصفه أيّ بشر، و على قول بعض المفسّرين، فإنّ نسمة و لحظةّ من هذه اللذّة الروحيّة تفوق نعم الجنّة كلّها، و مواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية. من الطبيعيّ أنّنا لا نستطيع أن نجسّم و نرسم صورة في أفكارنا، عن أيّ نعمة من نعم الحياة الأخرى، و نحن في قفص الحياة الدنيا و حياتها المحدودة، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنويّة والروحيّة

ص: 106

الكبرى؟ ! نعم ، يمكن إيجاد تصوّر ضعيف عن الاختلافات الماديّة والمعنويّة، التي نعيشها في هذه الدنيا، فمثلاً يمكن إدراك الاختلاف في اللذّة بين اللقاء بصديقٍ عزيزٍ جدّاً بعد فراق طويل، و لذّة الإحساس الروحيّ الخاصّ الذي يعتري الإنسان عند إدراكه، أو حلّه لمسألة علميّة معقّدة، صرف في تحصيلها و الوصول إلى دقائقها الشهور، بل السنين، أو الانشداد الروحيّ الذي يبعث على النشاط و الجدّ في لحظات خلوص العبادة، أو النشوة عند توجّه القلب و حضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور، و بين اللذّة التي نحسّ بها من تناول طعام لذيذ و أمثالها من اللذائذ، و من الطبيعيّ أنّ هذه اللذائذ الماديّة، لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنويّة، ولا يمكن أن تصل إلى مصافّها. من هنا يتضح التصوّر الخاطئ، لمن يقول بأنّ القرآن الكريم عندما يتحدّث عن الجزاء والعطاء الإلهيّ، الذي سيناله المؤمنون الصالحون، يؤكّد على النعم الماديّة، ولا يتطرّق إلى النواحي المعنويّة، لأنّ الجملة أعلاه - أي رضوان من الله أكبر - ذكرت أنّ رضوان الله أكبر من كلّ النعم، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة، وهي تدلّ على أنّ قسماً من رضوان الله أفضل من كلّ النعم الماديّة الموجودة في الجنّة، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنويّ. إنّ الدليل على أفضليّة الجزاء المعنويّ واضح أيضاً، لأنّ الروح في الواقع بمثابة ( الجوهر) و الجسم بمكان (الصدف)، فالروح كالآمر و القائد ، و الجسم كالجنديّ المطيع والمنفّذ ، فالتكامل الروحيّ هو الهدف ، والجسم وسيلة، ولهذا السبب، فإنّ إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم، واللذائذ الروحيّة لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ الماديّة والجسمية، كما أنّ الآلام الروحيّة أشدّ ألماً من الآلام الجسميّة. وفي النهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النعم الماديّة والمعنويّة، وعبّرت عنها بأنّ ذلك هو الفوز العظيم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٦ - ص 123

ص: 107

ص: 108

الفهرس

١- سكرة الموت ... 7

تمهيد ... 9

١ . الموت يأتي فجأة ... 9

٢ . صعبة سهلة ... 9

حواس تتعطّل وأخرى تراقب ... 10

3 . حسرة الفوت ... 11

٤. قبض الروح ... 11

٥- برّ الوالدين والتخفيف من سكرة الموت ... 12

قصة وعبرة ... 12

برّهما بعد الموت ... 13

ختام ... 14

المفاهيم الأساس ... 15

للمطالعة ... 15

٢ - ملك الموت ... 17

تمهيد ... 19

١. موقفان والخيار بيدك! ... 19

2. التولّي والتبرّي مفتاح الاختيار ... 21

التولّي يعني الطاعة ... 22

طاعة الولي الفقيه من طاعة الأئمّة ... 23

المفاهيم الأساس ... 24

للمطالعة ... 24

ص: 109

٣- وحشة القبر ... 27

لا اختلاف ولا تمييز ! ... 29

دار الغربة، دار الوحشة ... 30

طريق الخلاص: العمل الصالح ... 30

سوء الخلق، مفسد للعمل ... 31

المفاهيم الأساس ... 33

للمطالعة ... 33

٤ - سؤال القبر

سؤال ولا مفر من الجواب! ... 37

النتيجة طبقاً للجواب ... 37

صورة منكر و نكير ... 38

الصلاة باب لحضور الجواب ... 39

الصلاة المثمرة ... 39

المفاهيم الأساس ... 41

للمطالعة ... 41

5 - البرزخ ... 43

عالم البرزخ ... 45

وادي السلام ... 45

وادي برهوت ... 46

ايّاك والغيبة ... 46

علاج الغيبة ... 47

تأثير الغيبة على الطاعات ... 48

المفاهيم الأساس ... 48

للمطالعة ... 49

٦ - صيحة النشور ... 51

نفختان: موت وحياة ... 53

موقف عسير ... 53

الدنيا دار تكليف ... 54

الدوافع نحو الطاعة ... 54

الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر ... 55

ثمار الطاعة ... 55

ص: 110

المفاهيم الأساس ... 56

للمطالعة ... 57

٧- حساب الأعمال ... 59

سوء الحساب ... 61

مَن يدخل الجنة بغير حساب؟ ... 62

كلما ازداد العطاء عظم الحساب ... 62

أسرع بمحاسبة نفسك ... 63

صلة الرحم، تهوّن الحساب ... 64

العفو في الدنيا يلازم العفو في الآخرة ... 64

المفاهيم الأساس ... 65

للمطالعة ... 65

8- الصراط ... 67

حال الناس على الصراط ... 69

حفظ الأمانة والجواز على الصراط ... 69

أنواع الأمانة ... 69

محبّة أهل البيت علیه السلام جواز على الصراط ... 71

الأمانة في المحبّة ... 71

المفاهيم الأساس ... 73

للمطالعة ... 73

٩- المغفرة والشفاعة ... 75

انتظار المغفرة ... 77

حسن الخلق والمودّة ... 79

مفسدات الأخوة والمودّة ... 79

المفاهيم الأساس ... 81

للمطالعة ... 81

١٠ - الجنّة ... 83

كلمة التوحيد باب لدخول الجنّة ... 85

الكذب باب للحرمان من الجنّة ... 85

دع الكذب جدّاً وهزلاً ... 86

خلف الوعد ... 87

ص: 111

المفاهيم الأساس ... 88

للمطالعة ... 89

11 - النار ... 91

صفات جهنّم ... 93

القيود والأغلال ... 93

رحلات داخل جهنّم ... 93

ثياب أهل النار ... 94

طعام أهل النار ... 94

شراب أهل النار ... 94

أبواب جهنّم ... 94

التكبّر باب من أبواب جهنّم ... 95

أقسام التكبّر ... 95

درجات التكبّر ... 96

علاج الكبر ... 96

المفاهيم الأساس ... 98

للمطالعة ... 99

12 - جنّة الرضوان ... 10

رضوان الله ... 103

الولاية لله ولرسوله ... 103

صفات أهل الرضوان ... 104

موجبات نيل رضوان الله ... 104

المفاهيم الأساس ... 106

للمطالعة ... 106

الفهرس ... 109

ص: 112

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.